ثلاث رسائل: 1- قاعده نفی الحرج 2- الفجر فی اللیالی القمره 3 - عده المراه التی اخرج رحمها

اشارة

سرشناسه : فاضل لنکرانی، محمد، 1310 - 1386.

عنوان و نام پدیدآور : ثلاث رسائل: 1- قاعده نفی الحرج 2- الفجر فی اللیالی القمره 3 - عده المراه التی اخرج رحمها/ محمدفاضل اللنکرانی.

مشخصات نشر : قم: مرکز فقهی ائمه اطهار (ع) ، 1425ق. = 1383.

مشخصات ظاهری : 248ص.

شابک : 20000 ریال 964-7709-19-6 :

وضعیت فهرست نویسی : برنسپاری

یادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

موضوع : فقه -- قواعد

رده بندی کنگره : BP183/5 /ف2ث8 1383

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : 3085812

ص :1

اشارة

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

ثلاث رسائل: 1- قاعده نفی الحرج 2- الفجر فی اللیالی القمره 3 - عده المراه التی اخرج رحمها

محمدفاضل اللنکرانی

ص :4

تمهید

الکتاب الحاضر بین یدی القارئ الکریم یشتمل علی ثلاث رسائل: الرسالة الأولی: رسالة فی قاعدة «لا حرج» ألقاها سماحة آیة اللّه العظمی الفاضل اللنکرانی دام ظلّه الوارف فی شهر رمضان المبارک من سنة 1407 ه ق و حضر هذه المحاضرات عدّة من الفضلاء و ترجمت من الفارسیة إلی اللغة العربیّة ، و قد نظّمها و رتّبها مع استخراج المدارک ، سماحة حجّة الإسلام و المسلمین الشیخ مرتضی الواعظی دامت افاضاته و نحن نشکر جهوده فی هذا المجال . و تمتاز البحث عن القاعدة فی هذه الرسالة عن مشابهاتها بما فیها من البحث استطراداً لمسألة الإمامة حیث ألقی سماحة الشیخ المرجع دام ظلّه أبحاثاً دقیقة فی هذه المسألة و استفاد فی البحث عن القرآن مع قطع النظر عن الروایات فی إثبات إمامة أمیر المؤمنین و الأئمّة المعصومین من ولده صلوات اللّه علیهم أجمعین ، و الامتیاز الآخر کثرة التتبّع فی الأقوال المعتنی بها فی القاعدة و الإشارة إلیها ، و کذلک تنقیح القاعدة و دفع الإشکالات الواردة علیها . الرسالة الثانیة: البحث حول مسألة اللیالی المقمرة و عدم تأخیر الفجر فی

ص:5

هذه اللیالی عن سائرها ، و المقرّر للمحاضرات المرتبطة بهذه المسألة حجّة الاسلام و المسلمین الشیخ اکبر الخادمی الاصفهانی ، فانه قد جدّ و اتعب نفسه فی تقریرها و اعدادها للطبع و نحن نشکر جهوده و نسأل اللّه تبارک و تعالی أن یوفقه أکثر مما مضی . الرسالة الثالثة: کتبه سماحة آیة اللّه العظمی الفاضل اللنکرانی دام ظلّه بقلمه الشریف فی کتاب الطلاق ، و لمّا وصل فی بحث العدّة إلی عدّة من لا تحیض ، بحث استطراداً حکم المرأة التی أخرجت رحمها بالعملیّة الجراحیّة لبعض الأمراض ، و بالتالی تصیر هذه العملیّة سبباً لأن لا تحیض ، و هذا البحث و إن طبعت ضمن کتاب الطلاق من کتاب تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة ، لکن لمّا کان نفع هذه المسألة عامّاً و مورداً للابتلاء قمنا بطبعه ضمن هذا الکتاب . نسأل من اللّه تعالی أن یحفظ الشیخ المرجع دام ظلّه و یدیم فی عمره الشریف ، و أن یستفید المشتغلین بالعلوم الدینیّة من وجوده الشریف و من آرائه العلمیة و أفکاره الفقهیة و الاُصولیة و التفسیریة . و السلام . مرکز فقه الأئمة الأطهار علیهم السلام محمد جواد الفاضل اللنکرانی

ص:6

قاعدة نفی الحرج

اشارة

ص:7

ص:8

قاعدة نفی الحرج قاعدة لا حرج تدرج عادة إلی جانب قاعدة لا ضرر و فی مستوی واحد تقریباً .و قد بحثت قاعدة لا ضرر فی الاُصول بالتفصیل فی خاتمة مباحث الاشتغال ، و قد بحثناها هناک أیضاً بالتفصیل ، و مع أن قاعدة لا حرج لها مزایاها و خصوصیّاتها حیث تشتمل علی جوانب غیر موجودة فی قاعدة لا ضرر ، إلّا أنها لم تبحث بشکل مفصّل لحدّ الآن ، و نشیر إلی إحدی هذه المزایا .

الفرق بین قاعدة «لا ضرر» و «لا حرج»

فی قاعدة لا ضرر هناک عدّة احتمالات متصوّرة ، أحدها هو الاحتمال الذی بحثه سیّدنا الأستاذ الأعظم الإمام - دام ظلّه العالی - و بحثناه أیضاً ، و هو أنّ «لا» فی قاعدة لا ضرر هی «لا» الناهیة ، و إنّ هذا النهی هو نهی ولائی ، و إذا صحّ ذلک فإنّ قاعدة لا ضرر لا تعتبر حکماً إلهیّاً و لو بالعنوان الثانوی . لکن مثل هذا الاحتمال غیر موجود بالنسبة لقاعدة لا حرج ، لأنّ قاعدة لا حرج - کما سنبحث أدلّتها إن شاء اللّه - تستمدّ جذورها من القرآن ، و لها أساسها القرآنی ، و لا یمکن أن

ص:9

نعتبرها حکماً ولائیّاً ضمن دائرة ولایة رسول اللّه بعنوان المتصدّی للأمر کما هو الحال فی قاعدة لا ضرر ، فقاعدة لا حرج غیر منظور فیها هذا اللحاظ ، و هذه من أکبر الامتیازات التی تمتاز بها قاعدة لا حرج علی قاعدة لا ضرر . حیث إنّ قاعدة لا ضرر یحتمل أن لا تکون لها أیّة علاقة بالفقه ، و أمّا قاعدة لا حرج فإنّ مثل هذا الاحتمال غیر متصوّر فیها ، و من هنا فإنّ قاعدة لا حرج تکون ذات أولویّة بالنسبة لقاعدة لا ضرر . و مع الأخذ بنظر الاعتبار لهذه الخصوصیات نقول :إنّ أوّل من بحث قاعدة لا حرج هو المحقّق ملّا أحمد النراقی رضوان اللّه تعالی علیه فی کتابه «عوائد الأیّام» و هو من الکتب القیّمة و المفیدة ، و قد بحثت هذه القاعدة هناک و لکن لیس بالتفصیل ، و فی زماننا الحاضر فإنّ المرحوم آیة اللّه البجنوردی قدس سره قد بحثها فی کتابه «القواعد الفقهیة» الذی یقع فی سبعة مجلّدات تقریباً ، و هو من الکتب القیِّمة و النّفیسة جدّاً ، خاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار شخصیة المؤلّف العلمیّة حیث یعدّ من أکابر الفضلاء و المحقّقین ، و قد کتب هذا الکتاب بقلم شیّق و أسلوب بلیغ .و کلّ من کتب بعد المرحوم النراقی قدس سره فی هذا المجال ، تحتم علیه أن یتطرق إلی هذه القاعدة .و فی بحثنا لهذه القاعدة ، هناک عدّة جوانب یجب أنْ نتعرّض لها ، منها سند هذه القاعدة ، حیث رأینا أنّ من المناسب أنْ نلاحظ السند أوّلاً قبل کلّ شیء ، و من ثمّ و بعد ذلک بیان معنی کلمة الحرج ، و حدود هذه الکلمة ، و هذا بحث لاحق یأتی تباعاً ، ویتعیّن علینا فی أطار بحثنا هذا أن نتدارس معانی و دلالات المفردات و العبارات ضمن سیاق الآیات و الروایات . و علی ضوء ما تحمله هذه العبارات من دلالات و معانی نکون علی أتمِّ الاستعداد فی الدّخول فی البحث ، إذن أوّل محطّة لا بدّ أن نتوقّف عندها فی قاعدة لا حرج هی مسألة مدرک هذه القاعدة .

ص:10

المسألة الأولی: مدرک القاعدة و مستندها:

اشارة

لقد تمسّک العلماء بالأدلّة الأربعة لإثبات هذه القاعدة ، و لکی نری مدی صحّة هذا الادّعاء و مدی سقمه ینبغی لنا مناقشة الأدلّة واحداً بعد واحد ، فلنبدأ من کتاب اللّه تبارک و تعالی .لقد طرحت هناک

عدّة آیات من القرآن الکریم

اشارة

کسند لقاعدة لا حرج:

الآیة الأولی: الواردة فی سورة الحج ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ
اشارة

حیث یقول اللّه عزّ و جلّ: وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ فَأَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّکاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاکُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلی وَ نِعْمَ النَّصِیرُ 1 .قد یتصوّر الإنسان لأوّل وهلة من قراءة الآیة الکریمة «وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» إنّ الخطاب لجمیع المکلّفین و لجمیع المسلمین ، و هذا ما قد یستدلّ علیه من خلال مفردات الآیة الشّریفة .لذلک ذهب المفسّرون من أهل السّنة مثل صاحب « المنار » إلی هذا المعنی ، و أنّ المراد من قوله: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً 2 هم العرب ، بالخصوص ، و استدلّ بذیل الآیة حیث یقول: إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ 3 حیث إنّ العرب کانوا علی بُعدٍ من التذکیة و التعلیم و تلاوة الکتاب ، فبملاحظة هذه النکتة ذکر إبراهیم و إسماعیل فی ذیل دعائهما: «إنّ اللّه هو العزیز الحکیم» أی قادر علی أن یجعل العرب البعید من التعلیم و التربیة تحت تعلیم الرسول و تزکیته إیّاهم بالقدرة التوأم

ص:11

مع الحکمة .فالمستفاد من هذا الکلام - بملاحظة إرجاع الضمائر إلی العرب - أنّ المراد من «ذُرِّیَّتِنا» عموم العرب ، و فیه أنّه لا ینتهی نسب جمیع طوائف العرب إلی ذریّة إبراهیم و إسماعیل ، و یزید الإشکال بملاحظة ورود لفظة «مِنْ» الدالّة علی التبعیض .أمّا قوله تعالی: مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ فالأب هنا إمّا إنّ یکون علی الحقیقة ، حیث أن العرب من ذریّة إبراهیم ، أو بحملها علی المجاز إذا قصد جمیع المسلمین ، فیکون بمعنی المربّی و المعلّم کما یقول المعلّم لتلمیذه : یا بنیّ .

التّحقیق فی المراد من الآیة الکریمة

هنا نواجه عدّة عقبات لا تساعد علی الأخذ بالتفسیر المتقدّم ، فإنّ ذیل الآیة الکریمة یرشدنا إلی أنّ المخاطب فی الآیة الشریفة لیس عامّة النّاس ، و لا عامّة المکلّفین ، لأنّ الآیة تقول: لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ فیتّضح أنّ النّاس لیسوا هم المخاطبین .هنا توجد ثلاثة عناوین : أحدها : هم المخاطبون فی عَلَیْکُمْ ، و العنوان الآخر : هو رسول اللّه ، و هناک عنوان ثالث : وهم النّاس فی قوله تعالی : . . . .

شُهَداءَ عَلَی النّاسِ .تقول الآیة: لِیَکُونَ الرَّسُولُ هذا هو العنوان الأوّل - شَهِیداً عَلَیْکُمْ هو العنوان الثّانی و هم المخاطبون ، و من ثمَّ تقول الآیة وَ تَکُونُوا أی أنتم المخاطبین شُهَداءَ عَلَی النّاسِ . إذن النّاس عنوان آخر غیر المخاطبین و هو العنوان الثالث .و هنا یأتی هذا السّؤال: من هو المخاطب فی الآیة الکریمة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ ؟ هل هم عامّة النّاس ، أو أنّهم المخاطبون خاصّة ،

ص:12

لا رسول اللّه صلی الله علیه و آله و لا النّاس - و علی کلّ حال من هم هؤلاء ؟ و ما هی دلالة الآیة ؟ .ثمّ إنّ الآیة الکریمة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ هل تعنی: ما جعل علی المسلمین من حرج ؟ ما جعل علی المکلّفین من حرج ؟ أو ما جعل علیکم من حرج ؟ و هناک نقطة اخری یمکن بحثها فیما بعد ، و هی أنّ الآیة هل جاءت فی سیاق التخصیص ، أم لا ؟ .فمع الأخذ بنظر الاعتبار مفاد الآیة و مدلولها الأوّلی بلحاظ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ فالسؤال عن الأفراد الذین یشملهم ضمیر الآیة کم، و هذا بحث جیّد یطرح فی هذا المجال و لا بأس من التطرّق إلیه .و البحث الآخر الّذی نودّ التّطرق إلیه هنا هو أنّه بالإمکان تشخیص المخاطبین فی هذه الآیة بضم آیة اخری إلیها و بحثهما معاً ، و یرتبط هذا البحث بقاعدة لا حرج من جهة ، و من جهة اخری فهو بحث تفسیری دقیق و ممتنع .و من جهة ثالثة یسلّط الأضواء علی موضوع أساسی و أصیل فی باب الإمامة ، و برأیی فإنّ هذا المدلول من کرامات و معجزات القرآن ، و یتضح هذا المعنی من خلال التدبّر فی القرآن الکریم ، حیث یبیّن لنا ما هی ممیّزات الإمامة ؟ و من هی الفرقة التی تترسخ فیها هذه الفکرة ؟ و أیّ من الطّوائف تنادی بها ؟ و مضافاً إلی ذلک تحدّد لنا میزة خاصّة من میزات الإمامة ، و هی مسألة علم الإمام بالغیب فی خصوص قوله تعالی: وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ و سنوضح ذلک فیما بعد إن شاء اللّه .

من هم المخاطبون؟

و قد رأیت من المناسب هنا أن لا نتجاوز بحثنا التّفسیری هذا ، فهو یرتبط بقاعدة لا حرج أیضاً ، حیث إنّ الآیة تقول: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ

ص:13

فهل أنّ الضمیر کم یعود علی کافّة المکلّفین ، کافّة المسلمین ؟ إذن لما ذا تقول الآیة وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ ؟ فالناس هنا خارج دائرة الخطاب ، فهنا عنوان آخر و مجموعة اخری لا ینطبق علیها عنوان الرّسول و لا عنوان النّاس ، و مشخّصات الآیة تعکس لنا مشخّصات هذه المجموعة .و الآن نلقی نظرة علی هذه المشخّصات ، و من ثمّ نستعرض آیة اخری ذات علاقة بهذا الموضوع ، و من خلال هاتین الآیتین سنتوصّل إلی نتائج باهرة علی مختلف الأصعدة .أحد خصائص الآیة الکریمة هی قوله تعالی: هُوَ اجْتَباکُمْ ، فالاجتباء و الاصطفاء بمعنی الاختیار و الانتخاب ، و ما نلاحظه هو أنّ اللّه تبارک و تعالی استعمل کلمتی «الاصطفاء و الاجتباء» لخواصّه و المقرّبین إلیه ، قال تعالی: إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ 1 هنا وردت مفردة الاصطفاء ، و فی آیة اخری وردت مفردة الاجتباء و هو قوله تعالی: یَجْتَبِی مِنْ رُسُلِهِ مَنْ یَشاءُ 2 .أی أنّ الرّسول بما أنّه رسول لیس له صلاحیّة الاجتباء ، فالاجتباء یعنی الاختیار علی أساس خصائص و ممیّزات محدودة تتوفّر لدی بعض الأفراد ، و قوله تعالی هُوَ اجْتَباکُمْ إنّکم تتوفّرون علی الخصوصیّة أو المیزة التی تجعلکم مجتبون من قبل اللّه تعالی . و السؤال هو : هل یمکن لنا أن نعمِّم مفهوم هُوَ اجْتَباکُمْ علی عامّة النّاس أو المسلمین الحقیقیین ، فنقول : إنّ المسلمین مجتبون من قبل اللّه و أنّهم مصطفون ؟ و نلاحظ أن هناک ثمّة خصوصیّة و میزة معیّنة ترافق هذا التعبیر و هذه العبارة ، فالآیة فی بدایتها تقول «هُوَ اجْتَباکُمْ» أی أنّ

ص:14

هؤلاء المخاطبین قد أحرزوا مقام الاجتباء أوّلاً ، و من ثمّ تقول: مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ .

هل کلمة (أَبِیکُمْ) مجاز ، أم حقیقة؟
اشارة

و المقصود من الأب هنا هو الأب الحقیقی ، و لیس هناک ما یبرّر لنا صرف کلمة «الأب» عن معناها الحقیقی ، فما لم توجد هناک قرینة علی المجاز ، لا بدّ من حمل کلمة الأب علی معناها الواقعی . و هذه قرینة اخری علی استبعاد أن یکون المراد فی ضمیر «کم» کافّة المسلمین و الالتزام بأن لفظة: أَبِیکُمْ مجاز .إذن الآیة الکریمة تقول: إنّ هؤلاء هم أبناء إبراهیم الحقیقیّون - ملّة إبراهیم - و إبراهیم الأب الحقیقی لهؤلاء ، و هذه خصوصیّة تطرحها الآیة الکریمة ، و تعیننا علی التعرّف علی هؤلاء الأفراد . هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا الضمیر «هُوَ» یعود علی اللّه ، و «مِنْ قَبْلُ» یعنی فی الماضی ، و «فِی هذا» یعنی فی القرآن ، أی فی الکتب السابقة و فی القرآن أیضاً اللّه سبحانه و تعالی هو الذی أطلق علیکم اسم المسلمین . و من ثمّ تخلص الآیة إلی أخذ النتیجة من هذا القول ، لتبیّن الهدف من جمیع هذه الخصائص ، و هو لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ . اللام هنا لام الغایة وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ أی علی غیر المسلمین من الیهود و النصاری ، فهو المقصود هو أنّکم أیّها المسلمون تکونون شهداء علی الیهود و النصاری ، أم أنَّ المراد هم أنتم الصنف الخاص ، الجماعة الخاصّة ، و الاُمّة الخاصّة کونوا شهداء علی الآخرین؟ و سنتطرق فیما بعد إلی معنی هذا القول .و ظاهر الکلام هو ما قلناه ، فلیس المقصود من الناس هم الیهود و النصاری ، و أما ما یبدو بالنظرة البدویة من أنّ اللّه سبحانه و تعالی هو الذی سماکم بالمسلمین ،

ص:15

لتکونوا أنتم - أیّها المسلمون - شُهَداءَ عَلَی النّاسِ ، بهذا المعنی لا بدّ أن یکون الناس من غیر المسلمین ، و یحب أن ندخل الیهود ضمن الناس ، فی حین أنّ ظاهر الآیة یرشدنا إلی معنی آخر ، فالناس هنا هم المسلمون أنفسهم ، إذن الجملة سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ هو عنوان خاص و مرتبط بجماعة خاصّة . و هذه الجماعة الخاصّة لها عدّة خصائص یمکن أنّ نستفیدها من الآیة الکریمة .أحد هذه الخصائص التی غفلنا عنها فی البدایة ، هو نفس هذا الخطاب - وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ أی أنّکم مکلّفون بطیّ جمیع مراحل المجاهدة ، لما ذا ؟ لأنّ اللّه هو الذی اختارکم ، أنتم لستم أفراداً عادیین تریدون أن تقوموا بتکالیفکم بین الناس العادیین .و نفس الخطاب هذا لا یمکن أن یکون موجّهاً إلی کافّة الناس «وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ» بتعلیل «هُوَ اجْتَباکُمْ» ، أی لا یصحّ القول أن اللّه سبحانه و تعالی لمّا اجتباکم و اختارکم ، القی علی عاتقکم مسئولیّة أکبر و أثقل ، و هل أنّ هذا التعبیر یتناسب مع عامّة الناس ؟ و هل هذا التکلیف یمکن أن یتوجّه إلی النّاس کافّة ؟الآیة بنفسها تدلّنا علی أنّ المسألة لیست بهذا الشکل ، و المخاطب و المکلّف المسمّی بالمسلمین و أبناء إبراهیم هم أفراد خاصّ من المسلمین ، فهم من جهة لا ینطبق علیهم عنوان الرسول ، و من جهة اخری لیسوا من الناس العادیین ، و هذا ما یدلّنا أنّهم یحملون عنواناً خاصّاً بین الرسول و بین الناس ، و مسئولیّتهم أکبر و أصعب بکثیر من مسئولیّة عامّة النّاس .هذه الآیة لوحدها و من دون أن ندعمها بآیة اخری أو بروایة صحیحة وردت فی تفسیر هذه الآیة - و سنتعرّض إلیها لتأیید ما قلناه فیما بعد - تشیر إلی أن هناک عنواناً آخر یتوفّر علی جمیع هذه الخصائص .و الآن نتطرّق إلی آیة اخری تساعد فی فهم الآیة سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا . . . و کما قلت فإن بحثنا معنی تفسیری و یرتبط أیضاً بمسألة الإمامة و بعلم الإمام ، و من جانب آخر له علاقة بقاعدة لا حرج الّتی هی محل بحثنا بالأساس ، و بما أنّ هذه الآیة الکریمة بالذات هی من أهمّ الآیات التی یستدلّ بها علی قاعدة لا حرج - فلذلک یجب أنْ تدرس و تناقش بدقّة . . .

ص:16

و المقصود من الأب هنا هو الأب الحقیقی ، و لیس هناک ما یبرّر لنا صرف کلمة «الأب» عن معناها الحقیقی ، فما لم توجد هناک قرینة علی المجاز ، لا بدّ من حمل کلمة الأب علی معناها الواقعی . و هذه قرینة اخری علی استبعاد أن یکون المراد فی ضمیر «کم» کافّة المسلمین و الالتزام بأن لفظة: أَبِیکُمْ مجاز .إذن الآیة الکریمة تقول: إنّ هؤلاء هم أبناء إبراهیم الحقیقیّون - ملّة إبراهیم - و إبراهیم الأب الحقیقی لهؤلاء ، و هذه خصوصیّة تطرحها الآیة الکریمة ، و تعیننا علی التعرّف علی هؤلاء الأفراد . هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا الضمیر «هُوَ» یعود علی اللّه ، و «مِنْ قَبْلُ» یعنی فی الماضی ، و «فِی هذا» یعنی فی القرآن ، أی فی الکتب السابقة و فی القرآن أیضاً اللّه سبحانه و تعالی هو الذی أطلق علیکم اسم المسلمین . و من ثمّ تخلص الآیة إلی أخذ النتیجة من هذا القول ، لتبیّن الهدف من جمیع هذه الخصائص ، و هو لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ . اللام هنا لام الغایة وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ أی علی غیر المسلمین من الیهود و النصاری ، فهو المقصود هو أنّکم أیّها المسلمون تکونون شهداء علی الیهود و النصاری ، أم أنَّ المراد هم أنتم الصنف الخاص ، الجماعة الخاصّة ، و الاُمّة الخاصّة کونوا شهداء علی الآخرین؟ و سنتطرق فیما بعد إلی معنی هذا القول .و ظاهر الکلام هو ما قلناه ، فلیس المقصود من الناس هم الیهود و النصاری ، و أما ما یبدو بالنظرة البدویة من أنّ اللّه سبحانه و تعالی هو الذی سماکم بالمسلمین ،

ص:

حیث یتلقّی أب و نبیّ أمراً من اللّه تبارک و تعالی أن یذبح ابنه بیده ، ذلک الابن الذی رزقه اللّه إیّاه فی أواخر عمره .و الآن لننظر إلی إسماعیل فی غضون تلک الحادثة حیث یعمل مساعداً لإبراهیم فی بناء الکعبة ، فیحتمل أن یکون عمر إسماعیل فی ذلک الوقت خمس و عشرین سنة إلی ثلاثین سنة ، و بالطبع فإنّ إبراهیم علیه السلام فی ذلک الوقت کان حائزاً لمقام النبوّة ، و باعتقادی أنّه کان حائزاً علی مقام الإمامة أیضاً ، و مع ذلک نراه یقول داعیاً: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ ، و هذا تحصیل حاصل بالنسبة لإبراهیم ، و مع ذلک نجده علیه السلام یطلب شیئاً محصّلاً ، أو أنّه یطلب دیمومة ما کان حاصلاً ، و هذا یشبه ما نقول نحن فی الصلاة : اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ .و یشبه الطریقة التی نوجّه بها هذا الدعاء لأنفسنا و نفسّره . فهنا نبحث فی الآیة الکریمة: وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ فظاهر الآیة أن المقام الذی کان الأب و الابن یدعوان اللّه سبحانه تعالی للوصول إلیه ، مقام رفیع جدّاً ، تتوفّر فیه جهتان و خصیصتان : أحدهما: فی قوله - مسلمین - أی التسلیم المطلق بدون أیّ قید مهما صغر ، و بدون أیّ تعلیق و لو مختصر . الثانیة: إنّ الجهة التی نسلّم إلیها هی مُسْلِمَیْنِ لَکَ ، و هذا مقام رفیع جدّاً ، و هو المقام الذی یکون فیه الإنسان أمام اللّه تعالی فی حالة من التسلیم المحض ، لا فی مقام العمل فقط ، و إنّما فی مقام الاعتقاد ، و فی مقام الفکر . لأنّنا قد نری مسلماً یعیش حالة التسلیم فی مقام العمل ، لکنّه فی مقام الاعتقاد قد یحمل بعض الأفکار غیر السلیمة ، فقد یذهب هذا الشخص إلی مکّة و هو یعیش حالة التسلیم و الامتثال ، و لکن قد تخطر فی باله بعض الأفکار من قبیل أن یقول لنفسه: أ لیس من الأفضل أن تبنی هذه الکعبة علی سفوح الجبال الخضراء ذات الحدائق ،

ص:18

لیرتوی الإنسان من الماء البارد هناک؟و هذا اللون من الخواطر و التفکیر معناه أنّ هذا الشخص لیس لدیه تسلیم قلبیّ خالص ، فالتسلیم القلبیّ الخالص یعنی أن لا یخطر فی باله شیء من هذا القبیل قید أنملة .و بعبارة اخری: إنّنا فی البحوث العلمیّة قد تواجهنا ثمّة إشکالات نحاول أن نردّ علیها ، أمّا التسلیم الخالص فمعناه أن لا یوجد هناک أیّ إشکال ، و هذا یکشف عن اعتقاد راسخ ، و إیمان و یقین فی مستوی عالٍ جداً ، بحیث لا یرقی إلیه أیّ إشکال ، فلا إشکال فی البین کی یستتبع تبریر .مثل هذا الإنسان ذو الأیمان الصلب لا یرد علیه مثل هذا الإشکال لیبرّره بعد ذلک بأنَّ اللّه أعلم بما یصلح ، و أنّه أحاط بکل شیء علماً ، و الأجوبة من هذا القبیل تجاه الواردات القلبیة لا تمثّل حالة التسلیم المطلق ، فالتسلیم المطلق أعلی و أرفع مقاماً و رتبةً بکثیر ، و یتمثّل بالانقیاد التامّ للّه تبارک و تعالی فی جمیع المجالات .فعلی سبیل المثال فإن کلام سیدنا آدم علیه السلام بحسب الظاهر دون مستوی التسلیم المطلق ، حیث طرأ علی ذهنه هذا الإشکال و هو: لما ذا نهانی اللّه عن الأکل من هذه الشجرة؟ و لو لم یخطر هذا التساؤل علی باله لما استطاع الشیطان بوسوسته أن یغیّر شیئاً من الأمر ، و مع التسلیم المطلق لا یبقی أیّ مجال لخطور مثل هذه الأفکار فی مخیّلة الإنسان .و هنا نقول: إنّ الدعوی المطروحة للبحث هی قوله تعالی: وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ ، لقد دعا إبراهیم بهذا الدعاء فی أواخر عمره و فی حال بنائه للکعبة رمزاً لتوحیده و مرکزه حتّی تقوم القیامة ، و من ثمّ یکمل دعاءه بقوله: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ و لنا وقفة طویلة مع هذه الآیة ، حیث نری إبراهیم و إسماعیل علیه السلام و فی ظلّ تلک الظروف الحسّاسة دعوا اللّه سبحانه و تعالی أن یجعل من ذریّتهما - أی من

ص:19

ذریّة الابن و التی تنتهی بالتالی إلی الأب - امَّة مسلمة ، فجمع بین ذریّة الأب و ذریّة الابن بضمیر الجمع للمتکلم «نا» ، و هذا الدعاء علی وزان قوله تعالی:

وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ لقد أراد إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام لذریّتهما من إسماعیل علیه السلام أن تکون لدیها حالة التسلیم أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ ، کما أرادا ذلک لأنفسهما من قبل وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ . إذن ، تبیّن لنا أنّ أحد أدعیة إبراهیم علیه السلام هو أن تکون هناک امّة من ذریّة إبراهیم عن طریق إسماعیل مسلمة لله ، و یبدو أنّ اللّه تعالی عند ما نقل هذا الدعاء عن لسان إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام ، و سکت قد استجاب لهذه الأدعیة بقرینة الآیة الکریمة: وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً ، و هنا قال: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی فأجاب اللّه علی الفور لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ . أی:

لا تتصوّر یا إبراهیم أنّ الأمر سیکون إلی جمیع ذرّیتک ، و أعلم أنّ الظالم لا ینال مقام العهد و الإمامة ، فمقام الإمامة و مقام الظالم لا یلتقیان أبداً ، هنا بیَّن اللّه سبحانه و تعالی المسألة إلی إبراهیم و أجابه بسرعة ، لکنّه بعد أن ینقل دعاء إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام و یسکت عن بیان النتیجة و الجواب ، فإنّ هذا السکوت یعنی أنّ هذا الدعاء مقبول: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ مقبول: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ أیضاً مقبول . فما نلاحظه هو أنّ إبراهیم علیه السلام بعد أن استجیبت دعوته بأن یکون هو و إسماعیل مسلمین ، دعا بأن تکون هناک امّة میزتها و خصوصیّتها أنّها مُسْلِمَةً لَکَ .

المراد بالظلم فی المفهوم القرآنی

و کیف کان ، فإنّ الآیتین تشترکان نوعاً فی هذه المسألة ، و هی أنّ إبراهیم فی دعائه کان یطمع أن تصیر الإمامة و القیادة - قیادة المجتمع مثلاً - إلی ذریّته ، و تتمثّل

ص:20

فیهم کما اختصّها اللّه سبحانه و تعالی به و تلطّف بها علیه حیث نصبه بقوله تعالی:

جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً ، و لکن فی تلک الآیة فإنّ القضیّة طرحت بصیغة السؤال ، حیث سأل إبراهیم علیه السلام ربّه: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی أی هل للبعض من ذرّیتی نصیباً فی الإمامة و القیادة قیادة الإمامة ، فجاء الردُّ من قبل اللّه سبحانه و تعالی ، و هو قوله:

لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ .و یبدو لنا إذا قارنّا بین هذه الآیة و تلک - خاصّة بعد الأخذ بنظر الاعتبار - ما أشرنا إلیه من أنّ الآیات: وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ . . . تحکی عن الظروف التی انطلق الدعاء فی أجوائها . حیث تصوّر لنا الآیة أنّ إسماعیل کان شابّاً ذا نظارة و ممتلئاً بالطاقة و الحرکة ، و بإمکانه مساعدة إبراهیم فی بنائه للبیت الحرام ، و بناءً علی أنّ هذه الآیة جاءت بعد الآیة التی یقول فیها تعالی: قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی ، فعمر إبراهیم علیه السلام یدلّنا علی أنّ هذه الآیات فی تسلسلها الزمنی تأتی متأخّرة عن تلک الآیة - و الآن إذا قرنّا بین الآیتین ، نری أنّه فی الآیة الأولی یسأل إبراهیم ربّه قائلاً: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی فیردّ علیه تعالی: لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ .فی الحقیقة هنا حصل إبراهیم علی معیار أو ملاک معیّن حیث فهم أنّ المرشّح لأمر الإمامة بالجعل الإلهی و العطاء الإلهی یجب أن لا یمت إلی الظلم بأیّة صلة .

و استناداً إلی الرّوایات ، و کذلک بحکم التناسب أو السنخیة الموجودة بین الحکم و الموضوع فإنّ عدم التلبّس بالظلم هو شرط لیس فقط عند التصدّی لأمر الإمامة ، بل یجب أن یکون الإمام غیر متلبّس بالظلم فی الماضی أیضاً ، أی أن یکون بعیداً عن الظلم طوال عمره . و المقصود من الظلم هنا لیس المعنی المتداول بیننا و فی استعمالاتنا العرفیّة . و الظلم له معنی خاص ، و فهم العامّة للظلم هو أن یسرق شخص مال شخص آخر ، أو أن یضرب إنسان إنساناً آخر بلا أی مبرّر ،

ص:21

فنحن نعبّر عن هذه المصادیق بالظلم .أمّا القرآن فإنّه یعدّ أیّ عملیة تمرد ، أو أیّ عصیان أو مخالفة تجاه اللّه تبارک و تعالی ظلماً . بدءاً بالشرک و حتّی المعاصی و المخالفات المتعارف علیها . یقول القرآن الکریم فی الشرک: إِنَّ الشِّرْکَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ 1 فی حین نحن لا نعتبر الشرک ظلماً ، و لکنّ القرآن لا یعدّ الشرک ظلماً فحسب ، بل إنّه ظلم عظیم .و إلی جانب ذلک نلاحظ أنّ القرآن الکریم فی حدیثه عن المعاصی و الذنوب یعبر بقوله: اَلَّذِینَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ 2 ، و من هنا فإنّ ظلم النفس یدخل فی إطار معصیة اللّه تبارک و تعالی و مخالفة أوامره و نواهیه و لا یمکن تصور أیّ معنی آخر للمفهوم الذی طرحه القرآن الکریم ، ألا و هو مفهوم الظالم لنفسه . فالظلم من وجهة نظر القرآن الکریم و الأنبیاء علیهم السلام له معنی أوسع و أشمل من المعنی الذی نتصوّره نحن ، و فهم الأنبیاء للظلم یختلف عما نعبّر عنه بالظلم .

شرط العصمة فی الإمام

هنا تکوَّن لدی إبراهیم الملاک و المعیار فی مسألة الإمامة ، و عرف أنّ الذی یتولّی منه الإمامة و الذی تجعل له الإمامة و تختص به لا بدّ و أن یکون طوال عمره نزیهاً عن الظلم ، و لا یمت للظلم بأیّ صلة ، و بالطبع فإن من تتوفّر فیه هذه الشخصیّة و یتجسّد هذه المعنی فی شخصیّته لا بدّ و أن یکون أحد مصادیق قوله تعالی: مُسْلِمَةً لَکَ .إذن الشخصیّة التی هی دائماً و أبداً فی مقام التسلیم إلی اللّه تعالی ، و لا تخرج عن دائرة التسلیم فی أیّ وقت من الأوقات هذه الشّخصیة هی التی بمقدورها الارتباط

ص:22

بالإمامة و أن تکون من سنخ الإمامة ، و من هنا یتّضح لنا السبب الذی دفع بإبراهیم أن یدعو بهذا الدعاء وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ ، لأنّ اللّه قد قال بأنّه لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ ، و اقصی الظالم - و لو ارتکب الظلم لحظة واحدة ، أو فی جانب ، أو بُعدٍ واحد - عن مسار الإمامة ، بناءً علی الملاک و الضابطة راح إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام یدعوان اللّه سبحانه و تعالی أن یجعل من ذرّیتهما امّة مسلمة له ، أی أن تکون ذرّیتهما بمستوی الإمامة و لها صلاحیّة الإمامة .و هنا نقطة لا بدَّ من الإشارة إلیها ، و هی أنّ قوله تعالی: لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ تقابل تماماً ما جاء علی لسان إبراهیم علیه السلام فی دعائه أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ ، إذن فی الحقیقة دعاء إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام و ما طلباه من اللّه عزّ و جلّ کان بناءً علی تلک الضابطة ، و ذلک الملاک الذی حدّده اللّه سبحانه و تعالی لإبراهیم فی الإمامة .

فلم یسأل إبراهیم علیه السلام اللّه تعالی: هل سیحصل أحد من ذرّیتی علی منصب الإمامة؟ و إنّما عرض المسألة هذه بصیغة الدعاء . فدعا اللّه أن یجعل من ذرّیته من یتوفّر فیه شرط الإمامة و الملاک المعتبر فیها . سؤالٌ: و هنا قد یتبادر هذا السّؤال إلی الأذهان ، و هو أنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام فی دعائهما وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ و فی قولهما و تَقَبَّلْ مِنّا و أَرِنا مَناسِکَنا فی جمیع هذه الموارد الدعاء یختصّ بهما ، و یعود علیهما بالذات ، و لکن فی دعائهما وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ هنا الطلب لا یخصّهما ، فما علاقة فحوی الدعاء بإبراهیم و إسماعیل علیهما السلام ؟ الجواب: الإجابة عن هذا السّؤال لها علاقة بموضوع الإمامة ، فعند ما وجد إبراهیم علیه السلام نفسه تتوفّر فیه شروط الإمامة ، أحبَّ بوازعٍ من رغبته فی هدایة المجتمع و إرشاد البشریّة عبر مراحلها التاریخیة حتّی قیام الساعة ، أن یحتفظ بمنصب الإمامة السامی فی ذرّیته ، أیّ أن یتصدّی جماعة من ذریّة إبراهیم

ص:23

فی المستقبل منصب الإمامة و قیادة المجتمع من بعده . و إلّا لو أردنا تجاوز هذه النقطة إلی مسألة إمامة هذه الاُمّة المسلمة ، تبقی هناک علامة استفهام کبیرة ، فما معنی أن یدعو إبراهیم و إسماعیل بهذا الدعاء ، و یطلبان من اللّه عزّ و جلّ هذا الطلب؟و ما ذا یعنی أنّنا ندعو اللّه تعالی أن یجعل فی أبنائنا و أحفادنا أفراداً صالحین و متدیّنین؟ و لما ذا لا ندعو بالخیر لجمیع أبناءنا؟ و لما ذا لم یدعُ إبراهیم لجمیع ذریّته؟إذن ، من هنا نتوصّل إلی هذه الحقیقة و فی قوله وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا ، یعنی أنّ الأمر لیس أمراً عامّاً ، و لا یمکن أن یشمل جمیع أفراد الذریّة ، و لا یمکن لجمیع الذریّة أن تشترک فی هذا الأمر ، إذ أنّ الذریة بأجمعها لا یمکن أن تتوفّر فیها مواصفات و شروط الإمامة ، فالإمامة أمر خاصّ و محدود بعدّة قلیلة ممّن یمکنهم أن یتصدّوا لهذا الأمر ، و لذلک جاءت مِنْ الذی مفاده التبعیض .و کذلک فی الآیة الاُخری التی أجاب فیها اللّه سبحانه و تعالی علی سؤالِ إبراهیم بقوله: لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ ، فهناک أیضاً طرحت المسألة مشتملة علی «من» وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی . و هذا یدلّ علی أنّ المسألة مسألة خاصّة ، و لیست عامّة ، و إلّا لکان الدعاء عامّاً ، و هذا ما یوافق مقتضی طبع الإنسان الذی إذا أراد أن یدعو ، فإنّه یدعو للجمیع .و بناءً علی ذلک ، کان المفروض أن یکون الدعاء بهذه الصورة «الهی اصلح جمیع ابنائنا القریبین و البعیدین و اجعلهم من المتّقین و المتدیّنین» ، و أمّا قوله: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا ، فالظاهر أنّه یستتبع هدفاً خاصّاً ، و هذا الهدف الخاصّ هو مسألة الإمامة لیس إلّا، و التی تتناسب مع قوله مُسْلِمَةً لَکَ ، و لها علاقة أیضاً بقوله تعالی: لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ .مضافاً إلی وجود شواهد اخری فی الآیة التالیة تؤیّد هذا المعنی ، و هو أنَّ إبراهیم علیه السلام کان ینظر فی هذه الآیة إلی جماعة خاصّة من ذریّته ، و لیس المقصود من

ص:24

دعاء إبراهیم و إسماعیل علیه السلام بحق هؤلاء أن یکونوا اناساً مؤمنین و متدیّنین ، إذن الهدف أکبر و أهمّ ، و هو مسألة الإمامة ، فمسألة الإمامة لیست مسألة عامّة یمکن لأیّ شخص أن یتّصف بها ، و برأیی أنّ الآیة الکریمة رائعة فی تعبیرها فما الذی أراد إبراهیم و إسماعیل أن یقولا فی هذا الدعاء؟و یبدو جلیّاً من خلال الشواهد و القرائن أنّ إبراهیم علیه السلام کان یقصد فی دعائه جماعة من بنی هاشم ، نسمّیهم بعترة الرسول صلی الله علیه و آله ، فإبراهیم فی حال بنائه الکعبة و إحداث عمارة الایمان و تأسیس مرکز التوحید ، یدعو لإمامة هؤلاء ، و لعلّ السّنخیة بین الاثنین [بین الکعبة و الإمامة] أنّ إمامة هؤلاء لها علاقة ببقاء و دیمومة مرکز و رمز التوحید ، و لها الدور الأساسی فی حفظ الکعبة و بیت اللّه . . . إنّ إمامة هؤلاء تعطی للناس المعنی الصحیح للحجّ و المناسک ، کما أنّ إمامة هؤلاء لها علاقة وثیقة بالکعبة .إذن یجب أن نلاحظ ظرف الدعاء ، لما ذا صدر هذا الدعاء عن إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام عند بنائها للکعبة؟ فقد کان بامکانهما أن یدعوا بهذا الدعاء فی وقت آخر ، أمّا فی ذلک الوقت بالخصوص و فی تلک الظروف الخاصّة ، فإنّ مثل هذا الدعاء یشعرنا أنّ هناک ارتباطاً تامّاً و صلةً وثیقة بین إمامة هذه الامّة المسلمة له أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ ، و بین الکعبة مرکز التوحید و رمزه ، و أنّ الإمامة هی التی بمقدورها أن تحقّق هدف التوحید بکلّ ما تعنیه هذه الکلمة من معنی و تنجّز الهدف من بناء الکعبة ، و قد شاهدنا عن کثب فداحة الخطب ، الخطب فی المسارات البعیدة عن مسار الإمامة و الأئمّة علیهم السلام .

المراد من الأب و الذّریة

و بعد أن تقول الآیة: وَ أَرِنا مَناسِکَنا وَ تُبْ عَلَیْنا إِنَّکَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ 1 نلاحظ أن الدعاء یستمر: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ 2 هنا و بعد أن دعوا اللّه وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ طلبا من ربّ العزّة أن یبعث فی هذه الاُمّة المسلمة ، رسولاً یکون منهم ، و هناک تأکید من قبل إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام علی کلمتی: مِنْ ذُرِّیَّتِی ، و الآیة التی قرأناها سابقاً و التی سنعود إلیها فیما بعد بلحاظ حدیثنا عن قاعدة لا حرج یقول فیها تعالی: مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ .إذن ، فهل من الصحیح أن نغضّ الطرف عن کلّ هذه الشواهد ، و نقول بأنّ الأب هنا یعنی الأب الروحی ، و أنّ الذریّة هم الأتباع؟ کما فی قول المعلّم لتلمیذه :

ص:25

و بعد أن تقول الآیة: وَ أَرِنا مَناسِکَنا وَ تُبْ عَلَیْنا إِنَّکَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ 1 نلاحظ أن الدعاء یستمر: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ 2 هنا و بعد أن دعوا اللّه وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ طلبا من ربّ العزّة أن یبعث فی هذه الاُمّة المسلمة ، رسولاً یکون منهم ، و هناک تأکید من قبل إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام علی کلمتی: مِنْ ذُرِّیَّتِی ، و الآیة التی قرأناها سابقاً و التی سنعود إلیها فیما بعد بلحاظ حدیثنا عن قاعدة لا حرج یقول فیها تعالی: مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ .إذن ، فهل من الصحیح أن نغضّ الطرف عن کلّ هذه الشواهد ، و نقول بأنّ الأب هنا یعنی الأب الروحی ، و أنّ الذریّة هم الأتباع؟ کما فی قول المعلّم لتلمیذه :

یا بنیّ ، هذا الکلام لا یتناسب مع القرآن الکریم ، و هذا الکلام قد نجد له ما یبرّره إذا کنّا غیر محتفظین علی المعنی الحقیقی للقرآن ، أمّا عند ما یرد فی الآیة السابقة قوله:

مِلَّةَ أَبِیکُمْ و فی هذه الآیة قوله: مِنْ ذُرِّیَّتِنا و الآیة التی تتحدّث عن الإمامة و التی وردت فیها عبارة: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی ، فهل یصحّ الإعراض عن کلّ هذه الدلائل؟إنّنا إذا استطعنا أن نحتفظ بالمعنی الحقیقی لهذه المفردات و أن نهتدی إلی مغزاها خلال المعنی الحقیقی لها سنتوصّل بالتالی إلی الهدف الأساسی الذی یرده القرآن الکریم ، بقطع النظر عن الروایات الواردة فی تفسیر هذه الآیات ، و إلّا فمع الاستعانة بالروایات فی هذا الباب - و التی سأذکر بعضها فیما بعد إن شاء اللّه - مضافاً إلی الروایات فی المسألة الاُخری لا یبقی هناک أدنی شکّ أو تردید فی المراد من الآیات .و لکن ما ارید قوله أنّه حتی لو لم تکن هناک هذه الروایات ، و لو کنّا نحن و ظاهر القرآن ، نحن و النصّ ، نحن و القرآن الذی یقول عنه العلّامة الطباطبائی قدس سره :

ص:

إن القرآن الذی فیه بیان کلّ شیء لا بدَّ و أن یبیّن بعضه بعضاً (1). أی من خلال التمعّن فی الآیات مجتمعه ، و من خلال التوفیق و الملائمة فیما بینها ، یتّضح لنا المعنی بصورة کاملة . فإبراهیم علیه السلام یقول: إنّ الرسول منهم ، و أنّهم من ذریة إبراهیم و إسماعیل ، یعنی إنّ الرسول صلی الله علیه و آله من ذریّة إبراهیم و إسماعیل ، و الاُمّة کذلک من ذریّة إبراهیم و إسماعیل . أی: ابعث فیهم رسولاً بینهم ممّن یتّصف بمقام الإمامة ، و اعطه میزة اخری و هی میزة الرسالة و النّبوة ، فمیزة النّبوة تختص بأحدهم ، و أمّا میزة الإمامة فتتعلّق بهم جمیعاً ، فالرسول الأکرم محمّد صلی الله علیه و آله بالإضافة إلی اختصاصه بمنصب الرسالة فإنّه یختصّ أیضاً بالإمامة ، فالرسول صلی الله علیه و آله تتوفّر لدیه کلتا الجهتین:

الإمامة و الرسالة وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ، و ضمیر الجمع للغائب [ هم ] یدل علی قوله وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا بقرینة الآیة السابقة .هنا یعترضنا السّؤال التالی : ما هو الدّور الذی یؤدّیه الرسول فی هذه الاُمّة المسلمة؟الجواب: أنّ دور الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله هو دور المعلّم و المربّی و المزکّی ، و هؤلاء تلامذة الرسول صلی الله علیه و آله یَتْلُوا عَلَیْهِمْ علی الاُمّة المسلمة آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ .

حلّ التعارض الظاهری بین الآیات

هنا قد یثبّ إلی الأذهان هذا السؤال و هو: أنّ التعبیر بقوله: یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ قد ورد بنفسه و من دون تغییر فی آیة اخری مطلعها قوله تعالی: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ

ص:27


1- 1) . المیزان 3: 36 .

یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ . . . 1 ، أ لیس المراد بالمؤمنین هنا جمیع المؤمنین؟ و قوله تعالی: إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ فقد کرّر الشطر الثّانی منه فی الآیة لَقَدْ مَنَّ اللّهُ . . . فی حین أنّ الآیة الثانیة تفید العموم ، و لا تختصّ بالأئمّة علیهم السلام قطعاً .و یمکننا أن نجیب علی هذا الإشکال بتقدیم إشارة و مقدّمة و هی أنّ الآیة الثانیة [ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ ]تنتهی بقوله تعالی: وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ ، أمّا فی الآیة التی نحن بصددها [ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً . . . ] انتهت بقوله یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ و لم تختم بما اختتمت الآیة السابقة .و هذا ما یوصلنا إلی الجواب و هو: إنّنا نلاحظ أنّ الدروس التی نتلقّاها و المسائل العلمیّة التی نبحثها تنطوی علی مراحل ، فالذی یدرس کتاب المعالم یدرس الاُصول ، و الذی یدرس الرسائل هو أیضاً یدرس الاُصول ، و الکفایة أیضاً هی من علم الاُصول ، و کذا الحال بالنسبة للذی یدرس الاُصول الخارج مدّة عشرین سنة ، فهو أیضاً یدرس الاُصول ، و لکن دروس الاُصول هذه تختلف فیما بینها اختلافاً شاسعاً ، فلا نستطیع أن نقارن بین هذه الدروس من حیث المرحلة و الرتبة .و من هنا نقول: إنّ کون الرسول معلّماً و کونه مزکّیاً و مربّیاً یختلف باختلاف التلامیذ ، ففی الآیة: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ . . . عند ما نلاحظ تتمّتها و هی قوله تعالی: وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ تتّضح لدینا نقطة مهمّة جدّاً ، و هی أنّ تزکیة و تعلیم الرسول لهؤلاء ، إنّما کانت لإخراجهم من الظلالة التی تحیط بهم من جوانب مختلفة ، فالهدف من تربیة و تزکیة و تعلیم الرسول هو إنقاذ هؤلاء

ص:28

من الجهل الذی یعیشوه ، و إنقاذهم من العشوائیة التی یتخبّطون فیها ، سواء علی الصعید الفکری ، أو علی الصعید السلوکی و العملی ، و هذا ما یتمثّل بالشرک و السلوک اللاإنسانی و المنحرف الذی کان یمارسه هؤلاء ، إذن تعلیم الرسول و تربیته و تزکیته فی هذه الآیة تشمل الجمیع بقرینة قوله تعالی: وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ .و لکن نفس هذا المربّی و المعلّم عند ما یکون تلامیذه علی حدّ تعبیر الآیة الکریمة أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ فإنّ دروس التّربیة و التعلیم تکون فی قمّة مدارج التعلیم و التربیة ، و فی آخر مراحل التربیة و التزکیة ، و لذا لا نجد فی هذه الآیة عبارة: وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ و إنّما اکتفت الآیة بالتطرّق إلی التربیة و التعلیم بالذات ، و هذا هو عین الحقِّ و الصواب . إذ لا یمکننا القول أنّ الرسول صلی الله علیه و آله ربّی علیاً علیه السلام کما ربّی غیره من النّاس العادیین ، فهل بمقدورنا أن نقول: إنّ العلم الذی علّمه الرسول صلی الله علیه و آله علیّاً علیه السلام ، علّمه سلمان رحمه الله أیضاً ؟و هنا لا بأس من الإشارة إلی الروایة التی ذکرناها فی بحث التعادل و الترجیح عن کتاب سلیم بن قیس الهلالی ، فقد ورد فی الفقرة الأخیرة من هذه الروایة عن أمیر المؤمنین علیه السلام قوله: «علّمنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله الف باب من العلم ، یفتح من کلّ باب ألف باب» (1) .إذن نعود فنقول : هل التعلیم الّذی یتلقّاه أمیر المؤمنین علیه السلام هو نفس التعلیم الذی یتلقّاه عامّة النّاس عن الرسول صلی الله علیه و آله ؟ و هل التربیة نفس التربیة و التزکیة ، أو أنّ الرسول صلی الله علیه و آله فی تعلیمه لعلی علیه السلام و أهل البیت علیهم السلام یعلّمهم آخر مراحل التعلیم و التربیة و التزکیة ؟

ص:29


1- 1) . بحار الأنوار 38: 331 .

أمّا بالنسبة إلی التربیة و التزکیة العامّة فیلاحظ فیها مقتضی حال النّاس و استعدادهم ، إذن فتکرار قوله تعالی: یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ فی الآیة التی تتحدّث عن البعثة العامّة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله لا یعنی أنّ المقصود من قوله تعالی: أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ هنا هم «المؤمنین» الذین تحدّثت عنهم الآیة بقولها: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ . . . بحیث یکون أفراد أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ هم المسلمین العادیین ، کلّا . . إنّما المقصود من الأمّة المسلمة هم جماعة خاصّة لها صلاحیّة الإمامة ، و إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام دعوا اللّه سبحانه و تعالی لهذه الاُمّة بالإمامة ، کما أنّهما طلبا من اللّه تعالی أن یرسل فیهم واحداً منهم یکون معلماً و مربیاً حتّی علی مستوی هذه الاُمّة المسلمة و التلامیذ المرموقین .

موقعیة العترة من الرّسالة

و من هنا نستنتج أن أساس الإمامة بالنّسبة لأئمتنا علیهم السلام الذین هم من ذریة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام یقع فی عرض رسالة رسول اللّه صلی الله علیه و آله و رسالة خاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله صلوات اللّه و سلامه علیه ، فکلاهما فی دعاء واحد و فی زمن واحد دعا به کل من إبراهیم و إسماعیل ، و أمّا غیرهم من ذریة إبراهیم و إسماعیل فلم یستحقوا مقام الإمامة .ثمّ إنّ الآیة الکریمة: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ حیث کلمة «المؤمنین» المحلّاة بالألف و اللام تفید العموم . فلا فرق فی آیة: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ بین ذریّة إبراهیم علیه السلام و غیر ذریّة إبراهیم ، تجعلنا نمیز الخطّ العامّ لکلّ آیة و نفهم الهدف الذی تتوخّاه کلّ آیة و نفرق بینهما . فبالنسبة للآیة: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ یلاحظ فیها جمیع المؤمنین ، و أمّا بالنسبة للآیة التی تتناول دعاء إبراهیم و إسماعیل بحقِّ ذریّتهما فنلاحظ فیها کلمة: مِنْ ذُرِّیَّتِنا . و کما قلنا سابقاً فإنّ ظاهر الآیة بقطع

ص:30

النظر عن الروایات أو الروایة التی نحن بصدد عرضها هنا یحمل فی نفسه هذا المعنی بالشکل الذی بیناه .

هل المراد بالذّریة هم العرب بالخصوص؟

بعض المحققین و العلماء و المفسّرین من أهل السّنة من أمثال صاحب المنار الذی استوقفته هذه المسألة أراد أن یحمل عنوان الاُمّة المسلمة علی المعنی الظاهری الذی یتبادر للذهن فی الوهلة الاولی ، أی بمعنی المسلمین ، فی هذه الحالة کیف سیتعامل مع مِنْ ذُرِّیَّتِنا ؟ ذلک أن المسلمین لا یختصّون بذریّة إبراهیم ، بل لا یختصّون بالعرب ، حیث یتواجد المسلمون فی شرق العالم و غربه ، و یتوزّعون علی شعوب و قومیّات مختلفة ، و یتکلّمون بلغات شتّی ، و إذا أراد أن یأخذ بما نقوله نحن و یفهم الآیة بالشکل الّذی فهمناه ، فسوف یتزلزل أساسهم الفکری و العقیدی ، فإذا کان المقصود من ذریتنا فی هذه الآیة الأئمّة الطاهرین علیهم السلام و إمامتهم .

فهذا یعنی التراجع عن متبنّیاتهم العقائدیة . إذن ما ذا یرید أن یقول فی مثل هذه الحالة؟یستفاد من آخر کلام له ، أنه فسَّر مِنْ ذُرِّیَّتِنا بالعرب ، أیّ کلّ العرب ، و یستدلّ صاحب المنار علی ذلک بآخر الآیة و التی جاء فیها: إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ ، حیث یقول: إن هذه العبارة تشیر إلی مسألة ، و هی أن العرب - عرب الصحراء - بعیدون عن الحضارة ، فالعربی الذی یأبی الرضوخ لأیّ لون من ألوان النظم الاجتماعیة کیف یمکنه تلقّی التعلیم و التزکیة و التربیة؟ فجمیع الضمائر من قبیل: وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ و یَتْلُوا عَلَیْهِمْ تعود علی العرب و لکن أین العرب من تلاوة آیات الکتاب؟ و أین العرب من التربیة و التزکیة؟ فالعربیّ الذی أنس الحرب و القتال و الغارة کیف یتسنی له الآن أن یتعلّم و یتربّی

ص:31

و یتلی علیه آیات الکتاب ؟فبحسب الظاهر هناک منافاة بین الاثنین ، بین العرب و بین کلّ من التربیة و التزکیة و التعلیم و تلاوة آیات الکتاب . إذن کیف دعا إبراهیم علیه السلام بمثل هذا الدعاء؟ و کیف طلب من اللّه أن یبعث بین العرب رسولاً بکونه معلّماً و مربّیاً ؟ فلا یوجد أیّ نوع وفاق أو تقارب بین سلوکهم و تفکیرهم و بین هذه القضایا ، فهم بعیدون کلّ البعد عنها .یقول صاحب المنار : إنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام کانا ملتفتین إلی هذه النقطة ، و مع ذلک قالا فی آخر دعائهما: إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ ، و بالطبع هناک معانی عدیدة للعزّة ، و أحدها هی القدرة ، و العزیز هو القادر ، فقول: إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ بمعنی إنّک أنت القادر ، أی تستطیع بقدرتک أن تعلِّم و تربِّی هؤلاء العرب الذین هم بعیدون عن الحضارة ، و بعیدون عن التربیة و التعلیم . صحیح أن الأمر بذاته یعدُّ أمراً صعباً و لا یتناسب مع هؤلاء ، و لکن لیست هناک أیّة صعوبة إزاء عزّتک و قدرتک ، فبقدرتک یمکن حلّ هذه المسألة ، خاصّة إذا کانت القدرة مصحوبة بالحکمة و التدبّر و التعقّل ، لا بالخشونة و الغلظة و الإجبار و الإکراه ، فإذا کانت هناک قدرة تصحبها الحکمة یمکن حلّ هذه المشکلة .إذن فصاحب المنار أراد أن یخصّص قوله: مِنْ ذُرِّیَّتِنا بالعرب ، و من ثمّ حلَّه بذیل الآیة: إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ .و هنا یطرح هذا السؤال نفسه و هو : هل أن کلّ العرب هم ذریّة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام ؟ و هل تنتهی کافّة القبائل العربیّة بإبراهیم و إسماعیل؟الآیة تقول: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أی لیس کل الذّریة ، و إنّما بعض ذریّة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام ؟ ما علاقة «ذُرِّیَّتِنا» بالعرب حتّی تکون شاملة لکلّ العرب؟ و بوجود «مِنْ» التی تفید التبعیض تبدوا المسألة أصعب من السابق . فما هو المبرّر

ص:32

و الأساس فی قولنا: إنّ بعض الذریّة هم العرب ، و کلّ الذریّة هم أیضاً عرب؟ فالعرب کانوا عبارة عن طوائف و قبائل متعدّدة ، و أحد هذه الطوائف هم بنی هاشم ، و ینتهی نسبهم إلی إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام ، أمّا کلّ العرب من حیث النسب و الأصل فلیسوا من إبراهیم علیه السلام و إن کانوا یعودون إلی زمن إبراهیم ، و من هنا فإنّ هذا النوع من التفسیر مردود .و هناک تفسیر ثالث أری أنه أفضل ممّا ذهب إلیه صاحب المنار ، و هو أن نغضّ الطرف عن عبارة: مِنْ ذُرِّیَّتِنا و نفسّر قوله أُمَّةً مُسْلِمَةً بالمجتمع الإسلامی ، و الاُمّة المسلمة ، لأن هذا التفسیر علی الأقلّ یعطی تصوّراً صحیحاً للمجتمع الإسلامی حیث یجمع بین العرب و غیر العرب ، و فی الحقیقة هناک ثمّة سنخیة بین هذا التفسیر و آیة: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ ، أمّا حصرنا للآیة فی العرب فلا یمکن الأخذ به ، لأنه لا یتطابق لا مع ظاهر الآیة و لا یوافق الآیة الاُخری آیة: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ . . . . لأنّ فی آیة ، لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ لیس المسألة مسألة العرب ، و إنّما المقصود هم المسلمین و أتباع الرسول صلی الله علیه و آله ، سواء کانوا عرباً ، أو لم یکونوا ، کسلمان الفارسی رحمه الله الذی یمثّل أوضح مصادیق المؤمنین فی ذلک الوقت ، و کان فارسیّاً و بعیداً عنه العروبة تماماً .إذن محصّل القول : إنّ الأساس الذی یجعلنا نتعامل مع هذه الآیة [ الآیة 127 من سورة البقرة ] بخلاف تعاملنا فی فهم آیة لَقَدْ مَنَّ اللّهُ علینا . . . یکمن فی عبارة وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا ، و برأیی أنّ المعنی الذی طرحناه کان علی مستوی من الوضوح .

و قد أشار بعض الإخوة إلی أنّ أحد کتب التفسیر تعرض إلی نفس هذا المعنی مستعیناً فی ذلک بالرّوایات ، لکن لا علی نحو التفصیل الذی أوردناه ، و قد راجعت التفسیر بنفسی فوجدته قد ذهب إلی ما ذهبنا إلیه بمنهجیة تختلف عن منهجیتنا بالإفادة من الروایات .

ص:33

الرّوایات الشّریفة فی تفسیر هذه الآیة

و الآن نستعرض روایة تتناول تفسیر الآیة: وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ و الآیات التی تلیها ، و یمکن من خلالها التأکّد من المعنی الذی ذکرناه قبل قلیل ، هذه الروایة نقلها العیّاشی فی تفسیره - و تفسیر العیّاشی من التفاسیر القدیمة جداً ، لکنّه بحسب الظاهر لم یصل إلینا بکامله - ینقل العیّاشی عن أبی عمرو الزّبیدی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: قلت: أخبرنی عن أمَّة محمّد صلی الله علیه و آله من هم؟ قال علیه السلام : «امَّة محمّد بنو هاشم خاصّة» . [ و الظاهر هنا أن المراد من کلمة «بنو هاشم» لیس کلّ بنی هاشم و إنّما خصوص الأئمّة المعصومین و العترة الطاهرة علیهم السلام و هذا ما سیتّضح بقرینة السؤال التالی الذی یسأله الراوی من الإمام علیه السلام ] .قلت: «فما الحجّة فی امَّة محمّد إنّهم أهل بیته الذین ذکرت دون غیرهم؟» .فقال علیه السلام : «قول اللّه عزّ و جلّ: وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ . . . فلمّا أجاب اللّه إبراهیم و إسماعیل . . .الخ» (1)؟ .هنا یستدلّ الإمام المعصوم علیه السلام بدلیل من القرآن ، و کما هو واضح لدیکم فإنّ تعامل الأئمّة علیهم السلام مع القرآن علی نمطین: أحدهما: هو تفسیرهم للقرآن ، و لعلّ تفسیر الإمام للقرآن من وجهة نظرنا غیر منسجم مع ظاهر الآیات ، و لکن علی ضوء مبادئ و اصول التفسیر یبقی رأی الإمام علیه السلام کقرینة علی اتجاه معیّن فی التفسیر ، و ذلک استناداً إلی حدیث الثّقلین و سائر الأدلّة المطروحة فی هذا الباب .و النمط الآخر فی تعامل الإمام علیه السلام مع القرآن ، هو استشهاده بالقرآن ، و فی هذه الحالة یکون الإمام علیه السلام متمسکاً بظاهر الآیة ، فالإمام المعصوم إذا استدلّ بالقرآن ،

ص:34


1- 1) . تفسیر العیّاشی: ج 1 ص 60 .

فمعناه أن القرآن یجب أن یدلّ علی ذلک المعنی بغض النظر عن کلام الإمام علیه السلام و حدیثه ، و إلّا فمن غیر المعقول أن یستدلّ علیه السلام بالقرآن و من ثمّ یقول: بأنّ المراد من قوله تعالی معنی غیر المعنی الظاهر للآیة ، فهذا لا یعتبر استدلالاً ، إنّما هو تعبّد ، و لا بدّ من قبوله ، و أمّا فی مقام الاحتجاج فیکون الباب مفتوحاً للاستدلال ، و معنی الاستدلال هو أنَّ القرآن فی نفسه یظهر من خلاله هذا المعنی ، و إلّا فلا یبقی هناک أیّ معنیً للاستدلال بالقرآن .و هنا یطلب السّائل من الإمام علیه السلام الدّلیل ، مع العلم أن قول الإمام علیه السلام حجّة حتّی لو لم یأت بالدلیل ، و لکن أحیاناً بل مکرّراً یقدّم الإمام علیه السلام الدلیل حتّی فی المسائل الفقهیّة . حیث نری فی باب الوضوء أن زرارة یطالب الإمام علیه السلام بالدلیل فی أن مسح الرأس غیر منظور فیه استیعاب الرأس کلّه ، فیجیبه الإمام علیه السلام معلّلاً: «لمکان الباء» (1) فی قوله تعالی فی آیة الوضوء: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ 2 حیث جاء بالباء ، بخلاف ما إذا تتحدث عن الغسل فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ حیث لا یوجد هناک (باء) ، و هذا یعنی أن الإمام یرید أن یبین لزرارة:

إنک إن أمعنت النظر بالآیة و تحریت الدّقة فیها حینذاک یکون بإمکانک أن تفرّق بین المسح و الغسل ، ففی الغسل تطرح مسألة الاستیعاب و أمّا فی باب المسح فإن الباء تفید التبعیض ، و بناءً علی هذا فإنّ المسح یکون علی بعض الرأس دون البعض الآخر .نعود إلی بحثنا ، فالراوی یسأل الإمام علیه السلام عن دلیله فی أنّ المقصود باُمّة محمّد صلی الله علیه و آله هم أهل البیت النّبی خاصّة؟ فقال علیه السلام : قول اللّه عزّ و جلّ: وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ ، فهذه الآیات دلیل علی أن الاُمّة المسلمة

ص:35


1- 1) . وسائل الشیعة ج 3 الصفحة: 364 ، الحدیث 3878 .

هم عترة الرسول صلی الله علیه و آله . ثمّ یصل الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة فیقول: فلمّا أجاب اللّه إبراهیم و إسماعیل و جعل من ذریتهما امّة مسلمة [ أی من تلک الاُمّة ] من الجماعة الخاصّة ، من بنی هاشم یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ . . . إلی آخر الحدیث .و کما ترون فإنّ الإمام علیه السلام قد استدلّ بهذه الآیة ، و معنی استدلاله هو أنّ ظاهر الآیة یتضمّن هذا المعنی ، و بناءً علی ذلک یتّضح أنّ قول الإمام من أنّ المقصود من الاُمّة هم الأئمّة الأطهار علیهم السلام لیس من باب التعبّد أو التفسیر أو التأویل .

من الذی سمّاهم بالمسلمین؟
اشارة

تقول الآیة: وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ الکلام یدور عن الأب ، فمن هم أولئک الذین کان إبراهیم أباهم ، و هم ذرّیته؟فی الآیات التی بحثناها سابقاً عبَّر عنهم القرآن الکریم و علی لسان إبراهیم بقوله: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا ، و أمّا فی هذه الآیة بما أن ضمیر المتکلم یعود علی اللّه سبحانه و تعالی لذلک عبّرت عنهم الآیة الکریمة: مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ ، هنا الضمیر «هُوَ» قد یبدو لأوّل وهلة أنّه یعود علی إبراهیم ، و لکن فی الواقع أنّ «هُوَ» یعود علی اللّه سبحانه و تعالی ، و الموضوع له ثمَّة علاقة بإبراهیم ، علی اعتبار أنّ الآیة لها علاقة و مدخلیة بدعاء إبراهیم ، و لکنّنا لا نستطیع أن نرجع الضمیر «هُوَ» علی إبراهیم باعتبار تکملة الآیة ، حیث جاء فیها: سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا . . .

أی فی الکتب الإلهیة السابقة و فی القرآن أیضاً ، و من هنا لا یحقّ لنا أن نربط الضمیر ب«إبراهیم» لأنّنا لا نستطیع أن نقول بأن إبراهیم هو الذی أطلق علی أئمّتنا علیهم السلام تسمیة الاُمّة المسلمة . إذن لا بدّ و أن نرجع الضمیر إلی اللّه سبحانه و تعالی الذی

ص:36

صرّح بهذه الحقیقة علی لسان القرآن: سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا . . .

استجابة لدعاء إبراهیم .

مؤیّدات و قرائن علی التفسیر المختار

ثمّ إنّ القرآن الکریم ، یذکر الهدف من ذلک بقوله: لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ ، و قلنا فیما سبق أنّ الآیة تطرح ثلاث عناوین: أحدها هو عنوان الرّسول ، و الآخر هو النّاس ، و العنوان الثالث هم المخاطبین بقوله: أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ أیّ ذریة إبراهیم علیه السلام ، و قلنا : إنّ هناک قرائن کثیرة یفهم منها أنّ المخاطبین هم الأئمّة الأطهار علیهم السلام .أحد هذه القرائن هو ما تطرّقنا إلیها فی الآیات السابقة من سورة البقرة ، و هو قوله: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا و قد عبر عنهم فی هذه الآیة ب أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ .القرینة الاُخری هی قوله تعالی: هُوَ اجْتَباکُمْ ، فالاجتباء إنّما یتمُّ بشروط و مواصفات خاصّة .و القرینة الثالثة هی قوله تعالی: لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ .و هناک قرینة أخیرة قد أشرت إلیها سابقاً ، و لکنّها بحاجة إلی شرح و توضیح ، و هی نفس قوله تعالی: وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ ، فالأمر بالجهاد هنا لیس موجّهاً إلی عامّة النّاس ، لما ذا؟ لأنّ القرآن تحدّث عن الجهاد فی موارد کثیرة ، الجهاد فی سبیل اللّه ، و من أجل الأموال و الأنفس ، فالجهاد مع ما فیه من الصعوبة ، إلّا أنّه یخصّ الجمیع ، و لا یقتصر علی جماعة دون جماعة . و کلّ واحد منّا یمکنه أن یکون علی نحو معیّن من المجاهدة ، و لکن للجهاد درجات و مراتب .

ص:37

الجهاد فی اللّه و الجهاد فی سبیل اللّه

فقوله تعالی: وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا 1 یشعرنا أنّ المجاهدة فی اللّه غیر المجاهدة فی سبیل اللّه ، حیث أن لها آثاراً ، و آثارها هی قوله تعالی:

لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا ، فالذی یجاهد علی حدّ تعبیر القرآن (فینا) ، أی فی کافّة الأبعاد الإلهیّة و فی جمیع الاُمور التی تمّت إلی اللّه سبحانه و تعالی بصلة یقول عنه اللّه سبحانه و تعالی: لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا أی نرشدهم إلی السبیل التی تؤدّی بهم إلی اللّه ، فالقرآن الکریم أشار فی هذه الآیة الشریفة إلی المجاهدة فی أعلی مراتبها ، حیث یقول تعالی:

وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ ثمّ یضیف قائلاً: حَقَّ جِهادِهِ .هل یحقُّ لنا هنا أن نذهب إلی ما ذهب إلیه أغلب المفسّرون من أن المراد فی هذه الآیة هو أن تصلّوا و تصوموا؟هل لنا أن نحمل قوله تعالی: وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ علی فعل الطاعات و اجتناب المعاصی؟هل یوجد هناک ثمّة آیة اخری فی القرآن الکریم عبَّر فیه سبحانه و تعالی عن الطاعة و المعصیة بمثل هذا التعبیر؟لا شکّ أن قوله تعالی: وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا یعبّر عن مقام شامخ و رفیع .

و لذلک نری أن القرآن الکریم لم یکتفِ بالمجاهدة فی اللّه ، بل أضاف إلیه قوله: حَقَّ جِهادِهِ ، و الآن کیف یمکن لنا أن نفسّر ذلک کلّه بأن القرآن یرید أن یقول: ألزموا جانب الطاعة و لا ترتکبوا المعاصی؟أضف إلی ذلک قوله تعالی فی تتمة الآیة: هُوَ اجْتَباکُمْ فإنّه لا بدَّ و أن یتطابق مع ما تقدّم من الکلام ، و أن یکون من سنخه ، و بناءً علی ذلک فهل یصح أن نفسّر

ص:38

الآیة بهذا المعنی و نقول: إنّ اللّه سبحانه و تعالی لمّا اجتباکم کامَّةٍ بکامل أفرادها ، إذن علیکم أن تطیعوه و لا تعصوه؟ و هنا نتساءل: أ لم یتوجب علی الاُمم السابقة اجتناب المعصیة؟ فما هی المیزة فی قوله تعالی: هُوَ اجْتَباکُمْ التی یتوجب من خلالها لزوم الطاعة و اجتناب المعصیة؟ فالاُمم الاُخری السابقة هی الاُخری أمرت بأن تلزم جانب الطاعة و تجتنب المعصیة .الآیة هنا تخاطب الأئمّة علیهم السلام و تقول: بأنّکم قد اجتباکم اللّه و اختارکم من دون خلقه ، و لذلک فإنّ المسئولیّة الملقاة علی عاتقکم و الواجبات المنوطة بکم تختلف عن عامّة النّاس و عامّة المسلمین . أنتم علیکم أن تکونوا مصداقاً لقوله تعالی:

وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا بل یؤکد فی الآیة الاُخری: وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ أنکم لا بدّ و أن تجسّدوا أعلی مراتب الجهاد فی اللّه لقوله تعالی: حَقَّ جِهادِهِ ، لما ذا؟لأنّ اللّه عزّ و جلّ هو الذی اجتباکم ، أنتم قادة الاُمّة أنتم المتصدّون لمقام الإمامة ، و بدیهیّ أن المسئولیّة الملقاة علی عاتق من اجتباهم اللّه و اختارهم هی مسئولیّة عظمی ، و تختلف کثیراً عن المسئولیة الملقاة علی عاتق عامّة النّاس ، فإذا قارنّا هنا بین الآیتین ، آیة وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ و آیة: وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا لرأینا أن الخطاب هنا لا یمکن أن یکون موجهاً لعامّة النّاس ، بل هو خطاب خاصّ موجّه إلی الذین اجتباهم اللّه تبارک و تعالی (1) .

ص:39


1- 1) . اشکال و جواب قد یقال: إنّ آیة: وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ کقوله تعالی: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ و الثّانیة عامّة تشمل جمیع المخاطبین من المؤمنین ، فکذلک الاولی .فنقول إنّ: اِتَّقُوا اللّهَ غیر وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ و لا توجد هناک أیة علاقة بین الاثنین .فقوله تعالی: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ خطاب عام للجمع ، و الجمیع مکلّفون بالأخذ به ، أما الآیة محل البحث فقد اثبتنا بالقرائن العدیدة أنها تخصّ عدة معینة من المؤمنین ، و لعلّ فی الآیة وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا من المعانی ما لا یمکن أن ندرک کنهها بعقولنا .

و من هنا ، یبدو جلیّاً و من خلال منطوق الآیة و الآیات التی تحدثت عن إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام ، أن المخاطبین فی هذه الآیة هم الأئمّة المعصومین علیهم السلام و لو لم تکن هناک أیّة روایة فی تفسیر هذه الآیات فإن التدبّر فی القرآن یکفی للتوصّل إلی هذا المعنی ، و مزیداً للاطمینان نستشهد بروایة فی تفسیر هذه الآیة لرفع أیة شبهة یمکن أن ترد فی هذا المجال .

روایة اصول الکافی

فی کتاب اصول الکافی یوجد باب فی أن الأئمّة الأطهار علیهم السلام شهداء اللّه علی خلقه ، الروایة الرابعة فی هذا الباب روایة عالیة السند ، و إن کانت هناک ثمَّة مناقشة فی السند ، و لکنّنا حققنا فلم نجد أیّ إشکال أو مناقشة فی واقع الأمر .الروایة عن علی بن إبراهیم عن أبیه إبراهیم بن هاشم ، و قد ناقش البعض فی إبراهیم بن هاشم ، و لکنا حققنا فی مجال الفقه فی شخصیّة هذا الرجل و تبیّن لنا أنّ الرجل ثقة ، و إمامی ، و صحیح الرّوایة ، و إبراهیم بن هاشم هذا یروی عن محمد بن أبی عمیر عن ابن اذینة عن برید العجلی - و کلّهم من الرّواة المعروفین ، إذن الروایة جیّدة السند ، قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام : ما معنی قوله تعالی: وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ و من هو المخاطب فی هذه الآیة الشّریفة؟قال علیه السلام : «إیّانا عنی و نحن المجتبون» .ثمّ یسأله الرّاوی عن الآیة: مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ .فأجابه علیه السلام بقوله: «إیّانا عنی خاصّة» .فإبراهیم أبوهم حقیقة ، ثمّ سأله عن معنی قوله تعالی: سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ ، فأجاب علیه السلام : «اللّه سمّانا مسلمین من قبل فی الکتب الذی مضت و فی هذا القرآن» و عن معنی الآیة الکریمة: لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ .یقول علیه السلام : «فالرسول شهید علینا بما بلغنا عن اللّه تبارک و تعالی» . أی أنه صلی الله علیه و آله شاهدٌ علیهم علی المستوی التبلیغی و علی المستوی العملی لما بلغهم ، ثمّ یقول علیه السلام :

ص:40

فی کتاب اصول الکافی یوجد باب فی أن الأئمّة الأطهار علیهم السلام شهداء اللّه علی خلقه ، الروایة الرابعة فی هذا الباب روایة عالیة السند ، و إن کانت هناک ثمَّة مناقشة فی السند ، و لکنّنا حققنا فلم نجد أیّ إشکال أو مناقشة فی واقع الأمر .الروایة عن علی بن إبراهیم عن أبیه إبراهیم بن هاشم ، و قد ناقش البعض فی إبراهیم بن هاشم ، و لکنا حققنا فی مجال الفقه فی شخصیّة هذا الرجل و تبیّن لنا أنّ الرجل ثقة ، و إمامی ، و صحیح الرّوایة ، و إبراهیم بن هاشم هذا یروی عن محمد بن أبی عمیر عن ابن اذینة عن برید العجلی - و کلّهم من الرّواة المعروفین ، إذن الروایة جیّدة السند ، قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام : ما معنی قوله تعالی: وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ و من هو المخاطب فی هذه الآیة الشّریفة؟قال علیه السلام : «إیّانا عنی و نحن المجتبون» .ثمّ یسأله الرّاوی عن الآیة: مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ .فأجابه علیه السلام بقوله: «إیّانا عنی خاصّة» .فإبراهیم أبوهم حقیقة ، ثمّ سأله عن معنی قوله تعالی: سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ ، فأجاب علیه السلام : «اللّه سمّانا مسلمین من قبل فی الکتب الذی مضت و فی هذا القرآن» و عن معنی الآیة الکریمة: لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ .یقول علیه السلام : «فالرسول شهید علینا بما بلغنا عن اللّه تبارک و تعالی» . أی أنه صلی الله علیه و آله شاهدٌ علیهم علی المستوی التبلیغی و علی المستوی العملی لما بلغهم ، ثمّ یقول علیه السلام :

«و نحن الشّهداء علی النّاس» ثمّ یفرع علی ذلک فیقول: «فمن صدق یوم القیامة صدقناه و إن کذب کذبناه» (1) .و هذا یعنی أن أعمال النّاس کافّة عند الأئمّة علیهم السلام ، و هم مطّلعون علیها لکونهم شهداء . و میزة الشهید هو إمّا التصدیق أو التکذیب ، کلاهما یتفرّعان عن العلم و الاطلاع ، و فی فرض عدم الاطلاع لا یبقی للتصدیق أو التکذیب أیّ معنی . و یبدو أنّنا قد خرجنا عن إطار البحث ، لکن لا یخلو خروجنا هذا عن فائدة ، و سنبحث فیما بعد عن وجه العلاقة بین هذه المواضیع التی أشرنا إلیها و بین أصل البحث .و علی أی حال ، فقد اتضح من التدقیق فی هذه الآیات أن لدینا مسألتان:إحداهما: إمامة الأئمّة المعصومین علیهم السلام لکونهم من بنی هاشم و ذرّیة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام .و الاُخری: کونهم شهداء علی الناس ، و هذا یعنی أنّهم مطلعون علی أعمال الاُمّة کافّة ، و أنهم یعلمون الغیب و هذا مقتضی الآیة بغضّ النظر عن الروایات و التی بدورها تؤیّد هذا المعنی .

نتیجة البحث

فی بدایة البحث ذکرنا الآیة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ للاستدلال بها فی موضوع الحرج ، فهی من جهة تصلح لأن تکون خیر دلیل علی

ص:


1- 1) . الکافی 1: 189 ، فی أنّ الأئمّة شهداء اللّه عزّ و جلّ علی خلقه ، الحدیث 4 .

هذا الموضوع ، و من جهة اخری فإنّ الخطاب فی هذه الآیة غیر موجّه لکافّة الناس . و بناءً علی هاتین المقدّمتین توصلنا بعد البحث و المناقشة إلی أن المخاطبین فی الآیة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ هم الأئمّة المعصومین علیهم السلام خاصّة .

و الآن هل یحقّ لنا أن نقول: إن الآیة وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ لا تفید الحصر؟ أیّ إننا بعد أن أثبتنا بالشواهد و القرائن أنّ المخاطبین هم خصوص الأئمّة علیهم السلام . هل نستطیع الاستدلال علی أن هذا الحکم هو حکم کلّی و عام ، و لا یتنافی مع قولنا: إن اللّه لم یجعل علی الأئمّة من حرج ، و لم یجعل علی سائر النّاس أیضاً فی الدین من حرج؟و الصحیح أن توجیه الخطاب إلی المعصومین علیهم السلام لا یعنی أن الحکم یختصّ بالأئمّة علیهم السلام ، بل یکون نفی الحرج حکماً عامّاً ، و لکنّه ورد فی خصوص الأئمّة لوجود مناسبة اقتضت ذلک .و بعبارة أوضح: إن مسألة رفع الحرج فی الدین الإسلامی مسألة عامّة ، و کما سیتضح هذا المعنی فیما بعد من الروایات و الآیات ، فإنّ الآیة هذه فی مقام الامتنان علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فهی بالإضافة إلی الجوانب الاُخری التی یمکن الکشف عنها من خلال الرّوایات تبیّن لنا العنایة الربانیة التی اختصها اللّه تبارک و تعالی باُمّة الرسول صلی الله علیه و آله دون سائر الاُمم و الأدیان السالفة ، و بالطبع فإنّ الأئمّة المعصومین علیهم السلام بما أنّهم امّة النّبی صلی الله علیه و آله بالمعنی الأعمّ مشمولین بهذه المنّة و العنایة الرّبانیة .

عود إلی قاعدة الحرج

نعود إلی أصل الموضوع ، فنقول: أن موضوع نفی الحرج الذی تحدثت عنه الآیة الشّریفة وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ موجّه بالدّرجة الاُولی إلی الأئمّة المعصومین علیهم السلام إلّا أن کون الخطاب القرآنی موجّهة إلی الأئمّة ، لا یعنی أن

ص:42

الحکم یقتصر علی الأئمّة فقط ، بل هم کسائر المسلمین قد شملتهم العنایة الإلهیّة ، و لکننا إذا أردنا أن نثبت أن دلیل نفی الحرج هو دلیل عام یشمل الأئمّة علیهم السلام و کذلک سائر النّاس ، لا بدّ لنا أن نستمد العون من الخارج ، أی من الأحادیث و الرّوایات .و السّؤال هو: هل یمکننا أن نستفید من نفس الآیة الشّریفة شمول الحکم لسائر النّاس و عدم اختصاصه بالمعصومین علیهم السلام ، أو لا یمکننا ذلک؟و للإجابة علی هذا التساؤل نقول: إن عبارة فِی الدِّینِ فی قوله: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ تشعر بأن نفی الحرج أنما یتعلّق فی أحکام الدین الإسلامی ، فتکون قرینة علی أن هذه المیزة متأصّلة فی هذا الدین ، فلا تختص بأفراد معینین .و کیف کان ، فالأمر سهل بعد الرّجوع إلی الرّوایات الشّریفة الناظرة إلی هذه الآیة الکریمة ، و التی سنذکرها بالتفصیل فیما بعد ، و فی أحدها ، أن أحد الرواة عثرت قدمه فأنقطع أظفر القدم ، فغطاها بشیء ، فسأل الإمام علیه السلام ، إذا توضّأ کیف یمسح؟ فأجابه علیه السلام بقوله: یعرف هذا و أشباهه من کتاب اللّه: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ أی إنّک لو لم تکن تسألنی فاجیبک ، لکان من الممکن لک أن تستفید هذا المعنی من نفس الآیة .إذن هناک ثمّة اختلاف بین عمومیة الخطاب و عمومیة الحکم . نحن بامکاننا أن نستفید من ظهور الآیة فقط - و بغض النظر عن الروایات - عمومیة هذا الحکم ، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا الحکم العامّ فی هذه الآیة قد تمّ تطبیقه فی خصوص الأئمّة المعصومین علیهم السلام یظهر من سیاق الآیة ، فاللّه عزّ و جلّ یخاطب الأئمّة المعصومین علیهم السلام بأن یجاهدوا فیه [ أی فی اللّه ] حق جهاده ، و هذا أعلی مراتب الجهاد ، و مع ذلک فأنّ للجهاد هذا مهما بلغت درجته حدوداً ، و حدوده هی قوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ أن علیکم أن

ص:43

تجاهدوا ، و لکن لا بالشکل الذی یسبب حکم الحرج و المشقة المجهدة الخارجة عن حدود المتعارف .

الآیة الثّانیة: مَا یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ
اشارة

و هناک آیة اخری ذکرت فیها کلمة «الحرج» و هی فی سورة المائدة التی تتضمّن أحکام الوضوء ، و الغسل ، و التیمم ، و تبدأ الآیة بقوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ وَ إِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ کُنْتُمْ مَرْضی أَوْ عَلی سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْکُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِکُمْ وَ أَیْدِیکُمْ مِنْهُ ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لکِنْ یُرِیدُ لِیُطَهِّرَکُمْ 1 .و فی قوله تعالی: جاءَ أَحَدٌ مِنْکُمْ مِنَ الْغائِطِ إشارة إلی الوضوء ، و فی قوله:

لامَسْتُمُ النِّساءَ یشیر إلی الغسل ، و تختم الآیة لحدیثها بالکلام عن التیمم .و هنا توجد نقطة هامة و التی تشکل بحثاً تفسیریاً بالإضافة إلی کونها بحثاً فقهیاً فی الطهارة ، و هی أنّ الآیة قرنت بین المریض الذی یضر الماء به ، و بین المسافر و المحدث ، مع العلم أن المریض لا یحتاج إلی التیمم إلّا إذا کان محدثاً .و قد بحثنا هذه النقطة بشکل موسع فی کتاب الطهارة و فی غیره ، و لا نرید أن نخوض فی هذا الموضوع . و لکن نقول بإجمال: إن الآیة تشیر إلی ثلاث موارد یجب فیها التیمم ، أحد هذه الموارد هو المریض ، و الآخر هو المسافر الذی لا یجد ماءً ، و الثالث هو المحدث الذی لا یجد ماءً . و بعد أن تذکر الآیة الموارد الثّلاثة تقول:

ص:44

فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِکُمْ وَ أَیْدِیکُمْ مِنْهُ و إذا تتبعنا سیاق الآیة نجد أن الآیة تشیر إلی موضوع التیمم .بعد ذلک کلّه تتابع الآیة سیاقها القرآنی بقوله تعالی: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لکِنْ یُرِیدُ لِیُطَهِّرَکُمْ ، و هنا بامکاننا أن نعتبر هذه العبارة تعلیلاً لما سبق ، حینئذٍ یواجهنا هذا السّؤال و هو: هل أنّ هذا التعلیل شامل لکلّ الأحکام التی ذکرتها الآیة ، أی لهذه الطّهارات الثلاث ، أم أنّ التعلیل هو فی خصوص التیمّم فقط ، و ذلک لأنّ التیمّم فیه جانبان: جانب عدم ، و نفی حیث ینتفی مع التیمّم کلّ من الوضوء و الغسل ، و هناک جانب إثبات و وجوب ، و هو وجوب التیمّم . فمعنی أن یتیمّم المکلّف بدل الوضوء ، أنّ المکلف إذا سقط عنه الوضوء لا یبقی بدون تکلیف ، و لا یسقط عنه الواجب الذی وجب الوضوء کمقدّمة له .و بناءً علی ذلک ، فإنّ ما جاء فی مقام التعلیل إذا قصرناه علی التیمم ، أی قلنا :

إنّ السّبب فی أنّ المریض لا وضوء علیه و المسافر یسقط عنه الوضوء ، و الغسل ، و کذا الحال بالنّسبة لمن لا یجد ماءً و هو قوله تعالی: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ إنّما یرید أن ینفی سقوط التکلیف لتفادی المشقّة و الکلفة فی نفس الوقت ، لأنّ استعمال الماء إذا کان مضرّاً بالمریض ، فإنّه سیوقعه فی حرج شدید عند الوضوء . سؤال: و هنا قد یسأل البعض: ما هی مدخلیّة قوله تعالی: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ بالنسبة لمن لا یجد ماءً ؟ أی لا معنی للحرج باعتبار أنّ المکلف لا ماء لدیه ، و لا یمکنه أن یتوضأ بالتراب ، أو یغسل بغیر الماء؟ الجواب: کما ورد فی الفقه هو أنّ قوله تعالی: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً یدلّ علی أنّ الملاک لیس افتقاد الماء بالمرّة ، و إنّما عدم الوجدان ، و هذا یقع فی حدود معیّنة .

و لذلک یقال: إنّ علی المکلف أن یقطع کذا مسافة بحثاً عن الماء فی المناطق الرخوة ،

ص:45

و کذا مسافة فی الأراضی الصلبة . إذن عدم وجود الماء لا یراد به الإطلاق ، أو المعنی الحقیقی للکلمة ، لأنّه لو لم یکن هناک ماء حقیقة ، لما کان باستطاعة المکلّف أن یتوضّأ ، أو أن یغتسل .أمّا لو فسّرنا عدم وجدان الماء بما هو متعارف علیه فی الفقه ، حینئذٍ سنصل إلی هذا الحکم ، و هو أنّ المکلف الذی لم یجد ماءً فی المنطقة التی یتواجد فیها ، لا یجب علیه أن یقطع مسافات بعیدة بسیّارته مثلاً بحثاً عن الماء ، و ان کان یحتمل الوصول إلی الماء ، و لکن هذا لیس هو الملاک ، لأنّه لو کان الملاک هو عدم وجدان الماء حقیقة ، لانتفی وجوب الوضوء و الغسل من الأصل ، و لا یوجد حینها أیّ مبرّر للحدیث عن الحرج .و أمّا عدم الوجدان بمعناه الفقهی ، فیمکن معه أن نتصوّر هذا المعنی ، و هو أن یکون واجباً علی المکلّف أن یحصل الماء بأیّ شکل من الأشکال ، و بأیّ طریقة ، و من أیّ مکان کان ، سواء من البحر أو من الصحراء للوضوء و الاغتسال ، و هنا یأتی قوله تعالی: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ ، فیسقط عن المکلّف الوضوء و الغسل للحرج و المشقّة .إذن ، محصّلة الحدیث أنّ الآیة: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ إذا خصّصناها بالتیمم ، یکون فیها جانبان: الجانب الأوّل: هو نفی وجوب الوضوء و الغسل ، و قوله تعالی: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ فیه إشارة إلی هذا الجانب ، فالمریض لا وضوء علیه ، و المسافر لا وضوء و لا غسل علیه ، و کذا الحال بالنسبة لمن لا یجد ماءً ، و أمّا تتمّة الآیة و هی قوله تعالی: وَ لکِنْ یُرِیدُ لِیُطَهِّرَکُمْ فهی ناظرة للجانب الإثباتی للتیمّم . أی أنّه بعد ما ارتفع وجوب الوضوء و الغسل نظراً للحرج ، وجب التیمّم ، لما ذا؟

ص:46

هنا یأتی التعلیل ، و هو: لأنّ اللّه یرید أن یطهّرنا ، و التراب أحد الطهورین و من ثمّ یقول تعالی: وَ لِیُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکُمْ ، و بناءً علی ذلک فإنّ هذه الآیة الشّریفة یمکن أن تکون من الأدلّة علی قاعدة نفی الحرج .و هنا لا بدّ من الإشارة إلی نقطة هامّة ، و هی أنّ اللّه سبحانه و تعالی عند ما یقرّر بأنّ المریض لا یجب علیه الوضوء ، لأنّه لم یرد أن یجعل علیه من حرج ، هنا المریض أحد موارد نفی الحرج ، و لا خصوصیّة بحیث تجعل الحکم یختصّ به ، فمسألة عدم وجوب الوضوء ، و عدم وجوب حکم الغسل لیس فیها أیّة خصوصیّة معیّنة ، و إنّما هی موارد و مصادیق للموضوع الأساسی ، و ذلک لأنّ قوله تعالی: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ جاء بمثابة التعلیل ، و کما تعلمون فإنّ المورد لا یکون مخصّصاً ، فالتعلیل معنی عامّ یصدق فی هذه الموارد و فی غیرها . و بذلک تصبح هذه الآیة أحد الأدلّة القرآنیة علی قاعدة الحرج ، خاصّة و أنّ کلمة الحرج قد وردت فی الآیة نصّاً .

التعلیل و رجوعه إلی الطهارات الثلاث

أمّا علی مستوی الاحتمال الآخر ، و هو أنّ قوله تعالی: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ له علاقة بالآیة بکاملها ، و لیس من باب نفی الحرج فی خصوص التیمم الذی أشرنا إلیه فی الاحتمال السابق ، أی أنّه مرتبط بالطهارات الثلاثة ، هنا قد یطرح هذا التساؤل ، و هو ما معنی قوله تعالی: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ ؟ هذا أوّلاً .و ثانیاً: إذا أخذنا بهذا الاحتمال ، فهل یبقی هناک مجال للحدیث عن قاعدة (نفی الحرج) و الاستدلال علیها بالآیة الشّریفة؟إذن علینا أوّلاً أن نری ما هو معنی الآیة فی ضوء هذا الاحتمال؟ لا شک أنّ

ص:47

الآیة و بناءً علی هذا الاحتمال أیضاً تبقی فی مقام التعلیل ، فلا فرق بین هذا الاحتمال و الاحتمال الأوّل ، و لکن السؤال: ما هو وجه التعلیل فی هذا الاحتمال؟التعلیل هنا لبیان العلّة فی وجوب الوضوء ، أی للجواب علی هذا السّؤال و هو: لما ذا إذا قمتم إلی الصلاة علیکم أن تغسلوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ ؟ و لما ذا إِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ؟ و ما هی العلّة فی أنّکم لو کُنْتُمْ مَرْضی أَوْ عَلی سَفَرٍ و لم تجدوا ماءً علیکم أن تیمّموا صَعِیداً طَیِّباً ؟ ففی جمیع هذه الموارد یأتی التعلیل فی خصوص الجانب الإثباتی للحکم .و لنا أن نتساءل هنا کیف یمکن للتعلیل أن یکون فی الجانب الإثباتی للحکم؟ و الجواب: أنّ اللّه تبارک و تعالی یرید أنّ یبیّن أن ما ألزمکم به عند الصلاة من الوضوء أو الغسل أو التیمّم ، فلا ارید بذلک أن أشقّ علیکم أو أثقل کاهلکم ، إنّما أقصد بذلک هدفاً أسمی و أعلی . و هذا الهدف الذی أبتغیه یخصّکم أنتم ، و یعود علیکم بالمنفعة ، و هو تطهیرکم ، أی ارید بذلک أن تحصلوا علی طهارة النفس و طهارة البدن أیضاً . بناءً علی ذلک و لتحقیق هذا الهدف السامی هل یعتبر الوضوء أمراً حرجیّاً؟ و هل یعدّ الغسل عملاً صعباً؟ و هل التیمّم شاقاً؟و مثال ذلک ، أن یقول الأب لابنه : یا بنیّ إنّما أوجب علیک الذهاب إلی المدرسة صبیحة کلّ یوم ، لا لکی أشقّ علیک ، أو أزید فی عنائک ، بل أرید بذلک أن تتعلّم و تحصل علی مکانة علمیة سامیة فی المجتمع .إذن، إذا قلنا بأنّ الآیة: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ تتعلّق بالأحکام الثلاثة ، و بالجانب الإثباتی لهذه الأحکام ، أی أنّ اللّه سبحانه و تعالی أراد أن یقول:

إنّی ما أوجبت الوضوء و لا التیمّم و لا الغسل لکی أشقّ علیکم ، أو أجعلکم فی حرج ، و إنّما أردت أن أطهّرکم ، و هذا المعنی یتطابق مع تعبیراتنا العرفیّة الشائعة ، و لکنّه خارج عن إطار بحثنا ، و لا علاقة له بقاعدة نفی الحرج ، و السبب فی ذلک هو

ص:48

أنّ قاعدة نفی الحرج إنّما تستخدم عند ما تکون لدینا إطلاقات و عمومات فی الجانب الإثباتی للحکم ، و نرید أن ننفی بعض هذه الأحکام بواسطة هذه القاعدة .فمثلاً ، إذا کان الصوم یشکل حرجاً بالنسبة لأحد المکلّفین ، هنا یسقط وجوب الصیام الذی یفهم من قوله تعالی: کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ و تأتی قاعدة نفی الحرج هنا لتنفی بعض الأحکام التی تفهم بمقتضی الإطلاقات الموجودة فی الآیة ، و لو لم تکن هذه القاعدة ، لاقتضت الإطلاقات وجوب الصوم علی الإنسان و لو کان فی مرض الموت ، کالصلاة التی تجب حتّی علی الغریق الذی یلفظ أنفاسه الأخیرة ، و علیه أن یؤدّیها فی لحظة أو لحظات ، إذن قاعدة نفی الحرج فی الحقیقة هی قاعدة نفی الحکم ، حیث تواجه الدلیل الذی یرید أن یثبت الحکم من خلال الإطلاق فی کلّ الموارد حتّی فی موارد الحرج ، فتنتفی ذلک الحکم . لذا یعبّر عنها بالنفی [ ما جعل علیکم من حرج ] فهناک إشارة إلی أنّ الأحکام المستلزمة للحرج غیر مرادة للشارع . و جعل الجاعل و إرادته الجدیّة لم تبتن علی أساسها ، حتّی و لو کان مقتضی الإطلاق یفید الثبوت فی موارد الحرج .و من هنا نتوصّل إلی هذه النتیجة ، و هی أنّ مجرّد وجود کلمة (الحرج) فی هذه الآیة: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ لا یعنی أنّها من أدلّة نفی الحرج ، بل یجب علینا أن نبحث هل أنّ التعلیل ناظر إلی التیمّم ، أو لا؟و کما أشرنا سابقاً هناک جانبان فی التیمّم: جانب نفی ، و هو عدم وجوب الوضوء و الغسل ، و جانب إثباتی و هو التیمّم ، فإذا کان هذا التعلیل فیما یخصّ التیمّم فی جانب النفی ، حینئذٍ یمکن أن نعدّه من الأدلّة علی بحثنا هذا . و إذا کان یتعلّق بکلّ الأحکام الموجودة فی الآیة و فی جانبها الإثباتی ، أی ذکر السبب و العلّة فی وجوب الوضوء و وجوب الغسل و التیمّم ، حینذاک تکون الآیة خارجة عن إطار بحث قاعدة نفی الحرج .

ص:49

مساعدة الظهور للاحتمال الأوّل

و هنا قد یقال: هل إنّ ظاهر الآیة یفید الاحتمال الأوّل ، و بذلک تکون الآیة من أدلّة نفی الحرج ، أو أنّ ظاهرها یدلّ علی الاحتمال الثانی فتخرج الآیة عن إطار بحثنا هذا؟لقائل أن یقول: إنّ الآیة فیها إجمال من جهة متعلّق التعلیل ، فلا یمکن استظهار عود التعلیل إلی التیمّم فقط لیصحّ الاستدلال بالآیة الشّریفة .و التحقیق أنّه بالإمکان العثور علی ما یرجّح الاحتمال الأوّل . لأنّ اللّه سبحانه و تعالی ذکر فی باب الغسل: إِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ، فعبّر عن الغسل بالتطهیر .

و علاقة الوضوء و الغسل بالتطهیر علاقة واضحة ، خاصّةً و أنّ التطهیر یتضمّن طهارة الجسم أیضاً ، إذن الماء مطهّر ، و هذا معلوم و مفروغ عنه ، أمّا بالنسبة للصعید - سواء کان المراد منه التراب الخالص ، أو مطلق وجه الأرض - [هذا ینبغی أن نبحثه فی التیمم] ، فهو ما لا یستأنس به ، إذ لا علاقة للتمسّح بالتراب بالطهارة ، بل یمکن اعتبارها ضدّ الطّهارة ، و أنّها عملیّة مشفوعة بالقذارة .هنا احتمل [و لا أقول أقطع] أنّ قوله: وَ لکِنْ یُرِیدُ لِیُطَهِّرَکُمْ یتعلّق بنفس التیمّم خاصّة ، أی أنّ اللّه سبحانه و تعالی فی صدد الإجابة علی الاستفهام الذی قد یتبادر إلی الذهن عن طبیعة الأمر بالتیمّم و علاقة التراب بالطهارة ، فیقول :

یطهّرکم به .و بناءً علی ذلک یستبعد أن یکون قوله تعالی: یُرِیدُ لِیُطَهِّرَکُمْ عائداً علی قوله فیما سبق فَاطَّهَّرُوا فی باب الغسل و فی باب الوضوء ، و هذا یؤیّد أن یکون قوله: یُرِیدُ لِیُطَهِّرَکُمْ إنّما هو فی خصوص التیمّم . فاللّه عزّ و جلّ یرید أن ینبّه الإنسان إلی أنّ مسألة التیمّم لا تتلخّص بالصورة الظاهریّة للتیمّم ، بل یُرِیدُ لِیُطَهِّرَکُمْ بذلک .

ص:50

و فی تتمّة الآیة یقول تعالی: وَ لِیُتِمَّ نِعْمَتَهُ فهنا إشارة إلی مسألة التیمّم ، فالإتمام لا یمکن أن یتصوّر إلّا إذا کان أصل النعمة موجوداً . فما هو أصل النعمة؟أصل النعمة الطهارة ، سواء بالوضوء أو الغسل ، فإذا لم تتحقّق الطهارة بالوضوء و لا بالغسل بالمعنی الذی تصوّره الآیة الکریمة ، و بالتالی إذا لم تتحقّق أصل النعمة فإنّ التیمم کفیل بإتمام النعمة . محصّلة القول: إنّ هذه المؤیّدات التی ذکرناها بالإضافة إلی القرائن الاُخری من قبیل أنّ مسألة التیمّم جاءت فی آخر الآیة و تبعها قوله تعالی: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ تشکّل ظهوراً فی الآیة الشریفة علی أنّ قوله: ما یُرِیدُ اللّهُ تتعلّق بالتیمّم ، و حینئذٍ تکون الآیة صالحة للاستدلال بها علی قاعدة نفی الحرج .و لکن قد یدّعی البعض أنّ الآیة فی ظهورها تشمل الطهارات الثلاث ، أو أنّها مجملة من هذه الناحیة . و فی هذه الحالة تخرج الآیة من کونها دلیلاً علی قاعدة الحرج .

الآیة الثالثة: یُرِیدُ اللّهُ بِکُمْ الْیُسْرَ وَ لَا یُرِیدُ بِکُمْ الْعُسْرَ
اشارة

من الآیات التی استدلّ بها علی هذه القاعدة هی الآیة الشریفة فی سورة البقرة الواردة فی سیاق الحدیث عن مسألة الصوم ، حیث یقول سبحانه و تعالی:

وَ مَنْ کانَ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ 1 .فقوله: یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ ، وردت فی مقام

ص:51

التعلیل . و الآیة الشّریفة فی البدایة تذکر التکلیف الشرعی ، و هو صوم شهر رمضان ، مدّته و طبیعته ، ثمّ بعد ذلک تستثنی الآیة طائفتین من الناس: أحدهما المریض ، و الآخر المسافر ، حیث یقول تعالی: وَ مَنْ کانَ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ ، أی علی المریض أن یصوم هذه المدّة المقرّرة فی غیر شهر رمضان ، و کذا المسافر .و ما نلاحظه هنا هو وجود نوع من التناسب . أو إن شئت فقل نوع من السنخیّة بین الحکم و التعلیل ، ففی هذه الآیة هناک حکمان ثبوتیّان ، یخصّ أحدهما غیر المریض و غیر المسافر فی شهر رمضان ، و الحکم الآخر هو للمریض و المسافر فی غیر شهر رمضان ، إذن هذان حکمان ثبوتیان ذکرتها الآیة ، و یعلّل اللّه سبحانه و تعالی ذلک بقوله: وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ هذا التعلیل یخصّ جانب النفی ، و الذی یستفاد من الحکم الثبوتی الثانی .و کما قلنا فی باب التیمّم من وجود حکمین: أحدهما: عدم وجوب الوضوء و الغسل . و الآخر: وجوب التیمّم .هنا أیضاً یوجد حکمین فی خصوص المریض و المسافر ، أحدهما: أنّ المریض و المسافر لا یجب علیهما الصیام فی شهر رمضان . و الآخر: تعیّن الصیام علیهما فی غیر شهر رمضان .إذن ، الآیة کأنّها تدلّ علی أنّ المریض و المسافر لا یجب علیهما الصوم فی شهر رمضان ، لأنّ اللّه تعالی قال: وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ فمن البدیهی أنّ صوم شهر رمضان بالنسبة للمریض فیه عسر و مشقّة ، و کذا الحال بالنسبة للمسافر خصوصاً فی الأزمنة السابقة ، ما نرید أن نؤکّد علیه هو أنّ قوله تعالی: وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ یخصّ جانب النفی لا الجانب الإثباتی ، لأنّ الجانب الإثباتی لا یتناسب

ص:52

مع قوله: وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ ، و بذلک تکون النتیجة: أنّ اللّه عزّ و جلّ أسقط حکم الصیام فی شهر رمضان علی المریض و المسافر ، فالعسر سبب فی إسقاط وجوب الصوم ، مع ما فی الصوم من أهمیّة و خطورة التی تعلم من خلال وجوب الکفّارة التی تترتّب علی المکلّف إذا أفطر فی شهر رمضان .و ما نحن بصدد إثباته الآن هو أصل قاعدة نفی الحرج . و بیان المعنی الإجمالی لهذه القاعدة من خلال الاستدلال بهذه الآیات الشریفة ، فی قبال من أنکر قاعدة نفی الحرج من الأساس ، و أنکر وجودها کأصل فقهی و إسلامی .

هل أنّ العسر مختصّ بالصوم؟

فی هذه الآیة طرحت مسألة العسر ، و من هنا لقائل أن یقول: لعلّ هذا المعنی یختصّ بالصوم فقط لخصوصیّات موجودة فی الصوم ، و لذا فإنّ قاعدة نفی الحرج لا تکون عامّة ، و لا یمکن الاستفادة منها فی إثبات المدّعی .و للردّ علی هذه الشّبهة هناک نقول: بأنّ هذا التعبیر جاء فی مقام التعلیل ، و الألف و اللام فی قوله تعالی: وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ تدلّ علی العسر المترتّب إثر وجوب الصوم علی المریض و المسافر ، أی أنّ (ال) هنا العهدیة ، کما أنّه قد یفهم من ظاهر الآیة أنّ الألف و اللام هی لبیان الجنس و الماهیّة ، فقوله تعالی: وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ یعنی طبیعة العسر ، جنس العسر ، و بذلک لا یوجد أی مبرّر للقول بأنّ الحکم یختص بالصوم لوحده ، فإذا استلزم الصوم العسر یسقط . صحیح أنّ موضوع الآیة هو الصوم ، لکن لو کنّا نحن و الآیة لأمکن استنباط شمولیّة القاعدة المذکورة لجمیع موارد العسر و الحرج .إذن مسألة العسر هی من العناوین المذکورة فی الآیات و التی یرتفع بها التکلیف عن عهدة المکلّف .

ص:53

الآیة الرّابعة رَبَّنَا وَ لَا تَحْمِلْ عَلَیْنَا إِصْراً
اشارة

و الآیة الاُخری هی قوله تعالی فی آخر سورة البقرة: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا 1 و استناداً إلی المتون الروائیة فإنّ اللّه سبحانه و تعالی یحکی فی هذه الآیة جملة من الأدعیة التی دعا بها رسول اللّه صلی الله علیه و آله ربّه لیلة المعراج و توجد هناک روایة فی هذا الباب قد نتطرّق إلیها فی بحثنا الروائی ، و مجمل القول إنّ الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله دعا اللّه سبحانه و تعالی بهذا الدعاء: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا و یفهم من قوله هذا أنّ الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله طلب من اللّه سبحانه و تعالی أن یمنَّ علی امّته بمزیّة ، و هی أن یرفع عن امّته الإصر الذی حمله علی الاُمم الماضیة . هنا لا بدّ و أن نحدّد معنی «الإصر» بدقّة .المعنی الإجمالی للإصر هو العبء الثقیل جدّاً و الشّاق . إذن ، الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله یدعو اللّه عزّ و جلّ بأن یرفع هذه العبّ الثقیل عنه و عن امّته ، و ورد فی الرّوایات نماذج و صور متعدّدة عن طبیعة التکالیف الشاقّة التی کانت علی الاُمم السالفة و التی دفعها اللّه سبحانه و تعالی عن هذه الاُمّة رحمة منه و امتناناً . و منها الروایة المأثورة عن الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله حیث یقول: «جعلت لی الأرض مسجداً و طهوراً» (1) .و لقائل أن یقول: ما هی المزیّة التی منّ اللّه بها علی رسوله و علی امّته فی هذا الحدیث الشریف؟و الجواب: إنّ قول الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله : «جعلت لی الأرض مسجداً» یعنی أنّ کلّ الأرض جعلت محلّاً للعبادة ، و إن کانت هناک أفضلیّة فی بعض الأماکن علی

ص:54


1- 2) . صحیح البخاری ج 1 ، الصفحة 91 ، باب التیمّم .

غیرها ، فالمساجد أفضل من غیرها من الأمکنة ، و المساجد نفسها تتفاوت من حیث الأفضلیة ، و المشاهد المشرفة أیضاً لها أفضلیتها ، إلّا أنّه لا یشترط فی صحّة الصلاة أن تؤدّی فی المسجد ، مع أنّ الوارد فی الرّوایات أنّ الاُمم السالفة کانت لها أماکن مخصّصة للعبادة بحیث لو أنّهم أرادوا أن یعبدوا اللّه عزّ و جلّ خارج هذه الأماکن لما صحّت عبادتهم . لذا کان البعض منهم یضطر أن یقطع المسافات الشاسعة للوصول إلی هذه البقاع المخصّصة للعبادة بغیة أن یحرز جانب الصحّة فی عبادته .و فی المقابل نجد أنّ الأرض جعلت لرسول اللّه صلی الله علیه و آله مسجداً . لذلک جاز للمسلم أن یقیم الصلاة فی أیّ مکان شاء ، فکلّ مکان یصدق علیه اسم الأرض ، یصلح لأن یکون مسجداً و کذا الحال بالنسبة لطهوریّة الأرض ، حیث أنّ التیمّم هو من المزایا التی امتازت بها هذه الاُمّة المرحومة . و کان العنوان العامّ الذی یفید التیمم هو أنّ «التراب أحد الطهورین» . أمّا فی الاُمم السالفة فلا یوجد شیء من هذا القبیل .فمن التکالیف الشاقّة التی کانت مفروضة علی الاُمم السابقة هو أنّهم إذا أصابت أجسامهم نجاسة ، و خاصّة إذا کانت النجاسة بولاً فلا یطهرون إلّا إذا اقتطعوا تلک القطعة المتنجسة من الجسم بالمقاریض (1) . و ظاهر عبارة الروایة یتعیّن من خلالها قصّ الجلد بالمقراض بالقدر المتنجّس حتّی یطهر . أمّا بالنسبة للاُمّة الإسلامیة فقد جعل اللّه الماء مطهراً ، بحیث إذا تنجّس المکلّف من أعلی رأسه إلی أخمص قدمیه فبإمکانه أن یتطهّر بالماء .و تذکر الروایة بعض الواجبات و التکالیف التی قد تبدو بعضها شدیدة

ص:55


1- 1) . الوسائل 1: 133 ، الباب الأوّل من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 4 ، و الروایة و إن کانت صحیحة إلّا أنّ العقل لا یساعد مضمونها ، و لا بدّ من التأویل فیها . و من البعید أن یکون المراد ظاهرها .

الغرابة ، و الآیة الکریمة: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا تؤیّد هذا المعنی . و کما أشرنا سابقاً فی خصوص دعاء إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام ، فإن اللّه عزّ شأنه عند ما یحکی دعاء أحد الأنبیاء ثمّ یسکت ، فهذا یعنی ، أن الدّعاء قد استجیب ، و إلّا لکان من غیر المناسب نقل هذا الدعاء ، و مع نقله و عدم إجابته یتحتّم علی اللّه عزّ و جلّ أن یردّ بالنفی علیه .إذن ، المنظور فی الآیة لیس مجرّد دعاء الرسول ، و إنّما دعاء یستتبعه استجابة .

و هنا کلمة «إِصْراً» جاءت فی سیاق النفی ، و هی تفید العموم ، أی: لا تحمّلنا أیّ إصر فی أیّ من التکالیف . إذن الآیة تطرح معنیً عامّاً و کلیّاً .

الاستدلال بصدر الآیة و بیان المراد من «الوسع»

بعد ذلک تأتی فقرة جدیدة من الدعاء و هی قوله تعالی: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ، و المتتبع لسیاق الآیة یجد أنّ هناک ارتباطاً خاصّاً بین صدر الآیة:

لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها و بین الفقرة من الدعاء ، و هی رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ و قد عدّ المحقّق النراقی رحمه الله فی کتابه العوائد قوله: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها من الأدلّة التی یستدلّ بها علی قاعدة نفی الحرج ، و أنّها دلیل مستقل عن هذا المضمار ، و تبعه فی ذلک المحقّق البجنوردی رحمه الله فی کتابه «القواعد الفقهیة» .و الآن لنری هل هی کذلک ، أم لا؟ هنا لا بدّ أن نبحث المسألة من جهتین: الجهة الاُولی: هو أنّنا نعلم مسبقاً أنّ القدرة العقلیّة تعتبر شرطاً عقلیاً فی تعیّن التکلیف بالنسبة للإنسان ، فلو أمر رجلٌ ابنه بالقیام بعمل لا یقدر علی إنجازه بالمرّة ، لاستقبح العقلاء منه ذلک . لأنّ العقل یقرّر هذه الحقیقة ، و هی أنّه لا معنی أن تأمر

ص:56

و تنهی أو تزجر شخصاً لا حول و لا قوّة له علی القیام بعمل معیّن أو ترکه . و هذا أمرٌ بیّن و واضح ، و فی باب الاُصول هناک بحث بحثه سیّدنا الأستاذ الأعظم الإمام - مدّ ظلّه العالی - و بحثناه أیضاً تبعاً للسیّد الاُستاذ ، و مفاده أنّ التکالیف العامّة هل یشترط فیها القدرة؟و أمّا کون العجز عن القیام بالتکلیف هل هو معذّر ، أم لا؟ فهذا بحث آخر .المسألة هی: أنّ التکلیف حتّی لو کان تکلیفاً غیر عامّ ، فإنّه یشترط فیه القدرة علی أدائه ، فإذا لم تتوفّر القدرة ، یفقد التکلیف معناه ، و السیّد الإمام - مدّ ظلّه العالی - یری هذا المعنی .بعد أنّ اتّضح لنا هذا المعنی ، ننتقل إلی الآیة الشریفة: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها هل المقصود من الآیة هو القدرة العقلیّة؟ نستبعد ذلک ، لأنّ ظاهر قوله تعالی: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها فی مقام الامتنان علی کافّة المکلّفین فی جمیع الملل و الأدیان . فالآیة لا تقول: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها فی هذه الاُمّة و فی هذه الشریعة ، بل معناها أنّ المکلّف یکلّف بقدر وسعه دائماً .و کما أنّ الظّلم ممتنع الصدور منه تعالی ، کذلک تکلیف الإنسان بما لا یطاق .

فالمسألة مسألة امتنان ، بالإضافة إلی الشرط الذی یستقلّ به العقل . و فحوی اشتراط القدرة هی أنّه مع عدم وجود القدرة لا یبقی هناک أیّ معنی للتکلیف .و من هنا نفهم أنّ الوسع لیس بمعنی القدرة العقلیّة ، و لا یعنی الوسع ما یشترط العقل فی مسألة التکلیف . إذن ما ذا یرید بالوسع؟ هل من الممکن أن نضع مسألة الوسع مقابل مسألة الحرج فنقول: لا یکلّف اللّه نفساً إلّا ما لا یکون حرجیّاً علیها؟الفقهاء الذین استدلّوا بهذه الآیة استندوا إلی هذا الرأی ، و منهم المحقّق النراقی رحمه الله فی العوائد و المحقّق البجنوردی قدس سره فی القواعد الفقهیة ، و یفهم موقفهم هذا من خلال استدلالهم بهذه الآیات ، علماً أنّ هذین العلمین لم یعلّقا علی هذه الآیة ،

ص:57

و لکن من الطبیعی أن یکون رأیهم هو أنّ الآیة: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها یعنی إلّا ما لا یکون حرجیاً علیها . و إذا حملنا هذه الآیة علی هذه المعنی فستدرج ضمن أدلّة نفی الحرج .و لکن هذه الآیة لا تدلّ علی هذا المعنی ، و الدلیل علی ذلک هو الفقرة التی تبعت قوله تعالی: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً . . . و هی قوله: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ هذه الفقرة من الآیة تعرّض مسألة اخری غیر مسألة الإصر و غیر مسألة الحرج ، فمسألة الحرج و مسألة الإصر صیغتا بصورة دعاء .و السؤال الآن: ما ذا یرید رسول اللّه صلی الله علیه و آله بدعائه هذا: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ؟ هل یرید أن یقول: لا تحمّلنا ما تقصر عنه قدرتنا العقلیة؟ هذا الأمر یقرّ العقل بقبحه ، و هو قبیح بالنسبة للأشخاص العادیّین ، فکیف لا یکون قبیحاً بالنسبة للّه تعالی؟و إذا أراد اللّه أن یکلّف الإنسان بما لا یقدر علیه ، فما هو المبرّر لهذا الدعاء:

رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ بعد بیان مسألة الحرج و مسألة الإصر؟و من جهة اخری لا یمکن أن تطرح مسألة القدرة العقلیّة و عدّها فی هذا الخصوص ، لأنّها لا تشکّل دلیلاً محکماً لوجود معنی جدید یقع برزخاً بین الحرج و عدم القدرة الفعلیّة ، أو فقل درجة تتوسّط بینهما .و سأذکر العنوان الذی یدخل هذا المعنی فی إطاره ، کما سأذکر الشواهد التی تؤیّده فیما بعد . و الآن نتساءل هل یمکن أن نستفید من نفس الآیة علی أنّ قوله تعالی: ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ و کذا کلمة وُسْعَها التی طرحت فی صدر الآیة ، لا یدلّان علی مسألة الحرج ، بدلیل أنّ هذه الفقرة من الدعاء رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً بعیدة عن مفهوم الحرج؟ هذا من جهة .و من جهة اخری فإنّ الدعاء: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ غیر ناظر

ص:58

إلی مسألة عدم القدرة ، لأنّه کما قلنا سابقاً - إذا عدم المکلّف القدرة علی القیام بالتکلیف سقط التکلیف ، و لا داعی حینئذٍ للدعاء ، و أمّا قوله: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها فهذا فی مقام الامتنان .و هناک نقطة اخری لا بدّ من الإشارة إلیها ، و هی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله بعد أن قال فی دعائه : رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ لم یقل بعده «کما حملته علی الذین من قبلنا» کما قالها فی دعائه بخصوص الإصر . و الظاهر أنّ الدعاء رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ یدخل ضمن قوله تعالی: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها و حیث یقرّر حقیقة عامّة تشمل کافّة الأدیان و الملل و المذاهب .إذن ، ما هو ذاک المعنی الذی قد یکون هو الصحیح و الذی عبرنا عنه بأنّه برزخ بین الحرج و بین مسألة القدرة العقلیة؟إنّه عبارة عن القدرة العرفیّة ، أی القدرة علی القیام بالعمل أو عدم القدرة بالمنظور العرفی . فقد یوجد هناک عملٌ لا یستحیل علی الإنسان فعله عقلاً . و لکنّ العرف یری ذلک العمل من المستحیلات . و هذا یشبه تماماً الموارد التی یختلف فیها حکم العرف عن حکم العقل ، و الشواهد فی هذا المجال کثیرة و واضحة .و لقائل أن یقول: لما ذا اخترت هذا المعنی؟الجواب: إنّکم تلاحظون أنّ کل مسألة قائمة علی الدلیل یجب أن یرجع فیها إلی العرف ؛ فمثلاً إذا قام الدلیل علی أنّ الدم نجسٌ ، فهذا یعنی أنّ کلّ ما یراه العرف دماً یکون نجساً . و إذا قال الدلیل : إنّ البول نجس ، فمعناه أنّ ما یراه العرف بولاً یکون نجساً . و لمّا کانت کلّ من کلمتی: «الوسع ، و عدم الطاقة» قد اخذتا بنظر الاعتبار فی الدلیل ، إذن فالعرف هو الذی یحدّد معنی الوسع .

و عدم الطاقة .إنّ العرف إذا أراد أن یفسّر قوله تعالی: وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ و معنی

ص:59

الوسع ، فإنّه یشرحه من وجهة نظره ، لا من وجهة نظر العقل و هذا هو الصحیح .

لأنّ معنی الوسع فی قوله: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها یجب أن یرجع فیه إلی العرف .و کذلک بالنسبة إلی تحدید دلالة قوله: ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ لا بدّ من الرّجوع إلی العرف ، و للعرف ملاکاته الخاصّة فی تحدید معنی الوسع ، و معنی عدم الطاقة و التی قد لا تتفق مع ملاکات العقل . و بناءً علی ذلک یتقوّم معنی الآیة ، و تأخذ الآیة نسقها الصحیح .و مع الأخذ بنظر الاعتبار السیاق الطبیعی للآیة علی ضوء المعنی الذی قررناه یتضح أن ما أشرنا إلیه - و هو أنّه قوله تعالی: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها جاء فی مقام الامتنان - صحیح جدّاً ، کما أنّ قوله: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أیضاً کدعاء صحیح هو الآخر .و من جهة اخری لا یبقی أیّ مبرّر لأن نربط مفهوم الوسع و عدم الطاقة بمسألة الإصر و الحرج ، أی أنّه لیس من الأدلّة التی یستدلّ بها علی قاعدة لا حرج .بناءً علی ذلک ، فإنّ ما ورد فی الحدیث الشریف «رفع عن امّتی ما لا یطیقون» هو من باب الامتنان ، و یدلّ علی نفس المعنی هذا ، و إلّا لو کان المقصود من قوله «ما لا یطیقون» هو ما لا یطیقون عقلاً ، لما بقی معنی للحدیث ، أی لا معنی لأن یمنّ اللّه علی الاُمّة الإسلامیة خاصّة بأن یرفع عنها ما هو خارج عن تکلیفها ، و ما لم یؤمر به فی أیّ من الأدیان أو المذاهب .محصّلة القول: إنّ هذه الفقرة من الآیة: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها و التی استدلّ بها بعض العلماء علی قاعدة نفی الحرج ، لا تصلح لأن یستدلّ بها علی هذه القاعدة .

ص:60

الروایات الدالّة علی القاعدة

اشارة

هناک روایات کثیرة فی قاعدة نفی الحرج یمکن أن یستشهد بها فی هذا الباب .

و قیل : إنّ هذه الروایات فی هذا المجال فیها تواتر معنوی . و یقصد بالتواتر المعنوی هو طرح مسألة نفی الحرج بتعابیر و ألفاظ مختلفة فی هذه الروایات ، و المرحوم المیرزا الآشتیانی قدس سره صاحب الحاشیة الموسّعة علی الرّسائل المسمّاة ب(بحر الفوائد) یدّعی التواتر المعنوی فی الروایات .المیرزا الآشتیانی قدس سره من تلامیذ المحقق الشّیخ الأنصاری قدس سره المتفوقین ، و قد عثرنا علی رسالة مختصرة منه رحمه الله فی قاعدة نفی الحرج کتبها بقلمه الشریف ، و بعد أن یستعرض سماحته الروایات ، یدّعی أنّ فیها تواتراً معنویّاً . و لا تستبعد أن تکون المسألة بهذه الکیفیة و إن لم تکن هناک حاجة لاستشعار هذا التواتر ، لأنّه من بین هذا العدد الکبیر من الروایات ، هناک الکثیر من الروایات الصحیحة و المعتبرة ، و روایة واحدة منها کافیة للاستدلال ، فضلاً عن الروایات الصحیحة المتعدّدة ، فکیف إذا وصلت إلی حدّ التواتر؟و من الجدیر بنا أن نبحث هنا بعض هذه الروایات .

الروایة الأولی صحیحة فضیل بن یسار

هناک روایة یرویها صاحب الوسائل «فی أبواب الماء المضاف ، الباب التاسع ، الحدیث الخامس» هذه الروایة صحیحة السند عن فضیل بن یسار عن أبی عبد اللّه علیه السلام : فی الرجل الجنب یغتسل فینتزح من الماء فی الإناء؟فقال علیه السلام : «لا بأس ، ما جعل علیکم فی الدین من حرج» (1) .

ص:61


1- 1) . الوسائل 1: الباب 9 من أبواب الماء المضاف ، الحدیث 5 .

هنا لا بدّ من الإشارة إلی أنّنا فی تعاملنا مع الروایات أحیاناً لا ننظر فی مورد الروایات ، و لکن ننظر إلی حکم الإمام ، فإذا قال علیه السلام : لا بأس ، کما فی هذا الروایة ، ثمّ علّلها بقوله تعالی: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ فهذا یکفی لأن یکون دلیلاً علی قاعدة نفی الحرج ، و بناءً علی ذلک نستنتج أنّ قوله : ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ یدلّ علی نفی البأس فی موارد الحرج ، و یدلّ علی رفع الإلزام فی موارد الحرج .و لکن بالنسبة لمورد الروایة قد لا نحتاج أن نبحث مورد الروایة المسوقة فی مقام الاستدلال علی قاعدة نفی الحرج ، علماً بأنّ ملاحظة مورد الروایة قد یکون مؤثّراً فی بعض الفروع التی ستطرح فیما بعد - إن شاء اللّه - و لکن بالنسبة لأصل القاعدة ، فلا ضرورة فی مناقشة موارد الروایات .و لکن وضوح معنی الروایة أمرٌ مهم ، و بناءً علی ذلک فمن الأفضل أن ندقّق فی سؤال الراوی و نری ما هی الموارد الذی حکم الإمام بنفی البأس عنها . و ما هو الإشکال الذی حصل فی ذهن الراوی ، و الذی أراد الإمام حلّه بأن قال له: «لا بأس» .و نشیر إلی عنصر التدقیق فی أصل نقل الروایات ، حیث کان للمرحوم السیّد البروجردی - أعلی اللّه مقامه - باعٌ کبیر فی هذا المجال ، فقد ذکرت الروایة بنفسها فی الباب التاسع بعنوان الحدیث الأوّل ، و الراوی هو فضیل بن یسار ، مع وجود اختلاف فی السؤال ، فبدل من قوله «ینتزح منه الماء» رویت هناک (ینتزح من الأرض فی الإناء) ، فالروایة واحدة ، و الروای هو نفسه فضیل بن یسار . و هذه من ضمن الإشکالات المهمّة الموجّهة إلی صاحب الوسائل قدس سره ، فکثیراً ما حکم بتعدّد الروایات ، و هنا عرض روایتین: إحداهما بعنوان الحدیث الأوّل ، و الآخر تحت عنوان الحدیث الخامس ، فی حین أنّ الراوی واحد ، و هو فضیل بن یسار ،

ص:62

و السؤال واحد ، کما أنّ الجواب واحد أیضاً سوی أنّه ورد فی إحداهما «ینتزح من الماء فی الإناء» . و فی الاخری «من الأرض فی الإناء» . و هذا یعنی أنّ الروایتین فی الأصل روایة واحدة ، لکن الذین نقلوا من فضیل رواة کثیرون ، و لذلک اختلفوا فی النقل . و هنا لا بدّ أن نبحث فی عبارة الروایة للاختلاف الموجود فی النقل ، فمرّة ورد «ینتزح من الإناء» و الاُخری «ینتزح من الأرض فی الإناء» .و یمکن أن نشرح الروایة بصورتین:إحداهما: أنّ الشخص فی حال غسل الجنابة إذا انتزح شیء من ماء الغسل فی إناء الماء الذی یرید أن یکمل به غسله ، أو یرید أن یدّخر فیه الماء لیغسل به غسل الجنابة فیما بعد . هنا یوجد احتمالان فی المسألة: الاحتمال الأوّل: هناک مسألة فی کتاب الطهارة مفادها: أنّ ماء الوضوء و الغسل یجب أن لا یکون مستعملاً فی رفع الحدث ، یعنی إذا اغتسل الجنب و کان جسمه طاهراً . فتجمع ماء الغسل فی حوض ، فهل یجوز لغیره أن یغتسل به؟ هنا الماء طاهر ، لکنّه استعمل فی رفع الحدث الأکبر ، و لذلک فلا یجوز للغیر أن یغتسل به . أو یتوضّأ ، و من هنا قد تکون الشبهة التی طرأت علی ذهن السائل هی: إذا کان الجنب یغتسل فوقعت بعض قطرات ماء الغسل فی إناء الماء [ هنا کلمة الانتزاح تعنی قلیلاً من الماء ] و استعملت هذه القطرات فی إتمام الغسل ، فهل هناک ثمّة إشکال فی الغسل ، و هل الغسل باطل ، أو لا؟فیجیب الإمام علیه السلام بقوله «لا بأس» ، أی أنّ وقوع قطرات من ماء الغسل فی الإناء و استعماله فی إتمام الغسل لا یقدح بصحّة الغسل . ثمّ یعلّل علیه السلام قوله هذا بالآیة الکریمة «ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» . هذا هو الاحتمال الأوّل الذی یمکن أن تحمل علیه الروایة . الاحتمال الثانی: هو أنّ الجنب قد یکون جسمه طاهراً کلّه ، و قد یکون فیه

ص:63

شیء من النجاسة . و لمّا کان جسم الجنب فی أغلب الأحیان فیه شیء من النجاسة ، من هنا یأتی السّؤال ، و هو أنّ الماء لاقی جسم الجنب فتنجّس ، ثمّ انتزح هذا القسم من الماء فی الإناء ، لسقوط بعض قطرات الماء المتنجّس فی الإناء الذی یستعمل للغسل ، فما هو الحکم الشرعی هنا؟ فیجیب الإمام علیه السلام «لا بأس» و یعلّل جوابه بقوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ . ثانیهما: و الآن لنری ما الذی یعنیه السائل من سؤاله علی ضوء النقل الآخر للروایة أی بناءً علی القول بأنّ الماء ینتزح من الأرض فی الإناء . فالظاهر من السؤال أنّ السائل شکّ فی نجاسة الأرض بلحاظ أنّ إنساناً جنباً یغسل علی هذه الأرض ، و لذلک یحتمل أن تلاقی قطرات الماء هذه الأرض المشکوک فی نجاستها ، ثمّ تسقط بعد ذلک فی الإناء . و السؤال هو: کیف نتعامل مع هذا الاحتمال؟ فیجیب الإمام علیه السلام ، لا بأس ، ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ . إذن بناءً علی النقلین ، یوجد هناک ثلاث احتمالات:الأوّل: احتمال أنّ الماء قد استعمل فی رفع الحدث الأکبر .الثانی: احتمال أن یکون جسم الجنب نجساً .الثالث: احتمال نجاسة الأرض و ملاقاة الماء لها .فهل یمکن أن یجیب الإمام علیه السلام علی هذه الاحتمالات الثلاثة ب«لا بأس» ، و یعلّل جوابه بالآیة الکریمة وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ ؟ فی حین أنّ بعض هذه الاحتمالات لا تحتمل أن یجاب علیها ب«لا بأس» . و فی البعض الآخر یمکن أن یکون الجواب هو «لا بأس» لکن تعلیل الجواب بالآیة «وَ مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» غیر واضح .أمّا بالنسبة للاحتمال الأوّل و هو سؤال الراوی عمّا إذا وقع شیء من ماء الغسل فی الإناء ، هنا الجواب ب«لا بأس» صحیح ، و لکنّ التعلیل بقوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ غیر واضح و فیه إبهام ، لأنّ قطرات الماء بعد سقوطها فی الإناء تستهلک فیه ، و إذا استهلکت عندئذٍ لا یصدق أنّه غسل بماءٍ استعمل فی رفع الحدث الأکبر .إذن ، لو لم تکن هناک قاعدة لا حرج فی الإسلام ، و لو فرضنا عدم وجود الآیة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ فی هذا الحال إذا سقطت عدّة قطرات من ماء الغسل فی إناء الماء ، فهل یبطل الغسل بماء الإناء ، و لما ذا؟ فإذا قیل: نعم لا یجوز الغسل ، لأنّه ماء استعمل فی رفع الحدث الأکبر ، فیجاب: إنّ قطرات الماء هذه قد استهلکت فی ماء الإناء ، و استعمال الماء الموجود فی الإناء لا یسمّی استخدام الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر .أمّا الاحتمال الثانی ، و هو أنّ الروایة ناظرة إلی تلک النجاسة التی غالباً تکون علی جسم الجنب .ففیه: أنّ عدم التصریح بوجود النجاسة علی الجسم یبعّد هذا الاحتمال .

ص:64

ص:

نجسة أبداً ، أو أنّها نجسة ، و لکنّها لا تضرّ بالإناء؟ أیّهما نختار ؟ . فإذا قلنا : إنّ الإمام علیه السلام یقصد من وراء جوابه المتقدّم أنّ هذه القطرات من الماء غیر نجسة ، فما علاقة هذا المعنی بقوله تعالی وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ أی إنّنا إذا قلنا بأنّ الغسالة لیست بنجسة فلا داعی للتمسّک بقوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ و إذا کان مبنی الإمام علیه السلام أنّ هذه القطرات حال وقوعها فی الإناء نجسة ، إلّا أنّها لا تنجّس الإناء ، یواجهنا إشکال و هو أنّ الإناء قد تنجّس ، فلا معنی لقوله: لا بأس . لأنّ الماء إذا کان قلیلاً تنجّس . فهل تستطیع قاعدة الحرج أن تبیح الغسل بهذا الماء . أو أنّه یتعیّن علیه التیمّم؟هل یصحّ أن نقول بأنّ الماء إذا تنجّس و لا یوجد ماء غیره ، فإنّ مقتضی الآیة ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ سقوط شرط طهارة الماء . و بناءً علی ذلک یجوز الغسل بالماء النجس؟ لا یقول بذلک أحد و حتّی و لو فرضنا أنّ الماء القلیل لا ینفعل ، فإنّ التعلیل بالآیة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ لا محلّ له ، و غیر وارد .أمّا إذا قلنا بالاحتمال الثالث ، بناءً علی النقل الآخر لروایة فضیل بن یسار فهنا تتلخّص المشکلة فی الأرض ، حیث یحتمل أن تکون هی النجسة ، ففی هذه الحالة ، الجواب ب«لا بأس» صحیح و وارد فی محلّه .هنا تتحقّق إحدی مصادیق قاعدة الطهارة التی تقضی بالحکم بطهارة کلّ شیء مشکوک فی طهارته ، فالأرض مشکوک النجاسة ، و لذلک فهی تدخل ضمن قاعدة الطهارة ، و یحکم بطهارتها ، و یتّضح من خلال ذلک أنّ قاعدة الطهارة هی الأساس لقوله «لا بأس» ، و السؤال الآن: کیف یمکن أن نُبرّر استناد الإمام علیه السلام للآیة ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ .للإجابة علی هذا السّؤال قد یقال: إنّ الآیة تشکّل الأساس و الأصل فی تبلور

ص:66

قاعدة الطهارة ، أی أنّ اللّه سبحانه و تعالی جعل قاعدة الطهارة لئلّا یقع المکلّف فی الحرج .و الإشکال الذی یرد علی هذا الجواب هو أنّ لسان قاعدة نفی الحرج لسان النفی ، و لیس لسان الإثبات ، و أمّا قاعدة الطهارة فلسانها لسان إثبات طهارة کلّ شیء حتّی تعلم بنجاسته ، فهل من الصحیح أن نجعل قوله: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ و الذی یفید النفی دلیلاً علی مسألة ثبوتیة و هی قاعدة الطهارة؟ و حتّی لو سلّمنا بذلک ، فإنّ النتیجة المترتّبة علی هذا الأساس لا تفیدنا شیئاً ، حیث سیکون الأساس فی هذا الترابط معلّقاً علی قاعدة الطهارة .و حتّی لو قلنا : إنّ بإمکاننا أن نتمسّک بعمومیّة القاعدة ، لکن فیما یخصّ المورد فلا یمکن أن تعود علینا بأیّة فائدة ، لأنّ قاعدة الطهارة ، تجری هنا . و من المستبعد أن تکون الآیة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ ناظرة إلی قاعدة الطهارة ، فقاعدة الطهارة و إن کانت فی الأصل مبتنیة علی أساس التسهیل و علی أساس الشریعة السمحة السهلة ، و هذا المعنی بنفسه أی کون الشریعة سمحة و سهلة یُراد له فیما بعد أن یکون من الأدلّة علی قاعدة الحرج ، أمّا أن نربط آیة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ فیما یخصّ هذه الروایة بقاعدة الطهارة ، فهذا أمرٌ لا یجوّزه العقل .و علینا أن نعود إلی أوّل نقطة انطلقنا منها ، و هی إذا لم نستطع أن نحدّد دلالة الروایة بالشکل الصحیح علی ضوء الاحتمالات التی استعرضناها ، و لاحظنا أنّ بعضها غیر صحیح أصلاً ، و بعضها الآخر لا یستقیم معها التعلیل بالآیة ، نقول: فهل لنا أن نعود إلی نفس المعنی الذی أشرنا إلیه مُسبقاً ، فالإمام أجاب ب«لا بأس» و لا ندری کیف یمکننا أن نستفید من هذا الجواب ، و هل أنّ قوله علیه السلام : لا بأس ، یشکّل أصلاً فیما یخصّ فتوی الفقهاء؟ لا ندری ، فما هو معلوم أنّ الإمام علیه السلام نفی البأس

ص:67

و علّل ذلک ب ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ ، و هذا التعلیل العامّ فیما یخصّ نفی البأس دلیل علی وجود قاعدة تسمّی قاعدة نفی الحرج . و دلیل علی أنّ الآیة الکریمة حتّی فی هذه الموارد الجزئیة و الفرعیة أیضاً تأخذ مجراها أینما یوجد هناک مورداً حرجیّاً .و لنا أن نتساءل هنا: هل یمکننا أن نقرّر هذا المعنی حتّی لو لم نطّلع علی المعنی الواقعی للروایة؟لأنّ الاحتمالات الثلاثة الموجودة فی الروایة لا تخلو من إشکال ، و الإشکالات الموجودة فیها هی إشکالات موردیّة ، و لکن محور بحثنا لیس فیما یخصّ انفعال الماء القلیل ، و لا فی خصوص قاعدة الطهارة . و لا فی الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر ، فإذا قصرنا جهدنا فی بحثنا الروائی علی الموارد و المصادیق ، فوجود هذه الاحتمالات لا تسمح لنا أن نرجّح أو أن نستظهر ، و لکنّنا فی غنی عن کلّ هذه الموارد ، فما نحن بصدده هو أن نتوصّل إلی قاعدة نفی الحرج من خلال هذه الروایة بغضّ النظر عن خصوصیّة الموارد ، و بناءً علی ذلک فإنّ النتیجة التی نتوصّل إلیها فی هذه الروایة الصحیحة هی:إنّ الحکم بعدم البأس فی الاستدلال بالآیة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ یکفی بالنسبة لنا فی ما نحن فیه ، و إن کان یُراد لتلک الروایات فی مواقع اخری أن نبحث جزئیات و موارد الروایة بما فیها من اشکالات تتعلّق ببحثنا هذا ، فلعلّه لا یوجد هناک أیُّ اشکال کما هو الحال فی غیره .

الروایة الثانیة: الروایة المعروفة الواردة فی أبواب الوضوء ،نقلاً عن الشیخ الطوسی قدس سره
اشارة

من الروایات التی استدلّ بها هی الروایة المعروفة الواردة فی أبواب الوضوء ، نقلاً عن الشیخ الطوسی قدس سره بسنده ، قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : عثرت فانقطع

ص:68

ظفری ، فجعلت علی إصبعی مرارة ، فکیف أصنع بالوضوء؟ قال: یعرف هذا و أشباهه من کتاب اللّه عزّ و جلّ ، قال اللّه تعالی: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ امسح علیه (1) .

سند الروایة

سند الشیخ صحیح باستثناء الراوی الأخیر و هو عبد الأعلی مولی آل سام .

فأغلب الرجالیین باستثناء الکشّی رحمه الله لا یوثّقون المولی عبد الأعلی مولی آل سام هذا توثیقاً جیّداً . و المرحوم الکشّی رحمه الله ، عند ما یصل الحدیث إلیه یروی روایة فی مدحه ، و الروایة ینقلها عن لسانه و هی أنّ عبد الأعلی قال: قلت لأبی عبد اللّه: إنّ الناس یعیبون علیِّ بالکلام ، و أنا اکلّم الناس .فقال علیه السلام : «أما مثلک من یقع ثمّ یطیر فنعم ، و أمّا من یقع ثمّ لا یطیر فلا» (2) .و یفهم من الروایة أنّ عبد الأعلی آل سام کان ضلیعاً فی علم الکلام ، و إذا کبا علی الأرض فسرعان ما ینهض و یطیر ، و لکن قد یستشکل علی هذه الروایة أنّ الراوی لها هو عبد الأعلی المولی آل سام نفسه ، لذا روایته هذه لیست حجّة .و من ضمن الرواة فی سند هذه الروایة التی یذکرها الشیخ الطوسی رحمه الله هو ابن محبوب ، و هو من أصحاب الإجماع الذی أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنه ، و یصل عدد العصابة هذه إلی ثمانیة عشر شخصاً ، یتوزّعون علی طبقات مختلفة و أزمنة متفاوتة ، و یتمیّز أصحاب الإجماع بخصوصیّة ، و هی : أنّ الرّوایة إذا وصلت إلیهم صحیحة ، حینئذٍ لا حاجة إلی التأمّل لا فی وثاقة هؤلاء ، و لا فی الرواة الذین یروون عنهم . أی أنّ أحدهم إذا روی عن الإمام علیه السلام بصورة مباشرة

ص:69


1- 1) . الوسائل 1: 464 ، الباب 39 من أبواب الوضوء ، الحدیث 5 .
2- 2) . اختیار معرفة الرجال - ص 319 - رقم 578 .

فهو حجّة ، حتّی و لو کان بینه و بین الإمام علیه السلام وسیط واحد أو عدّة وسائط ، فلا داعی لإعمال الدّقة و النظر فی الوسیط و الوسائط ، و یکفی فی ذلک أنّ السند یصل مثلاً إلی ابن محبوب ، فإذا صحّ السند بالنسبة إلی من سبق ابن محبوب ، فلا داعی بعد ذلک إلی التأمّل فیه أو فیمن یروی هو عنهم .و من ضمن الذین یروی عنهم ابن محبوب فی هذا السند هو عبد الأعلی ، و إذا أردنا توضیح معنی ما یقال عادة فی خصوص أحد الرواة ، أو مجموعة من الرواة من أنهم معقد الإجماع ، فمعنی ذلک أنّ العصابة أجمعت علی تصحیح ما یصحّ عن الجماعة ، فیلزم ذلک أن نعتبر هذه الروایة صحیحة السند بلحاظ أنّ ابن محبوب فی سند هذه الروایة ، و سند الروایة إلی أن یصل إلی ابن محبوب صحیح أیضاً ، و من ابن محبوب فصاعداً لا یحتاج إلی تفحّص .أمّا إذا لم نلتزم بهذا المعنی ، باعتبار أنّ ما ورد فی کتاب رجال الکشّی فی خصوص من أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنهم لا یفیدنا أکثر من أنّ هؤلاء متّفقٌ علی وثاقتهم ، بخلاف بقیة الرواة ، حیث إنّ وثاقتهم غیر محرزة ، و قد یؤیّد البعض وثاقتهم ، و البعض الآخر یختار الصمت إزاءهم ، أو یکونوا مختلفٌ فیهم ، أمّا فی خصوص أصحاب الإجماع ، فلا أحد یشکّ فی وثاقتهم .إذن معنی «أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عن جماعة» هو أنّ الروایة إذا وصلت صحیحة إلی أصحاب الإجماع فعلیکم أن لا تشکّوا فیهم ، لأنّهم قد احرزت وثاقتهم ، إذا التزمنا بهذا المعنی لأصحاب الإجماع ، یلزم أن تکون روایة عبد الأعلی مولی آل سام غیر صحیحة بالضرورة ، حتّی و لو کان ابن محبوب و الذی یُعدّ من أصحاب الإجماع من ضمن سند الروایة .و من هنا تتّضح لدینا نظریّتان ، و ظهر لی من خلال التحقیق أنّ القول الأوّل هو الأصوب ، أو فقل : هو أکثر شهرةً من القول الأوّل ، أی أنّ میزة أصحاب

ص:70

الإجماع لا تقتصر علی أنفسهم فحسب ، بل إنّ من ینقل عنهم أیضاً یمتازون بممیزاتهم ، یعنی أنّ روایاتهم تکون صحیحة .

البحث فی دلالة الروایة

هذه الروایة تمتاز عن بقیة الروایات الاُخری بمیزة ، و هی أنَّ الإمام علیه السلام یصرّح علی أنّه مع وجود الآیة و هو قوله تعالی: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ لم تکن هناک حاجة للسؤال ، و کان علیک أیّها السائل أن تستعین بکتاب اللّه فی التوصّل إلی حکم هذه المسألة . و هذا ما لم نشهده فی الروایات الاُخری ، فقد یرد استشهاد فی غیرها من الروایات بقول اللّه تبارک و تعالی ، و لکن لیس بالدرجة التی یفقد بوجودها السؤال معناه . و هذا یکشف عن أنّ الآیة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ فیها معنیً عرفیّاً واسعاً لا یحتاج إلی تفسیر ، و أنّ معناها بدرجة من الوضوح و الظهور بحیث إنّ الإنسان إذا التفت إلی هذا المعنی ، یمکنه أن یستخرج أحکاماً لمصادیق الحرج هذه بنفسه .نتیجة القول: إنّ هذه الروایة صالحة للاستدلال بغضّ النظر عن سندها ، و کما قلت ، فإنّ دلالة هذه الروایة هی علی موردها .و هناک عدَّة ملاحظات فیما یخصّ جوانب الروایة ، إحدی هذه الملاحظات هی أنّ الإمام علیه السلام بعد أن قرأ قول اللّه تبارک و تعالی ، قال امسح علیها ، أی امسح علی الجبیرة ، و السؤال هنا: هل هذا الحکم الإثباتی استفید من قوله تعالی: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ أو أنّ الآیة الکریمة - کما سنوضّح ذلک إن شاء اللّه - ترید أن تنفی الإلزام أو الوجوب أو التحریم ، و لکن نفی الآیة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ لا یستفاد منها أمراً لزومیّاً معیّناً ، ففی الآیة التی تطرَّقنا إلیها سابقاً ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ قلنا : إنّ هذه الآیة لا علاقة لها

ص:71

بإیجاب التیمم ، إنّما لها مدخلیة فی نفی وجوب الوضوء ، فمن لم یجد ماءً لا یجب علیه الوضوء لقوله تعالی: ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ و هنا لا بدّ أن نتصور معنی مشابهاً لذلک المعنی ، أی أنّ هذا الشخص قبل أن ینقطع ظفره کان واجباً علیه أن یمسح علی البشرة ، و یقصد بالبشرة نفس الأظفر . و هو جزء من القدم ، و بالتالی جزء من الجسم ، فمسح البشرة کان واجباً علیه ، و الآن حیث انقطع الظفر و ضُمَّد محل الجرح ، فإنّ بقاء وجوب المسح علی البشرة مستلزم للحرج ، من هنا فإنّ الآیة ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ تنفی وجوب المسح علی البشرة ، و یرتفع بذلک الوجوب الذی کان ثابتاً علی المکلّف قبل أن یعثر .و السؤال هو: بأیّ دلیل توجب المسح علی القماش؟ فهل استند فی صدور هذا الحکم إلی آیة نفی الحرج ، أو أنّ هذا الحکم مبتنٍ علی قاعدة «المیسور لا یسقط بالمعسور» ؟ .بیّن المرحوم الشّیخ الأنصاری - أعلی اللّه مقامه - فی کتاب الرسائل کیفیة الاستدلال بآیة الحرج مع کون المسح علی الجبیرة أمرٌ لازم ، فیقول: لو انقطع الظفر و لم یکن الحکم قد صدر فی هذه المسألة بعد ، لکان المسح علی المکلّف أمراً واجباً .

و فی المسح یوجد هناک لحاظان:أحدهما: إمرار الید علی المحلّ .و الآخر: هو أن یکون للمحلّ بشرة ، أی أن تمر الید علی البشرة مباشرةً ، ثمّ یقول: و الآن حین انقطع الظفر ، فأیُّ من هذین الحکمین اللزومیین - لزوم إمرار الید علی المحلّ و لزوم کون المحلّ هی البشرة - هو من باب الحرج ، و باعتقادنا فإنّ الحرج یکمُن فی اللحاظ الثانی ، و هو مباشرة البشرة ، و وقوع الید علی البشرة یستلزم الحرج ، أمّا أصل إمرار الید علی المحلّ بغضّ النظر عن إمرار الید علی البشرة لا یکون حکماً حرجیّاً ، و لا یکون إلزاماً موجباً للوقوع فی الحرج .

ص:72

إذن ، فی الحقیقة نحن لسنا بحاجة إلی قاعدة (المیسور لا یسقط بالمعسور) و ما شابهها ، فنفس المسح الاختیاری ینحلّ إلی حکمین لزومیّین ، و أحد هذین الحکمین اللزومیین یوجب الحرج ، و تدخل فی الآیة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ یقول مباشرة: (امسح علیه ، أی علی المرارة) من باب أنّ المسح علی المرارة یتحقّق معه شرط إمرار الید .و قد أشکل البعض علی الشیخ بأنّه لیس بمقدورنا أن نحلّل الحکم بلزوم المسح إلی حکمین عرضیین ، فإمرار الید إنّما هو مقدّمة للمسح علی البشرة ، و صحیح أنّهما حُکمان ، أحدهما یعتبر مقدّمة للآخر ، فإذا رفعت الآیة الکریمة ذا المقدّمة ، فإنّ وجوب المقدّمة یرتفع لوحده ، لأنّه معلّق بشکل کامل علی وجوب ذی المقدّمة ، و لأنّ وجوبها تبع لوجوب ما کانت مقدّمة لأجله .و لکن هذا الإشکال غیر صحیح ، لأنّه کما لاحظنا فی باب الوضوء بالنسبة للأعضاء التی یجب غسلها کالوجه و الیدین ، لا یشترط فی غسلها آلة خاصّة ، حیث یصح للمکلّف أن لا یستخدم یدهُ عند الوضوء ، کأن یصبّ الماء علی وجهه بواسطة إناء ، و کذلک علی الید الیمنی و الید الیسری ، فلا مانع من ذلک ، لأنّه یشترط فی الغسل غسل الوجه ، و لکن بأیّ طریقة تتحقّق عملیة الغسل ، فهذا غیر مهمّ ، فیمکنه أن یتوضّأ وضوءاً ارتماسیاً ، و لکن فی غسل الوجه علیه أن یبدأ من الأعلی إلی الأسفل ، و أن یراعی الترتیب ، و أن یغطس یدیه من الأعلی إلی الأسفل ، فالمهمّ فی الوضوء غسل الوجه و الکفّین بأیّ شکل کان .أمّا بالنسبة للمسح ، فهل المراد هو إیجاد رطوبة علی الرجل ، أو أنّ حقیقة المسح و مفهومه هو نفس إمرار الید ، فبالنسبة للوضوء توجد هناک قرینة علی أنّ إمرار الید له مدخلیة فی ماهیّة المسح ، إذ لا معنی لأن نقول : إنّ الإمرار بالید هو مقدّمة وقوع الرطوبة علی بشرة الرجل أو علی بشرة الرأس ، و من هنا نلخص إلی

ص:73

القول بأنّ إمرار الید نفسه له أصالة و موضوعیّة ، و الشرط فی المسح أن تکون یدک مرطوبة .إذن نعود و نؤکّد بأنّه لا یصحّ أن نقول بأنّ إمرار الید هو مقدّمة فی باب المسح ، لأنّ هذا المعنی لا یلائم مع حقیقة المسح ، و لا یلائم مع قوله تعالی:

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ لأنّ نفس عملیّة إمرار الید لها مدخلیّة فی ماهیّة المسح ، بخلاف ماهیة الغسل و الذی یتحقق بغسل المحلّ بأیّ نحو کان .إذن هناک فرق بین المسح و بین الغسل ، و لیس بمقدورنا أن نفرض موضوع إمرار الید مقدّمة فی باب المسح ، أی أنّ الغرض لیس إیصال رطوبة من الوضوء إلی الرأس و إلی الرجلین ، و إنّما الهدف هو تحقّق عنوان المسح ، و من هنا یتّضح صحّة بیان المرحوم الشیخ الأنصاری قدس سره فی هذا الخصوص حیث یقول: إنّ الآیة:

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ یستفاد منها حکمان لزومیان .أحدهما: إمرار الید ، و یستفاد هذا المعنی من الروایات و القرائن الخارجیّة .و الثانی: أنّ ذاک المحل یجب أن یکون علی بشرة ، کأن یکون بشرة الرأس و بشرة الرجلین .إذن بعد أن أصبح قید البشرة مستلزماً للحرج ، لانقطاع الظفر و وجود المرارة علی المحلّ حیث لا یمکن أن نرفع المرارة - قطعة الضماد و الدواء الموضوع علی محلّ الحرج - فإنّ هذا القید ینتفی بواسطة الآیة الکریمة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ ، و أمّا أصل قوله تعالی «امْسَحُوا» فیما یخصّ الوضوء الذی تتحقّق فیه حقیقة المسح و هی إمرار الید فهو أمرٌ باق .و الإشکال الآخر الذی یشکل به علی هذه الروایة و یحتاج إلی بحث و مناقشة ، هو أنّ المسح علی الرجلین یختلف عن المسح علی الرأس ، فبالنسبة للمسح علی الرأس لا یلزم الاستیعاب ، لا طولاً و لا عرضاً ، و یکفی فی ذلک أن

ص:74

یصدق مسمی المسح ، أمّا بالنسبة لمسح الرجل تقول الآیة: وَ أَرْجُلَکُمْ . فهنا أَرْجُلَکُمْ معطوفة علی الجار و المجرور ، أیّ أنّ حرف الجرّ و هو «الباء» لم یدخل علی کلمة «أَرْجُلَکُمْ» و کما قلنا فإنّ المسح علی الرجل یختلف عن المسح علی الرأس فی استیعاب تمام الرجل طولاً عند المسح ، و لا یکفی أن یمسح المکلّف علی ظفره ، و الاستیعاب عند المسح طولاً یتحقّق بأن یمسح إلی الکعبین ، أمّا بالنسبة للاستیعاب فی المسح عرضاً فهو غیر لازم و إن کان مستحبّاً ، فالمکلّف علیه أن یمسح من رأس أحد أظافره - و لنفرض أظفر الأصبع الإبهام - إلی الکعبین لیتحقّق الاستیعاب الطولی و أمّا بالنسبة لبقیّة الأظافر فلا یلزم أن یمسح علیها . و الإشکال هو: أنّ عبد الأعلی لمّا قال: انقطع ظفری ، فهل یقصد جمیع أظافر رجله؟ الواقع أنّ ظهور الروایة لا یعطی هذا المعنی ، أضف إلی ذلک أنّ الإنسان عند ما یعثر و یسقط علی الأرض ، قد ینقطع له ظفر واحد أو ظفرین ، لا کلّ أظافره ، و بعد أن انقطع ظفرٌ أو ظفران من رجله و وضع علیه المرارة ، لما ذا أمرهُ الإمام علیه السلام بأن یمسح علی المرارة و لم یأمره بأن یمسح علی بقیة أظافره؟ فإنّ المسح بالنسبة لبقیّة الأظافر یمکن أن یتحقّق بتمام معناه ، کما أنّه لا یشکل علی المکلّف أیّ نوع من الحرج ، فإذا قلنا بأنّ الروایة تشیر إلی انقطاع جمیع أظافر الرجل ممّا أدّی أن تضمد المنطقة کلّها ، فهذا خلاف الظاهر ، مضافاً إلی ذلک أنّ العثرة و السقوط علی الأرض عادة لا تستوجب ذلک ، و إذا قلنا بأنّ ظاهر الروایة یدلّ علی أنّ بعض أظافر رجله قد انقطعت و لیس کلّها ، فالحکم الشرعی هو أن یمسح علی بقیّة أظافره ، و هو بوسعه أن یفعل ذلک ، و لیس فیه أیّ نوع من الحرج . قد یقال فی مقام الجواب: إن الرّوایة غیر ناظرة إلی أظفار الرجل، بل موضوعها هو أظفار الید ، حیث یلزم فی غسل الید استیعاب تمام الأجزاء من المرفق و حتّی أطراف الأصابع ، أی أنّ فی قول الإمام علیه السلام «امسح علیه»

ص:75

استبدل حکمان .أحدهما: الغسل حیث استبدل بالمسح .و الآخر: هو البشرة ، حیث استبدلت بالجبیرة ، فهنا تمّت إلغاء حکمین شرعیین نظراً للحرج: الغسل ، و لزوم کون الغسل علی البشرة ، لأنّه بعد أن نضع الضماد فإنّ غسل هذا الضماد تبعاً لوجوب غسل الید یستلزم الحرج ، لذلک یتبدّل الغسل إلی المسح و البشرة إلی الجبیرة .و لکن هذا التغییر للروایة یحوی الکثیر من المبعّدات:أوّلها: أنّ التعثّر إنّما یتعلّق بالرجل لا بالید .ثانیاً: السؤال لم یتضمّن أیّة إشارة إلی هذا المعنی ، و کان لازماً علی المجیب علی الأقلّ أن یقول بأنّ الروایة فیها إطلاق ، لا أن و یحملها علی خصوص ظفر الید .و ثالثاً: یظهر من قول الإمام علیه السلام «امسح علیه» أنّه علیه السلام لا یرید أن یحدث تبدیلاً فی الحکم ، فکلمة «علیه» فیها دلالة کبیرة علی أن یکون المسح علی المرارة بدلاً من المسح علی البشرة ، أمّا أن تتضمن الرّوایة علی تغیّر حکمین ، أحدهما: حلول المسح بدلاً من الغسل ، و الثانی: أن تکون المرارة محلّاً للمسح بدلاً عن البشرة ، فهذا مستبعد ، و بالتالی فإنّ حمل الروایة علی أنّها ناظرة إلی ظفر الید غیر صحیح و مستبعد جدّاً .قد یقال: ما هو الخلل فی هذا المعنی ؟ أو لیس أنّ الفقه یقرُّ هذه المسألة و هی أنه إذا جُرحت الید ، فإنّ الوضوء حینئذٍ یسمّی بوضوء الجبیرة ، و یمسح علی الجبیرة؟فنقول: هذا صحیح ، لکن لا علاقة له بهذه الروایة ، لأنّ الروایة تقول: یُعرف هذا و أشباهه من کتاب اللّه ، فبالنسبة لظفر الید إذا انقطع و وضعت علیه مرارة ، فإنّ ما یعرف فی هذه الحالة من کتاب اللّه هو أنّ غسل هذه البشرة غیر واجب ، لأنّه

ص:76

حرج و عسرٌ ، أمّا أن یحلّ المسح محلّ الغسل ، فهذا ما لا نستطیع أن نعرفه من کتاب اللّه ، فلولا هذه الروایة ، و کنّا نحن و آیة الوضوء ، و آیة نفی الحرج ، و انقطع ظفر یدنا و وضعنا علیه مرارة بحیث کان من الصعب أن نزیل المرارة و نغسلها حیث تسبّب لنا نوعاً من الحرج ، فهنا الوقوع فی الحرج الحاصل من الغسل معناه أنّ الغسل لیس بواجب ، أمّا وجوب المسح ، فهذا ما لا نجدهُ فی کتاب اللّه ، مهما دقّقنا و أمعنّا النظر .و أقصی ما نجد فی کتاب اللّه تعالی هو أنّ الغسل و المسح حقیقتان مختلفان ، و لیس المسح المرتبة النازلة من الغسل ، و لذلک عند ما یسأل الفقیه فی باب الوضوء ، عن حقیقة الوضوء ، فیقول: هو غسلتان و مسحتان ، فللمسح ماهیّة و للغسل ماهیة اخری ، و لیس المسح من مراتب الغسل ، و لمّا کان الغسل یوجب الحرج ، حینذاک یرتفع الغسل ، أمّا أن یحلّ المسح محلّ الغسل فإنّه یطلب دلیلاً خاصّاً ، و نحن قد استفدنا هذا المعنی من الروایات الاُخری من غیر روایات الحرج ، و من دون أن نجمع بین آیة الوضوء و دلیل نفی الحرج . حیث توجد روایات خاصّة و حکم تعبدیّ خاصّ فیما یخصّ ظفر الید فهنا الغسل یتبدّل إلی المسح ، لا أنّ التبدل یعرف من کتاب اللّه ، فهذه المسألة لا یمکن أن نعرفها من کتاب اللّه .إذن ، بناءً علی قوله: (امسح علی المرارة) لا یبقی هناک أدنی شکّ فی أنّ موضوع السؤال هو أظفار الرجل بالإضافة إلی ما قرأناه فی أوّل الروایة ، حیث یقول الراوی : (عثرت) فمن خلال کلمة «عثرت» یتبادر إلی الذهن أنّ المراد هو ظفر الرجل .و هنا لقائل أن یقول: هذا المعنی نحصل علیه من خلال النظرة البدویة ، و لا دلیل لدینا یدعم هذا المعنی .

ص:77

نقول: دلیلنا علی ذلک هو قوله علیه السلام «امسح علی المرارة» فهو قرینة علی أنّ الظفر ، ظفر الرجل .إلّا أنه کیف نواجه الإشکال هذا ، و هو إذا انقطع ظفر واحد أو اثنین ، و وضعت علی المحلّ مرارة ، فلما ذا یکون المسح علی المرارة و لا نمسح علی بقیّة الأظفار؟و فی معرض الرّد علی هذا الإشکال نقول: إنّ علینا أن نحمل الروایة بلحاظ هذه القرینة الخارجیّة علی أنّ أظفار الرجل الواحدة قد انقطعت أثر التعثّر ، بحیث لا یمکن للمکلّف أن یمسح علی أیّ أظفر و لا علی بشرة أیّ من الأظافر ، و للعمل بالآیة: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ لا بدّ للمکلّف من المسح علی المرارة فی الخارج .و هذه النقطة هامّة و دقیقة تُرشدنا إلی تفسیر الروایة بهذا المعنی .و هنا نورد مؤیّداً آخر علی أنّ المراد هو ظفر الرجل لأظفر الید ، و ذلک برفع اشکال آخر یرد علی الروایة ، فقد أشکل البعض بأنّ الروایة عند ما تصرّح ب«امسح علی المرارة» فإنّ مورد الروایة هذا لیس فیه خصوصیّة معیّنة ، و یلزم عن هذه أمرٌ لا یلتزم به أحدٌ من الناس ، فلو کان الإنسان مریضاً ، بحیث یضرّ الماء به ، فما المانع من أن یتوضّأ علی القمیص ، و یمسح علیه ، فهل یوجد هناک فقیه یفتی بذلک ، یعنی إذا أضرَّ الماء بشخص فلما ذا ینتقل من فرض الوضوء إلی فرض التیمّم ، لما ذا لا یتوضّأ علی القمیص کما قال الإمام علیه السلام امسح علی المرارة . هنا أیضاً یکون الفرض أن یمسح علی الید ، لأنّه ما الفرق بین أن یمسح علی المرارة و علی القمیص ، أ لم یکن حکم الظفر هو وجوب الغسل؟ أ لم یتوجب فی بادئ الأمر غسل البشرة ، و قد انتقل الحکم إلی المسح علی المرارة؟ إذن بالنسبة لهذا الفرض ، لما ذا لا یصحّ لنا أن نأمر المکلّف بأن یمسح علی القمیص؟ فما الفرق بین المسح علی المرارة

ص:78

أو المسح علی القمیص؟و الجواب: هو أنّ قوله علیه السلام «امسح علی المرارة» فسّرت بشکل مغلوط ، حیث إنّ الأمر بالمسح علی المرارة لم یکن بالنسبة لظفر الید ، فلو کان بخصوص ظفر الید ، لکان للإشکال هذا مدخلیّة ، لأنّه لا فرق بین أن یقال للمکلّف : «امسح علی المرارة» أو «امسح علی القمیص» ، لأنّ الغسل علی البشرة فیه حرجٌ .إذن یرد هذا الإشکال إذا قلنا بأنّ موضوع الروایة هو أظفار الید ، و أمّا إذا أرجعنا قول المعصوم علیه السلام «امسح علی المرارة» إلی ظفر الرجل ، فإن عملیّة المسح باقیة بقوّتها ، و إنما الّذی یتخصّص به الحرج هو المباشرة و إمرار الید علی البشرة لما فیها من الحرج .و أمّا إذا قرّرنا أنّ قوله علیه السلام «امسح علی المرارة» هو فی خصوص ظفر الرجل ، فهل هذا یستلزم أن نقول بالمسح علی القمیص أیضاً ؟ فالملاک فی امسح علی المرارة بالنسبة لظفر الرجل و المسح علی القمیص فی غسل الید واحد ، أو أنّ فی المسح علی المرارة بدل الظفر هناک حکم واحد قد تغیّر ، و هو المسح علی البشرة ، أمّا ماهیّة المسح فهی باقیة .و لقائل أن یقول: بغضّ النظر عن الروایة ، فإن أیّ شخص إذا انقطع ظفره و وضعت علیه المرارة یکون صدور الحکم بالمسح علی المرارة هو حکم خاصّ ، و له روایات خاصّة ، و هناک روایات خاصّة فی المسح علی الجبیرة ، و هذه الرّوایات الخاصّة لا تفید بأنّ المریض یمکنه أن یمسح علی القمیص ، و لکن فی خصوص هذه الروایة ، أی روایة عبد الأعلی مولی آل سام یمکننا أن نُسند هذا المعنی إلیها . فالروایة تفید العموم ، لأنّها لم تذکر خصوصیّة معیّنة لظفر الید ، و إنّما قالت: یعرف هذا و أشباهه من کتاب اللّه .و هکذا ، فإن روایة عبد الأعلی مولی آل سام و إن لم نستطع أن نحرز جانب

ص:79

السند فیها ، لکنّها من حیث الدلالة و المعنی روایة واضحة و معتبرة ، و تتفرّد هذه الروایة عن غیرها من الروایات بمیزة و هی قول الإمام بأنّه: لا حاجة لمثل هذا السؤال: لأنّکم بإمکانکم أن تستفیدوا هذه المسألة من آیة نفی الحرج ، و هذا أبلغ و أرفع درجة من مجرّد استشهاد الإمام بآیة نفی الحرج .و فی هذا المجال توجد هناک عدّة روایات نستشهد بواحدة منها فی خصوص معنی الحرج و التی نحتاج إلیها فیما بعد .

روایة قرب الإسناد

عبد اللّه بن جعفر الحمیری فی کتاب قرب الإسناد - و کتاب قرب الإسناد ، کتاب صغیر ، و قد طبع هذا الکتاب فی زمن المرحوم السیّد البروجردی قدس سره ، و السبب بتسمیته ب«قرب الإسناد» هو أنّ رواته قلیلون - عن مسعدة بن زیاد و هذا الراوی من الثقات .قال مسعدة . . . عن جعفر عن أبیه عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال: «مما أعطی اللّه أمتی و فضّلهم علی سائر الاُمم ، أعطاهم ثلاث خصال لم یعطهم إلّا نبیّ . . . .» (1)و فی بعض النسخ وردت العبارة بصورة مغلوطة ، و هی: لم یعطها الأنبیاء ، و الصحیح: لم یعطها إلّا الأنبیاء ، أو لم یعطها إلّا نبیّاً . أحد هذه الخصال هو رفع الحرج ، و ذلک أنّ اللّه تبارک و تعالی ، کان إذا بعث نبیّاً قال له: اجتهد فی دینک و لا حرج علیک ، أیّ أن الاجتهاد یجب أن لا یوقعک فی حرج و مشقّة ، و هذه من خصائص الأنبیاء السابقین . و لکن بالنسبة إلی امم هؤلاء الأنبیاء کان هناک حرج فی التکلیف و مشقّة .

ص:80


1- 1) . قرب الإسناد: 84 .

و کما أشرنا سابقاً فان الآیة الشریفة: وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا ، تفیدنا أنّ الإصر کان محمّلاً علی الاُمم السّابقة ، و کانت الاُمم مکلّفة بما فیه الحرج و المشقّة ، و قد استعرضنا بعض هذه التکالیف سابقاً .نعود للروایة . یقول الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله فی تتمّة قوله: إنّ اللّه تبارک و تعالی أعطی ذلک أمَّتی حیث یقول: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ و کما قلنا فإنّ الهدف من استعراض هذه الروایة هو أنّ هذه الروایة تفسّر لنا الآیة حیث یقول الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله فی هذه الروایة «من ضیق» و قول الرسول هذا ناظرٌ إلی الآیة ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ یعنی من ضیق ، و سنصل فی ما بعد إلی معانی هذه المفردات ، منها کلمة الحرج ، و کلمة العسر ، و الإصر ، و تضاف إلی هذه المفردات کلمة الضیق هذه و التی جاء مفسّرة للآیة «مِنْ حَرَجٍ» .إذن هذه الروایة لها دلالة تامّة علی هذا المعنی ، کما أنّها تبیّن الامتنان الإلهی و العنایة الرّبانیّة علی هذه الاُمّة حیث رفع عنها الحرج .

الروایة الثالثة: موثقة أبی بصیر

من الروایات التی تدخل فی هذا المضار ، هی الروایة التی ینقلها صاحب الوسائل فی أبواب الماء المطلق ، و هی روایة موثّقة یرویها أبو بصیر (1) .قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : «إننا نسافر فربّما بُلینا من الغدیر من المطر کان إلی جانب القریة» و قوله «بُلینا» بلحاظ العبارة التی تأتی بعدها و هی «فیکون فیه العذرة و یبول فیه الصبی و تبول فیه الدّابة و تروث؟فقال الإمام الصادق علیه السلام : «إن عرض فی قلبک شیء فقل هکذا ، أو فافعل

ص:81


1- 1) . الوسائل 1: 163 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 9 .

هکذا ، أفرج الماء بیدک ثمّ توضّأ فإنّ الدین لیس بمضیّق ، لأن اللّه تبارک و تعالی یقول: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» .و لسنا بصدد مورد الروایة و طبیعة السؤال و ما یریده السائل من وراء سؤاله هذا و طبیعة الجواب . فهذه المواضیع تبحث عادة فی کتاب الطهارة و لکن ما نرید أن نبحثه هو قول الإمام علیه السلام : «لأنّ الدین لیس بمضیّق» و استشهد علیه بآیة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ .یکفی هذا القدر بالنسبة لنا فی مقام الاستدلال علی قاعدة نفی الحرج .أمّا من حیث فهم الروایة و إمکان وضوح عدّة نقاط ترتبط بقاعدة نفی الحرج لا بدّ من مراجعة مورد الروایة و التعرّف علی سؤال الراوی؟ فهل یراد بالسؤال أنّ الغدران التی ذکرتها الروایة لیست کرّاً ، بل هی ماء قلیل ، و المسألة التی تبحثها الرّوایة هی ملاقاة الماء القلیل بالنجاسة؟و الظاهر أنّ الغدران من حیث المقدار تبلغ الکرّ مع الأخذ بنظر الاعتبار مقدار الغدیر ، فما ذا یرید السائل بسؤاله؟ .فهل کان السائل یحتمل أن الکرّ مثل الماء القلیل یتنجّس بمجرد ملاقاة النجاسة؟ و لو لا ذیل الروایة لا یستطیع الإنسان أن یحتمل هذا المعنی .و هنا نتساءل: ما ذا جاء فی نهایة السؤال حیث قال: «تبول الدابة و تروث» ؟ و کما تعلمون فإنّ بول روث الدابّة لیس نجساً ، فالحصان و الحمار و البقر التی ترد غدیر المطر غیر نجسة من حیث البول و لا الروث ، و لعلّ أبا بصیر حکم علی بول روث الدابة بالنجاسة نظراً لنجاسة عذرة الإنسان و بول الصبی ، و من هنا عطف بول و روث الدابة علی عذرة و بول الإنسان و حکم بنجاسة الجمیع ، و بناءً علی ذلک طرح أبو بصیر هذا السؤال و هو: هل ینجس ماء الکرّ بملاقاة النجاسة؟و لو کان هذا المعنی صحیحاً فلیس من الصحیح عطف روث و بول الدابّة علی

ص:82

عذرة الإنسان و بول الصبیّ حیث نشاهد أنّ الإمام علیه السلام قرّر ذلک لأبی بصیر ، و لم یقل له : إنّه لیس صحیحاً أن نعطف بعضهم علی البعض الآخر ، لأنّ البعض نجس و البعض الآخر لیس نجساً .و من هنا یمکننا أن نلتمس مسلکاً جدیداً فی فهم الروایة ، و هو أن ننظر فی إمکانیّة أن یکون الراوی قد قصد شیئاً آخر بسؤاله هذا . أی أنّ أبا بصیر لا یرید أن یستفهم هل الماء الکرّ ینجس بملاقاته للنجاسة ، أو لا؟ خاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ أبا بصیر من الرواة المعتمد علیهم ، و من المستبعد أن یسأل مثل هذا السؤال ، و لو کان السؤال : هل ینجس الماء القلیل بالملاقاة ، أو لا؟ لقیل : إنّ هذه مسألة فقهیة اختلف فیها ، أمّا لو تنجّس الماء بملاقاة الکرّ ، فحینئذٍ لا یتمکّن الإنسان من تطهیر أیّ شیء ، إذن من المستبعد جدّاً أن یسأل أبو بصیر عن الماء الکرّ هل ینجس بالملاقاة أو لا ینجس .لذا یبدو من الأفضل أن نقول: إنّ سؤاله عن القذارة العرفیة ، أی هل یمکن للمکلّف أن یتوضّأ بماء الغدیر و هو یری عذرة الإنسان و روث الدابّة ، و یری باُمِّ عینه الصبی یتبوّل فیه؟ أی مع وجود مثل هذه القذارة العرفیّة هل یصحّ الوضوء من ماء الغدیر لأجل تحصیل الطهارة؟ و جواب الإمام علیه السلام بقوله: «إن عرض فی قلبک شیء » یشعرنا بأنّ المقصود من السؤال هو هذا المعنی . أی أنّک قد یداخلک شیء فی قلبک من قبیل أنّ هذا الماء قذر و وسخ یحوی علی عذرة الإنسان و روث الدواب . فمع قذارته هل یصلح للوضوء؟ فیقول الإمام علیه السلام : أخرج الماء بیدک حتّی تذهب القذارة و یتجدّد الماء .و السؤال المطروح هنا: هل یحقّ لنا أن نحمل السؤال علی هذا المعنی . أو أن نقول بأنّ الروایة ناظرة إلی انفعال و عدم انفعال الماء الکرّ؟ثمّ قال الإمام علیه السلام : «ثمّ توضّأ ، فإنّ الدین لیس بمضیّق ، ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی

ص:83

اَلدِّینِ مِنْ حَرَجٍ » و لکن آیة نفی الحرج هذه التی استشهد بها الإمام علیه السلام یصعب التوفیق بینها و بین المعنی الذی حملنا السؤال علیه ، فإنّ ذلک سیؤدّی بنا إلی القول بأنّ آیة : ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ و التی یفترض أن تکون محصورة فی دائرة الأحکام الإلزامیة لا تتناسب مع هذا المعنی ، لأنّ المستحب یتضمّن جواز المخالفة ، کما أنّ المکروه فی ذاته یتضمّن جواز الارتکاب ، و بالتالی فإنّ هذه الأحکام الشرعیة لا تتناسب مع آیة الحرج . أقول: إذا أخذنا بهذا المعنی للروایة ، فإنّ الآیة ستکون لها مدخلیّة فی ما یخصّ المستحبات و المکروهات ، و لکن التزام هذا المعنی أولی من أن نحمل السؤال علی أنّه وارد فی خصوص انفعال ماء الکرّ و عدم انفعاله ، و من ثمَّ أفضل من القول بأنّ استشهاد الإمام علیه السلام بالآیة الشریفة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ هو من باب أنّ ماء الکرّ لو تنجّس بملاقاة النجاسة لاستلزم الحرج و المشقّة ، و لذا جعل اللّه سبحانه و تعالی الماء الکرّ لا ینجس بملاقاة النجاسة . إنّ هذا الفهم للروایة و للآیة یغایر ما نُرید أن نستفیده من قاعدة لا حرج فیما بعد ، لأنّنا نرید فیما بعد أن نستفید من قاعدة لا حرج مقابل الإطلاقات التی تثبت حکماً ما ، و ظاهر هذه الإطلاقات أنّها تثبت الحکم سواء فی الموارد غیر الحرجیّة ، أو فی موارد الحرج ، إلّا أنّ قاعدة (لا حرج) تدخل کدلیل حاکم و مبیّن تقول: إنّ هذا الدلیل و إن کان یثبت الحکم فی موارد الحرج ، إلّا أنّه لا توجد إرادة جدّیة علی ذلک ، فالدلیل المطلق یشمل مورد الحرج ، أمّا وظیفة قاعدة الحرج تحدید الدلیل ، و بالتالی تحدید دائرة الحکم ، و من هنا فمن الأفضل أن نحمل الروایة علی ذلک المعنی .

الرّوایة الرابعة روایة محمد بن أبی نصر
اشارة

الثّالثة نتطرّق إلی روایة أخری و هی آخر روایة فی هذا الباب ، و فیها جانب إضمار

ص:84

و یتبیّن بقرینة کلمة «أن أبا جعفر» أنّه هو الإمام هو الصادق علیه السلام ، قال: سألته عن الرجل یأتی السوق فیشتری جبّة فراء ، لا یدری أ ذکیّة هی أم غیر ذکیّة ، أ یُصلی فیها؟فقال علیه السلام : «نعم ، لیس علیکم المسألة ، ثمّ یستشهد الإمام علیه السلام بالقول: إنّ أبا جعفر علیه السلام کان یقول: إنّ الخوارج ضیّقوا علی أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدین أوسع من ذلک» (1) .الروایة هذه واضحة فی سؤالها ، حیث لا یوجد فی السؤال أیّ غموض ، و لا مجال للشکّ و التردید فیها فالسؤال هو عن جبّة فراء اشتراها أحدهم ، و یشکّ هل هی نجسة أو طاهرة ، فهل له أن یصلّی فیها؟و یجیبه الإمام علیه السلام : «لا مانع من ذلک ، لیس علیکم المسألة ، إنّ الدین أوسع من ذلک» لأنّ مقتضی القول أنه لو لا قاعدة الحرج للزم التحقیق ، أی لو لم تکن قاعدة الحرج ، و لو لم یکن الدین أوسع من ذلک لکان التحقیق أمراً لازماً؟و السؤال الذی یرد هنا: ما هو الأساس فی لزوم التحقیق؟ هل أنّ لزوم التحقیق نابع من أنّ طهارة الثوب شرط صحّة الصلاة ، و علی الإنسان أن یحرز هذا الشرط ، إذ أنّ وجود شرط داخل فی الواجب المفروض علی المکلّف یملی علیه أن یتأکّد من تحقّقه ، و لا یکفی أن نشکّ فی ذلک ، فالشکّ فی الشرط لا یوجب الاکتفاء بما أوتی به مع الشکّ فی المشروط ، و من هنا فإنّ الطّهارة شرطٌ لا بدّ من إحرازه ، و الإمام یقول: «لیس علیکم المسألة» هذا من جانب .و من جانب آخر فإنّ إحراز الطهارة أمرٌ لازم فی تحقّق الصلاة ، فما الأصل الذی حلّ محلّ الشرط فی إحراز الطهارة و علی أساسه قال الإمام علیه السلام : لیس علیکم المسألة؟

ص:85


1- 1) . الوسائل 3: 491 ، الباب 50 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 .

هل استند الإمام فی هذا إلی قاعدة الطهارة للتخفیف من الکلفة و المشقّة المفروضة علی الناس ، و لرفع الحرج و الضیق عن أفراد المجتمع الإسلامی ، هل هذا هو ما تعنیه الروایة؟ أ لیس من الواجب إحراز الشرط؟ نقول: إنّ قاعدة الطهارة هی التی أحرزت الشرط ، لجریانها هنا ، و بعد أن استند علیه السلام إلی قاعدة الطهارة ، قال علیه السلام : «لیس علیکم المسألة» ، و یمکن أن تعتبر هذا القول تتمّة لقاعدة الطهارة ، لأنّ قاعدة الطهارة لو أنّها جرت فی الشبهات الحکمیة لکان لا بدّ من الفحص ، أمّا فی الشبهات الموضوعیة فلا یلزم فیها الفحص . ففی الشبهات الموضوعیة إذا شک الإنسان فی طهارة ردائه ، لا یلزم أن یتفحّص ، بل بمجرّد أن یشکّ فی أنّ هذا نجس أو طاهر تجری قاعدة الطهارة ، فهل أنّ کلمة «نعم» تعنی الاستناد إلی قاعدة الطهارة؟ و قوله لیس علیکم المسألة هو تتمّة قاعدة الطهارة؟ و إذا صحّ ذلک فإنّ عبارة «إنّ الدّین أوسع من ذلک» تبیّن الحکمة من قاعدة الطهارة ، أی أنّ الإسلام إنّما أقرّ قاعدة الطهارة لرفع الحرج و المشقّة من الناس ، و بذلک تکون علاقتها بقاعدة لا حرج غیر وثیقة .

الروایة و سوق المسلمین

و بإمکاننا أن نوجّه عبارة «لیس علیکم المسألة» بشکل آخر ، و هو أنّ کلّ هذا الکلام هو فی السوق ، فقد جاء فی سؤال الراوی کلمة السوق ، و الظاهر أنّ المقصود بالسوق فی الروایة هو سوق المسلمین لا غیر المسلمین ، و من هنا نقول:

بأنّ سوق المسلمین له حجیّته الشرعیّة و إمارته الشرعیّة ، و هذا یعنی أنّ قوله علیه السلام :

لیس علیکم المسألة ، لأنّه اشتری جبّة فراء من سوق المسلمین ، فحتّی لو کان البائع مشکوک فی أمره هل هو مسلم ، أو غیر مسلم ، فلا شیء علی المبتاع ، لأنّه اشتری سلعته من سوق المسلمین ، و مع کون السوق للمسلمین ، فلا حاجة

ص:86

للتحقیق و التفحّص ، حتّی لو کان هناک من البیّاع و التجّار من هم یهود أو نصاری ، إذن هل یصحّ لنا أن نقول بأنّ عبارة الإمام علیه السلام : «نعم لیس علیکم المسألة» تفید هذا المعنی؟و إذا صحّ هذا فإنّ عبارة «إنّ الدین أوسع من ذلک» أیضاً تدخل فی هذا المضمار ، لأنّ سوق المسلمین أیضاً إذا لم نجعل له حجیّته و إمارته فسیوقع المکلّف فی حرج و مشقّة .و بناءً علی ما سبق ، فحتّی لو حملنا الروایة علی هذا المعنی الجدید ، مع ذلک لا یمکن أن نوجد علاقة بین الروایة و بین قاعدة لا حرج و التی نحن بصددها الآن ، لأنّ قاعدة لا حرج وظیفتها أن تقف فی وجه الإطلاقات التی من شأنها أن تثبت حکماً فی جمیع الحالات حتّی فی موارد الحرج و تنفی ذلک الحکم ، فلسان قاعدة الحرج هو النفی و عدم الجعل و عدم ثبوت الحکم عند الحرج .

الروایة و ذکاة الحیوان

و هناک احتمال ثالث یمکن علی ضوئه أن نعطی للروایة معنیً أفضل ، و أن نستفید منها قاعدة لا حرج أیضاً ، و هو أنّ المکلّف هنا قد شکّ فی أنّ هذا الجلد طاهر أو غیر طاهر ، و هذا الشکّ نجده عند الشیعة الإمامیّة ، أمّا أهل السنّة فهم یرون أنّه حتّی الحیوان غیر المذکّی یطهر بالدباغة .فبناءً علی الاحتمال الثالث فإنّ الرّوایة لا ترید أن تتطرّق إلی السوق ، و لا ترید أن تبیّن الحکمة من قاعدة الطهارة ، و إنّما قد ترید أن تقول للمکلف : إنّک إذا شککت بأن جبّة الفراء هذه طاهرة أو غیر طاهرة فبالتالی أنت شاکٌّ بین أن یکون هذا الحیوان مذکّی أو غیر مذکّی ، و الأصل هنا استصحاب عدم التذکیة ، و لا یمکن للمکلّف أن یترک استصحاب عدم التذکیة إلّا إذا تحقّق بنفسه و تیقّن من أنّ

ص:87

الحیوان کان مُذکّی . و لو فرضنا أنّ المکلّف تعیّن علیه التحقیق و التفحّص نتیجةً لاستصحاب عدم التذکیة ، لاستلزم ذلک الحرج و المشقّة ، فمن الصعوبة التحقیق فی هذا الأمر ، و ظاهر الروایة یشیر إلی هذا المعنی حیث تقول: «لیس علیکم المسألة» ثمّ یعلّل مقبولیّة هذه بأنّ «الدین لیس بمضیّق» إشارة إلی سماحة الدین وسعته ، و لو لم یکن الدین متّسعا لوجبت علی المکلف المسألة . إذن ، لو کانت هناک ثمّة مدخلیة لقاعدة الطهارة لانتفی المبرّر لقوله علیه السلام «لیس علیکم المسألة» ، و لو کان السوق مأخوذاً بنظر الاعتبار لما بقی هناک وجه لمثل هذا القول أیضاً .و هنا لقائل أن یقول: لما ذا کلّ هذا التأکید علی الصلاة بلا فحص و بدون أن ینتزع المکلّف جبّته؟ فمن الممکن أن لا یسأل و لا یفحص المکلّف ، بل ینزع الجُبّة حین حلول وقت الصلاة ، فالإشکال فی لبس الجُبّة عند الصلاة فقط ، أمّا خارج الصلاة فلا یوجد ثمّة إشکال فی ذلک ، و من هنا یتبیّن أنّ الرّوایة تفترض فی نزع الجُبَّة الحرج و المشقّة ، و کأنّه هناک ضرورة عرفیّة فی لبس الجُبّة عند الصلاة ، و إذا قلنا بهذه الضرورة العرفیّة ، حینئذٍ یکون أصل الاستصحاب فی عدم التذکیة جاریاً ، ، و مع ذلک لا یجب علی المکلف أن یتحقّق من طهارة اللباس أو نجاسته إذا حملنا الروایة علی هذا المعنی ، فإنّ قوله علیه السلام : «إنّ الدین أوسع من ذلک» یکون مناسباً لبحثنا هذا .و لا ارید أن أقول: إنّ الروایة تعنی هذا المعنی حقیقة ، و لکن ظهور الروایة یؤیّد هذا المعنی ، کما أنّه لیس من المستبعد أن تکون الروایة ناظرة إلی مسألة السوق الإسلامی . أو أن تستند إلی قاعدة الطهارة . و بالتالی هناک ثلاث احتمالات فی هذه الروایة . الاحتمالین الأوّل و الثانی لا یرتبط بنا ، أمّا الاحتمال الثالث فهو یتعلّق بما نحن فیه . .هذا آخر ما أوردناه بعنوان الدلیل للقاعدة ، و فیما ذکرناه منها غنی و کفایة ، و قد ادّعی المحقّق الآشتیانی تواتر الروایات علی القاعدة بالتواتر المعنوی .

ص:88

دلیل الإجماع علی القاعدة

و قد استدلّ علی نفی الحرج بالإجماع ، فقد ادّعی صاحب الفصول تحقّق الإجماع علیه ، بل قیل: ادّعی علیه إجماع المسلمین .و لکنّ فیه - مضافاً إلی عدم اعتبار الإجماع المنقول - أنّه حکی عن صاحب الوسائل فی کتاب «الفصول المهمّة» بعد أن ذکر الروایات أنّه قال: إنّ نفی الحرج الذی دلّت علیه الروایات مجملٌ ، و القدر المتیقّن منه هو نفی التکلیف بما لا یطاق و بغیر المقدور ، و أمّا غیره فجمیع التکالیف الإلهیّة مشتملة علی الحرج و الضیّق ، بل التکلیف هو جعل الغیر فی الکلفة و المشقّة (1) .و لا یخفی أنّ التکلیف بما لا یطاق خارج عن مورد البحث فی قاعدة الحرج ؛ لأنّه ممتنع عقلاً و لا یمکن حتّی بالنسبة إلی الموالی العرفیّة فضلاً عن الحکیم علی الإطلاق ، فلا یکون صاحب الوسائل رحمه الله ممّن قال بنفی الحرج فی مورد البحث علی نحو الموجبة الجزئیّة .و فی مقابلة حکی عن بعض أساتیذ الشیخ الأنصاری رحمه الله أنّه جعل قاعدة الحرج من القواعد المسلّمة العقلیّة ، و لذا ادّعی استحالة تخصیصها ، لأنّ دلیل العقل غیر قابل للتخصیص .و هناک قول بأنّ القاعدة حکم شرعی لا عقلی ، و لکنّها ممّا لم یردّ علیه التخصیص ، لوجود خصوصیّة فیها توجب عدم التخصیص .و قول رابع بأنّ القاعدة قد خصّصت فی کثیر من الموارد ، و من القائلین بهذا القول الشیخ قدس سره ، بل زاد: إنّ القاعدة المذکورة من جهة ورود التخصیص علیها فی کثیر من الموارد بحیث یکون الخارج عن موردها أکثر من الباقی موهونة جدّاً .

ص:89


1- 1) . الفصول المهمّة 1: 626 .

و بعد فرض وجود هذا الاختلاف فی القاعدة لا معنی لکونها مجمع علیها بحیث کان الإجماع دلیلاً مستقلّاً مع قطع النظر عن الکتاب و السنّة ، فإنّ حجیّة الإجماع إنّما هی من جهة کشفه عن رأی المعصوم علیه السلام و من المعلوم أنّ مع ذلک الاختلاف لا یکشف عن رأی المعصوم حتّی علی نحو الموجبة الجزئیّة ، مع أنّ تحقّق الموجبة الجزئیّة لا یجدی فیما هو المقصود من الاستدلال بالقاعدة فی الموارد المختلفة . هذا ما یردّ علیه أوّلاً .و یردّ علیه ثانیاً: أنّ الإجماع علی فرض تحقّقه فی المقام لا یکون تعبّدیاً ، بل یکون محتمل المدرکیّة ، لاحتمال استناد المجمعین إلی الأدلّة الموجودة فی المقام .

دلیل العقل

و هنا نصل إلی دلیل العقل . نری کیف یمکن الاستدلال بدلیل العقل فی خصوص قاعدة نفی الحرج؟ لو قلنا: إنّ قاعدة نفی الحرج تشمل حتّی التکلیف بما لا یطاق ، عندئذٍ یمکننا القول بأنّ العقل له مدخلیّة فی قاعدة نفی الحرج علی نحو الموجبة الجزئیّة ، و ذلک لأنّ العقل لا یجیز التکلیف بما لا یطاق حتّی فی الموالی العرفیین .و أمّا إذا قلنا: إنّ القاعدة لا تشمل التکلیف بما لا یطاق استناداً إلی التفسیر السابق الذی فسّرنا به الآیة الکریمة: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها فستواجهنا ثلاث مسائل ، لأنّ التکلیف بما لا یطاق ممتنع عقلاً . أی أنّ المکلّف لا یستطیع أن یأتی بالتکلیف أبداً . کأن یرید المولی من المکلّف أن یجمع بین الضدین ، فی حین أنّ الجمع بین الضدین لا یقرّ به العقل . إذن ، هذا التکلیف مستحیل عقلاً .أمّا ما یأتی فی المرتبة الأقلّ منها ، و یصطلح علیها الامتناع العرفی من الناحیة العقلیة لا یوجد أیّ دلیل و برهان علی امتناعه و لکنّه ممتنع عرفاً . و هذا ما فسّرنا به

ص:90

قوله تعالی: لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها حین استفدنا من الآیة الکریمة بقرینة ذیل الآیة من أنّ اللّه تبارک و تعالی لم یکلّف هذه الاُمّة و لا حتّی الاُمم السابقة بالاُمور التی یعتبرها العرف ممّا لا یطاق .إذن ، فما تعارف علیه العرف بأنّه لا یطاق هو أیضاً خارج عن قاعدة نفی الحرج . و من هنا إذا أخرجنا هذه المسألة عن دائرة البحث ستواجهنا مسائل من نوعٍ آخر . هذه المسائل لیست ممتنعة ، لا عقلاً ، و لا عرفاً ، لکن فیها مشقّة و کلفة شدیدة ، نعبّر عنها بالحرج . و سنبحث فیما بعد فی دائرة الحرج سعة و ضیقاً ، و سنناقش العناوین التی تطرّقت إلیها الآیات و الروایات فی هذا المجال إن شاء اللّه ، و نقایس فیما بینها من حیث کون هذه العناوین تدخل فی دائرة واحدة ، أو أنّ هناک ثمّة اختلاف و تباین فیما بینها .مجمل القول إنّ هذه القضایا غیر ممتنعة ، لا عقلاً ، و لا عرفاً ، بل فیها مشقّة شدیدة ، کما یشاهد ذلک فی بعض التکالیف ، و هذا ما یدخل فی دائرة البحث ضمن قاعدة نفی الحرج .

الاستدلال بموارد التکلیف بما لا یطاق

و هنا قد یتساءل البعض: هل بمقدورنا أن نستدلّ بالموارد التی تدخل ضمن عنوان التکلیف بما لا یطاق علی هذا القسم فی البحث؟ و بذلک نعطی للمسألة بعداً عقلانیاً . هذه المسألة لیست مسألة عقلیة ، و إنّما هی تعبدیّة . و الدلیل علی ذلک أن الاُمم السابقة کان فیها هذا اللون من التکالیف الحرجیّة ، و الآیة الشریفة تنصّ علی ذلک حین تقول: وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا .

من التکالیف التی کانت واجبة علیهم ، فی حین أنّ هذه التکالیف قد رفعت عن هذه الاُمّة ، إذن ، فما یمتنع عادة و عرفاً خارج عن دائرة بحثنا هذا .

ص:91

و هنا نسأل: هل من الممکن أن نطرح التکلیف بما لا یطاق فی هذا المجال کدلیل عقلی؟من هنا نرد علی المحقّق النّراقی قدس سره - الذی قال فی کتاب «العوائد» من أنّ التکلیف بما لا یطاق یدلّ علی نحو الموجبة الجزئیّة علی قاعدة نفی الحرج - بأنّ التکلیف بما لا یطاق لا علاقة له بنفی الحرج أبداً ، فالاستدلال بالدلیل العقلی المذکور تمسّک بالدلیل فی غیر مورده (1).و یمکن تصویر دلیل العقل بصورة اخری ، و هی أن نقول: بأنّ الدلیل علی قاعدة نفی الحرج هو أنّنا لو لم نقل بهذه القاعدة ، یلزم عن ذلک اختلال النظام الموجود . و لا یمکننا أن نتصوّر بأنّ اللّه سبحانه و تعالی یقرّر بما هو من شأنه الإخلال بالنظام . و هذه المسألة فیها لزوم عقلی متعیّن علی الباری تبارک و تعالی .و فی مقام الردّ علی هذا الاستدلال نسأل: ما ذا یراد باختلال النظام؟ هل عاشت الاُمم السابقة و التی لم توجد فی زمانها قاعدة نفی الحرج ، نوعاً من الاختلال فی النظام؟و هل أنّ الباری جلّ و علا قد سبّب خللاً فی النظام فی الاُمم السابقة من خلال عدم طرحه لقاعدة نفی الحرج آنذاک؟ما هو ذاک الاختلال فی النظام الذی یحدث بسبب عدم القول بقاعدة نفی الحرج؟ مع أنّ هذا الحرج - کما سیبحث فیما بعد إن شاء اللّه - حرج شخصی و لیس حرجاً نوعیّاً . فمثلاً ، إذا سبّب الصوم . حتّی مع کونه واجباً متعیّناً علی کافّة الناس .

فالفرد إذا وقع فی حرج بسبب الصوم . یسقط عنه الصوم .فهل من المتصوّر أنّ مثل هذا الحرج الشخصی سیسبب اختلالاً للنظام ما لم

ص:92


1- 1) . عوائد الأیّام : 58 .

توجد هناک قاعدة نفی الحرج هذه؟ و هل سیؤدّی ذلک إلی التعارض مع الحکم العقلی؟لیست هنا ارتباط بین نفی الحرج و اختلال النظام ، حتّی یکون مستنداً للبعض من خلال ذلک أن یعطی للمسألة صبغة عقلیّة أو یجعلها قاعدة عقلیّة .نعم ، یوجد هناک کلام للبعض فی خصوص هذا النوع من موارد الحرج ، لا فیما یخصّ التکلیف بما لا یطاق العقلی أو العرفی ، مفاده أنّ أحد القواعد العقلیة المسلّم بها ، هی قاعدة اللطف ، و خلاصة القول فی هذه القاعدة هو أنّ علی اللّه تعالی أن یقرّب العبد من نفسه ، و یرشده و یهدیه إلیه ، کما أنّه یجب علیه سبحانه و تعالی أن یحذّر العبد من کلّ شیء یبعّده عن ساحته المقدسة .من هنا نقول: إذا کان لدینا قاعدة اللطف ، فهل بإمکاننا أن نطبقها بخصوص قاعدة الحرج؟ بأن نقول: إنّ اللّه سبحانه و تعالی لو جعل تکالیفاً حرجیّة حینئذٍ سیتخلی الناس عن هذه التکالیف و سیحاولون التهرّب منها . لأنّ الناس لا یمیلون إلی تأدیة مثل هذه التکالیف ، و بالتالی فإن هذه التکالیف الشّاقة سوف تبعّد الناس عن اللّه تبارک و تعالی . و هذا یتنافی مع قاعدة اللطف . إذ ینبغی أن لا یکون هناک ما من شأنه إبعاد الناس عن ساحة القدسی الإلهیّة .و الجواب علی ذلک یتخلص فی النقاط التالیة: الأولی: إنّ التکالیف الحرجیة کانت موجودة فی السابق ، و لو کانت هذه القاعدة عقلیّة فلا یمکن تخصیصها ، إذن وجود التکالیف الحرجیة فی الاُمم السابقة دلیل قاطع علی عدم وجود قاعدة عقلیّة فی هذا المجال . ثانیاً: لیست المسألة بالشکل الذی تمّ تصویرها من خلال السؤال ، فالأمم السابقة هل کانت مجمعةً علی مخالفة التکالیف الحرجیّة؟ أو أنّ حوزة التکالیف کانت کسائر التکالیف الاُخری ، تارةً تطاع و تؤدّی ، و تارةً اخری تُخالف . فلو أنّ

ص:93

التکالیف الحرجیّة کانت تواجه من قبل کافّة النّاس بالمخالفة و العصیان لکان من الممکن أن نقبل الرأی الذی یقول بعقلانیّة قاعدة نفی الحرج .و لکنّنا نشاهد أنّ التکالیف الحرجیّة کسائر التکالیف الاُخری ، البعض یعمل بها ، لأنّه إنسان متعبّد و مقیّد ، و البعض الآخر یترکها ، لکونه إنسان غیر ملتزم و غیر متعبّد .فالإنسان غیر الملتزم نراه لا یلتزم بأسهل التکالیف الإلهیّة الخالیة من أیّة مشقّة . و فی المقابل فإنّ الإنسان الملتزم و المتعبّد نراه مستعدّاً لأن یصوم سبعة عشر ساعة فی طقس حارّ قد تصل فیه الدرجة إلی خمسین درجة مئویة . إذن الأساس فی العمل بالتکالیف و عدم العمل التقوی و الالتزام ، لیس إلّا.و من هنا نصل إلی هذه النتیجة ، و هی أنّه لا یوجد هناک دلیل عقلی یمکن التعویل علیه فی هذه المسألة . و ما یدّعی أن یکون دلیلاً عقلیاً إمّا أن یکون خارجاً عن قاعدة نفی الحرج ، و إمّا أن یکون داخلاً فی حوزة قاعدة نفی الحرج ، إلّا أنّه ناقص و غیر تامّ .من هنا نخلص إلی هذه النتیجة ، و هی أنّ الدلیل علی قاعدة نفی الحرج ینحصر فی خصوص الآیات و الروایات ، و أمّا الإجماع و العقل فلا یمکن أن نعتبرهما دلیلان مستقلّان .

العناوین المختلفة للحرج

اشارة

العناوین التی ذکرت فی مجموع الآیات و الروایات هی أربعة عناوین ، الحرج ، العسر ، الإصر ، الضیق . و عنوان الضیق نصّت علیه الروایات خاصّة .

و الآن لنری هل یوجد هناک اختلاف بین هذه العناوین ، أو أنّها متساویة فی المفهوم و المعنی أو قل : متقاربة؟ و إذا کان هناک تباین بین هذه العناوین ، فما هی کیفیّة هذا

ص:94

التباین؟ و علی فرض التباین ، کیف یکون الحکم؟فی البدایة یجب أن ندقّق فی معانی هذه العناوین خصوصاً عنوان الحرج ، باعتبار أنّ القاعدة عرّفت بهذا العنوان .

العنوان الأوّل: هو عنوان الحرج

اشارة

. عرّف کبار أهل اللغة الحرج بما یلی:یقول الجوهری فی کتاب الصحاح : - مکانٌ حرج: أی ضیّق . فهنا أوّلاً جعل الحرج صفة للمکان ، ثمّ عرّفه بأن قال عنه: ضیّق . و فی الحقیقة فإنّ الحرج أساساً یعنی الضیق کما أنّه فسّره بالإثم أیضاً . حیث یقول الجوهری فی الصحاح قد یستعمل کلمة الحرج بمعنی الإثم .و جاء فی القاموس ، الحرج: «المکان الضیق الکثیر الشجر» و من هنا یمکن أن نستفید من القاموس فائدة جدیدة لم یشر إلیها فی الصحاح ، و هی أنّ المعنی الأوّل للحرج أخذ فیه المکان . لأنّ عبارة الصحاح هی الحرج ، أی الضیّق ، و أمّا القاموس فقد عرّف فیها الحرج قائلاً: المکان الضیّق ، الکثیر الشجر . و فی الحقیقة فإنّ هذا المعنی راجع إلی المعنی الأوّل . لأنّ المکان الذی یکثر فیه الشجر ، یکون ضیقاً . لأنّ کثرة الشجر تعنی المسافة بین الأشجار متقاربة جدّاً ، و بالتالی فهذا یتضمّن حالةً من الضیق .المعنی الثالث للحرج - الذی ینصّ علیه القاموس - هو الإثم . و هذا المعنی بنفسه قد اشیر إلیه فی الصحاح ، و یضیف ابن الأثیر فی کتاب النهایة إضافة جدیدة علی المعنیین المتقدّمین فیقول: إنّ الحرج فی الأصل الضیق ، و یقع علی الإثم و الحرج . إلّا أن المعنی الأصلی للکلمة هو الضیق ، و أمّا معنی الإثم و الحرام فهو لیس أصلاً ، ثمّ یقول: و قیل: الحرج ، أضیق الضیق . أی لا مطلق الضیق ، بل الضیق الشدید .و محصّله أنّ للضیق عدّة مراتب ، أعلی هذه المراتب هی الحرج .

ص:95

و ورد فی مجمع البحرین: أنّ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ أی ما ضیّق . و هذا یعنی أنه فسّر الحرج بالضیق . و لکن أری أنّ تفسیره ب«ما ضیّق» یستقیم معه معنی الجملة . فیکون معنی الآیة «ما ضیّق بأن یکلّفکم ما لا طاقة لکم به و ما تعجزون علیه» و سبق و أن قلنا : إنّ العجز و عدم الطاقة لیس بمعنی الحرج .

لکن نعود فنقول: إنّ الأساس هو أنّه فسّر الحرج بالضیق و التضیّق .بعد ذلک یورد صاحب مجمع البحرین قولاً یؤیّد فیه ما جاء فی کتاب النهایة .

یقول صاحب مجمع البحرین: و فی کلام الشیخ علی بن إبراهیم - و هو من الأدباء و اللغویین - الحرج الذی لا مدخل له ، و الضیقة ماله مدخل . إذن الضیق فیه مندوحة و مهرب ، و أمّا الحرج فلا مفرّ منه و لا مهرب .و ظاهر هذا الکلام ، أنّه مرادف لما جاء فی النهایة من أنّ الحرج هو أضیق الضیق .و أدقّ ما ورد فی تفسیر هذا الکلمة ، هو ما قال الراغب الأصفهانی فی مفرداته ، - و هو من الکتب النفیسة جدّاً - من أنّ أصل الحرج و الحراج ، هو مجتمع الشیء و تصوّر منه ضیق بینها ، فقیل للضیق حرج ، و للإثم حرج . إذن من هنا نفهم أنّ الحرج لیس بمعنی الضیق ، و لا بمعنی الإثم ، بخلاف ما أورده صاحب النهایة إذ یقول: الحرج فی الأصل الضیق ، بل هو اجتماع أجزاء شیء واحد و حدوث تداخل و ترابط فیما بینهم . هذا الاجتماع هو ما یسمّی بالحرج . و یلزم عن حالة الاجتماع هذه الضیق . لأنّ الشیء إذا کانت أجزاؤه متفرّقة فلا ضیق ، و أمّا إذا تجمّعت فی مکان واحد ، خاصّة إذا کان الشیء من قبیل السوائل التی لها ترکیب خاص ، حینئذٍ فإنّ الاجتماع یستلزم الضیق . أی أنّ الأشیاء تداخلت فیما بینها و ترابطت ، و من هنا عبر عن المعنی الحقیقی للحرج بأن قال: هو مجتمع الشّیء - علی حدّ تعبیره - و قوله تصوّر منه ، یعنی استلزم من حالة الاجتماع ضیق فیما بین الأجزاء .

ص:96

و بذلک فهو یعطی لکلمة الحرج معنی لا نجده من أیّ من الکتب التی أشرنا إلیها آنفاً . ثمّ یقول: فقیل للضیق حرج - أی أنّ استعمال کلمة الحرج فی معنی الضیق جاء فی رتبة متأخّرة - و للإثم حرج .أمّا استعمال کلمة الحرج فی معنی الإثم فقد ورد فی التفاسیر . و الإثم أحد مصادیق الضیق . لأنّ الإثم یعنی أنّ هناک تقصیر من قبل العبد تجاه المولی ، و بعبارة اخری ، هناک مؤاخذة علی العبد فی مقابل الباری تعالی ، و هذه المؤاخذة تعدّ ضیقاً علی العبد و ضیقاً علی العاصی . و حتّی مع عصیان العبد و تمرده فإنّ الضیق متحقّق . إذن الإثم أیضاً هو من مصادیق الضیق بالشکل الذی أشرنا إلیه .و من جهة اخری هناک بعض الآیات الکریمة التی یستفاد منها بأنّ الحرج بمعنی الضیق کما استفید هذا المعنی من مفردات الراغب هذا . فالآیة الکریمة تنصّ علی ذلک حیث قال تعالی: وَ مَنْ یُرِدْ أَنْ یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً 1 هنا کلمة «حَرَجاً» یقصد بها نفس الضیق ، و لا یراد بها معنیً آخر . بل یمکن اعتباره نوعاً من الفنّ فی التعبیر ، حیث ذکر کلمة «ضَیِّقاً» ابتداءً ثمّ قال «حَرَجاً» فالجمع بینهما فی هذه الآیة یمکن أن نسوقه کدلیل علی أنّ الحرج هو نفس الضیق ، و إلّا لا یمکن أن نتصوّر أنّ الآیة ترید أن تخطر فی الذهن معنیین مختلفین .و قد اختلف فی تفسیر الآیة ، و خاصّة فی کیفیة: یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً ؟ و یمکن تصوّر هذا المعنی بأن نقول: إنّ کلّ من کان علی صراط غیر مستقیم ، و علی غیر الإسلام ، فإنّه یفتقد الاطمئنان و السکینة ، و هذا ما یظهر من قوله تعالی:

أَلا بِذِکْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ 2 و القلب الذی یفتقد الطمأنینة و السکینة هو قلب

ص:97

یعیش الضیق و الحرج . و طمأنینة القلب لا تحصل إلّا فی ظلّ ذکر اللّه و الاعتقاد به و التوجّه إلیه فی کافّة الاُمور .و توجد هناک آیتان إذا جمعنا بینهما ، یمکن أن نتوصّل من خلال ذلک أنّ الحرج هو بمعنی الضیق ، أحدهما قوله تعالی: فَلا یَکُنْ فِی صَدْرِکَ حَرَجٌ مِنْهُ 1 و کلمة «لا یکن» مثار للبحث ، هل أنّها تفید النهی ، أو الدعاء ، أو ما شابه ذلک؟ و هذا خارج عن دائرة بحثنا .و أمّا ما نحن بصدد بحثه هو أنّ اللّه سبحانه و تعالی یخاطب رسوله من جهة بقوله: فَلا یَکُنْ فِی صَدْرِکَ حَرَجٌ مِنْهُ 2 و من جهة اخری یقول فی آیة أخری: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَکَ صَدْرَکَ فشرح الصدر هذا فی مقابل ذلک الحرج . فالشرح هو التوسیع و الإنارة ، إذن لو أخذنا الآیتین معاً بنظر الاعتبار ، حینئذٍ یمکن أن نستفید من القرآن أیضاً علی أنّ الحرج هو بمعنی الضیق . و هناک آیات اخری فیها کلمة الحرج . من قبیل قوله تعالی: لَیْسَ عَلَی الْأَعْمی حَرَجٌ وَ لا عَلَی الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَی الْمَرِیضِ حَرَجٌ 3 .و قد فسّر البعض «الحرج» هنا بالإثم ، أی لیس علی المریض إثم ، و لیس علی الأعمی إثم . فی حین أنّه لا داعی لأن نفسّر الحرج بالإثم . فلو قلنا فی خصوص هذه الآیات أنّ الحرج یعنی الضیق ، فیلزم عن ذلک أنّ نفس قوله تعالی: وَ لا عَلَی الْمَرِیضِ حَرَجٌ بأنّ المریض و المجنون لا ضیق علیهما ، و لا یناط بها ما من شأنه أن یشکّل صعباً علیهما . لأنّ کلٌ یتحمّل بقدره . فالأعرج لکونه أعرج ینبغی أن نلاحظ ما هو ضیق بالنسبة إلیه و ما هو لیس بضیق . و من هنا یتّضح أنّ قوله

ص:98

تعالی: وَ لا عَلَی الْأَعْرَجِ حَرَجٌ بمعنی أنّ الأعرج بما هو أعرج لا ضیق علیه ، و کما قلنا فقد فسّروا الحرج هنا بالإثم . و هو من مصادیق الضیق أیضاً . و لا داعی أن نفسّر هذه الآیات بالإثم . بل یکفی فی ذلک أن نفسّر الحرج بالضیق ، لانّه معنی عام للحرج الذی صرّح به القرآن الکریم .

الاستدلال بالرّوایات

و یمکن الاستدلال علی ما قلناه بالروایات التی سبق و إن استعرضناها . منها الروایة التی استشهد فیها المعصوم بالآیة الکریمة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ ثمّ فسّرها مباشرة بأن قال علیه السلام : أی من ضیق .و هناک روایة اخری لم تفسّر الآیة ، لکن یمکن أنّ نستفید منها ذلک المعنی بقرینة استشهاد الامام علیه السلام بالآیة ، فقد جاء فی روایة أبی بصیر أنّ الإمام علیه السلام قال مستطرداً : فإنّ الدین لیس بمضیّق و قد قال اللّه تعالی: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ ، فقوله: إنّ الدین لیس بمضیّق ، و استشهاده بالآیة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ هو دلیل علی أنّ الحرج فی هذه الآیة بمعنی الضیق . و ذلک لأنّ قوله علیه السلام : «إن الدین لیس بمضیّق» ، إنّما یستند إلی الآیة الکریمة: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ .إذن ، أقوال اللّغویین ، و الروایات ، و القرآن الکریم کما فی قوله تعالی: یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً جمیعها تشیر إلی أن الحرج یعنی الضیق . فلا مجال للشکّ فی أنّ الحرج هو تعبیر آخر للضیق .

الحرج و الإصر

أحد العناوین التی ورد فی القرآن الکریم ، هو عنوان الإصر . کما فی قوله

ص:99

تعالی: وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا 1 فما هو معنی الاصر؟یقول صاحب الصحاح فی معنی الاصر: اصره حبسه ، أی أنّ الإصر بمعنی الحبس . و یقول أیضاً فی معنی الإصر: و أصرت الشیء إصراً کسرته . ثمّ یقول:

و الإصر العهد ، و الإصر الذنب ، و الإصر الثقل . و یقول صاحب النهایة: الإصر الإثم و العقوبة ، و أصله من الضیق و الحبس . و یرجعه إلی الضیق ، و یتّضح من أقوال اللغویین أنّ لفظ الإصر نوعاً ما یستعمل بمعنی الحبس ، و فی الحقیقة الحبس یستلزم الضیق و الشدّة . و لذلک أخذ فی الإصر معنی الحبس ، و قوله فی الصحاح:

و أصله من الضیق و الحبس ، فیه إشارة إلی أنّ الإصر یعود فی معناه إلی الضیق .و جاء فی القاموس: الإصر بالکسر ، العهد . إذن ما هی خصوصیّة العهد؟ نقول: إنّ العهد بموجب العقل یستلزم الوفاء . أی أنّه یواجه الإنسان ضغطاً و ضیقاً .

فالإنسان إذا لم یکن قد تعهد بشیء ، فهو حرّ ، و لا یوجد هناک ضیق و لا ضغوطات مسلّطة علیه . و لکنّه إذا أبرم عهداً معیّناً ، حینئذٍ سیعیش ضیقاً معیّناً . و من هنا یتّضح لدینا أنّ العهد لمّا کان مستلزماً لشیء من الضیق و الضغط ، لذلک عبّر عنه بالإصر .و یصدق هذا القول فی خصوص الذنب أیضاً ، فالذنب یجعل الإنسان فی ضیق و شدّة .أمّا الثقل ، فتارةً یلحظ به نفس مسمّی الثقل ، و اخری یلحظ ما یلزم عن الثقل ، و هو الضیق ، إذن ، فالملاک واحد و هو الضیق . و یستعمل الإصر لمعنی العهد و الدین و الثقل ، إلّا أنّه عادة ما یستعمل الإصر بمعنی الحبس . یقول الراغب فی

ص:100

المفردات: الإصر عقد الشیء و حبسه بقهره . أی أنه یسلب الاختیار علی الشیء .و من البدیهی أنّ مثل هذا العقد أو الحبس یستلزم الضیق . ثمّ یقول: و المأصر و المأصد کلاهما بمعنی حبس السفینة ، أی العمل علی ربط فیها السفینة بالقرب من السواحل . فالمحبس هو المکان الذی تعاق فیها حرکة السفینة ، و یضیّق علیها بأن لا تعطی مجالاً لأن تمیل إلی هنا و هناک .بعد ذلک یورد الراغب قوله تعالی: وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ 1 فیقول: إصرهم أی الاُمور التی تثبّتهم و تقیّدهم عن الجزاء و الوصول إلی الثواب ، ثمّ یقول: و علی ذلک - أی علی نفس المعنی - الآیة الکریمة: وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً .و ورد فی مجمع البحرین: أنّ أصل الإصر الضیق و الحبس ، و إنّما ذکر الحبس لاشتماله علی معنی الضیق . یقال أصّره بإصره ، إذا ضیّق علیه و حبسه . یقال للثقل إصراً لأنّه یأصر صاحبه عن الحرکة ، أی ما یمنع الإنسان عن الحرکة و یجعله فی ضیق ، ثمّ یقول : إنّ قوله تعالی: وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ هو مثل لثقل تکلیفهم ، التکلیف الذی کان علیهم و الذی کان علی الاُمم قبلهم . فهذه التکالیف کانت ثقیلة بالنسبة إلیهم و کانت تسبّب لهم ضیّقاً و شدّة . و لذلک کان من برکات رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی الاُمّة الإسلامیة أن یضع عنهم إصرهم .و ما لاحظناه هنا هو أنّ الإصر فی الحقیقة معناه الضیّق . إذن نحن لم نتوصل بعد إلی الفرق بین العناوین الثلاثة: الضیق ، و الحرج ، و الإصر . فالحرج فسّر بالضیق . و الإصر أیضاً و إن کان قد أخذ فیه معنی الحبس ، إلّا أنه استعمل بهذا المعنی لکونه یفید معنی الضیق .

و أمّا العنوان الأخیر ، و هو عنوان العسر،

اشارة

فقد ورد فی الآیة الکریمة: یُرِیدُ اللّهُ

ص:101

بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ 1 جاء فی النهایة: أنّه ضدّ الیسر ، و هو الضیق و الشّدة و الصعوبة ، و کما هو واضح فإنّ هذه المعانی الثلاثة تعطی معنی واحد عبّر عنه بتعابیر شتّی .و ورد فی القاموس: العسر بالضم ضدّ الیسر ، و تعسّر علیه الأمر ، و تعاسر و استعسر ، اشتدّ و التوی ، الشّدة و الالتواء هو تعبیر آخر عن الضیق ، بدلیل أنّ صاحب النهایة أورد الضیق و الشدّة معاً ، و فی القاموس قال: اشتدّ و التوی و یومٌ عسر ، أی شدیدٌ أو شومٌ . إنّما جاء بالشؤم بلحاظ ما یرافقه من شدّة . فالشؤم عادةً یلازمه مصیبة ما و شدّة عبر عنها بالعسر . و هنا نری أنّ هذا العنوان هو الآخر یرادف الضیق .و ورد فی المفردات - و هو برأیی من أدقّ الکتب اللغویة - : أعسر فلان ، أی ضاق فلان ، و تعاسرا لقوم طلبوا تعسیر الأمر . و یوم عسیر یتعصّب فیه الأمر . ثمّ بعد أن أتی بلفظ یتعصّب . قال بعدها مباشرةً: ضاق: تعصّب فیه الأمر ، من هنا نجد أنّ صاحب النهایة استعمل الضیق و الشدّة و الصعوبة التی عبر عنها فی المفردات بالقول «یتعصّب فیه الأمر» فی ردیف واحد .إذن ، فما یفهم من اللغة أنّ عنوان الحرج ، و عنوان الإصر ، و عنوان العسر کلّها بمعنی واحد ، و هو الضیق ، و الضیق هو الرتبة العلیا من الصعوبة و الشدّة و ما شابه ذلک . و کما لاحظتم فی ما سبق فإنّ هناک جملة من الروایات فسّرت الحرج فی الآیة الکریمة بالضیق .لکن المحقّق النّراقی قدس سره فی کتابه «العوائد» یری أنّ العسر فی قوله تعالی:

وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ هو أعمّ من الضیق ، و النسبة بین الضیق و العسر هی العموم

ص:102

و الخصوص المطلق ، و کلّ ضیق یمکن أن نقول عنه أنّه عسر ، و لکنّ کلّ عسر لا ینطبق علیه أنه ضیق . و هناک مصادیق فی العسر ، لا ینطبق علیها الضیق ، ثمّ یورد عدّة أمثلة فی هذا المجال (1) ، فیقول: لو أنّ مولی من الموالی کان له عبد ، و أجبر هذا المولی عبده علی تناول دواء کریه . و لنفرض أن هذا الدواء کریه بدرجة أنه لا یوجد هناک انسان یرغب فی تناوله . هنا یتحقّق عنوان العسر ، فیقال : إنّ المولی أجبر العبد علی القیام بعمل شاقّ . و لکن فی نفس الوقت ، لا یعبّر عنه بأنه ضیّق علیه ، فلا یقال: إنّ المولی ضیق علیه بسبب شرب هذا الدواء .و مثال آخر: لو فرضنا أن هناک شخصاً یقوی علی حمل مائة کیلوغرام من الثقل ، و لیس بمقدوره أن یحمل أکثر من هذا الثقل ، فلو اعطی لهذا الشخص حمولة بوزن تسعین کیلو علی أن یحملها مسافة فرسخ واحد . هذا العمل علی حدّ تعبیر المرحوم النّراقی قدس سره هو عملٌ شاقّ . و لکن لو تکرّر هذا العمل منه ، بأن یقال له:

علیک أن تحمل هذا القدر من الثقل إلی المکان الفلانی یومیّاً . هذا التکرار للعمل یبدّل حالة العسر الذی کان علیها إلی ضیق . هنا یقال عنه: إنّ الأمر قد ضیّق علیه .من هنا یتضح لدینا أنّ هناک فرق بین العسر و الضیق . ما هو الملاک الذی استند علیه فی هذا المثال؟ هل هو اللغة أم العرف؟ فإذا کان الملاک فی الاختلاف المفروض هو اللغة ، فهذا ما أجبنا عنه فی خلال نقلنا لآراء کبار اللغویین . حیث لاحظنا أنّ الراغب فی مفرداته یصرّح بأنّ قوله : أعسر فلان ، نحو أضاق ، أی مثل أضاق فلان . و هنا لا یقصد أنّ هناک مماثلة أدبیّة و لغویة . إنّما هذه المماثلة هی مماثلة معنویّة . فقوله : أعسر فلان نحو أضاق ، أی مثل أضاق فی المعنی ، یعنی أنّ معنی أعسر هو نفس معنی أضاق ، فلو کان الملاک هو اللغة ، فإنّ تتبّع أقوال

ص:103


1- 1) . عوائد الأیّام : 62 .

اللغویین و التدقیق فی تعبیراتهم یؤکّد لنا أنّه لا یوجد هناک فرق بین العسر و الضیق ، و العسر لا یکون أعمّ من الضیق .

معنی العسر فی العرف العامّ

إذا قلتم أنّ الملاک فی ذلک هو العرف العامّ ، ففی حال مخالفة العرف العامّ للّغة ، ینبغی أن نحمل ألفاظ الکتاب و السنّة علی العرف العامّ ، بدلیل أن النّاس هم المخاطبون ، و أن الحدیث إنّما یدور مع الناس . بناءً علی ذلک ، إذا حصل هناک اختلاف بین اللغة و بین العرف ، أی بین الفهم اللغوی و الفهم العرفی ، فالملاک هو العرف . و العرف العامّ فی خصوص هذا المورد یری أن العسر أعمّ من الضیق .و فی معرض الرّد علی هذا الاستدلال نشیر إلی نقطتین هامتین: النقطة الأولی: إن التعبیر بالیسر و العسر فی الآیة الشّریفة جاء فی سیاق الحدیث عن الصوم . حین ابتدأت الآیة بالکلام عن الصوم و هو قوله تعالی: کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ ، و ورد فی تتمة الآیة: وَ مَنْ کانَ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ 1 و قلنا سابقاً فی تفسیر هذه الآیة ، أنّ قوله یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ إنّما هو لبیان الحکم الإثباتی ، أی الجانب الإثباتی فی الآیة ، و أمّا قوله وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ فهو بیان لجانب النفی الذی یتضمّنه الحکم الشرعی .بعبارة أوضح: إنّه إشارة إلی المریض و المسافر ، و أنّ اللّه سبحانه و تعالی أراد أن یعلّل عدم إیجابه للصوم فی شهر رمضان علی المریض و المسافر بأن قال:

وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ ، و أمّا قوله: یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ فهل المقصود منه أن

ص:104

یکون علّة لتعیّن وجوب الصوم فی شهر رمضان علی غیر المریض و المسافر . أو أنّه علّة فی وجوب الصوم فی عدّة أیّام اخر علی المریض و المسافر ، أو أنّه یمکن أن یکون تعلیلاً للموردین معاً ، أو أنّ الصحیح هو أن نقول بأنّ هذا القسم من الآیة:

وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ لا علاقة له بأصل الصوم ، و إنّما سیقت العبارة للتأکید علی فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ .و نلاحظ أنّ الآیة بعد أن صرّحت بأنّ المریض و المسافر علیهما أن یصوما فی وقت آخر ، قالت: یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ . فالآیة الکریمة ربطت بین الیسر و بین وجوب الصوم فی الأیام الاُخر .و سواء قلنا بأنّ قوله تعالی: وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ ناظرة إلی وجوب الصوم مطلقاً فی رمضان لغیر المریض و المسافر ، و فی غیر رمضان للمریض و المسافر ، أو أنّ العبارة جاءت فی خصوص وجوب الصوم علی المریض و المسافر فی عدّة من أیّام اخر ، فإنّ هذا القسم فی الآیة: یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ إنما جیء به للتعبیر عن وجوب الصوم فی شهر ما ، فهذا یسر فی قبال العسر . فالعسر هنا هل یمکن أن یکون بمعنی غیر معنی الضیق؟ و إذا قلنا ، أنّ أقلّ صعوبة و شدّة تسمّی عسر ، فأین یتحقّق الیسر الذی تشیر إلیه الآیة؟بناءً علی ذلک ، إذا أردنا أن نطرح مسألة العرف و نقول بأنّ الآیة ناظرة إلی العرف ، فلا بدّ أن ندقّق لنری فی أیّ مورد صرف اللّه سبحانه و تعالی کلمة الیسر ، و جعل العسر فی قبال الیسر؟ نقول: أوّلاً: إنّ نفس الآیة تشیر إلی ذلک المعنی ، حتّی لو لم یکن للّغة فی هذا المجال أیّ رأی ، و لم تتعرّض إلی هذا المعنی ، بل إنّ نفس قوله تعالی: یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ کفیل بحلّ المسألة . فقد عبر عن وجوب الصوم فی شهر رمضان بالیسر، مع أنّه أشکل و أعسر من حمل تسعین کیلو مع القدرة علی حمل مائة کیلو.

ص:105

ثانیاً: عرفنا فی خلال الروایات و اللغة أنّ الحرج بمعنی الضیق ، و قوله تعالی:

وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ ، إنّما هو بصدد بیان مسألة الضیق . و بناءً علی ما قیل من أنّ العُسر أعمّ من الضیّق ، ، فإنّ الآیة الکریمة وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ ناظرة إلی معنیً أوسع و أعمّ ، فیشمل الضیق ، کما أنه یشمل غیره من الموارد من مصادیق العسر . أی أنّ عنوان نفی العسر - إن صحّ التعبیر - أعمّ من عنوان نفی الحرج . و بناءً علی ذلک قد یری البعض وجاهة الرأی الذی أشار إلیه المرحوم المیرزا الآشتیانی قدس سره من أنّ الآیتین لا تنافی بینهما . فکلا الآیتین جاءتا بصیغة النفی من دون أن تکن هناک منافاة بین الآیتین ، و کأنّ الآیتین قد جاءتا بصیغة الإثبات .کما أنّه لا یمکن حمل أحدهما علی الاُخری ، لأنّه لا توجّه هناک آیة مقیّدة و اخری مطلقة .و لمّا لم یکن هناک تنافٍ بین الآیتین ، أمکن أن نقول : إن آیة: وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ أعمّ من الآیة الاُخری . و بعبارة اخری : إنّ قاعدة نفی العسر أعمّ من قاعدة نفی الحرج .و لنا أن نقول: إنّه لیس ممکناً أن نتوصّل إلی هذه النتیجة . لأنّ فی بحث المطلق و المقید ، عند ما یکون هناک توافق من حیث الإثبات و النفی ، قال الأصحاب إنّه حتّی لو استفدنا وحدة الحکم من طریق وحدة السبب فهذا من قبیل حمل المطلق علی المقید . فمثلاً إذا کان هناک دلیل مفاده: إن ظاهرت فأعتق رقبة ، و وجد دلیل آخر فحواه: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة . فهنا وحدة السبب - و هو الظهار - تکشف عن أنّ الحکم هنا واحد لا أکثر ، و الحکم الواحد لا یکون مقیّداً و مطلقاً فی آنٍ واحد .إذن لا بدّ لنا أن نحمل المطلق علی المقیّد . و حتّی لو استفدنا وحدة الحکم من

ص:106

الخارج ، فهذا لا یغیّر حکم المسألة .و بناءً علی ما تقدّم فی باب المطلق و المقیّد نقول: إنّ القرآن الکریم یستعمل تعبیرات شتّی فی بیان مقصوده ، و هذا ما نجده فی الآیات التی استعرضناها سابقاً و التی تشکّل محور بحثنا هذا . و هی قوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ و وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ و وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا فجمیع هذه الآیات تستهدف معنی واحد ، و بناءً علی ذلک و حتّی لو سلّمنا بأنّ العسر أعمّ من الضیق ، لا بدّ و أن نأخذ بالمقیّد ، لأنّنا نعلم أنّه لا توجد لدینا مسألتان ، مسألة نفی العسر و مسألة نفی الحرج ، و إنّما هناک مسألة واحدة عبر عنها بتعبیرات مختلفة . و من هنا یتعیّن علینا أن نأخذ بالقدر المتیقّن ، و هو الحرج و الضیق . فالقاعدة سواء عبّرت عنها بقاعدة الحرج ، أو نفی العسر ، أو قاعدة نفی الإصر - عبر عنها بما شئت - إنّما مدار البحث فیها هو الضیق .

مفاد القاعدة

نسبة قاعدة لا حرج إلی (قاعدة لا ضرر):

اشارة

بعد ما تبیّن ثبوت قاعدة «لا حرج» فی الجملة و المراد من العناوین المذکورة فی خطاباتها لا بدّ لنا من البحث فی مفاد القاعدة و أنّه هل یجری فیها الاختلاف الواقع فی مفاد قاعدة لا ضرر أو لا یجری و نقایس بین قاعدة لا حرج و قاعدة لا ضرر . خاصّة إذا عرفنا أنّ هناک احتمالات متعدّدة تطرح فی قاعدة لا ضرر ، لنری هل أنّ قاعدة لا حرج هی مثل قاعدة لا ضرر . أی أنّها غیر محدّدة المعنی . أو أنّ قاعدة لا حرج لها معنیً محدّد ، و لا تحتمل وجوه و احتمالات متعدّدة کما هو الحال بالنسبة لقاعدة لا ضرر؟!و لکی تتّضح عملیّة المقایسة بین القاعدتین لا بدّ من إشارة سریعة للمعانی المختلفة فی قاعدة لا ضرر .

ص:107

الآراء الأربعة فی مدلول «لا ضرر»

توجد هناک أربعة آراء مهمّة فی خصوص هذه القاعدة . و تبحث هذه الآراء فی کلمة «لا» الموجودة فی العبارة «لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام» هل هی «لا» نافیة ، أو هی ناهیة؟ هناک رأیان من هذه الأربعة یذهبان إلی أنّ «لا» هذه تفید النفی ، أحد هذین الرأیین هو للشیخ الأنصاری أعلی اللّه مقامه (1) ، و الآخر للمرحوم المحقّق الخراسانی قدس سره فی کتاب الکفایة (2) .و أمّا الرأیان الآخران فمفادهما: أنّ «لا» تفید النهی . أحدهما للمرحوم شیخ الشریعة الأصفهانی قدس سره و الآخر لسیّدنا الاُستاذ الإمام الخمینی قدس سره ، و هناک آراء اخری فی هذا المضمار لیست ذات أهمیّة .یقول الشیخ الأنصاری قدس سره فی کتابه الرسائل: إنّ عبارة «لا ضرر» تفید الإخبار «ذلک لأنّ النفی یفید الإخبار» و معناها أنّه لا ضرر فی الإسلام . فالمعنی أنّه لم یجعل فی الإسلام حکمٌ یوجب تحقّق الضرر ، بل إنّ الشیخ یتوسّع فی ذلک فیقول: إنّ عبارة «لا ضرر» تفید عدم الحکم أیضاً ، و تخبر عنه فی حال کون عدم الحکم موجباً للضرر أو یساعد علی الضرر . أی أنها تنفی عدم الحکم . و مثال ذلک لو فرضنا أن الوضوء أصبح مضرّاً بتمام معنی الضرر . و لنفرض أنّ فیه ضررٌ مالی ، کأن یقال لشخص ما: أعطنا ملیون تومان لنعطیک ماءً تتوضّأ به ، فلو باع جمیع ما لدیه لما تمکّن من أن یوفّر هذا القدر فی المال . فیلزم وجوب الوضوء علی هذا الشخص الضرر التّام .و أمّا المثال علی عدم الحکم ، فیفرض الشیخ الأنصاری قدس سره هذا الفرض ، و هو أنّه لو لم یکن هناک فی الإسلام خیار باسم خیار الغبن ، فإنّ عدم جعل الخیار هذا

ص:108


1- 1) . فرائد الاصول 2 : 460 .
2- 2) . کفایة الاصول : 381 .

بالنسبة للمغبون فی المعاملة یکون ضرریاً . هنا بناءً علی قاعدة لا ضرر ، یثبت الخیار .إذن ، رأی الشیخ الأنصاری قدس سره هو أن ما یأتی بعد «لا» النافیة هو صیغة للحکم المحذوف ، أی أنّ «لا ضرر» تعنی لا حکماً ضرریاً ، لا عدم الحکم الضرری ، أی لا یمکن أن ینتفی الحکم إذا کان انتفاؤه ضرریّاً . ثمّ یفسّر قاعدة «لا ضرر» بالمعنی التالی: و هو أنّکم أینما وجدتم حکماً یستلزم الضرر ، فلا بدّ أن تستدلّوا بالقاعدة بأنّه لا وجود لهذا الحکم ، و إذا رأیتم أنّ عدم الحکم ، أی انتفاء الحکم یستدعی الضرر فلا بدّ و أن تحکموا استناداً إلی القاعدة أنّ عدم الحکم غیر متحقّق ، بل إنّ هناک حکماً قد تحقّق .

النفی الحقیقی و الادّعائی

و یتّفق المرحوم المحقّق الآخوند قدس سره فی کتابه «الکفایة» مع المحقّق الشّیخ الأنصاری قدس سره فی أنّ «لا» هنا ، نافیة ، و لکنّه یفسّر العبارة بطریقة متفاوتة فیقول:

لدینا استعمالات کثیرة تشبه إلی حدٍّ ما عبارة «لا ضرر فی الإسلام» و هذه الاستعمالات علی نوعین: البعض منها علی نحو الحقیقة ، و البعض الآخر مبتنیة علی الادّعاء و الزعم لیس إلّا. فمثلاً إذا لم یکن هناک رجلٌ فی الدار و أردت أن تخبر عن ذلک فتقول: لا رجل فی الدار . هنا أنت تنفی حقیقة کون رجلٍ فی الدار . و نفی الحقیقة هذا «علی حدّ تعبیر المرحوم الآخوند قدس سره » إنّما یبیّن علی نحو الحقیقة . فعند ما لا یکون هناک رجلٌ فی الدار ، و أردت الإخبار عن ذلک بقولک «لا رجل فی الدار» هنا نفیت الرجولیة فی الدار علی نحو الحقیقة ، و لیس علی نحو الزعم و الادّعاء .و لکن هناک استعمالات من نوع آخر ظاهرها نفی الحقیقة ، و لکن بعد النظر و الإمعان نری أنّ نفی الحقیقة فی هذه الاستعمالات لیس علی نحو الحقیقة و إنّما علی

ص:109

نحو الادعاء . و مثال ذلک قول أمیر المؤمنین علیه السلام : «یا أشباه الرجال و لا رجال» (1) .فهنا الإمام علیه السلام ینفی عنوان الرجال و حقیقة الرجال . و لکن هذا النفی لا علی نحو الحقیقة ، بل علی نحو الادّعاء . أی أنّه إذا وجد هناک رجال ، و لکن لم یلمس فیهم خصال الرجال ، من قبیل الحمیّة و الغیرة و الشهامة و الشجاعة ، حینئذٍ یمکن أن یقال علی نحو الادّعاء «لا رجال» لا علی نحو الحقیقة . یقول المرحوم الآخوند قدس سره :

إنّ عبارة «لا ضرر فی الإسلام» هی من قبیل قول الإمام علیه السلام «لا رجال» فالإسلام یرید أن یبیّن هذه الحقیقة ، و هی أنّ الآثار و الصفات المترتّبة فی الموارد الضرریّة «هنا یقع المرحوم فی مغالطة و لسنا هنا بصدد بیان هذه المغالطة» من قبیل الوضوء الضرری و الغسل الضرری تنتفی ، و حینئذٍ لا یبقی هناک وضوء و لا غسل . أی أنّ الوضوء إذا خرج عن کونه حکماً و انتفت منه صفة المقدّمیة للواجب لا یعدّ وضوءاً .و بعبارة اخری: الوضوء مع احتمال الضرر لیس بوضوء . لانعدام آثار الوضوء من قبیل الوجوب و المقدمیّة للصّلاة .و نلاحظ علی المرحوم المحقق الآخوند قدس سره بالإضافة إلی مغالطته ، أنّه یری أنّ الآثار و الصفات المترتّبة علی الموارد الضرریّة تنتفی بقاعدة لا ضرر . فوجوب الوضوء مثلاً ، إذا کان ضرریّاً فإنّ قاعدة لا ضرر تأتی و تنفی هذا الوجوب کمقدّمة للصلاة . إذن ، فی الحقیقة هو یفسّر «لا» بأنّها نافیة ، و لکنّه لا یوجّه النفی إلی الحکم مباشرةً ، بل یوجّه حکم النفی باتّجاه الموضوع الضرری و یقول: إنّ حقیقة هذا الموضوع منتفیة ، أی ینفی ماهیّة الوضوء باعتبار أنّ الوضوء الضرری لا یتحقّق فیه آثار و صفات الوضوء .

ص:110


1- 1) . کفایة الاصول : 381 . و راجع نهج البلاغة ، الخطبة : 27 .

إلی هنا ننتهی من بیان رأی هذین العلمین ، و ننتقل الآن إلی من قال بأنّ «لا» فی قاعدة لا ضرر تفید النهی .

رأی الشیخ الشریعة المحقق الأصفهانی قدس سره :

و لشیخ الشّریعة المحقق الأصفهانی قدس سره فی هذا المضمار کلام صریح حیث یقول:

إنّ قاعدة «لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام» معناها أنه لا یحقُّ لأحدٍ فی الإسلام أن یلحق الضرر بالآخرین . و هذا نهیٌ و خطابٌ تکلیفی . ثمّ یذکر عدّة آیات تشابه فی دلالتها علی النهی قاعدة لا ضرر منها قوله تعالی: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِی الْحَجِّ 1 .فهنا لا رفث یعنی: یحرم الرفث فی الحجّ ، یحرم الفسوق فی الحجّ ، یحرم الجدال فی الحجّ . و یقول قدس سره : إنّ قاعدة لا ضرر فی الإسلام هی ینفی هذا المعنی ، أی یحرم الضرر . ف«لا ضرر» تدلّ علی أنّ هناک تکلیف من قبل الباری مفاده: أنّ إضرار المسلم بأخیه المسلم هو من الأعمال المحرّمة إلی یوم القیامة (1) .

الإمام الخمینی و النهی الولائی

و أمّا الإمام القائد قدس سره فیری أیضاً أنّ قاعدة «لا ضرر فی الإسلام» تفید النهی أیضاً . و یعتقد أنّ النهی هنا هو من باب حرمة الضرر فی الإسلام . لکنّه یقول: إنّ حرمة الإضرار هذه لا یکون حکماً إلهیّاً ، بل إنّ الحرمة هنا هو حکم ولائی من قبل الرسول . فالرسول له شئون مختلفة ، منها النّبوة و الوساطة فی البلاغ عن اللّه سبحانه و تعالی ، و للرسول عنوان آخر ، و هو کونه حاکم علی المسلمین . و بناءً علی

ص:111


1- 2) . قاعدة لا ضرر و لا ضرار ص37 ، الفصل الثامن ، (ط) مؤسسة آل البیت .

ذلک له الحقّ فی أن یتدخّل فی امور المسلمین و یحکم بما یراه ، لأنّه ولیّ أمر المسلمین .و هذا ما نراه واضحاً فی قضیّة سمرة بن جندب ، حین تدخّل الرسول الأکرم قدس سره و حکم لصالح الرجل الأنصاری ، لأنّ سمرة کان یدخل دار الأنصاری دون أن یستأذن ، أو یعلم الرجل الأنصاری و زوجته حین دخوله . و هذا ما یسبّب إحراجاً للأنصاری و زوجته التی فوجئت أکثر من مرّة بدخوله و هی علی غیر حجاب ، فطلب منه أن یستأذن و یُعلم من فی الدار بدخوله فأبی بحجّة أنّ النخلة فی دار الرجل الأنصاری ملکه ، و من حقّه أن یأتی إلیها متی ما شاء ، و بعد أن شکا الرجل الأنصاری إلی الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله أحضر الرسول سمرة ، و خاطبه بلین فی أن یستأذن قبل أن یدخل الدار ، فلم یقبل ذلک .فطلب منه صلی الله علیه و آله أن یبیعها بأکثر من ثمنها ، و أبدی استعداده لشراء النخلة منه مهما کان الثمن . و قال له: أعوض نخلتک هذه بنخلة فی الجنّة . و لکن سمرة بن جندب رفض هذه العروض ، هنا التفت الرسول صلی الله علیه و آله إلی الرجل الأنصاری و قال له: أذهب و أقطعها فلا ضرر فی الإسلام (1) .من وجهة نظر الإمام الخمینی قدس سره فإنّ لا ضرر لیس حکماً تحریمیاً مثل «لا تشرب الخمر» ، أی أنه لیس حکماً تحریمیاً ثابتاً إلی یوم القیامة . بل هو حکم ولائی یدخل ضمن المهامّ الحکومیّة للرسول صلی الله علیه و آله شرّعه الرسول حفاظاً للنظام الموجود فی مجتمعه صلی الله علیه و آله آنذاک . و من هنا فإنّ مقولة «لا ضرر» علی رأی سیّدنا الإمام قدس سره لا تفید الفقه لا من قریب و لا من بعید . کما أنّه یعتقد بضرورة فصل هذه المقولة عن فقهنا .

ص:112


1- 1) . وسائل الشیعة 25 : 429 ، باب عدم جواز الإضرار بالمسلم ، الحدیث 1 و 3 و 4 .

و من هنا یمکن أن نقول: أنّ قاعدة لا حرج تمتاز علی مقولة لا ضرر بأنّها لا یصدق فیها هذا الکلام .

الأقوال الأربعة و قاعدة نفی الحرج

هنا قد یتساءل: هل تجری هذه الأقوال الأربعة فی قاعدة نفی الحرج جمیعها ، أولاً ؟ .فی الجواب علی ذلک نقول: إنّ القولین اللذین یعتبران أنّ «لا» فی «لا ضرر» ناهیة ، و یفسّران القاعدة علی هذا الأساس لا یمکن تسریتهما فی قاعدة لا حرج ، لأنّ قاعدة «لا حرج» تتضمّن «ما» و لا توجد فیها «لا» کی یتردّد فی شأنها: هل هی «لا» ناهیة أم نافیة؟أضف إلی ذلک أنّ ظهور العبارة یفید الاخبار و الحکایة . و لا یمکن أن نتصور أنّ مفاد قوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ هو جملة إنشائیة .

إذن ، هذان الرأیان لا یردان فی هذه القاعدة ، و أمّا بالنسبة للتعبیرات الاُخری من قبیل وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ بمعنی أنّ اللّه عزّ و جلّ أراد أن ینفی إرادة الإعسار بکم ، فلا معنی للنهی . صحیح أن هناک «لا» قد وردت ، لکنّها نافیة و لیست ناهیة .و الآیة الاُخری التی لا بدّ من التوقّف عندها هی قوله تعالی علی لسان الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله : وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا . هذه الآیة جاءت بصیغة الدعاء و الطلب . و بناءً علی القواعد اللغویة و الأدبیة فإنّ «لا» هنا ناهیة ، و لذا جزمت الفعل المضارع . و لکن هذا لا یعیّن أنّ السیاق فی هذه الآیة یفید النهی الوارد علی لسان الرسول بصیغة الدعاء . أی أنّ القاعدة لیس مفادها «لا تحمل» . بل مفادها هو الاستجابة ، کما أشرنا إلی ذلک فیما سبق . حیث قلنا : إنّ

ص:113

سیاق الآیة یشعرنا أنّ الدعاء قد استجیب . و أنّ اللّه تبارک و تعالی لم یحمل الإصر .

و هذا یعنی أنّ الجملة خبریّة و لیست إنشائیّة .من هنا نلخّص إلی هذه النتیجة ، و هی أنّ الآیات الواردة فی قاعدة لا حرج ، لا یمکن أن نستفید منها المفهوم الذی یستخلصه شیخ الشریعة الأصفهانی قدس سره من قاعدة لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام .

هل یمکن الاستفادة من القرآن فی الأحکام الولائیة؟

و یتّضح رأی الإمام قدس سره فی هذه المسألة من خلال وجهة نظره فی خصوص قاعدة لا ضرر ، إذ أنّ قاعدة لا حرج مستندة إلی القرآن الکریم ، أی أنّها کلام اللّه ، بخلاف قاعدة لا ضرر التی لا تستند إلی أصل قرآنی ، بل هی قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی قضیّة سمرة بن جندب . و لو کانت قاعدة لا ضرر تستند إلی أصل قرآنی لما اعتبرها السیّد الإمام قدس سره حکماً ولائیّاً .إذن ، قاعدة نفی الحرج لا تشملها مقولة الإمام قدس سره فی خصوص قاعدة لا ضرر ، لأن أدلّة قاعدة الحرج ، مأخوذة من فی القرآن الکریم . و لیست حکماً ولائیّاً کما هو الحال فی قاعدة لا ضرر . و الحکم الولائی لرسول اللّه صلی الله علیه و آله لا دلیل علیه من القرآن إلّا أنّ القرآن الکریم قد یذکر حکماً ولائیّاً من باب الحکایة عنه . أی أنّه قد یذکر بعض المسائل من قبیل الحکایة ، لا بمعنی أنه یتبنّی تلک المسائل بنفسه ، بناءً علی ذلک لا یمکن طرح أیّاً من مبنیی المرحوم شیخ الشّریعة الأصفهانی قدس سره و السیّد الإمام قدس سره الوارد فی لا ضرر ، فی قاعدة لا حرج .و أمّا الرأی الآخر و الذی یتبنّی علی أساس أنّ «لا» فی لا ضرر هی نافیة ، و عبّر عنه ببیانین: أحدهما للشیخ الأنصاری أعلی اللّه مقامه - و الآخر للمحقّق الخراسانی قدس سره فی کتاب الکفایة ، و السؤال الذی یطرح نفسه هو: هل یصدق کلا

ص:114

المعینین فی قاعدة لا حرج ، أو لا یصدق؟نأتی للتفسیر الذی طرحه الشیخ الأنصاری قدس سره فی خصوص قاعدة لا ضرر .

یقول الشیخ: إنّ الضرر هنا هو صفة للحکم الإسلامی ، أی للوجوب و ما یشابه الوجوب ، معنی قوله لا ضرر هو أنّ الإسلام یشرع فیه حکم ینشأ منه . هل هذا المعنی ینطبق مع قوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ .یظهر لأوّل وهلة أنّ هذا المعنی یمکن تطبیقه علی قاعدة نفی الحرج ، و مطابقته لهذه القاعدة أجلی و أوضح من مطابقته علی قاعدة لا ضرر . لأنّه بناءً علی مبنی الشیخ قدس سره لا بدّ و أن نلتزم بالحذف بأن نقول : هناک محذوف ، فلا ضرر یعنی:

لا حکم ینشأ منه الضرر ، أمّا فی وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ لا داعی للحذف . لأنّ قوله «ما جَعَلَ» یعنی ما شرع لکم فی الدین . و یستشعر من کلمة «فِی الدِّینِ» أنّ المقصود هنا هو الوظائف و التکالیف العملیّة . صحیح أنّ الدین هو مجموعة من اعتقادات و واجبات ، و لکن یفهم من السیاق أنّ هناک تأکیداً علی الوظائف العملیّة خاصّة . بمعنی أنّ اللّه تبارک و تعالی لم یجعل علیکم فیما قرّره من التکالیف من حرج ، فواضح أنّ المعنی مطابق لمنطوق الآیة ، و لا یلزم أن نقدّر کلمة ، کأن تکون کلمة «حکم» مثلاً . أی أنّ ما قاله الشیخ الأنصاری قدس سره فی خصوص قاعدة لا ضرر تدلّ علیه الآیة فی قاعدة لا حرج بوضوح . فقد یجد من لا یقبل بالمعنی الذی یطرحه الشیخ فی خصوص قاعدة لا ضرر ، إلّا أنه لا یمکن أنّ نتصوّر أن هناک أحداً یرفض الظهور الذی تدلّ علیه الآیة فی قاعدة لا حرج .إذن ، ما بیّنه الشیخ سابقاً ممکن تصوّره بسهولة و أوضح من ذی قبل فی قاعدة لا حرج .

ص:115

النفی الادّعائی و قاعدة نفی الحرج

و أمّا علی أساس مبنی المحقق الخراسانی قدس سره الذی کان یری أنّ «لا ضرر» علی نحو نفی الحقیقة ، فکلمة الضرر اخذ فیها لحاظ الماهیّة ، و «لا» تدلّ علی النفی أی تنفی هذه الحقیقة . و لکن المرحوم اعتبر فی نفی الحقیقة لحاظین: فتارةً یکون نفی الحقیقة علی نحو الحقیقة ، و تارةً علی نحو الادّعاء ، فهو یعتبر «لا ضرر» تفید نفی الحقیقة ، و لکن لا علی نحو الحقیقة ، و إنّما علی نحو الادّعاء . إذن ، لا ضرر یعنی لا وضوء مع الضرر ، أی أنّ آثار الوضوء کالوجوب و المقدّمیة تنتفی ، فلا یکون واجباً و لا یکون مقدّمة للصلاة ، بل ینتقل إلی التیمّم .من هنا یتبیّن لدینا أنّ نقطة الارتکاز فی کلام الآخوند قدس سره هی نفی الحقیقة ادّعاءً ، و الآیة لا تفید نفیاً للحقیقة من الأساس ، و فرضاً لو أخذنا بکلام المحقق الخراسانی قدس سره فی خصوص لا ضرر ، فهل بالإمکان أن نطبق کلامه هذا فی خصوص قاعدة لا حرج؟و الجواب: کلاّ ، لأنّ محلّ الکلام هنا مباین لما هو علیه من قاعدة لا ضرر ، و التعبیر هناک فی قاعدة لا ضرر یبتنی علی أساس نفی الحقیقة ، و أمّا هذه القاعدة فتفید الإخبار عن عدم الحکم . و الإخبار عن عدم الحکم هو من مهامّ اللّه تبارک و تعالی ، کما أنّ ثبوت الحکم أیضاً هو من مهامّ الباری عزّ و جلّ . و هذا بخلاف ما لو ارید طرح موضوع من المواضیع علی نحو نفی الحقیقة ، فیأتی الکلام فیه: هل هذا النفی للحقیقة علی نحو الحقیقة ، أو علی نحو المجاز و المسامحة؟ و الکلام فی قاعدة لا حرج یلحظ فیه نفی الحقیقة من الأساس . و الحاصل أنّ اللّه سبحانه و تعالی یرید أن یخبرنا بعدم الجعل .و یظهر من خلال ذلک أنّ رأیاً واحداً من مجموع الأربعة الآراء التی استعرضناها یمکن أن ینطبق علی قاعدة لا حرج بطریق أولی و أوضح من انطباقه

ص:116

علی قاعدة لا ضرر ، و بناءً علی هذا الرأی ، أمکن القول أنّ مفاد وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ أن اللّه تبارک و تعالی لم یقرّ جعلاً ینشأ منه الحرج .

الثمرة علی اختلاف المبانی:

هنا لا بدّ فی التوقّف عند نقطتین: النقطة الاُولی: هی أنّنا لو فرضنا أنّ المعنی الذی أشار إلیه المحقّق الخراسانی قدس سره فی خصوص قاعدة لا ضرر یمکن أن یصدق هنا أیضاً ، فقوله «ما جعل» علی أنها تفید نفی الحقیقة . و کأنّ آیة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ هی بمعنی: لیس فی الدین وضوء حرجی . فإذا حملناها علی هذا المعنی ، فهل هناک ثمرة بین هذا المعنی و المعنی الظاهری .ذکر المرحوم البجنوردی قدس سره فی کتابة القواعد الفقهیة فی قاعدة لا حرج ، ثمرة علمیة مبتنیة علی أساس کلام المرحوم الشیخ الأنصاری قدس سره المحقق الخراسانی قدس سره إذا أردنا تطبیق کلامهما علی قاعدة لا حرج . و الثمرة هی أن المرحوم الآخوند قدس سره فی الکفایة فی بعض الموارد استفاد من قاعدة لا حرج فی إبطال وجوب الاحتیاط العقلی .بعبارة اخری: هناک بعض الموارد التی مع فرض عدم وجود قاعدة لا حرج ، یحکم العقل فیها بالاحتیاط . و من هذه الموارد الشبهات غیر المحصورة .و نعنی بالشبهات غیر المحصورة إنّک لو علمت علماً إجمالیّاً بأنّ أحد أفراد الخبز فی المدینة طبخ من طحین نجس و لنفرض أن الطحین کان یحوی علی فضلة فأر ، و تعلمون أنّ فی الشبهة المحصورة یحکم العقل بوجوب الاحتیاط ، و بالتالی بوجوب الاجتناب فی جمیع أطراف العلم الإجمالی . و الشبهات غیر المحصورة حکمها الأوّلی هو نفس هذا الحکم . إذ أنّ العلم الإجمالی لا یختلف عن العلم

ص:117

التفصیلی من حیث منجزیّته . فکما أنّ العلم التفصیلی منجّز ، العلم الإجمالی هو أیضاً منجّز ، فلو تحقّق العلم الإجمالی بالحرمة ، فإنّ العقل یحکم بلزوم الاجتناب إذا کانت أطراف العلم الإجمالی محصورة ، و یحکم بلزوم الاحتیاط إذا کانت أطراف العلم الإجمالی غیر محصورة ، إلّا أن المرحوم المحقق الخراسانی قدس سره یقول بأنّه من الممکن أن نرفع الید عن لزوم الاحتیاط بقاعدة نفی العسر و الحرج .و من هنا وجد التباین بین الشبهة المحصورة و غیر المحصورة . لأنّ لزوم الاحتیاط فی الشبهات المحصورة لا یستلزم العسر و الحرج . أمّا فی الشبهات غیر المحصورة فإنّ لزوم الاحتیاط یسلتزم العسر و الحرج . و لذلک نرفع الید عن هذا اللزوم . و نقول: لا یلزم علیک أن تحتاط . و أمّا القدر الذی یمکن أن یرتفع ، فهذا خارج عن دائرة البحث ، بل إنّ المرحوم الخراسانی قدس سره یذهب إلی أکثر من ذلک ، و هو أنّنا لا نرفع الید عن لزوم الاحتیاط استناداً إلی قاعدة نفی الحرج فحسب ، بل نجعل هذا المعنی هو الملاک فی الشبهة غیر المحصورة .إذن ، المرحوم المحقق الخراسانی قدس سره یرفع لزوم الاحتیاط فی الشبهة غیر المحصورة بقاعدة العسر و الحرج .و هنا یُطرح هذا السؤال علی المرحوم الخراسانی قدس سره : ما هو التعریف الذی عرفت به قاعدة نفی العسر و الحرج و الذی یمکن من خلاله رفع الید عن لزوم الاحتیاط العقلی مع کونه حکماً عقلیاً بالتمسّک بقاعدة نفی الحرج؟من وجهة نظرنا فإنّ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ غیر خارجة عن دائرة الأحکام الشرعیّة . فالفعل «جعل» فاعله هو «اللّه» أی: ما جَعَلَ اللّه عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ ، و قاعدة لا حرج تقول: إنّ الحکم الشرعی إذا استلزم الحرج فإنّ هذا الحکم حینئذٍ غیر مجعول من قبل الباری عزّ و جلّ .و من هنا فی الشبهات غیر المحصورة نسأل الآخوند قدس سره عن رأیه فی قاعدة لا

ص:118

حرج ، و کیف یفهمهما؟ لأنّ الموجود فی الکفایة هو تفسیره لقاعدة لا ضرر ، و أمّا قاعدة لا حرج فلا ندری ما هی وجهة نظره فیها .فإذا کان یری أن قاعدة لا حرج تساوق قاعدة لا ضرر من حیث المعنی ، فهذا یعنی أنّه لا یمکن الجمع بین فتواه فی خصوص الشبهة غیر المحصورة ، و بین المعنی الذی یأخذ به فی خصوص القاعدة . لأنّه استناداً علی مبناه ، فإنّ ما یمکن أن نستفیده من الآیة فی المثال أنّ هناک علماً إجمالیاً بالنجاسة فی الأطراف غیر المحصورة ، إذاً ، لا نجاسة ، و کأنه لا توجد هناک أیّة نجاسة ، حیث تنفی حقیقة وجود النجاسة . لتحقّق الحرج . فالآخوند قدس سره ینفی النجاسة المتردّدة بین الأطراف غیر المحصورة ، أی ینفی موضوع النجاسة لما یلزم منها الحرج . و لکن النجاسة بنفسها لا یلزم منها الحرج ، و إنّما لزوم الاحتیاط فی النجاسة هو یلزم الحرج . فلو لم یلزم عن العلم الإجمالی الاحتیاط العقلی ، لما وقعنا فی الضیق و الحرج ، حتّی مع بقاء العلم الإجمالی بالنجاسة علی قوّته . و فی الردّ علی ذلک نقول: أوّلاً: إنّ قاعدة الحرج لا تستلزم حکماً عقلیاً . ثانیاً: إنّ الأثر المترتّب علی النجاسة أثر شرعی ، و لزوم الاحتیاط العقلی یستلزم الحرج ، و بناءً علی ذلک إذا أراد المرحوم الآخوند قدس سره أن یطبق مفاد قاعدة لا ضرر فی خصوص قاعدة لا حرج ، أی یرفع لزوم مراعاة الاحتیاط بقاعدة لا حرج ، لزم من ذلک التناقض مع ما قلناه من أنّ قاعدة لا حرج لا تستلزم حکماً عقلیاً . و أمّا علی ما نقول به نحن ، فیمکن أن نوفّق بینهما . لانّنا نناقش الموضوع علی الأساس الحکم الشرعی ، فمثلاً ، إذا اختلطت فضلة الفأرة بالطحین فی أحد أفراد الخبز ، و استلزم الحکم بنجاسة فضلة الفأرة لزوم الاحتیاط ، حینئذٍ یمکننا القول أنّ الحکم بالنجاسة یلزم عنه الحرج ، و هنا یتدخّل الشارع انطلاقاً من قوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ و یرفع الحکم بالنجاسة .

ص:119

آیة الحرج و مفهوم الوصف

و الآن نبحث هذه القاعدة من زاویة اخری ، فنقول هل الحرج الموجود فی الآیة ینطبق علیه عنوان الوصف؟ و إذا کان کذلک فما هو الموصوف؟الموصوف هو الحکم ، فقوله: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ یعنی ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حکم حرجی ، فهل الحرج هنا صفة و نعت للحکم ، أو أنّ الحرج صفة لفعل المکلّف ، أی ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ من فعل حرجی و عمل حرجی؟ فإذا جعلنا الحرج صفة للفعل ، حینئذٍ یکون «وَ ما جَعَلَ» بمثابة ، ما أوجب ، یعنی: ما أوجب اللّه علیکم فی الدین فعلاً حرجیّاً ، و لقائل أن یقول: ما الداعی لإثارة مثل هذا الاستفهام و الخوض فیه؟و الذی یدعونا لإثارة هذه النقطة ، هو أنّنا عادة ما نواجه حرجاً فی موارد متعدّدة ، و علیه لا بدّ أن نشخّص ما هی الاُمور التی تستدعی الحرج ، هل التوضؤ أو الاغتسال فی جوّ شدید البرودة هو من الحرج؟ فإذا قلنا بذلک فمؤدّی ذلک أنّ الأمر الحرجیّ هو ما کان یحسب حرجیّاً فی الخارج ، أی أنّ عمل المکلّف قد یسبّب حرجاً ، و هذا یستدعی أن نعتبر الحرج فی الآیة الکریمة صفة للفعل ، و إذا جعلنا الحرج صفة للفعل فیکون معنی الآیة: ما أوجب اللّه علیکم فعلاً حرجیّاً ، و ما أوجب اللّه علیکم وضوءاً حرجیّاً .و لکن هذا الفهم للآیة غیر موافق لظاهرها ، لأنّ عبارة «مِنْ حَرَجٍ» فی الحقیقة حلّت محلّ مفعول مطلق نوعی ، فلو أردنا أن نمعن النظر فی الآیة من الناحیة الأدبیّة یبدو أنّ الحرج یتعلّق بالفعل . أی أنّ الحرج صفة للفعل . فهو مفهوم نوعی مطلق ، هنا لا بدّ من الإجابة علی هذا السؤال ، و هو: هل المجعول الذی دلّ علیه فعل «جَعَلَ» هو نفس فعل المکلّف ، أو أنّ المجعول هو عبارة عن الحکم الشرعی؟ أی أنّ ما جعله اللّه تبارک و تعالی هو جعل الإیجاب کوجوب الوضوء ،

ص:120

أو الوضوء بذاته غیر مجعول من قبل اللّه ، و بغضّ النظر عن أنّ الوضوء یتضمّن حقیقة شرعیّة ، فإنّ مواضع أفعال المکلّف لیست من المجعولات الشرعیّة . فلیس بمقدورنا أن نقول بأنّ اللّه تبارک و تعالی جعل الوضوء ، ثمّ نفسّر جعل الوضوء بمعنی أنّه أوجب الوضوء . و الصحیح أن اللّه جعل وجوب الوضوء ، و لذلک نری أنهم یعبّرون عن الأحکام التکلیفیّة بالمجعولات الشرعیّة . ففی شرب الخمر هل من الصحیح أن نقول: جعل شرب الخمر؟قد یقال: إنّ الجعل فی الواجبات التی لیس لها أیّة حقیقة شرعیة یستعمل کذلک ، فهل من الصحیح أن نقول: إنّ الشارع جعل ردّ السّلام ، أو أنّ الصّحیح هو أنّ الشّارع جعل وجوب ردّ السلام ، فمجعول الشارع هو وجوب ردّ السلام لا ردّ السلام بذاته ، ردّ السلام فعل للمکلّف ، و هو أمر تکلیفی و حقیقة خارجیة . أمّا ما یتعلّق بالشارع بما أنّه جاعل فهو الحکم المتعلّق بردّ السلام ، أی وجوب ردّ السلام .إذن ، لا معنی لأن نعلّق الجعل علی الوضوء فنقول: جعل الوضوء ، و من ثمّ نقول: جعل الوضوء یعنی وجوب الوضوء . فالأحکام التکلیفیّة هی المجعولة شرعاً ، و أمّا متعلّقاتها فلیست مجعولة .و السبب فی إثارتنا لهذه النقطة التی هی خارجة عن دائرة بحثنا هو أنّهم قالوا:

لا بدّ من تشخیص موارد الحرج فی الخارج ، فالوضوء بالماء البارد فی فصل الشتاء ممّا یستدعی الحرج ، و بناءً علی ذلک فسّروا قوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ بمعنی ما أوجب اللّه من فعل حرجی .و فی مقام الردّ علی هذا المعنی نقول: لیکن الوضوء بالماء البارد أمراً حرجیّاً ، فما علاقة ذلک بی کمکلّف إذا لم یکن الوضوء واجباً ، و کلمة «عَلَیْکُمْ» التی وردت فی الآیة الکریمة توحی أنّ الأمر مرتبط بالمکلّف ، و أمّا الوضوء فما لم یکن حکماً

ص:121

تکلیفیّاً لا یدخل ضمن اهتمامات المکلّف ، و لا ربط له به حتّی لو کان الفعل ممّا لا یطاق ، فما یتعلّق بالمکلّف هو التکلیف ، و هناک أشیاء کثیرة فی العالم تستدعی الحرج ، فهل ترید الآیة أن تربط هذه الأشیاء بالمکلّف؟ إنّ الحرج المقصود إنّما هو بالتکلیف ، فلو قالوا: یجب علیک أن تتوضّأ بالماء البارد فی فصل الشتاء فقد ضیّقوا علیک ، و أمّا إذا لم یوجبوا الوضوء حینئذٍ لا یهمّک ما إذا کان الوضوء بالماء البارد فیه حرج أو ضیق .إذن لا بدّ أن نلتفت إلی هذه النقطة ، و هی أنّ الوضوء بالماء البارد لا علاقة له بالمکلّف ، لا من قریب ، و لا من بعید ، إلّا بعد أن یکون تکلیفاً ، فمعنی الآیة واضح و صریح ، و هو: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ جعل حرجی ، و لا معنی لأن نقول:

الوضوء هو المجعول ، و الفعل هو المجعول إلّا علی سبیل المجاز و المسامحة .و الشیخ الأنصاری قدس سره فی بیانه لقاعدة لا ضرر اختار هذا المعنی أیضاً ، حیث اعتبر کلمة «ضرر» صفة للحکم و قال: إنّ «لا ضرر» یعنی ما جعل فی الإسلام حکم ضرری ، و یتّضح هذا المعنی بشکل أکبر فی الآیة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ و من الناحیة الأدبیّة أیضاً یفترض أن تکون العبارة «مِنْ حَرَجٍ» مکان المفعول المطلق و الذی یفید النوع ، أی ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ جعلاً حرجیاً .محصّل القول: إنّ قاعدة لا حرج واضحة و صریحة فی معناها ، و هو أنّ اللّه تبارک و تعالی امتناناً علی الاُمّة الإسلامیة و علی الأمّة المرحومة لم یجعل لها حکماً حرجیّاً ، و الأحکام التی جعلت للاُمّة هی أحکام غیر حرجیّة .

قاعدة لا حرج و الأدلّة المثبتة للأحکام

اشارة

ثمّ ندخل فی مباحث اخری ، فی تحدید النسبة القائمة بین قاعدة لا حرج

ص:122

و الأدلّة للأحکام بالعنوان الاوّلی ، و بعبارة اخری : ما هی النسبة بین قاعدة لا حرج و دلیل وجوب الوضوء؟ و أیّ نسبة بینها و بین الدلیل الموجب للغسل ، و ما هی العلاقة بینها و بین الدلیل الذی یقضی بوجوب الصیام عند ما یکون الصیام مستدعیاً للحرج؟ إذ أنّ تحدید النسبة بین قاعدة لا حرج و الأدلّة الأولیّة هو من البحوث المهمّة .البحث الآخر فی أنه هل یوجد هناک ثمّة موارد خاصّة خرجت عن هذه القاعدة ، أو لا؟ و لو سلّمنا بوجود موارد خرجت بالتخصیص ، فهل هذه المواد کثیرة بحیث تجعل من قاعدة لا حرج قاعدة موهونة ، أو أنّها لیست من الکثرة بحیث توجب الوهن فی القاعدة؟و من المباحث الاُخری فی هذا المجال هو لو أنّ إنساناً لم یستفد من التسهیل و الامتنان الذی توفّره له القاعدة ، و لنفرض أنّه صام مع کون الصوم بالنسبة إلیه حرجیّاً ، فهل یصحّ صومه أم أنّ صیامه باطل؟ و هناک عدّة مواضع اخری کلّ منها مفیدة بحدّ ذاتها . نعود إلی البحث الأوّل الذی أشرنا إلیه فی النسبة بین قاعدة لا حرج و الأدلّة الأولیّة المثبتة للتکلیف .المرحوم صاحب الریاض (1) و المرحوم النّراقی قدس سره فی کتاب «العوائد» (2) ذهبا إلی الرأی القائل بأنّ قاعدة لا حرج تعارض الأدلّة الأولیّة ، و التقابل الموجود هو تقابل العموم و الخصوص من وجه ، فأیّ دلیل من الأدلّة إذا ما قیس بالقاعدة سوف یکون بینهما نسبة العموم و الخصوص من وجه ، فلو أخذنا قاعدة لا حرج مع دلیل الوضوء علی سبیل المثال نری أنّ دلیل الوضوء ینصّ علی أنّ الوضوء واجب ، سواء استدعی الحرج ، أو لم یستدعی ، فمفاد قاعدة لا حرج هو أنّ الحکم

ص:123


1- 1) . لم نعثر علیه .
2- 2) . العوائد ، ص64 .

الحرجی مرفوع ، سواء کان ضمن الوضوء ، أو غیره من الأعمال و الأفعال التکلیفیة ، فهما یجتمعان فی أمر واحد ، و هو الوضوء الحرجی ، و یفترقان بأمرین هما الوضوء غیر الحرجی ، و الآخر الحرج فی غیر الوضوء ، ففی الوضوء غیر الحرجی ما به الافتراق هو دلیل الوضوء ، و أمّا فی باب الحرج الموجود فی غیر الوضوء ، فإنّ ما به الافتراق هو دلیل نفی الحرج ، فیتعارض الدلیلان ، أی دلیل نفی الحرج مع دلیل الوضوء ، إذن فی حال تعارضهما ما هو الحلّ؟حینئذٍ لا بدّ من وجود حرج خارجی یمکن من خلاله حلّ المسألة علی أساس قاعدة لا حرج ، و بدون حرج خارجی یبقی لدینا دلیلان متعارضان ینفی أحدهما الآخر .هذا تمام الکلام الذی أفاده هذان العلمان من علمائنا الکبار ، و لکن یبدو أنه فی زمن هذین العلمین لم یکن عنوان حکومة الأدلّة مبیّناً و لم یکن فی زمانهما وضوح فی خصوص هذه المسألة . و من هنا نجد أنه لمّا وصل الدور إلی المرحوم الشیخ الأنصاری أعلی اللّه مقامه الشّریف صرّح بهذا المعنی ، و هو أنّ قاعدة لا حرج کقاعدة لا ضرر فی دلالتها ، و هی حاکمة علی الأدلّة الأوّلیّة ، و هذا یعنی أنه لا یمکن لنا أن نقدّر النسبة بین الدلیل الحاکم و المحکوم ، و لا یمکن أن نقول: إنّ هناک اشتراک من جهة ، و افتراق من جهتین ، کما أنّه لا نلحظ منهما - أی فی الدلیل الحاکم و المحکوم - أیّهما ظاهر و أیّهما أظهر من حیث لسان الدلیل ، حیث تنتفی هنا مسألة الظاهر و الأظهر بین الدلیل الحاکم و المحکوم ، بل إنّ الدلیل الحاکم و إن کان ضعیفاً من حیث الدلالة فهو مقدّم علی الدلیل المحکوم ، لأنّ الدلیل الحاکم بمثابة الشارح و المفسّر للدلیل المحکوم ، وظیفته الإشراف علی الدلیل المحکوم ، و لکن توجد فی الدلیل المحکوم جوانب عدیدة غیر ملحوظة ، سواء فیما یختصّ بموضوع الدلیل المحکوم ، أو بما یرتبط بالمقدّمات أو بالنتائج .

ص:124

إذن ما یقول المرحوم الشّیخ الأنصاری قدس سره هو أنّ الآیة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ تعتبر دلیلاً حاکماً ، و لذا لا داعی لأنّ نلحظ النسبة ، کما أنّه لا یلزم أن یکون هناک حرج خارجیّ ، لأنّ العبارة حاکمة و جاءت فی مقام الإخبار ، و هی ناظرة إلی المجعولات ، أی الاُمور التی هی ترتبط بالباری جلّ و علا ، خصوصاً و أنّ الآیة ورد فیها «فی الدین» یعنی مجموعة التکالیف ، سواء اشتملت کلمة الدین علی العقائد ، أو لم تشتمل ، فهذا ما لسنا بصدده و خارج عن موضوع بحثنا . ما یهمّنا من کلمة «فِی الدِّینِ» هو الجانب الفقهی ، ففی الدین یعنی فی المقرّرات الإسلامیة ، و فی الأحکام الإلهیّة ، فی الوجوبات و التحریمات و أمثال ذلک .فلو کانت العبارة هی کالتالی « ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی التکالیف مِنْ حَرَجٍ » إذن تکون واضحة فی دلالتها علی الوضوء و الغسل و الصوم و غیر ذلک من التکالیف التی تشکّل بمجموعها مفهوم الدین ، فحتّی لو لم تکن هناک عبارة «فِی الدِّینِ» فإنّ معنی حاکمیّة هذه القاعدة ظاهرة من خلال العبارة ، و لکن عبارة «فِی الدِّینِ» توضح المسألة بشکل أکبر . و توحی أنّ مجموعة الأحکام ما جعل فیها الباری تبارک و تعالی من حکم حرجی ، و إذا کان الإطلاق الموجود فی بعض الأدلّة یقیّد تعیّن الوجوب فی الوضوء حتّی فی حال الحرج ، فإنّ حقیقة الأمر لیس کذلک ، و وجوب الوضوء لیس مجعولاً .إذن عبارة «فی الدین» لها دخل فی قاعدة نفی الحرج . فإنها تخرج المسألة عن باب التعارض فلا یبقی أی مجال للقول بأنّ قاعدة نفی الحرج تقع فی موازاة دلیل وجوب الوضوء ، و بعبارة اخری: إنّها بقوّة الأدلّة التی تدلّ علی الإیجاب و تشرع الأحکام .أضف إلی ذلک أنّ روایة عبد الأعلی التی بحثناها سابقاً تحکی عن الإمام

ص:125

قوله: «یعرف هذا و أشباهه من کتاب اللّه» أی من الآیة الکریمة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ إذن ، الآیة تحلّ لنا الإشکال ، و لکن لو کان هناک تعارض بین الآیة ، و الدلیل علی الوضوء ، فکیف تحلّ المسألة؟ یری المحقق النراقی قدس سره صاحب کتاب العوائد أنّه فی حال حصول التعارض بین الآیة و بین دلیل الوضوء فنحتاج إلی مرجع خارجی ، و عند ما ترجعون إلی آیة «ما جَعَلَ» فإنکم فی الواقع قد رجعتم إلی دلیل معارض ، أمّا الرّوایة فمفادها أنّ المسألة لیس بهذا الشکل ، فمتی دقّقتم فی الآیة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ فسوف تتوصّلون إلی هذه النقطة ، و هی أنّ المسح علی البشرة غیر واجب ، و السؤال هو: متی یصحّ هذا الکلام؟و الجواب: أنّه غیر صحیح ما لم یکن مبتنیاً علی أساس الحکومة ، أی علی أساس أنّ هناک دلیلاً حاکماً علی دلیل آخر .و بناءً علی ذلک نصل إلی ما أفاده الشیخ الأنصاری قدس سره من أنّ قاعدة لا حرج لا یبحث فیها مسألة معارضتها للأدلّة الأولیّة ، بل أنّ البحث فیها هو من جهة الحاکمیّة و المحکومیّة ، و الدلیل الحاکم لا یبحث فیه سوی جهة حاکمیته ، و لا یلحظ فیه لا النسبة و لا قوّة الدلالة ، فإذا ثبت الدلیل الحاکم ، فلا داعی لبحث الأظهریّة و الظاهریّة ، لأنّ الظاهریّة و الأظهریّة بحث آخر ، و لا یرتبط بمسألة الحاکمیّة و المحکومیّة و التی تشکل باباً مستقلّاً بنفسها .

ردّ کلام صاحب الریاض و النراقی قدس سره

أمّا ما أفاده المرحوم النراقی و المرحوم صاحب الریاض (قدّس سرّهما) من أنّه : لا بدّ من مرجّح خارجی . ففی مقام الردّ علیهما فنقول: نحن لا نسلّم بأنّ هناک تعارضاً ، هذا أوّلاً .

ص:126

و علی فرض تسلیمنا فالإشکال الثّانی هو أنّه لقائل أن یقول: إنّ قاعدة لا حرج لا بدّ و أن تکون متقدّمة علی غیرها ، و لا تحتاج بالأساس إلی مرجّح خارجی ، و السبب فی تقدّم قاعدة لا حرج مع افتراض التعارض هو أنّ قاعدة لا حرج إنّما جاءت فی مقام الامتنان ، و هذا دلیل علی تقدّمها علی الأدلّة الأولیّة ، و إلّا لو کانت محکومة من قبل الأدلّة الواقعیّة . أی أن تکون الأدلّة الأولیّة متقدّمة علیها لما بقی هناک ما یمُنَّ به اللّه علی هذه الاُمّة ، إذن أین هذا الامتنان؟ و قد منّ اللّه علی هذه الاُمّة بما لم یمنّ به علی غیرها من الاُمم فاقتضی ذلک أن تکون القاعدة راجحة علی دلیل الوضوء دائماً ، و لا حاجة إلی مرجع آخر ، بل أنّ القاعدة بنفسها متقدّمة ، لکونها جاءت فی مقام الامتنان ، و الامتنان هو المرجع الذی یقتضی أن تکون قاعدة لا حرج متقدّمة علی الأدلّة الأولیّة .و لو فرضنا أنّ هناک نوعاً من التعارض ، مع ذلک لا حاجة للتعویل علی المرجع الخارجی ، بل إنّ قاعدة الامتنان تثبت أرجحیّة قاعدة نفی الحرج حتّی مع فرض التعارض ، و الصواب هو فیما عرضه الشیخ الأنصاری قدس سره من أنّ دلیل نفی الحرج حاکم علی الأدلّة الأوّلیّة .

قاعدة لا حرج و التخصیص

اشارة

هل تقبل قاعدة لا حرج التخصیص ، أو لا؟ و بعبارة اخری: هل یمکن تخصیصها ، أو لا یمکن تخصیصها؟ و لو فرضنا أنّ تخصیصها أمراً ممکناً ، فهل جری علیها التخصیص أم لا؟و لو فرضنا وقوع التخصیص ، فهل أنّ موارد التخصیص کثیرة ، أم لا؟ و هذا البحث من المباحث المهمّة فی قاعدة لا حرج .أمّا إمکان التخصیص و عدمه ، فقد قلنا فیما سبق : من أنّ البعض اعتبر قاعدة

ص:127

لا حرج قاعدة عقلیة ، و ذکرنا جملة من القرائن استدلّ بها هذا البعض . و لکن جمیع الاستدلالات و القرائن التی ساقوها کانت قابلة للردّ و المناقشة . و لو سلّمنا بأن هذه القاعدة هی قاعدة عقلیّة کما ذهب إلیه بعض الأعلام من أساتذة الشیخ الأنصاری أعلی اللّه مقامه ، حینئذٍ تکون غیر قابلة للتخصیص ، لأنّ حکم العقل لا یخصّص ، فلا یمکن أنّ نتصوّر أنّ هناک استثناء و شواذّ فی القاعدة ، إلّا إذا کان الاستثناء استثناءً منقطعاً خارجاً عن موضوع حکم العقل ، و أمّا مع بقاء الموضوع ، فلا استثناء فی الأحکام و القواعد العقلیّة .إذن ، القائلون بأنّ قاعدة لا حرج هی قاعدة عقلیّة ، رفضوا إمکان التخصیص . و بناءً علی ذلک لا یمکنهم أن یبحثوا فی أنّ القاعدة ، هل خصّصت أو لم تخصّص؟ و لکن إذا قلنا بشرعیّة القاعدة ، أی أنّها قاعدة شرعیّة تعبدیّة ، فمن الواضح أنّ القاعدة الشرعیّة قابلة للتخصیص ، و علیه فالقائلین بشرعیّة القاعدة یمکنهم أن یفرضوا موارد استثناء و موارد تخصیص للقاعدة . أمّا لو قلنا بأن القاعدة وردت فی مقام الامتنان ، فهل هی بذلک قابلة للتخصیص ، أو أنّها غیر قابلة للتخصیص؟هل هناک ثمّة منافاة بین کون القاعدة واردة فی مقام الامتنان ، و بین قبولها التخصیص؟ مع أنّنا فی مقام الإثبات قد یتراءی لنا فی الظاهر أنّ القاعدة لم تخصّص ، و لکن هذا الاستظهار یتعلّق بمقام الإثبات ، أمّا من حیث الثبوت فلیس بمقدورنا أن نجزم بأنّ ما ورد فی مقام الامتنان لا یمکن أن یخصّص . فالحدیث المشهور «رفع عن امّتی ما لا یطیقون» ورد فی مقام الامتنان ، لکن و مع علمنا أنّ من الموارد التسعة التی ذکرت فی هذا المجال هو «ما استُکرهوا علیه» ، إلّا أن الإکراه علی القتل قد استثنی بمقتضی الأدلّة الخاصّة . فالإکراه علی القتل لا یجیز القتل حتّی و لو هُدِّد المکرهُ بالقتل . إذن لا یوجد لدینا أیّ دلیل علی استحالة هذا المعنی و هو

ص:128

أنّه إذا کانت القاعدة واردة فی مقام الامتنان ، حینئذٍ تکون کالقاعدة العقلیّة فی استحالة التخصیص . فمن الممکن أن ترد القاعدة فی مقام الامتنان و مع ذلک فهی قابلة للاستثناء فی بعض الموارد ، لوجود خصوصیّة معیّنة تمتاز بها تلک الموارد .من هنا نخلص إلی القول بأنّ قاعدة لا حرج هی قاعدة شرعیّة و تعبّدیة ، و هذا یبدو واضحاً من خلال أسانید القاعدة . فالقاعدة تستند إلی الآیات و الروایات فقط . و حتّی الإجماع لا مدخلیّة له فی قاعدة لا حرج . کما أنّ دلیل العقل لا مجال له فی هذه القاعدة . و کما یظهر من الروایات و الآیات أنّ القاعدة وردت فی مقام الامتنان . و بناءً علی ذلک فإنّ قاعدة لا حرج قابلة للتخصیص .

و علیه لا بدّ من أن نبحث فی الشریعة الإسلامیة لنری هل هناک ثمّة أحکام مخصّصة فی قاعدة لا حرج؟و ما یظهر من أدلّة القاعدة هو أنّ هذه القاعدة فی مقام الإثبات لم تخصّص .

فلو أمعنّا النظر فی الآیة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ أو فی الآیة وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ و الآیة: وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا خاصّة الآیة الأخیرة ، حیث نلحظ فیها أنّ کلمة «إِصْراً» وردت نکرة فی سیاق النفی . و ظاهر هذه الآیة أنّ دعاء الرسول جاء بهذا النحو أیضاً .إنّ تعبیر الآیة یختلف عن التعبیر فی قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ حیث نلاحظ أنّ هناک موارد خصّصت فیها عبارة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ . أمّا فی هذه الآیة ، فقد لاحظنا فیها أن الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله ، دعا الباری تعالی فی مسألة عامّة . و استجابت له بشکل عامّ و کلّی .

الموارد الحرجیّة فی الشّریعة المقدّسة

و یظهر من خلال هذه الآیة و الآیات السابقة أنّ القاعدة لم تخصّص ، و إن

ص:129

کانت التخصیص غیر مستحیل بالنسبة لها . و من جهة اخری هناک بعض التکالیف الإسلامیة التی إذا لاحظها الإنسان فسوف یجد فیها حرجاً شدیداً ، و هذه التکالیف لو قیست بالموارد التی نفی فیها الإلزام و الوجوب استناداً إلی قاعدة نفی الحرج ، لشاهدنا أنّ الحرج الموجود فی تلک التکالیف أشدّ بکثیر من هذه الموارد ، و مع ذلک لم یصدر فیها أیّ حکم للنفی . الموارد التی نتحدّث عنها کثیرة منها: الجهاد . فالجهاد مع ما فیه من تبعات و آثار یمکن أن نقول عنه بأنّه یتضمّن کثیراً من الحرج و القتل و الإعاقة و حتّی تلاشی الجسد و تلف الأموال و غیر ذلک من المصائب .و هنا نسأل: أ لیس الجهاد أمر حرجی؟ فالجهاد فی نفسه یبدو فی الوهلة الاُولی أنّه تکلیف حرجی من دون أن نحتاج فی ذلک إلی أن نعقد نسبة بینه و بین موارد الحرج . و لکن فلو فسّرنا الحرج بمعنی الضیق و الشدّة و الصعوبة فسوف یتّضح لنا أنّ الجهاد یتضمّن أعلی مراتب الشدّة و الضیق . و مع ذلک نلاحظ أنّ تکلیف الجهاد لا یرتفع بقاعدة لا حرج . هذا أوّلاً .و ثانیاً: إذا أردنا أن نعقد نسبة بینه و بین بعض الموارد التی تتضمّن شیئاً یسیراً من الحرج ، فهذا ما یعقد المسألة بصورة أکبر . حیث نشاهد أنّ بعض الموارد فیها شیء یسیر من الحرج قد شملتها القاعدة ، مثال ذلک الصوم بالنسبة للمسافر .

و الآیة فی هذا الخصوص بیّنه الدلالة حیث جاء فیها: فَمَنْ کانَ مِنْکُمْ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ * یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ 1 .هنا إذا أردنا أن نقیس هذه الموارد بالجهاد ، أ لا یتضح من خلال المقایسة بینهما أنّ الجهاد أکثر حرجاً من صوم المسافر؟ و هناک موارد اخری منها: إنّنا نقرأ

ص:130

فی الفقه . أنّ الشخص إذا أصبح مستطیعاً و لم یذهب إلی الحجّ عن عمد فحکمه أن یؤدّی ما علیه من الحجّ بأیّ نحو أمکن ، و مهما کانت الظروف ، و بالرغم من کلّ المشاق التی قد تعترض طریقه .و من الموارد الاُخری فی هذا المجال هو فیما إذا قتل شخص شخصاً آخر عمداً ، هنا ولیّ المقتول له أن یقتصّ من القاتل ، و القصاص بالنسبة له أمر عادی ، و لکن استعداد القاتل للحضور أمام المحکمة للاقتصاص منه لیس بالأمر الهیّن أبداً . و لکن یجب شرعاً علی القاتل المثول لأجل الاقتصاص منه ، و فی حال هروبه من القصاص فإنّه یرتکب مخالفةً شرعیة . و هنا لنا أن نتصوّر مدی الحرج الذی لا حرج فوقه . لأن حضور القاتل فی المحکمة یعنی بالنسبة له خاتمة عسیرة ، فأیّ حرج أشدّ من هذا الحرج الذی یری فیه الإنسان نفسه ملزماً شرعاً بأن یضع نفسه تحت تصرف ولیّ القاتل لکی یقتلهُ؟و کذلک الحال فی باب الحدود . فلو حکم علی رجل و امرأة بالرجم ، فما هو الواجب الشرعی الذی یتحتّم علیهما القیام به؟ من الواضح أنّهما مکلّفان شرعاً أن یضعا نفسهما تحت تصرّف الحاکم الشرعی ، و الحاکم یقوم برجمها حتّی الموت .

فهل یتصوّر أن هناک حکماً آخر هو أشدّ حرجاً من هذا الحکم ، و مع ذلک نجد أنّ قاعدة لا حرج لا تتدخّل فی مثل هذه الموارد الشدیدة الحرجیّة .فلا یوجد هنا شخص قد حکم علیه بالرجم یمکن أن یقول بأنّ قاعدة لا حرج تجیز له الفرار من السجن ، و بالتالی التخلّص من الرجم .و هناک موارد کثیرة من هذا القبیل منها: اللواط و الزنا و موارد اخری یجری فیها حکم القتل . و أشدّ من ذلک الموارد التی یحکم فیها علیه بالإحراق و الإلقاء من شاهق . و مع ذلک کلّه فإنّ المحکوم مکلّف شرعاً أن یضع نفسه تحت تصرّف حاکم الشرع کی یجری بحقّه الحکم الشرعی .

ص:131

و قد یعتاد الإنسان لا سمح اللّه علی ارتکاب محرّم من المحرّمات ، و وظیفته الشرعیّة فی مثل هذه الحالة أن یقلع عن عادته ، و کما یقال فإن ردّ المعتاد عن عادته کالمعجز ، أی أنّ الإقلاع عن الذنب و ترکه بالنسبة لمن اعتاد علی الذنب یستدعی الحرج . و مع ذلک فإنّ وجوب ترک الذنب یبقی ثابتاً . و لا یحقّ لمثل هذا الشخص أن یحتجّ و یقول: إنّی اعتدت علی هذا الذنب ، و قاعدة لا حرج ترفع عنّی الوجوب .و یذکر المرحوم المیرزا الآشتیانی قدس سره مثالاً فیقول: نفس هذا الاجتهاد الذی نسعی جمیعاً للحصول علیه ، هو واجب کفائی ، من واجبات الإسلام و من الوظائف الشرعیّة ، و حیث لا تفرّق القاعدة بین الوجوب الکفائی و الوجوب العینی فإنّ هذا الوجوب الکفائی للاجتهاد من حیث الشدّة و الصعوبة [علی حدّ تعبیره] أشدّ من الجهاد الأکبر . ثمّ یقول: و قد یتصوّر البعض أنّ الاجتهاد مثل التجارة ، فکما إذا انصرف الإنسان عن التجارة عدّة سنوات . یعود بعد هذه السنوات تاجراً ، فکذلک هو الاجتهاد ، و لکن هؤلاء لم یعرفوا بعد حقیقة الاجتهاد و ما فیه من الصعوبة و المشقّة ، و مع ذلک ، نلاحظ أنّ قاعدة لا حرج لا تتدخّل هنا و لا تمنعه من أن یکون واجباً کفائیاً . و لا أحد یدّعی أنّ الحکم بالوجوب هذا مرتفع بدلیل قاعدة لا حرج .المرحوم المیرزا الآشتیانی رحمه الله یذکر مثالاً آخر فیقول: لو أنّ شخصاً نذر أن یحجّ إلی بیت الحرام ماشیاً ، فهذا النذر صحیح و ینعقد ، و یتوجّه إلیه الخطاب:

(أوفوا بالنذر) حیث إنّ وجوب الوفاء بالنذر هو من أشدّ مراتب الحرج بالنسبة إلیه . و کذا إذا نذر أن یصوم سنة کاملة ففی جمیع هذه الموارد یتعیّن الحکم الشرعی بوجوب الوفاء بالنذر ، و بحسب الظاهر لا بدّ أن یرتفع بقاعدة لا حرج .

ص:132

التوفیق بین هذه الموارد و القاعدة

و هنا نسأل: مع وجود هذه الموارد ، کیف یمکننا أن نوفّق بینها و بین قاعدة لا حرج؟ هل یمکننا أن نقول بأنّ هذه الموارد تخرج عن قاعدة لا حرج بالتخصیص . أو أنّ هناک علل اخری بموجبها تکون هذه الموارد خارجة بالتحقیق .و من جملة علمائنا الأعلام (رحمهم اللّه) الذین بحثوا هذا الموضوع هو المرحوم صاحب الفصول قدس سره . فقد أفرد - بحثاً خاصّاً فی آخر کتاب الفصول تحت عنوان «استحالة التکلیف بما لا یطاق» ، بحث فیه: هل أن التکلیف بما لا یطاق محال ، أو لیس بمحال؟ و البعض فصّل بین موارد ما لا یطاق ، و بعد أن یتمّ المرحوم صاحب الفصول بحثه هذا ، یفرد تتمّة لبحث قاعدة لا حرج (1) . و هناک یری رضوان اللّه علیه أنّ الموارد التی ذکرت فی باب تخصیص قاعدة لا حرج ، لیست من موارد التخصیص ، بل إنّها خارجة عن قاعدة لا حرج بلحاظ موضوعاتها . و یشیر إلی عدّة موارد منها: مسألة الجهاد . و منها أیضاً قضیّة هؤلاء الذین شقّ علیهم الإیمان بالإسلام حتّی أن القرآن حکی عنهم ما قالوه: اَللّهُمَّ إِنْ کانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِکَ فَأَمْطِرْ عَلَیْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ 2 أی أنّهم لا یطیقون الإسلام أبداً .یقول صاحب الفصول قدس سره : إنّ هؤلاء یخالفون الحقّ إلی هذه الدرجة ، ثمّ یتساءل: أ لم یکن واجبهم هو قبول الحقّ و الإسلام؟ نعم ، لکن هذا التکلیف بالنسبة لهم فیه حرج شدید . ثمّ یضرب مثالاً آخر ، و هو تهیئة النفس لتقبّل القصاص و الحدود .ثمّ یأتی بعدّة تخریجات لکلّ من مسألة الجهاد ، و توطین النفس لتقبل الحدود

ص:133


1- 1) . الفصول : 333 .

و القصاص یرید بذلک أن یخرج هذه الموارد من قاعدة لا حرج علی أنّها لا تعدّ من مستثنیات القاعدة . و فی الحقیقة إنّ الاستثناء فی هذه الموارد هو من قبیل الاستثناء المنقطع ، و لا علاقة له بقاعدة لا حرج أبداً .و السؤال هنا کیف نرفع إشکال التنافی بین القاعدة و هذه الموارد الحرجیّة .توجد هناک عدّة ردود علی هذا السؤال .منها: ما قیل من أنّه لا مانع لأن تکون هناک تکالیف حرجیّة ، و فی نفس الوقت لا تتنافی مع ثبوت القاعدة المذکورة . و السؤال الذی یطرح هنا هو: کیف نتعامل مع أدلّة النفی؟ و قد أجاب أصحاب هذا القول بجوابین:أحدها: إنّنا نعتبر هذه الأدلّة مخصّصة لقاعدة نفی الحرج . و بعبارة اخری: إنّ قاعدة نفی الحرج هی قاعدة فقهیّة عامّة . و علیه فکما تکون الإطلاقات الفقهیّة الاُخری قابلة للتخصیص ، فکذلک من الممکن أن نلتزم بهذا المعنی أیضاً فی خصوص قاعدة (لا حرج) ، و قد قلنا : إنّ مجرّد کون قاعدة لا حرج فی مقام الامتنان ، لا یعنی أنّ احتمال التخصیص فیها ممتنع ، و أنّ الموارد التی ذکرناها و غیرها تخرج من القاعدة بحجّة التخصیص .الثانی: إنّ قاعدة لا حرج بالأساس لم یلحظ فیها جهة العموم بالشکل الذی یتصوّر ، و إنّما هی بالأصل محدودة و فی نطاق خاصّ و فی موارد خاصّة ، و بناءً علی ذلک یقال فی معنی الآیة الشریفة: وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا إنّ الإصر الذی کان علی الاُمم السابقة غیر موجود فی هذه الاُمّة ، و الشاهد علی ذلک آیة اخری هی قوله تعالی: وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ 1 أی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله مهمّته أن یضع عن الناس ما کانت

ص:134

تقتضیه الأدیان السابقة من أغلال ، و یبدو من قوله تعالی: وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا 1 أنّ الإصر الذی یطلب عدم حمله علی هذه الاُمّة هو الإصر الذی کان علی الاُمم السابقة خاصّة ، و لیس مطلق الإصر ، و لذا لو ارید تحمیل إصر آخر ، فهذا لا ینافی الآیة الکریمة ، هذا ما أفاده البعض فی حلّ المشکلة .

الاستفادة من ظهور الآیة:

و هذا - أی الردّ الثانی - فی الحقیقة خلاف ظاهر الآیة الکریمة: وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا ، فالنکرة أی «إِصْراً» جاءت فی سیاق النفی ، أمّا فی قوله: «کَما حَمَلْتَهُ» فیتّخذ صیغة إثباتیة ، و النفی الموجود فی الآیة هو نفی عامّ .بعبارة اخری: لو حذفنا عبارة «کَما حَمَلْتَهُ» من الآیة فتکون الآیة: (ربّنا لا تحمل علینا إصر الذی حملته علی الذین من قبلنا) ، فهل هذا یعنی أنّ الآیة تأخذ عنوان الوصف و تتضمّن قیداً احترازیاً ، و هل هذا هو المعنی الذی تفیده الآیة ، أم أنّ النکرة إذا وردت فی سیاق النهی ، أو النفی فإنّها تفید العموم؟ و قوله «لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً» أی لا تحمل علینا أیّ لون من ألوان الإصر أو أنواعه ، و لمّا کان التشبیه فی الجانب الإثباتی من الآیة و هو: کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا فهذا یعنی أنّ الإصر کان موجوداً لدی الاُمم السّابقة ، إلّا أنّه لا یمکن أن نستفید من ذلک جهة العموم بأن نقول: إنّ کافّة المصادیق فیها جنبة إثباتیة ، و لکن فی قوله:

لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً یمکن أن نستفید منه جانب التعمیم ، و لا نستطیع أن نقول

ص:135

بأنّ الآیة: کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا معناها: (إصر الذی حملته علی الذین من قبلنا) .و أمّا الآیة الاُخری ، و هی قوله تعالی: وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ فلا یعلم أنّها متعلّقة بالآیة: وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً و الظاهر أنّها تحکی عن إصر و أغلال کانت علی قومٍ من الأقوام . بالإضافة إلی جهلهم ، بدلیل أنّ الآیة لم تقل: و یضع عنهم إصراً کان ثابتاً علیهم دینیّاً ، أو یضع عنهم الأغلال التی کان الدین قد حملها علیهم ، فالإصر و الأغلال التی ذکرتها هذه الآیة یقصد منها الأغلال و الأثقال الناتجة عن جهلهم و تعصبهم و حمیّتهم ، و التی کانت تثقل علی عاتقهم ، فجاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله و ألغی کلّ هذه المسائل ، و لا یوجد هناک أیّ دلیل فی أنّ آیة: (وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إصراً) هی من سنخ هذه الآیة ، أی آیة: وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا ، بل من الواضح أنّ الإصر المنظور فی آیة:

(وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) لیس الإصر الثابت علیهم من جهة الدین ، و الأغلال أیضاً لم یقصد بها تلک التی کانت ثابتة علیهم من قبل الدین ، و من هنا یجب علینا أن لا نخلط بین الآیتین ، و الآن ما هو ردّنا علی الإشکال المطروح؟هناک عدّة ردود اخری ذکرت فی هذا المجال ، منها: ردّ المرحوم بحر العلوم قدس سره و الذی یعود أساساً إلی الردّ الأوّل لصاحب الفصول قدس سره الذی استعرضنا و سنتطرّق إلیه لاحقاً إن شاء اللّه .

جواب صاحب الفصول قدس سره :

أفضل الردود فی هذا المجال هو ما أفاده صاحب الفصول علیه الرحمة . حیث ذکر فی إجابته ثلاثة موارد و أجاب علی کلّ مورد منها بإجابة خاصّة .أحد هذه الموارد هو مسألة الجهاد .

ص:136

و المورد الآخر هو مسألة الإیمان بأصل المذهب بالنسبة لمن یشقّ علیه قبول الإسلام بدرجة یتمنّی معه أن یمطره اللّه تبارک و تعالی بحجارة من السماء ، أو ینزل علیه العذاب دون أن یستسلم لقول الحقّ . و المورد الثالث هو مسألة حضور القاتل أمام المحکمة ، و تمکین ولیّ الدم من نفسه فی القصاص ، و کذا الحال بالنّسبة لمن حکم علیه بالرجم حیث یمکّن من نفسه فی سبیل أن یجری الحاکم الشرعی الحدّ الإلهی علیه ، و هناک ثلاثة ردود لصاحب الفصول قدس سره فی مسألة الجهاد (1) . الردّ الأوّل: هو نفس ما ذکره السیّد بحر العلوم قدس سره ، حیث یشترک الاثنان صاحب الفصول و السیّد بحر العلوم قدس سره بردّ واحد: و هو کالتالی: إنّنا لا نقبل کونه أمراً حرجیّاً ، لأنّ کون الجهاد أمراً حرجیّاً لا بدّ و أن یقرّه عامّة النّاس ، و الحال أنّه لیس المسلمین فحسب ، بل عموم الناس من أیّ مذهب کانوا و أیّاً کان دینهم ، و أکثر من ذلک حتّی الذین لا یدینون بدین کالشیوعیین و أمثالهم نری أنّ مسألة الحرب مسألة مطروحة و متعارف فیما بینهم ، و بالطبع فإنّ دواعی الحرب تختلف من شخص لآخر . و من مجموعة إلی مجموعة ، فالبعض یحارب من أجل الدفاع عن نفسه و أحواله و عرضه ، و الآخر یحارب من أجل مذهبه و عقیدته و إن کانت عقیدته فاسدة ، إذن ، الحرب أمر طبیعی جدّاً ، فقد یخاطر الإنسان بحیاته من أجل هدف یعتقد به ، و هذه المسألة لیست بالمسألة الحرجیّة ، بل هی طبیعیّة و متعارف علیها لدی المسلمین و غیر المسلمین . من هنا أمکننا القول أنّ مفهوم الجهاد الذی جاء به الإسلام موجود لدی الشعوب و الاُمم الاُخری ، و یفوق الإسلام غیره من المذاهب و الاتجاهات بما یولی الجهاد من أهمیة خاصّة ، و بما یحتسب له من ثواب و أجر اخروی . إذن وجود مثل هذه المعطیات من أجر و ثواب لدی الإسلام

ص:137


1- 1) . الفصول: 334 .

خاصّة یجعلنا نتساءل: لما ذا نعتبر الجهاد أمراً حرجیّاً؟ بل هو مسألة طبیعیة ؛ إذن مجرد احتمال خطر الموت ، أو ذهاب الأموال لا یوجب القول بحرجیته . فلو کان حرجیّاً لهرب الجمیع ، و لمّا وجد هناک من یتصدّی لمهامّ الحرب و الجهاد ، فی حین نری أنّ الحرب أمرٌ طبیعی رافق البشریّة منذ تأریخها الأوّل و اشترک فیها الجمیع .

الحرج من خلال الملاکات و المصلحة:

و لکن أفضل ردّ علی الإشکال هو الردّ الثانی لصاحب الفصول ، و مفاده هو:

إنّنا إذا أردنا أن نعیّن کون الفعل حرجیّاً أو لا ، لا بدّ من أن نلحظ جانب المصلحة فی الفعل ، فلیس من الصحیح أن نلحظ صورة الفعل بما فیه من خصوصیّة ، هل هو حرجیّ ، أم لا؟ بل الصحیح أن نری ما هو الهدف من وراء هذا الفعل؟ و ما هی المصلحة المترتّبة علیه؟ فالدقّة فی هذه اللحاظات له مدخلیة فی کون الفعل حرجیّاً أو غیر حرجیّ .و نورد مثالاً علی ما قلناه غیر المثال الذی أورده صاحب الفصول ، لنفرض أنّ إنساناً بقی مستیقظاً طوال اللیل و لم ینم أبداً ، هنا لا یمکننا أن نقول : إنّ عمله هذا حرجیّ أو غیر حرجیّ ، أی لا نستطیع أن نحکم علیه . بل یجب أن نری و قبل کلّ شیء ما هی المصلحة من بقائه مستیقظاً . فلو أراد أن یسهر طوال اللیل لأمرٍ ثانوی غیر مهم و لنفرض أنّه لم ینم لیلته مقابل شیء یسیر من المال ، فالسهر لیلة کاملة هذا یعدّ أمراً حرجیّاً ، و لکن نفس هذا السهر ، لو کان لإحیاء لیلة القدر و طلب ما فی هذه اللیلة من أجرٍ و ثواب عظیم لا یعتبر أمر حرجیّ فحسب ، بل الإنسان یتمنّی أن تکون کلّ لیلة من لیالی شهر رمضان لیلة القدر کی یبقی مستیقظاً لیطلب الفیض الإلهی و یستفید من برکاته . و هذه المسألة عرفیّة .

و لنفرض أنّ إنساناً بقی مستیقظاً حتّی الصباح یرعی مریضاً یحتاج إلی رعایته

ص:138

و خدمته ، و لنفرض ثانیة هذا الشخص یحبّ المریض حبّاً شدیداً ، هنا نراه یبقی ساهراً من دون أن یشعر بشیء من التعب أو الإعیاء ، فعمله هذا لیس بحرجیّ .

و فی المقابل إذا قیل لسجین من السجناء: یجب علیک أن لا تنام اللیل حتّی یسفر الصباح . فإنّه یشعر بالحرج فی کلّ دقیقة تمرّ ، فی حین أنّ العمل واحد فی کلا الحالتین .من هنا نقول: إنّ اعتبار الحرج و عدم اعتباره بالنسبة لفعلٍ ما ، إنّما یتمّ بلحاظ المصالح المترتّبة علی الفعل . و أمّا لما ذا أخذت المصلحة بعین الاعتبار فی حرجیة الفعل؟ هذا السؤال لم یجب عنه صاحب الفصول علیه الرحمة ، لکنّنا نقول: إنّ السبب فی اعتبار المصلحة هو أنّنا عند ما عرّفنا الحرج قلنا: إنّه أقلّ مرتبة من عدم القدرة لدی العرف ، إذن ما هو الملاک فی الحرج؟ الملاک فی ذلک هو ما کان فی العرف قادراً علیه ، إلّا أنّه یأبی أن یقوم به ، فلا بدّ أن نذهب إلی العرف لنری متی یتقبّل العرف القیام بعملٍ معیّن ، و متی یأبی ذلک! و هنا بالذات ینفسخ المجال للأهداف و المصالح ، فعند ما تکون المصلحة شدیدة و کبیرة نجد العرف یقدم علی العمل بدون سأم و بلا تردّد ، بل برغبة و شوق کبیرین ، أمّا عند ما تکون المصلحة جزئیة ، و لیست بذات أهمیة ، فإنّ العرف یأبی من أن لا ینام اللیل کلّه مقابل منفعة جزئیة قلیلة ، و هذا هو ما یقال عنه بأنّه لا یتحمّل . و نحن مضطرّون إلی أن نحکّم العرف ، لأنّ الحرج فی الآیة الکریمة یراد به نفس هذا المعنی العرفی ، و من هنا یتبیّن لنا أنّ الجهاد فی نظر العرف لیس فوق طاقة الإنسان المسلم ، فالجهاد من أجل حفظ بیضة الإسلام ، و الحفاظ علی استقلال الدولة ، سواءً کان جهاداً دفاعیاً کما هو المفترض فی زماننا ، أو کان الجهاد جهاداً ابتدائیاً لأجل نشر الأحکام الإسلامیة لیس هو ممّا لا یطاق فی نظر العرف .إذن ، خلاصة الردّ الثانی الذی قال به صاحب الفصول و الذی أری أنّه فی

ص:139

مسألة الجهاد خاصّة یعدّ أفضل الردود ، أی أنّنا لا نستطیع أن نقول: إنّ هذا العمل حرجی و هذا غیر حرجی جزافاً و من دون أیّ اعتبار ، بل لا بدّ من ملاحظة الغایات و المصالح المترتّبة علیه .

الحرج بالقیاس إلی الحالة النفسیّة للمکلّف:

و الردّ الثالث الذی أجاب به صاحب الفصول هو: أنّه لا بدّ أن نعرف أوّلاً: هل أنّ الحرج الملحوظ فی الجهاد بما فی الجهاد من الأعمال الشاقّة ، أو هو باعتبار الحالة النفسیّة التی تتولّد عند بعض و التی تسمّی بالخوف ، أی هل أنّ الاشتراک فی الحرب و استخدام الأسلحة و المشی علی الأقدام لمسافات طویلة هی التی تشکّل جانب الحرج ، أو أنّ الحالة النفسیّة التی نسمّیها الخوف و التی قد ترافق الإنسان فی الجهاد ، فیخاف أن یتعرّض لقصف جوی ، أو أن تصیبه طلقة هی التی تجعل من الجهاد أمراً حرجیّاً؟یقول المرحوم فی الإجابة علی هذا التساؤل: بأنّ حالة الخوف منشؤها فی نفس الإنسان ، أی أنّ هذا الشخص بحدّ ذاته یفتقد للشجاعة و الجرأة ، و هذا لا علاقة له بالتکلیف الإلهی ، فلو کنت إنساناً یملأ الخوف وجودک ، فلا یحقّ لک أن تصوّر الجهاد بأنّه أمر حرجی ، ثمّ تستدلّ بقاعدة نفی الحرج علی ارتفاع التکلیف الحرجی ، إذن الحرج لا بدّ و أن یتحقّق فی التکلیف بحدّ ذاته . و إلّا فخوف المکلّف لا علاقة له بالتکلیف . و الخوف هو رذیلة من الرذائل لدی هذا الإنسان .

القاعدة و إیقاع الإنسان نفسه فی الحرج:

و هنا نورد أجوبة المرحوم صاحب الفصول فی الموردین المتبقّیین ، و المورد الأوّل: هو المثال الذی ساقه عن اولئک الذین لا یطیقون الإسلام ، حیث یحکی

ص:140

القرآن الکریم قولهم: اَللّهُمَّ إِنْ کانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِکَ فَأَمْطِرْ عَلَیْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ هنا لا بدّ و أن نری هل إنّ الإسلام بحدّ ذاته یستدعی الحرج ، أو إنّ خبث هؤلاء و سوء سریرتهم هو الذی جعل قبولهم الإسلام أمراً حرجیاً؟و الصحیح إنّ خباثتهم و سوء سریرتهم هو الذی جعلهم یستشعرون الحرج فی الإسلام ، بدلیل انّنا نری إنّ النّاس قاطبة عشقوا الدین الإسلامی و استهوته قلوبهم ، و الواقع هو إنّه لا یوجد هناک حرج فی التکلیف بحدّ ذاته . فأدلّة نفی الحرج تنصّ علی إسقاط التکلیف الذی یستوجب الحرج .و المورد الثانی: هو خصوص تمکین النفس لأجل القصاص و إجراء الحدود .

فیقول المرحوم صاحب الفصول: إنّ التمکین واجب شرعاً و هو أمر حرجی للغایة ، و لکن الشخص بنفسه هو الذی أوجد هذا التکلیف الحرجی ، أی أنّ الذنب ذنبه ، فلو أراد أن لا یقع فی مثل هذا الحرج لکان علیه أن لا یرتکب الزنا ، و لو شاء الاحتراز من الوقوع فی الحرج لما قتل النفس المحترمة عن عمد . و یضیف إنّ هذه تهلکة . و البعض بإرادته بنفسه فی هذه التهلکة . و فی مثل هذه الحالة لا یمکن أن نطلق علی هذا التکلیف المتعیّن علی المجرم - و هو تکلیف التمکین - اسم الحرج ، فلما ذا أوجب علی نفسه التمکین للقصاص فی حین کان بوسعه أن یحترز من أیّ تکلیف من هذا النوع ، و یستفاد من کلام صاحب الفصول إنّ قاعدة لا حرج لم یشملها التخصیص مطلقاً ، أیّ لا یوجد هناک أی مورد حرج خرج عن القاعدة بالتخصیص .

حکومة حدیث الرفع و قاعدة نفی الحرج:

و هناک نقطة مهمّة أشار إلیها کلّ من الشّیخ الأنصاری قدس سره فی کتاب الرسائل ، و المرحوم الآخوند قدس سره فی کتاب الکفایة ، و هی أنّ حدیث الرفع یرفع الخطأ

ص:141

و النسیان ، و علیه قد یقال: إنّه بموجب هذا الحدیث یرفع عن امّة الرسول الخطأ ، و لکن القرآن یصرّح بقوله تعالی: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِیرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ 1 ؟ فکیف لم یستطع حدیث الرفع أن یرفع حکم قتل الخطأ؟ فهل معناه أنّ هناک موارد تخصیص فی الحدیث؟و فی معرض ردّهما علی هذا الاستفهام أجاب هذان العلمان (1): بأنّ حدیث الرفع إنّما یرفع الآثار المترتّبة ، سواء کان القتل عن عمد ، أو عن خطأ ، و فی الحقیقة إنّ حکومة حدیث الرفع متوجّهة إلی سائر الأدلّة علی النحو التالی ، و هو أنّ لدینا مجموعة من الأدلّة تعرض الأحکام بصورة عامّة و مطلقة ، فیأتی حدیث الرفع و یخرج مورد الخطأ فیها ، و الآیة: (وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) الحکم بالأساس مبنیّ علی الخطأ . فکیف یمکن أن یکون الخطأ مؤثّراً فی إثبات الحکم و فی نفس الوقت یکون مؤثّراً فی نفی الحکم ، و من هنا نصل إلی هذه النتیجة ، و هی أنّ حدیث رفع الخطأ لا یرتبط أساساً بالآیة (وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) .و یمکن أن نورد مثل هذا الکلام فی خصوص الجهاد فنقول: لنفترض أنّ الجهاد أمر حرجی 100 % و لکن مثل هذا الحرج لا یدخل ضمن دائرة قاعدة نفی الحرج ، لأنّ مفاد قاعدة لا حرج هو أنّ الحرجیة مؤثّرة فی نفس الحکم ، و الحرجیّة مؤثّرة فی عدم تشریع الحکم . و لکن بناءً علی فرضنا إذا کان الجهاد کلّه أمر حرجی ، فمعنی ذلک أنّ الحرج مؤثّر فی ثبوت الحکم ، و لا یمکن أن یکون هناک عنوان واحد مؤثّر فی الثبوت و مؤثّر فی النفی أیضاً ، و هذا قریب ممّا قاله المرحوم المحقّق الخراسانی و الشیخ الأنصاری فی خصوص رفع الخطأ .و من هنا نخلص إلی هذه النتیجة التی یقرّرها صاحب الفصول ، و هی أنّ

ص:142


1- 2) . فرائد الاُصول 2 : 32 . و الکفایة : 341 .

قاعدة لا حرج بحدّ ذاتها قابلة للتخصیص ، و إمکان التخصیص فیها وارد ، إلّا أنّه فی الواقع الخارجی لا یمکننا أن نجد مورداً واحداً کمثال علی التخصیص فی قاعدة لا حرج .و حکی عن الشیخ الأنصاری أعلی اللّه مقامه الشّریف أنّ قاعدة نفی الحرج لیس فقط یحتمل بشأنها التخصیص ، بل أنّ موارد التخصیص موجودة و من الکثرة بحیث تُشکِّل وهناً فی قاعدة (لا حرج) (1) ، و لازم ذلک أنّنا لو تمسّکنا فی مورد بعموم قاعدة (لا حرج) فهذا لا یکفی ، لأنّ عمومها موهون ، و لا یصلح للرکون إلیه ، و لا بدّ مثلاً من ضمِّ عمل الأصحاب و فتواهم ، أو أشیاء اخری من هذا القبیل إلی هذا العموم حتّی ینجبر وهنه ، و یکون صالحاً للاستناد إلیه . فإذا کانت هذه القاعدة علی هذه الصورة من الضعف فإنّها سوف لا تنفع کثیراً ، فلا یمکننا الاستفادة منها فی الفقه کثیراً .غیر أنّه حکی أیضاً عن الشیخ الأنصاری نفسه ما یخالف هذا المعنی ، فقد حکی عنه أنّه قال: إنّ قاعدة (لا حرج) من القوّة و الإحکام بشکل لو أردنا معه أن نأتی و لو بدلیل واحد کمخصّصٍ لهذه القاعدة ، فإنّ مجرّد کونه أخصّ منها لا یقتضی أن یقدّم علیها ، و هذا عجیب جدّاً ، و قد مرّ علیکم فی الاُصول فی مسألة العامّ و الخاصّ أنّ الدلیل الخاصّ یقدّم علی العامّ مطلقاً ، إلّا إنّه أفاد هنا بأنّ الخاصّ لا یقدّم علی قاعدة (لا حرج) لمجرد کونه أخصّ ، أی أنّ هذه القاعدة علی هذه الدرجة من القوّة و الإحکام ، فما ظنّک لو لم یکن هناک أخصیّة و أعمّیة فی البین .

فإنّ قاعدة (لا حرج) نوعاً ما بالقیاس إلی الأدلّة الأوّلیّة - مع غضّ النظر عن الحکومة - بینهما نسبة العموم و الخصوص من وجه ، فربما نشاهد ذلک 90 % أنّ

ص:143


1- 1) . فرائد الاصول 2: 32 .

النسبة بینهما هی نسبة العموم و الخصوص من وجه ، مثل دلیل وجوب الوضوء و وجوب الغسل و أمثال ذلک ، و قلنا فی مسألة الحکومة؛ لا ینبغی المقارنة و بیان النسبة ، و لا یجدر بنا البحث عن مادّة الاجتماع و الافتراق ، کما أنّه لا ترد فی مسألة الحکومة قضیّة الظهور و الأظهریّة ، بل إنّ الدلیل الحاکم یتقدّم علی الدلیل المحکوم ، و إن کان أضعف ظهوراً منه ، و کانت النسبة بینهما هی نسبة العموم و الخصوص من وجه .فإذن ، مع أنّ الشیخ یفترض دلیلاً أخصّ مطلقاً من قاعدة (لا حرج) ، إلّا أنّ هذا الدلیل الأخصّ مطلقاً لا یمکنه لمجرّد کونه أخصّ أن یتقدّم علی قاعدة (لا حرج) ، و علیه فما حکی عن الشیخ أوّلاً لا یضرّ بما سلکناه من عدم تخصیص القاعدة و إن کان قابلة للتخصیص ثبوتاً . و علی هذا نسلک نفس الطریق الذی سلکناه سابقاً و صرّح به صاحب الفصول أیضاً ، و أثبت فی الحقیقة أرکانه من أنّ قاعدة (لا حرج) لیس فیها تخصیص أصلاً ، و هذا ما یثبته أیضاً ظاهر أدلّة نفی الحرج و إن کانت هذه الأدلّة فی نفسها لا تأبی عن التخصیص .

الحرج الشخصی أو النوعی؟

اشارة

هل أنّ الحرج فی قاعدة (لا حرج) هو الحرج الشخصی أو الحرج النوعی؟ فلو کان شخصیّاً فمعناه أنّ لکلّ مکلّف حساب مستقلّ فیما یتعلّق بقاعدة نفی الحرج ، و کلّ مکلّف یلاحظ بشخصه و التکلیف المتّجه إلیه بالشکل الذی فسّرنا به الآیة و جعلنا الحرج صفة للتکلیف ، فعلی کلّ مکلّف أن یلاحظ تکلیفه ، فإذا کان التکلیف یجعله فی ضیق و حرج بحیث لا یتحمّله العرف عادةً ، فإنّ الآیة الشریفة:

تأتی لنفیه ، فترفع هذا التکلیف عن عهدة المکلّف ، حتّی و إن لم یکن فیه حرج بالنسبة إلی الآخرین ، و لا یتّصف بکونه حرجیّ أصلاً ، فالملاک فی قاعدة نفی

ص:144

الحرج هو التکلیف الشخصی المتّجه نحو آحاد المکلّفین . و إن لم یکن حرجیّاً بالنسبة إلیه فالتکلیف ثابت .إلّا إنّه یوجد فی هذه القاعدة احتمال آخر ، و هو أن نفسّر الحرج بالحرج النوعی ، فنقول أنّ تکلیفاً من التکالیف کان حرجیّاً بالنسبة لأغلب المکلّفین ، فإنّ هذا التکلیف سیرفع عن الجمیع حتّی عمّن لا یکون التکلیف حرجیّاً بالنسبة إلیهم ، أی لو أنّ أحد التکالیف کان حرجیّاً بالنسبة إلی 80 % من المکلّفین فإنّ هذه الحرجیة بالنسبة إلی الثمانین بالمائة تقتضی رفع التکلیف عن المکلّفین بنسبة 100 % و کذلک الأمر معاکساً ، فلو لم یکن حرجیّاً بالنسبة إلی 80 % من المکلّفین ، نقول بما أنّه لا یوجد حرج نوعی فإنّ هذا التکلیف ثابت حتّی فی حقّ العشرین الذین یکون التکلیف حرجیّاً بالنسبة إلیهم .إذن لازم القول بالحرج النوعی هذا أن نقول به بکلا جانبیه السلبی و الإثباتی ، ففی الجانب الإثباتی یرتفع حتّی عن العشرین بالمائة ، و فی الجانب السلبی فإنّ التکلیف یثبت حتّی علی العشرین الذین تکون فی التکلیف مشقّة و حرج علیهم ؟ یوجد هنا احتمالان ، بل قولان ، و اتّفق الجمیع علی نسبة هذه الحرجیّة النوعیّة إلی المشهور ، أی أنّ المشهور یقول بالحرجیّة النوعیّة ، و إن لم تُعلم تمامیّة هذه النسبة .إلّا أنّ المحقّقین من قبیل المرحوم النراقی فی کتاب (العوائد) ، بل المرحوم الشیخ الأنصاری أعلی اللّه مقامه الشریف و جمع من تلامذته العظماء طبّقوا هذه المسألة علی الحرج الشخصی ، و قالوا: إنّ أدلّة نفی الحرج تدلُّ علی نفی الحرج الشخصی (1) .

ص:145


1- 1) . العوائد: 64 .

و الآن لو انحصر دلیلنا بهذه الآیة: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ فأری أنّه لا یمکن لأحد أن یناقش فی أنّ المراد من هذا التعبیر هو الحرج الشخصی ، لأنّ هذا الخطاب (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ) سواءً بلسانه ، أو بملاکه یشمل عموم المکلّفین ، أی أنّ أصل الخطاب أو ملاکه یقول: (أیّها المکلّف) و زید مکلّف و مخاطب بهذا الخطاب ، و عمرو مکلّف و مخاطب بهذا الخطاب ، و کذا جمیع المکلّفین بآحادهم مخاطبون بهذا الخطاب بقوله (عَلَیْکُمْ) خاصّة ، و قد جاء بعدها کلمة (فِی الدِّینِ) و الدین معناه مجموعة التکالیف الدینیّة ، أی الوظائف و القوانین الإلهیّة ، کالوضوء الذی جعل علی کلّ واحدٍ من المکلّفین ، و کذا الغُسل و الصوم ، ثمّ تأتی الآیة و تقول: (یا أیّها المکلّفین ما جعل اللّه علیکم فی التکالیف المتوجّهة إلیکم من تکلیف حرجیٍّ) ، و لا معنی هنا لأن نفسّر الحرج بالحرج النوعی ، فلیست المسألة مسألة النوع ، و إنّما هی مسألة التکلیف سواءً أ کان هناک مخاطب حقیقة أو ملاکاً ، فلا فرق فی هذه الناحیة ، فإنّ آیة نفی الحرج هنا تحدّد دائرة الأحکام المتوجّهة إلی المکلّفین ، و فی الحقیقة فإنّ (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) بمثابة الملحق لجمیع الأدلّة الأوّلیّة التی تجعل التکلیف متوجّهاً نحو کلّ واحد من المکلّفین ، و أساساً لا یمکن أن یتوهّم أنّ المراد من الحرج فی الآیة الشریفة هو الحرج الحاصل لدی النوع ، فإذا بقینا نحن و هذه الآیة و افترضنا انحصار الدلیل بقاعدة (لا حرج) فلا أری أنّ لأحد أن یحتمل أنّ المراد من هذا الحرج هو الحرج النوعی .إلّا أنّ الأمر الذی أدّی إلی طرح مسألة الحرجیة النوعیة هو آیة الصوم ، إذ یقول تعالی فی آیة الصوم: وَ مَنْ کانَ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ 1 .

ص:146

و قلنا : إنّ قوله ( وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ) یرتبط بالجانب السلبی ، لما ذا لا یجب علیه الصیام فی شهر رمضان؟ لأنّه تعالی لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ ، و قد فسّرنا العسر بالحرج ، و قلنا : إنّه لیس کما ذهب إلیه المحقّق النراقی فی (العوائد) من أنّ العسر أعمّ من الحرج ، فالإشکال یرد هنا ، فهل کلّ من کان علی سفر فی رمضان یلزم من صیامه الحرج؟ فربّما ذهب شخص إلی طهران و کان لابنه بیتاً هناک و ینوی الإقامة عنده لخمسة أیّام ، فما هو الفرق بین هذا البیت و بین بیته فی قم ، فلا یکون فی صومه عسر بالنسبة إلیه ، فلما ذا یقول اللّه سبحانه (لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ) ؟ فیقال: نفهم من هذا أنّ الملاک فی العسر و الحرج هو الأکثریة و نوع المکلّفین و المسافرین .إذن هذا التعبیر (لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ) بعد قوله: (مَنْ کانَ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ) یرشدنا إلی أنّ المسألة لا تدور حول العسر و الحرج الشخصی ، و إنّما تدور مدار العسر و الحرج النوعیّ بالإضافة إلی بعض الروایات التی قرأناها و ناقشنا فی دلالتها ، و کان منها روایة لأبی بصیر فی مسألة (إنّا بلینا بغدیر مطر) قال الإمام فی ذیلها: (فإنّ الدین لیس بمضیّق ، قال اللّه تعالی: (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) فالاستدلال بهذه القاعدة کانت بهذا الشأن حیث ذکر الإمام هذا الدلیل علی عدم انفعال ماء الکرّ . و طبعاً نحن فسّرنا الروایة بشکل آخر .فمن جهة فی قوله: - (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) هناک ظهور لا یمکن التشکیک فیه فی الحرج الشخصی ، و من جهة اخری (لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ) فی ذیل آیة الصوم فهو ظاهر فی العسر النوعی ، فما هو موقفنا هنا؟فنقول: إنّ هذه القاعدة (لا حرج) التی هی بلسان الدلیل التی تعرّضت کدلیل لنفی الحکم طرحت کحکمة فی ذلک الدلیل ، و إذا طرح شیء علی إنّه حکمة لا یمکنه أن یکون عامّاً بالنسبة إلی مفاد ذلک الدلیل ، و لا یشترط تطبیقه علی جمیع موارده .و هذا هو الفرق بین العلّة و الحکمة ، فیقال مثلاً فی العدّة ، إنّ المرأة یجب علیها

ص:147

أن تعتدّ ثلاثة قروء للاستبراء من الحمل ، إلّا أنّه فی بعض الموارد لا توجد هذه الحکمة ، فلو کان الزوج فی سفر و قد غاب عن زوجته مدّة سنتین ، ثمّ طلّق زوجته ، فتجب علیها العدّة کذلک ، مع أنّ الحکمة المتقدّمة لا تجری هنا ، فلا معنی لأن تحمل الزوجة من رجل غاب عنها زوجها سنتان ، فإذن مشروعیّة العدّة للاستبراء من الحمل لیس فیه جنبة علیّة یدور الحکم مدارها وجوداً و عدماً ، و إنّما هی حکمة .فحینئذٍ لو واجهنا هذه المسألة فی آیة الصوم ، یقول تعالی: (مَنْ کانَ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ) یعنی لا یجب الصوم فی السفر ، و لا یجب علی المریض و لا علی المسافر ، ثمّ قال فی ذیلها: (وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ) و العسر هو العسر الشخصی و الحرج هو الحرج الشخصی ، و لکن لا یجب أن ینطبق هذا الحرج الشخصی فیما یتعلّق بهذا الحکم المذکور فی الآیة تماماً و إنّما هو حکمة فیما یتعلّق بهذا الحکم ، و إمّا فی الموضع الذی لا یتحدّث فیه الدلیل عن نفی الحکم ، فحینئذٍ لا نتمکّن من أن نجعل العسر الشخصی هو الملاک ، و نقول فی کل موضع یکون فیه عسر شخصی یوجد (لا یُرِیدُ بِکُمُ) ، أی لا بدّ أن یدور نفی الحکم مدار الحرج الشخصی .

موارد الحرج فی کلام الشّهید الأوّل:

و العجیب أنّ الشهید الأوّل فی کتاب (القواعد) ذکر موارد کثیرة و ربطها بقاعدة (لا حرج) ، فی حین أنّ أکثرها لا ارتباط له بهذه القاعدة أصلاً ، فمثلاً قال فی إحدی الموارد: إنّ مشروعیّة الإجارة فی الإسلام ناشئة من قاعدة العسر و الحرج ، لأنّ المنافع التی تملکها معدومة الآن ، فما معنی تملیک المعدوم؟ لکن جاءت قاعدة العسر و الحرج و أثبتت مشروعیّة الإجارة . و یذکر أمثلة اخری یتعجّب الإنسان منها ، فإنّها بأجمعها لا ترتبط بتلک الجهة التی نبحثها فی قاعدة (لا حرج) ، فأوّلاً:

ص:148

من أین لک أنّ المناط فی مشروعیّة الإجارة هو العسر و الحرج؟ فهل أنّ مسألة الإجارة المتداولة بین العقلاء تقوم علی قاعدة العسر و الحرج؟ لا دلیل علی ذلک ، بل الإجارة کانت من المعاملات المتحقّقة عند العقلاء و إنّما أمضاها الشارع . و إذا کانت الإجارة مبتنیة علی هذه القاعدة ، فلما ذا ترکت البیع و لم تذکره؟ فالبیع أیضاً یکون مبتنیاً علی قاعدة العسر و الحرج ، إذ لو لم یحلّل اللّه البیع یقع الإنسان فی العسر و الحرج کثیراً ، و لکن لیس حلیّة البیع من أجل نفی الحرج ، و إنّما لأنّ البیع مطروح بین العقلاء و معمول به .

خلاصة البحث:

فتحصّل ممّا ذکرنا أنّ الحرج المنفی هو الحرج الشخصی ، و عدم الحرجیّة الشخصیّة فی آیة الصوم لا یضرّ بالمقصود ، لأنّ مورد التمسّک بالقاعدة ما إذا لم یکن هناک دلیل علی نفی الحکم مستقلّاً ، إلّا کان قاعدة لا حرج حکمةً کما فی مورد آیة الصوم .

قاعدة لا حرج و الأحکام غیر الإلزامیّة:

هناک بحث فی قاعدة (لا حرج) ، و هو انّه هل أنّ هذه القاعدة تنفی جمیع الأحکام التکلیفیّة حتّی الاستحباب و الکراهة فی صورة الحرج ، أو لا؟ و هل انّها تجری فی الأحکام الوضعیّة ، أو لا؟و لم نشاهد فی الکلمات من تعرّض إلی البحث الثانی ، إلّا إنّه یمکن البحث فیه و تترتّب علیه ثمرات عملیة . و هنا فی هذا البحث ینبغی الخوض فی عدّة جهات:أحدها: أنّه هل فی باب التکالیف غیر الإلزامیّة ، تجری قاعدة (لا حرج) ، أو

ص:149

لا؟ و قد عنون صاحب الفصول رحمه الله هذه المسألة ، و صرّح بعدم جریان هذه القاعدة فی باب المستحبّات و المکروهات ، فلو تعلّق الحکم الاستحبابی بأمر حرجی فإنّ قاعدة (لا حرج) لا تنفی الاستحباب ، و لو تعلّق الحکم الکراهتی بأمرٍ حرجی فإنّ هذه القاعدة لا تنفی الکراهة .إلّا أن مع ملاحظة ما قلناه ، فإنّ الأمر بحاجةٍ إلی توضیحٍ ، فنقول: إنّ المسألة یمکن توضیحها بأحد طریقین: الأوّل: أنّنا نشاهد فی قاعدة (لا حرج) أنّه استخدمت کلمة (علی) و نحن إذا لاحظنا الموارد التی استخدمت فیها کلمة (علی) نجدها تستخدم فی التکالیف الإلزامیّة ، و فی بعض التکالیف نستفید الإلزام من نفس کلمة (علی) ، ففی آیة الصوم حیث قال تعالی: کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ فإنّه لا یتناسب إلّا مع الإلزام .و نشاهد أیضاً فی آیة القتال: کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ کُرْهٌ لَکُمْ أو فی أدلّة الأحکام التحریمیّة مثل : (حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَ الدَّمُ . . .) فاستعمال کلمة (علی) بعد کلمة (جعل) لا یمکن تطبیقه إلّا علی التکالیف الإلزامیّة .و أمّا الطریق الثانی: و هو المبتنی علی کلامنا السابق ، فقد جعلنا الحرج صفة للتکلیف فی قبال من ظنّ الحرج عنواناً للفعل و العمل حیث کان یفسّر قوله (ما جَعَلَ) ب(ما أوجب) ، و قد أجبناه أنّ (مِنْ حَرَجٍ) مفعول مطلق نوعی ، أی: ما جعل علیکم فی التکالیف من تکلیفٍ حرجی ، فعنوان الحرج وصف للتکلیف نفسه ، و وصف لنفس الحکم ، و هذا المعنی الذی استفدناه یعطی ثماره فیما نحن فیه ، لأنّه لو کان الحرج وصفاً للتکلیف ، فنحن نعلم بأنّ التکلیف الاستحبابی مهما کان المکلّف به حرجیّاً فإنّ نفس التکلیف الاستحبابی لا یمکن أن یکون حرجیاً ، فالتکلیف الذی یتضمّن إمکان المخالفة و الترک من دون استحقاق للعقاب علی ترکه ، هل یمکن أن نقول بأنّه حرجی ؟ .

ص:150

فإذن مع قطع النظر عن استعمال کلمة (عَلَی) ، فإنّ نفس کلمة (مِنْ حَرَجٍ) التی تُعیّن من تکلیف حرجی تفرّق بین مسألة المستحبّات و المکروهات ، و لذلک لو کانت المستحبّات واجبات لاتّصفت بالحرجیّة ، و لکن بما أنّها من المستحبّات فلا یصدق علیها عنوان الحرجیّة ، فمثلاً یُستحبّ للإنسان أن یصوم جمیع أیّام السنّة عدا العیدین ، فلو تحوّل هذا المستحبّ إلی وجوب فسوف یکون تکلیفاً حرجیّاً ، لکن بما أنّه علی هیئة الاستحباب لا یتحقّق فیه عنوان الحرجیّة ، و یبقی الاستحباب علی حاله ، أی لا نستطیع أن نقول: بما أنّ الصوم فی جمیع أیّام السنّة فیه حرج فلیس بمستحبّ ، بل مع کونه حرجیّاً یبقی الاستحباب علی حاله .

جریان القاعدة بالنسبة إلی أقسام الواجب

اشارة

و أمّا الواجبات ففیها بحث أیضاً ، ففی باب الواجبات فإنّ للوجوب أقسام:

وجوب نفسی و غیری ، و الوجوب الغیری هو الوجوب المقدّمی ، و فیه نکتة یجب الالتفات إلیها ، فإنّه یوجد بحث مفصّل فی مقدّمة الواجب و هو أنّه هل تتّصف المقدّمات بالوجوب الشرعی الغیری ، أو لا؟ و هل توجد ملازمة بین الوجوب الشرعی لذی المقدّمة و الوجوب الشرعی للمقدّمة ، أم لا توجد مثل هذه الملازمة؟إذا قلنا بهذه الملازمة و قلنا بالوجوب الشرعی الغیری للمقدّمة ، فهنا بإمکان دلیل نفی الحرج أن یرفع دلیل الوجوب الغیری ، فکما أنّنا قلنا فی آیة الوضوء إذا کان لقوله: (ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ) معنیین ، فلو فسّرناها بهذا الشکل ، قلنا إنّ هذا تعلیل لعدم وجوب الوضوء فی حالة المرض أو فقدان الماء بتلک الکیفیة ، فانّ: (ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ) یرید رفع وجوب الوضوء ، فی حین أنّ وجوب الوضوء وجوب غیری و مقدّمی ، فیصحّ هذا الکلام

ص:151

إذا قلنا بالوجوب الغیری للمقدّمة .و أمّا إذا لم نقل بالوجوب الشرعی فی باب المقدّمة ، و لم نقل بالوجوب الغیری ، و قلنا بأنّ المقدّمة ما هی إلّا اللابدیّة العقلیة الموجودة فیها؟ فهل تأتی هذه القاعدة لترفع اللزوم العقلی؟إنّ قاعدة لا حرج لا یمکنها رفع حکم العقل ، إذ هی ناظرة إلی الأحکام الشرعیّة و المجعولات الشرعیة ، فما هو الأثر الذی تقوم به هذه القاعدة ، هل ترید رفع الوجوب الغیری؟ و نحن لا نقول بالوجوب الغیری للمقدّمة . و هل ترفع الوجوب و اللزوم العقلی؟ و هی لا تجری فی باب الأحکام العقلیة ، فعلی هذا المبنی ما هو الأثر الذی یمکن أن یکون لقاعدة (لا حرج) بشأن المقدّمات الحرجیّة؟إنّ الأثر الذی یمکنها أن تقوم به هو أنّنا هنا نطبّق قاعدة (لا حرج) فی مقدمیّة المقدّمة ، أی أنّ هذه المقدمیّة التی هی عبارة عن الشرطیة من الأحکام الشرعیة الوضعیّة و إن کانت ذات المقدّمة بنفسها أمرٌ تکوینی کطهارة الثوب و الجسد ، إلّا أنّ شرطیّة هذه المقدّمة بالنسبة إلی الصلاة مسألة شرعیّة و حکم شرعی وضعی ، فلو صارت مسألة الطهارة هذه حرجیّة ، فهنا نقول: إنّ (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) لا تأتی لترفع الوجوب الغیری لهذه المقدّمة ، إذ لیس فیها وجوب غیری بناءً علی مبنی عدم وجوب المقدّمة ، فإذن ما ذا ترفع؟ ترفع المقدمیّة ، لأنّها مقدمیّة شرعیّة ، و شرطیّة شرعیّة ، و إذا صار العمل بالشرط فی مورد حرجیّ فطبعاً علی القاعدة المذکورة أن ترفع المسألة من أصلها ، فإذن لا ینبغی أن یتصور بأنّنا إذا أنکرنا فی بحث مقدّمة الواجب الوجوب الشرعی للمقدّمة ، فلا بدّ أن نترک قاعدة (لا حرج) بالکامل و لا نطبّقها فی باب المقدّمة ، کلّا ، فحتّی علی هذا المبنی تأتی أیضاً هذه القاعدة .

ص:152

قاعدة لا حرج و الوجوب التخییری:

و ترد أیضاً قاعدة (لا حرج) فی سائر أقسام الوجوب ، إلّا أنّها وقعت موضعاً للإشکال فی موردٍ واحدٍ فقط ، و هو عبارة عن الواجبات التخییریّة ، مثل عتق الرقبة أو صیام ستّین یوماً ، أو إطعام ستّین مسکیناً ، فهل وجود الحرج فی واحدٍ من هذه الخصال الثلاثة للکفّارة یقتضی خروج المورد الحرجی عن دائرة التخییر فینبغی أن یقال: إنّ الکفّارة أحد أمرین ، أو انّه لقائل أن یقول: إنّ هذه الواجبات التخییریة تشبه المستحبّات فی جهةٍ من جهاتها ، و هی جهة انّه لو صار بعض خصالها حرجیّاً فإنّ التکلیف لا یتّصف بالحرجیّة ، نعم إذا کانت الخصال حرجیّة بأجمعها - و فی هذه الجهة یکمن الاختلاف مع المستحبّات - فالقاعدة ترفعها ، لأنّه تکلیف حرجی ، و أمّا إذا کان اثنان من المجموع غیر حرجیین ، بل لو کان فردان حرجیین و واحد غیر حرجی ، فهل بإمکاننا هنا أن نجعل عنوان الحرجیّة وصفاً للتکلیف و نقول: إنّ اللّه کلّفنا بتکلیف حرجی؟إنّنا لا یمکننا أن نجعل عنوان الحرجیّة وصفاً للتکلیف لمجرّد أنّ أحد أطراف الواجب التخییری صار حرجیّاً ، و لا یمکننا أن نقول: إنّ اللّه جعل لنا تکلیفاً حرجیّاً ، کلاّ ، إنّ التکلیف بما أنّه علی نحو الواجب التخییری إذا صار أحد أطرافه حرجیّاً فإنّ الحرجیة لا یمکن أن تکون وصفاً للتکلیف ، نعم إذا صارت الخصال الثلاثة حرجیّة بأجمعها یصدق انّه تکلیف حرجی . إذن الواجبات التخییریّة تلحظ من هذه الجهة .

هل تدخل المحرّمات فی التکالیف الحرجیّة؟

و هنا جهتان اخریان ، إحداهما المحرّمات ، إذ یوجد إشکال فیها ، خاصّة علی المبنی الذی اخترناه تبعاً لأکثر العلماء الکبار ، و هو أنّ الحرج فی الآیة لیس نوعیاً ،

ص:153

و إنّما هو شخصی ، و من جهة اخری فإنّ (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ) تصدق فی باب المحرّمات لأنّها تکالیف إلزامیّة أیضاً ، أی أنّ الذی جعل (مِنْ حَرَجٍ) صفة للفعل یضطرّ إلی أن یختصّ القاعدة بالأحکام الإلزامیة الوجوبیّة ، لأنّه لا یوجد فی المحرّمات فعل حرجی ، و إنّما الفعل الحرجی یصدق فی الواجبات فقط ، و لا بدّ فی التعدّی منها إلی التحریمیّة من تنقیح المناط .و أمّا نحن و قد جعلنا الحرج للتکلیف ، فتدخل المحرّمات و الواجبات معاً بدرجة واحدة فی قاعدة (لا حرج) ، لا أن ترتبط القاعدة بالأحکام الوجوبیة أکثر من غیرها ، و عندها نواجه أحیاناً مشکلة فی باب المحرّمات ، فما ذا نقول لو أصبح التکلیف بحرمة الزنا حرجیاً علی شخص؟ فهل نقول بارتفاع الحرمة؟و لو فرضنا المسألة بشکل أکبر کما لو فرضنا شاباً أعزباً أحبّ ذات بعل شابّة جمیلة مثلاً حبّاً شدیداً ، و قد جعل الإسلام من خلال تحریم الزنا بذات البعل جداراً منیعاً ، فلو کان هذا التکلیف حرجیّاً بالنّسبة إلی هذا الشاب فهل نقول - معاذ اللّه - بارتفاع هذا التکلیف و ینتفی تحریم الزنا بذات البعل ، لأنّه تکلیف تحریمی حرجی ، أو نقول من البدایة : أنّ قاعدة (لا حرج) لا تشمل المحرّمات ، و إنّما تقتصر علی الواجبات فقط؟ حینئذٍ نواجه أشیاء ینتفی عنها الحکم التحریمی استناداً إلی هذه القاعدة ، فهنا أیضاً یمکن تطبیق الحرج و یمکن أن تؤدّی هذه القاعدة دورها .و قد ذکرنا نظیر ذلک فی مسألة الإکراه علی المحرم و قلنا بأنّ ما أطلقوه من رفع الحرمة بالإکراه إلّا فی موضوع الإکراه علی الدم لیس علی ما ینبغی ، فإنّه لو فرض الإکراه فی المسألة المزبورة فهل تنتفی الحرمة بمجرد التوعید علی الترک و لو بالضرر المالی المضر بحال المکره؟ الظاهر العدم ، بل اللازم ملاحظة حال الحرام المکره علیه من جهة الاهمیّة و مراتبها .و الإنصاف أنّ المسألة فی غایة الإشکال ، فمن ناحیة نری ثبوت الحرج فی

ص:154

أصل الجعل فی مثل المسألة المزبورة و ثبوت الفرق بین المقامین من جهة أنّ حدیث رفع الإکراه ناظر إلی رفع التحریم المزبور ، و هنا تکون القاعدة متعرضة لأصل نفی الجعل ، و لیست هنا مرتبتان یلاحظ الأهمّ منهما ، و من ناحیة اخری یکون مذاق الشارع فی ثبوت الحرمة فی مثل المسألة المزبورة واضحاً و ظاهراً . و من ناحیة ثالثة لا مجال لدعوی اختصاص القاعدة بخصوص الواجبات ، لأنّه مضافاً إلی أنّ المحکوم بنفی الجعل المأخوذ فیها هو الأعمّ نری الاستناد إلی القاعدة فی بعض المحرّمات ، و الجمع بین هذه النواحی لا مجال له ، و التفکیک بین المحرّمات فی جریانها لیس له ضابطة .و یدلّ علی شمول القاعدة للمحرّمات روایة ، و هی صحیحة بحسب الظاهر بناءً علی ظاهرها من حصول المحرّم تعمّداً ، و الروایة هکذا: سأل رجلٌ أبا عبد اللّه علیه السلام عن المحرم یرید إسباغ الوضوء فتسقط من لحیته الشعرة أو الشعرتان؟ فقال: لیس بشیء ، ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ . (1)

جریان القاعدة فی الأحکام الوضعیة:

و أمّا جریان القاعدة فی الأحکام الوضعیّة ، فلا وجه لعدم جریانها بالنسبة إلیها ، لأنّ دلیل نفی الحرج یدلّ علی نفی کلّ حکم حرجیّ ، سواء کان تکلیفیاً أو وضعیّاً . إلّا أنّ النکتة التی تطرح نفسها هنا و التی یمکن أن لا یلتفت إلیها لأوّل وهلة ، فیتصوّر الشخص أنّه لو جرت قاعدة (لا حرج) هنا فهذا معناه جریانها فی تمام الأحکام الوضعیّة ، کانتفاء اللزوم فی مثل النکاح أیضاً ، أی بإمکان المرأة أن تفسخ عقد النکاح کما هو الحال فی البیع ، فتقول المرأة: إنّ لزوم النکاح فیه حرج

ص:155


1- 1) . الوسائل: 13 ، 172 ، الباب 16 من أبواب بقیة کفارات الإحرام الحدیث 6 .

علیِّ ، فتأتی قاعدة (لا حرج) و ترفع اللزوم ، فتخرج المرأة عن ربقة هذا النکاح بکلمة (فسختُ) . کلّا إنّ الأمر لیس بهذا الشکل ، فإنّ سبب الحرجیّة فی هذا النکاح بالنسبة إلی المرأة لیس هو اللزوم ، و إنّما سبب الحرجیّة هو کون الطلاق بید من أخذ بالساق ، و انحصار هذا الحقّ للزوج ، فإذن تأتی قاعدة (لا حرج) و ترفعه فتقول: الطلاق هنا لیس بید من أخذ بالساق ، فإذن بید من؟ بید الحاکم الشرعی ، فیأتی و یدرس وضعها فإذا شاهد أنّ هذه الحیاة حرجیّة حقّاً بالنسبة إلیها بحیث لا یُوجد توجیه لعدم الحرجیّة مثل ما کان الزوج محکوماً علیه بالسجن مدّة عشر سنوات ، و لا یقبل أن یُطلق و لیس عنده مال ، أو وسائل للراحة ، و کانت المرأة شابّة ، فهل نقول هنا للمرأة: یجب أن تنتظری حتّی یخرج زوجک من السجن؟ إنّ هذا لا یتناسب مع مذاق الإسلام ، فهنا ندع کون الطلاق بید من أخذ بالساق جانباً و نقول: إنّ هذا حکم حرجی بالنّسبة إلی هذه المرأة ، فعلیها مراجعة الحاکم ، فیری وضعها ، فإذا اتّضحت له الحرجیّة فیقوم هو بتطلیق هذه المرأة .و یخطر فی ذهنی أنّ السیّد صاحب العروة هنا أفتی بما یشابه هذا المورد ، و قال:

لا إشکال فی أن یطلق الحاکم الشرعی ، و السبب هو قاعدة (لا حرج) ، لذا لا إشکال فی جریان قاعدة (لا حرج) فی الأحکام الوضعیّة ، و تترتّب علی مثل هذه الموارد ثمار ، منها هذا البحث ، و فی بحث (المقدّمیة) بما هی حکم وضعی بناءً علی القول بعدم الوجوب الغیری للمقدّمة ، فبإمکان قاعدة (لا حرج) أن تنفی الشرطیة و المقدّمیة ، هذا فیما یتعلّق بهذا البحث ، و أنا لم اشاهد بحث الأحکام الوضعیّة فی الکتب الموجودة عندی ، و لکن کان ینبغی أن یبحث فیها أیضاً .

قاعدة نفی الحرج نافیة لا مثبتة

و فی هذا المجال نکتة لا بدّ أن نشیر إلیها ، فنقول : غیر خفّی أنّ قاعدة لا حرج

ص:156

المأخوذة من قوله تعالی: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ لا دلالة لها إلّا علی نفی الجعل بالإضافة إلی الحکم الحرجی وجوباً أو تحریماً ، و لا دلالة لها علی إثبات الحکم فی موردٍ تکلیفاً أو وضعاً ، فما ربّما یتوهّم من صحّة الاستدلال بالقاعدة فی مورد المَحرمیّة بالإضافة إلی الأطفال المأخوذة من المؤسّسات التی تکون متصدّیة لأخذها و إعطائها إلی من یرید ذلک لأجل عدم کونه صاحب الولد ، فی غایة الإشکال و نهایة عدم الصحّة ، خصوصاً لو کان الولد المزبور مذکّراً ، فإنّ صریح الکتاب أنّه وقعت الزوجیّة السمائیّة بین الرسول صلی الله علیه و آله و بین زوجة زید الذی کان من أدعیاء الرسول صلی الله علیه و آله قال اللّه تعالی: فَلَمّا قَضی زَیْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناکَها لِکَیْ لا یَکُونَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ حَرَجٌ فِی أَزْواجِ أَدْعِیائِهِمْ 1 ففی الحقیقة قد وقع التصریح فی الکتاب بعدم ثبوت المَحرمیّة و جواز التزویج ، و من المعلوم عدم الاختصاص بالتبنّی ، بل یجری بالإضافة إلی البنت المأخوذة من تلک المؤسسات کما هو واضح .

هل تقع العبادة بعد رفع الوجوب صحیحة؟

اشارة

أحد الأبحاث المطروحة فی قاعدة (لا حرج) ، هو أنّه لو أنّ التکلیف الحرجی تعلّق بعبادة ، سواءً تعلّق بجمیع العبادة ، أو جزئها ، أو شرطها ، و رفعت قاعدة (لا حرج) وجوبه ، و نفت لزوم هذه العبادة ، إلّا أنّ المکلّف مع ذلک امتثل الأمر و أتی بها فالبحث هو أنّه هل تقع هذه العبادة صحیحة ، رغم أنّها لا تتصف بالوجوب؟ فلو کان الصوم حرجیّاً بالنّسبة لشخص فإنّ وجوب الصوم یرتفع عنه بقاعدة (لا حرج) فلو تحمّل الشخص هذا الحرج ، و قال: رغم أنّ الصوم فیه حرج علیّ ، إلّا أنّنی ارید أن أصوم ، فهل صومه صحیح أو باطل؟و فیما إذا کانت هذه المسألة فی شرط العبادة أو جزئها ، بأن کان القیام فی الصلاة حرجیّاً علی شخص ، فإنّ قاعدة (لا حرج) تقول: لا یجب علیه القیام فی الصلاة و یمکنه أن یصلّی من جلوس ، فلو تحمّل هذا الشخص المشقّة و الضیق و صلّی بعناء ، فهل صلاته صحیحة ، أو باطلة؟ أو فی باب الوضوء بأن کان الجوّ بارداً جدّاً بحیث کان التکلیف معه بالوضوء حرجیّاً و رُفع معه التکلیف و جعل بدله التیمّم ، فلو أصرّ هذا الشخص و قال: مع إنّ فی الوضوء حرج علیّ ، إلّا أنّنی ارید أن أتحمّل هذا الحرج و الضیق و أتوضّأ فی مثل هذا الجوّ بهذا الماء البارد ، فهل هذا الوضوء صحیح ، أم باطل؟ هذا هو محلّ البحث ، و هو أحد البحوث المهمّة فی قاعدة (لا حرج) .أوّل من صرّح ببطلان العبادة (وفقاً لما توصّلنا إلیه) هو المرحوم کاشف الغطاء حیث قال: إنّ الوضوء الحرجی کالوضوء الضرری یقع باطلاً ، و لا یقع صحیحاً (1) .و جاء بعده المرحوم صاحب الجواهر علیه الرحمة ، و قال فی کتاب الصوم فی مسألة الشیخ و الشیخة وذی العطاش من الذین لا یجب علیهم الصوم ، قال: لو صام هؤلاء ، فصومهم باطل (2) ، لأنّ الدلیل علی عدم وجوب الصوم علی هؤلاء هو قاعة (لا حرج) ، و هذه القاعدة تطرح المسألة بنحو العزیمة لا الرخصة ، فلا بدّ أن یعمل طبقاً لما تقتضیه قاعدة (لا حرج) ، لا أنّ الإنسان مختار بالأخذ بقاعدة (لا حرج) أو بالدلیل الأوّل الذی أثبت الحکم ، کلاّ فإنّ (لا حرج) عنوان مطروح علی نحو العزیمة لا الرخصة .

ص:157


1- 2) . راجع کشف الغطاء 3: 54 ، (ط) مکتبة الإعلام الإسلامی .
2- 3) . جواهر الکلام 17: 150 .

ص:158

ثمّ قال: إنّ هذا المطلب یستفاد من جمیع الفقهاء ، و المخالف الوحید لهم هو صاحب الحدائق (1) استناداً إلی هذه الجملة الواردة فی ذیل آیة الصوم و هی: (وَ أَنْ تَصُومُوا خَیْرٌ لَکُمْ) و طبعاً قد فسّرها بهذا الشکل و هو أنّ (وَ أَنْ تَصُومُوا) فی مورد عدم وجوب الصوم و عدم کونه تکلیفاً منجّزاً فی حقّک ، لکنّ فی الوقت نفسه إذا صمت فهو أحسن لک و أنفع ، هکذا فسّرها صاحب الحدائق ، و عندها قال: إنّ الشیخ و الشیخة و ذا العطاش إذا صاموا فمع أنّ الصوم لیس بواجب علیهم فمقتضی (وَ أَنْ تَصُومُوا خَیْرٌ لَکُمْ) صحّة صومهم . و فی الحقیقة فإنّ صاحب الحدائق لا یرید بیان هذه المسألة بشکل عامّ ، و إنّما حکم بالصحّة فی مسألة الصوم فقط ، و عندها یستفاد من صاحب الجواهر أنّ الجمیع یذهبون فی الحقیقة إلی هذا المعنی ، و هو أنّ قاعدة (لا حرج) مطروحة علی أنّها عزیمة و لیست رخصة .و من صاحب الجواهر قدس سره نصل إلی المرحوم العلّامة النائینی أعلی اللّه مقامه الشریف ، فقد صرّح بهذا المعنی أیضاً و هو أنّ الغسل و الوضوء الحرجی کالغسل و الوضوء الضرری ، فکما أنّ الغسل و الوضوء الضرری حکمهما البطلان فإنّ الوضوء و الغسل الحرجی أیضاً حکمهما البطلان (2) ، و دلیله قاعدة (لا حرج) أیضاً ، و لا فرق بینهما ، فإنّ الوضوء و الغسل الضرری باطلان فی مورد قاعدة (لا ضرر) ، و الوضوء و الغسل الحرجی أیضاً حکمهما البطلان فی مورد قاعدة (لا حرج) ، و سنذکر العلّة و الدلیل فیما بعد .و فی قبالهم علماء کبار ذهبوا إلی ما یخالف هذا المعنی ، فصرّحوا بأنّ العبادة الحرجیّة مع أنّها غیر واجبةٍ فانّها لم تفقد مشروعیّتها ، و لم تفقد الصحّة ، و من هؤلاء العلماء الذین صرّحوا بالصحّة فی هذا الخصوص المرحوم المحقّق الهمدانی

ص:159


1- 1) . الحدائق 13: 421 ، (ط) مؤسسة النشر الإسلامی .
2- 2) . القواعد الفقهیة 1: 261 .

صاحب کتاب (مصباح الفقاهة) ، و هو رجل عظیم جدّاً و فقیه جلیل ، فإنّه یصرّح بأنّ قاعدة (لا حرج) إنّما ترفع الإلزام فقط و التکلیف ، و أمّا الصحّة و المشروعیّة و المقرّبیة فلا تزال محفوظة ، و العبادة التی تتحقّق عن حرج تتّصف بالصحّة (1) .و المرحوم السیّد صاحب العروة یصرّح بهذا المعنی فی کتاب العروة فی مسألة الوضوء و الغسل (2) ، و طبعاً فإنّه یفرّق بین الوضوء و الغسل الضرریّان ، و الوضوء و الغسل الحرجیّان ، و یقول: بأنّ الوضوء و الغسل الضرریّین باطلان ، و أمّا الوضوء و الغسل الحرجیان فیقعان صحیحان و إن کان یوجد فیهما احتیاط ، إلّا انّه احتیاط استحبابی ، فلو ارتکب شخص الوضوء و الغسل الحرجیین ، فعلیه أن یحتاط و یتیمّم بعدهما ، و لا یکتفی بالوضوء و الغسل الحرجیین ، فقد طرح الاحتیاط بشکل استحبابی .و من العلماء الذین حکموا بصحّة العبادة المرحوم البجنوردی قدس سره فی کتابه (القواعد الفقهیّة) فإنّه یُصرّ أیضاً علی هذا المعنی و هو أنّ العبادة الحرجیّة تتصف بالصحّة ، و أنّ قاعدة (لا حرج) لا تنفی الصحّة و لا تنفی المشروعیّة (3) .إذن نحن أمام هاتین الطائفتین ، و کلاهما من العلماء الکبار و الفقهاء الشامخین ، حکم فریق ببطلان العبادة الحرجیّة ، و حکم الفریق الآخر بصحّتها . و علینا أوّلاً أن ننظر إجمالاً إلی مفاد قاعدة (لا حرج) ، و بعد ذلک نری ما هی الطرق التی أرادوا استفادة البطلان من خلالها ، ثمّ نری هل أنّ هذه الطرق صحیحة و بإمکان الإنسان أن یصل إلی بطلان العبادة الحرجیّة من خلالها ، أو لا؟نقول مقدّمةً: إنّ مفاد قاعدة (لا حرج) کما اتّضح من البحوث المتقدّمة ،

ص:160


1- 1) . مصباح الفقیه 1: 477 .
2- 2) . العروة الوثقی 1: 151 .
3- 3) . القواعد الفقهیّة 1: 261 .

بلحاظ وجود کلمة (علی) فی الآیة و بلحاظ کون کلمة (حرج) صفة للتکلیف بالنحو الذی قلناه ، هو أنّ اللّه لم یجعل علیکم تکلیفاً إلزامیّاً حرجیّاً ، فإذن قاعدة (لا حرج) تنفی الإلزام و الوجوب و التکلیف الحرجی .و من جهة اخری فإنّ القاعدة کما یستفاد من الآیة نفسها ، و یستفاد أیضاً من الروایات واردة فی مقام الامتنان ، و منشأ هذه القاعدة و مستندها هی المنّة التی تفضّل بها اللّه تعالی علی الاُمّة الإسلامیّة ، و عندها إذا جعلنا هذین الاثنین إلی جانب بعضهما ، فمن جهة نشاهد ظهور (لا حرج) فی نفی الإلزام و الوجوب ، و من جهة اخری فإنّ منشأ هذه القاعدة عبارة عن الامتنان علی الاُمّة ، فما ذا یقتضی الامتنان علی الاُمّة و المسلمین؟إنّ الامتنان یقتضی أن نقول: إنّ الصوم الحرجی غیر واجب ، و لا نجعلک أیّها المسلم تقع فی حرج من ناحیة التکلیف بالصوم ، فلا یجب علیک الصوم ، و لا یقتضی أنّ هذا المسلم المسکین إذا صام من شدّة الورع و الاحتیاط و التعبّد أن یکون عمله هذا باطلاً ، إذ أنّ بطلان هذا العمل لا یتناسب مع الامتنان ، إنّ الامتنان یجری فقط فی حدود نفی اللزوم ، أمّا أنّه علاوة علی نفی اللزوم یقوم أیضاً بنفی المشروعیة و المقرّبیة و الصحّة ، فإنّه لا یتناسب أصلاً مع المنّة .و الآن لا بدّ من الالتفات إلی الأدلّة التی ذکرها هؤلاء ، فإذا لم تکن هذه الأدلّة سلیمة و بقینا نحن و مفاد (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) و أنّه وارد فی مقام الامتنان علی الاُمّة ، فلازم ذلک هو أنّ العبادة الحرجیّة تقع صحیحة ، و فیها مشروعیّة و مقرّبیة ، خاصّة و قد سمعت ( أنّ أفضل الأعمال أحمزها) فیستبعد أنّ الشخص الذی یصوم بشکل اعتیادی یکون صومه صحیحاً ، و أمّا الذی یأتی و یتحمّل الحرج فیقال له: إنّ صومک باطل ، إنّه مستبعد جدّاً ، علاوة علی أنّه خلاف ظاهر الدلیل ، إلّا أنّ هذا لیس کافیاً ، فلا بدّ لنا أوّلاً أن نلاحظ أدلّة القائلین

ص:161

بالبطلان ، فإذا أمکننا الإجابة عنها ، عندها یمکننا الأخذ بهذا الظاهر و نقول بصحّة العبادة الحرجیّة .

أدلّة القائلین بالبطلان:
الدلیل الأوّل: خلاصة ما أفاده المرحوم المحقّق النائینی مع توضیح مختصر
اشارة

انّه قال: ما هو الفرق بین قاعدة (لا ضرر) و بین قاعدة (لا حرج)؟ و فسّر (لا ضرر) بأنّه لم یُشرّع فی الإسلام حکم ضرری ، إلّا أنّ (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) یرد علی شکل دلیل حاکم ، و الدلیل الحاکم وظیفته التفسیر و التبیین و النظر إلی الدلیل المحکوم ، و أمّا باطنه فإنّه یضیّق و أحیاناً یوسّع ، فهنا الدلیل الحاکم یقوم بتضییق دائرة الدلیل المحکوم ، و یقول: إنّ آیة الوضوء لغیر مورد الحرج ، و عند ما نضع (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) إلی جنب آیة الصوم نستفید أنّه لو کان فی وجوب الصوم حرج علی شخص فإنّ الوجوب غیر مجعول أصلاً من قبل الشارع ، و إن کانت الآیة (کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ) تشمل من ناحیة الدلالة و الإرادة الاستعمالیة حتّی المورد الحرجی ، إلّا إنّه حینما تطرح مسألة المراد الجدّی نفهم من (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) أنّ الصوم لا یتعلّق بذمّة من کان الصوم حرجیّاً له ، و فی الحقیقة نفس المسألة التی تجرونها فی التخصیص تجری هنا أیضاً و إن کان اللسان لسان الحکومة ، إلّا إنّها تعود بالتحلیل إلی التخصیص و التقیید ، فکیف تتعاملون مع موارد التخصیص و التقیید؟عند ما یقول أحد الدلیلین: (أکرم کلّ عالم) و الآخر یقول: (لا تکرم زیداً العالم) فبضمّ الدلیل المخصّص إلی جانب الدلیل العامّ یتّضح أنّ زیداً لم یتّصف بوجوب الإکرام من البدایة حتی لو کان فی دلیل الإکرام بحسب الإرادة الاستعمالیّة عموم .

و هکذا الحکم فی مسألة الإطلاق و التقیید فلو قال أحد الدلیلین: (أعتق رقبة)

ص:162

کدلیل مطلق ، و الآخر یقول: (لا تعتق رقبة کافرة) فحینما نضع هذا الدلیل المقیّد إلی جانب الدلیل المطلق ، لا یمکن أن نستنتج من البدایة أنّ الواجب هو عتق کلّ رقبة ، بل أراد من الأوّل جعل وجوب متعلّق (بالرقبة غیر الکافرة) ، و أمّا العنوان المطلق فاستخدمه فقط فی الإرادة الاستعمالیة لا فی الإرادة الجدّیة .ففی الأدلّة الحاکمة التی تقتضی التضییق ، من قبیل قاعدة (لا حرج) فی قبال الأدلّة الأوّلیّة یرد هذا المعنی أیضاً و إن کان اللسان لسان الحکومة لا التخصیص أو التقیید ، إلّا أنّه فی النتیجة یجری نفس معنی التخصیص و التقیید ، فنحن من خلال وجود قاعدة لا حرج نستفید من البدایة عدم جعل وجوب الوضوء الحرجی ، و انّه من الأوّل لم یقع وجوب الصوم الحرجی متعلّقاً للجعل ، و کذلک بالنسبة إلی سائر الأحکام ، و عندها یقول المرحوم المحقّق النائینی : إنّه کما قلنا فی قاعدة (لا ضرر) أنّها حاکمة علی الأدلّة الأوّلیّة ، و مع أنّ مفاد (لا ضرر) نفس مفاد (لا حرج) فلسانهما واحد ، هذا یقول: لم یجعل حکم حرجی ، و هذا یقول: لم یجعل حکم ضرری ، فالفرق بینهما فقط فی الحرجیّة و الضرریّة ، و أمّا لسانهما فواحد ، و کلاهما فی مرتبة واحدة ، و کلاهما حاکم علی الأدلّة الأوّلیّة و المطلقات و العمومات ، و یقول رحمه الله : کیف نحکم بالبطلان فی باب الوضوء و الغسل الضرریّین ، و لا نحکم بالبطلان فی الصور الحرجیّة ، فما الفرق بینهما؟و طبعاً هناک فی باب الوضوء و الغسل الضرریین نکتة لا بدّ من الالتفات إلیها ، و قد التفت إلی هذه النکتة المرحوم السیّد صاحب العروة ، و هو أنّ المراد من الوضوء و الغسل الضرریّین أن یکون الوضوء بنفسه ضرریّاً لا مقدّماته ، فلم یقل أحد بأنّ الشخص المسکین الذی باع فراش بیته و اشتری ماء و توضّأ به: إنّ وضوءه باطل ، لأنّه وضوء ضرری ، کلّا فإنّ المراد من الوضوء الضرری هو ما کان فی نفس أعمال الوضوء ضرر ، مثل من یکون الماء مضرّاً به ضرراً جسمیّاً ، فهنا

ص:163

أفتی المرحوم السیّد قدس سره ، بل المشهور فی الوضوء و الغسل الضرریّین بالبطلان ، و عندها یستفید المرحوم المحقّق النائینی قدس سره من هذه المقایسة و یقول: نحن لم نفهم ما هو الفرق بین قاعدة (لا ضرر) و قاعدة (لا حرج) ، فإذا کان الوضوء و الغسل الضرریان موجبین للبطلان کما أفتی به المشهور ظاهراً ، فإنّ الوضوء و الغسل الحرجیّین فیهما نفس الملاک و المناط ، فلا بدّ أن یحکم علیهما بالبطلان أیضاً .

الجواب علی دلیل المحقّق النائینی:

هذا هو الطریق الذی سلکه المحقّق النائینی ، و لکن أشکل علیه ، و فی الحقیقة اجیب من نفس هذه المقایسة ، و هو: إنّنا لما ذا نحکم ببطلان الوضوء و الغسل الضرریین؟ لأنّ الإضرار بالنفس أحد المحرّمات ، و طبعاً فإنّ للإضرار بالنفس مراتب ، فلو لم تکن بأجمعها حرام ، فإنّ تلک المرتبة التی ترفع وجوب الوضوء هی رفع فی مورد الإضرار المحرّم ، أمّا إذا کان فی الوضوء ضرر جزئی ، و قد افترضنا أنّ هذا المقدار من الضرر لا حرمة فیه ، فهنا لم یرفع وجوب الوضوء ، فإنّ وجوب الوضوء فیما یتعلّق بالإضرار یدور مدار الإضرار المحرّم ، فکلّما اتّصف الإضرار بالحرمة یرتفع وجوب الوضوء ، فإذا کان الإضرار محرّماً فإنّ الحرمة لا تتناسب مع العبادیّة ، و المحرّم الذی هو مبغوض للمولی و ما یبعّد عن المولی لا یمکنه أن یکون مقرّباً إلی المولی بوصفه عبادةً ، و یکون فیها ملاک العبادة ، لذا فنحن فی الوضوء الضرری نحکم بالبطلان لحرمة الإضرار .و أمّا فی باب الوضوء الحرجی ، فهل هو حرام؟ و هل لدینا دلیل علی حرمة تحمّل الحرج؟ إذا کان کذلک فقد قلنا فی باب المستحبّات: إنّ لدینا الکثیر من المستحبّات الحرجیّة ، فصیام السنة بأجمعها ما عدا العیدین مستحبّ ، و لو کان واجباً لکان حرجیّاً ، إلّا إنّه ما دام بنحو الاستحباب ، فلا منافاة بین الحرجیّة

ص:164

و الاستحباب ، فإذا کان تحمّل الحرج حراماً ، فکیف یمکن أنّ یتّصف بالاستحباب؟ و کیف یعقل أن یکون الأمر المحرّم مستحبّاً و راجحاً شرعاً؟ فمن هنا نفهم أن تحمّل الحرج لا یتّصف بالحرمة أبداً ، و لا یوجد فیه أیّ عنوان للمبغوضیّة و المبعدیّة .و من هنا یفترق الوضوء الحرجی عن الوضوء الضرری ، إذ فی الوضوء ترد مسألة حرمة الإضرار و عدم اجتماع الحرمة مع العبادیّة ، و أمّا فی الوضوء الحرجی فلا یرد هذا المعنی أبداً ، فلذا فقیاس الوضوء و الغسل الحرجیّین علی الوضوء و الغسل الضرریّین باطل .

جواب آخر علی دلیل المحقّق النائینی:

و نحن ضمن قبولنا لهذا الجواب ندّعی علاوةً علی ذلک أنّنا لا نرتضی أساساً کون الوضوء و الغسل الضرریّان باطلین ، حتّی و إن کان الإضرار فیهما من نوع الإضرار المحرّم ، فمع ذلک نقول بصحّة هذا الوضوء ، لما ذا؟ لما اعتقدناه فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، و هو أنّ متعلّق الحرمة غیر متعلّق الأمر العبادی ، و مغایر لذلک الشیء الذی تعلّقت به المقربیّة ، أی یوجد هنا عنوانان:أحدهما: عنوان الإضرار بالنفس ، و لا ربط للإضرار بالنفس مع الوضوء ، فإنّک لو أجریت الماء علی یدک لا بنیّة الوضوء ، أو صببت الماء علی جسمک لا بنیّة الغسل أیضاً یتحقّق الإضرار ، فإنّ الإضرار لا دخل له بالوضوء ، و إنّما هو نتیجة ملامسة الماء البارد للجسم ، بأیّ کیفیة کانت هذه الملامسة ، لذا یوجد لدینا هنا عنوان باعتبار الإضرار بالنفس ، و عنوان آخر و هو عبارة عن الوضوء ، و الوضوء

ص:165

مقرّب إلی اللّه ، و عبادة ، و فیه رجحان ذاتی ، و الآن قد اجتمع هذا العنوانان فی الوضوء الضرری ، فیطرح هنا بحثان و عنوانان ، مبعدیّة بشأن أحد العنوانین ، و مقربیّة بشأن عنوان آخر ، مبعدیّة بشأن الإضرار بالنفس ، و مقربیّة بشأن الوضوء ، فیعاقب هذا الشخص بسبب الإضرار بالنفس ، کما أنّه یعطی ثواباً لأنّه توضّأ ، و مجرّد اجتماعهما فی عمل واحد لا یمنع أن یتعلّق بکلّ جهة عنوانها الخاصّ بها و یؤثّر فی جهته ، و لا نستطیع ذکر تفصیل هذه المسألة هنا ، و إنّما محلّها فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، لکن إذا لم یکن لدینا دلیل خاصّ علی بطلان الوضوء و الغسل الضرریّین ، فنحکم علیه أیضاً بالصحّة .و علی هذا فإنّ الطریق الذی سلکه المحقّق النائینی قدس سره ، لا یمکنه إثبات بطلان العبادة الحرجیّة ، و قد ذکرت طرق اخری ، علینا أن نلاحظها حتّی نری ما هی النتیجة التی سنصل إلیها فی المجموع .

الدّلیل الثانی علی البطلان:
اشارة

إنّه لا بدّ فی وقوع العبادة صحیحة أن یرد فیها أمر فعلی ، سواءً کان وجوبیّاً ، أو استحبابیّاً ، أو إذا لم یرد فیها أمر فعلی ، فلا بدّ أن یکون فیها ملاک أو مناط ، حتّی و إن زالت فعلیّة الأمر لسبب من الأسباب ، کالکلام الذی طرحه المرحوم الآخوند فی الکفایة فی مسألة الإزالة و الصلاة ، عند ما یکون عندنا واجب أهمّ و واجب مهم ، و فرضنا أنّ الواجب الأهمّ هو الإزالة ، و الواجب المهمّ هو الصلاة ، الآن لو أنّ هذا المکلّف مع أنّه ینبغی علیه فی الأمرین المتزاحمین ترجیح الأهمّ و امتثاله ، إلّا أنّه عصی و لم یراع الأمر بالأهم و اشتغل بالمهم ، فانشغل بالصلاة بدلاً من الإزالة ، فهذه الصلاة کانت واجباً مهمّاً ، و مع الابتلاء بالأهمّ ارتفع عنها الوجوب .إلّا إذا قلنا بالترتّب ، و أساساً إنّ الذین طرحوا مسألة الترتّب کان رأیهم علی

ص:166

أنّ العبادة تحتاج إلی أمرٍ فعلی حقیقی ، و لا یکفی الملاک و المناط فی صحّة العبادة ، و لذا اضطرّوا من أجل تصحیح الأمر الفعلی و تثبیته إلی طرح مسألة الترتّب ، و قالوا: ما هو المانع من أن نتصوّر هنا أمرین: أمرٌ متعلّق بالأهمّ بنحو الواجب المطلق و غیر المشروط ، و أمر متعلّق بالمهمّ معلّقاً علی عصیان الأمر بالأهمّ ، و یأخذ بالعصیان بنحو الشرط المتأخر ، أو معلّقاً علی نیّة عصیان الأمر الأهمّ بنحو الشرط العقلی و الشرط المتقدّم ، إلّا أن الذین أنکروا الترتّب کالمرحوم الآخوند قال هنا: إنّ المکلّف خالف الأمر الأهم و اشتغل بالصلاة ، نقول فی نفس الوقت بصحّة صلاته مع انّه لا یوجد أمرٌ بها ، و لکنّ الملاک موجود و متحقّق ، فلذا نصحّح العبادة ، و لا یلزم هناک أمرٌ فعلی بالعبادة ، فیکفی تحقّق الملاک و المناط أیضاً ، و لکن ینبغی إحراز الملاک ، و لا بدّ أن یکون المناط قطعیّاً ، و لا یکفی احتمال الملاک و المناط .و نحن فی مسألة الصلاة و الإزالة - و فی کلّ متزاحمین بشکل عامّ - لدینا یقین بتحقّق الملاک فیهما ، إلّا أنّ ضیق وقت المکلّف و عدم قدرته قد أوجب ذلک ، فإنّ المکلّف لا یستطیع عملاً الجمع بین الصلاة و الإزالة فی آن واحد ، و لا یمکنه فی آن واحد إنقاذ زید من الغرق و إنقاذ عمرو ، إلّا أنّ مصلحة وجوب الإنقاذ موجودة فی کلا الإنقاذین ، فعدم قدرة المکلّف صار سبباً فی أن یرفع المولی یده عن أحد أمریه ، و إلّا لو أنّ المکلّف کان قادراً علی الجمع بین الضدّین و امتثالهما فی آن واحد یکون أمر المولی محفوظاً فیهما معاً ، و أمّا رفع المولی یده عن أحد التکلیفین علی سبیل التخییر فیما إذا کان التزاحم بین متساویین ، فسببه أنّ المکلّف لا یستطیع الجمع بین هذین الأمرین و هذین العملین الواجبین .

الجواب علی الدلیل الثانی:

و نتساءل فیما نحن فیه: أیّ واحد من هذین الطریقین تتمسکون کملاک لصحّة

ص:167

العبادة من العبادة الحرجیّة؟ فهل یوجد هناک أمر؟ فلو کان المفاد الأوّلی لقاعدة الحرج هو نفی الوجوب و عدم الإلزام ، فلا معنی لأن یکون هناک أمر فی العبادة الحرجیّة ، لأنّ معناه طرح قاعدة (لا حرج) ، فإذا لم یکن هناک أمر فمن أین تأتون بالملاک .ففی مسألة المتزاحمین کنّا نعلّم أنّ المسألة لا ارتباط لها بالمولی أبداً ، و إنّما الإشکال یرتبط بالمکلّف و ضعف قدرته ، فإنّ المکلّف لا یستطیع الجمع بین الإنقاذین ، و لا یتمکّن فی آن واحد أن یجمع بین الصلاة و الإزالة ، و هنا بلحاظ عجز المکلّف قام المولی و رفع الید عن أحد الأمرین ، و هذا لا یقتضی أن لا تکون فی الصلاة عند ترک الإزالة أیّ مصلحة و أن تختلف هذه الصلاة عن البقیة الصلوات ، حتی تکون الصلوات بأجمعها معراج المؤمن إلّا هذه الصلاة ، و أنّ بقیّة الصلوات تَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ إلّا هذه الصلاة ، فهنا نحرز مسألة الملاک و المناط بشکل کامل ، و لذا فإنّ المرحوم الآخوند من أجل هذا المناط قام بتصحیح العبادة و حکم بصحّة الصلاة .و لکن فیما نحن فیه من أین لنا أن نعرف انّه فی العبادة الحرجیّة رفع التکلیف فقط ، و أمّا الملاک فلا یزال محفوظاً ، و أنّ المناط فی الصوم الحرجی و غیره واحد؟ فعلی هذا لا بدّ من إحراز هذا المعنی ، و لا یکفی مجرد الاحتمال ، فلو أحرزنا أنّ تلک المصلحة التامّة الموجودة فی الصوم غیر الحرجی موجودة أیضاً فی الصوم الحرجی ، فبإمکاننا أن نحکم بصحّة الصوم الحرجی ، و أمّا إذا لم نحرز ذلک ، و لم نتمکّن من إثباته ، فلا طریق لنا حینئذٍ إلی تصحیح العبادة الحرجیّة .و ربّما یأتی شخص و یقول: نحن نثبته بأن نقول: إنّ (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) واردة فی مقام الامتنان ، و الامتنان یقتضی أنّ اللّه لم یجعل وجوباً للصوم الحرجی ، لکن هل یقتضی الامتنان أن یقول: إنّ الصوم الحرجی لا قیمة له أصلاً؟

ص:168

فهل هذا داخل فی الامتنان؟ربّما یقال: إنّ هذا مخالف الامتنان ، فنحن نستفید من نفس کون قاعدة (لا حرج) واردة فی مقام الامتنان أنّ الامتنان یرفع اللزوم فقط و اللّابدیّة ، و لا ترفع المصلحة عن الفعل ، و لذا فنحن من خلال ضمِّ قاعدة (لا حرج) إلی دلیل: (کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ) نفهم وجود الملاک و المصلحة فی الصوم الحرجی ، رغم عدم وجوب التکلیف .

تحقیق المسألة:
اشارة

و لکنّ هل یحصل من هذا الکلام اطمئنان لدی الإنسان؟ علینا أن نری هل إذا ضممنا هذین الدلیلین ، فهل یدلّ أحد الدلیلین علی وجوب الصوم ، و هو (کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ) من دون أن تطرح مسألة الحرج و عیّن الحرج فیها ، و یکون مقتضی إطلاقه ثبوت وجوب الصوم حتّی إن کان حرجیّاً؟ إذا لم تکن هناک قاعدة (لا حرج) لکنّا قد استفدنا هذا المعنی من (کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ) و لکن عند ما جعلنا إلی جانب آیة الصوم هذه القاعدة ، و إنّ (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) فی مقام الإخبار ، تخبر عن ما ذا و عن أی شیء ؟ المخبریّة هی أنّ وجوب الصوم الحرجی لم یشرّع أصلاً و من أوّل الأمر ، و لو أنّکم تصورتم من خلال الإرادة الاستعمالیّة و مقتضی الإطلاق فی (کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما . . .) أنّ وجوب الصوم جعل بشکل مطلق ، إلّا إنّنی أنا الشارع و مقتضی قانون الصوم الذی جئت ب (کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ) أقول لکم : إنّه من البدایة لم یجعل وجوب الصوم الحرجی ، و إنّما کان فی الحقیقة فقط تصوّر للجعل .فلو قال ذلک من الأوّل ، و أورد مثل هذا التعبیر ، فمن أین لنا أن نعرف أنّ الصوم الحرجی مشتمل علی مصلحة ، فلو قیل (أکرم العلماء إلّا زیداً) علی نحو

ص:169

الاستثناء و التخصیص المتّصل ، فما هو مقدار الاستثناء الذی یستفاد من ذلک؟ هل تقولون : إنّ زیداً لا وجوب فی إکرامه مع وجود ملاک وجوب الإکرام فیه؟ أو تقولون لا حکم فیه ، و ربّما لم یکن فیه ملاک أیضاً ، و القاعدة إنّه لا ملاک له ، فهل أنّ ضمّ قاعدة نفی الحرج إلی الأدلّة الأوّلیّة تفید غیر هذا المعنی؟و بعبارة أوضح: إنّه و إن کان لسان قاعدة (لا حرج) لسان الحکومة ، أی حکومة هذه القاعدة علی الأدلّة الأوّلیّة ، و لکن هل أنّ الحکومة مختلفة عن التخصیص من هذه الناحیة؟ فلو قال المولی فی موضع: (أکرم العلماء) و فی موضع آخر: (لا یجب إکرام زید العالم) ، فهناک أثبت الوجوب ، و فی الدلیل المخصّص نفی الوجوب ، فإذن هنا أیضاً توجد مسألة الحکومة ، و لسانها أقوی من لسان التخصیص ، فهو أیضاً فی موضع التشریع یقول بعدم الوجود من أوّل الأمر ، فإذا لم یکن تکلیف حرجی من أوّل الأمر فی موضع التشریع فمن أین لی أن أعلم أنّ هذا الصوم الحرجی واجد للملاک؟

إشکال و جواب:

أمّا الاشکال: قد یقال: إنّ لدلیل وجوب الصوم فی الحقیقة دلالتان: دلالة مطابقیّة ، و دلالة التزامیّة ، امّا الدلالة المطابقیة فهی عبارة عن وجوب الصوم هذا ، و أمّا الدلالة الالتزامیّة ، أو بتعبیر آخر: لازمه ، فهو أنّ الصوم بشکل کلّی فیه مصلحة تامّة ، فلنقل بوجود دلالتین لدلیل وجوب الصوم ، و من ثمّ نقول: إنّ المقدار الذی ترفعه قاعدة الحرج من دلیل وجوب الصوم یختص بدلالته علی الوجوب ، و أمّا فیما یختص باشتمال الصوم علی المصلحة التامّة فإنّ قاعدة (لا حرج) لا تنافیه و لا تغایره .ثمّ نأتی بعد ذلک و نطبّق المسألة علی بحث موجود فی باب التعادل

ص:170

و التراجیح ، و هو: هل أنّ الروایتین المتعارضتین (بغضّ النظر عن الأخبار العلاجیّة) التی تقتضی القاعدة تساقطهما ، فهل یحصل التساقط بالنسبة إلی مدلولهما المطابقی فقط ، أو یعمّ حتّی المدلول الالتزامی؟ بعبارة أوضح: لو أنّ روایة تقول:

(صلاة الجمعة واجبة) ، و روایة اخری تقول: (صلاة الجمعة حرام) فالقاعدة تقتضی سقوط هاتین الروایتین ، فإنّ التعارض یؤدّی إلی التساقط ، و لکن ما هی حدود التساقط؟ فهل یکون بمقدار رفع الحرمة و الوجوب مع احتمال بقاء الاستحباب و هو حکم ثالث ، أو أنّ تساقط هاتین الروایتین فی نفی الوجوب و الحرمة ، و أمّا فیما یختصّ بنفی الاستحباب فهما مشترکان و لا یتحقّق التساقط ، و فی الحقیقة فإنّ الروایتین المتعارضتین حجّة فی نفی الثالث و إن کانا ساقطتین عن الحجیّة بالنسبة إلی مفادهما .فنأتی و نقول: إنّ ما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ دلیل وجوب الصوم له دلالتان:

دلالة علی الوجوب و دلالة علی المصلحة ، و المقدار الذی ترفعه قاعدة (لا حرج) من هذا الدلیل هو دلالته علی الوجوب فقط ، أمّا فیما یختص بالدلالة علی المصلحة فإنّها لا ینافی قاعدة (لا حرج) حتّی تقوم هذه القاعدة برفع المصلحة أیضاً .الجواب: و لکن هذا الکلام محلّ مناقشة؟ لأنّ دلالة دلیل وجوب الصوم علی المصلحة دلالة فرعیّة و طولیّة ، أی انّها تدلّ أوّلاً علی الوجوب ، و عن طریق الدلالة علی الوجوب یدلّ علی المصلحة ، لا أنّ الوجوب و المصلحة یکونان فی عرض واحد ، فیدلّ علی الوجوب و یدلّ علی المصلحة ، حتّی یقال: إنّ قاعدة (لا حرج) تعارض الدلالة علی الوجوب ، و لا تعارض الدلالة علی المصلحة أبداً ، کلّا ، إنّ الدلالة علی المصلحة فی طول الدلالة علی الوجوب ، و إلّا فأیّ موضع من (کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ) یدلّ علی مسألة المصلحة؟قد تأتی و تقول بأنّ هذه الآیة تقول: إنّ الصوم واجب ، و نحن من الخارج نعلم

ص:171

أنّ کلّ واجب فیه مصلحة تامّة ، فإذن هناک أمر خارجی نضمّه إلی هذا الدلیل ، فإنّ دلالة الدلیل علی وجوب الصوم تطرح بعنوان أنّها دلالة أصلیّة ، و دلالته علی المصلحة تطرح بعنوان أنّها دلالة تبعیّة و فرعیّة .و لکنّ الصحیح أنّه إذا جاءت قاعدة (لا حرج) و حذفت مقداراً من الدلالة الأصلیّة و قالت: لا تحقّق للوجوب فی حالة الحرج ، فمن أین لنا حینئذٍ أن نحصل علی مسألة المصلحة فی العبادة الحرجیّة؟ فنحن عن طریق الوجوب نفهم علی أنّ کلّ واجب یشتمل علی المصلحة ، و لکن قد قامت قاعدة (لا حرج) و قالت إنّه لا وجوب فی الأمر الحرجی من الأساس ، فإذا لم یکن هناک وجوب فمن أین نحصل علی وجود المصلحة؟و هکذا فی المقارنة بین الخبرین المتعارضین ، فالمسألة أیضاً محلّ خلاف ، فإنّ المحقّق النائینی لا یرتضی ذلک أیضاً ، فإنّه لا یقول: إذا تساقطت الروایتان بالتعارض تبقی الحجیّة محفوظة بالنسبة إلی نفی الثالث ، بل یقول بسقوط کلا الدلیلین المطابقی و الالتزامی .و ثانیاً: لو فرضنا أنّنا سلّمنا بقاء الحجیّة بالنسبة إلی نفی الثالث فی الخبرین المتعارضین ، إلّا إنّ الفرق بین المسألتین؛ أنّ المسألة هناک مسألة عقلیّة و نرید فیها أن نری کیف یتعامل العقل مع الخبرین المتعارضین؟ و طبعاً یقوم العقل بالتجزئة و التحلیل ، فالعقل محلّل ، فیأتی هناک و یقول: إنّ نزاع هذین الخبرین قائم فی المدلول المطابقی ، فلا بدّ أن یتساقطا ، و أمّا فی المدلول الالتزامی فلا نزاع بینهما ، فلا داعی إلی تساقطهما ، لأنّ المسألة مسألة عقلیة .أمّا فیما نحن فیه فلیست المسألة مسألة العقل ، و إنّما المسألة هی لسان قاعدة نفی الحرج فی قبال دلیل وجوب الصوم ، و لا مجال للعقل هنا حتّی نقول: لو أدرک العقل من الأوّل أنّ الصوم الحرجی فیه مصلحة فلا حاجة لنا بهذه البحوث . أنّنا نفترض أنّ عقلنا لم یتوصّل إلی إدراک شیء ، فعلینا أن نستفید حکم المسألة من هذه الأدلّة ، فإنّ (ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) یقول : إنّ الصوم الحرجی لم یُجعل من البدایة ، فکیف علمنا بأنّ الحرجی یشتمل علی المصلحة؟ خاصّة مع وجود المؤیّد الذی ذکرته ، و هو أنّ فی آیة الصوم نفسها تجری (لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ) الذی هو عبارة عن قاعدة نفی الحرج عن المسافر ، فی حین أنّه لا توجد مصلحة فی صوم المسافر حتّی بمقدار رأس الإبرة ، و إنّما صومه محکوم بالبطلان .

نتیجة البحث

فعلیه رغم إنّنی فکّرت طویلاً فی المسألة من أجل العثور علی طریق مطمئنّ لاکتشاف الملاک و وجود المصلحة فی العبادات الحرجیّة ، إلّا أنّنی لم أجد مثل هذا الطریق ، بل علاوة علی ذلک توجد مؤیّدات اخری أیضاً ، فمن جملة المؤیّدات أنّنا إلی الآن لم یطرق أسماعنا ممّا سمعناه أو شاهدنا و قرأناه من أن الإنسان حینما یرید أن یصلّی فعلیه إمّا أن یتوضّأ أو یتیمّم و لا وجود لشیء ثالث ، فقد یستفید الإنسان هذا المعنی من آیة الوضوء ، فی حین أنّنا لو قلنا بصحّة الوضوء الحرجی ، فلازم ذلک من الناحیة العلمیّة أن یکون مخیّراً ، فإذا شاء توضّأ و صلّی ، و إذا لم یشأ یتیمّم و یصلّی عن تیمّم ، و قلنا فی الواجبات التخییریة: إذا کان أحد أطراف الواجب التخییری حرجیّاً فلا یوجد إشکال ، و یکون کالمستحبّ الحرجی ، و یکون مخیّراً بین الوضوء و التیمّم .و إذا قلت: لدینا دلیل علی عدم وجود الوجوب التخییری ، فنقول: ضع آیة (لا حرج) إلی جانب (آیة الوضوء) یتولّد عندنا الوجوب التخییری ، و ما هو الإشکال فی أن یکون الوجوب تخییریّاً؟ فإنّ الحرجیّة تنفی التعیین إلّا أنّها لا تنفی التخییر ، فحینئذٍ لا بدّ أن نلتزم فی مورد العبادات الحرجیّة (طبعاً لیس فی کلّ

ص:172

ص:173

العبادات الحرجیة فإنّ هذا الکلام لا یجری فی الصوم و إنّما یجری فی مسألة الوضوء و التیمّم ، و الغُسل و التیمّم) أنّ المسألة تطرح بعنوان الواجب التخییری: (أیّها المکلّف إمّا یجب علیک الوضوء مع کونه حرجیّاً ، و أمّا علیک التیمّم) و لا مانع من أن یکون أحد أطراف الواجب التخییری حرجیّاً .و لکن هل یمکننا أن نلتزم بهذا المعنی؟ و هل نستطیع أن نقول فیما یتعلّق بمثل هذا الشخص : إنّ مسألة الوضوء و التیمّم تطرح بعنوان الواجب التخییری؟ طبعاً لیس لدینا دلیل عقلی علی خلافه ، إلّا إنّه فی ذهننا بما أنّنا متشرعة و نتناول شئون الفقه ، نستبعد فی الجملة أنّ مسألة الوضوء و التیمّم مع کونهما فی طول الآخر أن یکونا فی مورد فی عرض بعضهما و علی هیئة الواجب التخییری ، لذا یبدو فی نظری - و لا أقطع بهذا المعنی - إنّنی لم أجد طریقاً لتصحیح العبادة الحرجیّة بحسب ما یستفاد من الأدلّة ، فبناءً علی القاعدة فإنّ العبادات الحرجیّة محکومة بالبطلان .

بقی بحث أو بحثان فی قاعدة (لا حرج)

اشارة

نبحثهما بشکل مختصر .

التعارض بین «لا ضرر» و «لا حرج»

أحدهما: إذا تعارضت قاعدة (لا حرج) مع قاعدة (لا ضرر) و طبعاً هذا البحث نبیّنه علی المعنی الذی بیّنه المرحوم الشیخ فی قاعدة (لا ضرر) ، أو المعنی الذی أفاده المرحوم الآخوند فی قاعدة (لا ضرر) ، و أمّا علی بیان المرحوم شیخ الشریعة الأصفهانی أعلی اللّه مقامه ، أو علی بیان الاُستاذ الأعلم الإمام مدّ ظلّه العالی فلا یرد هذا البحث ، و إنّما یرد علی المبنی الذی یفسّر (لا ضرر) کما یفسّر (لا حرج) و یری شأنهما واحداً ، أی کما أنّ (لا حرج) یطرح کدلیل حاکم فی قبال الأدلّة الأوّلیّة فکذلک ، (لا ضرر) أیضاً یطرح بعنوان أنّه دلیل حاکم فی قبال الأدلّة الأوّلیّة ، غایة الفرق بینهما أنّ هذا ینفی التکلیف الحرجیّ ، و ذلک ینفی

ص:174

التکلیف الضرریّ ، فهما یختلفان فی عنوان الضرر و الحرج ، و أمّا من حیث الدرجة و المرتبة فکلاهما حاکم و متقدّم علی الأدلّة الأوّلیّة .إنّ مبنی المرحوم الشیخ و المرحوم الآخوند قدس سره هو فی الحقیقة مبنی المشهور فی (لا ضرر) ، و أمّا بیان المرحوم الشریعة الأصفهانی و بیان الإمام مدّ ظله العالی فمنحصر بهما ، أی علی خلاف نظریّة المشهور فی قاعدة (لا ضرر) .فالآن لو حصل تعارض - بناء علی نظریّة المشهور - بین قاعدة (لا ضرر) و (لا حرج) فی مورد ، و مثاله أن نفرض أنّ الإنسان لو احتاج احتیاجاً مبرماً فی أن یحدث بالوعة ، و إحداث مثل هذه البالوعة أضرّ بجاره بشکل مباشر ، فهنا تجویز إحداث البالوعة بناءً علی قاعدة (الناس مسلّطون علی أموالهم) یؤدّی إلی تضرّر الجار بشکل کامل ، کما أنّ فی منعه من حفر البالوعة حرج علیه ، فإنّه سیضطرّ إلی حمل الفضلات إلی خارج بیته باستمرار و إلقائها فی محلّ بعید ، و هذا فیه حرج و ضیق واضح . فهنا یتحقّق التعارض بین قاعدة (لا حرج) و قاعدة (لا ضرر) ، فإنّ قاعدة لا ضرر تقف إلی جانب الجار ، و بعنوان أنّها حاکمة علی (الناس مسلّطون علی أموالهم) تقف بوجه تسلّط المالک علی ماله و تمنعه من حفر البالوعة ، و من جهة اخری فإنّ منع المالک من التصرّف فی ماله مع حاجته المبرمة للبالوعة فیه أیضاً حرج شدید علیه ، فتأتی قاعدة (لا حرج) و تجیز له ذلک .یقول المرحوم الشیخ فی کتاب الرسائل فی أواخر بحث قاعدة (لا ضرر) نحن لا بدّ أن نعطی الحقّ إلی المالک ، لأنّ قاعدة (لا ضرر) و قاعدة (لا حرج) کدلیلین حاکمین و فی مرتبة واحدة ، فبین هذین الدلیلین الحاکمین تتحقّق المعارضة ، و عند ما تقع المعارضة بینهما یتساقطان مع کونهما فی مرتبة واحدةٍ ، فإذا تساقطا یبقی الدلیل المحکوم باقیاً علی حاله ، و الدلیل المحکوم هو (الناس مسلّطون علی أموالهم) و هذا یجیز للمالک أن یحفر بالوعة فی ملکه ، إذ لا یوجد دلیل حاکم فی قبال

ص:175

(الناس مسلّطون علی أموالهم) .إلّا أنّ المرحوم الشیخ قدس سره یطرح طریقاً آخر و هو أنّه من الممکن أن نقول: إنّ قاعدة (لا حرج) فیها حکومة علی قاعدة (لا ضرر) ، فکما أنّ قاعدة (لا حرج) حاکمة علی الأدلّة الأوّلیّة فهی حاکمة أیضاً علی قاعدة (لا ضرر) ، فلو فرضنا صحّة هذه الحکومة ، فإنّ قاعدة (لا حرج) تجری هنا ، و نسمح للمالک أن یحفر البالوعة .إلّا أنّ البحث أنّه من أین جاء احتمال الحکومة هذا؟ و ما هو منشؤه؟ و هل بإمکاننا - حتّی کاحتمال - أن نجعل قاعدة (لا حرج) حاکمة علی قاعدة (لا ضرر) ، أو أنّه لا یوجد أصلاً محلّ لمثل هذا الاحتمال؟ إذا فسّرنا (لا ضرر) کما فسّرها الشریعة الأصفهانی من أنّ (لا ضرر) مطروح بعنوان أنّه دلیل للحکم الأوّلی ، و أنّ (لا ضرر فی الإسلام) مثل (لا تشرب الخمر) یطرح کحکم أوّلی ، فإذن یصحّ لقائل أن یقول: إنّ قاعدة (لا حرج) کدلیل حاکمٍ علی سائر الأدلّة الأوّلیّة ، یتقدّم علی قاعدة (لا ضرر) ، إلّا أنّ الشیخ لا یقول بهذا المبنی ، لأنّ (لا ضرر) و (لا حرج) فی عرض واحد ، لا بتلک الکیفیّة التی طرحها المرحوم الشریعة الأصفهانی .عندها نقول للشیخ: ما هو المنشأ لاحتمال حکومة (لا حرج) علی (لا ضرر)؟ لیس بإمکاننا أن نذکر أیّ منشأ لهذا الاحتمال ، و إذا أردنا توضیحاً أکثر فی هذا الخصوص نذکر کلام المرحوم المحقّق النائینی (الذی له أیضاً رسالة فی موضوع «لا ضرر») و قد کتبها بنفسه ، بقلمه ظاهراً ، و فیها عند ما یذکر خلاصة إشکاله علی المرحوم الشیخ یقول: إنّ کلام الشیخ مبتنٍ علی مقدّمتین ، کلتاهما باطلتین و فاسدتین ، فإحدی المقدّمتین هی: أنّنا أصلاً لا یمکننا أن نتصوّر التعارض بین قاعدة (لا حرج) و (لا ضرر) ، لما ذا؟ یقول: لأنّ قاعدة (لا ضرر) تخبر عن نفی الحکم ، فإذا أراد شیء أن یعارض الدلیل النافی ، فلا بدّ أن یقوم هذا المعارض

ص:176

بإثبات التکلیف ، و أمّا إذا کان لسانهما معاً لسان النفی و العدم ، فکیف بإمکان العدمین أن یتعارضا؟و المقدّمة الثانیة: أن تکون قاعدة (لا حرج) متأخّرة عن قاعدة (لا ضرر) حتّی تکون ناظرة إلیها و حاکمةً علیها ، کما أنّها متأخّرة عن دلیل وجوب الصوم ، لکونها ناظرة إلیه و حاکمة علیه ، مع أنّه لا یمکن أن یلتزم بأنّ قاعدة لا حرج متأخّرة عن قاعدة لا ضرر ، بل کلتا القاعدتین حاکمتان علی الأدلّة الأوّلیّة فی مرتبة واحدة و عرض واحد .فیردّ علی الشیخ أنّه لا وجه لاحتمال حکومة قاعدة (لا حرج) علی قاعدة (لا ضرر) .

جریان القاعدة فیما إذا تحقّق الموضوع من ناحیة المکلّف

ثمّ إنّه لا شکّ فی أنّ قاعدة لا حرج نافیة للأحکام الحرجیّة الثابتة للشیء فی حدّ نفسه ، إنّما الإشکال فی ما إذا کان للشارع حکم شرعی ، و لکن موضوع ذلک الحکم إنّما یتحقّق من ناحیة المکلّف ، بحیث إذا لم یمکن فعله اختیاراً لم یترتّب علیه حکمٌ ، کما هو الحال فی النذور و وجوب الوفاء به ، فإنّ وجوب الوفاء بالنذر و إن کان حکماً شرعیّاً ، إلّا أن موضوعه یتحقّق بید المکلّف و باختیاره ، فهل تجری قاعدة (لا حرج) فی مثله إذا کان العمل بالنذر حرجیّاً ؟الظاهر عدم جریان القاعدة فی مثله ، لمّا تقدّم من صاحب الفصول فی الجواب عن النقض بوجوب تمکین النفس للقصاص من أنّه إنّما نشأ الحرجیّة من نفس المکلّف و اختیاره لا من الحکم الشرعی .إلی هنا تمّ ما أفاده دام ظلّه فی قاعدة لا حرج ، و قد بحثه فی شهر رمضان المبارک .و السلام

ص:177

ص:178

الفجر فی اللیالی المقمرة

اشارة

ص:179

ص:180

الفجر فی اللیالی المقمرة

مقدمة خادمی

الحمد للّه الذی فلق الإصباح وَ جَعَلَ اللَّیْلَ سَکَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً و الصلاة و السلام علی شمس الوجود محمد و آله الطیبین الأبرار المعصومین و اللعن الدائم علی أعدائهم أجمعین إلی یوم الدین .أمّا بعد فهذه رسالة نفیسة فی تعیین الفجر فی اللیالی المقمرة و هی التی ألقاها أستاذنا الکبیر فقیه أهل البیت آیة اللّه العظمی الحاج الشیخ محمد الفاضل اللنکرانی دام ظله الوارف فی لیالی شهر رمضان سنة 1418 ه .ق .و لمّا کان هذا البحث مورد التدقیق من الوجهة العلمیّة للعلماء و المجتهدین و مورد الحاجة من الوجهة العملیّة للمکلّفین و المقلّدین فأردت أنّ أُنَظِّمَ بحث الأستاذ مدّ ظلّه العالی حتّی یستفید منه روّاد الفقه و اسألُ اللّه تعالی أن یجعل هذا ذخیرة لیوم فقری و حاجتی و أن یجعلنی من خَدَمة فقه أهل البیت علیهم آلاف التحیّة و الثناء . قم المقدسة - اکبر خادم الذاکرین (خادمی)27 ربیع الثانی 1420 ه . ق

ص:181

ما هو حکم الصلاة و الصوم فی اللیالی المقمرة

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ ما هو حکم الصلاة و الصوم فی اللیالی المقمرة الّتی یتأخّر فیها ظهور نور الفجر و یتأخر فیها غلبة نوره علی نور القمر؟ و هذه المسألة من المسائل المبتلی بها خصوصاً فی شهر رمضان و هی أنّ طلوع الفجر فی اللیالی المقمرة متأخّر عن الساعات المعینة بحسب القواعد النجومیة أو لا .و من المعلوم انّ اللیالی المقمرة تتحقّق من اللیلة الثانیة عشر إلی الرابعة و العشرین من کلّ شهر و هی التی یکون ضوء القمر فیها شدیداً بالنسبة إلی سائر اللیالی . و الظاهر أنّ هذا البحث لم یکن مطروحاً فی کتب القدماء و المتوسطین و الّذی طرحه أولاً بهذا الشکل صاحب الجواهر رحمه الله و احتاط فی تأخیر صلاة الفجر فی اللیالی البیض و الغیم حتّی یتبین الفجر بنحو الاحتیاط الاستحبابی (1) .ثمّ المحقّق الهمدانی رحمه الله فرّق بین اللیالی المقمرة و اللیالی المغیمة بتأخیر الصلاة حتّی یتبین الفجر فی الأول دون الثانی (2) . و هذه المسألة تکون ذات آثار أحدها فی الدخول فی صلاة الصبح و ثانیها فی امتداد وقت صلاة العشاء أو العشاءین و ثالثها فی جواز الأکل و الشرب فی سحر رمضان و رابعها فی نافلة الصبح فإنّ أوّل وقتها طلوع الفجر و إن جوّز تقدیمه و إتیانه بعد نافلة اللیل لمن صلی نافلة اللیل و یعبّر عنه بإقحام نافلة الصبح فی نافلة اللیل .

ص:182


1- 1) . قال صاحب الجواهر: «ینبغی التربص فیه (أی القمر) حتّی یتبین و یظهر ، خصوصاً فی لیالی البیض و الغیم ، للاحتیاط فی أمر الصلاة و إیماء التشبیه بالقبطیة البیضاء و نهر سوری إلیه و خبر ابن مهزیار» جواهر الکلام ، ج 7 ، ص 97 - 98 ، طبع دار الکتب الإسلامیة .
2- 2) . مصباح الفقیه ، ج 2 ، ص 25 .

و بعد هذا المحقّق ، من أصرّ علی هذا المبنی هو الإمام الخمینی قدس سره فإنّه قدس سره دوّن رسالة موجزة فی تعیین طلوع الفجر فی اللیالی المقمرة و کنت استنسخه فی السنوات الماضیة و تلک النسخة موجودة عندی و لکن فی زماننا هذا طبعت هذه الرسالة و هذه الرسالة کما قلنا مختصرة فی حد صفحة أو صفحتین . و اختار هو مختار الهمدانی رحمه الله باستناد الکتاب و السنّة و قال المحقّق الهمدانی: «مقتضی ظاهر الکتاب و السنة و کذا فتاوی الأصحاب اعتبار اعتراض الفجر و تبیّنه فی الاُفق بالفعل فلا یکفی التقدیر مع القمر لو أثّر فی تأخّر تبین البیاض المعترض فی الاُفق» و سیأتی بیان إنّه لما ذا قال ظهور «فتاوی الأصحاب» مع أنّ هذه المسألة لم تکن معنونة فی کلمات الفقهاء .

و العمدة هو البحث عن الکتاب

شأن نزول و مفاد قوله تعالی أُحِلَّ لَکُمْ لَیْلَةَ الصِّیامِ الرَّفَثُ إِلی نِسائِکُمْ

و هو قوله تعالی: «أُحِلَّ لَکُمْ لَیْلَةَ الصِّیامِ الرَّفَثُ إِلی نِسائِکُمْ هُنَّ لِباسٌ لَکُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّکُمْ کُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَکُمْ فَتابَ عَلَیْکُمْ وَ عَفا عَنْکُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما کَتَبَ اللّهُ لَکُمْ وَ کُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیامَ إِلَی اللَّیْلِ» 1 .ذکر المفسرون ذیل هذه الآیة وجوهاً فی وجه نزولها و قال الطبرسی رحمه الله فی المجمع: «روی علی بن إبراهیم بن هاشم عن أبیه رفعه إلی أبی عبد اللّه علیه السلام : قال کان الأکل محرّماً فی شهر رمضان باللیل بعد النوم و کان النکاح حراماً باللیل و النهار فی شهر رمضان و کان رجل من أصحاب رسول اللّه یقال له مطعم بن جبیر أخو عبد اللّه بن جبیر الذی کان رسول اللّه و کلّه بِفَم الشعب یوم أحد فی خمسین من الرماة و فارقه أصحابه و بقی فی اثنی عشر رجلاً فقتل علی باب الشعب و کان أخوه

ص:183

هذا مطعم بن جبیر شیخاً ضعیفاً و کان صائماً فأبطأت علیه أهله بالطعام فنام قبل أن یفطر فلمّا انتبه قال لأهله قد حرم علیّ الأکل فی هذه اللیلة فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فأغمی علیه فرآه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فَرَقَّ له و کان قوم من الشباب ینکحون باللیل سرّاً فی شهر رمضان فأنزل اللّه هذه الآیة فأحلّ النکاح باللیل فی شهر رمضان و الأکل بعد النوم إلی طلوع الفجر» . فحاصل شأن النزول أنّه بعد تشریع الصوم کان هناک حکمان أحدهما تحریم مجامعة النساء فی لیلة شهر رمضان مضافاً إلی حرمتها فی نهار رمضان لمن کان صائماً و ثانیهما عدم جواز الأکل و الشرب بعد النوم فإنّ نام بعد أکل العشاء و استیقظ قبل الفجر فلا یجوز له السحور أی ما یسمی بالفارسیة ب«سحری» فجواز أکل السحور کان لمن لم ینم فی اللیل .و لمّا وقع اغماء الشیخ و تخلّف الشباب تغیّر الحکم و جوّز الشارع أکل السحور بعد النوم و الجماع فی اللیل و لا یخفی أن الأمر فی قوله تعالی: «باشِرُوا» و فی قوله تعالی: «کُلُوا وَ اشْرَبُوا» فی مقام رفع الحظر و لا یدلّ علی الوجوب ، بمعنی أن المباشرة و الأکل و الشرب فی اللیل کان ممنوعاً و محظوراً و الآن لا بأس بها .

الکلام فی الغایة أی غایة قوله تعالی حتّی یتبین لکم الخیط الأبیض
اشارة

إلی هنا اتضح شأن نزول الآیة و مفادها إلی الغایة أی «حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» و الکلام هنا فی الغایة و من المعلوم انّ العرف یستفید منها بمناسبة شأن النزول و خصوصیات الآیة جواز المباشرة و الأکل و الشرب إلی تبین طلوع الفجر أمّا بعده فلا و المؤیّد لهذا المطلب قوله بعد ذلک «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیامَ إِلَی اللَّیْلِ» بمعنی انّ إباحة هذه الاُمور تنتهی بمجرّد طلوع الفجر و علیکم من بعد طلوع الفجر إتمام الصیام إلی اللیل .

ص:184

و المهم توضیح هذه الغایة و من المؤسف أنّ أکثر الکتب التی الّفت فی توضیح آیات الأحکام و بعض التفاسیر التی راجعتها لم أجد توضیحاً وافیاً بالنسبة إلی هذه الغایة مع إنّ ثمرة مهمة فقهیّة تترتّب علی هذه الفقرة و قبل توضیح هذه الغایة نقدم مقدّمة عبّر عن هذه المقدّمة فی بعض الکتب بعنوان «الضابطة» .الضابطة: و هو أنّ العناوین و المفاهیم المأخوذة فی موضوعات الأحکام و خصوصیات الأحکام ظاهرة فی الفعلیة أو لا .مثال ذلک أنّه إذا قال الشارع فی دلیل: «الماء المتغیّر نجس» أو قال الفقهاء فی الرسائل العملیة أو الکتب الفقهیة: «إذا تغیّر الماء الطاهر أحد أوصافه الثلاثة - اللون و الرائحة و الطعم - بملاقاة نجس العین یصیر نجساً و لو کان الماء عشرة اکرار» . فما المراد بالتغیر ، هل التغیر فعلی و تحقیقی بمعنی أنّه إذا تغیر رائحته یستشمّ منه الرائحة بالفعل و إذا تغیر لونه یری تغیره کالدم الذی اریق فی الکرّین من الماء و صار الماء أحمر أو أنّ المراد بالتغیّر هو الأعم من الفعلی و التقدیری کما إذا ارِیقَتْ مادة کیمیاویة فی الماء ثمّ اریق دم کثیر فیه بنحو لو لم تکن تلک المادة فی الماء لتغیّر لونه ، هل هو نجس أو لا .یذکر المحققون هنا تلک الضابطة و یقولون ظاهر العنوان المأخوذ فی موضوع الدلیل الفعلیة أیّ الماء المتغیّر بالفعل ، ففی المثال لا یحکم بالنجاسة لأنّ التغیر هنا «تقدیری» أو «لولائی» بمعنی أنّه لو لا المادة لأثّر الدم فی الماء لکنّها مانعة عن التغیّر بالفعل .و استثنی الفقهاء من هذه القاعدة عنوان العلم و الیقین و أمثال ذلک فإنّه إذا أخذ فی الدلیل فلا موضوعیة له بل هو طریق إلی الواقع کقوله «الماء کلّه طاهر حتّی تعلم أنه نجس» .أو «کلّ شیء شکّ فی طهارته و نجاسته فهو طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» .

ص:185

و لا خصوصیة لعنوان العلم بل یجوز قیام البیّنة مقامه فیثبت بها نجاسة الشیء أیضاً و هکذا یجوز قیام الاستصحاب مقام العلم فیثبت به نجاسة الشیء أیضاً .

و هکذا یجوز قیام أخبار ذی الید مقامه کما إذا أخبر صاحب البیت بأنّ هذه السجادة نجسة فیثبت بأخباره نجاستها و إخباره حجّة و لو لم تحصل مظنّة أو علم بالنجاسة .فتحصل أن هنا ضابطتین الأولی بالنسبة إلی المستثنی منه و هی إنّ موضوعات الأحکام ظاهرة فی الفعلیة و لعناوین الموضوعات خصوصیّة و موضوعیّة .و الثانیة بالنسبة إلی المستثنی و هو عنوان العلم و الیقین و أمثال ذلک کالتبیّن و لا خصوصیّة عرفاً لهذه العناوین و لذا یجوز قیام غیره کالأمارة و الأصل مقامه .ثمّ إذا اتضح هاتان الضابطتان نرجع إلی قوله تعالی: «کُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» فنقول: أوّلاً: أنّ الخیط الأبیض هو الفجر الصادق الذی یشبه الخیط لقلّة عرضه و هو بنحو أفقی فی السماء و یتزاید شیئاً فشیئاً .و ثانیاً: أنّ الخیط الأسود عبارة عن اللیل و عبّر عنه بالخیط أیضاً لوجهین أمّا للمشاکلة (1) التی من المحسنات البدیعیة التی ذکرت فی المطول و المختصر بمعنی أنه لمّا عبّر عن الفجر بالخیط الأبیض عبّر عن اللیل بالخیط الأسود للمشاکلة فی التعبیر و إمّا للمقایسة بین الخط الأبیض و ما یشغل من اللیل فإنّ الخیط الأبیض یشغل بمقدار خیط أسود من اللیل و أنّه یزول بالخیط الأبیض مثله من السواد و هذا الوجه یمکن استفادته من المجمع بالتأمّل و إن لم أقل أنه یرید ذلک جزماً .و ثالثاً: أنّ قوله «مِنَ الْفَجْرِ» احتمالات ثلاثة: التبعیضیة و التبیینیة و النشویة

ص:186


1- 1) . قال الخطیب القزوینی فی تلخیص المفتاح: المشاکلة و هی ذکر الشیء بلفظ غیره لوقوعه فی صحبته تحقیقاً أو تقدیراً (مختصر المعانی ، ص 190) .

الأوّل أنّه للتبعیض و علی هذا «من» متعلّق بالخیط الأبیض (1) و معنی الآیة هکذا «حتّی یتبین الخیط الأبیض الذی هو بعض الفجر» و البعضیة بحسب شروع الفجر حیث إنّ الفجر الصادق فی شروعه کالخیط الأبیض الدقیق و قلیل العرض ثمّ بتقرّب الشمس إلی الأفق یصیر البیاض عریضاً یعترض شیئاً فشیئاً . و الإمام الخمینی جعل هذا الاحتمال بعیداً عن ظاهر الآیة (2) .و الثانی: أنّه للتبیین و فی هذا الفرض احتمالان:أحدهما: و هو الذی علیه المفسّرون - أنّه یُبیّن الخیط الأبیض الّذی هو فاعل «یَتَبَیَّنَ» و نقل أهل التفسیر أنّ عدی بن حاتم بعد نزول الآیة توهّم أنّ معناها عدم جواز الأکل و الشرب حتّی إذا بلغ بیاض السماء إلی حدٍّ یتمیز الخیط الأبیض من الخیط الأسود و لذا أخذ بیده خیطاً أبیض و خیطاً أسود (3) .و نقل بعض أنه أخذ عقالین أسود و أبیض و وضعهما تحت فراشه و آخر اللیل کان یستیقظ و ینظر إلیهما و لکنّه لمّا لم یتمکن من التمیّز إلّا بعد مضی زمان کثیر من طلوع الفجر راجع النبی و نقل ما فعل فضحک رسول اللّه صلی الله علیه و آله و قال صلی الله علیه و آله : لیس معنی الآیة ما فهمتَ بل المقصود من الخیط الأبیض هو الفجر و النهار و المقصود من الخیط الأسود اللیل .فعلی هذا الاحتمال أعنی من للتبیین و أنّها مبیّنة للخیط الأبیض فمعنی الآیة هکذا «حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ أیّ الفجر» و بناءً علی هذا الاحتمال الفجر

ص:187


1- 1) . مراده الشریف أنّه متعلّق بأحد أفعال العموم مثل «ثابتاً» و هو حال للخیط الأبیض .
2- 2) . قال فی رسالته الشریفة: «و أمّا جعل «من» تبعیضیة فبعید کما لا یخفی» (رسالة فی تعیین الفجر ، ص 13 فی اللیالی المقمرة) و لعلّ وجهه إنّ الفجر هو أول ظهور الضوء و شروعه و لا فرض للکلّ و البعض هنا .
3- 3) . قال فی المجمع: روی أنّ عدی بن حاتم قال للنبی: إنّی وضعت خیطین من شعر أبیض و أسود فکنت انظر فیهما فلا یتبین لی فضحک رسول اللّه صلی الله علیه و آله حتّی رؤیت نواجذه ثمّ قال یا ابن حاتم إنّما ذلک بیاض النهار و سواد اللیل (مجمع البیان ، ج 1 ، ص 281 ، منشورات مکتبة آیة اللّه العظمی المرعشی النجفی) .

شیء و التبین شیء آخر .و ثانیهما: أنّه یبیّن نفس التبین و هذا الاحتمال فی کلام الإمام الخمینی و جعله ظاهر الآیة و کأنّ الفجر یبین مجموع الفعل و الفاعل و المفعول «یتبیّن الخیط الأبیض من الخیط الأسود» و معنی الآیة أنه یجوز الأکل و الشرب حتّی یتبین لکم الخیط الأبیض عن الخیط الأسود و هذا التبین هو الفجر .و العجب أنه رحمه الله لم یذکر الاحتمال الأوّل الذی ذکره المفسرون حتّی بنحو الاحتمال و کأنه التزم بأنّ «مِنَ» لو کان للتبیین کانا بیاناً للتبین فقط لا غیر .و هذا الاحتمال اساس فتواه بتأخیر الصلاة و الصوم هو هذا المطلب فإنه من جهةٍ استبعد احتمال التبعیض و من جهة اخری التزم بکون «مِنَ» للتبیین بالمعنی الثانی و إنّ التبین هو الفجر و الفجر لم یتحقّق إلّا بعد غلبة ضوء الشمس علی ضوء القمر .و علی هذا الاحتمال الفجر عین التبین .و الثالث: أنه للنشوء - بمعنی أنّ التبین ناش عن الفجر و هذا الاحتمال فی الآیة یقول الإمام الخمینی قدس سره أنه من ابداعاتنا و لم نجده فی کلمات المفسرین (1) .و علی هذا الاحتمال ، الناشئ أی التبین متأخر عن المنشأ أی الفجر و التبین شیء و الفجر شیء آخر و لازم هذا الاحتمال الالتزام بجواز الأکل و الشرب بعد الفجر إلی حصول التبین مع أنه لا یمکن الالتزام بجوازهما بعده و لذا ضعّف هذا الاحتمال (2) .

ص:188


1- 1) . لم یذکر المفسرون هذا الاحتمال و إلیک عبارة الطبرسی؛ فی المجمع: «یحتمل «مِنَ» معنیین أحدهما أن یکون بمعنی التبعیض لأن المعنی من بعض الفجر و لیس الفجر کلّه ، عن ابن درید و الآخَر أنه للتبیین لأنّه بیّن الخیط الأبیض فکأنه قال الخیط الأبیض الذی هو الفجر» (مجمع البیان ، ج 1 ، ص 281 ، منشورات مکتبة آیة اللّه العظمی المرعشی النجفی) .
2- 2) . قال: انّ جعلها نشویة خلاف الظاهر بل هو احتمال أبدیناه و المفسرون جعلوها للتبیین أو التبعیض (رسالة فی تعیین الفجر فی اللیالی المقمرة ، ص 13) .

و هنا بحث من جهة الحکم الظاهری فی استدامة جواز الأکل و الشرب بمقتضی الاستصحاب فی لیلة رمضان لمن لم یحرز طلوع الفجر و فی وجوب الإمساک فی النهار لمن لم یحرز غروب الشمس و هذا لا یرتبط بکلامنا الآن لأنّ کلامنا الآن فی الحکم الواقعی لا الحکم الظاهری و الرجوع إلی الاستصحاب .و الفجر بنظره الشریف عین التبیّن و لکنّ بناءً علی احتمال المفسّرین ، الفجر علی نحوین امّا متبیّن و أمّا غیر متبیّن کما انّ سائر العناوین کالنجاسة أمّا متبیّن سواء کان بالعلم أو البینة أو غیرهما و أمّا غیر متبیّن .لا یقال بناء علی نظره رحمه الله فإذا لم یتفحّص المکلّف عن الفجر لم یحصل التبین و الفجر .لانا نقول: التبین وصف للواقع و انّ له واقعیة فی الخارج و یحصل فی وقته و ان لم نُحقّق عنه و هذا کضوء سراج فی غرفة فإنه موجود و إن لم نفتح باب الغرفة و لم نَره الّا أنّ الذی یأکل السحور و یرید الصوم لا بد أن یحقق عنه حتّی لم یقع أکله بعد الفجر .

مُلخّص نظر الإمام الخمینی

و محصّل نظره أنّ من للتبیین لا للتبعیض و النشوء «و مِنَ » بیان لنفس التبین لا الخیط الأبیض و علی هذا الفجر عبارة عن تبین الخیطین و تمیزهما و فی اللیالی المقمرة یقهر نور القمر علی بیاض الفجر بواسطة أصل وجود القمر أولاً و بواسطة قربه من الاُفق الشرقی ثانیاً . و ذلک حیث إنّ ضوء القمر شدید و یمنع عن تبین البیاض فی أوائل طلوع بیاض الفجر و حینما تقرب الشمس من الاُفق و ینبسط الخیط الأبیض یتفوّق البیاض علی ضوء القمر و لا یتحقّق التبین بحسب الواقع أصلاً إلّا أنّه یتحقق واقعاً و لکنّه مستور بالنسبة إلینا و هذا مثل السراج الذی نوره

ص:189

ضعیف فی قبال السراج الذی نوره شدید فنور الضعیف لا یتبین و لا یتمیز أصلاً هذا بیان کلامه قدس سره بفهمنا الناقص .و لنا فی هذه النظریة إشکالات:الأوّل: أنّ «من» التبیینیة لا تکون بیاناً للجملة بل بیاناً لکلمة واحدة أو المضاف و المضاف إلیه أو الصفة و الموصوف (1) .و الثانی: أنه لو سلّم أنّ «من» التبیینیة تکون بیاناً للجملة کما یکون بیاناً للمفرد فاللازم الاستظهار من الآیة بأنّ «من» فی الآیة بیان لأیّ شیء للجملة أو المفرد .و الثالث: أنّ الفجر هل یکون فیه إجمال حتّی یحتاج إلی التبین . هل له حقیقة شرعیة أو المتشرعیة کالصلاة ، و الظاهر أنّ العناوین التی مثل الفجر کزوال الشمس و غروبها لیس لهما حقیقة شرعیة أو المتشرعیة بل هما بمعناهما العرفی و اللغوی موضوعان للأحکام الشرعیة و الزوال أمر محسوس بالعین للإنسان و هکذا الغروب - أیّ استتار القرص فی الاُفق - أمر محسوس لمن یری الاُفق نعم جعل الشارع ذهاب الحمرة المشرقیة عن الرأس أمارة للغروب لمن یعیش فی البلاد التی لم یر الاُفق فیها کبلدنا «قم» .فمن البعید جداً خروج الشارع عن المعنی العرفی و اللغوی للفجر فالمستظهر من الآیة عدم کون الفجر عبارة اخری عن التبین و لا یکون «من» للتبیین .ثمّ تقدّم انّ الاحتمالات فی الآیة بناء علی ما ذکره الإمام الخمینی بالنسبة إلی

ص:190


1- 1) . و سیأتی انّ بعض الروایات الواردة فی تفسیر الآیة مثل صحیحة علی بن مهزیار - التی قال الإمام الخمینی بانها أظهر أخبار الباب فی إثبات مختاره - تدلّ بالصراحة علی بیانیّة الفجر للخیط الأبیض لا علی بیانیته لنفس التبین حیث ذکر فیها «الفجر یرحمک اللّه هو الخیط الأبیض المعترض» و العجب کل العجب أنه رحمه الله لم یذکر هذا حتّی بنحو الاحتمال فی الآیة .

«من» ثلاثة:التبعیض و التبیین و النشویة و بعد المراجعة إلی بعض الکتب المفصلة کمغنی اللبیب لابن هشام لم نجد معنی النشوء ل «من» مع أنه ذکر خمسة عشر معنی لها نعم أحد هذه المعانی قابل للانطباق (1) علی النشو و هو «من» بمعنی التعلیل کما فی الکتاب کقوله تعالی «مِمّا خَطِیئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً» 2 أی الغرق ناشٍ من خطیئاتهم ، و کما فی الإشعار مثل الشعر المعروف لفرزدق فی مورد الامام زین العابدین «یُغْضی حیاءً و یُغْضی من مهابته»

أی الإغضاء ناشٍ من المهابة .فإذا کان المراد من النشو التعلیل فله وجه و أمّا بعنوان النشو فلا یوجد فی کلام المحققین من الأدباء .و أمّا «من» التبیینیة فهی لبیان الجنس و هذا الجنس و هو الذی فیه الإبهام و یعبّر عن الماهیة المبهمة ، بالجنس و معلوم انّ الجنس بالاصطلاح الأدبی غیر الاصطلاح المنطقی .و لذا یقول الألف و اللام لتعریف الجنس فیتضح انّ فی الجنس إبهاماً یرفع بالألف و اللام و الأمثلة التی مثّلوا ب«من» التبیینیة تکون فی المفردات فی مقابل الجملة و لا یکون فی کلمات الأدباء إشارة إلی أن «من» لتبیین الجملة .فانقدح أولاً أنّه لا یکون «من» التبیین الجملة و ثانیاً: أنه لو فرض من الجهة الأدبیة وجود «من» لتبیین الجملة فنقول لا یمکن فرضه فی الآیة لنقطتتین:الأولی: ما تقدّم من عدم وجود الحقیقة الشرعیة بل المتشرعیة للفجر کما

ص:191


1- 1) . الظاهر انطباقه علی «من» الابتدائیة إذا کانت ناظرة إلی منشأ الشیء مثل قوله تعالی «وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْءٍ حَیٍّ» (انبیاء 30) و لذا قیل فی قوله تعالی: «فَوَیْلٌ لِلْقاسِیَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِکْرِ اللّهِ» (الزمر 21) انّ «من» للابتداء و فسّر الدسوقی بقوله: «یا ویلنا ویلاً نشأ من هذا» (شرح الدسوقی ج 1 ، ص 319) .

عرفنا وجداناً انّ الشارع لم یضع حقیقة شرعیة للزوال و الغروب .و الثانیة: أنه لو فسّر الشارع الفجر بالتبین لکان له وجه و لکنّه فعل فی الآیة بالعکس و فسّر التبین بالفجر و نحن نعلم انّ المعهود فی الألفاظ التی فیها حقیقة شرعیة کالصلاة مثلاً ، تفسیرها بماهیاتها الشرعیة فتفسّر الصلاة بالأفعال و الأذکار و انّ أوّلها التکبیر و آخرها التسلیم و بعبارة أخری اللفظ موضوع و تعریفه محمول کما فی «الإنسان حیوان ناطق» و لا یعملون بالعکس «الحیوان الناطق إنسان» و فی الآیة بناء علی ما ذکره الإمام الخمینی رحمه الله الفجر جعل بیاناً للتبیین و هذا بعکس المعهود .فما ذهب إلیه الإمام الخمینی قدس سره لا یمکن الالتزام به و الحال نطرح کلام الهمدانی رحمه الله .

کلام المحقّق الهمدانی فی المسألة

ذکر المحقق (1) الهمدانی رحمه الله فی کلامه نکتتان: احداهما انّ «من» فی الآیة بیان للخیط الأبیض لا النفس التبیّن و مع ذلک یجب تأخیر الصلاة و الصوم حتّی یقهر نور الفجر علی نور القمر لانّ المأخوذ فی الآیة تبیّن الخیط الأبیض «حَتّی یَتَبَیَّنَ[لَکُمُ] الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» و ظاهر العناوین المأخوذة فی الأدلّة ، الموضوعیة فکما ذکرنا فی قوله «الماء المتغیر نجس» انّ ظهور التغیر فی التغیر الفعلی

ص:192


1- 1) . قال فی کتاب الصلاة (فی باب المواقیت) فی التنبیه الثانی هکذا: مقتضی ظاهر الکتاب و السنة و کذا فتاوی الأصحاب ، اعتبار اعتراض الفجر و تبیّنه فی الاُفق بالفعل ، فلا یکفی التقدیر مع القمر لو أثّر فی تأخّر تبیّن البیاض المعترض فی الاُفق ، و لا یقاس ذلک بالغیم و نحوه فإنّ ضوء القمر مانع عن تحقق البیاض ، ما لم یقهره ضوء و الغیم مانع عن الرؤیة ، لا عن التحقق و قد تقدّم فی مسألة التغیر التقدیری فی مبحث المیاه من کتاب الطهارة ماله نفع فی المقام ، (مصباح الفقیه ، ج 2 ، ص 25) .

لا التقدیری فکذلک هنا لا بد من تحقق التبین بالفعل و فی اللیالی المقمرة لیس التبین فعلیاً بل التبین تقدیری و لولائی بمعنی إنه لو لا ضوء القمر لتبین الفجر و لکنّ مع وجود ضوء القمر لا وجود للتبین واقعاً فیجوز للمکلّف أن یأکل و یشرب إلی أن یتحقق التبین الفعلی .و ثانیتهما: الفرق بین اللیالی المقمرة و المغیمة و الحکم بوجوب التأخیر فی الأوّل دون الثانی لانّ الغیم أمر عرضی و مانع عن الرؤیة کما یکون العمی فی الأعمی و العمش فی الأعمش و الذی یضعف بصره مانعاً عن رؤیة التبین بخلاف نور القمر فی اللیالی المقمرة و بعبارة اخری إنّما المشکل فی اللیالی المقمرة فی المرئی أی الفجر بمعنی أنه لم یتحقق مع وجود ضوء القمر و المشکل فی اللیالی المغیمة فی الرؤیة لا المرئی بمعنی انّ الفجر تحقّق و لکنّ الغیم مانع عن الرؤیة .

نقد نظریة الهمدانی رحمه الله

و فی کلامه نظر لما تقدّم فی ضمن الضابطة الکلیة من انّ ظاهر العناوین و إن کان فی الموضوعیة کتغیّر الماء و لکن لهذه القاعدة استثناءً و هو انّ مادة «العلم» و «الیقین» و نحوهما کالتبیّن ظاهرة فی الطریقیة عرفاً .فما ذکر فی مباحث القطع فی علم الاُصول - من انّ القطع امّا موضوعی و أمّا طریقی و الموضوعی إمّا تمام الموضوع و إمّا جزء الموضوع و القطع الموضوعی إمّا أخذ بنحو الطریقیة و الکاشفیة و أمّا أخذ بنحو الوصفیة - لا ینافی ما ذکرنا هنا ، لانّ البحث فی ظهور الکلمات عرفاً و مادة العلم و الیقین و نحوهما ظاهرة فی الطریقیة إلّا أن تقوم قرینة علی الموضوعیة فیمکن أخذ العلم بنحو الموضوعیة فی الدلیل و لکنّه یحتاج إلی القرینة و الأصل عدمها . و لو سلّم عدم الفرق بین العلم و سائر العناوین

ص:193

و انّها کلّها ظاهرة فی الموضوعیة فأجیب بما أجاب به بعض الفحول من انّ فرق الهمدانی رحمه الله بین اللیالی المقمرة و المغیمة بلا وجه لانّ الغیم فی المغیمة مانع عن رؤیة الفجر و کذلک فی المقمرة أیضاً نور القمر مانع عن رؤیة الفجر لا انّ الفجر لم یتحقق .و مثال ما نحن فیه مثال وجود السراج الضعیف و السراج الشدید فإنّ الضوء الضعیف موجود و لکنّه مقهور ، لا أنه لیس بموجود أصلاً و کذلک ضوء القمر موجود و لکنّه مقهور لنور القمر .فمسألة اللیالی المقمرة مثل اللیالی المغیمة بحیث إذا علمنا من الخارج طلوع الفجر - کما إذا علمناه باِخبار المنجمین - لا یجوز الأکل و الشرب فی رمضان سواء کان الغیم موجوداً أم کان ضوء القمر غالباً علی ضوء الفجر .أمّا «من» التبعیضیة فهو خلاف الظاهر لانّ معیار «من» التبعیضیة جواز وضع کلمة «بعض» بدلها مثل قوله تعالی: «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ» فبوضع کلمة «بعض» بدله لا یتغیر المعنی بخلاف الآیة فانّ وضع «بعض» لا یصحّ فی الآیة لوجهین:الأوّل: انّ الفجر غیر قابل للتبعیض حیث انّ الفجر هو الانشقاق و الانفجار و بمجرّد ظهور الخیط الأبیض یتحقق الانشقاق و لا انشقاق بعده حتّی یکون الانشقاق الأوّل بعضه .و الثانی: انّه تنخرم سَلاسة الآیة حیث یصیر المعنی «حتّی یتبین لکم الخیط الأبیض من الخیط الأسود بعض الفجر» .و المتحصّل ان «مِنَ» للتبیین و بیان للخیط الأبیض و التبین عنوان طریقی لا موضوعی خلافاً للهمدانی رحمه الله و لا تکون «مِنَ» بیاناً للتبیّن کما ذهب إلیه الإمام الخمینی و لا یتمّ «من» النشویة و لا «من» التبعیضیة .هذا تمام الکلام فی الآیة و الآن نبحث عن الروایات .

ص:194

روایات الباب

اشارة

هنا روایات بعضها فی مقام تفسیر الآیة أو الاستشهاد بها و بعضها فی صلاة الصبح و أوّل وقتها من دون إشارة إلی الآیة .و أمّا الروایة التی فی تفسیر الآیة أو الاستشهاد بها - و هی التی عدّها الإمام الخمینی أظهر الأخبار و ادّلها علی مختاره -

صحیحة علی بن مهزیار:
اشارة

«قال: کتب أبو الحسن بن الحصین إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام معی: جعلت فداک قد اختلف موالوک (موالیک) فی صلاة الفجر ، فمنهم من یصلّی إذا طلع الفجر الأوّل المستطیل فی السماء ، و منهم من یصلّی إذا اعترض فی أسفل الاُفق و استبان ، و لست أعرف أفضل الوقتین فأصلّی فیه ، فإن رأیت أن تعلّمنی أفضل الوقتین و تحدّه لی ، و کیف أصنع مع القمر و الفجر لا یتبین (تبین) معه ، حتّی یحمّر و یصبح ، و کیف أصنع مع الغیم و ما حدّ ذلک فی السفر و الحضر فعلت إن شاء اللّه ، فکتب علیه السلام بخطّه و قرأته: الفجر یرحمک اللّه هو الخیط الأبیض المعترض ، و لیس هو الأبیض صعداً فلا تصلّ فی سفر و لا حضر حتّی تبینه ، فإنّ اللّه تبارک و تعالی لم یجعل خلقه فی شبهة من هذا ، فقال:

کُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ فالخیط الأبیض هو المعترض الذی یحرم به الأکل و الشرب فی الصوم و کذلک هو الذی یوجب به الصلاة» (1) .

سند الروایة

هذه الروایة مرویة بطریقین طریق الکلینی و طریق الشیخ و أمّا طریق الکلینی فهکذا: محمد بن یعقوب عن علی بن محمد عن سهل بن زیاد عن علی بن مهزیار و الکلام فی هذا الطریق فی «سهل بن زیاد» فبعض وثّقه و قال انّ الأمر فی السهل

ص:195


1- 1) . رسائل الشیعة ، ج 2 ، أبواب المواقیت ، باب 27 ، ح 4 .

سهل و بعض ضعّفه أو قال بعدم توثیقه .و أمّا طریق الشیخ فهکذا: محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد بن عیسی عن الحسین بن سعید عن الحصین (بن أبی الحصین) (1) .و هذا السند و إن لم یکن فیه «سهل بن زیاد» إلّا أنّ فیه «الحصین» و هو غیر موثق بخلاف أبو الحسن بن الحصین الذی فی طریق الکلینی فإنه موثّق و بملاحظة وحدة المکاتبة ، تعدّد الکاتب بعید و الذی ینبغی أن یقال انّ فی طریق الشیخ تصحیفاً و انّ الصحیح أبو الحسن بن الحصین .

دلالة الروایة

و فی الروایة ثلاثة سؤالات: السؤال الأوّل: عن أوّل وقت صلاة الصبح و فی أوّل الوقت خصوصیتان:أحدیهما: انّ الصلاة قبله باطلة .و ثانیتهما: انّ الصلاة فیه أفضل و هذا السؤال الأول عن الشبهة الحکمیة و انّ أول صلاة الصبح الفجر الکاذب أو الفجر الصادق .و الفرق بینهما ثلاثة الأوّل انّ الکاذب حالته عمودیة و لذا عبّر عنه بالمستطیل و الصادق افقیة مع استدارة و لذا عبّر عنه فی بعض الروایات بذنب السرحان .و الثانی: انّ الکاذب لمعانه و ضیائه فی الأوّل شدید و یضعف شیئاً فشیئاً ، و الصادق بالعکس لانّ الشمس تقرب من کرة الأرض فیزداد ضیاء الفجر الصادق شیئاً فشیئاً .و الثالث: انّ بیاض الفجر الکاذب لا یتصل بالاُفق بخلاف بیاض الفجر

ص:196


1- 1) . التهذیب ، ج 2 ، ص 36 ، ح 115 ، طبع دار الکتب الإسلامیة .

الصادق فإنّه یتصل بالاُفق و لذا عبّر فی الروایة بأنه «اعترض فی أسفل الاُفق» .ثمّ کتب الراوی «لستُ أعرف أفضل الوقتین فأصلّی فیه» و لیس مراده أفضل الوقتین بل بقرینة ما بعده مراده انّه لم أعرف أصلَ وقت صلاة الصبح حتّی أصلی فیه .الثانی: السؤال عن الصلاة فی اللیالی المقمرة و المغیمة (1) و ظاهر هذا السؤال بقرینة «حتّی یحمرّ و یصبح» عن الشبهة الموضوعیة ، یعنی انّ الفجر حصل و لکن لا یتبیّن حتّی یحمر و یصبح و القرینة الاُخری عطف بحث الغیم إلی بحث القمر و قال «کیف أصنع مع الغیم» . و یمکن إرجاعه إلی الشبهة الحکمیّة بمعنی انّ السائل یسأل عن أوّل الوقت فی اللیالی المقمرة و المغیمة بأنه هل هو نفس الفجر الواقعی و إن لم یتبیّن لنا أو الفجر مع التبین بالنسبة إلینا .الثالث: السؤال عن الفجر فی السفر و الحضر (2) و انّ الحکم فیهما واحد أو لا و هذا السؤال عن الشبهة الحکمیة قطعاً . و قوله «فعلتُ إن شاء اللّه» جزاء لقوله «فان رأیت تعلمنی» .ثمّ بعد اتّضاح السند و الدلالة فلنا بحث مع الإمام الخمینی قدس سره و بحث مع المحقق الهمدانی رحمه الله .امّا بالنسبة إلی کلام الإمام الخمینی فإنّه قدس سره التزم ب «مِن» التبیینیة و انّ الفجر بیان لنفس التبین و هذه الروایة - التی قال هو بأنّها أظهر روایات الباب - تدل

ص:197


1- 1) . «و کیف أصنع مع القمر و الفجر لا یتبیّن معه ، حتّی یحمرّ و یصبح و کیف أصنع مع الغیم» و أعلم أنّ فی نسخة الشیخ بدل «الغیم» «القمر» و الظاهر انّه زیادة لانّه تکرار رکیک مضافاً إلی أنّ صاحب الوسائل یذکر اختلاف النسخ و لکن مع ذلک هنا یقول بعد نقل الکلینی: «إن الشیخ ذکر مثله» من دون إشارة إلی اختلاف فعلم أن نسخة التهذیب عند صاحب الوسائل هو «الغیم» أیضاً .
2- 2) . «و ما حدّ ذلک فی السفر و الحضر» .

بالصراحة علی بیانیّة الفجر للخیط الأبیض لا لنفس التبیّن .إن قلت: لعل «المعترض» فی قوله «و الفجر . . . هو الخیط الأبیض المعترض» بمعنی «المتبیّن» و یتمّ مراد الإمام الخمینی قدس سره .قلت: فی الروایة قرینة قطعیّة علی انّ المعترض فی مقابل المستطیل لا بمعنی المتبیّن لانّه أولاً قال بعد ذلک «و لیس هو الأبیض صعداً» یعنی لیس الفجر الصادق هو المستطیل و ثانیاً قال: «فلا تصلّ فی سفر و لا حضر حتّی تبیّنه» فلو کان «المعترض» بمعنی «المتبیّن» لما کان معنیً لقوله «حتّی تبیّنه» لأنه لا معنی لتبین المتبیّن ، فالضمیر المفعولی فی «تبیّنه» راجع إلی الفجر و الفجر تارةً متبین و تارةً غیر متبیّن کما انّ سائر الواقعیات کخمریة هذا المائع تارةً متبین و تارةً غیر متبیّن .و أمّا بالنسبة إلی کلام المحقّق الهمدانی رحمه الله حیث جعل «من» بیاناً للخیط الأبیض و لکنّه التزم بموضوعیة التبین لا طریقیته فنقول ، هل للروایة بیان زائد علی موضوعیة التبین أکثر ممّا فی الآیة أو لا ، الظاهر إن تعبیر الروایة عین تعبیر الآیة و الإمام علیه السلام استدل بنفس الآیة فلمّا قلنا انّ التبین فی الآیة طریقی لا موضوعی فنقول فی الروایة کذلک .ثمّ التأمّل فی الروایة یقتضی بأنّ الامام علیه السلام أجاب بسؤالین من السؤالات الثلاثة للراوی أحدهما ملاک أوّل وقت صلاة ، الصبح و ثانیهما عدم الفرق بین السفر و الحضر ، و أمّا السؤال المهمّ الذی عنی به السائل و هو أوّل الوقت فی اللیالی المقمرة و المغیمة فلم یُجِب بحسب الظاهر .فما نقول فی توجیه هذا المطلب؟نقول هنا أربعة احتمالات: الأوّل انّ الإمام لم یُجِب هذا السؤال أصلاً و هذا بعید لأنّه علیه السلام أجاب بالسؤالین و لا تکون خصوصیة فی السؤال الثالث فکیف لا یجیبه مع عنایة السائل و اهتمامه بهذا السؤال .

ص:198

الثانی: انّ الإمام أجاب بهذا السؤال و حکم بموضوعیة التبیّن فی مورد وجود نور القمر و الغیم و فیه انّ هذا الاحتمال مستلزم لما هو مخالف لقول جمیع الفقهاء و هو لزوم تأخیر الصلاة و الإمساک فی الصوم حتّی یتبیّن الفجر مع أنه لم یوجد فقیه حتّی الهمدانی و الإمام الخمینی ، التزم بالتأخیر فی اللیالی المغیمة .الثالث: ما استفید من ذیل کلام الإمام الخمینی فی رسالة تعیین الفجر و إنّ الإمام علیه السلام أجاب و حکم بموضوعیة التبیّن فی مورد وجود القمر دون الغیم و الفرق بین اللیالی المقمرة و المغیمة قد کان واضحاً عند السائل و إنّ الغیم أمر عرضی دون نور القمر و لذا فهم اختصاص الجواب بمورد وجود القمر .و فیه انّ الظاهر عدم إمکان تحمیل هذا الاحتمال بالروایة کما هو الظاهر .الرابع: أنّ الإمام أجاب بأنّ الفجر هو الخیط الأبیض و التبیّن عنوان طریقی لا موضوعی و هذا أنسب الاحتمالات بالروایة فإذا تبیّن و علم بانشقاق الفجر سواء کان بالرؤیة أو باِخبار المنجمین أو غیرهما تحقّق أوّل وقت صلاة الصبح و أوّل وقت إمساک الصوم و أمّا ما لم یتبین فیجوز بمقتضی استصحاب عدم دخول الوقت إتیان النافلة اللیلیة و عدم جواز الدخول فی صلاة الصبح و جواز الأکل و الشرب فی رمضان .فتحصّل انّ کلام الإمام الخمینی فی بیانیة «من» لنفس التبیّن غیر تامّ من أساسه لصراحة الروایة فی بیانیة «من» للخیط الأبیض و کلام الهمدانی فی موضوعیة التبیّن مخدوش بما ذکرنا فی الاحتمال الرابع و إن التزم ببیانیة «من» للخیط الأبیض .هذا تمام الکلام فی صحیحة علی بن مهزیار .و أمّا الروایات التی فی صلاة الصبح و أوّل وقتها فهی علی ثلاثة طوائف: قسم ذکر الفجر بعنوان أوّل وقت صلاة الصبح و قسم ذکر طلوع الفجر و قسم ذکر

ص:199

انشقاق الفجر .امّا فی القسم الأوّل فروایات استدلّ بها علی موضوعیة التبیّن و وجوب تأخیر الصلاة و الإمساک .منها: صحیحة علی بن عطیة عن أبی عبد اللّه علیه السلام : انّه قال: الصبح (الفجر) هو الذی إذا رأیته کان معترضاً کأنّه بیاض نهر سوراء (1) .رواها المشایخ الثلاثة ، الصدوق و الطوسی و الکلینی ، و فی نسخة الوافی (2) للمحدّث الکاشانی بدل «بیاض سوراء» «نباض سوری» بالألف المقصورة لا الممدودة و النباض من نبض أیّ سال الماء و جری فبناء علی البیاض ، مراده بیاض نهر سوری و بناءً علی النباض سیلان هذا النهر قال فی الوافی «سوری» بالمقصورة

ص:200


1- 1) . وسائل الشیعة ، ج 3 ، أبواب المواقیت ، باب 27 ، ح 2 ، قال فی التنقیح: «و قد یناقش فی سندها بأنّ علی بن عطیة الراوی لها و إن کان ثقة ، وثّقه النجاشی فی ترجمة أخیه الحسن إلّا أنّ فی طریق الصدوق إلیه علی ابن حسان و هو مردّد بین الواسطی الثقة ، و الهاشمی الضعیف و قد قال النجاشی فی حقّه: علی بن حسان الکبیر الهاشمی . . . ضعیف جداً ذکره بعض أصحابنا فی الغلاة فاسد الاعتقاد ، له کتاب تفسیر الباطن ، تخلیط کلّه و عن ابن فضال انّه کذاب و قال العلّامة ، انّ له کتاباً سمّاه کتاب تفسیر الباطن لا یتعلق من الإسلام بسبب هذا .و الصحیح انّ طریق الصدوق إلی الرجل صحیح ، إذ الظاهر انّ علی بن حسان الواقع فیه هو الواسطی الثقة ، لأن الصدوق قدس سره روی فی الفقیه عن علی بن حسان عن علی بن عطیة ، و لیس هذا إلّا الواسطی فإنّ الهاشمی لا یروی إلّا عن عمّه عبد الرحمن بن کثیر و لم یعلم له أیة روایة عن علی بن عطیة أو غیره .علی انّ الروایة رواها کلّ من الکلینی و الشیخ (قدس سرهما) بطریق صحیح أو حسن - باعتبار إبراهیم بن هاشم - إذاً فالروایة غیر قابلة للمناقشة من حیث السند» (التنقیح ، کتاب الصلاة ، ج 1 ، ص 281) .
2- 2) . و قال صاحب الوافی: «النباض بالنون و الباء الموحّدة من نبض الماء إذا سال و ربما قرأ بالموحّدة ثمّ الیاء المثناة من تحت (البیاض) و سوری علی وزن بُشری موضع بالعراق و المراد بنباضها أو بیاضها، نهرها کما دلّ علیه خبر هشام بن الهذیل «حین یعترض الفجر فتراه مثل نهر سوری» و قال الطریحی فی مجمع البحرین فی مادة نبض «یقال نبض العِرق بالکسر ینبض نبضاً و نبضاناً إذا تحرک» و قال فی مادة «سور» (سوری کطوری و قد تمد (سوراء) بلدة بالعراق من أرض بابل من بلاد السریانیین و فی الحدیث «و قد سأل عن الفجر قال إذا رأیته معترضاً کأنّه بیاض نهر سوری» و یرید الفرات).

کبشری موضع بالعراق و فی هذا الموضع نهر یسمی بنهر سوری و هذا النهر بالاحتمال القوی منشعب من الفرات و خصوصیته انّ جریان الماء و سیلانه فی هذا النهر محسوس بخلاف الدجلة و الفرات کان جریان الماء فیهما لا یحس بالمشاهدة و یشبه بالماء الراکد و کأنه لا یحسّ جریانه إلّا من دخل فیهما و لذا شبّه الفجر بنهر سوری لا بالدجلة و الفرات و لمّا کان سیلانه کان محسوساً لذا یقال «نباض سوری» أیّ سیلان مائها و یقال «بیاض سوری» بلحاظ مقایسته بطرفی النهر .و الفجر یجلب النظر من وجهین:الأوّل: الخیط الأبیض و کونه محفوفاً .الثانی: سیلان ضوء الفجر بالنسبة إلی السواد الذی فی طرفیه .و استدلّ بهذه الروایة لموضوعیة التبیّن حیث قال الإمام علیه السلام فی الروایة: «إذا رأیته کان معترضاً کأنّه بیاض نهر سوراء» فللرؤیة دخل فی ماهیة الفجر و انّ الفجر ما رأیته معترضاً و فیه إنّ ظاهر الروایة إنّ للفجر حالتین: مرئیاً و غیر مرئی و إذا کان مرئیاً ، رأیته بنحو المعترض کأنه بیاض نهر سوراء ، لا إنّ الفجر هو ما کان مرئیاً و انّ للرؤیة دخل فی ماهیته .و منها روایة هشام بن الهذیل عن أبی الحسن الماضی قال: سألته عن وقت صلاة الفجر فقال حین یعترض الفجر فتراه مثل نهر سوراء (1) .و فی سند هذه الروایة هشام بن الهذیل و لیس له توثیق عام - کأن یکون فی طریق أسناد کامل الزیارات أو فی طریق أسناد تفسیر علی بن إبراهیم - و لا توثیق خاص و لا تدلّ علی موضوعیّة التبین و ظاهرها مثل الصحیحة السابقة فی انّ للفجر حالتین و إذا کان مرئیاً رأیته بهذا النحو لا أنّ للرؤیة دخل فی الفجر و قلنا فی

ص:201


1- 1) . وسائل الشیعة ، ج 3 ، أبواب المواقیت ، باب 27 ، ح 6 .

ذیل روایة علی بن مهزیار انّ معنی کونه معترضاً لیس بمعنی التبین حتّی یکون للتبین و الرؤیة موضوعیة لتحقق الفجر .و منها: صحیحة أبی بصیر التی نقلها الصدوق و الکلینی: عن أبی بصیر لیث المرادی قال: سألت أبا عبد اللّه علیه السلام فقلت: متی یحرم الطعام و الشراب علی الصائم و تحلّ الصلاة صلاة الفجر فقال: إذا اعترض الفجر فکان کالقبطیة البیضاء فَثَمّ یحرم الطعام علی الصائم و تحلّ الصلاة صلاة الفجر . . .» (1) . رجلٌ قبطیٌّ ، مَن وُلِد فی مصر و ثیابٌ قبطیة ، ما صنعت فی مصر و هی رقیقة بیضاء (2) و ظاهر هذه الروایة انّ المشبه به أی القبطیة البیضاء - واقعیة خارجیة یمکن أنّ یتعلق به الرؤیة و یمکن أنّ لا یتعلق به الرؤیة فکذلک المشبّه - أی اعتراض الفجر - واقعیة خارجیة یمکن أن یتعلق به الرؤیة و یمکن أن لا تتعلق به و لا یکون للرؤیة و التبین خصوصیة لتحقق الفجر .و منها: صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یصلّی رکعتی الصبح و هی الفجر إذا اعترض الفجر و أضاء حسناً» (3) .و هذه الروایة استدلّ بها أیضاً علی موضوعیة التبیّن و لعلّها عند التأمّل أشدّ إیهاماً للموضوعیة .

ص:202


1- 1) . نفس المصدر ، ح 1 .
2- 2) . قال فی مجمع البحرین فی مادة قبط «فی الحدیث: الفجر الصادق هو المعترض کالقباطی بفتح القاف و تخفیف الموحدة قبل الألف و تشدید الیاء بعد الطاء المهملة ثیاب بیض رقیقة تجلب من مصر واحدها قُبطی بضمّ القاف نسبة إلی القبط بکسر القاف و هم أهل مصر و التغییر هنا للاختصاص کما فی الدُّهری بالضمّ نسبة إلی الدَّهر بالفتح و هذا التعبیر إنّما أعتبر فی الثیاب فرقاً بین الإنسان و غیره فأمّا فی الناس فیبنی علی اعتبار الأصل فیقول رجل قبطی و جماعة قبطیة بالکسر لا غیر و منه حدیث من ردّ اللّه علیهم أعمالهم فجعلها هباءً منثوراً قال علیه السلام : أما و اللّه و کانت أعمالهم أشدّ بیاضاً من القباطی» .
3- 3) . وسائل الشیعة ، ج 3 ، أبواب المواقیت ، باب 27 ، ح 5 .

و فیه أوّلاً أنّ تأخیر النبی صلاته صلی الله علیه و آله حتّی أضاء الفجر حسناً لا یدلّ علی الوجوب بل یحتمل أن التأخیر مستحب و الرسول صلی الله علیه و آله کان یعمل علی طبق الاستحباب .و ثانیاً: ظاهر الروایة بقرینة روایات اخر - کما قلنا فی الروایات السابقة - أنّ تأخیر النبیّ صلاته صلی الله علیه و آله حتّی اضاءة الفجر حسناً کان فیما رُؤی الفجر من دون وجود مانع کنور القمر أو الغیم لا أنّه یؤخّر فی اللیالی المغیمة أیضاً حتّی یذهب الغیم .و منها روایات اخری أضعف دلالة مما ذکر و لذا نُعرض عن ذکرها .و أمّا فی القسم الثانی - الذی ذکر طلوع (1) الفجر بعنوان أوّل وقت صلاة الصبح لا نفس الفجر - فروایات .منها: موثّقة معاویة بن وهب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: أتی جبرئیل رسول اللّه صلی الله علیه و آله بمواقیت الصلاة فأتاه حین زالت الشمس فأمره فصلّی الظهر . . . ثمّ أتاه حین طلع الفجر فأمره فصلّی الصبح . . . (2) .و منها: موثّقة زرارة قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله لا یصلّی من النهار شیئاً حتّی تزول الشمس . . . فإذا طلع الفجر و أضاء صلّی الغداة (3) .و هذه الروایة موثّقة بموسی بن بکر فإنه ثقة و إن کان واقفیاً .هنا نکتة أساسها من آیة اللّه العظمی البروجردی قدس سره و هی انّ المعروف بین الفقهاء عدم الإطلاق لفعل المعصوم من جهة و عدم وجوبه و لزومه من جهة اخری لانّ الفعل یمکن وقوعه بنحو الاستحباب و لکنّ المهمّ انّ هذا صحیح فیما کان الناقل

ص:203


1- 1) . و ورد فی سورة القدر انّ انتهاء لیلة القدر طلوع الفجر و انّ هذه اللیلة سلام حتّی مطلع الفجر «سَلامٌ هِیَ حَتّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ» .
2- 2) . وسائل الشیعة ، ج 3 ، أبواب المواقیت ، باب 10 ، ح 5 .
3- 3) . وسائل الشیعة ، ج 3 ، أبواب المواقیت ،باب 10 ، ح 3 .

و الحاکی غیر المعصوم و أمّا إذا کان الناقل عن فعل النبیّ مثلاً هو المعصوم ، و حکایته فی مقام بیان حکم اللّه الواقعی ، فهنا نتمسک بالإطلاق إذا لم یذکر قیداً ، کما کان نستظهر الوجوب إذا لم یکن قرینة علی خلافه .و منها: روایة عبید بن زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: لا تفوت الصلاة من أراد الصلاة ، لا تفوت صلاة النهار حتّی تغیب الشمس و لا صلاة اللیل حتّی یطلع الفجر و لا صلاة الفجر حتّی تطلع الشمس (1) .و الظاهر انّ المراد بصلاة اللیل صلاة المغرب و العشاء لا نافلة اللیل لانّه ذکر فی مقابل صلاة النّهار نعم هل یوجد معارض لهذه الروایة فی وقت صلاة المغرب و العشاء فموکول إلی بحث تحدید وقت العشاءین .و منها: صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام (فی حدیث) قال: إذا طلع الفجر فقد دخل وقت الغداة (2) .و منها: موثّقة موسی بن بکر من زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: وقت صلاة الغداة ما بین طلوع الفجر إلی طلوع الشمس (3) .و منها: موثقة عمّار بن موسی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل إذا غلبته عینه أو عاقه أمرٌ أن یصلّی المکتوبة من الفجر ما بین أن یطلع الفجر إلی أن تطلع الشمس و ذلک فی المکتوبة خاصّة (4) .و أمّا فی القسم الثالث - الذی ذکر الانشقاق بعنوان أوّل وقت صلاة الصبح - فروایات .

ص:204


1- 1) . نفس المصدر ، ح 9 .
2- 2) . وسائل الشیعة ، ج 3 ، أبواب المواقیت ، باب 26 ، ح 2 .
3- 3) . نفس المصدر ، ح 6 .
4- 4) . نفس المصدر ، ح 7 .

منها: صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام : قال: «وقت الفجر حین ینشقّ الفجر إلی أن یتجلّل الصبح السماء . . .» (1) .و منها: روایة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «لکلّ صلاة وقتان و أوّل الوقتین أفضلهما و وقت صلاة الفجر حین ینشقّ الفجر إلی أن یتجلّل الصبح السماء...» (2).و البحث هنا فی انّ طلوع الفجر و انشقاقه أمر زائد علی نفس الفجر أو لا و بعبارة أخری هل هما قیدان توضیحیان أو احترازیان .الظاهر إنّهما لیسا أمرین زائدین علی نفس الفجر سیّما بعد ملاحظة اللغة و انّ الفجر لغویاً هو الانشقاق و یستعمل الفجر فی الینابیع التی خرجت من الأرض و القرآن استعمل کلمة الفجر و التفجر و أمثالهما . و الآیة الشریفة «کُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ» فی انّ الفجر أوّل وقت صلاة الصبح و هو الخیط الأبیض فالطلوع و الانشقاق قیدان توضیحیان . و هذا یتّضح أکثر إن لاحظنا سورة القدر و انّ إتمام لیلة القدر بطلوع الفجر «سَلامٌ هِیَ حَتّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ» فهل هذا الظهور الموضوعی للطلوع موجود فی الآیة أیضاً أو لا ، بمعنی أنه هل إتمام لیلة القدر (3) منوط بالتبیّن الخارجی لنا و انّ التبیّن له موضوعیة فی إتمام لیلة القدر و طلوع الفجر أو لا .هل یتصور ان یقال انّ لیلة القدر التی هی خیر من ألف شهر و لها برکات و آثار لا تتمّ حتّی یتبیّن لنا طلوعه ، مع انّ التبیّن یمکن له موضوعیة فی التکالیف و أمّا فی مثل «سَلامٌ هِیَ حَتّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ» الذی لا یرتبط بنا مستقیماً بل یبیّن آثار

ص:205


1- 1) . وسائل الشیعة ، ح 3 ، أبواب المواقیت ، باب 26 ، ح 1 .
2- 2) . نفس المصدر ، ح 5 .
3- 3) . و لا یخفی انّ لیلة القدر بحسب الروایات فی اللیالی المقمرة .

و برکات لیلة القدر سواء استفدنا منها أم لا ، فلا یمکن تصویر الموضوعیة للتبیّن ، فالآثار موجودة ما لم یتحقق الفجر واقعاً و انّ تحقق تمّت تلک الآثار سواء تری طلوع الفجر أم لا فإضافة الطلوع إلی الفجر لا یزید أکثر من نفس الفجر و هو الانشقاق الواقعی .مضافاً إلی انّ هنا نقطة أهم مما ذکر و هی تزیل غبار الشبهة فی الأدلّة اللفظیّة و هی انّ بعض الاُمور الکثیر الابتلاء صار مفعولاً عنه من بعض الجهات عند عامة الناس و حتّی عند من له مرتبة من العلم و فی هذه الموارد لا بدّ ان ینبّه الإمام علیه السلام و یتعرض له .و فیما نحن فیه نقول هذه المسألة أی مسألة اللیالی المقمرة و المغیمة لیست من المسائل المستحدثة بل عند تشریع صلاة الفجر کان الناس مبتلی بها حیث انّ اللیالی المقمرة فی کل شهر تشغل حدود عشر لیال بل أکثر و الغیم آنذاک کان أمراً متعارفاً فی بعض اللیالی و مع ذلک لم ینبّه الإمام علیه السلام فی روایة بذلک ، نعم یوجد فی سؤال السائل فی صحیحة علی بن مهزیار ، السؤال عن الفجر مع نور القمر و الغیم و لکن الإمام قدس سره لم یصرّح بالفرق بین اللیالی المقمرة و المغیمة و بین غیرها أو بین اللیالی المقمرة و بین المغیمة . و نحن استفدنا من هذه النقطة فی بعض موارد الفقه مثل مسألة الطواف حیث التزم الفقهاء بتضیق محل الطواف خلف حجر إسماعیل بمقداره و قالوا بقی هناک ستة أذرع و نصف تقریباً فیجب انّ لا یتجاوز هذا الحدّ و لو تخلّف أعاد هذا الجزء فی الحدّ .و لکنّا قلنا بأنّ مقدار المطاف یلاحظ من الحجر و لا یضیق لانّه لو کان ضیّقاً فی هذه الناحیة لکانت کثرة الابتلاء موجبة للتنبّه علیه و لو فی روایة واحدة کما انّ الأئمة علیهم السلام تعرضوا لخصوصیات کثیرة فی الحجّ و مع ذلک لم ترد روایة فی

ص:206

هذا المورد (1) .فعلی هذا فیما نحن فیه أولاً لم یصرّح الإمام بالفرق بین اللیالی المقمرة و بین المغیمة فی صحیحة علی بن مهزیار مع انّ الناس کانوا یبتلون باللیالی المقمرة فی کل شهر و باللیالی المغیمة فی بعض الأحیان .و ثانیاً: لو صرّح فی هذه الروایة لما تکفی الذهاب المشهور علی عدم الفرق بین المقمرة و المغیمة و غیرهما . و لا یخفی انّ عدم الفرق لا یحتاج إلی التذکار و التنبیه بخلاف وجود الفرق فإنّه یحتاج إلی التبیین و العجب انّ المشهور لم یتعرضوا هذه المسألة و أوّل من ذکرها صاحب الجواهر و مضی فی البحث باحتیاط التأخیر و أوّل من أفتی بلزوم التأخیر المحقّق الهمدانی و قال هذا ظاهر فتاوی الأصحاب مع أنّ مقصوده إن کان تصریح الأصحاب فهو ممنوع لعدم تعرضهم بهذه المسألة أصلاً و إن کان مراده انّ ظاهر کلماتهم اعتبار اعتراض الفجر و تبیّنه فی الاُفق بالفعل فهو صحیح و لکن لا بدّ أن یعتبر مع القمر و الغیم و لکنّهم لم یعتبروا فی مورد الغیم و المحصّل انّ الکلام الأخیر - و هو لزوم التنبیه علی أمر مغفول عنه مع کثرة الابتلاء

ص:207


1- 1) . قال دام عزّه الوارف فی «تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة»: «مستند الضیق بالمقدار المذکور هو الجمع بین الروایة المتقدّمة الدالّة علی انّ حدّ الطواف بین البیت و المقام و بین ما تقدّم ممّا دلّ علی انّ الحجر لا یکون جزءاً من البیت بل یکون بجمیع أجزائه خارجاً عنه و علیه فاللازم ملاحظة الحدّ فی جانبه من نفس البیت و استثناء مقدار الحجر الذی هو قریب من عشرین ذراعاً فلا یبقی إلّا ستة أذرع و نصف تقریباً و یتحقق الضیق جداً .هذا و الظاهر عندی عدم تحقق الضیق من ناحیة الحجر بوجه و انّ مقدار المطاف یلاحظ من الحجر و ان کان خارجاً عن البیت بجمیع أجزائه و ذلک لانّه لو کان محلّ الطواف ضیقاً فی هذه الناحیة لکانت کثرة الابتلاء مقتضیة بل موجبة للتعرض له صریحاً و التنبیه علیه و لو فی روایة واحدة مع انّه لا یوجد ذلک فی شیء من الروایات و لم یتحقّق التنبیه علی ذلک و لو فی مورد فیکشف ذلک عن عدم تحقق الضیق أصلاً و انّ المقدار المذکور یلاحظ فی ناحیة الحجر من الحجر و انّ کان خارجاً عن البیت فتدبّر . (تفصیل الشریعة ، کتاب الحج ، ج 4 ، ص 376) .

به - مع الغمض عن الآیة و الروایات ، یوجب الاطمئنان بعدم لزوم تأخیر الصلاة و الإمساک و لا فرق بین اللیالی ، مغیمة کانت أو مقمرة أو غیرهما و لو ثبت الفرق واقعاً لزم التنبیه علیه لا مرة واحدة بل مرات عدیدة .

الأصل العملی فی المسألة

اشارة

و لو فرضنا الإجمال فی الأدلّة اللفظیة و لم تدلّ علی قول أحد طرفی النزاع أی قول المشهور و مقابلهم فهل یجری الاستصحاب أو لا؟

الشبهة الموضوعیة

و لا إشکال فی جریان الاستصحاب فی الشبهة الموضوعیة و یجوز للمکلّف إذا شکّ فی اللیالی المغیمة «هل طلع الفجر أو هل تبیّن الفجر علی القولین المتقدمین» أن یُجری استصحاب عدم الطلوع أو عدم التبیّن حتّی یستیقن أو تقوم به البینة .

الشبهة الحکمیة

و أمّا الشبهة الحکمیة بمعنی إنا لا نعلم هل جعل الشارع ملاک أوّل وقت صلاة الصبح واقع الخیط الأبیض أو تبیّنه فهنا استصحابان استصحاب فی الموضوع و استصحاب فی الحکم .امّا الاستصحاب الموضوعی فی الشبهة الحکمیة فلا یجری للعلم الإجمالی بأنّ عدم جواز الأکل امّا مغیّاً بالطلوع أو بالتبیّن و الأصل النافی فی أطراف العلم الإجمالی إمّا لا یجری رأساً أو یجری و لکن یسقط بالتعارض .لا یقال أنا بعد طلوع الفجر و قبل تبیّنه ، تُجری الاستصحاب فی اللیل لأنّا نشکّ فی معنی اللیل و الأصل بقاء اللیل .

ص:208

لأنّا نقول: أولاً جریان استصحاب اللیل بنحو الشبهة الموضوعیة فلا إشکال فی جریانه بمعنی انّا نستصحب اللیل عند الشکّ فی طلوع الفجر و لکنّ جریانه بنحو الشبهة الحکمیة فلا لأنّ الشبهة حینئذٍ مفهومیة و لا شکّ فی الخارج حیث إنّ طلوع الفجر قد حصل و تبیّنه لم یحصل بعدُ .و أدلّة الاستصحاب ناظرة إلی الخارج لا إلی المفهوم و لا یقین من بدو الأمر بأنّ اللیل إلی طلوع الفجر أو إلی تبین الفجر ، بل نعلم انّ اللیل إن کان إلی طلوع الفجر فقد حصل و إن کان إلی تبیّن الفجر فلم یحصل بعدُ ، فلا شک فی متیقن سابق (1) .و ثانیاً: إنّ الحکم فی الآیة لم یترتّب علی عنوان اللیل أو عدمه بل ترتّب جواز الأکل و الشرب مغیّا بطلوع الفجر أو تبیّنه بمعنی انّ غایة الأکل و الشرب امّا طلوع الفجر أو تبیّنه .و ثالثاً: انّ استصحاب اللیل انّ کان لإثبات اللیل فلا یکون هو موضوع الدلیل و إن کان لإثبات انّ الغایة نفس التبیّن لا طلوع الفجر فهو أصل مثبت .و أمّا الاستصحاب الحکمی فی الشبهة الحکمیة فلا إشکال فی جریانه بمعنی إنا

ص:209


1- 1) . فلیس لنا یقین و شکّ تعلّقا بشیء واحد حتّی نُجری الاستصحاب فیه بل لنا یقینان: یقین بطلوع الفجر و یقین بعدم تبیّنه ، فأیّ موضوع یشکّ فی بقائه بعد العلم بحدوثه حتّی یکون مجری للاستصحاب فإذا لا شکّ لنا إلّا فی مفهوم اللفظ و من الظاهر انّه لا معنی لجریان الاستصحاب فیه .قال صاحب مصباح الاُصول تقریراً لبحث آیة اللّه العظمی الخوئی: «و نظیر المقام ما إذا شککنا فی معنی العدالة و أنها عبارة عن ترک الکبائر فقط أو هو مع ترک الصغائر ، فإذا کان زید عادلاً یقیناً فارتکب صغیرة نشک فی بقاء عدالته للشبهة المفهومیّة ، فلا معنی لجریان الاستصحاب الموضوعی لعدم الشکّ فی شیء من الموضوع حتّی لیجری فیه الاستصحاب ، فإنّ ارتکابه الصغیرة معلوم و ارتکابه الکبیرة معلوم الانتفاء فلیس هنا شیء یشکّ فی بقائه لیجری فیه الاستصحاب و قد صرّح الشیخ رحمه الله فی بعض تحقیقاته بعدم جریان الاستصحاب الموضوعی فی موارد الشبهة المفهومیة» (مصباح الاُصول، ج3، ص132).

نشک بعد طلوع الفجر و قبل تبیّنه فی الحکم أی فی جواز الأکل و الشرب و نستصحب جوازهما و أیضاً نشکّ بعد طلوع الفجر و قبل تبیّنه فی جواز الدخول فی صلاة الصبح فنستصحب عدم جواز الدخول .

محصل الکلام

فمحصل الکلام فی الأصل العملی انّ الاستصحاب فی الشبهة الموضوعیة یجری و أمّا فی الحکمیة ففی الموضوع لا یجری و فی الحکم یجری .هذا تمام الکلام فی البحث عن الفجر فی اللیالی المقمرة ، وَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ .

ص:210

بحث دام ظلّه المسألة فی کتاب تفصیل الشریعة ضمن مسألة عدّة من لا تحیض استطراداً و أوردنا المسألة من أوّلها و الرسالة فی ضمنها .

ص:211

ص:212

عدّة المرأة التی أخرجت رحمها

اشارة

عدّة الفراق طلاقاً کان أو غیره

فصل فی عدّة الفراق طلاقاً کان أو غیره

مسألة 1 : لا عدة علی من لم یدخل بها و لا علی الصغیرة ، و هی من لم تکمل

اشارة

التسع و إن دخل بها ، و لا علی الیائسة

سواء بانت فی ذلک کلّه بطلاق أو فسخ أو هبة مدة أو انقضائها(1).

1 - لا تکون عدّة الفراق ثابتة علی جماعة : احداها : من لم یدخل بها ، سواء کانت کبیرة أم صغیرة؛ لقوله تعالی : ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَکُمْ عَلَیْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها 1 .و الروایات الواردة فی هذا المجال کثیرة ، مثل :صحیحة الحلبی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا طلّق الرجل امرأته قبل أن یدخل بها ، فلیس علیها عدّة ، تزوّج من ساعتها إن شاءت ، و تبینها تطلیقة واحدة ، و إن کان فرض لها مهراً فنصف ما فرض (1) .

ص:213


1- 2) الکافی: 6 / 83 ح3 ، التهذیب: 8 / 64 ح311 ، الاستبصار: 3 / 296 ح1047 ، الوسائل: 22 / 176 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب1 ح4 .

و روایة أبی بصیر ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا طلّق الرجل امرأته قبل أن یدخل بها تطلیقة واحدة ، فقد بانت منه ، و تزوج من ساعتها إن شاءت (1) .و صحیحة زرارة ، عن أحدهما علیهما السلام فی رجل تزوّج امرأة بکراً ، ثمّ طلّقها قبل أن یدخل بها ثلاث تطلیقات ، کلّ شهر تطلیقة ، قال : بانت منه فی التطلیقة الاُولی ، و اثنتان فضل ، و هو خاطب ، یتزوّجها متی شاءت و شاء بمهر جدید . قیل له : فله أن یراجعها ، إذا طلّقها تطلیقة قبل أن تمضی ثلاثة أشهر ؟ قال : لا ، إنّما کان یکون له أن یراجعها لو کان دخل بها أوّلاً ، فأمّا قبل أن یدخل بها فلا رجعة له علیها ، قد بانت منه ساعة طلّقها (2) . و مراده علیه السلام من الفضل هو البطلان .و صحیحة عبد اللّه بن سنان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله أبی - و أنا حاضر - عن رجل تزوّج امرأة فأُدخلت علیه و لم یمسّها و لم یصل إلیها حتی طلّقها ، هل علیها عدّة منه؟ فقال : إنّما العدّة من الماء ، قیل له : فإن کان واقعها فی الفرج و لم ینزل؟ فقال : إذا أدخله وجب الغسل و المهر و العِدّة (3) .و فی روایته الاُخری المتحدة مع هذه الروایة إضافة ، و ملامسة النساء هی (هو خ ل) الایقاع بهنّ (4) .و صحیحة الحلبی الاُخری ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رجل دخل بامرأة ، قال : إذا التقی الختانان وجب المهر و العدّة (5) .

ص:214


1- 1) الکافی: 6 / 84 ح6 ،الوسائل: 22 / 175 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب1 ح3 .
2- 2) الکافی: 6 / 84 ح4 ،الوسائل: 22 / 175 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب1 ح2 .
3- 3) الکافی: 6 / 109 ح6 ،الوسائل: 21 / 319 ، کتاب النکاح ، أبواب المهور ب54 ح1 .
4- 4) الکافی: 6 / 109 ح4 ،الوسائل: 21 / 319 ، کتاب النکاح ، أبواب المهور ب54 ح2 .
5- 5) الکافی: 6 / 109 ح1 ،الوسائل: 21 / 319 ، کتاب النکاح ، أبواب المهور ب54 ح3 .

و روایة حفص بن البختری ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رجل دخل بامرأة ، قال : إذا التقی الختانان وجب المهر و العدّة (1) .و غیر ذلک من الروایات (2) الدالّة علیه ، و مقتضاها إطلاقاً أو صریحاً أنّ المسّ و الدخول و التقاء الختانین ، و أمثال ذلک من العناوین موجب للعدّة ، و إن لم یتحقق الإنزال ،و إن کانت حکمة العدّة و ثبوتها مقتضیة لعدم ثبوتها مع عدم تحقّق الإنزال ، إلّا أنّ الحکم لا یدور مدار الحکمة؛ و لأجله ذکر صاحب الجواهر قدس سره : أنّه لا فرق بین القبل و الدبر فی ذلک بلا خلاف أجده ، قال: بل ظاهرهم الإجماع علیه (3) و إن توقّف فیه فی الحدائق (4) . بدعوی انصراف المطلق إلی الفرد الشائع ، الذی هو المواقعة فی القبل ، بل به یتحقّق التقاء الختانین (5) . أقول : ظاهر التقاء الختانین و إن کان هو خصوص الوطء فی القبل ، إلّا أنّ العناوین الاُخری الواردة فی الکتاب (6) و السنّة (7) مطلقةٌ شاملةٌ للوطء فی الدبر خصوصاً بعد کون الدبر أحد المأتیین و أحد الفرجین ، و بعد ملاحظة:صحیحة أبی عبیدة قال: سئل أبو جعفر علیه السلام عن خصیّ تزوّج امرأة و فرض لها

ص:215


1- 1) التهذیب: 464/7 ح1861، الاستبصار: 226/3 ح819، الوسائل: 320/21، کتاب النکاح، أبواب المهور ب54 ح8.
2- 2) الوسائل:319/21 - 320،کتاب النکاح، أبواب المهور ب54 و ج175/22 - 177، کتاب الطلاق، أبواب العدد ب1.
3- 3) ریاض المسائل: 356/7 - 357، نهایة المرام: 76/2 ، الحدائق الناضرة: 393/25 ، مسالک الافهام: 215/9 .
4- 4) الحدائق الناضرة: 25 / 393 .
5- 5) جواهر الکلام: 32 / 213 .
6- 6) سورة البقرة: 2 / 223 .
7- 7) الوسائل: 20 / 145 - 148 ، أبواب مقدمات النکاح ب73 .

صداقاً و هی تعلم أنّه خصیّ ، فقال: جائز ، فقیل: فإنّه مکث معها ما شاء اللّه ثمّ طلّقها ، هل علیها عدّة؟ قال : نعم أ لیس قد لذّ منها و لذّت منه (1) .فإنّ مطلق الالتذاذ من الطرفین ، و إن لم یکن موجباً لترتّب العِدّة و ثبوتها ، إلّا أنّ الالتذاذ الحاصل بسبب الدخول و لو فی الدبر یوجب ذلک . لکن فی مقابلها صحیحة أحمد بن محمد بن أبی نصر البزنطی قال : سألت الرضا علیه السلام عن خصیّ تزوّج امرأة علی ألف درهم ، ثمّ طلّقها بعد ما دخل بها ، قال : لها الألف التی أخذت منه و لا عِدّة علیها (2) .هذا و الظاهر أنّ المراد من الدخول بها الخلوة ، و علیه فثبوت الألف لها إنّما هو بنحو الندب .و الجمع بینهما بحمل الاعتداد فی الصحیحة الاُولی علی الندب المنافی لما علیه الأصحاب و النصوص السابقة خلاف الظاهر جدّاً ، هذا و لکن الاحتیاط فی الوطء فی الدبر لا ینبغی ترکه .هذا ، و قد قال المحقّق فی الشرائع : أما لو کان مقطوع الذکر ، سلیم الاُنثیین ، قیل:

تجب العدّة؛ لإمکان الحمل بالمساحقة ، و فیه تردّد؛ لأنّ العِدّة تترتّب علی الوطء ، نعم لو ظهر حمل اعتدّت منه بوضعه لإمکان الإنزال (3) . و فی محکی القواعد: و کذا لو کان مقطوع الذکر و الانثیین علی إشکال (4) . و اللّازم ملاحظة تحقق شرائط اللحوق و عدم تحققها ، إلّا أن یقال: بأنّ المفروض خصوصاً فی کلام المحقّق صورة

ص:216


1- 1) الکافی: 6 / 151 ح1 ،الوسائل: 22 / 255 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب39 ح1 .
2- 2) التهذیب: 7 / 375 ح1517 ، الوسائل: 21 / 303 ، کتاب النکاح ، أبواب المهور ب44 ح1 .
3- 3) شرائع الإسلام: 3 / 34 .
4- 4) قواعد الاحکام: 2 / 68 .

العلم بکون الولد منه ، فتدبّر جیّداً . ثانیتها : الصغیرة و هی من لم تکمل التسع ، فإنّه لا عِدّة علیها ، و إن دخل بها مع الجواز أو بدونه ، و یدل علیه روایات ، مثل :صحیحة حمّاد بن عثمان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن التی قد یئست من المحیض ، و التی لا تحیض مثلها ، قال : لیس علیها عِدّة (1) .و مرسلة جمیل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما علیهما السلام فی الرجل یطلّق الصّبیة ، التی لم تبلغ ، و لا تحمل مثلها ، فقال: لیس علیها عِدّة و إن دخل بها (2) .و رواه فی الوسائل مرّتین مع إضافة فی سؤال الثانی: و المرأة التی قد یئست من المحیض و ارتفع حیضها فلا یلد مثلها (3) .و روایة عبد الرحمن بن الحجّاج قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : ثلاث تتزوّجن علی کلّ حال ، التی لم تحض و مثلها لا تحیض ، قال: قلت : و ما حدّها؟ قال : إذا أتی لها أقلّ من تسع سنین ، و التی لم یدخل بها ، و التی قد یئست من المحیض و مثلها لا تحیض ، قلت : و ما حدّها ؟ قال : إذا کان لها خمسون سنة (4) .و غیر ذلک من الروایات (5) الدالة علیه ، لکن فی مضمرة أبی بصیر قال : عدّة التی لم تبلغ الحیض ثلاثة أشهر ، و التی قد قعدت من المحیض ثلاثة أشهر (6) .

ص:217


1- 1) التهذیب: 8 / 66 ح218 ، الوسائل: 22 / 177 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 ح1 .
2- 2) التهذیب: 8 / 66 ح219 ، الوسائل: 22 / 178 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 ح2 .
3- 3) الکافی: 6 / 84 ح1 ،الوسائل: 22 / 178 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 ح3 .
4- 4) الکافی: 6 / 85 ح4 ،الوسائل: 22 / 179 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 ح4 .
5- 5) الوسائل: 22 / 177 - 183 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 و3 .
6- 6) الکافی: 6 / 85 ذیل ح5 ،الوسائل: 22 / 179 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 ح6 .

و ذکر صاحب الوسائل بعد نقل الخبر : حمله الشیخ (1) و غیره (2) علی المسترابة و هی التی لا تحیض و هی فی سنّ من تحیض . و کذلک نقل الکلینی عن معاویة بن حکیم أنّه حمل الحدیث علی المسترابة (3) ، و نقل الشیخ فیه الإجماع و هو مطابق لظاهر القرآن (4)(5) . و یمکن حمل ما تضمن العدّة هنا علی التقیة؛ لموافقتها لمذهب العامة و علی الاستحباب لما مرّ .و فی روایة محمد بن سنان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الجاریة التی لم تدرک الحیض ، قال : یطلّقها زوجها بالشهور ، الحدیث (6) .و فی روایة هارون بن حمزة الغنوی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن جاریة حدثة طلّقت و لم تحض بعد ، فمضی لها شهران ، ثمّ حاضت ، أ تعتدّ بالشهرین؟ قال : نعم ، و تکمل عدّتها شهراً ، فقلت : أَ تکمل عدّتها بحیضة؟ قال : لا ، بل بشهر یمضی (مضی خ ل) أخر عدّتها علی ما یمضی (مضی خ ل) علیه أوّلها (7) .و فی روایة أبی بصیر ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : عِدّة التی لم تحض ، و المستحاضة التی لا تطهر ثلاثة أشهر ، و عدّة التی تحیض و یستقیم حیضها ثلاثة قروء ، و القروء جمع الدم بین الحیضتین (8) .

ص:218


1- 1) التهذیب: 8 / 68 ذ ح224 .
2- 2) مختلف الشیعة: 7 / 466 - 467 .
3- 3) الکافی: 6 / 86 ذ ح5 .
4- 4) سورة الطلاق: 65 / 4 .
5- 5) التهذیب: 8 / 138 ذ ح481 ، الاستبصار: 3 / 338 ذ ح1205 .
6- 6) التهذیب: 8 / 138 ح482 ، الوسائل: 22 / 180 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 ح7 .
7- 7) التهذیب: 8 / 139 ح483 . الوسائل: 22 / 181 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 ح9 .
8- 8) الکافی: 6 / 99 ح3 ،الوسائل: 22 / 187 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب4 ح9 .

هذا و قد ذکر المحقّق فی الشرائع: و فی الیائسة ، و التی لم تبلغ روایتان: إحداهما أنّهما تعتدّان بثلاثة أشهر ، و الاُخری لا عِدّة علیهما و هی الأشهر (1) . و الأصل فی القول الأوّل و إن کان هی الآیة الشریفة و هو قوله تعالی : وَ اللاّئِی یَئِسْنَ مِنَ الْمَحِیضِ مِنْ نِسائِکُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاّئِی لَمْ یَحِضْنَ . . . 2 لأنّ السیّد المرتضی القائل بهذا القول (2) لا یری التمسک بخبر الواحد ، إلّا أنّ أوّل المرجّحات فی باب الخبرین المتعارضین هی الشهرة الفتوائیة کما نبهنا علیه مراراً ، و لا شبهة فی ثبوتها للطائفة الثانیة .بل یظهر من الجواهر أنّه لم یعرف القائل بالقول الأوّل عدا جماعة معدودین 4 ، بل ربما یظهر من غیر واحد دعوی الإجماع (3) فی مقابله (4) ، و لا مانع من حمل قوله: عدّة التی لم تحض علی التی لم تحض و هی فی سنّ من تحیض ، کما اخترناه فی هذه المسألة ، و لعلّها تجیء فیما بعد مع الإشارة إلی دلیلها و بیان وجهها . ثالثتها : الیائسة و لو کانت کبیرة بالغة مدخولاً بها ، و الکلام فیها یظهر من الکلام فی الصغیرة ، و فی کلام المحقق المتقدّم عطف الصغیرة علی الیائسة ، و قد تقدم

ص:219


1- 1) شرائع الإسلام: 3 / 35 .
2- (3 و 4) الانتصار: 334 - 336 ، الغنیة: 382 .
3- 5) المقنعة: 532 - 533 ، النهایة: 532 - 533 ، الخلاف: 5 / 53 . المقنع: 345 ، المراسم: 166 ، الکافی فی الفقه: 312 ،الوسیلة: 325 ، السرائر: 2 / 733 ، المهذب: 2 / 315 - 316 ، ریاض المسائل: 7 / 367 .
4- 6) جواهر الکلام: 32 / 233 .

معنی الیأس فی کتاب الطهارة .

عدّة من لا تحیض و هی فی سن من تحیض
اشارة

و حیث انجرّ البحث فی هذه المسألة إلی طوائف من النساء ، لا تکون عدّة الفراق ثابتة لهنّ ، فینبغی البحث فی طائفة رابعة؛ لکون المسألة مبتلی بها سیّما فی زماننا هذا ، حیث إنّ بعض النساء یخرجن أرحامهنّ لعلّة الکسالة أو بعض الأهداف الاُخر ، مثل عدم الحمل أو غیره ، و بالنتیجة یخرجن من دائرة الحیض المتعارف مع کونهنّ فی سنّ من تحیض؛ لعدم بلوغ سنّ الیأس .و قد التزم بعض الأفاضل من المعاصرین تبعاً لبعض القدماء من الأصحاب أو مشهورهم (1) رضوان اللّه علیهم أجمعین بعدم ثبوت العدّة علیهنّ فی صورة الطلاق؛ لعدم الحیض علی ما هو المفروض .و قد تعرّضتُ لهذه المسألة مفصّلاً فی إحدی شهور رمضان الماضیة ، فأردت إیرادها بصورة «رسالة» مستقلّة فی هذا المقام؛ لکی ینتفع بها الناظر فیها إن شاء اللّه تعالی و أنتفع بها فی الآتی فی الدنیا و الآخرة .و قبل الشروع فی البحث نمهّد مقدّمة ، و هی أنّ العِدّة فی النساء لا تکون تابعة لوجود الحمل أو احتماله فیها؛ لثبوت العِدّة فی موارد یعلم فیها بعدم الحمل کالزوج الذی یکون فی السجن مدّة سنّة ، و فی هذه المدّة لم یمسّ زوجته أصلاً ، فإذا خرج من السجن طلّق زوجته فوراً من غیر تماس ، فإنّه لا إشکال فی ثبوت العدّة

ص:220


1- 1) لم نقف علی أحد من القائلین بذلک ، بل ادّعی الإجماع علی ثبوت العدّة فی الشرائع: 3 / 35 و نهایة المرام: 2 / 83 و ریاض المسائل: 7 / 362 .

علیها ، و إن لم تکن شبهة الحمل متحقّقة ، فالعدّة لا تدور مدار ثبوت الحمل أو احتماله .إذا عرفت ذلک ، فاعلم أنّه ذکر المحقّق قدس سره فی الشرائع بعد الحکم فی الیائسة و الصغیرة ، بأنّ أشهر الروایتین هی روایة نفی العدّة علیهما : و لو کان مثلها تحیض ، اعتدّت بثلاثة أشهر إجماعاً ، و هذه تراعی الشهور و الحیض ، فإن سبقت الإطهار ، فقد خرجت من العدّة ، و کذا إن سبقت الشهور (1).و من القدماء السیّد المرتضی قدس سره قد استفاد من مجموع الآیات الواردة فی عِدّة المطلّقة ثبوت العدّة لهنّ ثلاثة أشهر (2) .و الروایات الدالة علی الخلاف إمّا أن لا تکون حجّة کما هو مبناه فی باب خبر الواحد ، و إمّا لا تنهض بظهورها فی مقابل نصّ القرآن علی اعتقاده؛ لأنّ النصّ قرینة علی التصرف فی الظاهر ، فلا مجال للأخذ بها فی مقابل الکتاب .و اللّازم أوّلاً التعرّض لما یستفاد من الکتاب ، ثمّ التعرّض لما تفیده الروایات الواردة فی هذا المجال ، أو التی یستفاد منها حکم المقام ، فنقول : و الآیات المهمّة المرتبطة ثلاثة :الاُولی : قوله تعالی: وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا یَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ یَکْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِی أَرْحامِهِنَّ إِنْ کُنَّ یُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِی ذلِکَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِی عَلَیْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ

ص:221


1- 1) شرائع الإسلام: 3 / 35 .
2- 2) الانتصار: 334 - 336 .

وَ لِلرِّجالِ عَلَیْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ 1 .و غیر خفیّ أنّ مقتضی العموم فی هذه الآیة بلحاظ الجمع المحلّی باللّام ثبوت العدّة لکلّ مطلّقة ، و کلمة ثَلاثَةَ قُرُوءٍ لا تصیر قرینة علی عدم العموم ، بل الاختصاص بالنساء اللّاتی لهنّ الحیض و الطهر ، سواء کانت القرء بالمعنی الأوّل أو الثانی ، و کذا قوله: وَ لا یَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ یَکْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِی أَرْحامِهِنَّ الدالّ علی عدم جواز الکتمان مع عدم اطلاع الغیر ، و کذا قوله تعالی: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِی ذلِکَ لا دلالة له علی اختصاص العموم بالمطلّقات الرّجعیّة ، فإنّ ثبوت عدّة ثلاثة قروء لعموم المطلّقات حکم عامّ قانونی ، و قد ثبت فی محلّه أنّ تخصیص العموم لا یکشف عن عدم استعمال العموم فیه بمقتضی الإرادة الاستعمالیة ، و لا یستلزم التجوز فیه أصلاً کما لا یخفی ، فهذه الآیة بمقتضی العموم تدلّ علی ثبوت العدّة لعموم المطلّقات (1) . الثانیة : قوله تعالی : یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا نَکَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَکُمْ عَلَیْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِیلاً 3 .و الظاهر أنّ هذه الآیة بمنزلة المخصّص للآیة الاُولی؛ لأنّ مقتضاها عدم ثبوت العدّة علی المطلّقة غیر المدخول بها . الثالثة : قوله تعالی: وَ اللاّئِی یَئِسْنَ مِنَ الْمَحِیضِ مِنْ نِسائِکُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ

ص:222


1- 2) ما ذکره شیخنا الأستاذ أدام اللّه ظلّه ، تامّ فی العام المنفصل عن الخاصّ ، و أمّا فی المتّصل فالمشهور علی عدم انعقاد الظهور للعام بالنسبة إلی الخاصّ المتّصل به ، و المقام من احتفاف العامّ بالخاصّ المتّصل ، نعم فیما یکون الخاصّ بصورة الاستثناء کان الحقّ تمامیّة الظهور ، فإنّ الإخراج فرع الدخول . «الکریمی القمّی»

فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاّئِی لَمْ یَحِضْنَ وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ یَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ یَتَّقِ اللّهَ یَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ یُسْراً 1 .و قد استدلّ السید المرتضی قدس سره بهذه الآیة علی ثبوت عدّة ثلاثة أشهر علی الیائسة و علی الصغیرة ، و علی أنّ أولات اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ یَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (1) . و لا بدّ من ملاحظة أنّ المشهور (2) القائلین بعدم ثبوت العِدّة علی الأولیین کیف فسّروا الآیة الشریفة ، فنقول: هم یقولون : بأنّ الآیة لا تدل علی ثبوت العدّة لهما أی للیائسة و الصغیرة مطلقاً ، بل مقیّداً بقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ و المهم بیان المراد من هذه الجملة الشریفة، و أنّ هذا القید یدل علی عدم ترتب الحکم علی مطلق الیائسة، بل علی الیائسة المُرتابة و هی التی تشک فی أنّها بلغت سنّ الیأس أم لا ، و فی الحقیقة تشک فی أنّ عدم الحیض ، هل یکون مستنداً إلی الیأس ، أو یکون لعارضٍ من مرض أو غیره؟ و علیه فمن بلغت سنّ الیأس مشخّصاً لا یکون حکمها مذکوراً فی الآیة الشریفة ، و هکذا بالإضافة إلی قوله : وَ اللاّئِی لَمْ یَحِضْنَ فإنّ الظاهر ثبوت هذا القید فیهنّ ، و أنّ المراد ثبوت الریبة فیهن ، بمعنی أنّ المرأة التی لم تر الدّم ، و لکن شکّت فی أنّ عدم رؤیتها هل لأجل عدم البلوغ بسن الحیض ، أو مستند إلی عارض آخر ، تکون مورداً للحکم فی الآیة . و أمّا المرأة غیر المرتابة ، و غیر البالغة سنّ الحیض فلا تعرّض فی الآیة لحکمها . و علی ما ذکرنا فقوله تعالی فی الآیة: إِنِ ارْتَبْتُمْ معناه الوقوع فی الریبة و الشک کما ذکرنا ، و یدلّ علی أنّ المراد من قوله: إِنِ

ص:223


1- 2) الانتصار: 334 - 336 .
2- 3) شرائع الإسلام: 3 / 35 ، المقنعة: 532 - 533 ،النهایة: 532 - 533 ،مسالک الافهام: 9 / 230 ،ریاض المسائل: 7 / 367 ، الحدائق الناضرة: 25 / 431 .

اِرْتَبْتُمْ ما ذکرنا - مضافاً إلی أنّ معناه الظاهر ذلک - صحیحة الحلبی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : عدّة المرأة التی لا تحیض و المستحاضة التی لا تطهر ثلاثة أشهر ، و عدّة التی تحیض و یستقیم حیضها ثلاثة قروء ، قال: و سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنِ ارْتَبْتُمْ ما الریبة؟ فقال : ما زاد علی شهر فهو ریبة فلتعتد ثلاثة أشهر و لتترک الحیض ، و ما کان فی الشهر لم یزد فی الحیض علی ثلاث حیض فعدّتها ثلاث حیض (1) .و لکن السیّد المرتضی قدس سره فی الانتصار الذی تکلّم فیه فی هذه المسألة بنحو التفصیل قد فسّر هذا القول بأن جهلتم فی أصل الحکم . و علیه فلیس قیداً فی الموضوع بل الموضوع مطلق الیائسة و الصغیرة ، و علیه فتدل الآیة بالمنطوق علی حکمهما و لزوم الاعتداد علیهما بثلاثة أشهر .و قد أیّد ما أفاده باُمور : الأوّل : أنّ جمهور المفسّرین و المطّلعین علی تأویل القرآن و تفسیره قد فسّروا قوله : إِنِ ارْتَبْتُمْ بذلک . الثانی : ملاحظة شأن نزول الآیة و هو أنّ أُبیّ بن کعب قال: یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله إنّ عدداً من عدد النساء لم تذکر فی الکتاب الصغار و الکبار و أُولات الأحمال ، فأنزل اللّه تعالی هذه الآیة (2) .ثمّ قال السیّد قدس سره ما حاصله : إنّه لو لم یکن قوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ بمعنی إن جهلتم ، بل کان قیداً للطائفتین للاحتراز عن غیر المرتابة منهما یلزم إشکالات متعدّدة :

ص:224


1- 1) الکافی: 6 / 100 ح8 ، التهذیب: 8 / 118 ح407 ، الاستبصار: 3 / 332 ح1183 ، الوسائل: 22 / 186 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب4 ح7 .
2- 2) سنن البیهقی: 7 / 414 و 420 ، أحکام القرآن للجصاص: 3 / 683 ،أحکام القرآن لابن العربی: 4 / 284 .

منها : أنّ الجمع بین قوله تبارک و تعالی : وَ اللاّئِی یَئِسْنَ مِنَ الْمَحِیضِ الدالّ علی أنّ ثبوت الیأس لهنّ محرز غیر مشکوک، و بین قوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ بالمعنی المشهور، و هو الارتیاب فی ثبوت الیأس لهنّ ممّا لا یلیق بشأنه تعالی بل بغیره أصلاً ، و هکذا فی ناحیة الصغیرة التی مرجعها إلی کون الصغر محرزاً غیر مشکوک فیه ، کما لا یخفی . و منها : أنّ أمثال مسائل الحیض و الطهر مسائل یکون للنساء فیها أصالة ، و الرجال یرجعون إلی النساء للاطّلاع علیها ، و علیه فلو کان قوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ راجعاً إلی الارتیاب فی النساء؛ لکان اللّازم أن یقول تعالی مکانه: «إن ارْتَبْتُنّ» بحیث یکون الخطاب للنساء لا للرجال ، بخلاف أصل العِدّة فإنّ المعتدّة و إن کانت هی الزوجة ، أمّا الطرف الأصلی فی باب العِدّة هم الرجال؛ و لذا ذکر فی آیة عدم الدخول فَما لَکُمْ عَلَیْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ 1 کما عرفت ، و هذا بخلاف ما إذا کان إِنِ ارْتَبْتُمْ بمعنی إن جهلتم ، فإنَّ المسألة الأصلیة هی جهل الرجال بأصل الحکم ، کما عرفت فی شأن نزول الآیة . و منها: بعض الإشکالات الاُخر الذی لا یبلغ من القوة و الاستحکام ما ذکر (1) .و یرد علی مجموع ما أفاده قدس سره : أوّلاً : أنّ الارتیاب و الجهل بأصل الحکم فی أصل العدّة هل له أیّة خصوصیة فی باب العدّة حتی یعلّق الحکم علیه فی هذا الباب ، مع أنّ الناس کانوا بالإضافة إلی أغلب الأحکام جاهلین ، و لم یعلّق فی شیءٍ منها الحکم علی الجهل حتی فی باب الصلاة ، مع أنّها أهم الواجبات إن قُبِلَتْ قُبل ما سواها و إن ردّت ردّ ما سواها ؟ و ثانیاً : أنّ کلمة الارتیاب تغایر کلمة الجهل ، فإنّ الأوّل یستعمل معمولاً فی

ص:225


1- 2) الانتصار : 334 - 336 .

مورد کان فی مقابل الواقعیة الموجودة شک و تردید ، مثل قوله تعالی: وَ إِنْ کُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلی عَبْدِنا 1 . و لا یقال لمن کان جاهلاً بوجوب الصلاة: إن کنت فی ریب من وجوب الصلاة . و ثالثاً : ظاهر الآیة الشریفة أنّ القید قد ذکر عقیب الموضوع قبل مجیء الحکم و بیانه ، فاللّازم ملاحظة الموضوع مقیّداً بهذا القید ، و مرجعه إلی لزوم فهم الموضوع قبل الحکم ، فالارتیاب لا بدّ أن یلاحظ معناه قبل الحکم بثبوت العِدّة أو بنفیها ، و فی الموارد التی تکون مرتبطةً بالحکم لا بدّ و أن یقال: إذا جهلتم بوجوب الصلاة مثلاً فاعلموا أنّها واجبة و مثل ذلک . و بالنتیجة ذکر القید فی الموضوع قبل بیان الحکم لا بدّ من أن یکون مرتبطاً به و موجباً لتمییز الموضوع عن غیره . و رابعاً : أنّ ما نسبه السیّد إلی جمهور المفسّرین لیس علی ما ینبغی لا بالنسبة إلی المفسّرین من الشیعة الإمامیة (1) - رضوان اللّه علیهم أجمعین - و لا بالإضافة إلی المُفسّرین من العامة (2) ، فإنّ هذا التفسیر لا یکون شائعاً بینهم ، فانظر إلی کلام الطبرسی قدس سره فی مجمع البیان ، فإنّه یقول فی تفسیر الآیة: إنّ معنی قوله تعالی : إِنِ ارْتَبْتُمْ عبارة عن أنّکم لا تعلمون أنّ الیأس هل هو مستند إلی کبر السنّ أو إلی عروض عارض . و لم یطرح مسألة الجهل بوجه . و خامساً : أنّ ما أفاده السیّد قدس سره من أنّ الجمع بین قوله تعالی: وَ اللاّئِی یَئِسْنَ مِنَ الْمَحِیضِ الظاهر فی إحراز الیأس و عدم الشک فیه ، و بین قوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ إن کان بمعنی الارتیاب و الشک فی الیأس غیر صحیح مما لا یستقیم ، کما أفاده فی

ص:226


1- 2) التبیان: 10 / 33 ، مجمع البیان: 10 / 39 .
2- 3) جامع البیان ، المعروف بتفسیر الطبری: 28 / 91 ، تفسیر البیضاوی مع حاشیة الشهاب: 8 / 207 .

الجواهر (1)؛ لعدم العلم بکون المراد من یئسن من المحیض هو الیأس الاصطلاحی ، بل المراد من ینقطع عنها دم الحیض ، و الیائسة اصطلاح فقهی لا قرآنی ، و علیه فالجمع بین الأمرین ممّا لا ریب فیه .و نحن نزید علیه بأنّ هذا الإشکال یجری فی کثیر من التقییدات، فإنّ مرجع التقیید إلی إخراج الموضوع الفاقد للقید عن دائرة الحکم ، فقولنا فی الغنم السائمة زکاة ، إذا ارید بیان نفی وجوب الزکاة فی الغنم المعلوفة فرضاً یجری هذا الإشکال بعینه . و سادساً : أنّ ما استند إلیه السیّد قدس سره من أنّ الأصالة فی بابی الحیض و الطهر إنّما هی للنساء دون الرجال ، و لو کان المراد من الارتیاب غیر عنوان الجهل؛ لکان اللّازم أن یقول: «إن ارتَبتُنَّ» لا « إِنِ ارْتَبْتُمْ » فقد اجیب عنه فی الجواهر (2) و غیرها (3) بأنّه لا منافاة بین کون الأصالة للنساء ، و بین کون الخطاب متوجّهاً إلی الرجال کما فی صدر الآیة ، حیث یقول: مِنْ نِسائِکُمْ .و اللّازم فی الآیة ملاحظة نکتتین و التوجّه إلی خصوصیّتین ، تظهر الاُولی بملاحظة التفاسیر المختلفة و الثانیة مفتاح حلّ الآیة الشریفة و الوصول إلی المراد منها إن شاء اللّه تعالی . امّا الاُولی: فهی التی تظهر من کلمات المفسّرین بنحو النفی و الإثبات ، و هی أنّه قد ذکر فی الجملة الثانیة قوله تعالی: وَ اللاّئِی لَمْ یَحِضْنَ و هو مبتدأ و خبره محذوف؛ لأنّ الجملة الاُولی قد تمّت قبله ، و الظاهر أنّ الخبر المحذوف فی هذا الکلام قوله:

«کذلک» أی و اللّائی لم یحضن کذلک ، أی تعتدون ثلاثة أشهر ، و البحث إنّما هو فی

ص:227


1- 1) جواهر الکلام : 32 / 235 .
2- 2) جواهر الکلام: 32 / 234 - 235.
3- 3) مسالک الافهام: 9 / 233 - 234 ، نهایة المرام: 2 / 91 .

أنّ قید إِنِ ارْتَبْتُمْ مقصود فی هذه الجملة أیضاً أم لا ، فعن الزمخشری (1) و صاحب المجمع (2) و تبعهما صاحب الجواهر قدس سره (3)ذکر القید فی هذه الجملة کالجملة الاُولی ، و المنقول عن بعض آخر کالشیخ الطوسی قدس سره (4)عدم إضافة هذا القید فی الجملة الثانیة؛ نظراً إلی أنّه لا دلیل علی إضافة هذا القید ، بل المقدار اللازم حذف الخبر ، و المراد وجوب الاعتداد ثلاثة أشهر من دون أن یکون الموضوع مقیّداً ، و یؤیّد الأخیر أنّه لو کان القید مراداً فی الجملة الأخیرة؛ لکان اللازم عطف الموضوع الثانی علی الموضوع الأوّل مع قید « إِنِ ارْتَبْتُمْ » ثمّ بیان الحکم لا البیان بهذه الکیفیّة ، و بالجملة لا دلیل علی ثبوت القید فی الجملة الثانیة أیضاً . أقول : و لعلّ هذا یؤیّد ما أفاده السیّد قدس سره من أنّ «إِنِ ارْتَبْتُمْ» إنّما هو بمعنی إن جهلتم ، کما لا یخفی . و أمّا الثانیة: فهو أنّه لو لم یکن قید «إِنِ ارْتَبْتُمْ» مقصوداً فی الجملة الثانیة و هی «اللاّئِی لَمْ یَحِضْنَ» یلزم أن لا یخطر بالبال أنّ المصداق الواضح لها أیّة جماعة من النساء ، إذ لا شبهة بحسب الظاهر فی أنّ المراد بهنّ الصغیرة غیر البالغة سنّ الحیض عادةً ، لکن لنا دلیل علی أنّ المراد بها لیس مطلق الصغیرة ، و هی الآیة الثانیة المتقدّمة (5) الدالّة علی أنّه لا عِدّة للزوجات المطلّقة قبل أن تمسّوهنّ ، و قد عرفت

ص:228


1- 1) الکشّاف: 4 / 557.
2- 2) مجمع البیان: 10 / 39 .
3- 3) جواهر الکلام: 32 / 235 .
4- 4) التبیان: 10 / 33 .
5- 5) فی ص99 .

أنّ الزوجة الصغیرة المطلّقة لا عِدّة علیها (1) ، و من ناحیة اخری کما تقدّم فی باب النکاح لنا دلیل علی أنّه لا یجوز الدخول بالصغیرة ما لم تبلغ (2) ، فاللّازم حمل الآیة فی المقام علی «اللاّئِی لَمْ یَحِضْنَ» مع ثبوت الدخول بهنّ ، و یلزم من هذا أن یکون الموضوع المجعول فی کلامه موضوعاً غیر مشروع مضافاً إلی ندرة تحقّقه ، فالآیة المتقدّمة قرینة علی أنّ المراد ب «اللاّئِی لَمْ یَحِضْنَ» لیس خصوص المدخول بها ، فاللّازم حینئذٍ أن یقال: بأنّ مقتضی التحقیق عدم کون المراد بالجملة الثانیة الصغیرة أصلاً ، بل المراد هی النساء البالغة المطلّقة المدخول بها ، التی لم تر دم الحیض . و من هنا تحصل هذه النتیجة ، و هی أنّ الذین قیّدوا الجملة الثانیة بکونهنّ فی سنّ من تحیض یکون کلامهم صحیحاً .إلی هنا ظهر الجواب عن السیّد قدس سره القائل بأنّ المراد بالجملة الثانیة مطلق الصغیرة . ثمّ نرجع إلی الطائفة الاُولی ، فنقول: إنّها علی ثلاثة أقسام : 1 - الیائسة المصطلحة الفقهیّة کالبالغة سنّ خمسین و واحداً أو ستین و واحداً . 2 - الیائسة المُرتابة أی المرأة التی انقطع عنها الدم ، لکن لا تعلم سبب الانقطاع و منشؤه هل هو الکبر و البلوغ حدّ الیأس ، أو خصوصیة عرضت علیها و ظهرت فیها . 3 - المرأة التی هی محلّ البحث ، و هی المرأة التی لا تحیض و هی فی سن من تحیض ، و لعلّها لا تحیض إلی آخر العمر أصلاً بسبب إخراج الرّحم ، و قید «إِنِ ارْتَبْتُمْ» بالمعنی الذی ذکرنا یخرج الطائفة الاُولی ، غایة الأمر خروجها بأیّ نحو هل

ص:229


1- 1) فی ص94 .
2- 2) فی أوائل کتاب النکاح مسألة 12 .

هو بنحو تدل الآیة الشریفة بالمفهوم علی عدم ثبوت العِدّة لهنّ ، أو بنحو لا تعرض فی الآیة بالإضافة إلی حکمهنّ؟ إن قیل بثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة علی خلاف ما حقّقناه فی محلّه من عدم ثبوت المفهوم حتی للقضیة الشرطیة؛ لکان اللازم الالتزام بدلالة الآیة مفهوماً علی عدم ثبوت العِدّة لهن ، و إن لم نقل بثبوت المفهوم؛ لکانت الآیة غیر متعرّضة لحکم الیائسة الاصطلاحیة لا دالّة علی إثبات العدّة لهنّ ، و لا دالّة علی نفیها فیهنّ؛ لأنّ المفروض دخالة قید الارتیاب فی ثبوت العِدّة لهنّ و الاعتداد ثلاثة أشهر .بقی فی المقام طائفتان أخریان : إحداهما : الطائفة الثانیة و هی الیائسة المرتابة بالمعنی الذی ذکرنا ، و الظاهر أنّها داخلة فی الآیة الشریفة . و إن قلنا بعدم المفهوم للقضیة الشرطیة؛ لأنّ ذکر هذا القید دلیل علی دخالته فی ثبوت الحکم و إلّا تلزم اللغویة ، فاللازم الالتزام بخروج الیائسة المصطلحة من الآیة .و أمّا الطائفة الثالثة ، فالظاهر أنّه یستفاد من الآیة الشریفة ثبوت اعتداد ثلاثة أشهر لهنّ؛ لأنّ هذه الطائفة مشترکة مع الطائفة الداخلة فی الآیة فی أنّ الحیض صار منقطعاً ، و مختلفة فی أنّ مورد الآیة صورة الارتیاب و احتمال الیأس ، و فی هذه الطائفة لا یحتمل الیأس ، بل هی واقعة فی سنّ من تحیض . و من الواضح أنّ احتمال الیأس لا دخالة له فی ثبوت العدّة، بل یمکن أن یقال: بأنّ الطائفة الثالثة تکون العدّة ثابتة لهنّ بنحو أولی ، و أن لا تکون الأحکام إلّا تعبّدیة ، إلّا أنّ مرجع التعبدیة لیس إلی أنّه لا سبیل إلی فهم المناسبة بین الحکم و الموضوع ، فإذا قال الشارع: بأنّ الیائسة المصطلحة لا عدّة علیها ، و قال أیضاً: بأنّ الیائسة المرتابة علیها العدّة ، فهل لا یستفاد ثبوت الاعتداد فی مثل المقام المشترک مع الیائسة المرتابة فی انقطاع

ص:230

الحیض ، و الممتاز عنها بعدم احتمال الیأس أو یستفاد بطریق أولی؟ إلی هنا ظهر أمران :الأوّل: فی مقابل السیّد المرتضی قدس سره ، حیث إنّه استفاد من الآیة الشریفة أنّ الیائسة المصطلحة علیها الاعتداد ثلاثة أشهر ، و نحن أجبنا عنه بأنّ قید «إِنِ ارْتَبْتُمْ» ینافی ذلک ، و ان لم نقل بثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة . الثانی : إنّ فی أصل المسألة یعنی النساء اللّاتی انقطع عنهنّ الحیض؛ لأجل إخراج الرّحم مثلاً ، و لکنهنّ فی سنّ من تحیض ، یستفاد من الآیة ثبوت العدّة علیهنّ .و بعبارة اخری أنّه إذا سئل عن أنّه لِمَ وقع البحث عن الیائسة و الصغیرة؟ فالجواب: أنّ وقوع البحث عنهما إنّما هو بلحاظ أنّه لو قلنا فیه بما قاله السید قدس سره من ثبوت العدّة للیائسة المصطلحة بمقتضی ما استفاده من الآیة الشریفة؛ لکان اللازم الالتزام بثبوت العدّة فیمن لا تحیض و هی فی سن من تحیض بطریق أولی؛ لاشتراکهما فی انقطاع الحیض و امتیاز الیائسة بالبلوغ إلی سنّ الیأس ، و لو لم نقل بما قاله السید ، بل قلنا بعدم ثبوت العدّة للیائسة المصطلحة کما اخترناه ، فهو لا یلازم عدم الثبوت فی المقام؛ لإمکان عدم ثبوت العدّة للیائسة و ثبوتها فی المقام ، فالملازمة انّما هی ثابتة فی ناحیة الإثبات دون النفی .ثمّ إنّ بعض الفقهاء - قدّس اللّه أسرارهم - قد جمعوا بین عدم تبعیّة السیّد قدس سره فی فتواه ، و بین الاعتراف بأنّ الآیة لا ظهور لها فی خلاف مقالته ، بل هی مجملة و اللّازم رفع الید عنها (1) . و من جملة هؤلاء صاحب المدارک فی نهایة

ص:231


1- 1) مسالک الافهام: 9 / 234 .

المرام ، التی هی تتمة کتاب استاده المحقق الأردبیلی صاحب مجمع الفائدة و البرهان فی شرح الإرشاد للعلّامة (1) ، و یمکن أن یستفاد من عبارة الشرائع أیضاً ذلک ، حیث اقتصر علی وجود روایتین فی المسألة و لم یشر إلی الآیة أصلاً (2) . هذا کلّه بلحاظ الآیة الشریفة ، و أمّا بملاحظة الروایات الواردة فهی علی طائفتین : إحداهما : الروایات (3) النافیة لثبوت العدّة علی الیائسة و الصغیرة ، و هی متکثّرة بحیث قال صاحب الجواهر قدس سره : یمکن دعوی تواترها (4) . و قد تقدّمت هذه الروایات و البحث عن مفادها . ثانیتهما : الروایات الواردة فی ضابطة العدّة ، و اللّازم البحث فی مفادها من جهتین :الاُولی : هل هذه الروایات فی مقام إعطاء الضابطة ، أو أنّها فی مقام الإشارة إلی مسألة العدّة من دون أن تکون فی مقام إعطاء الضابطة الکلیة ؟الثانیة : أنّه إذا کانت فی مقام إعطاء الضابطة ، فهل المقام من مصادیقها أم لا؟و من هذه الروایات :روایة داود بن سرحان - التی فی طریقها سهل بن زیاد - عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : عدّة المطلقة ثلاثة قروء ، أو ثلاثة أشهر إن لم تکن تحیض (5) .

ص:232


1- 1) نهایة المرام: 2 / 91 .
2- 2) شرائع الإسلام: 3 / 35 .
3- 3) الوسائل: 22 / 177 - 183 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 و 3 .
4- 4) جواهر الکلام: 32 / 233 .
5- 5) الکافی: 6 / 90 ح2 ،الوسائل: 22 / 198 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب12 ح3 .

و ظاهرٌ أنّ قید «إن لم تکن تحیض» دلیل علی کونها فی مقام إعطاء الضابطة ، و إلّا لم تکن حاجة إلی بیان هذا القید .و أمّا بالنظر إلی الجهة الثانیة ، فنقول : ما المراد من القید المذکور فی الروایة؟ فهل المراد منه المرأة التی لم ترَ دم الحیض إلی الحال أصلاً ، أو المراد منه المرأة التی لا تری دم الحیض فی حال وقوع الطلاق؟ و بعبارة اخری أعمّ ممّن لم ترَ دم الحیض أو لا تراه فی هذه الحالة ، فإن قلنا بالثانی فالروایة تدل بالمنطوق علی ثبوت العدّة لمن أخرجت رحمها و مثلها ، و حیث إنّه لا یتحقق فیها إلّا الأشهر فاللازم رعایتها ، و إن قلنا بالاحتمال الأوّل الذی تؤیّده روایة الحلبی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا ینبغی للمطلّقة أن تخرج إلّا بإذن زوجها حتی تنقضی عدّتها ثلاثة قروء ، أو ثلاثة أشهر إن لم تحض (1) .فیمکن أن یستشهد بالروایة من طریق الأولویّة شبیه الأولویّة المذکورة بالإضافة إلی الآیة الشریفة؛ لأنّ من لم ترَ دم الحیض إلی عشرین سنة مثلاً من عمرها إذا کانت عدّتها ثلاثة أشهر ، فمن رأته إلی أربعین سنة من عمرها - غایة الأمر صار الدم منقطعاً لأجل إخراج الرحم أو غیره - تکون العدّة المذکورة ثابتة علیها بطریق أولی ، کما لا یخفی .هذا ، و لکن تعارض الروایة المزبورة صحیحة محمد بن مسلم ، عن أحدهما علیهما السلام أنّه قال : فی التی تحیض فی کلّ ثلاثة أشهر مرّة ، أو فی ستّة ، أو فی سبعة أشهر ، و المستحاضة التی لم تبلغ الحیض ، و التی تحیض مرّة و یرتفع مرّة ، و التی لا تطمع فی

ص:233


1- 1) الکافی: 6 / 89 ح1 ، التهذیب: 8 / 116 ح402 و130 ح449 ، الاستبصار: 3 / 333 ح1184 ، الوسائل: 22 / 198 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب12 ح1 .

الولد ، و التی قد ارتفع حیضها و زعمت أنّها لم تیأس ، و التی تری الصفرة من حیض لیس بمستقیم ، فذکر : أنّ عدّة هؤلاء کلّهنّ ثلاثة أشهر (1) .فإنّ قوله: «و التی لا تطمع فی الولد» فمع أنّه لم یستعمل فیه کلمة المثل و الطمع لغة یستعمل فی موارد ثبوت الرجاء ، فالمذکور فی الروایة أنّ عدّتها أیضاً ثلاثة أشهر ، و فی بعض الروایات: التی لا تحبل مثلها لا عدّة علیها (2) .فهل بین الروایتین تعارض؟ أو أنّ عدم ذکر کلمة المثل فی هذه الروایة و ذکرها فی الروایة المذکورة ، یوجب إمکان الجمع الدلالی بینهما و خروجهما عن المتعارضین؟ نظراً إلی أنّ قوله علیه السلام «التی لا تحبل مثلها» ناظر إلی الأقران و المشترکات معها فی السنّ ، و قوله: «التی لا تطمع فی الولد» ناظر إلی خصوص بعض المطلّقات من جهة الحالة الشخصیة ، المانعة لها عن الطمع فی الولد ، ففی الحقیقة تقول الروایة المذکورة : کلّ من لا تحبل مثلها بحسب السنّ لا عدّة علیها ، و الصحیحة تقول: بأنّ «من لا طمع لها فی الولد» لخصوصیة موجودة فیها و عارضة علیها یجب علیها الاعتداد ثلاثة أشهر ، و من المعلوم أنّ المقام داخل فی هذا القسم؛ لأنّ من أخرجت رحمها لعلّة لا یکون لها الطمع فی الولد للخصوصیة الموجودة فیها ، و إن کانت مثلها تحبل عادة .و قد بقیت فی هذا البحث ثلاث طوائف اخری من الروایات : إحداها : الروایات الواردة فی الیائسة المصطلحة و الصغیرة الدالّة علی وجوب

ص:234


1- 1) الکافی: 6 / 99 ح5 ،الوسائل: 22 / 183 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب4 ح1 .
2- 2) الکافی: 6 / 85 ح3 ، التهذیب: 8 / 67 ح221 ، الاستبصار: 3 / 338 ح1204 ، الوسائل: 22 / 182 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب3 ح2 .

الاعتداد لهنّ ثلاثة أشهر خلافاً للمشهور (1) ، و فی مقابلها الروایات الدالة علی أنّه لا عدّة لهما ، و قد عرفت (2) ثبوت الترجیح مع هذه الطائفة . ثانیتها : الروایات الدالّة علی عدم ثبوت العدّة علی عناوین مخصوصة ، و ربّما یتوهّم شمول بعض تلک العناوین للمقام ، مثل :صحیحة حمّاد بن عثمان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن التی قد یئست من المحیض ، و التی لا تحیض مثلها؟ قال : لیس علیها عدّة (3) .و البحث إنّما هو فی هذا العنوان الثانی ، و هو السؤال عن التی لا تحیض مثلها نظراً إلی أنّ الصغیرة و إن کانت لا تحیض مثلها ، إلّا أنّه لا دلیل علی انحصاره بها ، و السرّ أنّ السائل و هو حمّاد بن عثمان قد سأل الإمام علیه السلام عن عنوانین:

أحدهما: الیائسة المصطلحة . ثانیهما: التی لا تحیض مثلها . و هذا یکشف عن أنّه کان فی ذهن السائل - و هو من فقهاء الرواة - مناسبة بین الحیض و العدّة . و جواب الإمام علیه السلام بعدم ثبوت العدّة راجع إلی ثبوت الارتباط ، و وجود المناسبة بین الحیض و العدّة ، و لکن بالمعنی الذی ذکرناه فی مثل قوله علیه السلام : «التی لا تحبل مثلها» ، و إلّا فلو کان المقصود عدم ثبوت العدّة علی من لا تری دم الحیض بأیّ وجه و سبب بعلّة طبیعیة أو غیر طبیعیة ، لم تکن حاجة إلی الإتیان بکلمة المثل ، و هذه الکلمة موجودة فی کلام الإمام علیه السلام و فی کلام السائل فی هذه الروایة و فی غیر هذه

ص:235


1- 1) شرائع الإسلام: 3 / 35 ، المقنعة: 532 - 533 ، النهایة: 532 - 533 ، مسالک الافهام: 9 / 230 ، ریاض المسائل: 7 / 367 ، الحدائق الناضرة: 25 / 431 .
2- 2) فی ص94 - 96 .
3- 3) التهذیب: 8 / 66 ح218 ، الوسائل: 22 / 177 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 ح1 .

الروایة . و بالجملة : الإتیان بکلمة المثل شاهد علی عدم کون المراد انقطاع الدم؛ لأجل خصوصیة عرضت علیها ، بل لأنّ أمثالها أیضاً لا تحیض .و روایة عبد الرحمن بن الحجاج - التی فی سندها سهل بن زیاد - قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : ثلاث تتزوجن علی کلّ حال: التی لم تحض و مثلها لا تحیض ، قال:

قلت : و ما حدّها؟ قال : إذا أتی لها أقلّ من تسع سنین ، و التی لم یدخل بها ، و التی قد یئست من المحیض و مثلها لا تحیض ، قلت : و ما حدّها ؟ قال : إذا کان لها خمسون سنة (1) .فإنّ العنوان الأوّل إن کان عامّاً شاملاً للمرأة التی أخرجت رحمها لشیء من الأهداف المترتبة علی عدم الرحم ، أو لا تحیض لجهة من الجهات لم یکن وجه للسؤال عن حدّها ، فإنّه من المعلوم أنّ المراد بلوغ المرأة إلی سنّ خاص ، و أجاب علیه السلام بأنّه إذا أتی لها أقل من تسع سنین .و مرسلة حمّاد بن عثمان ، عمّن رواه أو صحیحته ، عن زرارة ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الصّبیة التی لا تحیض مثلها ، و التی قد یئست من المحیض ، قال : لیس علیهما عدة و إن دخل بهما (2) .و الظاهر أنّ قید «لا تحیض مثلها» توضیحی ، و لا یکون الحکم دائراً مدار هذا العنوان ؛ بحیث یکون ذکر الصبیّة بعنوان المصداق له ، بل الحکم معلّق علیها کقوله:

و التی قد یئست من المحیض، و قد وردت فی هذه الرابطة روایة مخالفة لهذه الروایات الثلاثة علی طبق أوّل ما نقلت مع قطع النظر عن الاحتمال الجاری فیه ، و هی:

ص:236


1- 1) الکافی: 6 / 85 ح4 ،الوسائل: 22 / 179 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب2 ح4 .
2- 2) الکافی: 6 / 85 ح2 ،الوسائل: 22 / 182 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب3 ح3 .

روایة محمد بن حکیم قال : سألت أبا الحسن علیه السلام فقلت : المرأة التی لا تحیض مثلها و لم تحض کم تعتدّ؟ قال : ثلاثة أشهر ، قلت : فإنّها ارتابت ، قال : تعتدّ آخر الأجلین ، تعتدّ تسعة أشهر ، قلت : فإنّها ارتابت ، قال : لیس علیها ارتیاب؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ جعل للحبل وقتاً ، فلیس بعده ارتیاب (1) .و حیث إنّه قد روی صفوان ، عن محمد بن حکیم فی بعض الروایات ، فهذا المقدار یکفی فی الحکم بوثاقة محمد بن حکیم .و البحث إنّما هو فی الطائفة التی هی مورد السؤال أوّلاً ، فعلی تقدیر کون الروایة بهذه الکیفیة و إن کانت تنفعنا ، إلّا أنّ الروایة لا تکون بهذه الکیفیّة ، کما یظهر من الشرّاح ، مثل العلّامة المجلسی فی ملاذ الأخیار (2) و الکاشانی فی الوافی (3) . حیث احتملا أن تکون کلمة «لا» زائدة ، و مراد السائل هی المرأة التی تحیض مثلها ، و لکنّها لا تحیض بنفسها ، و یؤیّده السؤال الثانی عن ارتیابها؛ لأنّ المرأة التی لا تحیض مثلها و لا نفسها لا تکون فیها الریبة بوجه ؛ لأنّ حصول الریبة ینشأ من اختلاف حالها مع حال أقرانها ، و أمّا مع الاتحاد فی عدم الحیض فلا تتحقق الریبة بوجه و یؤیّد أیضاً إضافة کلمة «لا» ، أنّه مع عدم الإضافة لا دلیل علی کون الفاعل فی «لم تحض» هو شخص المرأة ، بل الظاهر رجوع الضمیر فیه إلی المثل ، و اختلاف الجملتین حینئذٍ فی أنّه لا تحیض المثل و لم یتحقّق له الحیض إلی الحال ، مع أنّ ظاهر السؤال الرجوع إلی شخص المرأة لا المثل کما لا یخفی ، فینقدح صحّة احتمال کون کلمة «لا» زائدة .

ص:237


1- 1) التهذیب: 8 / 68 ح227 ، الوسائل: 22 / 189 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب4 ح18 .
2- 2) ملاذ الأخیار: 13 / 139 .
3- 3) الوافی: 23 / 1168 و 1175 .

و صحیحة الحلبی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : عدّة المرأة التی لا تحیض و المستحاضة التی لا تطهر ثلاثة أشهر ، الحدیث (1) .و فی هذه الروایة لم یرد عنوان المثل ، و من ناحیة اخری ورد قوله: «لا تحیض» بصورة المضارع المنفی ، و من ناحیة ثالثة لم تقع فی جواب سؤال ، بل وردت ابتداء بصورة بیان ضابطة کلّیة و قاعدة عامة ، و من الواضح أنّ المقام من المصادیق الواضحة ، ثمّ إنّ فی ذیل الروایة قال: و سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنِ ارْتَبْتُمْ ما الریبة؟ فقال : ما زاد علی شهر فهو ریبة فلتعتد ثلاثة أشهر و تترک الحیض ، و ما کان فی الشهر لم یزد فی الحیض علی ثلاث حیض فعدّتها ثلاث حیض . أقول : و هذا الذیل دلیل علی قول السیّد قدس سره ، حیث یقول: بأنّ معنی «إِنِ ارْتَبْتُمْ» إن جهلتم ، مع أنّ معناه هی الریبة الحاصلة بما زاد علی شهر کما فی الروایة . ثالثتها : الروایات الواردة فی حکمة ثبوت العدّة ، مثل :1 - روایة محمد بن سلیمان ، عن أبی جعفر الثانی علیه السلام قال : قلت له: جعلت فداک کیف صارت عدّة المطلّقة ثلاث حیض أو ثلاثة أشهر ، و صارت عدّة المتوفّی عنها زوجها أربعة أشهر و عشراً؟ فقال : أمّا عدّة المطلّقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد ، و أمّا عدّة المتوفّی عنها زوجها فإنّ اللّه تعالی شرط للنساء شرطاً ، و شرط علیهنّ شرطاً ، فلم یحابهنّ فیما شرط لهنّ ، و لم یجر فیما اشترط علیهنّ ، أمّا ما شرط لهنّ فی الإیلاء أربعة أشهر ، إذ یقول اللّه عزّ و جلّ: لِلَّذِینَ یُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ 2 فلم یجوّز لأحد أکثر من أربعة أشهر فی الإیلاء ،

ص:238


1- 1) الکافی: 6 / 100 ح8 ، التهذیب: 8 / 118 ح407 ، الاستبصار: 3 / 332 ح1183 ، الوسائل: 22 / 186 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب4 ح7 .

لعلمه تبارک اسمه أنّه غایة صبر المرأة عن الرّجل ، و أمّا ما شرط علیهنّ فإنّه أمرها أن تعتدّ إذا مات زوجها أربعة أشهر و عشراً ، فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه فی حیاته عند الإیلاء ، قال اللّه عزّ و جلّ: یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً 1 و لم یذکر العشرة الأیام فی العدّة إلّا مع الأربعة أشهر ، و علم أنّ غایة المرأة الأربعة أشهر فی ترک الجماع ، فمن ثمَّ أوجبه علیها و لها (1) . و السند مجهول و إن کان المتن ربما یؤیّد الصدور من الإمام علیه السلام .و لقائل أن یقول : بأنّ جعل الحکمة فی ثبوت العدّة استبراء الرحم من الولد ، مع أنّه فی مثل المقام ممّا إذا أخرجت المرأة رحمها لا شبهة لثبوت الحمل ، فالعدّة غیر ثابتة .کما أنّه لسائل أن یسأل عن أنّه مع کون السائل إنّما سأل عن أنّه کیف صارت عدّة المطلّقة ثلاث حیض أو ثلاثة أشهر إلخ؟ کیف أجاب الإمام علیه السلام عن خصوص ما إذا کانت عدّة المطلّقة ثلاثة قروء؟ و الظاهر أنّ النکتة عبارة عن أنّ نظر السائل إنما هو السؤال عن الفرق بین عدّة الطلاق و بین عِدّة الموت ، و اقتصر الإمام علیه السلام فی الجواب علی الفرد الغالب من المطلّقات ، و هی المرأة التی یستقیم حیضها و لو کان فی مثل هذه النساء ، اللّاتی تکون عدتهنّ ثلاثة قروء ، و أنّ الحکمة فی الثبوت استبراء الرحم من الولد ، فهل هذا دلیل علی أنّ الحکمة مطلقاً تکون کذلک؟ فهل یمکن أن یستفاد منه حکم الیائسة المصطلحة و الصغیرة مع الدخول بها ، أو أنّ الظاهر اختصاص الحکم بمن کانت عدّتها ثلاثة قروء ؟

ص:239


1- 2) الکافی: 6 / 113 ح1 ،تفسیر العیاشی: 1 / 122 ح389 باختلاف ، الوسائل: 22 / 235 - 236 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب30 ح2 .

إن قلت: اقتصار الإمام علیه السلام فی الجواب علی ذکر هذه الطائفة إنّما هو بعنوان أنّها أحد موردی السؤال ، و إلّا فالجواب عام شامل لکلا الموردین . قلت : أوّلاً : هذا خلاف الظاهر جدّاً . و ثانیاً : أنّ هنا روایة تدل علی أنّ الفرق بین عدّة ثلاثة أشهر و بین عدّة الموت أمر آخر ، و هی:روایة عبد اللّه بن سنان قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : لأیّ علّة صارت عدّة المطلّقة ثلاثة أشهر و عدّة المتوفّی عنها زوجها أربعة أشهر و عشراً؟ قال: لأنّ حرقة المُطلّقة تسکن فی ثلاثة أشهر ، و حرقة المتوفّی عنها زوجها لا تسکن إلّا بعد أربعة أشهر و عشراً (1) .2 - و روایة زرارة - و فی طریقها موسی بن بکر - قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن امرأة نعی إلیها زوجها فاعتدّت ، فتزوّجت ، فجاء زوجها الأوّل ، ففارقها ، و فارقها الآخر ، کم تعتدّ للناس ؟ قال : بثلاثة قروء ، و إنّما یستبرأ رحمها بثلاثة قروء تحلّها للناس کلّهم .قال زرارة: و ذلک أنّ أناساً قالوا: تعتدّ عدّتین من کلّ واحدة عدّة ، فأبی ذلک أبو جعفر علیه السلام ، و قال: تعتدّ ثلاثة قروء ، فتحلّ للرّجال (2) .و من الواضح اختصاص قوله : «و إنّما یستبرأ رحمها بثلاثة قروء» بمن یکون لها الحیض ، کقوله تعالی : وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ 3 فلا یستفاد منها حکم من کانت عدّتها ثلاثة أشهر أصلاً ، کما لا یخفی .

ص:240


1- 1) علل الشرائع: 508 ح2 ،الوسائل: 22 / 237 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب30 ح3 .
2- 2) الکافی: 6 / 150 ح1 ،الوسائل: 22 / 254 ، کتاب الطلاق ،أبواب العدد ب38 ح1 .

3 - و صحیحة أبی عبیدة قال: سئل أبو جعفر علیه السلام عن خصیّ تزوّج امرأة، و فرض لها صداقاً ، و هی تعلم أنّه خصیّ ، فقال : جائز ، فقیل : فإنّه مکث معها ما شاء اللّه ، ثمّ طلّقها ، هل علیها عدّة؟ قال : نعم أ لیس قد لذّ منها ، و لذّت منه؟ الحدیث (1) . إن قلت : إنّ کون الرجل خصیّاً یلازم عدم إمکان الدخول ، و قد مرّ أنّه لا عدّة علی من لم یدخل بها . قلت : نمنع استلزام کون الرجل خصیّاً؛ لعدم الدخول مطلقاً ، خصوصاً الدخول بالمقدار اللّازم ، و هو الذی یعبّر عنه بالتقاء الختانین ، و یوجب الغسل و العدّة ، بل الظاهر کونه مانعاً عن تحقّق الدخول الموجب للحمل .فقد انقدح أنّ هذه الروایات لا تکون فی مقابلة الآیة فقط ، بل هی مؤیّدة للآیة الشریفة .

تکمیل

نحن أثبتنا العدّة لمثل من أخرجت رحمها و لا تحیض ، مع کونها فی سنّ من تحیض من طریق الأولویّة؛ نظراً إلی أنّ الیائسة المرتابة مع ثبوت الحیض لها إذا کانت لها عدّة ثلاثة أشهر ، فالمقام مع کونها فی سن من تحیض قطعاً بطریق أولی .و نحن نقول : إن لم یوجد فی الروایات ما ینافی ظاهر الآیة الشریفة فبها ، و إن فرض وجود طائفة منها ، بل طوائف علی خلاف الآیة الشریفة ، فطبعاً تکون مخالفة للأولویة المستفادة منها ، فبأیّ نحو یعامل معها بل بمنع الأولویة غیر القابلة للمنع ، أو بمنع أصل دلالة الآیة علی حکم الأصل ، و هی غیر قابلة للخدشة ، فاللّازم المعاملة معها بنحو لا ینافی الآیة الشریفة .

ص:241


1- 1) الکافی: 6 / 151 ح1 ،الوسائل: 22 / 255 ، کتاب الطلاق ، أبواب العدد ب39 ح1 .

مسألة 2 : یتحقّق الدخول بإیلاج تمام الحشفة قبلاً أو دبراً و إن لم ینزل

، بل و إن کان مقطوع الاُنثیین(1).

نعم ، هنا بحث موضوعی و هو أنّ إخراج الرحم مع عدم ثبوت الاضطرار الشرعی إلیه هل هو جائز أم لا؟ لکنّ الکلام فی ثبوت الجواز و عدمه أمر ، و فی ثبوت العدّة علیها فی صورة الطلاق مع الإخراج و عدمه أمر آخر ، إلی هنا تمّت الرسالة بحمد للّه ربّ العالمین (1).

ص:242


1- *) أقول:الذی یحصل من الأدلة وجوب العدة علی العقیمة،و ذلک لصحیحة محمّد بن مسلم فی الّتی لا تطمع فی الولد-أی العقیمة-قلنا بدلالة الآیة علیه أم لا،کان العقم لمرض أو لإخراج الرحم.و لا تعارضها سائر الروایات،لأنّ ما دلّت علی عدم العدّة للیائسة عامّ و هی خاصّ،و ما دلّت علی أنّ جعل العدّة لحفظ الأنساب و عدم اختلاط المیاه لیست بصدد بیان العلّة المنحصرة،بل بصدد بیان الحکمة،و الحکم لا تدور مدار الحکمة،و ما دلّت علی کون الاعتداد بالأشهر مختصّ بمن لا تحیض و مثلها تحیض،کان مفهومها بقرینة سائر الأدلة«مثلها سنّا تحیض»لا مع حفظ جمیع الخصوصیات. مضافا إلی أنّها أوفق بالاحتیاط و أقرب إلی حفظ الأنساب الذی هو مورد توجّه الأدیان،کما لا یخفی. فما ذکره شیخنا الأستاذ متین جدّا و إن خالفنا فی کیفیّة الاستدلال،و الأمر لا ینحصر بإخراج الرحم بل یشمل جمیع أنحاء إعقام المرأة و إفساد نطفة الرجل بالأجهزة الحدیثة و الأدویة العصریّة.و مع شکّ فی ذلک کلّه کان المرجع عموم«إذا أدخله وجب الغسل و المهر و العدّة»و ذیل صحیحة أبی عبیدة الواردة فی ثبوت العدّة للخصیّ الدالّة علی أنّ الموضوع بحسب الواقع هی الالتذاذ بالدخول.(راجع باب 54 من أبواب المهور و باب 39 من أبواب العدد). «الکریمی القمّی»

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.