المواهب فی تحریر احکام المکاسب

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : المواهب فی تحریر احکام المکاسب/ تقریرا لبحث جعفر السبحانی؛ بقلم سیف الله الیعقوبی الاصفهانی

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق علیه السلام، 1424 = 1382.

مشخصات ظاهری : ص 967

شابک : 964-357-089-8 ؛ 964-357-089-8

يادداشت : چاپ قبلی: موسسه امام صادق علیه السلام (831 ص)

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : معاملات (فقه)

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده : یعقوبی اصفهانی، سیف الله، - 1328

شناسه افزوده : موسسه امام الصادق(ع)

رده بندی کنگره : BP190/1/س 2م 8 1382

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : م 83-15207

[مقدمات التحقيق]

تصدير: بقلم الأُستاذ المحاضر

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

التشريع الإسلامي و التحدّيات المعاصرة

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على نبيّه نبي الرحمة، و على الأصفياء من عترته، صلاة دائمة ما دامت السماوات ذات أبراج، و الأرض ذات فجاج.

أمّا بعد؛ فقد ارتحل النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) و ترك بين الأُمّة وديعتين عظيمتين، و ثقلين كريمين، ألا و هما: الكتاب و العترة، و جعلهما المرجع للمسلمين من بعده في جميع الأعصار. و الأُمّة الإسلامية و إن اختلفت في أمر الخلافة بين التنصيص و الانتخاب لكنّها لم تكن مختلفة- حسب تنصيص الرسول- في أنّ الزعامة العلمية و تبيين التشريع الإسلامي على عاتق الكتاب و العترة، فلأجل ذلك اقتفت أُمّة كبيرة من المسلمين إثر الكتاب و العترة في مجال العقائد و الأُصول، و الأحكام و الفروع، و ليس قول العترة إلّا قول الرسول، فشيعة أهل البيت يصدرون عن الكتاب أوّلًا، و أقوال العترة و أفعالهم ثانياً، فالاجتهاد عندهم قائم على تينك الدعامتين.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 6

إنّ الأُصول الموجودة في الكتاب و أحاديث العترة، أغنت الشيعة عن الرجوع إلى سائر المقاييس الظنيّة التي ما أنزل اللّه بها من سلطان، و قد استنطقوا كتاب اللّه و روايات العترة في ظل الاجتهاد عبر قرون تربو على أربعة عشر قرناً، و قد أعانهم على إجابة كلّ حاجات الحياة، انفتاحُ باب الاجتهاد لديهم منذ رحلة النبي الأعظم إلى زماننا هذا، و بذلك حفظوا للفقه نضارته، و للشرع طراوته و عدم اندراسه.

إنّ النظر إلى الفقه الإسلامي بنظرة جامدة، يُعرقل خطاه للقيام بواجبه في كلّ عصر، و لا يتلاءم مع خاتمية الرسالة و التشريع الإسلامي، و هذا يفرض على المجتهد أن ينظر إلى

الفقه بوجه يستطيع تبيين التشريع الإسلامي في جميع الموضوعات و في جميع الأجيال و القرون إلى يوم القيامة.

إنّ قيام التشريع الإسلامي بهذه الوظيفة المهمّة يتوقّف على ثبوت أمرين:

الأوّل: أن تكون مصادر الفقه غزيرة وافرة و ذات مادة حيوية يستطيع الفقيه بالإمعان فيها إعطاء كلِّ موضوع حقّه، سواء أ كان موجوداً في عصر الرسول و الأئمّة (عليهم السلام) أم كان موضوعاً مستجدّاً.

الثاني: استنطاق الكتاب و الأحاديث عن طريق الاجتهاد و بذل الجهد في طريق الاستنتاج، و كان هذا هو الرأي السائد على الفقه الإسلامي عبر قرون، بيد أنّ أهل السنّة أقفلوا باب الاجتهاد في أواسط سابع القرون لمسائل سياسية يعرفها من عرف تاريخ الاجتهاد. ( «1»)

______________________________

(1) لاحظ: مفاهيم القرآن: 3/ 295- 302، و لاحظ: الخطط المقريزية: 2/ 333- 334.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 7

تقسيم المسئوليات الفقهية بين الفقهاء

إنّ الرائج في العصور السابقة، قيام فقيه واحد بكلّ المسئوليات الفقهية و استنباط جميع الأحكام الشرعية في مختلف أبواب الفقه، فألف غير واحد من الفقهاء موسوعات فقهية كبيرة في أجزاء كثيرة، من شأنها أن تقوم بتأليفها لجنة فقهية، لا فقيه واحد، شكر اللّه مساعيهم.

غير انّ الظروف السائدة تفرض على الفقه و الفقيه، فتح اختصاصات فقهية للممارسين له حتّى يكون الاجتهاد- منضمّاً إلى التخصص في نواح معيّنة- موجباً لتعميق الفقه و تكفّله لإدارة المجتمع و غنائه عن التطفّل على موائد الأجانب.

إنّ طروء الموضوعات الجديدة في الحياة، في ظل الحضارة الصناعية، و توسع نطاق التشريعات المدنية و الدولية في العالم، جعل التشريع الإسلامي أمام تحديات جديدة، و فتح آفاق حديثة كانت غير موجودة في القرون الغابرة، فكما أنّ الظروف السابقة فرضت علينا التحفّظ على انفتاح الاجتهاد بمعنى استنطاق الكتاب و الحديث في

كلّ مورد، فهي تفرض علينا- في هذا العصر- تقسيم المسئوليات بين ذوي المواهب الفقهية، حتّى يظهر من ضم هذا- فتح باب التخصصات- إلى ذاك- فتح باب الاجتهاد- تفوّق التشريع الإسلامي و تعمّقه بالنسبة إلى التشريعات القائمة في العالم التي تستوردها كلّيات الحقوق و مجالس التشريع في الدول المتحضّرة، و لن تتحقّق تلك الأُمنية إلّا بتوجّه كلّ من ذوي الأذواق المختلفة إلى ما يلائم ذوقه في الأبواب الفقهية المختلفة.

نحن نرى بأُمِّ أعيننا أنّ الطب كان علماً واحداً و كان طبيب واحد يقوم بجميع الحاجات الطبيّة في العصور السابقة، و لكن ازدياد الحاجات و تقدّم الحضارة في مجال العلاج و الطبابة، و اكتشاف آفاق جديدة في بدن الإنسان

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 8

و روحه، فرض على الأطباء مسألة التخصّص و انتخاب كلِّ طبيب ما يلائم روحه و فكره و ذوقه و سليقته بعد تعلّم الطب العام الذي يورث الإنسان إلماماً بأُصول الطب، و قد انتفع بهذا الموضوع المجتمع البشري، و لو لا هذا التخصّص لكان الطب فاشلًا أمام الحاجات الهائلة.

إنّ هذا الأمر يفرض على الفقه فتح أبواب تخصّصيّة في الفقه، ليمارس فقيه واحد قسماً خاصّاً من أبواب الفقه الذي يلائم ذوقه و فكره، مثلًا يستقل باستنباط الأحكام العبادية فقيه، و يترك أبواب العقود و المعاملات لغيره حتّى يكتسب الفقه عمقاً و شمولًا.

إنّ الحضارة الحديثة، طرحت موضوعات في الحياة البشرية تحتاج إلى دراسة معمّقة، فجاءت بتشريعات و تقنينات في أبواب المعاملات، و الحقوق و في أبواب السياسات و التأديبات، و القضاء و فصل الخصومات، و غير ذلك ممّا يقف عليها من درس الفقه المدني أو الدولي أو تخرج عن كليات الحقوق الغربية في المجالات المختلفة،

و هذا يفرض علينا دراسة هذه الموضوعات و هذه التقنينات و التشريعات خصوصاً في ما يرجع إلى الحقوق الفردية و الاجتماعية، و السياسية: المدنية و الدولية، و من المعلوم أنّ دراسة هذه الأُمور تستغرق وقت الفقيه، و إفاضة الوقت في هاتيك المجالات، تعرقل خطا الفقيه عن الاستيعاب بما يمت إلى هذا القسم بصلة.

و نحن لا نشكّ في أنّ رسالة الفقه الإسلامي في ضوء الكتاب و السنّة رسالة شاملة قادرة على حلّ جميع المشاكل، و إعطاء حكم كلّ موضوع فيما يطرح: حول الفرد و المجتمع، حول الحقوق و الاقتصاد، حول السياسة و القضاء، و لكن القيام الدقيق بهذه الوظائف يستنفد طاقات الفقيه إذا حاول أن يكون مجيداً في

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 9

الاستنباط، متفوّقاً في مجال الفقه، و هذا يفرض مسألة التخصّص، بمعنى تقسيم المسئوليات الفقهية بين الفقهاء العظام.

إنّ رفض مسألة التخصّص و انكباب الكثيرين من الفقهاء على أبواب محدودة أتاح الفرصة لغير ذوي المؤهّلات فقاموا- من دون كفاءة- بتبيين التشريع الإسلامي في مجالات الحقوق و السياسة و الاقتصاد، مع أنّهم لا يعرفون من الفقه إلّا ألفاظاً جوفاء و قواعد محدودة ليست لهم أهلية الاستنباط و الاجتهاد.

إنّ فتح باب التخصّص في التشريع الإسلامي لا يعني وقوف فقيه على باب من أبواب الفقه دون باب آخر، فإنّ هذه فكرة خاطئة، بل يعني تقسيم المسئوليات الكبرى بعد نيل درجة الاجتهاد و كسب المقدرة على أن يستنبط الأحكام الشرعية عن أدلّتها التفصيلية، بل بعد ما مارس أبواباً مختلفة في ظروف خاصة حتّى تبلورت سليقته و ظهرت أهليته و بان ذوقه و شمه، فعليه- عند ذلك- أن يختار، ما يوافق ذوقه و مواهبه.

هذه هي «الشركة» في الحقوق

المدنية ترى فيها أقساماً كثيرة تربو على الستة، و هذه هي مسألة «التأمين» بأقسامها المختلفة في مجال الصناعة و غيرها، و هذه هي المسائل السياسية العالمية، و الحقوق المدنية و الدولية و ... كلّ ذلك يفرض علينا، فتح باب التخصّصات في الحوزات العلمية.

و هناك وجه آخر للزوم فتح هذا الباب في وجه الفقهاء العظام، و هو اختلاف المسائل الفقهية في المبادئ التي يحتاج إليها الفقيه في استنباط أحكامها، فانّ المسائل الفقهية و إن كانت تشترك في المبادئ العامّة التي ذكرها المحقّقون في باب الاجتهاد و التقليد، و لكن أبواب العقود و الإيقاع، تختلف عن أبواب العبادات، و كلاهما يختلفان عن أبواب السياسات و التأديبات و ... من حيث

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 10

المبادئ الخاصّة، فالفقيه في استنباط الأحكام العبادية يحتاج إلى دراسة الكتاب و السنّة سنداً و متناً أزيد من دراستهما في أبواب المعاملات، فانّ النصوص في العبادات كثيرة بخلاف أبواب المعاملات فإنّ فيها الكليّات و القواعد التي ربّما لا تحتاج إلى مثل هذه الدراسة، و لكن تحتاج إلى مبادئ أُخرى، و من المعلوم أنّ صرف الوقت في جميع هذه المجالات يستنفد الطاقة، فيصد الإنسان عن التعمّق و التدبّر الكافي، إلّا النوابغ القلائل الذين يَضنُّ بهم الدهر إلّا في فترات خاصّة.

أسأله سبحانه أن يوفّقني لتبيين هذه النظرية في مجال آخر حتّى استوفي حقّها.

و في الختام نضع أمام القارئ هذه المباحث في مجال المكاسب المحرّمة التي ألقيناها على عصبة من فضلاء الحوزة، و قد قام بتحريرها و ضبطها و استخراج مصادر أحاديثها، قرة عيني، العالم الجليل و الفاضل النبيل، الجامع بين العلم و التقى، الفائق على كثير من أقرانه، البارع على لفيف من

أمثاله: الشيخ سيف اللّه اليعقوبي الأصفهاني- دامت بركاته-.

فجاء الكتاب سفراً محرّراً بعبارات واضحة، خالياً عن الإجمال المخلّ و الإطناب المملّ، أسأله سبحانه أن يوفّقه لنشر سائر ما كتب من أبحاثنا الفقهية، و أُوصيه بالاحتياط التام في مواضع الشبهات، و أن لا ينساني من الدعاء كما لا أنساه إن شاء اللّه.

جعفر السبحاني قم المشرفة 22 جمادى الآخرة من شهور عام 1410 ه-

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 11

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على عباده الذين اصطفى، محمّد و آله خير الورى، لا سيّما على خاتم الأوصياء، عليه آلاف التحية و الثناء.

أمّا بعد: فإنّ علم الفقه- الذي هو العلم بالوظائف في هذه الحياة الدنيا- من أفضل العلوم و أسماها، لاتّصاله باللّه سبحانه أوّلًا، و كونه مصدر السعادة في الدارين ثانياً، و قد بلغ حثّ أئمّة أهل البيت على تعلّمه إلى حد، ودّوا أن تكون السياط على رءوس أصحابهم حتّى يتفقّهوا. كيف و الإنسان هو الذي تحمّل الأمانة الإلهية في هذه النشأة، و أمّا غيره فأبى عن تحمّلها و أشفق منها، و ما هذه الأمانة إلّا العمل بالوظائف الإلهية المتوجّهة إلى الإنسان في دار الدنيا، و على ضوء ذلك فالفقه و الفقيه يلقيان الضوء على الطريق حتى يمشي المجتمع في ضوئهما إلى معالم السعادة و مراكزها.

ثمّ إنّي بحمد اللّه ممّن وفقه اللّه تعالى لدراسة هذا العلم و النظر فيه، سنين متمادية، و قد جعلت محور استفادتي في هذا العلم دروس شيخنا العلّامة، الحجة، المحقّق، الفقيه، الأُستاذ الأكبر آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني- دام ظله- كيف و شيخنا الأُستاذ- مدّ ظله- أحد من وفّقه اللّه سبحانه لنشر العلوم الإسلامية و

تدريسها و تربية جيل جديد من العلماء و الفضلاء، في مجال علوم الشريعة، أُصولها و فقهها، و له على العلم و أهله أياد بيضاء.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 12

و لمّا وقع ما كتبته في قسم المكاسب المحرّمة موقع القبول و الرضا منه، و قد قرأ فصوله و أبوابه، استجزته لطبعه فأجازني، فاشكر اللّه سبحانه على توفيقه لهذا الإنجاز، و أرجوه أن يوفّقني لنشر كلّما ضبطته و حررته من دروس شيخنا الأُستاذ- دام ظله الوارف- إنّه سميع الدعاء.

قم- الحوزة العلمية سيف اللّه اليعقوبي القمشئي 26 جمادى الآخرة 1410 ه-

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 13

[تمهيد]

اشارة

قال شيخنا الأُستاذ- دام ظلّه-:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصّلاة و السلام على نبيّه و خيرة خلقه محمّد، و على الأصفياء من عترته الذين أذهب اللّه عنهم الرِّجس و طهّرهم تطهيراً. (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلىٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي). ( «1»)

أمّا بعد؛ فإنّ الكلام يقع في أحكام المكاسب، حلالها و حرامها، سائغها و محظورها. و إن كان النظر إلى القسم المحرّم أكثر، فنقول:

«المكاسب» جمع «مكسب» كمفاعل جمع «مفعل» و تتّحد في مفرده زنة المصدر الميمي و أسماء الزمان و المكان. و المراد في المقام هو الأوّل، بمعنى الكسب أو الاكتساب. و لو أُريد منه اسم المكان، فالمراد بيان أحكام الموضوعات التي يكتسب بها، فالأوّل هو الأنسب في المقام، بل المتعيّن.

إنّ «الشيخ الأعظم» صدّر كتابه ب

الروايات العامّة، التي تتضمّن قواعد كلّية في أحكام المكاسب

اشارة

، و استند إليها في المسائل التي طرحها فيما بعد. و هي لا تتجاوز عن روايات أربع:

______________________________

(1) الأحقاف: 15.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 14

1. رواية تحف العقول.

2. رواية الفقه الرضوي.

3. رواية دعائم الإسلام.

4. النبوي الوارد في الكتب الفقهية الاستدلالية.

و إليك دراسة هذه الروايات سنداً و دلالة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 15

1 حول رواية «تحف العقول»

اشارة

روى الحسن بن علي بن شعبة في «تحف العقول» عن الصادق (عليه السلام): أنّه سئل عن معايش العباد؟ فقال: «جميع المعايش كلّها من وجوه المعاملات فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب، أربع جهات، و يكون منها حلال من جهة، حرام من جهة.

فأوّل هذه الجهات الأربعة: الولاية، ثمّ التجارة، ثمّ الصناعات تكون حلالًا من جهة حراماً من جهة، ثمّ الإجارات.

و الفرض من اللّه تعالى على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال، و العمل بذلك الحلال منها، و اجتناب جهات الحرام منها.

فإحدى الجهتين من الولاية: ولاية ولاة العدل الذين أمر اللّه بولايتهم على الناس، و الجهة الأُخرى: ولاية ولاة الجور.

فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل، و ولاية ولاته بجهة ما أمر به الوالي العادل، بلا زيادة و لا نقصان، فالولاية له و العمل معه و معونته و تقويته حلال محلل.

و أمّا وجه الحرام من الولاية: فولاية الوالي الجائر، و ولاية ولاته، فالعمل لهم

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 16

و الكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرّم، معذّب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأنّ كلّ شي ء من جهة المئونة له معصية كبيرة من الكبائر، و ذلك انّ في ولاية الوالي الجائر دروس الحقّ كلّه، فلذلك حرم العمل معهم و معونتهم و الكسب معهم إلّا

بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم و الميتة.

و أمّا تفسير التجارات في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له، و كذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز له: فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد، و قوامهم به في أُمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره، ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جميع المنافع التي لا يقيمهم غيرها، و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله وهبته و عاريته.

و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء: فكلّ أمر يكون فيه الفساد، ممّا هو منهيّ عنه، من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا، أو بيع الميتة، أو الدم، أو لحم الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش و الطير، أو جلودها، أو الخمر، أو شي ء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام و محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه، فجميع تقلّبه في ذلك حرام، و كذلك كلّ بيع ملهو به، و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّه، أو يقوى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به الحقّ، فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه وهبته و عاريته و جميع التقلّب فيه، إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك.

المواهب في

تحرير أحكام المكاسب، ص: 17

و أمّا تفسير الإجارات: فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره- إلى أن قال-:

و أمّا تفسير الصناعات: فكلّ ما يتعلّم العباد أو يعلّمون غيرهم، من أصناف الصناعات، مثل الكتابة و الحساب و التجارة و الصياغة و السراجة و البناء و الحياكة و القصارة و الخياطة و صنعة صنوف التصاوير- ما لم يكن من ذوات الأرواح- و أنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها العباد- منها منافعهم و بها قوامهم و فيها بلغة جميع حوائجهم- فحلال فعله و تعليمه و العمل به و فيه لنفسه أو لغيره.

و إن كانت تلك الصناعة و تلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد و وجوه المعاصي و تكون معونة على الحقّ و الباطل فلا بأس بصناعته و تعليمه، نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد تقوية و معونة لولاة الجور، كذلك السكين و السيف و الرمح و القوس، و غير ذلك من وجوه الآلة التي تُصرف إلى جهات الصلاح و جهات الفساد، و تكون آلة و معونة عليهما، فلا بأس بتعليمه و تعلّمه و أخذ الأجر عليه و العمل به و فيه لمن كان له فيه جهات الصلاح، من جميع الخلائق، و محرّم عليهم فيه تصريفه إلى جهات الفساد و المضار.

فليس على العالم و المتعلّم إثم و لا وزر، لما فيه من الرجحان في منافع جهات صلاحهم و قوامهم و بقائهم.

و إنّما الإثم و الوزر على المتصرّف بها في وجوه الفساد و الحرام، و ذلك إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام كلّها، التي يجي ء منها الفساد محضاً، نظير البرابط و المزامير و الشطرنج، و كلّ ملهوّ به، و الصلبان و

الأصنام، و ما يشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام، و ما يكون منه و فيه الفساد محضاً، و لا يكون منه و لا فيه

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 18

شي ء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به، و أخذ الأجر عليه، و جميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها، إلّا أن تكون صناعة قد تتصرف إلى جهات الصنائع، و إن كان قد يتصرّف بها و يتناول بها وجه من وجوه المعاصي، فلعلّة ما فيه من الصلاح، حل تعلّمه و تعليمه و العمل به، و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصلاح. فهذا تفسير بيان وجه اكتساب معايش العباد و تعليمهم في جميع وجوه اكتسابهم- إلى أن قال-:

و أمّا ما يجوز من الملك و الخدمة فستة وجوه:

ملك الغنيمة، و ملك الشراء، و ملك الميراث، و ملك الهبة، و ملك العارية، و ملك الأجر.

فهذه وجوه ما يحلّ و ما يجوز للإنسان إنفاق ماله و إخراجه بجهة الحلال في وجوهه، و ما يجوز فيه التصرّف و التقلّب من وجوه الفريضة و النافلة. ( «1»)

و الكلام يقع تارة في المؤلِّف، و أُخرى في المؤلَّف

أمّا الأوّل: فهو: أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني. يروي عن: أبي علي محمد بن همام الاسكافي (المتوفّى عام 336 ه-) ( «2») و يروي أيضاً عن «ابن همام»، محمد بن جعفر بن قولويه مؤلّف «كامل الزيارات» ( «3») (المتوفّى عام 367 أو 369 ه-) و على ذلك يكون الرجل في طبقة «ابن قولويه»، متقدّماً بقليل على الشيخ الصدوق (المتوفّى عام 381 ه-) و قد ذكر أرباب المعاجم ترجمته و قيمة كتابه في كتبهم.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 54، الباب 2 من أبواب

ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) أرّخ وفاته كما ذكرناه، الرجالي العظيم النجاشي فراجعه.

(3) انظر الباب 73، الحديث 1 من كتاب كامل الزيارات.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 19

أمّا وثاقته فلم يتعرّض أحد من القدماء له بالوثاقة و لا بالضعف، نعم وثّقه كثير من المتأخّرين، كالشيخ إبراهيم القطيفي مؤلف كتاب «الوافية في تعيين الفرقة الناجية»، و القاضي نور اللّه التستري في «مجالس المؤمنين» في ترجمة أبي بكر الحضرمي، و الشيخ الحر العاملي في كتاب «أمل الآمل» و العلّامة المجلسي في مقدّمة «البحار»، و المولى عبد اللّه الأفندي صاحب «الرياض» و السيد الخونساري الاصفهاني صاحب «الروضات»، و نقل الشيخ حسين بن علي بن صادق البحراني في كتابه «الطريق إلى اللّه»: أنّ شيخنا المفيد يروي عنه. ( «1»)

و أمّا الثاني:- الكتاب- فلا شكّ أنّه من أجلّ الكتب، و يعرّفه المجلسي بقوله: إنّ نظمه يدلّ على رفعة شأن مؤلّفه، و قد حوى من المواعظ ما فيه حياة للقلوب.

و أمّا الكلام في اعتبار نفس الرواية التي صدَّر بها الشيخ كتابه: فانّها مرسلة، لا مسندة، و هناك قرائن تدلّ على أنّ الرواية منقولة بالمعنى، و لأجل ذلك حصل في متنها غلق و اضطراب، و إن كان أكثر مضامينها مطابقة للروايات المعتبرة.

و على أيّ حال فهل يمكن الاعتماد عليها في عامّة مضامينها- خصوصاً في المتفردات- أو لا؟ الظاهر لا، لوجود بعض المناقشات فيها:

الأوّل: أنّها مرسلة و لا جابر لها، و هي و إن كانت مشهورة، لكن الاشتهار مربوط بالأعصار المتأخّرة، و الجابر هو الشهرة بين القدماء. و الذي يسهل الخطب: (إنّ جلّ روايات الكتاب- حسب ما لاحظناه- مراسيل لا مسانيد) و لعلّه ترك

______________________________

(1) الكنى و الألقاب: 1/ 318.

المواهب في تحرير

أحكام المكاسب، ص: 20

الأسانيد لأجل ثبوت صحّة الأحاديث عنده، كما فعله أحمد بن علي الطبرسي في ما رواه في كتاب «الاحتجاج».

الثاني: انّ السائل سأل عن مقدار جهات معايش العباد فأجاب الإمام بأنّها منحصرة في أربع: 1. الولايات 2. التجارات 3. الصناعات 4. الإجارات.

مع أنّ جهات المعايش لا تنحصر فيما ذكر، فإنّ منها الحيازات، و الزراعات و النتاجات، و الاصطياد، و غرس الأشجار، و الأسباب القهرية كالمواريث، و هي غير داخلة في الجهات المذكورة في الحديث.

و ربّما يجاب عنه بأنّ صدر الحديث و إن كان ظاهراً فيما ذكر، لكن الإمام (عليه السلام) عدل عن الجواب إلى بيان جهات المعايش من جهة خصوص المعاملات، و لأجل ذلك حصرها في أربع، حيث قال (عليه السلام): «جميع المعايش كلّها من وجوه المعاملات فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب» فالمقسم هو التعايش من طرق المعاملات.

و أنت خبير بأنّ الجواب لا يدفع الإشكال بحذافيره، لما فيه:

أوّلًا: أنّ المراد من الولاية ليست الولاية العامّة التي جعلها اللّه لخاصّة أوليائه، أو للعدول من فقهائه، و إنّما المراد منها هو الولاية العرفية الخاصّة للولاة و عمّالهم، و من المعلوم أنّ الولاة اجزاءٌ للحكومات. فالولاية بهذا المعنى داخلة تحت الإجارات، و المراد من الإجارة هو المعنى الأعم الذي يدخل فيه مثل الجعالة و الولاية، و عليه فلا وجه لعدّها مستقلة. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ جعلها قسيماً للإجارة لأجل ترفيع مقام الولاية، و بذلك أفردها عن الإجارة بالذكر.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 21

و ثانياً: إن أُريد من الصناعات نفس العمل، أعني: ذات البناء و الخياطة من دون ملاحظة الطوارئ- من كون الإنسان أجيراً في إيجادها و إحداثها- فهي ليست قسماً من

المعاملات.

و إن أُريد منها العمل المعقود عليه، كما إذا آجر نفسه لأجل البناء و الخياطة، فهو داخل تحت الإجارة، و إن باع عمل نفسه فهو داخل تحت التجارة، و بالجملة لا يظهر- لجعل الصناعة قسماً مستقلًا- وجه.

الثالث: انّه مشتمل على ما لا يقول به المشهور، أعني: حرمة التصرّف و التقلّب مطلقاً فيما يكون فيه وجه من وجوه الفساد، أو يكون فيه شي ء من وجوه النجس، و من المعلوم أنّ التصرّف و الإمساك فيما يكون فيه وجه من وجوه الفساد و النجس ليس حراماً على الإطلاق، و إنّما يحرم فيما إذا كان الاستعمال في جهة الفساد، أو يكون الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة، كيف؟ و قد روى سماعة في الموثّق، قال: سألته عن لحوم السباع و جلودها؟ فقال: «... أما الجلود فاركبوا عليها و لا تلبسوا منها شيئاً تصلّون فيه». ( «1»)

الرابع: التعارض في بعض فقراتها في ضابطي الحلّ و الحرمة، فقد قال في ضابطة الحل: أن يكون فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه. و ذكر في ضابطة الحرمة: أن يكون فيه وجه من وجوه الفساد. فعندئذ يقع التزاحم أو التعارض في ذي الجهتين: الصلاح و الفساد، في الصنائع التي فيها الجهتان.

الخامس: وجود التشقيق و التصنيف الذي يناسب كتب المصنّفين؛ و الذي يسهل الخطب في هذا الوجه أنّ التشقيق بهذا الوصف موجود في عهد الإمام (عليه السلام)

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 256، الباب 5 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 22

إلى مالك، و في رسالة الحقوق «لعلي بن الحسين (عليه السلام)»، و قد نقل صاحب «تحف العقول» كلًا من العهد و الرسالة في كتابه.

و مع هذا كلّه فقد

قال السيد الطباطبائي (قدس سره) في تعليقته: إنّه يستفاد من ذلك الحديث اثنتا عشرة قاعدة كلّية، فلاحظ. ( «1»)

هذا كلّه حول حديث تحف العقول.

______________________________

(1) 1. حرمة الدخول في أعمال السلطان الجائر و حرمة التكسّب بهذه الجهة.

2. حرمة الإعانة على الإثم.

3. جواز التجارة بكلّ ما فيه منفعة محلّلة.

4. حرمة التجارة بكلّ ما فيه مفسدة من هذه الجهة.

5. حرمة بيع الأعيان النجسة، بل المتنجّسة إذا جعل المراد من الوجوه، الأعم.

6. حرمة كلّ عمل يقوى به الكفر.

7. حرمة كلّ عمل يوهن به الحق.

8. جواز الإجارة بالنسبة إلى كلّ منفعة محلّلة.

9. حرمة الإجارة في كلّ ما يكون محرماً.

10. حلية الصناعات التي لا يترتب عليها الفساد.

11. حرمة ما يكون متمحّضاً للفساد.

12. جواز الصناعة المشتملة على الجهتين بقصد الجهة المحلّلة، بل يظهر من الفقرة الأخيرة، جوازها مع عدم قصد الجهة المحرّمة، و إن لم يكن قاصداً للمحلّلة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 23

2 حول رواية «الفقه الرضوي»

قال في «الفقه الرضوي»: «... اعلم يرحمك اللّه أنّ كلّ مأمور به ممّا هو منّ على العباد، و قوام لهم في أُمورهم، من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره، و ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون، فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه وهبته و عاريته.

و كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه لوجه الفساد، و مثل الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و الربا، و جميع الفواحش، و لحوم السباع، و الخمر، و ما أشبه ذلك، فحرام ضار للجسم، و فساد للنفس». ( «1»)

أمّا الفقه الرضوي فقد اختلفت فيه الأقوال، و إليك بيان الأقوال المشهورة.

الأوّل: انّه من منشآت

الإمام (عليه السلام)، اختاره المجلسي الأوّل (رحمه الله)، و يظهر أيضاً من ولده، و إليك لفظهما:

قال العلّامة المجلسي الأوّل في «روضة المتّقين»:

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: 13/ 65، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 24

اعلم أنّ السيد الثقة الفاضل المعظم القاضي مير حسين- طاب ثراه- كان مجاوراً في «مكة المعظمة» سنين، و لمّا رجع إلى أصفهان، ذكر لي انّي جئت بهدية نفيسة إليك، و هو الكتاب الذي كان عند القميّين و جاءوا به إليّ، عند ما كنت مجاوراً، و كان على ظهره، انّه يُسمّى ب- «الفقه الرضوي» و كان فيه بعد الحمد و الصلاة على محمد و آله: «أمّا بعد فيقول عبد اللّه علي بن موسى الرضا» و كان في مواضع منها خطه صلوات اللّه و سلامه عليه. و ذكر «القاضي»: انّ من كان عنده هذا الكتاب، ذكر أنّه وصل إلينا عن آبائنا، انّ هذا الكتاب من تصنيف الإمام- صلوات اللّه عليه- و كانت نسخة قديمة مصحّحة فانتسخت منها. و لمّا أعطاني القاضي نسخته انتسخت منها، و كان عندي مدّة ثمّ أخذ منّي بعض التلامذة و نسيت الآخذ، جاءني به بعد تأليفي بهذا الشرح، فلمّا تدبّرته ظهر انّ جميع ما يذكره «علي بن بابويه» في الرسالة فهو عبارة هذا الكتاب ممّا ليس في كتب الحديث ....

و الظاهر انّه كان هذا الكتاب عند «الصدوقين» و حصل لهما العلم بأنّه تأليفه صلوات اللّه عليه، و الظاهر انّ الإمام- صلوات اللّه عليه- ألّفه لأهل خراسان و كان مشهوراً عندهم، و لمّا ذهب الصدوق إليها اطّلع عليه بعد ما وصل إلى أبيه قبل ذاك، فلمّا كتب أبوه إليه الرسالة و كان ما

كتبه موافقاً لهذا الكتاب، تيقّن عنده مضامينه، فاعتمد عليها «الصدوق»- و الذي ظهر لي بعد التتبع انّ علّة عدم إظهار هذا الكتاب انّه لمّا كان كان في خراسان و كان أهلها من العامّة- و الخاصّة منهم قليلة- اتّقى صلوات اللّه عليه فيه في بعض المسائل تأليفا لقلوبهم، مع أنّه صلوات اللّه عليه ذكر الحقّ أيضاً، لم يُظهر «الصدوق» ذلك الكتاب و كان مخزونا عندهما و كانا يفتيان بما فيه،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 25

و يقولان إنّه قول المعصوم. ( «1»)

و قال «العلّامة المجلسي» في أوّل «البحار»: أخبرني به السيد الفاضل المحدّث القاضي أمير حسين- طاب ثراه-، بعد ما ورد اصفهان، قال: قد اتّفق في بعض سني مجاورتي «بيت اللّه الحرام»، أن أتاني جماعة من أهل قم حاجّين، و كان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا (عليه السلام) و سمعت الوالد (رحمه الله) أنّه قال: سمعت السيد يقول: كان عليه خطه- صلوات اللّه عليه-، و كان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء، و قال السيد: حصل لي العلم بتلك القرائن انّه تأليف الإمام (عليه السلام)، فأخذت الكتاب و كتبته و صحّحته، فأخذ والدي (قدس سره) هذا الكتاب من السيد و استنسخه و صحّحه، و أكثر عباراته موافق لما يذكره الصدوق أبو جعفر بن بابويه في «كتاب من لا يحضره الفقيه» من غير سند، و ما يذكره والده في رسالته إليه، و كثير من الأحكام التي ذكرها أصحابنا و لا يعلم مستندها، مذكورة فيه. ( «2»)

و قال في «الفصول»: و يدلّ على ذلك أيضاً أنّ كثيراً من فتاوى «الصدوقين» مطابقة له في اللفظ، و موافقة له في العبارة، لا سيما عبارة «الشرائع» [لوالد الصدوق]،

و انّ جملة من روايات الفقيه التي ترك فيها الاسناد موجودة في الكتاب. ( «3»)

و قد بالغ المتتبع «النوري» في الفائدة الثانية من خاتمة «مستدركه» في تشييد هذا القول و تأييده و اسناده إلى غير واحد من الأعلام المتأخّرين. ( «4»)

الثاني: انّه نفس ما ألّفه والد الصدوق لابنه، و ينقل عنه الصدوق في كتاب

______________________________

(1) روضة المتقين: 1/ 16.

(2) بحار الأنوار: 1/ 11.

(3) مستدرك الوسائل: 3/ 345.

(4) مستدرك الوسائل: 3/ 336.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 26

«الفقيه» بعنوان «و في رسالة أبي إليّ» و قد اشتهر ب- «كتاب شرائع علي بن موسى ابن بابويه»، و الشاهد على ذلك أنّ ما نقله الصدوق عن تلك الرسالة يطابق بلفظه و معناه لفظ ذلك الكتاب و معناه، و انتسابه إلى الرضا (عليه السلام) نشأ من اشتراك اسم والد الصدوق و والد والده مع اسم الإمام و اسم والده (عليهما السلام) فظنّ انّه «لعلي بن موسى الرضا (عليهما السلام)» حتّى لقبت تلك الرسالة ب- «فقه الرضا»، و لمّا كان الكتاب مفتتحاً بالعبارة التالية:

(يقول عبد اللّه علي بن موسى) توهّم الكاتب انّه للإمام، و زاد لفظ الرضا بعد ذلك.

الثالث: انّه نفس كتاب «التكليف» لمحمد بن علي الشلمغاني الذي طلب الشيعة من وكيل الناحية أبي القاسم الحسين بن روح أن ينظر فيه، فلمّا نظر فيه قال: ما فيه شي ء إلّا و قد روي عن الأئمّة (عليهم السلام) إلّا في موضعين أو ثلاثة، فانّه لعنه اللّه كذب عليهم في رواياتها.

و قد روى الشيخ في كتاب «الغيبة» أيضاً عن عدّة من مشايخه، عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود و أبي عبد اللّه الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن

بابويه، انّهما قالا: ممّا أخطأ محمد بن علي في المذهب في باب الشهادة: أنّه روى عن العالم (عليه السلام) أنّه قال: «إذا كان لأخيك المؤمن على رجل حقّ فدفعه و لم يكن له من البيّنة عليه إلّا شاهد واحد، و كان الشاهد ثقة رجعتَ إلى الشاهد و سألتَه عن شهادته، و إذا أقامها عندك شهدت معه عند الحاكم على مثل ما يشهده عنده لئلّا يتوى ( «1») حقّ امرئ مسلم». ( «2»)

______________________________

(1) توي يتوى: كرضي يرضى: هلك.

(2) كتاب الغيبة لشيخ الطائفة: 252.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 27

و هذه الرواية الّتي تفرّد بها الشلمغاني موجودة في هذا الكتاب، و هذا يفيد الاطمئنان بأنّه من تأليف الشلمغاني.

هذه هي الأقوال المشهورة حول هذا الكتاب، و هناك احتمالات أُخر ضربنا عنها صفحاً. و لا يمكن الاعتماد على مثل هذا الكتاب لوجوه:

الأوّل: لو كان الكتاب من تأليف الإمام لاشتهر طيلة هذه القرون، مع أنّه ليس في كلمات القدماء من هذا الكتاب أثر و لا خبر، مع توغّلهم في ضبط الآثار المروية عن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام).

الثاني: ما ورد في الرسالة من الألفاظ التي يبعد صدورها من الإمام (عليه السلام) مثل قوله: روي، يروى، أروي، نروي، و هذه التعابير غير مأنوسة في كلمات الأئمّة (عليهم السلام).

و هذا الوجهان و غيرهما ممّا أورده صاحب «المستدرك» و صار بصدد الإجابة عنها، توجب سلب الاطمئنان عن الكتاب. و الظاهر انّ أدلّة حجّية الخبر الواحد لا تشمل مثل هذا، هذا كلّه في سنده.

و أمّا مضمون الرواية فظاهره حرمة جميع الاستعمالات إذا كان كان منهيا عنه، و يكون فيه وجه من وجوه الفساد، حيث قال: «و كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهى

عنه من جهة أكله و شربه، و نكاحه، و إمساكه بوجه الفساد ...».

مع أنّه لم يقل أحد بمضمونها، إذ كيف يمكن لفقيه أن يفتي بحرمة إمساك الدم و الميتة للأغراض المباحة.

على أنّ التعليل الوارد فيه غير شامل لجميع الموارد، حيث علّل جميع التقلّبات ممّا فيه الفساد بقوله: «ضار للجسم و فساد للنفس» مع أنّ لبس الميتة أو

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 28

الانتفاع بها في بعض الغايات ليس بضار للجسم، و لا موجب لفساد النفس.

و على كلّ تقدير لا يمكن الاعتماد على هذا الحديث فيما إذا تفرّد بشي ء غير موجود في الأحاديث الصحيحة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 29

3 حول رواية «دعائم الإسلام»

روى القاضي النعمان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في كتاب «دعائم الإسلام»: «الحلال من البيوع، كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به، و ما كان محرّماً أصله منهياً عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه». ( «1»)

و الكلام يقع في المؤلِّف و المؤلَّف:

أمّا الأوّل: فهو يكنّى بأبي حنيفة و يسمّى بالنعمان بن أبي عبد اللّه: محمد بن منصور التميمي المغربي، توفّي في القاهرة في 29 جمادى الآخرة سنة 363 ه-، و يعرف بالقاضي النعمان، أو بأبي حنيفة الشيعي، و قد وصل إلى أعلى المراتب في عهد المعز لدين اللّه- الخليفة الفاطمي الرابع- و صار قاضي القضاة وداعي الدعاة، و لا شكّ انّ المؤلف من الفاطميّين من الإسماعيليين. و لم نقف على توثيقه، و ترجمه «صاحب المستدرك» في الفائدة الثانية و نقل كلمات العلماء في حقّ الرجل، و ممّا نقل عن العلّامة الطباطبائي (قدس سره) انّه إنّما لم

يرو عمّن بعد الصادق من الأئمّة

______________________________

(1) دعائم الإسلام: 2/ 18.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 30

خوفاً من الخلفاء الإسماعيلية حيث كان قاضياً منسوباً من قبلهم. ( «1») و طبع الكتاب بمصر و حقّقه آصف علي أصغر فيضي و قدّم له مقدّمة، و قد ترجمه شيخنا الأُستاذ- مدّ ظله- في موسوعته: بحوث في الملل و النحل، الجزء الثامن، فلاحظ.

أمّا الثاني: فالكتاب كلّه مراسيل عن علي (عليه السلام) و أبي عبد اللّه (عليه السلام)، و قد عرفت كلام العلّامة الطباطبائي بحر العلوم (قدس سره) في ترك روايته عن غيرهما من الأئمّة (عليهم السلام).

______________________________

(1) لاحظ المستدرك: 3/ 313- 322.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 31

4 حول الحديث «النبوي»

أعني قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّ اللّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه».

فنقول: قد احتجّ به الشيخ (رحمه الله) في «الخلاف» ( «1») و العلّامة (رحمه الله) في «التذكرة»- على ما قيل- و الحديث مروي في السنن و المسانيد، روى البيهقي في «السنن الكبرى» أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) كان جالساً عند الركن، فرفع بصره إلى السماء فضحك و قال: «لعن اللّه اليهود- ثلاثاً- إنّ اللّه حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها، إنّ اللّه إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه». ( «2»)

و روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه قاعداً في المسجد- إلى أن قال-: إنّ اللّه عزّ و جلّ إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه. ( «3»)

و روى أبو داود عن ابن عباس مثل ما رواه البيهقي و أحمد مشتملًا على لفظة «أكل شي ء». ( «4»)

______________________________

(1) الخلاف:

2/ 82 المسائل: 208، 310، 311 و قد رواه بدون لفظة «أكل».

(2) السنن الكبرى: 6/ 13.

(3) المسند: 1/ 247، 293.

(4) سنن أبي داود: 3/ 280، كتاب البيوع.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 32

و روى في «المستدرك» عن غوالي اللآلي عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)- إلى أن قال-: إنّ اللّه تعالى إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم ثمنه. ( «1»)

فتلخص أنّ الرواية في كتب المسانيد و الحديث مشتملة على لفظة «أكل» غير أنّها مروية في كتب أصحابنا الاستدلالية بدون هذا القيد. نعم نقل عن مسند أحمد بن حنبل أنّه رواه بدون لفظة «أكل» و لم نعثر عليه، فعلى فرض صحّة وجود «الأكل» في الرواية كما مرّ مصدره يكون المراد: إنّ اللّه إذا حرّم أكل شي ء معد للأكل حرّم ثمنه، و بذلك يعلم أنّ ما في حاشية سنن البيهقي من النقض على الرواية بانتقاضها ببيع الآدمي، بل الحمار و السنور حيث يحرم أكلها و لا يحرم بيعها، باطل، لما عرفت من أنّ المراد من تحريم الأكل هو تحريم أكل شي ء معد للأكل، و أمّا الأمثلة فليست مخلوقة للأكل و لا معدّة له.

و على فرض صحّة ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده من عدم وجود لفظ «الأكل» فالمراد ما إذا كان جميع منافع الشي ء أو منافعه الشائعة الغالبة حراماً بحيث يصدق على الشي ء انّه حرام على الإطلاق حقيقة، كما إذا حرمت جميع منافعه حقيقة، مثل ما إذا حرم الانتفاع بالخمر مطلقاً حتّى في سقي الشجر، أو تنزيلًا و حكماً مثل ما إذا حرمت منافعه الشائعة، فعندئذ يحرم بيعه تكليفاً و وضعاً لأجل انّ تحريم المنافع عامّتها أو أغلبها يوجب سقوط الشي ء

عن المالية، فإنّ مالية الشي ء لأجل منافعه، فلو كان معدوم المنفعة حقيقة أو مسلوبها شرعاً، فلا يبذل بإزائه الثمن المألوف، و ما هو كذلك تعد المعاملة عليه سفهية.

و مع ذلك كلّه فالقدر المتيقن في الرواية هو ما إذا كان عامّة منافعها محرّمة- و إن كان نادر المصداق و الوجود في الشريعة المطهرة- أو غالبها و معظمها و كان

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: 13/ 73، الباب 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 33

البيع لهذه الغاية المحرّمة، و أمّا إذا كان البيع للغاية المحلّلة و إن كانت غير غالبة فلا يعمّه الحديث، و سيوافيك انّ بيع الأعيان النجسة في غير ما دلّ الدليل الخاص بحرمة بيعها- كعذرة الإنسان للتسميد مثلًا- لغايات محلّلة كبيع الميتة له أيضاً و بيع جلدها للسقي، صحيح تشمله إطلاقات البيع و التجارات، و لا تزاحمه تلك العمومات حتّى النبوي الذي يستند إليه كثيراً، غفلة عمّا يرمي إليه.

و على كلّ تقدير فهذه الروايات العامّة لأجل فقدان السند، و وجود الإرسال في جميعها، و عدم الجابر، لا يمكن الاعتماد عليها، إلّا النبويّ الأخير، فإنّه مشهور بين الفقهاء حديثاً و قديماً. و قد عرفت مفاده على كلا التقديرين.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 34

في تقسيم المكاسب

إنّ الفقهاء- رضوان اللّه عليهم- قسّموا المكاسب إلى محرّم و مكروه و مباح.

و قال المحقق: و ينقسم إلى محرّم و مكروه و مباح.

و زاد بعضهم عليه، الواجبَ و المندوب، قال سلّار في «المراسم»: المكاسب على خمسة أضرب: واجب، و ندب، و مكروه، و مباح، و محظور.

ثمّ مثّل لكلّ واحد و قال:

أمّا الواجب: فهو كلّ حلال بيعه أو الاحتراف به إذا كان لا معيشة للإنسان سواه.

و أمّا الندب: فهو ما يكتسب به

على عياله ما يُوسِّع به عليهم.

و أمّا المكروه: فهو أن يكتسب محتكراً، أو له عنه غنى، و يحتمل به مشقة.

و أمّا المباح: فهو أن يكتسب بما لا يضره تركه و لا يقيم بأوده، بل له غنى عنه.

و أمّا المحظور: فان يكتسب مالًا لينفقه في الفساد أو يحترف بالحرام. ( «1»)

و تبعه العلّامة في «القواعد» فزاد على الأقسام الثلاثة، الواجبَ و المندوبَ، و احتمله الشيخ الأنصاري (رحمه الله) فمثّل للمستحب بالتكسّب بالزراعة و الرعي، و للواجب- ب بالتكسّب بالصناعات التي بها قوام الحياة، ثمّ تأمّل في

______________________________

(1) انظر المراسم: 169.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 35

آخر كلامه.

و وجه التأمّل: انّ المستحب هو نفس الزراعة و الرعي، أو نفس الإنفاق على العيال موسعاً و إن لم يكتسب بهما، لاستحباب توفير ما يموّنُ به الناس و ترخيص أسعارهم و إيجاد الرفاه لهم.

كما أنّ الواجب هو حفظ النظام و نفس العمل من التجارة و البناء سواء (أ كان) بأُجرة أم لا. و أمّا الاكتساب بهما فليس واجباً، كما أنّ الواجب في مورد العيال هو الإنفاق بأيّ طريق حسن، و القول بوجوب التجارة و البناء من باب المقدمة خروج عن البحث، لأنّ البحث في الوجوب النفسي كالاستحباب و الكراهة.

و الحقّ أن يقال: انّه إن أُريد تقسيم التكسّب فهو ثلاثي لا غير. و إِن أُريد تقسيم العمل بما هو هو سواء أوقع موضع التكسّب أم لا، فالتقسيم خماسي كما أوضحناه.

معنى حرمة التكسّب

تُطلق حرمة الاكتساب و يراد منها تارة الحرمة التكليفية، و أُخرى الوضعية.

أمّا الأُولى فقد فسّرت بوجوه:

الأوّل: ما عن الشيخ الأنصاري من أنّ المراد حرمة النقل و الانتقال بقصد ترتيب الأثر المحرّم. ثمّ إنّه (قدس سره) علّل في ذيل كلامه وجه

التقييد ب- «قصد ترتيب الأثر المحرّم» بأنّ ظاهر الأدلّة في تحريم بيع مثل الخمر. هو ما إذا باع بقصد ترتيب الآثار المحرّمة. أمّا لو قصد الأثر المحلّل فلا دليل على تحريم المعاملة إلّا من حيث التشريع.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من التقييد مخالف لإطلاق ما دلّ عليه النهي بما

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 36

هو هو، فإنّ إطلاقه يقتضي حرمة البيع سواء أقصد المشتري الأثرَ المحرّم أم قصد الأثر المحلّل، فحرمة الاكتساب بالخمر و الخنزير و الصليب و الأصنام و آلات القمار ثابتة في الحالتين جميعاً، و لا يحتاج في تحقّق حرمته (إذا قصد الأثر المحلّل) إلى تحقّق عنوان التشريع، فإنّ النهي عن بيع شي ء كتجويز بيعه، فكما أنّ ما دلّ على الحلّية يقتضي حليته مطلقاً سواء أقصد المشتري الأثر المحلّل أم قصد غيره، فهكذا ما دلّ على حرمته، فلا وجه للتقييد أبداً.

نعم: لو كان النهي عن البيع لأجل كونه إعانة على الإثم، كبيع السلاح من أعداء الدين، و العنب من الخمّار، لكان لذلك وجه، فيكون الاكتساب المحرّم ما إذا كان المشتري قاصداً للأثر المحرم؛ و أمّا إذا لم يكن كذلك، كما إذا قصد الكافر الحرب مع الكافر الآخر أو كان القصد أكل العنب، فلا يكون محرماً.

الثاني: ما ذكره المحقّق الإيرواني من أنّ معنى حرمة الاكتساب هو حرمة إنشاء النقل و الانتقال بقصد ترتيب أثر المعاملة، أعني: التسليم و التسلّم للمبيع و الثمن، فلو خلا عن هذا القصد لم يوصف الإنشاء الساذج بالحرمة.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من القيد على خلاف الإطلاق أيضاً، فإنّ مقتضى الإطلاق تحريم البيع بما هو هو، سواء أ كان مقترناً بقصد ترتيب أثر المعاملة من التسليم و التسلّم،

أم لا. نعم لو كان دليل الحرمة هو الإعانة على الإثم لكان لهذا القيد وجه.

الثالث: ما أفاده المحقّق الخوئي- دام ظلّه-: انّ ما يكون موضوعاً لحليّة البيع بعينه موضوع لحرمته و ليس البيع عبارة عن الإنشاء الساذج، من غير فرق بين أن نقول بأنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ- كما هو المعروف بين

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 37

الأُصوليين- أم كان بمعنى إظهار ما في النفس من الاعتبار، و ليس البيع أيضاً عبارة عن مجرّد الاعتبار النفساني ... بل حقيقة البيع عبارة عن المجموع المركّب من ذلك الاعتبار النفساني مع إظهاره بمبرز خارجي، سواء أتعلّق به الإمضاء من الشرع و العرف أم لا. ( «1»)

و ما ذكره و إن كان متيناً، لكنّه يجب أن يقيد الإنشاء أو ابراز الاعتبار النفساني- الذي هو موضوع الحلية و الحرمة- بالجد، و يقال بأنّ موضوع الحرمة هو إنشاء السبب الجدّي، بالفعل أو القول الذي يتسبب به العقلاء إلى حصول المسببات، و على ذلك يكون قصد ترتيب أثر المعاملة من لوازم الإنشاء الجدي و السبب الحقيقي.

و الفرق بين هذا المعنى و ما ذكره المحقّق الإيرواني واضح، حيث إنّ القصد المزبور جزء الموضوع المحرّم عنده، و من لوازمه على الأخير، فإنّ إنشاء السبب على وجه الجد يلازم ذلك القصد. هذا كلّه في الحرمة التكليفية.

و أمّا الحرمة الوضعية في الاكتساب: فهي عبارة عن فساد المعاملة، بحيث لا يترتب عليها الأثر شرعاً أو قانوناً.

نعم: حرمة الاكتساب التكليفية لا تلازم الفساد، و النسبة بين الحرمتين عموم و خصوص من وجه، فالبيع عند النداء، حرام تكليفاً لا وضعاً، و المعاملة غير فاسدة، كما أنّ البيع الغرري بنفسه حرام وضعاً و فاسد حسب

القانون، و ليس نفس التكسّب بحرام تكليفاً، و ربما يجتمعان كما في بيع الخمر.

و إلى ما ذكرنا أشار «الشيخ الأعظم (قدس سره)» بقوله: و أمّا حرمة المال في مقابلها

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 30.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 38

- أي مقابل حرمة الاكتساب- فهو متفرّع على فساد البيع، لأنّه مال الغير وقع في يده بلا سبب شرعي و إن قلنا بعدم التحريم. ( «1»)

هذا كلّه حول تفسير حرمة الاكتساب تكليفاً و وضعاً، فهلمّ معي نبحث عن الاكتسابات المحرّمة. فنقول: إنّ للاكتسابات المحرمة أنواعاً، نذكر كلّ نوع في طي مسائل:

______________________________

(1) و ما نقلناه من الشيخ الأعظم جملة معترضة وقعت في كلامه بين تفسير حرمة الاكتساب تكليفاً و تقييده بقصد ترتيب الأثر. و بين تعليل هذا التقييد، و لأجل ذلك حصل الإغلاق في كلامه (قدس سره).

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 39

الاكتسابات المحرمة

اشارة

(1)

النوع الأوّل: الاكتساب بالأعيان النجسة

و فيه مسائل ثمان:

1. التكسّب ببول ما لا يؤكل لحمه.

2. التكسّب بروث ما لا يؤكل لحمه.

3. التكسّب بالدم.

4. التكسّب بالمني.

5. التكسّب بالميتة.

6. التكسّب بالكلب و الخنزير.

7. التكسّب بالخمر.

8. التكسّب بالأعيان النجسة غير القابلة للطهارة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 41

1

[النوع الأول] الاكتساب بالأعيان النجسة

اشارة

الأعيان النجسة التي يمكن الاكتساب بها عبارة عن: البول، و الروث، و الدم، و المني، و الميتة، و الكلب، و الخنزير، و الخمر، و الأعيان المتنجسة التي لا تقبل الطهارة. و كان للمصنّف أن يبحث عن جميع الأعيان النجسة جملة واحدة من دون أن يخصّص لكلّ منها بحثاً خاصاً، حتّى يكون البحث موجزاً قابلًا للتدريس غير أنّه عقد لكلّ واحد منها عنواناً خاصاً فنحن نقتفي أيضاً أثره فنقول: إنّ هنا مسائل ثمان:

***

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 42

المسألة الأُولى: التكسب ببول ما لا يؤكل لحمه

اشارة

قد تعرّض الفقهاء لحكمه بين مخصّص له بذكر، و مُدْخِل له تحت العنوان الكلّي: «العين النجسة».

قال الشيخ (قدس سره) في «النهاية»: و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها، من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما، إلّا أبوال الإبل خاصة. ( «1»)

و قال سلار (رحمه الله) في «المراسم»: التصرّف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه و الدم و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام، إلّا بيع بول الإبل خاصة. ( «2»)

و قال العلّامة (قدس سره) في «التذكرة»: يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية، ... و لو باع نجس العين كالخمر و الخنزير و الميتة لم يصحّ إجماعاً. ( «3»)

و قال في «الجواهر»: لا خلاف يعتد به في حرمة التكسّب في الأعيان النجسة التي لا تقبل الطهارة بغير الاستحالة. ( «4»)

______________________________

(1) النهاية: 364.

(2) المراسم: 170.

(3) التذكرة: 10/ 25، المسألة 8، فصل في العوضين.

(4) الجواهر: 22/ 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 43

و قال ابن قدامة في «المغني»: و الحيوان قسمان: نجس، و طاهر. فالنجس نوعان: أحدهما ما هو نجس رواية واحدة، و هو الكلب و الخنزير و ما تولّد

منهما أو من أحدهما، فهذا نجس عينه و سؤره و جميع ما خرج منه. ( «1»)

فكلّ هذا لا يجوز بيعه، لأنّه لا نفع فيه، فأخذ ثمنه أكل مال بالباطل. ( «2»)

إلى غير ذلك من الكلمات التي ستقف عليها في المسائل الآتية.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الهدف الأسمى في المقام هو البحث عن الحرمة التكليفية فقط. و أمّا الحرمة الوضعية- بالمعنى الذي عرفت- فيبحث عنها استطراداً فنقول: استدلّ الشيخ الأعظم على حرمة التكسّب تكليفاً بوجوه أربعة، أشار إليها بقوله: «بلا خلاف ظاهر، لحرمته، و نجاسته، و عدم الانتفاع به منفعة محلّلة مقصودة فيما عدا بعض أفراده كبول الإبل الجلّالة أو الموطوءة».

و لكن هذه الوجوه الأربعة مخدوشة جدّاً.

أمّا الأوّل- أعني قوله: «بلا خلاف ظاهر»-: فقد اعترض عليه بأنّه من المحتمل أو المعلوم استناد المجمعين إلى الروايات العامّة و الروايات الخاصّة في بيع الأجناس النجسة، و هذا الاحتمال و إن كان قائماً في أكثر المسائل الإجماعية- التي وردت فيها روايات-، لكنّه في المقام تجاوز حدّ الاحتمال، لأنّ الشيخ قد أفتى بحرمة التكسّب بالأبوال النجسة في كتاب «النهاية»، و هو ملتزم فيها بصياغة المسائل بنفس النصوص الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) في المسألة، و هذا يكشف عن ورود النصّ الخاص في نفس المسألة غير ما ورد من الروايات العامّة أو الخاصّة في بعض الأجناس النجسة، فيُحتمل جدّاً الإجماع أو «لا خلاف» مستنداً إلى الرواية.

______________________________

(1) المغني: 1/ 41، الطبعة الثالثة.

(2) المغني: 4/ 229.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 44

و أمّا الثاني- أعني قوله: «لحرمته»، و الضمير عائد إلى البول، فإن أراد حرمة شربه فهو مسلّم، و لكنّه لا يلازم حرمة التكسّب تكليفاً فضلًا عن فساده إذا كانت له مالية

عقلائية. و إن أراد حرمة كلّ منافعه حتّى التداوي و صنع الطين، فهو ممنوع، لعدم الدليل على حرمة التصرّف في النجس على وجه الإطلاق، إلّا ما سمعته في حديث «تحف العقول» حيث قال: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام»، و قد عرفت ضعف الحديث و عدم إمكان الاحتجاج به فيما تفرّد به.

و أمّا الثالث- أعني قوله: «و نجاسته»-: فالظاهر انّه ليس دليلًا مستقلًا، و إنّما هو ملازم للوجه الثاني أعني قوله: «لحرمته»- أو الرابع- أعني قوله: «و عدم الانتفاع به منفعة محللة مقصودة»- إذ ليست النجاسة بما هي مانعة عن جواز التكسّب؛ و لأجل ذلك يجوز بيع العبد الكافر و كلب الماشية و الحائط لعدم حرمته، و إمكان الانتفاع بالمنفعة المحلّلة المقصودة، و لأجل ما ذكرنا- النجاسة ليست من الموانع- قال صاحب الغنية (رحمه الله)- بعد أن اعتبر في المبيع أن يكون منتفعاً به تحرزاً ممّا لا منفعة فيه، و قيّدنا بكونها مباحة تحفظاً من المنافع المحرمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره» ( «1») و ما ذكره صريح في أنّ اعتبار الطهارة لأجل كونه يمكِّن الانتفاع للإنسان، بخلاف النجاسة فهي مانعة عنه.

و أمّا الرابع- أعني قوله: «و عدم الانتفاع به منفعة محلّلة مقصودة»- فلو صحّ لدلّ على الحرمة الوضعية لا التكليفية، لأنّ عدم الانتفاع يخرج المورد عن المالية، و يكون أكل الثمن في مقابله أكلًا بالباطل.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري اعترض على ما ذكره بأنّ الشرب ليس من منافع البول الشائعة حتّى تكون حرمته سبباً لعدم إمكان الانتفاع بها بنحو المنفعة

______________________________

(1) الغنية: 213، كتاب البيع.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 45

المحلّلة، كما أنّ الأكل ليس من منافع الطين النجس، فعند ذلك

لو كان هناك منفعة مثل التداوي بالبول، أو الاستعمال في البناء لما كان هناك مانع من صحّة البيع.

و لا يخفى انّ ما ذكره من التداوي أو الاستعمال في البناء نادر يُلحق البول بعادم المنفعة، و لأجل ذلك لا يعد البول مالًا لأجل هذين الاحتمالين، فعلى ذلك فلو قلنا بأنّ صحّة التكسّب قائمة على كون الشي ء مالًا، لا تصحّ المعاوضة عليه.

و الأولى أن يقال: انّه لا دليل على حرمة التكسّب بالبول تكليفاً سوى الإجماع، و ورودها في النهاية في عداد المسائل المتلقاة عن الأئمّة (عليهم السلام). و أمّا حرمته وضعاً فلأجل عدم ماليّته، لأنّ تنفّر الطباع عن البول و قذارته في الأذهان و وفوره و كثرته صارت سبباً لخروجه عن المالية فلا يبذل بإزائه الثمن حتّى يكون عوضاً أو معوضاً، و ما ذكر من حديث التداوي أو الاستعمال في البناء منفعة نادرة، لا تكاد توجد إلّا في الفترات البعيدة. و قلّ ما يتّفق أن يبنى به البناء، أو يداوى المريض به.

و الحاصل انّه لو اشترط في صحّة المعاوضة، المالية. فلا شكّ في عدم ماليته، و يترتب عليه فساد المعاوضة، و أمّا حرمة نفس التكسّب فلا دليل عليه سوى الإجماع و وروده في الفتاوى المتلقاة عن الأئمّة (عليهم السلام).

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي- دام ظله- وجّه صحة المعاوضة عليه مع فرض عدم صدق المال عليه بوجوه:

1. لا دليل على اعتبار المالية في البيع، و إنّما المناط صدق عنوان المعاوضة عليه، و أمّا ما عن المصباح من أنّه مبادلة مال بمال فلا يكون دليلًا على ذلك، لعدم حجّية قوله.

2. يكفي أن يكون المبيع مالًا بنظر المتبايعين إذا كان عقلائياً، و لا يجب

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 46

كونه مالًا في نظر العقلاء أجمع.

3. لو سلمنا عدم كون الأبوال المذكورة مالًا حتّى في نظر المتبايعين، لكن غاية ما يلزم، كون المعاملة عليها سفهية، و لا دليل على بطلانها بعد شمول أدلّة صحّة البيع لها. ( «1»)

يلاحظ على هذه الوجوه:

أمّا الأوّل: فلو سلّمنا أنّ المناط هو المعاوضة، لكن المقصود منها هو المعاوضة العقلائية التي تدور عليها رحى الحياة، لا المعاوضة اللغوية التي لا يشترط فيها أن يكون العوض أو المعوَّض مالًا يبذل بازائه الثمن، فلأجل ذلك تصدق المعاوضة على مبادلة الأشياء التافهة التي لا يرغب إليها أحد سوى الصبيان، و أمّا المعاوضة العقلائية فلا تنفك عن كونها مالًا يرغب إليه العقلاء و يُبذل بازائه الثمن، و على ذلك فالمعاوضة العقلائية تلازم المالية.

و أمّا الثاني: ففيه أنّ كون الشي ء مالًا في خصوص نظر المتعاملين خارج عن مصب الإطلاقات و الأدلّة الإمضائية للمعاملات، إذ لا شكّ انّ قوله سبحانه: (أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) ناظر إلى البيع المتعارف بين العقلاء و عامّة الناس، و هو يلازم كون العوضين مالًا عندهم، لا في خصوص نظر المتعاملين.

و أمّا الثالث: ففيه أنّ القول بصحّة المعاملة السفهية عجيب، لانصراف الإطلاقات عن مثلها؛ هذا كلّه لو فرضنا عدم كون بول النجس مالًا.

و أمّا لو شككنا في كونه مالًا أو لا، فهل يمكن التمسّك بالإطلاقات أو لا؟ فقد فصّل المحقّق الورع الشيرازي، بين أدلّة نفوذ البيع و أدلّة نفوذ التجارة، فمنع التمسّك بالأُولى دون الثانية، حيث قال: لو فرض الشكّ في المالية أمكن

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 34.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 47

التمسّك بأدلّة نفوذ التجارات و وجوب الوفاء بالعقد. و لا يصحّ التمسك بأدلّة نفوذ البيع لأنّه مبادلة مال بمال؛ و

مع الشكّ في الموضوع كما هو المفروض لا يرجع إلى العموم، نعم لو تُمسّك بعمومات التجارة يثبت كونه بيعاً، لأنّه على فرض الصحّة ليس إلّا بيعاً. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّه لا فرق بين أدلّة نفوذ البيع و نفوذ التجارات، فإنّ أدلّة نفوذ العقد و التجارات منصرفة إلى ما يرغب إليه العقلاء، و هم لا يرغبون إلّا إذا كان لمورد العقد و التجارة مالية صالحة لبذل الثمن بازائه، فيخرج ما ليس له مالية قطعاً، كالماء على شفير البحر، و التراب في البيداء.

و لو شكّ في مالية الشي ء يكون المورد من قبيل الشكّ في الشبهة المصداقية للعمومات، و لا يصحّ في مثله التمسّك بعموم العام، من غير فرق بين قوله تعالى: (أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) ( «2») و قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ( «3») غير أنّ المالية مدلول مطابقي لأدلّة نفوذ البيع، و التزامي لغيره.

ثمّ إنّ الشيخ (قدس سره) استثنى من حرمة الاكتساب بالبول النجس، بولَ الإبل الجلّالة أو الموطوءة، و لعلّ وجه الاستثناء هو توهم شمول الإجماع المنقول على جواز بيع بول الإبل لهاتين الصورتين، و إن حرم شربه، و لكنّ الحقّ عدم الفرق بين النجس و المتنجس وضعاً و تكليفاً.

أمّا الأوّل: فلانتفاء المالية، و أمّا الثاني: فلشمول معقد الإجماع المنقول المستفيض، للمتنجس من البول فلاحظ. و أمّا الكلام في بول الإبل الطاهر فسيوافيك البحث عنه.

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الشيرازي: 10.

(2) البقرة: 275.

(3) المائدة: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 48

فرعان
الفرع الأوّل: التكسّب بأبوال ما يؤكل لحمه، غير الإبل
اشارة

الظاهر من الشيخ الأعظم (قدس سره) التفصيل بين جواز شرب أبوال ما يؤكل لحمه اختياراً فيجوز بيعها، و حرمة شربها كذلك، ففيه وجهان:

الأوّل: الحرمة، لعدم المنفعة المحلّلة المقصودة، و المنفعة النادرة كالاستعمال في البناء و غيره-

لو تمّت- لزمت صحّة المعاوضة على كلّ شي ء.

الثاني: الجواز، لا للمنفعة النادرة- حتّى يقال: لو كانت المنفعة النادرة ملاكاً للجواز لزم صحّة المعاوضة على كلّ شي ء-، بل للمنفعة الظاهرة، أعني: الشرب في ظرف خاص، و هو ظرف الضرورة.

و الفرق بين المنفعة الظاهرة- و لو في ظرف خاص- و بين النادرة، حكم العرف بأنّ الأوّل ذو منفعة، دون الثاني.

ثمّ إنّه (قدس سره) استدرك و رجّح عدم الجواز على القول بالحرمة بالبيان الذي ورد في الكتاب فراجع.

أقول: التفصيل المذكور مبني على كون المنفعة الظاهرة للبول هو الشرب،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 49

و لأجله فصّل بين جواز الشرب و حرمته، و استظهر ذلك من أنّه إذا نسبت الحلّية و الحرمة للقابل للشرب، يقدر «شربه» و القابل للأكل يقدر «أكله» و بما انّ البول من الأُمور القابلة للشرب يكون المقدّر في تحليله و تحريمه هو الشرب، فعلى ذلك يكون الشرب هو المنفعة الشائعة، فيدور جواز البيع و حرمته على جواز الشرب و حرمته.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح في الأُمور المعدّة للشرب و الأكل، لا في كلّ ما يمكن شربه و أكله و إن لم يكونا معدّين لذلك. فالبول و الروث و الطين ليست معدّة لذلك، و لأجل ذلك نفى الريب في جواز بيع الطين مع أنّه محرّم الأكل. و بذلك يتبيّن انّ جواز البيع و حرمته غير مبنيّ على جواز الشرب و عدمه.

و الحقّ أن يقال: انّ المعاوضة على الأبوال الطاهرة محرمة وضعاً لاستخباثها و تنفّر الطباع منها، و لأجل ذلك لا يعدّ مالًا عند العرف، أضف إلى الاستخباث و التنفّر، كثرتها و وفورها بحيث لا يبذل بازائها الثمن سواءً أجاز شربها أم لم يجز، و

التداوي بها أو الاستعمال في البناء في القلّة بمكان لا يصيّرها مالًا، إذ قلّ ما يتّفق لبشر أن يتداوى بالأبوال، أو يبني بناء بها، نعم: لو تقدّمت الحضارة إلى حدّ راج صنع الأدوية و غيرها من الأبوال لكان لجواز المعاوضة وجه.

و أمّا الحرمة التكليفية فلا، لعدم الدليل عليها في الأبوال الطاهرة.

فتلخص انّ بيع البول الطاهر حرام وضعاً، لا تكليفاً، إلّا إذا عُدّ معاونة على الإثم، كما إذا وقف البائع على أنّ المشتري بصدد الانتفاع المحرّم.

سؤال و إجابة

قد عرفت أنّ عدم صحّة البيع وضعاً في الأبوال النجسة و الطاهرة لأجل عدم كونها مالًا في نظر العقلاء، و لكن الشيخ الأعظم (قدس سره) استند في عدم الصحّة

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 50

إلى وجه آخر، و هو: شمول الأحاديث العامّة لها أوّلًا، و عدم وجود المنفعة المحلّلة ثانياً. و عند ذلك يوجّه إليه السؤال التالي:

إنّ الأبوال و الأدوية تشتركان في حرمة الانتفاع اختياراً، و جوازه اضطراراً، فحينئذ فما الوجه في جواز بيع الثاني دون الأوّل؟

و أجاب عنه الشيخ بقوله: و التداوي بها لبعض الأوجاع لا يوجب قياسها على الأدوية و العقاقير، لأنّه يوجب قياس كلّ شي ء عليها للانتفاع به في بعض الأوقات (كالاضطرار).

يلاحظ عليه: أنّ الجواب غير تام، للفرق الواضح بين المرض و الاضطرار، فانّ الأوّل من الأحوال العادية للإنسان، بخلاف الاضطرار الذي لا يتّفق إلّا نادراً، فحينئذ فلا يصحّ قوله: للانتفاع به في بعض الأوقات كالاضطرار.

ثمّ إنّه يظهر منه (قدس سره) جواب آخر حيث قال: و لا ينتقض أيضاً بالأدوية المحرّمة في غير حال المرض لأجل الإضرار، لأنّ حلّية هذه في حال المرض ليست لأجل الضرورة بل لأجل تبدّل عنوان الإضرار بعنوان النفع.

يلاحظ عليه: أنّه

يمكن لصاحب النقض أن يقول: إنّ البول مثل الدواء فانّ حلّيته في حال المرض لأجل تبدّل عنوان الإضرار بعنوان النفع.

و الحاصل: انّ التفريق بين البول و الدواء بعد الاعتراف بماليتهما مشكل، و إنّما تنحل العقدة إذا كان بينهما فرق جوهري: و هو كون الأدوية و العقاقير مالًا يطلبها الناس من قريب أو بعيد و تتطاول إليها الأعناق، و مثلها الطين، خصوصاً في البلاد التي يحمل فيها التراب من خارج البلد، بخلاف الأبوال فانّها لا تعدّ أموالًا عند العرف و العقلاء.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 51

ثمّ إنّ المحقّق الإيرواني ( «1») جاء بجواب آخر، و هو الفرق بين البول و الدواء بعد اشتراكهما في عدم جواز الانتفاع في حال الاختيار، بأنّ البول حرام بالذات سواء أزاد أم نقص كالخمر، و هذا بخلاف الدواء فانّه حرام بمناط الإضرار، و لا يحرم قليله إذا لم يكن مضراً، و ما هو محرم بالمناط الثانوي لا يكون محرماً بالعنوان الأوّلي، و إلّا لا يوجد في العالم مباح بالذات، إذ ما من مباح إلّا و هو مضر في بعض الشرائط، كما إذا أكل الخبز و شرب الماء زائداً على الحد اللازم.

و لا يمكن أن يقال: انّ عنوان الضرر غير منفك عن الدواء، كيف، و ربما كان مضرّاً لبعض دون بعض، و زمان دون زمان، فلأجل ذلك لا يكون محرّماً بالذات، و ما لا يكون كذلك لا يكون محرّم البيع وضعاً و تكليفاً، و إن كان محرّم الاستعمال بعنوان الإضرار.

يلاحظ عليه: أنّه لو صحّ لا يصحّ في مورد البول، فانّ الظاهر من الرضوي انّما نهي من أكله و شربه و لبسه لأجل كونه ضاراً للجسم و مفسداً للنفس، فصار كالدواء،

و البول الطاهر نهي عن شربه لأجل كونه ضاراً للجسم و مفسداً للنفس، فلو حرم حرم بهذا العنوان. لا بما هو هو؛ اللّهم إلّا أن يحمل التعليل على بيان الحكمة، لا لبيان موضوع الحرمة.

و الظاهر: سقوط السؤال من أصله و عدم الحاجة إلى هذه الأجوبة، لما عرفت من الفرق الجوهري بين الأبوال و الأدوية.

نعم: كلّ من لم يعترف بهذا الوجه يقع في التفكيك بينها و بين الأدوية و العقاقير و الطين في المخمصة.

***

______________________________

(1) حاشية المكاسب: 3، ذيل قول الشيخ (قدس سره): لأنّه يوجب قياس كلّ شي ء عليها.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 52

الكلام في لحوم السباع و شحومها

( «1») الظاهر جواز بيع لحوم السباع و شحومها لوجود المنفعة المحلّلة، كإطعام الكلب و الهرة و غيرهما بها، بل و شيوع التداوي ببعضها- كلحم الأفعى و السمك السقنقور- فيجوز بيعه تكليفاً و وضعاً لوجود الفائدة الشائعة، و عدم انطباق أحد العناوين المحرّمة عليه.

و أمّا شحمها، فلأنّ له مالية، للمنفعة المحلّلة كالإسراج و طلي السفن و غيرهما.

ثمّ إنّ الشيخ (قدس سره) فصّل بين لحم السباع و شحمها، فألحق الأوّل بالبول في عدم الانتفاع به انتفاعاً محللًا، دون الثاني لإمكان الاستفادة منه بالإسراج.

ثمّ لمّا كان «النبوي» الوارد في مورد الشحوم مخالفاً لهذا التفريق صار بصدد الإجابة عنه و قال ( «2»): و لا ينافيه النبوي: «لعن اللّه اليهود حرِّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها»، لأنّ الظاهر انّ الشحوم كانت محرّمة الانتفاع على اليهود بجميع الانتفاعات، لا كتحريم شحوم غير مأكول اللحم علينا.

أقول: الأصل في ذلك قوله سبحانه: (وَ عَلَى الَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمٰا إِلّٰا مٰا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمٰا أَوِ الْحَوٰايٰا أَوْ مَا

اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنّٰا لَصٰادِقُونَ). ( «3»)

و الظاهر: انّ الشحوم كانت محرّمة عليهم من حيث الأكل، و أمّا اللعن

______________________________

(1) هذا البحث بين الفرعين استطرادي، لانّ المسألة الأُولى مختصة بالتكسّب ببول ما لا يؤكل لحمه، لا التكسّب بلحمه و شحمه.

(2) المكاسب: 4.

(3) الأنعام: 146.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 53

عليهم لأنّهم باعوها لأجل هذا الأثر المحرّم، و البيع حرام عند الشيخ إذا كان بقصد ترتيب الأثر المحرّم- ذاتاً- عليه، و يمكن توجيه اللعن لأجل انّ بيعها يعدّ إعانة على الإثم.

و الحق أن يقال: انّ النبوي أعني قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» لا ينافي ما ذكرناه، إذ لا يشمل المورد، لأنّ المراد من تحريم الشي ء هو تحريم جميع منافعه أو الشائعة منها، بحيث يلحق الموجود بالمعدوم، و شحم غير المأكول ليس من هذا القبيل، لأنّ الإسراج و الطلي من المنافع الشائعة، و مثله لحوم السباع خصوصاً في ما ذكرناه سابقاً.

نعم: لو صحّ ما ورد في مسند أحمد من زيادة لفظ «الأكل» يشكل جواز بيع شحم السباع فضلًا عن لحومها، لأنّ المدار في حرمة البيع هو حرمة الأكل، لا وجود الفائدة المحلّلة و عدمها، و اللحوم و الشحوم من غير المأكول يحرم أكلها.

و اعلم أنّ أحمد بن حنبل نقل الحديث في مسنده هكذا: حدثنا عبد اللّه، حدّثني أبي، حدّثنا علي بن عاصم، انا ( «1») الحذاء، عن بركة، عن أبي الوليد، انا ( «2») ابن عباس قال: كان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قاعداً في المسجد مستقبلًا الحجر، قال فنظر إلى السماء فضحك، ثمّ قال: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها، و

انّ اللّه عزّ و جلّ إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه». ( «3»)

ثمّ إنّ الشيخ أجاب عمّا ذكرنا من الإشكال بقصور دلالة النبوي، قائلًا: بأنّه لا يمكن الأخذ بهذا العموم، إذ لازمه انّ كلّ ما حرّم أكله، حرّم ثمنه، و هو يستلزم تخصيص الأكثر، لأنّ كثيراً من الأشياء محرّمة الأكل كالتراب و الطين مع

______________________________

(1) الظاهر انّ اللفظ كناية عن «حدثنا» فتدبّر، و في السنن مكان «انا الحذاء»: «خالد الحذاء».

(2) الظاهر انّ اللفظ كناية عن «حدثنا» فتدبّر، و في السنن مكان «انا الحذاء»: «خالد الحذاء».

(3) المسند: 1/ 247- 293.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 54

أنّهما غير محرّمة البيع.

و روى البيهقي في سننه نفس هذا الحديث بالسند التالي:

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأ أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد الحذاء، عن بركة أبي الوليد، عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) جالساً عند الركن فرفع بصره إلى السماء فضحك ... إلى آخر الحديث مثل ما تقدّم عن المسند. ( «1»)

و روى في «المستدرك» عن «غوالي اللآلي» مرسلًا عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «قال: لعن اللّه اليهود ... إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه». ( «2»)

غير انّ الوارد في الكتب الفقهية الاستدلالية هو حذف كلمة «أكل»، و قد ورد في «الخلاف» و غيره بلا لفظ «أكل»، و على ذلك فلم يثبت وجود لفظ «أكل»، و إن ورد في السنن و المسانيد، لعدم ثبوت صحّة كلّ ما ورد فيهما، و المروي في «المستدرك» مرسل، و الظاهر انّه مأخوذ منها.

و

لا يخفى ما في هذا الجواب من الضعف، لأنّ المراد على فرض وجود لفظ «أكل» هو حرمة أكل ما أُعدّ للأكل، لا مطلق ما يحرم أكله، و إن لم يكن معدّاً له، كما في المثالين، فلا يُعدّان نقضاً بالاستدلال بالحديث.

و الحاصل: انّ كلّ شي ء معدّ للأكل إذا حرم أكله، يحرم ثمنه، و تفسير العموم بهذا المعنى لا يلزم منه تخصيص الأكثر.

و الأولى أن يجاب بعدم ثبوت لفظ «أكل» و إن ورد في مسند أحمد و سنن البيهقي و المستدرك.

______________________________

(1) السنن الكبرى: 6/ 13.

(2) المستدرك: 2/ 427.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 55

الفرع الثاني: التكسّب ببول الإبل

أقول: يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: جواز شربه اختياراً و عدمه.

الثاني: جواز بيعه و عدمه.

أمّا الأوّل: اختلفت أقوال العلماء في جواز شرب بول ما يؤكل عموماً، و بول الإبل خصوصاً، فذهب الشيخ الطوسي في نهايته و ابن حمزة و العلّامة و الشهيدان قدس سرهم إلى الحرمة، إلّا أبوال الإبل، فانّه يجوز للاستشفاء بها. و ذهب المرتضى و ابنا الجنيد و إدريس إلى الجواز لمكان طهارته، و الأظهر عند المحقّق (قدس سره) هو الحرمة لاستخباثها و إن كانت طاهرة.

و الظاهر من الشيخ الأنصاري من تعليله الجواز في بول الإبل، اختصاص جواز شربه بصورة الضرورة كما يحكي عنه لفظ الاستشفاء.

و الظاهر هو الحرمة مطلقاً، لما ذكره المحقّق (قدس سره) من عدّ العرف كلَّ ذلك من الخبائث التي ارتكزت حرمتها بين المسلمين، و أمّا ما في الجواهر نقلًا عن المرتضى (قدس سره) في تأييد الحلية المطلقة من أمر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بشرب أبوال الإبل، و انّه لم

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 56

يعلم منه أنّ الوجه فيه الضرورة المبيحة

للمحرم ( «1») غير تام، لصراحة رواية عمّار بن موسى في ذلك كما سيوافيك.

و العجب انّه (رحمه الله) يقول: إنّ التقييد لم يرد في كلام الإمام، بل وقع في كلام السائل كما في خبر سماعة. مع أنّ التقييد ورد في خبر عمّار بن موسى في كلام نفس الإمام (عليه السلام) كما هو واضح.

فنقول: روى عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): قال: سئل عن بول البقر يشربه الرجل؟ قال: «إن كان محتاجاً إليه يتداوى به يشربه، و كذلك أبوال الإبل و الغنم». ( «2»)

و عن سماعة، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن شرب الرجل أبوال الإبل و البقر و الغنم- م ينعت له من الوجع هل يجوز له أن يشر- ب؟ قال: «نعم لا بأس به». ( «3») و رواه في «طب الأئمّة» أيضاً و إليك ترجمة من ورد في سند الحديث:

______________________________

(1) الجواهر: 36/ 392.

(2) الوسائل: 17/ 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.

رواه الشيخ في التهذيب:

1. عن محمد بن أحمد بن يحيى (و هو صاحب كتاب «نوادر الحكمة» الثقة).

2. عن أحمد بن الحسن (و هو أحمد بن الحسن بن علي بن فضال، الفطحي الثقة) و الدليل على أنّ ذلك هو المراد منه، رواية «محمد بن أحمد بن يحيى عنه»، في غير هذا المورد.

3. عن عمرو بن سعيد (الساباطي، وثّقه النجاشي).

4. عن مصدق بن صدقة (نقل العلّامة عن ابن عقدة أنّه ثقة، و قال الكشي هو من أجلّة العلماء الفقهاء العدول).

5. عن عمّار بن موسى (وثّقه النجاشي) فالرواية موثّقة، و الثلاثة الأخيرة من الفطحيّة.

(3) الوسائل: 17/ 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب،

ص: 57

1. عن أحمد بن الفضل (و ليس هو أحمد بن الفضل الخزاعي لأنّه من أصحاب الكاظم (عليه السلام)، كما أنّه ليس هو أحمد بن الفضل الكناسي لأنّه من أصحاب الصادق (عليه السلام) كما في رجال الكشي في ترجمة «عروة القتات» فإذاً الرجل مجهول لا نعرفه) و مع ذلك يمكن على القول بكون المراد هو الخزاعي بشهادة أنّ الحسين النوفلي الذي هو من أصحاب الرضا (عليه السلام) يروي عن مؤلّف طب الأئمّة أعني الحسين بن بسطام، فلا غرو في أن يروي المؤلّف عن أحمد بن الفضل الخزاعي الذي هو من أصحاب الكاظم (عليه السلام).

2. عن محمد بن إسماعيل بن عبد اللّه (و لم يعنون في كتب الرجال شخص بهذا العنوان).

3. عن زرعة (ثقة واقفي، يروي عن أبي عبد اللّه، و موسى الكاظم (عليهما السلام)) عن سماعة (و هو ثقة واقفي) فالرواية لا يمكن الاحتجاج بها.

و روى المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): أنّه شكا إليه الربو الشديد. فقال: «اشرب له أبوال اللقاح» فشربت ذلك فمسح اللّه دائي. ( «1»)

و المراد من اللقاح: الفحل من الخيل و الإبل، و مفردها لقوح، و الرواية ظاهرة في اختصاص الجواز بحالة الضرورة، و الثانية و الثالثة و إن كانتا واردتين في مورد الضرورة لا مقيدتين بها و لكنّهما ضعيفتان لا يحتج بهما كما أوعزنا إلى ضعفهما في التعليقة.

نعم، هنا ما يدلّ على الجواز مطلقاً، مثل ما روي في «قرب الإسناد» عن أبي البختري، عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) أنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) قال «لا بأس ببول ما أكل

______________________________

(1) الوسائل: 17/ 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث

8، و الرواية ضعيفة ب- «محمد بن سنان» فلاحظ.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 58

لحمه». ( «1»)

و لكن الرواية، ضعيفة لا يحتج بها.

و روى أيضاً أحمد بن محمد بن عيسى، عن بكر بن صالح، عن الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: «أبوال الإبل خير من ألبانها، و يجعل اللّه الشفاء في ألبانها». ( «2»)

و الرواية كسابقتها ضعيفة لأجل بكر بن صالح، لجهالته فلا يحتج بها، و بهذا يتضح اختصاص جواز الشرب بحال الضرورة دون الاختيار، مضافاً إلى استخباثها عرفاً، فيشمله ما دلّ على حرمة أكل الخبث و شربه.

و أمّا الثاني- أعني: جواز البيع و عدمه-: فالشيخ الأعظم بنى صحة البيع و عدمه على جواز شربه اختياراً و عدمه، و حيث إنّ الأقوى عدم جواز شربه اختياراً، فلا يجوز التكسّب به، و المنفعة النادرة ليست ملاكاً لنفوذ البيع و صحته.

و الحقّ أن يقال: انّ جواز شربه اختياراً لا يستلزم صحّة بيعه، لعدم كونه مالًا، لاستخباثه و تنفّر الطبع منه، و التداوي في بعض الأحايين النادرة لا يوجب كونها مالًا، هذا تمام الكلام في المسألة الأُولى.

______________________________

(1) الوسائل: 17/ 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2؛ و الرواية ضعيفة بأبي البختري و هو وهب بن وهب بن عبد اللّه، قال النجاشي: روى عن أبي عبد اللّه و كان كذّاباً.

(2) الوسائل: 17/ 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 59

المسألة الثانية: في التكسّب بروث ما لا يؤكل لحمه

و يقع الكلام في موارد أربعة:
اشارة

الأوّل: جواز الانتفاع بروث ما لا يؤكل لحمه.

الثاني: التكسّب بعذرة الإنسان.

الثالث: التكسّب بسرجين ما لا يؤكل لحمه.

الرابع: التكسّب بروث ما يؤكل لحمه. و إليك الكلام فيها.

الأوّل: جواز الانتفاع بروث ما لا يؤكل

لا ينبغي الإشكال في جواز الانتفاع بأرواث ما لا يؤكل لحمه، و سرجين ما لا يؤكل لحمه، كما لا إشكال في جواز الانتفاع بعذرة الإنسان، للسيرة المستمرة بين المسلمين في الأعصار و الأمصار في الاستفادة منها في الزروع و الكروم و أُصول الأشجار و التسميد، إلى غير ذلك. و البحث في ذلك إطناب بلا طائل. إنّما الكلام في المورد الثاني، أعني جواز التكسّب، فنقول:

الثاني: التكسّب بعذرة الإنسان

الظاهر من الفقهاء حرمة التكسّب بعذرة الإنسان.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 60

قال الشيخ في «النهاية»: و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما. ( «1»)

و المراد من العذرة إمّا رجيع الإنسان أو خرء الحيوان غير المأكول أو مطلق الحيوان و لو كان مأكولًا، و على كلّ تقدير رجيع الإنسان داخل فيها.

و قال في «المبسوط»: و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان، و خرء الكلاب و الدم فانّه لا يجوز بيعه، و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و أُصول الشجر بلا خلاف. ( «2»)

و قال في «الخلاف»: سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه- إلى أن قال-: و أمّا النجس منه فلا، لدلالة إجماع الفرقة، و روي عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» و هذا محرّم بالإجماع، فوجب أن يكون بيعه محرماً. ( «3»)

و العبارة و إن كانت واردة في السرجين النجس، و لكن عذرة الإنسان داخلة فيه موضوعاً إذا صحّ إطلاق السرجين على عذرة الإنسان، و إن كان بعيداً، أو حكماً بالفحوى كما هو غير بعيد.

و قال ابن قدامة: و

لا يجوز بيع السرجين النجس، و بهذا قال مالك و الشافعي، و قال أبو حنيفة يجوز، و لأنّ أهل الأمصار يبتاعونه لزرعهم من غير نكير فكان إجماعاً، و لنا انّه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة، و ما ذكروه ليس بإجماع، لأنّ الإجماع اتّفاق أهل العلم و لم يوجد، و لأنّه رجيع نجس فلم يجز بيعه كرجيع الآدمي. ( «4»)

______________________________

(1) النهاية: 364.

(2) المبسوط: 2/ 167.

(3) الخلاف: 2/ 82، المسألة 310، باب عدم إمكان تطهير زيت النجس بالغسل.

(4) المغني: 4/ 14، كتاب البيع، الطبعة الثالثة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 61

ثمّ الظاهر: انّ كلّ من حكم بحرمة التكسّب بالسرجين النجس لا يفرّق بينه و بين عذرة الإنسان، و أمّا الأدلّة فتدلّ على المنع روايات ثلاث:

1. روى يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: «ثمن العذرة من السحت». ( «1»)

و السند مشتمل على مجهولين: الأوّل علي بن مسكين، و الثاني عبد اللّه بن وضاح.

2. ما رواه في «الدعائم»: انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن ... و عن بيع العذرة، و قال: هي ميتة. ( «2») و الرواية مرسلة.

3. نعم: في مقابل هاتين الروايتين خبر محمد بن مضارب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا بأس ببيع العذرة». ( «3»)

و محمد بن مضارب لم يوثّق، و لم يرد في حقّه شي ء يدلّ على مدحه صريحاً. نعم ربما يقال بوثاقته لأجل رواية صفوان و ابن مسكان عنه، على القول بأنّ صفوان لا يروي إلّا عن ثقة، و قد أوضحنا حاله في أبحاثنا الرجالية.

ثمّ إنّ هنا رواية رابعة موثّقة قد جمعت مضمون كلتا الطائفتين من الروايات و

هي موثّقة سماعة: «عن مسمع بن أبي مسمع، عن سماعة بن مهران قال: سأل

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) المستدرك: 13/ 71، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(3) الوسائل: 12/ 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3، رواه الشيخ في التهذيب: 6/ 372، الحديث 200، و في الاستبصار: 3/ 56، و السند في الكتابين هكذا: أحمد بن محمد، عن الحجّال، عن ثعلبة، عن محمد بن مضارب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا بأس ببيع العذرة».

و النسخ متّفقة على ضبط (مضارب) بالضاد المعجمة، غير انّ المحقّق الأردبيلي احتمل في شرح الإرشاد كتاب البيع: ص 5 انّه بالصاد المهملة و الدال.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 62

رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) و أنا حاضر فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: «حرام بيعها و ثمنها».

و قال: لا بأس ببيع العذرة. ( «1»)

و الظاهر انّ الرواية الأخيرة من جمع الراوي بين الروايتين لا من الإمام (عليه السلام)، و يدلّ على ذلك أنّه قال: و قال: «لا بأس ببيع العذرة»، و لو كان الجمع من الإمام (عليه السلام) لكان اللازم أن يقول: فقال: «لا بأس ببيع العذرة».

و على هذا فلا يمكن الاحتجاج بالموثّقة، فلا بدّ أن نركّز البحث في ما تقدّم من الروايات الثلاث فنقول:

قد اختلفت الأنظار في الجمع بين الروايات بوجوه:

الأوّل: الرجوع إلى القواعد العلاجية، و هو يقتضي الأخذ بما دلّ على التحريم و طرح ما يدلّ على الجواز، لأنّ النسبة بين الروايتين نسبة التباين، و هو مورد الأخبار العلاجية، و بما انّ ما يدلّ على التحريم موافق للمشهور،

و الثاني مخالف له يؤخذ به دون الثاني، أضف إلى ذلك انّ ما يدلّ على الجواز غير حائز لشرائط الحجية، و هذا هو الحقّ، و يظهر وجهه بعد إبطال الوجوه الآتية. ( «2»)

الثاني: الجمع بينهما بحمل الأوّل على عذرة الإنسان، و الثاني على عذرة البهائم، و علّل بأنّ الأوّل نصّ في عذرة الإنسان ظاهر في غيرها بعكس الخبر

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2، و ما في نسخة الوسائل: (مسمع عن أبي مسمع) تصحيف لأنّ في الاستبصار (ج 3، ص 56) مسمع بن أبي مسمع، مضافاً إلى أنّه ليس في الرجال أبو مسمع، و لعلّ كلمة «عن» تصحيف كلمة «ابن»، و الظاهر انّ مسمع ثقة، لما روى الكشي عن علي بن حسن بن فضّال: انّه ثقة، مضافاً إلى اعتماد مثل صفوان عليه.

(2) و لعلّ النهي عن بيعها: لأجل انّ فيه نحو مهانة و ذلّة للمؤمن فلم يرض له هذه الدناءة فحرم بيعها تكليفاً.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 63

الثاني، و يطرح ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر، و استقرب الشيخ الأعظم (قدس سره) هذا الجمع برواية سماعة، التي عرفتها، قائلًا بأنّ الجمع بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدلّ على أنّ تعارض الأوّلين ليس إلّا من حيث الدلالة، فلا يرجع فيه إلى المرجّحات السندية أو الخارجية. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّه كيف يكون اللفظ الواحد في رواية نصّاً في معنى و ظاهراً في آخر، و في الرواية الأُخرى على العكس، مع تجرّد كل واحد عن الاحتفاف بالقرائن الصارفة؟ أضف إلى ذلك ما سيوافيك من أنّ «العذرة» لا تستعمل إلّا في «عذرة الإنسان»، و لا تستعمل في غيرها إلّا

بدليل، و ما استقربه برواية سماعة غير تام، لأنّه إنّما يكون دليلًا لو كان الجمع من الإمام (عليه السلام) لا من الراوي، و قد عرفت أنّ الجمع من الثاني كما يشعر به قوله «و قال» مكان «فقال».

و الظاهر أنّ سماعة بن مهران سمع الحديثين من الإمام (عليه السلام) في مجلسين مختلفين، و جمع بينهما في كلامه، و فصل بين الحديثين بلفظ (و قال) و أعاد ذكر العذرة بالاسم الظاهر مشعراً بأنّه سمع كلا الحديثين من الإمام (عليه السلام).

الثالث: حمل خبر المنع على بلاد لا ينتفع بها لعدم المالية، و حمل خبر الجواز على ما ينتفع بها.

يلاحظ عليه: أنّه جمع تبرعي، لو صحّ، لصحّ الجمع بأنحاء أُخر أيضاً من حمل خبر المنع على بيع العذرة مجرّدة عن التراب، و خبر الجواز على المخلوطة به، إلى غير ذلك من الوجوه التبرعية.

الرابع: حمل خبر المنع على التقيّة.

يلاحظ عليه: أنّ العامّة لم يستقر رأيهم على شي ء واحد، و يظهر ذلك بما ذكره

______________________________

(1) المكاسب: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 64

ابن رشد القرطبي في «بداية المجتهد» حيث قال: و أمّا القسم الثاني و هي النجاسات التي تدعو الضرورة لاستعمالها كالرجيع و الزبل الذي يتخذ في البساتين، و اختلف في بيعها في المذهب، فقيل بمنعها مطلقاً، و قيل بإجازتها مطلقاً، و قيل بالفرق بين العذرة و الزبل، أعني إباحة الزبل و منع العذرة. ( «1»)

و قال في «الفقه على المذاهب الأربعة»: لا ينعقد بيع العذرة، فإذا باعها كان البيع باطلًا، إلّا إذا خلطها بالتراب فانّه يجوز بيعها إذا كانت لها قيمة مالية كأن صارت «سباخاً». ( «2»)

و ما استثناه هو القول الثالث في «بداية المجتهد»، و ليس بموضع وفاق

للجميع. و قد مرّ كلام ابن قدامة و صرّح انّ المسألة خلافية.

ثمّ إنّ الشيخ نقل في «الخلاف» انّ أبا حنيفة يجوّز بيع السراجين، و انّ الشافعي لا يجوّز بيعها، و أضاف (قدس سره) كلمة: و لم يفصّلا. ( «3»)

و هذه الكلمة تشير بأنّ المجوّز و المحرّم لم يفصّلا في السراجين بين الطاهر و النجس، و على هذا فليس الحكم بالمنع فتوى مشهورة بين العامّة حتّى يحمل دليل المنع على التقية، كما أنّ الظاهر انّ لفظ «السراجين» في عبارة «الخلاف» يعمّ عذرة الإنسان و رجيعه، و لأجل ذلك لم يعنونها مستقلة، و إن كان الاستعمال الرائج على خلافه. ( «4»)

الخامس: ما احتمله الفقيه السبزواري من حمل رواية المنع على الكراهة

______________________________

(1) بداية المجتهد: 2/ 125.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة: 2/ 232.

(3) لاحظ الخلاف: 2/ 82.

(4) و يدلّ عليه قوله في «المبسوط»: إنّ سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان، و خرء الكلب لا يجوز بيعها. لاحظ المبسوط: 2/ 167.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 65

و رواية الجواز على الترخيص المطلق، و استبعده الشيخ الأعظم، و وجهه بأنّ استعمال لفظ السحت في الكراهة بعيد جداً، و مع ذلك استعمل فيها؛ كما عن بعض المحقّقين في عدّة من الروايات:

منها: ما رواه سماعة قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «السحت أنواع كثيرة، منها كسب الحجّام إذا شارط، و أجر الزانية، و ثمن الخمر، و أمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم». ( «1»)

و منها: ما رواه سماعة أيضاً قال: قال: «السحت أنواع كثيرة منها كسب الحجّام و أجر الزانية، و ثمن الخمر». ( «2»)

و الظاهر وحدة الروايتين لا تعدّدهما لوحدة المروي عنه- أعني: سماعة- و

وحدة المتن- تقريباً- غير أنّ الأوّل اشتمل على الجملة الشرطية دون الأخير.

و منها: ما رواه الصدوق (قدس سره) في «عيون الأخبار» عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه عن علي (عليهم السلام) في قوله تعالى: (أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ) قال: «هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة، ثمّ يقبل هديته». ( «3»)

و منها: ما في المستدرك نقلًا عن ابن عباس في تفسير قوله: (أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ) ( «4») قال: «أُجرة المعلّمين الذين يشارطون في تعليم القرآن». ( «5»)

و منها: ما في «المستدرك» نقلًا عن «الجعفريات»، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «من السحت ثمن الميتة، و ثمن اللقاح، و مهر البغي، و كسب الحجّام،

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل: 12/ 63- 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6- 11.

(3) الوسائل: 12/ 63- 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6- 11.

(4) المائدة: 42.

(5) المستدرك: 13/ 116، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 66

و أجر الكاهن، و أجر القفيز، و أجر الفرطون، و الميزان، إلّا قفيزاً يكيله صاحبه، أو ميزاناً يزن به صاحبه، و ثمن الشطرنج، و ثمن النرد، و ثمن القرد، و جلود السباع، و جلود الميتة قبل أن تدبغ، و ثمن الكلب، و أجر الشرطي الذي لا يعديك إلّا بأجر، و أجر صاحب السجن، و أجر القائف، و ثمن الخنزير، و أجر القاضي، و أجر الساحر، و أجر الحاسب بين القوم لا يحسب لهم إلّا بأجر، و أجر القارئ الذي لا يقرأ القرآن إلّا بأجر، و لا بأس أن يجري له من بيت المال، و الهدية

يلتمس أفضل منها، و ذلك قوله تعالى: (وَ لٰا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ( «1») و هو قوله تعالى: (وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوٰالِ النّٰاسِ فَلٰا يَرْبُوا عِنْدَ اللّٰهِ) ( «2») و هي الهدية يطلب منها من تراث الدنيا أكثر منها، و الرشوة في الحكم، و عسب الفحل، و لا بأس أن يهدي له العلف، و أجر القاضي، إلّا قاضي يجري عليه من بيت المال، و أجر المؤذن إلّا مؤذن يجري عليه من بيت المال». ( «3»)

فقد استعمل في هذه الروايات كلمة «السحت» في التكسّب المكروه- أعني: كسب الحجّام، و أخذ الهدية بعد قضاء حاجة الأخ، و أخذ الأُجرة على تعليم القرآن- فانّ التكسّب في هذه الموارد مكروه بالاتّفاق.

أضف إلى ذلك انّه قد نصّ بعض أهل اللغة استعماله في المكروه، قال ابن منظور في «لسان العرب»: و يرد في الكلام على المكروه مرّة و على الحرام أُخرى، و يستدلّ عليه بالقرائن، و قد تكرّر في الحديث. ( «4»)

قلت: إنّ لفظ السحت حسب ما يستفاد من كثير من المعاجم ك- «المصباح المنير» و «القاموس»، و «مجمع البحرين»- و حتى نفس «لسان العرب»- نصّ في

______________________________

(1) المدثر: 6.

(2) الروم: 39.

(3) المستدرك: 13/ 69، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) لسان العرب: 2/ 42 ط- بيروت.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 67

الحرام، و ما خبث من المكاسب، و لا يحل أكله و لا كسبه، إلى غير ذلك من نظائر هذه الكلمات.

و قال في «لسان العرب» السحت: كلّ حرام قبيح الذكر، و قيل: هو ما خبث من المكاسب و حرم فلزم عنه العار، و قبيح الذكر كثمن الكلب و الخمر و الخنزير، إلى آخر

ما أفاده، و قد استعمل في الروايات في الغلول و أُجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ و المسكر و الربا و الرشاء و ثمن الكلب و أجر الكاهن و ثمن الميتة، و كلّ ذلك يؤيّد كون المتبادر من السحت هو الحرام و ما خبث من المكاسب، فلا يصحّ العدول عن هذا النصّ أو الظهور إلى غيره إلّا بدليل قاطع.

و أمّا الروايات المستدلّ بها، فكلّها ضعاف لا يصحّ الاستدلال بها.

أمّا الأُولى: فلوجود «الجاموراني» في السند. ( «1»)

فإن قلت: إنّ الاستدلال بالحديث لا يتوقّف على صحّة الرواية، بل يكفي صحّة استعمال السحت في المكروه إذا كان المستعمل عربياً يصحّ الاحتجاج بكلامه، و الحديث و إن كان موضوعاً يكفي في الاحتجاج به على المطلوب.

قلت: إنّ الاستدلال بالحديث إنّما هو بمناط أنّ الإمام (عليه السلام) استعمل لفظ السحت في المكروه من الاكتسابات- أعني: أُجرة الحجّام- فانّها مكروهة بحكم الاتّفاق و الروايات الواردة فيها. ( «2») فبملاحظة هذه الروايات يحكم انّ الإمام

______________________________

(1) هو محمد بن أحمد أبو عبد اللّه الجاموراني، عدّه الشيخ (قدس سره) في باب الكنى ممّن لم يرو عنهم (عليهم السلام)، و قال النجاشي: أبو عبد اللّه الجاموراني، ابن بطة، عن البرقي، عن أبي عبد اللّه الجاموراني بكتابه. انتهى. و قال ابن الغضائري: ضعّفه القميّون و استثنوه من كتاب «نوادر الحكمة». و ضعّفه العلّامة في «الخلاصة». لاحظ تنقيح المقال: 3/ 24 فصل الكنى باب العين.

(2) الوسائل: 12/ 71، الباب 9 من أبواب ما يكتسب به، فقد وردت أحاديث كثيرة دلّت على جواز التكسّب بها.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 68

استعمل لفظ السحت في المكروه، فلو لم تصحّ نسبة الحديث إلى الإمام (عليه السلام) لما أمكن

إثبات كون المراد من السحت في المقام هو الكراهة، لأنّه لو ثبت سند الحديث أمكن القول بأنّهم (عليهم السلام) استعملوا السحت في هذه الرواية في الكراهة بقرينة حكمهم بالكراهة فيها في سائر الروايات، و أمّا إذا لم يثبت و احتملنا الوضع و الكذب، فلا دليل على أنّ الراوي استعمله في الكراهة إذ من المحتمل أنّ الراوي استعمله في الحرام.

و أمّا الثانية: فضعيفة بعثمان بن عيسى الذي ضعّفه العلّامة في «المختلف» ( «1») و هو من رءوس الواقفة الذي امتنع عن دفع ما كان عنده من أموال الإمام الكاظم إلى الإمام الثامن (عليهما السلام). ( «2»)

و قال النجاشي: كان له- يعني الرضا (عليه السلام)- في يده مال فمنعه، فسخط عليه، قال: ثمّ تاب و بعث إليه بالمال، و كان يروي عن أبي حمزة. ( «3») فالاحتجاج بقوله في مثل هذه المسألة مشكل، نعم ذكر الشيخ عمل الطائفة برواياته، و أمّا كونه من رجال كامل الزيارات و تفسير القمي، فليس بشي ء لما حقّقناه في محله من اختصاص التوثيق بمشايخه الذين يروي عنهم ابن قولويه بلا وساطة، لا كلّ من ورد اسمه في الاسناد، و أمّا تفسير القمي، فلم يثبت اسناد الموجود إلى علي بن إبراهيم. فلاحظ أبحاثنا في الرجال، فلم يبق إلّا قول الشيخ في «العدّة»: عمل الطائفة برواياته لأجل كونه موثوقاً به و متحرجاً عن الكذب. و تبعه ابن شهرآشوب فعدّه من ثقات أبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام). ( «4»)

______________________________

(1) لاحظ المختلف: 1/ 183 و 428 و لاحظ ترجمته في معجم رجال الحديث: 11/ 126- 127.

(2) لاحظ رجال الكشي الرقم 264.

(3) رجال النجاشي برقم 817.

(4) لاحظ المناقب: 4/ 350، باب إمامة أبي إبراهيم.

المواهب في

تحرير أحكام المكاسب، ص: 69

نعم: يحتمل كونه من أصحاب الإجماع لما ذكره الكشي من أنّه ذكر بعضهم مكان فضالة بن أيوب (عثمان بن عيسى) و لكنّه غير ثابت، و نسبه الكشي إلى القيل و هو مشعر بضعفه.

و أمّا الثالثة: فانّ قوله سبحانه: (أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ) فهو راجع إلى علماء اليهود الذين كانوا يحكمون بغير ما أنزل اللّه، فلو قلنا بالرواية لزم عدم انطباق الآية على موردها، فانّ عمل اليهود و حكمهم بغير ما أنزل اللّه و جلب الأموال من ذلك كان سحتاً محرّماً قطعاً، و احتمال استعماله في الجامع بين المكروه و الحرام احتمال لا يتبادر إلى الذهن.

و من المحتمل انّ السحت في نفس الرواية مستعمل في المحرّم، لاحتمال أن يكون المراد من قضاء الحاجة، هو فصل الخصومة بالحقّ، بحيث كان إهداء الهدية أمراً مفروضاً بين الحاكم و المشتكي، و لا شكّ انّ الهدية بهذه الصورة محرّمة كما سيوافيك.

و بالجملة: لا يمكن الجمع بحمل السحت على الكراهة بهذه الروايات، و قد عرفت ما هو المتبادر منه عند أهل اللغة.

السادس: الجمع بين الحديثين بحمل الأوّل على الحكم الوضعي مشعراً ببطلان المعاملة، و الثاني على الحكم التكليفي بمعنى انّ بيع العذرة ليس كبيع الخمر حتّى يكون نفس العمل محرّماً؛ و لا يخفى انّ هذا الجمع تبرعي أيضاً.

و الحقّ في المقام هو: انّ المورد من قبيل المتعارضين، و يجب الأخذ برواية التحريم فقط لكونها موافقة للشهرة الفتوائية، و قد أوضحنا في محلّه انّ المرجع عند معارضة ما هو موافق للمشهور مع ما هو مخالف له هو الأخذ بالرواية المطابقة لفتوى المشهور.

أضف إلى ذلك أنّه مؤيّد بالعمومات المتقدّمة، و بذلك يعلم ضعف ما

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص:

70

أفاده المحقّق الإيرواني (رحمه الله) حيث قال: المتعيّن في مقام العمل طرح روايات المنع، أمّا رواية سماعة فبالإجمال، و أمّا رواية يعقوب فبضعف السند، مضافاً إلى الابتلاء بالمعارض، و المرجع عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ( «1») و (أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) ( «2») و (تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ) ( «3») و قوله في رواية «التحف»: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات». ( «4»)

أقول: إنّ ما ذكره مبنيّ على حجية الخبر الشاذ- أعني: خبر محمد بن مضارب- و عندئذ يتعارضان و يتساقطان فيرجع إلى العمومات؛ غير انّ التحقيق خلافه، و قد أوضحنا في مبحث التعادل و الترجيح انّ نفس الشهرة الفتوائية بين القدماء حجّة لا يعدل عنها، و على ذلك جرت سيرة أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، كما أثبتنا في محلّه من أنّ الخبر الشاذ ليس بحجّة، و أنّ تعارض الخبر الموافق للمشهور مع الخبر الشاذ ليس من قبيل تعارض الحجّة مع الحجة، بل من قبيل تعارض الحجّة مع اللاحجة، و عند ذلك يتعيّن العمل بموافق المشهور و لا تصل النوبة إلى التعارض.

و أمّا نفس العذرة فالظاهر انّه يتبادر منها عذرة الإنسان و رجيعه فلا تعمّ غيره إلّا بالقرينة، و فسره ابن منظور في لسانه ب- «غائط الإنسان» و قال: الغائط هو السلح؛ و في حديث ابن عمر: انّه كره السلت الذي يزرع بالعذرة، يريد الغائط الذي يلقيه الإنسان.

و حكي انّ معناها الأصلي هو فناء البيت، و سمّيت عذرات الناس بها، لأنّها تلقى بالأفنية. ( «5»)

______________________________

(1) المائدة: 1.

(2) البقرة: 275.

(3) النساء: 29.

(4) تعليقة المحقّق الإيرواني: 4.

(5) لسان العرب: 4/ 554.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 71

و قال في «المقاييس»: العذرة: فناء الدار، و

في الحديث: «اليهود أنتن خلق اللّه عذرة» أي فناء. ثمّ سمّي الحدث عذرة لأنّه كان يلقى بأفنية الدور. ( «1»)

و قال في «القاموس»: العاذر، و العاذرة، و العذرة: الغائط. ( «2») و الغائط في اللغة، الأرض المطمئنة الواسعة، يكني به عن العذرة، و هذه التعابير ظاهرة في عذرة الإنسان، لأنّها تلقى في أفنية الدار لإذهابها إلى البساتين، أو هي التي يتخذ لها غائطاً و أرضاً مطمئنة واسعة.

و مع ذلك كلّه فقد ذهب «سيدنا الأُستاذ»- دام ظلّه- ( «3») إلى أنّ العذرة هي خرء مطلق الحيوان، و استظهره من بعض اللغويين، و قد عرفت كلمات اللغويين. ( «4»)

و على ذلك فتختص الحرمة بعذرة الإنسان، و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه أو أرواث ما يؤكل فلا تشمله هذه الروايات، بل لا بدّ في إثبات الحرمة في ما لا يؤكل من التماس دليل آخر.

ثمّ إنّه ربّما يؤيد الجواز- أي جواز البيع- بما رواه «المفضل» عن الإمام

______________________________

(1) المقاييس: 4/ 257.

(2) القاموس المحيط: 2/ 123، مادة «العذر».

(3) المراد «الإمام الخميني (قدس سره)» و كان في الظروف التي يلقي الأُستاذ هذه المحاضرات حيّاً يرزق و قد لبى دعوة ربّه بعد سنين، أي في ليلة التاسعة و العشرين من شهر شوال المكرم من شهور عام 1409 ه-. ق، فقد أحزن موته عالماً، و أسرّ عالماً آخر، كما هو القانون الكلي في موت الأولياء فالمؤمنون يحزنون و الكفّار يفرحون، و قد كان (قدس سره) من الرجال القلائل الذين يضن بهم الدهر إلّا في فترات قليلة.

سلام اللّه عليه يوم ولد، و يوم مات، و يوم يبعث حيّاً. المؤلف.

(4) نعم ورد في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ما يشعر بصحّة إطلاقها على

خرء الحيوانات حيث قال: أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة و نحوها. الوسائل: 1/ 130، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 21.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 72

الصادق (عليه السلام): حيث قال (عليه السلام): «ربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيساً في سوق العلم، فلا تستصغر العبرة في الشي ء لصغر قيمته، فلو فطنوا طالبو الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها». ( «1»)

مستدلًا بأنّه لو كان التكسّب بالعذرة حراماً لما صدر منه (عليه السلام) هذا الكلام و لو في مقام بيان خواص الأشياء إذ فيه ترغيب على بيع العذرة، و لو كان حراماً لما صدر منه ترغيب.

و لكن الحديث ضعيف لأجل محمد بن سنان، و دلالة الحديث ليس بقوي لا يخرج عن حدّ الإشعار، و لا يمكن الاعتماد عليه في مقابل ما دلّ على الحرمة، و غاية ما يمكن أن يقال انّه دالّ على جواز الانتفاع لا غير.

المورد الثالث: التكسّب بسرجين ما لا يؤكل لحمه

السرجين و السراجين كالروث و الأرواث: و هو رجيع ذي الحافر، من غير فرق بين المأكول و غيره، و الكلام في المقام في سرجين غير المأكول. احتج الشيخ على حرمة التكسّب به بأمرين:

الأوّل: الأخبار العامّة.

و الثاني: الإجماع المتقدّم من الشيخ في «الخلاف» حيث قال: و أمّا النجس منه فلدلالة إجماع الفرقة، و روي عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»، و هذا محرّم بالإجماع فوجب أن يكون بيعه محرّماً.

و عن المحقّق الأردبيلي الجواز، و تبعه السبزواري في كفايته، و ربما يستظهر من عبارة الشيخ في «الاستبصار» جواز البيع، لحمله دليل المنع عن بيع العذرة

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 121، الباب

33 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 73

على عذرة الإنسان المشعر بجوازه في غير الإنسان، نجسة كانت أو طاهرة.

و لكن الاستظهار غير ثابت، لاحتمال كون ذكر الإنسان من باب المثال.

أقول: يمكن تقريب التحريم بالإجماعات المنقولة عن الأعاظم.

قال الشيخ في «النهاية»: و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال. ( «1»)

و هذه العبارة و إن كانت تعطي حرمة الانتفاع بها أيضاً، لكنّه- يجب تأويله لضرورة جواز الانتفاع بعذرة ما لا يؤكل لحمه في الزروع و البساتين، لكنّه لا مناص عن الأخذ بما نقله في التكسّب بها.

و قد تقدّمت عبارة الشيخ في «الخلاف» فلا نعيد.

و قال العلّامة في «التذكرة»: لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعاً منّا، و به قال مالك و الشافعي و أحمد للإجماع على نجاسته فيحرم بيعه كالميتة، و قال أبو حنيفة: «يجوز لأنّ أهل الأمصار يبايعونه لزروعهم من غير نكير فكان إجماعاً» و نمنع إجماع العلماء و لا عبرة بغيرهم و لأنّه رجيع نجس فلم يصحّ بيعه كرجيع الآدمي. أمّا غير النجس فيحتمل عندي جواز بيعه. ( «2»)

و قال في «المنتهى»: لا يجوز بيع السرجين النجس، و به قال الشافعي و أحمد. قال أبو حنيفة: يجوز. لنا: انّه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة. ( «3») إلى غير ذلك من الأقوال.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ دام ظله قد استشكل في نسبة حكاية الإجماع إلى العلّامة في «التذكرة» و «المنتهى» قائلًا: لم يدّع الإجماع إلّا على نجاسته، و استنتاج عدم بيعه اجتهاد منه. ( «4»)

______________________________

(1) النهاية: 364.

(2) التذكرة: 2/ 470.

(3) المنتهى: 2/ 1008.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير

أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 73

(4) المكاسب المحرمة: 1/ 42.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 74

و ما ذكره- دام ظلّه- غير تام في ما نقلناه عن «التذكرة» لأنّه بحكم «واو العطف» استدلّ بوجهين: الأوّل: الإجماع، و الثاني: انّه رجيع نجس فلا يصحّ بيعه كرجيع الآدمي؛ و الظاهر انّ الاستدلال الثاني لأجل إلزام الخصم، لعدم اعتماده على إجماع الشيعة.

نعم يجري ما ذكره من الاحتمال في عبارة «المنتهى» فلاحظ.

ثمّ إنّ هذه الإجماعات المنقولة لو تمّت لكفت في حرمة التكسّب تكليفاً و وضعاً، و إلّا فلو ثبتت ماليتها فالإطلاقات محكمة. و لا يضر عدم معهودية بيع رجيع الكلب و السنور، بل تكفي المالية و إن لم تكن المعهودية.

نعم يظهر من خبر أبي يزيد القسمي، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وجود الانتفاع بخرء الكلب، حيث سئل عن جلود الدارش التي يتّخذ منها الخفاف قال: فقال (عليه السلام): «لا تصلّ فيها، فانّها تدبغ بخرء الكلاب». ( «1»)

المورد الرابع: التكسّب بالأرواث الطاهرة

لا شكّ في جواز التكسّب بالأرواث الطاهرة، للسيرة المستمرة بين المسلمين، بل العقلاء عامة، و قد حكاه الشيخ (قدس سره) في «الخلاف» و تشمله الإطلاقات.

نعم، حكي عن المفيد و سلّار المنع، مستدلّين بقوله سبحانه في إطراء النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): (وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ) ( «2») قائلين بأنّ إطلاقها يشمل بيعها، مضافاً إلى النبوي: «انّ اللّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه».

______________________________

(1) الوسائل: 2/ 1091، الباب 71 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(2) الأعراف: 157.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 75

و أجاب الشيخ الأعظم عن الأوّل:

بأنّ المراد من تحريم الخبائث تحريم أكلها.

يلاحظ عليه: أنّه يستلزم حينئذ اختصاص الطيّبات في الآية بالمأكول منها مع أنّها أعمّ لكلّ فائدة محلّلة، قال سبحانه: (وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبٰاتِ أُولٰئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّٰا يَقُولُونَ) ( «1») و على ذلك فلا يختص الطيب و الخبيث بالمأكول.

و قال في «لسان العرب»: الخبيث ضد الطيب من الرزق، و الولد، و الناس. و يستعمل في الكفر و الشيطان. ( «2»)

و مع ذلك كلّه- أي مع الاعتراف بعموميتهما للمأكول و غيره- لا يصحّ الاستدلال بالآية على التحريم، لأنّ المراد تحليل كلّ طيب في الجهة التي تستطاب، و تحريم كلّ خبيث في الجهة التي تخبث، و عندئذ فيمكن أن يكون في كلّ طيب و خبيث جهتان، و يكون المراد تحليل الطيّب في الجهة التي تستطاب، و تحريم الخبيث في الجهة التي تخبث، و من المعلوم انّ جهة الخبث في الأرواث أكلها لا التكسّب بها للاستفادة بها في المخابز و المطابخ.

و أمّا النبوي: فلو قلنا بوجود لفظ «الأكل» فيه فهو لا يشمل إلّا ما هو معد للأكل خلقة، و لا يشمل الروث أبداً، و إن لم نقل بذلك فهو لا يشمل إلّا ما إذا حَرُم جميع منافع الشي ء، أو منافعه الظاهرة، و الأرواث الطاهرة ليست من هذا القبيل، فإذا كانت لها مالية عرفية فالإطلاقات، بل العمومات محكمة.

______________________________

(1) النور: 26.

(2) لسان العرب: 2/ 141.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 76

المسألة الثالثة التكسّب بالدم

قال الشيخ الأعظم: تحرم المعاوضة على الدم بلا خلاف.

و قال في «النهاية»: و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أُهلّ لغير اللّه به و التصرّف فيه و التكسّب به حرام محظور. ( «1»)

و قال في «المبسوط»: و إن كان نجس العين

مثل الكلب و الخنزير، و الفأرة و الخمر و الدم و ما توالد منهم و جميع المسوخ، و ما توالد من ذلك أو من أحدهما فلا يجوز بيعه. ( «2»)

و قال في «المراسم»: و لحم الخنزير و شحمه و الدم و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام. ( «3»)

و قال في «التذكرة»: و الدم كلّه نجس، و كذا ما ليس بنجس منه كدم غير ذي النفس السائلة، لاستخباثه. ( «4»)

______________________________

(1) النهاية: 364.

(2) المبسوط: 2/ 65.

(3) المراسم: 170.

(4) التذكرة: 10/ 35، المسألة 13، فصل في العوضين.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 77

قال ابن قدامة: و لا يجوز بيع الخنزير و لا الميتة و لا الدم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به، و أجمعوا على تحريم الميتة و الخمر. ( «1»)

ثمّ إنّ الدليل على حرمة التكسّب به هو الشهرة الفتوائية بين المسلمين كما عرفت، و هي كافية.

و أمّا الأخبار العامّة فقد عرفت عدم صحّة الاستدلال بها، لأنّها لم تثبت سنداً و لم يثبت استناد العلماء إليها إلّا في النبوي، و إذا كان الدليل هو الشهرة الفتوائية فيصحّ الفرق بين النجس و الطاهر بكونها مختصة بالدم النجس دون الطاهر.

و ما أفاده المحقّق الخوئي: من اشتراك الدمين في حرمة الأوّل (التكسّب) و جواز الانتفاع بهما منفعة محلّلة كالصبغ و التسميد، و أمّا النجاسة فقد عرفت مراراً أنّه لا موضوعية لها، فلا تكون فارقة بين الدمين، و الأخبار السابقة لو تمّت لدلّت على حرمة بيعها ( «2»)، غير تام، لأنّ الفارق هو الشهرة الفتوائية المختصة بالنجس دون الطاهر، فيحل بيع الدم الطاهر و يصحّ إذا كان ذا منفعة مصحّحة لأن يعد مالًا.

هذا مفاد القاعدة الأوّلية،

إلّا أنّ الظاهر من مرفوعة أبي يحيى الواسطي هو حرمة بيع الدم مطلقاً تكليفاً، طاهراً كان أو نجساً، لأنّ مورد الرواية هو الطاهر، فتثبت في الثاني بطريق أولى، حيث قال: مرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقصّابين فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة: نهاهم عن بيع الدم، و الغدد، و آذان الفؤاد، و الطحال، و النخاع، و الخصى، و القضيب. ( «3»)

______________________________

(1) المغني: 4/ 229.

(2) مصباح الفقاهة: 1/ 54.

(3) الوسائل: 16/ 359، الباب 31 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 78

و الدليل على أنّ المراد هو الدم الطاهر هو كون الخطاب متوجهاً إلى القصّابين الذين فرغوا عن ذبح الحيوان و جاءوا بلحمه إلى السوق، و الدم المتخلّف فيه، طاهر.

اللّهمّ إلّا أن يقال: انّ الدم المتخلّف في الحيوان قليل، فلا يمكن أن يكون النهي لغاية بيعها، بل المراد هو الدم المسفوح الذي تقدفه العروق عند الذبح و لم يكن هناك دليل على أنّ الذبح كان في مكان، و البيع في مكان آخر، بل كانا في مكان واحد، و كان الدم يباع كما تباع اللحوم فنهى الإمام عن بيعها.

و على أيّ تقدير، أنّ النهي عن البيع في هذه الرواية لا يشمل إلّا البيع لهذه الغاية دون غيرها، لأنّ الروايات الواردة في النهي عن أكله حاكية عن جريان العادة على أكل الدم، و قد ورد في ذلك روايتان:

1. روى إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «حرم من الشاة سبعة أشياء: الدم، و الخصيتان، و القضيب، و المثانة، و الغدد، و الطحال، و المرارة». ( «1»)

2. روى ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)

قال: «لا يؤكل من الشاة عشرة أشياء: الفرث، و الدم، و الطحال، و النخاع، و العلباء، و الغدد، و القضيب، و الأُنثيان، و الحياء، و المرارة». ( «2»)

و كون النهي وارداً في موضع تلك السيرة الحاكمة يصدّنا عن القول بعمومية مفاد مرفوعة الواسطي، و على ذلك- أي انحصار الحرمة ببيع الدم لغاية الأكل-

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 359، الباب 31 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 1.

(2) الوسائل: 16/ 360، الباب 31 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 4، و لاحظ الأحاديث 3، 11، 19.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 79

انّه لو ترتبت عليه منافع أُخر، كالتسميد و الصبغ و نجاة المجروحين، فلا بأس ببيعه، كيف، و قد صار الدم في الحضارة المعاصرة عنصراً مؤثراً في نجاة المصدومين و المجروحين، و صار من الأُمور التي يبذل بازائها الثمن، فلا إشكال في المعاملة عليه إذا كانت الغاية غير الأكل.

أضف إلى ذلك قوله في رواية «تحف العقول»: «كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح» فهو يدلّ على صحّة المعاملة.

نعم: يعارضه قوله: «أو شي ء من وجوه النجس»، و لكن تقدّم أنّه معرض عنه، فلا بدّ فيه من التصرّف بنحو يخرجه عن الشذوذ.

بقي الكلام في ضعف رواية الواسطي لكونها مرفوعة، و هو منجبر بعمل المشهور.

ثمّ إنّ المحقّق الإيرواني (رحمه الله) خصّص مرفوعة الواسطي بالدم المسفوح حيث قال: إنّ الظاهر إرادة الدم النجس الذي تقذفه الذبيحة دون الطاهر المتخلف في الذبيحة ( «1»)، غير انّك عرفت عمومية الرواية، لما قلناه من وجود السيرة في تلك الأزمنة على أكل الدم المتخلّف في الذبيحة، و عندئذ تصير الرواية عامّة في النهي عن البيع بالنسبة إلى المسفوح و المتخلّف.

***

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب،

ص: 80

المسألة الرابعة في بيع المني

و الكلام يقع في موارد:

الأوّل: بيع المني إذا وقع في خارج الرحم.

الثاني: بيع المني إذا وقع في الرحم.

الثالث: بيع المني في الأصلاب و يسمّى بعسيب الفحل، و مثله إكراؤه لذلك، و سيوافيك معنى العسيب.

أمّا الأوّل فقد استدلّ الشيخ الأعظم على حرمة بيع المني بأمرين:

1. قوله: لنجاسته.

2. قوله: و عدم الانتفاع به حينئذ.

أقول: أمّا النجاسة فليست بمانعة إذا لم تكن سبباً لخروج الشي ء عن المالية. و سيوافيك جواز الانتفاع بالميتة فضلًا عن غيرها.

و قد عرفت من «الغنية» انّ شرطية الطهارة لأجل تمكّن الإنسان من الانتفاع بالشي ء منفعة محلّلة حيث قال: و احترزنا بقولنا ذلك عمّا يحرم الانتفاع به و يدخل في ذلك كلّ نجس، و سيوافيك في الانتفاع بالميتة ما يفيدك في المقام.

نعم، يظهر من الشيخ الطوسي كون نفس النجاسة مانعة، قال في

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 81

«الخلاف»: بيض ما لا يؤكل لحمه لا يجوز أكله و لا بيعه، و كذلك مني ما لا يؤكل لحمه، و للشافعي فيه وجهان- إلى أن قال-: فأمّا المني فانّه نجس عندنا، و ما كان نجساً لا يجوز بيعه و لا أكله بلا خلاف. ( «1») هذا كلّه حول الدليل الأوّل.

أمّا الدليل الثاني- أعني قوله: و عدم الانتفاع به- فإن أراد حرمة الانتفاع فهو ممنوع لما عرفت، و ستعرف جواز الانتفاع بالنجس في ما لم يستلزم أمراً حراماً، و إن أراد عدم وجود المنفعة للمني حينئذ، فهو بحث موضوعي، فلو فرض إمكان الانتفاع به بالآلات الصناعيّة فلا مانع من بيعه، و إن كان تحقّقه نادراً.

أمّا المورد الثاني: فعلّله الشيخ بعدم الانتفاع بالنسبة إلى صاحب المني، لأنّ الولد نماء الأُمّ في الحيوانات عرفاً، و ليس

كالبذر المغروس في الأرض حتّى يكون النماء لصاحب البذر، و عندئذ إذا دخل المني في الرحم يصير جزءاً من الحيوان، و يكون ملكاً لمالكه.

و ربّما يعلّل بالنجاسة، لكنّه غير تام، لأنّه من قبيل ما دخل من الباطن إلى الباطن، و مثله لا يوصف بالنجاسة.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي- دام ظله- نسب إلى العلّامة فساد البيع و انّه قال في «التذكرة»: لا نعرف خلافاً في فساد بيع الملاقيح للجهالة، و عدم القدرة على التسليم.

ثمّ أورد عليه: بأنّ كلًا من الجهالة و عدم القدرة على التسليم لا تكونان مانعين عن بيع الملاقيح، لأنّها لا تختلف قيمتها باختلاف الكم و الكيف، و انّ تسليم كلّ شي ء بحسب حاله، و هو في المني وقوعه في الرحم، و هو حاصل على

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 73، المسألة: 270.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 82

الفرض. ( «1»)

و الظاهر: انّ مراد العلّامة من الملاقيح هنا هو الجنين، و إليك نقل عبارته: لا يجوز بيع الملاقيح، و هي ما في بطون الأُمّهات، و لا المضامين، و هي ما في أصلاب الفحول ... و لا نعرف خلافاً بين العلماء في فساد هذين البيعين للجهالة و عدم القدرة على التسليم، لأنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن بيع الملاقيح و المضامين، و لا خلاف فيه.

ثمّ قال: تذنيب: لو باع الحمل مع أُمّه جاز إجماعاً، سواءً كان في الآدمي أو غيره. ( «2») فانّ ما ذكره في «التذنيب» خير شاهد على أنّ المراد من الملاقيح في بطون الأُمّهات هي الأحمال.

نعم: عنون العلّامة- في المسألة الآتية- بيع عسيب الفحل، و علّل عدم جوازه بأنّه غير متقوّم و لا معلوم و لا مقدور عليه، و

هو المورد الثالث الذي نبحث عنه.

و يؤيد ما ذكرنا من أنّ مراده من الملاقيح هو الجنين، ما في الكتب الفقهية للعامّة.

قال ابن قدامة في «المغني»: مسألة و كذلك بيع الحمل غير أُمّه، و اللبن في الضرع. ثمّ شرحه بقوله: بيع الحمل في البطن دون الأُمّ، و لا خلاف في فساده قال ابن المنذر: و قد أجمعوا على أنّ بيع الملاقيح و المضامين غير جائز، و انّما لم يجز بيع الحمل في البطن لوجهين:

أحدهما: جهالته، فانّه لا تعلم صفته و لا حياته.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 58- 59.

(2) التذكرة: 10/ 66، المسألة 38، في اشتراط العلم بالعوضين.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 83

و الثاني: انّه غير مقدور على تسليمه ...، و قد روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) انّه نهى عن بيع المضامين و الملاقيح، قال أبو عبيد: الملاقيح ما في البطون، و هي الأجنّة، و المضامين ما في أصلاب الفحول، فكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة، و ما يضربه الفحل في عامه، أو في أعوام و أنشد:

انّ المضامين التي في الصلب*** ماء الفحول في الظهور الحدب ( «1»)

و أمّا المورد الثالث:

و هو بيع ماء الفحل في الصلب و الذي يعبر عنه ب- «بيع عسيب الفحل»، و قد أسماه العلّامة (قدس سره) في «التذكرة»، و ابن قدامة في «المغني» ب- «بيع المضامين».

فنقول: إنّ العسب يطلق على أُمور:

قال في لسان العرب: العسب طرق الفحل: ضرابه، العسب: ماء الفحل، العسب: الولد، العسب: الكراء الذي يؤخذ على ضرب الفحل، و في الحديث نهى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) عن عسب الفحل، تقول: عسب فحله يعسبه أي

أكراه. ( «2») فانّ المنهي عنه هو إكراء الفحل.

و على كلّ تقدير فيقع الكلام في المقامين: تارة في البيع، و أُخرى في الإجارة.

أمّا بيعه: فقد قال العلّامة في «التذكرة»: يحرم بيع عسيب الفحل- و هو نطفته- لأنّه 1. غير متقوّم 2. و لا معلوم 3. و لا مقدور عليه 4. و انّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عنه. ( «3») و ما استدلّ به لا يصلح للاحتجاج:

أمّا الأوّل:- أعني عدم المالية- فلأنّ الملاك في مالية الشي ء كونه ممّا يبذل بازائه الثمن، و عسب الفحل ممّا يبذل بازائه الثمن.

______________________________

(1) المغني: 4/ 187، و عندئذ يتحد بيع المضامين مع المورد الثالث الذي سنبحث عنه.

(2) لسان العرب: 1/ 598.

(3) التذكرة: 1/ 474.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 84

و أمّا الثاني:- أعني: غير المعلومية و الجهالة- فلأنّها إنّما تمنع إذا كانت موجبة للغرر، و كون المعاملة محظورة لا يقدم عليها العقلاء، و هي منتفية في المقام، و ليست الجهالة في المقام بما هي مانعة، لعدم الفرق بين قلّة النطفة و كثرتها، لأنّ الحمل يتحقّق بجزء صغير منها.

و أمّا الثالث:- أعني: كونه غير مقدور- فلأنّ تسليم كلّ شي ء بحسبه، فهو يتحقّق بعمل الفحل خاصة.

و أمّا الرابع:- أعني: ورود النهي عن طريقنا و غيرنا- فهو جدير بالبحث فنقول: وردت عدّة روايات نشير إليها:

1. ما رواه في «الخصال» عن أبي عروبة قال: حدثنا أبو الخطاب مسنداً إلى الحسين بن علي (عليهما السلام): «انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن خصال تسعة: عن مهر البغي، و عن عسيب الدابة- يعني كسب الفحل- و عن خاتم الذهب، و عن ثمن الكلب، و عن مياثر

الأرجوان». ( «1»)

2. مرسلة الصدوق: «نهى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) عن عسيب الفحل، و هو أجر الضراب». ( «2») و يحتمل اتحادها مع ما سبق.

3. و روى في «المستدرك» عن الجعفريات عن علي (عليه السلام): «من السحت ثمن الميتة، و ثمن اللقاح ... و عسب الفحل، و جلود السباع». ( «3»)

4. و روى في «دعائم الإسلام»: «انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن بيع الأحرار، و عن

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 13، و ما في الوسائل المطبوع «أبي عدوية» مكان «أبي عروبة» فتصحيف.

(2) الوسائل: 12/ 77، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) المستدرك: 13/ 69، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 85

بيع الميتة ... و عن عسب الفحل». ( «1»)

5. و روى في «البخاري»، عن النافع، عن ابن عمر قال: نهى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) عن عسب الفحل. ( «2»)

6. روى البيهقي عن أبي هريرة: نهى عن مهر البغي، و عسب الفحل، و عن ثمن السنور، و عن الكلب، إلّا كلب صيد. ( «3»)

7. و روى مسلم في صحيحه: نهى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) عن بيع ضراب الجمل، و عن بيع الماء و الأرض. ( «4»)

و هذه الروايات مع ضعف أكثرها لا يمكن إنكار صدور مضمونها لتضافرها. و في مقابلها ما يدلّ على الجواز:

1. صحيحة حنان بن سدير قال: دخلنا على أبي عبد اللّه (عليه السلام) و معنا فرقد الحجام- إلى أن قال-: فقال له: جعلني

اللّه فداك، إنّ لي تيساً أكريه، فما تقول في كسبه؟ قال: «كل كسبه فانّه لك حلال، و الناس يكرهونه». قال حنان: قلت: لأي شي ء يكرهونه و هو حلال؟ قال: «لتعيير الناس بعضهم بعضاً». ( «5»)

2. صحيحة معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)- في حديث- قال: قلت له: أجر التيوس؟ قال: «إن كانت العرب لتعاير به، و لا بأس». ( «6»)

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 71، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) صحيح البخاري: 3/ 94، كتاب الإجارات، باب عسب الفحل.

(3) السنن الكبرى: 6/ 6.

(4) صحيح مسلم: 5/ 34.

(5) الوسائل: 12/ 77، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، و السند صحيح و لا غبار عليه إلّا من جانب سهل بن زياد، و الأمر في سهل سهل. و حنان بن سدير ثقة، وثّقه الشيخ في الفهرست.

(6) الوسائل: 12/ 77، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 86

ثمّ إنّ الجمع بين الطائفتين يحصل بأحد أمرين:

الأوّل: حمل الروايات المانعة على الكراهة، لظهور النهي في الحرمة، فيترك الظهور لأجل نصوصية الصحيحتين الدالّتين على الجواز.

و يؤيد ذلك اشتمال رواية الجعفريات على ما ليس بمحرّم كبيع جلود السباع، و أجر القارئ، كما اشتملت رواية «الخصال» على ما ليس بمحرّم قطعاً كلبس ثياب تنسج بالشام مع عدم ثبوت حرمته.

الثاني: حمل الروايات الناهية على صورة البيع، لاشتمال قسم منها على لفظ البيع كرواية «ابن عمر» و «جابر» في صحيحي البخاري و مسلم، على ما عرفت، و حمل الروايات المجوزة على صورة الكراء و الإجارة، بل موردها هو الكراء و الإجارة و لا يتجاوز إلى غيرها، هذا كلّه في بيعه.

و

أمّا إجارته فذهب الشيخ في «الخلاف» إلى جواز الإجارة، مع ترك التعرّض لصورة البيع، حيث قال: إجارة الفحل للضراب مكروهة و ليست بمحظورة و عقد الإجارة عليه غير فاسد، و قال مالك: يجوز و لم يكرهه، و قال أبو حنيفة و الشافعي: إنّ الإجارة فاسدة و الأُجرة محظورة. دليلنا: انّ الأصل الإباحة، فمن ادّعى الحظر و المنع فعليه الدلالة، فأمّا كراهية ما قلناه فعليه إجماع الفرقة و أخبارهم. ( «1»)

و قال في «المستند»: نهى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) عن عسيب الفحل و هو أجرة الضراب، و حمل على التنزيه، للإجماع، و لصحيحة ابن عمار، عن أجر التيوس؟ قال: «إن كانت العرب لتعاير به، و لا بأس»، و رواية حنان المتقدّمة، و الظاهر من هذه الأخبار كراهة أخذ الأجر مطلقاً بجعل

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 73، كتاب البيوع، باب إجارة الفحل للضراب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 87

و إجارة، و التخصيص بالأخيرة غير ظاهر. ( «1»)

ثمّ ربما يتوهّم حمل الروايات المانعة على التقية، و لكنّه ليس بمتين لكونه مورد الخلاف عندهم، أضف إلى ذلك أنّ أصحاب الصحاح و السنن رووا روايات النهي.

و قال ابن قدامة في «المغني»: و بيع عسب الفحل غير جائز، و إجارة الفحل للضراب حرام، و العقد فاسد، و به قال أبو حنيفة و الشافعي، و حكي عن مالك جوازه. ( «2»)

و أحسن الجموع حمل النواهي على الكراهة، و إن أبيت فغاية ما يستفاد من النهي هو حرمة التكسّب تكليفاً، و أمّا بطلان المعاملة وضعاً فلا يستفاد منها.

***

______________________________

(1) المستند: 14/ 59، كتاب المكاسب.

(2) المغني: 4/ 189.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 88

المسألة الخامسة التكسّب بالميتة

اشارة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره):

تحرم المعاوضة على الميتة و أجزائها التي تحلّها الحياة من ذي النفس السائلة على المعروف من مذهب الأصحاب.

أقول: الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: الانتفاع بالميتة.

الثاني: بيع الميتة.

انّ الشيخ الأعظم (قدس سره) خلط بين المقامين و أوجد ذلك قلقاً في المسألة، فنقول:

المقام الأوّل: الانتفاع بالميتة
اشارة

فقد اختلفت فيه كلمات الأصحاب، فيظهر من بعضهم حرمة التصرّف و الانتفاع، و إليك كلماتهم:

1. قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في «النهاية»: و بيع الميتة و الدم، و لحم الخنزير، و ما أُهلّ لغير اللّه به، و التصرّف فيه، و التكسّب به، حرام محظور. ( «1») و عطف التكسّب

______________________________

(1) النهاية: 364.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 89

على التصرّف، دليل على أنّ المراد من التصرّف غير التكسّب و يريد به الانتفاع.

2. قال سلّار في «المراسم» عند البحث عن التكسّب بالحرام:

و التصرّف في الميتة، و لحم الخنزير، و الدم و العذرة، و الأبوال، ببيع و غيره، حرام. ( «1»)

3. و قال ابن إدريس بعد نقل صحيحة البزنطي الدالّة على جواز الانتفاع بأليات الغنم- و ستوافيك الصحيحة عن قريب-: لا يلتفت إلى هذا الحديث فانّه من نوادر الأخبار، و الإجماع منعقد على تحريم الميتة و التصرّف فيها بكلّ حال، إلّا أكلها للمضطر. ( «2»)

و نقل في «مفتاح الكرامة»، عن الطبرسي، و البيضاوي، و الراوندي في أحد وجهيه، و المرتضى في ظاهر الانتصار، و العلّامة في التذكرة و نهاية الأحكام، و المنتهى، و المختلف، و ولده في شرح الإرشاد و غيرهم، انّهم استدلّوا على تحريم الانتفاع بالميتة بقوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ( «3») قائلين بأنّه يستلزم من إضافة التحريم إلى «الميتة» حرمة جميع المنافع المتعلّقة بها، لأنّ التحريم لا يتعلّق بالأعيان حقيقة فتعيّن المجاز، و أقرب

المجازات تحريم جميع وجوه الاستمتاعات و الانتفاعات، و حكاه في «كنز العرفان» عن قوم، و احتمله المولى الأردبيلي في «آيات أحكامه». ( «4»)

و يظهر من طائفة جواز الانتفاع، ننقل بعض كلماتهم:

1. قال في «المقنع»: و لا بأس أن تتوضّأ من الماء إذا كان في زق من جلدة

______________________________

(1) المراسم: 170.

(2) السرائر: 3/ 574.

(3) المائدة: 3.

(4) مفتاح الكرامة: 4/ 19.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 90

ميتة، و لا بأس بأن تشربه. ( «1»)

2. و قال الشيخ الطوسي بعد ما نقل حديث زرارة، أعني قوله: قال سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن جلد الخنزير يجعل ذلك دلواً يستقى به الماء؟ قال: «لا بأس» الوجه انّه لا بأس أن يستقى به، لكن يستعمل ذلك في سقي الدواب و الأشجار و نحو ذلك. ( «2»)

3. و قال العلّامة في «القواعد»: و جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، و لو اتّخذ منه حوض لا يتسع الكر نجس الماء فيه، و إن احتمله فهو نجس و الماء طاهر، فإن توضأ منه جاز ان كان الباقي كرّاً فصاعداً. ( «3»)

4. و نقل في «مفتاح الكرامة» عن جمّ غفير جواز الانتفاع بالميتة حتّى من الذين نقلنا عنهم عدم جواز الانتفاع، و كأنّهم عدلوا عمّا قالوا أوّلًا.

قال: و لا مخالف في عدم جواز الانتفاع بالميتة سوى الشيخ في «النهاية» ( «4») و المحقّق في «الشرائع»، و «النافع»، و تلميذه صاحب «كاشف الرموز»، و المصنّف في «الإرشاد»، فجوزوا الاستقاء بجلودها لغير الصلاة و الشرب، و مال إليه صاحب «التنقيح»، للأصل، و لتبادر التناول من الآية الشريفة، و جوّز الصدوق في «المقنع» جواز الاستقاء بجلد الخنزير بأن يجعل دلواً لغير الطهارة، و وافقه العلّامة على

ذلك في «القواعد»، و حكى الشهيد في حواشيه على الكتاب انّه نقل عن المصنّف في حلقة الدرس انّه جوز الاستصباح بأليات الغنم المقطوعة

______________________________

(1) المقنع: 6، كتاب الطهارة.

(2) الوسائل: 1/ 129، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16.

(3) القواعد: 1/ 192، كتاب الطهارة في النجاسات، مؤسسة النشر الإسلامي.

(4) الظاهر من عبارة الشيخ في النهاية هو عدم الجواز لقوله: «و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير اللّه به و التصرف فيه و التكسب به حرام محظور» النهاية: 364، و عطف «التكسب» على «التصرف» دليل المغايرة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 91

تحت السماء.

هذا و ان مقتضى أصالة الحل و الإباحة و عموم (خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ( «1») الجواز في ما إذا لم يستلزم حراماً، فلو دلّ الدليل على الحرمة مطلقاً نأخذ به، و إلّا فالأصل هو المحكّم إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي على وفقه.

إذا عرفت هذه الأقوال، وقفت على أنّ المسألة ليست إجماعية، و عنوانها في النهاية دليل على أنّ فيها نصاً، و ستوافيك نصوص المسألة من الطرفين، و على أي تقدير فقد استدلّ على حرمة الانتفاع بالكتاب و السنّة:

أمّا الأوّل: فقوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ* إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّٰهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ( «2»)

و قوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ مٰا

أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ وَ مٰا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلٰامِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلٰا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجٰانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ( «3»)

وجه الاستدلال: ما سبق نقله عن «مفتاح الكرامة» و لا يخفى ضعف الاستدلال، أمّا الآية الأُولى فالتحريم في قوله تعالى: (إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ)

______________________________

(1) البقرة: 29.

(2) البقرة: 172- 173.

(3) المائدة: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 92

متعلّق بالأكل لبّاً، لقوله سبحانه قبل هذه الآية: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ) فبملاحظة هذا يكون المراد من قوله سبحانه: (إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) حرمة أكل الميتة، و يؤيده قوله سبحانه: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي: لا إثم عليه في سد الجوع بالميتة.

و أمّا الآية الثانية: أعني قوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)، فالتحريم فيها أيضاً متعلّق بالأكل لقوله سبحانه قبل هذه الآية: (وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا) ( «1») و من المعلوم انّ الاصطياد للأكل.

و يؤيده قوله سبحانه في نفس الآية: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجٰانِفٍ لِإِثْمٍ) و المراد من المخمصة هو المجاعة، و يشهد عليه أيضاً قوله سبحانه بعدها: (يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ) ( «2») إلى غير ذلك من القرائن التي تشهد على أنّ المراد من تحريم الميتة هو تحريم أكلها.

و أمّا السنّة: فهي على طائفتين:
اشارة

بين ما يدلّ على حرمة الانتفاع، و ما يدلّ على عدمها.

الطائفة الأُولى: و هي على أقسام:

الأوّل: ما يدلّ على حرمة الانتفاع مطلقاً من غير فرق بين منفعة دون منفعة، و بين الجامد و المائع:

1. خبر علي بن أبي مغيرة، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): الميتة ينتفع منها بشي ء؟ فقال: «لا» قلت: بلغنا انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) مر بشاة ميتة فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟ فقال: «تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)، و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها

______________________________

(1) المائدة: 2.

(2) المائدة: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 93

حتّى ماتت. فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أي تذكّى». ( «1»)

و الخبر يدلّ بظاهره على أنّ إهاب الميتة لا ينتفع به، إذ لو كان الانتفاع بها جائزاً لما تأسّف النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم).

يلاحظ عليه:

أمّا أوّلًا: فإنّ علي بن أبي مغيرة لم يوثّق. و ما ربما يتوهّم من أنّ النجاشي وثّقه فهو غفلة عن مراده، و عبارة النجاشي تهدف إلى توثيق ابنه لا توثيقه، و إليك نصّ عبارته قال: الحسن بن علي بن أبي المغيرة الزبيدي الكوفي ثقة هو. و أبوه روى عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام)، و هو يروي كتاب أبيه عنه. ( «2»)

و المتوهم تصوّر انّ قوله: «ثقة» راجع إلى الابن و الأب. كأنّه تصوّر انّ الواو في قوله «و أبوه» عاطفة، و الحال انّها ابتدائية، و شكل

العبارة هكذا: «ثقة هو»، و أبوه روى عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) «و هو يروي كتاب أبيه» و لو كانت الواو في قوله: «و أبوه» عاطفة لعاد الضمير عندئذ في قوله «روى» إلى «الابن» و يصير المعنى انّ الابن يروي عن الإمامين (عليهما السلام) و عندئذ لا يلائم قوله: «و هو يروي كتاب أبيه عنه».

و ثانياً: أنّ قضية مرور رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) على سخلة نقلت بصور مختلفة يوجب سلب الاطمئنان عمّا في هذا الخبر، إذ الظاهر من صحيحة أبي مريم انّ السخلة التي مرّ بها رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) كانت مذكاة حيث قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): السخلة التي مرّ بها رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) و هي ميتة فقال: ما ضرّ أهلها لو انتفعوا

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 368، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(2) رجال النجاشي، برقم 105.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 94

بإهابها؟ قال: فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «لم تكن ميتة يا أبا مريم و لكنّها كانت مهزولة، فذبحها أهلها، فرموا بها، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها». ( «1»)

نعم: يظهر ممّا رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في «عوالي اللآلي» انّ الشاة كانت ميتة، قال: صحّ عنه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب و لا عصب. و قال في شاة ميمونة: «ألا انتفعتم بجلدها». ( «2»)

كما يظهر أيضاً ممّا رواه القاضي في «دعائم الإسلام» عن علي (عليه السلام) أنّه

قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عظم و لا عصب»، فلمّا كان من الغد خرجت معه فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق. فقال: «ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها». قال: قلت: يا رسول اللّه فأين قولك بالأمس؟ قال: «ينتفع منها بالإهاب الذي لا يلصق». ( «3»)

و المراد من قوله: «لا يلصق» هو الدباغة، و عندئذ يحتمل فيه التقية، أو المراد عدم السراية بأن يلبس الجلد فوق الثياب.

و على هذا التضارب الحاكم على الروايات لا يمكن الاعتماد على رواية علي بن أبي مغيرة، لأنّ الواقعة نقلت بصور مختلفة.

2. موثّقة سماعة قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده، و أمّا الميتة فلا». ( «4»)

3. صحيحة عبد اللّه بن سهل الكاهلي قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام)

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 368، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 3.

(2) المستدرك: 16/ 191، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(3) المستدرك: 16/ 192، الباب 35 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.

(4) الوسائل: 16/ 368، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 95

و أنا عنده عن قطع أليات الغنم؟ فقال: «لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثمّ قال: إنّ في كتاب علي انّ ما قطع منها ميت لا ينتفع به». ( «1»)

وجه الدلالة: انّه يلوح من الحديث انّ عدم الانتفاع من الميّت كان أمراً مفروغاً عنه عند السائل و الإمام (عليه السلام)، فنزل الإمام (عليه السلام) المقطوعة من الأحياء، منزلة الميت.

يلاحظ عليه: أنّ أصل الحكم و

إن كان مفروغاً منه عند الطرفين و انّه لا ينتفع به، و لكن سعة الحكم و إطلاقه غير ثابت، إذ من المحتمل أن يكون المراد: انّه لا ينتفع به مثل ما ينتفع بالمذكى من لبسه و الصلاة فيه، كما يحتمل أن يكون المراد لا ينتفع مطلقاً، فمسلمية الحكم و مفروغيته عند السائل و المسئول، لا يدلّ على سعته و إطلاقه.

و يؤيده ما رواه محمد بن إدريس في آخر «السرائر» نقلًا من كتاب «جامع البزنطي» صاحب الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها» ( «2»). و هي ظاهرة في أنّ ما هو المسلم في الميتة، هو عدم الأكل و البيع و المعاملة معه معاملة المذكّى.

الثاني: ما يدلّ على أنّه لا يستفاد منها بإهاب و لا عصب و لا عظم و يدلّ عليه:

1. خبر الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكياً؟ فكتب: «لا ينتفع

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 295، الباب 30 من أبواب الصيد و الذباحة، الحديث 1.

(2) الوسائل: 12/ 67، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 96

من الميتة بإهاب و لا عصب، و كلّما كان من السخال الصوف و إن جز، و الشعر و الوبر و الأنفحة و القرن، و لا يتعدى إلى غيرها إن شاء اللّه». ( «1»)

يلاحظ عليه: أوّلًا: أنّ الرواية ضعيفة لاشتمال سندها على مجهول كفتح بن يزيد، و على غير

معنون في كتب الرجال كمختار بن محمد بن مختار.

و ثانياً: اضطراب متن الحديث لأنّ قوله: «و كلّ ما كان من السخال الصوف و إن جز، و الشعر، و الوبر، و الأنفحة، و القرن، و لا يتعدى إلى غيرها» مضطرب و يحتمل أن يكون «و كلّما» مبتدأ حذف خبره و هو «ينتفع بها».

و احتمل «سيدنا الأُستاذ»- دام ظله- أن يكون «كلّما» معطوفاً على قوله «بإهاب» و تقدر كلمة «إلّا» قبل «الصوف» و هو أحد الاحتمالات.

2. ما في «غوالي اللآلي» انّه صحّ عنه (صلى الله عليه و آله و سلم) انّه قال: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب و لا عصب». ( «2»)

3. ما في «السنن الكبرى» عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد اللّه بن عكيم قال: قرئ علينا كتاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بأرض جهينة و أنا غلام شاب: «ان لا تستمتعوا من الميتة بإهاب و لا عصب». ( «3»)

4. ما في «دعائم الإسلام» عن علي (عليه السلام): «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عظم و لا عصب». ( «4»)

و يمكن عدّ هذا القسم من الروايات من القسم الأوّل بإلغاء الخصوصية و لكن الجميع لا يحتج به.

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 366، الباب 33 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 7.

(2) المستدرك: 16/ 191، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(3) السنن الكبرى: 1/ 14.

(4) المستدرك: 16/ 192، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 97

الثالث: ما يدلّ على حرمة الانتفاع بها في اللبس و نحوه كجعل قلادة السيف من الميتة، و إليك بيانها:

1. رواية علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما

السلام) قال: سألته عن لبس السمور و السنجاب و الفنك. فقال: «لا يلبس و لا يصلّى فيه إلّا أن يكون ذكياً». ( «1»)

2. رواية «علي بن جعفر» في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن الماشية تكون لرجل فيموت بعضها أ يصلح له بيع جلودها، و دباغها و يلبسها؟ قال: «لا، و إن لبسها فلا يصلّي فيها». ( «2»)

غير انّ دلالة الثانية ضعيفة: لأجل التعبير ب- «لا يصلح» المشعر بالكراهة مضافاً إلى أنّ السؤال في الرواية عن البيع و اللبس جميعاً، و لكن الجواب بالمنع عن اللبس فقط، يشعر بجواز الانتفاع بالبيع، و انّ النهي عن اللبس لأجل كونه مانعاً من صحّة الصلاة.

3. رواية تحف العقول عن الصادق (عليه السلام) (في حديث) قال: «و كلّ ما أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه و الصلاة فيه، و كلّ شي ء يحلّ لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي منه و صوفه و شعره و وبره ...». ( «3»)

4. عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال: سألته عن أكل الجبن و تقليد السيف و فيه الكيمخت و الفراء؟ فقال: «لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة». ( «4»)

أقول: الفراء حمار الوحش، و أمّا الكيمخت فقد فسر بجلد الميتة المملوح كما

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 255 الباب 4 من أبواب لباس المصلي، الحديث 6.

(2) الوسائل: 16/ 369، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 6.

(3) الوسائل: 3/ 252، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 8.

(4) الوسائل: 16/ 368، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 98

في «مجمع البحرين» مادة «كمخ» روى الشيخ في «الاستبصار» عن سماعة قال: سألته عن جلود

الميتة المملوح و هو الكيمخت، فرخّص فيه و قال: و إن لم تمسّه فهو أفضل. ( «1»)

و لا يخفى انّ أكثر ما دلّ على حرمة الانتفاع غير صحيح، و لا يمكن إبداء الرأي في هذه الطائفة قبل ملاحظة روايات الطائفة الثانية.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على جواز الانتفاع

و إليك بيانها:

1. رواية ابن أبي عمير، عن أبي زياد النهدي، عن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به الماء؟ قال: «لا بأس». ( «2»)

هذه الرواية ضعيفة سنداً بأبي زياد النهدي، نعم هي واضحة دلالة، حيث إنّ السؤال عن جعل جلد الخنزير دلواً يستقي به الماء لا عن الانتفاع بالماء، فقوله: «لا بأس» يتعلّق بالسؤال.

2. صحيحة زرارة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: «لا بأس». ( «3»)

و الرواية صحيحة سنداً، غير واضحة دلالة، فانّ الظاهر، بل الصريح انّ السؤال تعلّق بإمكان الانتفاع من الماء لا عن السقي بشعر الخنزير، و على ذلك فقوله: «لا بأس» يرتبط بنفس السؤال، و هو التوضّؤ من الماء، لا عن الاستقاء

______________________________

(1) الاستبصار: 4/ 90، باب تحريم جلود الميتة، رقم 344، الحديث 4.

(2) الوسائل: 1/ 129، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16.

(3) الوسائل: 1/ 125، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 99

بشعر الخنزير.

ثمّ إنّ حكم الإمام (عليه السلام) بالتوضّي من الماء مردّد بين ماء البئر و ماء الدلو، و لو أُريد الثاني يجب حمل الرواية على ما إذا كان الحبل غير ملاق لماء الدلو، أو يحمل على كون الدلو كراً، لاستفاضة الروايات

على انفعال الماء القليل.

3. موثّقة حسين بن زرارة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)- في حديث- قال: قلت له: شعر الخنزير يعمل حبلًا و يستقي به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها؟ فقال: «لا بأس به». ( «1»)

و دلالة هذه الرواية كالسابقة، غير انّه يمكن أن يقال بدلالة الجميع على جواز الانتفاع بشعر الخنزير، إذ لو كان الانتفاع من الشعر محرّماً لكان على الإمام (عليه السلام) التنبيه على ذلك مع أنّه سكت عنه.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الروايات الثلاث ليس على نمط واحد، فانّ الرواية الأُولى اشتملت على جلد الخنزير و هو ميتة، بل أنجس من الميتة المتعارفة لكونه نجساً في حال الحياة أيضاً، و الاستدلال بالروايتين الأخيرتين من باب إلغاء الخصوصية فانّه إذا جاز الانتفاع بشعر الخنزير النجس في حال حياة الحيوان و مماته، فالانتفاع بميتة الحيوان الطاهر العين يكون أولى، فلاحظ.

4. رواية الحسن الوشاء قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت: إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها. قال: «هي حرام» قلت: فنصطبح بها؟ فقال: «أما تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام». ( «2»)

و المراد من الحرام في كلا الموردين هو النجاسة فيكون إرشاداً إلى أنّ هذا

______________________________

(1) الوسائل: 1/ 126، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 3.

(2) الوسائل: 16/ 364، الباب 32 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 100

العمل يوجب تلويث اليد و الثوب و ابتلاء الإنسان بالنجاسة، و إلّا فلا يصحّ أن يحمل على الحرمة التكليفية، للعلم القطعي بعدم حرمة تنجيس اليد و الثوب.

5. ما رواه محمد بن إدريس في آخر السرائر عن جامع البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام)

قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء، أ يصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها، و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها». ( «1»)

و هذه الرواية صريحة في جواز الانتفاع ببيع الميتة و الإسراج، و انّ الممنوع هو البيع، و بذلك يعلم أنّ المراد من الكبرى المفروغة في رواية الكاهلي التي مرّ ذكرها هو الانتفاع بالأكل، فقد جاء في صحيحة الكاهلي قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام)- و أنا عنده- عن قطع أليات الغنم. فقال: «لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثمّ قال: إنّ في كتاب علي (عليه السلام) انّ ما قطع منها ميت لا ينتفع به». ( «2»)

فبملاحظة هاتين الروايتين الواردتين في موضوع واحد يعلم أنّ الكبرى المفروغة في صحيحة الكاهلي هي حرمة الانتفاع من الميتة كالانتفاع من المذكّى.

6. موثّقة سماعة قال: سألته عن جلد الميتة المملوح، و هو الكيمخت؟ فرخص فيه و قال: «إن لم تمسّه فهو أفضل». ( «3»)

و هي تدلّ على جواز الانتفاع، و توضح علّة النهي الوارد في الطائفة الأُولى و هي السراية، كما يفصح عنه قوله (عليه السلام): «إن لم تمسه أفضل».

7. رواية ابن أبي عمير، عن الريّان بن الصلت قال: سألت أبا الحسن

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 67، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) الوسائل: 16/ 295، الباب 30 من أبواب الصيد و الذبائح، الحديث 1.

(3) الوسائل: 16/ 369، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 101

الرضا (عليه السلام) عن لبس الفراء و السمور و السنجاب و الحواصل و ما أشبهها، و المناطق و الكيمخت

و المحشو بالقز و الخفاف من أصناف الجلود؟ فقال: «لا بأس بهذا كلّه إلّا بالثعالب». ( «1»)

8. رواية علي بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) و أبا الحسن (عليه السلام) عن لباس الفراء و الصلاة فيها. فقال: «لا تصل فيها إلّا ما كان منه ذكياً» قال: قلت: أو ليس الذكي ممّا ذكي بالحديد؟ قال: «بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه». ( «2»)

فسكوت الإمام (عليه السلام) عن حكم اللبس، و الاكتفاء ببيان حكم الصلاة فيها يدلّ على الجواز.

9. ما رواه علي بن أبي حمزة أنّ رجلًا سأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) و أنا عنده عن الرجل يتقلّد السيف و يصلّي فيه؟ قال: «نعم». فقال الرجل: إنّ فيه الكيمخت. قال: و ما الكيمخت؟ قال: جلود دواب، منه ما يكون ذكياً، و منه ما يكون ميتة، فقال: «ما علمت أنّه ميتة فلا تصل فيه». ( «3»)

فقد فسر «الكيمخت» في هذه الرواية بجلود الدواب التي يكون منها الذكي كما يكون منها الميتة، مع أنّه قد فسر في الروايات السالفة بالميتة أو الميتة المملوحة، و لعلّ هنا اصطلاحين.

10. رواية أبي القاسم الصيقل و ولده قال: كتبوا إلى الرجل: جعلنا اللّه فداك إنّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها و نحن مضطرون إليها و إنّما علاجنا جلود الميتة و البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها فيحل لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا؟

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 256، الباب 5 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

(2) الوسائل: 3/ 251، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

(3) الوسائل: 2/ 1072، الباب 50

من أبواب النجاسات، الحديث 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 102

و نحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيدنا لضرورتنا. فكتب: «اجعل ثوباً للصلاة».

و كتب إليه: جعلت فداك و قوائم السيوف التي تسمّى السفن نتخذها من جلود السمك، فهل يجوز لي العمل بها و لسنا نأكل لحومها؟ فكتب (عليه السلام): «لا بأس». ( «1»)

قوله: «نعمل السيوف» يحتمل أن يكون تصحيف «نغمد السيوف» و معناه: نعمل للسيوف أغماداً، و يؤيّده انّه نقل في الجواهر مكانه، قوله: «إنّي أعمل أغماد السيوف» و لعل شغله كان هو ذاك- أي جعل الأغماد للسيوف- لا عمل السيف. و يظهر من ذيل المكاتبة الثانية انّه كان يعمل أيضاً السفن و هو جلد خشن يجعل على قوائم السيوف.

نعم: يظهر من مكاتبته الثالثة وجود شغل آخر له حيث يقول: كتب إليه إنّي رجل صيقل ( «2») اشتري السيوف و أبيعها من السلطان أ جائز لي بيعها؟ فكتب: «لا بأس به». ( «3»)

و لعلّه كانت له أشغال ثلاثة في زمن واحد أو في أزمنة متفرقة. و بذلك يعلم أنّ المراد من قوله: «نحن مضطرون إليها» ليس الاضطرار المبيح للمحظورات، بل المراد هو الاضطرار حسب شغله، و انّ طبيعة الشغل كانت تلازم الابتلاء بالميتة، و سيوافيك بعض الكلام في ذلك عند البحث عن بيع الميتة.

و ربما يتوهم ضعف الرواية، لأنّ أبا القاسم و ولده مهملان في الرجال، و لم

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 125، الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) الصيقل: من يجلي السيوف.

(3) الوسائل: 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 103

يوثّقا، و لكنّه مدفوع بأنّ الظاهر من الرواية انّ

محمد بن عيسى بن عبيد قد رأى المكاتبة و إجابة الإمام (عليه السلام) عنها، فالعبرة بقول محمد بن عيسى بن عبيد لا بنقل أبي القاسم و ولده كما يفصح عنه قوله: قال «كتبوا إلى الرجل» من دون أن يقول «كتبنا إلى الرجل».

و أمّا محمد بن عيسى بن عبيد فهو و إن اختلفت فيه الأنظار، إلّا أنّ الأقوى وثاقته، لأنّ محمد بن الحسن بن الوليد و إن استثناه من رجال كتاب «نوادر الحكمة» ( «1») إلّا أنّ النجاشي نقل عن أبي العباس بن نوح (رجالي عصر النجاشي في البصرة): و قد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه، و تبعه أبو جعفر بن بابويه (رحمه الله) على ذلك إلّا في محمد بن عيسى بن عبيد فلا أدري ما را به؟! ( «2») لأنّه كان على ظاهر العدالة و الثقة ( «3»). و على ذلك فالرواية صحيحة.

11. رواية «دعائم الإسلام»: عن علي (عليه السلام) أنّه قال: «سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عظم و لا عصب ... قال: ينتفع منها بالإهاب الذي لا يلصق». ( «4») و لعلّ المراد من قوله: «لا يلصق» ما عولج بالدباغة حتّى يصير يابساً و لا تتعدى نجاسته، و من المحتمل أن تكون الدباغة رافعة لكراهة الانتفاع، بخلاف اليابس الذي لم يدبغ، و يحتمل ورود الرواية مورد التقية، لأنّ من المخالفين من يجوّز الانتفاع من الميتة بعد الدباغة.

______________________________

(1) نوادر الحكمة تأليف محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري القمي و هو ثقة في نفسه غير انّ محمّد بن الحسن بن الوليد استثنى من رجاله عدّة أشخاص،

ذكره النجاشي في رجاله. لاحظ رجال النجاشي.

(2) را به: من الريب بمعنى الشك، أي ما الذي صار سبباً في التشكيك فيه؟!

(3) رجال النجاشي 246 في ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى.

(4) المستدرك: 16/ 192، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 104

12. رواية «الجعفريات»: «انّ عليّاً (عليه السلام) كان يصلّي في سيفه و عليه الكيمخت» ( «1»)، و المراد من الكيمخت هو الميتة، و إلّا فلا وجه لنقله.

الجمع بين الطائفتين من الروايات بوجوه:

الأوّل: و هو أظهرها، انّ الروايات المجوزة صريحة في جواز الانتفاع، و ما يدلّ على عدم الجواز ظاهر، و ليس بصريح فيه، و مقتضى الجمع الدلالي حمل ما دلّ على عدم الجواز على الكراهة، و ليس هذا الجمع جمعاً تبرعياً، بل في نفس الروايات الواردة في المقام أيضاً شواهد على ذلك:

1. انّ قاسماً الصيقل بعد ما كتب إلى الرضا (عليه السلام) ما كتب و أجاب الإمام (عليه السلام) باتّخاذ الثوب الخاص للصلاة، كتب إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ثانياً بقوله: انّي كنت كتبت إلى أبيك بكذا و كذا فصعّب عليّ ذلك، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية؟ فكتب (عليه السلام) إلى: «كلّ أعمال البر بالصبر يرحمك اللّه، فإن كان ما تعمل وحشياً ذكياً فلا بأس». ( «2»)

فانّ قوله (عليه السلام) «كلّ أعمال البر بالصبر» ناظر إلى أنّ العمل السابق كان مطلوب الترك لا واجبه، و إلّا لما قابله الإمام (عليه السلام) بهذا اللحن اللين.

2. رواية سماعة قال: سألته عن جلد الميتة المملوح- و هو الكيمخت- فرخّص فيه و قال: «إن لم تمسّه فهو أفضل». ( «3»)

فانّ قوله: «إن لم تمسّه فهو أفضل» يعطي كون

الانتفاع جائزاً بالذات، لأنّه ظاهر في أنّ صورة عدم المس أفضل من غيره، و مقتضاه جواز الانتفاع، غير انّ

______________________________

(1) المستدرك: 3/ 229، الباب 39 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: 2/ 1070، الباب 49 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(3) الوسائل: 16/ 369، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 105

بعض الصور أفضل من بعضها.

3. رواية الحسن الوشّاء قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت: إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها. قال: «هي حرام». قلت: فنصطبح بها؟ فقال: «أما تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟». ( «1»)

فإنّ قوله (عليه السلام): «أما تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام» مشعر بالكراهة لما عرفت من أنّ المراد من الحرام هو النجاسة، و الحديث يرشد إلى أنّ الأولى ترك الانتفاع لئلّا يبتلي بالنجاسة في الأكل و الصلاة، و ربما يدلّ على هذا الجمع بعض ما سنذكره في الجمع الثاني.

الثاني: حمل الروايات المانعة على الانتفاع بالميتة على نحو الانتفاع من المذكّى، كالانتفاع بها في المأكل، و الملبس في حال الصلاة، و يدلّ على ذلك بعض الروايات:

1. صحيحة البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها، و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها» ( «2») حيث يقول (عليه السلام): «يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها» فانّ تجويز الإذابة و الإسراج و النهي عن الأكل خير شاهد على أنّ المراد من النهي هو تحريم الانتفاع من الميتة على النحو الذي

ينتفع من المذكّى.

2. رواية علي بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد اللّه أو أبا الحسن (عليهما السلام) عن لباس الفراء و الصلاة فيها؟ فقال: «لا تصلّ فيها إلّا ما كان منه ذكياً». ( «3») فانّ

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 364، الباب 32 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(2) الوسائل: 12/ 67، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(3) الوسائل: 3/ 251، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 106

النهي عن خصوص الصلاة في غير المذكّى مشعر بأنّه لا ينتفع من الميتة مثل ما ينتفع من المذكّى.

3. رواية «دعائم الإسلام» حيث قال: «ينتفع منها بالإهاب الذي لا يلصق» ( «1») فانّ الاكتفاء بما «لا يلصق» كناية عن الانتفاع بها على وجه لا تسري حتّى لا يبتلي بالنجاسة في بدنه و لباسه.

4. رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الصلاة في الفراء، فقال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) رجلًا صرداً لا يدفئه فراء الحجاز لأنّ دباغها بالقرظ، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه و ألقى القميص الذي يليه فكان يسأل عن ذلك .... ( «2»)

فإنّ الفرو الذي كان يلبسه الإمام (عليه السلام) و إن كان مورد شبهة، غير انّ تفريق الإمام (عليه السلام) بين حال الصلاة و غيرها خير دليل على أنّ الميتة لا ينتفع منها مثل ما ينتفع من المذكّى، و لأجل ذلك كان الإمام (عليه السلام) يلقيه و يلقي القميص الذي يليه في حال الصلاة، لاحتمال كونه ميتة و يلبسه في غير تلك الحالة لجواز لبسه فيها.

فإن قلت: إنّ الإمام (عليه السلام) أخذه من

يد المسلم، و عندئذ فالفرو محكوم بالتذكية.

قلت: و لكنّه لا ينافي الاحتياط في حال الصلاة التي هي معراج المؤمن، بخلاف غير حال الصلاة إذ لا وجه فيه للاحتياط.

و بالجملة لو كان الانتفاع من الميتة محرماً لم يُفرّق الإمام (عليه السلام) في مورد الشبهة بالتبعيض في الاحتياط، و هذا الجمع لا بأس به، و هو لا ينافي الجمع السابق.

______________________________

(1) المستدرك: 16/ 192، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.

(2) الوسائل: 3/ 338، الباب 61 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 107

الثالث: حمل الروايات المجوّزة على خصوص موردها- و هو الجلود و الأليات- و ورود السؤال عنهما لأجل كثرة الابتلاء بهما.

الرابع: حمل الروايات المجوزة على التقية؛ و لا يخفى بعده: لأنّ العامّة لا يجوّزون الانتفاع بالميتة قبل الدباغ اتّفاقاً، و إن جوّزه بعضهم بعد الدباغة، على أنّ عمل علي بن الحسين (عليهما السلام) في داخل بيته لا يمكن حمله على ذلك.

هذه هي الجموع الدلالية المحتملة في المقام، و الأولى هو الأوّل ثمّ الثاني.

المقام الثاني: في بيع الميتة
اشارة

المشهور بين علماء المسلمين حرمة بيع الميتة.

قال الشيخ في «النهاية»: و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أُهلّ لغير اللّه به و التصرّف فيه و التكسّب به حرام محظور. ( «1»)

و قال في «الخلاف»: إذا كان الرهن شاة فماتت، زال ملك الراهن عنها و انفسخ الرهن إجماعاً. ( «2») و هذه العبارة تعطي انّ الرهن بالموت يخرج عن الملكية فلا يصحّ رهنه و مثله بيعه، إذ لا بيع إلّا في ملك.

و قال سلّار (قدس سره) في «المراسم»: فأمّا المحرم ... و عمل الأطعمة و الأدوية الممزوجة بالخمر، و التصرّف في الميتة، و لحم الخنزير

و شحمه، و الدم و العذرة و الأبوال ببيع و غيره، حرام. ( «3»)

و قال العلّامة (قدس سره) في «التذكرة»: يشترط في المعقود عليه، الطهارة الأصلية، فلا تضرّ النجاسة العارضة مع قبول التطهير، و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة

______________________________

(1) النهاية: 364.

(2) الخلاف: 2/ 103، المسألة 34.

(3) المراسم: 170، و المراد من التصرّف هو البيع أو أوسع منه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 108

و الخنزير لم يصحّ إجماعاً لقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوهُ) ( «1»)، (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ... و لقول جابر: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) و هو بمكة- يقول: «إنّ اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام». ( «2»)

و قال في «المنتهى»: أجزاء الميتة و الخنزير و ما يكون منهما حرام نجس لا يجوز بيعه و لا شراؤه و لا أخذ ثمنه، و كذا جلد الميتة قبل الدباغ بلا خلاف بين العلماء كافة، و لا بعد الدباغ عندنا و عند جماعة من الجمهور. ( «3»)

و قال النراقي في «المستند»: و منها الميتة، و حرمة بيعها و شرائها و التكسّب بها إجماعي. ( «4»)

و قال في «المغني»: لا يجوز بيع الميتة و لا الخنزير و لا الدم ( «5»). إلى غير ذلك من الكلمات.

و لا يمكن التشكيك في حرمة بيعها على وجه الإجمال، و إنّما الكلام في تعيين حدّ الحرمة، و لا يعلم إلّا بالوقوف على روايات الباب فنقول: إنّ الروايات على أقسام:

الأوّل: ما دلّ على أنّ ثمن الميتة سحت، و هو:

1. رواية السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغي،

و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن». ( «6»)

______________________________

(1) المائدة: 90.

(2) التذكرة: 10/ 25، المسألة 8، فصل في العوضين.

(3) المنتهى: 2/ 1009.

(4) مستند الشيعة: 14/ 78.

(5) المغني: 4/ 13، كتاب البيع، الطبعة الثالثة.

(6) الوسائل: 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 109

2. ما رواه حماد بن عمرو و أنس بن محمد، عن أبيه جميعاً، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام): «يا علي من السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر الزانية و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن». ( «1»)

3. مرسلة «الصدوق»- التي هي بمنزلة المسند- قال: قال (عليه السلام): «أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت، و أجر الكاهن سحت، و ثمن الميتة سحت، فأمّا الرُّشى في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم». ( «2»)

الثاني: ما يدلّ بالخصوص على عدم جواز بيعه، و ذلك مثل:

1. ما رواه محمد بن إدريس في آخر السرائر نقلًا عن جامع البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها، و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها». ( «3»)

2. ما رواه عبد اللّه بن جعفر في «قرب الإسناد» عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها و دباغها و لبسها؟ قال:

«لا، و لو لبسها فلا يصلي فيها». ( «4»)

فانّ الظاهر انّ «لا» راجع إلى البيع و اللبس معاً.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.

(2) الوسائل: 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(3) الوسائل: 12/ 67، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(4) الوسائل: 12/ 65، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 17.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 110

الثالث: ما يدلّ على جواز البيع في ما يجوز الانتفاع به:

1. رواية أبي القاسم الصيقل و ولده قال: كتبوا إلى الرجل: جعلنا اللّه فداك انّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها و نحن مضطرون إليها، و إنّما علاجنا جلود الميتة و البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا؟ و نحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيدنا لضرورتنا. فكتب: «اجعل ثوباً للصلاة» ( «1»). و الظاهر انّ الضمير في «بيعها و مسّها»: يعود إلى الميتة.

نعم، الضمير في قولهم: «لا يجوز في أعمالنا غيرها» يرجع إلى البغال و الحمير لا إلى الميتة، لأنّه لا يحتمل أن لا يصلح لصنع الأغماد، غير الميتة فانّ الميتة و غيرها في ذاك المورد سواء.

و مثل ذلك رواية أبي مخلد السرّاج قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) إذ دخل عليه معتب فقال: بالباب رجلان، فقال: «أدخلهما» فدخلا فقال أحدهما: إنّي رجل سرّاج أبيع جلود النمر. فقال: «مدبوغة هي؟» قال: نعم. قال: «ليس به بأس» ( «2»). و يحتمل ورود هذه الرواية مورد التقية،

لأنّ بعض العامّة يجوّزون بيع الميتة إذا كانت مدبوغة؛ كما يحتمل أن تكون شرطية الدباغة لأجل كونها رافعة للكراهة.

و ربما يستدلّ بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الفراء، اشتريه من الرجل الذي لعلّي لا أثق به، فيبيعني على أنّها ذكية، أبيعها على ذلك؟ فقال: «إن كنت لا تثق به فلا تبعها على أنّها ذكية، إلّا أن

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 125، الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) الوسائل: 12/ 124، الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 111

تقول: قد قيل لي انّها ذكية» ( «1»). ببيان أنّ مقتضى إطلاقه جواز اشتراء الجلد من مجهول و لو لم يكن في سوق المسلمين، و عندئذ يكون المبيع محكوماً بكونها غير مذكاة لأجل استصحاب عدم التذكية.

و لكن الاستدلال ضعيف لعدم كون الرواية واردة في مقام البيان من هذه الجهة كما هو غير خفي على من تأمّلها.

إذا عرفت هذه الطوائف من الروايات فانّ مقتضى الجمع الدلالي هو تخصيص الطائفة الأُولى بالثالثة، و عندئذ تكون الطائفة الثانية أيضاً منصرفة إلى ما إذا كان البيع لغاية الانتفاع بالألية بالأكل.

ثمّ إنّ هاهنا أسئلة نأتي بها مع الإجابة عنها:

1. انّ أبا القاسم و ولده مهملان في علم الرجال، و رواية أبي مخلد ضعيفة لأجل نفسه، فكيف تخصّص الطائفة الأُولى بما لم تثبت حجيته؟

الجواب: قد عرفت صحّة رواية أبي القاسم و ولده، لأنّ الاعتماد هنا على مشاهدة محمد بن عيسى صورة المكاتبة.

نعم: روى الكليني هذه المكاتبة عن نفس قاسم الصيقل أيضاً، قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام): إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي،

فأُصلّي فيها؟ فكتب إليّ: «اتّخذ ثوباً لصلاتك». ( «2»)

و لكن الاعتماد على ما نقله عن محمد بن عيسى بن عبيد، و عندئذ تكون رواية أبي مخلد مؤيدة له.

2. انّ تقرير الإمام (عليه السلام) لجواز البيع، لأجل قول القائل: «و نحن مضطرون

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 124، الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل: 2/ 1050، الباب 34 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 112

إليها و لا يجوز في أعمالنا غيرها» فعندئذ يكون الجواز لأجل الضرورة المبيحة للمحظور.

الجواب: ليس المراد من الاضطرار هو الاضطرار المبيح للمحظور، بل المراد انّ تجارتنا لا تنفك عن استعمال الميتة، لأنّ الميتة و المذكّى في عصره كانا مختلطين غير متميزين، و كان هذا التكسّب لا ينفك عن الابتلاء بالميتة، و لو لا هذا، كيف يمكن تصور الاضطرار إلى خصوص الميتة في بلد المسلمين الذي يغلب المذكّى على الميتة فيه غلبة بارزة؟

و يدلّ على ذلك ما نقلناه من المكاتبة الثانية إلى الإمام الجواد (عليه السلام) حيث إنّه لمّا صعب العمل عليه باتّخاذ الثوب المستقل، عدل إلى استعمال خصوص الحمر الوحشية الذكية، و لم يترتب عليه أي محظور، و على ذلك فمرجع الضمير في قوله «غيرها» إلى جلود الحمير و البغال سواء كانت ذكية أم ميتة، لا إلى الميتة.

3. أ ليس رواية الصيقل مكاتبة محتملة للتقية كما هو الشائع في المكاتبات؟

الجواب: انّ هنا قرائن تدلّ على أنّ المكاتبة وردت لبيان الواقع، و هي اتّفاق العامّة على عدم جواز البيع قبل الدباغ، و أمّا بعده فهم بين مانع و مجيز، و على هذا يكون الحكم بالجواز في ما لم يدبغ على خلاف التقية، و فيما دبغ يُحتمل

الأمران، و الظاهر هو السلامة، و الأصل في الخبر، أن يكون صادراً لبيان الواقع، أعني: كونه صحيحاً من جهة الصدور.

أضف إلى ذلك انّه لو كان الحكم بالجواز وارداً مورد التقيّة لكان قوله (عليه السلام): «اجعل للصلاة ثوباً آخر» وارداً على خلاف التقية.

4. انّ مورد السؤال عمل السيوف و بيعها و شراؤها، لا خصوص الغلاف مستقلًا، و لا في ضمن السيف على أن يكون جزءاً من الثمن في مقابل عين الجلد،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 113

فغاية ما تدلّ عليه المكاتبة جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله غمداً للسيف، و هو لا ينافي عدم جواز معاوضته بالمال، و لذا جوز جماعة- منهم الفاضلان على ما حكي عنهما- الاستقاء بجلد الميتة لغير الصلاة و الشرب مع عدم قولهم بجواز بيعه. ( «1»)

الجواب: انّ ما ذكر من الإشكال يخالف صريح الرواية، فانّ الظاهر من قولهم: «و إنّما غلافها من جلود الميتة من البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا» انّ الضمائر الأربعة تعود إلى جلود الميتة فهي المباعة و المشتراة و الممسوسة، و عند ذلك كيف يكون الغلاف خارجاً عن المبيع و تابعاً له؟ و توهّم عود الضمائر إلى السيوف يردّه قولهم: «مسّها».

و قد سبق أنّ شغلهم حين السؤال كان نفس التغميد و صنع الأغماد على السيوف لا نفس السيوف.

إذ كيف يكون الغلاف خارجاً عن المبيع تابعاً له مع أنّه ربّما يكون الغلاف أغلى قيمة من نفس السيوف؟!

هذا هو مقتضى الجمع الدلالي، و ربما يتصوّر أنّ هنا جمعاً آخر، و هو حمل السحت في الطائفة الأُولى على الكراهة، و قد عرفت أنّه مشكل.

نعم، يؤيد

الجواز الفرع الآتي- أعني: ما إذا اختلط المذكّى بالميتة- إذ يمكن الاستئناس به لهذه المسألة بشرط إلغاء الخصوصية، و هو سهل.

______________________________

(1) المكاسب: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 114

فرعان
الأوّل: في بيع الميتة ضمن المذكى
اشارة

انّه كما لا يجوز بيع الميتة منفردة، كذلك لا يجوز بيعها منضمة إلى مذكّى، و لو باعها فإن كان المذكّى ممتازاً صحّ البيع فيه و بطل في الميتة، كما سيجي ء في محلّه، و إن كان مشتبهاً بالميتة لم يجز بيعه أيضاً، لأنّه لا ينتفع به منفعة محلّلة بناء على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين، فهو في حكم الميتة من حيث الانتفاع.

ثمّ إنّ متن المسألة هو بيع الميتة في ضمن المذكّى، و أمّا بيع خصوص المذكّى، أو خصوص الميتة من المختلط فهو خارج عن البحث، و إن ذكره الشيخ الأعظم.

ثمّ إنّ الداعي لعنوان هذه المسألة هو احتمال كون اشتباه الميتة بالمذكّى موجباً لجواز بيعها، و توضيح ذلك انّه قد عرفت أنّ العلماء في الانتفاع بالميتة على قولين، فمن قائل بجواز الانتفاع و هو الأشهر، بل المشهور المنصور، و من قائل بعدم جوازه، فإن قلنا بجواز الانتفاع بالميتة المعلومة انتفاعاً محلّلًا، يجوز الانتفاع بالمشتبه منها كذلك و يصحّ البيع للغاية المحلّلة و عند ذلك لا حاجة لعقد البحث عن الميتة المشتبهة كما ارتكبه (قدس سره) عند البحث عن الفرعين.

نعم لو كان البيع لغاية الأكل الذي يشترط فيه الطهارة و الحلية، يصحّ

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 115

عقد البحث عن المذكّى المشتبه بالميتة حسب ما قرره.

كما انّه لو قلنا بحرمة الانتفاع مطلقاً حتى فيما لا محذور فيه من التسميد و غيره، يصحّ عنوان المسألة بلا إضافة قيد، لأجل احتمال أن يكون الاشتباه مجوزاً للانتفاع أوّلًا و

البيع ثانياً، و لأجل ذلك يصحّ عنوان المسألة مجدّداً على ذلك القول بلا قيد.

هذا و الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: حكم المسألة حسب القواعد العامة.

الثاني: حسب الروايات الواردة في المسألة.

فنقول: أمّا حسب القواعد فللمسألة صور، فانّ المشتري تارة يكون مسلماً، و أُخرى كافراً.

و على الأوّل: فربما يكون المذكّى مشخّصاً عند البائع دون المشتري، و أُخرى بالعكس، و ثالثة يكون مشخّصاً عند الطرفين.

و أمّا إذا كان كافراً فإمّا أن نقول باشتراكه مع المسلم في الفروع كاشتراكه في الأُصول، أو نقول بعدم كونه مكلّفاً في الفروع. هذه صور المسألة، و أمّا حكمها حسب القواعد، فنقول: لا شكّ في الجواز في بعض الصور، كما إذا كان المذكّى مشخصاً عند المشتري دون البائع، أو كان المشتري كافراً و لم نقل بكونه مكلّفاً بالفروع كتكليفه بالأُصول.

أمّا الأوّل: فلأنّه لا يشترط أن يكون البائع متمكّناً من الانتفاع المحلّل حتّى يضر جهل البائع بالمذكّى، و إنّما يشترط تمكّن المشتري من الانتفاع المحلّل، و هو حاصل بعلمه بالمذكّى.

و أمّا الثاني: فلأنّه إذا لم يكن الكافر محكوماً بالفروع لا يكون الانتفاع بالميتة

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 116

محرّماً عليه، بل يكون كالانتفاع بالمذكّى، و لا يعد البيع إعانة على الإثم.

هذا حكم الصورتين حسب القواعد الأوّلية ( «1») و الظاهر انّ المفروض غير هاتين الصورتين، فالكلام إنّما هو في صورة جهل المشتري بالمذكّى كجهل البائع، كما أنّ المفروض محكومية الكفّار بالفروع كمحكوميتهم بالأُصول، فعند ذلك يجب أن نقف على مقتضى القواعد، فنقول:

قال الشيخ الأعظم: إذا كان المذكّى مشتبهاً بالميتة لم يجز بيعه أيضاً، لأنّه لا ينتفع به منفعة محلّلة بناء على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين فهو في حكم الميتة من حيث الانتفاع، فأكل

المال بازائه أكل بالباطل، كما أنّ كلًا من المشتبهين في حكم الميتة.

أقول: الاستدلال بالآية في المورد غير تام، لأنّ الآية بحكم كون «الباء» في قوله تعالى: (بِالْبٰاطِلِ) ( «2») للسببية بصدد بيان أكل المال بسبب باطل فيكون ناظراً إلى الأسباب الصحيحة، فيصحّ إذا كان السبب صحيحاً دون ما إذا كان باطلًا كبيع الحصاة، و الملامسة، و المنابذة و الربا، فالاستدلال بها على المورد مع كون السبب صحيحاً كالبيع، غير تام. ( «3»)

أضف إلى ذلك انّ الباطل في الآية واقع في مقابل التجارة التي تطلق على نفس الأسباب، فيكون المراد من الباطل هو السبب الباطل، في مقابل التجارة، و الآية تهدف إلى التمسّك بالأسباب الصحيحة و التجارة، و تمنع عن التمسّك بالأسباب الباطلة.

______________________________

(1) سيوافيك في خاتمة البحث انّ بيع المختلط من مستحل الميتة ليس إعانة و إن قلنا بكونه محكوماً بالفروع كمحكوميته بالأُصول.

(2) النساء: 29.

(3) نعم لو قلنا بأنّ «الباء» في الآية للمقابلة يتم الاستدلال.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 117

نعم، قوله: «لأنّه لا ينتفع به منفعة محلّلة بناءً على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين فهو في حكم الميتة من حيث الانتفاع». كلام تام يصحّ الاستناد إليه، لأنّه إذا كانت الميتة مسلوبة المنفعة و محرمة، و المذكّى لأجل عدم التميّز صار بحكمها، يحكم العقل عندئذ بلزوم الاجتناب عن كلا المشتبهين لإحراز الواقع، فيصير الكلّ بمنزلة الميتة، مسلوب المنفعة و محرماً، و مثل ذلك يسقط عن المالية في نظر الشارع و لا يمكن بيع ما ليس له مالية في الشرع. هذا توضيح ما رامه الشيخ الأعظم (رحمه الله) و أورد عليه المحقّق الخوئي- دام ظله- ما هذا خلاصته:

إنّ المدرك في حرمة بيع الميتة منفردة إن كان

هو النصوص و الإجماعات فلا شبهة في أنّهما لا تشملان صورة الاختلاط، لأنّه لا يصدق بيع الميتة على ذلك مع قصد المذكّى حتّى مع تسليمها إلى المشتري لكونه مقدمة لإقباض المبيع، و على هذا فلا وجه لما ذهب إليه الشيخ الأعظم (قدس سره) من المنع على الإطلاق بناءً على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين.

نعم، لا يجوز أن ينتفع بهما فيما كان مشروطاً بالطهارة و التذكية.

و إن كان المدرك في المنع هو حرمة الانتفاع بالميتة لكونها في نظر الشارع مسلوبة المالية (نظير الخمر و الخنزير)، فغاية ما يترتّب عليه هو عدم جواز بيعهما من شخص واحد، للعلم الإجمالي بوجود ما لا يجوز الانتفاع به فيهما، و أمّا بيعهما من شخصين فلا بأس فيه، لأنّ حرمة الانتفاع لم تثبت إلّا على الميتة المعلومة إمّا إجمالًا أو تفصيلًا على سبيل منع الخلو، و إذا انتفى أحد العلمين انتفت حرمة الانتفاع أيضاً، فلم يبق في البين إلّا الاحتمال فيندفع بالأصل، فانّ هذا نظير انعدام أحد المشتبهين أو خروجه عن محل الابتلاء الموجب لسقوط العلم الإجمالي عن التأثير. ( «1»)

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 72.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 118

يلاحظ على الشقّ الأوّل: أنّ مفروض المسألة إنّما هو بيع الميتة منضمة إلى المذكى، أي في ضمن بيعهما، و بعبارة أُخرى بيع المختلط من الميتة و المذكى، و أمّا بيع خصوص المذكّى من المختلطين، و كون تسليمهما مقدّمة لتسليم المذكّى، فخارج عن البحث، و إنّما هو احتمال ذكره الشيخ بعد عنوان المسألة، حيث قال: «و جوّز بعضهم البيع بقصد بيع المذكى» و هو يشعر أنّ عنوان المسألة غير هذا، و على ذلك فما ذكره الشيخ في تعليل المسألة- راجع إلى

ما عنون به المسألة فلا يصحّ قوله- دام ظله «لا شبهة في أنّهما لا تشملان صورة الاختلاط، لأنّه لا يصدق بيع الميتة على ذلك مع قصد المذكّى حتّى مع تسليمها إلى المشتري لكونه مقدّمة لإقباض المبيع»، فانّ قوله- دام ظله-: «لكونه مقدّمة لإقباض المبيع»، صريح في أنّ مفروض كلامه هو كون المبيع خصوص المذكّى، و انّ تسليم كليهما من باب المقدّمة، و الحال انّه خارج عن مفروض المسألة، فانّ عنوانها عبارة عن بيع الميتة مع المذكّى، و ما ورد من الروايات في النهي عن بيع الميتة على وجه الإطلاق يشمل بيعها منفردة أو منضمة إلى المذكّى.

و يلاحظ على الشقّ الثاني: انّ البيع من شخصين و إن كان يرفع الإشكال عن المشتري حيث لا علم له بكون المأخوذ ميتة، إلّا أنّ الإشكال يتوجه إلى البائع لأنّه يعلم أنّ أحد البيعين محرّم عليه، لأنّه باع ما لا ينتفع به شرعاً، و ما ليس مالًا عند الشارع.

ثمّ إنّ المحقّق الإيرواني احتمل بطلان البيع حسب القاعدة الأوّلية لأجل جهالة المبيع و تردّده بين الشيئين، و أورد على الشيخ الأعظم بأنّه يظهر من عدم استناده إلى جهالة المبيع انّه لا تضر بصحّة البيع مع أنّ عدم إضرارها باطل. ( «1»)

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 119

يلاحظ عليه: بمثل ما أوردناه على الشق الأوّل من كلام المحقّق الخوئي- دام ظله- فإنّ الاستناد إلى قاعدة الجهالة إنّما يصحّ إذا كان عنوان المسألة بيع خصوص المذكّى.

و قد عرفت أنّه خارج عن متن المسألة، و إنّما نقله الشيخ عن بعضهم وجهاً، و أمّا بناءً على كون المسألة هو بيع الميتة منضمة إلى المذكّى بحيث يكون الثمن في قبال المجموع

لا خصوص المذكّى، فلا يتوجه إشكال الجهالة، فانّ المبيع هو المختلط من الميتة و المذكّى و لا جهالة فيه، و بذلك يعلم أنّ ما ذكره المحقّق الإيرواني (رحمه الله) أخيراً لتوجيه كلام الشيخ غير تام، حيث قال: و يمكن أن يتخلّص عمّا ذكره المصنّف بما ذكرناه بأن يبيع كلّياً موصوفاً بأوصاف خاصة، ثمّ يُسلّم أطراف العلم الإجمالي ليحصل به تسليم المبيع ضمناً.

و قد عرفت أنّ هذا التوجيه لا يصلح لتصحيح ما هو المقصود من عنوان المسألة.

هذا كلّه إذا باع الميتة منضمة إلى المذكّى، و أمّا لو باع خصوص المذكّى في ضمن الميتة، فقد ذهب الشيخ إلى عدم كون ذاك القصد نافعاً، بعد فرض عدم جواز الانتفاع بالمذكّى، لأجل الاشتباه.

أقول: بما أنّه (قدس سره) اختار جواز الانتفاع بالميتة المعلومة فيما لا محذور فيه، فلا بدّ أن يكون مراده من عدم جواز الانتفاع هو الانتفاع فيما فيه المحذور كالأكل كما لا يخفى، و أمّا الانتفاع بما لا محذور فيه، فالمعلوم تفصيلًا و إجمالًا فيه سواسية.

ثمّ إنّه ربّما يصحح جواز بيع خصوص المذكّى من المشتبهين بأنّه لو قلنا بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة عن كلا الطرفين، و جواز ارتكاب أحدهما- و بعبارة أُخرى: لو قلنا بكفاية الموافقة الاحتمالية و عدم وجوب الموافقة

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 120

القطعية- جاز البيع بالقصد المذكور. ( «1»)

و أورد عليه الشيخ (قدس سره) بأنّه لو صحّ المبنى فإنّما يصحّ فيما إذا كان الأصل الجاري هو الجواز كالإناءين الطاهرين إذا علمنا بعروض النجاسة لأحدهما، لا فيما إذا كان الأصل الجاري هو الحرمة كما إذا علمنا بنجاسة الإناءين ثمّ وقفنا على طهارة أحدهما، و بما انّ الحالة السابقة في الصورة الثانية

هي الحرمة، فتجب الموافقة القطعية عملًا بالأصل، و المختلط من الميتة و المذكّى من قبيل القسم الثاني، لأنّ الأصل في كلا الحيوانين هو عدم التذكية، غاية الأمر عروض العلم الإجمالي بتذكية أحدهما، و هو غير قادح بالعمل بالأصلين.

و أورد عليه المحقّق الخوئي- دام ظله- بأنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت الميتة- التي هي أمر وجودي- إلّا على القول بالأُصول المثبتة، فانّ الميتة عبارة عمّا مات حتف أنفه، أو ما فارقه الروح بغير ذكاة شرعية، أو على هيئة غير مشروعة، أمّا في الفاعل أو في المفعول، و بما انّ جميعها من الأُمور الوجودية فلا يثبت شي ء منها بأصالة عدم التذكية، إلّا على القول بحجّية الأصل المثبت. ( «2»)

و يمكن أن يقال أنّه لا حاجة إلى إثبات انّه ميتة حتّى يقال انّه مثبت، لأنّ المراد من الانتفاع هو الانتفاع المحرّم كالأكل و غيره، و أمّا الانتفاع المحلّل كالتسميد و غيره فجواز الانتفاع به و البيع لأجله خارج عن البحث، و الميتة المعلومة تفصيلًا و إجمالًا في هذا القسم سواسية.

و على ذلك فيكفي في إثبات حرمة الانتفاع، استصحاب عدم التذكية، فانّ

______________________________

(1) لا يخفى انّه لو صحّ المبنى، لجاز بيع أحدهما مطلقاً من دون ضم الآخر، لأنّ المفروض جواز ارتكاب أحدهما و بيعه، من دون شرطية كونه موافقاً لما هو الحلال واقعاً.

(2) مصباح الفقاهة: 1/ 73.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 121

عدم التذكية موضوع للحرمة و لا يحتاج إلى إثبات عنوان الميتة حتّى يكون من الأُصول المثبتة.

ثمّ إنّ المحقّق الشيرازي (قدس سره) صرّح بعدم كفاية أصالة الحلّ في جواز البيع، قائلًا: بأنّ أصالة الحلّ لا يثبت بها إلّا جواز الأكل، و أمّا جواز البيع فلا. لأنّ المفروض

عدم جواز بيع الميتة الواقعية، فمع الشكّ في تحقّق الموضوع القابل للانتقال، يحكم بأصالة عدم الانتقال، و إن لم يكن هناك أصل يثبت به عدم كونه المذكّى، و ذلك نظير المال المردّد بين كونه مال الشخص أو مال غيره، فانّه و إن قلنا بجواز أكله إذا لم يكن مسبوقاً بكونه ملكاً لغيره، لكن لا نقول بجواز بيعه، لما قلنا من الشكّ في الملكية المترتب عليها جواز البيع و نفوذه. ( «1»)

أقول: إنّ مفاد أصالة الحلّ على فرض جريانها ليس حلية خصوص الأكل، بل مقتضاها ترتب جميع آثار الحلية على المشكوك فيه في الظاهر، و من آثارها جواز البيع و صحّته، بل الظاهر انّ مفاد أصالة الحلّ هو صحّة البيع تكليفاً و وضعاً، و قياسه بالمال المردّد بين مال نفسه و مال غيره قياس مع الفارق، للفرق بين المقيس و المقيس عليه، لأنّ إحراز الملكية من أركان جواز البيع، ففي مثل المال المردد بين كونه مال الشخص أو مال غيره، لم يحرز هذا الركن، فيكون شبهة مصداقية، لقوله: «لا تبع ما ليس عندك»، و أمّا المقيس، فلا شكّ أنّ المالية، بل الملكية، محرزة للمالك، و إنّما المشكوك هو جواز الانتفاع بواحد منهما، فيكون القياس مع الفارق، اللّهم إلّا أن يقال بمعارضته بأصالة عدم الانتقال، و هي عبارة أُخرى عن أصالة عدم ملكية المشتري للمثمن، و أثره الشرعي هو عدم جواز تصرّفه، فلاحظ.

هذا كلّه حسب القواعد الأوّلية.

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الشيرازي: 10- 11.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 122

و أمّا حسب الروايات الخاصّة

1. فقد روى الكليني بسند صحيح، عن الحلبي، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إذا اختلط الذكي بالميت، باعه ممّن يستحل الميتة، و أكل ثمنه». (

«1»)

2. و روى أيضاً بسند صحيح، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) انّه سئل عن رجل كان له غنم و بقر فكان يدرك الذكي منها فيعزله، و يعزل الميتة، ثمّ إنّ الميتة و الذكي اختلطا، كيف يصنع به؟ قال: «يبيعه ممّن يستحل الميتة، و يأكل ثمنه فانّه لا بأس به». ( «2»)

فعلى هذا يجوز بيعه ممّن يستحل حتّى فيما إذا علم أنّه ينتفع به في المنافع المحرّمة كالأكل لو فرض كون المبيع ميتة في الواقع.

و أورد على العمل بهذه الروايات إشكالات نذكرها، و ما يمكن أن يقال في دفعها:

منها: إعراض الأصحاب عنها، فقد حكى في «مفتاح الكرامة» عن ابن إدريس، انّه مخالف لأُصول المذهب، و قال القاضي: إنّ الأحوط ترك بيعه. ( «3»)

و مع ذلك فالإعراض غير ثابت، بل عدمه ثابت، فقد نقل صاحب مفتاح الكرامة عن «النهاية» و «الوسيلة» و «الجامع»: انّه إذا اختلط لحم المذكّى بالميتة، و لم يكن هناك طريق إلى تمييزه منها، لم يحل أكل شي ء منه، و بيع على مستحل الميتة.

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 370، الباب 36 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(2) الوسائل: 16/ 370، الباب 36 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.

(3) مفتاح الكرامة: 4/ 20.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 123

و قال المحقّق: ربما كان حسناً إذا قصد بيع المذكى حسب، و وافقه المصنّف في مطاعم الكتاب و التحرير. ( «1»)

أقول: قال الشيخ في «النهاية»: و إذا اختلط اللحم الذكي بالميتة و لم يكن هناك طريق إلى تمييزه منها، لم يحل أكل شي ء منه، و بيع على مستحلّي الميتة. ( «2»)

و قال المحقّق في «الشرائع»: و إذا اختلط الذكي بالميتة، وجب الامتناع منه حتّى يعلم

الذكي بعينه، و هل يباع ممّن يستحل الميتة؟ قيل: نعم، و ربما كان حسناً إن قصد بيع الذكي حسب، و كل ما أُبين من حي فهو ميتة يحرم أكله و استعماله. ( «3»)

و قال العلّامة في «المختلف»- بعد نقل جواز بيع المختلط من الذكي و الميتة على مستحلّي الميتة عن الشيخ-: و تبعه ابن حمزة، و قال ابن البراج: إذا اختلط لحم ذكي بميتة و لم يمكن تمييزه منها لم يحل له أكل شي ء منه، و قد قيل: إنّه يجوز بيعه على مستحلّي الميتة، و الأحوط ترك بيعه.

و قال ابن إدريس: لا يجوز بيعه و لا الانتفاع به. و قد روي أنّه يباع على مستحل الميتة، و الأولى إطراح هذه الرواية و ترك العمل بها، لأنّها مخالفة لأُصول مذهبنا، و لأنّ الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»- ثمّ قال-: و الوجه ما قاله الشيخ (قدس سره). ( «4»)

و قال العلّامة (قدس سره) في «الإرشاد»: و يحرم المشتبه بالميتة، فان بيع على مستحلّيه قصد المذكّى.

و يظهر من المحقّق الأردبيلي الميل إلى العمل بالصحيحين، قال في توضيح

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 19- 20.

(2) النهاية: 586.

(3) الشرائع: 3/ 223، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الرابع في الجامدات.

(4) مختلف الشيعة: 8/ 319، كتاب الصيد و توابعه، فصل في ما يحلّ من الميتة و يحرم من الذبيحة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 124

قوله: «و يحرم المشتبه بالميتة»: و يؤيده تجويز البيع على مستحل الميتة مطلقاً، و لا يخرج عن الاحتياط، ثمّ ذكر صحيح الحلبي و قال: و لمّا كان مفاد الرواية خلاف ما تقرر عندهم- من عدم جواز التصرّف

في الميتة و عدم إباحة أكل ثمنها- ذكروا أنّه يقصد بيع المذكّى لا الميتة. ( «1»)

و قال النراقي في «المستند»: إنّ ما دلّت عليه الصحيحتان من جواز البيع لمستحلّي الميتة مذهب جماعة. منهم الشيخ في «النهاية» و ابن حمزة، و هو الأقوى، للصحيحين المذكورين المخصّصين للأخبار المانعة عن الانتفاع بالميتة مطلقاً و عن بيعها، لأخصّيتهما المطلقة منها من وجوه، خلافاً للحلّي و القاضي و جمع آخر، فقد منعوه للأخبار المذكورة بجوابها، و لما دلّ على حرمة الإعانة على الإثم بناءً على كون الكفّار مكلّفين بالفروع كما هو المذهب.

و فيه، منع كونه إعانة، كما يظهر وجهه ممّا ذكرناه في بيان الإعانة على الإثم في كتاب «العوائد»، مع أنّها أيضاً ليست إلّا قاعدة كلّية، صالحة للتخصيص، و قد يعتذر المانعون للصحة عن الصحيحين بوجوه غير تامّة لا فائدة في ذكرها بعد عمل الأكابر بظاهرهما. ( «2»)

و في «الجواهر»: فالمتجه العمل بالخبرين الجامعين لشرائط الحجية، خصوصاً بعد الشهرة المحكية في «مجمع البرهان» على العمل بهما، و ابن إدريس طرحهما على أصله، بل لا ريب في أولوية ذلك ممّا في «الدروس»: من الميل إلى تعرفه بالعرض على النار بالانبساط و الانقباض كما سيأتي في اللحم المطروح المشتبه. ( «3»)

______________________________

(1) شرح الإرشاد للمحقّق الأردبيلي: 11/ 272- 273، كتاب الأطعمة و الأشربة.

(2) مستند الشيعة: 15/ 154، كتاب المطاعم و المشارب، الفصل السادس في حكم المشتبه.

(3) الجواهر: 36/ 341.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 125

و أنت إذا أحطت بهذه الكلمات تقف على أنّ الصحيحين ممّا عمل به كثير من الأصحاب، و إنّما لم يعمل به بعضهم كابن إدريس و القاضي لأجل اجتهادهم في أنّ مضمونهما مخالف للقواعد العامة، مع الغفلة عن

أنّ المخالفة بالعموم و الخصوص لا تعد مخالفة.

و منها [الإشكالات]: احتمال ورود الروايتين على التقية، حكاه في «مفتاح الكرامة» عن أُستاذه كاشف الغطاء- قدس سرهما-.

يلاحظ عليه: أنّ الحمل عليها فرع القول به من العامّة، و قد عرفت أنّ العامة قاطبة لا يجوزون بيع الميتة قبل الدباغ و إن اختلفوا في جوازه بعده.

و منها: انّ الروايات محمولة على التعجيز، نقله صاحب مفتاح الكرامة (قدس سره) أيضاً عن أُستاذه معلّلًا بأنّه لا مستحل للميتة بعد عهد موسى على نبيّنا و آله و (عليه السلام) من جميع الملّيين.

يلاحظ عليه: أنّ نهي القرآن عن أكل الميتة يدلّ على وجود السيرة بأكلها و غيرها، قال سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ مٰا أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ وَ مٰا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلٰامِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلٰا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجٰانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ( «1»)

و قد حكي انّ أُناساً من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك و لا يعدونه ميّتاً، إنّما يعدّون الميت ما يموت من الوجع.

______________________________

(1) المائدة: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 126

و يكفي استحلال العرب في الجاهلية، و إن لم يكن حلالًا عند أصحاب الشرائع السماوية.

و منها: انّها معارضة لما روي عن علي (عليه السلام) حيث سئل عن شاة مسلوخة و أُخرى مذبوحة، عُمّى على الراعي أو على صاحبها، فلا يدري الذكية من الميتة؟ قال: «يرمي بهما جميعاً إلى الكلاب».

( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ الرواية محتملة لأن يراد منها عدم المعاملة معهما معاملة المذكّى، و حرمة الانتفاع بهما كالانتفاع بالذكي، و مثل هذا لا يعارض ما دلّ صريحاً على جواز البيع من المستحل، لأنّ انحصار البيع من المستحل أوضح شاهد على أنّه لا يجوز الانتفاع بها مثل الذكي، و يؤيد ذلك:

ما روي عن يعقوب بن يزيد، عن الحسن بن المبارك، عن زكريا بن آدم قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير؟ قال: «يهراق المرق، أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله». قلت: فانّه قطر فيه الدم؟ قال: الدم تأكله النار إن شاء اللّه». قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟ قال: فقال: «فَسَدَ» قلت: أبيعه من اليهودي و النصارى و أُبيّن لهم؟ قال: «نعم، فانّهم يستحلّون شربه»، قلت: و الفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شي ء من ذلك؟ قال: فقال: «أكره أنا ان آكله إذا قطر في شي ء من طعامي». ( «2»)

ففي هذا الحديث جعل أهل الذمّة في رديف الكلب فجوّز في حقهم ما يجوز في حقّ الكلب. و على ذلك فلا منافاة بين الصحيحين من جواز البيع على

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 73، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) الوسائل: 2/ 1056، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 127

مستحل الميتة و بين ما يدلّ على رميهما إلى الكلاب.

و منها: انّ هذه الروايات معارضة لروايات الاختبار، فقد روي أنّ اللحم المردّد بين الميتة و المذكّى يختبر بالطرح على النار فإن انقبض فذكي، و إن انبسط

فهو ميت.

فقد روى إسماعيل بن شعيب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رجل دخل قرية فأصاب بها لحماً لم يدر أ ذكي هو أم ميت؟ فقال: فاطرحه على النار، فكلّ ما انقبض فهو ذكي، و كلُّ ما انبسط فهو ميت». ( «1»)

و روى الصدوق مرسلًا قال: قال الصادق (عليه السلام): «لا تأكل الجري- إلى أن قال:- و إذا وجدت لحماً و لم تعلم أ ذكي هو أم ميتة؟ فألق قطعة منه على النار، فإن انقبض فهو ذكي، و ان استرخى على النار فهو ميتة». ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ الخبر الأوّل ضعيف بإسماعيل بن شعيب، لعدم توثيقه في الرجال، و الثاني مرسل، أضف إليه انّه لا تأثير للذكاة و عدمها في انبساط اللحم و انقباضه.

نعم ربما يورد على الروايتين بأنّهما واردتان في الشبهة البدوية، و هي خارجة عن محط البحث، فإنّ البحث في المقام إنّما هو اختلاط الميتة القطعية بالمذكّى القطعي، و هو غير ما وردت فيه الرواية.

و أنت خبير بأنّ هذا الفرق غير فارق لمكان ظهور الدليل في كونه علامة لتمييز المذكى عن الميتة من دون أن تكون لخصوص السؤال فيه في ذلك مدخلية و الحقّ جواز العمل بالصحيحين كما لا يخفى.

ثمّ إنّ العلّامة جعل بيعهما من مستحل الميتة صورة بيع، لا بيعاً حقيقة،

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 370، الباب 37 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 1 و 2.

(2) الوسائل: 16/ 370، الباب 37 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 1 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 128

و قال: إنّه ليس بيعاً محقّقاً، بل أُطلق عليه اسم البيع لمشابهته له في بذل مال في مقابله عوض. ( «1»)

و فسره صاحب مفتاح الكرامة (قدس سره) بقوله

بأنّه ليس بيعاً بل استنقاذ لمال الكافر برضاه فكان سائغاً. ( «2»)

و أورد عليه المحقّق الخوئي- دام ظلّه-: بأنّ النسبة بين الكافر المستحل و بين ما يجوز استنقاذ ماله عموم من وجه، فانّه قد يكون المستحل ممّن لا يجوز استنقاذ ماله، إلّا بالأسباب الشرعية كالذمّي، و قد يكون غير المستحل ممّن يجوز استنقاذ ماله. ( «3»)

يلاحظ عليه: أنّه لم يقل باستنقاذ ماله على وجه الإطلاق، بل مقيّداً برضاه، و عندئذ تكون النسبة بين الكافر و من يجوز استنقاذ ماله عموماً و خصوصاً مطلقاً، فإنّ الثاني أعمّ مطلقاً من الكافر، لأنّه يجوز استنقاذ مال الكافر و المسلم برضاه.

و منها: حمل الروايتين على صورة قصد البائع المسلم أجزاءها التي لا تحلّها الحياة.

يلاحظ عليه: أنّ الحمل مخالف لظاهر الروايتين، إذ لو كان المبيع هو ما لا تحلّه الحياة فلا وجه لبيعه من المستحل، و احتمال اشتمال المبيع على اللحم داعياً إلى البيع لا مبيعاً، خلاف الظاهر جداً، أضف إليه انّ الرواية الثانية مشتملة على البقر و ليس فيه شي ء لا تحلّه الحياة صالحاً لأن يباع.

نعم ربّما يتوهّم أنّ بيع المختلط من مستحلّي الميتة إعانة على الإثم، لأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأُصول.

______________________________

(1) مختلف الشيعة: 8/ 320، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الرابع.

(2) مفتاح الكرامة: 4/ 20.

(3) مصباح الفقاهة: 1/ 75.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 129

يلاحظ عليه: ما سيأتي في تحقيق معنى الإعانة على الإثم، و انّه لا يصدق على هذا و ما شابهه، كبيع العنب و التمر ممّن يعلم انّه يجعلهما خمراً، و إلّا فإنّ كثيراً من البيوع من الكافر و الفاسق ستكون إعانة على الإثم حتّى سقيهم بجرعة من الماء لتنجس الماء بمجرد مباشرته بالفم.

***

الفرع الثاني: بيع ما ليس له دم سائل

اتّفقت كلمة المشهور على أنّه لا ينجس من الميتات إلّا ما له نفس سائلة لا غيرها ممّا ليس له نفس كذلك كالجراد و الوزغ، و قال الصادق (عليه السلام) في مرفوعة محمد بن يحيى: «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة». ( «1»)

و لا خلاف إلّا في الوزغ و العقرب، و ربّما يظهر من «الوسيلة»، و «المهذّب» القول بنجاسة ميتهما. و لعلّه للاغترار بوجوب النزح فيهما عند الوقوع في البئر، غير أنّ وجوب النزح فيهما لا يدلّ على النجاسة، لأنّ وجوبه أعمّ منها، كما في اغتسال الجنب من الماء ففيه النزح من دون طروء نجاسة على الماء، كما أنّ الأمر بإراقة الماء الذي وجد فيه العقرب و الأمر بعدم التوضّؤ منه محمول على التنزيه و التجنب عن السم المحتمل.

و اتّفقت كلمتهم على أنّه لا يجوز الصلاة في جلد الميتة ممّا له نفس سائلة سواء كان ممّا يؤكل لحمه أو لا، دبغ أو لا، غير أنّ المنساق من الميتة في المباحث كلّها هو ميتة ذي النفس السائلة، فانّ الميتة في مقابل المذكّى المنصرف إلى ما يقبل التذكية، و ليس هي إلّا ما له نفس سائلة.

______________________________

(1) الوسائل: 2/ 1052، الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 130

و لأجل ذلك: تجوز الصلاة في ميتة ما ليس له نفس سائلة كجلد السمك و الخز. ( «1»)

و على ذلك فلا مانع من المعاملة على ميتة ما ليس له نفس سائلة لوجود المنافع المهمة في بعضها كالدهن في السمك، و الجلد في الخز، فتشمله الإطلاقات.

و ما يتصوّر أنّ بيعه ممّن نعلم أنّه يأكله إعانة على الإثم، مدفوع بما أشرنا إليه و سيجي ء

توضيحه تفصيلًا عند البحث عن الإعانة على الإثم و انّ المراد من الإعانة المحرمة غير هذا، و إلّا لكان أكثر البيوع إعانة على الإثم.

و ربما يستدل على الحرمة بالروايات العامّة التي قد مرت في صدر الكتاب و أوضحنا مفادها، و الصالح للاستدلال منها في بدء النظر هو النبوي، أعني قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّ اللّه إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» فلو قلنا بأنّ الحديث مشتمل على لفظ الأكل فيمكن أن يستدلّ به، و يقال بأنّ السمك الميتة محرّم الأكل فهو محرم البيع.

يلاحظ عليه: أنّ القدر المتيقن ما إذا لم يكن المبيع مشتملًا على المنفعة المحلّلة و إن لم تكن مقصودة، و مع ذلك كان البيع واقعاً للجهة المحرّمة- أعني الأكل- و هو خلاف المفروض.

و أمّا إذا قلنا بتجرّده عن ذلك اللفظ، فقد عرفت أنّ نسبة التحريم إلى الأعيان إنّما تصحّ إذا كانت غالب منافعها محرّمة و كانت الغاية من البيع تلك المنافع، و المفروض عدم ثبوت الأمرين، إذ للسمك و الخز الميّتين منافع محلّلة، كما أنّ البيع حسب الفرض ليس لأجل المنافع المحرمة.

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 261، الباب 8 من أبواب لباس المصلي، الحديث 4، و جواز الصلاة في الخز مع كونه ممّا لا يؤكل لحمه خارج بالدليل.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 131

المسألة السادسة التكسّب بالكلب و الخنزير

اشارة

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 131

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): يحرم التكسّب بالكلب الهراش و الخنزير البريّين إجماعاً على الظاهر المصرّح به في المحكي عن جماعة، و كذلك أجزاؤهما، نعم لو قلنا بجواز

استعمال شعر الخنزير و جلده جاء فيه ما تقدّم في جلد الميتة. ( «1»)

أقول: يقع الكلام في مقامات:

[المقام] الأوّل: في تحريم التكسّب بالكلب الهراش

فسر الكلب الهراش بما ساء خلقه، و قد جاء في كلامه قيدان:

1. التقييد بالهراش، و هو ما ساء خلقه، و ذلك لأجل عدم حرمة غيره على وجه الإجمال كما سيوافيك.

2. التقييد بالبري، و ذلك لطهارة الكلب البحري، بل لا يطلق عنوان الكلب عليه على وجه الإطلاق، و إنّما يطلق عليه المركّب من الكلب و الماء (كلب الماء) و مثله الخنزير، هذا توضيح كلامه.

استدلّ على حرمة التكسّب بالكلب بوجهين:

الأوّل: الإجماع.

______________________________

(1) المكاسب: 1/ 41، المسألة 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 132

أقول: قال الشيخ: يجوز بيع كلاب الصيد، و يجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلّمة، و لا يجوز بيع غير الكلب المعلّم على حال.

و قال أبو حنيفة و مالك: يجوز بيع الكلاب مطلقاً، إلّا أنّه مكروه، فإن باعه صحّ البيع و وجب الثمن، و إن أتلفه متلف لزمته قيمته.

و قال الشافعي: لا يجوز بيع الكلاب معلمة كانت أو غير معلمة، و لا يجب على قاتلها القيمة.

دليلنا: إجماع الفرقة فانّهم لا يختلفون فيه ... و روى جابر أنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن ثمن الكلاب و السنور إلّا كلب الصيد، و هذا نصّ. ( «1»)

و لا يخفى أنّ القدر المتيقّن من قوله: و لا يجوز بيع غير الكلب المعلم على حال، هو الكلب الهراش و العقور و ما أشبههما.

و قال في «المراسم»: فأمّا المحرّم فبيع كلّ عصب ... و بيع الكلاب، إلّا السلوقي و كلب الماشية و الزرع. ( «2»)

و قال في «التذكرة»: الكلب إن كان عقوراً حرم بيعه عند علمائنا. و به

قال الحسن و ربيعة و حمّاد و الأوزاعي و الشافعي و داود و أحمد. ( «3»)

و قال في «المنتهى»: و قد أجمع علماؤنا على تحريم بيع ما عدا كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط من الكلاب. ( «4»)

و قال في «المستند»: و منها الخنزير و الكلب، و حرمة التكسّب بهما إجماعية كما صرّح به جماعة. ( «5»)

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 80، المسألة 302.

(2) المراسم: 170.

(3) التذكرة: 10/ 26، المسألة 9، فصل في العوضين، كتاب البيع.

(4) المنتهى: 2/ 1009، كتاب التجارة.

(5) المستند: 14/ 84، كتاب التجارة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 133

و قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: لا يختلف المذهب في أنّ بيع الكلب باطل، أيّ كلب كان و به قال الحسن، و ربيعة، و حماد، و الأوزاعي، و الشافعي، و داود، و كره أبو هريرة ثمن الكلب، و رخّص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر بن عبد اللّه، و عطاء، و النخعي، و جوز أبو حنيفة بيع الكلاب كلّها و أخذ أثمانها، و عنه رواية في الكلب العقور انّه لا يجوز بيعه، و اختلف أصحاب مالك، فمنهم من قال: لا يجوز، و منهم من قال: الكلب المأذون في إمساكه يجوز بيعه و يكره. و احتج من أجاز بيعه بما روي عن جابر أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن ثمن الكلب و السنّور إلّا كلب الصيد. ( «1»)

و هذه الكلمات و نظائرها تشرف الفقيه على تحقّق الإجماع على حرمة بيع الكلب.

و الظاهر انّ الإجماع لأجل النصوص المتضافرة على حرمته، و ستوافيك النصوص.

الثاني: الأخبار المتضافرة على حرمة الكلب، و هي على طائفتين:

قسم منها في مقام الإجمال، و قسم آخر

في مقام البيان، و قد فرق صاحب الوسائل (قدس سره) روايات المسألة في الأبواب المختلفة، و نأتي من كلّ قسم ببعضه:

1. روى السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر و ...». ( «2»)

2. و روى أبو بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في حديث: «انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: ثمن الخمر، و مهر البغي، و ثمن الكلب الذي لا يصطاد، من السحت». ( «3»)

______________________________

(1) المغني لابن قدامة: 4/ 225- 226.

(2) الوسائل: 12/ 62- 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5 و 7.

(3) الوسائل: 12/ 62- 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5 و 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 134

3. و روى حماد بن عمرو و أنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، في وصية النبي لعلي صلّى اللّه عليهما و آلهما قال: «يا علي من السحت: ثمن الميتة، و ثمن الكلب». ( «1»)

4. و روى القاسم بن عبد الرحمن، عن محمد بن علي الباقر، عن أبيه، عن الحسين بن علي، عن أبيه (عليهم السلام) في حديث: «انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن تسعة خصال: عن مهر البغي ... و عن ثمن الكلب». ( «2»)

5. و روى الحسن بن علي الوشاء، عن الرضا (عليه السلام) قال: «و ثمن الكلب سحت». ( «3»)

6. و روى البخاري: «انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن ثمن الكلب». ( «4»)

7. و روى البيهقي، عن أبي هريرة: «نهى عن

الكلب إلّا كلب الصيد». ( «5»)

هذه هي الطائفة الأُولى.

و أمّا الطائفة الثانية التي يظهر انّها في مقام البيان و إعطاء الضابطة الكلّية بشهادة استثناء الصيود من الكلب، فإليك بيانها:

1. روى الصدوق (قدس سره) مرسلًا قال: قال (عليه السلام): «أجر الزانية سحت، و ثمن

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.

(2) الوسائل: 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 13، و في هذا الحديث «أبي عدوية» تصحيف «أبي عروبة» كما في الخصال.

(3) الوسائل: 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2، رواه في الوسائل عن «الحسن بن علي القاساني» و هو تصحيف «الحسن بن علي الوشاء» كما في الكافي، و هو نفس ما رواه صاحب الوسائل في ذلك الباب عن تفسير العياشي تحت الرقم 8، و بهذا المضمون ما ورد في الوسائل في الحديث 4، 5، 8 من الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، فلاحظ.

(4) صحيح البخاري: 3/ 84، آخر البيوع.

(5) السنن الكبرى: 6/ 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 135

الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت». ( «1»)

2. روى أبو عبد اللّه العامري قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ثمن الكلب الذي لا يصيد. فقال: «سحت، و أمّا الصيود فلا بأس». ( «2»)

و الظاهر وحدة هذه الرواية مع ما رواه صاحب الوسائل في ذلك الباب تحت الرقم 7 لوحدة متنهما، و إن كان السند مختلفاً، و الظاهر وقوع التصحيف في السند، و إليك اسنادها:

فقد روى في الكافي: عن علي بن محمد بن بندار، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن محمد بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن

القاسم بن الوليد العماري، عن عبد الرحمن الأصم، عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه العامري قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ثمن الكلب الذي لا يصيد؟ فقال: «سحت، فأمّا الصيود فلا بأس». ( «3»)

و قد روى الشيخ (قدس سره) نفس الرواية في التهذيب هكذا: أحمد بن أبي عبد اللّه، عن محمد بن علي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن الوليد العامري قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) .... ( «4»)

فالاختلاف بين السندين في أُمور:

ألف: روى الكليني الحديث عن علي بن محمد بن بندار، عن أحمد بن أبي عبد اللّه.

و روى الشيخ الحديث عن الراوي الثاني في سند الكليني، أعني: أحمد بن

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(2) الوسائل: 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) الكافي: 5/ 127، كتاب المعيشة «باب السحت»، الحديث 5.

(4) التهذيب: 6/ 367، في المكاسب (أخبار ما لا يجوز التكسّب به)، الحديث 181.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 136

أبي عبد اللّه.

ب: وصف الكليني القاسم بن الوليد بالعماري، و وصف الشيخ (قدس سره) القاسم بن الوليد بالعامري.

ج: القاسم بن الوليد في رواية الكليني لا يروي عن الإمام (عليه السلام) إلّا بثلاث وسائط- أعني: 1. عبد الرحمن الأصم، 2. مسمع بن عبد الملك، 3. أبو عبد اللّه العامري.

و الحال: أنّ القاسم بن الوليد في رواية الشيخ (قدس سره) يروي عن نفس الإمام (عليه السلام) بلا واسطة. و تحقيق الحال يحتاج إلى ملاحظة تفصيل الطبقات.

المقام الثاني: في حرمة بيع الخنزير
اشارة

قال الشيخ في «الخلاف»: لا يجوز بيع شي ء من المسوخ مثل القرد و الخنزير و الدب و الثعلب و

الأرنب و الذئب و الفيل و غير ذلك ممّا سنبيّنه. ( «1»)

و قال العلّامة (قدس سره) في «التذكرة»: و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصح إجماعاً. ( «2»)

و قال الشيخ في «المبسوط»: و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدم، و ما توالد منهم، و جميع المسوخ، و ما توالد من ذلك، أو من أحدهما فلا يجوز بيعه، و لا إجارته، و لا الانتفاع به، و لا اقتناؤه بحال إجماعاً إلّا الكلب فإنّ فيه خلافاً. ( «3»)

و قال ابن قدامة في «المغني»: و لا يجوز بيع الخنزير، و لا الميتة، و لا الدم.

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 81.

(2) التذكرة: 10/ 25، المسألة 8، فصل في العوضين.

(3) المبسوط: 2/ 165، كتاب البيوع، باب حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 137

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به، و أجمعوا على تحريم الميتة و الخمر، و على أنّ بيع الخنزير و شراءه حرام، و ذلك لما رواه جابر قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) و هو بمكة يقول: «إنّ اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام». ( «1»)

هذه هي كلمات الفقهاء، ثمّ إنّ الكلام يقع في موارد:

الأوّل: في حرمة بيع الخنزير.

الثاني: الانتفاع به في تربية الدواب، لما اشتهر من أنّ أنس الخنزير بالخيل موجب لسمنها و كمالها.

الثالث: الانتفاع بأجزائها كالجلد و الشعر، و البيع لذلك.

فنقول: أمّا الأوّل: فقد وردت حوله

روايات، و هي على طوائف:
منها: ما دلّ على انّه يحرم للمسلم بيعه وضعاً

و إليك بيانها:

1. روى ابن أبي نجران ( «2») عن بعض أصحابنا، عن الرضا (عليه السلام) قال:

سألته عن نصراني أسلم و عنده خمر و خنازير، و عليه دين، هل يبيع خمره و خنازيره، و يقضي دينه؟ قال: «لا». ( «3»)

2. و روى يونس في مجوسي باع خمراً أو خنازير إلى أجل مسمّى، ثمّ أسلم قبل أن يحل المال؟ قال: «له دراهمه»، و قال: أسلم رجل و له خمر أو خنازير ثمّ مات، و هي في ملكه و عليه دين. قال: «يبيع ديانه أو ولي له غير مسلم، خمره

______________________________

(1) المغني: 4/ 229.

(2) في الكافي و هامش المخطوط: ابن أبي عمير.

(3) الوسائل: 12/ 167، الباب 57 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 138

و خنازيره، و يقضي دينه، و ليس له أن يبيعه و هو حيّ، و لا يمسكه». ( «1»)

3. ما رواه في «قرب الاسناد»، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خمراً أو خنزيراً إلى أجل فأسلما قبل أن يقبضا الثمن، هل يحل له ثمنه بعد الإسلام؟ قال: «إنّما له الثمن فلا بأس أن يأخذه». ( «2»)

فصريح الأُولى بأنّ النصراني إذا أسلم لا يجوز له بيع الخنزير و قضاء دينه.

كما أنّ صريح الثانية انّه يبيعه ديّانه أو ولي له غير مسلم، فلو جاز للمسلم بيعه لما قيد الوليّ بكونه غير مسلم، أضف إلى ذلك قوله (عليه السلام): «و ليس له أن يبيعه و هو حي» و على ذلك فالمراد من الديّان هو غير المسلم منهم.

كما أنّ المفهوم من رواية «قرب الاسناد» تسليم حرمة البيع إذا كان البيع في حالة الإسلام، و إنّما السؤال عن جواز أخذ الثمن إذا باع حال الكفر ثمّ أسلم

و لم يقبض الثمن و يريد قبضه حال الإسلام.

و يؤيده ما في «الجعفريات» عن علي (عليه السلام) قال: «من السحت ثمن الميتة- إلى أن قال-: و ثمن الخنزير». ( «3»)

و مثله ما عن «دعائم الإسلام» عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «انّه نهى عن بيع الأحرار، و عن بيع الميتة، و الخنزير». ( «4»)

و الروايتان في مقام الإجمال، و على فرض الإطلاق تقيّدان بما يأتي، و إلّا فهما منصرفتان إلى المسلم.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 167، الباب 57 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل: 12/ 172، الباب 61 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) المستدرك: 13/ 69 و 71، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 5.

(4) المستدرك: 13/ 69 و 71، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 139

و روى البيهقي في سننه، عن جابر بن عبد اللّه انّه سمع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول عام الفتح بمكة: «إنّ اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام». ( «1»)

و روى أيضاً عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «إنّ اللّه جلّ ثناؤه حرّم الخمر و ثمنها، و حرم الميتة و ثمنها، و حرم الخنزير و ثمنه». ( «2»)

و روى أيضاً عن ابن عباس قال: «السحت: الرشوة في الحكم- إلى أن قال-: ... و ثمن الخنزير». ( «3»)

و هذه الأحاديث في الإجمال و الإهمال أو الإطلاق و التقييد، أو الانصراف، مثل ما تقدّم.

و منها: ما يدلّ على جوازه مطلقاً

1. روى زرارة، عن أبي عبد اللّه (عليه

السلام)، في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمراً و خنزيراً ثمّ يقضي منها؟ قال: «لا بأس»، أو قال: «خذها». ( «4»)

2. ما رواه محمد بن يحيى الخثعمي قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل، يكون لنا عليه الدين فيبيع الخمر و الخنازير فيقضينا؟ فقال: «فلا بأس به، ليس عليك من ذلك شي ء». ( «5»)

3. روى أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام)، عن الرجل يكون له على الرجل مال، فيبيع بين يديه خمراً و خنازير يأخذ ثمنه؟ قال: «لا بأس». ( «6»)

و هذه الأحاديث محمولة على ما إذا كان البائع ذمياً، بشهادة القسم الثالث الذي سيوافيك.

______________________________

(1) السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 12، و روى الحديث الأوّل البخاري في صحيحه راجع الجزء 3 ص 84 باب بيع الميتة و الأصنام.

(2) السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 12، و روى الحديث الأوّل البخاري في صحيحه راجع الجزء 3 ص 84 باب بيع الميتة و الأصنام.

(3) السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 12، و روى الحديث الأوّل البخاري في صحيحه راجع الجزء 3 ص 84 باب بيع الميتة و الأصنام.

(4) الوسائل: 12/ 171، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3 و 4 و 5.

(5) الوسائل: 12/ 171، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3 و 4 و 5.

(6) الوسائل: 12/ 171، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3 و 4 و 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 140

و منها: ما يدلّ على التفصيل بين الذّمّي و المسلم

و هي رواية منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): لي على رجل ذمّيّ دراهم فيبيع الخمر و الخنزير و أنا حاضر، فيحل لي أخذها؟ فقال: «إنّما لك عليه

دراهم فقضاك دراهمك». ( «1»)

و هذه الرواية تقيّد جميع المطلقات، أخذاً بمفهوم الوصف، لكونه في مقام التحديد.

نعم بقي هنا رواية محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمراً و خنازير و هو ينظر فقضاه؟ فقال: «لا بأس به، أمّا للمقتضي فحلال، و أمّا للبائع فحرام». ( «2»)

و وجه الإشكال أنّ البائع لا يخلو من أن يكون ذمّياً أو مسلماً، فلو كان ذمّياً فالمعاملة جائزة تكليفاً و وضعاً، و لو كان مسلماً فالمعاملة باطلة كذلك، و يكون أداء الدين منه أداءً من غير ماله.

فعلى الأوّل: لا يصحّ قوله: «أمّا للبائع فحرام».

و على الثاني: فهو و إن كان للبائع أيضاً حراماً، لكنّه حرام بالنسبة إلى الآخذ أيضاً فلا يصحّ قوله: «لا بأس به، أمّا للمقتضي فحلال»: فإنّ المراد من المقتضي هو الآخذ.

و يمكن أن يقال: انّ الذي ثبت هو جواز بيع الخنزير للذمّي وضعاً لا تكليفاً، فلو باعه الذمّي فالمعاملة صحيحة و إن كان نفس التكسّب حراماً، و لم يثبت من رواية منصور بن حازم أزيد من هذا، حيث قال (عليه السلام): «إنّما لك عليه

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 171، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) الوسائل: 12/ 171، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 141

دراهم فقضاك دراهمك» و على هذا فيمكن أن تحمل رواية «ابن مسلم» على كون البائع ذمّياً، و تكون المعاملة صحيحة بحيث يجوز للآخذ التصرّف فيه، غير أنّه لما كان نفس العمل محرّماً وصف البائع بقوله: «أمّا للبائع فحرام».

و الحاصل: انّه لا يظهر من روايات الجواز في حقّ الذميّ إلّا الحليّة الوضعية لا

التكليفية.

المقام الثالث: الانتفاع بالخنزير في حياته

قد اشتهر على الألسن: أنّ أُنس الخنزير بالدواب موجب لسمنها و كمالها.

أقول: يظهر من الشيخ في «المبسوط» عدم الجواز، حيث قال: الحيوان الذي هو نجس العين كالكلب و الخنزير و الفأرة و ... و ما توالد منهم، و جميع المسوخ و ما توالد من ذلك، أو من أحدهما، فلا يجوز بيعه، و لا إجارته، و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال، إجماعاً، إلّا الكلب. ( «1»)

و مع ذلك كلّه يمكن أن يقال: انّ المحرم هو الانتفاعات المحرّمة، كالأكل و البيع، و أمّا الانتفاعات الأُخر، فلم تثبت حرمتها.

و أمّا كون الأصل هو حرمة الانتفاع من الأعيان النجسة، فسيوافيك الكلام عنه في مختتم البحث عن النوع الأوّل.

المقام الرابع: الانتفاع بأجزاء الخنزير

هل يجوز الانتفاع بأجزاء الخنزير، سواء كان ممّا تحلّه الحياة أم لا. يظهر من «مفتاح الكرامة» ذهاب العلّامة في «المختلف» إلى جواز استعماله مطلقاً، سواء

______________________________

(1) المبسوط: 2/ 165، كتاب البيوع، باب حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 142

اضطر إلى استعماله أو لا، و انّه وافقه على ذلك «كشف اللثام»، و استدلّ عليه في «المختلف» بخبري برد الاسكاف و سليمان الاسكاف، و قيّده في «النهاية» و «السرائر» و غيرهما بما إذا اضطر إلى استعماله، و في «كشف اللثام» انّه إذا اضطر، استعمل إجماعاً، و لعلّه يكفي في الاضطرار عدم كمال العمل بدونه. و قال: و قد سمعت ما حكيناه عن «المقنع» و مطاعم الكتاب (قواعد العلّامة) من جواز الاستقاء بجلد الخنزير عند الكلام على الميتة، و قد حرم المصنّف ( «1») في مطاعم الكتاب، استعمال شعر الخنزير، و ظاهره الإطلاق، كالسرائر، و فيها- أي السرائر- انّ الأخبار به متواترة.

و قد اعترف

جماعة بعدم الظفر بخبر واحد، و ستعرف الحال. و مرادنا بالإطلاق عدم الفرق بين استعماله فيما يشترط بالطهارة و ما لا يشترط بها. ( «2»)

و قال في «المغني»: و كلّ حيوان فشعره مثل بقية أجزائه، ما كان طاهراً فشعره طاهر، و ما كان نجساً فشعره كذلك، و لا فرق بين حالة الحياة، و حالة الموت، و اختلفت الرواية عن أحمد في الخرز بشعر الخنزير، فروي عنه كراهته. ( «3»)

غير أنّ الظاهر من بعض الروايات هو جواز الانتفاع، و إليك بيانها:

1. صحيحة سيف بن سليمان التمّار، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إنّ رجلًا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير؟ قال: «إذا فرغ فليغسل يده». ( «4»)

______________________________

(1) العلّامة مؤلّف قواعد الأحكام.

(2) مفتاح الكرامة: 4/ 23.

(3) المغني: 1/ 67، الطبعة الثالثة.

(4) الوسائل: 12/ 167، الباب 58 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

قال النجاشي (قدس سره): سيف بن سليمان التمّار، كوفي، روى عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، ثقة. و وثّقه العلّامة (قدس سره) في القسم الأوّل من «الخلاصة» كما وثّقه في «الوجيزة».

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 143

2. ما رواه سليمان الاسكاف قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن شعر الخنزير يخزر به؟ قال: «لا بأس به، و لكن يغسل يده إذا أراد أن يصلّي». ( «1»)

3. ما رواه زرارة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: «لا بأس». ( «2»)

فلو كان استعمال شعر الخنزير أمراً محرّماً لنبّه عليه الإمام (عليه السلام).

4. و روى زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام)

عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به الماء؟ قال: «لا بأس». ( «3»)

ثمّ إنّه لو قلنا بجواز الانتفاع بأجزائه لحلّ البيع بذلك كما لا يخفى، لشمول الإطلاقات مع عدم مانع عنها، إلّا ما ورد في نفس الخنزير، و هو منصرف إلى الحيوان حيّاً، فلو صدق الخنزير على الميت فانّها تصدق على الجسد الكامل، و أمّا أجزاؤه المتفككة فلا.

***

______________________________

(1) الوسائل: 2/ 1017، الباب 13 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

(2) الوسائل: 1/ 125، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.

(3) الوسائل: 1/ 129، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 144

المسألة السابعة التكسّب بالخمر

اشارة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): يحرم التكسّب بالخمر، و كلّ مسكر مائع، و الفقاع إجماعاً- نصاً و فتوى- و في بعض الأخبار: يكون لي على الرجل الدراهم فيعطيني خمراً فقال: «خذها ثمّ أفسدها». قال علي: و اجعلها خلًا. ( «1»)

و المراد به إمّا أخذ الخمر مجاناً ثمّ تخليلها، أو أخذها و تخليلها لصاحبها، ثمّ أخذ الخل وفاء عن الدراهم. ( «2»)

أقول: الخمر في اللغة بمعنى الستر، و منه الخمار، لأنّه يستر رأس المرأة، و إنّما أُطلق على ذلك المائع لأنّه يستر العقل و يخفيه- و هو يعادل لفظ «شراب» في اللغة الفارسية- و لا يطلق إلّا على المتّخذ من العنب، و عليه بعض أهل اللغة، و ربما يطلق على الأعم منه و من المتّخذ من التمر، بل على كلّ مسكر.

و على أيّ تقدير فحرمة التكسّب بالخمر بالمعنى الأخصّ ممّا اتّفق عليه عامّة المسلمين.

قال في «الخلاف»: لا يجوز بيع الخمر، و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة:

______________________________

(1) الوسائل: 17/ 297، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 6.

(2)

المكاسب: 1/ 42.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 145

يجوز أن يوكّل ذميّاً ببيعها و شرائها. دليلنا: إجماع الفرقة .... ( «1»)

و قال في «التذكرة»: كما لا يجوز للمسلمين مباشرة بيع الخمر، فكذا لا يجوز أن يوكّل فيه ذمّيّاً، و به قال الشافعي و مالك و أحمد، و أكثر أهل العلم. ( «2»)

و قال ابن رشد القرطبي في «بداية المجتهد»: أمّا بيع النجاسات فالأصل في تحريمها حديث جابر ثبت في الصحيحين قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّ اللّه و رسوله حرّما بيع الخمر و الميتة ... و قال في الخمر: إنّ الذي حرم شربها حرم بيعها». ( «3»)

و قال في «المغني»: لا يجوز بيع الميتة ... و ذلك لما روى جابر قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) و هو بمكة يقول: «إنّ اللّه و رسوله حرم بيع الميتة و الخمر و الخنزير و الأصنام» متّفق عليه. ( «4»)

و على كلّ تقدير، فلا إشكال في حرمة بيعها، و قد تواترت الروايات على حرمة التكسّب بالخمر، و نأتي بقليل من كثير منها:

1. صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رجل ترك غلاماً له في كرم له يبيعه عنباً أو عصيراً، فانطلق الغلام فعصر خمراً ثمّ باعه؟ قال: «لا يصلح ثمنه»، ثمّ قال: «إنّ رجلًا من ثقيف أهدى إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) راويتين من خمر، فأمر بهما رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فأُهريقتا، و قال: إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها»، ثمّ قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «إنّ أفضل خصال هذه التي

باعها الغلام أن يتصدّق بثمنها». ( «5»)

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 82.

(2) التذكرة: 10/ 26، المسألة 8، فصل في العوضين.

(3) بداية المجتهد: 2/ 125.

(4) المغني: 4/ 13، الطبعة الثالثة.

(5) الوسائل: 12/ 164- 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 146

2. ما رواه أبو أيّوب، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): رجل أمر غلامه أن يبيع كرمه عصيراً، فباعه خمراً، ثمّ أتاه بثمنه؟ فقال: «إنّ أحب الأشياء إليّ أن يتصدّق بثمنه». ( «1»)

3. ما رواه زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام) قال: «لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): الخمر، و عاصرها، و معتصرها، و بائعها، و مشتريها، و ساقيها، و آكل ثمنها، و شاربها، و حاملها، و المحمولة إليه». ( «2»)

4. ما رواه جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) في الخمر عشرة: غارسها، و حارسها، و عاصرها، و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمولة إليه، و بائعها، و مشتريها، و آكل ثمنها». ( «3»)

إلى غير ذلك من الروايات، و روى العامّة مثل ما رواه الخاصة، و إليك بعضها:

1. روى البخاري في كتاب البيوع، عن عائشة، قال النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «حرمت التجارة في الخمر». ( «4»)

2. و روى البيهقي عن أبي هريرة، أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «إنّ اللّه حرّم الخمر و ثمنها». ( «5»)

و الظاهر من الروايات هو الحرمة الوضعيّة و يشهد على ذلك قول الإمام (عليه السلام) للغلام الذي عصر الكرم خمراً ثمّ باعه: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم

ثمنها»، ثمّ قال: «أن يتصدّق بثمنه» فانّ قوله: «حرّم ثمنها» ظاهر في الحرمة الوضعية،

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 164- 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 3.

(2) الوسائل: 12/ 164- 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 3.

(3) الوسائل: 12/ 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(4) صحيح البخاري: 3/ 82.

(5) السنن الكبرى: 6/ 12.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 147

و التصدّق لأجل عدم معرفة المشتري بعينه.

نعم تبقى هنا رواية، و هي ما رواه الشيخ، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن أبي عمير و علي بن حديد، عن جميل، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): يكون لي على الرجل الدراهم فيعطيني بها خمراً؟ فقال: «خذها ثمّ أفسدها، قال عليٌّ: و اجعلها خلًا». ( «1»)

فانّ ظاهر الرواية وقوع المعاوضة بين الدين و الخمر، مع أنّ التكسّب به محرّم مطلقاً، و لأجل ذلك فسره «الشيخ» بوجهين:

الأوّل: أخذ الخمر مجاناً ثمّ تخليلها لنفسه.

الثاني: أخذها و تخليلها لصاحبها، ثمّ أخذ الخل من صاحبه وفاء عن الدراهم.

و قد أورد المحقّق الإيرواني على الوجهين:

أمّا الأوّل: فبأن: الخمر إمّا هي ممّا تملك، أو ممّا لا تملك، فعلى الأوّل لا مانع من أخذها بدل الدراهم كما هو ظاهر الرواية أيضاً، و على الثاني كانت بعد التخليل لمالكها، و احتاج أخذها بدل الدراهم إلى إذن جديد من مالكها، و من هذا يظهر ما في قوله: «أو أخذها و تخليلها لصاحبها ثمّ أخذ الخل وفاء عن الدراهم». و ذلك أنّ المالك لم يعط الخل وفاء، و إنّما أعطى الخمر، فكيف يأخذ الخل وفاءً بلا إذن جديد من المالك؟ ( «2»)

يلاحظ عليه: بأنّ الشقّ

الأوّل- أعني: «انّ الخمر ممّا تملك و انّه لا مانع من أخذها بدل الدراهم»- مخالف لفتوى الفقهاء، لعدّهم الخمر و الخنزير ممّا لا

______________________________

(1) الوسائل: 17/ 297، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 6.

(2) تعليقة المحقّق الإيرواني، ص 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 148

يملكان فتعين الشق الثاني- أعني: التخليل لمالكها، و أخذ الخل بدلًا عن الدين- و لا غبار عليه لشهادة الإعطاء في هذه الصورة على إذنه بتملّكه عن جانبه ضمناً بعد التخليل و لا يحتاج إلى إذن جديد من مالك الخمر أو الخل.

و بذلك يظهر ضعف قوله: «إنّ المالك لم يعط الخل وفاءً، و إنّما أعطى الخمر فكيف يأخذ الخل وفاءً بلا إذن جديد من المالك؟» لما عرفت من شهادة القرينة الحالية على وجود إذن ضمني على التملّك الجديد.

بقي هنا شق آخر على القول بأنّ الخمر لا تملك، و هو: أخذ الخمر مجاناً ثمّ تخليلها لا لصاحبه بل لأجل نفسه.

فأورد عليه المحقّق الخوئي- دام ظله-: بأنّ أخذها مجاناً ثمّ تخليلها لا يوجب سقوط الدين عن الغريم، و هي صريحة في حصول الوفاء بمجرّد الأخذ. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ الخمر و إن كان لا تملك لكن يتعلّق بها حقّ الأولوية، فالمديون و إن كان لا يملك الخمر، إلّا أنّه لتسلّطه عليها أولى بأن يجعلها خلًا، و عند ذلك يمكن أن يقال: انّه يرفع اليد عن الأولوية مشروطاً بإسقاط دينه، فيسقط الدين بمجرّد تسلّط الدائن على الخمر و إن خلّلها لنفسه.

و الحاصل: انّ مجموع الإشكالات الواردة على تفسير الشيخ الأعظم (قدس سره) تنحصر في أُمور ثلاثة: ذكر المحقّق الإيرواني صورتين منها، و أكمله المحقّق الخوئي بصورة ثالثة، و إليك تلك الصور إجمالًا و

الجواب كما عرفت:

1. كون الخمر ممّا تملك.

2. كون الخمر ممّا لا تملك لكنّه خلّلها بنيّة صاحبه.

3. أخذها و تخليلها عن نفسه.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 87.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 149

فعلى الأوّل: يسقط الدين لأجل صحّة المعاوضة في خصوص المورد.

و على الثاني: يتملّك الخل لأجل الإذن الضمني.

و على الثالث: يكون رفع اليد و السلطة عن الخمر مشروطاً بإسقاط دينه.

و على كلّ حال، فليست الرواية دالّة على صحّة المعاوضة على الخمر حتّى تخصّص أدلّة حرمة بيع الخمر، لأنّ أقصى ما تدلّ عليه الرواية هو جواز أخذ الخمر من المدين مسلماً كان أو كافراً وفاءً عن الدين بقصد التخليل و الإفساد، و هو غير جواز المعاوضة على الخمر بشتّى صورها.

ثمّ إنّ المحقّق الإيرواني احتمل أن يكون المراد من الإفساد هو جعلها خمراً فاسداً لا يرغب فيها، و عند ذلك لا يدلّ على سقوط الدين، بل يحكم ببقاء الدراهم في الذمّة، و أمّا الخمر فيفسدها حسماً لمادة الفساد.

و لا يخفى: انّ ما ذكره مخالف لما فهم الراوي- أعني: علي بن حديد- من كلام الإمام (عليه السلام) عصر صدور الرواية، و ليس ما فهمه المحقّق الإيرواني أولى بالاتّباع ممّا فهمه الراوي.

أضف إلى ذلك أنّ الراوي فهم من الرواية بحكم السكوت سقوط الدين بهذا العمل، لا بقاءه في الذمة، و هذا لا يتمشّى إلّا بجعل الخمر خلًا، لا فاسداً لا يرغب فيها أحد، و إلّا لكان له أن يسأل عن موضوع دينه بعد هذا الجواب.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم عمّم الحكم، أي حرمة التكسّب إلى كلّ مسكر مائع و قال: و كلّ مسكر مائع و الفقاع، إجماعاً نصّاً و فتوى.

و الفقاع هو ك- «رمّان» شي ء يتّخذ من ماء الشعير.

و النبيذ:

هو الذي يتّخذ من التمر و الزبيب و العسل، ثمّ إنّه يظهر من بعض الروايات تسمية هذا الشراب بالنبيذ.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 150

روى سماعة بن مهران، عن الكلبي النسابة، أنّه سأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن النبيذ؟ فقال: «حلال». فقال: انّا ننبذه فنطرح فيه العكر و ما سوى ذلك؟ فقال: «شه شه تلك الخمرة المنتنة». قلت: جعلت فداك فأي نبيذ تعني؟ فقال: «إنّ أهل المدينة شكوا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) تغير الماء و فساد طبائعهم، فأمرهم أن ينبذوا، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له، فيعمد إلى كف من تمر فيقذف به في الشن، فمنه شربه و منه طهوره». فقلت: و كم كان عدد التمر الذي في الكف؟ قال: «ما حمل الكف». فقلت: واحدة أو اثنتين؟ فقال: «ربما كانت واحدة، و ربما كانت اثنتين». فقلت: و كم كان يسع الشن ماء؟ فقال: «ما بين الأربعين إلى الثمانين، إلى ما فوق ذلك». فقلت: بأي الأرطال؟ فقال: «أرطال مكيال العراق». ( «1»)

ثمّ إنّ الأئمّة (عليهم السلام) اهتموا ببيان حكم النبيذ و الفقاع في مختلف الموارد فصرّحوا بحرمتهما- تارة- بعنوانهما مثل ما رويناه عن الكلبي النسّابة، و مثل ما رواه محمد بن عيسى، عن الوشّاء قال: كتبت إليه- يعني: الرضا (عليه السلام)- أسأله عن الفقاع؟ قال: فكتب: «حرام و هو خمر». ( «2»)

و- أُخرى- بأنّه نازل منزلة الخمر مثل ما رواه أبو الجارود قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن النبيذ أخمر هو؟ فقال: «ما زاد على الترك جودة فهو خمر». ( «3»)

و مثله ما رواه ابن فضّال قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الفقاع.

فقال: «هو الخمر، و فيه حدّ شارب الخمر». ( «4»)

______________________________

(1) الوسائل: 1/ 147، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

(2) الوسائل: 17/ 287، الباب 27 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 1.

(3) الوسائل: 17/ 274، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 4.

(4) الوسائل: 17/ 287، الباب 27 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 2. و لاحظ ما ورد في الباب 28 من هذه الأبواب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 151

كما أنّهم صرّحوا بوجوب غسل ما وصل إليه من النبيذ و الفقاع، فقد روي عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ- يعني: المسكر- فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه». ( «1»)

و الفقيه إذا لاحظ هذه الروايات يحدس حدساً قطعياً بأنّ المسكرات المائعة تشارك الخمر في جميع الأحكام حتّى حرمة التكسّب.

و إن شئت قلت: إنّ الفقيه إذا لاحظ انّ الأئمّة (عليهم السلام) أمروا بغسل الثوب الذي أصابه خمر أو نبيذ، و انّه لا يصلّ- ى في ذلك الثوب حتّى يغسل كما مر، و لاحظ قول أبي الحسن الماضي (عليه السلام) لعلي بن يقطين: «إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» ( «2»)، و لاحظ انّهم (عليهم السلام) أفتوا لشيعتهم بعدم التداوي بالنبيذ في مواضع خاصة ( «3») و عدم الاكتحال بالمسكر و النبيذ ( «4»)، و لاحظ انّهم (عليهم السلام) حكموا بإجراء الحد على شارب الفقاع، و لاحظ ما رواه الحسن بن علي الوشّاء عن الرضا (عليه السلام) أسأله عن الفقاع فكتب: حرام و من شربه كان بمنزلة شارب

الخمر». قال: و قال أبو الحسن (عليه السلام): «لو أنّ الدار داري لقتلت بائعه و لجلدت شاربه». قال: و قال أبو الحسن الأخير (عليه السلام): «حده حدّ شارب الخمر». و قال (عليه السلام): «هي خمرة استصغرها الناس». ( «5»)

______________________________

(1) الوسائل: 2/ 1055، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 2. و لاحظ ما ورد في ذاك الباب من الروايات.

(2) الوسائل: 17/ 273، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

(3) لاحظ الوسائل: 17/ 274، الباب 20 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1 و 15؛ و الباب 21 الحديث 2 و 4.

(4) لاحظ الوسائل: 17/ 274، الباب 20 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1 و 15؛ و الباب 21 الحديث 2 و 4.

(5) الوسائل: 17/ 292، الباب 28 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 152

إلى غير ذلك من الروايات المبثوثة في مختلف الأبواب التي تصرّح بحرمة شربه و الاكتحال به و انّه يحد مثل شارب الخمر- و عند ذلك- يحدس الفقيه، انّ سائر المسكرات كالخمر في حرمة التكسّب بها و انّها منزلة منزلة الخمر في جميع الأحكام، فما أصرح قوله (عليه السلام): «فما فعل فعل الخمر فهو خمر» و كذا قوله (عليه السلام): «فما كان عاقبتُه عاقبةَ الخمر فهو خمر» فمقتضى عموم المنزلة هو اشتراك جميع المسكرات المائعة في جميع الأحكام- من النجاسة و حرمة الشرب و وجوب الحدّ و حرمة التكسّب إلى غير ذلك من الأحكام-.

حكم المسكر غير المعدّ للشرب

ثمّ إنّ المنصرف إليه من الروايات هو المسكر المعدّ للشرب، و أمّا المسكر المعدّ لسائر الأُمور كالكحول الذي يستعمل في الصنائع و الطبابة فيجوز بيعه تكليفاً و وضعاً، و أمّا نجاسته فهي خارجة عن

محلّ البحث، كما لا شكّ في حرمة شربه إذا عالجه بالماء. ( «1»)

في المسكر الجامد

و هل تعمّ الحرمة كلّ مسكر سواء كان جامداً أو مائعاً أو تختص بالمائع؟ ربما يستظهر من عبارة الشيخ الأعظم اختصاص الحرمة بالمائع لتقييده المسكر بالمائع حيث قال: و كلّ مسكر مائع، و الفقاع إجماعاً و نصاً.

غير انّ المحقّق الإيرواني احتمل أن يكون وجه التقييد بالمائع لأجل كون البحث في الأعيان النجسة، و النجس من المسكرات ما يكون مائعاً، لا أنّ حرمة

______________________________

(1) و قد كتبت الصحف في هذه الأيام انّ بعض من شرب الكحول صار أعمى، و لا شك انّ المسكرات على الإطلاق أحد العوامل التي تسبب العمى.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 153

البيع تختص بالمائع من المسكرات، بل تعمّ الجميع، لعموم حرمة الانتفاع من المسكر. ( «1»)

و على كلّ تقدير، فقد استدلّ على حرمة بيع المسكر مطلقاً سواء كان مائعاً أم جامداً بوجوه:

1. صحيحة عمّار بن مروان قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الغلول. فقال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت ... و السحت أنواع كثيرة منها أُجور الفواجر، و ثمن الخمر، و النبيذ و المسكر ...». ( «2»)

و إطلاق الرواية يحكم بحرمة المعاوضة على المسكر مطلقاً. ( «3»)

نعم، الاستدلال بالرواية مبني على ورود الرواية بصورة عطف «المسكر» على «النبيذ» غير أنّه ورد في «الخصال» بصورة الوصف «النبيذ المسكر»، فعندئذ لا تدلّ على حرمة ثمن كلّ مسكر حتّى الجوامد، و روى في «الوسائل» عن «معاني الأخبار» و «الخصال» على وجه الوصف.

روى أبو أيوب، عن عمار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «كلّ شي ء غل من الإمام فهو سحت، و السحت أنواع كثيرة ... و

منها أُجور القضاة، و أُجور الفواجر، و ثمن الخمر، و النبيذ المسكر». ( «4»)

و يؤيد كون الرواية واردة على وجه الوصف ما يظهر من الروايات من أنّ

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 6.

(2) الوسائل: 12/ 61، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(3) و الرواية صحيحة، و لا يضر وجود سهل بن زياد، لأنّ الأمر في سهل، سهل، و رواه الشيخ في التهذيب بسند صحيح، و وجود إبراهيم بن هاشم في السند لا يجعلها حسنة، لأنّه ثقة على الأقوى، بل فوقها.

(4) الوسائل: 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 154

النبيذ كان على قسمين: مسكر و غيره. ( «1»)

2. التمسّك بما دلّ على حرمة ما يفعل فعل الخمر، فقد قال أبو الحسن الماضي (عليه السلام): «إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر». ( «2») و لا يبعد الإطلاق بالنسبة إلى المائع و الجامد، فيكون بمنزلة الخمر في حرمة البيع.

3. التمسّك بقوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «كلّ مسكر حرام» فقد روى فضيل بن يسار قال: ابتدأني أبو عبد اللّه (عليه السلام) يوماً من غير أن أسأله فقال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): كلّ مسكر حرام»، قال: قلت: أصلحك اللّه، كلّه؟ قال: «نعم، الجرعة منه حرام». ( «3»)

و لكنّ الظاهر انّ مراده من المسكر هو المسكر المائع بقرينة ذيلها: «نعم الجرعة منه حرام» و يشهد لذلك ورود لفظ الشراب في نظائر هذه الرواية.

فقد روى الفضيل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في حديث قال: «حرّم اللّه

الخمر بعينها، و حرم رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) المسكر من كلّ شراب، فأجاز اللّه له ذلك- إلى أن قال-: فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام، و لم يرخّص فيه لأحد». ( «4») كما أنّ المراد من الحرمة هو حرمة الشرب لا البيع.

4. ما رواه عطاء بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «كل مسكر حرام، و كلّ مسكر خمر». ( «5») و يحتمل فيه ما ذكرناه في السابق؛ أضف إليه انّ الحديث ضعيف لأجل أحمد بن الحسن الميثمي، و عبد الرحمن

______________________________

(1) لاحظ الوسائل: 1/ 147، الباب 2 من أبواب الماء المضاف.

(2) الوسائل: 17/ 273، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 1.

(3) الوسائل: 17/ 259، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) الوسائل: 17/ 260، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 5.

(5) الوسائل: 17/ 260، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 155

بن زيد، و زيد بن أسلم.

5. التعليل بحرمة الانتفاع، فانّ المسكرات مائعها و جامدها محرّمة الانتفاع، فيحرم بيعها بمناط واحد ( «1») و يؤيده النبوي: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه».

و فيه: انّ ذلك التعليل ينطبق على بعض المسكرات التي ليس فيها أيّة منفعة محلّلة، كبعض المخدرات، و أمّا بعضها الآخر- كالحشيش و الترياق- التي لها منافع شائعة في الطبابة و غيرها ف- لا يمكن الحكم بحرمة المعاملة عليها كما لا يخفى.

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 156

المسألة الثامنة تحرم المعاوضة على الأعيان المتنجسة

اشارة

قال الشيخ الأعظم: تحرم

المعاوضة على الأعيان المتنجّسة، غير القابلة للطهارة، إذا توقّفت منافعها المحلّلة المعتد بها على الطهارة.

يظهر من الشيخ و غيره رحمهمُ اللّه انّ المنع عن بيع المتنجس يختص بغير القابل للطهارة، و أمّا القابل لها فخارج عن مورد البحث، و وجه التفريق هو عدم صدق المال على غير القابل، و صدقه على القابل للطهارة.

و أورد بعض المحشّين على الشيخ بأنّ لازم ذلك جواز المعاوضة على الأعيان النجسة القابلة للطهارة بارتفاع عنوانها بمثل الاستحالة و الانتقال و الاستهلاك فيما إذا كان تعلّق العقد على ذات ذي العنوان النجس، كما إذا أشار إلى الخمر الخارجي و قال: بعت هذا، مثلًا، حيث إنّ المبيع في المثال قابل للطهارة بالاستحالة، مع بقاء المبيع في الخارج. و أمّا إذا كان متعلّق العقد نفس العنوان الزائل بالاستحالة مثلًا، فلا يجوز المعاوضة عليها حينئذ، لعدم المنفعة المحلّلة لهذا العنوان، و بعد زوالها بالاستحالة و إن كانت لها منفعة محلّلة، إلّا أنّها موضوع آخر غير المبيع. ( «1»)

______________________________

(1) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب: 23- 24.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 157

و لا يخفى عدم صحّة القياس بين المتنجّس و النجس، فانّ التطهير في المتنجّس لا يوجب زوال الصورة النوعية إلى صورة أُخرى، كتطهير السجادات و الحصر و البواري، و هذا بخلاف حصول الطهارة في الأعيان النجسة فانّها لا تتحقّق إلّا بزوال الصورة النوعية، فتجويز البيع في المتنجّس القابل للطهارة لا يلازم تجويزه في النجس.

و أمّا ما أفاده من أنّه إذا كان المبيع ذا العنوان النجس كالمائع في ما إذا أشار إلى الخمر الخارجي و قال: بعت هذا، فالمبيع قابل للطهارة مع بقاء المبيع، فغير تام، لأنّ التفكيك بين كون المبيع هو الخمر بصورتها

النوعية، و بين بيعها بما هي مائع من المائعات و جسم من الأجسام، دقّة عقلية لا يتوجّه إليها العرف، و لأجل ذلك قد ذكرنا في محلّه انّ التفريق في مسألة تخلّف الإشارة عن الوصف بين قول القائل: «بعتك هذا الفرس العربي» و قوله: «بعتك هذا الفرس إن كان عربياً عند ما ظهر غير عربي، غير تام. و إن فرّق الشيخ الأعظم (قدس سره) عند التخلّف و ظهوره غير عربي بين قوله: «الفرس العربي» فجعله من قبيل دفع المبائن مكان المبيع، و قوله: «إن كان عربياً» فجعله من قبيل تخلّف الوصف، لا دفع المبائن.

فقد قلنا في محلّه إنّ هذا التفريق مبني على الدقة العقلية، لا يلتفت إليها العرف، و إنّما هو ينظر إلى المعنى دون اللفظ، فلو كان الفرس العربي و غير العربي نوعين أو جنسين في الخارج، فهما من قبيل المتباينين، سواء قال: الفرس العربي أو قال: الفرس إن كان عربياً. و لو لم يكونا كذلك، بأن لم تكن العربية مقوِّمة للمبيع، لما كانا من قبيل المتباينين سواء أ قال بلفظ الوصف أم بلفظ الشرط.

و على أي حال فقد قال في «التذكرة»: و ما عرضت له النجاسة إن قَبِل

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 158

التطهير صحّ بيعه و يجب إعلام المشتري بحاله، و إن لم يقبله كان كنجس العين. ( «1»)

و قال في «المبسوط»: و إن كان مائعاً فلا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون ممّا لا يطهر بالغسل، أو يكون ممّا يطهر، فإن كان ممّا لا يطهر بالغسل مثل السمن فلا يجوز بيعه، و إن كان ممّا يطهر بالغسل مثل الماء، فانّه و إن كان نجساً إلّا أنّه إذا كوثر بالماء

المطهر فهو يطهر، و قيل: إنّ الزيت النجس يمكن غسله، و الأولى أن لا يجوز تطهيره، لأنّه لا دليل عليه، فما هذا حكمه يجوز بيعه إذا طهر. ( «2»)

و استدلّ الشيخ الأعظم على بطلان البيع في الأعيان المتنجسة غير القابلة للتطهير بوجوه:

1. إذا توقّفت منافعها المحلّلة المعتد بها على الطهارة، فيشملها ما تقدّم من النبوي: «إنّ اللّه إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» كما يشملها خبر الدعائم المتقدّم.

أمّا التمسك برواية «تحف العقول»- أعني: قوله: «و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء، فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهي عنه من جهة أكله و شربه ... أو شي ء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام محرم، لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه»- فهو غير تام، لأنّ «وجوه النجس» عبارة عن النجاسات العينية و لا يشمل المتنجّسات.

2. التمسّك بالتعليل الوارد في تلك الرواية، أعني قوله: «لأنّ ذلك كلّه محرّم أكله و شربه و لبسه».

و أورد عليه المحقّق الخوئي- دام ظله- بأنّه إن كان المراد بالحرمة فيها هي

______________________________

(1) التذكرة: 10/ 25، المسألة 8، فصل في العوضين.

(2) المبسوط: 1- 2/ 167.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 159

الحرمة الذاتية، فلا تشمل المتنجّس بداهة، لأنّها مختصة بالأعيان النجسة، إذن فيكون المتنجّس خارجاً عنها بالتخصّص، و إن كان المراد بها ما يعمّ الحرمة الذاتية و الحرمة العرضية، فيلزم على الشيخ أن لا يفرّق حينئذ بين ما يقبل التطهير و ما لا يقبله، فانّ موضوع حرمة البيع على هذا التقدير هو ما يتصف بالنجاسة سواء أ كانت ذاتية أم عرضية، فإمكان التطهير لا يؤثر في زوال الحرمة الفعلية عن موضوعها الفعلي. ( «1»)

يلاحظ عليه: بأنّ المراد هو الأعم من

الذاتية و العرضية، غير أنّ- ها منصرفة عمّا يقبل التطهير من المتنجس، بخلاف ما لا يقبل، فانّه أشبه شي ء بالأعيان النجسة.

و الأولى أن يجاب عن الاستدلال بأنّ القدر المتيقّن من الأحاديث العامّة ما كان غالبُ منافعه محرّمة، و كان البيع لأجل تلك المنافع المحرّمة، و بانتفاء أحد القيدين تنتفي الحرمة، فلو فرضنا كون المنافع الغالبة محرّمة و لكن كانت الغاية، الاستفادة من المنافع المحلّلة غير الغالبة، كما إذا اشترى الدبس المتنجس للاستفادة منه فيما لا يشترط في استعماله الطهارة، أو كانت منافعه الشائعة محلّلة، و لكنّه اشتراه لأجل منفعة محرمة نادرة، كما إذا اشترى السكين لقتل المحقون دمه فلا تشمله الأحاديث العامّة، و كون البيع إعانة على الإثم أمر آخر، خارج عن محل البحث.

نعم إنّما يصحّ البيع في مقابل المنفعة المحلّلة النادرة، إذا كان الثمن معادلًا لها في سوق العقلاء، و إلّا فلو دفع بازاء المنفعة المحلّلة النادرة ما يدفع في مقابل الشائعة المحرمة، لعدّت المعاملة سفهية.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 89.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 160

و الحاصل: أنّ المنفعة المقهورة لا تكون ملاكاً لجواز البيع إلّا إذا كانت المعاملة عقلائية لا سفهية.

في بيع المسوخ

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): اعلم أنّه قيل بعدم جواز بيع المسوخ من أجل نجاستها، و لما كان الأقوى طهارتها لم يحتج إلى التكلّم في جواز البيع هاهنا.

نعم، لو قيل بحرمة بيعها لا من حيث نجاستها، بل لأجل عدم المنفعة لزم البحث عنه في ذيل النوع الثاني ممّا لا يجوز الاكتساب به لأجل عدم المنفعة فيه.

و لنذكر كلمات القوم:

قال الشيخ (قدس سره) في «الخلاف»: لا يجوز بيع شي ء من المسوخ، مثل القرد و الخنزير و الدب و الثعلب و الأرنب و

الذئب و الفيل و غير ذلك ممّا سنبيّنه، و قال الشافعي: كلّ ما ينتفع به يجوز بيعه، مثل القرد و الفيل و غير ذلك.

دليلنا: إجماع الفرقة، و أيضاً قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّ اللّه تعالى إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» و هذه الأشياء محرّمة اللحم بلا خلاف، إلّا الثعلب فانّ فيه خلافاً، و هذا نصّ. ( «1»)

و قال العلّامة (قدس سره) في «التذكرة»: و في السباع التي لا تصلح للصيد عنده- الشافعي- وجهان لمنفعة جلودها. أمّا العلق ففي بيعه لمنفعة امتصاص الدم إشكال، و أظهر وجهي الشافعي و أحمد الجواز ... و الأقرب عندي المنع- و هو أحد الوجهين لهما- لندور الانتفاع، فأشبه ما لا منفعة فيه، إذ كلّ شي ء فله نفع، و أمّا منع الشافعي من بيع الحمار الزمن فليس بجيد للانتفاع بجلده. ( «2»)

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 81، المسألة 308.

(2) التذكرة: 10/ 36، المسألة 15، كتاب البيع، الفصل الرابع، الشرط الثاني من شروط العوضين.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 161

و قال الشيخ في «المبسوط»: و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدم، و ما توالد منهم، و جميع المسوخ، و ما توالد من ذلك، أو من أحدهما، فلا يجوز بيعه، و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال، إجماعاً. ( «1»)

و قال في «النهاية»: و بيع سائر المسوخ و شراؤها و التجارة فيها و التكسّب بها محظور، مثل القردة و الفيلة و الدببة و غيرها من أنواع المسوخ. ( «2»)

إذا عرفت هذه الكلمات، فاعلم أنّه يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: حكم المسألة حسب القاعدة الأوّلية.

الثاني: حكمها حسب الروايات.

أمّا الأوّل: فالحقّ

هو الجواز فيما إذا عدّ المبيع مالًا عند العقلاء، و لم يسقطه الشارع عن الاعتبار.

و أمّا الإجماع الذي استند إليه الشيخ الطوسي، في الحكم بعدم الجواز فالظاهر انّ الإجماع مستند إلى ما حَسَبَه دليلًا على المسألة كسائر إجماعاته الواردة في «الخلاف».

و أمّا الاستدلال بالنبوي فقد عرفت مفاده من أنّ القدر المتيقّن منه ما إذا كان غالب منافع الشي ء محرّمة، و كان البيع لأجل المنفعة المحرّمة، و بانتفاء أحد القيدين تنتفي الحرمة، و المفروض انّ الغاية من بيع السباع هو الانتفاع بجلدها- لا بلحمها- و هو منفعة محلّلة غالباً، فكذا لو كان البيع لأجل الجلد و اللحم، و لكن الغرض من بيع اللحم و شرائه هو الاستفادة منه في التسميد و نحوه، فمثل هذه الموارد خارجة عن مورد النبوي. هذا حكم المسألة حسب القواعد الأوّلية.

______________________________

(1) المبسوط: 1- 2/ 165.

(2) النهاية: 364، كتاب المكاسب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 162

و أمّا الثاني:- أعني: حكمها حسب الروايات- فالظاهر من الروايات هو جواز الانتفاع، بل جواز البيع، فممّا يدلّ على جواز الانتفاع:

1. ما رواه علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن لباس الفراء و السمور و الفنك و الثعالب و جميع الجلود؟ قال: «لا بأس بذلك». ( «1»)

2. و ما رواه زرعة، عن سماعة قال: سألته عن لحوم السباع و جلودها فقال: «أمّا لحوم السباع فمن الطير و الدواب فإنّا نكرهه، و أمّا الجلود فاركبوا عليها، و لا تلبسوا منها شيئاً تصلّون فيه». ( «2»)

ما يدلّ على جواز البيع

روى عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت»، ثمّ قال: «و لا بأس بثمن الهر». ( «3»)

و أمّا

ما عن «الجعفريات»: قال علي (عليه السلام): «من السحت ... ثمن القرد، و جلود السباع و جلود الميتة قبل أن تدبغ، و ثمن الكلب». ( «4»)

و ما عن الدعائم عن علي (عليه السلام) قال: «من السحت ثمن جلود السباع». ( «5») فلا يمكن الاحتجاج بهذين المرسلين، و أمّا حملهما على الكراهة فلا يناسب لفظ «السحت».

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 256، الباب 5 من أبواب لباس المصلي، الحديث 1 و 3. و بهذا المضمون روايات في هذا الباب فراجع الحديث: 2 و 4 و 6.

(2) الوسائل: 3/ 256، الباب 5 من أبواب لباس المصلي، الحديث 1 و 3. و بهذا المضمون روايات في هذا الباب فراجع الحديث: 2 و 4 و 6.

(3) الوسائل: 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(4) المستدرك: 13/ 69، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(5) المستدرك: 13/ 120، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 163

المستثنى من حرمة الاكتساب بالأعيان النجسة:

اشارة

1. بيع الكافر المملوك.

2. بيع الكلب غير الهراش.

3. بيع العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه.

4. الانتفاع بالدهن المتنجس و بيعه له.

5. الانتفاع بالمتنجس.

6. بيع المتنجس.

7. الانتفاع بالأعيان النجسة بغير البيع.

8. الانتفاع بها بالبيع.

و بعض ما استثنى من الأعيان النجسة من قبيل الاستثناء المنقطع كالأدهان.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 165

المستثنى من الأعيان النجسة

قد عرفت أحكام الأعيان النجسة من حيث جواز البيع و الانتفاع، غير أنّ هناك أعياناً محكومة بالنجاسة قد استثنيت من الحرمة بالاتّفاق، و قد ذكرها الشيخ الأعظم (قدس سره)، و نحن نقتفي أثره.

الأوّل: بيع المملوك الكافر

قال الشيخ الأعظم: يجوز بيع المملوك الكافر أصلياً أم عرضياً كالمرتد الملّي بلا خلاف ظاهر، كما ادّعى عليه الإجماع، أو فطرياً على الأقوى، بل الظاهر انّه لا خلاف فيه من هذه الجهة، و إن كان فيه كلام من حيث كونه في معرض التلف لوجوب قتله، و لم نجد من تأمّل فيه من جهة نجاسته.

يلاحظ عليه: أنّ الكافر ينقسم إلى: أصلي، و عرضي؛ و العرضي ينقسم إلى: ملّي و فطري. و لا إشكال في بيع الأصلي و العرضي الملّي لوجود المقتضي، و عدم مانعية الكفر أو نجاسته من البيع، و كفاية المنفعة المحلّلة، و إنّما في العرضي الفطري، فقد استشكل فيه لكونه معرضاً للتلف.

ففيه: أوّلًا: أنّه مشترك بين الملّي و الفطري، لأنّ الملّي و إن كان تقبل توبته و يسقط عنه الحدّ إذا تاب، غير أنّ من المحتمل أن لا يتوب و يجري عليه الحكم

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 166

حينئذ كالفطري مطلقاً.

و ثانياً: أنّه إنّما يقع في معرض التلف إذا كان هناك حاكم مبسوط اليد يريد أن يجري عليه الحكم، و أمّا في غير هذا

المورد فلا.

أضف إلى ذلك: انّه يمكن الانتفاع بكلا الكافرين في الكفّارة، سواء أ كان هناك حاكم مبسوط اليد أم لا. و أمّا كون النجاسة مانعة فقد مرّ الكلام فيه، و سيوافيك انّ مانعيتها لأجل عدم تمكّن الانتفاع بالمنافع المحلّلة، و هو هنا منتف.

نعم، من قال بأنّ النجاسة بعنوانها مانعة، يجب عليه المنع من بيع العبد الكافر مطلقاً، إلّا ما قام عليه الدليل، سواء أقبلت توبته أم لا، كان هناك حاكم مبسوط اليد أم لا، كانت هناك منفعة محلّلة أم لا.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 167

الثاني: جواز بيع كلب الصيد
اشارة

قال الشيخ الأعظم: تجوز المعاوضة على غير الكلب الهراش في الجملة، بلا مانع ظاهر، إلّا ما عن ظاهر إطلاق العماني (رحمه الله)، و لعلّه كإطلاق كثير من الأخبار بأنّ ثمن الكلب سحت، و هو محمول على الهراش، لتواتر الأخبار و استفاضة نقل الإجماع على جواز بيع ما عدا الكلب الهراش في الجملة.

يلاحظ عليه: أنّ الكلب على أقسام:

فهو إمّا سلوقي، و هو منسوب إلى «سلوق» قرية باليمن، و قيل بلد بإرمينية، أو بلد بالروم أكثر كلابها معلّمة، و الظاهر هو الأوّل، و يعبّر عنه بالفارسية ب- «تازى» و هو الرفيع المحدودب البطن-.

أو غير سلوقي، ينتفع به في الصيد تارة، و حراسة الماشية و البستان و الزرع و الدور و الخيام أُخرى، أو لا ينتفع به إلّا في اللعب، و الأُنس كما هو المتعارف عند قوم، أو لا ينتفع به أبداً لكونه صار عقوراً، أو هراشاً، أو مجنوناً خارجاً عن طاعة البشر، أو لذهاب ملكة التكالب كالكلاب المهملة العائشة في الأزقة.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه لا إشكال في جواز بيع القسم الأوّل، كما لا إشكال في حرمة بيع ما لا

ينتفع به أصلًا، إنّما الكلام في جواز بيع ما يدور بين الأوّل و الثاني فنقول:

قال الشيخ في «الخلاف»: يجوز بيع كلاب الصيد، و يجب على قاتلها

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 168

قيمتها إذا كانت معلّمة، و لا يجوز بيع غير الكلب المعلّم على حال.

و قال أبو حنيفة و مالك: يجوز بيع الكلاب مطلقاً، إلّا أنّه مكروه، فإن باعه صحّ البيع و وجب الثمن، و إن أتلفه متلف لزمته قيمته.

و قال الشافعي: لا يجوز بيع الكلاب معلّمة كانت أو غير معلمة، و لا يجب على قاتلها القيمة.

دليلنا: إجماع الفرقة فانّهم لا يختلفون فيه، و يدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) ( «1») و قوله: (إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ) ( «2») و لم يفصّل. و روى جابر أنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم): نهى عن ثمن الكلاب و السنور، إلّا كلب الصيد، و هذا نص. ( «3»)

و قال في «النهاية»: و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقياً للصيد، فانّه لا بأس ببيعه و شرائه و أكل ثمنه و التكسّب به، و بيع جميع السباع و التصرّف فيها و التكسّب بها محظور. ( «4»)

و قال في «المبسوط»: و الكلاب على ضربين: أحدهما لا يجوز بيعه بحال، و الآخر يجوز ذلك فيه، فما يجوز بيعه ما كان معلّماً للصيد، و روي أنّ كلب الماشية و الحائط كذلك، و ما عدا ذلك كلّه فلا يجوز بيعه و لا الانتفاع به. ( «5»)

و قال سلّار في «المراسم»: فأمّا المحرم فبيع كلّ عسب ... و بيع الكلاب إلّا السلوقي و كلب الماشية و الزرع. ( «6»)

______________________________

(1) البقرة: 275.

(2) النساء: 29.

(3)

الخلاف: 2/ 80.

(4) النهاية: 364، هذه عبارة النهاية، و ليس فيها عن كلب الماشية و الزرع عين و لا أثر، فما نسب إليه في مصباح الفقاهة: 1/ 93 من ورودهما فيها غير صحيح.

(5) المبسوط: 1- 2/ 166.

(6) المراسم: 170.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 169

و قال ابن رشد: فمنها الكلب و السنور، أمّا الكلب فاختلفوا في بيعه، فقال الشافعي: لا يجوز بيع الكلب أصلًا، و قال أبو حنيفة: يجوز ذلك، و فرّق أصحاب مالك بين كلب الماشية و الزرع المأذون في اتّخاذه، و بين ما لا يجوز اتّخاذه، فاتّفقوا على أن ما لا يجوز اتّخاذه لا يجوز بيعه للانتفاع به و إمساكه، فأمّا من أراده للأكل فاختلفوا فيه فمن أجاز أكله أجاز بيعه. ( «1»)

و قال ابن قدامة: و لا يجوز بيع الكلب ... و رخّص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر بن عبد اللّه و عطاء و النخعي، و أجاز أبو حنيفة بيع الكلاب كلّها و أخذ ثمنها. ( «2»)

ثمّ إنّ قول الشيخ في «النهاية»: إلّا ما كان سلوقياً للصيد، مبهم من وجهين:

الأوّل: لفظ «للصيد» فيحتمل وجهين:

1. إخراج غير الصيود من الكلاب السلوقية، و أنّ ما يجوز بيعه هو خصوص الصيود من السلوقي لا كلّ سلوقي.

2. أن يكون لبيان الغاية من البيع، أي يجوز البيع لهذه الغاية لا للحراسة و المحافظة، و لا اللعب و الأُنس.

الثاني: لفظ «السلوقي» و هو أيضاً يحتمل وجهين:

1. يحتمل أن يكون ذكر السلوقي من باب المثال، و انّ المدار مطلق الصيود و إن لم يكن من ذاك الجنس.

2. يحتمل أن يكون المراد خصوص السلوقي بتخيّل انحصار الصيود فيه.

______________________________

(1) بداية المجتهد: 2/ 126.

(2) المغني: 4/ 13، الطبعة الثالثة.

المواهب في

تحرير أحكام المكاسب، ص: 170

ثمّ إنّ الظاهر من الروايات كثرة استعمال لفظ السلوقي في عصر الأئمّة (عليهم السلام)، فقد ورد في عدّة روايات في باب الطهارة و الصيد و الدية، مثل ما رواه محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الكلب السلوقي. فقال: «إذا مسسته فاغسل يدك». ( «1»)

و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «الكلاب الكردية إذا عُلِّمت فهي بمنزلة السلوقية». ( «2»)

إذا عرفت ذلك فلاحظ لسان الروايات فانّه على وجوه نأتي بالجميع:

1. «انّ ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت».

و يدلّ عليه ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في حديث: «انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: ثمن الخمر، و مهر البغي، و ثمن الكلب الذي لا يصطاد، من السحت». ( «3»)

2. «انّ ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت».

و يدلّ عليه ما أرسله الصدوق و قال: قال (عليه السلام): «أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت ...». ( «4»)

3. «انّ ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت و أمّا الصيود فلا بأس».

______________________________

(1) الوسائل: 1/ 194، الباب 11 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1؛ و الجزء 2، الباب 12 من أبواب النجاسات، الحديث 9.

(2) الوسائل: 16/ 224، الباب 10 من أبواب الصيد و الذبائح، الحديث 1، و المراد من الكلاب الكردية هي الكلاب الضخمة. و لاحظ الوسائل: 19/ 167، كتاب الديات، الباب 19 من أبواب ديات النفس.

(3) الوسائل: 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7، و الباب 14 الحديث 6.

(4) الوسائل: 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب

به، الحديث 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 171

و يدلّ عليه ما رواه أبو عبد اللّه العامري قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ثمن الكلب الذي لا يصيد فقال: «سحت، و أمّا الصيود فلا بأس». ( «1»)

و مثله ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت». ( «2»)

4. «ثمن كلب الصيد».

و تدلّ عليه رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ثمن كلب الصيد؟ قال: «لا بأس بثمنه، و الآخر لا يحل ثمنه». ( «3»)

إذا وقفت على لسان الروايات، و انّ المدار في حلّية البيع هو كون الكلب صائداً، فربما يتوهم انصراف روايات الجواز إلى السلوقي- أي حلية بيع خصوص السلوقي من الصيود، لا كلّ كلب صيود- بدعوى انّه هو المنساق منها، لانصراف كلب الصيد إليه لكثرة وقوع الاصطياد به في الخارج، فيبقى غير السلوقي تحت مطلقات المنع عن التكسّب بالكلاب و إن كان صائداً.

يلاحظ عليه: أنّ المدار في الانصراف كثرة الاستعمال دون كثرة الوجود، و لم تثبت كثرة استعمال هذه العناوين في السلوقي، على أنّ من المحتمل جدّاً أن يكون المراد من السلوقي في كلماتهم مطلق كلب الصيد و إن كان من غير جنس السلوقي.

و أجاب عنه الشيخ الأعظم: بأنّه لا يصحّ في مثل قوله: «ثمن الكلب الذي لا يصيد» أو «ليس بكلب الصيد» لأنّ مرجع التقييد إلى إرادة ما يصحّ سلب صفة الاصطياد عنه.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 7 و قد مرّ وحدة الروايتين.

(2) الوسائل: 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3 و 5.

(3)

الوسائل: 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3 و 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 172

توضيح ما أفاده: انّه إنّما تصحّ دعوى الانصراف في ما إذا كان وصف الاصطياد بصورة الإثبات مثل قوله: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن كلب الصيود هل يباع؟ قال: نعم» و نحوه، و أمّا إذا كان الوصف مأخوذاً في الموضوع بصورة السلب- مثل الحديثين- فلا يمكن ادّعاء الانصراف، لأنّ المراد من الكلب الذي يصحّ سلب وصف الاصطياد عنه ليس هو سلب وصف الاصطياد بالفعل، و إلّا لم يصحّ البيع في شي ء من أفراد السلوقي أيضاً إلّا في حال الاصطياد، و ذلك معلوم البطلان، بل المراد الكلب الذي يصحّ سلب وصف الاصطياد عنه من جهة عدم كونه صاحب ملكة الاصطياد، و مثل هذا يعطي قاعدة كلّية و لا يكون موجباً للانصراف، لأنّ دعوى الانصراف في مورد المطلق، لا فيما يفيد الكلّية و العموم. ( «1»)

و أورد على هذا الجواب: بأنّه يصحّ في الحديث الأوّل- رواية محمد بن مسلم- حيث إنّ وصف الاصطياد أخذ قيداً للموضوع، و لا يتم في الحديث الثاني- مرسلة الفقيه، أعني: انّ ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت- فانّ من القريب أن لا يصدق كلب الصيد إلّا على السلوقي.

يلاحظ عليه: أنّ ادّعاء انصراف كلب الصيد إلى السلوقي و عدم صدقه إلّا عليه ليس بأولى من ادّعاء كون المراد من السلوقي مطلق ما يصيد و إن كان غير سلوقي، بل الثاني هو الأولى، و يعلم هذا بملاحظة ما ورد من الروايات.

فقد ورد في بعض الروايات: «انّ دية الكلب السلوقي أربعون درهماً» ( «2»)، كما ورد في بعض الروايات أنّ دية كلب الصيد-

من غير تقييد بالسلوقي- أربعون

______________________________

(1) لاحظ تعليقة العلّامة المامقاني: 30.

(2) الوسائل: 19، الباب 19 من أبواب ديات النفس، الحديث: 1 و 2 و 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 173

درهماً، فقد روى ابن فضال، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «دية كلب الصيد أربعون درهماً، ودية كلب الماشية عشرون درهماً». ( «1»)

و ليس حمل كلب الصيد في هذه الرواية على السلوقي بأولى من حمل السلوقي في الرواية الأُولى على مطلق الصيود و إن لم يكن من جنس السلوقي، بل الثاني أولى، لتقييد كلب الصيد في بعض الروايات بالسلوقي حيث قال: «دية كلب الصيد السلوقي أربعون درهماً» فلو كان «كلب الصيد» منصرفاً إلى السلوقي لكان التقييد به بلا وجه، و هذا يعطي انّ كلب الصيد مشترك بين السلوقي و غيره، فربما يستعمل مطلقاً، و ربما يقيد به، و أمّا وجه التقييد بالسلوقي مع كون الدية واحدة في مطلق كلب الصيد، فلأجل الوجوه التي يوجه بها التقييد بالوصف مع عدم وجود المفهوم.

و تؤيده بعض الروايات حيث ينزل الكلاب الكردية منزلة السلوقية و يقول: «الكلاب الكردية إذا علّمت فهي بمنزلة السلوقية» ( «2») فهي تفيد انّ الميزان هو التعلّم لا السلوقية، و الرواية و إن وردت في جواز الأكل من صيد الكلاب الكردية لا في جواز البيع عليها، لكن يمكن الاستئناس منه على جواز البيع أيضاً.

و تؤيد العموم رواية محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا خير في الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب ماشية». ( «3»)

و الحاصل: انّ ادّعاء انصراف كلب الصيد إلى خصوص السلوقي بعيد جدّاً.

______________________________

(1) الوسائل: 19، الباب 19 من أبواب

ديات النفس، الحديث: 4 و 5.

(2) الوسائل: 16/ 224، الباب 10 من أبواب الصيد و الذبائح، الحديث 1.

(3) الوسائل: 8/ 387، الباب 43 من أبواب أحكام الدواب، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 174

ما هو المراد من «الصيود» و «الذي لا يصيد»؟

هذان التعبيران يحتملان وجوهاً نشير إليها:

الأوّل: أن يكون لفظ الصيود مشيراً إلى المعلَّم، و يكون قوله: «لا يصيد» مشيراً إلى غير المعلم، من غير فرق في الطرفين بين السلوقي و غيره.

و لا يخفى بعده، لأنّ دعوى الانصراف إلى خصوص المعلّم ممنوع جدّاً.

الثاني: أن يكون المراد من الصيود، المتّخذ للصيد، و المراد من مقابله ما لا يتّخذ له.

و فيه منع أيضاً، لأنّ الظاهر كون الموضوع للجواز و الحرمة هو نفس الكلب بوصف الصيودية، لا هو مع قيد الاتّخاذ.

الثالث: الكلب الثابت له هذا العنوان فعلًا بأن يكون مشتغلًا بالاصطياد بالفعل، و يراد من مقابله ما لا يكون مشتغلًا به كذلك، و على ذلك فالكلب الذي له ملكة الاصطياد و ليس مشتغلًا به بالفعل يدخل تحت أدلّة الحرمة. و لا يخفى أيضاً بعده.

الرابع: ما يكون له ملكة الاصطياد، في مقابل ما ليس له تلك الملكة، سواء أ كان مشتغلًا به بالفعل أو لا، و هذا هو المتبادر من كلب الصيد أو الكلب الصيود، كما هو المتبادر من قوله: «الذي لا يصيد»، و على ذلك فكلّ كلب له قدرة الاصطياد و إن كان شاغلًا بالفعل للحراسة فهو داخل تحت أدلّة الجواز، و ما ليس له ملكة الاصطياد بحيث يصحّ سلب ذلك العنوان عنه فهو داخل تحت أدلّة المنع، و إنّما قلنا إنّه هو المتبادر، لأنّه نتيجة إطلاق أدلّة عدم تدخل التعليم و الاتخاذ و الاشتغال الفعلي في الحكم، و يظهر ذلك بملاحظة أشباهه.

المواهب

في تحرير أحكام المكاسب، ص: 175

في بيع الكلاب الثلاثة: كلب الحائط و الماشية و الزرع
اشارة

لا شكّ انّه يجوز اقتناء هذه الكلاب للانتفاع بها، لأنّها من وسائل الحياة.

و يدلّ على الجواز ما روي عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في حديث: «انّه رخّص في اقتناء كلب الصيد، و كلّ كلب فيه منفعة، مثل كلب الماشية، و كلب الحائط، و الزرع رخصهم في اقتنائه ...». ( «1»)

قال الشيخ في «الخلاف»: يجوز اقتناء الكلب لحفظ البيوت، و لأصحاب الشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، و هو الصحيح عند محصليهم، و منهم من قال: لا يجوز لأنّ السنّة خصّت كلب الصيد و الماشية و الزرع.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم. ( «2»)

و قال العلّامة في «التذكرة»: يجوز اقتناء كلب الصيد و الزرع، و الماشية و الحائط دون غيره لقوله (صلى الله عليه و آله و سلم) «من اتّخذ كلباً، إلّا كلب ماشية أو صيد أو زرع، نقص من أجره كلّ يوم قيراط»، و لو اقتناه لحفظ البيوت فالأقرب الجواز- و هو قول

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 90، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(2) الخلاف: 2/ 81.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 176

بعض الشافعية و بعض الحنابلة- لأنّه في معنى الثلاثة، و منعه بعضهم لعموم النهي. ( «1»)

و قال في «المنتهى»: فلو اقتناه لحفظ البيوت و الأقرب الإباحة، و هو قول بعض الشافعية، و بعضهم حرم ذلك.

لنا: انّ له دية مقدّرة بالشرع على ما يأتي فيجوز اقتناؤه، و لأنّه فيه منفعة كمنفعة كلب الماشية و الزرع من الحفظ و الحراسة. ( «2»)

إنّما الكلام في بيعها، فقد اختلفت كلمة الأصحاب، بل اختلفت كلمة الفقيه الواحد في كتابيه.

أمّا الشيخ الطوسي: فقد خصّ جواز

البيع بكلاب الصيد ( «3»). فقال في «الخلاف»: يجوز بيع كلاب الصيد، و يجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلّمة، و لا يجوز بيع غير الكلب المعلّم على حال.

و قال أبو حنيفة و مالك: يجوز بيع الكلاب مطلقاً، إلّا أنّه مكروه، فإن باعه صحّ البيع و وجب الثمن، و إن أتلفه متلف لزمته قيمته.

و قال الشافعي: لا يجوز بيع الكلاب معلّمة كانت أو غير معلّمة، و لا يجب على قاتلها القيمة.

دليلنا: إجماع الفرقة فانّهم لا يختلفون فيه، و يدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ)، و قوله تعالى: (إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ) و لم

______________________________

(1) التذكرة: 10/ 30، ضمن فروع المسألة 9، كتاب البيع، الفصل الرابع، الشرط الأوّل من شروط العوضين.

(2) المنتهى: 2/ 1010.

(3) الاستظهار مبني على كون المراد من «كلب الصيد» ما اتّخذ لهذا العمل، و أمّا إذا قيل بأنّ المراد منه، المعنى العام الشامل لكلب الماشية و الزرع فيتحد مفاده مع ما سيوافيك عن كتاب الإجارة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 177

يفصل، و روى جابر أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «نهى عن الكلاب و السنور إلّا كلب الصيد» و هذا نص. ( «1»)

و لكن يظهر من إجارة «الخلاف» القول بجواز بيع هذه الكلاب، حيث قال: «يصحّ إجارة كلب الصيد للصيد، و حفظ الماشية و الزرع». و للشافعي فيه وجهان: أحدهما مثل ما قلناه، و الآخر انّه لا يجوز ذلك.

دليلنا: انّ الأصل جوازه، و المنع يحتاج إلى دليل، و لأنّ بيع هذه الكلاب يجوز عندنا، و ما يصحّ بيعه يصحّ إجارته بلا خلاف. ( «2»)

و لكن يظهر منه في «المبسوط»: عدم جواز بيع غير

المعلّم للصيد حيث قال: و الكلاب على ضربين: أحدهما لا يجوز بيعه بحال، و الآخر يجوز ذلك فيه، فما يجوز بيعه ما كان معلّماً للصيد. ( «3»)

هذه أقوال الشيخ (قدس سره)، و أمّا غيره فنأتي ببعضها:

قال العلّامة في «المختلف»: و قال ابن الجنيد: لا بأس بشراء الكلب الصائد و الحارس للماشية و الزرع، و قال ابن البراج: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره من الكلاب، و قال ابن إدريس: يجوز بيع كلب الصيد سواء كان سلوقياً- و هو المنسوب إلى سلوق قرية باليمن- أو غير سلوقي، و كلب الزرع و كلب الماشية و كلب الحائط، و به قال ابن حمزة، و هو الأقرب عندي. ( «4»)

و قال المحقّق الأردبيلي في «مجمع الفائدة»: و اختلفوا في الثلاثة الباقية، و سوّغ في «المبسوط»، و هو اختيار ابن إدريس، و هو الأقوى عندي.

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 80، المسألة 302، كتابي البيوع، باب ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ من الكلاب و غيرها.

(2) الخلاف: 2/ 216.

(3) المبسوط: 2/ 166.

(4) المختلف: 5/ 12، كتاب المتاجر، فصل في وجوه الاكتساب، و لاحظ المنتهى: 2/ 1009.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 178

ثمّ قال: و ذلك غير بعيد، للأصل، مع حصول النفع المطلوب للعقلاء، مع عدم المنع في نصّ أو إجماع، و مجرّد كونه نجساً لا يصلح لذلك، و لا لعدم التملّك، فالظاهر التملّك و جواز ما يترتب عليه. و يحتمل العدم، لأنّ الأصل عدم التملّك و البيع فرعه، و للرواية الدالة على أنّ ثمن الكلب سحت، خرج كلب الصيد بدليل آخر، و بقي الباقي، و لا دليل على التملّك.

و قال: و يمكن أن يكون عموم خلق الأشياء للإنسان و انتفاعه بها

و قبضه لها مع صلاحية الانتفاع بها، دليلًا له كما في سائر المباحات، و تحمل رواية «ثمن الكلب سحت» على كلب الهراش الذي لا نفع فيه غير الكلاب الأربعة. ( «1»)

و قال النراقي في «المستند»: في المسألة قولان: المنع و هو للشيخين، و القاضي، و الغنية، و الشرائع، و اختاره من المتأخرين جماعة، و عن الخلاف الإجماع عليه، لإطلاق الأخبار المانعة عموماً و خصوص الكلب و عدم المخصص.

و الجواز و هو للاسكافي، و الحلّي، و ابن حمزة، و ابن علي، و الفاضل، و التنقيح، و المهذّب، و اختاره كثير ممّن تأخّر، للأصل، و العمومات، و الاشتراك مع كلب الصيد في الانتفاع المسوّغ لبيعه، و لأنّ لها ديات مقدرة، و لجواز إجارتها، و لا فارق- إلى أن قال-: فالجواز هو الأقوى و إن كان المنع أحوط. ( «2»)

و الرجوع إلى الأقوال المتشتّتة التي نقلناها عن المصادر السابقة و التي نقلها صاحب مفتاح الكرامة ( «3») يثبت عدم تحقّق الإجماع على أحد القولين، و على ذلك فما حكي عن حواشي الشهيد: انّ أحداً لم يفرّق بين الكلاب الأربعة في جواز البيع

______________________________

(1) مجمع الفائدة: 8/ 37، كتاب المتاجر.

(2) المستند: 14/ 85، كتاب المكاسب.

(3) لاحظ مفتاح الكرامة: 4/ 23- 28.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 179

و عدمه ليس في محله.

يلاحظ عليه: أنّ مقتضى القاعدة هو جواز البيع لأجل جواز الانتفاع المصحّح لجواز بيعه، خصوصاً بالنسبة إلى ما ورد في مرسل «تحف العقول» من جواز بيع ما فيه جهة من جهات الصلاح.

غير أنّ الذي أوجب العدول عن هذه القاعدة، الإطلاقات الواردة حول بيع الكلب من أنّه سحت، فالخروج عن هذه الإطلاقات يحتاج إلى مخصص و مقيّد أقوى، فلو

لم يثبت المخصص لكان العمل بالعمومات متعيّناً.

ثمّ إنّ العلّامة استدلّ في «المختلف» على الجواز بوجوه أربعة:

1. انّ الأصل هو إباحة البيع.

2. لو جاز بيع كلب الصيد، جاز بيع باقي الكلاب الأربعة، لأنّ المقتضي لجواز البيع- هو جواز الانتفاع- موجود في الجميع.

3. لأنّها تجوز إجارتها فيجوز بيعها.

4. انّ لهذه الكلاب ديات منصوصة تعرب عن ماليتها و جواز المعاوضة عليها.

أضف إلى ذلك ما رواه الشيخ في «المبسوط» مرسلًا من قوله: و روى: «انّ كلب الماشية و الحائط كذلك».

و لا يخفى ضعف الكلّ.

أمّا الأوّل: فلأنّ التمسّك بالأصل إنّما يصحّ لو لم يكن هناك عموم أو إطلاق في مقابله.

و أمّا الثاني: فلأنّ الأخذ بالمناط إنّما يصحّ إذا أحرز المقتضي، و علم عدم المانع، و لم يحرز الثاني، و لعلّ في جواز بيع غير الصيود من الكلاب مفاسد غالبة

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 180

على منافعها غير معلومة لنا، و ما أفاده المحقّق الإيرواني من أنّ هذا ليس من القياس الباطل، بل من باب إسراء الحكم بسريان مناطه و علته ( «1»)، غير تام، لأنّ العلم بالمناط فرع العلم بعدم المانع و عدم المفسدة الغالبة، و هو بعد مشكوك.

و أمّا الثالث: فلأنّ جواز الإجارة لا يكون دليلًا على جواز البيع، فانّ إجارة الحر نفسه جائزة و لا يجوز بيعه، و بيع الفواكه جائز و لا تجوز إجارتها.

و أمّا الرابع: فإنّ الدية لو لم تدلّ على عدم التملّك- و إلّا لكان الواجب القيمة كائنة ما كانت- لم تدلّ على التملّك، لاحتمال كون الدية من باب تعيين غرامة معينة لتفويت شي ء ينتفع به لا لإتلاف مال كما في إتلاف عمل الحر، هكذا أجاب عنه الشيخ الأعظم، غير أنّ في صدر

كلامه نظراً و هو «دلالة تقدير الدية على عدم التملّك» لأنّ تقديرها لا يدلّ على عدم الملكية، ففي الجناية على العبد تلزم الدية مع أنّه مملوك لمولاه و لا تتقدّر فيه القيمة، و على ذلك فالدية مشتركة بين الملك و غيره.

نعم، ما أفاده في ذيل كلامه من احتمال كون الدية من باب تعيين غرامة معينة في كمال الإتقان.

و أمّا الخامس:- أعني: مرسلة المبسوط- فليست بحجة، و لم ترد في الكتب الحديثية من الخاصة و العامة.

نظرية سيدنا الأُستاذ- دام ظله-

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ احتمل و قوّى كون مطلق الكلاب- عدا الكلاب المهملة التي تتردد في الأزقة و الأسواق ممّا زالت عنها ملكة الاصطياد و التكالب-

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 181

داخلًا في عنوان الكلب الذي يصطاد و الصيود، و لا يصح أن يقال انّها لا تصطاد، أو ليست بصيود و إن كانت للماشية و الحراسة و نحوها، فانّ الكلب ما لم تكن له ملكة الاصطياد لا يتخذ للماشية و حفظ الأغنام و نحوها.

فالكلاب على صنفين:

أحدهما: ما زالت عنها صفة التصيّد، و هي التي صارت مهملة، و لم يكن لها التكالب، و هي الكلاب المهملة الدائرة في الأزقة، أو العائشة على صدر صاحبها العياش الملاعب بها، و المؤانس معها، على تأمّل في الثانية.

و ثانيهما: ما بقيت على صفتها و ملكتها السبعية، و هي صيود و سبع بطبعها، و صادق عليها انّها تصيد و تصطاد، سواء اتّخذت للاصطياد، أو لحفظ الأغنام، أو لحراسة البلد، أو القرية أو المزارع و نحوها، فالميزان في جواز البيع هو صدق الوصف عليها، لا استعمالها في الصيد أو اشتغالها به، و الظاهر صدق العناوين على جميع الأنواع، فكلاب الأغنام و المواشي

صيود، تصيد الذئب و الغزال و غيرهما، و لو فرض- بعيداً- سلب صفة الاصطياد عن بعض ما يتخذ للحراسة يمكن الحكم بصحّة معاملته، بعدم القول بالفصل، بل و بالاستصحاب. ( «1»)

و لا يخفى انّ إدخال جميع الكلاب عدا الكلاب المهملة تحت عنوان: (الذي يصيد) لا يخلو من بعد، فإنّ هذا العنوان- نظير عنوان (كلب الصيد) الذي اعترف فيه بأنّه لا يصدق على كلب الماشية و الزرع- لا يصدق إلّا على الكلب الذي خلق على وضع خاص يقدر معه على العدو و الأخذ، و هذا غير متحقّق في الكلاب الثلاثة فإنّ أكثر هذه الكلاب ربما تتأتى منها الحراسة و لا يتأتى منها الاصطياد، لأنّ حراسة الحائط و البستان لا تتوقّف إلّا على النباح و الهجوم، و هذا لا

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني: 1/ 70.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 182

يكفي في الاصطياد، و لو صحّ ما ذكره لكان تقسيم الكلاب إلى الأقسام المختلفة أمراً غير طائل.

و مع ذلك كلّه فالحقّ جواز بيع هذه الكلاب الثلاثة، بل كلّ كلب ينتفع به بنحو من الأنحاء في الحياة، لجريان السيرة على المعاملة عليها أوّلًا، و ترتيب آثار الملكية عليها من الهبة و الوقف و الوصية ثانياً، و انّه ممّا فيه وجه من وجوه الصلاح ثالثاً، و لقوله (عليه السلام): «لا خير في الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب ماشية» رابعاً. ( «1»)

و حمله على خصوص الاقتناء دون البيع مخالف للإطلاق.

فإن قلت: أخبار حصر الجواز في كلب الصيد أخصّ من الأخبار العامّة، مثل قوله: «أو وجه من وجوه الصلاح» و مقتضى القاعدة تقديم الأوّل على الثاني لا العكس.

قلت: إنّ الأخبار العامة في مقام إعطاء الضابطة، و هي تقتضي

تقديمها على أخبار الحصر.

أضف إلى ذلك انّه يمكن حمل الحصر على الحصر الإضافي، في مقابل ما يتّخذ للأُنس و اللعب كما هو المعروف بين المترفين و أهل اللعب و الدعابة، فالمراد من حصر الجواز في الصيد، هو نفي ما يتّخذ للّعب، لا نفي الكلاب الثلاثة المفيدة التي تدور عليها رحى الحياة في المزارع و القرى و الخيام، و اللّه العالم.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 387، الباب 43 من أبواب أحكام الدواب، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 183

الثالث: بيع العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): الأقوى جواز المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه و إن كان نجساً، لعمومات البيع و التجارة الصادقة عليها.

أقول: إنّ البحث في العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه يقع في مقامات:

الأوّل: في طهارته و نجاسته، فهل هو نجس مطلقاً، أو طاهر مطلقاً، أو يُفصَّل بين ما إذا غلى بنفسه و بين ما إذا غلى بالنار، فيحكم بنجاسته في الأوّل دون الثاني، كما هو المحكي عن ابن حمزة من القدماء و شيخ الشريعة الاصفهاني من المتأخرين، و غيره من الأعلام القائلين بأنّه إذا غلى بنفسه يصير خمراً مسكراً. أو يفصل بين العصير العنبي و غيره من العصير التمري فيحكم بالنجاسة في الأوّل دون الثاني كما عن بعض الفقهاء؟ أقوال، و التحقيق و التفصيل موكول إلى محله.

الثاني: حرمة بيعه حسب القواعد العامة ( «1») فنقول:

يظهر من الشيخ في «النهاية» حرمة البيع فيما إذا غلى بنفسه، قال: و العصير لا بأس بشربه و بيعه ما لم يغل، و حدّ الغليان الذي يحرم ذلك هو أن يصير أسفله أعلاه، فإذا غلى حرم شربه و بيعه إلى أن يعود إلى كونه خلًا،

و إذا غلى

______________________________

(1) في مقابل حرمته حسب الروايات الخاصّة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 184

العصير على النار لم يجز شربه إلى أن يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه. ( «1»)

و بحكم المقابلة بين قوله: «إذا غلى بنفسه» و قوله: «إذا غلى العصير على النار» يعلم أنّ عدم جواز البيع مختصّ بالأوّل لذكره فيه دون الثاني لخلوّه عنه. ( «2»)

و يظهر من «مفتاح الكرامة» عدم الفرق بين المغليّ بنفسه و المغليّ بالنار، قال: و أمّا عصير العنب فلا ريب في عدم جواز بيعه إذا نشّ و غلى من قبل نفسه، لأنّه يصير حينئذ خمراً و لا يطهر إلّا بانقلابه خلًا كما نصّ عليه الأكثر من المتقدّمين و المصنّف (العلّامة) في رهن «التذكرة» و المحقّق الثاني في رهن «جامع المقاصد»، و قد نزّلنا عليه كلام جماعة من المتأخرين كما بيّناه في رسالتنا المسمّاة ب- «العصرة في العصير»، بل لا فرق في ذلك بين عصير العنب و عصيري التمر و الزبيب إذا نشّا و غليا من قبل أنفسهما.

و أمّا إذا غلى عصير العنب بالنار و لم يذهب ثلثاه فلا ريب في نجاسته كما بيّناه في غير موضع، بل ادّعى عليه الإجماع. و الظاهر أيضاً عدم جواز بيعه، لأنّه حينئذ خمر كما صرّح به جماعة، أو كالخمر إذا اعتدّ للتخليل كما نصّ عليه المحقّق الثاني، و هو الظاهر من عبارة «النهاية». ( «3»)

ثمّ استدلّ عليه بإطلاق خبر أبي كهمس، و إطلاق مرسل ابن الهيثم، و سيوافيك كلا الخبرين فانتظر.

و يظهر ممّا نقله الشيخ الأعظم عن المحقّق الثاني- قدس سرهما- في حاشية الإرشاد عدم جواز البيع مطلقاً، قال: و لو تنجس العصير و نحوه فهل يجوز بيعه

______________________________

(1) النهاية:

591، باب الأشربة المحظورة و المباحة.

(2) إلّا أن يقال: انّ حرمة الشرب، تلازم حرمة البيع، فاكتفى بذكر الأوّل عن الثاني، فلا يدلّ على جواز البيع في الثاني، فلاحظ.

(3) مفتاح الكرامة: 4/ 12.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 185

على من يستحله؟ فيه إشكال، و ذكر أنّ الأقوى العدم لعموم: (وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ). ( «1»)

و استظهر الشيخ الأعظم انّ المراد حرمة بيعه للشرب قبل التثليث، لا حرمة بيعه ممّن نعلم أنّه يطهره بالتثليث كما يظهر من ذكر المشتري و هو من يستحلّه، و يظهر ذلك من الدليل الذي أقامه- أعني: (وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ)- فانّ المعاونة إنّما تصدق إذا بيع ممّن يشربه نجساً لا ممّن يشربه بعد التطهير. ( «2»)

و على ذلك الاستظهار، فالمحقّق الثاني من المجوّزين مطلقاً غلى بنفسه أم بالنار، كما أنّ الشيخ في «النهاية» من المفصّلين بينهما، و ظاهر «مفتاح الكرامة» كونه من المحرمين مطلقاً.

و على كلّ تقدير فقد استدلّ على حرمة بيعه حسب القواعد الكلية بوجوه ملفّقة من كونه نجساً، و انّه محرّم الشرب، و فاقد المالية.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 185

و لا يخفى عدم تمامية هذه الوجوه:

أمّا الأوّل: فقد عرفت أنّ النجاسة بما هي ليست مانعة من البيع، و إنّما هي مانعة إذا صارت موجبةً لعدم الانتفاع منها منفعة محلّلة، و المفروض إمكان الانتفاع منه بالتطهير بالتثليث، على أنّ كونه نجساً أوّل الكلام، و شمول رواية «تحف العقول»- أعني قوله: «و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر

يكون فيه الفساد ممّا هو منهي عنه من جهة أكله و شربه ... أو شي ء فيه وجه من وجوه

______________________________

(1) المائدة: 2.

(2) و ربما يستظهر انّ مراد المحقّق من قوله: «و تنجس العصير»، هو عصير الفاكهة لا العصير العنبي إذا غلى، و الظاهر عدم إتقانه، لأنّه لا وجه لتخصيص المشتري بمن يستحله فانّ عصير الفواكه حلال عند الجميع مسلماً كان أو غير مسلم.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 186

الفساد ... أو شي ء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه»- للمتنجّس غير ثابت.

و أمّا الثاني: أعني: كونه محرّم الشرب، فيشمله النبوي المعروف، ففيه ما عرفت مراراً من أنّ النبوي ناظر إلى ما إذا كانت معظم منافع الشي ء محرمة، و كان البيع لتلك الغايات المحرمة، و كلا القيدين منتفيان في المقام.

و أمّا الثالث: أعني: عدم المالية، فغير تام، كيف و هو ممّا يبذل بازائه الثمن، و لو أتلفه الغاصب ضمن.

نعم، لو أغلاه الغاصب ضمن نقص القيمة إذا كان سبباً لنقصها، لا مطلقاً، كما يظهر من الشيخ إطلاق الضمان، سواء نقص في القيمة أم تساوت أو زادت.

الثالث: حرمة بيعه حسب الروايات، فقد استدلّ على حرمة البيع بروايات نذكرها لتعرف عدم دلالة هذه الروايات على حرمة بيع العصير العنبي المغلي بالنار و هو المطروح في المقام.

الأُولى: رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً؟ قال: «إذا بعته قبل أن يكون خمراً و هو حلال فلا بأس». ( «1»)

و لا يخفى إنّ الاستدلال به على حرمة بيع العصير قبل التثليث غير تام لوجوه:

1. الاستدلال إمّا بمفهوم القضية

الشرطية- أعني قوله: «إذا بعته»- أو بمفهوم الظرف- أعني قوله: «قبل أن يكون خمراً»-، و الأوّل بيّن البطلان، لأنّ

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 187

الشرط سيق لتحقّق الموضوع، فلو لم يكن هناك بيع، لم يكن هناك موضوع حتّى يترتب عليه الحكم، و الثاني أشبه شي ء بالتمسّك بمفهوم اللقب منه.

2. انّ مفهومه على فرض الثبوت هو وجود البأس إذا باع بعد أن يكون خمراً، و هو ليس صريحاً في الحرمة.

3. أضف إلى ذلك انّ المتكلّم في مقام بيان حكم المنطوق دون المفهوم، فلا يمكن الأخذ بإطلاق المفهوم و الحكم بحرمته مطلقاً إذا باع بعد أن يكون خمراً مع وجود القدر المتيقن في المقام، و هو انّه إذا باع ممّن يطبخه و يجعله بختجاً ( «1»)، أو يجعله خمراً صناعياً.

و يظهر من بعض الروايات انّ «البختج» كان على قسمين: قسم كان حلالًا يجوز شربه، و القسم الآخر ما يقابله و لا يجوز شربه؛ و لعلّ أكثر استعمال البختج في القسم الثاني الذي يقال له في الفارسية «مى پخته»، و يشهد لذلك ما رواه معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث و أنا أعرف انّه يشربه على النصف أ فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟ فقال: «لا تشربه». قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحلّه على النصف يخبرنا أنّ عنده بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال: «نعم». ( «2»)

4. هذا كلّه مع غض

البصر عن ضعف الرواية عند المشهور بعلي بن أبي حمزة و قاسم بن محمد.

5. احتمل الشيخ (قدس سره) انّ الرواية و ما يليها راجعة إلى البيع للشرب بدون

______________________________

(1) البختج: معرب مى پخته.

(2) الوسائل: 17/ 234، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 188

الإعلام، و إن كان هذا الحمل بعيداً عن مساق الأخبار.

6. احتمل المحقّق الشهيدي في تعليقته انّها- و ما سيأتي- سيقت للنهي عن بيع العصير إذا غلى بنفسه و صار خمراً و مسكراً، و سيوافيك بيانه أيضاً.

الثانية: رواية أبي كهمس قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن العصير فقال: لي كرم و أنا أعصره كلّ سنة و أجعله في الدنان ( «1») و أبيعه قبل أن يغلي؟ قال: «لا بأس به، و إن غلى فلا يحل بيعه»، ثمّ قال: «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً». ( «2»)

غير أنّه لا يمكن الاحتجاج بها لاحتمال أن يكون المراد من الغليان هو الإسكار من باب ذكر السبب و إرادة المسبب، و على ذلك تكون الرواية راجعة إلى غليان العصير بنفسه لا بالنار، أضف إلى ذلك انّه يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى حرمة بيع العصير للشرب بلا إعلام، لأجل ان سقي المسلم المتنجّس حرام، و أمّا حرمة بيعه للدبس فلا يستفاد منه.

و احتمل سيدنا الأُستاذ- دام ظلّه- بل جزم بأنّ هذه الرواية و ما شابهها متعرّضة لمسألة أُخرى، و هي ما يأتي الكلام فيها إن شاء اللّه من بيع العصير ممّن يعلم

______________________________

(1) جمع الدن- بفتح الدال و تشديد النون- كهيئة الحب إلّا أنّه أطول منه و أوسع رأساً، و الجمع الدنان بكسر الدال

و تخفيف النون.

(2) الوسائل: 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 189

أنّه يجعله خمراً، و هي غير ما نحن بصدده، أعني: أنّ العصير بما انّه حرام أو نجس هل يجوز بيعه أم لا؟، يباع ممّن يجعله خمراً أو خلًا أو دبساً، و هذه الروايات أجنبية عن مسألتنا خصوصاً بملاحظة ذيل هذه الرواية «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً»، فانّ الظاهر منها انّ السؤال كان عن بيع العصير ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «هو ذا»- أي عملك نحو عملنا- نحن أيضاً نفعل ذلك، و لعلّ بيع العصير ممّن يجعله خمراً كان معهوداً متعارفاً فحمل عليه السؤال. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ الذيل و إن كان ظاهراً في المسألة التي أشار إليها، لكن صدرها لا يلائم ما ذكره حيث يفصل بين قبل الغليان و بعده، فيحكم بالجواز في الأوّل و بالحرمة في الثاني، و على كلّ تقدير فالرواية ضعيفة لأجل «أبي كهمس».

الثالثة: رواية أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) و سئل عن الطلا؟ فقال: «إن طبخ حتى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال، و ما كان دون ذلك فليس فيه خير». ( «2»)

و الاستدلال بها مبني على أنّ الخير المنفي يعمّ الشرب و البيع.

و فيه ضعف، لأنّ الطلا، الخمر المسكر، و العصير إذا لم يطبخ و ترك حتى تخمّر اشتدّ إسكاره، و إذا طبخ على النصف أو الثلث ثمّ ترك مدة تخمّر أيضاً لكنّ فيه إسكاراً ضعيفاً، و كلّما زيد طبخه قلّ إسكاره حتّى يذهب ثلثاه فلا يتخمّر حينئذ و إن مكث شهوراً.

و

على ذلك فالرواية ناظرة إلى كيفية خارجية في وضع العصير، و انّه إنّما لا يتخمّر إذا ذهب منه اثنان و بقي واحد، و ما دون ذلك فليس فيه خير لاشتماله على الإسكار الضعيف، فالرواية ناظرة إلى جواز الشرب و عدمه لا جواز البيع و عدمه.

و قال بعض المحقّقين: و إنّما حدّد الشارع بهذا الحد- ذهاب الثلثين- و لم

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 85.

(2) الوسائل: 17/ 226، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 190

يحله على العرف، لأجل أنّ الإسكار الضعيف في العصير المتخمّر بعد الطبخ يصير مثاراً للشك و الوسوسة، و جعل الحدّ في ذلك ذهاب الثلثين حسماً للنزاع. ( «1»)

الرابعة: مرسلة محمد بن الهيثم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته أ يشربه صاحبه؟ فقال: «إذا تغيّر عن حاله و غلى فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه». ( «2»)

و المراد من قوله: «حتى يغلي من ساعته» إذا طبخ العصير بالنار و ترك بعد الطبخ حتّى غلى بنفسه، و عندئذ بما أنّه لم يذهب ثلثاه، يشرع بالتخمّر، فأجاب الإمام (عليه السلام) بأنّه لا يصلح للشرب: «إذا تغيّر عن حاله و غلى حتّى يذهب ثلثاه». و هذا الحديث، كالحديث السابق ناظر إلى الشرب، و لا إطلاق في قوله (عليه السلام): «فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه» بالنسبة إلى البيع، فعلى ذلك فالتغيّر في العصير مبدأ للغليان، و الغليان علّة للإسكار، فلأجل ذلك قال (عليه السلام): «إذا تغيّر عن حاله و غلى فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه»، على أنّ الرواية مرسلة، فهذه الروايات ممّا لا يمكن إثبات

حرمة البيع بها.

و قصارى الكلام في هذه الروايات أنّ مفادها خارج عمّا نحن بصدده، بل راجعة إلى موارد أُخر:

1. إمّا راجعة إلى صورة الغليان بنفسه أو بالشمس الموجب للإسكار، فلا يعمّ المقام الذي هو عبارة عن صورة الغليان بالنار قبل ذهاب الثلثين و الذي لا إسكار فيه، أو فيه إسكار ضعيف كما هو التحقيق.

______________________________

(1) تعليقة الشهيدي: 25.

(2) الوسائل: 17/ 226، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 191

2. أو راجعة إلى البيع لأجل الشرب من دون إعلام، فتكون الحرمة من باب كون سقي النجس حراماً.

3. أو راجعة إلى من يصنعه خمراً، كما هو المختار عند سيدنا الأُستاذ- دام ظله- و على كلّ تقدير فهي خارجة عمّا نحن بصدده من بيعه لمن يصنعه دبساً و يشربه بعد التثليث كما لا يخفى.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 192

الرابع: الانتفاع بالدهن المتنجس بالاستصباح و بيعه له
اشارة

قال الشيخ الأعظم: تجوز المعاوضة على الدهن المتنجّس على المعروف من مذهب الأصحاب. و جعل هذا من المستثنى من بيع الأعيان النجسة مبني على المنع من الانتفاع بالمتنجّس إلّا ما طرح بالدليل، أو على المنع من بيع المتنجّس و إن جاز الانتفاع به نفعاً مقصوداً محلّلًا و إلّا كان الاستثناء منقطعاً.

يلاحظ عليه: أنّ الاستثناء منقطع مطلقاً، سواء أقلنا بمنع الانتفاع بالمتنجس أم لا، و سواء أقلنا بمنع بيع المتنجس أم لا، لأنّ البحث حسب عنوان الشيخ هو الأعيان النجسة التي تعد نجسة بالذات لا الأعيان المتنجّسة، فالبحث عن الثاني مطلقاً بحث استطرادي.

ثمّ إنّ الكلام يقع في موارد:

الأوّل: جواز الانتفاع بالاستصباح

قال الشيخ في «الخلاف»: يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السماء.

و قال أبو حنيفة: يجوز بيعه مطلقاً.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 193

و قال مالك و الشافعي: لا يجوز بيعه بحال.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم. ( «1»)

و قال في «المبسوط»: يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السماء، و لا يجوز إلّا لذلك. ( «2»)

و قال المحقّق في «الشرائع»: فالمحرّم أنواع: الأوّل: الأعيان النجسة كالخمر ... و كلّ مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح تحت السماء. ( «3»)

و قال العلّامة في «التذكرة»: الثالث: الأليات المقطوعة من الشاة الميتة ... أمّا الدهن النجس بملاقاة النجاسة له فيجوز بيعه لفائدة الاستصباح به تحت السماء خاصة، و للشافعي قولان: أحدهما: لا يجوز تطهيره فلا يصحّ، و به قال مالك و أحمد؛ و الثاني: يجوز تطهيره، ففي بيعه عنده وجهان. ( «4»)

و قال ابن رشد في «بداية المجتهد»: و من هذا الباب اختلافهم في بيع الزيت النجس و ما ضارعه بعد اتّفاقهم على تحريم أكله، فقال مالك: لا

يجوز بيع الزيت النجس، و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة: يجوز إذا بيّن، و به قال ابن وهب من أصحاب مالك. ( «5»)

و قال ابن قدامة: و إذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن و ما أشبهه نجس، و استصبح به ان أحبّ، و لم يحل أكله و لا ثمنه.

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 83.

(2) المبسوط: 2/ 167، كتاب البيوع.

(3) الشرائع: 2/ 9، كتاب التجارة، فصل فيما يكتسب به.

(4) التذكرة: 10/ 32 ضمن فروع المسألة 11، فصل في العوضين.

(5) بداية المجتهد: 2/ 126. و هذه الكلمات كما هي دليل على جواز البيع دليل على جواز الانتفاع بطريق أولى.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 194

و قال أيضاً: إذا استصبح بالزيت النجس فدخانه نجس، لأنّه جزء يستحيل منه. ( «1»)

و يدلّ على جواز الانتفاع عدّة نصوص:

1. ما رواه معاوية بن وهب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قلت: جرذ، مات في زيت أو سمن أو عسل، فقال: «أمّا السمن و العسل فيؤخذ الجرذ و ما حوله، و الزيت يستصبح به». ( «2»)

و هذه الرواية نقلها الكليني في «الكافي»، و هي تدلّ على جواز الانتفاع، و لها ذيل نقله الشيخ في «التهذيب» يدلّ على جواز البيع كما سيوافيك.

2. ما رواه زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه، فإن كان جامداً فألقها و ما يليها، و إن كان ذائباً فلا تأكله و استصبح به، و الزيت مثل ذلك». ( «3»)

3. ما رواه الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الفأرة و الدابة تقع في الطعام و الشراب فتموت فيه؟ فقال: «إن كان سمناً أو عسلًا أو زيتاً فانّه ربّما

يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله و كله، و إن كان الصيف فارفعه حتى تسرج به، و إذا كان ثرداً فاطرح الذي كان عليه، و لا تترك طعامك من أجل دابة ماتت عليه». ( «4»)

4. ما رواه سعيد الأعرج، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)- في حديث- انّه سأله عن الفأرة تموت في السمن و العسل. فقال: «قال علي (عليه السلام): خذ ما حولها و كل بقيته».

______________________________

(1) المغني: 11/ 86- 88، الطبعة الثالثة.

(2) الوسائل: 16/ 364، الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 1 و 3.

(3) الوسائل: 16/ 364، الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 1 و 3.

(4) الوسائل: 16/ 375، الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 195

و عن الفأرة تموت في الزيت؟ فقال: «لا تأكله، و لكن أسرج به». ( «1»)

5. ما رواه في «المستدرك» قال: «قال علي (عليه السلام): في الزيت و السمن إذا وقع فيه شي ء له دم فمات فيه، استسرجوه». ( «2»)

هذا كلّه في الانتفاع، و قد عرفت جوازه فتوى و نصاً. و يقع الكلام في المورد الثاني، أعني: جواز البيع.

الثاني: في جواز بيعه
اشارة

و قد عرفت من كلمات القوم عند البحث عن الانتفاع جواز البيع لأجل الاستصباح فهو ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في إطلاقه، و النصوص في ذلك مختلفة و على أقسام، و إليك بيانها:

الف: ما يدلّ على جواز البيع مع لزوم الإعلام، مثل:

1. رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه؟ فقال: «إن كان جامداً فتطرحها و ما حولها و يؤكل ما بقي، و إن كان

ذائباً فأسرج به، و أعلمهم إذا بعته». ( «3»)

2. رواية الشيخ، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، في جرذ مات في زيت ما تقول في ذلك؟ فقال: بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به». ( «4»)

و قد تقدّمت رواية الكليني عن معاوية بن وهب في جواز الانتفاع بالزيت لأجل الاستصباح، و ليس فيها شي ء عن جواز البيع.

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 375، الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 5.

(2) المستدرك: 13/ 73، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) الوسائل: 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(4) الوسائل: 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، و الجرذ هو الذكر من الفأر.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 196

و هل هذه الرواية و ما رواه الكليني روايتان مستقلتان، أو رواية واحدة حصل التقطيع بينهما، فروى الكليني صدرها في كتاب الأطعمة الباب 14، و روى الشيخ ذيلها في باب الغرر من كتاب التجارة؟

نعم رواها الشيخ في «التهذيب» في الذبائح و الأطعمة جامعاً بين ما نقله الكليني و ما رواه هو نفسه في كتاب التجارة حيث قال بعد نقل ما رواه الكليني: و قال في بيع ذلك الزيت: «تبيعه و تبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به». ( «1») فعلم من ذلك أنّ الشيخ الطوسي نقل تارة بالنقل باللفظ كما في باب الغرر من كتاب التجارة ( «2»)، و أُخرى بالنقل بالمعنى كما في كتاب الذبائح و الأطعمة.

نعم يرد على الشيخ الأعظم انّه نقل رواية الحلبي باسم رواية سعيد الأعرج.

3. رواية «قرب الاسناد»، عن إسماعيل بن عبد الخالق، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سأله سعيد

الأعرج السمّان- و أنا حاضر- عن الزيت و السمن و العسل تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به؟ قال: «أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج، و أمّا السمن فإن كان ذائباً فهو كذلك، و إن كان جامداً و الفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها ثمّ لا بأس به، و العسل كذلك إن كان جامداً». ( «3»)

4. و ما رواه في «المستدرك» عن الجعفريات: انّ عليّاً (عليه السلام) سئل عن الزيت يقع فيه شي ء له دم فيموت؟ قال: «الزيت خاصة يبيعه لمن يعمله صابوناً». ( «4») و دلالته على لزوم الإعلام بالالتزامية.

______________________________

(1) التهذيب: 9/ 85، رقم الحديث 359.

(2) التهذيب: 7/ 129، باب الغرر، رقم الحديث 563.

(3) الوسائل: 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(4) المستدرك: 13/ 72، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 197

ب: ما يدلّ على جواز البيع مطلقاً من غير تقييد بالإعلام مثل:

1. ما رواه في «قرب الاسناد» عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: و سألته عن فأرة وقعت في حب دهن فأُخرجت من قبل أن تموت أ يبيعه من مسلم؟ قال: «نعم و يدهن به». ( «1»)

2. و في «الجعفريات» باسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أنّ عليّاً سئل عن الزيت ... قال: «يبيعه لمن يعمله صابوناً». ( «2»)

ج: ما يدلّ على عدم جواز بيعه من مسلم، مثل:

1. ما رواه في «قرب الاسناد» عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فأرة؟ قال: «لا تدهن به، و لا تبعه من مسلم».

( «3»)

2. و في «المستدرك» عن «الجعفريات» أنّ علياً (عليه السلام) قال: «في الخنفساء و العقرب و الصرد إذا مات في الإدام فلا بأس بأكله، قال: و إن كان شيئاً مات في الإدام و فيه الدم في العسل أو في الزيت أو في السمن فكان جامداً جنبت ما فوقه و ما تحته ثمّ تؤكل بقيته، و إن كان ذائباً فلا يؤكل، يستسرج به و لا يباع». ( «4»)

3. و عن «دعائم الإسلام» عنهم (عليهم السلام): «إذا أخرجت الدابة حيّة و لم تمت في الإدام لم ينجس و يؤكل، و إذا وقعت فيه فماتت لم يؤكل و لم يبع و لم يشتر». ( «5»)

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ تعارض الروايات يرتفع بتقييد بعضها ببعض.

توضيحه: أمّا القسم الأوّل فيدلّ على جواز البيع بقيد الإعلام، فنأخذ به لصحّة بعض رواياته، مضافاً إلى كونه المفتى به بين الأصحاب.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 69، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) المستدرك: 13/ 72، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(3) الوسائل: 12/ 69، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(4) المستدرك: 13/ 71 و 72، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 5.

(5) المستدرك: 13/ 71 و 72، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 198

و أمّا القسم الثاني فيقيّد إطلاقه بالقسم الأوّل، على أنّه يمكن أن يقال: انّ قوله في رواية «قرب الاسناد»: «نعم و يدهن به» يدلّ بالدلالة الضمنية على لزوم الإعلام، لأنّ استعمال المشتري الزيتَ النجس في خصوص الادهان يتوقّف على العلم بالموضوع و أنّه نجس، و لا يحصل

ذلك العلم غالباً إلّا بإخبار البائع، أو علم المشتري بالنجاسة مستقلًا، و هو يغني عن إعلام البائع.

و مثله ما في «الجعفريات» حيث يقول: «يبيعه لمن يعمله صابوناً» فإنّ بيعه لخصوص هذا المورد فرع الإعلام، أو سبق علم المشتري بالنجاسة، فتأمّل.

و أمّا القسم الثالث: فيحمل على النهي عن بيعه بلا إعلام، و بما أنّ النهي في رواية «قرب الاسناد» مقيّد بقوله: «من مسلم» يستفاد منه جواز بيعه من كافر مطلقاً، و يترتب على ذلك كون وجوب الإعلام مخصوصاً بما إذا لم يقف المشتري على نجاسته، و أمّا إذا كان واقفاً عليه من قبل، أو كان ممّن لا يبالي بالحرام فيأكل الزيت النجس كالزيت الطاهر، فالإعلام غير واجب، لعدم ترتّب الأثر عليه، لأنّه لأجل التحفّظ من اقتراف الحرام و هو: إمّا حاصل بلا إعلام، أو غير حاصل معه.

ثمّ إنّ الكلام يقع في موارد:

الأوّل: هل صحّة بيع الدهن النجس مشروطة باشتراط الاستصباح صريحاً في متن العقد، أو مشروطة بقصدهما لذلك، أو لا يشترط مطلقاً، أو يفصّل بين ما تكون المنفعة المحلّلة نادرة لا تلاحظ في ماليته كما في الاستصباح بدهن اللوز، و بين غيره ممّا تكون من منافعه الغالبة كالزيت النجس فيعتبر في الأوّل دون الثاني؟

نُسب الأوّل إلى الحلّي، لأنّه قال: «و يجوز بيعه بهذا الشرط عندنا» ( «1»). غير أنّ

______________________________

(1) السرائر: 2/ 22.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 199

سيدنا الأُستاذ- دام ظله- استظهر عدم الدلالة، لاحتمال أن يكون نظره إلى أنّ الجواز مع الاشتراط إجماعي كما يظهر من قوله: «عندنا» و لم يحرز الإجماع على الصحّة في غير الصورة، و لا يدلّ ذلك على أنّ مختاره لزوم الاشتراط، بل لا يدلّ على وجود القائل بالاشتراط،

لأنّ دعوى الإجماع على جوازه مع الاشتراط لا تدلّ على وجود الخلاف في غيره، و لعلّ الأصحاب لم يتعرّضوا له فلم يحرز الإجماع و لا الخلاف. ( «1»)

و لا يخفى بُعْد الاستظهار، لأنّ المفهوم من عبارته هو عدم الجواز عندنا بلا هذا الشرط، لا ما ذكره دام ظله، فتدبّر.

و استظهر الشيخ الأعظم (قدس سره) من عبارة «الخلاف» التي مرّت، و من عبارة كلّ من عبّر عن المسألة بقول: «جاز بيعه للاستصباح»، كما في «الشرائع» و «القواعد» اشتراط قصد الاستصباح، و لكنّه قابل للمناقشة، لاحتمال أن يكون التعليل راجعاً إلى بيان وجه الجواز، يعني انّ جواز البيع لأجل وجود الفائدة و هي جواز الاستصباح كما استظهره المحقّق الثاني (قدس سره).

و على كلّ تقدير، فالظاهر عدم لزوم الاشتراط لا لفظاً و لا قصداً، لأنّ الملاك في جواز البيع اشتمال المبيع على المنفعة المحلّلة التي تصحّح كون بذل المال في مقابلها معاوضة عقلائية لا سفهية، و لا دليل على لزوم قصد تلك المنفعة المحلّلة، بل لو قصد البائع أو المشتري عند وجود منفعة محلّلة، الانتفاع بالمنفعة المحرمة لصحّ أيضاً، لأنّ المجوّز وجود المنفعة المحلّلة حتّى تكون المعاملة عقلائية لا سفهية، و قصد المنفعة المحرمة مع وجود المحلّلة لا يوجب خروج المعاملة عن الإطلاقات، فمن اشترى السكين لأجل قتل الإنسان لا يحرم اشتراؤه بالذات،

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 88.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 200

و إن حرم لأجل عنوان آخر، و تصوّر كون تلك المعاملة أكلًا للمال بالباطل قد عرفت جوابه غير مرّة، فانّ الآية راجعة إلى الأسباب التي لم ينفِّذها الشرع كالقمار، و المنابذة و غيرهما.

و مع ذلك كلّه فالقول بالصحّة في صورة وجود المنفعة المحلّلة و قصد

الانتفاع بالمحرّم لا يخلو من مخالفة للعمومات المتقدّمة و مذاق الشارع. و الأولى الاقتصار في جواز البيع على كفاية نفس وجود المنافع المحلّلة بلا لزوم قصدها. و أمّا الجواز مع قصد المنافع المحرّمة فهو مخالف لما علم من الشرع.

و الحاصل: انّه لو كان الشي ء ذا منفعة محلّلة و محرّمة و لم يكن اشتماله على المنفعة المحرمة موجباً لسقوطه عن المالية، و إن كان موجباً لقلّة ماليته كما في الدهن النجس، صحت المعاملة على المبيع، لأنّه في حدّ ذاته مشتمل على منفعة محلّلة، بل يمكن أن يقال: انّ قصد الانتفاع بالمنافع المحرّمة لا يوجب فسادها، لأنّ قصد الانتفاع بمحلّلها ليس له دخل في المالية و لا دخل في ماهية المعاملة، فلا يكون قصد المنفعة المحرمة موجباً لسقوطها عن المالية، على إشكال كما عرفت.

نعم، لو كانت المنفعة المحلّلة في جنب المحرّمة طفيفة لا توجب وصف الشي ء بالمالية، و يكون بذل الثمن في مقابله أمراً سفهياً فلا يصحّ بيعه لا بنحو الإطلاق و لا بلحاظ المنفعة المحلّلة إذا كان بذل الثمن في مقابله أمراً سفهياً.

نعم، لو كان الثمن مساوياً لقيمته لما كان هناك منع عن بيعه، و من هنا يظهر النظر في ما أفاده الشيخ الأعظم من اعتبار قصد الاستصباح إذا كانت المنفعة المحلّلة منحصرة فيه، و كانت من منافعه النادرة التي لا تلاحظ في ماليته كما في دهن اللوز و البنفسج، وجهه: أنّ مالية الشي ء إنّما هي باعتبار منافعه المحلّلة المقصودة منه لا باعتبار مطلق الفوائد غير الملحوظة في ماليته، و لا باعتبار

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 201

الفوائد الملحوظة المحرّمة، فإذا فرض انّه لا فائدة في الشي ء محلّلة ملحوظة في ماليته، فلا يجوز بيعه

على الإطلاق، لأنّ الإطلاق ينصرف إلى كون الثمن بإزاء المنافع المقصودة منه، و المفروض حرمتها، فيكون أكلًا للمال بالباطل، و لا على قصد الفائدة النادرة المحلّلة، لأنّ قصد الفائدة النادرة لا يوجب كون الشي ء مالًا». ( «1»)

وجه النظر، انّ مطلق الفائدة المحلّلة كاف في مالية الشي ء سواء أ كانت غالبة أم نادرة، غاية الأمر كون المنفعة غالبة يوجب غلاء قيمتها، كما أنّ كونها نادرة يوجب قلّة قيمتها، لا أنّ ملاك المالية منحصر بالمنفعة المحلّلة الغالبة كما يظهر من كلامه (قدس سره)، ففي ما تكون المنفعة المحلّلة مستهلكة مغفولًا عنها غالباً، يجب أن يكون الثمن معادلًا في العرف لقيمة الشي ء باعتبار منافعه النادرة، و ربّما تكون المنفعة المباحة النادرة مرغوباً فيها، و هي تصحّح جواز المعاملة من غير لزوم اعتبار كون المنفعة غالبة.

نعم، إنّما تبطل المعاملة في مقابل المنفعة النادرة إذا كانت المعاملة سفهية و لم يكن الثمن معادلًا للمنفعة. هذا كلّه حسب القواعد.

و أمّا حسب الروايات فقد أفاد الشيخ أنّ الأخبار المتقدّمة خالية عن اعتبار قصد الاستصباح، لأنّ موردها ما يعدّ الاستصباح منفعة مقصودة من البيع كافية في ماليته العرفية، و ربما يتوهّم من قوله (عليه السلام) في رواية الأعرج المتقدّمة: «فلا تبعه إلّا لمن تُبيّن له فيبتاع للسراج» اعتبار القصد.

و يدفعه: انّ الابتياع للسراج إنّما جعل غاية للإعلام، بمعنى انّ المسلم إذا اطّلع على نجاسته، فيشتريه للإسراج، نظير قوله (عليه السلام) في رواية معاوية بن وهب: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به». ( «2»)

______________________________

(1) المكاسب: 9، طبعة تبريز.

(2) الوسائل: 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 202

ثمّ إنّ الظاهر كما عليه الشيخ الأعظم

(قدس سره) انّ قوله (عليه السلام): «ليستصبح به» غاية للتبيين لا للبيع، و المراد يبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به، و ليس غاية لقوله: «بعه» بأن يكون المراد «بعه ليستصبح به»، و تعلّق الغاية بكلا الفعلين بعيد كتعلّقه بالبعيد.

نعم، ظاهر رواية إسماعيل بن عبد الخالق، عن سعيد الأعرج، عنه (عليه السلام) أنّ لفظ «للسراج» في قوله (عليه السلام): «فيبتاع للسراج» غاية لكلا الفعلين، أي «فلا تبعه إلّا لمن تُبيّن له» و لكنّه لا يخرج عن حدّ الإشعار.

و الظاهر من مجموع روايات الباب انّ لزوم التبيين لأجل تحرز المشتري عن أكله، من غير دخل لقصد الاستصباح في صحّة المعاملة.

الثاني: قد وقع الخلاف بين الفقهاء في وجوب إعلام المشتري و عدم وجوبه، فهل يجب مطلقاً، أو فيما إذا كان المشتري مريداً لاستعماله فيما يشترط فيه الطهارة أو لا يجب مطلقاً؟ و على فرض الوجوب، فهل وجوبه نفسي أو شرطي، بمعنى اعتباره في صحّة المعاملة؟

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم: ذهب إلى أنّه لو قلنا في المسألة السابقة بوجوب قصد الاستصباح و نحوه، يجب الإعلام، لتوقّف اشتراطه لفظاً أو قصداً على العلم بالنجاسة المتوقّف على الإعلام.

يلاحظ عليه: أنّه ربّما لا يتوقّف قصد الاستصباح على الإعلام، كما إذا دلّت القرائن المفيدة للعلم بأنّه لا يشتريه إلّا لغاية الاستصباح، و مع ذلك يمكن البحث في وجوب الإعلام و عدمه و إن لم يتوقّف قصد الاستصباح على الإعلام.

و على أيّ تقدير، لا شكّ انّ ظاهر الأخبار هو وجوب الإعلام، إنّما الكلام في كون وجوبه نفسياً، و الغرض منه صيانة المشتري عن استعمال النجس فيما

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 203

يشترط فيه الطهارة و إن لم تتوقف صحّة المعاملة عليه، أو وجوبه شرطياً

لتوقّف صحّة المعاملة عليه.

و تظهر الفائدة بين القولين في موردين:

1. على القول بالوجوب الشرطي تبطل المعاملة مع عدم الإعلام بخلافه على القول بوجوبه النفسي.

2. على القول بالشرطية يجب الإعلام و إن علمنا أنّ المشتري لا ينتفع به فيما يحرم الانتفاع به، بخلافه على القول بالنفسية فانّ الغاية من الإعلام صون المشتري عن الورود في الحرام لو لا البيان، فإذا دلّت القرائن على وجود الغاية من دون بيان فلا وجه للإعلام.

نعم، رواية أبي بصير: «و أعلمهم إذا بعته» ( «1») ظاهرة في الوجوب الشرطي، فانّ لزوم الإعلام مقارناً مع البيع دليل الشرطية.

و لا يخفى ضعف الدلالة، لصدق قوله (عليه السلام): «و اعلمهم إذا بعته» فيما إذا أخّر البيان إلى زمان تفرّق المشتري و البائع، و نظيره قوله (عليه السلام) في رواية إسماعيل بن عبد الخالق: «فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج» ( «2») لصدقه و إن تأخّر البيان عن البيع، و معه لا مجال لتوهّم الوجوب الشرطي.

أضف إلى ذلك انّ قوله (عليه السلام): «يبتاع للسراج» غاية للبيان، و يفيد أنّك ان بيّنته فهو يبتاعه للسراج و يستعمله فيه، و على ذلك فوجوب الإعلام فيما إذا دلّت القرائن على أنّه لا يستعمله إلّا في الاستصباح، أو إذا كان المشتري غير مبال، يكون لغواً، لعدم ترتب فائدة عليه، و كلّ ذلك يؤيد الوجوب النفسي لا الشرطي، غاية الأمر انّه يجب إذا ترتبت عليه فائدة.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(2) الوسائل: 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 204

قاعدة حرمة تغرير الجاهل

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) جعل المورد من فروع قاعدة

حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع في المحرّمات، و استدلّ عليه بروايات:

أمّا الحكم مثل ما دلّ على أنّ من أفتى بغير علم لحقه وزر من عمل بفتياه، فالمفتي يحمل وزرين: وزر نفسه، و وزر العامل به عن جهل.

و بعبارة أُخرى: انّ إثبات الوزر للمباشر من جهة فعل القبيح الواقعي، و حمله على المفتي من حيث التسبيب و التغرير، قال أبو جعفر (عليه السلام): «من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه». ( «1»)

و أمّا الموضوع: فتدلّ عليه عدّة روايات:

1. روى معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) أ يضمن الإمام صلاة الفريضة؟ فانّ هؤلاء يزعمون أنّه يضمن. فقال: «لا يضمن، أي شي ء يضمن إلّا أن يصلّي بهم جنباً أو على غير طهر». ( «2»)

2. ما رواه عباية قال: كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر: «انظر يا محمد صلاتك كيف تصلّيها لوقتها؟ فانّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاته نقص إلّا كانت عليه و لا ينقص ذلك من صلاتهم». ( «3»)

3. و رواه في «تحف العقول» بصورة أُخرى و هي: «ثمّ انظر صلاتك كيف هي؟ فانّك إمام، و ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلّا كان

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 9، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، فقد روى صاحب الوسائل في هذا المورد 36 حديثاً.

(2) الوسائل: 5/ 434، الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.

(3) البحار: 85/ 92- 93، كتاب الصلاة من أبواب أحكام الجماعة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 205

عليه أوزارهم، و لا ينقص من

صلاتهم شي ء، و لا يتمّها إلّا كان له مثل أُجورهم، و لا ينتقص من أُجورهم شي ء، و اعلم أنّ كلّ شي ء من عملك تابع لصلاتك، و اعلم أنّه من ضيّع الصلاة فانّه لغير الصلاة من شرائع الإسلام أضيع». ( «1»)

4. ما دلّ على أنّه لا يجوز سقي الخمر صبيّاً و لا مملوكاً و لا كافراً كما رواه أبو الربيع الشامي قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن الخمر؟ فقال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): إنّ اللّه عزّ و جلّ بعثني رحمة للعالمين و لأُمحق المعازف و المزامير و أُمور الجاهلية و الأوثان، و قال: أقسم ربّي لا يشرب عبد لي خمراً في الدنيا إلّا سقيته مثل ما يشرب منها من الحميم معذباً أو مغفوراً له، و لا يسقيها عبد لي صبياً صغيراً أو مملوكاً إلّا سقيته مثل ما سقاه من الحميم يوم القيامة معذباً أو مغفوراً له». ( «2»)

5. ما دلّ على كراهة سقي الخمر البهيمة مثل ما رواه غياث، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كره أن تسقى الدواب الخمر». ( «3»)

نعم، هذه الرواية الأخيرة تدلّ على كراهة و لا يستفاد منها التحريم بالنسبة إلى الإنسان بل غايته انّه تشتد كراهته.

6. ما دلّ على حرمة بيع المختلط إلّا من المستحل: مثل ما رواه الحلبي قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إذا اختلط الذكي بالميت باعه ممّن يستحل الميتة، و أكل ثمنه». ( «4»)

7. ما دلّ على حرمة إطعام المرق للإنسان، مثل ما رواه زكريا بن آدم قال:

______________________________

(1) البحار: 85/ 92- 93، كتاب الصلاة من أبواب أحكام الجماعة.

(2) الوسائل: 17/ 245، الباب

10 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1، و لاحظ الحديث 2 و 3.

(3) الوسائل: 17/ 246، الباب 10 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4، و لاحظ الحديث 5.

(4) الوسائل: 16/ 370، الباب 36 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1، و لاحظ الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 206

سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير، قال: «يهراق المرق، أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله». ( «1»)

8. ما رواه في «الجعفريات» عن علي (عليه السلام)، أنّه سئل عن شاة مسلوخة و أُخرى مذبوحة عُمّيَ على الراعي أو على صاحبها فلا يدري الذكية من الميتة؟ قال: «يرمي بهما جميعاً إلى الكلاب». ( «2»)

فقد استدلّ الشيخ بهذه الروايات على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع، و أيّده بقوله: إنّ أكل الحرام و شربه من القبيح و لو في حقّ الجاهل، و لذا يكون الاحتياط فيه مطلوباً مع الشكّ، إذ لو كان للعلم دخل في قبحه لم يحسن الاحتياط، و حينئذ يكون إعطاء النجس للجاهل المذكور إغراء بالقبيح، و هو قبيح عقلًا. ( «3»)

و ما ذكره لا غبار عليه خصوصاً بالنسبة إلى ما ذهبت إليه العدلية من كون الأحكام مشتملة على المناطات و المصالح و المفاسد، فإغراء الجاهل بالحكم أو الموضوع مفوّت لغرض المولى و موجب لوقوع الجاهل في المفسدة، و كلاهما قبيح، و ليست المصلحة و المفسدة تابعتين لعلم المكلّف أو جهله، فانّ الدواعي لجعل الأحكام إنّما هي نفس الملاكات من غير دخالة لعلم المكلّف أو جهله بها.

غير أنّ الذي يمكن أن يقال في المقام هو: انّ إغراء الجاهل

بالحكم يرجع إلى ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل يمكن أن يقال: أنّه يرجع إلى النهي عن المعروف و الأمر بالمنكر، و هو حرام بلا إشكال.

______________________________

(1) الوسائل: 2/ 1056، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 8.

(2) المستدرك: 13/ 73، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) المكاسب: 1/ 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 207

و أمّا إغراء الجاهل بالموضوع، فإن كان للعالم دخل في إغراء الجاهل بنحو من أنواع التدخّل من التسبيب، و إيجاد الشرط، أو الداعي، أو رفع المانع، أو غير ذلك من أنواع التدخّل، كان ذلك حراماً، فمن قدّم طعاماً نجساً إلى الجاهل به يكون له دخل في صدور هذا الفعل المحرّم من الجاهل، فانّ الحكم في حقّ الجاهل و إن كان غير منجّز لجهله، إلّا انّا نعلم أنّ الشارع الحكيم غير راض بتفويت الأغراض و اقتراف المفاسد.

نعم، لو لم يكن هناك تدخل من العالم فهو على قسمين، فربما يكون الموضوع ممّا نعلم أنّ الشارع قد أعطى له أهمية خاصة لا يرضى بترك مطلوبه حتّى أنّه أمر الشاك بالاحتياط فيه كالدماء و الأعراض و الأموال، فعندئذ يجب على العالم إعلام الجاهل، فلو انجرّ سكوته إلى قتل البري ء و هتك العرض أو نهب المال، يكون ذلك محرماً.

و أُخرى لا يكون بهذا الحدّ، فلا دليل على لزوم الإعلام، و ما عن العلّامة في أجوبة المسائل المهنائية- حيث سأله السيد المهناء عمّن رأى في ثوب المصلّي نجاسة، فأجاب بأنّه يجب الإعلام لوجوب النهي عن المنكر- غير تام، إذ لا دليل على لزوم الإعلام في المقام.

هذا هو التقسيم الواضح في مسألة إغراء الجاهل و السكوت عنه، غير أنّ الشيخ أتى في المقام

بتقسيم آخر، و قال ما هذا حاصله:

إنّ هنا أُموراً أربعة:

أحدها: أن يكون فعل الشخص علّة تامة لوقوع الحرام في الخارج، كما إذا أكره غيره على المحرّم، و لا إشكال في حرمته.

ثانيها: أن يكون فعله سبباً للحرام، كمن قدّم إلى غيره محرّماً، و مثله ما نحن

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 208

فيه، و الأقوى فيه التحريم، لأنّ استناد الفعل إلى السبب أقوى، فنسبة فعل الحرام إليه أولى، و لذا يستقر الضمان على السبب دون المباشر الجاهل.

ثالثها: أن يكون شرطاً لصدور الحرام، و هذا يكون على وجهين:

الأوّل: أن يكون من قبيل إيجاد الداعي إلى المعصية، إمّا بإيجاد الرغبة، و إمّا بإيجاد العناد حتّى يقع الغير في المعصية.

الثاني: أن يكون بصورة إيجاد شرط آخر غير الداعي، كبيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً.

رابعها: أن يكون من قبيل عدم المانع، و هذا يكون تارة مع الحرمة الفعلية في حقّ الفاعل، كسكوت الشخص عن المنع من المنكر، و لا إشكال في الحرمة مع وجود شرائط النهي عن المنكر، و أُخرى مع عدم الحرمة الفعلية بالنسبة إلى الفاعل كسكوت العالم عن إعلام الجاهل- كما فيما نحن فيه- فانّ صدور الحرام منه مشروط بعدم إعلامه، فهل يجب رفع الحرام بترك السكوت أو لا؟ فيه إشكال، إلّا إذا علمنا من الخارج وجوب دفع ذلك لكونه فساداً قد أمر بدفعه كلّ من قدر عليه، كما لو اطّلع على عدم إباحة دم من يريد الجاهل قتله، أو عدم إباحة عرض له، أو لزم من سكوته ضرر مالي قد أمرنا بدفعه عن كلّ أحد، فانّه يجب الإعلام، و أمّا فيما تعلّق بغير الثلاثة من حقوق اللّه، فوجوب دفع مثل هذا الحرام مشكل، لأنّ الظاهر

من أدلّة النهي عن المنكر وجوب الردع عن المعصية، فلا يدلّ على وجوب إعلام الجاهل بكون فعله معصية.

و لا يخفى ما في هذا التقسيم من وجوه النظر:

أمّا أوّلًا: فانّه جعل مورد البحث تارة من القسم الثاني فقال: «أن يكون فعله

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 209

سبباً للحرام، كمن قدّم إلى غيره محرماً و مثله ما نحن فيه، و أُخرى من قبيل القسم الخامس حيث قال: و أُخرى مع عدم الحرمة الفعلية بالنسبة إلى الفاعل، كسكوت العالم عن إعلام الجاهل كما فيما نحن فيه. و قد أتعب المحشّون أنفسهم في رفع التناقض عن كلامه، فلاحظ تعليقة الشهيدي و غيره.

و ثانياً: فلأنّه جعل الإكراه علّة تامّة لصدور الفعل عن الغير حيث قال: أن يكون فعل الشخص علّة تامة لوقوع الحرام في الخارج، كما إذا أكره غيره على المحرم.

و هو غير صحيح، لأنّ العلّة التامّة ما لا ينفك فيها المعلول عن العلّة، و ليس الإكراه من هذا الباب، فانّ المكره- بالفتح- إنّما يختار أحد الجانبين و يرجحه بإرادة و اختيار، فله أن يرجّح تحمّل الضرر المتوعد به، و يرفض ارتكاب الفعل.

و بذلك يعلم أنّ الفاعل المكره- بالفتح- من أقسام الفاعل المريد، بل من أقسام الفاعل المختار، غاية الأمر هو مختار في انتخاب أحد الفعلين و إن كان بالنسبة إلى الجامع بين الفعل و تحمّل الضرر غير مختار، و بذلك يعلم الإشكال في كثير من الكلمات حول بيع المكره حيث استشكلوا فيه بعدم القصد تارة و عدم الاختيار و الحرية أُخرى.

و ثالثاً: انّ الظاهر من كلامه أنّ الحرمة تتوجه على المكره- بالكسر- دون المكره- بالفتح- و انّ وزر الحرام على المكرِه، و لكن الضابطة الكلية غير ذلك،

لأنّ الأُمور المكره عليها على قسمين:

تارة يكون الإكراه رافعاً لحرمة الفعل كما لو أكره زوجته في نهار رمضان على الجماع، فالحرمة متوجهة إلى الزوج دون الزوجة، و لأجل ذلك لزمته كفارتان و ضرب

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 210

خمسين سوطاً فيتحمّل حدّ الزوجة ( «1») ففي هذه الموارد يتحمل المكره- بالكسر- وزر الحرام و يكون المكره بريئاً و لا يتحمّل أي وزر.

و أُخرى لا يرفع الإكراه حرمة الفعل، كما في الإكراه على قتل نفس محترمة، فإنّه لا يجوز قتله بإكراه الغير، و يجب تحمّل الضرر المتوعد به بلغ ما بلغ، كما ورد من أنّ التقية شرعت لحقن الدماء فإذا بلغت الدماء فلا تقية. ( «2»)

و رابعاً: انّه علّل حرمة السبب بأنّ نسبة فعل الحرام إليه أقوى، مستشهداً بأنّ الضمان يستقر على السبب دون المباشر، ففيه: أنّ التسبيب لوقوع الغير في الحرام حرام، سواء كان السبب أقوى أم لا، و لا دخل للأقوائية في حرمته.

نعم يشترط في استقرار الضمان على السبب أو توجهه إليه ابتداءً أقوائية السبب من المباشر، و لأجل ذلك يوصف السبب بالحرمة و إن لم يكن أقوى. و لا يستقر الضمان على السبب إلّا في صورة كونه أقوى. فهنا مسألتان:

مسألة حرمة التسبيب، و هو حرام مطلقاً ضعيفاً كان أو أقوى و مسألة استقرار الضمان، و هو مشروط بكونه أقوى، فتعليل حرمة التسبيب بالثاني في غير محله.

و بذلك يعلم أنّه لا فرق بين ما جعله سبباً و ما جعله شرطاً، و قد جعل الشرط على قسمين، و الجميع موصوف بالحرمة، لأنّه نوع تدخّل في صدور الحرام

______________________________

(1) الوسائل: 7/ 37، الباب 12 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 1، روى المفضل

بن عمر، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رجل أتى امرأته و هو صائم و هي صائمة، فقال: «إن كان استكرهها فعليه كفّارتان، و إن كانت طاوعته فعليه كفّارة، و عليها كفّارة، و إن كان أكرهها فعليه ضرب خمسين سوطاً نصف الحد، و إن كانت طاوعته ضرب خمسة و عشرين سوطاً و ضربت خمسة و عشرين سوطاً».

(2) الوسائل: 11/ 483، الباب 31 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 211

عن الغير، و لأجل ذلك كان عليه (قدس سره) أن يجعل القسم الثاني و الثالث بكلا قسميه قسماً واحداً.

ثمّ إنّ بعضهم استدلّ على وجوب الإعلام بأنّ النجاسة عيب خفي يجب إظهاره؛ و أورد عليه الشيخ بوجهين:

الأوّل: انّ وجوب الإعلام على القول به ليس مختصاً بالمعاوضات، بل يشمل مثل الإباحة و الهبة من المجانيات.

يلاحظ عليه: أنّ أخصية الدليل لا يضر بعمومية المدّعى لعدم القول بالفصل، فتصحّ تسرية الحكم إلى جميع الصور بعدم القول بالفصل.

الثاني: انّ كون النجاسة عيباً ليس إلّا لكونه منكراً واقعياً و قبيحاً، فإن ثبت ذلك حرم الإلقاء فيه مع قطع النظر عن مسألة إظهار وجوب العيب، و إلّا لم يكن عيباً، فتأمّل. ( «1»)

الثالث: في وجوب الاستصباح تحت السماء

اختلفت كلمات الأصحاب في وجوب الاستصباح تحت السماء، فذهب جماعة إلى عدم جوازه إلّا تحت السماء، و إليك أقوالهم:

1. قال الشيخ في «المبسوط»: يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السماء و لا يجوز إلّا لذلك. ( «2»)

2. و قال في «الخلاف»: يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به

______________________________

(1) وجه التأمّل واضح، لأنّ عدم كونه منكراً واقعياً و قبيحاً لا يلازم عدم كونه عيباً، لأنّ كون شي ء منكراً أخصّ من كونه

عيباً، فانّ نجاسة الزيت عيب فيه و موجب لنقصان ماليته و ليس أمراً منكراً قبيحاً- منه دام ظله-.

(2) المبسوط: 1- 2/ 167.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 212

تحت السماء.

و قال أبو حنيفة: يجوز بيعه مطلقاً، و قال مالك و الشافعي: لا يجوز بيعه بحال.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم. ( «1»)

3. و قال ابن البراج و الشيخان: الدهن إذا وقعت فيه نجاسة جاز الاستصباح به تحت السماء، و لا يجوز الاستصباح به تحت الظلال. ( «2»)

4. و قال ابن إدريس: يجوز الاستصباح به تحت السماء، و لا يجوز الاستصباح به تحت الظلال، لا لأنّ دخانه نجس، بل تعبدنا به، لأنّ دخان الأعيان النجسة و رمادها طاهر عندنا بغير خلاف بيننا. ( «3»)

نعم، يظهر من كلمات بعض هؤلاء في مواضع أُخر جوازه مطلقاً، أو ما إذا لم يعلم أو يظن ببقاء شي ء من الأدهان في الدخان، و تصاعده معها.

قال الشيخ في «المبسوط»: فالكلام في السمن و الزيت و الشيرج و البزر و هذه الأدهان كلّها واحد، فمتى وقعت الفأرة و ماتت فيه نجس كلّه، و يجوز عندنا و عند جماعة الاستصباح به في السراج، و لا يؤكل و لا ينتفع به في غير الاستصباح، و فيه خلاف، و روى أصحابنا أنّه يستصبح به تحت السماء دون السقف، و هذا يدلّ على أنّ دخانه نجس، غير أنّ عندي أنّ هذا مكروه. ( «4»)

و قال في «الخلاف»: إذا ماتت الفأرة في سمن أو زيت أو شيرج أو بزر، نجس كلّه، جاز الاستصباح به، و لا يجوز أكله، و لا الانتفاع به لغير

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 83، المسألة 312، و في دلالته على عدم الجواز في غيره خفاء.

(2) المختلف:

8/ 331، كتاب الصيد، الفصل الخامس في الأطعمة و الأشربة.

(3) المختلف: 8/ 133، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الخامس في الأطعمة و الأشربة.

(4) المبسوط: 8/ 332، كتاب الأطعمة، في ذكاة الجنين.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 213

الاستصباح. ( «1»)

و قال ابن قدامة: و إذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن و ما أشبهه نجس و استصبح به إن أحب، و لم يحل أكله و لا ثمنه. ( «2»)

و إطلاقه يدلّ على الجواز مطلقاً، بل يمكن استظهار الجواز ممّا ذكره في كتاب البيع من «الخلاف». أيضاً بناءً على ما استظهره سيدنا الأُستاذ، من أنّ مراده: انّ الاستصباح تحت السماء مورد اتّفاق و إجماع، و أمّا غيره فليس كذلك، لا أنّه غير جائز بالاتّفاق.

و على كلّ تقدير فقد استدلّ على لزوم الاستصباح تحت السماء بوجوه:

الأوّل: الإجماع، أو الشهرة، على لزوم الاستصباح تحت السماء.

و الظاهر عدم وجود الشهرة في المسألة، و قد عرفت اختلاف كلمات الشيخ في كتبه، فكيف يمكن ادّعاء الإجماع و الشهرة، و يظهر ذلك ممّا حكي عن ابن إدريس فانّه اختار عدم جواز الاستصباح به تحت الظلال، و نقل كلام الشيخ في «المبسوط»، ثمّ ردّ عليه قائلًا: بأنّه لم يذهب أحد من أصحابنا إلى أنّ الاستصباح به تحت الظلال مكروه، بل محظور بغير خلاف بينهم، و شيخنا أبو جعفر محجوج بقوله في جميع كتبه، إلّا ما ذكره هنا، فالأخذ بقوله و قول أصحابه أولى من الأخذ بقوله المفرد عن قول أصحابنا.

و قال العلّامة (قدس سره) في «المختلف» بعد نقل هذا عن ابن إدريس: و هذا الردّ على شيخنا جهل منه و سخف، فإنّ الشيخ (رحمه الله) أعرف بأقوال علمائنا و المسائل الإجماعية و الخلافية. و

الروايات الواردة هنا في «التهذيب» مطلقة غير مقيدة

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 269، كتاب الأطعمة، المسألة 19.

(2) المغني: 11/ 86، الطبعة الثالثة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 214

بالسماء. ثمّ نقل الروايات و قال: إذا عرفت هذا فلا استبعاد في ما قاله شيخنا في «المبسوط» من نجاسة دخان النجس لبُعد استحالته كلّه، بل يمكن أن تتصاعد أجزاؤه قبل إحالة النار لها بسبب السخونة المكتسبة من النار إلى أن تلقى الظلال فتتأثر بنجاسته: و لهذا منعوا من الاستصباح به تحت الظلال، فانّ ثبوت هذا القيد مع طهارته ممّا لا يجتمعان، لكن الأولى الجواز مطلقاً للأحاديث ما لم يعلم أو يظن بقاء شي ء من أعيان الدهن، فلا يجوز الاستصباح به تحت الظلال. ( «1»)

و مع هذه الكلمات فالاستدلال بالإجماع أو الشهرة غير تام.

الثاني: ما رواه الشيخ في «المبسوط»- مرسلًا- حيث قال: روى أصحابنا أنّه يستصبح به تحت السماء دون السقف.

يلاحظ عليه: أنّه غير حجة، لأنّ الشيخ لم يروه في جامعيه، و لا رواه غيره، و لو كان حجّة لأفتى به الشيخ، و لعلّ كلمة «روى» تصحيف «قال»، و لم يكن هاهنا رواية.

الثالث: تحريم تنجيس السقف، و يظهر هذا ممّا نقلناه عن العلّامة في مختلفه.

و فيه: انّ دخان المتنجس طاهر، لقصور دليل نجاسة الدهن المتنجس عن شموله لدخانه و بخاره، و توهّم استصحاب النجاسة مدفوع باختلاف المتيقن و المشكوك، و عدم اتحادهما وجوداً و مقتضى الأصل الطهارة.

نعم، لو علم في مورد بتصاعد أجزاء الدهن مع الدخان يحكم بالنجاسة لعدم الاستحالة، و هذا إنّما يتحقّق لو اجتمعت الأجزاء الدهنية و صارت محسوسة ملموسة، لا ما إذا كانت صغيرة بحيث لا تعدّ دهناً. ثمّ لو تمّت نجاسة دخان

______________________________

(1) المختلف: 8/

332، كتاب الصيد، الفصل الخامس في الأطعمة و الأشربة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 215

الدهن فلا دليل على حرمة تنجيس السقف.

الرابع: ما يظهر من ابن إدريس من طهارة دخان الأعيان النجسة و انّ المنع للتعبّد.

يلاحظ عليه: ليس هنا ما يدلّ على التعبّد، و أمّا مرسلة الشيخ فقد أعرض عنها الشيخ و ما أفتى بمضمونها.

نعم استوجه سيدنا الأُستاذ- دام ظله- نهي الأصحاب عن الاستصباح به تحت الظلال، لأجل ورود الأدخنة النجسة في منافذ البدن كالأُذن و الأنف و الحلق سيما إذا كانت البيوت ضيقة و سقوفها منخفضة، و عند ذلك تكون مظنّة اجتماع الأجزاء الدهنية الطفيفة غير المستحيلة، و لا أقلّ من احتماله في تلك المواضع.

فعلى كلّ تقدير فليس هاهنا دليل صالح للزوم الاستصباح به تحت السماء، و لعلّ النهي للتنزيه عن النجس المحتمل أو المظنون، فلا معارضة بين المطلقات و ما رواه الشيخ (قدس سره).

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 216

الخامس: الانتفاع بالمتنجّس
اشارة

و يقع الكلام فيه في موردين:

الأوّل: الانتفاع بالدهن المتنجس في غير الاستصباح.

الثاني: الانتفاع بعامّة المتنجسات في ما لا يشترط فيه الطهارة.

و المورد الأوّل من فروع المورد الثاني، غير أنّه لما ورد في الأوّل رواية خاصة نفرده بالبحث. فنقول: ذهب بعضهم إلى عدم الجواز في غير الاستصباح مستدلًا بما رواه علي بن جعفر عن أخيه (عليهما السلام): قال سألته عن حب دهن ماتت فيه فأرة؟ قال: «لا تدهن به و لا تبعه من مسلم». ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ النهي في قوله (عليه السلام): «لا تدهن» نهي إرشادي عن إدهان البدن به لصيرورته نجساً و مانعاً عن الصلاة، و لو لا هذا المحظور فلا مانع من الادهان بالنجس، و احتمال الإطلاق فيه و انّ

المقصود تحريم مطلق الادهان حتّى طلي السفن و غيرها ممنوع، أضف إلى ذلك أنّه قد ورد جواز بيعه «لمن يعمله صابوناً» ( «2») هذا حال الزيت النجس.

و أمّا المورد الثاني، فربّما يستدلّ على جواز الانتفاع بالنجس فيما لا يشترط فيه الطهارة بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوىٰ

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 69، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) المستدرك: 13/ 72، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 217

إِلَى السَّمٰاءِ فَسَوّٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ). ( «1»)

و الاستدلال مبني على أنّ اللام في «لكم» للانتفاع، فعليه تدلّ على جواز الانتفاع بكلّ ما في الأرض حتّى يثبت خلافه.

و احتمل المحقّق الخوئي- دام ظلّه- كون اللام للغاية، أي الغاية القصوى من خلق ما في الأرض هو الإنسان، و لكنّه لا يدلّ على جواز الانتفاع به، فانّ الغرض لما كان تربية الإنسان و هو ربّما يحصل بالاجتناب عن بعض ما في الأرض، و مع ذلك يصدق انّه خلق لأجل الإنسان. ( «2»)

و الظاهر صحّة الاستدلال سواء أقلنا بأنّ اللام للغاية أم للانتفاع، فإذا كان الإنسان هو الأصل و كان ما في الأرض خلق لأجله، يكون غيره في خدمته إلّا ما منع عنه الشارع.

و احتمال كون الغاية في الخلقة هو الاجتناب أمر لا يقبله الطبع، بل يعدّ من قبيل تعارض الصدر مع الذيل، فمن جانب يقول خلق ما في الأرض لك، و من جانب آخر يقول الغاية من خلقة بعض الأشياء هو اجتنابك عنه؛ و الأولى أن يجاب بأنّ الآية ليست في مقام بيان كيفية الانتفاع، فإنّ الآية بمنزلة قول الأب

لابنه: إنّ هذا البيت و ما فيه لك، و هذا لا ينافي أن تكون هناك محدودية في كيفية الاستعمال بأن يكون طاهراً لا نجساً.

و الأولى أن يستدلّ على جواز الانتفاع بالمتنجّسات بالأصل الذي هو حجّة إن لم يكن هناك ما ينافيه. و على ذلك يجب البحث عمّا استدلّ به المخالف بحيث لو تم لانتفى الأصل.

______________________________

(1) البقرة: 29.

(2) مصباح الفقاهة: 1/ 128.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 218

استدلّ القائل بعدم جواز الانتفاع بآيات ثلاث:

الأُولى: قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ( «1»). فقوله تعالى: «رجس» بحكم كونه ضابطة كلّية، و بما أنّه تعليل لوجوب الاجتناب عن هذه المذكورات دليل على لزوم الاجتناب عن كلّ رجس، و انّ لزوم الاجتناب عن الخمر و أقرانها لأجل أنّه رجس، و المفروض انّ المتنجسات رجس بلا إشكال.

و بعبارة أُخرى: انّ «الرجس» على ما في «المقاييس» بمعنى: الخلط و الاختلاط، و يستعمل في القذر: لأنّه لطخ و خلط. و القذر ضد النظيف.

ثمّ القذارة، قد تكون حسيّة كما في الأوساخ الظاهرية من الأقذار، و قد تكون معنوية كما في الميسر و غيره.

فعلى هذا فالرجس أعمّ من القذارة الظاهرية و المعنوية، و الظاهرية أعمّ من النجس و المتنجس، فما عن الشيخ الأعظم (قدس سره) و تبعه المحقّق الخوئي- دام ظله- ( «2») من أنّ الظاهر من «الرجس» ما كان كذلك في ذاته لا ما عرض له ذلك فيختصّ بالعناوين النجسة، و هي النجاسات العشر، غير تام، لما عرفت من أنّه في اللغة يطلق على القذر ضد النظيف، و على الوسخ ضد الطيب، من غير فرق بين القذر

بالذات و القذر بالعرض.

و ما ذكره الشيخ أيضاً من أنّه لو عمّ الرجس المتنجس لزم أن يخرج عنه أكثر الأفراد، فإنّ أكثر المتنجسات لا يجب الاجتناب عنها، غير تام أيضاً، لأنّ تخصيص الأكثر إنّما يلزم إذا خرج المتنجسات بعناوينها الكثيرة لا بعنوان واحد كما حقّق في محله.

______________________________

(1) المائدة: 90.

(2) مصباح الفقاهة: 1/ 129.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 219

و مع ذلك فاستدلال المستدلّ غير تام لوجهين:

1. انّه لم يستعمل الرجس في القرآن إلّا في الأقذار المعنوية، كما في قوله سبحانه: (فَمَنْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلٰامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمٰا يَصَّعَّدُ فِي السَّمٰاءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ). ( «1»)

و قوله سبحانه: (وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلّٰا بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يَعْقِلُونَ). ( «2»)

و قوله سبحانه: (ذٰلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمٰاتِ اللّٰهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعٰامُ إِلّٰا مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). ( «3»)

و قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ( «4»)

و قوله سبحانه: (قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ( «5»)

و المراد من الرجس في هذه الآيات هي القذارة المعنوية، حتّى في الآية الأخيرة، و على فرض كون المراد منه هو القذارة الظاهرية منها، فلا شكّ

أنّ المراد

______________________________

(1) الأنعام: 125.

(2) يونس: 100.

(3) الحج: 30.

(4) المائدة: 90.

(5) الأنعام: 145.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 220

من الرجس في آية الخمر- التي يتخذها المستدلّ ضابطة كلية في مورد لزوم الاجتناب عن الرجس- هو القذارة غير الظاهرية، و على ذلك لا تشمل الآية القذر الظاهر- أعني: النجس و المتنجس-.

2. لو سلمنا عموم دلالة الآية لكنّها ليست في مقام بيان الاجتناب عن كلّ رجس ظاهري و باطني، و إنّما الآية في مقام بيان الاجتناب عن كلّ رجس تعد مباشرتُه من عمل الشيطان، و كون استعمال المتنجس من عمل الشيطان أوّل الكلام، لأنّ المراد منه هو كونه مورد رضاً منه، و هو الذي يريد به إغواء الناس و إضلالهم، و ليس في الانتفاع بالمتنجّس فيما لا يشترط فيه الطهارة شي ء من ذلك.

الثانية: قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ* وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ* وَ لٰا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ* وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ). ( «1»)

وجه الاستدلال: انّ الرجز أعمّ من النجس و المتنجّس.

يلاحظ عليه: أنّ الرجز- بالكسر و الضم- قد وردا في القرآن:

أمّا الأوّل: فقد ورد في موارد تسعة، و أُريد منه العذاب- غالباً-، فلاحظ الآيات التالية:

قوله سبحانه: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنٰا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمٰاءِ بِمٰا كٰانُوا يَفْسُقُونَ). ( «2»)

و قوله سبحانه: (وَ لَمّٰا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قٰالُوا يٰا مُوسَى ادْعُ لَنٰا رَبَّكَ بِمٰا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ). ( «3»)

______________________________

(1) المدثر: 1- 7.

(2) البقرة: 59.

(3) الأعراف: 134.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 221

و قوله سبحانه: (فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلىٰ أَجَلٍ هُمْ بٰالِغُوهُ إِذٰا هُمْ يَنْكُثُونَ). ( «1»)

و قوله سبحانه: (فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ

رِجْزاً مِنَ السَّمٰاءِ بِمٰا كٰانُوا يَظْلِمُونَ). ( «2»)

و قوله سبحانه: (وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلىٰ قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدٰامَ). ( «3»)

و قوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا مُعٰاجِزِينَ أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ). ( «4»)

و قوله سبحانه: (هٰذٰا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذٰابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ). ( «5»)

و قوله سبحانه: (إِنّٰا مُنْزِلُونَ عَلىٰ أَهْلِ هٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمٰاءِ بِمٰا كٰانُوا يَفْسُقُونَ). ( «6»)

و أمّا الثاني: فقد استعمل في مورد واحد و هو الآية المبحوث عنها، و فيه احتمالات:

1. أن يكون المراد منه العذاب، و المراد الاجتناب عن عوامله و أسبابه، و هي المخالفة، و لا بعد في توجّه هذا الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) نظير قوله سبحانه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ( «7») و ليس الخطاب خطاباً صورياً، بل حقيقياً، كسائر الخطابات المتوجهة إلى الناس، و امتناع صدوره منه (صلى الله عليه و آله و سلم) مع العصمة لا يسلتزم كون

______________________________

(1) الأعراف: 135.

(2) الأعراف: 162.

(3) الأنفال: 11. و ليس المراد منه هو العذاب، و لأجل ذلك قلنا- أُريد منه العذاب- غالباً.

(4) سبأ: 5، و العذاب في هذه الآية و بعدها مصداق للرجز لا معناه.

(5) الجاثية: 11.

(6) العنكبوت: 34.

(7) الزمر: 65.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 222

الخطاب صورياً، لأنّه يكفي في صحّة الخطاب إمكان الصدور منه و إن لم يكن هناك وقوع، خصوصاً إذا كان الهدف عن ذلك ضرب القاعدة للناس جميعاً.

و يحتمل أن يراد منه القذارة المعنوية مقابل القذارة الظاهرية، و على كلّ تقدير فلا يكون دليلًا على اجتناب المتنجس.

و ربما يقال: انّ المراد هو الأصنام و الأوثان،

و المراد الاجتناب عن عبادتها، و لكنّه احتمال بعيد جداً، لأنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) يوم نزلت الآية كان يحارب عبادتها و يناضل من يعبدها، و عند ذلك فخطابه (صلى الله عليه و آله و سلم) بلزوم هجرها على وجه التنجيز غير صحيح، و إن كان يصحّ إذا كان بصورة الشرطية مثل قوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). ( «1»)

و مع هذه الاحتمالات لا تبقى دلالة للآية، و على فرض دلالتها على لزوم الاجتناب عن كلّ قذارة ظاهرية، فليست الآية في مقام البيان حتّى بالنسبة إلى الانتفاع بها في ما لا محذور فيه.

الثالثة: قوله سبحانه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلٰالَ الَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). ( «2»)

وجه الاستدلال: انّ كلّ متنجس خبيث، و إطلاق التحريم يشمل عموم الانتفاع.

______________________________

(1) الزمر: 65.

(2) الأعراف: 157.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 223

يلاحظ عليه: أنّ الطيب و الخبيث تارة توصف بهما الذوات كالطعام الطيب و الخبيث، و الأرض الطيبة و الخبيثة، قال سبحانه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). ( «1»)

و قوله سبحانه: (وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبٰاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لٰا يَخْرُجُ إِلّٰا نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ). ( «2»)

و أُخرى توصف به الأعمال مثل قوله سبحانه: (وَ

لُوطاً آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائِثَ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فٰاسِقِينَ). ( «3»)

إذا عرفت هذا فنقول: قد أجاب الشيخ الأعظم (قدس سره) عن الاستدلال بالآية بأنّ المراد هنا حرمة الأكل بقرينة مقابلته لحلية الطيبات.

يلاحظ عليه: بما قلناه في باب بيع الأرواث الطاهرة، من أنّ الخبيث لا يختصّ بالمأكول كالطيب، قال في اللسان: الخبيث ضد الطيّب.

و قال سبحانه: (الْخَبِيثٰاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثٰاتِ وَ الطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبٰاتِ أُولٰئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّٰا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ). ( «4»)

و قال سبحانه: (وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النّٰارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبٰاتِكُمْ فِي حَيٰاتِكُمُ الدُّنْيٰا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهٰا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذٰابَ الْهُونِ بِمٰا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِمٰا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) ( «5») و على ذلك فالخبيث يعمّ المأكول و غير المأكول، و الذوات و الأفعال، من غير تخصيص بواحد منها.

______________________________

(1) الأعراف: 32.

(2) الأعراف: 58.

(3) الأنبياء: 74.

(4) النور: 26.

(5) الأحقاف: 20.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 224

و أجاب المحقّق الخوئي- دام ظله- عن الاستدلال: بأنّ المراد من الخبائث هو الفعل الخبيث كما في الآية: (وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائِثَ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فٰاسِقِينَ). ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ استعمال الخبيث في مورد نفس الأفعال لا يستلزم تخصيص الآية بها، و الظاهر عموميتها للذوات و الأفعال، كما أنّها أعمّ من الخبيث بالذات كالنجاسات و بالعرض كالمتنجّسات.

و الأولى أن يجاب: بأنّ الآية مع عموميتها لا تدلّ إلّا على حرمة الخبيث في جهة خبثه، و حلية الطيب في الجهة التي تستطاب، و من المعلوم أنّ الانتفاع بالمتنجسات في غير جهة الأكل و الصلاة و غير ما يشترط

فيه الطهارة ليس انتفاعاً في الجهة التي تخبث.

و أمّا الأخبار العامّة المستدلّ بها فهي:

1. ما في «تحف العقول»: «أو شي ء من وجوه النجس فهذا كلّه حرام محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و إمساكه و التقلّب فيه». ( «2»)

وجه الاستدلال: انّه (عليه السلام) علّل النهي عن بيع وجوه النجس بأنّ ذلك كلّه حرام محرّم أكله و شربه و لبسه و إمساكه، و جميع التقلّب في ذلك حرام.

و أجاب عنه الشيخ الأعظم: بأنّ المراد من وجوه النجس عنواناته المعهودة، لأنّ الوجه هو العنوان، و الدهن ليس عنواناً للنجاسة، و الملاقي للنجس و إن كان عنواناً للنجاسة لكنّه ليس وجهاً من وجوه النجاسة في مقابلة غيره، و لذا لم يعدّوه عنواناً في مقابل العناوين النجسة، مع ما عرفت من لزوم تخصيص الأكثر لو أُريد

______________________________

(1) الأنبياء: 74.

(2) الوسائل: 12/ 54، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 225

به المنع عن استعمال كلّ متنجس.

و ما ذكره أوّلًا و إن كان متيناً، لكن ما ذكره ثانياً من استلزام شمول الحديث للمتنجسات خروج الأكثر، قد عرفت ما فيه، لأنّ الخروج إنّما هو بعنوان واحد لا بعناوين كثيرة.

2. ما رواه السكوني، عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) أنّ علياً (عليه السلام) سئل عن قدر طبخت و إذا في القدر فأرة. قال: «يهرق مرقها و يغسل اللحم و يؤكل». ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ المراد بإهراق المرق لغاية النهي عن أكله بقرينة مقابله «و يؤكل اللحم» فلا يدلّ على عدم جواز الانتفاع بالمرق مطلقاً حتّى فيما لا يشترط فيه الطهارة فما عن المحقّق الخوئي- دام ظله- من أنّ الظاهر من الأمر بالإهراق هو عدم جواز

الانتفاع بالمرق مطلقاً ( «2»)، غير تام، و وجهه ما ورد في الرواية- من القرينة- أعني قوله (عليه السلام): يغسل اللحم.

و مثله ما رواه زكريا بن آدم قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير قال: «يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة، أو الكلب، و اللحم اغسله و كله». ( «3»)

فالمراد من الأمر بإهراق المرق هو عدم أكله بقرينة قوله (عليه السلام): «أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله».

3. ما ورد في روايات كثيرة من إلقاء ما حول الجامد من الدهن و شبهه و طرحه و أكل ما وراءه، فلو كان الانتفاع من المتنجّس جائزاً لما أمر بطرح ما حول الفأرة من الزيت.

______________________________

(1) الوسائل: 1/ 150، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 3.

(2) مصباح الفقاهة: 1/ 132.

(3) الوسائل: 2/ 1056، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 80.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 226

مثل ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه؟ فقال: «إن كان جامداً فتطرحها و ما حولها و يؤكل ما بقي و إن كان ذائباً فاسرج به و أعلمهم إذا بعته». ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ المراد من الطرح هو عدم أكلها بقرينة قوله (عليه السلام): «و يؤكل ما بقي»، فما عن المحقّق الخوئي- دام ظله- (من ظهور الأمر بالطرح في حرمة الانتفاع به مطلقاً) غير تام و مصدره الغفلة عن القرينة الموجودة في الرواية، و يؤيد ما ذكرناه ما رواه البيهقي في سننه: سئل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله

و سلم) عن الفأرة تقع في السمن أو الودك، فقال: «اطرحوها و ما حولها إن كان جامداً»، فقالوا: يا رسول اللّه فإن كان مائعاً؟ قال: «فانتفعوا به و لا تأكلوه». ( «2»)

4. و ما رواه سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو، و ليس يقدر على ماء؟ قال: «يهريقهما جميعاً و يتيمّم». ( «3»)

لكن الظاهر انّ المراد من «إهراقهما» هو عدم التوضّؤ و عدم الانتفاع بهما فيما يشترط فيه الطهارة، لا عدم الانتفاع مطلقاً، و بذلك يعلم المراد ممّا رواه أبو بصير عنهم (عليهم السلام) قال: «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس إلّا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة، فإن أدخلت يدك في الماء و فيها شي ء من ذلك فاهرق ذلك الماء». ( «4»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3؛ و لاحظ الحديث 1 و 5 من هذا الباب.

(2) السنن الكبرى: 9/ 354.

(3) الوسائل: 1/ 113، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.

(4) الوسائل: 1/ 113، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 227

و في رواية أُخرى عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التور، فيدخل إصبعه فيه؟ قال: «إن كانت يده قذرة فأهرقه، و إن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه. هذا ممّا قال اللّه تعالى: (مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). ( «1»)

فانّ المراد من الأمر بالإهراق في هذه الروايات عدم الاستعمال في الوضوء، و الغسل بقرينة قوله (عليه

السلام) في مقابله: «فليغتسل منه».

5. الأخبار المستفيضة عند الخاصة و العامّة من جواز الاستصباح بالدهن النجس، فلو جاز الانتفاع بغيره لما كان وجه لتخصيص الاستصباح بالذكر.

يلاحظ عليه: انّما خصّ الاستصباح بالذكر، لأنّه من المنافع الغالبة للدهن بعد الأكل، فأشار الإمام (عليه السلام) إرشاداً إلى أنّه ينتفع به للإسراج حتّى لا يضيع المال كما ورد في بعض الروايات.

منها: قوله في «قرب الاسناد» عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن الفأرة و الكلب إذا أكلا من الجبن و شبهه أ يحل أكله؟ قال: «يطرح منه ما أكل و يحل الباقي». قال: و سألته عن فأرة أو كلب شربا من زيت أو سمن. قال: «إن كان جرة أو نحوها فلا تأكله و لكن ينتفع به لسراج أو نحوه، و إن كان أكثر من ذلك فلا بأس بأكله، إلّا أن يكون صاحبه موسراً يحتمل أن يهريقه فلا ينتفع به في شي ء». ( «2»)

على أنّه قد عرفت سابقاً ورود جواز الانتفاع به في الصابون حيث قال (عليه السلام): «يبيعه لمن يعمله صابوناً». ( «3»)

______________________________

(1) الوسائل: 1/ 115، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 11.

(2) الوسائل: 16/ 377، الباب 45 من أبواب الأطعمة و الأشربة المحرمة، الحديث 2.

(3) المستدرك: 13/ 72، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 228

هذا كلّه حال الروايات التي استدلّ بها القائل بعدم جواز الانتفاع، و بقي الاستدلال بالإجماع فنقول:

الاستدلال على عدم الجواز بالإجماع الوارد في كلام جماعة منهم: المفيد (قدس سره) في «المقنعة» حيث قال: إذا وقعت الفأرة في الزيت و السمن و العسل و أشباه ذلك و كان مائعاً أُهرق، و إن كان جامداً

أُلقي ما تحتها و ما وليها من جوانبها، و استعمل الباقي و أكل و تصرّف الإنسان في الانتفاع به كيف شاء. و كذلك الحكم في الميتة و كلّ دابة نجسة إذا وقعت فيما سمّيناه. و إن وقع ذلك في الدهن جاز الاستصباح به تحت السماء و لم يجز تحت الظلال، و لا يجوز أكله و الادّهان به على حال. ( «1»)

و منهم السيد في «الانتصار» حيث قال: و ممّا انفردت به الإمامية أنّ كلّ طعام عالجه أهل الكتاب و من ثبت كفرهم بدليل قاطع لا يجوز أكله و لا الانتفاع به، و اختلف باقي الفقهاء في ذلك، و قد دللنا على ذلك في كتاب الطهارة حيث دللنا على أنّ سؤر الكفار نجس. ( «2»)

و قال الشيخ في «المبسوط» في الماء المضاف: انّه مباح التصرّف فيه بأنواع التصرّف ما لم تقع فيه نجاسة، فإن وقعت فيه نجاسة لم يجز استعماله على حال، و قال: في حكم الماء المتغيّر بالنجاسة: إنّه لم يجز استعماله إلّا عند الضرورة للشرب لا غير. ( «3»)

و قال في «النهاية»: و إن كان ما حصل فيه الميتة مائعاً، لم يجز استعماله و وجب إهراقه. ( «4»)

______________________________

(1) المقنعة: 582، كتاب الذبائح و الأطعمة.

(2) الانتصار: 10.

(3) المبسوط: 1/ 5- 6.

(4) النهاية: 588، كتاب الأطعمة و الأشربة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 229

و قال في «الخلاف»: إذا ماتت الفأرة في سمن أو زيت أو شيرج أو بزر نجس كلّه، جاز الاستصباح به و لا يجوز أكله و الانتفاع به لغير الاستصباح، و به قال الشافعي.

و قال قوم من أصحاب الحديث: لا ينتفع به بحال لا بالاستصباح و لا غيره، بل يراق كالخمر.

و قال أبو

حنيفة: يستصبح و يباع أيضاً بالاستصباح.

و قال داود: إن كان المائع سمناً لم ينتفع به بحال، و إن كان ما عداه من الأدهان لم ينجس بموت الفأرة فيه، و يحل أكله و شربه، لأنّ الخبر ورد في السمن فحسب.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، و روى سالم، عن أبيه أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) سئل عن الفأرة تقع في السمن و الودك؟ فقال: إن كان جامداً فاطرحوها و ما حولها، و إن كان مائعاً فانتفعوا به و لا تأكلوه.

و روى أبو سعيد الخدري أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) سئل عن الفأرة تقع في السمن و الزيت؟ فقال: «استصبحوا به و لا تأكلوه» و هو إجماع الصحابة.

و روي ذلك عن علي (عليه السلام) و ابن عمر؛ فأمّا علي (عليه السلام) فقال في السمن تقع فيه الفأرة: «لا تأكلوه و انتفعوا به في السراج و الادم».

و ابن عمر قال: ينتفع به في السراج و يدهن به الادم، و الدليل على أبي حنيفة قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّ اللّه تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه». ( «1»)

و قال ابن زهرة: و قيدنا بكونها مباحة تحفّظاً من المنافع المحرمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره، عدا ما استثني من بيع الكلب

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 269، كتاب الأطعمة، المسألة 19.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 230

المعلّم للصيد، و الزيت النجس للاستصباح به تحت السماء، و هذا يدلّ على جواز بيعه لذلك. ( «1»)

غير أنّ الدقة في هذه الكلمات تعطي خلاف ما استظهر، أمّا كلام السيد فلأنّ ما تفرّدت به الإمامية هو نجاسة أهل الكتاب و

نجاسة ما باشروه، خلافاً للعامّة فانّهم يعدّون كلّ آدمي طاهراً حتّى المشرك، إلّا الرازي في تفسيره.

و أمّا حرمة الأكل و الانتفاع فهي من الفروع المتفرّعة التي فرّعها السيد على ما اتّفقت عليه الإمامية، لا أنّه معقد الإجماع.

و بالجملة: فالمسألة الرئيسية التي وقع فيها الخلاف بين الإمامية و غيرهم هي نجاسة أهل الكتاب و طهارتهم، و هي التي ادّعى عليها السيد الإجماع.

و أمّا ما جاء في ذيل كلامه: «لا يجوز أكله و لا الانتفاع به» فهو من الفروع المترتبة على الأصل المسلم عند الإمامية و ليس معقد الإجماع و مورده، و يظهر ذلك من الدقة في كلامه، و يزيده توضيحاً قوله: حيث دللنا على أنّ سؤر الكفّار نجس.

و أمّا كلام الشيخ في «الخلاف» فقد استظهر الشيخ الأعظم انّ قوله: (دليلنا إجماع الفرقة) راجع إلى جواز الاستصباح باعتبار أنّ ادّعاءه بعد تحرير النزاع يرجع إلى الحكم الواقع مورد الخلاف و هو جواز الانتفاع بالزيت بالاستصباح.

أضف إلى ذلك أنّ معقد الإجماع هو مسألة المنع عن الأكل لاستشهاده برواية سالم، عن أبيه، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)؛ و رواية أبي سعيد الخدري حيث جاء فيهما: «و لا تأكلوه» و جاء في رواية علي (عليه السلام) و ابن عمر، النهي عن الأكل و جواز الانتفاع

______________________________

(1) الغنية: 63، كتاب البيع.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 231

به في الإسراج و الادم، كلّ ذلك يشير إلى أنّ معقد الإجماع هو حرمة الأكل و أشباهه ممّا يشترط فيه الطهارة.

و يمكن أن يقال: انّ مراده و مراد السيد في «الانتصار» من عدم الانتفاع به هو عدم الانتفاع فيما تشترط فيه الطهارة، و أمّا ما لا يشترط فيه الطهارة، و

لا محذور فيه حسب الشرع فالانتفاع فيه جائز.

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): «و الذي أظن أنّ كلمات القدماء ترجع إلى ما ذكره المتأخّرون، و أنّ المراد بالانتفاع في كلمات القدماء، الانتفاعات الراجعة إلى الأكل و الشرب و إطعام الغير و بيعه على نحو ما يحلّ أكله.

و أمّا كلام السيد (قدس سره) في «الغنية» فلا ظهور له، لأنّ مرجع الضمير في قوله: «و هو إجماع الطائفة» مردّد بين أُمور:

1. اشتراط المنفعة المحلّلة.

2. جواز بيع الكلب.

3. جواز بيع الزيت للاستصباح.

4. عدم جواز الانتفاع من النجس، و هو أبعد الوجوه.

أضف إلى ذلك أنّ الإجماعات الواردة في كلام السيد و الشيخ و ابن زهرة مؤوّلة بوجود الإجماع على الكبرى، أو بوجود الرواية، أو ادّعاء الإجماع حسب القاعدة- عندهم- إلى غير ذلك من الأُمور التي يجب توجيهها، و إلّا فالقول بأنّ المراد من الإجماعات الواردة في كلامهم هو الإجماع المصطلح مشكل جداً، مضافاً إلى ما عرفت من ذهاب جم غفير إلى الجواز، و دلالة بعض الروايات على الاستفادة به في الصابون و غيره، فجواز الانتفاع بالمتنجّس هو المتعيّن، و قد عرفت أنّ الأصل هو جواز الانتفاع إلّا ما قام الدليل القطعي على عدمه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 232

السادس: جواز بيع المتنجّس

إلى هنا تبيّن جواز الانتفاع بالأعيان المتنجّسة في مالا محذور فيه، فعندئذ يقع الكلام في جواز بيع جميع المتنجسات للانتفاع بالمنافع المحلّلة كالصبغ و الطين، أو يقتصر في بيع المتنجسات على المنصوص كالدهن، غاية الأمر يصحّ التجاوز من الاستصباح إلى غيره كصنع الصابون.

الظاهر صحّة بيعها لوجود المقتضي- و هو المنافع المحلّلة- و عدم كون النجاسة بما هي مانعة، فتشمله عمومات البيع و العقود، و أيّده الشيخ الأعظم باستصحاب الحكم قبل

التنجّس، و يمكن تقريره بوجهين:

الأوّل: استصحاب الحكم الشرعي الكلّي بأن يقال: الطين قبل التنجّس كان جائز البيع، و الأصل بقاء الجواز بعد التنجّس أيضاً.

و هذا القسم من الاستصحاب مردودٌ لا، لاختصاص الاستصحاب بالموضوعات، بل لأجل أنّه من قبيل إسراء

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 233

حكم من موضوع إلى موضوع آخر، فأين قولنا: «الطين قبل التنجّس» من قولنا: «الطين بعد التنجس» فهما موضوعان مختلفان.

الثاني: استصحاب الحكم الشرعي الجزئيّ بأن يقال مشيراً إلى الطين المتنجّس: إنّ هذا الطين قبل التنجّس كان جائز البيع، و الأصل بقاء الجواز، و حينئذ يقع السؤال عن الفرق بين الاستصحابين حيث عدّ الأوّل من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر دون الثاني، و لكن الفرق واضح جدّاً، لأنّ الموضوع في استصحاب الحكم الكلّي الشرعي هو المفاهيم الكليّة العقلانية، و هي تتميز بنفسها عن غيرها، فلذلك يكون الطين قبل التنجس غير الطين بعد التنجس، و هذا بخلاف استصحاب الحكم الشرعي الجزئي فانّ المستصحب هو الوجود الخارجي من الطين و هو باق قطعاً، و تنجّسه بعد طهارته لا يستلزم تبدّل الموضوع إلى موضوع آخر.

توضيحه: إنّ هناك أمرين:

الأوّل: الحكم الشرعي الكلي، أعني: جواز بيع الطين الطاهر.

الثاني: تطبيق الكلّي على الفرد الخارجي و وصفه بالجواز بأن يقال: هذا الطين الطاهر يجوز بيعه، فإذا طرأ التغيّر و تبدّلت الطهارة بالنجاسة، فإن عدّت الطهارة مقوّمة للموضوع فلا يجري فيها الاستصحاب كما هو الحال في الصورة الكلبية و الملحية إذا تبدّل الكلب في الأراضي المالحة إلى الملح و إن لم تعدّ مقوّماً للموضوع، بل عدّ من حالاته و أوصافه على نحو يكون الموضوع محفوظاً و إن طرأ التبدّل إلى بعض أوصافه، فعندئذ يكون الموضوع هو

هذا الطين و هو محفوظ في كلتا الحالتين فيستصحب و يحكم عليه بالجواز.

و هذا هو السرّ في عدم جريان الحكم الشرعي الكلّي و جريان الحكم الشرعي الجزئي، فإنّ الموضوع في الأحكام الشرعية مفاهيم مختلفة يتميّز بعضها عن بعض، و لا تقبل المسامحة، و هذا بخلاف ما إذا انطبق الحكم الشرعي الكلّي على الفرد الخارجي (الطين الطاهر) ثمّ طرأت عليه النجاسة، فانّ الموضوع بعد الانطباق هو هذا الشي ء الذي يشار إليه، و من المعلوم بقاؤه بالذات و إنّما طرأ الاختلاف في حالاته و قد صار سبباً للشكّ في بقاء الحكم و عدمه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 234

و من هنا يعلم أنّ الاستصحاب التعليقي على النحو الكلي أشبه بالقياس فأين قولنا: «العصير العنبي إذا غلا يحرم» من قولنا: «العصير الزبيبي إذا غلا يحرم» فإنّ المفاهيم بذواتها متميّزة فلا يمكن الإغضاء عن بعضها، فإنّ مفهوم العنب غير مفهوم الزبيب.

و أمّا إذا انطبق الحكم الكلّي الشرعيّ على عنب جزئي، فيحكم عليه بالنجاسة إذا غلا، فينقلب الموضوع من العنوان الكلّي (عصير العنب) إلى موضوع جزئي و هو هذا العنب، فإذا جفّ ماؤه و صار زبيباً، فالعرف يعدّ الباقي نفس السابق، و إن تغيّر اسمهما، و يقول: هذا الشي ء الموجود نفس الشي ء السابق، و قد جفّ ماؤه، و عندئذ يجري الاستصحاب بلا إشكال.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 235

السابع: الانتفاع بالأعيان النجسة

هل يجوز الانتفاع بالأعيان النجسة أم لا؟ ظاهر عبارة كثير من الأقدمين هو عدم جواز الانتفاع بنجس العين.

قال الشيخ في «النهاية»: جميع النجاسات محرم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها. ( «1»)

و قال في «المبسوط»: نجس العين لا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به

و لا اقتناؤه بحال، إجماعاً، إلّا الكلب فانّ فيه خلافاً. ( «2»)

و قال سلّار في «المراسم»: التصرّف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه و الدم و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام. ( «3»)

و قال الشيخ الأعظم: ظاهر فخر الدين في «شرح الإرشاد» و الفاضل المقداد، الإجماع على حرمة الانتفاع، حيث استدلّا على عدم جواز بيع الأعيان النجسة بأنّها محرّمة الانتفاع، و كلّ ما هو كذلك لا يجوز بيعه، أمّا الصغرى فإجماعية. ( «4»)

نعم، يظهر من بعض العبارات جواز الانتفاع، قال في «المبسوط»: إنّ سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب و الدم فانّه لا يجوز بيعه،

______________________________

(1) النهاية: 364.

(2) المبسوط: 2/ 166.

(3) المراسم: 170.

(4) المكاسب: 1/ 97.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 236

و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و أُصول الشجر بلا خلاف. ( «1»)

و قال العلّامة في «المختلف»: و المعتمد جواز استعماله (شعر الخنزير) مطلقاً، و نجاسته لا تعارض الانتفاع به لما فيه من المنفعة العاجلة الخالية من ضرر عاجل أو آجل فيكون سائغاً، عملًا بالأصل السالم عن معارضة دليل عقلي أو نقلي في ذلك. ( «2»)

و قال الشهيد في «قواعده»: النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية. ( «3»)

و قال الشهيد الثاني في «الروضة»: فيما لا يجوز بيعه من النجاسات و الدم و إن فرض لها نفع حكمي كالصبغ، و أرواث و أبوال غير المأكول و إن فرض لهما نفع، و أمّا هما ممّا يؤكل لحمه فيجوز مطلقاً. ( «4»)

إلى غير ذلك من الكلمات التي تكشف عن عدم كون المسألة مورد إجماع و اتّفاق، أضف إلى ما ذكر ما ورد من الروايات المشعرة

بجواز الانتفاع من النجس، مثل ما ورد في الاستقاء بشعر الخنزير.

روى زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إنّ رجلًا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير؟ قال: «إذا فرغ فليغسل يده». ( «5»)

و روى عبد اللّه بن المغيرة، عن برد، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): جعلت فداك انّا نعمل بشعر الخنزير فربّما نسي الرجل فصلّى و في يده منه شي ء؟ فقال: «لا ينبغي أن يصلّي و في يده منه شي ء»، فقال: خذوه فاغسلوه، فما كان له دسم

______________________________

(1) المبسوط: 2/ 167.

(2) المختلف: 8/ 323، كتاب الصيد و توابعه.

(3) نضد القواعد: 210.

(4) كتاب شرح اللمعة: 1/ 308، كتاب التجارة.

(5) الوسائل: 12/ 167، الباب 58، من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 237

فلا تعملوا به، و ما لم يكن له دسم فاعملوا به، و اغسلوا أيديكم منه». ( «1»)

و روى زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به الماء؟ قال: «لا بأس». ( «2»)

و ما رواه حسن بن محبوب قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة و عظام الموتى ثمّ يجصص به المسجد، أ يسجد عليه؟ فكتب إلي بخطه: «انّ الماء و النار قد طهّراه». ( «3») فلو كان استعمال العذرة في صنعة الجص حراماً لكان للإمام (عليه السلام) التنبيه عليه.

نعم، مضمون الحديث لا يخلو من غرابة، لأنّ الظاهر من الماء هو الماء الممزوج بالجص، و مثله لا يمكن أن يطهر الجص النجس على فرض نجاسته، كما أنّ النار إنّما تطهّر، إذا استحال بها الشي ء رماداً أو غيرها، و لأجل ذلك يجب ردّ علم هذا الحديث

إليهم (عليهم السلام).

روى قاسم الصيقل قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) أنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي، فأُصلّي فيها؟ فكتب (عليه السلام) إلى: «اتّخذ ثوباً لصلاتك». ( «4»)

و صحيحة زرارة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير، يستقى به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: «لا بأس». ( «5»)

إلى غير ذلك من الروايات التي مضى بعضها في ما سبق.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 168، الباب 58 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) الوسائل: 1/ 129، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16.

(3) الوسائل: 2/ 1099، الباب 81 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(4) الوسائل: 2/ 1070، الباب 49 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(5) الوسائل: 1/ 125، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 238

الثامن: في بيع النجس

قد عرفت جواز الانتفاع بالأعيان النجسة فيما لا محذور فيه، كالانتفاع بالعذرة و الميتة في التسميد، و شعر الخنزير للسقي، و كلب الماشية و الزرع و الحائط للحراسة، و هذه الانتفاعات تعطي للنجس مالية عرفية يبذل بإزائها الثمن، فإذا بلغ الشي ء إلى هذا الحدّ من المالية ترتبت عليه جميع آثارها من الضمان و الهبة و الإعارة ما لم يدلّ دليل على إلغاء الشارع ماليته كما في الخمر و الخنزير.

نعم، مجرّد كونه مالًا لا يكفي في صحّة البيع و لا الهبة و لا الضمان، بل لا بدّ هنا من ثبوت الملكية، و لأجل ذلك نرى أنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) يحاول إثبات صحّته من طريق حق الاختصاص في هذه الأُمور، إمّا من جهة الحيازة، و إمّا لكون أصلها مالًا للمالك، كما لو

مات حيوان له أو فسد لحم اشتراه للأكل على وجه خرج عن المالية.

و لكن يمكن أن يقال: انّ المالكية أمر عرفي لها علل و أسباب، فإذا صحّ تملّك الإنسان للشي ء عند العرف صحّ تملّكه عند الشرع، إلّا ما قام الدليل على عدم تملّكه كالخمر و الخنزير، و على ذلك فالأعيان النجسة يصحّ تملّكها بالحيازة و غيرها، و على ذلك تترتب عليه جميع الآثار المترتبة على الأعيان الطاهرة، حتّى البيع للمنافع الصالحة، بشرط أن يكون الثمن مساوياً لقيمتها و لا تعدّ المعاملة سفهية أو وسيلة للخدعة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 239

هذا هو مقتضى القاعدة، إلّا أن يقوم الإجماع على حرمة بيع النجس فلا يجوز بيعه.

ثمّ إنّه لو قلنا بعدم جواز البيع لأجل الإجماع و بعض النصوص العامة فلا مانع من القول بإجارتها و إعارتها وهبتها معوضة و بلا عوض، و لا تستلزم حرمةُ البيع حرمةَ سائر المعاوضات، هذا هو مقتضى القاعدة و لا يعدل عنه إلّا بدليل.

ثمّ هذا كلّه على فرض ماليتها و ملكيتها، و أمّا لو قلنا بعدم صحّة تملّكها- على خلاف التحقيق- فالظاهر ثبوت حقّ الاختصاص، إمّا لأجل كونه مالكاً لأصله، كما لو مات الحيوان أو فسد لحم اشتراه، و المشكوك يعدّ من مراتب المتيقّن فيستصحب بقاء العلقة؛ و إمّا لأجل الحيازة و شمول قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «من سبق إلى ما لا يسبقه إليه مسلم فهو أحقّ به». ( «1»)

نعم: هاهنا إشكال تعرّض له الشيخ و هو عدم ثبوت حقّ الاختصاص إلّا في ما إذا قصد الحائز الانتفاع، و على ذلك فلا يثبت لو لم يكن له ذلك القصد، و بذلك يشكل الأمر في ما تعارف الناس

عليه في بعض البلاد: من جمع الحطب و العذرات حتّى إذا صارت من الكثرة بحيث ينتفع منها ببيع و غيره كاستعمالها في البساتين و الزرع فلا يجوز له بيع حقّ الاختصاص أو رفع اليد عنه ببذل مال، لعدم قصده الانتفاع بها شخصياً.

و لكن يمكن أن يقال: انّ قصد الانتفاع إنّما يشترط في الأمكنة المشتركة كالأوقاف العامة فلا يجوز له إشغال المساجد و المعابد بافتراش السجادة و وضع التربة في مكان المصلّين إلّا بقصد العبادة مثلًا، لأنّ ذلك على خلاف وجهة

______________________________

(1) المستدرك: 17/ 111، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 240

الوقف، و أمّا المباحات العامّة فلا يشترط فيها قصد الانتفاع شخصياً، بل يكفي فيها مجرّد الحيازة الخارجية، بشرط إمكان الانتفاع بها بنفسها أو بقيمتها. و على ذلك جرت السيرة.

هذا تمام الكلام في النوع الأوّل ممّا يحرم التكسّب به.

***

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 241

الاكتسابات المحرمة

(2)

النوع الثاني: الاكتساب بما يحرم ما يقصد منه

و هو على أقسام:

القسم الأوّل: ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاص إلّا الحرام،

و هي أُمور:

1. هياكل العبادة المبتدعة كالصنم و الصليب.

2. آلات القمار على اختلاف أصنافها.

3. آلات اللهو.

4. أواني الذهب و الفضة.

5. الدراهم المغشوشة.

القسم الثاني: ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة، و فيه مسائل ثلاث:

1. أن يبيع العنب على أن يعمل خمراً.

2. أن يعامل على عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام، كالعقد على الجارية المغنية.

3. أن يبيع العنب ممّن يعمله خمراً بقصد أن يعمله ...

القسم الثالث: ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأناً

1. بيع السلاح من أعداء الدين.

2. بيع السلاح من قطّاع الطريق.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 243

النوع الثاني: الاكتساب بما يحرم ما يقصد منه

القسم الأوّل: ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاص إلّا الحرام

اشارة

و فيه أُمور:

الأوّل: هياكل العبادة المبتدعة كالصنم و الصليب
اشارة

( «1») بيع هياكل العبادة المبتدعة يتصور على وجهين: تارة المبيع هو المادة المتهيئة بالهيئة الخاصة، و أُخرى يكون المبيع نفس المادة فنبحث في الصورتين، واحدة تلو الأُخرى.

الأصنام بمادتها و صورتها

فقال المفيد (قدس سره) في «المقنعة»: و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك، حرام و بيعه و ابتياعه حرام. ( «2»)

و قال سلّار (قدس سره) في «المراسم»: فأمّا المحرم ... و عمل الأصنام و الصلبان، و كلّ آلة يظن الكفّار أنّها آلة عبادة لهم، و التماثيل المجسمة. ( «3»)

______________________________

(1) في كون الصليب من هياكل العبادة المخترعة تأمّل، و الظاهر أنّ الصليب عند النصارى شي ء مقدّس يشار به إلى صلب المسيح- على نبيّنا و آله و (عليه السلام)- و ليس هيكلًا عبادياً.

(2) المقنعة: 90، كتاب المكاسب.

(3) المراسم: 170.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 244

و الظاهر انّ العبارة ناظرة إلى حرمة نفس عمل تلك الصور، و أمّا حرمة بيعه فاستفادتها منها يحتاج إلى مقدّمة أُخرى.

و قال العلّامة في «المنتهى»: و يحرم عمل الأصنام و الصلبان و غيرهما من هياكل العبادة المبتدعة. ( «1»)

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 244

و قال المحقّق في «الشرائع»: ما يحرم لتحريم ما قصد به ... و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم. ( «2»)

و قال العلّامة في «التذكرة»: ما أسقط الشارع منفعته، لا نفع له فيحرم بيعه، كآلات الملاهي مثل العود و الزمر، و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم. ( «3»)

و قال المحقّق الأردبيلي في «مجمع الفائدة»: ما يحرم لتحريم

ما يقصد به ... و كالأصنام و الصلبان، و دليل تحريم الكلّ: الإجماع. ( «4»)

و قال صاحب الرياض في شرح قول المحقّق: «الثاني: الآلات المحرّمة، كالعود و الطبل و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصنم و الصليب و آلات القمار كالنرد و الشطرنج» و غيرهما بإجماعنا المستفيض. ( «5»)

و قال صاحب الجواهر (قدس سره) بعد نقل عبارة المحقّق: و نحو ذلك بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه و النصوص. ( «6»)

و لأجل ذلك يقول الشيخ الأعظم (قدس سره): بلا خلاف ظاهر، بل الظاهر الإجماع عليه.

______________________________

(1) المنتهى: 2/ 1011.

(2) الشرائع: 2/ 9، كتاب التجارة، فصل فيما يكتسب به.

(3) التذكرة: 10/ 36، المسألة 16، فصل في العوضين، كتاب البيع.

(4) مجمع الفائدة: 8/ 41، كتاب المتاجر.

(5) رياض المسائل: 8/ 49، كتاب التجارة.

(6) الجواهر: 22/ 25.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 245

و قال ابن قدامة: و عن جابر انّه سمع النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) عام الفتح و هو بمكة يقول: «إنّ اللّه و رسوله حرم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام». ( «1»)

ثمّ الكلام في بيع هياكل العبادة المخترعة يقع تارة في الحرمة التكليفية، و انّ نفس التكسّب و المعاوضة عليها حرام، و أُخرى في الحرمة الوضعية و بطلان المعاملة بها و يكون الثمن المقبوض، مقبوضاً بالعقد الفاسد، و يدخل في القاعدة المعروفة: «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

و أمّا صور المسألة: فالبيع تارة يكون للغاية المحرّمة كبيع الصنم لغاية العبادة، إمّا للاشتراط في متن العقد أو التواطؤ عليها خارج العقد.

و أُخرى بيعها لمن يعلم تحقّق تلك الغاية منه، و إن لم يكن مشترطاً في متن العقد أو متواطئاً عليه خارجه،

كبيع الصنم لمن نعلم أنّه يشتريه للعبادة، أو نعلم أنّه يشتريه ليبيعه من عابده.

و ثالثة بيعها ممّن نعلم أنّه لا تتحقّق منه تلك الغاية، كما إذا اشتراها المسلم بما انّه من الآثار العتيقة القديمة، أو لكسرها طلباً للثواب الأُخروي، أو لغير ذلك من الغايات التي لا تتحقّق فيها تلك الغاية المحرّمة.

ثمّ هل يحرم التكسّب مطلقاً، أو يفصّل بين الصور؟

البيع للغايات المحرّمة

لا يمكن إظهار النظر إلّا بعد دراسة الأدلّة، و قد استدلّ بوجوه: أظهرها بعد الإجماع ما دلّ على المنع من بيع الخشب ممّن يجعله صليباً أو صنماً، فإذا كان البيع لتلك الغاية حراماً فحرمة بيع نفس تلك الهياكل تثبت بالأولوية، ففي صحيحة

______________________________

(1) المغني: 4/ 201.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 246

ابن أُذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: «لا بأس به». و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً؟ قال: «لا». ( «1»)

و صحيحة عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن التوت أبيعه يصنع للصليب و الصنم؟ قال: «لا». ( «2»)

وجه الدلالة- كما أشرنا إليه- انّه إذا كان البيع لصناعة الصليب و الصنم حراماً، فيكون بيع نفس الصنم أولى بالحرمة.

أضف إلى ذلك أنّ الثابت من سيرة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و الوصي (عليه السلام) هو كسر الأصنام، و كان (صلى الله عليه و آله و سلم) يبعث رجالًا لكسر أصنام القبائل في أطراف الحجاز، و قد قام- نفسي فداه- بنفسه بكسر أصنام أطراف الكعبة، و رفع علياً (عليه السلام) على غاربه لكسرها، و في ذلك يقول القائل:

و صعود غارب أحمد فضل له*** دون

الصحابة و القرابة أجمعا

و وجوب الكسر يدلّ على عدم الضمان الملازم لعدم ماليته عند الشرع.

فإن قلت: إنّ جواز الإتلاف مع عدم الضمان لا يدلّ على عدم المالية، كجواز إتلاف مال الكافر الحربي مع عدم ضمانه، مع أنّه مال عند الشرع.

قلت: فرق بين الأمر بالكسر و الإتلاف و إعدام الموضوع، و بين جواز الانتفاع مع عدم الضمان، و المقام من قبيل القسم الأوّل، فهو يلازم عدم المالية عند الشرع، بخلاف الثاني، و لأجل ذلك لا يجوز فيه الإسراف و الإحراق و إنّما يجوز الانتفاع بلا عوض، فيخرج من تحت العمومات مثل قوله تعالى: (أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) فانّ البيع إنّما هو المعاوضة بين المالين، و المراد من المالية هو ما يعد مالًا عند

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 3.

(2) الوسائل: 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 247

الشرع، لا عند العرف بما هو هو و إن كان مخالفاً للشرع، لعدم معقولية تنفيذ الشارع بيع ما لا يعترف بماليته و ضمانه.

و يوضح المقصود- أي حرمة بيع الصنم- ما دلّ على حرمة بيع الخمر، فانّ المفاسد المترتبة على بيع الصنم أقوى ممّا يترتب على بيع الخمر، و لأجل تلك الأقوائية، نرى أنّه (عليه السلام) شبّه مُدْمِنُ الخمر بعابد الوثن، كقول أبي عبد اللّه (عليه السلام): «مدمن الخمر يلقى اللّه يوم يلقاه كعابد وثن» ( «1») كما أنّ عبادته أكثر شراً و فساداً من شرب الخمر. و على ذلك يكون بيع الصنم كبيع الخمر، و عبادته كشربه في الحرمة.

و بعبارة أُخرى: دلّت الروايات على أنّ شرب الخمر مفتاح

كلّ شرّ كما رواه أبو بكر الحضرمي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «الغناء عش النفاق، و الشرب مفتاح كلّ شر» ( «2»)، فإذا كان شرب الخمر مفتاح كلّ شر، يلزم أن يكون بين الصنم و الخمر عموم المنزلة، فالصنم كالخمر و عبادته كشربه و بيعه كبيعه لما بينهما من التقارن و التشابه، و هذه الوجوه تفيد القطع بحرمة بيع الهياكل المعدّة للعبادة.

أضف إلى ذلك، الروايات العامة التي مرّ بيانها في صدر الكتاب، فانّها و إن لم يصحّ اسنادها، لكنّها تصلح لأن تكون مؤيدة للحكم.

ثمّ إنّه يستدلّ على الحكم بقوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً). ( «3»)

وجه الاستدلال: انّه إذا كانت المنفعة المقصودة من هذه الهياكل محرّمة

______________________________

(1) الوسائل: 17/ 254، الباب 13 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 3. و لاحظ الأحاديث 4 و 5 و 6 و 7 و 9 من هذا الباب.

(2) الوسائل: 17/ 256، الباب 13 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 17.

(3) النساء: 29.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 248

تكون المعاوضة عليها، معاوضة على الشي ء بالباطل الذي لا يقوم بشي ء.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بالآية في هذا المورد و نظائره غفلة عن مفادها، و ما ورد فيها من الروايات. أمّا ظاهرها، فلأنّ الظاهر من لفظة «بالباطل» انّها للسببية، فتكون الآية ناظرة إلى الأسباب الصحيحة و زاجرة عن الأسباب الباطلة كالربا و بيع الحصاة و المنابذة و الملامسة، و أمّا المعاوضة على شي ء غير قابل للمعاوضة، فهو خارج عن مفاد الآية. و أمّا الروايات فقد فسرت الآية بما ذكرناه، فعن زياد بن عيسى

قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ) ( «1») فقال: كانت قريش يقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه عزّ و جلّ عن ذلك. ( «2»)

و عن أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جلّ: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ) قال: «ذلك القمار». ( «3»)

ثمّ إنّ المادة في بيع المادة المتهيّئة بهيئة قد تكون ممّا لا مالية له كالمصنوع من الخزف و أمثاله، فلا شبهة في حرمة البيع تكليفاً، للأدلّة السالفة، و وضعاً لعدم ماليتها، أمّا المادة فواضح، و أمّا الهيئة فللزوم إتلافها، و عدم ضمان المتلف.

و قد تكون ممّا له قيمة كالذهب و الفضة، فلا إشكال في حرمة البيع تكليفاً و وضعاً لما ذكرناه.

و توهم أنّه إذا كان كلّ من الهيئة و المادة ذات شأن و مؤثراً في كمية الثمن فلما ذا لا يكون المورد من قبيل «بيع ما يملك منضماً إلى ما لا يملك» كبيع الشاة

______________________________

(1) البقرة: 188

(2) الوسائل: 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، و ص 121، الحديث 14.

(3) الوسائل: 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، و ص 121، الحديث 14.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 249

مع الخنزير في صفقة واحدة، و لما ذا لا يقسط الثمن عليهما و يصحّ البيع في المادة دون الثمن غاية الأمر انّه يثبت للمشتري الخيار؟، مدفوع بأنّ التقسيط إنّما يصحّ إذا كان لكلّ ممّا «يملك و ما لا يملك» وجود مستقل حتّى يصحّ التقسيط حسب نظر العرف، و في

المقام الهيئة و المادة لهما وجود واحد ينحل عند العقل إلى مادة و هيئة، و مثل ذلك لا يكون محلًا للتقسيط، فتأمّل. ( «1»)

و بذلك علمت حرمة التكسّب بهذه الهياكل تكليفاً و وضعاً في الصورتين الأُوليين، أعني: البيع للغاية المحرّمة، أو البيع في المورد الذي نعلم تحقق تلك الغاية إمّا من المشتري أو ممّن يشتري منه.

البيع لا لغايات محرمة

و أمّا البيع في غير هذين الموردين كبيعها ممّن يشتريه تحفّظاً على الآثار العتيقة القديمة، أو لكسرها طلباً للثواب الأُخروي، أو للاشتهار بأنّه كاسر الأصنام تشبهاً بالنبي و الوصي صلّى اللّه عليهما و آلهما. فهل يجوز البيع في هذه الصور أم لا؟ فيمكن أن يقال بقصور الأدلّة اللفظية عن شمولها، خصوصاً فيما إذا انقرض عبدة هذه الأصنام، و بعدم شمول دليل عقلي لهذه الصور، إذ لا تترتب على بيعها و شرائها و اقتنائها و حفظها أيّة مفسدة.

نعم يبقى هنا إشكال و هو أنّه كيف يمكن الحكم بجواز البيع مع أنّ مقتضى استصحاب حرمة البيع و لزوم الكسر و انتفاء المالية قبل البيع، حرمة البيع تكليفاً و وضعاً؟ و قد عرفت كيفية جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية حيث

______________________________

(1) وجه التأمّل هو وجود الفرق بين ما لا قيمة لمادته و ما له قيمة، كالذهب، فالظاهر إمكان استكشاف حكمه ممّا إذا باع ما يملك مع ما لا يملك- منه دام ظله-.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 250

قلنا: إنّ الحكم الكلّي إذا انطبق على موضوع خارجي يكون الموضوع للاستصحاب هو الموضوع الخارجي دون الموضوع الذي أخذ في لسان الدليل، و في المقام إذا انطبق الحكم الكلي على صنم من الأصنام. يقال: انّ هذا الصنم كان واجب الكسر، منتفى المالية، و محرّم

البيع، فنشكّ في بقاء هذه الأحكام الثلاثة عند البيع لغاية التحفّظ أو لغاية الكسر و الأصل بقاؤه.

و ما أفاده سيّدنا الأُستاذ- دام ظله- من عدم جريان استصحاب الحكم الجزئي، لأنّ الحكم المستكشف من مناط عقلي لا يمكن أوسعيته عن موضوعه و مناطه، و لا استصحاب الكلّي، لأنّ الجامع بين الحكمين انتزاعي عقلي لا حكم شرعي، و لا موضوع ذو حكم كذلك ( «1»)، غير تام، لأنّ الحكم الشرعي المستصحب هنا ليس حكماً عقلياً، و لا مستكشفاً عنه، بل الحكم الشرعي هنا مستفاد من الإجماع، و من الروايات السابقة الدالّة على حرمة بيع الخشب للصنم و الصليب، و ما دلّت على أنّ مدمن الخمر كعابد الوثن إلى غير ذلك.

و على ذلك فالاستصحاب حجّة في المقام إلّا أن تقوم حجّة أقوى منه.

و لو أغمضنا عن الاستصحاب الحاكم على البطلان نقول: إنّ بيع الصنم لغاية الكسر على قسمين:

الأوّل: أن يبيع الصنم و لم يكن لمادته قيمة كما إذا كان الصنم مصنوعاً من خشب صغير لا قيمة له، و أراد المشتري أن يشتريه لغاية الكسر طلباً للثواب أو للاشتهار به بين الناس، لكن جواز بيعه متوقّف على كون الصنم ذا قيمة في هذه الحالة، و المفروض أنّ الشارع أسقط مالية الصورة، و ليست لمادته قيمة، فكيف يمكن تنفيذ بيع ما ليس مالًا؟

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة: 1/ 109.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 251

اللّهمّ إلّا أن يقال: انّ حيازته لغاية الكسر لمّا لم تكن أمراً محرماً لا تُسْقِط الصورة عن المالية عند الشرع، فيصحّ بيعه بشرط أن يعلم أو يطمئن بأنّ البيع لتلك الغاية حتّى يتيقّن كونه مالًا، و أمّا عند الشكّ بأنّ الشراء لهذه الغاية أو لا، فلا يصحّ

بيعه للشكّ في ماليته، و على كلّ تقدير فهذه الصورة من نوادر الصور.

الثاني: أن يكون لرضاضه قيمة و هو الذي ذكره العلّامة، و نقله الشيخ الأعظم عن «تذكرته» و إن لم نجده فيها، قال: إذا كان لمكسورها قيمة و باعها صحيحة لتكسر، و كان المشتري ممّن يوثق بديانته، فانّه يجوز بيعها على الأقوى، فقد ذكر العلّامة لجواز البيع قيوداً ثلاثة:

1. أن يكون لمكسورها قيمة.

2. البيع لغاية الكسر.

3. موثوقاً بديانة المشتري.

أمّا الشرط الأوّل: فلأنّه لولاه لما صحّ البيع.

و أمّا الثاني: فلأنّه لولاه لعمّته عمومات المنع و أدلّة التحريم، لأنّه تترتب عليه العبادة المبتدعة.

و أمّا الثالث: فليس هو شرطاً ثالثاً في قبال الشرطين في عالم الثبوت، و إنّما هو شرط لإحراز الشرط الثاني، فلو أحرز أنّ البيع لغاية الكسر و لو من طريق آخر غير وثاقة المشتري، يصحّ البيع و إن لم يكن المشتري موثوقاً به.

و كلتا الصورتين راجعتان إلى ما إذا باع هياكل العبادات بهيئتها و مادتها، غير أنّ الشيخ الأعظم حمل عبارة العلّامة على ما إذا باع المادة ( «1»)، و أورد على العلّامة بالاستغناء عن القيد الثالث بكسره قبل أن يقبضه إيّاه فانّ الهيئة غير محرمة

______________________________

(1) سيأتي البحث عنه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 252

في هذه الأُمور كما صرّحوا به في باب الغصب.

يلاحظ عليه: أنّ ما فرضه خلاف مفروض العلّامة من كون المبيع هو الصنم بهيئته، يشتريه لغاية الكسر طلباً للثواب أو لكسب الاشتهار كما يعبر عنه قوله «ليكسر».

نعم يصحّ ما ذكره إذا كان المبيع مادة الصنم الذي سنبحث عنه.

و بذلك يعلم أنّ جواز البيع لا يتوقف على كون الغاية الكسر، بل يكفي عدم ترتيب الغاية المحرّمة عليه، كما إذا انقرض عبدة

تلك الأصنام و كان البيع للحفاظ عليه في أحد المتاحف، هذا كلّه إذا كان المبيع هو الهيئة و المادة الذي هو المسألة الأصلية. ( «1»)

بيع الأصنام بمادتها فقط

إذا كان المبيع هو المادة فقط، فله صور:

1. إمّا أن لا يكون لها قيمة، كما إذا كانت مادة كارتونية؛ أو كان لها قيمة لكن لا يمكن تفكيك الصورة عن المادة إلّا بإبطال مالية المادة، كالرخام المحكوكة عليها صورة الصنم.

ففي هذين القسمين تبطل المعاملة لعدم مالية المادة في القسم الأوّل، و فوات المالية عند التفكيك في الثاني، و يلحق بهما ما إذا كانت مالية المادة طفيفة لكن باعها بقيمة تساوي قيمة المادة و الصورة، فانّ البيع في هذه الصورة يشبه الخدعة أو تعدّ المعاملة سفهية، فلا تشملها أدلّة نفوذ المعاملات.

______________________________

(1) و قد عرفت أنّ جواز البيع مبني على الغمض عن الاستصحاب، فلاحظ.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 253

2. إذا كان للمادة قيمة و باع الأصنام بمادتها بقيمة مساوية لها، كما إذا كانت الأصنام من خشب فوزنها بقيمة الحطب، فالظاهر صحّة المعاملة.

و هل يجب بيعها مع شرط الكسر إذا كان المشتري موثوقاً بديانته أو يصحّ مطلقاً؟ الظاهر الثاني، غاية الأمر انّه يجب على كلّ من البائع و المشتري الكسر، فمن خالف هذا التكليف أثم، و إن كان البيع لأجل وقوعه على المادة صحيحاً.

و ذهب سيدنا الأُستاذ- دام ظله- إلى صحّة المعاملة فيما إذا شرط المشتري على البائع عدم الكسر، قائلًا بأنّ الشرط الفاسد غير مفسد، و انّ كون الشرط فاسداً أو كون التسليم إعانة على الإثم لا يوجب بطلان المعاوضة. ( «1»)

نعم يمكن أن يقال: انّ شرط إبقاء الصورة إذا لم يحرز انّ الابتياع لأحد الأغراض الصحيحة- كالكسر طلباً للثواب، أو

للاشتهار بأنّه كاسر الأصنام-، يعدّ أمارة على كون المعاملة على المادة و الصورة، و انّ عنوان كون البيع على المادة خدعة من جانب المشتري أو الطرفين.

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 113.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 254

الثاني: آلات القمار على اختلاف أصنافها

يظهر من الأصحاب الاتفاق على حرمة بيعها و إليك شيئاً منها:

قال سلّار في «المراسم»: فأمّا المحرم ... و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك من آلات اللعب و القمار و بيعه و ابتياعه. ( «1»)

و قال المحقّق في «الشرائع»: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثل العود و الزمر ... و آلات القمار كالنرد و الشطرنج. ( «2»)

و قال العلّامة في «التذكرة»: مسألة: ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فيحرم بيعه كآلات الملاهي مثل العود و الزمر ... و آلات القمار كالنرد و الشطرنج. ( «3»)

و قال في «المنتهى»: و يحرم آلات اللهو كالعود و الزمر و آلات القمار كالنرد و الشطرنج و الأربعة عشر و غيرها من آلات اللهو بلا خلاف بين علمائنا. ( «4»)

و قال النراقي في «المستند»: ما يقصد منه المحرم كآلات اللهو ... و آلات القمار من النرد و الشطرنج و غيرهما، و لا خلاف في حرمة بيعها و التكسّب بها، و نقل الإجماع- كما قيل به- مستفيض، بل هو إجماع محقّق. ( «5»)

و تدلّ على الحرمة- مضافاً إلى الإجماع و السيرة المسلمة بين المسلمين الحاكية

______________________________

(1) المراسم: 170.

(2) الشرائع: 2/ 9، كتاب التجارة، فصل فيما يكتسب به.

(3) التذكرة: 10/ 36، المسألة 16، كتاب البيع.

(4) المنتهى: 2/ 1011، كتاب التجارة.

(5) المستند: 14/ 88، كتاب المكاسب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 255

عن حرمة المعاملة- روايات:

1. رواية أبي الجارود، عن أبي

جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ( «1») قال: «أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب- إلى أن قال (عليه السلام):- و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج، و كلّ قمار ميسر». ( «2») و الرواية ضعيفة بأبي الجارود و هو زيدي.

2. مرسل ابن إدريس، عن جامع البزنطي، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «بيع الشطرنج حرام». ( «3»)

3. و يمكن تسرية الحكم إلى كلّ آلة أُعدّت للقمار، لقوله في صحيحة معمر بن خلاد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «النرد و الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة، و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر». ( «4»)

4. و ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «النرد و الشطرنج هما الميسر». ( «5»)

و هذه الروايات تفيد عمومية الحكم لكلّ ما يصدق عليه أنّه ميسر و آلة للقمار.

5. و روى البيهقي في سننه عن ابن عمر: كان إذا وجد أحداً من أهله يلعب بالنرد ضربه و كسرها. ( «6»)

6. و روى نظير ذلك عن عثمان، و انّه كان على المنبر و قال: أيّها الناس إيّاكم

______________________________

(1) المائدة: 90.

(2) الوسائل: 12/ 239، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.

(3) الوسائل: 12/ 241، الباب 103 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(4) الوسائل: 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.

(5) الوسائل: 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.

(6) السنن الكبرى: 10/ 216.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 256

و

الميسر- يريد النرد- فانّها قد ذكرت لي انّها في بيوت ناس منكم، فمن كانت في بيته فليحرقها أو فليكسرها. ( «1»)

و على كلّ تقدير فلا ينبغي أن يشكّ في حرمة بيع المادة الموصوفة بوصف معد للقمار، إنّما الكلام في جواز بيع المادة مع زوال الصفة المحرمة التي يحرم بيعها.

قال العلّامة: الأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة المحرّمة.

و أورد عليه الشيخ الأعظم: بأنّه إن أراد من زوال الصفة زوال الهيئة فلا ينبغي الإشكال في الجواز، و لا معنى لأن يكون مورداً للخلاف.

و قال السيد في تعليقته على «المكاسب»: لعلّه أراد بزوال الصفة عدم مقامرة الناس بها و تركهم لها بحيث خرجت عن كونها آلة للقمار و إن كانت الهيئة باقية.

و لا يخفى انّ التوجيه لا ينطبق على العبارة، و لعلّ في عبارة العلّامة سقطاً، و هو سقوط كلمة «اشتراط»، و قد مضى نظير تلك العبارة عن العلّامة في بيع هياكل العبادة، ثمّ إنّه يأتي فيها الصور التي قدمناها في بيع هياكل العبادة.

ثمّ إنّ المراد من القمار هو المراهنة، و المسابقة، و المغالبة، سواء كان مع العوض، أم غيره، فكلّ آلة معدّة للمراهنة مع العوض بحيث لا يقصد منها غيرها تحرم المعاوضة عليها، و أمّا الآلة المعدّة للمراهنة بدون العوض، فلو قلنا بحرمة نفس المراهنة يلحق بها حكم آلتها، و إلّا فلا، كالكرة و الصولجان. ( «2») و نظيرهما كرة القدم.

ثمّ إنّه كثرت في هذه الأيّام آلات المغالبة بلا عوض كما هو معلوم لمن له أدنى مراجعة إلى المجتمع، و سيأتي حكم تلك المراهنات عند البحث عن حكم القمار.

______________________________

(1) السنن الكبرى: 10/ 215.

(2) و ما في مكاسب الشيخ من: الترسة و الصولجان فالظاهر انّه تصحيف.

المواهب في تحرير

أحكام المكاسب، ص: 257

الثالث: آلات اللهو

و المراد من هذا اللفظ هو ما أعدّ للّهو، و على ذلك فلا يظهر حكم الموضوع سعة و ضيقاً إلّا بعد ظهور معنى اللهو و حرمته كذلك، و بما انّ الشيخ أخّر بيان معنى اللهو إلى الأبحاث الآتية، فنحن نقتفي أثره، غير انّ هناك مصاديق متيقّنة للآلات و هي المزمار و المعازف و الأوتار و القيثارات و الطنبور و غيرها ممّا يستعمله أهل اللهو في مجالسهم و محافلهم.

و يدلّ على التحريم تكليفاً و وضعاً بعد الإجماع، و بعد الروايات العامّة الماضية في صدر الكتاب، خصوص ما رواه صاحب المستدرك عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) انّه قال: «إنّ اللّه تعالى بعثني هدى و رحمة للعالمين، و أمرني أن أمحو المزامير و المعازف و الأوتار و الأوثان و أُمور الجاهلية- إلى أن قال:- إنّ آلات المزامير شراؤها و بيعها و ثمنها و التجارة بها حرام». ( «1»)

و يمكن استفادة الحرمة الوضعية ممّا دلّ على حرمة استعمالها و الاشتغال بها و انّ استعمالها من الكبائر، فإذا كان الاستعمال كذلك صارت الآلة ممّا لا منفعة له شرعاً، و تكون المعاوضة عليها معاوضة على ما لا منفعة له.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع أسقط مالية هذه الأشياء، و بهذه الكيفيات

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 219، الباب 79 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 258

صيّرها في عداد ما لا منفعة له، و عندئذ يكون بذل المال عليها بذلًا لما لا منفعة له عند الشرع، و حينئذ لا تشمله إطلاقات التنفيذ و الإمضاء، أعني قوله سبحانه: (أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) أو (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، و سيأتي حكم هذه

الأشياء في النوع الثالث، أعني: بيع ما لا منفعة له عرفاً أو شرعاً.

و ممّا دلّ على أنّ هذه الأشياء لا مالية لها هو اتّفاقهم على لزوم كسرها و عدم ضمانها، و يؤيّده ما رواه البيهقي في سننه عن ابن عمر «كان إذا وجدها مع أحد من أهله أمر بها فكسرت و ضربه ثمّ أمر بها فأُحرقت بالنار». ( «1»)

ثمّ إنّه يأتي فيها ما ذكرنا في الأصنام في بيع هياكل العبادة.

______________________________

(1) السنن الكبرى: 10/ 216.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 259

الرابع: آنية الذهب و الفضة

اتّفقت الفقهاء عامة- عدا داود- على أنّه لا يجوز الأكل و الشرب في آنية الذهب بلا خلاف، بل في «الجواهر»: إجماعاً من كلّ من يحفظ عنه العلم عدا داود فانّه حرّم الشرب خاصة، إجماعاً محصلًا و منقولًا مستفيضاً إن لم يكن متواتراً، و عن بعض الأصحاب التصريح باتّفاق المسلمين على حرمة الأكل و الشرب.

نعم قال الشيخ في «الخلاف»: يكره استعمال أواني الذهب و الفضة، و كذلك المفضّض منها. ( «1»)

و الظاهر انّ مراده من الكراهة هو الحرمة، بقرينة ما نقل من الأخبار بعد الحكم بالكراهة.

و قال أيضاً في «الخلاف»: أواني الذهب و الفضة محرّم اتّخاذها و استعمالها، غير أنّه لا تجب فيها الزكاة. ( «2»)

و أمّا الإناء فقد فسره في «المصباح المنير» بالوعاء و الأوعية، و لا يخفى أنّه تفسير بالأعم، و إلّا لزم حرمة استعمال وعاء السمن و الماء و الساعة و ... مع أنّ شمول الحرمة لها بيّن البطلان.

و الظاهر أنّ المراد من الإناء ما كان معدّاً للأكل و الشرب و الطبخ، و غير ذلك يشكّ في صدق الإفناء عليه.

______________________________

(1) الخلاف: 1/ 7، كتاب الطهارة، المسألة 15.

(2) الخلاف: 1/ 307، كتاب الزكاة،

المسألة 103.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 260

ثمّ إنّ الحكم بالحرمة في أواني الذهب و الفضة و إلحاقها بهياكل العبادات و آلات القمار، إنّما يصحّ في صورتين:

1. إذا كانت مسلوبة المنفعة على وجه الإطلاق حتّى يحرم اقتناؤها و التزيين بها، و عندئذ يدخل في النوع الثالث من الاكتسابات المحرّمة الذي سيطرحه الشيخ (قدس سره).

و إن شئت قلت: إذا كانت مسلوبة المنفعة تكون مسلوبة المالية: فلا تشملها الإطلاقات و العمومات التنفيذية.

اللّهمّ إلّا أن يقال: انّ الميزان في المالية كونه مبذولًا بازائه الثمن عند العرف لا عند الشرع، و لكنّه بعيد، إذ من البعيد أن يكون الشي ء ممّا لا منفعة له عند الشارع لكن ينفذه بأدلّة التنفيذ و عموماتها.

نعم، لو قلنا بجواز الاقتناء أو التزيين بها فلا وجه لتحريم المعاملة تكليفاً و وضعاً.

و ربّما يستدلّ على حرمة اقتنائه بما ورد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: «آنية الذهب و الفضة متاع الذين لا يوقنون». ( «1»)

و لكنّ الاستدلال به لا يخلو من تأمّل، لكونه مثل قوله سبحانه: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلٰادِ). ( «2»)

فالحكم أخلاقي يهدف إلى حسن الزهد في الدنيا.

2. إذا وقعت المعاملة على المادة المتهيّئة بالهيئة الخاصة التي لا ينتفع بها إلّا في الحرام، و أمّا إذا وقعت على الهيئة و المادة، و لكن بشرط كسرها، أو على نفس المادة، أو غير ذلك من الصور التي قدّمناها، فلا وجه للتحريم.

______________________________

(1) الوسائل: 2/ 1084، الباب 65 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(2) الحديد: 20.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 261

الخامس: الدراهم المغشوشة

تحرم المعاملة على الدراهم المعمولة لأجل غشّ الناس إذا لم يفرض

على هيئتها الخاصة منفعة محلّلة مثل التزيين، و يقع الكلام في موضعين:

الأوّل: في التزيين أو دفعه إلى الظالم للتخلّص.

الثاني: في جواز المعاوضة عليها.

أمّا الأوّل: فقد نسب إلى جماعة وجوب كسرها و إعدامها، و بالنتيجة لا يصحّ التزيين بها، و لا يجوز دفعها إلى الظالم، مستدلًا بما رواه المفضل بن عمر الجعفي قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأُلقي بين يديه دراهم، فألقى إليّ درهماً منها فقال: «ايش هذا؟» فقلت: ستوق، فقال: «و ما الستوق؟» فقلت: طبقتين فضة و طبقة من نحاس، و طبقة من فضّة، فقال: «اكسرها فانّه لا يحلّ بيع هذا و لا إنفاقه». ( «1»)

و بما رواه موسى بن بكر قال: كنّا عند أبي الحسن (عليه السلام) و إذا دنانير مصبوبة بين يديه. فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه نصفين، ثمّ قال لي: «القه في البالوعة حتّى لا يباع شي ء فيه غش». ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 473، الباب 10 من أبواب الصرف، الحديث 5.

(2) الوسائل: 12/ 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 262

و مثله ما في «المستدرك» عن «دعائم الإسلام» عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن إنفاق الدراهم المحمول عليها. قال: «إذا كان الغالب عليها الفضة فلا بأس بإنفاقها»، و قال في الستوق و هو المطبق عليه الفضة و داخله نحاس: «يقطع و لا يحل أن ينفق و كذلك المزيّفة و المكحلة». ( «1»)

و الظاهر عدم دلالة هذه الروايات على وجوب الكسر نفسياً و حرمة إبقائها حتّى يحرم التزيين أو غيره من المنافع المحلّلة كردّ شر الظالم بدفعها، لأنّ الظاهر من إيجاب الكسر هو عدم جواز المعاملة

عليها، و يوضح ذلك، التعليل الوارد في الروايات الثلاث، حيث قال (عليه السلام) في الأُولى: «فانّه لا يحلّ بيع هذا و لا إنفاقه»، و قال (عليه السلام) في الثانية: «حتّى لا يباع شي ء فيه غش»، و إنّما المهم هو الكلام في المقام الثاني.

فنقول: إنّ الدراهم المغشوشة على قسمين:

الأوّل: أن تكون مسكوكة بسكة رائجة معتبرة اعترفت بها الحكومة، أو كانت رائجة عند الناس يتعاملون عليها، بلا غمض و تردد، فالمعاملة عليها لا تعدّ غشاً لعدم سقوطها من الاعتبار عند الحكومة و لا عند الناس، سواء أ كان المتعاملان عالمين أو جاهلين أو مختلفين.

نعم، إذا أسقطته الحكومة من الاعتبار، أو لم يتعامل عليها عند الناس، تعدّ المعاملة عليها غشاً بلا كلام، و ما ورد من الروايات من جواز المعاملة على هذه الدراهم يحمل على الرائج عند الحكومة، و المعترف بها عند الناس، مثل رواية محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: جاءه رجل من سجستان فقال له: إنّ عندنا دراهم يقال لها «الشاهية» تحمل على الدرهم دانقين. فقال:

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 351، الباب 6 من أبواب جواز إنفاق الدراهم المغشوشة، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 263

«لا بأس به إذا كانت تجوز». ( «1»)

و ما عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): أشتري الشي ء بالدراهم فأعطي الناقص الحبة و الحبتين؟ قال: «لا، حتّى تبيّنه»، ثمّ قال: «إلّا أن يكون نحو هذه الدراهم الأوضاحية التي تكون عندنا عدداً». ( «2»)

و ما رواه البرقي، عن فضل أبي العباس قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الدراهم المحمول عليها. فقال: «إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس، و إن

أنفقت ما لا يجوز بين أهل البلد فلا». ( «3»)

و ما رواه حريز بن عبد اللّه قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فدخل عليه قوم من أهل سجستان فسألوه عن الدراهم المحمول عليها؟ فقال: «لا بأس إذا كان جواز المصر». ( «4»)

الثاني: أن تكون الدراهم ساقطة من الاعتبار حكومياً و شعبياً، فالمعاملة عليها على صورتين:

1. أن تكون المعاملة على الثمن الكلّي غير أنّه دفع عند المعاوضة، الدراهم المغشوشة، فلا إشكال في صحّة المعاملة، غير أنّه يجب دفع الدراهم الصحيحة و استرداد المغشوشة، و الغالب في المعاملات هو هذا القسم.

2. إذا وقعت المعاملة على الدراهم الشخصية المغشوشة، فعندئذ إذا كان المتعاملان عالمين، أو كان البائع عالماً ( «5»)، فلا شكّ في صحّة المعاملة، لعدم صدق الغش بعد علم المتعاملين أو علم خصوص البائع الذي يتوجه إليه الضرر، و ما تقدّم من الروايات الثلاث من عدم صحّة المعاملة عليها منصرفة عن هاتين الصورتين.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 473، الباب 10 من أبواب الصرف، الحديث 6 و 7.

(2) الوسائل: 12/ 473، الباب 10 من أبواب الصرف، الحديث 6 و 7.

(3) الوسائل: 12/ 474، الباب 10 من أبواب الصرف، الحديث 9 و 10.

(4) الوسائل: 12/ 474، الباب 10 من أبواب الصرف، الحديث 9 و 10.

(5) لانّه مع علمه بالغش يرضى بالدرهم المغشوش من المشتري.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 264

و أمّا إذا كان المتعاملان جاهلين، أو كان البائع جاهلًا، فلا شكّ في معذورية الجاهل من حيث الحرمة التكليفية، دون العالم كالمشترى في المقام الذي يدفع الدرهم المغشوش، و إنّما الكلام في الحكم الوضعي فيهما، فنقول: إنّ الأوصاف و القيود المأخوذة في المعاملات على قسمين:

الأوّل: ما يعدّ مقوّماً للشي ء

و يعد صورة نوعية له عرفاً و إن ذكر بلفظ الوصف و الشرط، كما إذا اشترى جارية جميلة المنظر فظهرت عجوزاً كريهة، أو اشترى صندوقاً فبان انّه طبل.

و الثاني: ما يعد كمالًا للشي ء لا صورة نوعية، و مقوماً له كما إذا اشترى عبداً كاتباً فظهر أُمّياً.

فعلى ضوء ذلك، ففي ما إذا وقعت المعاملة على الدرهم المغشوش المشخص، المحدّد بصفات غير موجودة فيه، فإمّا أن تعدّ الصفات من الأُمور المقوّمة و الممنوعة فتبطل المعاملة، سواء كان الغش في المادة كما إذا كثر الخليط، أو كان الغش في السكة كما إذا اشتراه على أنّها سكة السلطان الفلاني فبانت سكة غيره.

وجه البطلان واضح، لأنّ المقصود و ما عقد عليه غير المدفوع، فوزان ذلك وزان ما إذا اشترى شيئاً مشخّصاً بأنّه قطن فبان حديداً، فلا يمكن تصحيح المعاملة و لو بجعل خيارات عديدة.

و أمّا إذا عدّ الفاقد بالنسبة إلى الواجد من قبيل الناقص إلى الكامل، و كان المدفوع هو المقصود غير أنّه لا يوجد فيه بعض ما اشترط فيه، فعندئذ لو كان النقص في المادة بكثرة الخليط لا على وجه يجعل الواجد و الفاقد نوعين، فالمعاملة صحيحة مع خيار العيب، و أمّا إذا كان الغش في السكة كما إذا وقعت المعاملة على الدرهم المسكوك في هذه السنة فبان انّه مسكوك في سنة قبلها أو بعدها، فتصحّ المعاملة مع خيار التدليس، لأنّه أخفى العيب الموجود فيه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 265

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) أفاد في المقام: و لو وقعت المعاوضة عليها جهلًا فتبيّن الحال لمن صارت إليه، فإن وقع عنوان المعاوضة على الدرهم المنصرف إطلاقه إلى المسكوك سكة السلطان بطل البيع. و إن وقعت المعاوضة

على شخصه من دون عنوان، فالظاهر صحّة البيع مع خيار العيب إن كانت المادة مغشوشة، و إن كان مجرّد تفاوت السكة فهو خيار التدليس فتأمّل.

الظاهر: انّ الشق الأوّل في كلامه ناظر إلى وقوع المعاملة على الدرهم الكلّي المنصرف إلى سكة خاصة كسكّة السلطان في مقابل سكّة التاجر أو سلطان آخر بقرينة قوله فيما بعد: و إن وقعت المعاوضة على شخصه من دون عنوان.

فيلاحظ عليه: أنّه لو كانت المعاملة واقعة على الدرهم الكلّي فلا وجه للبطلان بعد إمكان تسليم الغير إليه، كما هو الحكم في كلّ مورد وقع العقد على الشي ء الكلّي و تخلّف في مقام التسليم فأعطى غيره مكانه. ( «1»)

و أمّا الشق الثاني في كلامه: فقد صحّح البيع مع خيار العيب، لو كان الغش في المادة، و خيار التدليس مع كون الغش في السكة؛ و لكنّه غير تام، بل يجب التفصيل بين ما إذا كان الغش في المادة بالغاً إلى حدّ يجعل الناقص و الكامل شيئين متباينين، و بين ما إذا لم يكن بالغاً لهذا الحدّ، ففي الصورة الأُولى تبطل المعاملة، لأنّه بمنزلة المعاملة على الشي ء المعيّن بما أنّه قطن فبان حديداً، و أمّا الصورة الثانية فتصحّ المعاملة مع خيار العيب، لعدم عدّ الواجد و الفاقد من الأُمور المتباينة.

و مثله الغش في السكّة، فانّ الغش في السكّة تارة يبلغ إلى حدّ يجعل المسكوكين متباينين كسكّة السلطان و سكّة التاجر، و ربّما لا تبلغ إلى ذلك الحدّ،

______________________________

(1) و يحتمل أن يكون مراده في الشقّ الأوّل، هو وقوع المعاملة على شخص الدرهم لكن بعنوان أنّه سكّة السلطان، و في الشق الثاني: وقوع المعاملة على شخص الدرهم أيضاً لكن بدون تعنونه بعنوان، و على هذا لا يرد

عليه الإشكال في الشقّ الأوّل.- منه دام ظلّه-

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 266

كما في السكّة العتيقة و الجديدة، فإنّ الظاهر أنّ الاختلاف بينهما كاختلاف المرغوب مع غير المرغوب كما لا يخفى.

ثمّ إنّه يظهر من الشيخ الأعظم (قدس سره) فيما إذا كان الغش في الهيئة أنّه بصدد تصحيح المعاوضة على المادة، و إبطالها في الهيئة و تنظيرهما بما إذا جمع بين الخل و الخمر في صفقة واحدة، فيصحّ فيما يملك و تبطل في ما لا يملك.

و قال في وجه الاستظهار: «و هذا بخلاف ما تقدّم من الآلات، فانّ البيع الواقع عليها لا يمكن تصحيحه بإمضائه من جهة المادة فقط، و استرداد ما قابل الهيئة من الثمن المدفوع». ( «1»)

فترى أنّه يخصّ المنع بآلات القمار و لا يعطف عليه الدراهم الخارجة المغشوشة، مع أنّ ما ذكره من التعليل و إبداء الفرق يقتضي عطف الدراهم على آلات القمار، و إليك عبارته: إنّ كلّ جزء من الخل و الخمر مال، لا بدّ أن يقابل في المعاوضة بجزء من المال، ففساد المعاملة باعتباره يوجب فساد مقابله من المال لا غير، بخلاف المادة و الهيئة، فانّ الهيئة من قبيل القيد للمادة جزء عقلي لا خارجي تقابل بمال على حدة، ففساد المعاملة باعتباره فساد للمعاملة على المادة حقيقة، و هذا الكلام مطرد في كلّ قيد فاسد بذل الثمن الخاص لداعي وجوده». ( «2»)

و أنت ترى أنّ نسبة السكّة إلى المادة كنسبة هيئة آلات اللهو إلى مادتها فيجب أن يلحق بها لا بالخل و الخمر.

و حاصل ما ذكر من الفرق أنّ التقسيط، إنّما يجري في الأجزاء الخارجية التي يمكن الإشارة الحسية إلى كلّ جزء جزء، لا في الأجزاء العقلية التي ليس

لكلّ من المادة و الهيئة وجود على حدة فيها، و إنّما الموجود شي ء واحد يحلّله العقل إلى مادة و هيئة، فلاحظ.

______________________________

(1) المكاسب: 15، طبعة تبريز.

(2) المكاسب: 15، طبعة تبريز.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 267

الاكتسابات المحرّمة

(2)

النوع

[القسم] الثاني: الاكتساب بما يحرم ما يقصد منه

اشارة

و هو على أقسام:

الأوّل: ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاص إلّا الحرام. و قد مضى الكلام فيه.

الثاني: ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة، و فيه مسائل ثلاث:

1. أن يبيع العنب على أن يعمل خمراً.

2. أن يعامل على عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام كالعقد على الجارية المغنّية.

3. أن يبيع العنب ممّن يعمله خمراً بقصد أن يعمله خمراً.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 269

المسألة الأُولى: أن يبيع العنب على أن يعمل خمراً
اشارة

أن يبيع العنب على أن يعمل خمراً، أو الخشب على أن يعمل صنماً، أو آلة لهو، أو قمار. ( «1»)

فالبيع باطل سواء كان المبيع كلّياً أو جزئياً، سواء كان الشرط مصرحاً به في متن العقد، أو متواطأً عليه في الخارج و وقع البيع مبنياً عليه، فقد استدلّ الشيخ الأعظم على بطلان المعاملة بوجوه:

الأوّل: الإجماع، و ادّعى عدم الخلاف.

الثاني: كون المعاملة إعانة على الإثم.

الثالث: انّ الالتزام بصرف المبيع في المنفعة المحرّمة الساقطة في نظر الشارع أكل للمال بالباطل.

الرابع: ما نقل من الروايات، التي سيوافيك نقلها.

أمّا الدليل الأوّل: فهو غير بعيد كما هو ظاهر من كلام الأصحاب في باب الإجارة و غيره.

______________________________

(1) انّ الشيخ الأعظم (قدس سره) عطف على البيع إجارة المساكن ليباع أو يحرز فيها الخمر، و كذا إجارة السفن و الحمولة لحملها، و نحن نفرد للإجارة بحثاً خاصّاً.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 270

قال الشيخ في «الخلاف»: إذا استأجر داراً ليتّخذها ماخوراً (حانوتاً خ ل) يبيع فيها الخمر، أو ليتّخذها كنيسة، أو بيت نار، فإنّ ذلك لا يجوز، و العقد باطل.

و قال أبو حنيفة: العقد صحيح، و يعمل فيه غير ذلك من الأعمال المباحة دون ما استأجره له؛ و به قال الشافعي.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، و

أيضاً فهذه الأشياء محظورة بلا خلاف، فلا يجوز الاستئجار لها. ( «1»)

و قال أيضاً: إذا استأجر رجلًا لينقل له خمراً من موضع إلى موضع، لم تصح الإجارة. و به قال الشافعي.

و قال أبو حنيفة: تصحّ كما لو استأجره لينقل الخمر إلى الصحراء ليريقه.

دليلنا: ما قلناه في المسألة الأُولى سواء. ( «2»)

و قال العلّامة في «المنتهى»: يحرم بيع العنب ليعمل خمراً، و كذلك العصير، و به قال الشافعي و أحمد، و قال الثوري: يجوز مع الحلال فمن شاء .... ( «3»)

و قال المحقّق الأردبيلي (قدس سره) في «مجمع الفائدة»: و بيع العنب ... قد علم شرحه، فانّ البحث فيه مثل بحث السفينة و الدابة بعينه من غير فرق. ( «4»)

و قال السيد العاملي في «مفتاح الكرامة»: و إجارة السفن و المساكن للمحرّمات، و بيع العنب ليعمل خمراً، و الخشب ليعمل صنماً: فإمّا أن يعلم أنّه لا يعمل هذا العنب بخصوصه خمراً، و لا يتعاطى المحرّمات في خصوص هذا البيت، أو هذه الدابة؛ أو يعلم ذلك، أو يظن، أو لا يعلم و لا يظن، و دليل التحريم في الأوّل ظاهر لأنّه إعانة على الإثم و العدوان ....

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 215، كتاب الإجارة المسألة 37 و 38.

(2) الخلاف: 2/ 215، كتاب الإجارة المسألة 37 و 38.

(3) المنتهى: 2/ 1010، كتاب التجارة.

(4) مجمع الفائدة: 8/ 49، كتاب المتاجر.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 271

و أمّا الثالث و هو ما إذا آجر لمن يعلم أنّه يعمل أو يتعاطى بدون شرط في متن العقد، فإمّا أن يقصد بذلك الإعانة على ذلك أو لا، فإن قصد فلا ريب في التحريم، لأنّه إعانة على الإثم. ( «1»)

و قال النراقي في «المستند»: و

منها الإجارة و البيع، بل كلّ معاملة و تكسّب للمحرم، كإجارة المساكن و الحمولات للخمر، و ركوب الظلمة و إسكانهم للظلم، و بيع العنب و التمر و غيرهما ممّا يعمل منه المسكر ليعمل خمراً أو الخشب ليعمل صنماً. ( «2»)

و قال ابن قدامة: و بيع العصير ممّن يتّخذه خمراً باطل، فأمّا إن كان الأمر محتملًا، مثل أن يشتريها من لا يعلم حاله، أو من يعمل الخل و الخمر معاً، و لم يلفظ بما يدلّ على إرادة الخمر، فالبيع جائز، و إذا ثبت التحريم فالبيع باطل. و يحتمل أن يصحّ، و هو مذهب الشافعي.

و قال أيضاً: و هكذا الحكم في كلّ ما يقصد به الحرام، كبيع السلاح لأهل الحرب، و بيع الأمة للغناء أو إجارتها كذلك، أو إجارة داره لبيع الخمر ... فهذا حرام، و العقد باطل. ( «3»)

هذه كلمات الأصحاب و غيرهم، و الظاهر أنّ اتّفاقهم على الحكم لأجل الاستناد إلى الأدلّة العقلية و النقلية، نعم ليس مثل هذا الإجماع كاشفاً عن وجود دليل وصل إليهم و لم يصل إلينا، كما هو ظاهر لمن أمعن النظر في كلماتهم.

و أمّا الدليل الثاني: أعني كون المعاملة إعانة على الإثم، فغايته كون العمل حراماً تكليفاً لا وضعاً.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 37.

(2) المستند: 14/ 95، كتاب المكاسب.

(3) المغني: 4/ 200.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 272

و ما ربما يقال من أنّ الحرمة التكليفية تكشف عن مبغوضية العمل و هو لا يجتمع مع التنفيذ، مدفوع، بأنّ ذلك فيما إذا كان ذات العمل مبغوضاً حسب التشريع فلا يصحّ مع مبغوضيته الذاتية، تنفيذه بالإطلاقات و العمومات، فالبيع الربوي لمّا كان مبغوضاً بالذات- مثل إجارة المرأة نفسها للفحشاء لما كانت مبغوضة و

منفورة في الشريعة المقدّسة- فلا يجتمع مع التنفيذ، لأنّه أشبه بطلب الشي ء مع طلب تركه.

و أمّا إذا كان ذات العمل- بما هو- غير مبغوض، كالبيع عند النداء، و لكن انطبق عليه عنوان طارئ مبغوض و هو مانعيته عن استماع الخطبتين و المشاركة في فريضة الجمعة، ففي مثل ذلك لا يدلّ النهي على الفساد، و مثله المقام، فانّ بيع العنب بما هو هو ليس أمراً مبغوضاً و إنّما المبغوضية لأجل الاشتراط في متن العقد أو التواطؤ عليه، و هو لا يوجب كون ذات البيع مبغوضاً.

و أمّا الدليل الثالث: فلو أراد الاستناد إلى الآية الكريمة، فقد أوضحنا أنّ الآية ناظرة إلى الأسباب الباطلة كالقمار و غيره، و إن أراد انّ المعاوضة على العنب المشروط صرفه في الحرام، كالمعاوضة على ما لا منفعة له- الذي قد بحث عنه الشيخ الأعظم في النوع الثالث ( «1»)- فتدخل المسألة في هذا النوع.

و على كلّ تقدير، فقد أورد عليه المحقّق الخوئي- دام ظلّه-: بأن تخلّف الشروط الصحيحة إنّما يوجب الخيار

______________________________

(1) الاكتساب بما لا منفعة فيه محللة معتدّاً بها.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 273

للمشترط، لأنّ الشروط لا تقابل بجزء من الثمن، و الشروط الفاسدة لا تزيد على الصحيحة، فلا يسري فساد الشرط إلى العقد. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ تخلّف الشروط في صحيحها و فاسدها إنّما يوجب الخيار للمشترط إذا لم يكن الشرط بمنزلة ما يسقط المبيع عن المالية في محيط التشريع، و أمّا إذا بلغ إلى هذا الحدّ فلا يمكن الالتزام بصحّة البيع و فساد الشرط.

و قال- دام ظلّه- أيضاً: انّه يقسّط الثمن على الشروط في مثل بيع الشي ء مع شرط خياطة ثوب أو بناء دار أو نجارة باب،

و نحوها ممّا يوجب زيادة الثمن، و أمّا الشروط التي تجعل على المشتري أن لا يصرف المبيع إلّا في جهة خاصّة سواء أ كانت محرّمة أم محلّلة، فلا تقابل بشي ء من الثمن، و إذن فاشتراط البائع على المشتري صرف المبيع في الحرام لا يوجب فساد البيع حتّى على القول بالتقسيط.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره راجع إلى الشروط الفاسدة التي لا تجعل المبيع مسلوب المنفعة في محيط التقنين و التشريع، كاشتراط ترك التسري في بيع الأمة و غيرها، و أمّا اشتراط صرفها في مورد لا يقابل بالثمن أصلًا في محيط التشريع فلا يمكن أن يقال بصحّة البيع في المشروط و بطلانه في الشرط، و سنرجع إلى هذا الكلام عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ صاحب المستند استدلّ بوجه آخر، و هو انّ فعل المباح بقصد التوصّل إلى الحرام حرام، و المقام من مصاديق تلك القاعدة.

يلاحظ عليه: أنّ المقدّمة المحرّمة، على فرض تسليم حرمتها، إنّما تتم فيما إذا لم ينفك الحرام عن المقدّمة، كما في المقدّمات التوليدية، و الجزء الأخير من المقدّمات الاعدادية، و أمّا المقدّمات التي يتوسط بينها و بين ذيها إرادة الإنسان أو شي ء آخر، فلا تحرم بحرمة ذيها، و المقام من مصاديق تلك الضابطة.

نظرية السيّد الأُستاذ

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّه قد استدلّ سيّدنا الأُستاذ- دام ظلّه- على

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 162.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 274

الحرمة ببيان آخر و قرره بوجهين: ( «1»)

الأوّل: انّ مثل هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد مطلقاً فهو في قوّة بيع شي ء بشرط عدم صيرورته ملكاً للمشتري، فيكون مخالفاً لمقتضى العقد و موجباً لبطلانه، سواءً أقلنا بأنّ الشرط الفاسد مفسد أم لا، لأنّ الخلاف في الشرط الفاسد

إنّما هو في الشروط التي لا يضر اشتراطها بقوام المعاملة، و أمّا الشروط المنافية لماهيتها و قوامها، فلا ينبغي الكلام في مفسديتها، لرجوعها إلى التناقض في الجعل و التنافي في الإنشاء، و المقام من قبيل ذلك، فانّ العنب مثلًا مسلوب المنفعة بحسب قانون الشرع من حيث التخمير، فإذا كان مفاد الشرط تحريم الانتفاع بالمحلّل، يرجع إلى انتقال الشي ء مسلوب المنفعة مطلقاً، فلا تعتبر معه الملكية للمشتري، فيكون الشرط في قوّة البيع بشرط عدم الملكية و إن لم يكن بعينه هو. ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ الشرط إمّا أن يكون منافياً لنفس العقد، كأن يشترط عدم العوض في البيع، أو عدم الأُجرة في الإجارة، أو عدم الملكية للمثمن، بأن يقول: بعتك بشرط أن لا تملك المبيع، أو قال: بعتك العبد بشرط أن يكون منعتقاً، و نحو ذلك و يُمثّل لهذا القسم بقولهم: إذا باع بلا ثمن و آجر بلا أُجرة.

و أمّا أن يكون منافياً لمقتضاه، أي للازمه الخارج عن ماهيته، و هو على قسمين: لأنّ اللازم، إمّا لازم للعقد المطلق أو لمطلق العقد، و لا كلام في خروج ما كان لازماً للعقد المطلق عن محل الكلام، إذ لا إشكال في صحّة تقييد ما هو مقتضى إطلاق العقد، و إلّا لامتنع التقييد مطلقاً، بخلاف ما إذا كان لازماً لمطلق العقد بمعنى انّ العقد بنفسه و بما هو هو يقتضيه إمّا عرفاً، و إمّا شرعاً.

و الفرق بين اللازم العرفي و اللازم الشرعي واضح، لأنّ اللازم العرفي كالجزء

______________________________

(1) يأتي الوجه الثاني في ص 280 فانتظر.

(2) المكاسب المحرمة: 1/ 116.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 275

المقوّم للعقد، يلزم من انتفائه انتفاء العقد في نظر العرف، كجواز الانتفاع و السلطنة

على التصرف، بخلاف ما إذا كان لازماً شرعياً فلا يلزم من انتفائه انتفاء العقد، فالطلاق بيد الزوج لازم شرعي للنكاح و لا يمكن انفكاكه، إلّا أنّه لا يلزم من فرض عدمه، انتفاء حقيقة النكاح.

و إن شئت التوضيح فنقول: إنّ ما يخالف مقتضى العقد إمّا أن يخالف مقتضاه الأوّل الذي يوجد بالعقد في عالم الاعتبار بلا واسطة أمر اعتباري آخر كملكية المبيع للمشتري و الثمن للبائع، و لا ريب انّ اشتراط عدم هذا الأمر مخالف لمقتضى العقد، و فاسد و مفسد للعقد، لاستحالة تعلّق القصد الجدي بإيجاد المتناقضين.

و أمّا أن يخالف ما يترتب على مقتضاه الأوّل، و هذا ما نسمّيه بالمقتضي الثانوي، و هو على قسمين: تارة يكون من اللوازم و الآثار التي إذا انتفت، انتفت فائدة المقتضي الأوّل عرفاً- كجواز التصرّف في المبيع و الانتفاع به المترتب على ملكيته المتحقّقة بالعقد- فلو باع و شرط عدم جواز التصرف و الانتفاع يعدّ مثل هذا مخالفاً لمقتضى العقد، لأنّ الغاية القصوى من الملكية هي جواز الانتفاع و التصرّف، و مع عدم جوازهما لا يصحّ اعتبار الملكية عند العقلاء، و يعد مخالفاً للغرض الذي اعتبره العقلاء في العقود و المعاملات.

و أُخرى لا يكون المقتضي الثانوي بهذه المثابة، ففي مثله لا يضرّ شرط عدم ترتّب هذا الأثر على المقتضي الأوّل، هذا مثل شرط بيع المبيع من عمرو، أو شرط عدم بيعه منه، أو عدم بيعه وهبته و الاقتصار في الانتفاع بشئون أُخر.

و الفرق في المقتضى الثانوي بين القسمين هو أنّ القسم الأوّل يعدّ أثراً لمطلق العقد، و الثاني يعدّ أثراً للعقد المطلق.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 276

و بذلك يعلم أنّ كون الشرط مخالفاً لمقتضى العقد أعمّ من

أن يكون مخالفاً لمقتضاه الأوّل الذي يوجد بالعقد بلا واسطة كالملكية، أو يكون مخالفاً لمقتضاه الثانوي المترتب على المقتضي الأوّل بحيث لو لا المقتضي الثانوي، يعدّ اعتبار المقتضي الأوّل لغواً، و لا يجوز التفكيك في عالم الاعتبار بينهما.

ثمّ إنّ ما ذكرناه في القسم الثاني ممّا يترتّب على المقتضي الأوّل إنّما لا يعدّ مخالفاً لمقتضى العقد إذا كان الشرط بنحو الفعل، كأن يقول: أبيعك هذا المبيع بشرط أن لا تبيعه من زيد، أو مطلقاً، و أمّا إذا كان على وجه شرط النتيجة بمعنى، أن لا يكون لك سلطنة البيع من عمرو أو مطلقاً، فهو أيضاً يعدّ مخالفاً لمقتضى العقد، لأنّ مقتضى العقد تسلّط المشتري على البيع، و سلب السلطنة على البيع أو سلب السلطنة على الانتفاع يعدّ مخالفاً لاعتبار الملكية.

نعم، إذا كان على وجه شرط الفعل فلا يكون مخالفاً، لأنّ مفاد شرط الفعل ليس هو سلب السلطنة، بل مفاده طلب أن لا يفعله المشتري، و إن كان له سلطنة البيع، و شتان بينهما.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ فرض الشرط مخالفاً لمقتضى العقد لا بدّ و أن يرجع إلى أحد القسمين الأوّلين، كأن يكون منافياً لنفس العقد، كما إذا باع بشرط عدم العوض في البيع، أو عدم الأُجرة في الإجارة، أو عدم الملكية للثمن، أو يكون منافياً للازمه العرفي غير المنفك عنه في نظره بحيث يعدّ مقوّماً للعقد، كجواز الانتفاع و السلطنة على التصرّف.

و أمّا إذا كان منافياً للازمه الشرعي، فهو داخل في الشرط المخالف للكتاب و السنّة، كما أنّ الشرط المخالف لإطلاق العقد جائز بلا خلاف.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 277

دراسة حقيقة الشرط في المقام

إذا عرفت ذلك فهلمّ معي ندرس حقيقة هذا الشرط، و انّه من أيّ

قسم من الأقسام المزبورة.

لا شكّ أنّه ليس من قبيل القسم الأوّل- أي المخالف لنفس العقد- لأنّه لم يشترط على المشتري عدم ملكية المبيع، و معنى صرفه في الحرام و عدم صرفه في الحلال، لا يرجع إلى اشتراط عدم ملكيته لا بالدلالة المطابقية و لا بالدلالة الالتزامية، و إنّما يلزم ذلك إذا منعه عن التصرّف مطلقاً، لا ما إذا منعه عن التصرّف في قسم دون قسم.

و أمّا القسم الثاني: أي كونه منافياً للأثر العرفي اللازم للعقد، فغير لازم أيضاً، لأنّ للعنب في نظر العرف- مع غض النظر عن حكم الشرع- منفعتين:

الأُولى: أكله.

و الثانية: تخميره.

فمآل الشرط في نظر العرف تجويز الانتفاع بإحدى المنفعتين دون الأُخرى، و مثل هذا لا يُعدّ في نظر العرف ملازماً لانتفاء ما هو مقوّم للعقد، و كون العنب مع شرط التخمير مسلوب المنفعة عند الشرع خارج عن إطار البحث، لما قلنا من أنّ الشرط المنافي للأثر اللازم للعقد عند الشرع يرجع إلى كون الشرط مخالفاً للكتاب و السنّة، و لا يلزم من فرض عدمه انتفاء العقد، كانتفاء كون الطلاق بيد الزوج.

و بعبارة أُخرى: هذا الاشتراط لا يزيد على من باع عبداً و اشترط عتقه، أو باع و اشترط عدم بيعه من غيره أو هبته له، و قد احتمل العلّامة في «التذكرة» الجواز فيهما، و نقل عن بعضهم صحته.

و بالجملة فرق بين أن يشترط عدم الملكية للمبيع، أو يشترط شيئاً لا يجتمع

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 278

مع صحّة العقد عند العرف، و بين أن يمنعه من تصرّف دون تصرّف، كما إذا منعه عن البيع فقط أو عن الهبة مع تسويغ الانتفاع بغيرهما كالإيجار و العارية و غيرهما.

و إن شئت قلت: إنّ

شرط عدم الانتفاع من المبيع بالانتفاعات المحلّلة، و شرط الانتفاع من منافعه المحرمة، يرجع إلى شرطين، فالثاني من الشروط يرجع إلى الشرط المخالف للكتاب و السنّة، و لا ارتباط له بالشروط المخالفة لمقتضى العقد، و ليس مفاده اشتراط ترك الانتفاع من منافعه المحلّلة.

و أمّا الشرط الأوّل، فهو إذا كان على وجه شرط النتيجة، كأن يسلب منه السلطنة على الانتفاع، فهو أيضاً يعدّ مخالفاً لمقتضى العقد.

و أمّا إذا كان على نحو شرط الفعل، كأن يطلب منه عدم الانتفاع بالمحلّلة، فبما انّ للمبيع منافع تكوينية يبذل بازائها الثمن كالتخمير و إن كانت محرّمة، فلا يعدّ طلب ترك الانتفاع بالمحلّلة مع التمكّن بالمحرمة حينئذ شرطاً مخالفاً لمقتضى العقد و موجباً للغوية اعتبار الملكية، فانّ اعتبارها يتوقّف على وجود الأثر، و هو موجود بالانتفاع بالمنفعة المحرّمة، و لا يلزم وجود أثر أزيد من هذا. و كون تلك المنفعة محرمة لا صلة له باعتبار العقلاء، فانّ اعتبار العقلاء للملكية يتوقّف على وجود أثر لها في عالم الاعتبار لا في عالم الشرع.

و بذلك يظهر عدم تمامية ما ربما يقال من أنّ «مآل هذا الشرط (عدم جواز الانتفاع بالمنافع المحلّلة) بضميمة منع الشارع من بعض التصرّفات كالتخمير يعدّ مخالفاً لما يقصد من العقد» إذ فيه خلط بين الغاية التي تترتب على البيع شرعاً، و ما يترتب عليه في محيط العقلاء و عالم الاعتبار. و يكفي في صحّة العقد وجود أثر له في عالم الاعتبار. و لأجل ذلك لو بيع العنب في الدول الغربية الذين يعتادون شرب الخمر و يشربونها كشرب الماء و شرط على المشتري تخميره و عدم

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 279

الانتفاع به بغير ذاك الطريق، لا يعدّ

ذاك الشرط مخالفاً لمقتضى العقد، و لا تعدّ الملكية في ذاك المحيط بلا أثر، إذ يكفي جواز الانتفاع به في طريق خاص و إن لم يجز له الانتفاع من الطرق الأُخرى.

و بالجملة: حصل الخلط بين اللازم العرفي و اللازم الشرعي، فبيع العنب بشرط عدم الانتفاع بالمنافع المحلّلة شرعاً، إنّما يكون مخالفاً لمقتضى العقد في محيط الملتزمين بالشرع، لا في محيط مطلق المتعاملين، و البحث إنّما هو في القسم الثاني دون الأوّل.

و بذلك يعلم أنّ ما اشتهر في كلماتهم من عدم جواز اشتراط الضمان في العارية، أو عدم جواز اشتراط عدم إخراج الزوجة من بلدها- مستدلًا بأنّ الشرط على خلاف مقتضى العقد- غير تام، لأنّ الظاهر كون عدم الضمان في المثال الأوّل من لوازم العقد المطلق، لا مطلق العقد، فإنّ غاية الأمر أنّ عقد العارية لا يقتضي الضمان لا أنّه يقتضي عدمه، فلا ينافي اشتراطه.

نعم، لا يجوز اشتراط الضمان في الوديعة، لأنّ حقيقتها هو الاستئمان، و التضمين ينافي تلك الحقيقة، و أمّا عدم جواز إخراج الزوجة من بلدها فهو من قبيل اللوازم الشرعية لا اللوازم العرفية التي تُعدّ مقوّمة لمضمون العقد.

أضف إلى ذلك أنّه- دام ظله- خلط بين الملكية و المالية، و النسبة بينهما عموم من وجه، فالحبّة الواحدة ملك و ليست بمال، لأنّها لا يبذل بازائها الثمن، و الحقوق التي يبذل بازائها الثمن كحقّ التحجير و الشفعة و الخيار مال، و ليست بملك و قد يجتمعان، و على ذلك فشرط صرفه في الحرام دون الحلال لا يوجب إلّا خروج الشي ء عن المالية دون الملكية، و على ذلك فقوله- دام ظله-: «فيكون الشرط في قوة البيع بشرط عدم الملكية» غير ظاهر، بل الصحيح لو تمّ كلامه

أن يقول: «في قوة بيع شي ء لا منفعة له».

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 280

الوجه الثاني للسيد الأُستاذ

الثاني من الوجهين اللّذين استند إليهما سيّدنا الأُستاذ- دام ظلّه- هو انّ مالية الشي ء إنّما هي بلحاظ المنافع المترتبة عليها، فما لا منفعة له مطلقاً ليس بمال، فإذا اشترط على المشتري أن لا ينتفع من العنب مثلًا إلّا الانتفاع بالمحرّم فلا محالة يكون البيع بلحاظ الانتفاع بالمحرّم و المالية الآتية من قبله، مع أنّ هذه المالية ساقطة شرعاً، فمالية العنب الآتية من قبل المنافع المحلّلة ساقطة فرضاً حسب اشتراط البائع، فلا يمكن أن يكون البيع صحيحاً بلحاظ المالية الآتية من قبلها، و المالية الساقطة شرعاً لا تصلح للمبادلة، فيكون دليل إسقاطها حاكماً على أدلّة تنفيذ البيع بإخراج المعاملة عن موضوع أدلّته و إدخالها في أكل المال بالباطل. ( «1»)

يلاحظ عليه: لو لا أنّه- دام ظله- ناقش في هذا الوجه، بوجه خفيف لكان باب المناقشة فيه مفتوحاً على مصراعيه، لأنّ مالية الشي ء و إن كانت قائمة بمنافعها، و ما لا منفعة له بوجه من الوجوه لا يعدّ مالًا و لا يبذل بازائه الثمن، إلّا أنّ هذه الضابطة مختصّة بما إذا كان الشي ء فاقداً لها تكويناً كالديدان و الفضلات، و مثله ما إذا عدّ فاقداً للمنفعة عرفاً، كما إذا باع الشي ء و خصّ منافعه لنفسه ما دام المبيع موجوداً، فانّ المبيع في هاتين الصورتين لا يبذل بازائه الثمن، لأنّه في القسم الأوّل فاقد للمنفعة تكويناً، و في القسم الثاني فاقد لها في عرفهم، لأنّ المبيع- عندئذ- ينتقل إلى المشتري مسلوب المنفعة مطلقاً.

و أمّا إذا كانت للمبيع منفعتان: محلّلة و محرّمة و اشترط على المشتري أن لا ينتفع بمحلّلها، ففي مثله لا

تعدّ العين فاقدة للمنفعة و مسلوبتها، إذ فرق بين أن

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 117- 118.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 281

تنتقل العين إلى المشتري بلا منفعة، و بين أن تنتقل إليه بجواز التصرّف فيها في جهة دون جهة، و في مثله لا تعدّ العين فاقدة للمنفعة، و كون تلك المنفعة غير مشروعة في نظر الشرع لا يلازم عدّ العين فاقدة للمنفعة في نظر العقلاء و العرف بما هم عقلاء و بما هم أهل العرف.

بل يمكن أن يقال (على تأمّل) بالصحّة أيضاً فيما إذا أفرز منافع العين لنفسه أيضاً، لأنّ ميزان كون الشي ء فاقداً للمنفعة و عدمها إنّما هو كونه كذلك حسب التكوين، و ليس الشي ء مع هذا الشرط فاقداً للمنفعة حسب وجوده الواقعي، و انّ إفراز المنافع للبائع لا يوجب كون العين فاقدتها واقعاً، بدليل أنّه يمكن له الانتفاع من العين مع هذا الشرط، و هو دليل على أنّ العين غير فاقدة لها، غاية الأمر انّه يلزم العصيان إذا خالف الشرط، لا انّ العين معه، فاقدة لها.

نعم، يمكن القول ببطلان المعاملة مع هذا الشرط لأجل كون المعاملة مع الالتزام بالشرط سفهية، و هو غير كون العين فاقدة للمنفعة.

و الذي يقتضيه النظر أنّ اشتراط تخمير العنب داخل في الشرط المخالف للكتاب و السنّة فيجري فيه ما يجري في مطلق المخالف، فلو قلنا بعدم إفساده للعقد صحّ العقد، هذا كلّه حسب القواعد.

عرض المسألة على الروايات

قد استدلّ على الحرمة تكليفاً و وضعاً بما ورد من النهي عن بيع الخشب ممّن يتّخذه صلباناً أو بيع التوت ممّن يصنع الصليب أو الصنم.

1. روى الكليني بسند صحيح، عن ابن اذينة قال: كتبت إلى أبي عبد

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص:

282

اللّه (عليه السلام) أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: «لا بأس به». و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً؟ قال: «لا». ( «1»)

2. و ما رواه عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن التوت أبيعه يصنع للصليب و الصنم؟ قال: «لا». ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ الروايتين راجعتان إلى الصورة الثالثة، فهي أجنبية عن صورة اشتراط الصرف في الحرام، بل و عن صورة كون الداعي هو الحرام، فموردها مجرّد العلم بصرف المشتري للمبيع في الحرام، و هي الصورة التي ستوافيك، إذ من البعيد جداً من المسلم أن يبيع الخشب مشترطاً على المشتري أن يعمله صليباً أو صنماً، أو يكون العمل داعياً للبيع.

نعم ربما يتحقّق نادراً، كما إذا كان لبعض المسمّين باسم المسلم فائدة دنيوية في هذا المضمار، لكن حمل الرواية على هذه الصورة حمل لها على الفرد النادر.

فإن قلت: إذا كان العلم بصرف المشتري المبيع في الانتفاع المحرّم موجباً لحرمة البيع و بطلانه فما ظنك بتصريحه به كما في المقام؟

قلت: الأمر كما ذكرت، لكن يقتصر في الاستدلال بالفحوى على مورده، و هو شرط الانتفاع من الخشب و التوت في مورد الصليب و الصنم، فانّه إذا كان العلم بالانتفاع موجباً للحرمة فاشتراط هذا الانتفاع موجب لها بطريق أولى، و لكن لا يمكن الانتقال منه إلى غير الصنم و الصليب، كاشتراط استعمال العنب في الخمر، فانّ ثبوت الحكم، أي الحرمة في الأقوى كاشتراط استعماله في صناعة الصليب و الصنم لا يوجب ثبوت الحكم في الأضعف، أعني: استعمال العنب في التخمير.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.

(2) الوسائل: 12/ 127،

الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 283

و إن شئت قلت: إنّ الروايات دلّت على الحرمة عند العلم بالانتفاع في مورد الصنم و الصليب، و مقتضى الاستدلال بالفحوى هو القول بأولوية الحرمة إذا شرط هذا الانتفاع في متن العقد، و لا يمكن الاستدلال بهذه الفحوى فيما شرط الانتفاع في التخمير، لأنّ ثبوت الحكم في مورد هياكل العبادة، لا يوجب ثبوته في مورد التخمير، لأنّ الحكم في الثاني أضعف منه في الأوّل.

و بذلك يظهر عدم تمامية ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه الله)، فانّه بعد ما حمل ظاهر هذه الأخبار على المسألة الثالثة- أعني: حرمة بيع الخشب لمن يعلم أنّه يعمله صنماً- قال: نعم لو قيل في المسألة الآتية- بيع الخشب لمن يعلم أنّه يصنعه صنماً- بحرمة البيع لظاهر هذه الأخبار، صحّ الاستدلال بفحواها على ما نحن فيه.

إذ يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بالفحوى يتوقّف على كون الحكم في موردها أقوى من المنطوق، و ليست الحرمة في بيع العنب للتخمير أقوى من الحرمة في مورد بيع الخشب للصنم، سواء كان بصورة الاشتراط أو كان على وجه العلم بأنّه يعمله صنماً.

استدلال آخر

نعم يمكن الاستدلال على المقام بما ورد في كتب الفريقين من لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بائع الخمر، كما جاء في حديث المناهي من أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى أن يشترى الخمر، و أن يسقى الخمر و قال: «لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بائعها و مشتريها، و آكل ثمنها، و حاملها، و المحمولة إليه». ( «1»)

وجه الاستدلال: أنّ لعن البائع

يكشف عن مبغوضية البيع بالذات، و هي

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5، و قد جمع الشيخ الصدوق (قدس سره) المناهي في باب خاص، راجع أوّل الجزء الرابع من الفقيه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 284

لا تجتمع مع تنفيذه و الالتزام بالعمل به و ترتيب سائر آثاره.

و لو قيل بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لعن بائع الخمر و مشتريها و لم يلعن بائع العنب و مشتريه لأجل التخمير. فيمكن أن يقال: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لعن غارسها و عاصرها، و ليس بائع العنب بأقل من غارسه.

و على كلّ تقدير فالحكم بالحرمة وضعاً و تكليفاً هو المتعيّن.

هذا كلّه في البيع، و أمّا الإجارة فهي على صور:

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 285

أحكام الإجارة و صورها

الأُولى: أن يكون متعلّق الإجارة من الأُمور المحرّمة، كأن يؤاجر نفسه للعمل المحرّم، كالغناء و ضرب الطبل، و النوح بالباطل، و تعليم الغناء، و غير ذلك من الأُمور المحرّمة التي لا إشكال في حرمة العقد عليها تكليفاً و وضعاً، لأنّ المبغوضية الذاتية لا

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 286

تجتمع مع تنفيذه و إيجاب العمل بمقتضاه.

الثانية: أن يكون متعلّق الإجارة أمراً محللًا كإجارة السفن و الخيل للحمل، و لكن يشترط عليه أن لا يتصرّف فيه إلّا في الجهة المحرّمة دون المحلّلة، و هذه المسألة نظير ما تقدّم في بيع العنب و اشتراط عدم تصرّفه فيه إلّا بالتخمير، و قد عرفت الكلام فيه مستقصى.

فلو قلنا: إنّ مثل هذا الاشتراط يرجع إلى كون الشرط مخالفاً لمقتضى العقد فتبطل المعاملة، لما مرّ من عدم تمشي القصد

إلى إيجاد المتباينين و المقتضيين المتخالفين، و أمّا على ما قلناه من أنّ مثل هذا الشرط يرجع إلى الشرط المخالف للكتاب و السنّة، تدخل المسألة في باب كون الشرط الفاسد مفسداً للعقد أم لا؟ فعلى فرض عدم مفسديته يصحّ المشروط دون الشرط.

اللّهمّ إلّا أن يستدلّ على الحرمة باللعن الوارد في مورد الخمر، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) لعن عدّة طوائف، و ليست إجارة السفينة أو السيارة أو البيت لحمل الخمر و بيعها فيه بأقلّ من غارسها و حاملها و المحمولة إليه، و المبغوضية الذاتية لا تجتمع مع الصحة و التنفيذ و إيجاب العمل على مقتضاه.

الثالثة: أن يكون الاستعمال في الجهة المحرمة داعياً للإجارة لا قيداً مأخوذاً في الكلام، كأن يؤجر داره للخمّار بداعي بيع الخمر فيه غير مشترط ذاك لفظاً، و لا متواطئاً عليه خارجاً، أو آجر مع العلم بانتفاعه منه انتفاعاً محرّماً، و الظاهر هو الصحّة لأنّ الدواعي ما لم تؤخذ في متعلّق العقد، و لم يكن الإنشاء مبنيّاً عليها، لا تؤثر في بطلان العقد ضرورة، لأنّ الأحكام تدور مدار الإنشاء و الإيجاد في عالم الاعتبار من دون نظر إلى الدواعي و الأغراض، و إلّا لبطلت أكثر الإجارات التي ينتفع منها على وجه الحرام.

و يدلّ على الصحة مضافاً إلى ما ذكرناه، صحيحة ابن أُذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته و دابته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير، قال: «لا بأس». ( «1»)

و دلالته بالإطلاق على حكم كلتا الصورتين (الداعي و العلم بالانتفاع) غير خال من القوّة، فإنّ إيجار السفينة و الدّابة ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر أعمُّ من

أن يكون حمل الخمر مقصوداً للموجر- و إن لم يصرّح به في متن العقد- أم لا.

نعم تعارضه رواية صابر قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال: «حرام أجره». ( «2»)

يلاحظ عليه: أوّلًا: أنّه ضعيف السند، سواء كان الراوي صابراً أو

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل: 12/ 125، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 287

جابراً. ( «1»)

و ثانياً: أنّه مخالف للقواعد العامّة من أنّ المعتمد في الصحة و البطلان و الحرمة و الجواز على نفس الإنشاء لا على الدواعي.

و ثالثاً: أنّ من المحتمل تطرّق التصحيف إليه، و أنّ الصحيح «ليباع» مكان «فيباع» فيكون ناظراً إلى صورة الاشتراط في متن العقد.

و يشهد لما ذكرناه من التفصيل ما رواه صاحب «دعائم الإسلام» عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: «من اكترى دابّة أو سفينة فحمل عليها المكتري خمراً أو خنازير أو ما يحرم لم يكن على صاحب الدابّة شي ء، و إن تعاقدا على حمل ذلك فالعقد فاسد و الكرى على ذلك حرام». ( «2»)

فالرواية صريحة في التفصيل بين كونه قيداً للإنشاء و ما ليس كذلك، سواء كان الانتفاع على وجه المحرّم معلوماً للموجر أو داعياً أو لا.

الرابعة: أن يشترط فيه وراء الانتفاع بالمحلّل الانتفاع بالمحرّم أيضاً، كما إذا اشترط أن يبيع فيه الخمر مع سائر الأشياء كما في بعض الأماكن العامّة، و المسألة داخلة في كون الشرط الفاسد مفسداً أم لا، و مختار المشهور عدم الإفساد.

و ربّما يفصل بين كون الشرط بحيث لا يعتبر بلحاظه شي ء في مقابله، و لو لُبّاً،

فيكون من صغريات كون الشرط الفاسد مفسداً أم لا. و قد يعتبر بلحاظه شي ء كأن يؤجره بقيمة رخيصة حتّى يتمكن من تحصيله مهما أراد، و يكون الشرط موجباً لنقصان الأُجرة، ففيه وجهان:

______________________________

(1) صابر مولى بسام، و قد يستفاد حسن حاله من رواية جماعة عنه و التي نقلها النجاشي، و فيه تأمّل، و توثيقه لأجل رواية صفوان عنه لا بأس به، و قد أوضحنا حال هذه القاعدة في أبحاثنا الرجالية فراجعها.

(2) المستدرك: 13/ 121، الباب 32 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 288

1. الصحّة لأنّ الميزان في باب المعاملات هو مصب الإنشاء، لا اللّبّ، و إن نقصت الأُجرة لأجل هذا الشرط عن الحدّ المتعارف.

2. البطلان، لأنّ المفروض أنّ الموجر لم يُسقط مالية ماله، و لم يجعله للمشتري مجاناً، بل جعله بلحاظ الشرط- الذي في نظره مال و ذو قيمة- و مع عدم حصول هذا الشرط له، يكون ما بلحاظه بلا عوض واقعاً، و هذا من قبيل أكل المال بالباطل. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره- دام ظله- يأتي في جميع الشروط الفاسدة، فإنّ الشروط و إن لم تكن دخيلة في الثمن بحسب الإثبات، لكنّها دخيلة بحسب الثبوت لُبّاً، و لأجل ذلك تتفاوت قيمة الشي ء بوجود الأوصاف و عدمها، فلو صحّ ما ذكر يلزم بطلان المعاملة في الشروط الفاسدة، بل و في الشروط الصحيحة أيضاً عند التخلّف، و تصحيح الثاني (الشروط الصحيحة) بالإجماع و غيره كما ترى.

أضف إليه: أنّ جعل الخيار في صورة التخلّف يوجب خروج المورد عن كونه أكلًا للمال بالباطل.

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 121.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 289

المسألة الثانية أن يعامل على عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام إذا قصد منها ذلك و قصد اعتباره في البيع، كالعقد على الجارية المغنية و العبد الماهر في القمار
اشارة

و قبل الخوض في البحث نشير إلى

الصور الواردة في كلام الشيخ (قدس سره).

إنّ الصفة التي يقصد منها الحرام على أقسام:

1. أن تكون الصفة دخيلة في كمّية الثمن، و يبذل مقدار من الثمن بإزائها، و تقع طرف المعاوضة.

2. أن تكون دخيلة في كمّية الثمن، و لكن على وجه الداعي، من دون أن تكون طرف المعاوضة.

3. أن لا تكون دخيلة فيه أبداً، لا على وجه المعاوضة، و لا على نحو الداعي.

4. تلاحظ الصفة من حيث إنّها وصف كمال قد تُصرَف إلى المحلّل فيزيد لأجلها الثمن، و هي تارة تكون ممّا يعتد بها و أُخرى تكون نادرة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 290

هذه هي الصور الواردة في كلام الشيخ. ( «1»)

و قال سيدنا الأُستاذ- دام ظله- في بيان الصور: تارة تقصد المعاوضة بين العين الموصوفة مع لحاظ زيادة القيمة لأجل الصفة، كمن باع الجارية المغنية المعدّة للتغنّي، و لاحظ لصفة تغنيها زيادة قيمة، و أُخرى تقصد المعاوضة على الموصوفة بلا لحاظ قيمة لأجلها، و ثالثة تلاحظ الصفة من جهة أنّها صفة كمال فتزاد لأجلها القيمة من غير نظر إلى عملها الخارجي، فانّ زيادة القيم فيما هو موصوف بصفة كمال و إن كانت غالباً للانتفاع بها لا لنفسها بما هي كمال، لكن قد تتعلّق الأغراض بها بما هي فتزاد القيمة لأجلها، و رابعة هذه الصورة بلا ازدياد القيمة، و خامسة تلاحظ الصفة من حيث إنّها كمال قد يستفاد منها الحلال كالتغنّي في الأعراس، و في هذه الصورة تارة تكون المنفعة المحلّلة نادرة، و أُخرى شائعة إلى غير ذلك. ( «2»)

و محل البحث في كلام الشيخ هو الصورة الأُولى حسب تقسيمه، أي ما يكون دخيلًا في المعاوضة و بذل مقدار من الثمن بازائه.

الكلام على ضوء القواعد

و البحث

يقع في مقامين: حسب القواعد، و حسب الروايات.

أمّا الأوّل: فربما قيل بالحرمة تكليفاً و وضعاً، لأنّ بذل الثمن في مقابل وصف التغنّي الذي ليس له مالية شرعاً، من قبيل أكل المال بالباطل.

و إن شئت قلت: إنّ بذل الثمن في مقابل المبيع و الوصف لا يخلو من وجوه ثلاثة:

______________________________

(1) المسألة الثانية من القسم الثاني من النوع الثاني من أنواع المكاسب المحرّمة.

(2) المكاسب المحرّمة: 1/ 123.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 291

1. الصحّة في جميعه فهو يستلزم بذل مقدار من الثمن في مقابل شي ء ساقط عند الشرع، و لا يعدّ مالًا عنده، فيكون بمنزلة أكل المال بالباطل.

2. الصحّة في مقدار ما بذل في مقابل المبيع، و البطلان في مقدار ما بذل في مقابل الوصف.

و لكنّ التقسيط غير معروف في الشروط عرفاً- لأنّ القيد أمر معنوي لا يوزّع عليه شي ء من المال، و إن كان يبذل المال بملاحظة وجوده- و غير واقع شرعاً بناءً على ما اشتهر من أنّ الثمن لا يوزع على الشروط.

3. بطلان العقد رأساً.

و الحاصل: أنّ العقد إمّا باطل رأساً، أو صحيح كذلك، أو باطل بالنسبة إلى ما قابل الوصف، و صحيح بالنسبة إلى غيره، و الأخيران باطلان، فيبقى الأوّل.

أمّا بطلان التفكيك، فلعدم معهوديته بين القيد و المقيّد، و أمّا بطلان الصحّة بقول مطلق، فلأنّ أكل المال بداعي الحرام أكل بالباطل، فصارت النتيجة البطلان رأساً.

و أورد عليه المحقّق الخوئي- دام ظله- بوجهين:

الأوّل: إنّ بعض الأعمال كالخياطة و إن صحّ أن تقع عليه المعاوضة و أن يقابل بالمال إذا لوحظ على نحو الاستقلال، إلّا أنّه إذا لوحظ وصفاً في ضمن المعاوضة لا يقبل بشي ء من الثمن و إن كان يبذل المال بملاحظة وجوده، و عليه

فحرمة الصفة لا تستلزم حرمة المعاوضة في الموصوف، و إنّما هي كالشروط الفاسدة لا توجب إلّا الخيار.

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان الشي ء يقابل بالمال إذا لوحظ على نحو الاستقلال، يقابل به أيضاً إذا لوحظ على نحو الجزئية و الشرطية، لأنّ القابلية

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 292

محفوظة في كلتا الحالتين، و لا يوجب جعله جزءاً أو شرطاً، كونه مغفولًا عنه خارجاً عن تصوّر المتبايعين، بل ربّما تكون الغاية القصوى من المعاملة تحصيل ذلك و الانتفاع به، فكيف لا يبذل بازائه الثمن إذا لوحظ جزءاً أو شرطاً أو وصفاً؟ أضف إليه أنّه خلف الفرض، لأنّ المفروض وقوع المعاوضة على العين و الوصف.

الثاني: لو سلّمنا أنّ الأوصاف تقابل بجزء من الثمن، فانّ ذلك لا يستلزم بطلان المعاملة. إذ الحرام إنّما هو الأفعال الخارجية من الغناء و القمار و الزنا دون القدرة عليها التي هي خارجة عن اختيار البشر.

يلاحظ عليه: أنّ الحرام و إن كان نفس الأعمال الخارجية، غير أنّ الإسلام أسقط تلك المقدرة التي اكتسبها العبد بالتمرين و الممارسة كالمهارة في القمار و السرقة، فبذل الثمن في مقابل تلك الصفة التي ليست بمال شرعاً أكل للمال بالباطل، أي بيع شي ء ليس بمال شرعاً.

نعم إنّ عدّ ذلك أكلًا للمال بالباطل مبني على لزوم كون المعوّض مالًا عند الشرع، و لا يكفي كونه مالًا عند العرف، و قد عرفت فيما سبق خلاف ذلك، لأنّ المفروض أنّ البيع هو المبادلة بين المالين عند العقلاء، و لا يلزم أن يكون العوضان أو أحدهما مالًا عند الشرع، و وصف الغناء مالٌ عند العقلاء، بمعنى أنّه يبذل بازائه الثمن.

و لو سلمنا ذلك و انّه يلزم أن يكون العوضان مالًا عند الشرع،

فالحقّ هو التقسيط، و الالتزام بالصحّة في المبيع، و البطلان في ما قابل الوصف، و تقسيط الثمن عليهما معاً.

و ما ذكره الشيخ الأعظم: من أنّ التقسيط غير معروف عرفاً و لا واقع شرعاً،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 293

غير ثابت، بل هو أمر عرفي استقرت عليه سيرة العقلاء خصوصاً في هذه الأوصاف التي يكون اتّصاف المبيع بها هو الغاية القصوى للمشتري، و لا وجه للقول بأنّ الثمن لا يقسط على الشروط في الأوصاف، بل و سيوافيك أنّ القول بالتقسيط و الأرش حتّى في تخلّف الشروط و الصفات موافق للقاعدة و ثبوته في وصف الصحّة ليس مخالفاً لها، بل يمكن أن يقال بأنّ الشرط أقبل للتقسيط، لأنّه التزام مستقل في ضمن العقد؛ هذا كلّه في الصورة الأُولى التي وردت في كلام الشيخ (قدس سره).

أحكام سائر الصور

و أمّا الصورة الثانية: و هي ما يكون دخل الوصف على وجه الداعي من دون أن يبذل بازائه شي ء من الثمن، و الظاهر هو الصحّة، لأنّ الميزان في الصحّة و البطلان هو ما وقع تحت دائرة الإنشاء، و أمّا اللبيّات فليست مداراً للصحّة و البطلان.

و أمّا الصورة الثالثة، أعني: ما إذا لم يلاحظ الوصف دخيلًا في كمية الثمن لا على وجه المعاوضة و لا على وجه الداعي، فلا إشكال في الصحّة.

و أمّا الصورة الرابعة: و هي ما إذا لوحظ من حيث إنّها صفة كمال قد يستفاد منه الحلال فيزيد لأجله الثمن، فقد فصّل الشيخ بين ما تكون المنفعة المحلّلة بتلك الصفة ممّا يُعتد بها، و غيره، فالصحّة في الأُولى، و الإشكال و التردّد في الثانية. هذا كلّه حسب القواعد.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 294

حكم المسألة في ضوء الروايات

و أمّا حسب الأدلّة النقلية، فنقول:

قال العلّامة (قدس سره) في «المنتهى»: النوع الثالث ما هو محرّم في نفسه، مسألة: الغناء عندنا حرام و أُجرة المغنية حرام. روى الجمهور، عن أبي أُمامة، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «لا يجوز بيع المغنيّات و لا أثمانهن و لا كسبهن» و هذا يحمل على بيعهنّ و أمّا ماليتهن الخاصّة لغير الغناء فلا يبطل، كما أنّ العصير لا يحرم بيعه لغير الخمر لصلاحية الخمر. ( «1»)

و قال السيد العاملي في «مفتاح الكرامة»: و ممّا ذكر يُعلم الحال في الجارية المغنية و بيعها بأكثر ممّا يرغب فيها لو لا الغناء، و قال (عليه السلام): «المغنّية ملعونة، و من آواها ملعون، و من أكل كسبها ملعون» إلى غير ذلك من الأخبار المتضافرة. ( «2»)

و قال النراقي (قدس سره) في «المستند»:

و يدلّ عليه المستفيضة المانعة من بيع المغنّيات و شرائهن و تعليمهن، كرواية الطاطري عن بيع الجواري المغنيات. ( «3»)

إذا عرفت هذه الكلمات فنقول: تدلّ على الحرمة عدّة روايات:

1. ما رواه محمد بن عثمان العمري- بخط صاحب الزمان (عليه السلام)-: «أمّا ما سألت عنه أرشدك اللّه و ثبّتك من أمر المنكرين لي- إلى أن قال (عليه السلام)-: و أمّا ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلّا لما طاب و طهر، و ثمن المغنّية حرام». ( «4»)

2. ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال: قلت لأبي الحسن الأوّل (عليه السلام): جُعلت

______________________________

(1) المنتهى: 2/ 1011.

(2) مفتاح الكرامة: 4/ 33.

(3) المستند: 14/ 133، كتاب المكاسب.

(4) الوسائل: 12/ 86، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 295

فداك إنّ رجلًا من مواليك عنده جوار مغنّيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار، و قد جعل لك ثلثها. فقال: «لا حاجة لي فيها، إنّ ثمن الكلب و المغنّية سحت». ( «1»)

3. ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال: أوصى إسحاق بن عمر بجوار له مغنّيات أن تبيعهن و يحمل ثمنهن إلى أبي الحسن (عليه السلام) قال إبراهيم: فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم، و حملت الثمن إليه، فقلت له: «إنّ مولى لك يقال له «إسحاق بن عمر» أوصى عند وفاته ببيع جوار له مغنّيات و حمل الثمن إليك، و قد بعتهن، و هذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم. فقال: «لا حاجة لي فيه، إنّ هذا سحت و تعليمهن كفر، و الاستماع منهن نفاق، و ثمنهن سحت». ( «2»)

4. رواية سهل بن زياد، عن الحسن بن علي الوشاء قال: سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) عن شراء

المغنية. قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه، و ما ثمنها إلّا ثمن كلب، و ثمن الكلب سحت، و السحت في النار». ( «3»)

5. رواية ابن فضال، عن سعيد بن محمد الطاطري، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات. فقال: «شراؤهن و بيعهن حرام، و تعليمهن كفر، و استماعهن نفاق». ( «4»)

6. روى قطب الدين الراوندي في «لبّ اللباب» عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «لا يحلّ بيع المغنّيات و لا شراؤهن و ثمنهن حرام». ( «5»)

7. رواية «غوالي اللآلي» عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّه نهى عن بيع المغنيات و شرائهن و التجارة فيهن و أكل ثمنهن». ( «6»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 87، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4 و 5.

(2) الوسائل: 12/ 87، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4 و 5.

(3) الوسائل: 12/ 88، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6 و 7.

(4) الوسائل: 12/ 88، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6 و 7.

(5) المستدرك: 13/ 92، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3 و 4.

(6) المستدرك: 13/ 92، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3 و 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 296

8. و روى البيهقي، عن أبي أمامة، عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «لا تبتاعوا المغنّيات و لا تشتروهنّ و لا تعلموهنّ، و لا خير في تجارة فيهنّ، و ثمنهنّ حرام». ( «1»)

9. و روى أيضاً عن مجاهد في قوله تعالى: (وَ مِنَ النّٰاسِ

مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ( «2») قال: «هو اشتراء المغنّي و المغنّية بالمال الكثير، و الاستماع إليه و إلى مثله من الباطل». ( «3»)

هذا مجموع ما ورد من الروايات و بعضها و إن كان مرسلًا، و بعضها الآخر و إن كان مشتملًا على المجهول و المهمل، لكن في المجموع غنى و كفاية، إنّما الكلام في مقدار دلالتها على الحرمة.

و استظهر المحقّق الخوئي- دام ظله- اختصاص الأخبار المانعة ببيع الجواري المغنّية المعدّة للتلهّي و التغنّي، كالمطربات اللاتي يتّخذن الرقص حرفة لأنفسهنّ و يدخلن على الرجال، إذ من الواضح أنّ القدرة على التغنّي كالقدرة على بقيّة المحرّمات ليست بمبغوضة ما لم يصدر الحرام في الخارج، على أنّ نفعها لا ينحصر بالتغنّي، لجواز الانتفاع بها بالخدمة و غيرها.

و مع الإغضاء عن جميع ذلك فإنّ بيعها بقصد الجهة المحرمة لا يكون سبباً لوقوع الحرام، لبقاء المشتري بعد على اختياره في أن ينتفع بها بالمنافع المحرّمة إن شاء، أو بالمنافع المحلّلة، و عليه فلا موجب لحرمة البيع إلّا من جهة الإعانة على الإثم، و هي بنفسها لا تصلح للمانعية. ( «4»)

و الظاهر دلالة الروايات على أوسع ممّا ذكره- دام ظله-، كما أنّها تدلّ على الحرمة تكليفاً و وضعاً.

______________________________

(1) السنن الكبرى: 6/ 14.

(2) لقمان: 6.

(3) السنن الكبرى: 10/ 225.

(4) مصباح الفقاهة: 1/ 169.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 297

أمّا دلالتها على أوسع ممّا ذكره، فالظاهر منها أنّ بيع المغنّية ما دامت موصوفة بهذه الملكة و الحرفة حرام. سواء أبذل بلحاظ ذاك الوصف شيئاً زائداً أم لا، سواء اشتراه بلحاظ التغنّي في المجالس أم لا، و سواء أ كان الهدف التغنّي للرجال أم لنفس المولى، و سواء اشتراها لأجل الانتفاع المحلّل

كقراءة القرآن و حسن صوتها أم لا، كلّ ذلك داخل في هذه الروايات فما دامت الجارية يصدق عليها أنّها مغنّية تحرم المعاملة عليها.

اللّهمّ إلّا إذا تابت و تركت شغلها، لانصراف الأخبار عن هذه الصورة، كانصرافها عمّا إذا كان الهدف منعها عن التغنّي، و كان البائع غير قادر عليه بشرط أن لا يكون لوصف التغنّي دخل في زيادة الثمن.

و الحاصل: أنّ وجود هذه الملكة أو ثبوت تلك الحرفة مانع عن البيع، فأراد الشارع قلع مادة الفساد أو تقليله.

و يؤيد ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) قال: «ثمن الكلب و المغنّية سحت» و ليس لفظ المغنّية إلّا إشارة إلى من لها حرفة التغنّي، فالبيع عليها حرام، و ثمنها كثمن الكلب، و مثله قوله (عليه السلام) في رواية الطاطري: «شراؤهنّ و بيعهنّ حرام».

و على ذلك يحرم حتى فيما إذا اشتراها لأجل الاستفادة من صوتها في قراءة القرآن أو التغنّي عند زف الأعراس، حتّى إذا ما اشتراها مع قطع النظر عن وصف التغنّي، بل اشتراها بما هي هي أو بما أنّها- وراء كونها مغنّية- خيّاطة، فجميع هذه الصور داخلة في الروايات، إلّا فيما إذا تركت حرفة التغنّي بحيث لا يطلق عليها- لأجل الترك- أنّها مغنّية، أو ما إذا لم يقدر البائع على صيانتها عن التغنّي، فيبيعها ممّن له تلك المقدرة، بشرط أن لا يوجب ذلك الوصف زيادة الثمن، و أمّا غيرهما فالجميع داخل تحت الإطلاقات.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 298

و العجب من أنّ الوصف الذي يوجب التنافس عند الناس و رغبتهم إلى البيع و التكالب على تحصيله صار عند الشرع مانعاً عن بيع موصوفه، و ذلك لأجل قلع الفساد أو تقليله، و ما ربّما يتخيّل من كون التحريم

لأجل كونه أكلًا للمال بالباطل لا صلة له بمفاد الأحاديث.

و لأجل كون بيع تلك الجواري ممنوعاً شرعاً و باطلًا ردّ الإمام (عليه السلام) وصية بعض مواليه و قال: «لا حاجة لي فيها، إنّ ثمن الكلب و المغنية سحت»، و المستفاد من الرواية الثانية أنّ الجواري المغنّيات كانت موجودة و لم تُبع بعد، و من الرواية الثالثة أنّها كانت مبتاعة.

و على أيّ تقدير: فردّ الوصية دليل على أنّ بيعهن مطلقاً حرام، و ثمنهن سحت، فلو كان هناك مبرر للبيع ببعض الصور الماضية لأمر الإمام (عليه السلام) بالبيع و لم يردها، كأن يقول: بعها بما هي هي من دون أن يكون لوصفها تأثير في زيادة الثمن، أو يقول: بعها لمن يستفيد منها في قراءة القرآن و زف العرائس، أو تفحّص عن البيع الواقع، و انّها بيعت بأيّة صورة، أو غير ذلك من الصور التي ربّما يتصوّر جواز بيعها فيها، و بذلك يعلم مفاد رواية إبراهيم بن أبي البلاد.

و أمّا دلالتها على الحرمة الوضعية فواضحة، إذ لا يتبادر من السحت إلّا ذاك، و قد وردت الكلمة في الموارد الأُخر، و قد ناقشنا المحقّق المزبور في قوله بأنّ السحت أعمّ من الحرمة و الكراهة.

ثمّ إنّ هناك روايتين ربّما يستظهر منهما الجواز:

1. رواية عبد اللّه بن الحسن الدينوري قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك ما تقول في النصرانية أشتريها و أبيعها من النصراني؟ فقال: «اشتر و بع». قلت: فأنكح؟ فسكت عن ذلك قليلًا ثمّ نظر إليّ و قال شبه الإخفاء: «هي لك

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 299

حلال». قال: قلت: جعلت فداك فأشتري المغنّية أو الجارية تحسن أن تغنّي أريد بها الرزق لا سوى ذلك؟ قال:

«اشتر و بع». ( «1»)

2. ما رواه محمد بن علي بن الحسين قال: سأل رجل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية لها صوت؟ فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنة- يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء- فأمّا الغناء فمحظور». ( «2»)

و هاتان الروايتان مؤوّلتان أو مطروحتان.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 86، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.

(2) الوسائل: 12/ 86، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 300

المسألة الثالثة أن يبيع العنب ممّن يعمله خمراً بقصد أن يعمله خمراً
اشارة

قال الشيخ: يحرم بيع العنب ممّن يعمله خمراً بقصد أن يعمله، و كذا بيع الخشب بقصد أن يعمله صنماً أو صليباً، لأنّ فيه إعانة على الإثم و العدوان، و لا إشكال و لا خلاف في ذلك. أمّا لو لم يقصد ذلك فالأكثر على عدم التحريم.

و قال العلّامة في «المنتهى»: و هل يجوز أن يباع على من يعمله إذا لم يبعه لذلك ( «1») نص أصحابنا على جوازه، و هو قول الحسن البصري و عطاء و الثوري، و منع منه أحمد، و كرهه الشافعي.

لنا: إنّه عقد تمّ بشروطه و أركانه، و لم يقرن به ما يبطل و كان سائغاً بقوله تعالى: (وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ).

لا يقال: إنّه ببيعه إيّاه مكّنه من فعل القبيح، فيكون حراماً باطلًا لقبحه.

لأنّا نقول: التمكّن من القبح ليس بقبيح، لأنّ اللّه تعالى مكّن الكافر و الظالم من الكفر، و الظلم و لم يكن ذلك قبيحاً، و القول بالكراهة حسن لا يأتين أن يكون فيه مساعدة على المعصية. ( «2»)

______________________________

(1) أي إذا لم يبع لتلك الغاية، فالاستشهاد بهذه العبارة على المقام بمفهومها.

(2) المنتهى: 2/ 1010، كتاب

البيع.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 301

و قال في «المختلف»: قال ابن إدريس: لا بأس ببيع الخشب لمن يعمله صنماً أو صليباً أو شيئاً من الملاهي، لأنّ الوزر على من يجعله كذلك لا على الذي باع ... و الأقرب عندي أنّه إذا كان البائع يعلم أنّ المشتري يعمل الخشب صنماً أو شيئاً من الملاهي حرم بيعه و إن لم يشترط في العقد ذلك.

لنا: إنّه قد اشتمل على نوع مفسدة فيكون محرّماً، لأنّه إعانة على المنكر. ( «1»)

و الظاهر من الأقوال أنّ الأصحاب فصّلوا بين صورتي القصد و عدمه، فذهبوا إلى الحرمة في الأوّل دون الثاني، و لكن العلّامة اختار الحرمة في كلتا الصورتين، و مع ذلك حكم في الإرشاد بالكراهة في الصورة الثانية، و قال: يكره بيعه على من يعمله من غير شرط. و نقله في «مفتاح الكرامة» عن «التحرير» أيضاً.

و قال البيهقي في «سننه»: أفتي بكراهة بيع العصير ممّن يعصر الخمر، و السيف ممّن يعصي اللّه عزّ و جلّ به. ( «2»)

و قال ابن قدامة: و بيع العصير ممّن يتّخذه خمراً باطل. و استدلّ بالآية بالكريمة: (وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ) و هذا نهي يقتضي التحريم. ( «3»)

دراسة حكم المسألة من حيث القواعد

و يقع البحث تارة حسب القواعد، و أُخرى حسب الروايات. و ربما يقال: انّ مقتضى القاعدة هو الحرمة، و استدلّوا عليها بوجوه:

الأوّل: حرمة الإعانة على الإثم، فربّما يقال إنّ مقتضى القاعدة هو الحرمة، و إنّ بيعه لمن يعلم أنّه يصنعه خمراً من أوضح مصاديق الإعانة على الإثم الوارد في قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرٰامَ وَ لَا الْهَدْيَ

______________________________

(1) المختلف: 5/ 22، كتاب التجارة، فصل في

وجوه الاكتساب.

(2) السنن الكبرى: 5/ 327.

(3) المغني: 4/ 283.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 302

وَ لَا الْقَلٰائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرٰامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْوٰاناً وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ). ( «1»)

و أورد على الاستدلال بالآية بوجوه:

منها: ما عن المحقّق الإيرواني، إنّ النهي تنزيهي، و ذلك بقرينة مقابلته بالأمر بالإعانة على البرّ و التقوى الذي ليس للإلزام قطعاً.

يلاحظ عليه: إنّ مناسبة الحكم و الموضوع (العدوان و الإثم) تقتضي حملها على الحرمة، لا على الكراهة.

و منها: ما منه (قدس سره) أيضاً: انّ قضية باب التفاعل هو الاجتماع على الإتيان بالإثم و العدوان كأن يجتمعوا على قتل النفوس و نهب الأموال، لا إعانة الغير على الإتيان بالمنكر على أن يكون الغير مستقلًا في الإتيان به و هذا مُعيناً له بالإتيان ببعض مقدّماته.

يلاحظ عليه: أنّ مفاد الآية هو الأعمّ ممّا ذكره، فقد قال سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرٰامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلٰائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرٰامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ) ( «2») فأمر سبحانه معشر المؤمنين أن لا يحلّوا أُموراً: شعائر اللّه، و الشهر الحرام، و الهدي، و القلائد، و لا الذين يؤمّون البيت الحرام طلباً لفضل ربّهم و رضواناً.

و بما أنّ المشركين صدّوا النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و أصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام نبّه سبحانه بقوله: (وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ)

______________________________

(1)

المائدة: 2.

(2) المائدة: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 303

أي لا يحملنكم بغض قوم على أن تعتدوا عليهم، لأجل أنّهم صدّوكم عن المسجد الحرام، و بعد ما تمّ حكم المحرمات الخمس، أتى بقوله: (وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ) مصرّحاً بأنّ المطلوب من المؤمنين هو التعاون على البر و التقوى لا التعاون على الإثم و العدوان.

و بما أنّ قوله سبحانه في محل التعليل للأحكام الماضية، يكون المراد منه هو العام سواء اجتمعوا على الإتيان بها، أو عزم واحد منهم على الإتيان و أعان الآخرون عليه، و القول بأنّ الآية بصدد بيان القسم الأوّل- جموداً على اللفظ- خلاف ما يتبادر من الآية، لوضوح عدم الفرق بين القسمين في نظر العرف، فسواء شاركوا في إحلال هذه المحرّمات، أم أقدم واحد و أعانه الآخر، و بما أنّ الآية وردت لبيان ضابطة شرعية كلّية، تجري في غير هذه الخمسة الواردة في الآية.

و الظاهر أنّ هيئة باب المفاعلة و التفاعل تستعمل في كلا المعنيين، قال سبحانه: (لٰا تُضَارَّ وٰالِدَةٌ بِوَلَدِهٰا وَ لٰا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ). ( «1»)

و قال سبحانه: (وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) ( «2»)، أي لا تضيّقوا عليهن بالنفقة و المسكن. و قال تعالى: (وَ لٰا يُضَارَّ كٰاتِبٌ وَ لٰا شَهِيدٌ) ( «3») إلى غير ذلك من الآيات و الروايات التي استعملت فيها أفعال هذين البابين في فعل غير مشترك بين الجماعة أو الاثنين.

و قال في اللسان: تعاونا: أعان بعض بعضاً. ( «4»)

أضف إلى ذلك أنّ المفسرين فسّروا الآية بصورة أعم، قال الطبرسي (قدس سره): أمر اللّه عباده بأن يعين بعضهم بعضاً على البر و التقوى، و هو العمل بما

أمرهم اللّه تعالى به و اتّقاء ما نهاهم عنه، و نهاهم أن يعين بعضهم بعضاً على الإثم، و هو ترك

______________________________

(1) البقرة: 233.

(2) الطلاق: 6.

(3) البقرة: 282.

(4) اللسان: 13/ 299.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 304

ما أمرهم به و ارتكاب ما نهاهم عنه من العدوان، و هو مجاوزة ما حد اللّه لعباده في دينهم و فرض لهم في أنفسهم. ( «1»)

و منها ( «2»): ما ذكره المحقّق الثاني من أمثلة أُخرى و قال: بأنّه لو تمّ هذا الاستدلال يلزم منع معاملة أكثر الناس و عدم جواز بيع شي ء ممّا يعلم عادة التوصّل به إلى محرّم.

و أوضحه صاحب الجواهر بقوله: قامت السيرة على معاملة الملوك و الأُمراء فيما يعلمون صرفه في تقوية الجند و العساكر المساعدين لهم على الظلم و الباطل، و إجارة الدور و المساكن و المراكب لهم لذلك، و بيع المطاعم و المشارب للكفّار في نهار شهر رمضان مع علمهم بأكلهم فيه، و بيعهم بساتين العنب منهم مع العلم العادي بجعل بعضه خمراً، «و بيع القرطاس منهم مع العلم بأنّ منه ما يتّخذ كتب ضلال». ( «3»)

أقول: و مثله سقي الكافر لكونه إعانة على الإثم لتنجيس الماء بمباشرته إيّاه، فيحرم عليه شربه، و مثل تمكين الزوجة الزوج و إن علمت بعدم اغتساله عن الجنابة، و مثل تجارة التاجر، و مسير الحاج و الزوّار و إعطائهم الضريبة المعينة للظلمة، و مثل إجارة الدواب و السفن و السيارات و الطيارات من المسافرين، مع العلم إجمالًا بأنّ فيهم من يقصد في ركوبه معصية، و مثل عقد المجالس لتبليغ الأحكام و تعزية سيد الشهداء (عليه السلام) مع العلم بوقوع بعض المعاصي فيها من الغيبة و الاستهزاء و

الكذب و الافتراء و نظر كلّ من الرجال و النساء إلى من لا يجوز النظر إليه. ( «4»)

______________________________

(1) مجمع البيان: 2/ 155.

(2) أي من الوجوه الواردة على الاستدلال بالآية.

(3) الجواهر: 22/ 33 و الأولى ترك هذا المثال فانّ البيع في هذه الصورة محرّم جداً و لم تجر السيرة على ذلك.

(4) سنعود إلى توضيح حال هذه الأمثلة التي تمسّك بها في إثبات اشتراط القصد في صدق التعاون.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 305

دراسة عدّة أُمور
اشارة

ثمّ إنّه لمّا بلغ الكلام إلى هنا وجب البحث عن عدّة أُمور:

1. هل يعتبر قصد المعين توصّل المعان إلى الحرام أو لا؟ و هذا هو البحث المهم في الآية، فلو قلنا باشتراط قصد المعين توصّل المعان إلى الحرام اتّضح حال هذه الأمثلة المتقدّمة حيث لا قصد هناك للمعين، و لو كان هناك قصد لحرمت.

2. هل يعتبر في الاتّصاف بالحرمة وقوع الإثم في الخارج أو لا؟

3. هل يعتبر قصد المعان الحرام أم يكفي تخيّل المعين أنّه قاصد؟

4. هل يعتبر علم المعين بترتب الأثر على فعله أو لا؟

5. هل يعتبر العلم بتوقّف تحقّق الإثم على خصوص هذه المقدّمة أو لا؟

أ: اعتبار قصد المعين

ذهب المحقّق الثاني إلى شرطية قصد المعين، حيث أشكل على الاستدلال بالآية بقوله: و يشكل بلزوم عدم جواز بيع شي ء ممّا يعلم عادة التوصّل به إلى محرّم فتمنع معاملة أكثر الناس.

و اختاره المحقّق الأردبيلي في «زبدة البيان» عند البحث عن الآية حيث قال: الظاهر أنّ المراد الإعانة على المعاصي مع القصد، أو على الوجه الذي يقال عرفاً أنّه كذلك. مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاها، أو يطلب منه القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاه، و نحو ذلك ممّا يُعد ذلك معاونة عرفاً، فلا يصدق على التاجر الذي يتجر لتحصيل غرضه أنّه معاون للظالم العشّار في أخذ العشور، و لا على الحاج الذي يؤخذ منه بعض المال في طريقه ظلماً، و غير ذلك ممّا لا يحصى، فلا يعلم صدقها على شراء من لم

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 306

يحرم عليه شراء السلعة من الذي يحرم عليه البيع، و لا على بيع العنب ممّن يعمل خمراً و الخشب ممّن يعمل صنماً. ( «1»)

و

استحسنه الشيخ الأعظم (رحمه الله) من جهة أنّه لم يعلّق صدق الإعانة على القصد، و لا أطلق القول بصدقها بدونه، بل علّقه بالقصد و بالصدق العرفي و إن لم يكن قصد.

يلاحظ عليه: أنّ الإعانة ليست من المفاهيم القصدية حتّى يعتبر في صدقها وجود القصد، و ليس مثل التعظيم و التكريم المتقوّمين بالقصد، بل من الأُمور الواقعية الصادرة من الإنسان كالضرب و الأكل و الشرب، غاية الأمر أنّه ربّما يعدّ معذوراً إذا صدر منه بلا قصد أو بدون إجبار و إكراه، فالقول بتدخل القصد في ماهية الإعانة غفلة عن حقيقتها.

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ- دام ظلّه- استدلّ على اعتباره بقوله: الظاهر أنّ إعانة شخص على شي ء عبارة عن مساعدته عليه و كونه ظهيراً للفاعل، و هو إنّما يصدق إذا ساعده في توصّله إلى ذلك الشي ء، و هو يتوقّف على قصده لذلك، فمن أراد بناء مسجد، فكلّ من أوجد مقدّمة لأجل توصّله إلى ذلك المقصد يقال ساعده عليه و أعانه على بناء المسجد، و أمّا البائع للجص و الآجر و سائر ما يتوقّف عليه البناء إذا كان بيعهم لمقاصدهم و بدواعي أنفسهم فليس واحد منهم معيناً و مساعداً على البناء و لو علموا أنّ الشراء لبنائه.

نعم، لو اختار أحدهم من بين سائر المبتاعين، الباني للمسجد لتوصّله إليه، كان مساعداً بوجه، دون ما إذا لم يفرّق بينه و بين غيره، لعدم قصده إلّا الوصول بمقصده، فالبزاز البائع لمقاصده ما يجعل ستراً للكعبة ليس معيناً على

______________________________

(1) زبدة البيان: 297، في أشياء من أحكام الحجّ.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 307

البر و التقوى، و لا البائع للعنب بمقصد نفسه ممّن يجعله خمراً معين على الإثم و مساعد له فيه،

بل لو أوجد ما يتوقّف عليه مجاناً لغرض آخر غير توصّله إلى الموقوف لا يصدق أنّه أعانه و ساعده عليه. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره- دام ظله- من عدم الصدق في الأمثلة التي استشهد بها كان لأجل أنّ المتبادر من الإعانة عند التعلّق بالأُمور الدينية هو التبرّع، و بما أنّ البائع لم يتبرّع في عمله فلا تصدق عليه الإعانة عند العرف، و لو غض النظر عن هذا المرتكز فلا شكّ أنّه إعانة.

و المهم حلّ الأمثلة التي اعتمد عليها صاحبا «المفتاح» و «الجواهر» كما أوردناه و سوف نرجع إليه.

و حاصل الكلام: أنّ اشتراط القصد في صدق الإعانة لا يخلو من أحد احتمالين:

الأوّل: أن يكون بمعنى الإرادة و الاختيار، فيكون الحرام ما أعان به المعين باختيار في مقابل إعانته بجبر، و الظاهر عدم اشتراطه في صدق الإعانة، لما عرفت من أنّه لا يفرق عن سائر الأفعال التكوينية التي لا يشترط في صدقها الاختيار و الإرادة، فلو ضرب رجل عمراً في حالة النوم أو بالجبر و القسر، يصدق عليه أنّه ضارب، غاية الأمر يكون وصف الفعل بالحرمة في صورة صدوره عن اختيار، فالمتوقّف على هذا القصد تنجّز حرمة الإعانة.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 307

الثاني: أن يراد بمعنى الداعي الباعث نحو الفعل، فيكون حصول الحرام غاية لفعل المعين، و هذا هو الذي اعتبره الشيخ في صدق الإعانة.

و الحقّ عدم اعتباره مثل السابق، فنفس الإتيان بمقدّمات فعل الغير إعانة له على الفعل.

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 142.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 308

نعم، مع عدم

العلم بترتّب الحرام لا يعلم كون الفعل إعانة على الحرام، و إن كانت نفس الإعانة للغير صادقة.

هذا هو الحقّ الصراح في مفاد الآية، و أمّا النقوض التي أوردها صاحب «جامع المقاصد» و غيره فلا بدّ من التخلّص منها بنحو من الأنحاء، فيمكن الإجابة عنها بوجوه:

الأوّل: ما عن المحقّق الإيرواني: من أنّ الإعانة ليست هي مطلق إيجاد مقدّمة فعل الغير، و إلّا حرم توليد الفاسق، و الإنسان مطلقاً حيث يعلم أنّ في نسله من يرتكب المعصية عادة، فيلزمه أن يجتنب النكاح، و أيضاً حرم بذل الطعام و الشراب لمن يعلم أنّه يرتكب الذنب، بل الإعانة عبارة عن مساعدة الغير بالإتيان بالمقدّمات الفاعلية لفعله دون مطلق المقدّمات الشاملة للمادية، فضلًا عن إيجاد نفس الفاعل، أو حفظ حياته، فتهيئة موضوع فعل الغير و الإتيان بالمفعول به لفعله ليس إعانة له على الحرام، و من ذلك مسير الحاج و تجارة التجار و فعل ما يغتاب الشخص على فعله. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ تخصيص الحرمة بالعلّة الفاعلية و إخراج العلل المادية تخصيص للآية بلا وجه، فإنّه كما تصدق الإعانة على إعطاء العصا و السكين للضرب و القتل، يصدق إمداد الفاعل بالدراهم و الدنانير، و تشهد له رواية علي بن أبي حمزة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «... لو لا أنّ بني أُمية وجدوا لهم من يكتب و يجبي لهم الفي ء و يقاتل عنهم، و يشهد جماعتهم، لما سلبونا حقّنا، و لو تركهم الناس و ما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم ...». ( «2»)

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 16.

(2) الوسائل: 12/ 144، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص:

309

و روى البيهقي في «سننه»: من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي اللّه و بين عينيه مكتوب: آيس من رحمة اللّه. ( «1»)

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ- دام ظله- أجاب عن الأمثلة التي ادّعي فيها وجود السيرة قائلًا: بأنّ بيع المطاعم من الكفّار، و ما هو نظير ذلك كبيع العنب لهم مع العلم بجعل بعضه خمراً، إنّما هو لأجل عدم كون الإتيان بما ذكر اثماً و عصياناً، لا لكون الكفّار غير مكلّفين بالفروع، بل لأنّ أكثرهم إلّا ما قلّ و ندر جُهّال قاصرون لا مقصرون.

نعم: فيهم من يكون مقصراً- لو احتمل خلاف مذهبهم- فيكون بيع الطعام في نهار شهر رمضان من الكفّار خارجاً عن عنوان الإعانة على الإثم أو تهيئة أسباب المعصية. ( «2»)

يلاحظ عليه: عدم تمامية الجواب في نفس المورد، فضلًا عن غيره، فإنّ عدّ اليهود و النصارى المتواجدين في البلاد الإسلامية أو ما يقرب منها من الجهّال القاصرين، غير تام، كيف، و قد ملأ أسماعهم و قلوبهم أنّ هناك رجلًا ادّعى النبوّة بعد المسيح و جاء بكتاب و شريعة و أسّس حضارة، أ فلا يكفي هذا النداء لإيقاظ شعورهم بأنّ من المحتمل أن تكون هناك شريعة ناسخة لشريعتهم، و مع هذا الاحتمال كيف يصدق انّهم جُهّال قاصرون؟!

فالأولى في الجواب أن يقال: إنّ هذه الأمثلة ليست على نمط واحد، فانّ بعضاً منها حرام جدّاً، و لا يعبأ بالسيرة لو كانت كبيع القرطاس من الكفّار و الفساق، مع العلم بأنّ بعضهم ينشر به كتب الضلال.

كما أنّ بعضاً منها لا يُعدّ إعانة على الحرام، بل يعد تخلّصاً من شر الظالم

______________________________

(1) السنن الكبرى: 8/ 22.

(2) المكاسب المحرمة: 1/ 133- 134.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص:

310

كدفع التاجر و الحاج و الزوّار الضريبة المعينة للظلمة، و ذلك لأنّ المحرّم من الإعانة ما إذا قام بها باختيار من نفسه؛ و أمّا من كان مشتغلًا بحرفته، مقبلًا على شأنه، غير أنّ الظالم يقف في وجهه و يسلب عنه الحرية إلّا إذا أعطاه الضريبة المعيّنة، فإنّ دفعها ليس إلّا للتخلّص من شرّه و التوجّه إلى شغله، و ليس مثل ذلك إعانة أبداً.

كما أنّ بعضاً منها لا يعدّ إعانة عرفاً على الحرام، و كونه إعانة بالدقة العقلية غير مضر، و هذا كما في عقد المجالس لتبليغ الأحكام و تعزية سيّد الشهداء (عليه السلام) مع العلم بوقوع بعض المعاصي فيها، فانّ عاقد المجالس لا يهمّه إلّا العمل بواجبه الشرعي، أو وظيفته الاستحبابية، و استغلال غيره ذاك العمل في طريق الحرام غير مرتبط به و لا يعد عمله إعانة في العرف، و هذا نظير عمل إبراهيم (عليه السلام) حيث بنى البيت لإعلاء كلمة التوحيد مع أنّه صار بعده مركزاً للأصنام و عبدتها، و استغلّه المشركون في طريق مقاصدهم، فعِلمُ إبراهيم (عليه السلام) بذلك لم يجعل عملَه إعانة على الإثم.

كما أنّ بعضاً منها أداء للحقوق التي لا يصحّ التواني في أدائها بحجّة أنّ صاحب الحق سيجعله ذريعة إلى الحرام، كما في تمكين الزوجة للزوج و إن علمت بعدم اغتساله من الجنابة، فانّ التمكين حقّ من حقوق الزوج يجب على الزوجة القيام به، و ليس لها التواني بحجّة انّه لا يغتسل من الجنابة، و هذا مثل من يطلب دينه من المديون و لكنّه يمتنع من الأداء بحجّة أنّه سيعصي به إذا دفع.

و أمّا إجارة الدواب و السفن و السيارات من المسافرين مع العلم إجمالًا بأنّ فيهم من يعدّ

سفره سفر معصية، فإن أُريد به ارتكاب المعصية فيها، كالاغتياب فهو لا يستلزم كون الإجارة إعانة على المعصية، و إن أُريد منه كون نفس السفر

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 311

معصية، فلو كان نفس المسافر مشخّصاً يجب الامتناع عنه، و أمّا مع العلم الإجمالي بكون واحد منهم محرّم السفر فلا، لأنّ التفحّص مستلزم للمفاسد، و الامتناع عن الإيجار على وجه الإطلاق يستلزم مفاسد أُخرى، كما هو واضح على من له إلمام بالمسائل الاجتماعية.

و على كلّ تقدير فتجب الدقة في هذه الموارد فما صدق عليه إعانة على المعصية في نظر العرف يحكم بالحرمة و إلّا فلا، و بما ذكرنا يظهر حال بقية الأمثلة.

ب: اعتبار وقوع الإثم في الخارج

انّ اشتراط وقوع الإثم في الخارج في صدق الإعانة على الإثم، هو الشرط الثاني من الشروط الماضية فقد يقال باعتباره، مستدلًا بأنّ الظاهر من قوله تعالى: (وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ) هو الإعانة على تحقّقه و هو لا يصدق إلّا معه، فإذا لم يتحقّق خارجاً و إنّما أوجد الفاعل بعض مقدّمات عمله، لا يقال انّه أعانه على إثمه لعدم صدوره منه.

و بالجملة: الإعانة على تحقّق الإثم موقوفة على تحقّقه، و إلّا يكون من توهم الإعانة عليه لا نفسها، و يكون تجرّياً لا اثماً، و لهذا لو علم بعدم تحقّقه منه لا يكون إيجاد المقدّمة إعانة على الإثم بلا شبهة.

و لا يخفى أنّ المستدلّ خلط بين المصدر و اسمه، فالإثم في الآية مستعمل في المعنى المصدري لا في الاسم المصدري، و على ذلك فلا يتوقّف صدق الإعانة على وقوع المعان عليه في الخارج، بل يكفي وصف عمل الغير بالإثم و العدوان.

و يدلّ على ذلك انّه إذا طلب السارق من شخص سُلماً فسلّمه

إليه، ثمّ حيل بين السارق و السرقة، يصدق عليه أنّه أعانه على الإثم، كما أنّه إذا أعان رجل

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 312

على عمارة المسجد بالآجرّ و الجُص، ثمّ منع مانع عن البناء يصدق أنّه أعان على البناء و إن لم يتحقّق.

نعم يصحّ اشتراط وقوع المعان عليه على القول بوجوب المقدّمة الموصلة في الواجبات، و حرمة المقدّمة الموصلة في المحرّمات، أو على القول بأنّ وجود ذي المقدّمة دخيل لوصف المقدّمة بالوجوب و الحرّمة على نحو الشرط المتأخر، و كلاهما خلاف التحقيق.

و بالجملة: إذا كان الشخص مصمِّماً على عمل و هيّأ بعض المقدّمات و اشتغل به بجد و اجتهاد و أعانه عليه شخص آخر، ففي ذلك المجال يصدق عليه المعان، و على الشخص الآخر المعين، و على الفعل الإعانة، و على المقصد المعان عليه، سواء أتحقّق المقصد النهائي أم لا؟ و أمّا عدم صدقه في ما لو علم بعدم تحقّقه منه فليس عدم الصدق لأجل عدم وقوع المعان عليه، بل لأجل أمر آخر، و هو أنّ العلم بعدم تحقّق الفعل من الشخص إمّا لأجل العلم بعدم وجود القصد في المعان، أو لعروض المانع عليه في المستقبل.

أمّا الأوّل: فنسلم عدم الصدق، و ذلك لأجل عدم اتصاف فعل المعان بالحرمة لفقدان القصد.

و أمّا الصورة الثانية فنمنع عدم الصدق.

دراسة سائر الشروط الماضية

و أمّا الشرط الثالث: أعني قصد المعان على الإثم، فهو شرط لا غبار عليه، فلو علم عدم القصد لا يصدق على الفعل الإعانة على الإثم. و لو تخيّل أنّه قاصد و أعانه عليه ثمّ تبيّن عدم قصده يكون الفعل تجرّياً كاشفاً عن سوء السريرة، و أمّا الكلام في حرمته- حرمة التجري- و العقاب عليه فموكول إلى محلّه.

المواهب

في تحرير أحكام المكاسب، ص: 313

و أمّا الشرط الرابع: أي علم المعين بترتّب الإثم على ما يعين عليه، فالظاهر عدم الاشتراط، بل يكفي رجاء أن يستفيد منه غيره، فلو أعطى السكّين لظالم رجاءً لقتل صالح صدق أنّه أعانه عليه.

و أمّا الشرط الخامس: أعني توقّف الإثم على خصوص هذه المقدّمة، فلا يعتبر، فلو كان المهاجم مُسلّحاً و أعانه الغير بسلاح آخر رجاء أن يستفيد منه في قتل غيره، فيكفي هذا في صدق كونه إعانة.

هذا حال الشروط المعتبرة أو المحتمل اعتبارها في الإعانة.

الدليل الثاني ( «1») على حرمة البيع

ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) قال: انّه يمكن الاستدلال على حرمة بيع الشي ء ممّن يعلم أنّه يصرف المبيع في الحرام بأنّ دفع المنكر كرفعه واجب، و لا يتم إلّا بترك البيع، فيجب. ثمّ قال: و أشار إليه المحقّق الأردبيلي حيث استدلّ على حرمة بيع العنب في المسألة- بعد عموم النهي عن الإعانة- بأدلّة النهي عن المنكر، و يشهد بهذا ما ورد من أنّه «لو لا أنّ بني أُميّة وجدوا من يجبي لهم الصدقات، و يشهد جماعتهم ما سلبوا حقّنا»، دلّ على مذمّة الناس في فعل ما لو تركوه لم تتحقّق المعصية من بني أُميّة.

و يمكن توضيح ما ذكره بوجهين:

الأوّل: دلّت الروايات المتواترة على وجوب إنكار المنكر بالقلب على كلّ حال، و تحريم الرضا به، قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «حسب المؤمن غيراً إذا رأى منكراً أن يعلم اللّه عزّ و جلّ من قلبه إنكاره». ( «2»)

______________________________

(1) مضى الدليل الأوّل على ضوء القواعد، ص 303.

(2) الوسائل: 11/ 408، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 314

و في رواية أُخرى: «حسب المؤمن عذراً إذا رأى

منكراً أن يعلم اللّه من نيّته أنّه له كاره». ( «1»)

و في رواية أُخرى عن علي (عليه السلام) قال: «أمرنا رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أن نلقي أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة». ( «2»)

و هذه الروايات الدالّة على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلى هذا الحدّ لا تخالف ما دلّ على جواز بيع الخمر ممّن نعلم أنّه يخمره، إذ هو مصداق واضح لإشاعة الفحشاء.

الثاني: انّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجب، إمّا عقلًا كما هو الحقّ، أو نقلًا للقرآن و السنّة و الإجماع. ( «3»)

و على كل تقدير فالهدف من إيجابه بأحد الطريقين منع تحقّق ما هو مبغوض عند المولى في الخارج، إمّا من خصوص المكلّف، أو من مطلق الفاعل، و لو كان صادراً من غير مكلّف- كما إذا وقع ولد المولى في الماء، أو وقع معرضاً لهجوم حيّة- فيجب رفع ذلك. و لا فرق في نظر العقل بين الدفع و الرفع، فكما أنّه يجب رفع المنكر و المبغوض كذا يجب هدم ما يوجب تحقّق المبغوض في الخارج، و على ذلك يحرم بيع العنب من الغير من باب دفع المنكر و عدم تحقّق مقتضيه حتى يتحقّق نفسه.

و إن شئت قلت: إنّه لا يجتمع وجوب دفع المنكر مع جواز بيع العنب من الغير.

______________________________

(1) الوسائل: 1/ 408، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(2) الوسائل: 11/ 413، الباب 6 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(3) ذهب المحقّق الطوسي (قدس سره) في «تجريد العقائد» إلى وجوبهما نقلًا لا عقلًا، و التفصيل موكول إلى محلّه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 315

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) أورد على هذا

البيان بأنّه لا يتم في موردين:

الأوّل: لو تمّ هذا الدليل لدلّ على حرمة بيع العنب و لو ممّن يعلم أنّه سيجعله خمراً مع عدم قصد ذلك حين الشراء، إلّا أنّه لم يقم دليل على وجوب تعجيز من يعلم أنّه سيهمّ بالمعصية، إنّما الثابت من النقل و العقل وجوب ردع من همّ بها و أشرف عليها بحيث لو لا الردع لفعلها أو استمر عليها.

و لا يخفى إنّنا لو قلنا بوجوب دفع المنكر، و لزوم حيازة مقاصد المولى، لزم عدم التفريق بين من هو قاصد حال البيع لجعله خمراً، أو سيهمّ بذلك، و ليس هذا الإيجاب بمناط اللطف حتى يقال باختصاصه بمن قصد و همّ، بل هو واجب بمناط آخر و هو قلع ما ينجر إلى تحقّق مبغوض المولى حفظاً لمقاصده لا تلطّفاً على العبد.

الثاني: انّ الاستدلال المذكور إنّما يحسن مع علم البائع بأنّه لو لم يبعه لم تحصل المعصية، لأنّه حينئذ قادر على الردع، أمّا لو لم يعلم ذلك، أو علم بأنّه تحصل منه المعصية بفعل الغير فلا يتحقّق الارتداع بترك البيع، كمن يعلم عدم الانتهاء بنهيه عن المنكر.

و توهم أنّ البيع حرام على كلّ أحد فلا يجوز ارتكابه لهذا الشخص- معتذراً بأنّه لو تركه لفعله غيره- مدفوع، بأنّ ذلك فيما كان محرماً على كلّ واحد على سبيل الاستقلال، فلا يجوز لواحد منهم الاعتذار بأنّ هذا الفعل واقع لا محالة و لو من غيري فلا ينفع تركي له، أمّا إذا وجب على جماعة شي ء واحد كحمل ثقيل مثلًا بحيث يراد منهم الاجتماع عليه، فإذا علم واحد من حال الباقي عدم القيام به و الاتّفاق معه في إيجاد الفعل كان قيامه بنفسه بذلك الفعل لغواً فلا يجب،

و ما نحن فيه من هذا القبيل، فانّ عدم تحقّق المعصية من مشتري العنب موقوف على

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 316

تحقّق ترك البيع من كلّ بائع، فترك المجموع للبيع سبب واحد لترك المعصية، كما أنّ بيع واحد منهم على البدل شرط لتحقّقها، فإذا علم واحد منهم عدم اجتماع الباقي معه في تحصيل السبب، و المفروض أنّ قيامه منفرداً لغو، سقط وجوبه.

ثمّ إنّ الشيخ أورد على هذا البيان بقوله: «و توهم انّ البيع حرام ...»: و حاصله: هو انّ النهي ينحل حسب تعدّد أفراد الطبيعة، فيكون لكلّ فرد نهي مستقل، فإذا تحقّقت التروك بترك هذا الفرد للبيع و ترك ذاك الفرد له، حصل ترك التخمير رأساً، فكان كلّ ترك، تركَ فرد من الحرام، لا أنّ مجموع التروك يكون مقدمة لترك حرام واحد.

ثمّ أجاب و حاصله: أنّ منشأ النهي هو أن لا يتحقّق الإثم في الخارج، فإذا علم صدور الإثم في الخارج و لو مع ترك الإعانة من شخص خاص، فلا موجب لحرمتها، فيكون المقام من قبيل الأمر بحركة جسم ثقيل لا يرفعه إلّا جماعة فلا وجه لوجوب الاشتغال بها بعد العلم بتواني الأفراد الآخرين الذين تجب مساعدتهم، و المقام من هذا القبيل، لأنّ عدم تحقّق المعصية بالتخمير يتوقّف على ترك جميع من يملك العنب للبيع، و ليس لترك واحد و بيع الآخرين أثر في ترك المبغوض.

يلاحظ عليه: بأنّ المفروض أنّه يجب على كلّ شخص دفع الفاعل عن ارتكاب المنكر حسب حكم العقل، و ليس وجوبه مشروطاً بشي ء، غاية الأمر انّه إذا قام الثالث ببيع العنب يتحقّق المنكر، و لا يقدر الشخص على دفعه، و إذ يكون بيع الشخص الثالث تعجيزاً له عن القيام

بدفع المنكر.

إنّما الكلام فيما إذا استعدّ الثالث للبيع، و تمكينه من العنب و لكنّه بعدُ لم يبع و لم يمكّنه، فهل هذا يوجب سقوط الوجوب عن الشخص الأوّل أم لا؟ الظاهر لا،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 317

فإنّه ما لم يتحقّق البيع من الغير تكون القدرة على الدفع باقية له، و مع هذه القدرة لا وجه لارتفاع الوجوب، إذ المفروض أنّ الغير بَعدُ لم يبع العنب و لم يمكّنه منه، فهو حينئذ قادر على إبقاء الدفع، كما هو قادر على نقضه، فما دام الغير لم يقم بعمل البيع و تسليمه و لم يأت بعمل موجب لتعجيزه، فلا وجه لعدم وجوبه.

و الحاصل: إنّ الذي يرفع الوجوب عنه هو قيام الغير بعملية توجب عجزه عن القيام بدفع المنكر، و المفروض أنّه لم يحصل بعد، بل هو ناو و بان على ذلك، و ليست نيته و بناؤه موجباً لارتفاع الوجوب.

و بذلك يعلم أنّ قياس المقام برفع الجسم الثقيل الذي لا يرفعه إلّا جماعة، أو عرض العسكر الذي لا يتحقّق إلّا بالاجتماع، قياس مع الفارق، فإنّ الإيجاب لكلّ واحد مشروط بقيام الآخر، أو العلم بقيامه، أو مظنة قيامه، و مع العلم بالعدم يسقط الوجوب، و هذا بخلاف المقام فإنّ دفع المنكر بترك بيع العنب واجب على كلّ واحد وجوباً مطلقاً غير مشروط بشي ء، حتّى بعد عزم الثالث على البيع و لا يسقط الوجوب بالعلم بقيامه بالبيع في المستقبل، و عندئذ لا يسقط الوجوب و لو عُلِمَ عزم الغير على البيع.

نعم بيع الغير موجب لتعجيزه عن دفع المنكر، و هو خارج عن البحث، فإنّما الكلام فيما إذا لم يمكّنه بعد و إن نوى و عزم على التمكين.

إلى هنا تبيّن

أنّ مقتضى القواعد العقلية هو الحرمة إمّا من باب كون بيع العنب إعانة على الإثم، أو كونه تمكيناً للغير من المنكر مع حرمته و لزوم دفعه.

عرض المسألة على الروايات

إنّ الروايات على طائفتين:

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 318

الأُولى: ما دلّت على الجواز وضعاً و تكليفاً، و إليك بيانها:

1. صحيحة ابن أُذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته و دابته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر، و الخنازير؟ قال: «لا بأس». ( «1»)

و هذه الرواية تدلّ على الجواز وضعاً و تكليفاً حسب الإطلاق.

2. ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً؟ قال: «إذا بعته قبل أن يكون خمراً و هو حلال فلا بأس». ( «2»)

3. ما رواه أبو كهمس قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن العصير فقال: لي كرم و أنا أعصره كلَّ سنة و اجعله في الدنان و أبيعه قبل أن يغلي؟ قال: «لا بأس به، و إن غلى فلا يحل بيعه»، ثمّ قال: «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً». ( «3»)

4. ما رواه الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن بيع العصير ممّن يصنعه خمراً؟ فقال: «بعه ممّن يطبخه أو يصنعه، خلًا أحبُّ إليَّ و لا أرى بالأوّل بأساً». ( «4»)

5. ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن بيع العصير فيصير خمرا قبل أن يقبض الثمن؟ فقال: «لو باع ثمرته ممّن يعلم أنّه يجعله حراماً لم يكن بذلك بأس، فأمّا إذا كان عصيراً فلا يباع

إلّا

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل: 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 6، و ص 170، الحديث 9.

(3) الوسائل: 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 6، و ص 170، الحديث 9.

(4) الوسائل: 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 6، و ص 170، الحديث 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 319

بالنقد». ( «1»)

6. ما رواه عمر بن أُذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) أسأله عن رجل له كرم أ يبيع العنب و التمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو سكراً؟ فقال: «إنّما باعه حلالًا في الأبان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه». ( «2»)

7. ما رواه محمد بن إسماعيل قال: سئل الرضا (عليه السلام)- و أنا أسمع- عن العصير يبيعه من المجوس و اليهود و النصارى و المسلمين قبل أن يختمر و يقبض ثمنه أو ينسؤه؟ قال: «لا بأس إذا بعته حلالًا، فهو أعلم يعني العصير و ينسئ ثمنه». ( «3»)

الثانية: ما دلّت على عدم الجواز:

1. ما رواه صابر قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر، قال: «حرام أجره». ( «4»)

2. ما رواه ابن أبي عمير، عن ابن أُذينة قال: «كتبت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: «لا بأس به». و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً؟ قال: «لا». ( «5»)

3. ما رواه عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن التوت

أبيعه يصنع للصليب و الصنم؟ قال: «لا». ( «6»)

إذا عرفت هذا فيجب إمعان النظر في كيفية الجمع بين الروايات:

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 5. و يدلّ على ذلك في هذا الباب، الحديث 4 و 7 و 8 و 10.

(2) الوسائل: 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 5. و يدلّ على ذلك في هذا الباب، الحديث 4 و 7 و 8 و 10.

(3) الوسائل: 17/ 304، الباب 38 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 2.

(4) الوسائل: 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(5) الوسائل: 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.

(6) الوسائل: 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 320

الأوّل: حمل الأخبار المانعة على صورة اشتراط جعل الخشب صليباً أو صنماً، أو على ما إذا تواطئا عليه خارج العقد.

و أورد عليه الشيخ الأعظم (رحمه الله) بأنّ هذا في غاية البعد، إذ لا داعي للمسلم لاشتراط صناعة الخشب صنماً في متن بيعه أو في خارجه، ثمّ يجي ء و يسأل الإمام (عليه السلام) عن جواز فعل هذا في المستقبل و حرمته، و هل يحتمل أن يريد الراوي بقوله: «أبيع التوت ممّن يصنع الصنم و الصليب؟»، أبيعه مشروطاً عليه و ملزماً في متن العقد أو قبله أن لا يتصرّف فيه إلّا بجعله صنماً؟

أضف إلى ذلك إنّه لا يصحّ هذا الحمل في رواية صابر قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر. قال: «حرام أجره»، فانّ الوارد فيها

«فيباع» لا «ليباع».

فالظاهر انّ الروايات المانعة ناظرة إلى هذه الصورة لا إلى الصورة الأُولى، و على ما ذكرنا نبّه المحقّق الإيرواني حيث قال في حقّ هذه الأخبار: إنّها بأجمعها أجنبية عن صورة اشتراط الصرف في الحرام، بل و عن صورة كون الداعي هو الحرام، و أيّ مسلم يشترط الحرام أو يدعوه إلى المعاملة وقوع الحرام؟ و إنّما مورد الأخبار صورة العلم بصرف المشتري للمبيع في الحرام. ( «1»)

الثاني: ما ذكره الشيخ و ارتضاه، و هو حمل الأخبار المانعة على الكراهة، لشهادة غير واحد منها عليها، منها رواية رفاعة عن بيع العصير ممّن يصنعه خمراً. قال: «بيعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلًا أحبّ إليّ، و لا أرى به بأساً» ( «2») و غيرها.

و أورد عليه المحقّق الخوئي- دام ظله- بوجهين:

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 14.

(2) الظاهر أنّ مراده رواية الحلبي فانّ ما ذكره في المتن رواه الحلبي لا رفاعة، لاحظ الوسائل: 12/ 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8 و 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 321

الأوّل: انّه معارض بما في بعض الروايات من بيعهم (عليهم السلام) تمرهم ممّن يجعله شراباً خبيثاً كما في رواية رفاعة بن موسى، قال: سئل أبا عبد اللّه (عليه السلام)- و أنا حاضر- عن بيع العصير ممّن يخمره. قال: «حلال. ألسنا نبيع تمرنا ممّن يجعله شراباً خبيثاً». ( «1») و من البعيد صدور الفعل المكروه منهم (عليهم السلام) دفعة واحدة فضلًا عن الدفعات.

و بما في بعض الروايات من تعليل جواز البيع بأنّه قد وقع على العنب الحلال و إنّما المشتري جعله حراماً أبعده اللّه و أسحقه، و لا تزر وازرة وزر أُخرى.

و يمكن الإجابة عنه: بأنّ المراد من

قوله (عليه السلام): «ألسنا نبيع» هو بيع المسلمين القاطنين ( «2») في المدينة لا بيع شخص الإمام (عليه السلام)، و على ذلك تحمل رواية أبي كهمس حيث قال الإمام (عليه السلام): «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً»، فانّ المراد هو بيع جمهور المسلمين في المدينة و غيرها لا بيع شخص الإمام (عليه السلام)، و لا مناص عن هذا الحمل، إذ من البعيد أن يقوم الإمام (عليه السلام) بهذا العمل في كلّ عام، فانّه لا يليق أن ينسب إلى إمام الجمعة و الجماعة فضلًا عن إمام المسلمين.

الثاني: انّ كون بيع العصير ممّن يجعله خلًا أحب، لا يدلّ على كراهة بيعه ممّن يجعله خمراً، خصوصاً مع تصريحه (عليه السلام) فيها بالجواز بقوله: «و لا أرى بالأوّل بأساً»، نعم لو كان لفظ الرواية «إنّي لا أُحب بيعه ممّن يجعله خمراً» لكان دالّا على كراهة البيع.

و يمكن الإجابة عن الإشكال بأنّ صيغة التفضيل- بقرينة المقام بيع العنب ممّن يصنعه خمراً- كانت مجرّدة عن معنى التفضيل، و مفاد الحديث انّ هذا محبوب

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(2) قطن في المكان: أقام فيه و توطّنه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 322

دون ذاك، مثل قوله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ). ( «1»)

و أمّا قوله (عليه السلام): «لا أرى به بأساً» فلا ينافي الكراهة، لأنّه بصدد بيان الجواز بالمعنى الأعم.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن استفادة الكراهة من قوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي: «تبيعه حلالًا ليجعله حراماً فأبعده اللّه و أسحقه» ( «2») و قوله في رواية يزيد ابن خليفة: «بعته حلالًا فجعله حراماً فأبعده اللّه». ( «3»)

فإن

قلت: إنّ اللام في «ليجعله» و الفاء في قوله «فتجعله» تدلّان على ورود الروايتين في صورة الاشتراط أو التواطؤ.

قلت: إنّ اللام في الأُولى للعاقبة لا للغاية، فكم فرق بين قوله: «ضرب زيداً للتأديب» و قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً) ( «4»)؟!

الثالث: ما نقله الشيخ أيضاً من التفصيل بين بيع الخشب ممّن يعمله صليباً أو صنماً فالحكم هو الحرمة، و مسألة بيع العنب ممّن يعمله خمراً فالعمل فيها على الأخبار المجوّزة، و قال: هذا الجمع قول فصل- بين الأخبار- لو لم يكن قولًا بالفصل.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره لا يتم في بعض الروايات كرواية صابر قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر. قال: «حرام أجره» ( «5») فانّ مورد الرواية هو إقدام المستأجر على بيع الخمر في البيت لا اشتراطه أو التواطؤ عليه خارج العقد.

______________________________

(1) يوسف: 33.

(2) الوسائل: 12/ 169 و 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4 و 10.

(3) الوسائل: 12/ 169 و 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4 و 10.

(4) القصص: 8.

(5) الوسائل: 12/ 125، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 323

أضف إلى ذلك: إنّ حرمة بيع الخمر أشدُّ من صنع الصليب الذي يعدّ شعاراً لصلب عيسى (عليه السلام) على الأعواد، فكيف يحرم بيع الخشب لصناعة ذلك و يجوز بيع العنب لصنع الخمر؟! اللّهمّ إلّا أن يكون آلة العبادة، فتكون صناعته ترويجاً للشرك، و هو إثم أعظم من بيع الخمر.

الرابع: حمل الأخبار المجوّزة على ما إذا علم أنّ المشتري للعنب خمّار يصنع الخمر و لم يعلم

صرف العنب المشترى بعينه في المحرّم، و حمل الأخبار المانعة على ما إذا علم صرفه في المحرّم بشخصه.

الخامس: حمل الأخبار على ما إذا علم أنّه حين البيع قاصد لصرف المبيع في المحرّم، و حمل الأخبار المجوّزة على ما إذا علم أنّه سيتجدّد له القصد في صرفه في المحرّم.

يلاحظ عليه: أنّ كلا الجمعين بلا شاهد.

و الأولى من بين هذه الجموع هو حمل الأخبار المانعة على الكراهة.

و هناك جمع آخر لم يذكره المجوّزون، و هو حمل الأخبار المجوّزة على جواز بيع العنب ممّن يصنعه عصيراً و يشربه أو يبيعه قبل أن يذهب ثلثاه، حيث إنّ الظاهر من الروايات أنّ شربه كان متعارفاً بين الناس، و يدلّ على ذلك رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، و يزيد بن خليفة، و محمد الحلبي، و عمر بن أُذينة، و أبي كهمس، و رفاعة بن موسى. ( «1»)

و المراد من الخمر في الروايات هو ما إذا غلى بنفسه. نعم، يبعد ذلك في بعض الروايات، فلاحظ.

______________________________

(1) لاحظ الوسائل: 12/ 169 و 170- الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الأحاديث 1، 3، 4، 5، 6 و 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 324

و لا بأس بتجويز هذا البيع بخصوصه، و عدم تجويز بيعه ممّن يصنعه خمراً معروفاً، للفرق الواضح بين العصير المغلي قبل التثليث و بين الخمر- المعروف- في درجة إسكاره أوّلًا، و ضرورة حرمة الثاني بين المسلمين دون الأوّل، فلأجل ذلك جاز الأوّل دون الثاني، و ذلك لأجل انّ كثيراً من المسلمين يُحلّون هذا النوع من العصير خلافاً للشيعة تبعاً لأئمتهم (عليهم السلام).

و هذا الجمع أحسن الجموع، حيث لا يرد عليه إلّا كونه خلاف ظاهر بعض الروايات أوّلًا، و

كونه غير تام في مورد التمر ثانياً، و إن كان تامّاً في مورد عصير العنب لكونه نجساً أو حراماً قبل التثليث، فصحّ السؤال عنه و الجواب بالجواز، دون عصير التمر حيث إنّ المشهور في عصير التمر هو الطهارة و الحلّية قبل التثليث إلّا إذا كان مسكراً، فلا حاجة للسؤال حتّى يجاب بالجواز.

ثمّ إنّه لو تمّ أحد هذه الجموع، و إلّا فلا بدّ من الطرح، و الظاهر أنّ الأخذ بالروايات المجوّزة عند المعارضة مشكل من وجوه:

الأوّل: مخالفتها لصريح حكم العقل من قبح تهيئة وسائل المعصية للغير.

توضيحه: انّ مرتكب المعصية و إن كان لا يعاقب على الإتيان بالمقدّمات عقاباً زائداً على عقاب ذيها، لكنّه إذا ساعد الغير و هيّأ مقدّمات المعصية للغير فهو يعاقب بنفس هذه المساعدة، لاستقلال العقل بقبح فعله و عمله، و لأجل ذلك يعد إمداد المجرم جرماً، من غير فرق بين الإعانة لداعي توصل الغير إلى الحرام أم لا، و من غير فرق بين كون المعان مريداً حال الإعانة للحرام أم لا، و من غير فرق بين كون الحرام متروكاً بتركه أم لا، كلّ ذلك قبيح عند العقل، و إن كانت درجات القبح مختلفة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 325

و يؤيد ذلك: رواية صابر، حيث حرمت إجارة البيت فيما إذا يباع فيه الخمر، فإنّ القدر المتيقّن من الرواية هو علم المؤجر بأنّه يترتب على الإجارة أمرٌ محرّم، و يؤيده ما ورد من اللعن على طوائف عشر، التي منها غارس الخمر، و غيره على ما رواه جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) في الخمر عشرة: غارسها، و حارسها، و عاصرها، و شاربها، و

ساقيها، و حاملها، و المحمولة إليه، و بائعها، و مشتريها، و آكل ثمنها». ( «1»)

الثاني: مخالفتها لما ورد في الكتاب من حرمة الإعانة على الإثم و العدوان، و قد عرفت عدم الفرق بين كون المعين قاصداً لوقوع الحرام في الخارج و عدمه.

الثالث: الاستدلال بالروايات الواردة في باب الخمر، حيث إنّ الحرمة لا تختص بشاربه، بل تعمّ كلّ من أعانه، كما ورد في الروايات حيث روى الحسين بن زيد، عن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)- في حديث المناهي- «انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى أن يشتري الخمر، و أن يسقي الخمر، و قال: لعن اللّه الخمر، و غارسها، و عاصرها، و شاربها و ساقيها، و بائعها، و مشتريها، و آكل ثمنها، و حاملها، و المحمولة إليه». ( «2»)

و هذا الوجه الثالث و إن لم يعم غير الخمر لكنّه يكفي في جعل هذه الأخبار موهونة غير قابلة للاعتماد.

و بالجملة، فهذه الروايات مخالفة لأُصول المذهب، و لأجل ذلك قال صاحب الرياض: في مقاومة هذه النصوص و إن كثرت و اشتهرت و ظهرت دلالتها، بل و ربما كان في المطلب صريحاً بعضها لما مرّ من الأُصول و النصوص

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) الوسائل: 12/ 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 326

المعتضدة بالعقول إشكال، و المسألة لذلك محل إعضال، فالاحتياط فيها لا يترك على حال. ( «1»)

قد علمت «في صحة المعاملة و فسادها» أنّ الأقوى هو حرمة المعاملة، و انّه لا يصحّ رفع اليد عن الأخبار المانعة بالأخبار المجوّزة لما عرفت من مخالفتها لأُصول

المذهب، و عند ذلك يقع الكلام في صحتها و بطلانها على فرض حرمتها.

ما هو الحكم الوضعي في المقام؟

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): ثمّ إنّه كلّ مورد حكم فيه بحرمة البيع، فالظاهر عدم فساد البيع، لتعلّق النهي بما هو خارج عن المعاملة، أعني: الإعانة على الإثم أو المسامحة في الردع عنه (المنكر).

و يحتمل الفساد لإشعار قوله في رواية التحف المتقدّمة: «و كلّ بيع ملهو به، و كلّ منهي عنه لما يتقرّب به لغير اللّه أو يقوى به الكفر و الشرك في جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به الحقّ، فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه». ( «2»)

و فَصّل سيدنا الأُستاذ- دام ظله- بين وقوع المعاملة معاطاة و بين وقوعها بالصيغة، فالصحّة في الأوّل دون الثاني، لأنّ المحرّم عنوان آخر منطبق على المعاملة الخارجية، سواء كان المستند حكم العقل بقبح تهيئة أسباب المحرم، أو وجوب دفع المنكر، أو حكم الشرع بوجوب دفعه، أو حرمة التعاون عليه، لأنّ موضوعات تلك الأحكام عناوين غير نفس المعاملة و بينها عموم من وجه، و الموضوعات الخارجية مجمع لها، و لكلّ منها حكمه.

______________________________

(1) الرياض: 8/ 55، مؤسسة النشر الإسلامي.

(2) الوسائل: 12/ 56، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 327

و أمّا على الثاني، أي كون المعاملة واقعة بالصيغة، تقع المزاحمة- بعد وقوع المعاوضة- بين دليل حرمة التعاون على الإثم، و دليل وجوب تسليم المثمن، فإن قلنا بترجيح الثاني يجب عليه التسليم و يعاقب على الإعانة على الإثم، و لو قلنا بترجيح الأوّل فلا يجوز له التسليم. ( «1»)

و الظاهر عدم تمامية التفصيل، و انّ المعاطاة و البيع بالصيغة متّحدان حكماً، لأنّ المعاطاة أحد مصاديق العقد الفعلي

و السبب العملي، فلو قلنا- كما هو الحق- بعمومية قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ( «2») للسبب القولي و الفعلي تكون المعاطاة و العقد بالصيغة من واد واحد، لأنّ بين عنوان الوفاء بالعقد الأعم من القولي و الفعلي، و عنوان دفع المنكر أو حرمة التعاون عليه، عموم و خصوص من وجه، و كلّ من العنوانين محكوم بضدّ ما حكم به على الآخر، فيكون موضوع التنفيذ هو عنوان البيع و العقد، كما يكون موضوع الحرمة هو التعاون، فبين العنوانين عموم و خصوص من وجه، و التسليم و التسلّم في المعاطاة و البيع بالصيغة مجمع لكلا العنوانين، غاية الأمر أنّ إنشاء التمليك في الأوّل بنفس التسليم و التسلّم و في الثاني بالإنشاء اللفظي، و هذا لا يوجب الفرق من حيث النتيجة، لأنّ الذي يزاحم حرمة التعاون أو وجوب رفع المنكر هو وجوب الوفاء بالعقد أو وجوب تنفيذ البيع بما هو هو الشامل لكلا السببين.

و ربّما يحتمل البطلان، لأنّ المعاوضة لدى العقلاء متقوّمة بإمكان التسليم و التسلّم، و مع تعذرهما شرعاً لا تقع المعاوضة صحيحة، و تسليم المبيع في المقام متعذّر شرعاً، لعدم جوازه فرضاً، و عدم جواز إلزامه عليه لا من قبل المشتري و لا

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 149.

(2) المائدة: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 328

من قبل الوالي و مع عدم تسليمه يجوز للمشتري عدم تسليم الثمن، و المعاوضة التي هذا حالها ليست عقلائية و لا شرعية فتقع باطلة.

يلاحظ عليه: أنّ ما هو المقوّم لصحّة المعاملة هو قدرة البائع على التسليم تكويناً، و ممنوعيته شرعاً لا توجب كونه فاقداً للقدرة المعتبرة في العقود كما هو واضح، فالأولى ما ذهب إليه الشيخ- و هو صحّة المعاملة-

لتعلّق النهي بما هو خارج عن المعاملة.

نعم لو تمّت رواية «تحف العقول» سنداً كفت في الحكم بالبطلان، خصوصاً على ما استدركنا به على نقل الشيخ، نصّ الحديث، إذ لا شكّ أنّ بيع العنب ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً من مصاديق قوله: «أو باب يوهن به الحق» و أيضاً من مصاديق قوله: «يقوى به أبواب الباطل و الضلالة».

ثمّ إنّ البحث في الصحّة و الفساد على القول بالتحريم يختص بغير باب العنب، و أمّا فيه، فالظاهر من الروايات المستفيضة الحاكية لعن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّ نفس بيع العنب ممّن يتّخذه حرام مستقلًا، لا من باب كونه إعانة على الإثم، فإذا كان حراماً بالذات تمتنع الصحّة، لأنّ المبغوضية بالذات لا تجتمع مع الصحة، إذ معنى الصحّة وجوب تنفيذ البيع، و صحّة المعاقبة على الامتناع من تسليم المبيع أو تسلّم الثمن، و مثل هذا الإيجاب لا يجتمع مع كون التسليم و التسلّم مبغوضاً بالذات.

و بالجملة: فكلّ مورد يكون البيع حراماً بالذات- لا بعروض عنوان خارج عنه- يحكم بالفساد.

***

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 329

الاكتسابات المحرمة

2

القسم الثالث من النوع الثاني ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأناً

اشارة

القسم الثالث: ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأناً، بمعنى انّ من شأنه أن يقصد منه الحرام. ( «1»)

و لا يخفى ما في هذا العنوان من الإشكال، إذ لو أُريد منه ظاهره- أعني: القابلية- فيلزم حرمة كثير من الأشياء التي تقبل أن يقصد منها الحرام حتى بيع العنب، و لأجل ذلك يجب أن يصار إلى أنّ المراد من الشأنية هو كونها موضوعاً لذلك، كبيع السلاح من أعداء الدين، فيختص البحث به، فكان الأولى تخصيص عنوان البحث ببيع السلاح من أعداء الدين من دون أخذ عنوان عام، كما

عليه الأصحاب في كتبهم الفقهية.

______________________________

(1) قد مرّ انّ النوع الثاني من المحرمات ما يحرم التكسب به لتحريم ما يقصد به، و هو على أقسام: الأوّل: ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاص إلّا الحرام، و هي أُمور:

منها: هياكل العبادة المبتدعة- الخ.

القسم الثاني: ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة، و قد فسّر الشيخ (قدس سره) في ضمن مسائل ثلاث.

القسم الثالث من النوع الثاني هو ما ذكر في المتن، فلا تغفل.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 330

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم قال: بأنّ تحريم مثل هذا النوع مقصور على النص، إذ لا يدخل ذلك تحت الإعانة، خصوصاً مع عدم العلم بصرف الغير له في الحرام، كبيع السلاح من أعداء الدين مع عدم قصد تقويتهم، بل و عدم العلم باستعمالهم لهذا المبيع الخاص في حرب المسلمين.

و لا يخفى أنّه و إن لم تصدق عليه الإعانة على الإثم- لا لأجل اعتبار القصد في صدقها لما عرفت من عدم اشتراطه، بل لأجل لزوم العلم باستعمال المبيع في الحرام، و المفروض عدمه- و لكن تصدق عليه الإعانة على تقوّي الكفر و الشرك و الضلالة و الباطل و وهن الحق، فلو كان هذا هو المناط للحرمة تصدق الإعانة، و يحرم كلّ ما يعد إعانة لمثل هذا الأمر سلاحاً كان أو كتاباً أو غير ذلك.

و ممّا يؤيد أنّ الحرمة من باب الإعانة رواية هند: «فمن حمل إلى عدونا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك». ( «1»)

و على كلّ تقدير فالأولى جعل عنوان المسألة حسب ما في الكتب الفقهية من

بيع السلاح من أعداء الدين
اشارة

، فقد اختلفت كلمتهم بعد الاتّفاق على أصل الحكم و صاروا إلى أقوال ثمانية نقلها السيد الطباطبائي (قدس سره) في تعليقته:

أحدها: و

هو ظاهر المشهور، اختصاص الحرمة بحال قيام الحرب.

الثاني: التحريم في حال المباينة و عدم الصلح، و هو مختار جماعة.

الثالث: التحريم في حال الحرب أو التهيّؤ له، و هو ظاهر «المسالك».

الرابع: التحريم مطلقاً، و هو المحكي عن حواشي الشهيد، بل عن الشيخين و الديلمي و الحلبي قدس سرهم و «التذكرة»، و ربّما يستظهر من «الشرائع» أيضاً.

الخامس: التحريم مع قصد المساعدة فقط، حكاه في «الجواهر» عن بعض،

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 331

و يمكن استظهاره من «الشرائع».

السادس: التحريم مع أحد الأمرين من القصد إلى المساعدة أو قيام الحرب، اختاره في «الشرائع».

السابع: التحريم مع الأمرين من القصد و قيام الحرب، حكاه في «الجواهر».

الثامن: ما اختاره في «المستند» من إطلاق المنع بالنسبة إلى المشركين، و التفصيل بين حال المباينة و الصلح بالنسبة إلى المسلمين المعادين للدين، و هو المحكي عن «المهذب». ( «1»)

أقول: يقع الكلام في موضعين:

الأوّل: حكم المسألة من حيث القواعد العامة.

الثاني: دراسة حكمها من حيث الروايات، فنقول:

دراسة المسألة حسب القواعد العامة

إنّ مقتضى القاعدة في السلاح الذي انقرض زمانه و خرج عن كونه قابلًا للاستعمال في ميادين الحرب هجوماً و دفاعاً، هو الجواز، فلو أراد الكافر تأسيس معرض لإراءة الحضارة الإنسانية الغابرة، و أراد شراء الأسلحة القديمة المتروكة للعرض، فلا إشكال في بيعه لعدم وجود الملاك في التحريم، لأنّه لا إعانة على الإثم، و لا موجب لتقوّي الكفر.

و أمّا السلاح الرائج المستعمل في جبهات الحرب فحرمة بيعه و جوازه تابع لمصالح الإسلام و المسلمين، فلو كانت نار الحرب بين المسلمين و الكفّار مشتعلة،

______________________________

(1) تعليقة السيد الطباطبائي: 10.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 332

أو أراد العدو التهيّؤ للحرب،

أو كان الزمان زمان هدنة و صلح و لكن يخاف منه على حوزة الإسلام آجلًا، فلا يجوز البيع منهم.

و بذلك يعلم أنّه ليس موضوع الحرمة هو وجود الحرب أو تهيّؤ العدو، كما أنّه ليس موضوع الجواز وجود الصلح بين الإسلام و الكفر، بل الحكم تابع للمصالح العامّة، فلو كانت نار الحرب مشتعلة بين المسلمين و طائفة من الكفّار، و لكن كانت هناك طائفة من الكفّار يعيشون تحت لواء الحكومة الإسلامية، أو تكون بينهم و بين الحكومة الإسلامية علاقات صادقة، يمكن دفع شرُّ المهاجم بهم، ففي هذه الصورة يجب على والي المسلمين تأييدهم بالعِدّة و العُدَّة فضلًا عن بيع السلاح منهم.

كما أنّه لو كان هناك بين الإسلام و الكفر صلح و هدنة و لكن يخاف من هجوم العدو آجلًا لا عاجلًا، فلا يجوز البيع إذا كان هناك ذاك الترقّب، فإذا كان هذا هو المناط، فكما لا يجوز بيع السلاح من الكافر فكذلك لا يجوز بيعه من المخالف و إن كان مسلماً إذا كان هناك ذاك الترقّب.

و بالجملة: لا يجوز بيع السلاح من أعداء الطائفة الحقّة لو خيف من هجومهم و تقويتهم.

و لأجل كون الملاك ما ذكرنا يجوز بيع السلاح من المخالف و إن كان كافراً ذمّياً إذا كان الشراء لأجل دفع شر السارق و السبع، و هذا هو مفاد القاعدة.

دراسة المسألة في ضوء الروايات

أمّا حكم المسألة حسب الروايات فهي على طوائف ثلاث:

الأُولى: ما يدلّ على جواز البيع مطلقاً، كرواية أبي القاسم الصيقل قال: كتبت إليه إنّي رجل صيقل اشتري السيوف و أبيعها من السلطان أ جائز لي بيعها؟

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 333

فكتب: «لا بأس به». ( «1»)

الثانية: ما يدلّ على عدم الجواز مطلقاً، كرواية علي بن

جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة. قال: «إذا لم يحملوا سلاحاً فلا بأس». ( «2»)

و رواية جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) (في وصيّة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام)) قال: «يا علي كفر باللّه العظيم من هذه الأُمة عشرة: القتّات- إلى أن قال:- و بائع السلاح من أهل الحرب». ( «3»)

الثالثة: ما يدلّ على التفصيل بين الهدنة و المباينة، كرواية أبي بكر الحضرمي قال: دخلنا على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقال له حكم السرّاج: ما تقول فيمن يحمل إلى الشام السروج و أداتها؟ فقال: «لا بأس، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)، انّكم في هدنة، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السروج و السلاح». ( «4»)

و رواية هند السرّاج قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أصلحك اللّه انّي كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم، فلمّا عرّفني اللّه هذا الأمر ضقت بذلك و قلت: لا أحمل إلى أعداء اللّه، فقال لي: «احمل إليهم، فانّ اللّه يدفع بهم عدونا و عدوكم- يعني الروم- و بعهم، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا، فمن حمل إلى عدونا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك». ( «5»)

و ما رواه أبو عبد اللّه البرقي، عن السرّاج، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قلت له: إنّي أبيع السلاح. قال: فقال: «لا تبعه في فتنة». ( «6»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) الوسائل: 12/ 70 و 71، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6 و 7.

(3) الوسائل:

12/ 70 و 71، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6 و 7.

(4) الوسائل: 12/ 69 و 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2 و 4.

(5) الوسائل: 12/ 69 و 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2 و 4.

(6) الوسائل: 12/ 69 و 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2 و 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 334

و هذا مختار الشيخ الأعظم (قدس سره) و قال: و بهذه الروايات المفصِّلة تقيّد المطلقات جوازاً و منعاً، ثمّ نقل عن حواشي الشهيد بأنّ بيع السلاح حرام مطلقاً في حال الحرب و الصلح و الهدنة، لأنّ فيه تقوية الكافر على المسلم فلا يجوز على كلّ حال.

ثمّ أورد عليه، بأنّه يشبه الاجتهاد في مقابل النص، مع ضعف دليله.

و يلاحظ على ما أفاده:

أمّا أوّلًا: فلأنّه ليس هنا رواية مطلقة دالّة على الجواز على وجه الإطلاق إلّا رواية أبي القاسم الصيقل و فيها: كتبت إليه انّي رجل صيقل اشتري السيوف و أبيعها من السلطان، أ جائز لي بيعها؟ فكتب: «لا بأس به». ( «1»)

و لا يخفى أنّ المراد من السلطان هو السلطان المسلم لا الكافر و لا المشرك.

و ثانياً: إنّ مورد الروايات المفصِّلة هو أيضاً سلاطين الجور من المسلمين، حيث قال فيمن يحمل إلى الشام السروج و أداتها، و مثله الرواية الثانية، و قريب منهما في الظهور الرواية الرابعة، و عندئذ كيف يمكن الاعتماد على هذا في إثبات التفصيل بين الحرب و الهدنة بالنسبة إلى الكافر؟

و أمّا قول الإمام (عليه السلام): «لا بأس، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه و

آله و سلم)، إنّكم في هدنة»، فمراده (عليه السلام) من التشبيه هو أنّ الشيعة و أهل الشام بمنزلة أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) حيث إنّهم مع كون بعضهم منافقاً و مع عداوة بعضهم لبعض كانوا في الظاهر متوافقين، و لم يكن بينهم نزاع فكذلك أنتم و أهل الشام، فالمخاطب بقوله: «أنتم» مجموع الطرفين من أهل الحق و أهل الشام، و على ذلك فلا توجد هناك رواية مفصّلة.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 335

و على ذلك فمختار الشهيد (قدس سره) أقوى و أنسب للقواعد، إذ فيه تقوية للكافر بلا إشكال، و تقويته كانت على الإثم و لو آجلًا، سواء كانت الحرب سجالًا، أم كان الزمان زمان الهدنة، بل يمكن استفادة الحكم من قوله سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ( «1») فإنّ الآية تأمر بجمع السلاح لغاية الإرهاب و الإرعاب، و مع ذلك فكيف يجوز تقوية الكافر لو لم تكن هناك مصلحة؟! على أنّ الروايات المفصّلة المتقدّمة أظهر شاهد على ما نتوخّاه، و هو أنّ الملاك للحرمة و الجواز وجود المفسدة العاجلة أو الآجلة أو المصلحة كذلك، لأنّ دولة الشام كانت في قبال دولة الروم و كان تجهيزها مقروناً بالمصلحة في مقابل العدو المشترك، و بذلك يظهر انّ هذه المسألة أكثر ابتلاء للحكومات الإسلامية، و المعيار في الصحّة و الفساد ما ذكرنا.

فإن قلت: كيف تقول بعدم الجواز مع أنّ ظاهر رواية الصيقل هو الجواز مطلقاً، و ظاهر رواية السرّاج هو الجواز في غير الفتنة؟

قلت: لو فرض هناك إطلاق يقيّد بالدليل العقلي، لاستقلال العقل بعدم الجواز في

ما إذا كان في البيع مفسدة أو لم تكن هناك أيّة مصلحة لا عاجلًا و لا آجلًا، و أمّا رواية السرّاج فموردها بيع السلاح من المسلم لا من الكافر، و لأجل ذلك قيد الإمام (عليه السلام) جواز البيع بعدم الفتنة و اشتعال النار بين طائفتين من المسلمين.

فإن قلت: كيف تقول بالجواز فيما إذا اقتضت المصلحة بيعه من الكافر مع أنّ إطلاق رواية علي بن جعفر (عليه السلام) خلافه، و هكذا وصيّة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) للوصي (عليه السلام) حيث قال: «يا علي كفر باللّه العظيم من هذه الأُمّة عشرة: القتّات- إلى أن قال:-

______________________________

(1) الأنفال: 60.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 336

و بائع السلاح من أهل الحرب» ( «1»)؟

قلت: إنّ هاتين الروايتين هما المصدر للقول بعدم الجواز، و هو المحكي عن الشيخين و الديلمي، و الحلبي، و «التذكرة»، و ربما يستظهر من «الشرائع»، و الظاهر انصراف الروايتين إلى صورة وجود المفسدة، خصوصاً بالنظر إلى ما ورد في رواية علي بن جعفر (عليه السلام) من قوله: «حمل المسلمين إلى المشركين التجارة»، و في رواية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «بائع السلاح من أهل الحرب» و غير خفي انّ المشرك و أهل الحرب يخاف منهم على الإسلام في غالب الأوقات إمّا عاجلًا أو آجلًا.

أضف إلى ذلك أنّ رواية علي بن جعفر (عليه السلام) ليست في مقام بيان حكم السلاح، بل هي بصدد بيان حكم التجارة، و لأجل ذلك لا يمكن التمسّك بإطلاقها في جانب السلاح.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم نقل تفصيلًا آخر عن «النهاية»، و ظاهر «السرائر» و أكثر كتب العلّامة، و الشهيدين و المحقّق الثاني قدس سرهم و هو اختصاص

المنع بالسلاح دون ما لا يصدق عليه ذلك، كالمجن و الدروع و سائر ما يكنُّ، و استدل برواية محمد بن قيس قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما السلاح؟ فقال: «بعهما ما يكنّهما الدرع و الخفين و نحو هذا». ( «2»)

و لا يخفى أنّ الرواية خارجة عن مورد البحث، لأنّها واردة في ما إذا كان طرفا الحرب محقوني الدم، و إلّا فلا وجه لتجويز ما يكنُّ و تحريم ما لا يكنُّ، فالظاهر أنّ الحرمة في غير المحقون تعمّ كلا القسمين.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 71، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(2) الوسائل: 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 337

و الظاهر أنّ الملاك في جميع الصور واحد، و هو رعاية مصالح الإسلام و المسلمين و مقتضيات الزمان، من غير فرق بين حالتي الحرب و الهدنة، و الكافر و المسلم، و الهجوم و الدفاع، هذا كلّه في الحرمة التكليفية.

صحّة البيع أو فساده

أمّا الحرمة الوضعية فهل تبطل المعاملة أو لا؟ يظهر حكمها ممّا أوضحناه في بيع العنب ممّن يعلم أنّه يصنعه خمراً، فإنّ بين بيع السلاح و تقوّي الكفر و وهن الحقّ عموماً و خصوصاً من وجه، فما تعلّق به الأمر بالتسليم و تنفيذ المعاملة هو عنوان البيع، و ما تعلّق به النهي هو تقوّي الكفر و وهن الحقّ، فيتصادقان في مورد بيع السلاح من أعداء الدين مع وجود المفسدة، و مثل ذلك لا يوجب الفساد، إذ كم من فرق بين تعلّق النهي بنفس البيع و بين تعلّقه بعنوان منطبق على ما انطبق عليه عنوان البيع.

فإن قلت: إنّ المعاملة باطلة لفقدان

شرطها، و هو إمكان التسليم، و المفروض أنّ المشتري- بحكم كون التسليم حراماً- غير قادر عليه، و معه كيف تصحّ المعاملة.

قلت: لا يشترط في المعاملة أزيد من القدرة العرفية، فيخرج ما لا تتعلّق به القدرة عرفاً، كبيع الطير في الهواء، و السمك في الماء، و أمّا القدرة الشرعية- أي كونه مساغاً و مباحاً- فغير مشروط.

فإن قلت: لو قلنا بالصحّة يكون تسليم المعوض واجباً لأجل وجوب الوفاء بالعقد، و حراماً لكونه إعانة على الإثم أو إعانة على وهن الحقّ و تقوية الكفر.

قلت: الحكم فيه ما قيل في الصلاة في الدار المغصوبة، فانّ الحركة فيها

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 338

محكومة بحكمين: حرام بما أنّها مصداق الغصب، و واجب بما أنّها مصداق الصلاة. و قد قلنا في محله: انّ متعلّق الأمر و النهي، هو العناوين الكلية، لا المصاديق الخارجية فلاحظ.

البيع من قطّاع الطريق

لا شكّ أنّ البيع منهم حرام، لأجل كونه إعانة على الإثم، و قد عرفت أنّه لا يشترط في صدق الإعانة إلّا قصد المعان عليه، و المفروض وجوده.

و يؤيد ذلك ما في حديث «تحف العقول»: «أو وجه من وجوه الفساد».

ثمّ إنّ الشيخ (قدس سره) استدلّ على الحرمة بما ورد في رواية «تحف العقول»: بإناطة الحكم بتقوّي الباطل و وهن الحقّ، محتملًا لشموله لعمل قطّاع الطريق.

و لا يخفى أنّ الوارد في رواية «التحف» هو وهن الحقّ و تقوية الكفر، و ليس عمل القطّاع موجباً لوهن الحقّ و تقويته، إذ لا صلة لعملهم بالحقّ و الكفر، و إنّما هم يطلبون أموال المسلمين و ثروتهم.

نعم، لو صحّ ما نقله الشيخ عن «التحف» من قوله: «تقوّي الباطل» كان لما ذكر وجه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 339

الاكتسابات المحرمة

(3)

النوع

الثالث: الاكتساب بما لا منفعة محلّلة فيه

التمهيد للبحث:

ما هو ملاك البحث في هذا النوع؟

الفرق بين هذا النوع من البيع، و البيع السفهي.

جعل هذا البحث ذيلًا لشرائط العوضين أولى.

أدلّة الفقهاء على حرمة هذا النوع من البيع:

1. اشتراط المالية في المبيع

2. حرمة الأكل بالباطل

3. عدم الاعتناء بالمنافع النادرة

4. لزوم كون المنفعة ممّا يعدّ صلاحاً للناس

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 341

الاكتسابات المحرمة

(3)

النوع الثالث: الاكتساب بما لا منفعة محلّلة فيه

و ممّا يحرم الاكتساب به الاكتساب بما لا منفعة محلّلة فيه معتدّ بها عند العقلاء.

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): و التحريم في هذا القسم ليس إلّا من حيث فساد المعاملة و عدم تملّك الثمن، و ليس كالاكتساب بالخمر و الخنزير.

قبل الورود في البحث نقدّم أُموراً:

الأوّل: انّ البحث في مسائل النوعين السابقين كان حول الحرمة التكليفية و الوضعية، و أمّا البحث في هذا النوع فهو مركز على الوضعية لعدم الحرمة التكليفية في هذا النوع من المعاملات إجماعاً.

الثاني: انّ البحث مركّز في أنّه هل يصحّ بيع ما ليس فيه منفعة محلّلة معتدّ بها أو لا؟ و أمّا المعاملات السفهية الخارجة عن حريم الأغراض العقلائية فهي خارجة عن حريم البحث، و بين العنوانين عموم من وجه، إذ ربّما لا يكون بيع ما ليس فيه منفعة محلّلة معتدّ بها معاملة سفهية إذا تعلّق بها غرض شخصي، و ربّما ينعكس فيكون بيع ما فيه منفعة محلّلة معتدّ بها سفهياً كبيع الماء في جانب الشط،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 342

و قد يجتمعان.

و لأجل ذلك لا بدّ من إفراز حكم كلّ من العنوانين عن الآخر.

الثالث: كان الأولى للمصنّف (قدس سره) عقد هذا البحث في ذيل المسائل المعقودة لبيان أحكام العوضين.

الرابع: إنّ عدم المنفعة إمّا

ناشئ من قلّته كالحبّة من الحنطة، و أُخرى من خسّته و دناءته كالخنافس و العقارب و الجعلان و ....

و على كلّ تقدير فقد ذهب جماعة إلى بطلان بيع ما لا منفعة له.

قال الشيخ (قدس سره) في «المبسوط»: و إن كان ممّا لا ينتفع به فلا يجوز بيعه بلا خلاف، مثل الأسد و الذئب و سائر الحشرات من الحيّات و العقارب و الفأر و الخنافس و الجعلان، و الحداة و النسر و الرخمة و بغاث الطير، و كذلك الغربان سواء كان أبقع أو أسود. ( «1»)

و قال العلّامة (قدس سره) في «التذكرة»: لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه، لأنّه ليس مالًا، فلا يؤخذ في مقابله المال كالحبّة و الحبتين من الحنطة. ( «2»)

و قال في «المنتهى»: يحرم بيع ما لا ينتفع به كالحشرات كلّها كالفأرة و الحيّات و العقارب و الخنافس و الجعلان و بنات وردان، و سباع البهائم التي لا تصلح للاصطياد كالأسد و الذئب، و ما لا يؤكل و لا يصاد به من الطير كالرخم و الحداة و الغراب الأبقع و الأسود و بيعها، كلّ هذا لا يجوز بيعه و لا أخذ ثمنه لعدم الانتفاع به. ( «3»)

إلى غير ذلك من الكلمات المتقاربة، و على كلّ تقدير فقد استدلّ لبطلان

______________________________

(1) المبسوط: 2/ 166، كتاب البيوع.

(2) التذكرة: 10/ 35، المسألة 14، كتاب البيع.

(3) المنتهى: 2/ 1016، كتاب التجارة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 343

المعاملة بوجوه:

الأوّل: يعتبر في مفهوم البيع المالية في الطرفين أو في خصوص المبيع، و ما لا منفعة له لا يعدّ مالًا.

يلاحظ عليه: أنّ المالية لا تدور مدار اشتمال العين على المنفعة، و إلّا فالمجوهرات ممّا لا ينتفع به الإنسان

كانتفاعه بالمأكولات و الملبوسات و المساكن و غيرها، و يكفي في كون العين مالًا إقبال العقلاء، و إن لم تشتمل على منفعة، و المفروض أنّ المبيع ممّا يبذل بازائه الثمن.

و بذلك يعلم ما في جواب الشيخ الأعظم من الملاحظة حيث قال: إنّه لا مانع من التزام جواز بيع كلّ ما له نفع ما، و لو فرض الشكّ في صدق المال على مثل هذه الأشياء المستلزم للشكّ في صدق البيع، أمكن الحكم بصحّة المعاوضة عليها لعمومات التجارة و الصلح و العقود و الهبة المعوّضة و غيرها، و عدم المانع، لأنّه ليس إلّا أكل المال بالباطل- الخ.

الثاني: ما نقله الشيخ الأعظم (رحمه الله) عن «الإيضاح» ( «1») من كون أكل المال بازاء هذه الأشياء أكلًا للمال بالباطل، فتكون معاملة فاسدة.

يلاحظ عليه: ما عرفت- و ستعرف أيضاً- أنّ الآية ناظرة إلى الأسباب الباطلة و الصحيحة، بقرينة لفظة «الباء» فانّها للسببية لا للمقابلة، و قد وردت الآية في موارد ثلاثة من القرآن المجيد ( «2») و الكلّ يشير إلى ما ذكرنا، و كأنّ المستدل توهم أنّ «الباء» للمقابلة، فيكون ناظراً إلى العوض و المعوض الصحيحين أو الباطلين.

______________________________

(1) و الظاهر أنّه إيضاح النافع، لا إيضاح الفوائد، فالأوّل للشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي المعاصر للمحقّق الكركي و له نفحات الفوائد، و الثاني لفخر المحقّقين قدس سرهم.

(2) البقرة: 188، النساء: 29 و 161.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 344

و إن أراد المستدلّ بأنّ المعاملة سفهية.

ففيه: إنّه ربّما يتعلّق غرض نوعي أو شخصي لشراء هذه الأشياء، خصوصاً إذا أُريد من شرائها إجراء الفحوص العلمية عليها.

نعم، لو لم يكن هناك أيّ غرض من الغرضين تبطل المعاملة، كمبادلة القمّل بالبرغوث، لعدم صدق قوله سبحانه:

(إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ) ( «1»)، فإنّ التجارة فرع الماليّة، و هي فرع كون الشي ء ممّا يبذل بازائه الثمن.

الثالث: ممّا استدلّ به الشيخ الأعظم (قدس سره) الإجماع على عدم الاعتناء بالمنافع النادرة، و هو الظاهر من التأمّل في الأخبار أيضاً، مثل ما دلّ على تحريم بيع ما تحرم منفعته الغالبة مع اشتماله على منفعة نادرة محلّلة، مثل قوله (عليه السلام): «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها» بناءً على أنّ للشحوم منفعة نادرة محلّلة على اليهود.

لأنّ ظاهر تحريمها عليهم تحريم أكلها أو سائر منافعها المتعارفة دون النادرة، فلولا أنّ النادر في نظر الشارع كالمعدوم، لم يكن وجه للمنع عن البيع، كما لم يمنع الشارع عن بيع ما له منفعة محلّلة مساوية للمحرمة في التعارف و الاعتداد.

يلاحظ عليه: أنّ إفتاء جماعة بالبطلان ممّا لا شكّ فيه، و لكنّه مستند إلى القواعد التي كانت بأيديهم و أيدينا، و لم يكن مستنداً إلى نصّ وصل إليهم و لم يصل إلينا، و مثل هذا الاتّفاق لا يلازم رأي المعصوم (عليه السلام)، و لا يكشف عن وجود النصّ كما هو ظاهر لمن لاحظ الأقوال، و أمّا لعن اليهود فليس إلّا لأجل بيع الشحوم للمنافع المحرّمة، و هي أكلها كما يشعر به قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّ اللّه إذا حرّم أكل شي ء حرم ثمنه» و قد عرفت: أنّ الوارد في النصوص يشتمل على لفظ «الأكل» و لو

______________________________

(1) النساء: 29.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 345

باعوها لأجل المنافع المحلّلة النادرة لما عمّهم اللعن، أو لا أقل من الشكّ فيه.

الرابع: ممّا استدلّ به الشيخ الأعظم (قدس سره) قوله (عليه السلام) في رواية

«تحف العقول» في ضابط ما يكتسب به: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات و ذلك كلّه حلال بيعه و شراؤه» و لا يراد مطلق المنفعة الشامل للنادرة، و إلّا لعمّ الأشياء كلّها. و مثله قوله في آخر الحديث: «إنّما حرم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضاً» فإنّ كثيراً من الأمثلة المذكورة هناك لها منافع محلّلة، فانّ الأشربة المحرّمة كثيراً ما ينتفع بها في معالجة الدواب، بل المرضى، فجعلها ممّا يجي ء منه الفساد محضاً باعتبار عدم الاعتناء بهذه المصالح بندرتها.

يلاحظ عليه: أمّا الشق الأوّل من الرواية: فالحصر فيها حصر إضافي لا حقيقي، فهي واردة لذكر ما فيه الصلاح و الفساد، و أمّا ما لا صلاح فيه و لا فساد فخارج عن مورد الرواية و ليست متعرّضة له.

فإن قلت: إنّ الرواية في مقام الضابطة، فالشق الثالث المتوهّم لا بدَّ أن يكون داخلًا في أحد الشقين، و حيث إنّه ليس بداخل فيما فيه الصلاح فهو داخل في الشق الآخر.

قلت: إنّما يتوجّه الإشكال لو كان الشق الثالث شقاً شائعاً بحيث يكون ترك ذكره نقضاً للضابطة، و أمّا إذا كان قليل المورد نادر المصداق عزيز الاتّفاق، فعدم ذكره لا يضرّ بكون الرواية في مقام الضابطة.

و أمّا الشق الثاني: فلو صحّ التمسّك به، فإنّما يتم في مثل الصنائع و الأشربة المحرمة ذات المفاسد الأخلاقية و الاجتماعية، فلا يصحّ بيعها لأجل تلك الغايات النادرة، و ذلك لأنّ بيعها لهذه الغايات النادرة يضاد غرض الشارع من قلع مادة الفساد و عدم وقوع هذه الأشياء في متناول الأيدي، و هذا بخلاف الأُمور الخسيسة

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 346

القليلة الفائدة بحسب طبعها، فشمول الشق لهذه الأُمور

مورد شك و ترديد.

و الحاصل: أنّه لو دلّ، لدلّ فيما إذا كان البيع حراماً تكليفاً و وضعاً، فلا يصحّ للمسلم أن يرتكب بيع هذه الأُمور بحجّة أنّها مشتملة على منافع نادرة، كالخمر و البرابط، و لا يعمّ ما يحرم وضعاً فقط لأجل فقدان المنفعة الرائجة.

و بذلك يظهر أنّه ليس في الباب دليل صالح على المنع عن المعاملة لهذه الأشياء إذا ترتبت عليها أغراض عقلائية في صناعة الدواء و إجراء الفحوص العلمية.

و يؤيد ذلك ما ورد في جواز بيع الهرة مثل ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت»، ثمّ قال: «و لا بأس بثمن الهر». ( «1»)

و قد اختار الشيخ الطوسي (قدس سره) جواز بيع جلود السباع لأجل المنفعة المحلّلة.

و الضابطة الكلية أنّه إذا لم يكن في المورد غرض عقلائي، نوعي أم شخصي، لا عاجلًا و لا آجلًا لا تصحّ المعاملة، و لو توهّم المتعاملان وجود المنفعة ثمّ تبيّن خلافه كشف عن البطلان.

و مثله ما لو تعلّق به غرض سفهي، كما إذا اشترى الجعل ليرى كيفية تلاعبه بالعذرة، و مثل ذلك لا يصحّ، لفقدان الغايات العقلائية.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 347

الاكتسابات المحرمة

(4)

النوع الرابع: الاكتساب بعمل محرّم في نفسه

اشارة

1. تدليس الماشطة

2. تزيين الرجل بما يحرم عليه

3. التشبيب بالمرأة المؤمنة

4. التصوير

5. التطفيف

6. التنجيم

7. حفظ كتب الضلال

8. حلق اللحية

9. الرشوة

10. سب المؤمن

11. السحر

12. الغش

13. الغناء

14. الغيبة

15. القمار

16. القيادة

17. القيافة

18. الكذب

19. الكهانة

20. اللهو

21. مدح من لا يستحقّ

المدح

22. معونة الظالمين

23. النجش

24. النميمة

25. النياحة في الباطل

26. الولاية من قبل الجائر

27. هجاء المؤمن حرام

28. الهجر

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 349

الاكتسابات المحرّمة (4) ممّا يحرم الاكتساب به، الاكتساب بعمل محرّم في نفسه

و يقع الكلام في موردين:

الأوّل: بيان نفس الأعمال التي تثبت حرمتها، أو قيل بها.

الثاني: حكم الإجارة على العمل المحرّم، وضعاً و تكليفاً.

و قد فصّل الشيخ الأعظم (قدس سره) في المقام حتّى أورد في البحث موضوعات لم يتعارف الاكتساب بها كالغيبة و الكذب، و نحو ذلك على ترتيب الحروف الهجائية، و نحن نقتفي أثره. و لكن نقدّم البحث عن المقام الثاني، أي حكم الإجارة على الأعمال المحرّمة وضعاً و تكليفاً على وجه الإجمال بحيث يتّضح حكم الإجارة على الأُمور المحرّمة التي سيوافيك بيانها على الترتيب.

فنقول: لو ثبتت حرمة الشي ء في نفسه كالتصوير و التغنّي فالاكتساب به حرام تكليفاً و وضعاً.

أمّا الأوّل: فلأنّ العمل لمّا كان حراماً، فالتكسّب به على نحو الإجارة أو

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 350

الجعالة يكون أيضاً حراماً، لأنّ التصوير و التغنّي حرام شرعاً و مبغوض وجوداً، فإيجاده مباشرة أو تسبيباً يكون أيضاً حراماً.

و إن شئت قلت: لا تختص الحرمة بالوجود المباشري، بل تعم الوجود التسبيبي.

و يدلّ على ذلك ما في «تحف العقول»: «و أمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم عليه أكله أو شربه أو لُبْسه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي ء أو حفظه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد أو قتل النفس بغير حل، أو حمل التصاوير و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر، و الخنازير، و

الميتة، و الدم، أو شي ء من وجوه الفساد الذي كان محرماً عليه من غير جهة الإجارة فيه».

و أمّا الحرمة الوضعية، فهي واضحة أيضاً، فإنّ الإجارة إذا كانت حراماً تكليفاً يمتنع أن يتعلّق بها وجوب الوفاء، فانّ مقتضى الحرمة التكليفية حرمة التسليم و التسلّم، و مقتضى الصحّة وجوبهما، فلا يجتمعان، و ليس ذلك من قبيل بيع العنب ممّن يصنعه خمراً، فإنّ البيع هناك لم يكن محرّماً بالذات، و لو حرم فإنّما يحرم لأجل أحد العناوين المنطبقة عليه كالإعانة على الإثم و لزوم رفع المنكر، و هذا بخلاف المقام، فانّ نفس الإجارة محرّمة لا تجتمع مع وجوب الوفاء المحرّم.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى المقام الأوّل، أي بيان الأعمال التي تثبت حرمتها أو قيل بها، و نذكرها على حسب الحروف الهجائية تبعاً للشيخ الأعظم (قدس سره) فنقول:

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 351

1 تدليس الماشطة

اشارة

قال الصدوق (قدس سره) في «المقنع»: و لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط، و قبلت ما تعطى، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة. ( «1»)

و قال الشيخ (قدس سره) في «النهاية»: و كسب المواشط حلال إذا لم يغششن و لا يدلسن في عملهن، فيصلن شعر النساء بشعر غيرهن من الناس، و يوشمن الخدود، و يستعملن ما لا يجوز في شريعة الإسلام، فإن وصلن شعورهن بشعر غير الناس لم يكن بذلك بأس. ( «2»)

و قال في «الخلاف»: يكره للمرأة أن تصل شعرها بشعر غيرها رجلًا كان أو امرأة، و لا بأس بأن تصل شعرها بشعر حيوان آخر طاهر. ( «3»)

و قال سلّار في «المراسم»: فأمّا كسب المواشط إذا لم تغش ... فحلال

طلق. ( «4»)

______________________________

(1) المقنع: 122.

(2) النهاية: 366.

(3) الخلاف: 1/ 70، كتاب الصلاة، المسألة 334.

(4) المراسم: 170.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 352

و قال العلّامة (قدس سره) في «الإرشاد»: و الغش بما يخفى و تدليس الماشطة.

و قال المحقّق الأردبيلي (قدس سره) في شرحه: المراد تدليس المرأة التي تريد تزويج امرأة برجل، أو بيع أمة، بأن يستر عيبها و يظهر ما يحسنها من تحمير وجهها و وصل شعرها، مع عدم علم الزوج و المشتري بذلك، و الظاهر أنّه غير مخصوص بالماشطة، بل لو فعلت المرأة بنفسها ذلك كذلك، بل لو فعلت أوّلًا لا للتدليس ثمّ حصل في هذا الوقت المشتري أو الزوج فإخفاؤه مثل فعله، و دليل التحريم كأنّه الإجماع و أنّه غش و هو حرام. ( «1»)

هذا بعض كلمات أصحابنا و إليك بعض الكلمات من غيرهم:

قال البيهقي في «سننه»: جاءت امرأة إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقالت: إنّ لي بنتاً عروساً و أنّ الحصبة أخذتها، فسقط شعر رأسها أ فأصل في شعر رأسها؟ فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «لعن اللّه الواصلة و المستوصلة».

و قال في حديث آخر: «لعن اللّه الواصلة و المستوصلة و الواشمة و المستوشمة».

و نقل أيضاً زجر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) عن «أن تصل المرأة برأسها شيئاً»، و نقل عن ابن عباس: «لا بأس بالوصال في الشعر إذا كان من صوف». ( «2»)

و قال ابن قدامة: و الواصلة هي التي تصل شعرها بغيره أو شعر غيرها، و المستوصلة الموصول شعرها بأمرها، فهذا لا يجوز ... و روي عن جابر قال: «نهى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)

أن تصل المرأة برأسها شيئاً».

و قال المروزي: جاءت امرأة من هؤلاء الذين يمشطون إلى أبي عبد اللّه

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 8/ 83، كتاب المتاجر.

(2) السنن الكبرى: 2/ 426.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 353

فقالت: إنّي أصل رأس المرأة بقرامل و أمشطها فترى لي أن أحجّ ممّا اكتسب؟ قال: «لا» و كره كسبها. و قال لها: «يكون من مال أطيب من هذا»، و الظاهر أنّ المحرّم إنّما هو وصل الشعر بالشعر لما فيه من التدليس. ( «1»)

فنقول: إنّ الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في حكم نفس عمل الماشطة.

الثاني: في تدليس الماشطة.

أمّا الأوّل، فقد قيّد الجواز بأُمور:

الأوّل: عدم الاشتراط.

الثاني: عدم وصل الشعر بالشعر.

الثالث: عدم الغسل بالخرقة.

الرابع: عدم حف الشعر.

الخامس: عدم الوشر و الوشم.

فنقول: أمّا الأمر الأوّل: فالماشطة و المشاطة هي التي تمرُّ المشط و تتخذ ذلك حرفة لنفسها، و هي جائزة لسيرة المسلمين على الرجوع إليها، و دلالة الأخبار على جوازها.

و أمّا تقييدها بعدم اشتراط الأُجرة فتدلُّ عليه مرسلة الفقيه، حيث قال (عليه السلام): «لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط و قبلت ما تعطى، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة». ( «2»)

و نظيرها في «الفقه الرضوي»: «لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط و قبلت

______________________________

(1) المغني: 1/ 76- 77، الطبعة الثالثة.

(2) الوسائل: 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 354

ما تعطى، و لا تصل شعر المرأة بغير شعرها، و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصل». ( «1»)

غير أنّ الكلام في لزوم العمل بهذا الشرط مع وجود الإرسال في الروايتين، و

حملهما على الاستحباب أولى.

و وجهه: أنّ عمل الماشطة ليس عملًا تبرعيّاً- لكونه مخالفاً للسيرة، و يدلّ على ذلك بعض الروايات كخبر قاسم بن محمد، عن علي قال: سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك و قد دخلها ضيق. قال: «لا بأس و لكن لا تصل الشعر بالشعر» ( «2»)- و لا من باب الإيجار، و إلّا لاستحب فيه تعيين الأُجرة كما تدلّ عليه نصوص باب الإجارة ( «3»)، بل هو من قبيل الأمر بإيجاد العمل الذي ينصرف إلى أُجرة المثل، و بما أنّ ما يدفع إلى الماشطة لا يقل عنها أُمرت بترك المشارطة، و إلى هذا الوجه و غيره أشار الشيخ الأعظم (قدس سره) فلاحظ.

و أمّا الأمر الثاني:- أعني: عدم وصل الشعر بالشعر-، فالروايات فيه على أقسام:

القسم الأوّل: ما يدلّ على الجواز كرواية سعد الاسكاف قال: و سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن القرامل التي تضعها النساء في رءوسهن يصلنه بشعورهن؟ فقال: «لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها». قال: فقلت: بلغنا أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لعن الواصلة و الموصولة. فقال: «ليس هنالك، إنّما لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) الواصلة التي

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 94، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) الوسائل: 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(3) لاحظ الوسائل: 13/ 245، الباب 3 من أبواب أحكام الإجارة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 355

تزني في شبابها فلما كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك الواصلة و الموصولة». ( «1») فإنّ قول الإمام (عليه السلام): «ليس هنالك» الخ، يدلّ على أنّ عمل

الواصلة يعني ايصال شعر امرأة بغيرها ممّا لا بأس به.

القسم الثاني: ما يدلّ على المنع، و تدلّ على ذلك مرسلة ابن أبي عمير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «دخلت ماشطة على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال لها: هل تركتِ عملكِ أو أقمتِ عليه؟ فقالت: يا رسول اللّه أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه فانتهي عنه. فقال: افعلي فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرق، فانّه يذهب بماء الوجه و لا تَصلي الشعر بالشعر». ( «2»)

و خبر قاسم بن محمد، عن علي قال: سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك و قد دخلها ضيق. قال: «لا بأس، و لكن لا تصل الشعر بالشعر». ( «3»)

و رواية علي بن غراب حيث قال: «لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) النامصة و المنتمصة، و الواشرة و الموتشرة، و الواصلة و المستوصلة، و الواشمة و المستوشمة». ( «4»)

القسم الثالث: ما يظهر منها التفصيل بين وصل شعر امرأة بشعر غيرها، و بين وصل شعر المعز بها، بالجواز في الثاني دون الأوّل، نحو مرسلة الفقيه، حيث قال (عليه السلام): «لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط و قبلت ما تعطى، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة». ( «5»)

و نظير ذلك ما في رواية عبد اللّه بن الحسن حيث فصّلت بين الصوف

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3 و 2.

(2) الوسائل: 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3 و 2.

(3) الوسائل: 12/ 94، الباب 19 من

أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(4) الوسائل: 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(5) الوسائل: 11/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 356

و الشعر. ( «1»)

و يمكن حمل الروايات المانعة على الكراهة بما ورد في الرواية الأخيرة حيث قال: «و إن كان شعراً فلا خير فيه» فانّه ظاهر في الكراهة في الشعر و عدمها في الصوف، و يمكن استظهار الكراهة من رواية ثابت بن سعيد حيث قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن النساء تجعل في رءوسهن القرامل. قال: «يصلح الصوف و ما كان من شعر امرأة لنفسها، و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها، فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا يضرها». ( «2»)

و الظاهر أنّ المراد من الكراهة هو الكراهة المصطلحة.

فإن قلت: كيف تحمل على الكراهة و أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لعن الواصلة و الموصولة كما في رواية سعد الاسكاف. ( «3»)

قلت: إنّ الإمام (عليه السلام) فسّره بالقيادة، و إن كان علي بن غراب ( «4») فسّره بوصل الشعر، و هو لا يقاوم تفسير الإمام (عليه السلام)، و إن ورد ما ذكره أيضاً في «سنن البيهقي».

و على ذلك فالمتعيّن هو الكراهة في وصل شعر امرأة بغيرها و عدمها في غيره.

و أمّا الأمر الثالث:- أي عدم الغسل بالخرقة- فقد ورد هذا القيد في روايتين:

الأُولى: رواية محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)- في حديث أُمّ حبيب

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) الوسائل: 14/ 135، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح،

الحديث 1.

(3) الوسائل: 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(4) نقله الصدوق عنه في الفقيه، لاحظ الوسائل: 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، ذيل الحديث 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 357

الخافضة- قال: «و كانت لأُمّ حبيب أُخت يقال لها «أُمّ عطية» و كانت مقينة- يعني: ماشطة- فلمّا انصرفت أُمّ حبيب إلى أُختها فأخبرتها بما قال لها رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)، فأقبلت أُمّ عطية إلى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فأخبرته بما قالت لها أُختها، فقال لها: ادني مني يا أُمّ عطية، إذا أنت قيّنت الجارية فلا تغسلي وجهها بالخرقة، فانّ الخرقة تشرب ماء الوجه». ( «1»)

الثانية: رواية ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «دخلت ماشطة على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت: يا رسول اللّه أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه فأنتهي عنه. فقال: افعلي، فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرق فانّه يذهب بماء الوجه، و لا تصلي الشعر بالشعر». ( «2»)

غير أنّه يستفاد من التعليل الوارد فيهما الكراهة، حيث قال (صلى الله عليه و آله و سلم): «فانّه يذهب بماء الوجه» و المراد منه هو الطراوة.

و أمّا الأمر الرابع: أعني: عدم حف الشعر، فقد ورد ذلك في رواية علي بن غراب حيث قال: «لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) النامصة و المنتمصة ...». ( «3») و اللعن آية الحرمة، و قد فسّرت النامصة بمن تحف الشعر، و لكن بما أنّ سند رواية علي بن غراب

يشتمل على مجاهيل فلا يمكن الاحتجاج بها، و الظاهر الجواز لما ورد في رواية «قرب الاسناد» حيث قال علي بن جعفر: إنّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن المرأة التي تحف الشعر من وجهها؟ قال: «لا بأس». ( «4»)

و ما ورد في رواية أبي بصير قال: سألته عن قصة النواصي تريد المرأة الزينة

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 93، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) الوسائل: 12/ 94 و 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 7.

(3) الوسائل: 12/ 94 و 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 7.

(4) الوسائل: 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 358

لزوجها، و عن الحف و القرامل و الصوف و ما أشبه ذلك، قال: «لا بأس بذلك كلّه». ( «1»)

و ما ورد في رواية علي بن جعفر (عليه السلام) في كتابه، عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن المرأة أتحف الشعر عن وجهها؟ قال: «لا بأس». ( «2»)

فالقول بالجواز هو المتعيّن.

ثمّ إنّ المحقّق الإيرواني (قدس سره) حمل اللعن على الكراهة، و قال: إنّ اقتضاء اللعن للحرمة ممنوع، فإنّه طلب البعد من اللّه، و فاعل المكروه بعيد منه تعالى بمقدار فعله، بل يمكن أن يقال: إنّ اللعن يجتمع مع الإباحة، و يكون اللعن باعتبار لازم هذه الأفعال من حصول إغراء الفسّاق بالنظر إليهن، فإذا حصل الأمن من ذلك لم يكن بفعلها بأس. ( «3»)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره بعيد جداً، فإنّ اللعن في القرآن و الحديث متوجّه إلى فعل الكفّار و المنافقين و المشركين، فيبعد حمله من دون

قرينة على الكراهة.

و قد روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «انّه لعن الناجش و المنجوش له»، و هو أن يزيد الرجل في ثمن السلعة و هو لا يريد شراءها فيزيد غيره لزيادته بشرط المواطاة مع البائع، و من المعلوم أنّه لا يصحّ تفسير اللعن فيها أيضاً بالكراهة، فتأمل. ( «4»)

نعم، سيوافيك صحّة حمل اللعن في خصوص هذه الرواية على الكراهة بقرينة خاصّة، و هو ثبوت الجواز في وصل الشعر بالشعر، و معه يبعد حفظ ظهور اللعن في الحرمة.

______________________________

(1) الوسائل: 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث: 5.

(2) الوسائل: 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث: 6.

(3) تعليقة المحقّق الإيرواني: 19.

(4) وجهه انّ استعماله في مورد واحد لا يكفي في الاستدلال.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 359

و أمّا الأمر الخامس- أعني: عدم الوشر و الوشم- فالمراد من الأوّل: تحدّد الأسنان، و من الثاني غرز البدن ثمّ حشوها بالكحل و النورة حتى يخضر.

و استدلّ على المنع برواية علي بن غراب، حيث قال (صلى الله عليه و آله و سلم): «و الواشرة و الموتشرة». ( «1»)

و يؤيد ذلك ما روي عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): الواشمة و الموتشمة، و الناجش و المنجوش، ملعونون على لسان محمّد (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «2»)

و لكن قد عرفت عدم صحّة الاحتجاج برواية علي بن غراب، و اشتمال الرواية الثانية على «محمد بن سنان» و هو ضعيف على المشهور.

فالظاهر الجواز مطلقاً، للإطلاقات المتضافرة الدالّة على جواز تزيّن المرأة لزوجها:

منها: عن أبي جعفر

(عليه السلام) قال: «لا بأس على المرأة بما تزيّنت به لزوجها». ( «3»)

و رواية أبي بصير قال: سألته عن قصة النواصي تريد المرأة الزينة لزوجها، و عن الحف و القرامل و الصوف و ما أشبه ذلك، قال: «لا بأس بذلك كلّه». ( «4»)

فإن قلت: إنّ النسبة بين هذه المطلقات و ما دلّ على الحرمة في خصوص الوشر و الوشم هو الإطلاق و التقييد، فيجب تحكيم المقيّدات على المطلقات.

قلت: نعم لو تمّت المقيّدات سنداً و دلالة، أمّا السند فقد عرفت حاله، و أمّا الدلالة فلا يستفاد من اللعن في رواية علي بن غراب الحرمة لما ثبت من جواز

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

(2) الوسائل: 14/ 177، الباب 137 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث: 1.

(3) الوسائل: 14/ 177، الباب 137 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث: 2.

(4) الوسائل: 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 360

الوصل و النمص، فيبعد الأخذ بظاهرها في الأخيرتين.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم استشكل على جواز وشم الأطفال من حيث إنّه إيذاء لهم بغير مصلحة.

و فيه: انّ السيرة قائمة على العمل بما هو أشدّ إيذاءً منه مثل غرز إذنهن، على أنّه يمكن القيام بهذه الأعمال بدون الإيذاء باستعمال بعض المخدرات، و قد سهلت هذه الأُمور في هذه الأيّام بفضل تقدّم علم الطب و العمليات الجراحية.

أضف إلى ذلك أنّ المصلحة موجودة، و هي زيادة حسنهن الموجبة لكثرة الرغبة في نكاحهن، كالمصلحة الموجودة في ثقب الآذان.

الكلام في تدليس الماشطة

هذا كلّه في عمل نفس الماشطة، و أمّا الكلام في المقام الثاني- أعني: تدليس الماشطة- فقد جعل الشيخ (قدس سره) الأُمور الأربعة الماضية من

الوشم و الوسم و غيرهما من التدليس، و فيه إشكالان:

أمّا الأوّل: فإنّ التدليس- كما سيوافيك- هو إخفاء العيب، أو إظهار كمال ليس فيها أصلًا، و كلا الأمرين منتفيان، غاية الأمر إظهار حسن المرأة بأزيد ممّا هي عليه، و هو جائز، للاتّفاق على استحباب تزيّنها، و إلّا يلزم حرمة التلبّس ببعض الألبسة التي توجب ظهور الحسن بأزيد ممّا هي عليه.

و أمّا الثاني: فلأنّ الغش و التدليس لا ينطبق على عمل الماشطة و إنّما ينطبق على عمل من يعرض الجارية على النكاح بعد مشط الماشطة، غاية الأمر أنّ الماشطة أعدّت الجارية لأن يغش بها، و عملها إعانة على الإثم، و ليس من قبيل التدليس كما لا يخفى، فليس لهذه المسألة- تدليس الماشطة- مصداق في الخارج إلّا نادراً.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 361

2 تزيين الرجل بما يحرم عليه

اشارة

و المراد تزيّن الرجل بما يحرم عليه من لبس الحرير و الذهب.

و في المقام مسألتان، و إن خلط الشيخ بينهما.

إحداهما: تزيّن الرجل بما يحرم عليه من لبس الذهب و الحرير.

ثانيتهما: تزيّن الرجل بما يختصّ بالنساء.

و المعروف في كلمات الأصحاب في كلا الموردين هو التزيّن و إن عبر الشيخ الأعظم (قدس سره) عن المسألة الثانية بالتشبّه.

المسألة الأُولى: تزيّن الرجل بما يحرم عليه

قال العلّامة (قدس سره) في «القواعد» في عداد المكاسب المحرمة: و تزيّن الرجل بالحرام.

و قال العاملي في «مفتاح الكرامة»: ففي «المقنعة»، و «النهاية» ما يعطي أنّ المراد بالحرام هو الذهب و ما حرم من الحرير ... و به فسّر فخر الإسلام، و المقداد، و المولى الأردبيلي قدس سرهم عبارة النافع و الإرشاد. ( «1»)

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 59.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 362

أقول: إنّ الأصحاب بين مطلق للحرام و بين مبيّن لمصداقه:

قال الشيخ (قدس سره) في «النهاية»: و معالجة الزينة للرجال بما حرّمه اللّه عليهم حرام. ( «1»)

و قال العلّامة في «التذكرة»: الغش و التدليس محرّمان، كشوب اللبن بالماء، و تدليس الماشطة، و تزيين الرجل بالحرام، قال الصادق (عليه السلام): «ليس منّا من غشّنا». ( «2»)

و قال المحقّق الأردبيلي: و تزيّن الرجل بالمحرّم كتزيّنه بالذهب و الحرير إلّا ما استثني منه. ( «3»)

قال ابن قدامة: القسم الثاني ما يختصّ تحريمه بالرجال دون النساء، و هو الحرير و المنسوج بالذهب و المموّه به، فهو حرام لبسه و افتراشه في الصلاة و غيرها، لما روى أبو موسى أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «حرّم لباس الحرير و الذهب على ذكور أُمّتي و أُحلّ لإناثهم». ( «4»)

هذا كلّه يعطي أنّ ملاك البحث في المسألة الأُولى هو

تزيّن الرجل بما يحرم عليه، كما أنّ الملاك في المسألة الثانية تزيّن الرجل بما يختصّ بالنساء.

نعم، يظهر من صاحب المسالك تفسير الحرام في عبارة المحقّق بلُبس السوار و الخلخال و الثياب المختصة بالنساء في العادات، كما أنّ المحقّق الأردبيلي عطف على المسألة الأُولى قوله: و منه تزيّنه بما يختص بالنساء، كلُبس السوار و الخلخال و الثياب المختصة بها بحسب العادة، و يختلف ذلك باختلاف الأزمان

______________________________

(1) النهاية: 365.

(2) التذكرة: 12/ 142، المسألة 647، المقصد الثامن، الفصل الأوّل في أنواع المكاسب.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 8/ 85، كتاب المتاجر.

(4) المغني: 1/ 626، الطبعة الثالثة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 363

و البلاد، و كذا العكس.

و الحاصل: أنّ الفرق بين المسألتين أوضح من أن يبيّن، غير أنّ الشيخ الأعظم عبّر عن المسألة الثانية بالتشبّه، و على كلّ تقدير:

أمّا المسألة الأُولى: فلا شكّ بين الفقهاء في حرمة لبس الحرير و الذهب للرجل، و يدلّ على حرمة الأوّل مطلقاً، و في حال الصلاة، عدّة روايات، أمّا مطلقاً فقول الصادق (عليه السلام): «لا يصلح للرجل أن يلبس الحرير إلّا في الحرب». ( «1»)

و ما رواه سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن لباس الحرير و الديباج؟ فقال: «أمّا في الحرب فلا بأس به و إن كان فيه تماثيل». ( «2»)

و يدلُّ على المنع في خصوص حال الصلاة ما رواه إسماعيل بن سعد الأحوص قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام)، هل يصلّي الرجل في ثوب إبريسم؟ فقال: «لا». ( «3»)

فإذا كان نفس اللبس محرّماً، فيكون الحرام هو لبس الحرير، سواء أ كان زينة أم لا، فربّما يكون هناك لبس و لا تكون هناك زينة كما إذا

لبس تحت الألبسة.

و أمّا الذهب، فقد اتّفقوا على حرمة التختم بالذهب، فعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): لا تختّم بالذهب فإنّه زينتك في الآخرة». ( «4»)

و ما رواه عمار بن موسى، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا يلبس الرجل الذهبَ و لا يصلّي فيه، لأنّه من لباس أهل الجنّة». ( «5»)

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 269- 270، الباب 12 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 1 و 3. و لاحظ 2 و 4.

(2) الوسائل: 3/ 269- 270، الباب 12 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 1 و 3. و لاحظ 2 و 4.

(3) الوسائل: 3/ 266، الباب 11 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 1. و لاحظ، 2 و 6 و 7 و غيرها.

(4) الوسائل: 3/ 299، الباب 30 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 1 و 4. و لاحظ ما ورد في الباب من الروايات.

(5) الوسائل: 3/ 299، الباب 30 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 1 و 4. و لاحظ ما ورد في الباب من الروايات.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 364

و بذلك يعلم أنّ الموضوع هو التختّم و اللبس، بل التختّم من مصاديق اللُّبس في عرف العرب حيث يقولون: لبس الخاتم، فليس التزيّن موضوعاً للحكم، لا في مورد الحرير و لا في مورد الذهب.

و بذلك يقوى جواز شد الأسنان بالذهب لعدم صدق اللبس عليه و عدم جواز التختّم- لو كان موضوعاً مستقلًا- لكونه داخلًا تحت اللبس.

نعم، يمكن استظهار كون الملاك هو التزيّن بالذهب ممّا رواه حنان بن سدير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «قال النبي (صلى الله

عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام): إيّاك أن تتختّم بالذهب فانّه حليتك في الجنة» ( «1»). و هذه الرواية تشعر بكون الملاك هو الزينة، و هي صادقة في شدّ الأسنان به.

و لكن هذا الظهور- كون الملاك هو الزينة- يعارض بما رواه موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) حيث قال (عليه السلام): «جعل اللّه الذهب في الدنيا زينة النساء، فحرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه». ( «2») و هي مشعرة بكون الملاك هو صدق اللبس، فتأمل. ( «3»)

و على كلّ تقدير فالأولى الاجتناب عن شدّ الأسنان بالذهب، أو زرع الأسنان الذهبية إذا صدق عليها الزينة.

المسألة الثانية: تزيّن الرجل بخصائص النساء

هذا كلّه حول المسألة الأُولى، و إليك الكلام في المسألة الثانية، أي تزيّن الرجل بما يختص بالنساء، المعبّر عنه في كلام الشيخ بالتشبّه بهن في

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 302، الباب 30 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 11.

(2) الوسائل: 3/ 300، الباب 30 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 5.

(3) وجهه كون الحديث غير آب من كون الملاك هو الزينة أيضاً منه.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 365

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 365

اللباس.

فنقول: قيل: يحرم لبس الرجل مختصات المرأة و بالعكس، كما إذا لبست المرأة العمامة، و الرجل الخمار و إن كانت المختصات تختلف حسب العادات و البلاد.

و يظهر ذلك من كلّ من فسّر الحرام في قول الفقهاء: «يحرم تزيّن الرجل بالحرام» بلبس السوار و الخلخال و الثياب المختصة بالنساء في العادات. كما فسّر به أيضاً قول المحقّق في الشرائع: «و

تزيّن الرجل بما يحرم عليه». ( «1»)

و على أيّ تقدير فقد استدلّ بما روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) من اللعن على المتشبّهين و المتشبهات، و هل المراد التشبّه في اللباس أو التشبّه في الطبيعة؟ لا يعلم المراد إلّا بذكر الروايات، فعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) في حديث: لعن اللّه المحلِّل و المحلَّل له، و من تولّى غير مواليه، و من ادّعى نسباً لا يعرف، و المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال، و من أحدث حدثاً في الإسلام، أو آوى محدثاً، و من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه». ( «2»)

و رواية زيد بن علي، عن آبائه (عليهم السلام)، عن علي (عليه السلام) أنّه رأى رجلًا به تأنيث في مسجد رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)، فقال له: «اخرج من مسجد رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يا لعنة رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)» ثمّ قال علي (عليه السلام): «سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: لعن اللّه المتشبّهين من الرجال بالنساء و المتشبّهات من النساء بالرجال». ( «3»)

و قد استدلّ بها، على حرمة لبس الرجل لباس المرأة، و لكنّه بعيد عن متن

______________________________

(1) الشرائع: 2/ 10، كتاب التجارة، فصل فيما يكتسب به، و لاحظ مسالك الافهام: 3/ 130.

(2) الوسائل: 12/ 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(3) المصدر السابق: الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 366

الروايتين، لأنّ شدة البيان لا تناسب ذلك، كما

لا يناسبه قوله: «به تأنيث»، و لأجل ذلك احتمل أن يكون الرجل مخنثاً، و إن كان لا يخلو من إشكال أيضاً، لأنّه لو كان ثابتاً وجب رجمه ( «1»)، و إن كان غير ثابت يحرم كشفه، فكيف كشف الوصي (عليه السلام) الحرام المخفي.

نعم هناك طائفة من الروايات تفسّر المراد من التشبّه و أنّه ليس على إطلاقه، و تحدده في إطار خاص، فعن يعقوب بن جعفر قال: سأل رجل أبا عبد اللّه أو أبا إبراهيم (عليهما السلام) عن المرأة تساحق المرأة، و كان متكئاً فجلس و قال: «ملعونة ملعونة الراكبة و المركوبة، و ملعونة حتّى تخرج من أثوابها، فإنّ اللّه و ملائكته و أولياءه يلعنونها، و أنا و من بقي في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فهو و اللّه الزنا الأكبر، و لا و اللّه ما لهن توبة، قاتل اللّه لاقيس بنت إبليس ما ذا جاءت به». فقال الرجل: هذا ما جاء به أهل العراق. فقال: «و اللّه لقد كان على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قبل أن يكون العراق، و فيهن قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): لعن اللّه المتشبهات بالرجال من النساء و لعن اللّه المتشبهين من الرجال بالنساء». ( «2»)

و عن أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) المتشبّهين من الرجال بالنساء و المتشبّهات من النساء بالرجال، و هم المخنثون و اللاتي ينكحن بعضهن بعضاً». ( «3»)

و الحاصل: انّ المهم في الباب ما ورد على لسان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) من لعن المتشبّهين و المتشبّهات، و قد

عرفت تفسيرهما بما ورد في الروايات.

______________________________

(1) إلّا أن يفسّر المخنث من يدعو الرجال الى نفسه لارتكاب العمل القبيح لا من وقع عليه العمل.

(2) الوسائل: 14/ 262، الباب 24 من أبواب النكاح المحرم، الحديث: 5.

(3) المصدر السابق، الحديث: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 367

نعم، ربّما يستدلّ على حرمة التشبّه في اللباس بما ورد في أحكام الملابس عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن (عليهما السلام) في الرجل يجر ثيابه قال: «إنّي لأكره أن يتشبّه بالنساء». ( «1»)

و عن أبي عبد اللّه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: «كان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء، و ينهى المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها». ( «2»)

و الاستدلال بهما ضعيف، لأنّ الحديثين مرسلان، رواهما الطبرسي (قدس سره) في «مكارم الأخلاق» مرسلًا، على أنّ الأوّل ظاهر في الكراهة.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على الحرمة بما رواه المتتبع النوري في مستدركه عن «الجعفريات» حيث قال: «لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) مخنثي الرجال المتشبّهين بالنساء، و المترجّلات من النساء المتشبّهات بالرجال». ( «3»)

و عن الطبرسي (قدس سره) في «مجمع البيان» عن أبي أُمامة، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «أربع لعنهم اللّه من فوق عرشه و أمَّنت عليه ملائكته: الذي يحصر نفسه فلا يتزوّج و لا يتسرّى لئلّا يولد له، و الرجل يتشبّه بالنساء و قد خلقه اللّه ذكراً، و المرأة تتشبّه بالرجال و قد خلقها اللّه أُنثى». ( «4»)

و عن جبير بن نقير الحضرمي قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «لعن اللّه و أمَّنت الملائكة

على رجل تأنّث و امرأة تذكّرت». ( «5»)

و هذه الروايات مع عدم دلالتها لاحتمال كون المراد هو التشبّه في الطبيعة،

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 354، الباب 13 من أبواب أحكام الملابس، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 3/ 355، الباب 13 من أبواب أحكام الملابس، الحديث: 2.

(3) المستدرك: 13/ 202، الباب 70 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(4) المستدرك: 13/ 203، الباب 70 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

(5) المصدر السابق، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 368

ضعاف الاسناد لا يصلح الاحتجاج بها، و الحقّ أنّه ليس هنا دليل على حرمة اللبس.

و لأجل ذلك: التجأ المحقّق الخوئي- دام ظله- إلى الحكم بحرمة قسم خاص من التشبّه، و قال: الظاهر من التشبّه في اللباس المذكور في الروايتين هو أن يتزيّا كلّ من الرجل و المرأة بزي الآخر، كالمطربات اللاتي أخذن زي الرجال، و المطربين الذين أخذوا زي النساء، و من البديهي أنّه من المحرّمات في الشريعة، بل من أخبث الخبائث و أشد الجرائم و أكبر الكبائر. ( «1»)

غير أنّ ما ذكره خارج عن مورد البحث، فإنّ عمل المطرب و المطربة بنفسه من الجرائم و أكبر الكبائر لا لأجل تزيّيهما بلباس المخالف.

نعم، هنا دليل آخر على الحرمة و هو أنّ لبس كلّ من الرجل و المرأة لباس مخالفه يُعد من لباس الشهرة، و قد ورد النهي عنه في عدّة روايات، فروى أبو أيوب الخزاز، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إنّ اللّه يبغض شهرة اللباس». ( «2»)

و روى ابن مسكان، عن رجل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كفى بالمرء خزياً أن يلبس ثوباً يشهّره، أو يركب دابة تشهره». ( «3»)

و روى أبو سعيد، عن الحسين

(عليه السلام) قال: «من لبس ثوباً يشهّره كساه اللّه يوم القيامة ثوباً من النار». ( «4»)

و هذه الروايات مع ما رواه في «مكارم الأخلاق» تستطيع إثبات حرمة لبس المرأة و الرجل لباس مخالفه إذا كان موجباً للشهرة.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 210.

(2) الوسائل: 3/ 354، الباب 12 من أبواب أحكام الملابس، الحديث: 1.

(3) الوسائل: 3/ 354، الباب 12 من أبواب أحكام الملابس، الحديث: 2 و 4.

(4) الوسائل: 3/ 354، الباب 12 من أبواب أحكام الملابس، الحديث: 2 و 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 369

بقي الكلام في حكم الخنثى، فلو قلنا بأنّ الخنثى ليست طبيعة ثالثة فهي تعلم بحرمة أحد اللباسين فيجب التحرّز عنهما عملًا بالعلم الإجمالي.

نعم، استشكل عليه الشيخ: بأنّه يشترط في حرمة التلبّس تحقّق عنوان التشبّه، و هو بَعدُ غير معلوم.

و لكنّه غير تام، لعلمها إجمالًا بأنّ أحد اللباسين تشبّه بالمخالف، و هذا يكفي في كون العلم الإجمالي منجزاً. اللّهمّ إلّا أن يدعى اشتراط العلم التفصيلي في صدق عنوان التشبه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 370

3 التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة

التشبيب من: شبب الشاعر بفلانة تشبيباً: قال فيها الغزل و عرَّض بحبّها، و الغزل محادثة النساء.

و صور المسألة: أنّ المرأة إمّا مزوّجة، أو غير مزوّجة، و على كلّ تقدير فإمّا أن تكون مؤمنة أو غير مؤمنة، و المزوجة إمّا أن تكون زوجة لنفس الشاعر أو لغيره، و على كلّ تقدير إمّا أن تكون معروفة عند القائل، أو السامع أو كليهما، أو غير معروفة كما في التشبيب بالمرأة المبهمة الخيالية.

ثمّ غير المزوّجة إمّا أن تكون مخطوبة أو غير مخطوبة، فهل التشبيب في الكلّ حرام، أو ليس بحرام، أو يُفصل، لأجل الاختلاف في مدرك أصل الحكم؟

و قد استدلّ

على الحرمة بوجوه:

1. استلزام التشبيب الهتك و إدخال النقص عليها و على أهلها.

2. استلزامه الإيذاء.

3. استلزامه إغراء الفسّاق بها.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 371

4. انّه من أقسام اللهو و الباطل.

5. منافاته للعفاف المأخوذ في العدالة.

6. انّه من أقسام الفحشاء المحرمة.

7. فحوى رجحان التستر عن نساء أهل الذمة لأنّهن يصفن لأزواجهنّ.

8. فحوى رجحان التستر عن الصبي المميّز الذي يصف ما يرى.

9. فحوى ما دلّ على حرمة ما يوجب- و لو بعيداً- تهييج القوة الشهوية بالنسبة إلى غير الحليلة، مثل ما دلّ على المنع عن النظر، لأنّه سهم من سهام إبليس، و المنع عن الخلوة بالأجنبية لأنّ ثالثهما الشيطان، و كراهية جلوس الرجل في مكان المرأة حتّى يبرد المكان. ( «1»)

10. النهي في الكتاب العزيز عن التخضّع بالقول، و ضرب الأرجل، قال سبحانه: (فَلٰا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ( «2»)، (وَ لٰا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ). ( «3»)

إلى غير ذلك من المحرّمات و المكروهات التي يعلم منها حكم ذِكْر المرأة المعيّنة المحرّمة الذي يهيج الشهوة عليها، خصوصاً ذات البعل التي لم يرض الشارع بتعريضها للنكاح بقول: «ربّما راغب فيك».

و لا يخفى أنّ النتيجة تختلف باختلاف مدارك الحكم، فلو كان المدرك هو الوجه الثالث- أعني: استلزامه إغراء الفسّاق بها- يلزم حرمة الكلّ حتّى الزوجة و الحليلة إلّا المرأة الخيالية، و لو كان المستند الإيذاء و الهتك يختص بالمسلمة دون الكافرة، إلى غير ذلك من الوجوه.

______________________________

(1) الوسائل: 14/ 185، الباب 145 من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث: 1.

(2) الأحزاب: 32.

(3) النور: 31.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 372

و على كلّ تقدير فقد صرح بالتحريم جماعة من الفقهاء:

قال الشيخ (قدس سره) في

«المبسوط»: و إن تشبب بامرأة و وصفها في شعره، نُظِرتْ، فإن كانت ممّن لا يحل له وطؤها ردّت شهادته؛ و إن كانت ممّن تحل له كالزوجة و الأمة كره، و لم ترد شهادته؛ و إن تشبّب بامرأة مبهماً و لم تعرف، كره و لم ترد شهادته، لجواز أن يكون ممّن تحل له؛ و الشاعر المستهتر أن يقذفها بنفسه فيقول فعلت بها كذا، و لم يكن فعل، و إن كان قد فعل فهو الابتهار. ( «1»)

و قال المحقّق (قدس سره) في «الشرائع»: و يحرم من الشعر ما تضمّن كذباً، أو هجاء المؤمن، أو تشبيباً بامرأة معروفة غير محلّلة له. ( «2»)

و قال العلّامة (قدس سره) في «التذكرة»: و يحرم سب المؤمنين ... و التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة بلا خلاف في ذلك كلّه. ( «3»)

و لكن القول بالتحريم مطلقاً غير تام، و الذي يمكن أن يقال: انّ التشبيب لو كان مستلزماً لهتك المرأة المسلمة فهو حرام بالإجماع، قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّ اللّه حرّم من المؤمن دمه و عرضه و ماله و ان يظن به ظن السوء». ( «4»)

و قال ابن قدامة: و الشعر كالكلام حَسَنه كحسنه و قبيحه كقبيحه، و قيل المراد به ما كان هجاءً و فحشاً، فما كان من الشعر يتضمن هجو المسلمين و القدح في أعراضهم، أو التشبيب بامرأة بعينها و الإفراط في وصفها، فذكر أصحابنا أنّه محرّم. ( «5»)

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 228، كتاب الشهادات. المستهتر: المولع بالشي ء لا يتحدث بغيره و في المصدر «المتهتر».

(2) الشرائع: 4/ 128، كتاب الشهادات، في صفات الشهود.

(3) التذكرة: 12/ 144، المسألة 649، المقصد الثامن، الفصل الأوّل في أنواع المكاسب.

(4) المحجة البيضاء:

5/ 268.

(5) المغني: 12/ 43- 45، الطبعة الثالثة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 373

و الحاصل انّ ما استدلّ به الشيخ الأعظم (قدس سره) قاصر عن إثبات الحرمة على وجه الإطلاق، مضافاً إلى أنّ مقتضاه حرمة التشبيب سواء أ كان بالشعر أم بالنثر.

و الحاصل: أنّ الكلام في إثبات فتوى المشهور و هو عدم الجواز بالشعر بالنسبة إلى المرأة المؤمنة المعروفة، و جوازه بالإضافة إلى الزوجة و الحليلة، و أهل الخلاف و الكافرة، و هذه الفتوى بهذه الخصوصيات لا تثبت بهذه الأدلّة، و دونك بيانها.

أمّا الأوّل أي الهتك: فقد يتحقّق التشبيب بدونه، كما إذا أنشأ الشعر و لم ينشره، أو كانت المرأة راضية و مفتخرة به، و قد يوجد الهتك دون التشبيب كما في مدحها بالنثر، و قد يتحقّقان.

و أمّا الثاني أي الإيذاء: فهو أيضاً مثل الهتك، و بينه و بين التشبيب عموم من وجه كما عرفت في الهتك.

أضف إليهما أنّ الهتك و الإيذاء قد يتحقّقان بالنسبة إلى الزوجة و الحليلة، و الكلّ محرّم بالنسبة إلى كلّ مسلم فلا اختصاص بالمؤمنة.

نعم ربما يقال: انّه لا دليل على حرمة فعل يترتب عليه أذى الغير قهراً إذا كان الفعل صادقاً في نفسه و لم يقصد العامل إيذاء الغير، و كان الفعل في نفسه مباحاً أو مستحبّاً أو واجباً، كتأذّي بعض الناس من اشتغال البعض الآخر بالتجارة و التعلّم و العبادة.

و لكن قياس المقام على ما ذكر غير تام، للفرق الواضح بين عمل لا يمتُّ إلى الغير فيتأذى حسداً كما في الأمثلة المذكورة، و بين عمل يرجع إليه فيتأذى بحقّ، لأجل صلته به.

و بذلك يظهر الجواب عن الدليل الثالث، فإنّ بين إغراء الفسّاق بالمعصية

المواهب في تحرير أحكام المكاسب،

ص: 374

و التشبيب عموماً من وجه، إذ قد يتحقّق الإغراء مع عدم تحقّق التشبيب، كما إذا مدح زوجته أو مدح المرأة المحترمة بالنثر أو مدح بالشعر المرأة الخيالية، و ربّما يتحقّق التشبيب دون الإغراء، كما إذا كان السامع إنساناً متمالكاً، و قد يجتمعان.

و أمّا الرابع: أعني: كون التشبيب من مصاديق اللهو و الباطل، ففيه، ما سيجي ء عن الشيخ الأعظم (قدس سره) من المنع عن حرمتهما على وجه الإطلاق.

و أمّا الخامس: أعني: كونه منافياً للعفاف، ففيه، انّ العفاف المأخوذ في تعريف العدالة هو ما جاء في صحيحة ابن أبي يعفور حيث قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر و العفاف و كف البطن و الفرج و اليد و اللسان و يعرف باجتناب الكبائر ...» ( «1») و المراد منه هو المعاصي لا العفاف بالمعنى الأخلاقي. ( «2»)

و أمّا السادس: أعني: كونه من مصاديق الفحشاء، قال في «اللسان»: الفحشاء: القبيح من القول و الفعل. فحرمته بهذا المعنى محلُّ بحث و تأمّل.

نعم، لا شكّ في حرمة بعض مصاديقه كالزنا، قال: سبحانه و تعالى: (لٰا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لٰا يَخْرُجْنَ إِلّٰا أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). ( «3»)

و أمّا السابع و الثامن: أعني: رجحان التستر عن نساء أهل الذمّة، فغايته رجحان ترك التشبيب، كما أنّ التستّر عن الصبي المميّز مستحب لا واجب.

و أمّا الأدلّة الباقية التي يجمعها منع الشارع عمّا يثير الشهوة، كالنظر إلى

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 288، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث: 1.

(2) قال في روضة المتقين: 6/ 105: المراد الاجتناب عن المحرّمات، بل الشبهات كما هو المتبادر في عرفهم

صلوات اللّه عليهم في باب العفة.

(3) الطلاق: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 375

الأجنبية و الجلوس مكان المرأة الأجنبية و الخلوة بها و التخضّع بالقول و ضرب الأرجل لإعلام الزينة.

فالجواب: انّ الأسباب المعدّة لتهييج الشهوة على أقسام:

1. ما يكون السبب حراماً لتلك الغاية كالنظر إلى الأجنبية، فلا شكّ أنّه محرّم، لأنّه يهيج الشهوة و ينتهي إلى المعاصي الموبقة، و مثله التخضّع بالقول، و ضرب الأرجل لإعلام ما خفي من الزينة.

2. ما يكون السبب حراماً لأجل كونه من المقدّمات القريبة للزنا لا تهييج الشهوة، كالخلوة بالأجنبية، على أنّ بعض روايات الباب غير دالة إلّا على الحرمة في بيت الخلاء.

3. ما يكون السبب مكروهاً، نحو عدم تستر المسلمة عن الذمّيّات و الجلوس مكان المرأة قبل أن يبرد، و إن كان منتهياً إلى تهييج الشهوة، فعلى هذا لا يمكن أن يقال: انّ تهييج الشهوة حرام فيحرم سببه، بل الظاهر من الروايات أنّ بعض أسبابه محرّمة كالنظر بعد النظر. ( «1»)

و على كلّ تقدير فلا ملازمة بين التشبيب و تحريك الشهوة، بل بينهما عموم من وجه، فإذا تشبب بالزوجة أو بامرأة خيالية يتحقّق التهييج دون التشبيب، و ربّما يتحقّق التشبيب بلا تهييج، كما إذا كان السامع أو نفس الشاعر متمالكاً أو طاعناً في السن إلى مرحلة لا يؤثر التشبيب في التحريض و التهييج، و قد يجتمعان.

و بالجملة: فهذه الوجوه لا يمكن أن تعدّ دليلًا لفتوى المشهور الذي عرفت، و الذي يمكن أن يقال: انّ التشبيب بما هو هو ليس بحرام، إلّا أن

______________________________

(1) انظر الوسائل: 14/ 138- 141، الباب 104 من أبواب مقدّمات النكاح.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 376

تنطبق عليه إحدى العناوين المحرّمة، كالهتك و الإيذاء

و التعدّي على عرض المؤمن.

و حصيلة القول: إنّ التشبيب قد يكون بالشعر و قد يكون بالنثر، و قد يطّلع عليه غيره و قد لا يطّلع، و تارة يستلزم الإيذاء و الهتك و أُخرى لا يستلزم، كما أنّه قد يتحقّق فيه الإغراء و قد لا يتحقّق، و عندئذ لا يمكن أن يحكم بحرمة التشبيب لأجل هذه العناوين التي تفارق التشبيب بكثير.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 377

4 التصوير

اشارة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): تصوير صور ذوات الأرواح حرام إذا كانت الصورة مجسّمة بلا خلاف فتوى و نصاً.

أقول: إنّ الصورة إمّا مجسّمة أو غير مجسّمة، و على التقديرين فالمصوَّر إمّا ذو روح أو غير ذي روح، ففي المسألة أقوال:

1. حرمة التصوير مطلقاً، سواء أ كانت الصورة مجسمة أم لا، و كان المصوَّر ذا روح أم لا؟ يظهر ذلك من أبي الصلاح و ابن البراج.

قال العلّامة (قدس سره) في «المختلف»: قال ابن البراج: يحرم التماثيل المجسّمة و غير المجسّمة ... و أبو الصلاح قال: يحرم التماثيل و أطلق. ( «1»)

2. يحرم عمل التماثيل المجسّمة سواء كان المصوّر ذا روح أم لا، و هو الذي نسبه العلّامة إلى الشيخين و سلّار قدس سرهم.

قال العلّامة في «المنتهى»: يحرم عمل الصور المجسّمة و أخذ الأُجرة عليه. ( «2»)

3. حرمة تصوير ذي الروح مطلقاً، مجسماً كان أم غيره، و جواز غيره مطلقاً.

______________________________

(1) المختلف: 5/ 13، كتاب التجارة.

(2) المنتهى: 2/ 1013.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 378

و هو الذي يظهر من ابن إدريس حيث قال: و سائر التماثيل و الصور ذات الأرواح مجسّمة كانت أو غيرها.

و قال في «جامع المقاصد» عند شرح المتن: (كعمل الصور المجسّمة): المتبادر من المجسّمة ما يكون لها

جسم يحصل له ظل إذا وقع عليه ضوء، و لا ريب في تحريم هذا القسم إذا كان من صور ذوات الأرواح، و إن كانت عبارة الكتاب مطلقة، و هل يحرم غير المجسمة كالمنقوشة على الجدار و الورق؟ عمّم التحريم بعض الأصحاب، و في بعض الأخبار ما يؤذن بالكراهة، و لا ريب أنّ التحريم أحوط، و هذا فيما له روح .... ( «1»)

4. حرمة الصور المجسّمة مقيّدة بذوات الأرواح، و هو الذي اختاره في «المستند» و جعله معقد الإجماع، حيث قال: و منها عمل الصور و هي أقسام، لأنّها إمّا صورة ذي روح أو غيره، و على التقديرين إمّا مجسّمة أو منقوشة، فالأوّل حرام عمله مطلقاً بلا خلاف أجده، و ادّعى الأردبيلي الإجماع عليه، و كذا الكركي. ( «2»)

و الحاصل: انّ التصوير إمّا راجع إلى ذوات الأرواح أو إلى فاقدتها، و على كلّ تقدير فإمّا أن تكون الصورة مجسّمة أو منقوشة، فهذه صور المسألة.

و أمّا الأقوال: فهي بين القول بحرمة التصوير مطلقاً، أو تخصيص الحرمة بالمجسّمة مع التعميم في ناحية المصوَّر، أي سواء أ كان ذا روح و غيره، أو تخصيص الحرمة بذات الروح مع التعميم في ناحية الصورة سواء أ كانت مجسمة أم لا، أو التخصيص في كلتا الناحيتين، و انّ الحرام ما إذا كانت الصورة مجسّمة و المصوَّر ذا روح.

______________________________

(1) جامع المقاصد: 4/ 22- 23، كتاب المتاجر.

(2) المستند: 14/ 106، كتاب المتاجر.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 379

نظرية الشيخ و الطبرسي في التصوير

و يظهر من الشيخ الطوسي في تفسير قوله سبحانه: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ) ( «1»). انّ التصوير مكروه سواء أ كان رسماً أم مجسمة قال في «التبيان»: و معنى قوله: (ثُمَّ

اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ) أي اتّخذتموه إلهاً، لأنّ بنفس فعلهم لصورة العجل لا يكونون ظالمين، لأنّ فعل ذلك ليس بمحظور و إنّما هو مكروه، و ما روي عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه لعن المصورين معناه: من شبّه اللّه بخلقه، أو اعتقد فيه انّه صورة، فلذلك قدّر الحذف في الآية، كأنّه قال: اتّخذتموه إلهاً و ذلك انّهم عبدوا العجل بعد موسى لمّا قال لهم السامري: هذا إلهكم و إله موسى. ( «2»)

و تبعه الطبرسي في المجمع فأتى بنفس النصّ. ( «3»)

هذه أقوال فقهائنا- رضوان اللّه عليهم-.

و أمّا أقوال فقهاء السنّة فقد قال في «الفقه على المذاهب الأربعة»: الصورة إمّا أن تكون صورة لغير حيوان كالشمس و القمر و الشجر و المسجد، أو تكون صورة حيوان عاقل أو غير عاقل، و القسم الأوّل جائز لا كلام فيه، و أمّا القسم الثاني فإنّ فيه تفصيل المذاهب. ثمّ ذكر تفصيل المذاهب ذيل الصفحة مفصّلًا، فمن أراد فليرجع. ( «4»)

و قال في «المغني»: التصاوير محرمة على فاعلها، لما روى ابن عمر، عن النبي صلوات اللّه عليه قال: «الذين يصنعون هذه الصورة يعذبون يوم القيامة، يقال

______________________________

(1) البقرة: 51.

(2) التبيان: 1/ 336- 237.

(3) مجمع البيان: 1/ 108.

(4) الفقه على المذاهب الأربعة: 2/ 40- 41.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 380

لهم احيوا ما خلقتم» ... و قال رسول اللّه- صلوات اللّه عليه-: «إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المصوّرون». متّفق عليهما، و الأمر بعمله محرّم كعمله. ( «1»)

ثمّ إنّ الكلام يقع في حكم التصوير أوّلًا، و البيع ثانياً، و الاقتناء ثالثاً، و الصلاة عليها أو في مقابلها رابعاً، و السكنى في البيت المشتمل

عليها خامساً.

و المقصود في المقام بيان عمل التصوير، و العمدة دراسة مباني الأقوال.

فنقول: إنّ الروايات على طوائف:

الطائفة الأُولى: ما يستفاد منها إطلاق الحرمة- مجسّمة أو غيرها، ذات روح أو غيرها- مثل:

1. موثّقة أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): أتاني جبرئيل قال: يا محمد إنّ ربَّك يقرئك السلام و ينهى عن تزويق البيوت». قال أبو بصير: فقلت: و ما تزويق البيوت؟ فقال: «تصاوير التماثيل». ( «2»)

يقال زوّق البيوت: نقشها و زينها.

2. ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أتاني جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ ربّك ينهى عن التماثيل». ( «3»)

3. رواية جراح المدائني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا تبنوا على القبور، و لا تصوّروا سقوف البيوت، فانّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) كره ذلك». ( «4»)

4. رواية محمد بن أبي عمير، عن المثنى، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «إنّ علياً (عليه السلام) كره الصور في البيوت». ( «5»)

5. ما رواه يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «إنّه كره الصور في

______________________________

(1) المغني: 8/ 112، الطبعة الثالثة.

(2) الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 1.

(3) الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 11.

(4) الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 9 و 3.

(5) الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 9 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 381

البيوت». ( «1»)

و هذه الطائفة من الروايات

و إن كان فيها موثّقة، بل لا يبعد أن يكون أكثرها موثّقة، لكنّها تقيّد الصور فيها بالبيت و السقف، فيمكن أن يقال بأنّها تدلّ على حرمة التصوير المقيد بهما، و لعل وجه الحرمة كون الصور المنقوش فيها كانت بمرأى و منظر غالباً، و تكون مذمومة لأجل الصلاة أو مطلقاً، و يمكن أن يكون وجه الحرمة أنّ كون الصورة على السقف و الجدار، فيه إشعار بتعظيمها، و تؤيده رواية أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): انّا نبسط عندنا الوسائد، فيها التماثيل و نفترشها، فقال: «لا بأس بما يبسط منها و يفترش و يوطأ، انّما يكره منها ما نصب على الحائط و السرير» ( «2») و نحوها رواية 1 و 2 و 4 و 8 من الباب 4 من أحكام المساكن في الجزء 3 من «الوسائل»، فلا تدلّ على حرمة مطلق التصوير و لو كان في قرطاس مثلًا.

مضافاً إلى أنّ الكراهة لا تدلّ على الحرمة، لأنّها في لسان الأئمّة (عليهم السلام) مستعملة في الأعم منها.

نعم الرواية الثانية لم تقيّد فيها الصور بالبيت و السقف، و لكنّ المظنون قوياً اتحادها مع الرواية الأُولى لاتحاد راويهما و الإمام المروي عنه (عليه السلام)، و كذا مضمونهما.

فاستفادة حرمة مطلق التصوير من هذه الطائفة مشكلة جداً.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على حرمة تصوير ذات الأرواح: نحو موثّقة أبي العباس البقباق، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، في قول اللّه عزّ و جلّ: (يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ) ( «3») فقال: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء، و لكنّها الشجر

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 13.

(2) الوسائل: 12/ 220، الباب

94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4.

(3) سبأ: 13.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 382

و شبهه» ( «1»). و بهذا المضمون رواية 6 من الباب.

و نحوه موثّقة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لا بأس بتماثيل الشجر». ( «2»)

و موثّقة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر. فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان». ( «3»)

و في صحيح البخاري، عن ابن عباس أنّه أتاه رجل فقال: يا ابن عباس إنّي إنسان إنّما معيشتي من صنعة يدي، و إنّي أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أُحدّثك إلّا ما سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)، سمعته يقول: «من صوّر صورة فانّ اللّه معذّبه حتى ينفخ فيها الروح و ليس بنافخ فيها أبداً» فربا الرجل ربوة شديدة و اصفرّ وجهه، فقال: ويحك إن أبيت إلّا أن تصنع فعليك بهذا الشجر، كلّ شي ء ليس فيه روح. ( «4»)

و هذه الطائفة صريحة في جواز تصوير غير ذي الروح.

و أمّا دلالتها على حرمة تصوير ذي الروح فالأوليان منها لا تدلّان على أزيد من أنّه ليس من شأن الأنبياء، و أمّا الحرمة فلا، و إن كان إنكار الإمام (عليه السلام) الشديد بقوله: «و اللّه ما هي ...» لا يخلو من إشعار بالحرمة.

و أمّا موثّقة زرارة فلا تدلّ إلّا من حيث مفهوم اللقب، و المشهور عدم دلالته مفهوماً.

و أمّا موثقة محمد بن مسلم فقال الشيخ الأعظم (قدس سره): إنّها أظهر من الكل. و مراده (رحمه الله) أنّه من حيث الشمول لغير المجسَّم من الصور أظهر من الروايات الأُخر «حيث إنّ ذكر الشمس و

القمر قرينة على إرادة تجرّد النفس» لانّ تصويرهما غير معروف إلّا بالرسم فقط، و أمّا تجسيمهما فلا يكون إلّا كرة محضة، لا يرغب

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 561، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 4 و 17.

(2) الوسائل: 3/ 561، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 4 و 17.

(3) الوسائل: 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

(4) صحيح البخاري: 3/ 41.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 383

الناس إلى النظر إليهما غالباً.

و أورد عليه سيدنا الأُستاذ- دام ظلّه-: بأنّها لا ظهور لها في حرمة تصوير ذي الروح أصلًا لوجوه:

الوجه الأوّل: عدم معلومية وجه السؤال، فيحتمل أن لا يكون السؤال عن إيجاد الصورة، بل عن اللعب بها- كما في رواية علي بن جعفر. ( «1») أو عن اقتنائها أو عن تزويق البيوت بها أو عن جعلها في البيت أو مقابل المصلي كما في جملة من الروايات، بل يمكن أن يقال بانصراف السؤال إلى التصرّفات بعد فرض وجودها.

الوجه الثاني: انّ نفي البأس عن تمثال الشجر و قسيميه لا يدلّ على حرمة تمثال الحيوان، فانّ هذا التعبير كثيراً ما يستعمل في نفي الكراهة و المرجوحية.

الوجه الثالث: عدم الإطلاق في الحيوان حتى يشمل غير المجسّم، و لو كان صدر الرواية مطلقاً، و ذلك لأنّ الكلام مسوق لبيان الصدر و عقد المستثنى منه، لا الذيل و المستثنى. ( «2»)

و بهذا الوجه أيضاً أجاب- دام ظله- عن رواية «تحف العقول».

و لكن يمكن أن يدفع الوجه الأوّل ب- أنّ ترك استفصال الإمام (عليه السلام) يوجب حمل الجواب على الإطلاق، فيفيد حرمة التصوير مطلقاً ايجاداً و تصرّفاً بانحاء التصرفات.

و أمّا جواب الإمام (عليه السلام) في رواية علي بن

جعفر بعدم صلاحية اللعب بها فلا يوجب رفع اليد عن إطلاق هذه الرواية، و مثله السؤال عن الصورة لغاية سائر التصرفات كما في جملة من الروايات فلا يكون سبباً لتقييدها لإمكان أن يكون للشي ء جهات مختلفة لحزازته.

و يمكن دفع الوجه الثالث أيضاً بأنّ ظاهر المتكلّم أنّه بصدد بيان تمام

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة: 1/ 172، 173.

(2) المكاسب المحرّمة: 1/ 172، 173.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 384

مراده في الموضوع من حيث المستثنى و المستثنى منه، خصوصاً الإمام (عليه السلام)، فإنّ عليه بيان الأحكام في الموارد المناسبة، و أي مورد أنسب من مورد سؤال السائل إذا لم يمنع عنه مانع، و الظاهر عدم وجود المانع من تقيّة أو غيرها.

مضافاً إلى أنّه لو كان الكلام مسوقاً لبيان عقد المستثنى منه في هذه الرواية و لبيان التصاوير المحلّلة في رواية التحف، فاللازم بيان تصوير الحيوان غير المجسّم في قسم المحلّل منها- لو كان حلالًا- حتّى لا يخل بالمقصود و يستوفي قسم الحلال مع انّه لم يذكره فيه.

نعم الوجه الثاني تام، فإنّ نفي البأس عن مورد لا يدلّ على حرمة مقابله، كما يشهد لذلك رواية أبي بصير الصحيحة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): انّا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل و نفترشها؟ فقال: «لا بأس بما يبسط منها و يفترش و يوطأ، إنّما يكره منها ما نصب على الحائط و السرير». ( «1») إذا كان معناه «لا بأس بتصوير ما يبسط» ..

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على حرمة عمل التصوير المجسّم فقط من ذوات الأرواح، نحو مرسلة ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من مثّل تمثالًا كلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح».

( «2»)

و رواية الحسين بن المنذر قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ثلاثة معذّبون يوم القيامة: رجل كذب في رؤياه ... و رجل صوّر تماثيل يكلَّف أن ينفخ فيها و ليس بنافخ». ( «3»)

و رواية سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ هم المصوّرون، يكلَّفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح». ( «4»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4.

(2) الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 2 و 5 و 12.

(3) الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 2 و 5 و 12.

(4) الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 2 و 5 و 12.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 385

و رواية شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام)- في حديث المناهي- قال: «نهى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) عن التصاوير» و قال: «من صور صورة كلّفه اللّه تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ ... و نهى أن ينقش شي ء من الحيوان على الخاتم». ( «1»)

و ما رواه ابن عباس قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): من صوّر صورة عذّب و كلّف أن ينفخ فيها و ليس بفاعل». الحديث. ( «2»)

و ما رواه محمد بن مروان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «ثلاثة يعذبون يوم القيامة: من صوّر صورة من الحيوان يعذّب حتّى ينفخ فيها و ليس بنافخ فيها، و المكذِّب في منامه يُعذّب حتّى يعقد بين شعيرتين و

ليس بعاقد بينهما، و المستمع إلى حديث قوم و هم له كارهون يصب في إذنه الآنك، و هو الأُسرب». ( «3»)

وجه الدلالة كما في «الجواهر»: انّ ظاهر الروايات أنّ المصنوع لا ينقص عن كونه حيواناً أو إنساناً إلّا بالروح، فلا تشمل إلّا ما إذا كانت الصورة جامعة لكلّ ما يتوقّف عليه الإنسان و الحيوان إلّا الروح و هي الصورة ذات الجسم، المشتمل على الأبعاد الثلاثة.

و بعبارة أُخرى: انّ نفخ الروح لا يكون إلّا في الجسم.

و ما ربما يقال: بأنّه يجسَّم النقش يوم القيامة أوّلًا، ثمّ يؤمر بالنفخ فيه، خلاف الظاهر.

و أجاب عنه الشيخ الأعظم (قدس سره): بأنّ نفخ الروح في النقش ممكن باعتبار محلّه، أو الأجزاء الصبغية أو بغيرهما، كما في أمر الإمام (عليه السلام) الأسد المنقوش على البساط بأخذ الساحر في مجلس الخليفة.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6 و 7 و 9.

(2) الوسائل: 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6 و 7 و 9.

(3) الوسائل: 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6 و 7 و 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 386

و أضاف السيد الطباطبائي (قدس سره) على الجواب: بأنّ التكليف بالنفخ ليس للامتثال، بل للتعجيز كما أُشير إليه في الرواية، فلا يستلزم أن يكون المأمور به ممكناً.

و أجاب عن هذه الوجوه- انتصاراً لصاحب «الجواهر»، سيدنا الأُستاذ- دام ظله-: بأنّ المدّعى ليس استحالة النفخ في النقش المجرّد حتّى أُجيب عنها بهذه الوجوه، بل المدّعى: انّ الظاهر المتفاهم من الرواية أنّ الصورة الكذائية لا ينقص عن المصوّر إلّا الروح، فكلّف بالنفخ حتّى يكمل الصورة و تصير حيواناً معهوداً، و

هذا لا يكون إلّا إذا كانت الصورة مجسمة. ( «1»)

و لكن يمكن أن يدفع بأنّ تسلّم هذا الظهور من الروايات مشكل، فانّ التكليف التعجيزي بأمر مكمل لشي ء لا يكون دليلًا على حصول جميع المراتب غير الأخيرة كما يظهر في بعض الأمثلة العرفية.

و أمّا التشبه بالخالق تعالى- المستفاد من الأخبار انّه هو الحكمة لحرمة التصوير- فكما يتحقّق في المجسَّم فكذا في النقش المعجب أيضاً، و إن كان في المجسَّم يكون التشبه أشد. فلا ينثلم إطلاق الروايات.

و بهذا يظهر عدم تمامية الجواب عن الشيخ: بأنّ ما ذكره (قدس سره) محاولة عقلية لا تقاوم الظهور، و مخالف لما تهدف إليه الروايات، لأنّ الظاهر أنّ السر في التحريم هو كون التصوير فعلًا مختصاً باللّه تعالى قال عزّ من قائل: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحٰامِ كَيْفَ يَشٰاءُ) ( «2»)، و المصوِّر يمثل بفعله، فعله تعالى المختص به، فعندئذ يؤمر بتكميل عمله بنفخ الروح فيه و هو غير قادر عليه و عاجز عنه.

وجه عدم تمامية الجواب: إن كان المراد من اختصاص التصوير بفعله

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 171، 172.

(2) آل عمران: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 387

تعالى، الاختصاصَ التكويني فهذا خلاف الواقع، لأنّ بعض الناس يصنعون الصورة المجسّمة بوجه أشبه شي ء بالإنسان الحي حتّى لا يتميز بينهما إلّا بالدقة التامّة بعد مدّة، و إن كان المراد هو الاختصاص التشريعي بمعنى عدم جوازه لغيره تعالى، فتقييد هذا الاختصاص بالمجسّم دون النقش المجرَّد مصادرة، يدفعها إطلاق الروايات الماضية.

و استدلّ سيدنا الأُستاذ- دام ظله- للاختصاص بالمجسّم، بوجه آخر أيضاً و ملخّصه: إنّه لا يبعد أن يكون الظاهر من تمثال الشي ء و كذا صورته- بقول مطلق- هو المشابه له في الهيئة مطلقاً، أي

من جميع الجوانب، لا من جانب واحد فقط.

و لكن يمكن أن يدفعه إطلاق العرف بلا مسامحة، نعم الدقة العقلية لا تساعده، و لعلّ كلامه- دام ظله- نشأ منها، و إلّا فلا يلزم التشابه من جميع الجوانب، كيف، و لو يلزم ذلك، فلم لا يلزم التشابه من سائر الجهات مثل جنسه و ما في جوفه و غير ذلك، و الظاهر إطلاق التمثال و الصورة على النقش المجرّد عرفاً.

نعم يلزم أن يكون كاملًا حتّى يصدق أنّه تمثال إنسان مثلًا كي يكون موضوعاً للروايات، لا تمثال رأسه أو يده مثلًا.

ثمّ إنّه أيّد، بل استدلّ للاختصاص بالمجسّم، بعض أعاظم السادة قدس سرهم بوجه آخر و هو: انّه يجوز اقتناء الصور بحسب الأخبار، نحو صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «ربما قمت فأُصلّي و بين يدي الوسادة و فيها تماثيل طير فجعلت عليها ثوباً» ( «1»)، و إذا جاز اقتناؤها فيكون صنعتها أيضاً جائزة، لأنّها لا تكون ممّا

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 461، الباب 32 من أبواب مكان المصلي، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 388

يجي ء منه الفساد المحض، و ما لا يكون كذلك لا يحرم صنعته بناء على الحصر المستفاد من رواية «تحف العقول»: «إنّما حرم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضاً». ( «1»)

و لكن فيه عدم تمامية رواية «تحف العقول» من حيث الإرسال، مضافاً إلى أنّ كونها صادرة عن الإمام (عليه السلام) بألفاظها غير معلوم، لما فيها من تشويش العبارة و التكرار و عدم تمامية التقسيمات. فمن المظنون قويّاً كونها من مستنبطات المؤلف (رحمه الله) من مجموع روايات مختلفة، جمعها بصورة رواية واحدة و أسندها إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، و ذلك لما ورد

( «2») من جواز النقل بالمعنى في نقل الرواية، و أيضاً جواز نقل ما سمع من إمام، عن إمام آخر سلام اللّه عليهم أجمعين.

فالظاهر دلالة هذه الطائفة من الروايات على حرمة مطلق التصوير.

الطائفة الرابعة: ما يدلّ على حرمة تصوير الأصنام و هياكل العبادة، للتناسب بين الحكم و الموضوع كما ذكره سيدنا الأُستاذ- دام ظله- ( «3») نحو:

ما رواه ابن القداح، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) في هدم القبور و كسر الصور». ( «4»)

و ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلّا محوتها، و لا قبراً إلّا سوّيته، و لا كلباً إلّا قتلته». ( «5»)

و ما رواه الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «من جدّد قبراً، أو مثّل مثالًا، فقد خرج من الإسلام». ( «6»)

______________________________

(1) جامع المدارك: 3/ 15.

(2) أُصول الكافي: 1/ 65، باب رواية الكتب و الحديث.

(3) المكاسب المحرمة: 1/ 169.

(4) الوسائل: 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 7 و 8 و 10.

(5) الوسائل: 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 7 و 8 و 10.

(6) الوسائل: 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 7 و 8 و 10.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 389

و ما رواه الشهيد الثاني في «منية المريد» عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) إنّه قال: «أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبيّاً أو قتله

نبي، و رجل يضل الناس بغير علم، أو مصوّر يصوّر التماثيل». ( «1»)

و رواية «لبّ اللباب»: «من صور التماثيل فقد ضاد اللّه». ( «2»)

روى العامة، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: «إنّ أشد الناس عذاباً عند اللّه يوم القيامة المصوّرون». ( «3»)

و هذه الطائفة لا تدلّ على حرمة مطلق التصوير أو المجسّم منه، لأنّ مدلولها- لأجل التناسب بين الحكم و موضوعه- هو حرمة تصوير الأصنام و إحياء الآثار الجاهلية، لأنّ الخروج عن الإسلام، و كونه من أشدّ المعاقبين يوم القيامة، و عدّه ممّن قتل نبيّاً لا يناسب التصوير المطلق و لو على قرطاس مثلًا، فأنّ بعض المعاصي التي تكون أشدّ من التصوير لا يعاقب فاعلها بهذه المعاقبة.

نعم، لا يناسب هذا المعنى ما رواه مسلم و البخاري عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق» ( «4»)، بل مفاده ترتب هذا العقاب على مطلق التصوير، لا تصوير الأصنام، و لكن الرواية عامّية، لا تضر بما استظهرناه.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد من الكلب في رواية السكوني ليس هو الحيوان المعروف، بل المراد هو الكلب (بكسر اللام) و هو الكلب المبتلى بداء الكلب.

قال في «المنجد» الكلب (بفتح اللام) مصدر كلب (بكسر اللام): داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعض الناس.

فلم تبق رواية دالة على حرمة مطلق التصوير إلّا الطائفة الثالثة، و هي و إن

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 210، الحديث: 3 و 4.

(2) المستدرك: 13/ 210، الحديث: 3 و 4.

(3) السنن الكبرى: 7/ 268 و 269.

(4) السنن الكبرى: 7/ 268 و 269.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 390

لم يكن فيها

صحيح مسند، إلّا أنّ استفاضتها لعلها كافية للحكم بمضمونها، مع أنّ بعضها مروية عن أصحاب الإجماع، نحو مرسلة ابن أبي عمير، و موثّقة عبد اللّه بن مسكان، عن محمد بن مروان. ( «1»)

ثمّ إنّ محمد بن مروان مشترك بين جماعة:

1. محمد بن مروان الجلّاب الثقة من رجال الإمام الهادي (عليه السلام).

2. محمد بن مروان الحناط المدني الثقة قليل الحديث.

3. محمد بن مروان الأنباري.

4. محمد بن مروان العجلي.

5. محمد بن مروان بن مسلم.

6. محمد بن مروان الكلبي من أصحاب الباقر (عليه السلام).

7. محمد بن مروان الذهلي من رجال الصادق (عليه السلام)، المتوفّى عام 161 ه-.

و استقرب المحقّق الخوئي في الرواية التي رواها محمد بن مروان عن أبي عبد اللّه في كتاب «كامل الزيارات» في بكاء الملائكة على الحسين (عليه السلام)، انّ المراد هو الذهلي، و وثّقه لوروده في سند كتاب «كامل الزيارات»، و قد أوضحنا في محلّه انّ المبنى غير تام. ( «2»)

و اختار مقرر ( «3») السيد الخوئي، في تعليقته ل- «مصباح الفقاهة» انّه الكلبي، و ليس بصحيح، لأنّه من أصحاب الباقر (عليه السلام) لا الصادق (عليه السلام).

فتحصّل من هذه الروايات (الطائفة الثالثة) أنّ الاحتياط في ترك التصوير إذا كان المصوَّر ذا روح مطلقاً خصوصاً في المجسّم منه، لأنّه هو المتيقّن من الإجماع.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 221، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

(2) معجم رجال الحديث: 17/ 218 برقم 11740.

(3) صديقنا المعزز الشيخ محمد على التوحيدي (رضوان اللّه عليه) المتوفّى في شهر رمضان عام 1395 ه-.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 391

ثمّ إنّه ربما يظن بحمل روايات الباب على الطائفة الأخيرة، أي ما دلّ على حرمة تصوير الأصنام، فلا تدلّ على حرمة

مطلق التصوير.

يلاحظ عليه: بأنّ التعبير في الروايات (بأنّ المصوِّر يكلَّف يوم القيامة بالنفخ في الصورة و ليس بنافخ) يستفاد منه أنّ حكمة التشريع هو التشبّه بالخالق تعالى، لا ترويج الكفر و الشرك الذي هو العلّة للتحريم في الطائفة الأخيرة.

و لو كانت الروايات ناظرة إلى المعنى المستفاد من الطائفة الأخيرة لكان المناسب أن يعبّر فيها: بأنّ المصوِّر يكلَّف يوم القيامة بالاستشفاع من الصور و لا ينفعونه، حيث كان المشركون يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه.

و ينبغي التنبيه على أُمور:

التنبيه الأوّل: أنّ ما ذكرناه من تخصيص الحرمة بمطلق الحيوان أو المجسّم منه يرجع إلى مطلق الصور بما هي صور، و أمّا تصوير الأصنام خصوصاً، و هياكل العبادة للبيع من عبدتها، أو لأجل التحفّظ على آثار السلف الكافرين و حفظ شعارهم و طريقهم، فيحرم مطلقاً، سواء كان المصوَّر ذا روح أم لا، أو كانت الصورة مجسّمة أم لا، للعلم الضروري بأنّ الشارع لا يرضى ببقاء آثار الشرك، و قد كان النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) يرسل الوفود إلى هدم بيوتات الشرك و أصنام العبادة فكيف يرضى بإيجادها؟!

و أمّا ما تقدّم منّا من جواز بيع الأصنام التي هلكت عبدتها فلا يضر بالمقام، لأنّ الحفظ هناك لأجل التحفّظ على الآثار العتيقة و تبيين تاريخها و ليس لحفظ شعار عبدتهم و دينهم.

نعم، يظهر من بعض الروايات جواز إبقاء تلك الصور، و إليك نصوصها:

1. ما رواه عبد اللّه بن المغيرة قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: «قال قائل

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 392

لأبي جعفر (عليه السلام): يجلس الرجل على بساط فيه تماثيل؟ فقال: الأعاجم تعظمه و انّا لنمتهنه». ( «1»)

2. و ما رواه أبو بصير، عن أبي

عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن الوسادة و البساط يكون فيه التماثيل. فقال: «لا بأس به يكون في البيت». قلت: التماثيل؟ فقال: «كلّ شي ء يوطأ فلا بأس به». ( «2»)

3. و ما رواه جابر، عن عبد اللّه بن يحيى الكندي، عن أبيه و كان صاحب مطهرة أمير المؤمنين (عليه السلام)- قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): قال جبرئيل: إنّا لا ندخل بيتاً فيه تمثال لا يوطأ». ( «3»)

4. و عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «دخل قوم على أبي جعفر (عليه السلام) و هو على بساط فيه تماثيل فسألوه فقال: أردت أن أُهينه». ( «4»)

و لعلّ الجواز لأجل الحط من مقامهم، و الاستدلال على بطلان مذاهبهم، و إلّا فالاقتناء لأجل التحفّظ على شعار المشركين حرام مطلقاً بأيِّ وجه كان.

التنبيه الثاني: لا فرق في الحيوان بين كونه موجوداً في الخارج، أو تخيّل وجوده فيه على شكل خاص و إن لم يكن موجوداً، كما إذا صوّر فرساً له أجنحة كثيرة، و على هذا يحرم تصوير صورة العنقاء لإطلاق الأدلّة. و كون الملاك في التحريم هو التشبه باللّه سبحانه في الخلق و التصوير، و انّه يؤمر يوم القيامة بالنفخ. و لو صوّر شجراً بصورة الحيوان، فلو كان له مصداق في الخارج لا يعمّه الإطلاق، إذ ليس المصوَّر ذا روح في الخارج، بخلاف ما إذا لم يكن فيصدق كونه حيواناً و إن

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 2.

(3) الوسائل: 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 5 و 8.

(4) الوسائل: 3/ 564، الباب 4

من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 5 و 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 393

لم يكن نوعه في الخارج.

التنبيه الثالث: إذا صوّر الملك و الجن، فهل يحرم التصوير أو لا؟

ذهب صاحب «مفتاح الكرامة» و «الجواهر» إلى الحرمة، و عن المحقّق الأردبيلي الجواز، قائلًا: بأنّ الحيوان عبارة عن موجود إذا وقع عليه الضوء يحصل له ظل، و ليس الملك كذلك.

يلاحظ عليه: أنّ هذا شرط للصورة لا للمصوَّر، و المصوَّر أعمّ من أن يكون له ظل أو لا، فالأولى أن يلاحظ لسان الأدلّة، فقد ورد في صحيحة محمد بن مسلم: «لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان». ( «1»)

و خبر «تحف العقول»: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني». ( «2»)

قال السيد الطباطبائي (قدس سره) في تعليقته: مقتضى الأوّل الجواز بناء على عدم كونهما من الحيوان، و مقتضى الثاني المنع لصدق الروحاني عليهما. ( «3») و الروحاني من الروح زيد الألف و النون لأجل المبالغة.

يلاحظ عليه: أنّ الحيوان في صحيحة محمد بن مسلم و إن كان يطلق على الموجود الحيّ، لكنّه لا يشمل الجن و الإنسان و الملك عرفاً، و إلّا فالحي بالمعنى الوسيع يعمّ اللّه سبحانه، و مع ذلك لا يطلق عليه الحيوان، و على ذلك فمنطوقه حاك عن الجواز، لأنّه يخص الحرام بتصوير الحيوان و هؤلاء ليسوا بحيوان.

و أمّا قوله: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني» في الرواية

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 563، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 17.

(2) الوسائل: 12/ 56، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(3) تعليقة السيد الطباطبائي: 19.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 394

الثانية فبما أنّه بصدد بيان الجائز من

الصورة، و أنّه قيده بعدم كونه من قبيل مثال الروحاني، فيدلُّ بالمفهوم على الحرمة فيها، و المراد من المثال الروحاني صور الملك و الجن و الشيطان.

قال في «اللسان»: و الروحاني من الخلق: نحو الملائكة ممّن خلق اللّه روحاً بغير جسد، و هو من نادر معدول النسب، و زعم أبو الخطاب أنّه سمع من العرب من يقول في النسبة إلى الملائكة و الجن: روحاني- بضم الراء- و الجمع روحانيون. ( «1»)

قال المحدّث المجلسي (رحمه الله): يطلق الروحاني على الأجسام اللطيفة و على الجواهر المجرّدة إن قيل بها. ( «2»)

قال في «النهاية»: في الحديث «الملائكة الروحانيون» يروى- بضم الراء و فتحها- كأنّه نسبة إلى الروح، أو الروح و هو نسيم الريح، و الألف و النون من زيادات النسب، و يراد به أجسام لطيفة لا يدركها البصر. ( «3»)

و مع هذا كلّه فالظاهر من الإمام (عليه السلام) تفسير الروحاني بغير ما نقلناه عن «اللسان» و غيره، حيث فسّره الإمام (عليه السلام) بهياكل العبادة، فيسقط عن صلاحية الاستدلال حيث قال: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام ... و كلّ ملهو به و الأوثان و الأصنام» و هذا يعطي أنّ مراده من المثال الروحاني هي الموجودات العلوية التي كانت العرب و غيرهم عابدة لها.

اللّهمّ إلّا أن يقال: انّ التفسير من الإمام (عليه السلام) ليس على وجه الحصر، بل من باب بيان الفرد الكامل.

______________________________

(1) لسان العرب: 2/ 463.

(2) المكاسب المحرمة: 1/ 180.

(3) النهاية: 2/ 272.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 395

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ- دام ظلّه- اختار الجواز بوجهين: ( «1»)

الأوّل: انّ المحرّم هو تمثال موجود يكون نحو إيجاده بالتصوير و النفخ، كالإنسان و سائر الحيوانات، ففي مثل ذلك

المورد يقال للمصوِّر: انفخ كما ينفخ اللّه بعد التسوية، و أمّا الجن و الشيطان ممّا تكون كيفية إيجاده بغير التصوير و الخلق التدريجيين و بغير التسوية و النفخ، بل بالإبداع الدفعي له و لا يكون فيه نفخ روح كما في الحيوانات فخارج عن مساق تلك الأخبار، حتى المعتبر من الروايات، كمرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من مثّل تمثالًا كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح». ( «2»)

يلاحظ عليه: بأنّ التعبير بالنفخ كناية عن إعطاء الوجود الواقعي و جعله مصداقاً واقعياً له، سواء كان الإعطاء على وجه التسوية و الخلق التدريجيين ثمّ النفخ، أو جعله مصداقاً واقعياً دفعة، و لا يكون مثل ذلك قرينة على الانصراف.

و الحاصل: انّ المراد من النفخ هو إعطاء الوجود الحقيقي، و ليس ناظراً إلى سائر الخصوصيات من اشتراط التسوية و الخلق التدريجي حتّى يقال: انّهما غير موجودين في الملك و الجن.

الثاني: انّ ملاك النهي عن التصوير هو التشبّه بالخالق و التصوير الخيالي ليس تشبهاً به تعالى، لأنّ الخالق جلّ و علا لم يصورها كذلك حتّى يكون التصوير تشبيهاً به.

و فيه مضافاً- إلى أنّ من المحتمل جدّاً أن يكون ملاك النهي هو سدّ باب عبادة الأصنام و الأوثان و تصوير المثال الروحاني من أحسن الوجوه لترويج هذا

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 178- 179.

(2) الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 396

المسلك- إنّ الملاك هو التشبّه في التصوير و الخلق إجمالًا لا في جميع الخصوصيات، و إلّا لم يتحقّق التشبّه للفرق الواضح بين الحيوان المصوَّر و الحيوان الخارجي مادة و صورة.

و الظاهر ثبوت التحريم بوجوه:

الأوّل: شمول الإطلاقات

التي ورد فيها لفظ الصورة لصورة الملك و الجن، مثل ما رواه شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي قال: «نهى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) عن التصاوير و قال: من صوّر صورة كلّفه اللّه تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ، و نهى أن يحرق شي ء من الحيوان بالنار، و نهى عن التختّم بخاتم صفر أو حديد، و نهى أن ينقش شي ء من الحيوان على الخاتم». ( «1»)

و رواية ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من مثّل تمثالًا كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح». ( «2»)

و ما رواه الحسين بن المنذر قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ثلاثة معذبون يوم القيامة: رجل كذب في رؤياه يكلّف أن يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد بينهما، و رجل صوّر تماثيل يكلّف أن ينفخ فيها و ليس بنافخ». ( «3»)

و ما رواه أبو جميلة، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ هم المصوّرون، يكلَّفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح». ( «4»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

(2) الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 2.

(3) الوسائل: 3/ 561، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 5.

(4) الوسائل: 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 12.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 397

فإنّ الإطلاقات تعمّ جميع الصور، سواء كانت الصورة عين المصوَّر أم لا، بل تخيل أنّها مثله.

و الثاني: انّ ما ورد فيه لفظ

الحيوان، كصحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر. فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان». ( «1»)

و خبر مروان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «ثلاثة يعذّبون يوم القيامة: من صوّر صورة من الحيوان يعذّب حتى ينفخ فيها و ليس بنافخ فيها، و المكذب في منامه يعذب حتّى يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد بينهما، و المستمع إلى حديث قوم و هم له كارهون يصب في أُذنه الآنك، و هو الأُسرب». ( «2»)

يمكن أن يراد منه مطلق ذات الروح كما عليه أهل اللغة، و تخصيصه بما له بدن و روح كالفرس و الإنسان لا وجه له.

و الثالث: انّ المتعارف في تصوير الجن و الملك هو تصويرهما بشكل نوع من الحيوانات فيحرم حينئذ من هذه الجهة، و ما عن سيدنا الأُستاذ- دام ظله- من أنّ العرف يراه غير الإنسان و الحيوان، فغير ظاهر، بل العرف يرى أنّ الجن و الملك تمثّلا بصورة الإنسان أو الحيوان لا أنّهما نفس الإنسان و الحيوان.

الرابع: انّ المراد من قوله: «ما لم يكن شيئاً من الحيوان» هو أن تكون الصورة صورة الحيوان، لا أن يكون المصوَّر على صورته، و لو فرض أنّ الملك موجود مجرد و ليس له شكل مثل الحيوان و الإنسان، كفى في الحرمة كون الصورة بصورة واحد من الحيوان أو الإنسان.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 12/ 221، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 398

و الخامس: انّ رواية أبي العباس، عن أبي عبد اللّه (عليه

السلام) في قول اللّه عزّ و جلّ: (يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ) ( «1»)، فقال: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء» ( «2»)، و مقتضى المقابلة بين ذي الروح و غيره هو إفادة ملاك جواز التصوير و عدمه، و انّ الجائز هو الثاني دون الأوّل، فيدخل المثال الروحاني في القسم الأوّل.

التنبيه الرابع: قال الشيخ الأعظم: لو عمّمنا الحكم لغير الحيوان مطلقاً مجسّماً كان أو غيره أو مع التجسيم فقط، فالمراد ما كان على شكل مخلوق للّه سبحانه على هيئة خاصّة معجبة للناظر على وجه تميل النفس إلى مشاهدتها و لو بالصور الحاكية، و أمّا مثل تمثال القصبات و الأخشاب و الجبال و الشطوط ممّا خلق اللّه لا على هيئة معجبة، خارج عن الأدلّة.

يلاحظ عليه بأنّه لو قيل بالتعميم لا يفرق بين إعجاب و غيره، و إلّا فيجب القول بهذا الشرط في تصوير الحيوان، و لم يقل به أحد، و الظاهر أنّه يكفي أن تكون نفس الصورة معجبة و إن لم يكن المصوَّر كذلك.

التنبيه الخامس: قال الشيخ الأعظم (رحمه الله): يشترط قصد الحكاية، فلو دعت الحاجة إلى عمل شي ء يكون شبيهاً بشي ء ممّا خلق اللّه، و لو كان حيواناً من غير قصد الحكاية فلا بأس به قطعاً.

أقول: لا شكّ أنّ كلّ عمل محرّم انّما يحرم إذا كان هناك قصد، و إلّا فلا يكون حراماً، و مع ذلك فلا يشترط قصد الحكاية بأن يقصد من التصوير الحكاية و انتقال الناظر إليها إلى ذيها فهذا لا دليل عليه، بل يكفي ما إذا علم أنّ ما سيرسمه أو يعمله ينجر إلى عمل يكون في نظر العرف صورة حيوان.

______________________________

(1) سبأ: 13.

(2) الوسائل: 3/ 561، الباب

3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 399

و ما ذكره من حديث الحاجة فليست مسوغاً ما لم تبلغ حدَّ الضرورة.

نعم، ما نقله عن «كاشف اللثام» ضعيف جداً، حيث قال: «لو عمّت الكراهة على التماثيل ذات الروح و غيرها كرهت الثياب ذوات الأعلام لشبه الأعلام بالأخشاب و القصبات و نحوها، و الثياب المحشوة لشبه طرائقها المخيطة بها، بل الثياب قاطبة لشبه خيوطها بالأخشاب و نحوها» وجه الضعف هو ظهور أنّ موضوع الكراهة في الصلاة هو ما عدّ وجوده وجوداً تنزيلياً للخارج، و لا تعد الأعلام و لا الخيوط وجوداً تنزيلياً للأخشاب و القصبات.

و أمّا الصور المشتركة كالطائرة فإنّها مصنوعة بشكل الطير، و الباخرة فإنّها مصنوعة على شبه السمك، فلا يعد ذلك تمثالًا، لأنّ المراد هو الإيجاد بقصد تشبيه المصنوع بالمخلوق، و لم يكن ذاك مقصوداً لصانع الطائرة و الباخرة، و إنّما أراد أن يستفيد من سنن اللّه سبحانه في الخلق في عالم الصناعة.

و قد جعل السيد الطباطبائي مدار الحرمة و عدمها في الصور المشتركة بين الحيوان و غيره على القصد، و قال: إنّ الملاك هو القصد، فلو لم يكن من قصده حكايته و كان الداعي أمراً آخر فلا وجه للحرمة. ( «1»)

التنبيه السادس: انّ المرجع في الصورة هو العرف، فلا يقدح في صدقها نقص بعض الأعضاء، فلو صدق على الصورة غير الكاملة أنّها صورة إنسان أو حيوان، كأن يكون الباقي مقدراً، كما إذا صوّره على أنّه جالس أو سابح في الماء فيحرم.

نعم لو صوّر بعضه بحيث لا يقال انّه تمثال إنسان، بل يصدق عليه أنّه تمثال ناقص للإنسان، و أنّه يحتاج إلى الإكمال و الإتمام، فلا يحرم إذا نوى من

بدء الأمر تصويره ناقصاً لا الصورة التامة.

______________________________

(1) تعليقة السيد الطباطبائي: 18.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 400

نعم، احتمل المحقّق الإيرواني حرمة كلّ جزء جزء من الصورة، أو حرمة ما يعم الجزء و الكلّ، فنقش كلّ جزء حرام مستقل إذا لم ينضم إليه نقش بقية الأجزاء، و إلّا كان الكل مصداقاً واحداً للحرام. ( «1»)

و لكنّه بعيد جداً، و ينافيه التعليلات المتضافرة الكاملة؛ فلو لم يكن في نيته إحداثها كاملة لا تشمله الأدلّة.

و لو شرع في التصوير ثمّ بدا له في الإتمام لا تحرم إلّا من جهة التجرّي، لعدم إيجاد المحرّم، لأنّ الصدق يتوقّف على تحقّق الصورة الكاملة.

فإن قلت: إنّ أمر الإمام (عليه السلام) بجواز الإتيان بالصلاة في بيت فيه تمثال إذا كسر رأسه دال على جواز التصوير ناقصاً.

قلت: إنّ غايته هو ارتفاع الكراهة عمّن أراد إيقاع الصلاة فيه. و لا يدلّ على جواز التصوير ناقصاً، و هما موضوعان مختلفان.

فلو كان من نيّته تصوير الصورة الناقصة، و لكنّه بدا له إتمامه، قال الشيخ الأعظم (رحمه الله): حرم الإتمام لصدق التصوير بإكمال الصورة، لأنّه إيجاد لها.

و قال السيد الطباطبائي في تعليقته: بأنّ لازم ذلك، الحكم بالحرمة أيضاً فيما إذا كان القدر الموجود بفعل غيره، لأنّه يصدق عليه أنّه أوجد الصورة، لأنّ ما كان موجوداً لم يكن صورة بل بعضها، سواء كان ذلك الموجود بفعل مكلَّف آخر أو غيره كالصبي و المجنون، بل و لو لم يكن قصد الفاعل له إيجاد الصورة أيضاً، لأنّ المناط هو صدق الإيجاد بالنسبة إلى هذا المتمّم. ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّه يمكن الالتزام بحرمة فعل الفاعل الأخير في جميع الصور

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 21.

(2) تعليقة السيد الطباطبائي: 19.

المواهب في تحرير أحكام

المكاسب، ص: 401

لو قلنا بتعلّق الحرمة بإيجاد الصورة، فإنّه معلول لفعل الفاعل الأخير.

نعم لو قلنا هو فعل تصوير الإنسان الكامل، لم تتعلّق الحرمة بفعل واحد منهما، إذ إيجاد البعض لا يكون إيجاداً للصورة المركبة بالفرض، سواء كان البعض الأوّل من فعله أو من فعل غيره.

التنبيه السابع: لا فرق بين المباشرة و التسبيب، كما لو أكره غيره أو آجره لإطلاق قوله (عليه السلام): «من صور ...» إذا كان إسناد الفعل إلى السبب أقوى من المباشر، و ذلك أنّه مثل قوله: «من قتل نفساً أو نهب مالًا» و لم يحتمل أحد في الحرمة لزوم المباشرة.

نعم، الظاهر أنّ التعميم و عدم الفرق بين المباشرة و التسبيب مختص بالأفعال المتعدية دون اللازمة، كما عليه السيد الطباطبائي في تعليقته فانّ معنى قوله: «من قتل نفساً» مثلًا من أوجد القتل، فيمكن أن يراد منه الأعم من الأمرين و إن كان ظاهراً من حيث هو في خصوص المباشرة.

بخلاف مثل قوله: «من جلس أو ذهب» فانّ المراد منه من قام به الجلوس أو الذهاب، فلا يمكن أن يكون أعم، بخلاف القتل الصادر منه فانّه يمكن نسبته إلى الغير، و تصديق ما ذكره رهن التتبع في لغة العرب.

هذا من غير فرق بين أن يقال بأنّ المحرّم هو فعل التصوير أو إيجاد الصورة.

و بعبارة أُخرى: انّ المحرَّم سواء أ كان عنوانَ فعل مركب أم عنواناً بسيطاً إذا كان الفعل الخارجي محقّقاً و محصّلًا له، يتحقّق بالمباشرة تارة و التسبيب أُخرى.

التنبيه الثامن: إذا باشر غير المكلَّف التصوير، فهل يجب على الولي منعه أو يجوز تمكينه؟

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 402

يلاحظ عليه: أنّ الأفعال الصادرة من الغير على قسمين: قسم يكون نفس العمل مبغوضاً

في الخارج، كقتل النفس و هتك العرض، ففي مثل ذلك يجب منعه عنه فضلًا عن تمكينه؛ و قسم لا يكون صدوره من المكلَّف مبغوضاً، ففي مثله لا يجب منعه عنه.

و الظاهر أنّ المقام من قبيل الثاني، و لو شكّ في أنّ المقام من أحد القسمين فالبراءة هي المحكّمة، و لأجل ذلك يجوز التمكين فضلًا عن عدم وجوب منعه إذا كان المصوِّر غير مكلّف.

نعم، لا يجوز تمكين الجاهل الغافل عن الحكم، فإنّه و إن كان معذوراً لكنّه مكلَّف بالحكم، و ما يقوم به من التصوير حرام في حقّه و إن كان معذوراً.

التنبيه التاسع: لو اشترك اثنان أو أزيد في عمل صورة، سواء اشتغلا بنحو الاشتراك من أوّل الأمر أو قام كلّ بتصوير النصف.

ذهب السيد الطباطبائي إلى الحرمة لصدق المحرّم، و دعوى أنّ الصادر من كلّ منهما ليس إلّا البعض، و قد مرّ أنّ كون بعض الصورة ليس بمحرم، مدفوع بأنّ ذلك فيما لم يكن في ضمن الكل، و إلّا فمع حصول الكلّ يكون كلّ جزء منه محرماً، بناء على كون المحرّم هو نفس العمل المركب.

هذا إذا قلنا بأنّ المحرَّم هو فعل التصوير، و أمّا لو قلنا بأنّ المحرّم إيجاد الصورة يكون فعل كلّ حراماً مقدّمياً.

غير أنّه يمكن أن يقال بأنّ الظاهر من قوله (عليه السلام): «من صوّر أو مثّل» هو كون الفاعل واحداً معيناً، و ذلك مثل قول: «من قال شعراً فله كذا» فلا يترتب الأثر الوارد في الرواية على ما أنشده اثنان.

و يؤيد ذلك أنّ شموله لما إذا صدر الفعل من شخصين يستلزم كون العام

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 403

في «من» استغراقياً و مجموعياً، و هو غير جائز في استعمال واحد؛ فلو

كان العام استغراقياً يجب أن يكون المراد كلّ شخص قام بعمله مستقلًا، و لو أُريد العام المجموعي يجب أن يراد الجماعة القائمة بالفعل، و مع ذلك كلّه فاستظهار الحرمة لا يخلو من قوّة لوجوه:

الأوّل: ما ورد في قصة سليمان من تبرير عمله بأنّه لم يكن تماثيل الرجال و النساء. و من المعلوم أنّ عمل هذه التماثيل لم يكن عملًا فردياً، بل عملًا جماعياً لظهور قوله تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ) ( «1») فلو كان التصوير بالاشتراك جائزاً كان الاعتذار به أولى.

الثاني: قوله (عليه السلام): «و نهى عن تزويق البيوت» ( «2») و من المعلوم أنّ هذه الأعمال قائمة بأكثر من واحد.

الثالث: إلغاء الخصوصية، فإنّ الغاية من النهي هو سدّ باب التشبه باللّه سبحانه في مسألة التصوير أو قلع جذور التعبّد لغيره سبحانه، ففي مثله لا يفرق بين كون الفعل مستنداً إلى واحد أو أكثر.

الرابع: لو كان التصوير بصورة الاشتراك جائزاً، لكان النهي عنه لغواً غالباً، إذ يمكن للمصوِّر القيام بتصوير أكثر الأجزاء و ترك الجزء الآخر لمصوِّر آخر.

______________________________

(1) سبأ: 13.

(2) الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 404

اقتناء الصور المجسَّمة و غيرها

الاقتناء: هو جمع المال و اتّخاذه لنفسه، و المراد هنا: إبقاؤها و المعاملة عليها، فتظهر الحرمة من جماعة.

قال المفيد (قدس سره): و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك حرام و بيعه و ابتياعه حرام. ( «1»)

و قال الشيخ (قدس سره): و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور ... فالتجارة فيها و التصرّف و التكسّب بها حرام محظور. ( «2»)

و قال سلّار

(رحمه الله): فأمّا المحرّم ... و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك من آلات اللعب و القمار و بيعه و ابتياعه. ( «3»)

و قال المحقّق الأردبيلي (قدس سره): بعد ثبوت التحريم، يشكل جواز الإبقاء، لأنّ الظاهر أنّ الغرض من التحريم عدم خلق شي ء يشبه بخلق اللّه و بقائه لا مجرد التصوير، فيحمل ما يدلّ على جواز الإبقاء من الروايات الكثيرة الصحيحة و غيرها على ما يجوز منها. ( «4»)

و قال العاملي (رحمه الله): و يجوز اقتناء ذي الصورة و بيعه و الانتفاع به على كراهية، إذ ليس هو ممّا صنع للحرام حتّى يلزم إتلافه، بل هو من الصنع الحرام. ( «5»)

و قال النراقي (رحمه الله): و هل يحرم إبقاء ما يحرم عمله فتجب إزالته أم لا؟ الظاهر هو الثاني، لا سيما فيما يوجب إزالته الضرر، للأصل، و عدم استلزام حرمة العمل

______________________________

(1) المقنعة: 90.

(2) النهاية: 363.

(3) المراسم: 170.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: 8/ 56، كتاب المتاجر.

(5) مفتاح الكرامة: 4/ 49.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 405

حرمة الإبقاء، و الروايات المطلقة الدالّة على استحباب تغطية التماثيل الواقعة تجاه القبلة. ( «1»)

هذه هي الأقوال، و يقع الكلام في مقامين: تارة في وجوب المحو و عدمه، و أُخرى في جواز الاقتناء.

أمّا الأوّل فقد استدلّ على وجوب المحو بما دلّ على بعث الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) علياً (عليه السلام) لمحو الصور، مثل رواية ابن القداح عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بعثني رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) في هدم القبور و كسر الصور». ( «2»)

و رواية النوفلي، عن السكوني، عن

أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلّا محوتها، و لا قبراً إلّا سوّيته، و لا كلباً إلّا قتلته». ( «3»)

غير أنّ دلالة الروايتين خفية جداً، لأنّ الظاهر أنّ المراد من الصور هو الأصنام المعبودة في الجزيرة العربية أيّام الجاهلية.

و أمّا الثاني- أي اقتناء الصور للّعب و التزيّن بها- فقد استدلّ على الحرمة بوجوه:

1. صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان». ( «4»)

وجه الاستدلال: إنّه إذا تعلّق السؤال بذوات الموجودات يجب أن يكون الفعل المقدّر شيئاً يتأخّر عن الذات كالتقلّب و اللعب و غير ذلك، و لا يصحّ السؤال عن الصناعة لأنّها متقدّمة على الذات.

______________________________

(1) مستند الشيعة: 14/ 110.

(2) الوسائل: 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 7.

(3) المصدر السابق: الحديث: 8.

(4) الوسائل: 3/ 563، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 17.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 406

يلاحظ عليه: أنّه يمنع عن تعلّق السؤال بالتماثيل الموجودة، بل السؤال عنها على الوجه الكلّي، أعمّ من الموجود أو ما سيوجد في عمود الزمان، و عندئذ يصحّ أن يقال: انّ السؤال عن صناعتها كما إذا قيل: سألته عن البيوت في المشاعر، أي بناؤها فيها. هذا، و يقرب كون المقدّر هو الصناعة، أنّ الحكم الشائع فيها هو العمل و الصنع.

أضف إلى ذلك، أنّ السؤال عن الاقتناء فرع العلم بحرمة الصناعة و هو بعد غير محرز حتّى للسائل، و لو سلّمنا كلَّ ذلك فغاية ما يدلّ

عليه هو الكراهة، لقوله (عليه السلام): «لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان» فيكون مفهومه وجود البأس بذوات الأرواح، و البأس أعمّ من الحرمة.

2. رواية «تحف العقول»: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام كلّها، التي يجي ء منها الفساد نظير البرابط و المزامير- إلى أن قال:- و ما يكونه منه و فيه الفساد محضاً و لا يكون منه و فيه شي ء من وجوه الصلاح ... فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه و جميع التقلب».

فإنّ ظاهره أنّ كلّ ما يحرم صنعته،- و منه التصاوير- يجي ء منه الفساد محضاً فيحرم جميع التقلّب فيه بمقتضى ما ذكر في الرواية بعد هذه الفقرة.

و قد أجاب عنه المحقّق الإيرواني (رحمه الله): انّ ظهور الرواية في الحصر بالنسبة إلى الصنائع ذات المنافع عرفاً، و التصوير ليس من ذلك، و لا يعد الاقتناء منفعة للتصوير، فبهذا الاعتبار يخرج التصوير عن المقسم و يسقط الاستدلال عن الاعتبار.

يلاحظ عليه: أنّ للتصوير منافع عرفية كالتزيّن و اللعب، و ليست تلك المنافع بأقلّ من منافع الصلبان و الصنم.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 407

و أجاب عنه الشيخ بعبارة مجملة أوضحها المحقّق الإيرواني بقوله: بأنّ الحصر بالنسبة إلى الصنائع التي لها غايات محرمة كصنعة آلات القمار و اللهو و أشباههما، فمثل هذه الصنائع تحرم إذا انحصرت غاياتها و ما يترتب عليها في الحرام، و هذا لا ينافي وجود صنعة محرمة في ذاتها لا لأجل حرمة غاياتها، فليكن عمل التصوير من ذلك، و حرمته لمناط في ذاته لا لمفسدة في الأفعال المترتبة عليه، و عليه جاز أن يكون نفس التصوير حراماً و اقتناء الصورة حلالًا. ( «1»)

و حاصله: انّ الرواية لا

تدلّ على المقصود إلّا بعد إحراز انحصار الأقسام المتصورة للصناعة في القسمين المذكورين، ضرورة دخول التصوير عند ذلك- بعد حرمته كما هو المفروض- فيما لا يجي ء منه إلّا الفساد المحض- و إلّا لدخل في القسم الأوّل فلا يكون حراماً، و هو خلاف الفرض- و لكنه غير محرز لإمكان تصوير قسم ثالث غيرهما سُكت عنه في هذه الرواية و هو ما يكون عمل الصناعة- بما هو عمل- مبغوضاً و فساداً محضاً و لكن لا يترتب عليها بعد وجودها الفساد المحض، لأنّ المقسم في الرواية هو الصناعة من حيث ترتّب الفساد المحض و عدمه بعد وجودها كما يرشد إليه التأمّل في الأمثلة.

و بهذا التوضيح يعلم عدم ورود ما ذكره السيد الطباطبائي على هذا الجواب حيث قال: «إنّ الحصر الإضافي كاف» إذ ليس محور البحث الصنائع المحرمة على وجه الإطلاق، بل الصنائع المحرمة لأجل حرمة غاياتها لا الصنائع المحرمة بنفسها و بفساد في نفس العمل لا غير.

و الأولى أن يقال: إنّ التصوير أمر و الصورة الحاصلة منه شي ء آخر، فإذا كان التصوير محرّماً، يكون نفس العمل ممّا فيه الفساد محضاً و لا خير فيه، و لا يجوز تعليمه و تعلّمه و أخذ الأُجرة عليه و سائر التقلبات ممّا يرجع إلى نفس العمل، و هذا

______________________________

(1) حاشية المكاسب: 1/ 21.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 408

الحكم غير مربوط بالصورة الحاصلة من نفس العمل، فهاهنا موضوعان، و لذا لا يمكن الاستدلال بحرمة الموضوع الأوّل على حرمة الموضوع الثاني.

و إن أبيت عمّا ذكرنا، فالحقّ أن يقال: انّ مفاد الرواية أنّ كلّ صناعة يجي ء منها الفساد يحرم جميع التقلّب فيها لا انّ كلّ حرام كذلك و لعلّ التصوير من القسم الثاني

و لا يستفاد منه حكم اقتناء الصور.

3. ما اعتمد عليه المحقّق الأردبيلي (قدس سره) في بحث المتاجر حيث قال: إنّ الظاهر أنّ الغرض من التحريم عدم خلق شي ء يشبه بخلق اللّه و بقائه لا مجرّد التصوير، فيحمل ما يدلّ على جواز الإبقاء على ما يجوز منها فهي من أدلّة جواز التصوير في الجملة على البسط و الستر و الحيطان و الثياب، و هي التي تدل الأخبار على جواز إبقائها فيها لا ذات الروح التي لها ظل على حدتها التي هي حرام بالإجماع. ( «1»)

و حاصله: انّ المنهيات على قسمين: قسم له وجود حدوثي و ليس له بقاء، فلا محالة يتعلّق النهي بالحدوث، و قسم يكون له وراء الحدوث، و البقاء، فعندئذ ينتقل الذهن إلى أنّ الحرام هو الوجود المستمر من الحدوث و البقاء، أي الماهية القارة، و لا ينعطف الذهن إلى خصوص الحدوث فقط، و هذا مثل الأمر، فإذا أمر بإيجاد البناء و غرس الأشجار فالمأمور به هو الوجود المستمر لا الحدوث فقط، فإذا نهى عن ماهيّة كعمل الأصنام و الصور و آلات اللهو و القمار، فالمنهي عنه هو الوجود المستمر الأعمّ من الحدوث و البقاء.

و بذلك يظهر أنّ ما أورد عليه المحقّق الإيرواني أجنبي عن مرام المحقّق الأردبيلي حيث قال: إنّ مبغوضية الفعل لا يستدعي مبغوضية ما يتولّد منه، و لذا يحرم الزنا و لا يحرم تربية من تولّد من الزنا، بل يجب حفظه.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 8/ 56، كتاب المتاجر.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 409

و ذلك لأنّ البحث في الوجود المستمر لنفس الفعل لا الثمرة الحاصلة من الفعل كولد الزنا.

و أجاب عن استدلال المحقّق الأردبيلي سيدنا الأُستاذ- دام ظلّه- بقوله:

بأنّ المقام ممّا قامت القرينة على أنّ المحرّم و المبغوض هو هذا المعنى المصدري لا الماهية بوجوده البقائي، و ذلك لأنّ عمدة المستند في المسألة كما تقدّم هي الأخبار المستفيضة المشتملة على الأمر بالنفخ، و الظاهر منها بمناسبة الحكم و الموضوع أنّ الأمر به لأجل تعجيزه عن تتميم ما خلق، و كأنّه يقال له: إذا كنت مصوِّراً فكن نافخاً كما كان اللّه كذلك، فيفهم منها أنّ الممنوع و المبغوض هو التشبّه به تعالى في مصوِّريته، فهذا المعنى المصدري هو المنظور إليه و هو المحظور. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّه لم يدلّ دليل على انحصار علّة التشبّه بالخالق تعالى حتّى يصحّ ما ذكر، بل من الممكن أن تكون العلّة شيئاً آخر أيضاً و هو ما يترتّب عليه من الفساد، أعني: البدع المنكرة من تعظيم الطواغيت و عبادتهم، فعند ذلك ينتقل الذهن من النهي عن الحدوث إلى البقاء أيضاً، و الحقّ أنّ الدليل متين لو لم يدلّ دليل آخر على الجواز.

نعم، لا يصحّ الجزء الأخير من كلام المحقّق الأردبيلي (قدس سره) من الاستدلال بجواز البقاء على جواز الحدوث، إذ من الممكن أن يكون الشي ء بوجوده الحدوثي ممنوعاً لا بوجوده البقائي، فلا يكون جواز البقاء دليلًا على جواز التصوير.

4. انّ عليّاً (عليه السلام) كان يكره الصور في البيوت ( «2»)، و انّ الصادق (عليه السلام) كره الصور في البيوت. ( «3»)

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 189.

(2) الوسائل: 3/ 563، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 14 و 13.

(3) الوسائل: 3/ 563، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 14 و 13.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 410

و الكراهة ظاهرة في الحرمة في مصطلح الأئمّة (عليهم السلام).

يلاحظ عليه: أنّ

تقييد الكراهة بالبيوت يدلّ على أنّها لأجل الصلاة، و إلّا لما صحّ تخصيصها بالبيوت، و هو قرينة على أنّ الكراهة هنا تنزيهية لا تحريمية، و هي ترتفع بإلقاء الثوب و غيره عليها، و لا يمكن الحمل على الحرمة مع إطلاقها الشامل لغير المجسّم أيضاً المجمع على جواز اقتنائه.

5. صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لا بأس بأن تكون التماثيل في البيوت إذا غيرت رءوسها منها و ترك ما سوى ذلك». ( «1»)

و الاستدلال و الجواب عنه بنحو ما سبق.

أدلّة المجوّزين:

وقفت على أدلّة المانعين، فهلم معي لنقرأ أدلّة المجوّزين، فقد استدلّوا بروايات تدلّ على جواز الاقتناء، و لكن بعضها ظاهر في الصور غير المجسّمة، و بعضها الآخر مطلق يعمُّ المجسَّم و غيره.

أمّا الطائفة الأُولى: فتدلّ على جواز اقتناء غير المجسَّم من الصور في الوسائد و الثياب، و هي كثيرة تشتمل على نفس البأس. و السؤال فيها و إن كان عن الصلاة و لكن لو كان الاقتناء محرّماً لكان على الإمام (عليه السلام) التنبيه عليه.

و يبلغ عدد رواياتها قريباً من عشرين:

1. صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «انّه كره أن يصلّي و عليه ثوب فيه تماثيل». ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 3/ 317، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 411

2. صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن الدراهم السود تكون مع الرجل و هو يصلّي مربوطة أو غير مربوطة. فقال: «ما أشتهي أن يصلّي و معه هذه الدراهم التي فيها التماثيل»، ثمّ قال (عليه السلام): «ما

للناس بدّ من حفظ بضائعهم، فإن صلّى و هي معه فلتكن من خلفه، و لا يجعل شيئاً منها بينه و بين القبلة». ( «1»)

3. صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنّه سأله عن الصلاة في الثوب المعلم، فكره ما فيه من التماثيل. ( «2»)

4. و في «الخصال» باسناده، عن علي (عليه السلام) (في حديث الأربعمائة) قال: «لا يسجد الرجل على صورة، و لا على بساط فيه صورة، و يجوز أن تكون الصورة تحت قدميه، أو يطرح عليها ما يواريها، و لا يعقد الرجل الدراهم التي فيها صورة في ثوبه و هو يصلي، و يجوز أن تكون الدراهم في هميان أو في ثوب إذا خاف، و يجعلها في ظهره». ( «3»)

5. صحيحة حماد بن عثمان قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الدراهم السود فيها التماثيل أ يصلّي الرجل و هي معه؟ فقال: «لا بأس بذلك إذا كانت مواراة». ( «4»)

6. صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يصلّي و في ثوبه دراهم فيها تماثيل. فقال: «لا بأس بذلك». ( «5»)

7. رواية سعد بن إسماعيل، عن أبيه قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن

______________________________

(1) المصدر السابق: الحديث: 3.

(2) المصدر السابق: الحديث: 4.

(3) المصدر السابق: الحديث: 5.

(4) الوسائل: 3/ 319، الباب 45 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 8.

(5) المصدر السابق: الحديث: 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 412

المصلّي و البساط يكون عليه تماثيل أ يقوم عليه فيصلّي أم لا؟ فقال: «و اللّه انّي لأكره». و عن رجل دخل على رجل عنده بساط عليه تمثال فقال: أ تجدها هنا مثالًا؟ فقال: لا تجلس

عليه و لا تصلّ عليه. ( «1»)

و الظاهر أنّ الكراهة انّما تعلّقت بخصوص كونها في البيت، فلو كان إبقاؤها محرّماً لما يناسب ذلك التعبير، كما أنّ الظاهر أنّ الكراهة هي بالمعنى المعروف، فلا يبعد أن تكون لأحد الوجهين على سبيل منع الخلو، إمّا لأجل أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، كما ورد في روايات كثيرة، أو لأجل أنّ البيت ربّما يصلّى فيه، و يكره وجود الصورة في بيت يصلّى فيه مطلقاً أو إذا كانت طرف القبلة.

فهذه الروايات ظاهرة في جواز اقتناء غير المجسَّم من الصور.

الطائفة الثانية: و هي تدلّ على جواز الاقتناء مطلقاً، أو في خصوص المجسَّم، و يكفي في ذلك ما رواه في «قرب الاسناد»: و سألته عن رجل كان في بيته تماثيل أو في ستر، فعطف «ستر» على «تماثيل» دليل على أنّ المراد هو المجسّم.

و منه أيضاً: و سألته عن البيت قد صوّر فيه طير أو سمكة أو شبهه يلعب به أهل البيت، هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: «لا، حتّى يقطع رأسه أو يفسده، و إن كان قد صلّى فليس عليه إعادة». ( «2»)

و يدلّ على ذلك أيضاً الروايات التي تدلّ على جواز الصلاة في البيت مع قطع رءوسها حيث إنّ ظاهرها أنّ القطع لأجل رفع الكراهة بحيث لو أمكن الصلاة في مكان آخر لما وجب القطع، و هذه الروايات عبارة عمّا رواه في «قرب الاسناد» قال: و سألته عن الدار و الحجرة فيها التماثيل أ يصلّى فيها؟ قال: «لا

______________________________

(1) المصدر السابق: الحديث 14. و لاحظ الحديث: 7 و 10 و 11 و 12 و 13 و 15 و 16 و 17 و 19 و 23 و 24 و 26 من

هذا الباب.

(2) الوسائل: 3/ 321، الباب 45 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 18.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 413

تصلّ فيها و شي ء منها مستقبلك، إلّا أن لا تجد بدّاً فتقطع رءوسها و إلّا فلا تصل». ( «1»)

و رواية عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن الدراهم السود تكون مع الرجل و هو يصلّي مربوطة أو غير مربوطة. فقال: «ما أشتهي أن يصلّي و معه هذه الدراهم التي فيها التماثيل»، ثمّ قال (عليه السلام): «ما للناس بُدّ من حفظ بضائعهم، فإن صلّى و هي معه فلتكن من خلفه، و لا يجعل شيئاً منها بينه و بين القبلة». ( «2»)

و رواية «الخصال»: عن علي (عليه السلام) قال: «لا يسجد الرجل على صورة و لا على بساط فيه صورة». ( «3»)

و مثلها أيضاً صحيحة محمد بن مسلم، و هي التي رواها العلاء عن محمد بن مسلم باختلاف يسير فراجع. ( «4»)

و الظاهر وحدة الروايتين لوحدة الراوي عن الإمام، و من البعيد أن يسأل محمّد بن مسلم مسألة واحدة مرّتين.

غير أنّ سيدنا الأُستاذ- دام ظلّه- جعل الرواية الثانية ناظرة إلى الصورة، و الرواية الأُولى ناظرة إلى الأعم منها و من المجسّم.

و ليس ذلك إلّا لأجل لفظ «عن التماثيل في البيت»، و الظاهر عدم الفرق بين التعبيرين، و الكلّ تفنّن في العبارة.

و الظاهر شمول الروايتين- على فرض تعدّدهما- للصورة و المجسَّم كما لا يخفى.

______________________________

(1) المصدر السابق: الحديث: 21.

(2) الوسائل: 3/ 317، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، الحديث: 3.

(3) المصدر السابق: الحديث: 5.

(4) المصدر السابق: الحديث: 1 و 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 414

فإن قلت: إنّ قوله «أو تحت رجليك» دليل

على أنّ الصورة هي غير المجسَّم.

قلت: لما كانت الصور مختلفة بين المجسم و غيره فلا مانع من إرجاع قوله: «أو تحت رجليك» إلى غير المجسَّم، و إرجاع قوله: «فألق عليها ثوباً» إلى مطلق الصورة الأعم من المجسَّم و غيره.

فإن قلت: إنّ الرواية في مقام بيان حكم آخر و هو الصلاة.

قلت: نعم، و لو كان البقاء غير جائز لصرح الإمام (عليه السلام) في بعض هذه الروايات بحرمته، على أنّ قوله (عليه السلام): «لا بأس إذا كانت عن يمينك» بمعنى لا بأس بوجودها إذا كانت كذلك.

ثمّ إنّه يدلّ على الجواز مطلقاً روايتان:

1. رواية المثنّى، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «انّ علياً (عليه السلام) كره الصور في البيوت». ( «1»)

2. رواية حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام): «انّ علياً (عليه السلام) كان يكره الصورة في البيوت». ( «2»)

*** و أمّا الكلام في بيعها: فلو قلنا بجواز الاقتناء يجوز بيعها للفائدة المحلّلة، و أمّا ما في رواية «تحف العقول» فقد عرفت عدم دلالتها على الحرمة، فإنّ الموضوع لعامة حرمة التقلّبات، هو ما يكون فيه الفساد محضاً و المفروض أنّ التصوير ليس كذلك، لأنّ فيه جهة صلاح و هو الاقتناء.

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 561، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث: 3.

(2) المصدر السابق: 563، الحديث: 14.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 415

5 التطْفيف

اشارة

فسره في «اللسان»: تارة بالبخس في الكيل و الوزن و نقص المكيال.

و أُخرى: بأنّه ما إذا أعطاه أقلّ ممّا أخذ منه. قال: و لا يسمّى بالشي ء اليسير مطفّفاً على إطلاق الصفة حتّى يصير إلى حال يتفاحش. ( «1»)

أقول: و الظاهر خلافه، لأنّه مأخوذ من الطفيف و هو الشي ء القليل، و لا يكاد يسرق

بالمكيال و الميزان إلّا الشي ء الخفيف الطفيف.

و على كلّ فهو حرام و إن كان مرة. و إنّما يعدّ من المكاسب المحرمة إذا نصب نفسه وزّاناً أو كيّالًا و يطفف في وزنه وكيله، و على التفسير الأوّل يلحق العدّ و الذرع به بالمناط، و على الثاني لصاحب اللسان يدخل فيه موضوعاً، و على كلّ تقدير يقع الكلام في مقامات ثلاثة:

[المقام] الأوّل: هل التطفيف بنفسه حرام أو لا؟
اشارة

الظاهر أنّه من ضروريات الفقه، و قد ورد النصُّ عليه بعنوان التطفيف مرّة، و البخس ثانياً، و النقص ثالثاً، و الإخسار رابعاً.

______________________________

(1) لسان العرب: 9/ 222، مادة «طفف».

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 416

أمّا في الكتاب:

قال سبحانه: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَى النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ). ( «1»)

و قال سبحانه: (وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلٰاحِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ( «2»)

و قال سبحانه: (وَ يٰا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). ( «3»)

و قال سبحانه: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لٰا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ). ( «4»)

و أمّا في السنّة:

1. رواية أبان، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) خمس إن أدركتموهنّ فتعوّذوا باللّه منهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتّى يعلنوها، إلّا ظهر فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا؛ و لم ينقصوا المكيال و الميزان، إلّا أُخذوا بالسنين و شدّة المئونة و جور السلطان». ( «5»)

2. ما رواه أبو حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، و إذا طفف الميزان و المكيال أخذهم اللّه بالسنين و النقص». ( «6»)

______________________________

(1) المطففين: 1- 3.

(2) الأعراف: 85.

(3) هود: 85.

(4) الشعراء: 181.

(5) الوسائل: 11/ 512 و 513، الباب 41 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 1 و 2.

(6) الوسائل: 11/ 512 و 513، الباب 41 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 1 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 417

و أمّا الإجماع: فقد اتّفقت على حرمته كلمة الفقهاء، و إن كان مستند الإجماع هو الأدلّة السمعية.

قال في «مفتاح الكرامة»: التطفيف حرام في الكيل و الوزن

بالنصّ و الإجماع كما في «التذكرة»، و يدلّ عليه العقل و النقل و لا يحتاج إلى الدليل، و كذلك الاخسار في العدّ و الذرع كما في «فقه الراوندي». ( «1»)

و أمّا العقل: فلا شكّ أنّ التطفيف ظلم و تعدّ على الناس في أموالهم.

و العجب من المحقّق الإيرواني حيث قال: إنّ الظاهر، بل المقطوع به انّ التطفيف بنفسه ليس عنواناً من العناوين المحرّمة، أعني: الكيل بالمكيال الناقص، و كذا البخس في الميزان مع وفاء الحقّ كاملًا، كما إذا كان ذلك لنفسه، أو تمّم حقّ المشتري من الخارج، أو أراد المقاصّة منه أو نحو ذلك، كما أنّ إعطاء الناقص أيضاً ليس حراماً، بل قد يتّصف بالوجوب، و إنّما المحرّم عدم دفع بقية الحقّ إذا لم يكن الحقّ مؤجّلًا، و إلّا لم يكن ذلك أيضاً بمحرّم، بل يكون التعجيل فيما أعطاه تفضّلًا و إحساناً.

نعم، إن أظهر- و لو بفعله- أنّ ما دفعه تمام الحقّ مع أنّه ليس بتمام الحقّ كان محرّماً من حيث الكذب، و إن لم يظهر، لم يحرم من هذا الحيث أيضاً. ( «2»)

فلا يخفى أنّ ما ذكره خلاف النصوص المذكورة، فانّ المتبادر من الدعوة على المطفف بالويل أنّ التطفيف و البخس و الإخسار أُمور محرّمة بنفسها، و أمّا عنوان الكذب أو عدم دفع بقية الحقّ فلا يرتبط بنفس التطفيف، فلو تمّم حقّ المشتري من الخارج فإنّما يؤثر في العنوان الثالث، كما أنّه لو أراد المقاصّة

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 91.

(2) تعليقة المحقّق الإيرواني: 22.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 418

و انحصرت حيازة الحقّ الثابت على المشتري على التطفيف عليها فيجوز التطفيف لأجل التزاحم بين الحقّين و أهمية الثاني.

المقام الثاني: إذا آجر نفسه للتوزين و أخسر

إذا آجر نفسه للتوزين و نحوه

لكنّه أخسر في مقام العمل فالإجارة صحيحة، لكنّه لا يستحقّ الأُجرة، لعدم الوفاء بمقتضى عقد الإجارة.

نعم، لو آجر نفسه مقيّداً بذلك تبطل الإجارة، لأنّ المبغوضية الذاتية لا تجتمع مع الإمضاء.

المقام الثالث: في صحّة المعاملة المطفف فيها و بطلانها

إذا باع كلّياً ثمّ دفع في مقام التسليم أقلّ ممّا باع، يصحّ إجماعاً، و يجب الإكمال كما هو واضح، لأنّ المدفوع غير ما بيع.

و أمّا إذا باع العين الخارجية في مقابل ثمن معين فهو على صور:

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 418

1. أن يبيع العين الخارجية معلّقاً إنشاءه بكونه «مائة من» فهو باطل، سواء كان كذلك أم لا، لرجوعه إلى التعليق في الإنشاء و هو باطل.

2. أن يبيع صبرة خارجية بشرط كونها مائة مَن، و يقول: بعتك هذه الصبرة بأنّها مائة مَنّ، و كان النظر إلى المعنون و العنوان معاً، ثمّ بان الخلاف صح، و للمشتري خيار تخلّف الشرط، و يترتب عليه ما يترتب على تخلّفه.

3. أن يشتري العين الخارجية بما أنّها مائة مَنْ، بأن يكون المبيع في الحقيقة هو عنوان مائة مَن من الحنطة، و الإشارة إلى الخارج من باب انّه أحد المصاديق، فهو أشبه بالبيع الكلّي و يصحّ البيع و يجب إتمامه إلى أن يصير مائة مَن.

4. أن يشتري الموجود الخارجي كائناً ما كان، غير أنّ تقديره بمائة مَن لأجل

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 419

إخراجه عن كونه من قبيل البيع المجهول، ففي مثله يمكن أن يقال: يصح في المقدار الموجود، و يبطل في غيره، و يكون نظير بيع ما يملك و ما لا يملك.

و الفرق بين الصورة

الثانية و الرابعة، أنّ النظر في الثانية إلى المعنون و العنوان معاً فهو يوجّه نظره إلى المشار إليه و العنوان معاً، و بما أنّ عنوان مائة مَن ليس من العناوين المقوّمة يكون تخلّفه من قبيل تخلّف الشرط، و هذا بخلاف الصورة الرابعة فإنّ النظر فيها إلى الخارج، غير أنّه لأجل الفرار عن بيع المجهول أو لأجل تعيين مقدار الثمن يذكر العنوان و يقول إنّه مائة مَن، ففي مثله يصحّ في الموجود و يبطل في الباقي.

هذا إذا كان الثمن نقداً، أو كان جنساً مثل المعوض و لم يكونا من جنس واحد، و أمّا إذا وقعت المعاوضة بين المتجانسين حقيقة أو تعبداً لحكم الشارع- و إن كانا متمايزين- ففي الصورة الأُولى- أعني: ما إذا كان الثمن كلياً- يجب الإكمال.

إنّما الكلام فيما لو كان الثمن مشخصاً في الخارج، فلو كان النظر إلى المعنون و العنوان معاً، و كان أحد العوضين- حسب الفرض- أقلّ من الآخر بطلت المعاملة لكونها معاملة ربوية، و لا تصل النوبة إلى صحتها بضم خيار الشرط.

كما أنّه إذا كان النظر إلى العنوان دون المعنون، و كانت الإشارة إلى الخارج من باب كونه أحد المصاديق فهو أشبه بمعاوضة الحنطة المشخّصة، فيصحّ و يجب عليه الإتمام.

و أمّا إذا انعكس و كانت العناية إلى الخارج، و كان ذكر المقدار لأجل الخروج عن المعاملة بالمجهول، أو تعيين مقدار الثمن، كأن يقول: بعتك هذا الموجود بشرط كونه منّاً، ففيه وجهان:

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 420

الأوّل: الصحّة مطلقاً، و انتقال العوض الكامل إلى البائع، غاية الأمر يكون المقدار الناقص في ذمة البائع.

و هذا الوجه ليس بشي ء، لأنّ المبيع ليس أمراً كلّياً حتّى يكون الناقص في ذمة البائع، بل أمر

موجود في الخارج و هو لا يزيد و لا ينقص عمّا هو عليه.

الثاني: انّ الشروط على قسمين: قسم منها لا يقسّط عليها الثمن كأوصاف الكمال مطلقاً، أو الأوصاف المقوّمة على المشهور؛ و قسم يكون تخلّف الشروط فيها راجعاً إلى تخلّف المقدار و الكمية كما في المقام، و ليس حالُه حالَ شرائط الأوصاف، فانّ الثمن فيها لا يقابلها في مقام الإنشاء، بل يقابل ذات العوض، و هذا بخلاف الإجزاء فانّها مقابلة بالعوض في الإنشاء. و إن كانت داخلة في البيع بعنوان الشرط، فلا فرق بين أن يقول: بعتك هذا المَن من الحنطة و أن يقول: بعتك هذا الموجود بشرط كونه مَنّاً، في أنّ تمام الثمن في مقابل المن الكامل، فإذا كان ناقصاً عن هذا المقدار يكون من قبيل تخلّف الجزء في كون المعاملة باطلة بالنسبة إلى المقدار المتخلّف، و يكون ما يقابله باقياً في ملك المشتري، ففي البيع الربوي يكون صحيحاً بالنسبة إلى المقدار الموجود بمقدار ما يقابله من العوض الآخر فلا يلزم الربا.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 421

6 التنجيم

اشارة

قد عرّف صاحب «جامع المقاصد» التنجيم بقوله: الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكية و الاتصالات الكوكبية.

و لكن الظاهر أنّه لا دخل للإخبار في التنجيم، بل هو عبارة عن نفس استخراج أحكام النجوم، و أمّا الإخبار عنه فهو موضوع آخر.

و إن شئت قلت: التنجيم هو استنباط أحكام النجوم من أُصولها و قواعدها، و أمّا الاعتقاد أو الإخبار فخارج عن مصبّ البحث و مورد الروايات.

و أمّا الأقوال:

فقد قال العلّامة في «القواعد»، بالتحريم، و أقرّه عليه المحقّق الثاني في «جامع المقاصد» و أضاف قوله: مع اعتقاد تأثيرها بالاستقلال، أو أنّ لها مدخلًا فيه. ( «1»)

و قال في

«مفتاح الكرامة»: اختلف العلماء على قديم الدهر في هذه المسألة اختلافاً شديداً: ذهب السيد علي بن طاوس إلى أنّ التنجيم من العلوم المباحة، و انّ للنجوم علامات و دلالات على الحادثات، لكن يجوز للقادر الحكيم أنّ يغيّرها

______________________________

(1) جامع المقاصد: 4/ 31، أقسام المتاجر.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 422

بالبرّ و الصدقة و الدعاء و غير ذلك من الأسباب، و جوّز تعليم علم النجوم و تعلّمه و النظر فيه و العمل به إذا لم يعتقد أنها مؤثرة، و حمل أخبار النهي و الذم على ما إذا اعتقد ذلك، و ذكر لتأييد هذا العلم أسماء جماعة من الشيعة كانوا عارفين به، و هم عبارة عن:

عبد الرحمن بن سيابة، و الحسن بن موسى النوبختي، و أحمد بن محمد بن خالد البرقي، و محمد بن أبي عمير، و أبو خالد السجستاني، و حسن بن أحمد بن محمد العاصمي، و الشيخ إبراهيم النوبختي، و موسى بن الحسن بن عباس بن نوبخت، و الفضل بن أبي سهل بن نوبخت، و محمد بن مسعود العيّاشي، و علي بن الحسين المسعودي، و أبي القاسم بن نافع الشيعي، إلى غير ذلك من الشخصيات البارزة الشيعية الذين ذكر في أحوالهم في كتب الرجال و التراجم أنّهم أصحاب الكتب النجومية، و ذكر ابن طاوس عدة كثيرة من علماء الشيعة الذين كان لهم إلمام بالنجوم، حتى أنّ الفيض (قدس سره) صاحب «الوافي» صحّح نسبة البداء إلى اللّه تعالى من هذا الطريق.

و هناك طائفة ينكرون النجوم أشدّ الإنكار، منهم: السيد المرتضى في «الدرر و الغرر»، و في جواب «المسائل السلارية» فقد أطال في الكلام و التشنيع عليهم، و ممّن أنكرها الشيخ المفيد في «أوائل المقالات»، و

الشيخ محمد بن الحسين الكندي، و الشيخ أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي في كتاب «كنز الفوائد»، و الشيخ محمود سديد الدين الحمصي، و الشيخ إبراهيم بن نوبخت في كتاب «الياقوت» فانّه شنّع عليهم أيضاً. ( «1»)

و قال في «الدروس»: و يحرم اعتقاد تأثير النجوم مستقلة أو بالشركة، أمّا لو

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 74- 76.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 423

أخبر بجريان عادة اللّه أن يفعل كذا عند كذا لم يحرم، و إن كره، على أنّ العادة فيها لا تطرد إلّا فيما قلَّ.

و أمّا علم النجوم: فقد حرّمه بعض الأصحاب، و لعلّه لما فيه من التعرض للمحظور من اعتقاد التّأثير، أو لأنّ أحكامه تخمينية.

و أمّا علم هيئة الأفلاك فليس حراماً، لما فيه من الاطّلاع على حكم اللّه و عظم قدرته. ( «1»)

و قال الشيخ بهاء الدين: ما يدّعيه المنجّمون من ارتباط بعض الحوادث السفلية بالأجرام العلوية، إنْ زعموا أنّ تلك الأجرام هي العلّة المؤثرة في تلك الحوادث بالاستقلال أو أنّها شريكة فهذا لا يحل للمسلم اعتقاده، و علم النجوم المبتني على هذا كفر، و إن قالوا إنّ اتصالات تلك الأجرام و ما يعرض لها من الأوضاع علامات على بعض حوادث هذا العالم، كما أنّ حركات النبض و اختلاف أوضاعه علامات يستدلّ بها الطبيب، فهذا لا مانع و لا حرج في اعتقاده. ( «2»)

و ما ورد من النهي عن تعلّم النجوم يُحمل على الأوّل مثل:

1. ما رواه عبد الرحمن بن سيابة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّ الناس يقولون: النجوم لا يحل النظر فيها و هي تعجبني، فإنّ كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شي ء يضرّ بديني، و ان كانت لا

تضرّ بديني فو اللّه إنّي لأشتهيها و اشتهي النظر فيها، فقال: «ليس كما يقولون لا تضر بدينك»، ثمّ قال: «إنّكم تنظرون في شي ء منها، كثيره لا يدرك و قليله لا ينتفع به». ( «3»)

2. و ما رواه أحمد بن عمر الحلبي، عن حماد الأزدي، عن هشام الخفاف قال:

______________________________

(1) الدروس: 3/ 165.

(2) بحار الأنوار: 55/ 291- 292.

(3) الوسائل: 12/ 101، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 424

قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام): «كيف بصرك بالنجوم؟» قال: قلت: ما خلفت بالعراق أبصر بالنجوم مني. قال: «كيف دوران الفلك عندكم؟»- إلى أن قال (عليه السلام)-: «ما بال العسكرين يلتقيان في هذا حاسب و في هذا حاسب، فيحسب هذا لصاحبه بالظفر، ثمّ يلتقيان فيهزم أحدهما الآخر، فأين كانت النجوم؟» قال: قلت: لا و اللّه لا أعلم ذلك، قال: فقال: «صدقت إنّ أصل الحساب حق، و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم». ( «1»)

3. رواية معلى بن خنيس قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن النجوم أحق هي؟ فقال: «نعم إنّ اللّه بعث المشتري إلى الأرض في صورة رجل فأخذ رجلًا من العجم فعلمه- إلى أن قال (عليه السلام)-: ثمّ أخذ رجلًا من الهند فعلمه». ( «2»)

4. ما رواه محمد بن بسام قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «قوم يقولون: النجوم أصح من الرؤيا، و ذلك هو، كانت صحيحة حين لم تردّ الشمس على يوشع ابن نون و على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما ردّ اللّه عز و جل الشمس عليهما ضلّ فيها علماء النجوم، فمنهم مصيب و مخطئ». ( «3») و ما روي

من صحة علم النجوم و جواز تعلّمه يحمل على الثاني.

هذه هي الأقوال و أُولئك أصحابها.

غير أنّ تبيين الحق يحتاج إلى البحث في مقامات:

الأوّل: حكم الاعتقاد بالنجوم.

الثاني: حكم الإخبار عن الحوادث الأرضية بالنجوم.

الثالث: حكم تعليمها و تعلّمها.

و إليك دراسة الكلّ واحداً بعد الآخر.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 102، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3.

(2) الوسائل: 12/ 102، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3.

(3) الوسائل: 8/ 271، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 425

المقام الأوّل حكم الاعتقاد بالنجوم

إنّ الاعتقاد بالنجوم يتصوّر على وجوه:

1. إنّ الأفلاك و ما فيها من النجوم حيّة مؤثرة بذواتها بالاستقلال.

2. إنّها حيّة مؤثرة بذواتها بالشركة.

3. إنّها مؤثرة بكيفيتها و خاصتها.

4. إنّها مؤثرة بحركاتها و أوضاعها.

5. ان يكون استناد الأفعال إليها، بمعنى أنّ اللّه تعالى أجرى عادته أنّها إذا كانت على شكل مخصوص أو وضع مخصوص يفعل ما ينسب إليها، و يكون ربط المسببات بها كربط مسببات الأدوية و الأغذية بها مجازاً باعتبار الربط العادي لا الربط العقلي الحقيقي. ( «1»)

6. أن يكون ربط الحركات بالحوادث من قبيل ربط الكاشف بالمكشوف، و هو الذي ذكره الشيخ بعنوان القسم الرابع.

فلنبيّن حكم أصحاب هذه العقائد أوّلًا، ثمّ نبيّن صحّتها و بطلانها ثانياً.

______________________________

(1) هذه التعابير تناسب مذاق الأشاعرة في نفي العلّية الطبيعية عن الأُمور المادية، و الكلّ من باب جريان عادة اللّه على خلق المسببات بعد الأسباب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 426

و أمّا أحكام أصحاب هذه العقائد فنقول: إنّ الحكم بكفر أصحابها يتوقّف على استلزام إنكار وجوده سبحانه، أو إنكار توحيده الذاتي الذي معناه أنّه لا شريك له، أو إنكار توحيد خالقيته

و أنّه لا خالق سواه، أو إنكار توحيد تدبيره و ربوبيته، أو إنكار رسالة نبيّه، أو إنكار واحد من الضروريات الذي يؤول إنكاره إلى إنكار الرسالة بحيث تكون هناك ملازمة بين الإنكارين.

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا الاعتقاد بحياة الكواكب و انّها فواعل مختارة، فقد قال العلّامة المجلسي: «إنّ القول بأنّها علّة فاعلية بالإرادة و الاختيار و إنّ توقف تأثيرها على شرائط أُخر كفر». لكن الظاهر: أنّ التكفير غلو في القول، فالقائل بها مخطئ لا كافر، فإذا قال القائل: إنّ الأجرام السماوية كلّها أحياء، و أنّ للسماء نفوساً تطبع فيها صور الحوادث، فقد أتى برأي غريب و قول كاذب، و لا يكفر صاحبه.

فإن قلت: إنّ الاعتقاد بحياتها و فاعليتها بالإرادة و الاختيار ينافي القول بأنّها فواعل بالتسخير كما هو الظاهر من قوله سبحانه: (وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ حَتّٰى عٰادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) ( «1»)، و قوله سبحانه: (وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ) ( «2») إلى غير ذلك من الآيات.

قلت: ما ذكرته و إن كان حقّاً لكن ليس كل عقيدة تخالف القرآن كفراً. نعم إذا اطّلع المعتقد على مخالفتها للقرآن و أصرَّ على صحة اعتقاده، فهو يلازم نفي الرسالة.

و الحاصل: إنّ المخالفة انّما توجب الكفر إذا كان هناك ملازمة بينه و بين نفي الرسالة ما جاء به محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)، عند المسلمين أو عند القائل- كما هو الأقوى-

______________________________

(1) يس: 39.

(2) إبراهيم: 33.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 427

و هذا يتوقّف على أن تكون المخالفة و المباينة على حد يعرفه جُلّ المسلمين. و ليس سلب الحياة عنها أو كونها فاعلًا بالتسخير بهذه المنزلة، و كم فرق بين ضرورة الدين و ضرورة الفقه،

فإنكار الأوّل يوجب الارتداد دون الثاني، فمن قال بجواز وطء الحائض فقد أفتى على خلاف ضرورة الفقه و خلاف ما جاء به القرآن، و لكن ليس القول بجواز إتيانها في ذلك الوقت على حد يوجب نفي الرسالة و إنكار كون القرآن وحياً إلهيّاً.

و بذلك يظهر النظر فيما أفاده صاحب «مصباح الفقاهة»- دام ظله- في هذا المقام حيث قال: إنّ الظاهر من الآيات و الروايات أنّ حركة الأفلاك انما هي حركة قسرية و بمباشرة الملائكة فالاعتقاد على خلافه مخالف للشرع و تكذيب النبي الصادق في إخباره (عليه السلام)، فيكون كفراً. ( «1»)

و إن شئت قلت: إنّ دلالة القرآن على قسرية حركاتها ليست بأوضح من دلالة القرآن على حلّية المتعة، مع أنّ الثاني من ضروريات المذهب فلا يعدّ منكره كافراً. هذا كلّه حول القول بحياتها.

أما الاعتقاد بتأثيرها فهلم معي نحاسبه على وجوهه الستة الماضية:

1. كونها مؤثرة بذواتها بالاستقلال، و انّ الحوادث السفلية معاليلها، فلا أظن أحداً من المنجمين يقول بذلك.

نعم كان في القرون الغابرة جماعة تدعى بالدهرية و كانوا ينسبون الحياة و الموت إلى الدهر، و يقولون كما حكى سبحانه عنهم: (وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلَّا الدَّهْرُ وَ مٰا لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلّٰا يَظُنُّونَ) ( «2»). و لم يعلم أنّ القائلين بمضمون الآية هم المنجمون، فانّ القول باستقلالهم في التأثير ناشئ عن القول بوجوب وجودهم

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 248.

(2) الجاثية: 24.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 428

و غنائهم عن الخالق، و هو بلا شك كفر، سواء أقرّوا مع ذلك بوجوده سبحانه أم لا.

و إن أرادوا من مؤثريتها استقلالًا تفويض تدبير العوالم السفلية إليها من جانبه سبحانه مع كونها مخلوقة للّه سبحانه، فهذا القول

يخالف توحيد ربوبيته و تدبيره، و قد كان المنجمون في عهد إبراهيم (عليه السلام) قائلين بربوبية النيرين أو بعض الكواكب و انّها مؤثرة- على نحو التفويض- في العوالم السفلية، و يظهر ذلك من مناظرة الإمام الصادق (عليه السلام) مع الزنديق حيث سأل الزنديق أبا عبد اللّه (عليه السلام) و قال: ما تقول في من يزعم أنّ هذا التدبير الذي يظهر في هذا العالم تدبير النجوم السبعة؟ فقال (عليه السلام): «يحتاج إلى دليل أنّ هذا العالم الأكبر و العالم الأصغر من تدبير النجوم التي تسبح في الفلك و تدور حيث ما دارت».

هذا كلّه لو قلنا بتأثير ذواتها استقلالًا، سواء أ كانت على نحو التفويض أم لا.

2. و أمّا القول بتأثيرها بالشركة: فإن كان المراد تأثيرها بشركة العقول القاهرة، فيأتي فيه ما ذكرناه في صورة كونها فاعلة بالاستقلال، لأنّ الكواكب مع شركتها لا تخلو إمّا أن تكون موجدة للحوادث فينا في توحيد خالقيته، أو مدبرة لها فينا في توحيد ربوبيته.

و إن أرادوا من التأثير بالشركة أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها و اللّه سبحانه هو المؤثر الأعظم و أنّها بمنزلة الآلة، سواء أ كانت حيّة و فاعلة بالاختيار أم غير حية، فهذا قول خاطئ، إذ لا شك حسب الشرع أنّه لا تصح نسبة الخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة إلّا إليه سبحانه و إلى بعض ملائكته- كما في مورد الإماتة- لا إلى غيره من الأجرام و لا الكواكب و الأوضاع الفلكية.

و الحاصل: انّ القول بتأثير النجوم تأثيراً في طول قدرته سبحانه، ليس ممّا

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 429

يستلزم الكفر، إذا قيل بأنّها مدبرة بأمره، مجرية لحكمه، و مظاهر لقضائه و قدره، لعدم استلزام هذا

القول إنكار وجوده تعالى، و لا إنكار توحيد ذاته و لا خالقيته و لا ربوبيته و إن كان نفس القول باطلًا.

3. لو قلنا بأنّها مؤثرة بكيفيتها و خاصتها، فقد منع السيّد المرتضى عنه أيضاً حيث قال في «أماليه»: و إنْ كان تأثير الكواكب مستحيلًا فما المانع من أن تكون التأثيرات من فعل اللّه تعالى بمجرى العادة عند طلوع هذه الكواكب و انتقالها؟. ( «1»)

و لكنّه في غير محله، إذ لا يخفى ما للشمس و القمر من تأثيرهما في عالم الحياة، و لا يقصر تأثيرهما فيها عن تأثير الماء في عالم النبات، و قد صرح القرآن بتأثيره فقال: (وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ*). ( «2»)

4. القول بتأثير أوضاع الكواكب من التقارن و التباعد و الاتّصال و التربيع و الاختفاء و غيرها من الحالات بإذن من اللّه سبحانه، فهذا قول بلا دليل و لا يستلزم الكفر إذا نزّلت منزلة العلل الطبيعية التي تفعل بإذنه سبحانه.

و بذلك يظهر حال قول من جعلها من قبيل العلل العادية أو الكواشف، إذ ليس فيها شي ء يصادم العقائد الدينية، بل بعضها تؤيده التجربة و الروايات. هذا كلّه في الاعتقاد بالتنجيم.

***

______________________________

(1) أمالي المرتضى: 2/ 384.

(2) البقرة: 42.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 430

المقام الثاني الإخبار عن الحوادث الأرضية بالتنجيم

فنقول: الإخبار عن الحوادث الأرضيّة على أقسام:

الأوّل: الإخبار عن الأوضاع الفلكية المبتنية على سير الكواكب كالخسوف الناشئ من حيلولة الأرض بين النيرين، و الكسوف الناشئ عن حيلولة القمر، و غير ذلك. و لكنّه خارج عن محل البحث لما عرفت أنّ التنجيم هو معرفة أثر الكواكب في الحوادث الأرضية، أو ارتباط بعض الحوادث السفلية بالأجرام العلوية، و ما ذكر داخل في علم الهيئة، و

هو مبتن على المحاسبات، و مثله استخراج سائر الأوضاع الفلكية، ككون القمر في برج الحمل، فيستفاد من ذلك في المحاكم الشرعية لتعيين حلول الديون و غيرها.

الثاني: جعل الأوضاع و الاتصالات الكوكبية و الحركات أَمارات لحوادث في الأرض، فللكواكب أوضاع من القرب و البعد و المقابلة و الاقتران، فإذا حصل من التجربة أنّ الوضع المخصوص أمارة لحدوث الحادث الفلاني بإرادة اللّه سبحانه، فليس في ذلك الحكم أيُّ إشكال و مخالفة للقواعد الشرعية، انّما الكلام في كون

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 431

الأوضاع أمارات، فهل هي كذلك مائة بالمائة أو قواعد ظنية و تخمينية.

و على كل تقدير: فالاستدلال بها كاستدلال الطبيب بحركات النبض و اختلاف ضربانه على سقم المزاج، و صحته، كما يستدل ببعض الأمارات في البدن على كونه معرضاً لعروض بعض العوارض في المستقبل.

و ربّما يحتمل كون هذه الأُصول الأمارية مأخوذة من الوحي، و لعل ما ورد ( «1») من صحة علم النجوم محمولة على هذه الصورة، و إلى ذلك ينظر كلام السيد ابن طاوس حيث ذكر أنّ للنجوم علامات و دلالات على الحادثات، لكن يجوز للقادر الحكيم تعالى أنْ يغيرها بالبر و الصدقة و الدعاء و غير ذلك من الأسباب، و جوّز تعلّم علم النجوم و النظر فيه و العمل به إذا لم يعتقد أنّها مؤثرة، و حمل أخبار النهي على ما إذا اعتقد أنّها كذلك، ثمّ أنكر على علم الهدى (قدس سره) تحريم ذلك؛ و مثل ذلك ما نقل عن العلّامة و شيخنا بهاء الدين العاملي و قد نقل كلماتهما الشيخ الأعظم (رحمه الله) في مكاسبه.

الثالث: الإخبار عن الحادثات و الحكم بها مستنداً إلى تأثير الاتّصالات المذكورة في الحوادث الأرضية، فيظهر من

الروايات حرمته، و إليك ما يدل على ذلك:

1. ما رواه يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قوله تعالى: (وَ مٰا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّٰهِ إِلّٰا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ) ( «2»)، قال: «كانوا يقولون يمطر نوء كذا، و نوء كذا لا يُمطر، و منها أنّهم كانوا يأتون العرفاء فيصدقونهم بما يقولون». ( «3»)

2. و ما رواه الصدوق في «الأمالي»، عن عبد اللّه بن عوف بن الأحمر قال: لما

______________________________

(1) قد أوردنا تلك الروايات فيما سبق، فلاحظ.

(2) يوسف: 106.

(3) الوسائل: 8/ 271، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 432

أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) المسير إلى أهل «النهروان» أتاه منجم فقال له: يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة و سر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): و لم؟ قال: لأنّك إنْ سرت في هذه الساعة أصابك و أصاب أصحابك أذى وضر شديد، و إنّ سرت في الساعة التي أمرتك ظفرت و ظهرت و أصبت كلّما طلبت. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تدري ما في بطن هذه الدابة أذكر أم أُنثى؟» قال: إنْ حسبت علمت. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من صدّقك على هذا القول فقد كذب القرآن (إِنَّ اللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي الْأَرْحٰامِ وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰا ذٰا تَكْسِبُ غَداً وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ( «1») ما كان محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) يدّعي ما ادّعيت، أ تزعم أنّك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء، و

الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؟! من صدقك بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة باللّه في ذلك الوجه، و أحوج إلى الرغبة إليك في دفع المكروه عنه، و ينبغي أن يوليك الحمد، دون ربّه عز و جل، فمن آمن لك بهذا فقد اتّخذك من دون اللّه ضداً و نداً»، ثمّ قال (عليه السلام): «اللهم لا طير إلا طيرك، و لا ضير إلّا ضيرك، و لا خير إلّا خيرك، و لا إله غيرك»، ثمّ التفت إلى المنجم و قال: «بل نكذبك و نسير في الساعة التي نهيت عنها». ( «2»)

3. ما رواه المفضل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام) في حديث في قول اللّه تعالى: (وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ) ( «3») إلى أن قال: «و أمّا الكلمات فمنها ما ذكرناه، و منها المعرفة بقدم باريه و توحيده و تنزيهه عن التشبيه حتى نظر إلى الكواكب

______________________________

(1) لقمان: 34.

(2) الوسائل: 8/ 269، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 4.

(3) البقرة: 124.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 433

و القمر و الشمس، و استدلّ بأُفول كل واحد منها على حدثه، و بحدثه على محدثه، ثمّ أعلمه عز و جل أنّ الحكم بالنجوم خطأ». ( «1»)

4. ما رواه سفيان بن عمر، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، و يدلّ على أنّ تأثيرها من حيث التطيّر و تأثّر النفس بها، و يمكن دفعه بالصدقة، و تدلّ أخبار كثيرة على أنّ من تصدّق بصدقة يدفع اللّه عنه نحس ذلك اليوم. ( «2»)

و في بعض الروايات فصّل بين القضاء و عدمه فيحرم الأوّل دون الثاني.

و هذا التفصيل هو الظاهر، و المراد بالقضاء، هو القضاء التام الذي لا يردّ

و لا يُبدّل لا بالدعاء و لا بالصدقة، و هذا ممنوع، و تشهد على ذلك روايات:

1. ما رواه محمد بن الحسين الرضي الموسوي في «نهج البلاغة» قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لبعض أصحابه لمّا عزم على المسير إلى الخوارج فقال له: يا أمير المؤمنين إنْ سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم. فقال (عليه السلام): «أ تزعم أنّك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها انصرف عنه السوء، و تخوف الساعة التي من سار فيها حاق به الضرّ، فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن، و استغنى عن الاستعانة باللّه في نيل المحبوب و دفع المكروه، و ينبغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد، دون ربه ...». ( «3»)

2. ما رواه عبد الملك بن أعين قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّي قد ابتليت بهذا العلم فأُريد الحاجة، فإذا نظرت إلى الطالع و رأيت الطالع الشرّ جلست و لم أذهب فيها، و إذا رأيت طالع الخير ذهبت إلى الحاجة فقال لي: «تقضي؟» قلت:

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 270، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 5.

(2) مرآة العقول: 4/ 414.

(3) الوسائل: 8/ 271، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 434

نعم. قال: «أحرق كتبك». ( «1»)

و هذه الروايات تفصّل بين القضاء التام و غيره، فلو أخبر على حسب المقتضي و أضاف أنّ اللّه يغيّر ما يشاء و يقدّم ما يشاء، فلا إشكال.

هذا إذا استند إلى القواعد المفيدة للقطع عنده، و أمّا إذا استند إلى القواعد المورثة للظن لنفسه فأبرزه بصورة القطع، فهو حرام لاشتماله على الكذب، أي إظهار ما ليس بقطعي قطعياً.

و

بذلك يعلم أنّه لما ذا شبّه المنجم بالساحر و الساحر بالكافر، لما عرفت من أنّ إخبار المنجم ليس مبنيّاً على الاعتقاد بكون الكواكب مؤثرات في الحوادث استقلالًا أو شريكه سبحانه في مقام التأثير، بل إخبارهم على غير هذين الوجهين، و قد عرفت عدم استلزامه للكفر.

ثمّ إنّ ما رواه المحقّق في «المعتبر» عن محمد بن قيس، عن أَبي جعفر (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لا تأخذ بقول عرّاف و لا قائف و لا لصّ، و لا أقبل شهادة فاسق إلا على نفسه» ( «2») راجع إلى حرمة التصديق، و لا يستفاد منه حرمة الإخبار لعدم الملازمة بين الحرمتين.

و أمّا استلزامه للكفر بما جاء به محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)، فلأنَّ تصديق المنجّم على وجه الجزم يستلزم نفي ما تواتر عنهم من رد القضاء و القدر بالدعاء و الصدقة.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 268، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 8/ 269، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 435

المقام الثالث في تعليم التنجيم و تعلّمه

اعلم أنّ علم التنجيم، غير علم الفلك و علم الزياج.

و الأوّل كما عرفت عبارة عن تأثير أو دلالة الكواكب و النجوم على مصير البشر و الأحوال المستقبلية.

و أمّا الثاني فهو عبارة عن مجموعة مسائل مبتنية على حركة الأرض و مركزية الشمس و سيارتها و ما يشابهها.

و أمّا الثالث فهو عبارة عن جداول حسابية تبيّن مواقع النجوم و الكواكب، مع حسبان حركاتها في كلّ زمن و وقت و علم الأزياج فرع من فروع علم الفلك.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه اختلفت كلمات الفقهاء في حكم تعلّم التنجيم بالمعنى الذي عرفت، فالأكثر على حرمتها، مع

اعتقاد تأثيرها بالاستقلال أو لها مدخل فيه. ( «1»)

و يظهر من الدروس انّه حرام من حيث ابتنائه على الظن و التخمين، و كونه قولًا بما لا يعلم. ( «2»)

______________________________

(1) فرج المهموم: 43؛ المنتهى: 2/ 1014؛ التحرير: 2/ 260.

(2) الدروس: 3/ 165.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 436

يلاحظ عليه: أنّ الاعتقاد بتأثير النجم مستقلًا أو اشتراكاً أو كونه علامة و أمارة على ما أجراه تعالى بعادته عقيبها، لا يكون دليلًا على حرمة تعليمه أو تعلّمه، فإنّ فساد العقيدة باعتقاد الاستقلال أو الاشتراك أو صحّتها كما في القول بالأمارة و العلامة لا مدخلية لها في حرمة تعليمه أو تعلمه فانّ القول بالاستقلال أو بالاشتراك، فاسد، سواء أقارن مع التعليم أو التعلم أو لا و هو نظير الطب، سواء أ قال الطبيب بتأثير الدواء مستقلًا، أو اشتراكاً أو كونه علامة لما يجريه اللّه حسب عادته بعد شربه.

و نظيره تحريمه بأنّه مبني على القول بما لا يعلم، إذ لا شكّ انّه حرام، سواء أقارن مع التعليم أو لا.

و الحاصل: انّه لا دليل على حرمة التعليم لهذه الجهات، إلّا أن يكون دليل نقلي معتبر.

و قد بسط العلّامة المجلسي الكلام في علم النجوم و العمل به و حال المنجمين في بحاره. ( «1»)

و قد استدلّ على الحرمة بما ورد من ذم المنجم ( «2») تارة، و ما رواه الصدوق في خصاله من نهي الرسول عن النظر في النجوم ( «3»)، و ما في النهج من أنّ النجوم تدعوا إلى الكهانة. ( «4»)

و لا يصلح واحد منها للاستدلال على الحرمة.

أمّا الأوّل فالذم أعم من الحرمة أوّلًا، و هو يتوجه على المعتقد بخلاف

______________________________

(1) بحار الأنوار: 55/ 217- 311.

(2) الوسائل 8، الباب

14 من أبواب آداب السفر، الحديث 4.

(3) الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 14.

(4) نهج البلاغة، الخطبة 79.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 437

الأُصول الضرورية ثانياً.

و الثاني ضعيف السند، و الثالث مؤوّل بما إذا انتهى إلى القول بالكفر.

أضف إلى ذلك ما يدلّ على جوازه ففي فقه الرضا (عليه السلام): اعلم يرحمك اللّه إنّ كلّ ما يتعلّمه العباد من أنواع الصنائع، مثل: «الكتاب و الحساب و التجارة و النجوم و الطب» إلى أن قال: «فحلال تعليمه و العمل به و أخذ الأُجرة عليه». ( «1»)

و في الرسالة الذهبيّة للرضا (عليه السلام): «اعلم أنّ الجماع و القمر في برج الحمل أو الدلو من البروج أفضل، و خير من ذلك أن يكون في برج الثور؛ لكونه شرف القمر». ( «2»)

و تؤيّدها الروايات الدالّة على أنّه علم الأنبياء و أهل بيت بالهند و أهل بيت في العرب، و أنّ عليّاً (عليه السلام) أعلم الناس به، و أنّه حق، كروايات الخفّاف ( «3») و المعلّى ( «4») و جميل بن صالح ( «5»)، و ما رواه ابن طاوس عن يونس بن عبد الرحمن ( «6»)، و ما رواه ابن شهرآشوب في مناقبه ( «7»)، و غيرها.

و تقرير الكاظم (عليه السلام) ابن أبي عمير عليه، كما في مرسلته المرويّة في الفقيه: كنت أنظر في النجوم و أعرفها و أعرف الطالع، فيدخلني من ذلك شي ء، فشكوت ذلك إلى أبي الحسن (عليه السلام)، قال: «إذا وقع في نفسك شي ء فتصدّق على أوّل مسكين ثمّ امض، فإنّ اللّه تعالى يدفع عنك». ( «8») إلى غير ذلك. ( «9»)

______________________________

(1) فقه الرضا (عليه السلام): 301، مستدرك الوسائل: 13/ 64 أبواب ما

يكتسب به، الباب 2، الحديث 1.

(2) البحار: 55/ 268، الحديث 52.

(3) الوسائل: 12، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2، 3، 4.

(4) الوسائل: 12، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2، 3، 4.

(5) الوسائل: 12، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2، 3، 4.

(6) البحار: 55/ 235، 249.

(7) البحار: 55/ 235، 249.

(8) الوسائل: 8، الباب 5 من أبواب آداب السفر، الحديث 3.

(9) لاحظ المستند: 14/ 123- 124.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 438

7 حفظ كتب الضلال

اشارة

قال العلّامة في «التذكرة»: يحرم حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض أو الحجة، و تعلّمها. ( «1»)

و قال في «المنتهى»: و يحرم حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض و الحجة عليهم بالخلاف. ( «2»)

و قال المحقّق في «الشرائع»: ما هو محرم في نفسه، كعمل الصور المجسّمة و الغناء ... و حفظ كتب الضلال، و نسخها لغير النقض. ( «3»)

و في «الجواهر»: و حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض. ( «4»)

و لم ينكره من الأصحاب إلا صاحب «الحدائق» (رحمه الله).

و يجب البحث في مقامات:

الأوّل: ما هو حكم الحفظ لكتب الضلال؟

الثاني: ما هو المراد من الحفظ؟

الثالث: ما هو المراد من الضلال؟

و إليك دراسة الجميع واحداً بعد الآخر.

______________________________

(1) التذكرة: 12/ 143، المسألة 649، كتاب المتاجر.

(2) المنتهى: 2/ 1013.

(3) الشرائع: 2/ 10، كتاب التجارة، فصل فيما يكتسب به.

(4) الجواهر: 22/ 56.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 439

المقام الأوّل حكم حفظ كتب الضلال؟

ذهب الأكثر إلى حرمة حفظ كتب الضلال، و استدلّ على حرمة حفظها بوجوه:

الأوّل: حكم العقل بوجوب قطع مادّة الفساد.

يلاحظ عليه: أنّه لو تمّ وجب قتل من يريد إضلال الناس أو اشتغل بإضلالهم، و ليس كل مضلّ مرتداً.

و أورد المحقّق الخوئي في «مصباح الفقاهة» على الاستدلال: بأنّه إنْ كان مدرك حكمه انّ قلع مادة الفساد حسن و حفظها ظلم على المولى، فيرد عليه أنّه لا دليل على وجوب دفع الظلم في جميع الموارد، و إلا لوجب على اللّه و على الأنبياء و الأوصياء، الممانعة عن الظلم تكويناً، مع أنّه تعالى هو الذي أقدر الإنسان على فعل الخير و الشر.

و إن كان مدرك حكمه وجوب الإطاعة و حرمة المعصية لأمره تعالى بقلع مادة الفساد، فلا دليل على ذلك إلا في

كسر الأصنام و الصلبان و سائر هياكل العبادة.

و يمكن أن يقال: انّ مدرك حكمه لا هذا و لا ذاك، بل حكم العقل

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 440

بوجوب التحفّظ على مقاصد المولى، لا كون عدم التحفّظ ظلماً أو معصية شرعية حتى يتوجه إليه ما ذكر.

نعم، يرد على ما ذكرنا أنّه لا دليل على حفظ مقاصد المولى بهذا الحد.

اللّهم إلا إذا علم بترتّب الفساد عليه، و عندئذ يجب لما قلناه من أنّ استقلال العقل بوجوب دفع المنكر كرفعه كما أوضحنا حاله.

الثاني: انّه قد تستفاد حرمته ممّا دل على وجوب الاجتناب عن لهو الحديث و قول الزور، كقوله سبحانه: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ( «1»)، و (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). ( «2»)

و عن الكذب و الافتراء على اللّه كقوله سبحانه: (وَيْلَكُمْ لٰا تَفْتَرُوا عَلَى اللّٰهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذٰابٍ) ( «3»)، و قوله سبحانه: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذٰا مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ). ( «4»)

و لا يخفى قصور دلالة الجميع أمّا آية لهو الحديث فسواء فسّرت باشتراء كتاب فيه لهو الحديث، أو اشتراء نفس لهو الحديث لغاية الإضلال، فأين ذلك من حفظ نفس الكتاب لا لترتب الغاية، نعم، لو حفظه لتلك الغاية يمكن الاستدلال بالعلّة المنصوصة، أعني: (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا).

و أما وجوب الاجتناب عن (قَوْلَ الزُّورِ)، فالمراد من الزور هو الكذب و الباطل و المنهي عنه هو التقوّل بهما كما تشهد به عبارة (قَوْلَ الزُّورِ)، و أين هذا من حفظ كتب الضلال؟!

______________________________

(1) لقمان: 6.

(2) الحج: 30.

(3) طه: 61.

(4) البقرة: 79. و الاستدلال من صاحب الجواهر (قدس سره)، لاحظ 22/ 56.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب،

ص: 441

و أمّا الآية الثالثة: فالمراد منها حرمة الافتراء على اللّه تعالى، و لا يعد الحافظ على الكتاب الذي فيه فرية مفترياً.

و أمّا الآية الرابعة: فقال شيخ الطائفة في «التبيان» معنى قوله: (يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ): إنّهم يقولون كتبتُه، ثمّ يضيفونه إلى اللّه. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ المنهي عنه هو نسخ الكتاب باليد و إضافته إلى اللّه تعالى ثمّ عرضه للبيع و الشراء، و أين هو من حفظ كتاب فيه ما ليس من عند اللّه و هو لا يدّعي أنّه من عند اللّه؟!

الثالث: الاستدلال بعدّة فقرات من حديث «تحف العقول»: ( «2»)

1. انّما حرّم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضاً.

2. و ما يكون منه و فيه الفساد محضاً و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات.

3. أو يقوى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به الحق، فهو حرام بيعه و شراؤه.

يلاحظ عليه: أنّه لو ترتّب على الحفظ ما ذكر من الفساد لكان حراماً. و لكن النسبة بينه و بين ما ذكر، عموم و خصوص من وجه.

الرابع: ما دلّ على وجوب جهاد أهل الضلال و إضعافهم بكل ما يمكن، ضرورة معلومية كون المراد من ذلك تدمير مذهبهم بتدمير أهله، فبالأولى تدمير ما يقتضي قوّته. ( «3»)

يلاحظ عليه: أنّ الحفظ قد يجتمع مع تدمير مذهبهم و كسر قوّتهم، كما أنّ

______________________________

(1) التبيان: 1/ 322.

(2) الوسائل: 12/ 54، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(3) الجواهر: 22/ 57.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 442

الإتلاف لا يلازم ذلك كما إذا كان الكتاب مطبوعاً منتشراً في الآفاق.

الخامس: الإجماع، كما يظهر ممّا حكيناه في صدر المسألة، و لم يخالف فيه إلّا صاحب

«الحدائق» (رحمه الله).

لكن الإجماع ليس كاشفاً عن دليل وصل إليهم، و لم يصل إلينا، إذ من المحتمل استنادهم إلى الأدلّة المذكورة.

السادس: حسنة عبد الملك بن أعين قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّي قد ابتليت بهذا العلم فأُريد الحاجة، فإذا نظرت إلى الطالع و رأيت الطالع الشر جلست و لم أذهب فيها، و إذا رأيت طالع الخير ذهبت في الحاجة. فقال لي: «تقضي؟» قلت: نعم. قال: «احرق كتبك». ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّه على الخلاف أدلُّ، حيث إنّه يفصّل بين القضاء و عدمه، و يجوز في الثاني دون الأوّل.

فلم يبق من الأدلّة إلا الاستدلال بحكم العقل، لكن لا بالعنوان الذي طرحه الشيخ الأعظم من لزوم قلع مادة الفساد، بل بما قلنا من لزوم دفع المنكر كرفعه، و لكنّه أخص من المدّعى، و لا يدلّ على أزيد من حرمة الحفظ إذا ترتّب عليه ضلال عاجلًا أم آجلًا، لأنّ حفظ عقائد الناس من أَهم الأُمور.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 268، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 443

المقام الثاني ما هو المراد من الحفظ؟

فهنا احتمالات:

1. عدم التعرّض للإتلاف، و على ذلك يجب إتلافها.

2. إثبات اليد عليها و اقتناؤها، و على ذلك يكفي إخراجها من تحت اليد.

3. حفظه من التلف لو توجه إليه الغرق و الحرق و أمثالهما، كما هو المراد من وجوب حفظ النفس المحترمة. و الكلّ محتمل، غير أنّ اختيار أحدها يتوقّف على ملاحظة أدلّة التحريم.

و الظاهر أنّ المراد من الحفظ ما يقابل الإتلاف، لأنّ المنكَر يترتب على ما يقابل الإتلاف و يتحقّق الإتلاف بمزق أو خرق أو غسل أو دفن.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 444

المقام الثالث: ما هو المراد من الضلال؟

فهنا وجوه:

1. المراد من الضلال هو الباطل، فكلّ كتاب كان مشتملًا على الباطل و الكذب فهو كتاب ضلال، سواء أ كان مشتملًا على ما يخالف العقيدة و الأحكام أم لا.

2. المراد من الضلالة مقابل الهداية، فكلّ كتاب أوجب الضلالة و إن كانت مطالبه في حد نفسها حقاً، كبعض المطالب العرفانية التي لها معان صحيحة عند أصحابها لكنّها مُضلّة للبسطاء.

3. كلّ كتاب وضع لغرض الإضلال و إغراء العوام، و ما تترتب عليه الضلالة، سواء أ كان معدّاً لذلك أملا.

و ليس المراد من الضلالة إلا ما يقابل الهداية، لا ما يقابل الحق، المضادَ للباطل و إلا يجب إتلاف كثير من الكتب الطبيعية و الرياضية و النجومية لاشتمالها على الباطل المقابل للحق.

و الحاصل: أنّ المراد كل كتاب أوجد فساداً في العقيدة الدينية.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 445

و أمّا كتب المخالفين المشتملة على العقائد الفاسدة كالجبر، و الدعوة إلى خلافة غير أهلها، فلا يجب إتلافها لأجل ما تواتر من الأصحاب من الرد عليهم و توضيح هفواتها.

نعم، لو خيف من إضلالها حرم جعلها تحت يد البُسطاء.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 446

8 حلق اللحية

و لم يتعرّض له الشيخ (قدس سره) و كان الأولى التعرّض له، و هو من المسائل المبتلى بها.

فلنذكر أقوال أهل السنّة في المسألة حسب ما ورد في «الفقه على المذاهب الأربعة»:

الحنفية قالوا: يحرم حلق اللحية على الرجل، و يسن أنْ لا تزيد في طولها على قبضة، فما زاد على القبضة يُقصُّ، و لا بأس بأخذ أطراف اللحية و حلق الشعر الذي تحت الإبطين و نتف الشيب.

و المالكية قالوا: يحرم حلق اللحية. و يسن قص الشارب.

و الحنابلة قالوا: يحرم حلق اللحية، و لا بأس بأخذ ما زاد على القبضة منها.

و الشافعية قالوا: أمّا اللحية فانّه يكره حلقها و المبالغة في قصّها. ( «1»)

و أوّل من تعرّض له من أصحابنا- حسب ما وقفنا عليه- هو ابن سعيد (قدس سره) في جامعه حيث قال: و يكره القزع، و قال: اعفوا اللحى و حُفُّوا الشوارب، و ينبغي أنْ يؤخذ من اللحية ما جاوز القبضة. ( «2»)

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 44- 46.

(2) الجامع للشرائع: 30.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 447

غير أنّه لم ينقل الإجماع على الحرمة، فما عن الفاضل الطبسي المعاصر من نسبة نقل الإجماع إليه غير تام.

و نقل الحرمة عن كثير من متأخّري المتأخّرين مثل الشيخ بهاء الدين العاملي و السيد الداماد و الفيض و المجلسيين قدس سرهم غير أنّ الشك كلّه في كون المسألة إجماعية، إذ لو كانت كذلك لما ذا لم يتعرض لها ابن سعيد في جامعه؟! و استدلّ عليه بالحديث المروي في كتب العامّة كما عرفت.

و على كل تقدير لا شك في استحباب قص الشوارب و إعفاء اللحى، و انّما الكلام في حرمة حلقها.

استدلّ القائلون بالحرمة بوجوه:

الأوّل: قوله سبحانه حكاية عن

الشيطان: (وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذٰانَ الْأَنْعٰامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطٰانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللّٰهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرٰاناً مُبِيناً). ( «1»)

وجه الاستدلال: انّ حلق اللحية تغيير لخلق اللّه، و هو حرام بنص الآية إلا ما خرج بالدليل، كتقليم الأظفار، و نتف شعر العانة و الإبط.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان المراد من التغيير ما يشمل حلق اللحية لزم حرمة قص الأظفار، و نتف شعر العانة. و القول بخروجها بالدليل مدفوع، بأنّ لسان الآية آب عن التخصيص. و الظاهر أنّ المراد منه الإخصاء و المثلة، و المشي على خلاف الخلقة من اللواط و المساحقة، لأنّ السنّة الإلهية جرت على خلق الرجال للنساء، لا الرجال لمثلهم أو النساء لمثلهن.

قال الشيخ في «التبيان» في تفسير قوله تعالى: (وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ) اختلفوا في معناه، فقال ابن عباس و الربيع بن أنس عن أنس: إنّه الإخصاء،

______________________________

(1) النساء: 119.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 448

و كرهوا الإخصاء في البهائم، و به قال سفيان.

و ربما يفسّر بتغيير دين التوحيد إلى الشرك، لأنّ الإنسان فُطِر على التوحيد و خُلِقَ عليه، فالعدول منه إلى ضده، تغيير لدين اللّه. قال سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ( «1»). و روي ذلك عن مجاهد. ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر من التغيير، هو التغيير الخارجي الذي يشاهد و يبصر كما في قوله تعالى: (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذٰانَ الْأَنْعٰامِ) و كانوا يحرمونها على أنفسهم بعد البتك، و أمّا انقلاب العقيدة التوحيدية إلى الشركية، فهو تغيير علمي، فكري.

الثاني: قوله سبحانه: (ثُمَّ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ

مٰا كٰانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ( «3») و قد فسرت «حنيفاً» الحنفية التي منها إعفاء اللحى.

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر من الآية هو أنّ المراد من قوله (حَنِيفاً) هو التوحيد و رفض الشرك بقرينة قوله: (وَ مٰا كٰانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، و قوله في الآية السابقة: (شٰاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَبٰاهُ وَ هَدٰاهُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ( «4»)، و المراد من الصراط المستقيم هو التوحيد، و على ذلك لا يستفاد من الآية شي ء.

نعم: ورد حولها ما يمكن الاستدلال به، و سيوافيك عن قريب.

هذه حال الآيات، و قد عرفت عدم دلالتها على المقصود، و أمّا الروايات فنذكر منها ما يلي:

الأُولى: ما نقله القمي في تفسير قوله سبحانه (وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ

______________________________

(1) الروم: 30.

(2) التبيان: 3/ 334، و لاحظ مجمع البيان: 3/ 113.

(3) النحل: 123.

(4) النحل: 121.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 449

بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ) ( «1») قال: «ما ابتلاه اللّه به في نومته- إلى أن قال:- ثمّ أنزل عليه الحنيفية و هي عشرة أشياء ... فأخذ الشارب و إعفاء اللحى ...». ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ الرواية على فرض كونها حجّة، إذ لم يذكر القمي (رحمه الله) لها سنداً، و لا نسبها إلى الإمام، فهي مشتملة على الواجب و المستحب، بل أكثر ما ورد فيها مستحب، فكيف يمكن الاستدلال بها؟!

و الحاصل: انّ غاية ما تدلّ عليه الرواية ان العشرة الواردة في الرواية من الأُمور المحبوبة و المسنونة، و أمّا كونها واجبة فلا يستفاد منه، فانّ ما عدا الغُسْل و الختان مستحب بلا إشكال، انّما الكلام في إعفاء اللحى، و وحدة السياق ربّما تستدعي كونه محكوماً بحكم الأكثر.

فإن

قلت: إنّ ظاهر قوله: (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ) هو لزوم التبعية، و هذا الظاهر حجة ما لم يدل دليل على الخلاف.

قلت: إنّ ذلك فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب العدول عنه، و هو تخصيص الأكثر، فانّ غير الغسل و الختان مستحب، و معه كيف يمكن أن يحمل الأمر بالاتّباع على الوجوب؟

أضف إلى ذلك أن تفسير (مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ) بالحنفية العشر على خلاف ظاهر الآية، لما عرفت من أنّ المراد الطريقة التوحيدية.

الثانية: ما روته حبابة الوالبية، قالت: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة

______________________________

(1) البقرة: 124.

(2) تفسير القمي: 1/ 59، و نقله أيضاً في تفسير قوله: (ثمّ أوحينا إليك ان اتّبع ملة إبراهيم حنيفاً) لاحظ 1/ 390، و نقله في الوسائل: 1/ 423، الباب 67 من آداب الحمام، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 450

الخميس و معه درة لها سبابتان يضرب بها بيّاعي الجري و المارماهي، و الزمار، و يقول لهم: «يا بياعي مسوخ بني إسرائيل، و جند بني مروان» فقام إليه فرات بن أخنف فقال: يا أمير المؤمنين و ما جند بني مروان؟ قال: فقال له: «أقوام حلقوا اللحى و فتلوا الشوارب فمُسخوا». ( «1»)

يلاحظ عليه: مضافاً إلى اشتمال السند على مجاهيل- كمحمد بن إسماعيل و عبد اللّه بن أيوب، و عبد اللّه بن هاشم- انّ حلق اللحية ليس من المعاصي الكبيرة الموجبة لمسخ الإنسان إلى الحيوانات التي وردت في الرواية، و حمل الرواية على كون نفس الحلق مسخاً خلاف ظاهر الرواية، بل الظاهر انّ جند بني مروان حلقوا اللحى و فتلوا الشوارب فمسخوا إلى أشكال تلك الحيوانات التي كانت تباع في سوق الكوفة مثل الجري و المارماهي و الزمار.

الثالثة: ما ورد من

الأمر بحفّ الشوارب و إعفاء اللحى، مثل ما رواه الصدوق قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «حفّوا الشوارب و اعفوا اللحى و لا تشبّهوا باليهود». ( «2»)

و قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّ المجوس جزّوا لحاهم و وفّروا شواربهم، و إنّا نجزّ الشوارب و نعفي اللحى و هي الفطرة». ( «3»)

و ما رواه علي بن غراب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): حفّوا الشوارب، و اعفوا اللحى، و لا تشبّهوا بالمجوس». ( «4»)

أمّا الحديث الأوّل: فهو مبهم، فإنّ شيمة اليهود إطالة اللحى و إعفاؤها، فكيف يقول: و اعفوا اللحى و لا تشبّهوا باليهود؟!

______________________________

(1) الوسائل: 1/ 423، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث: 4.

(2) نفس المصدر: 423، الحديث: 1.

(3) الوسائل: 1/ 423، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث: 2 و 3.

(4) الوسائل: 1/ 423، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث: 2 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 451

اللهم إلا أن يراد من الإعفاء شي ء آخر أشار إليه الفيض في «الوافي» حيث قال: إنّ اليهود لا يأخذون من لحاهم، بل يطيلونها، فذكر الإعفاء عقيب الإحفاء ثمّ النهي عن التشبه باليهود دليل على أنّ المراد بالإعفاء أن لا يستأصل و يؤخذ منها من دون استقصاء، بل مع توفير و بقاء بحيث لا يتجاوز القبضة فتستحق النار. ( «1»)

و أجاب المحقّق الخوئي- دام ظله- عن هذه الروايات بقوله: لا دلالة لهذه الروايات على حرمة حلق اللحية، لأنّ المأمور به حينئذ هو الإعفاء و إبقاء اللحية بما لا يزد

على القبضة، و هو ليس بواجب قطعاً. ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ الأمر بالإعفاء كناية عن عدم الحلق، بقرينة ما رواه في المستدرك عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) حلق اللحية من المثلة، و من مثل فعليه لعنة اللّه». ( «3»)

و في تاريخ الكامل: حتى قدما على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) و قد حلقا لحاهما و أعفيا شواربهما فكره النظر إليهما و قال: «ويلكما مَن أمركما بهذا؟» قالا: أمرنا بهذا ربّنا- يعنيان كسرى- فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «لكن ربّي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي». ( «4»)

و الذي يصد الفقيه عن الإفتاء بالحرمة هو أنّ الروايات مراسيل، فلا يصح التمسّك بها لإثبات الحرمة، و إنْ كانت كافية في لزوم الاحتياط في مقام الفتوى.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الحكم بحف الشوارب و إعفاء اللحى لم يكن حكماً أوّلياً، بل حكماً ثانوياً للاجتناب عن التشبه باليهود و المجوس، فإذا زال

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 259.

(2) مصباح الفقاهة: 1/ 259.

(3) المستدرك: 1/ 406، الباب 40 من أبواب آداب الحمّام، الحديث: 1.

(4) الكامل لابن الأثير: 2/ 146.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 452

التشبه بنحو من الأنحاء- كما سيوافيك نظيره في كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)- تزول الحرمة، لأنّ الحكم لم يكن حكماً أوّلياً باقياً أبد الدهر، و سيوافيك ما يفيدك في المقام عن علي (عليه السلام).

اللهم إلا أنْ يقال: انّ التشبه من قبيل الحِكَم لا من قبيل العلل فلا يدور الحكم مداره.

الرابعة: ما رواه في «الجعفريات» عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله

عليه و آله و سلم): حلق اللحية من المثلة، و من مثّل فعليه لعنة اللّه». ( «1»)

أقول: المراد حلق لحية الغير، إهانة و هتكاً، نظير الرائج في هذه الأيام من حلق الرأس إهانة و تحقيراً، فلا يعمُّ حلق الشخص لحيته.

الخامسة: ما رواه في «الوسائل» عن إسماعيل بن مسلم، عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّه أوحى اللّه إلى نبي من أنبيائه قل للمؤمنين: لا تلبسوا لباس أعدائي، و لا تطعموا مطاعم أعدائي، و لا تسلكوا مسالك أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي». ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّه لو سلّمنا أنّ حلق اللحية داخل في قوله: «لا تسلكوا مسالك أعدائي» فلا يدل إلّا على أنّ حرمته دائرة مدار كونه من مسالك الأعداء، و ذلك محدد بزمن خاص بحيث يُعدّ الحلق من ذاك القبيل، و أمّا إذا شاع و ذاع بين المسلمين زال التشبّه.

و يؤيد ذلك ما روي عن علي (عليه السلام) في «نهج البلاغة» أنّه سئل عن قول رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «غيّ- روا الشيب و لا تشبّهوا باليهود»، فقال: «انّما قال ذلك و الدين قلّ،

______________________________

(1) المستدرك: 1/ 406، الباب 40 من أبواب آداب الحمام، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 3/ 297، الباب 19 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 453

و أمّا الآن و قد اتّسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤ و ما اختار». ( «1»)

السادسة: ما رواه محمد بن إدريس (رحمه الله) في آخر السرائر نقلًا عن جامع البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) قال: و سألته عن الرجل هل يصلح له أن يأخذ من لحيته؟ قال: «أمّا من عارضيه فلا بأس، و أمّا من مقدّمها فلا». ( «2»)

يلاحظ

عليه: أنّ الاستدلال مبني على أنّ المراد من أخذ اللحية من مقدّمها هو الحلق، و هو غير واضح، و الظاهر أنّ مراده (عليه السلام) هو ما ورد في صحيحة محمد بن مسلم قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) و الحجام يأخذ من لحيته، فقال: «دورها». ( «3»)

و قد ورد تفسير قوله (عليه السلام): «دورها» في رواية سدير الصيرفي قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) يأخذ عارضيه و يبطن لحيته. ( «4»)

السابعة: ما ورد في المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال. ( «5»)

و قد أوضحنا المراد منه فلا نعيد.

الثامنة: السيرة المستمرة بين المسلمين على إعفاء اللحى و قصّ الشوارب.

و لكنّه لا يدل على الوجوب. قال المجلسي الأوّل: اعلم أنّه قد وردت الأخبار الكثيرة بما يتضمن إحفاء الشوارب و إعفاء اللحى و ترك إطالة اللحية زيادة عن

______________________________

(1) نهج البلاغة: باب الحكم، الحكمة 16، و في الوسائل: 1/ 403، الباب 44 من أبواب آداب الحمام، الحديث: 2.

(2) الوسائل: 1/ 419، الباب 63 من أبواب آداب الحمام، الحديث: 5.

(3) الوسائل: 1/ 419، الباب 63 من أبواب آداب الحمام، الحديث: 1.

(4) نفس المصدر: الحديث: 4.

(5) لاحظ الوسائل: 12/ 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 454

القبضة، فانّه ورد في الأخبار الكثيرة أنّ الزائد عن القبضة في النار و أنّه تقبض بيدك على اللحية و تجز ما فضل. ( «1»)

و هذه الروايات مع ما ذكره هذا الفقيه يوجب التوقّف في الإفتاء و الاحتياط في العمل خصوصاً ما ورد عن طريق العامّة، مثل ما رواه صاحب «السنن الكبرى» حيث قال: عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «عشرة

من الفطرة: قص الشارب، و إعفاء اللحية، و السواك، و الاستنشاق بالماء، وقص الأظفار، و غسل البراجم، و نتف الإبط، و حلق العانة، و انتقاص الماء» ( «2»). فلا يترك الاحتياط بترك الحلق على وجه يصدق على الرجل أنّه ذو لحية.

______________________________

(1) روضة المتقين: 1/ 333.

(2) السنن الكبرى: 1/ 52.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 455

9 الرشوة

اشارة

قال ابن فارس في «المقاييس»: رشى، الراء و الشين و الحرف المعتدل أصل يدل على سبب أو تسبب لشي ء برفق و ملاينة، و الرشاء الحبل الممدود، و الجمع أرشية ... تقول: ترشيتُ الرجل لاينتُه، و راشيتُ الرجل إذا عاونته فظاهرته.

و قال في «القاموس»: الرشوة الجُعْل.

و قال الفيّومي في «المصباح»: ما يعطيه الشخص الحاكم و غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد.

و قال في «النهاية»: الرشوة الوصلة إلى الحاجة للمصانعة، فالراشي الذي يعطي ما يعينه، فأمّا ما يعطى توصلًا إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه.

و قال في «مجمع البحرين»: قلّ ما تستعمل إلا فيما يتوصّل به إلى إبطال حق أو تمشية باطل.

هذه كلمات اللغويين بين مطلق و مقيّد، فالمحتملات لا تتجاوز الخمسة:

1. الجُعْل على القضاء و تصدّي فصل الخصومة.

2. الجعل على الحكم بالواقع.

3. مطلق الجعل، و يدخل فيه جعل الأجرة على القضاء.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 456

4. الجعل على الحكم لباذله حقاً كان أم باطلا.

5. الجعل على الحكم بالباطل.

و الأخير هو المتيقّن، و هو الظاهر من الطريحي في مجمعه.

و على كل تقدير فحرمة الرشوة من ضروريات الفقه الإسلامي، و انّما الكلام في تحديد موضوعها.

و هناك قسم آخر و هو أنّ المُحقّ يخاف من حكم القاضي بالباطل لأخذ الرشوة من المبطل، فيرشوه ليغنيه و يقطع

طمعه حتى يقضي بالحق، و الوجه الرابع أوسع منه بقليل، و هو أنْ يرشوه ليحكم له حقاً كان أم باطلًا؛ و أمّا أخذ العوض للحكم بالحق أو للتصدّي لمقام فصل الخصومة فهو خارج عن موضوع الرشوة، فلو حرم فانّما يحرم لوجه آخر و هو حرمة أخذ الأُجرة على الواجبات، و سيوافيك بيانه في محله.

و كيف كان فقد استدلّ على حكم الرشوة بالكتاب و السنّة.

أمّا الأوّل: فقوله سبحانه: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). ( «1»)

و قد فسّرت الآية بالودائع، و ما لا يقوم عليه البيّنة تارة، و بمال اليتيم في يد الأوصياء أُخرى، لأنّهم يدفعونها إلى الحكّام إذا طلبوا به ليقطعوا بعضه، و تقوم لهم في الظاهر حجّة، و بما يؤخذ بشهادة الزور. ( «2»)

و الظاهر أنّها من مصاديق الآية، و مفاد الآية أوسع، و المراد هو النهي عن أكل الأموال بالباطل، و أكل أموال الناس بالإثم بطريق الإدلاء بها إلى الحكام.

______________________________

(1) البقرة: 188.

(2) مجمع البيان: 1/ 282.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 457

و قوله: (وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ) كناية عن تقريب المال و إرساله إليهم.

و الإدلاء: هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء، و كُنّي به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي، و هو كناية لطيفة- تشير إلى أنّ حال من يدلي مالًا إلى الحكام لجلب حكمهم، حال من يدلي دلواً إلى البئر ليأخذ منه الماء، و أنّ أحدهما يشبه الآخر.

فإن قلت: إنّ الآية تدلّ على حرمة إعطاء الشخص من مال الغير للحكّام ليحكموا، و لا تدلّ على حرمة الإعطاء إذا أعطى من مال

نفسه لجلب حكمه.

قلت: الظاهر أنّ الإعطاء كان من مال النفس للتغلّب على مال الغير حيث قال تعالى: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ)، و ضمير «بها» يرجع إلى «أموالكم» أي الأموال التي يملكها المعطي.

و لو فرضنا انّ المراد هو النهي عن تصالح الراشي و المرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما و تقسيمها لأنفسهما فيأخذ الحاكم ما أُدلي به منها إليه، و أخذ الراشي فريقاً آخر منها و هما يعلمان أنّ ذلك باطل غير حق، و لكن يمكن إلغاء الخصوصية، و أنّ المراد هو تطميع الحكّام بشي ء من الأموال- سواء كان للراشي أم كان تحت يده- للتغلّب على أموال الناس.

و يدلّ عليه من السنّة:

1. ما رواه السكوني، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «السحت: ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغي، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن». ( «1»)

2. ما رواه عمار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «كل شي ء غُلَّ من الإمام فهو سحت، و السحت أنواع كثيرة: منها ... فأمّا الرشا- يا عمار- في

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 458

الأحكام فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «1»)

3. و ما رواه ابن مسكان، عن يزيد بن فرقد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن السحت فقال: «الرشا في الحكم». ( «2»)

4. و ما رواه عمار بن مروان قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الغلول؟ فقال: «كل شي ء غلّ من الإمام فهو سحت ... فأمّا

الرشا في الحكم فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم جلّ اسمه و برسوله (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «3»)

روى عبد اللّه بن عمر و قال: لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) الراشي و المرتشي. ( «4»)

و روى سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سئل عبد اللّه عن السحت؟ فقال: هي الرشا، فقال: في الحكم؟ فقال عبد اللّه: ذلك الكفر. ( «5»)

و يمكن الاستدلال عليه بالقواعد، لأنّ الرشوة معاملة على الأمر المحرّم و المبغوض بالذات، و هو الحكم بالباطل، فدفع الثمن على الأمر المحرّم بالذات و أخذه في مقابله يكون حراماً تكليفاً، و باطلًا وضعاً، إذ لا يمكن أنْ يكون فعل القاضي محرّماً بالذات و المعاملة عليه حلالًا تكليفاً و صحيحاً وضعاً.

إلى هنا تبيّن حكم القسمين الأخيرين، أعني: الرابع و الخامس، أي دفع الرشوة للحكم للدافع حقاً كان أو باطلًا، أو للحكم بالباطل.

بقي الكلام في حكم الأقسام الثلاثة الأُول، أعني:

1. أخذ الأُجرة على تصدي القضاء.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12 و 4.

(2) الوسائل: 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12 و 4.

(3) الوسائل: 12/ 61، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1. و لاحظ الوسائل: 18/ 161، الباب 8 من أبواب آداب القاضي.

(4) السنن الكبرى: 10/ 139.

(5) السنن الكبرى: 10/ 139.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 459

2. الجعل على الحكم بالواقع. ( «1»)

3. إعطاء شي ء للقاضي حتى يصدّه عن أخذ الرشوة من المبطل.

أمّا الصورتان الأُوليان فقال الشيخ في «الخلاف» بعدم الجواز، حيث قال: لا يجوز للحاكم أنْ يأخذ الأُجرة على الحكم من الخصمين أو من

أحدهما، سواء كان له رزق من بيت المال أو لم يكن. ( «2»)

و تردد المحقّق، و قال: لو أَخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف. ( «3») و فصّل العلّامة: فجوّز إذا كان واجباً كفائياً دون ما إذا كان واجباً عينياً. و هو مبني على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجبات العينية دون الكفائية.

و ربّما يفصّل بين غنى القاضي و فقره. و هذا التفصيل ليس بشي ء لأنّ الفقر لا يوجب جواز أخذ الأُجرة، بل يوجب ارتزاقه من بيت المال. ( «4»)

إذا عرفت ذلك، فنقول: مقتضى القاعدة جواز أخذ الأُجرة، لأنّه عمل محترم مطابق لموازين الشرع، فلا وجه لعدم الجواز إلا أحد الأمرين:

الأوّل: ان تعدّ الأُجرة أو الجعل من مصاديق الرشوة.

يلاحظ عليه: أنّ كونه من مصاديقها مشكوك، لأنّ المتيقّن منها ما يكون الغاية منها هو إبطال الحق أو إحقاق الباطل.

الثاني: أن يكون نفس العمل ممّا يتوخّى الشارع تحقّقه في الخارج مجاناً بلا

______________________________

(1) و ربّما يقال بأنّ الأُجرة عبارة عمّا يؤخذ من المتخاصمين، أو غيرهما من أهل البلد و إن لم يكن من المتخاصمين، و الجعل هو الأُجرة من المتخاصمين أو أحدهما لا تعدوهما، فيكون تابعاً للشروط في سماع الدعوى.

(2) الخلاف: 3/ 319، المسألة: 31.

(3) شرائع الإسلام: 4/ 862، منشورات استقلال، طهران- 1409 ه-.

(4) لاحظ في الوقوف على الأقوال «مختلف الشيعة»: 5/ 17، كتاب التجارة، فصل في وجوه الاكتساب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 460

عوض كبعض الواجبات من تغسيل الميّت و تكفينه و دفنه، و هذا ما يقال فيه بعدم جواز أخذ الأُجرة على الواجبات الكفائية.

هذا حكمه حسب القواعد و أمّا الروايات فقد استدلّ على الحرمة بروايات:

1. ما رواه عمار بن مروان قال: قال أبو عبد

اللّه (عليه السلام): «كل شي ء غل من الإمام فهو سحت، و السحت أنواع كثيرة، منها ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة، و منها أُجور القضاة ... فأمّا الرشا- يا عمار- في الأحكام فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «1»)

فقد جعل الإمام (عليه السلام) أُجور القضاء في مقابل الرشاء فيشمل الأُجرة و الجُعْل، على الفرق الذي مرّ في التعليقة.

و احتمل السيد الطباطبائي في ملحقات العروة بأنّ الضمير في: «و منها أُجور القضاة» يرجع إلى ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة.

2. صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: سئل أَبو عبد اللّه (عليه السلام) عن قاض بين فريقين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق. فقال: «ذلك السحت». ( «2»)

و لكن يمكن حمل الروايتين على القضاة المنصوبين من جانب الحكّام، أو من جانب السلطان، و لا تشملان ما إذا لم يكن هناك نصب، بل يرجع إليه المترافعان بما أنّه مجتهد جامع لشرائط القضاء.

و لا يخفى أنّ ذاك الاحتمال يوافق ظهور رواية عبد اللّه بن سنان حيث قال: يأخذ من السلطان على القضاء الرزق، و لا توافقه رواية عمار فانّها عامّة تشمل جميع القضاة.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 64، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12.

(2) الوسائل: 18/ 161، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 461

3. ما رواه حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «من استأكل بعلمه افتقر»، قلت: إنّ في شيعتك قوماً يتحملون علومكم و يبثونها في شيعتكم فلا يُعدِمون منهم البر و الصلة و الإكرام. فقال: «ليس أُولئك بمستأكلين، انّما ذاك الذي يُفتي بغير علم و

لا هدى من اللّه ليُبطل به الحقوق طمعاً في حطام الدنيا». ( «1»)

و لكنها- مضافاً إلى ضعف السند- ليست صريحة في باب القضاء.

و قوله: «ليبطل به الحقوق» ليس قرينة على كونها في القضاء، لأنّ إبطال الحقوق كما يكون بالقضاء، يكون بالفتوى أيضاً.

و على أي تقدير: فالرواية مختصّة بالقاضي الفاقد للشرائط، كما هو صريح قوله (عليه السلام) «يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه» و هو خارج عن محل البحث.

4. ما رواه يوسف بن جابر قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) من نظر إلى فرج امرأة لا تحل له، و رجلًا خان أخاه في امرأته، و رجلًا احتاج الناس إليه لتفقّهه فسألهم الرشوة». ( «2»)

و المراد من الرشوة- فيها- هو الجعل، بقرينة قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «احتاج الناس إليه لتفقّهه» فإنّه ظاهر في أنّ حاجة الناس إليه لأجل بيان الحكم الواقعي.

و ما ذكره المحقّق الإيرواني من أنّ رواية يوسف بن جابر، لا تفيد أزيد من حرمة أخذ الرشوة، و المتيقن من مدلول أخذ الرشوة هو المال المبذول في قبال الحكم بالباطل؛ غير تام، إذ لو كان البذل لذلك لما قال: «احتاج الناس إليه لتفقّهه».

و على كل تقدير: فالمجموع من حيث المجموع يكفي في إثبات حرمة الأُجرة

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 12.

(2) الوسائل: 18/ 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 462

أو الجعل بالقضاء.

و الظاهر أنّ عدم جواز أخذ الأُجرة، لأجل أنّ القضاء منصب إلهي يعلو عن أن تؤخذ في مقابله الأُجرة.

ارتزاق القاضي من بيت المال

الفرق بين الأُجرة و الارتزاق:

أنّ الأوّل عقد إجارة يشترط فيه ما يشترط في غيره، بخلاف الارتزاق فإنّه تابع لنظر الحاكم.

و ليس الرزق في مقابل العمل، بل هو ما تُؤمن به معيشته حتى يتفرّغ للقضاء و لا يشتغل بغيره، و هو أحد المصالح العامّة التي لا يقوم بها إلّا الحاكم الاسلامي.

و يدل على الجواز- مضافاً إلى السيرة العلوية حيث كان يجري الرزق لعمّاله و قضاته- كلامه (عليه السلام)، في عهده لعامله بمصر: «و اعلم أنّ الرعية طبقات: منها جنود اللّه ...- ثمّ قال:- و اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأُمور»، ثمّ ذكر صفات القاضي، ثمّ قال: «و أكثر تعاهد قضائه، و أفسِحْ له في البذل ما يُزيح علَّته و تقلّ معه حاجته إلى الناس، و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره». ( «1»)

و تدلّ عليه مرسلة حمّاد، حيث قال (عليه السلام): «و يؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك ارزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامة- ثمّ قال:- إنّ اللّه لم يترك شيئاً من الأموال إلا و قد قسّمه، فأعطى كلَّ ذي حق حقّه، الخاصة و العامة، و الفقراء و المساكين، و كل صنف من صنوف الناس». ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث: 9.

(2) المصدر السابق: 162 الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 463

و الرواية دالّة بإطلاقها على جواز ارتزاق القاضي من بيت المال.

و ربّما يتوهّم حرمة الارتزاق بصحيحة عبد اللّه بن سنان قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن قاض بين قريتين يأخذ

من السلطان على القضاء الرزق، فقال: «ذلك السحت». ( «1»)

و لكنّه محمول على ما إذا أخذ الرزق بصورة الأُجرة، و قد عرفت الفرق بين الرزق و الأُجرة.

ثمّ إنّ المحقّق (قدس سره) في «الشرائع» فصل في جواز الارتزاق بين من لم يتعيّن له القضاء و من تعيّن، فجوّز في الأوّل الارتزاق مطلقاً غنياً كان أو فقيراً، و إنْ كان الأوْلى له تركه إذا كان غنياً توفيراً لغيره من المصالح. و أمّا إذا تعيّن فيجوز إذا كان فقيراً لا ما إذا كان له ما يكفي مئونته، مستدلًا بأنّه يؤدّي واجباً فلا يجوز له أَخذ العوض عليه.

و لا يخفى أنّ وجوب العمل لو كان مانعاً من الارتزاق فيما إذا كان غنياً، يجب أن يكون مانعاً في ما إذا لم يتعيّن عليه و كان غنيّاً، مع أنّه حكم فيه بالجواز، فإنّ الواجب الكفائي واجب كالواجب العيني، فلا يؤثر ذلك فرقاً في جواز الارتزاق و عدمه.

و الحق هو الجواز لأنّ من يقوم بمصالح المسلمين فسدّ حاجاته من مصارف بيت المال سواء كان فقيراً أم غنياً، و لو كان الفقر شرطاً لوجب اشتراطه في سائر المناصب كالولاية و غيرها، أضف إلى ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) يأمر عامله بالبذل فوق ما يحتاجون حتى لا يفتقروا إلى غيرهم حيث قال (عليه السلام): «و افسح له في البذل» الخ.

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 161، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 464

حكم الهدية إلى القاضي

و عرّفها الشيخ: بأنّها ما يبذل على وجه الهبة ليورث المودة الموجبة للحكم له حقّاً كان أم باطلًا، و إن لم يقصد المبذول له الحكم إلا بالحق.

و لها أقسام فنذكرها:

الهدية قد تكون تارة قبل الحكم و

أُخرى بعده، و على كل تقدير تارة تكون لأجل الحكم بالحق أو لأجل الحكم بالباطل، أو لأجل الحكم له سواء أ كان حقّاً أم باطلا.

و مقتضى القاعدة صحّتها في جميع الصور حتى فيما إذا كان لأجل الحكم بالباطل، لأنّ الحكم بالباطل ليس عوضاً للهدية، و انّما هي داع له، و مقتضى عمومات الهبة هو الصحة مطلقاً إذا كانت الهدية داعياً و مشوقاً لما يتوخّاه المهدي لا عوضاً مقابلًا.

و أمّا حسب الأَدلة فربّما يحكم بحرمتها لوجوه:

الأوّل: كونها أكلًا للمال بالباطل، لقوله سبحانه: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ). ( «1»)

و قوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً). ( «2»)

و قوله سبحانه: (وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ مِنْهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً). ( «3»)

وجه الاستدلال: انّ الذي يقابل المال هو الحكم بالباطل أو الحكم له

______________________________

(1) البقرة: 188.

(2) النساء: 29 و 161.

(3) النساء: 29 و 161.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 465

مطلقاً، و عندئذ هو آكل له بأمر محرّم و هو الحكم بالباطل، أو الحكم له مطلقاً، سواء كان حقّاً أم باطلا.

و الاستدلال بهذه الآيات مبني على كون «الباء» للمقابلة، و يحتمل- بل هو الظاهر- أنّ «الباء» للسببية، و تريد الآية النهي عن أكل المال بالأسباب الباطلة كالربا و بيع المنابذة و ما يشبههما.

الثاني: كونها رشوة في العرف خصوصاً في القسمين الأخيرين.

يلاحظ عليه: أنّ المتبادر من الرشوة هو المقابلة، أي يعطي شيئاً في مقابل حكمه، و ليس هناك أيّة مقابلة، خصوصاً إذا كان بعد العمل، و ما ورد

في الروايات صريح في أنّ الهدية غير الرشوة، مثل قوله (عليه السلام): «و إنْ أخذ هدية كان غلولًا، و إنْ أخذ الرشوة فهو مشرك». ( «1»)

الثالث: عموم مناط الرشوة، فانّ الهدية لا تقل فساداً عن الرشوة؛ و هو حق لو كان هناك قطع بالمناط. و الظاهر أنّ المناط محرز، خصوصاً إذا كانت الهبة قبل الحكم لا بعده، و يعدّها العرف فعلًا قبيحاً نازلًا منزلة الرشوة، و سيوافيك البحث عن حكمه الوضعي.

و قد نقل الشيخ الطوسي في آداب القضاء من كتاب «المبسوط»: أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) استعمل رجلًا من الأسد يقال له أبو البنية، و في بعضها أبو الأنبية، على الصدقة، فلمّا قدم قال: هذا لكم و هذا أُهدي لي، فقام النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) على المنبر فقال: «ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول هذا لكم و هذا أُهدي لي ... و الذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته ...». ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 10.

(2) المبسوط: 8/ 151، آداب القضاء.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 466

هذا الدليل أتقن ما في الباب، و يكفي في مقام الإفتاء، خصوصاً إذا أُضيفت إليه الأخبار الخاصة.

الرابع: الأخبار التي استدلّ بها الشيخ الأعظم على الحرمة:

1. رواية الأصبغ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «قال ... و إن أخذ هدية كان غلولًا، و إن أخذ الرشوة فهو مشرك» ( «1»). و الرواية صريحة في الحرمة، و حملها على الكراهة حمل على خلاف نصّها، فلا بد أن تحمل على إحدى الصورتين:

1. الهبة لغاية ظلم الغير.

2.

أن تكون ولايتهم مشروطة بعدم أخذ شي ء من الرعية، فيكون العمل على خلاف الشرط حراماً.

نعم، الرواية واردة في هدايا الولاة لا في هدايا القضاة، فلا يمكن الاستدلال بها إلا بتنقيح المناط.

2. رواية جابر، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «هدية الأُمراء غلول». ( «2»)

و في «المبسوط» في آداب القضاء روي عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «هدية العمال غلول»، و في بعضها: «هدية العمال سحت» ( «3»)، و لكنّه يحتمل أن تكون من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، فتكون الرواية ناظرة إلى جوائز السلطان و مَنْ دونه من العمال، و عندئذ يكون ما يأخذ الرعية من العمال غلولًا و سحتاً، و هو غير ما نحن فيه.

3. ما ورد عن الرضا (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ) قال:

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 10.

(2) الوسائل: 18/ 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث: 6.

(3) المبسوط: 8/ 151، كتاب آداب القضاء.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 467

«هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثمّ يقبل هديته». ( «1») و لا يخفى أنّ مضمون الرواية غريب فلا يمكن الاستناد إليه.

فتلخّص من ذلك أنّ الهدية إلى القاضي إذا كانت لغاية الحكم بالباطل، أو الحكم له حقاً كان أم باطلًا، فهي حرام إذا كانت قبل الحكم.

الرشوة في غير الأحكام

و المراد هو إصلاح أمره عند السلطان أو الدوائر المربوطة به، و قسّمها الشيخ على أقسام ثلاثة حيث قال: فإمّا أن يكون أمره منحصراً في المحرّم، أو مشتركاً بينه و بين المحلل و بذل على إصلاحه حراماً أو حلالًا ... أو بذل المال على وجه الهدية الموجبة

لقضاء الحاجة المباحة.

ربّما يستدلّ على الحرمة بأدلّة الرشوة، و لكنّه غير تام، و لو أطلقت فانّما هو من باب المشاكلة، و إلا فالرشوة في الروايات في مقابل الحكم، خصوصاً في مقابل الحكم للباذل حقّاً كان أم باطلًا، أو في مقابل الحكم بالباطل كما هو صريح غير واحدة من الروايات:

1. ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء، الرزقَ؟ فقال: «ذلك السحت». ( «2»)

2. و ما رواه يزيد بن فرقد قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن البخس؟ فقال: «هو الرشاء في الحكم». ( «3»)

3. رواية يوسف بن جابر قال: قال أَبو جعفر (عليه السلام): «لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) من

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11.

(2) الوسائل: 18/ 161، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث: 1 و 4.

(3) الوسائل: 18/ 161، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث: 1 و 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 468

نظر إلى فرج امرأة لا تحل له، و رجلًا خان أخاه في امرأته، و رجلًا احتاج الناس إليه لتفقّهه فسألهم الرشوة». ( «1»)

و بذلك يقيّد إطلاق بعض الروايات مثل رواية الأصبغ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «أيّما وال احتجب من حوائج الناس احتجب اللّه عنه يوم القيامة و عن حوائجه، و إنْ أخذ هدية كان غلولًا، و إن أخذ الرشوة فهو مشرك» ( «2») و على ذلك فلا يصح الاستدلال على الحرمة في المقام بروايات الرشوة.

فنقول: فأمّا من حيث القواعد فالظاهر الصحة في الغاية المحلّلة أو المشتركة، إذ ليس

بذل المال في مقابل تحصيل عمل محرّم مبغوض.

نعم لا يجوز بذل المال في مقابل إصلاح المحرّم، لأنّ بذل المال في مقابله بذل للمال في مقابل عمل محرّم فيكون حراماً تكليفاً و يبطل وضعاً. هذا حكم المسألة حسب القواعد.

و أمّا من حيث الأَدلّة، فقد استدلّ على الحرمة في الصورتين الأُوليين بوجوه:

1. قوله سبحانه: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ). ( «3»)

و قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً). ( «4»)

و قوله تعالى: (وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ مِنْهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً). ( «5»)

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 161، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث: 5. و لاحظ الوسائل: 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 8 و 9 و 12 و 15 و 16.

(2) الوسائل: 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 10.

(3) البقرة: 118.

(4) النساء: 29.

(5) النساء: 161.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 469

و الاستدلال مبني على جعل «الباء» للمقابلة، و بما أنّ العمل محرّم شرعاً مبغوض ذاتاً فلا قيمة له فتكون المعاوضة باطلة، لكونه أكلًا للمال بالباطل، سواء أجاز الأخذ أم لا، غير أنّ التصرّف غير جائز لكونه باقياً في ملك الغير.

يلاحظ عليه:

أمّا أوّلًا: فانّ المبنى غير ثابت، لما عرفت من أنّ الآية ناظرة إلى الأسباب الباطلة لا العوض الباطل شرعاً.

و ثانياً: لو صح الاستدلال فانّما يصح فيما إذا كان أمره الذي يريد أن يصلحه محرّماً، لا مشتركاً بين المحلّل و المحرم.

2. فحوى ما دلّ على أنّ هدية الأُمراء

غلول. مثل رواية جابر، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «هدية الأُمراء غلول». ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ فحواها حرمة الرشوة للأُمراء، فإذا كانت الهدية حراماً فالرشوة بطريق أولى، و أيّ صلة له بهذا البحث؟

و ممّا يدلّ على جواز الرشوة في غير الأحكام في ما إذا كان نفس العمل حلالًا خبر الصيرفي قال: سمعت أَبا الحسن (عليه السلام) و سأله حفص الأعور، فقال: إنّ السلطان يشترون منّا القِرَبَ و الأداوى فيوكّلون الوكيل حتى يستوفيه منّا فنرشوه حتى لا يظلمنا، فقال: «لا بأس ما تصلح به مالك» ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال: «إذا أنت رشوته يأخذ أقل من الشرط؟» قلت: نعم. قال: «فسدت رشوتك». ( «2»)

فإنّ قوله: «فرشوته حتى لا يظلمنا» ظاهر في أنّ الرشوة كانت لدفع الظلم و في طريق الأمر المحلّل.

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث: 6.

(2) الوسائل: 12/ 409، الباب 37 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 470

نعم، لو كانت الرشوة للأخذ بأقل من الشرط تكون فاسدة كما هو ظاهر ذيل الحديث، و على ذلك فيكون قوله (عليه السلام): «لا بأس ما تصلح به مالك» ناظراً إلى ما كان مجرّداً عن هذا العمل الحرام.

و تدلّ عليه أيضاً رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أنْ يتحول من منزله فيسكنه، قال: «لا بأس به». ( «1»)

المعاملة المحابائية

قال الشيخ الأعظم: و ممّا يعد من الرشوة أو يلحق بها المعاملة المشتملة على المحاباة، كبيعه من القاضي ما يساوي عشرة دراهم بدرهم، و لها أقسام:

1. ما لم يقصد من المعاملة إلا المحاباة التي

في ضمنها.

2. أو قصد المعاملة لكن جعل المحاباة لأَجل الحكم له بأن كان الحكم له من قبيل ما تواطئا عليه من الشروط غير المصرّح بها في العقد، و هي الرشوة.

3. و ان قصد أصل المعاملة ثمّ حابى فيها لجلب قلب القاضي، فهي كالهدية ملحقة بالرشوة، و في فساد المعاملة المحابى فيها وجه قوي.

و حاصل كلامه: أنّ القسمين الأوّلين من قبيل الرشوة و الثالث ملحق بها.

و الوجه أنّ المحاباة في القسم الأَوّل أصل و المعاملة صورة ظاهرية لإيصال الرشوة إلى القاضي.

و أمّا الثالث فالمعاملة أصل و المحاباة غاية ثانوية لأجل جلب عواطف القاضي.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 207، الباب 85 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 471

و قد عرفت أَنّ الهدية إذا كانت قبل الحكم فهي حرام تكليفاً و وضعاً إذا كانت الغاية الحكم للباذل مطلقاً أو الحكم بالباطل.

و إنْ شئت قلت: إنّ الحكم للباذل شرط في القسمين الأَوّلين، وداع في القسم الثالث، ففي الأَوّلين يكون الحكم للباذل في مقابل المحاباة، و في الثالث يكون الحكم داعياً للمحاباة.

بقي هنا أمران:

الأوّل: فساد المعاملة.

الثاني: ضمان المأخوذ.

أمّا الأوّل: فالظاهر فساد الكلّ، لأَنّ القسمين الأَوّلين من قبيل الرشوة، و الثالث من قبيل الهدية الملحقة بالرشوة.

و أمّا الثاني: فقد قال الشيخ الأعظم: كل ما حكم بحرمة أخذه وجب على الآخذ رده ورد بدله مع التلف إذا قصد المقابلة بالحكم كالجعل و الأُجرة حيث حكم بتحريمهما، و كذا الرشوة لأنّها حقيقة جعل على الباطل، و لذا فسّره في «القاموس» بالجعل.

و لو لم يقصد به المقابلة، بل أعطى مجاناً ليكون داعياً إلى الحكم- و هو المسمّى بالهدية- فالظاهر عدم ضمانه، لأنّ مرجعه إلى هبة مجانية فاسدة، إذ الداعي

لا يعد عوضاً، و ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، و كونها من السحت انّما يدلّ على حرمة الأَخذ لا على الضمان، و عموم على اليد مختص بغير اليد المتفرعة على التسليط المجاني، و لذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير هذا المقام. ( «1»)

______________________________

(1) المكاسب: 1/ 249.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 472

توضيحه: هذه المسألة مبنيّة على القاعدة المقررة فيما يضمن و ما لا يضمن، و الضابطة في الضمان و عدمه هي أنّه إذا لم يكن الدفع و التسليط مجانياً، بل كان في مقابل شي ء بحيث يحفظ الدافع حرمة ماله، ففي هذا المورد يضمن الآخذ، لأنّه لم يسلّطه عليه مجاناً، بل سلّطه في مقابل عوض، و المفروض أَنّ العوض لم يُسلَّم له شرعاً، فيجب عليه دفع العوض كما في صورة الجعل و الأُجرة، و الرشوة.

و أمّا إذا سلّطه عليه لا في مقابل شي ء بل سلّطه تسليطاً مجانياً من دون أن يقابله شي ء و كان الحكم له داعياً لهذا التسليط فلم يحفظ الدافع حرمة ماله، فلا يكون الآخذ ضامناً إذا تلف أَو أتلف.

و أمّا قاعدة: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» فهي منصرفة إلى ما لم يكن التسليط مجانياً، و سيوافيك شرح هذا في محله.

ثمّ إن الشيخ الأعظم (قدس سره) نقل عن بعض معاصريه القول بعدم الضمان في الرشوة و أوضحه بوجهين:

1. تسليط المالك عليها مجاناً.

2. لأنّها تشبه المعاوضة، و ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

و أورد عليه الشيخ، بالتنافي بين التعليلين، لأنّ شبههما بالمعاوضة يستلزم الضمان، لأنّ المعاوضة الصحيحة توجب ضمان كل منهما ما وصل إليه بعوضه الذي دفعه فيكون مع الفساد مضموناً بعوضه الواقعي، و هو المثل أو القيمة، و

ليس في المعاوضات ما لا يضمن العوض بصحيحه حتى لا يضمن بفاسده.

و يمكن رفع المنافاة بأنّه ليس هنا إلّا تعليل واحد، و هو قوله: «تسليط المالك عليها مجاناً»، و أمّا قوله: «و لأنّها تشبه المعاوضة» فيريد به إثبات كون التسليط عليها مجاناً بتقرير أنّها تشبه بالمعاوضة و ليست معاوضة حقيقة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 473

في اختلاف الدافع و القابض

و ذكر الشيخ الأعظم في المقام له صوراً:

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 473

الأُولى: إذا ادّعى الدافع أنّها هدية ملحقة بالرشوة في الحرمة و الفساد، و ادّعى القابض أنّها هبة صحيحة لداعي القربة أو غيره من الدواعي الصحيحة.

فهنا عقد مورد للاتّفاق بين الطرفين، و هو عقد الهبة، و لكن الاختلاف في كيفيته، فتقديم قول أحدهما على الآخر فرع تشخيص المنكر عن المدعي، و بما أنّ الميزان في تشخيصهما هو أنّ المنكر من وافق قوله الأصل، فيقدّم قول الثاني، أي مدّعي الهبة الصحيحة على الآخر إنْ لم يأت بالبيّنة.

و ربّما يقال بأنّ الميزان و إن كان ذلك، و لكن الدافع يدّعي شيئاً لا يعلم إلا مِنْ قِبَلهِ، فيقدّم قوله.

و لكنّه ليس بتام؛ لأنّ تلك القاعدة مختصة بموارد خاصة كالحَمْل و شبهه، اللّهم إلا أن يدّعى تنقيح المناط و هو غير معلوم.

و ربّما يؤيد تقديم قوله أيضاً بأنّه مقتضى قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

يلاحظ عليه: أنّ عمومه مخصّص بما إذا كان التسليط مجاناً، و معه يكون التمسّك به في المورد من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

فإن قلت:

يمكن إحراز حال الموضوع بنفي عنوان المخصص، و هو أصالة عدم تحقّق الهبة الصحيحة، أو عدم السبب الناقل، و لا تعارضه أصالة عدم الهبة الفاسدة إذ لا أثر لها.

قلت: إنّ هذه الأُصول لا تنفي موضوع المخصّص- أعني: كون التسليط

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 474

مجاناً- إلا على القول بالأصل المثبت، لأنّ من لوازم كون الاستصحابات العدمية- مع فرض عدم سبب آخر- هو عدم كون التسليط مجاناً.

أضف إلى ذلك: أنّ هذه الأُصول استصحابات أزلية و هي ليست بحجّة- إذ مضافاً إلى أنّها أُصول مثبتة- ليست بمصاديق عرفية لأدلّة الاستصحاب، و لا يعدّ عدم العمل بها نقضاً لليقين.

هذا مع غض النظر عن أنّ أَصالة الصحة في الأفعال مقدّمة على تلك الأُصول الموضوعية كلّها، و إلا لزم لغوية قاعدة الصحة في أفعال الغير، إذ ما من مورد من مواردها إلا و فيه أصل على خلاف الصحة، و الحق تقديم قول القابض لما عرفت من مطابقة قوله الصحة.

و إن شئت قلت: لو كان المال باقياً لجاز للدافع الرجوع إذا كان الموهوب له غير ذات الرحم، و مع التلف تجري أَصالة عدم الضمان.

الثانية: إذا ادّعى الدافع أَنّها رشوة أو أُجرة على المحرّم، و ادّعى القابض كونها هبة صحيحة، ففي هذه الصورة ليس العقد متفقاً عليه بين الطرفين حتّى يختلفا في صحته و فساده، فهنا وجهان:

1. تقديم قول القابض لموافقته أَصالة الصحة.

2. تقديم قول الدافع، لأنّ مدّعي الصحة إنّما يقدّم قوله فيما إذا كان هناك عقد متفق عليه اختلفا في صحته و فساده، و أمّا المقام فالدافع منكر لأصل العقد الذي يدّعيه القابض لا أنّه يُسلِّم أصله و ينكر صحته، و لكن الظاهر هو الوجه الأوّل.

الثالثة: أنْ يتوافق المترافعان

على فساد الأخذ و الإعطاء، فادّعى الدافع كون المدفوع رشوة على سبيل الإجارة و الجعالة حتى تكون موجبة للضمان، لأنّ الإجارة

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 475

الصحيحة توجبه، فكذلك الإجارة الفاسدة، و ادّعى القابض على أنّها هدية لكن بالصورة الفاسدة حتى لا تكون موجبة للضمان، إذ ليس في الهبة الصحيحة ضمان، فكذلك فاسدتها، فهنا وجهان:

1. يقدّم قول الدافع لقاعدة «على اليد».

2. يقدّم قول القابض لأصالة عدم الضمان، و يرجح الأوّل بأنّ القاعدة حاكمة على الاستصحاب.

غير أنّه لا يخلو من إشكال، لأنّ التمسّك بالقاعدة في المقام من قبيل التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية، لما مر من أنّه لا يمكن إحراز عدم عنوان المخصّص- أعني: كون التسليط مجانياً- باستصحاب العدم الأزلي مثل عدم تحقّق السبب الناقل أو أَصالة عدم الهبة.

و الحاصل: انّ ما بقي تحت العام هو التسليط غير المجاني و لا حالة سابقة له، و ليس الباقي تحته أمرين منفصلين غير مرتبطين أحدهما: التسليط، و الآخر: كونه غير مجاني حتى يقال: انّ أحدهما- أعني: التسليط- محرز بالوجدان و الآخر بالأصل، بل الموضوع أمر مركب مقيّد، و هو التسليط غير المجان، و هذا الموضوع بهذه الصورة ليس له حالة سابقة، و قد أوضحنا الحال في أبحاثنا الأُصولية عند البحث عن التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية.

الرابعة: أن يدّعي كلُّ واحد، عقداً صحيحاً أحدهما يستلزم الضمان و الآخر يستلزم عدمه، كأن يدّعي الدافع أنّه باع و الآخر أنّه وهبه، فالكل مدع و منكر، فإن أقام كل واحد بيّنة أو حلف مع نكول الآخر، فيقدّم قوله، و إلا فيتحالفان.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 476

10 سبّ المؤمن

اشارة

إنّ سبّ المؤمن حرام بالأدلّة الأربعة.

حقيقة السبّ هو الإهانة بالتنقيص، سواء كان

بالقذف أو بالتوصيف بمثل الحمار و الكلب، و أما مجرّد الإهانة بغير التنقيص كأن يخاطبه على وجه يُعد إهانة و لم يكن فيه تنقيص، فالظاهر أنّه ليس بسبّ. و أمّا قصد الهتك فلا ينفك عن الإهانة بالتنقيص.

و بذلك يعلم أنّ النسبة بين السب و الغيبة هي العموم من وجه، لأنّ الغيبة كشف ما ستره اللّه سواء أ كان هناك إهانة أم لا، و السب هو الإهانة بقصد التنقيص سواء كان كاشفاً لما ستره اللّه أم لا، فقد يجتمعان و قد يفترقان.

غير أنّ من فسّر الغيبة كالشيخ الأنصاري (رحمه الله) بأنّها ذكر الشخص بما يكرهه لو سمعه. صار التفريق بينهما بوجه آخر ذكره الشيخ (رحمه الله) في المقام حيث قال: و الظاهر تعدّد العقاب في مادة الاجتماع، لأنّ مجرّد ذكر الشخص بما يكرهه لو سمعه- و لو، لا لقصد الإهانة- غيبة محرّمة، و الإهانة محرّم آخر.

و العجب من المحقّق الإيرواني حيث قال: إنّ النسبة بينهما هو التباين، لأنّ السب هو ما كان بقصد الإنشاء، و أمّا الغيبة فجملة خبرية. ( «1»)

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 28.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 477

يلاحظ عليه: أنّ كلًا من السب و الغيبة يتحقّق بالإنشاء و الإخبار.

ثمّ إنّ الأدلّة الأربعة دلّت على حرمة السب:

فمن الكتاب: قوله سبحانه: (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ( «1») و السب من أوضح مصاديق الزور بمعنى الباطل.

و أمّا السنّة فنذكر ما يلي:

1. ما رواه أبو بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ رجلًا من تميم أتى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال: أوصني، فكان فيما أوصاه أنْ قال: لا تسبوا الناس فتكسبوا العداوة لهم». ( «2»)

2. و ما رواه أيضاً، عن أبي

جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): سباب المؤمن فسوق». ( «3»)

3. و ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة». ( «4»)

و أمّا العقل: فلأنّه إيذاء و ظلم و تعدّ على الغير، فيصبح حراماً شرعاً.

و أمّا الإجماع: فقد ادّعاه العلامة في «التذكرة» و قال: الكذب عليهم و النميمة و سب المؤمن بلا خلاف في ذلك كلّه.

هذا و حكم المسألة واضح لا يحتاج إلى إطناب.

إنّما الكلام في توضيح الرواية المنقولة في المقام، فقد نقلها الشيخ هكذا: عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في رجلين يتسابّان قال: «البادي منهما أظلم، و وزره على صاحبه ما لم يعتذر إلى المظلوم». ( «5»)

______________________________

(1) الحج: 30.

(2) الوسائل: 8/ 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2 و 3 و 4.

(3) الوسائل: 8/ 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2 و 3 و 4.

(4) الوسائل: 8/ 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2 و 3 و 4.

(5) المكاسب: 32.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 478

ثمّ قال الشيخ: و في مرجع الضمائر اغتشاش، و يمكن الخطأ من الراوي، و المراد- و اللّه أعلم- أنّ مثل وزر صاحبه عليه لإيقاعه إيّاه في السب من غير أنْ يخفف عن صاحبه شي ء، فإذا اعتذر إلى المظلوم عن سبه و إيقاعه إيّاه في السب برئ من الوزر.

غير أنّ الكليني روى الرواية بصورة أُخرى، و معها لا نحتاج إلى التوجيه، قال: «البادئ منهما أظلم، و وزره و وزر صاحبه عليه، ما لم يعتذر إلى المظلوم». (

«1»)

و قال العلامة المجلسي في «مرآة العقول»: إنّ إثم سباب المتسابّين على البادئ، أمّا إثم ابتدائه فلأنَّ السب حرام و فسق، لحديث «سباب المؤمن فسق و قتاله كفر»، و أمّا إثم سب الراد فلأنّ البادئ هو الحامل له على الرد، و انّه كان منتصراً فلا إثم على المنتصر. ( «2»)

و على هذا النقل فمفاد الرواية هو أنّ للساب وزرين: أحدهما بالأصالة، و الآخر بالتسبيب، أي حمل الغير على السب، و انّ عمل الغير اعتداء بالمثل فيجوز ما لم يتعد، و الرواية تدلّ على جواز المعاملة بالمثل للمشتوم.

نعم، الأولى له تركه لأنّ الرواية تفيد أنّ الاعتداء أيضاً إثم و وزر غاية الأمر يتحمّله البادئ، لا أنّه ليس بإثم، فالأولى أنْ يستدل على الجواز بقوله سبحانه: (وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولٰئِكَ مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ). ( «3»)

نعم، حكي عن الأردبيلي: جواز المقاصّة في السب و الغيبة، مستنداً إلى الآية، و قائلًا بأنّ المراد من الانتصار هو الانتقام.

______________________________

(1) الكافي: 2/ 360؛ و نقله في الوسائل: 8/ 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

(2) مرآة العقول: 10/ 265، باب السفه.

(3) الشورى: 41.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 479

و لكن لو كانت الرواية دالّة على ثبوت الوزر للمنتصر حيث تقول: «و وزر صاحبه» فلازمه الحكم بالحرمة و عدم جواز المقاصّة و لا يرتفع إلا بالتوبة.

و يمكن أن يكون إثبات الوزر للمشتوم من باب المشاكلة، و تكون الآية هي الدليل المحكم في المقام، و اللّه العالم.

مستثنيات حكم السب
اشارة

لا شك أنّ سب المؤمن حرام من غير فرق بين الموافق و المخالف، لما عرفت من قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و

أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه». ( «1»)

غير أنّه يستثنى منه:

1. المؤمن المجاهر بالفسق:

فيجوز سبّه بما هو فيه، و إلا فلو كان غير مجاهر يكون غيبة إذا كان غائباً، و لو كان بريئاً و منزهاً يكون افتراءً و كذباً.

و الدليل عليه هو أنّه لا حرمة للمجاهر بالفسق، و لكن الظاهر الاجتناب عنه؛ لإطلاق قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «سباب المؤمن فسوق»، و قول علي (عليه السلام): «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين». ( «2»)

اللّهم إلّا أن يكون سب المجاهر من باب النهي عن المنكر فيشترط بشروطه.

2. المبدع

، و يدلّ على ذلك ما ورد في أهل البدع:

1. رواية داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم):

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3. و المخالف مؤمن على بعض الوجوه دون بعض فإنّ للإيمان في القرآن و الحديث ملاكات مختلفة فلاحظ.

(2) نهج البلاغة: 2/ 211، الخطبة 201، طبعة عبده.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 480

«إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي، فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة ...». ( «1»)

2. رواية حفص بن عمرو، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه، عن علي (عليهما السلام) قال: «من مشى إلى صاحب بدعة فوقّره، فقد مشى في هدم الإسلام». ( «2»)

و استشكل بعض المحقّقين: بأنّه لا وجه لجعله من المستثنيات فإنّه إنْ كان المراد به المبدع في الأحكام الشرعية فهو متجاهر بالفسق، و إنْ كان المراد به المبدع في العقائد و الأُصول الدينية فهو كافر باللّه العظيم فيكون خارجاً عن المقام موضوعاً لعدم كونه متّصفاً بالإيمان.

يلاحظ عليه: إذ ليس كل مبدع في الأُصول كافراً كما إذا

أنكر علم الإمام بالغيب و الرجعة و العصمة معتقداً بإنكاره، معذوراً في عقيدته فهو ليس بكافر و لا فاسق.

3. غير المتأثر بالسب

و قد استثني أيضاً جواز سب غير المتأثر بأنّه لا يوجب قول القائل في حقّه مذلّة و لا نقصاً، كقول الوالد لولده عند مشاهدة ما يكرهه: يا حمار، و عند غيظه يا خبيث، فلا يحرم إلا أن يوجب إيذاءً فيحرم من هذه الجهة لا من باب السب، إذ ليس في قول مثل الوالد أيُّ ذل و نقص على الولد.

و لكن الأحوط الاجتناب، خصوصاً إذا كان موجباً لتأثّره. فقوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «أنت و مالك لأبيك» ( «3») لا يدل إلّا على جواز الأخذ من مال الولد، في ظروف خاصّة لا

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 508، الباب 39 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 1.

(2) نفس المصدر: الحديث: 3.

(3) الوسائل: 12/ 196، الباب 78 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 481

مطلقاً، و لأجل ذلك قلنا في مباحث الحجّ بأنّ الوالد لا يكون مستطيعاً بمال الولد إذا كان كافياً في حاجات الحجّ.

و جوازه ليس لأجل كون الأب مالكاً، بل لأجل الولاية التي جعلها اللّه سبحانه في حقه، و لازم تلك الولاية القيام بالتربية لا الإهانة، فالإطلاقات محكّمة حتى يثبت الجواز.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 482

11 السحر

اشارة

لا شك أنّ السحر حرام في الجملة بلا خلاف.

قال شيخ الطائفة في «النهاية»: و تعلّم السحر و تعليمه و التكسّب به و أخذ الأُجرة عليه حرام محظور. ( «1»)

و قال العلامة في «التذكرة»: تعلّم السحر و تعليمه حرام، و هو كلام يتكلّم به أو يكتبه، أو رقية، أو يعمل شيئاً في بدن المسحور أَو قلبه أو عقله، من غير مباشرة. ( «2»)

و قال النراقي في «المستند»: السحر، و الظاهر أنّه

لا خلاف في تحريمه، سواء كان أمراً حقيقياً أو تخيلياً. ( «3»)

و قال في «المغني»: فصل في السحر، و هو عقد ورقي و كلام يتكلّم به أو يكتبه أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، و له حقيقة، فمنه ما يقتُل و ما يُمرِض و ما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، و منه

______________________________

(1) النهاية: 365، كتاب المكاسب.

(2) التذكرة: 12/ 144، المسألة 650، كتاب البيع.

(3) المستند: 14/ 111، كتاب المكاسب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 483

ما يفرّق بين المرء و زوجه، و ما يبغض أحدهما إلى الآخر ... إذا ثبت هذا فإنّ تعلّم السحر و تعليمه حرام لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم. ( «1»)

و قبل الخوض في المطلب نقدّم أُموراً:
الأوّل: انّ من الكلمات الرائجة في ألسنتهم حرمة التنجيم و السحر و الشعبذة و الكهانة

، و تقدّم الكلام في التنجيم، و حان وقت البحث عن حرمة الثاني، و الثالث و الرابع، و يأتي البحث عن الجميع تدريجاً، كما يأتي البحث عن أحكام الطلسمات و النيرنجات و العزائم.

الثاني: ما هو معنى السحر لغة؟

قال ابن فارس: هو إخراج الباطل في صورة الحق، و يقال: هو الخديعة.

و قال الفيروزآبادي: السحر كل ما لطف مأخذه و دقَّ «و ان من البيان لسحرا» معناه- و اللّه أعلم- انّه يمدح الإنسان فيُصدَّق فيه حتى يصرف قلوب السامعين إليه، و يذمّه فيُصدَّق فيه حتى يصرف قلوبهم أيضاً عنه- إلى أن قال-: و سحر كمنع: خدع ... و المسحور: المفسد من الطعام.

و فسّره ثالث بصرف الشي ء عن ظاهره، و نقل في لسان العرب عن «الأزهري» أنّه قال: و أصل السحر صرف الشي ء عن حقيقته إلى غيرها، فكأنّ الساحر لما أرى الباطل في صورة الحق و خيّل الشي ء على غير حقيقته، قد سحر الشي ء عن وجهه. و نقل عن يونس: أنّ العرب تقول للرجل: ما سحرك عن وجه كذا و كذا، أي ما صرف كنهه، و انّما سمّي السحر سحراً لأنّه يزيل الصحة إلى المرض، و يقال: انّما سحره: أزاله عن البغض إلى الحب. ( «2»)

______________________________

(1) المغني: 10/ 112 و 113، الطبعة الثالثة.

(2) لسان العرب: 4/ 348، مادة «سحر».

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 484

هذه كلمات أهل اللغة، و المستفاد من المجموع هو أنّ السحر لغة إخراج الشي ء بغير صورته الواقعية و إراءته بغير ما هو عليه، و لئن استعملت الكلمة في الخدعة فلأجل أنّ إراءة الشي ء على غير صورته الواقعية لا تنفك عن الخدعة، و لئن استعملت هذه الكلمة في مطلق الانصراف فهو توسّع في الاستعمال.

و قد استعملت هذه الكلمة

بصورها المختلفة في الذكر الحكيم قرابة (57) مرّة، و يظهر من موارد استعمالها فيه أنّ المراد من السحر في القرآن إراءة الشي ء على غير ما هو عليه بتصرّف في حواس المخاطب من عينه و سمعه إلى غير ذلك، قال سبحانه: (فَلَمّٰا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّٰاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ) ( «1»)، فترى أنّه سبحانه ينسب السحر إلى العيون.

و قال سبحانه: (فَإِذٰا حِبٰالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ) ( «2»)، فلقد أرى سحرة فرعون الحبال و العصي على غير صورتها الواقعية و خيّلوا إلى موسى- على نبينا و آله و (عليه السلام)- انّها تسعى إليه.

و مثله قوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ الظّٰالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلّٰا رَجُلًا مَسْحُوراً) ( «3»)، أي رجلًا قد تصرف في حواسه و مشاعره فيرى الأشياء و الحقائق على غير ما هي عليه فلا يمكن الاعتماد على إخباره عن الحياة الآخرة و ما فيها من الوعد و الوعيد، و تفسير «مسحوراً» بالمخدوع تفسير باللازم.

و يتحصّل من ذلك أَنّ السحر عبارة عن كل عمل يوجب ظهور الشي ء بغير صورته الواقعية، و يورث تخيّل الإنسان غير الواقع واقعاً، كما تخيَّل موسى سعي الحبال و العصي إليه، و لأجل ذلك نقل في «اللسان» أنّ السحر و السحارة

______________________________

(1) الأعراف: 116.

(2) طه: 66.

(3) الإسراء: 47.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 485

شي ء يلعب به الصبيان، إذا مُدّ من جانب خرج على لون، و إذا مد من جانب آخر خرج على لون آخر.

و أمّا قوله: «إنّ من البيان لسحراً» فقد استعمل كلمة السحر بمعنى صرف القوى عن كل جانب و توجيهها إلى نفس المتكلّم، فهو توسّع في الاستعمال باعتبار أنّ الخطيب يتصرّف في قوى المخاطبين فيسلب عنهم الحركة

و التنقل و التكلّم و يُخيل إليهم أنّهم مسخّرون مع أنّهم ليسوا كذلك.

و بذلك يعلم أن تفسير السحر بما لطف ودق تفسير بالأعم أوّلًا، و تفسير للشي ء بأسبابه ثانياً، و ليس تحديداً صحيحاً، إذ ليس كل ما دق و لطف سحراً، و إلا فيلزم أن تكون الصنائع الفيزياوية و الكيمياوية و الجوية الرائجة في هذه الأعصار كلّها سحراً.

كما يظهر انّ اتّفاقهم على معنى السحر، و هو ما يكون فيه خداع، فهو من قبيل التفسير بالسبب أيضاً، حتى أنّ بعضهم وسّع في جانب أسبابه فعدّ منه النميمة كما عن «البحار» على ما نقله الشيخ الأعظم، كما عدّ منه الاستعانة بخواص الأجسام السفلية و هي علم الكيمياء، و خواص النسب الرياضية و هو علم جرّ الأثقال «علم الفيزياء»، و هذه التوسعة في جانب أسبابه لا في نفس مفهوم السحر، فانّه بمعنى صرف الشي ء عن واقعه و إراءة الواقع بصورة الحق بخدعة متصرّفة في الأسماع و العيون. هذا تفسير السحر حسب اللغة.

الثالث: في تعاريفه

، و قد عرّف بتعاريف مختلفة نذكر بعضها:

التعريف الأوّل: ما نقله الشيخ الأعظم (رحمه الله) عن العلامة: انّه كلام يتكلم به أو يكتبه أو رقية أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 486

و قد أشار العلامة في تعريفه هذا إلى قسمين من السحر:

1. انّه كلام أو رقية يتكلّم به أو يكتب، و الرقية بضم الراء: العوذة، و هو كلام خاص. و زاد في «المسالك» قوله: أو أقسام و عزائم، و المراد منهما ما اشتمل على الحلف باللّه تعالى و سائر الأشياء المقدّسة. و لا حاجة إلى هذه الزيادة لدخولهما تحت «كلام» و هو

بإطلاقه يشمل كل مكتوب أو متكلّم به.

2. عمل صادر من الساحر، و هذه الأعمال عبارة عن الدخان المسكر «البخور» و النفث في العقد و التصوير، و لا شك أنّ كل ما يقوم به الساحر من الكلام و العمل انّما يؤثر منضماً إلى تصرفاته النفسانية، و من البعيد أنْ يكون المؤثر في صرف الشي ء إلى غير واقعه و المتصرّف في حواسه و خياله، مجرّد الكلام أو الفعل، بل تنضم هذه الأُمور إلى تصرّفات الساحر و إرادته المؤثرة.

و بذلك يعلم خروج كثير ممّا ذكروه في أقسام السحر عنه، منه استخدام الملائكة، و استنزال الشيطان في كشف الغائبات و علاج المصاب، و استحضارهم و تلبيسهم ببدن صبي أو امرأة، و طلب كشف الغائبات منه فانّ الظاهر أنّ ذلك ليس سحراً في الحقيقة، لما عرفت من أنّ السحر إخراج الشي ء و إراءته على غير صورته الواقعية.

و بالجملة: السحر تمويه و خداع، و استنزال الملائكة و استخدام الجن و تلبيسهم ببدن الصبي و المرأة أمر واقعي لا خيالي، فالأولى جعل ذلك من أقسام الكهانة كما سيوافيك.

و الحاصل: أنّ السحر يدور مدار إيجاد الخيال و التصرّف في الحواس من العيون و الأسماع من دون أن يكون لما يرى و يسمع حقيقة في غير عالم الخيال قال سبحانه: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النّٰاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ)، و هذا يفيد أنّ السحر أخذ

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 487

بالعيون و تصرّف فيها، و ما ذكر من الاستنزال و الاستخدام و التلبيس على فرض صحتها أُمور تكوينية لا خيالية.

و بذلك يعلم ضعف ما ذكره المحقّق الثاني مستشكلًا على تعريف العلامة السابق ذكره بأنّ قوله: «يؤثر في بدن المسحور» إن كان قيداً للجميع خرج عن تعريف

السحر الذي لا يحدث في بدن أو عقل، و إن كان قيداً لقوله أو يعمل شيئاً، خرج عنه السحر بالعمل ما لا يؤثر في شي ء من المذكورات.

يلاحظ عليه: أنّه ليس هنا سحر خال عن التأثير في المذكورات، و ما ذكره من النقض من عقد الرجل عن زوجته بحيث لا يقدر على وطئها أو إلقاء البغضاء بينهما- على فرض صحتهما- فهو أيضاً لا يخلو من التأثير في بدن المسحور و حواسه و مشاعره، حيث إنّ المسحور يتصور المحبوب مبغوضاً، أو يخيل المرأة للرجل بشكل لا يميل إلى المقاربة.

و على كل تقدير فهذا التعريف أقرب إلى المعنى اللغوي و موارد استعماله في الكتاب.

التعريف الثاني: ما نقله الشيخ الأعظم (قدس سره) عن «الإيضاح»: انّه استحداث الخوارق إمّا بمجرد التأثيرات النفسانية و هو السحر، أو بالاستعانة بالفلكيات فقط و هو دعوة الكواكب، أو بتمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية و هي الطلسمات، أو على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة الخارجة عن القالب و هي العزائم، و يدخل فيه النيرنجات، و الكل حرام في شريعة الإسلام و مستحلّه كافر.

و المقسم هو استحداث الخوارق، وسمي قسم خاص منه، أعني: ما يتحقق بالتأثيرات النفسانية سحراً، و هو مؤيد لما ذكرنا من اختصاص السحر بإراءة الباطل في صورة الحق، و أمّا استحداث الخوارق من غير هذا الطريق من الطرق

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 488

غير المألوفة و غير الطبيعية كدعوة الكواكب و تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية، فهي أُمور حقيقية واقعية لا خيالية، فهي على فرض حرمتها غير داخلة في السحر، و سيوافيك عدم حرمة ما وراء السحر بما هي هي ما لم يترتب عليه عنوان محرّم.

نعم يرد على تعريف «الإيضاح» أنّ المؤثر

في السحر ليس هو النفث وحده، بل كل ما يكتب أو يتكلّم أو يعمل من النفث و البخور و التصوير ممّا له دخل.

أضف إلى ذلك أنّه لم يذكر المتأثَر، أعني: المسحور في عقله أو عينه أو سمعه، إلى غير ذلك من الأُمور التي يقوم السحر بها، فالسحر من الأُمور ذات الإضافة فله إضافة إلى الساحر و تأثيراته النفسانية كما له إضافة إلى الأُمور التي تستخدمها النفس من الكتابة، و إضافة ثالثة إلى الإنسان المتأثر.

التعريف الثالث: ما ذكره المجلسي و قال: إنّه في عرف الشرع مختص بكل أمر مخفي سببه و يتخيل على غير حقيقته و يجري مجرى التمويه و الخداع. ( «1»)

و لو أنّه (قدس سره) اكتفى بما نقلناه عنه لكان أجمل، لكنه ذكر بعد ذلك أقساماً كثيرة للسحر مع أنّها ليست من السحر قطعاً، حيث عدّ له أقساماً ثمانية، فعدّ منها الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات على النسب الهندسية كرقاص يرقص، و فارسان يقتتلان، و الاستعانة بخواص الأَدوية، و تعليق القلوب و هو أن يدعي الساحر أنّه يعلم العلوم الغيبية، و أنّ الجن يطيعونه، فعندئذ يتعلق قلب السامع به، و يحصل منه الرعب و الخوف و يفعل فيه الساحر ما يشاء مع بطلان كلّما يدّعي، كما عدَّ منه النميمة، و لا شك أنّ هذه الأُمور الأربعة، الأَخيرة في كلامه

______________________________

(1) البحار: 56/ 277.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 489

خارجة عن حد السحر، و أمّا الأربعة الأُولى فسيوافيك الكلام، أعني: سحر الكلدانيّين ( «1»)، سحر أصحاب النفوس القوية، و الاستعانة بالأرواح الأرضية، و التخيّلات، و الأخذ بالعيون، و هذه الأربعة التي بعد الرابعة كلّها خارجة عن حريم السحر، و انّما له حقائق

كونية على فرض صحتها.

فتحصّل من ذلك أنّ الأصحاب قد توسّعوا في استعماله توسّعاً غير صحيح، فخرجوا عن مفاد اللغة و مورد استعماله في الكتاب و السنّة، و انّما السحر شي ء واحد و أمر فارد، و هو استحداث خارق للعادة من سبب خاص، و هو التكلم بشي ء أو كتابته أو عمل شي ء، يؤثر في الإنسان فيخدع و يرى الباطل حقاً، و غير الواقع واقعاً، و أمّا استحداث الخوارق من الأسباب الأُخر فهو داخل تحت عناوين أُخر من الكهانة و الطلسمات و النيرنجات، و سيوافيك البحث عنها.

الرابع: هل للسحر حقيقة؟

المشهور أنّه لا حقيقة للسحر، صرح بذلك الشيخ في «النهاية» و تبعه عدّة من الأصحاب، و الظاهر أنّ عبارتهم ناظرة إلى ما يتخيّله المسحور أمراً واقعاً قال سبحانه: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ) ( «2»)، و أمّا التصرّف النفساني أو الأداة التي يستعملها الساحر فلكلّ حقيقة. ( «3»)

______________________________

(1) في المصدر «الكذّابين» و لكن في تفسير الرازي: 1/ 443، في تفسير قوله سبحانه: (و اتّبعوا ما تتلوا الشَّياطين على مُلك سُليمان) (البقرة/ 102): مكان «الكذابين» الكلدانيين.

(2) طه: 66.

(3) نعم، ذكروا انّه لو قتل إنسان إنساناً بالسحر فهل له قود أو لا؟ فاستظهر بعضهم عدمه، و لكن التحقيق، خلاف ذلك لأنّ للخيال تأثيرات في الأجسام و الأرواح فما يصدر من الساحر هو إيجاد صورة خيالية في نفس المسحور، و ربّما تترتّب على الصورة الخيالية أُمور واقعية. و منها إحاطة الخوف عليه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 490

و بذلك يظهر الفرق بين السحر و الإعجاز، فإنّ ما يأتي به الساحر- بعد التأثير في النفوس و ما يقوم به من الأعمال- لا يخرج عن حدود الخيال، و كلّ من الحبال و العصي

و ان كانت قد شابهت الثعبان و لكنهما لم تكونا بثعبان حقيقة، و هذا بخلاف ما يأتيه النبيّ من المعجز فانّ ما يقوم به له واقعية في الخارج، فالعصي تنقلب بإذن اللّه إلى ثعبان و تهتز كأنّها جان.

فإن قلت: فعلى هذا ما الفرق بين الإعجاز و سائر أنواع استحداث الخوارق من الطرق غير الطبيعية كاستنزال الملائكة، و استخدام الجن، و تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية؟

قلت: إنّ الفرق بينها و بين الإعجاز من وجوه أوضحناها في أبحاثنا الكلامية، أهمها: انّ هذه الطرق التي يتوصل بها المرتاضون و أصحاب النفوس المؤثرة علمية يحصلها أصحابها عن طريق التعليم و التعلّم، و يعرف ذلك مَن يطّلع على صحائف حياة هؤلاء الأشخاص، و أمّا أصحاب المعاجز فهم يقومون بها من دون تتلمذ على أُستاذ أو حضور في صف.

و لأجل ذلك فإنّ عمل المرتاضين و أصحاب النفوس القوية قابل للمباراة و المقابلة بخلاف عمل الأنبياء، و لأجل ذلك لا يقوم مرتاض بعمل واحد إلا و يقوم آخر بعمل مثله أو أقوى منه.

و لكون عمل المرتاضين و أصحاب النفوس القوية ناشئاً من التعليم و التعلّم فهو ينحصر في إطار خاص و لا يتعدّاه، و هذا بخلاف المعجزة فانّها تتنوّع حسب اختلاف العصور و الفصول، و التفصيل يطلب من محله.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 491

دليل حرمة السحر

إذا وقفت على هذه الأُمور فقد دلّت على حرمة السحر عدّة روايات:

1. موثّقة السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أَبيه (عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): ساحر المسلمين يقتل، و ساحر الكفّار لا يقتل». قيل: يا رسول اللّه لم لا يقتل ساحر الكفّار؟ قال: «لأنّ الشرك أعظم من السحر،

لأنّ السحر و الشرك مقرونان». ( «1»)

2. رواية «الخصال» حيث قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، و مدمن سحر، و قاطع رحم». ( «2»)

3. رواية عبد اللّه بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) أنّ علياً (عليه السلام) قال: «من تعلّم شيئاً من السحر قليلًا أو كثيراً فقد كفر، و كان آخر عهده بربّه، و حدّه أن يقتل إلا أن يتوب». ( «3»)

4. رواية محمد بن إدريس، عن الهيثم قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّ عندنا بالجزيرة رجلًا ربّما أخبر من يأتيه يسأله عن الشي ء يسرق أو شبه ذلك فنسأله، فقال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل اللّه من كتاب». ( «4»)

5. ما رواه نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «المنجم ملعون، و الكاهن ملعون، و الساحر ملعون، و المغنية ملعونة، و من آواها ملعون و آكل كسبها ملعون». ( «5»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 106، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

(2) الوسائل: 12/ 106، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6 و 7.

(3) الوسائل: 12/ 106، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6 و 7.

(4) الوسائل: 12/ 109، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

(5) الوسائل: 12/ 103، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 492

و قال (عليه السلام): «المنجم كالكاهن و الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر

في النار». ( «1»)

6. رواية زيد الشحام، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه». ( «2»)

7. روى الجزري في «جامع الأُصول» مادة «سحر» عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «من عقد عقدة ثمّ نفث فيها فقد سحر، و من سحر فقد أشرك». ( «3»)

و هذه الروايات و إن لم يصح أسناد بعضها لكن المجموع من حيث المجموع يشرف الفقيه على القطع بالحرمة.

بقي الكلام في أُمور ثمانية عدّها المجلسي ( «4») من أقسام السحر، فقد عرفت أنّ العلّامة المجلسي عدّ من السحر أُموراً لا يصح عدّها منه، و زعم الشيخ الأعظم (قدس سره) كونها منها لشهادة العلامة المجلسي بأنّها من أقسام السحر، و شهادة صاحب «الإيضاح» على حرمتها و إن لم يشهد على كونها من السحر بل جعلها مقابلة للسحر.

يلاحظ عليه: أمّا الأوّل فالظاهر منه (قدس سره) أنّها غير السحر، حيث إنّه فسّر السحر بالتمويه و الخداع، و هو لا يصدق على هذه الأقسام، و إن ذكر هذه الأقسام بعده، و على فرض صحة ما ذكره لا حجية في شهادته، و أمّا صاحب «الإيضاح» فانّه جعلها مقابل السحر ( «5») و إنْ حكم بحرمتها، و على كل تقدير فنمنع كونها

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 103، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 8.

(2) الوسائل: 18/ 576، الباب 1 من أبواب بقية الحدود، الحديث: 3.

(3) جامع الأُصول: 6/ 37.

(4) لاحظ ص 488 من هذا الكتاب.

(5) لاحظ ص 487 من هذا الكتاب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 493

داخلة في السحر و شمول إطلاقاته عليها، و إليك دراسة هذه الأُمور.

أمّا الأوّل: أعني: سحر

الكلدانيين فالساحر عند هذه الفرق من يعرف القوى العالية الفعّالة بسائطها و مركباتها، و يعرف ما يليق بالعالم السفلي و يعرف معدّاتها ليعدها، و عوائقها ليعرفها بحسب الطاقة البشرية، فيكون متمكناً من استحداث ما يخرق العادة، و هذا القسم هو الثاني في كلام صاحب «الإيضاح» حيث يقول: أو بالاستعانة بالفلكيات فقط و هي دعوة الكواكب، و هذا القسم- على فرض صحته- ليس من السحر قطعاً، إذ ليس فيه صرف الشي ء عن وجهه على سبيل الخديعة و التمويه، و انّما هو حاصل علم العالم بآثار القوى العالية الفعالة و تأثير الموجودات السافلة.

نعم، هؤلاء الجماعة يعدّون من الكفّار لإنكارهم ربوبية اللّه سبحانه و تدبيره و إن كانوا معتقدين بخالقيته، و لأجل ذلك قام إبراهيم (عليه السلام) بإبطال عقيدتهم كما ذكره سبحانه في كتابه العزيز.

أمّا الثاني: أعني: سحر أصحاب النفوس القويّة، و لا شك أنّ لنفس المرتاض بالرياضات- إلهية كانت أم غيرها- تأثيراً في الخارج فيستطيع إيجاد حوادث في الخارج، كإيقاف الماشي و إسكان المتحرّك، و أين هو من السحر؟ و ليس هو بحرام، خصوصاً إذا كان التصرّف مستنداً إلى الرياضات الشرعية.

أمّا الثالث: أعني: الاستعانة بالأرواح الأرضية، و هي الجن، فاستخدام الجن- الذي ربّما يسمّى بالعزائم- خارج عن السحر، اذ هو عمل حقيقي إذا لم يترتب عليه إيذاء، و هو القسم الرابع من كلام صاحب «الإيضاح» (قدس سره).

أمّا الرابع: أعني: التخيّلات و الأخذ بالعيون، فبعض هذا القسم من خطأ الحواس، فإنّ لها أخطاء كثيرة فيرى القطرة النازلة خطاً، و الشعلة الجوالة دائرة،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 494

و الخشب في الماء منكسراً، و هناك قسم آخر يحصل بفعل إنسان آخر كما سيجي ء تفصيله في الشعبذة.

أمّا الخامس: أعني:

الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة، و هي لا تعد من السحر لكونها من أقسام الصنعة، و هي التي عبّر عنها صاحب «الإيضاح» (قدس سره) بالاستعانة بالنسب الرياضية و هو علم الحيل و جر الأثقال.

كما أنّ السادس:- و هو الاستعانة بخواص الأدوية- وصفه صاحب «الإيضاح» بخواص الأجسام السفلية، و على كل تقدير فهو ليس من السحر، و لا دليل على حرمته.

كما أنّ السابع- و هو تعليق القلب- حرام لكونه مستلزماً للكذب.

أمّا الثامن: أعني: النميمة، فهي و إن كانت محرّمة بالضرورة عند الفريقين، لكن لا دلالة في شهادة المجلسي و لا الفاضل المقداد على أنّها من أقسام السحر، حتى يشملها إطلاقاته، كمالا وجه لحكم صاحب «الإيضاح» على حرمة هذه الوجوه.

نعم سيأتي الكلام في القسم الرابع، و هو التخيّلات و الأخذ بالعيون، عند البحث عن الشعبذة، و سيوافيك خبر الاحتجاج في عدّ هذا القسم من السحر، كما سيوافيك توضيحه.

الكلام في المستثنيات من السحر
اشارة

ثمّ إنّ بعض الفقهاء- رضوان اللّه عليهم- ذكروا للسحر مستثنيات نشير إليها:

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 495

الأوّل: حل السحر بالسحر

قال العلّامة في «الإرشاد»: و يجوز حل السحر بشي ء من القرآن و الذكر أو الأَقسام لا بشي ء منه.

و قال في «التذكرة»: و يجوز حل السحر بشي ء من القرآن أو الذكر و الأقسام، لا بشي ء منه. ( «1»)

و قال العاملي في «مفتاح الكرامة»: إنّه قال الشهيدان و الفاضل الميسي و الكاشاني: لو تعلّمه ليتوقّى به أو يدفع به المتنبي، جاز، و ربما وجب، و كأنّه مال إليه الأردبيلي (قدس سره) اقتصاراً فيما خالف الأصل على المتيقن، ثمّ قال: الأَقوى المنع كما هو خيرة «المنتهى» و «التحرير» و ظاهر الأكثر، و مال إليه المحقق الثاني. ( «2»)

و قال في «المغني»: و السحر الذي ذكرنا حكمه هو الذي يعدّ في العرف سحراً ... و أمّا من يحلّ السحر، فإن كان بشي ء من القرآن أو شي ء من الذكر و الأقسام و الكلام الذي لا بأس به، فلا بأس به و إن كان بشي ء من السحر. ( «3»)

احتج المانعون بالإطلاقات، و المجوّزون بروايات خاصّة، غير أنّه يدلّ على الجواز قبل الروايات قوله سبحانه: (وَ اتَّبَعُوا مٰا تَتْلُوا الشَّيٰاطِينُ عَلىٰ مُلْكِ سُلَيْمٰانَ وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ وَ لٰكِنَّ الشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّٰاسَ السِّحْرَ وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولٰا إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلٰا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّٰا بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لٰا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي

______________________________

(1) التذكرة: 12/ 144، المسألة

650، كتاب التجارة.

(2) مفتاح الكرامة: 4/ 73.

(3) المغني: 10/ 117، الطبعة الثالثة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 496

الْآخِرَةِ مِنْ خَلٰاقٍ وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ). ( «1»)

فدلّت الآية على أنّ السحر كان على قسمين: منه ما يضرهم، و منه ما ينفعهم كما يشير إليه قوله: (وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لٰا يَنْفَعُهُمْ) الدال على أنّهم كانوا يتعلّمون المضر مكان تعلّمهم النافع.

و يؤيد ذلك ما ورد في الرواية في تفسير الآية عن «عيون أخبار الرضا»، عن الحسن بن علي العسكري، عن آبائه (عليهم السلام)، في حديث، قال في قوله عز و جل: (وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ) قال: «و كان بعد نوح (عليه السلام) قد كثرت السحرة المموِّهون، فبعث اللّه عز و جل ملكين إلى نبي ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة و ذكر ما يبطل به سحرهم و يرد به كيدهم، فتلقّاه النبي عن الملكين و أدّاه إلى عباد اللّه بأمر اللّه عز و جل، و أمرهم أن يقفوا به على السحر و أن يبطلوه، و نهاهم أن يسحروا به الناس، و هذا كما يُدلُّ على السمّ ما هو و على ما يدفع به غائلة السمِّ- إلى أن قال-: و ما يعلمان من أحد ذلك السحر و إبطاله حتى يقولا للمتعلّم: إنّما نحن فتنة و امتحان للعباد ليطيعوا اللّه فيما يتعلّمون من هذا و يبطلوا به كيد السحرة و لا يسحروهم فلا تكفر باستعمال هذا السحر و طلب الإضرار به». ( «2»)

فدلّت الرواية على جواز إبطال السحر بالسحر، و أنّ الهدف من نزول الملكين- أعني: هاروت و ماروت- بأرض بابل انّما كان تعليم الناس السحر

ليبطلوا كيد السحرة، فلو كان إبطال السحر بالسحر ممنوعاً في شرعنا لكان على الإمام (عليه السلام) الإشارة إلى أنّ هذا الحكم يختص بشريعة من قبلنا، على أنّا ذكرنا في

______________________________

(1) البقرة: 102.

(2) الوسائل: 12/ 106، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 497

محلّه أنّ كل ما جاء في القرآن الكريم من القصص و الحكايات انّما نزلت لهدف التربية و أخذ العبرة، و لم يكن الهدف سرد القصة من دون أن تمتّ إلى حياة أُمّة القرآن بصلة، و لذلك كلّما ورد في القرآن جوازه، و لو في الأُمم السابقة، فهو دليل على جوازه في أُمّتنا، إلا أنْ يدل على خلافه دليل قاطع.

و يدلّ عليه من الروايات:

رواية إبراهيم بن هاشم، عن شيخ من أصحابنا الكوفيّين ( «1») قال: دخل عيسى بن شقفي على أبي عبد اللّه (عليه السلام)، و كان ساحراً يأتيه الناس و يأخذ على ذلك الأجر، فقال له: جعلت فداك أنا رجل كانت صناعتي السحر و كنت آخذ عليه الأجر، و كان معاشي، و قد حججت منه و منّ اللّه علي بلقائك، و قد تبت إلى اللّه عز و جل، فهل لي في شي ء من ذلك مخرج؟ فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام): «حل و لا تعقد». ( «2»)

و روى أيضاً «أنّ توبة الساحر أن يحل و لا يعقد» ( «3») رواه «الصدوق» (قدس سره) مرسلًا.

احتجّ صاحب «مفتاح الكرامة» على عدم الجواز بوجوه:

1. انّ أخبار الحل مختصّة بحلّه بغير السحر كالقرآن و الذكر و ...

يلاحظ عليه: أنّه مخالف لإطلاق قوله: «حل و لا تعقد»، و خلاف ما يتبادر من القرآن، و ما ورد في تفسيره في

«عيون الأخبار» حسب ما عرفت.

2. و خبر العيون- على ضعفه- مخصوص بتلك الشريعة، و شرع من قبلنا حجّة ما لم يعلم نسخه، و قد علمنا النسخ هنا بما عرفت.

______________________________

(1) و تعبير إبراهيم بن هاشم بالشيخ عن الراوي بما مر، نوع توثيق له، و لا أقل من المدح.

(2) الوسائل: 12/ 105، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 3.

(3) الوسائل: 12/ 105، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 498

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بالآية لا بخبر العيون، و انّما ذكر خبر العيون لأجل طلب الوضوح، و لم يعلم نسخ هذا الحكم، أي حل السحر بالسحر، و انّما علم حرمة السحر في كلتا الشريعتين.

و بالجملة: ما هو حرام في الشريعة السابقة حرام في شريعتنا، و ما هو حلال في تلك الشريعة حلال ما لم يعلم نسخه في شريعتنا.

ثمّ إنّه استدلّ بخبر «الاحتجاج» حيث سأل الزنديق و قال: فما تقول في الملكين هاروت و ماروت، و ما يقول الناس بأنّهما يعلّمان الناس السحر؟ قال الصادق (عليه السلام): «إنّهما موضع ابتلاء و موقع فتنة، تسبيحهما: اليوم لو فعل الإنسان كذا و كذا، لكان كذا و كذا، و لو يعالج بكذا و كذا لصار كذا، أصناف السحر فيتعلّمون منهما ما يخرج عنهما، فيقولان لهم: إنّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما يضركم و لا ينفعكم». ( «1»)

و أنت خبير بعدم دلالته على ما مرّ، إذ يدل على أنّ السحر منه النافع، و هو ما أشار إليه بقوله: لو فعل الإنسان، أو «و لو يعالج»، و لكن الناس يتعلّمون شيئاً خارجاً عن هذه الدائرة و يتعلّمون المضرّ لا

النافع، و لا دلالة فيه على حرمة السحر.

و الحاصل: أنّه لا وجه للحرمة بعد هذه الروايات، و فتوى جمع من الأصحاب كالشهيد الثاني و الأردبيلي- قدس سرهما-، و انصراف الإطلاقات إلى غير هذه الصورة.

الثاني: السحر غير المضر

من السحر، ما هو مضر، و منه ما هو غير مضر، و قد عرفت حكم الأوّل.

______________________________

(1) الاحتجاج: 2/ 221، و لعلّه سقطت كلمة قبل قوله: «و أصناف السحر».

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 499

و أمّا الثاني فالظاهر جوازه، لا لأنّ الإضرار داخل في مفهوم السحر، لأنّ ذلك خلاف المتبادر من الآية حيث قال سبحانه: (وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لٰا يَنْفَعُهُمْ) المشعر بأنّ للسحر نوعين: ضار و نافع، بل لانصراف الأدلّة إلى السحر المضر، و يمكن الاستئناس للجواز من المسألة السابقة، أعني: إبطال السحر بالسحر، و تؤيده رواية العيون حيث قال: «فلا تكفر باستعمال هذا السحر و طلب الإضرار به». ( «1»)

و العجب أنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) عدَّ من المضر إحداث حب في الشخص، و استند في ذلك إلى ما رواه إسماعيل بن مسلم- أي السكوني- عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لامرأة سألته: إنّ لي زوجاً و به عليَّ غلظة، و انّي صنعت شيئاً لأعطفه عليَّ، فقال لها رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): أف لك كدرت البحار، و كدرت الطين، و لعنتك الملائكة الأخيار و ملائكة السماوات و الأرض، قال: فصامت المرأة نهارها و قامت ليلها و حلقت رأسها و لبست المسوح، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال: إنّ ذلك لا يقبل منها». (

«2»)

و متن الرواية دليل على ضعفها، اذ مضافاً إلى أنّه لا يعمل بمتفردات السكوني، فإنّ عمل المرأة لم يكن أزيد من ارتدادها حيث تقبل توبة المرأة المرتدة، فكيف لا تقبل توبتها من ذلك؟!

أضف إلى ذلك أنّه معارض بما رواه، أبو البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام)، أنّ علياً (عليه السلام) قال: «من تعلّم شيئاً من السحر قليلًا أو كثيراً فقد كفر، و كان آخر عهده بربّه، و حدّه أن يقتل إلا أنْ يتوب». ( «3»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 106، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4.

(2) الوسائل: 14/ 184، الباب 144 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث: 1.

(3) الوسائل: 12/ 107، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 500

و الظاهر جواز غير الضار من السحر لعدم ترتّب مفسدة عليه.

و أمّا حكم الساحر شرعاً فقد بحثنا عنه في كتاب الحدود فلاحظ.

التسخير ليس من السحر

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): إنّ التسخيرات بأقسامها داخلة في السحر على جميع تعاريفه، و قد عرفت أنّ الشهيدين- قدس سرهما- مع أخذ الإضرار في تعريف السحر ذكرا أنّ استخدام الملائكة و الجن من السحر، و لعل وجه دخوله تضرر المسخَّر بتسخيره- إلى أن قال-: و يدخل في ذلك تسخير الحيوانات من الهوام و السباع و الوحوش و غير ذلك خصوصاً الإنسان و .... ( «1»)

أقول: قد عرفت أنّ السحر تصرّف في الحواس و القلوب حتى يرى الباطل حقاً، و على ذلك فالتسخير بما هو أمر واقعي و تكويني لا يُعد من السحر أبداً، و ما استشهد به الشيخ من عد الشهيدين استخدام الجن و استنزال الملائكة سحراً لا حجّية فيه.

و

على ذلك فلا تدل إطلاقات السحر على حرمة التسخير، بل تسخير الحيوانات دال على كمال النفس، فالأصل الجواز ما لم يدل دليل على حرمته.

و أمّا تسخير الأرواح المعبّر عنه في مصطلح اليوم بإحضارها، و إن كان الأولى تسميتها بالارتباط بها، فلو لم يكن إيذاءً لها و لم يكن طريقاً لكشف الغائبات و ارتكاب المحرّمات فلا دليل على حرمته.

و بالجملة: إنّ الأصحاب أدخلوا في السحر ما ليس منه، و رموا الكل بسهم واحد، مع أنّ كل واحد منها ينبغي أن يبحث عنه مستقلًا بعنوانه الخاص.

______________________________

(1) المكاسب: 34.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 501

12 الشعبذة

الشعبذة حرام بلا خلاف: و هي الحركة السريعة بحيث يوجب على الحس الانتقال من الشي ء إلى شبهه كما ترى النار المتحركة على الاستدارة دائرة متصلة لعدم إدراك السكونات المتخلّلة بين الحركات. ( «1»)

يلاحظ عليه: المراد من الشعبذة هو القسم الرابع المذكور في كلام العلامة المجلسي (قدس سره) قال: التخيّلات و الأخذ بالعيون، مثل راكب السفينة يتخيّل نفسه ساكناً و الشط متحرّكاً، فإنّ المشعبذين يوجّهون الناس بشي ء و يشغلون حواسّهم إلى شي ء آخر بسرعة تامّة لا يلتفت إليها الناظرون فيتخيّلون أنّه أَتى أمراً عجباً.

فقد استدلّ على الحرمة بالإجماع، و بكونها داخلة في الباطل و اللهو، و داخلة في السحر.

أمّا الإجماع: فغير مفيد لاحتمال استناد المحقّقين الى الوجوه المذكورة.

و أمّا الثاني:- أعني: دخولها في الباطل و اللهو- فهو ممنوع صغرى و كبرى، لعدم كونها منه إذا ترتب عليها غرض عقلائي، و لعدم الدليل على حرمة الباطل و اللهو على الوجه المطلق، و إلا لزم حرمة كثير من الأشياء، لأنّها لا يترتب عليها

______________________________

(1) المكاسب: 34.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 502

غرض صحيح.

و أمّا

دخولها في السحر فممنوع، فانّ السحر و الشعبذة و إن اشتركا في الأصل- أي إراءة غير الواقع بصورة الواقع (و على التعبير الفارسي نبود هست و بود نيست)- غير أنّ الساحر يتصرّف في الحواس و القلوب فيرى غير الواقع واقعاً، و أمّا المشعبذ فهو لا يتصرّف فيها أبداً، و الإنسان باق على ما كان عليه، غير أنّه يتكئ على تفوقه و سرعة عمله فيُري غير الحق حقاً.

و ان شئت قلت: إنّ الساحر يسعى إلى تضعيف الإنسان حتى يرى غير الحق حقاً، و أمّا المشعبذ فهو يتكئ على نبوغه و صناعته و تفوّقه في العمل من دون أن يسعى إلى تضعيف الناس.

نعم، عدّت الشعبذة في رواية «الاحتجاج» في بيان احتجاج الصادق (عليه السلام) على الزنديق من السحر حيث قال: «و نوع آخر منه خطفة و سرعة، مخاريق و خفة» ( «1»)، و لعلّه مجاز، مضافاً إلى أنّ خبر الاحتجاج مرسل و ليس بمسند.

______________________________

(1) الاحتجاج: 2/ 220.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 503

13 الغش

اشارة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): الغش حرام بلا خلاف. ( «1»)

و قال الشيخ في «النهاية»: و كل شي ء غُشَّ فيه فالتجارة فيه و التكسّب به بالبيع و الشراء و غير ذلك حرام محظور. ( «2»)

و قال العلامة في «التذكرة»: الغش و التدليس محرّمان، كشوب اللبن بالماء. ( «3»)

و قال العاملي في «مفتاح الكرامة»، و الغش بما يخفى كمزج اللبن بالماء، و تدليس الماشطة، و تزيّن الرجل بالحرام ... و من الغش الحرام وضع الحرير في البرودة ليكتسب ثقلًا، و الغش يكون بإدخال الأدنى في الأعلى، أو المراد بغيره، أو إظهار الصفة الجيدة فيدخل في التدليس. ( «4»)

و في هامش المغني لابن قدامة: كل

تدليس يختلف الثمن لأجله، مثل أن يسوّد شعر الجارية أو يجعّده، أو يحمّر وجهها، أو يضمر الماء ( «5») على الرحى و يرسله

______________________________

(1) المكاسب: 34.

(2) النهاية: 365، كتاب التجارة.

(3) التذكرة: 12/ 142، المسألة 647، كتاب المكاسب.

(4) مفتاح الكرامة: 4/ 56- 57.

(5) يجمع الماء.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 504

عند عرضها على المشتري، يثبت الخيار، لأنّه تدليس يختلف الثمن باختلافه، فأثبت الخيار كالتصرية، و التصرية حرام إذا أُريد بها التدليس على المشتري لقول النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «من غشّنا فليس منّا». ( «1»)

أقول: الغش (بفتح الغين) مصدر غش، و هو (بالكسر) اسم.

قال: في «القاموس»: غشّه لم يمحضه النصح، أو أظهر له خلاف ما أضمر، و المغشوش غير الخالص، و ربّما يستعمل بمعنى الغل و الحقد.

و على كل تقدير فالظاهر من الروايات أنّ الغش بما هو هو موضوع للحكم، و يدل على ذلك روايات الفريقين، أمّا الشيعة فإليك جملة من رواياتهم:

1. رواية هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ليس منّا من غشّنا». ( «2»)

2. و روى أيضاً عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لرجل يبيع التمر: يا فلان أما علمت أنّه ليس من المسلمين من غشّهم». ( «3»)

3. رواية سعد الاسكاف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «مرّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في سوق المدينة بطعام فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلا طيباً، و سأله عن سعره، فأوحى اللّه عز و جل إليه أنْ يدس يده في الطعام ففعل فأخرج طعاماً ردياً فقال لصاحبه: ما أراك إلا و قد جمعت خيانة و

غشاً للمسلمين». ( «4»)

4. رواية المناهي، عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «و من غش مسلماً في شراء أو بيع فليس منّا، و يحشر يوم القيامة مع اليهود لأنّهم أغش الخلق للمسلمين». قال:

______________________________

(1) المغني: 4/ 80- 81 الطبعة الثالثة.

(2) الوسائل: 12/ 208، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(3) الوسائل: 12/ 208 و 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 8.

(4) الوسائل: 12/ 208 و 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 505

و قال (عليه السلام): «ليس منّا من غش مسلماً، و قال: و من بات و في قلبه غش لأخيه المسلم بات في سخط اللّه و أصبح كذلك حتى يتوب». ( «1»)

5. و روى أيضاً في حديث المناهي عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال في حديث: «و من غش مسلماً في بيع أو في شراء فليس منّا و يحشر مع اليهود يوم القيامة، لأنّه من غش الناس فليس بمسلم، و من لطم خد مسلم لطمة بدد اللّه عظامه يوم القيامة، ثمّ سلط اللّه عليه النار و حشر مغلولًا حتى يدخل النار، و من بات و في قلبه غش لأخيه المسلم بات في سخط اللّه و أصبح كذلك و هو في سخط اللّه حتى يتوب و يراجع، و إنْ مات كذلك مات على غير دين الإسلام- ثمّ قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم):- ألا و من غشّنا فليس منّا- قالها ثلاث مرات-، و من غش أخاه المسلم نزع اللّه بركة رزقه و

أفسد عليه معيشته و وكله إلى نفسه، و من سمع فاحشة فأفشاها فهو كمن أتاها، و من سمع خيراً فأفشاه فهو كمن عمله». ( «2»)

و ظاهر الروايات انّ الغشّ بما هو هو حرام خلافاً للعلّامة الإيرواني حيث زعم أنّ الغش بما هو هو ليس بحرام، و انّما الحرام أُمور متقارنة معه، و سيوافيك كلامه فانتظر.

و على كل تقدير يجب الكلام في مواضع ثلاثة:

1. ما هو الغش و تحديد موضوعه؟

2. في بيان حكمه التكليفي.

3. في بيان حكمه الوضعي.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 210، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 10.

(2) الوسائل: 12/ 210، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 506

الموضع الأوّل: تحديد الغش

فنقول: إنّ الغش على أقسام:

1. ما لا يعرفه إلا الغاش كمزج الماء القليل باللبن، و خلط الدهن الردي ء القليل بالجيد، و لا شك أنّه من الغش، إلا أنّه غير منحصر فيه، و إلا لزم ندرة الغش، و لا يليق بمثلها هذه العناية المشهودة في الروايات، و إليه يشير ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «نهى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أن يشاب اللبن بالماء للبيع». ( «1»)

2. ما لا يعرفه إلا أهل الخبرة و الفطانة، خصوصاً لمن كان شغله الغش، و إليه يشير ما رواه موسى بن بكر قال: كنّا عند أبي الحسن (عليه السلام) و إذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين، ثمّ قال لي: «ألقه في البالوعة حتى لا يباع شي ء فيه غش». ( «2»)

3. ما يعرفه جميع الناس لكن يتوقف على إمعان النظر و ملاحظة جميع المبيع، و لا يتوقف على

ملاحظة أهل الخبرة و الفطانة، كما إذا جعل الجيد من الحبوب على ظاهر الصبرة و الردي تحتها، أو باع السابري في الظلال.

و يدلّ على ذلك رواية هشام بن الحكم قال: كنت أبيع السابري في الظلال فمرّ بي أبو الحسن الأوّل موسى (عليه السلام) راكباً فقال لي: «يا هشام انّ البيع في الظلال غش و الغش لا يحل». ( «3»)

و رواية محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام)، أنّه سئل عن الطعام يخلط بعضه

______________________________

(1) المصدر السابق: 208، الحديث: 4.

(2) الوسائل: 12/ 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 3.

(3) الوسائل: 12/ 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 507

ببعض، و بعضه أجود من بعض، قال: «إذا رئيا جميعاً فلا بأس ما لم يغط الجيد الردي ء». ( «1»)

4. ما يحتاج إلى الاختبار المتعارف الذي يفعله كل من أراد ابتياع شي ء، كما إذا خلط الردي ء بالجيد بحيث لو لاحظ المشتري لوقف عليه و لا يحتاج إلى اختبار و امتحان زائد على المتعارف، فالظاهر أنّه خارج عن الغش موضوعاً، لأنّ الجامع بين الأقسام الثلاثة هو إيجاد الستر بين المشتري و المبيع و إنْ كانت مراتبه مختلفة، و لا ستر في القسم الرابع لكون المبيع معلوماً و واضحاً و أنّه مخلوط من الردي ء و الجيد، و لو لم يظفر بمطلوبه فانّما هو لتقصير منه حيث لم يختبر المبيع الاختبار المتعارف.

و بالجملة: فكل ما يتوقف التعرّف على حقيقته و واقعه على اختبار أزيد من الاختبار المتعارف عند البيع و الشراء فبيعه غش، و أمّا ما يتوقف التعرّف عليه على الاختبار المتعارف لكن قصّر المشتري فلم

يختبر و اشترى فليس هذا بغش.

و الذي يوضح ذلك ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام)، أنّه سئل عن الطعام يخلط بعضه ببعض، و بعضه أجود من بعض؟ قال: «اذا رئيا جميعاً فلا بأس ما لم يغط الجيد الردي ء». ( «2»)

و أمّا ما رواه الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يكون عنده لونان من طعام واحد سعرهما بشي ء و أحدهما أجود من الآخر فيخلطهما جميعاً ثمّ يبيعهما بسعر واحد. فقال: «لا يصلح له أن يغش المسلمين حتى يبينه» ( «3»)، فيحتاج إلى التأويل، و يحمل على ما إذا توقفت معرفة واقعية الشي ء على اختبار أزيد من

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 420، الباب 9 من أبواب أحكام العيوب، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 12/ 420، الباب 9 من أبواب أحكام العيوب، الحديث: 1 و 2.

(3) الوسائل: 12/ 420، الباب 9 من أبواب أحكام العيوب، الحديث: 1 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 508

المتعارف.

و على كل تقدير لا يتحقّق الغش إلا بعلم الغاش و جهل المغشوش، فلو كنّا جاهلين أو عالمين أو كان البائع جاهلًا و المشتري عالماً ارتفع الغش بموضوعه، نعم للمشتري فسخ المبيع في الصورة الأُولى لجهة غير الغش.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) ذكر للغش معيارين:

الأوّل: ما خفي على المشتري و إن كان من شأنه أن لا يخفى عليه، فيدخل في الغش هذا القسم أيضاً.

الثاني: ما قصد فيه التلبّس، سواء أ كان العيب خفيّاً أم جلياً.

و إليك عبارته في المعيار الأوّل:

قال: «إنّه لا يشترط في حرمة الغش كونه ممّا لا يعرف إلا من قبل البائع فيجب الإعلام بالعيب غير الخفي»، و ذلك لأنّ المراد من العيب غير الخفي

هو ما كان من شأنه أنْ يعلمه المشتري إذا التفت إليه، و لكنّه لم يلتفت و لم يختبره بالمقدار المتعارف فشراه.

و قد عرفت أنّ ذلك هو القسم الرابع، و هو غير داخل في الغش، اللهم إلا أن يفسّر غير الخفي بغير القسم الرابع.

و قال في المعيار الثاني: «إلا أن تنزّل الحرمة في مورد الروايات الثلاث ( «1») على ما إذا تعمّد الغش برجاء التلبس على المشتري و عدم التفطّن له، و إن كان من شأن ذلك العيب أن يتفطّن له فلا تدلّ الروايات على وجوب الإعلام إذا كان العيب من شأنه التفطن له فقصّر المشتري و تسامح في الملاحظة».

______________________________

(1) المراد من الروايات الثلاث: رواية محمد بن مسلم: سئل عن الطعام، و رواية الحلبي: عنده لونان من طعام: الوسائل: الجزء 12/ الباب 9 من أبواب أحكام العيوب، الحديث: 1 و 2؛ و رواية سعد الاسكاف، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 509

و هذا أيضاً لا يخلو من شي ء، لأنّه لو تعمّد الخلط في القسم الرابع برجاء التلبس على المشتري و عدم التفطّن إليه يلزم أنْ يكون غشّاً، مع أنّه ليس بغش و إنْ قصد التلبيس.

و الحاصل: أنّ المعيارين لا يخلوان من إشكال، أمّا الأوّل فقد أوجب الإعلام بالعيب غير الخفي، أي ما كان من شأنه أن يعلمه المشتري إذا التفت إليه، مع أنّه ليس منه كما مثلنا بخلط الردي ء مع الجيد خلطاً جلياً واضحاً، إلا أنْ يفسّر «غير الخفي» بالقسم الثالث.

و أمّا الثاني فجعل الميزان رجاء التلبيس، فلو خلط الجيد بالردي بهذا الرجاء يلزم أن يكون غشّاً، مع أنّه ليس بغش.

أضف إليه أنّه يلزم أن لا يكون

غشّاً إذا لم يكن قصده التلبس و إن كان العيب خفيّاً مع أنّه بمكان من الوضوح بأنّه غش، اللهم إلا أن يقال: اذا كان العيب خفيّاً فلا ينفك بيعه- بلا إعلام- من قصد التلبس.

و الأولى في الميزان ما عرفناك، و هو انّ كلّما أوجد البائع ستراً بين المبيع و المشتري بحيث لا يرتفع بالاختبار المتعارف في جميع البيوع فهو غش، و هذا لا يصدق على القسم الرابع الذي سمّاه الشيخ بغير الخفي، كما لا يصدق و إن قصد التلبيس.

و أمّا إذا كان الستر من غير ناحية البائع أو كان الستر خلقياً و طبيعياً و لا تعلم حقيقة الشي ء بالاختبار المتعارف فعرضه مع السكوت أيضاً غش، لأنّه بسكوته صار سبباً لإرادة الستر بين المبيع و المشتري، و إن لم تكن علّة محدثة لكنه كالعلة المبقية.

و بذلك يظهر ضعف العبارة الثالثة و هي قوله: فالعبرة في المحرمة بقصد

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 510

تلبيس الأمر على المشتري، سواء كان العيب خفياً أم جلياً لا بكتمان العيب مطلقاً، أو في خصوص الخفي و إن لم يقصد التلبيس.

و هو منقوض في كلا الجانبين، فانّ كتمان العيب في خصوص الخفي غش و ان لم يقصد تلبيس الأمر على المشتري، و في صورة الجلي ليس بغش و إن قصد التلبيس.

و أمّا ما استشهد به الشيخ الأعظم على كون المناط تلبيس الأمر برواية الحلبي حيث قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل يشتري طعاماً فيكون أحسن له و أنفق له أن يبلَّه من غير أن يلتمس زيادته فقال: «إن كان بيعاً لا يصلحه إلا ذلك و لا ينفقه غيره من غير أن يلتمس فيه زيادة فلا بأس، و

إن كان انّما يغش به المسلمين فلا يصلح». ( «1»)

فالمتبادر منه غير ما ذكره الشيخ، فالظاهر أنّ المراد من الغش فيه غير الغش المصطلح.

الموضع الثاني: حكم الغش تكليفاً

المتبادر من الروايات أنّ الغش بما هو هو محرّم تكليفاً، غير أنّ المحقّق الإيرواني (رحمه الله) ذهب إلى أنّ الموضوع للحرمة التكليفية هو الكذب، و للحرمة الوضعية هو أكل مال الغير بدون رضاه.

و ملخص كلامه في تعليقته في تقريب ما ادّعاه: انّ المحرّم إمّا أن يكون هو «شوب اللبن بالماء» و المعلوم عدم حرمته، أو عرض المشوب على البيع، و هذا أيضاً ليس بحرام إذا لم يتفق البيع أو إنشاء البيع، و معلوم أنّ مجرّد الإنشاء لا يكون

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 421، الباب 9 من أبواب أحكام العيوب، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 511

حراماً إذا نبّه بالغش أو حط من ثمنه، أو أبرأ ذمته من الثمن، أو خيّره بين الأخذ و الترك، فإذن الحرام إمّا الكذب، أو أَخذ قيمة غير المغشوش بازاء المغشوش، و هو عبارة عن أكل المال بالحرام، ثمّ جعل الأَخبار دالة على الفساد. ( «1»)

و فيه: انّا نختار الشق الأخير- أي الإنشاء- سواء كان فعلياً كالمعاطاة أو قولياً، فيما إذا خلى عن واحد من الأُمور المذكورة، لعدم صدق الغش في صورة وجود أحد هذه القيود، على تأمّل في حطِّ الثمن إذا لم يعلم المشتري.

الموضع الثالث: حكم الغش وضعاً

فنقول: إنّ الشيخ ذكر للغش أقساماً أربعة، لأنّ الغش إمّا أن يكون بإخفاء الأدنى في الأعلى كمزج الجيد بالردي ء، أو غير المراد في المراد كإدخال الماء في اللبن، أو بإظهار الصفة الجيدة المفقودة واقعاً و هو التدليس، أو بإظهار الشي ء على خلاف جنسه كبيع المموّه على أنّه ذهب أو فضة، و إليك بيان أحكامها.

و ليعلم أنّ محل النزاع في الصحة و الفساد في ما إذا لم يكن المبيع كليّاً، و إلا فلو باع في الذمة

و دفع في مقام التسليم، الشي ءَ المغشوش فالمعاملة صحيحة قطعاً، غير أنّه يجب تبديله بغيره، فالنزاع انّما هو فيما إذا باع شيئاً معيّناً فبان فيه الغش، فقد استدلّ على الفساد بوجوه:

الأوّل: انّ العقد تعلّق بالمبيع بعنوان أنّه غير مغشوش لا بذات المبيع بأيّ عنوان كان، فإذا ظهر الغش فقد ظهر أنّه لا وجود للمبيع، و ماله الوجود ليس مبيعاً.

يلاحظ عليه: أنّه يجري فيما إذا كانت الصفة المنتفية من قبيل الصور المنوّعة

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 29.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 512

المقوّمة للمبيع عند العرف، كبيع المموّه بالذهب بأنّه ذهب، و أمّا إذا كانت الصفة غير الموجودة من قبيل صفات الصحة أو صفات الكمال فنمنع عدم وجود المبيع، فليس المقام من مصاديق «ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد».

ثمّ إنّ للمحقّق الإيرواني (رحمه الله) كلاماً، و حاصله: انّ متعلّق الإرادة هو الشي ء الخارجي سواء انطبق عليه المقصود من البيع أم لم ينطبق، حيث قال: إنّ الشخص إذا اعتقد بصلاح أمر على وجه الكبرى الكليّة، فاعتقاده هذا يبعثه و يحركه إلى ما يعتقده صغرى لتلك الكبرى، و لا نعني باختيارية الفعل إلّا كونه صادراً عن مبدأ العلم بالصلاح، سواء أ كان مخطئاً في علمه أم مصيباً، و سواء أ كان مخطئاً في اعتقاد فردية ما انبعث اليه أم مصيباً، فكما أنّ الحركة الخارجية نحو هذا الذي اعتقد فرديته، كذلك الاختيار متعلّق بهذا الذي اعتقد فرديته، فهو مشتر لهذا و إن كان مغشوشاً، و معط لهذا و إن كان غنيّاً أو جاهلًا أو غير هاشمي إلى غير ذلك، و ليس العنوان الذي اعتقده موجباً لتقييد إرادته فيكونَ مشترياً لهذا، غير المغشوش و معطياً لهذا،

الفقير حتى لو ظهر الغش و الغنى بطلت المعاملة في الأوّل و التمليك في الثاني. فلا يدخل تحت الإرادة شي ء وراء الخارج، كما لا يدخل تحت الفعل الحسي و الحركة الخارجية شي ء وراء الخارج، فالحركة نحو الخارج ... فكان البيع واقعاً على المغشوش الخارجي، فالمعاملة واقعة على الخارج، و متصفة بالصحة، نعم لا مضايقة من القول بالخيار بشي ء من العناوين التي أشار إليها المصنّف. ( «1»)

و هذا من عجيب الكلام، خصوصاً في ما إذا كانت الصفة المفقودة من الصور المنوّعة و المقوّمة، فهل يمكن أن يقال انّه اشترى الخارج بما هو، فلو اشترى

______________________________

(1) حاشية المحقّق الإيرواني: 29.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 513

الحديد فبان المبيع قطناً، فهل يصح أن يقال: انّ البيع واقع على المغشوش الخارجي، و ان اعتقادنا بعدم الغش دعانا إلى إيقاع المعاملة على المغشوش الخارجي؟ و لو ضل الغنم بالليل و سرى صاحبه في ظلمة إلى الصحراء حتى يجده فوضع يده على الأسد بزعم أنّه غنم، فهل يصح أن قال: إنّه طالب لهذا السبع الفتّاك معتقداً بأنّه غنم؟

و ان شئت قلت: إنّ الغرض لمّا كان قائماً بالعنوان المأخوذ في الكبرى- أعني: الحديد- فلازمه أن تكون الصغرى مبيعاً متقيداً بأنّه من مصاديق الكبرى، بل يمكن أن يقال: انّ المبيع هو تلك الحيثية المتجسدة- بزعمه- في هذا الشي ء الخارجي، فإذا انتفت الحيثية انتفى المبيع.

و الحق ه- و ما قررناه من الفرق بين الصفة المنوعة المقوّمة، و صفة الصحة و الكمال.

الثاني: قد ورد النهي عن الغش، و هو متّحد مع البيع، فالنهي عنه ناظر إلى نفس البيع، و قد ورد النهي عن الغش بما هو هو في بعض روايات الباب:

1. رواية هشام بن

الحكم قال: كنت أبيع السابري في الظلال فمرّ بي أبو الحسن الأوّل موسى (عليه السلام) راكباً فقال لي: «يا هشام إنّ البيع في الظلال غش، و الغش لا يحل». ( «1»)

2. رواية حمّاد، عن الحسين بن زيد الهاشمي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: جاءت زينب العطّارة الحولاء إلى نساء النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و بناته و كانت تبيع منهن العطر، فجاء النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و هي عندهن، فقال: «إذا أتيتنا طابت بيوتنا»، فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول اللّه. قال: «إذا بعت فأحسني و لا تغشّي، فإنّه أتقى و أبقى

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 208، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 514

للمال». ( «1»)

و الجواب عنه واضح، فإنّ النهي عن عنوان خارج عن المعاملة منطبق عليها لا يوجب بطلانها، و انّما الملازمة بين النهي و الفساد فيما إذا كان النهي متعلّقاً بنفسها بحيث يكون بين النهي عنه و وجوب تسليم المبيع و تسلّم العوض منافاة و مضادة.

الثالث: قد ورد النهي عن بيع خصوص المغشوش، فروى المفضل بن عمر الجعفي قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأُلقي بين يديه دراهم، فألقى إليّ درهماً منها، فقال: «ايش هذا؟» فقلت: ستوق؟ فقال: «و ما الستوق؟» فقلت: طبقتين فضة و طبقة من نحاس و طبقة من فضة. فقال: «اكسرها فإنّه لا يحل بيع هذا و لا إنفاقه». ( «2»)

و روى موسى بن بكر قال: كنّا عند أبي الحسن (عليه السلام) و إذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين، ثمّ قال لي: «ألقه

في البالوعة حتى لا يباع شي ء فيه غش». ( «3»)

و أجاب عنها الشيخ بأنّ النهي في قوله (عليه السلام): «اكسرها فانّه لا يحل بيع هذا و لا إنفاقه»، و كذا في قوله (عليه السلام) «القه في البالوعة حتى لا يباع شي ء فيه غش» عن البيع، لكونه مصداقاً لمحرّم هو الغش لا يوجب فساده ... و أمّا النهي عن البيع المغشوش لنفسه فلم يوجد في خبر، و أمّا خبر الدينار فلو عمل به خرجت المسألة عن مسألة الغش، لأنّه إذا وجب إتلاف الدينار و إلقاؤه في البالوعة كان داخلًا

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 208، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

(2) الوسائل: 12/ 473، الباب 10 من أبواب الصرف، الحديث: 5.

(3) الوسائل: 12/ 209، الباب 86، من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 515

فيما يكون المقصود منه حراماً نظير آلات اللهو و القمار، و يدخل فيما يحرم الاكتساب به لكون المقصود منه محرّماً فيحمل الدينار على المضروب من غير جنس النقدين أو من غير خالص منهما لأجل التلبيس على الناس، و معلوم أنّ مثله بهيئته لا يقصد منه إلا التلبيس فهو آلة الفساد لكل من دفع إليه و أين هو من اللبن الممزوج بالماء؟!

أقول: قد عرفت أنّ النهي عن بيع المغشوش لا يختص بخبر الدينار، بل ورد النهي عنه أيضاً في مورد آخر كما عرفت في مسألة «الستوق»، و هو أيضاً مثل خبر الدينار استدلالًا و جواباً.

و الحق أنْ يقال: انّ الفائت لو كان من قبيل الصفات المنوِّعة عقلًا أو عرفاً فالمعاملة باطلة، و أمّا إذا كان التخلّف في أوصاف الصحة لانصراف المبيع إلى الصحيح، أو كان التخلّف في

الصفات الكمالية كما إذا قيّد الكتابة في نفس العقد و جعله شرطاً و صفة للمبيع فيكون البيع صحيحاً مع خيار العيب في الأوّل و خيار الشرط في الثاني.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 516

14 الغناء

اشارة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): لا خلاف في حرمته في الجملة، و الأخبار بها مستفيضة، و ادّعى في «الإيضاح» تواترها.

أقول: إنّ الكلام في الغناء يقع في مقامات ثلاثة:

1. ما هو حكم الغناء؟

2. ما هي حقيقة الغناء؟

3. ما هي مستثنياته؟

المقام الأوّل: ما هو حكم الغناء؟
اشارة

اتّفق علماء الإمامية قدس سرهم إلا المحدّث الكاشاني و الفقيه السبزواري على حرمة الغناء، و يعلم ذلك بالمراجعة إلى كتب التفسير و الحديث و الفقه، و نأتي بالنزر القليل.

قال الشيخ في «النهاية»: و كسب المغنيات و تعلّم الغناء حرام. ( «1»)

و قال العلامة (قدس سره) في «التذكرة»: ما نص الشارع على تحريمه كعمل الصور

______________________________

(1) النهاية: 365.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 517

المجسّمة و الغناء و تعليمه و استماعه و أجر المغنية. ( «1»)

و قال في «الإرشاد»: ما هو حرام في نفسه كعمل الصور المجسّمة، و الغناء، و معونة الظالمين بالحرام.

و قال الأردبيلي (قدس سره): الظاهر أنّه لا خلاف في تحريمه و تحريم الأُجرة عليه و تعليمه و تعلّمه و استماعه، و ردّه بعض الأصحاب إلى العرف، فكل ما يسمّى به عرفاً فهو حرام .... ( «2»)

و قال الشيخ (قدس سره) في «الخلاف»: الغناء محرّم سواء كان صوت المغني أو بالقضيب أو بالأَوتار مثل العيدان و الطنابير و النايات و المعازف، ... و قال الشافعي: صوت المغني و القصب مكروه و ليس بمحظور. ( «3»)

و قال القرطبي في «تفسيره»: الثالثة الاشتغال بالغناء على الدوام سفه تردُّ به الشهادة، فإنْ لم يدم لم ترد.

و ذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عمّا يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنّما يفعله عندنا الفسّاق.

و ذكر أبو الطيب طاهر بن عبد اللّه الطبري قال: أمّا

مالك بن أنس فانّه نهى عن الغناء و عن استماعه، و قال: إذا اشترى جارية و وجدها مغنّية كان له ردّها بالعيب، و هو مذهب سائر أهل المدينة، إلا إبراهيم بن سعد فإنّه حكى عنه زكريا الساجي أنّه كان لا يرى به بأساً.

و قال ابن خُوَيزمندَاد: فأمّا مالك فيقال عنه: انّه كان عالماً بالصناعة و كان

______________________________

(1) التذكرة: 12/ 140، المسألة 645، المقصد الثامن، الفصل الأوّل في أنواع المكاسب.

(2) مجمع الفائدة و البرهان: 8/ 57، كتاب المتاجر.

(3) الخلاف: 3/ 345، كتاب الشهادات، المسألة 55.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 518

مذهبه تحريمها. و روي عنه أنّه قال: تعلّمت هذه الصناعة و أنا غلام شاب، فقالت لي أُمّي: أي بنيّ إنّ هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه و لست كذلك، فاطلب العلوم الدينية، فصحبت ربيعة، فجعل اللّه في ذلك خيراً.

قال أبو الطيب الطبري: و أمّا مذهب أبي حنيفة فانّه يكره الغناء مع إباحة شرب النبيذ، و يجعل سماع الغناء من الذنوب. و كذلك مذهب سائر أهل الكوفة: إبراهيم و الشعبي و حمّاد و الثوري و غيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك. و كذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك و المنع منه، إلا ما روى عن عبيد اللّه بن الحسن العنبري أنّه كان لا يرى به بأساً.

قال: و أمّا مذهب الشافعي فقال: الغناء مكروه يُشبه الباطل، و من استكثر منه فهو سفيه تُردّ شهادتُه.

و ذكر أبو الفرج الجوزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال: و قد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلّال و صاحبه عبد العزيز إباحة الغناء. ( «1»)

و نقل البيهقي عن الشافعي: لا تجوز شهادة واحد منهما،

و ذلك أنّه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل، فإنّ من صنع هذا كان منسوباً إلى السفه و سقاطة المروءة، و من رضي هذا لنفسه كان مستخفاً، و إن لم يكن محرّماً بيّن التحريم. ( «2»)

هذه آراؤهم و نظرياتهم على الإطلاق، و أمّا خصوص نظرية الأئمّة الأربعة فإليك شرحها:

1. حرّمه إمام الحنفية و عدّه و سماعه من الذنوب، و هذا مذهب أهل

______________________________

(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 14/ 55.

(2) السنن الكبرى: 10/ 223.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 519

الكوفة: سفيان، و حمّاد، و إبراهيم، و الشعبي، و عكرمة.

2. عن مالك إمام المالكية أنّه نهى عن الغناء و عن استماعه، و قال: إذا اشترى أحد جارية فوجدها مغنّية فله أن يردّها بالعيب، و هو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد وحده.

و سئل مالك: ما ترخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: انّما يفعله عندنا الفسّاق.

و سئل مالك عن الغناء؟ فقال: قال اللّه تعالى: (فَمٰا ذٰا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلٰالُ) ( «1») أ فحق هو؟!

3. و نقل التحريم عن جمع من الحنابلة على ما حكاه شارح «المقنع»، و عن عبد اللّه بن الإمام أحمد أنّه قال: سألت أبي عن الغناء. قال: ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني، ثمّ ذكر قول مالك: إنّما يفعله عندنا الفسّاق.

4. و صرح أصحاب الشافعي العارفون بمذهبه بتحريمه و أنكروا على من نسب إليه حلّه كالقاضي أَبي الطيّب، و له في ذم الغناء و المنع عنه كتاب مصنف، و الطبري و الشيخ أبي إسحاق في التنبيه.

و قال المحاسبي في رسالة الإنشاء: الغناء حرام كالميتة.

و في كتاب «التقريب»: إنّ الغناء حرام فعله و سماعه.

و قال النحاس: ممنوع بالكتاب و السنّة.

و قال

القفال: لا تقبل شهادة المغني و الرقاص. ( «2»)

______________________________

(1) يونس: 32.

(2) الغدير: 8/ 72 و 74 نقلًا عن مصادر أهل السنّة، و راجع سنن البيهقي: 10/ 224؛ تفسير القرطبي 14/ 51، 52، 55، 56؛ الدر المنثور: 5/ 159.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 520

و قال في «فقه المذاهب»: و ممّا يتعلّق بالوليمة الغناء و السماع. فهل تسقط إجابة الدعوى إلى الوليمة إذا كانت مشتملة على غناء و لعب ممّا جرت به عادة الناس؟

و الجواب أنّ الإجابة لا تسقط إلا إذا كان الغناء أو اللعب غير مباح شرعاً ... فأي عمل من الأعمال يترتب عليه اقتراف منكر فهو حرام مهما كان في ذاته حسناً، فلا يحلّ التغنّي بالألفاظ التي تشتمل على وصف امرأة معيّنة باقية على قيد الحياة. ( «1»)

و من ذلك يظهر أنّ ما نسب إليهم في «مصباح الفقاهة» ( «2») من أنّ الغناء مباح عند العامّة و انّما التزموا الحرمة لأجل الأُمور الخارجية و المقارنات المحرّمة انّما هو رأي بعضهم لا الكثير منهم.

نعم، جوّز بعضهم استماع الغناء من أمته و زوجته.

الاستدلال على حرمة الغناء
اشارة

استدلّ على الحرمة بوجوه:

الأوّل: الاستدلال بالآيات:

منها: قوله سبحانه: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ( «3»).

و في دلالته على حرمة الغناء تأمّل، لأنّ قوله تعالى (لَهْوَ الْحَدِيثِ) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، أيّ الحديث اللهو، فيدلّ على تحريم اللهو الذي يعد من مقولة الكلام لا ما يعدّ بالكيفية، فالآية بنفسها تدلّ على حرمة القصص

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 2/ 41- 42 كتاب الحظر و الإباحة.

(2) مصباح الفقاهة: 1/ 304.

(3) لقمان: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 521

و الأحاديث الباطلة التي تُلهي الإنسان عن ذكر اللّه تعالى.

اللهم إلا أن يقال: إنّ تعليق الحكم بالوصف مشعر بعلّية الوصف، فالحديث اللهوي إنْ كان محرّماً فانّما هو لأجل اللهوية لا لأجل كونه حديثاً، فالعلّة المحرّمة هي اللهوية فيشمل الغناء إذا عُدّ لهواً، و الظاهر انّ اللهو بأيّ معنى فسّر يشمله.

ثمّ إنّ التعبير عن استماع حديث اللهو بالاشتراء، لأجل بيان كثرة رغبة المستمع إليه به فكأنّه يشتري الحديث اللهوي بالثمن.

و العجب من القرطبي حيث فسّر الآية بتقدير «ذات» أي يشتري ذات لهو الحديث كالعبد المغنّي و الجارية المغنّية، ثمّ قال: و بما أنّه يشتريها لأجل لهوها و يبالغ في ثمنها فكأنّه يشتري اللهو. ( «1»)

فانّ ما ذكره بعيد جداً، بل الظاهر أنّ الاشتراء استعمل بضرب من المجاز فهو لأَجل حبّه له كأنّه مشتر له.

هذا إذا قصرنا النظر على نفس الآية، و أمّا ما ورد حولها من الروايات فهي مختلفة، فقد نقل في «المجمع» انّها نزلت في النضر بن الحرث، قال: إنّ محمداً يحدّثكم بحديث عاد و ثمود و أنا أُحدثكم بحديث رستم و اسفنديار و أخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه و يتركون استماع القرآن عن الكلبي، و قيل:

نزلت في رجل اشترى جارية تغنّيه ليلًا و نهاراً، عن ابن عباس.

قال الطبرسي (قدس سره): و يؤيده ما رواه أبو أُمامة عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: لا يحل تعليم المغنّيات و لا بيعهن، و أثمانهن حرام، و قد نزل تصديق ذلك في كتاب اللّه تعالى (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي) الآية. ( «2»)

______________________________

(1) الجامع لأحكام القرآن: 14/ 51.

(2) مجمع البيان: 8/ 313.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 522

و قد روى أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن كسب المغنّيات، فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، و هو قول اللّه عز و جل: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ)». ( «1»)

و قد عرفت أنّ دلالتها على حرمة الغناء ليست بالدلائل المطابقية، و انّما هي من ناحية تعليق الحرمة على عنوان اللهو، و هو صادق على الغناء، نعم فسّرت هذه الآية بالغناء في الروايات، و ستوافيك نصوصها عند البحث عن الروايات.

و منها: قوله سبحانه: (أَ فَمِنْ هٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ* وَ تَضْحَكُونَ وَ لٰا تَبْكُونَ* وَ أَنْتُمْ سٰامِدُونَ). ( «2»)

روى القرطبي في تفسيره عن ابن عباس: هو الغناء بالحميرية، اسمدي لنا، أي غنّي لنا. ( «3»)

و نقله الطبرسي (رحمه الله) عن عكرمة قال: هو الغناء، كانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ليشغلوا الناس عن استماعه. ( «4»)

و مع ذلك كلّه فقد نقل عن ابن عباس أنّه بمعنى غافلون، لاهون، معرضون- و فسر أيضاً بالتكبر- و هو المناسب للآية التالية حيث أمر فيها بالسجود للّه و العبادة، و كون هذا اللفظ بمعنى الغناء في اللغة الحميرية لا

يدل على كونه لغة قرآنية.

أضف إلى ذلك أنّ الراوي هو عكرمة و هو خارجي كذّاب، و قد قيّده علي

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) النجم: 59- 61.

(3) الجامع لأحكام القرآن: 14/ 51.

(4) مجمع البيان: 9- 10/ 184.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 523

بن عبد اللّه بن عباس على باب الحش لأجل كذبه على أبيه ابن عباس. ( «1»)

و قد فسّرت هذه الآية بالغناء في الروايات، و ستوافيك نصوصها عند البحث عن الروايات.

و منها: قوله سبحانه: (وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شٰارِكْهُمْ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلٰادِ وَ عِدْهُمْ وَ مٰا يَعِدُهُمُ الشَّيْطٰانُ إِلّٰا غُرُوراً). ( «2»)

و قد فسر قوله (بِصَوْتِكَ) بالغناء، أي استنزله بصوتك و بالغناء و المزامير و اللهو.

و الظاهر أنّ المراد من الصوت الوسوسة، أو دعوة الشيطان إلى معصية اللّه، و أمّا تفسيره بالغناء فهو خلاف الظاهر، لأنّ الغناء عمل قائم بالعاصي لا بالشيطان و لا ينسب إليه إلّا بالمجاز، مثل قوله: (هٰذٰا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ) ( «3»). و يؤيد ما ذكرنا ما في ذيل الآية: (وَ مٰا يَعِدُهُمُ الشَّيْطٰانُ إِلّٰا غُرُوراً).

قال القرطبي: استدل العلماء على حرمة اللهو بالآيات الثلاث المتقدّمة. غير أنّ علماء الشيعة استدلّوا بآيات أُخر غفل عنها القرطبي و نظراؤه فلنأت بها:

منها: قوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ). ( «4»)

و فسّره القمّي بالغناء، و الاستدلال بالآية فرع شمول اللغو للغناء، مع أنّ صدقه في ما إذا كان مضمون الكلام حقّاً محل تأمل.

نعم، فسّرت هذه الآية بالغناء في الروايات، و ستوافيك نصوصها عند البحث عن الروايات.

______________________________

(1) لاحظ ترجمته في تهذيب التهذيب و ميزان

الاعتدال.

(2) الإسراء: 64.

(3) القصص: 15.

(4) المؤمنون: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 524

و منها: قوله سبحانه: (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). ( «1»)

و الزور في اللغة هو الانحراف، قال سبحانه: (وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذٰا طَلَعَتْ تَتَزٰاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذٰاتَ الْيَمِينِ وَ إِذٰا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذٰاتَ الشِّمٰالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيٰاتِ اللّٰهِ مَنْ يَهْدِ اللّٰهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) ( «2») أي تنحرف الشمس عن كهفهم، و سمّي الكذب زوراً، لأنّه انحراف عن الحق، و مثله الباطل، و ظاهر الآية أنّ الزور صفة المضمون، و الغناء صفة لكيفية الكلام، و أنّ الاستدلال به على حرمة الغناء بعيد جداً، إلا أن يثبت أنّ الغناء انحراف عن الحق و حينئذ لا يحتاج إلى الاستدلال بالآية.

نعم، فسّرت هذه الآية بالغناء في الروايات، و ستوافيك نصوصها عند البحث عن الروايات.

و منها: قوله تعالى: (وَ الَّذِينَ لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ). ( «3»)

و قد ذكر الطبرسي (رحمه الله) وجوهاً و احتمالات للآية. ( «4»)

و الظاهر أنّ المراد هو أنّهم لا يشهدون شهادة الزور فحذف المضاف، و يحتمل أن يكون المراد لا يحضرون في مجلس المعصية، لأنّ العصيان زور و انحراف عن الحق.

فتلخّص أنّ كثيراً من الآيات ليست بصريحة في الغناء.

نعم، فسّرت هذه الآية بالغناء في الروايات، و ستوافيك نصوصها عن قريب فانتظر.

______________________________

(1) الحج: 30.

(2) الكهف: 17.

(3) الفرقان: 72.

(4) مجمع البيان: 7- 8/ 181.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 525

الثاني: الاستدلال بالروايات:

و يمكن استظهار الحرمة من طوائف من الروايات:

الأُولى: ما ورد في حرمة كسب المغنّيات و هي على صنوف بين مجوّزة لكسبها في زف العرائس، مثل ما ورد في رواية أبي بصير، عن أبي

عبد اللّه (عليه السلام) قال: «المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها». ( «1»)

و روى أيضاً عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي يدخل عليها الرجال». ( «2»)

و المحرّم: إمّا مقيّد بما إذا دخل عليها الرجال، مثل ما رواه أَبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن كسب المغنيات؟ فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس». ( «3»)

و إمّا مطلق لا يبعد انصرافه الى المقيّد مثل ما رواه نضر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «المغنية ملعونة ملعون من أكل كسبها» ( «4»). فالاستدلال بها على حرمة الغناء مطلقاً، غير تام.

الثانية: ما يدلّ على كون ثمن المغنّية حراماً، مثل ما ورد في التوقيعات التي وردت على محمد بن عثمان العمري بخط صاحب الزمان (عليه السلام): «أمّا ما سألت عنه- أرشدك اللّه و ثبّتك- من أمر المنكرين لي- إلى أن قال-: و أمّا ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلا لما طاب و طهر، و ثمن المغنّية حرام». ( «5»)

و رواية إبراهيم بن أبي البلاد قال: قلت لأبي الحسن الأوّل (عليه السلام): جعلت

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 84- 85، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3 و 1.

(2) الوسائل: 12/ 84- 85، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3 و 1.

(3) الوسائل: 12/ 84- 85، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3 و 1.

(4) الوسائل: 12/ 85، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4.

(5) الوسائل: 12/ 86، الباب 16 من

أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 526

فداك إنّ رجلًا من مواليك عنده جوار مغنّيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار، و قد جعل لك ثلثها، فقال: «لا حاجة لي فيها، إنّ ثمن الكلب و المغنية سحت». ( «1»)

و روى أيضاً إبراهيم بن أبي البلاد قال: أوصى إسحاق بن عمر بجوار له مغنّيات أنّ يُبَعْنَ و يحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن (عليه السلام)، قال إبراهيم: فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم، و حملت الثمن إليه فقلت له: إنّ مولى لك يقال له إسحاق بن عمر أوصى عند وفاته ببيع جوار له مغنيات و حمل الثمن إليك و قد بعتهن، و هذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم، فقال: «لا حاجة لي فيه، إنّ هذا سحت و تعليمهنّ كفر، و الاستماع منهنّ نفاق، و ثمنهنّ سحت». ( «2»)

و الاستدلال بها على حرمة الغناء إجمالًا ممّا لا بأس به، إذ لو لم يكن الغناء محرّماً لما كان البيع حراماً و ثمنها سحتاً، لكن لا تثبت بها حرمة الغناء مطلقاً فيهما إذا لم يكن هناك اختلاط بين الرجال و النساء، أو لم يكن فيه شي ء من آلات الملاهي يلهى بها، و لعل حرمة بيع المغنّي و ثمنه لأجل كون الغاية من بيع المغنّي و شرائه هو تغنّيه في تلك المجالس المختلطة و المقرونة بضرب الأوتار و استعمال الملاهي.

و بالجملة: فانّ ما دلّ على حرمة كسب المغنّية أو حرمة بيعها و ثمنها، يدلّ على أنّ الغناء أمر محرّم إجمالًا، و أنّ حرمة كسبها أو بيعها لأجل ذلك الحرام، و أمّا أنّه حرام في كلّ الحالات أو بعضها فلا يستفاد منه.

الثالثة: ما يدلّ على حرمة الغناء بما هو هو،

مثل رواية إبراهيم بن أبي البلاد الماضية و قد جاء فيها قوله (عليه السلام): «لا حاجة لي فيه، إنّ هذا سحت و تعليمهنّ كفر،

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 86، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4 و 5.

(2) الوسائل: 12/ 86، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4 و 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 527

و الاستماع منهنّ نفاق، و ثمنهنّ سحت». ( «1»)

و رواية يونس قال: سألت الخراساني (عليه السلام) عن الغناء و قلت: إنّ العباسي ذكر عنك أنّك ترخّص في الغناء، فقال: «كذّب الزنديق ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء فقلت: إنّ رجلًا أتى أبا جعفر (عليه السلام) فسأله عن الغناء؟ فقال: يا فلان إذا ميّز اللّه بين الحق و الباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، فقال: قد حكمت». ( «2»)

و رواية عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الغناء و قلت: إنّهم يزعمون أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) رخّص في أن يقال: جئناكم جئناكم حيّونا حيّونا نحيكم، فقال: «كذبوا إنّ اللّه عز و جل يقول: (وَ مٰا خَلَقْنَا السَّمٰاءَ وَ الْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لٰاعِبِينَ* لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ* بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ) ( «3») ثمّ قال: ويل لفلان ممّا يصف- رجل لم يحضر المجلس-». ( «4»)

و ما رواه علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل يتعمّد الغناء يجلس إليه؟ قال: «لا». ( «5»)

الرابعة: ما يفسّر الآيات الماضية بالغناء، فيفسّر لهو الحديث به،

مثل ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «الغناء مما وعد اللّه عليه النار، و تلا هذه الآية: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 87، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5.

(2) الوسائل: 12/ 227، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 13.

(3) الأنبياء: 16- 18.

(4) الوسائل: 12/ 228، 232، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15 و 32.

(5) الوسائل: 12/ 228، 232، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15 و 32.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 528

سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ) ( «1»). ( «2»)

و ما رواه ابن أبي عمير، عن مهران بن محمد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «الغناء ممّا قال اللّه عز و جل: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ)». ( «3»)

و رواية الوشاء قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: «سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن الغناء؟ فقال: هو قول اللّه عز و جل: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ)». ( «4»)

و ما رواه ابن أبي عمير، عن مهران بن محمد، عن الحسن بن هارون قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «الغناء مجلس لا ينظر اللّه إلى أهله، و هو ممّا قال اللّه عز و جل: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ)». ( «5»)

و يفسر قوله سبحانه: (لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) به أيضاً، مثل ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي الصباح، عن أبي

عبد اللّه (عليه السلام) في قوله عز و جل: (لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: «الغناء». ( «6»)

كما يفسّر (قَوْلَ الزُّورِ) به مثل رواية زيد الشحام قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قوله عز و جل: (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) قال: « (قَوْلَ الزُّورِ) الغناء». ( «7»)

كما يفسّر به (اللَّغْوِ*) مثل ما ورد في رواية محمد بن أبي عباد- و كان مستهتراً بالسماع و يشرب النبيذ- قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن السماع فقال: «لأهل الحجاز فيه رأي و هو في حيّز الباطل و اللهو، أما سمعت اللّه عز و جل يقول:

______________________________

(1) لقمان: 6.

(2) الوسائل: 12/ 227، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6 و 7 و 11.

(3) الوسائل: 12/ 227، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6 و 7 و 11.

(4) الوسائل: 12/ 227، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6 و 7 و 11.

(5) الوسائل: 12/ 228، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 16.

(6) الوسائل: 12/ 225، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و 2.

(7) الوسائل: 12/ 225، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 529

(وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً)». ( «1»)

و قد عرفت أنّ ظاهر الآيات لا يدلّ على حكم الغناء، و لكن تفسير الإمام (عليه السلام) و تطبيقها على الغناء يدلّ على أنّه من بطون الآيات التي لا يعلمها إلا من نزل القرآن في بيوتهم (عليهم السلام).

الخامسة: ما يبيّن أنّ للغناء صفات و آثاراً ينبئ عن كونها عملًا حراماً و معصية موبقة، مثل ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد،

عن زيد الشحام قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، و لا تجاب فيه الدعوة، و لا يدخله الملك». ( «2»)

و كذا رواية إبراهيم بن محمد المدني ... عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سئل عن الغناء و أنا حاضر، فقال: «لا تدخلوا بيوتاً، اللّه معرض عن أهلها». ( «3»)

و رواية ابن أبي عمير، عن مهران بن محمد، عن الحسن بن هارون قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «الغناء يورث النفاق، و يعقب الفقر». ( «4»)

و ما رواه ابن محبوب، عن عنبسة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «استماع اللهو و الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع». ( «5»)

و هذه الروايات تشرف الفقيه على القطع بالحرمة، منضمّة إلى الإجماع المحصّل، و أنت إذا لاحظت فتاوى العامّة و الخاصّة حول الغناء و ما ورد حوله من الروايات تجد المسألة واضحة بيّنة لا غبار عليها.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 229، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 19. و لاحظ 8 و 20 و 24 و 26 و 5 من هذا الباب.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 529

(2) المصدر السابق: الحديث: 1.

(3) الوسائل: 12/ 227 و 229، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12 و 23.

(4) الوسائل: 12/ 227 و 229، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12 و 23.

(5) الوسائل: 12/ 235، الباب 101 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 530

بقي الكلام في الخلاف الذي يظهر من المحدث الكاشاني و الفقيه السبزواري
اشارة

و

سيوافيك انّ النظرتين مختلفتان.

1. حرمة الغناء لأجل مقارناته
اشارة

ثمّ إنّه نسب إلى المحدّث الكاشاني أنّ الغناء ليس بحرام و ان حرمته أمر عرضي، لأجل مقارنته غالباً مع استعمال الملاهي و دخول الرجال على النساء، و إلا فلو جرّد عن تلك المقارنات فلا يحرم، و إليك نص عبارته:

و الذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة فيه اختصاص حرمة الغناء و ما يتعلّق به من الأجر و التعليم و الاستماع و البيع و الشراء كلّها بما كان على النحو المعهود المتعارف في زمن بني أُميّة و بني العباس من دخول الرجال عليهن و تكلّمهن بالأباطيل، و لعبهن بالملاهي من العيدان و القضيب و غيرها، دون ما سوى ذلك كما يشعر به قوله (عليه السلام): «بالتي يدخل عليها الرجال».

قال: في «الاستبصار» بعد نقل ما أوردناه في أوّل الباب: الوجه في هذه الأخبار الرخصة فيما لا يتكلّم بالأباطيل و لا يلعب بالملاهي و العيدان و أشباهها، و لا بالقضيب و غيره، بل يكون ممّن يزف العروس و يتكلّم عندها بإنشاد الشعر و القول البعيد عن الفحش و الأباطيل، و أمّا ما عدا هؤلاء ممّن يتغنين بسائر أنواع الملاهي فلا يجوز على حال سواء كان في العرائس أو غيرها.

و يستفاد من كلامه أنّ تحريم الغناء انّما هو لاشتماله على أفعال محرّمة، فإن لم يتضمن شيئاً من ذلك جاز، و حينئذ فلا وجه لتخصيص الجواز بزف العرائس، و لا سيما و قد وردت الرخصة به في غيره، إلا أنْ يقال: إنّ بعض الأفعال لا يليق بذوي المروات و إنْ كان مباحاً، فالميزان فيه حديث: «من أصغى إلى ناطق فقد

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 531

عبده»، و قول أبي جعفر صلوات اللّه عليه: «إذا ميّز

اللّه بين الحق و الباطل فأين يكون الغناء؟» و على هذا فلا بأس بسماع التغنّي بالأشعار المتضمنة ذكر الجنة و النار و التشويق إلى دار القرار، و وصف نعم اللّه الملك الجبار، و ذكر العبادات و الترغيب في الخيرات و الزهد في الفانيات و نحو ذلك، كما أُشير إليه في حديث الفقيه بقوله (عليه السلام): «فذكّرتك الجنة»، و ذلك لأنّ هذه كلّها ذكر اللّه تعالى، و ربّما تقشعر منه جلود الذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر اللّه.

و بالجملة: لا يخفى على ذوي الحجى بعد سماع هذه الأخبار تمييز حق الغناء من باطله، و انّ أكثر ما يتغنّى به المتصوّفة في محافلهم من قبيل الباطل. ( «1»)

و لكن الإمعان في العبارة يقتضي خلاف ما نسب إليه، و الظاهر أنّه يقول بحرمة نفس الغناء لا بحلّيته ذاتاً، و حرمته لأجل مقارناته، و لكنّه يقسم الغناء إلى الحرام و الحلال، فالحرام هو النحو المعهود في زمن بني أُمية، و الحلال ما كان منزهاً عن ذلك، و ان كنت في ريب مما ذكرنا فلاحظ العبارة التالية: «انّ الظاهر من مجموع الأخبار اختصاص حرمة الغناء و ما يتعلّق به من الأجر و التعليم و الاستماع و البيع و الشراء كلّها بما كان على النحو المتعارف في زمن بني أُمية و بني العباس» فترى أنّه يضيف الحرمة إلى الغناء و يقول: «حرمة الغناء».

و نظير ذلك ما ذكره في ذيل الكلام: «و بالجملة لا يخفى على ذوي الحجى بعد سماع هذه الأخبار تمييز حق الغناء من باطله»، فالغناء عنده منقسم إلى الحق و الباطل، لا أنّ الغناء حق مطلقاً و المقارنات باطلة.

و على ذلك فالغناء عنده حرام في

صورة، و حلال في صورة أُخرى، و هي ما اذا جرّد عن المقارنات و تضمن ذكر الجنة و النار و التشويق إلى دار القرار، و هذا

______________________________

(1) الوافي: 2/ 35، الجزء العاشر، الباب 34 من أبواب وجوه المكاسب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 532

القول هو الظاهر من النراقي في «المستند» ( «1») و هو يستثني من الحرمة، الغناء في القرآن أَو المراثي أو زف العرائس أَو الحداء.

الاستدلال على فتوى الكاشاني

استدلّ على نظريته بروايات و هي:

1. ما روي عن أبي بصير بصور ثلاث:

الف. ما رواه علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن كسب المغنيات؟ فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس». ( «2»)

ب. ما رواه الحكم الخياط، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها». ( «3»)

ج. ما رواه أيوب بن الحر، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي يدخل عليها الرجال». ( «4»)

و الأُولى: ضعيفة بعلي بن أَبي حمزة البطائني، و الثانية مثل الأُولى لأجل الحكم الخياط فانّه لم يوثّق، و الثالثة صحيحة.

و الظاهر أنّ أبا بصير لم يسأل الإمام مرات ثلاث، بل سأله مرّة واحدة فنقل باختلاف، و أقصى ما في هذه الروايات الإشعار، لا الدلالة، و الإشعار لا يقاوم

______________________________

(1) قال في المستند: 14/ 187: قال في كتاب الشهادات: و استثنى بعضهم مراثي الحسين (عليه السلام)، إلى أن قال: و هو غير بعيد، و منهم صاحب الوافي قال في باب ترتيل القرآن: و لعلّه كان نحواً من

التغنّي مذموماً في شرعنا، و قال في باب كسب المغنية و شرائها: لا بأس بسماع التغنّي بالأشعار المتضمنة ذكر الجنة و النار و التشويق إلى دار القرار ....

(2) الوسائل: 12/ 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 2 و 3.

(3) الوسائل: 12/ 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 2 و 3.

(4) الوسائل: 12/ 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 2 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 533

الأدلّة القاطعة و فتوى جمهور الفقهاء.

و الدقة في الرواية الثالثة توضح المراد من الجواب، و كأنّ الإمام (عليه السلام) يؤيّد تعليل حلّية أَجر المغنّية في زف العرائس بأنّ العمل بالذات حلال، لكون الغناء في هذا الموضع جائزاً، و المفروض عدم انضمام المقارنات المحرّمة، فلا وجه لحرمة أجرها. و على ذلك فليس الإمام في مقام التفصيل بالنسبة إلى نفس الغناء و أنّه على قسمين، حرام لأجل المقارنات، و حلال إذا تجرّد عنها، بل هو في مقام بيان مطلب آخر و أنّه لما ذا صار أجر المغنية في زف العرائس حلالًا؟ فأوضح (عليه السلام) بأنّ نفس العمل ليس به بأس و المفروض خلوّه عن المقارنات المحرمة.

و هذا المعنى يلوح من الرواية الثالثة، و عليه تحمل الأُولى و الثانية.

2. مرسلة الفقيه قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك ما تقول في النصرانية اشتريها و أبيعها من النصراني؟ فقال: «اشتر و بع»، قلت: فانكح؟ فسكت عن ذلك قليلًا ثمّ نظر إلي و قال شبه الإخفاء: «هي لك حلال»، قال: قلت: جعلت فداك فأشتري المغنّية أو الجارية تحسن أنْ تغني، أُريد بها الرزق لا سوى ذلك؟ قال:

«اشتر و بع». ( «1»)

و هي بإطلاقها تدلّ على الحلّية مطلقاً، يخرج عنها ما إذا كان مقارناً للمحرّمات.

3. رواية علي بن جعفر و رواها صاحب الوسائل تارة عن كتاب «قرب الاسناد» و هو لعبد اللّه بن جعفر بن حسين الحميري، و أُخرى عن نفس كتاب علي بن جعفر (عليه السلام)، و إليك متنها: ففي «قرب الاسناد» سألته عن الغناء هل يصلح

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 86، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 534

في الفطر و الأضحى و الفرح؟ قال: «لا بأس به ما لم يعص به».

و رواه علي بن جعفر في كتابه، إلّا أنّه قال: «ما لم يزمر به». ( «1»)

و لو كان لفظ الإمام هو «ما لم يعص به» لكان مشعراً لما عليه الكاشاني، و بما أنّ المنقول من نفس كتابه أصح من «قرب الاسناد» ( «2») فهو يحتمل أمرين:

الأول: ما لم ينفح في المزمار و القضيب، و هذا أيضاً يعد شاهداً لمذهب الكاشاني.

الثاني: ان يكون المراد من الغناء الوارد في السؤال هو الأعمّ من الغناء المصطلح فرخّص الإمام قسماً و هو: ما لم يرجع فيه كترجيع المزمار، أو لم يزمر مثل تزمير المزمار، و على هذا يكون شاهداً على قول المشهور.

و على كل تقدير فلا يقابل ذلك الإشعار، الأدلّة القاطعة.

4. الروايات الدالة على استحباب قراءة القرآن بصوت حسن ( «3»)، و ستوافيك متونها عند البحث عن المستثنيات.

يلاحظ عليه: أنّ ما ورد في تلك الروايات لا يمت إلى الغناء بصلة، فانّ الصوت الحسن لا يلازم الغناء، بل النسبة بينه و بين الغناء عموم و خصوص مطلق على الأصح، أو عموم و خصوص من وجه على ما

نقل عن العلامة الأجل

______________________________

(1) و في نسخة الوسائل ما لم يؤمر به، و الظاهر انّه تصحيف ما لم يزمر به.

(2) الوسائل: 12/ 85، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5. و الظاهر أنّه تصحيف «ما لم يزمر به».

(3) الوسائل: 4/ 858، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، الحديث: 1، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر»، و لاحظ بقية الروايات من هذا الباب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 535

الشيخ محمد رضا النجفي الاصفهاني.

و على ذلك فما دلّ على حرمة الغناء يكون مخصصاً لتلك العمومات و الإطلاقات، بل في بعضها: «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر، فانّه سيجي ء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء». ( «1»)

أضف إلى ذلك أنّه لو كانت حرمة الغناء مختصّة بما إذا اقترنت بالمقارنات المحرّمة لما احتاجت إلى ورود هذا المبلغ العدد الهائل من الروايات لوضوح حرمتها في هذه الحال، و يؤيد ذلك ما دلّ على حرمة غناء الجارية أو الزوجة لمولاها أو زوجها.

2. حلية الغناء في قراءة القرآن

هذا كلّه حول مقالة الكاشاني، و إليك ما ذكره المحقّق السبزواري، قال: و من ذلك الغناء، و هو مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب على ما قاله بعضهم، و بعضهم اقتصر على الترجيع، و بعضهم على الإطراب من غير ذكر الترجيع. و من العامة من فسّره بتحسين الصوت، و يظهر ذلك من بعض عبارات أهل اللغة. و الظاهر أنّه في الغالب لا ينفك التحسين من الوصفين المذكورين. و منهم

من فسّر بمد الصوت، و منهم من قال: من رفع صوتاً و والاه فهو غناء، و لعل الإطراب و الترجيع مجتمعان غالباً و قيل: ما يسمّى غناء عرفاً و إنّ لم يشتمل على القيدين.

______________________________

(1) الوسائل: 4/ 858، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، الحديث: 1، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر»، و لاحظ بقية الروايات من هذا الباب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 536

و لا خلاف عندنا في تحريم الغناء في الجملة، و الأخبار الدالة عليه متضافرة، و صرّح المحقّق و جماعة ممّن تأخر عنه بتحريم الغناء و لو كان في القرآن، لكن غير واحد من الأخبار يدلّ على جوازه، بل استحبابه في القرآن، بناء على دلالة الروايات على جواز حسن الصوت و التحزين و الترجيع في القرآن، بل استحبابه. و الظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة و غيرهم و فصّلناه في بعض رسائلنا. ( «1»)

و أنت خبير بأنّه ظاهر في التفصيل بين افراد الغناء بحرمة بعضها و حلّية بعضها الآخر، و أين هو من القول بكونه مباحاً و انّما يحرم من أجل المقارنات؟!

و الذي يرد عليه أنّ تحسين الصوت و تحزينه بل و ترجيعه ليس غناءً حتى يستلزم جوازها في القرآن جواز التغنّي في القرآن، بل للغناء ميزان آخر ستعرفه في البحث الآتي.

***

المقام الثاني: في بيان ماهية الغناء
اشارة

اختلفت كلماتهم في بيان ماهيّة الغناء و توضيح مفهومه كأكثر المفاهيم العرفية من البيع و الإجارة و غيرهما، و إليك نزراً منها:

1. فقد عرّفه

المحقّق (قدس سره) في باب الشهادات: بمدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب فأخذ فيه قيوداً ثلاثة: المد، الترجيع، الإطراب.

2. قال في «القاموس»: الغناء من الصوت ما مدّ و حسن و رجع فقد أخذ

______________________________

(1) كفاية السبزواري، المقصد الثاني من مقاصد كتاب التجارة في عدّ ما يحرم التكسّب به، الطبعة الحجرية.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 537

فيه أيضاً قيوداً ثلاثة بتبديل المطرب إلى الحسن. و اعترض في «مفتاح الكرامة» بأنّ ما ذكره «القاموس» لا ينفك عن الطرب، لأنّ الترجيع تقارب ضروب حركات الصوت و النفس و هو يلازم الإطراب و التطريب.

و يؤيد الاعتراض أنّه فسّر الغناء في موضع آخر ب- «ما طرب به».

فسّره العلامة (قدس سره) في شهادات القواعد: بترجيع الصوت و مده. مع أنّه أضاف في «الإرشاد» على القيدين مد الصوت و التطريب.

4. فسره الشافعي: بتحسين الصوت و ترقيقه.

5. نقل عنه أيضاً: بأنّ كل من رفع و والاه فصوته عند العرب غناء و إليه يرجع قول من يقول إنّه مد الصوت.

6. عرفه في «السرائر»، «و إيضاح النافع»: بأنّه الصوت المطرب. و يظهر أيضاً من بعض عبارات «القاموس».

7. ما ذكره الطريحي قال: إنّ له معنيين: أحدهما ما يسمّى في العرف غناء و إن لم يطرب، و ثانيهما هو مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، و عليه صاحب «الصحاح».

8. الصوت المناسب لبعض آلات اللهو و الرقص.

9. لحن أهل المعاصي و الكبائر.

10. الصوت المثير لشهوة النكاح.

11. تفسيره بالسماع كما في «الصحاح»، و هذا التعريف من قبيل تفسير المجمل بمجمل مثله، و العجب أنّ الشيخ استحسنه.

و الظاهر أنّ السماع ليس بمعنى الغناء، بل كناية عن سماع آلات الأَغاني.

12. ما ذكره الغزالي: الصوت الموزون المفهم المحرّك للقلب.

المواهب في تحرير

أحكام المكاسب، ص: 538

إلى غير ذلك من التعاريف، و المشهور هو التعريف الأوّل. ( «1»)

و على كل تقدير فالكل يشير إلى أنّه من مقولة الصوت لا من مقولة مضمون الكلام، و يدلّ على ذلك ما قاله ابن فارس: إنّ للفظ الغناء أصلين معنيين أحدهما: الكفاية، و الآخر: الصوت، و الأغنية، اللون من الغناء.

و لكن أكثر هذه التعاريف تعاريف اسمية لا يمكن أنْ تكون محددة لحقيقة الغناء، مثلًا انّ تفسير الشافعي: بأنّ كل من رفع صوته و والاه فهو غناء أو تفسير غيره: بأنّه مد الصوت أو التفسير الأوّل للشافعي: بأنّه تحسين الصوت و ترفيعه؛ ليس تعريفاً تامّاً و إلا يلزم أنْ يكون رفع الصوت للأذان غناء، و يلزم أن تكون قراءة القرآن و الأدعية بصوت حسن أو مع ترقيقه غناء مع أنّه ليس من الغناء قطعاً، كيف، و قد ندب الشارع إلى قراءة القرآن بصوت حسن أو بلحون العرب، و هو لا ينفك عن حسن الصوت مطلقاً و ترقيقه في بعض الآيات، و لأجل هذا نستوضح بعض النظريات.

نظرية الشيخ الأنصاري

(قدس سره)

لمّا كانت هذه التعاريف ناقصة التجأ الشيخ (قدس سره) إلى وجه آخر، و هو أنّ المتحصّل من الأَدلّة المتقدّمة حرمة الصوت المرجّع فيه على سبيل اللهو، فإنّ اللهو يتحقّق بأقسام:

______________________________

(1) قال في المستند: 14/ 124، باب ما يحرم التكسّب به: و منها الغناء، و الكلام إمّا في ماهيته أو حكمه، أمّا الأوّل فبيانه أنّ كلمات العلماء من اللغويين و الأُدباء و الفقهاء مختلفة في تفسير الغناء، ففسّره بعضهم بالصوت المطرب، و آخر بالصوت المشتمل على الترجيع، و ثالث بالصوت المشتمل على الترجيع و الإطراب معاً، و ... و ... و عاشر بتحسين الصوت، و حادي

عشر بمد الصوت و موالاته.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 539

1. بالآلة من غير صوت كضرب الأوتار و نحوه.

2. بالصوت في الآلة كالمزمار و القضيب.

3. بالصوت المجرّد.

4. بالحركات المجرّدة كالرقص.

فكل صوت يكون لهواً بكيفيته و معدوداً من ألحان أهل الفسوق و المعاصي فهو حرام، و إنْ فرض أنّه ليس بغناء، و كل ما لا يعد لهواً فليس بحرام و إنْ فرض صدق الغناء عليه فرضاً غير محقّق، لعدم الدليل على حرمة الغناء إلا من حيث كونه باطلًا و لهواً و لغواً و زوراً.

ثمّ إنّ المرجع في اللهو إلى العرف، و الحاكم بتحقّقه هو الوجدان حيث يجد الصوت المذكور مناسباً لبعض آلات اللهو و الرقص، و لحضور ما يستلذه القوى الشهوية من كون المغني جارية أو أمرد أو نحو ذلك. ( «1»)

يلاحظ عليه:

أوّلًا: لا وجه لتخصيص الحرمة بالمرجّع، بل الصوت اللهوي يشمل الترجيع و غيره.

و ثانياً: أنّه لم يخرج عن الإبهام، حيث إنّ تعليق الحرمة بالصوت اللهوي ليس بأوضح من تعليقه بنفس الغناء، فإنْ أُريد من اللهو يكون شاغلًا عن ذكر اللّه سبحانه فهو ليس بحرام، و إنْ أُريد ما يكون شاغلًا عن الواجبات فهو حرام بالعرض لكونه مقدّمة للحرام، و لا تختص الحرمة بالصوت، بل تعمّ الأفعال الملهية الشاغلة عن الإتيان بالواجبات.

و إن أُريد منه اللعب فليس مطلق اللعب حراماً.

______________________________

(1) المكاسب: 37.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 540

و إنْ أُريد ما يقتضي السرور الموجب للخفة و الخروج عن الحالة الطبيعية، فلا دليل على حرمته.

و إنْ أراد الطرب، فينطبق على بعض التعاريف من أنّه الصوت المطرب، و لو أراد هذا فلا يحتاج إلى هذا الإطناب.

و ثالثاً: أنّ لازم كلامه خروج الغناء عن كونه موضوعاً

للحرمة، و انّما الموضوع هو اللهو و الباطل و نحوه، مع أنّها من قبيل علل التشريع و ليست موضوعات لها.

قال المحقّق الإيرواني- ناقداً كلام الشيخ-: بأنّا نمنع حرمة عنوان اللهو بما هو هو، و إلا حرم كثير من المباحات، فلا بدّ أنْ يحمل اللهو على لهو خاص لا نعلم نحن خصوصيته، فكان اللهو أشد تشابهاً من الغناء.

أضف إلى ذلك أنّ الكيفية في ذاتها لا تتصف باللهو و البطلان، بل المدار في الاتّصاف باللهوية هو مدلول الكلام، فإن كان الكلام بمدلوله لهواً كان لهواً بأيّة كيفية أُدّي، و إنْ لم يكن لهواً لم يكن لهواً بأيّة كيفية أُدّي. ( «1»)

نظرية المحقّق الخوئي

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي- دام ظله- تبع الشيخ الأعظم (قدس سره) في تفسير الغناء و جعل الميزان مجرّد كونه من ألحان أهل الفسوق و المعاصي، و ذكر أنّ الضابطة المذكورة تتحقق بأحد أمرين على سبيل مانعة الخلو:

الأوّل: أنْ تكون الأصوات المتّصفة بصفة الغناء مقترنة بكلام لا يعد عند العقلاء إلا باطلًا، لعدم اشتماله على المعاني الصحيحة، بحيث يكون لكل واحد من اللحن و بطلان المادة دخل في تحقّق معنى السماع و الغناء، و عليه فلو وجد

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الايرواني: 30.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 541

اللحن المذكور في كلام له معنى صحيح عند العقلاء لما كان غناء، مثاله: قراءة القرآن و الأدعية و الخطب.

الثاني: أن يكون الصوت بنفسه مصداقاً للغناء و قول الزور و اللهو المحرّم، كألحان أهل الفسوق و الكبائر التي لا تصلح إلا للرقص و الطرب، سواء تحقّقت بكلمات باطلة أم تحقّقت بكلمات مشتملة على المعاني الراقية كالقرآن و نهج البلاغة، و هي في هذه الأُمور المعظمة أبغض. ( «1»)

يلاحظ عليه:

أوّلًا: وجود

التناقض بين قوله في القسم الأوّل حيث قال: «الأصوات المتّصفة بصفة الغناء مقترنة بكلام لا يعدّ عند العقلاء إلا باطلًا» و ظاهره أنّ الصوت بنفسه غناء بلا دخل للمادة، و يناقضه قوله في ذلك القسم: و حيث يكون لكل واحد من اللحن و بطلان المادة دخل في تحقّق معنى السماع و الغناء.

و ثانياً: أنّ ما ذكره ينافي مختاره من أنّ الغناء المحرّم عبارة عن الصوت ... سواء أتحقّق في كلام باطل أم في كلام حق، و معه كيف يقول إنّ للمادة دخلًا في تحقّق الغناء؟

و ثالثاً: لا دليل على حرمة القسم الأوّل ما لم يكن مطرباً، و ما مثّل به لا دليل على حرمته من جهة الغناء حيث قال: مثاله الألفاظ المصوغة على هيئة خاصة المشتملة على الأوزان و السجع و القافية المهيجة للشهوة الباطلة و العشق الحيواني، إذ لو كانت هذه الألفاظ مطربة لدخلت في القسم الثاني، و إلا فلا دليل على حرمتها.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 312.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 542

نظرية الشيخ محمد رضا النجفي الاصفهاني

الشيخ الأجل محمد رضا الاصفهاني ( «1»)، ألّف رسالة في تفسير الغناء و أسماها «الروضة الغنّاء في معنى الغناء و تحديده و حكمه» ( «2») و قد لخّصها سيدنا الأُستاذ- دام ظله- ربّما تكون الخلاصة أقرب إلى الفهم.

قال: الغناء صوت الإنسان الذي من شأنه إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس.

و الطرب هو الخفة التي تعتري الإنسان فتكاد أنْ تذهب بالعقل و تفعل فعل المسكر لمتعارف الناس أيضاً.

و يتحصّل من هذا التعريف، لزوم وجود أُمور في صدق الغناء مضافاً إلى اختصاصه بصوت الإنسان:

الأوّل: إيجاد الطرب.

الثاني: الطرب عبارة عن الخفّة التي تكاد أنْ تذهب بالعقل كالمسكر.

الثالث: الميزان في إيجاد الطرب متعارف الناس عليه،

فلا اعتبار بمن هو كالجماد، كما لا اعتبار بمن يطرب بأدنى سبب.

الرابع: انّ سبب الطرب هو تناسب الصوت.

ثمّ أخذ في بيان ماهية الحسن، و قال: فإذا كان الصوت متناسباً (بمه وزيره) ( «3»)، و بزاته، و ارتفاعه و انخفاضه، و اتّصاله و انفصاله سمّي بالغناء.

______________________________

(1) آل العلامة الشيخ محمد تقي النجفي صاحب «هداية المسترشدين» المولود عام 1287 ه- و المتوفّى عام 1362 ه- من أكابر العلماء في القرن الرابع عشر، صاحب التآليف القيّمة منها: نقد فلسفة داروين، و وقاية الأذهان في الأُصول.

(2) نشرت الرسالة في مجلة «نور علم». لاحظ السنة الثانية، العدد 4.

(3) كلمتان فارسيتان تعبران عن كيفية الصوت جاء بهما لوجود الضيق في التعبير و رعاية لحال المستمع.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 543

و قد وضع لبيان هذه النسب و أقسامها فنّ الموسيقى الذي هو أحد أقسام العلوم الرياضية، فإذا أنشد الشعر على طبق مقررات الفن أوجب لسامعه- إذا كان من متعارف الناس- الطرب الخارج عن المتعارف حتى يكاد أنْ يفعل فعل المسكر فيصدر من الشريف الحكيم ما يأنف عنه الأنذال من أقوال و أفعال تشبه أقوال السكارى و أفعالهم.

هذه خلاصة مرامه، لكنه جعل لكلامه فذلكة و قال: إنّ الغناء هو الصوت المتناسب الذي من شأنه بما هو متناسب أن يوجد الطرب، أعني: الخفة بالحد الذي مرَّ، فما خرج منه فليس من الغناء في شي ء و إن كان القارئ رخيم الصوت حسن الأداء و أَحسن كلَّ الإحسان و وقع من سامعه أقصى مراتب الاستحسان.

كما أنّه من الغناء الصوت المتناسب و إنْ كان من أَبح ردي الصوت، و لم يطرب، بل أوجب عكس الطرب، فبين كل من الغناء و الصوت المستحسن عموم من وجه.

و

لا يخفى ما في كلامه من الإشكال أو الإشكالات:

أمّا أوّلًا: فلأنّ تفسير الغناء بالصوت المتناسب للطرب المزيل للعقل، تعريف له بأتمِّ مصاديقه و أكملها، فإنّ للغناء مراتب و درجات، فما ذكره من إزالة العقل و إنّه يفعل كفعل المسكر راجع إلى أَكمل درجاته لا إلى كلِّها.

و ثانياً: أنّه (قدس سره) جعل التناسب- أي تناسب الصوت في الأوصاف التي ذكرها من: بمه وزيره و بزاته و ارتفاعه- العلّة الوحيدة للطرب مع أنّه ليس كذلك، فإنّ للصوت سهماً عظيماً في إيجاده. فلأجل ذلك لو كان الصوت غليظاً رديئاً و إن كان مناسباً للطرب و روعيت فيه الجهات لا يكون مطرباً، بل موجباً للإيذاء، و لأَجل ذلك قال القائل:

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 544

إذا غناني القرشي*** دعوت اللّه بالط- رش

أي دعوت اللّه بتعطيل السامعة حتى لا أسمعه «و الأطرش هو الأَصم» و إطلاق الغناء في قوله: «إذا غنّاني» بمثل هذا الصوت الأَبح من باب إطلاق الحاتم على البخيل بعلاقة التضاد.

و ثالثاً: أنّه صرّح في أوّل كلامه بأنّ الغناء هو الصوت الذي من شأنه الطرب بتناسبه لمتعارف الناس، و لكنّه اكتفى في ذيل كلامه بنفس التناسب، و انّه لا يعتبر الطرب، بل و إنْ أوجب العكس لأجل كون الصائت أَبح ردي الصوت، و بين الكلامين تهافت.

و انّما وقع فيه لأجل أنّه اكتفى في سبب الطرب بصرف التناسب فقط، و ألغى دخل الصوت الحسن فاضطر إلى قبول كون صوت الأبح و ردي ء الصوت غناء و إن لم يكن مطرباً بل موجباً للعكس، و لو قال بدخل الصوت الحسن لما وقع في هذا التناقض. ( «1»)

ما هو المختار؟

إنّ الغناء عبارة عن صوت الإنسان الذي له رقّة و حسن ذاتي،

و لو في الجملة، و له شأنية الطرب لمتعارف الناس.

توضيحه: انّ الغناء لا يتقوّم بالمد و لا بالترجيع، و إنْ وردا في تعريف المشهور، بل مقوّم الغناء كونه مقتضياً للطرب و الرقص، و هو يقوم بأمرين:

الأول: كون الصوت حسناً و ذا رقّة و رخامة، وصفاء و لطف، بحيث تقبله

______________________________

(1) و في «لغت نامه» دهخدا: الموسيقي هو الغناء، و الموسيقياء: هو المغني، و الموسيقيات هي آلة الغناء، و البربط هو العود، و يطلق عليه المزمارة و المزهر يقول الخاقاني:

بربط از بس چوب كز استاد، خورده طفل وار*** أبجد روحانيان بين، از زبان انگيخته

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 545

الطبائع و تحسنه في مقابل ما يؤذي و يمج.

الثاني: انّ الصوت لأجل تناسب أجزائه يكون مطرباً و مقتضياً له، خصوصاً إذا كان له إدامة و استمرار، و عندئذ فلو انتفى القيد الأوّل و كان الصوت رديئاً ممجّاً للأسماع و مؤذياً للأرواح و الأنفس لا يتحقّق الغناء، و لا يكون له شأنية الطرب، كما أنّه إذا فقد التناسب و لم تتألف أجزاء الصوت تأليفاً ملائماً لا يتحقّق الطرب أيضاً.

و بالجملة: اذا كان الصوت لطيفاً و رخيماً و قد روعيت فيه نسب الموسيقى المقررة في الفن، حصل الطرب و الرقص لمتعارف الناس، و بفقد أحد القيدين لا يتحقّق الطرب فلا يتحقّق الغناء.

و بالجملة: القدر المتيقّن من الغناء كما يظهر من عامّة التعاريف و الأقوال كونه مطرباً، و الطرب معلول لأمرين:

1. حسن الصوت.

2. حسن التأليف و حفظ التناسب بين أجزاء الصوت من: بمه وزيره، و بزاته، و مدّه و ارتفاعه و انخفاضه، فعند ذلك يتحقّق الغناء، لكن حسن الصوت أمر وجداني لا يحتاج إلى التأليف، و حسن التأليف يتحقّق بحفظ التناسب

بين ارتعاشات الصوت يعرفه كل من له إلمام بالألحان الموسيقية.

و بذلك يعلم أنّ تفسير الغناء بالمد و الترجيع كما عن العلامة، أو بمد الصوت و تحسينه و ترقيقه كما عن المحقّق الإيرواني، أو بالصوت اللهوي لأهل الفسوق و الأباطيل كما عن الشيخ الأعظم، تفسير غير تام، فإنّ كثيراً من أقسام الغناء التي يتضمنها العود و المزمار لا تشتمل على المد، و لا على الترجيع، و لا يعد من

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 546

ألحان أهل الفسق و الباطل.

كما أنّ الفرح الحاصل من حسن الصوت أو انبساط النفس الحاصل من سماع القرآن و الدعاء غير داخل في الغناء، و كم فرق بين الفرح و انبساط النفس و الخفة التي تعتري الإنسان لدى استماع الغناء.

و الحاصل: انّ المشهور و إنْ أصاب في تعريفه بأخذ الطرب فيه، لكنّه أخطأ في بيان سببه بأنّه المد و الترجيع، مع أنّ سببه هو حسن الصوت و حفظ التناسب بين أجزائه، و لعل ما نقل عن الغزالي أحسن من الكل، و إن كان خالياً من قيد «الصوت الحسن».

هذا ما أوصلنا إليه التدبّر في كلمات القوم، و في ما أفاده سيدنا الأُستاذ- دام ظله- غير أنّه بقي هنا شي ء و هو أنّه هل الألحان جميعها موجبة للطرب، أو الموجب منها قسم خاص؟

قال الشيخ في «الشفاء»: الموسيقي علم رياضي يبحث فيه عن أحوال النغم من حيث الاتفاق و التنافر، و أحوال الأَزمنة المنحلّة بين النقرات من حيث الوزن و عدمه ليحصل معرفة كيفية تأليف اللحن ... فظهر لنا انّه يشتمل على بحثين: البحث الأوّل: عن أحوال النغم، و البحث الثاني: عن الأزمنة؛ فالأوّل: يسمّى علم التأليف، و الثاني: علم الإيقاع، و الغاية

و الغرض منه حصول معرفة كيفيّة تأليف الألحان، و هو في عرفهم أنغام مختلفة الحدة و الثقل رتبت ترتيباً ملائماً. ( «1»)

______________________________

(1) كشف الظنون: 2/ 568- 569.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 547

المقام الثالث: في مستثنياته
اشارة

و قد استثنيت من حرمة الغناء أُمور:

الأوّل: المراثي.

الثاني: القرآن.

الثالث: العرائس.

الرابع: الحداء للإبل.

و إليك بيان أحكامها:

الأمر الأوّل الغناء في المراثي

قال المحقّق الأردبيلي في «شرح الإرشاد»: و قد استثني مراثي الحسين (عليه السلام) أيضاً، و استدلّ عليه بوجوه:

1. لم يثبت الإجماع إلا في غيرها.

2. الأخبار ليست بصريحة في التحريم مطلقاً، و الأصل الجواز إلا فيما ثبت تحريمه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 548

3. البكاء و التفجّع عليه مطلوب و مرغوب و فيه ثواب عظيم، و الغناء معين على ذلك.

4. إنّه متعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمان المشايخ إلى زماننا هذا من غير نكير.

5. انّ الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) أمر بالنياحة على حمزة (عليه السلام) و النياحة لا تكون بلا غناء.

6. ان تحريم الغناء لأجل كونه موجباً للطرب و ليس في المراثي طرب.

يلاحظ عليه: بانّ هذه الوجوه غير صالحة للاستدلال:

و يكفي في ردّ الأوّل إطلاق الأَدلة، و ليس الإجماع هو الدليل الوحيد على حرمة الغناء حتى يؤخذ بالقدر المتيقّن و يترك المشكوك تحت الجواز.

كما أنّ الأخبار صريحة و متضافرة في التحريم، و قد عرفت متونها.

و البكاء و التفجّع و إن كان مطلوباً لكنّه لا يصحّ التوسّل إليه بسبب محرّم كما هو واضح، قال الشيخ الأعظم (قدس سره): أ لا ترى انّه لا يجوز إدخال السرور في قلب المؤمن و إجابته بالمحرمات، و السر في ذلك أنّ دليل الاستحباب انّما يدلّ على كون الفعل- لو خلي و طبعه خالياً عمّا يوجب لزوم أحد طرفيه- مطلوباً.

و أمّا كونه متعارفاً في بلاد المسلمين فما هو المتعارف هو النياحة بالصوت الحسن لا بالمطرب.

كما أنّ أمره (صلى الله عليه و آله و سلم) بالنياحة على حمزة صحيح، غير أنّه ليس

كل نياحة غناء، فما ذكره من أنّ النياحة لا تكون بلا غناء كلام غير تام، بل تكون النياحة غالباً في مقابل الغناء، فالنياحة تتقوّم بصوت مبك، و الغناء بصوت مطرب، و الحق ما ذكره أخيراً من أنّ تحريم الغناء للطرب و ليس في المراثي طرب.

ثمّ، إنّه استدلّ ببعض الروايات:

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 549

1. رواية حنان بن سدير قال: كانت امرأة معنا في الحي و لها جارية نائحة فجاءت إلى أبي فقالت: يا عم أنت تعلم أنّ معيشتي من اللّه ثمّ من هذه الجارية، فأحب أن تسأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ذلك فإنْ كان حلالًا و إلا بعتها و أكلت من ثمنها حتى يأتي اللّه بالفرج، فقال لها أبي: و اللّه إنّي لأعظم أبا عبد اللّه (عليه السلام) أن أسأله عن هذه المسألة، قال: فلمّا قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «تشارط؟» فقلت: و اللّه ما أدري تشارط أم لا. فقال: «قل لها لا تشارط و تقبل ما أُعطيت». ( «1»)

2. و ما رواه أبو حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «مات الوليد بن المغيرة فقالت أُم سلمة للنبي (صلى الله عليه و آله و سلم): إنّ آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم، فأذن لها، فلبست ثيابها و تهيأت و كانت من حسنها كأنّها جان، و كانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها و عقدت بطرفيه خلخالها، فندبت ابن عمها بين يدي رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقالت: انعى الوليد بن الوليد أبا الوليد فتى العشيرة ... فما عاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ذلك و

لا قال شيئاً». ( «2»)

3. و رواية يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا و كذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى». ( «3»)

و هذه الروايات لا صلة لها بالغناء و إنّما الحرام النياحة بالباطل، و لعلّها لم تكن مقرونة به.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 89، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 12/ 88، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

(3) الوسائل: 12/ 88، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 550

الأمر الثاني الغناء في القرآن

و قد نسب ذلك إلى «صاحب كفاية الأحكام» قال: إنّ غير واحد من الأخبار دلَّ على جواز الغناء في القرآن، بل استحبابه بناء على دلالة الروايات على استحباب حسن الصوت و التحزين و الترجيع به، و الظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة و غيرهم على ما فصلنا في رسالتنا.

و أورد عليه الشيخ الأعظم (قدس سره): بأنّ الأمر بقراءة القرآن بصوت حسن لا ينافي تحريم الغناء فيه، لأنّ الغناء هو الصوت اللهوي و صوت أهل الفسوق و هو غير كون الصوت حسناً.

أقول: إنّ الروايات الواردة في مورد القرآن على أقسام:

الأوّل: ما دلّ على استحباب قراءته بصوت حسن. ( «1»)

الثاني: ما يدلُّ على قراءته بألحان العرب و أصواتهم، و ينهى عن قراءة لحون أهل الفسوق و الكبائر، نحو رواية عبد اللّه بن سنان، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها و إيّاكم و لحون

أهل الفسق و أهل الكبائر، فإنّه سيجي ء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء

______________________________

(1) الوسائل: 4/ 859، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، الحديث: 3 و 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 551

و النوح و الرهبانية لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، و قلوب من يعجبه شأنهم». ( «1»)

ثمّ إنّه اختلفت كلماتهم في معنى «اللحن» في قوله (صلى الله عليه و آله و سلم) «بألحان العرب» حيث فسّره صاحب الحدائق: باللغة، و كأنّه أراد اللهجة.

يلاحظ عليه: أنّ ألحان جمع «لحن»- بسكون العين-، و هو ما صيغ من الأصوات، و أمّا اللحن بمعنى الخطأ في الكلام أو القراءة فهو لحن- بفتح العين- و لا يجمع على ألحان.

و الظاهر أنّ المراد من الحديث الأَنغام العربية، فإنّ لكل أُمّة نغماً خاصة تعرف به، و ليس كل نغمة عربية غناء، و إلّا لما ذيله (صلى الله عليه و آله و سلم) بقوله «و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر» فانّ لحون هذه الطائفة لو لم تكن كلّها غناء، فلا شك أنّ بعضها غناء، و أوضح منه «يرجعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانية» و هذا يدلّ على أنّ المراد من اللحون العربية هي اللحون العارية عن الغناء و ما يناسبها كالترجيع.

الثالث: ما دلّ على قراءته بالصوت الحسن مع الترجيع، مثل قوله (عليه السلام): «و رجع بالقرآن صوتك فانّ اللّه عز و جل يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعاً» ( «2») و أشكل عليه بوجهين:

1. انّ الترجيع هو ترديد الصوت في الحلق و هو يلازم الغناء، و لعلّ نظر السبزواري (رحمه الله) إلى ذلك الحديث في قوله: إنّ غير واحد من الروايات دلّ على جواز الغناء

في القرآن، و لأَجل ذلك حمله صاحب «الوسائل» على التقيّة تارة، و عدم وصوله إلى حد الغناء، أُخرى؛ و الثاني هو المتعيّن، و حمله الشيخ على قراءة القرآن

______________________________

(1) المصدر السابق: 858، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 4/ 859، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 552

بالمكث لا بسرعة كقراءة الكتب للمقابلة.

2. انّه يأمر بقراءة القرآن بالترجيع مع أنّه ورد عنه النهي في رواية عبد اللّه بن سنان كما مر.

و الجواب: انّ الترجيع على قسمين: قسم لا يبلغ حدَّ الغناء، و قسم يبلغ حدّه؛ و لأجل ذلك قال الإمام (عليه السلام) في رواية ابن سنان: «يرجعون القرآن ترجيع الغناء»، و هذا يشعر بأنّ الترجيع على قسمين.

هذا مجموع ما ورد حول القرآن من الروايات، و ليس فيها ما يدل على جواز الغناء فيه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 553

الأمر الثالث الغناء في العرائس

قال المحقّق الثاني في «جامع المقاصد»: و استثني من الغناء الحُداء، و فعل المرأة في الأعراس، بشروطه الآتية، و استثنى بعضهم مراثي الحسين (عليه السلام).

و قال المحقّق الأردبيلي: و قد استثني فعل المغنّية في الأعراس بشروط ثلاثة:

1. إذا لم تتكلّم بالباطل و الكذب.

2. و لم تعمل بالملاهي التي لا تجوز لها.

3. و لم تسمع صوتها الأجانب.

و يدلّ على ما ذكره صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام): عن كسب المغنيات. فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، و هو قول اللّه عز و جل: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ)». ( «1»)

و رواية الحكم الخياط، عن أبي بصير، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «المغنّية

التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها». ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و الآية 6 من سورة لقمان.

(2) الوسائل: 12/ 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 554

و رواية أيوب بن الحر، عن أبي بصير قال: «قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): أجر المغنية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي يدخل عليها الرجال». ( «1»)

و الظاهر أنّ المجموع رواية واحدة عن أبي بصير رويت بأسانيد و صور مختلفة.

و ذهب العلامة (قدس سره) إلى الحرمة أخذاً بالمطلقات، و نقل عن الشيخ (قدس سره) الحلية بشروط مذكورة في كلام الأردبيلي.

و الظاهر أنّ المراد من أبي بصير هو يحيى بن قاسم بقرينة نقل علي بن أبي حمزة عنه.

الأمر الرابع الحُداء للإبل

و لا دليل عليه سوى ما نقله العامّة من تقرير النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لعبد اللّه بن رواحة حيث حدا للإبل و كان حسن الصوت.

و في دلالته و سنده ما لا يخفى كما ذكره الشيخ (قدس سره).

و لو كانت السيرة المستمرّة على الحداء للإبل في عصر النبي، كان عدم الردع و السكوت، دليلًا على الامضاء فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 555

15 الغيبة و يقع الكلام في أُمور:

اشارة

الأوّل: ما هو حكم الغيبة شرعاً؟ و إذا ثبت حرمتها فهل هي من الكبائر أو لا؟ و هل تعم الحرمة المخالف و الصبي المميّز أو لا؟

الثاني: ما هي ماهية الغيبة؟

الثالث: ما هي دواعي الغيبة و موجباتها؟

الرابع: في كفّارة الغيبة.

الخامس: في بيان مستثنياتها.

و إليك بيان هذه الأُمور الخمسة مع ما يتعلّق بها من الفروع:

الأمر الأوّل: حكم الغيبة شرعاً
اشارة

اتّفق المسلمون على حرمة الغيبة مؤكدة، و يدلُّ عليها من الآيات:

1. قوله سبحانه: (وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 556

أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ تَوّٰابٌ رَحِيمٌ). ( «1»)

و لسان الدليل هو الحرمة المؤكدة بشهادة التشبيه البديع الوارد فيها، حيث نزّل الأخ المؤمن منزلة الأَخ النسبي، الذي لا ينفك- حسب العادة- عن الود و الحب، و جعل عرضه بمنزلة لحمه الذي يشكّل بدن الإنسان و به قوام حياته، و عدَّ التفكّه أَكلًا للحمه، كما نزّل غيبته و عدم قدرته على الدفاع منزلة كونه ميتاً، و في الآية من بديع البلاغة ما لا يخفى.

و على كل تقدير فالنهي مع التشبيه ثمّ التعقيب بالأَمر بالتقوى آية الحرمة المؤكدة.

2. و يدلُّ عليه أيضاً قوله سبحانه: (لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ وَ كٰانَ اللّٰهُ سَمِيعاً عَلِيماً* إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَفُوًّا قَدِيراً). ( «2»)

و المراد من (السوء مِنَ الْقَوْلِ) كلّ كلام يسوء من قيل فيه، كالدعاء عليه، و القول بما فيه من المساوئ و العيوب، و بما ليس فيه، فالجهر بها كلّها غير محبوب عند اللّه سبحانه إلا ممّن ظلم، فيجوز له الجهر بمساوئ الظالم للدفاع عن حقّه، لأنّه يجوز

له الدفاع عن نفسه، و لا يتجاوز عن حدود الظلم إلى ما لا يرتبط به، و كذا ما ليس فيه أبداً.

و الاستثناء- أَعني قوله سبحانه: (إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ)- لأجل أنْ لا يغتر الظالم بما في الآية و يرتكب ما يرتكب.

و الحاصل: انّ الجهر بكلِّ قول يسوء ( «3») مَنْ قيل فيه، غير محبوب عنده

______________________________

(1) الحجرات: 12.

(2) النساء: 148- 149.

(3) يقال: ساء الأمر فلاناً: احزنه، فعل به ما يكرهه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 557

سبحانه، فهو بإطلاقه يشمل الغيبة، لأنّ الغيبة من القول الذي يسوء المقول فيه.

ثمّ إنّه ربّما يقال بعدم دلالة الآية على حرمة الغيبة لوجهين:

الأوّل: انّه ليس في الآية ما يدلُّ على أنّ الغيبة من الجهر بالسوء إلا القرائن الخارجية.

الثاني: انّه لا يستفاد منها التحريم، لأنّ عدم المحبوبية أَعم منها و من الكراهة المصطلحة.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من القول بالسوء هو القول الذي يسوء المقول فيه، و الغيبة من أظهر مصاديقه.

و إنْ شئت قلت: «السوء» بمعنى الشر و ما فيه الفساد و يجمع على «أ سواء»، و المراد من (السوء مِنَ الْقَوْلِ) هو القول السوء، أي القول الشر و ما فيه الفساد، و الغيبة من مصاديقه قطعاً، كما أنّ السب و الشتم بما فيه، و بما ليس فيه، من مصاديقه أيضاً.

و يؤيد الإطلاق قوله سبحانه بعد الآية: (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَفُوًّا قَدِيراً). ( «1»)

إذ لا شك في أنّ السوء الوارد في الآية الثانية يشمل الغيبة بلا كلام، فهو قرينة على الإطلاق في الآية المتقدّمة عليها.

و أمّا ما أفاده ثانياً من أنّ عدم الحب أَعم، فهو أيضاً غير تام، لأنَّ مناسبة الحكم و الموضوع

تقتضي حمله على الحرمة، فانّ المناسب لكلام الشر، هو الحرمة.

______________________________

(1) النساء: 149.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 558

3. قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ). ( «1»)

و الآية تحتمل وجوهاً:

منها: المراد من الآية هو أنّ حبَّ شيوع المعاصي بين العباد إثم عظيم يترتب عليه العذاب في الدنيا و الآخرة، و هذا هو المتبادر من الآية مع غض النظر عن القرائن.

لكن يبعده أنّ حبَّ شيوع الفاحشة بما هو هو من دون صدور عمل من المحب كيف يترتب عليه عذاب في الدنيا و الآخرة؟! و قد تضافرت الروايات على عدم الإثم في الحب إذا لم يرتكب شيئاً من مقدّماته أو غيرها، و لأجل ذلك يجب تفسير الآية بوجه آخر.

و منها: أنّ الآية نازلة في عداد الآيات الواردة حول الإفك و قذف المؤمن أو المؤمنة بالزنا من غير بيّنة.

قال ابن منظور الإفريقي: الفحش و الفحشاء و الفاحشة: القبيح من القول و الفعل، و جمعها الفواحش.

و قال الفيروزآبادي: الفاحشة: ما يشتد قبحه من الذنوب. ( «2»)

و على ذلك فالمراد من الفاحشة هو القذف بجعل اللام للعهد، و هو رمي البري ء بالزنا الذي لم يثبت بالبيّنة، و المراد من قوله: (يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ) ليس مجرّد الحب بلا فعل و لا عمل، بل المراد الذين يشيعون الفاحشة عن حبّ

______________________________

(1) النور: 19.

(2) و تفسيرها بالزنا كما مرّ في كلامه أيضاً من باب تطبيق المعنى الكلّي على المصداق التام.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 559

و قصد، فالقاذف بلا بيّنة هو الذي يشيع العمل السيئ عن حبّ و إرادة، و المراد من

عذاب الدنيا هو الحد.

و منها: انّ المراد من الفاحشة هو كل قبيح، سواء كان هو القذف أو كشف العيب الذي ستره اللّه، و المراد هو إشاعة الفاحشة عن حبّ و قصد، سواء أ كان هو القذف أو غيره.

و بذلك يعلم ضعف ما أفاده صاحب «مصباح الفقاهة» حيث قال: إنّ الآية تدلّ على أنّ حبَّ شيوع الفاحشة من المحرّمات و قد أوعد اللّه عليه النار، و الغيبة إخبار عن الفاحشة و العيب المستور، و هما متباينان. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره هو المعنى الأوّل، و هو الظاهر من نفس الآية لكن القرائن المتّصلة و المنفصلة الحافة بالآية، تؤيد المعنى الثاني أو الثالث، و ليس الفرق بينهما إلا بالسعة و الضيق.

و الحاصل: أنّ الآية تهدف إلى أنّ إشاعة الفاحشة- أيّ فاحشة كانت- عن حبّ و قصد حرام، فتشمل بإطلاقها الغيبة.

4. قوله سبحانه: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) ( «2») الهمز و اللمز هو كثرة الطعن و يكون باللسان و غيره، بالحضور و الغياب، و بينه و بين الغيبة عموم و خصوص من وجه، فالطعن بالأَمر الظاهر همز و لمز و ليس غيبة، و إظهار العيب المستور بلا طعن غيبة و ليس بهمز و لا لمز، و قد يجتمعان.

هذه الآيات التي تدلّ بنصوصها أَو إطلاقاتها على حرمة الغيبة.

و أمّا الروايات: فكثيرة و نأتي بالقليل من الكثير:

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 319.

(2) الهمزة: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 560

منها: ما يعدّ التحفّظ عن الغيبة من حقوق المؤمن على المؤمن، مثل خبر سليمان بن خالد، عن أَبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): المؤمن من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم و أموالهم،

و المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه، و المهاجر من هجر السيئات و ترك ما حرّم اللّه، و المؤمن حرام على المؤمن أنْ يظلمه أَو يخذله أَو يغتابه أو يدفعه دفعة». ( «1»)

و منها: مرسلة ابن أَبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أُذناه فهو من الذين قال اللّه عز و جل: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ)». ( «2»)

و منها: خبر السكوني، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه». ( «3»)

و منها: خبر أبي ذر، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في وصيته له قال: «يا أبا ذر: إيّاك و الغيبة، فانّ الغيبة أَشدُّ من الزنا»، قلت: و لم ذاك يا رسول اللّه؟ قال: «لأنّ الرجل يزني فيتوب إلى اللّه فيتوب اللّه عليه، و الغيبة لا تغفر حتى يغفر صاحبها، يا أبا ذر سباب المسلم فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه من معاصي اللّه، و حرمة ماله كحرمة دمه»، قلت: يا رسول اللّه و ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قلت: يا رسول اللّه فإن كان فيه الذي يذكر به، قال: «اعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، و إذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتَّه». ( «4»)

و أمّا الإجماع و العقل فقد تطابقا على حرمة الغيبة- حرمة مؤكدة- و قبحها.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 596، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1، 6، 7. و لاحظ

الأحاديث: 2، 3، 4، 5، و أيضاً لاحظ الأبواب: 154، 155، 156.

(2) الوسائل: 8/ 596، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1، 6، 7. و لاحظ الأحاديث: 2، 3، 4، 5، و أيضاً لاحظ الأبواب: 154، 155، 156.

(3) الوسائل: 8/ 596، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1، 6، 7. و لاحظ الأحاديث: 2، 3، 4، 5، و أيضاً لاحظ الأبواب: 154، 155، 156.

(4) الوسائل: 8/ 598، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 561

الغيبة من الكبائر

قسّم الأصحاب رحمهمُ اللّه المعاصي إلى الكبائر و الصغائر، و الأصل في هذا التقسيم قوله سبحانه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ) ( «1»)، و هذا يدلّ على أنّ هناك معاصي توصف بنفسها بالكبيرة و الصغيرة، و إن كانت كلّها بالنسبة إليه سبحانه كبيرة، لكن الميزان في التقسيم ليس ذاك. و نظيره قوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ). ( «2»)

و ربّما يقال بأنّ اتّصاف المعاصي بالصغر و الكبر أمر إضافي لا نفسي، فالقتل معصية صغيرة بالنسبة إلى الشرك و إنْ كانت كبيرة بالنسبة إلى الغيبة، و هكذا.

و لكن هذا القول لا يخلو من ضعف، إذ لازم ذلك انّه إذا اجتنب الشرك و القتل و الزنا أنْ تكفّر سيئاته الأُخرى لقوله سبحانه (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) و هذا قول لا يرضى به أحد.

و الظاهر أنّ هناك معاصي توصف بنفسها بالكبر و الصغر، و الآية ناظرة إلى ذاك التقسيم. نعم، لا ضير في القول بوصف الكل بالكبر إذا لوحظ باعتبار كونه تجرّياً على المولى سبحانه، كما لا ضير في القول بوصف المعاصي بالكبر و

الصغر من باب المقايسة و الإضافة، و لكنَّ الآية غيرُ ناظرة إلى ذينك التقسيمين.

و يؤيد ذلك التقسيم ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ( «3») قال: «معرفة الإمام و اجتناب

______________________________

(1) النساء: 31.

(2) النجم: 32.

(3) البقرة: 269.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 562

الكبائر التي أوجب اللّه عليها النار». ( «1»)

و روى الصدوق قال: قال الصادق (عليه السلام): «من اجتنب الكبائر يغفر اللّه جميع ذنوبه، و ذلك قول اللّه عز و جل: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً)». ( «2»)

و روى عباد بن كثير النواء قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الكبائر؟ فقال: «كلّ ما أوعد اللّه عليه النار». ( «3»)

كل ذلك يبيّن أنّ هذا التقسيم بلحاظ نفس الذنوب لا بالنسبة إلى اللّه سبحانه، أو بلحاظ نسبة بعضها إلى بعض.

فالكبائر: هي ما أوعد اللّه عليه النار في كتابه، أو على لسان نبيّه أو الأئمّة (عليهم السلام).

إذا عرفت ذلك فالناظر في الروايات لا يشك في أَنّ الغيبة من الكبائر قطعاً، و يدلّ على ذلك قوله سبحانه: (أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) ( «4»)، فانّ التشبيه الوارد فيها شاهد على تجسّم عمل المغتاب في الآخرة بصورة أكل لحم ميتة أخيه، فهو إيعاد بالعذاب.

نعم لا يشترط الإيعاد بالنار، بل يكفي الإيعاد بالعذاب، ففي رواية عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني، عن الإمام الجواد (عليه السلام)، عن آبائه، عن الصادق (عليهم السلام) قال- في عدّ الكبائر-: «و قذف المحصنة، لأنّ اللّه عز و جل يقول:

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 249، الباب 45 من أبواب جهاد

النفس، الحديث: 1 و 4 و 6. و لاحظ الباب 46 فقد جاء فيها الكبائر من المعاصي.

(2) الوسائل: 11/ 249، الباب 45 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 1 و 4 و 6. و لاحظ الباب 46 فقد جاء فيها الكبائر من المعاصي.

(3) الوسائل: 11/ 249، الباب 45 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 1 و 4 و 6. و لاحظ الباب 46 فقد جاء فيها الكبائر من المعاصي.

(4) الحجرات: 12.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 563

(لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) ( «1»)». ( «2»)

فالآية بضميمة هذه الرواية تثبت أنّ الغيبة من الكبائر، و يكفي في اتّصافها بالكبيرة، الإيعاد بالعذاب و لا يلزم الإيعاد بالنار.

و يدلّ عليه أيضاً قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ)، و قد عرفت دلالة الآية على حرمة الغيبة و انّها بإطلاقها تدلّ على أنّ إشاعة فعل القبيح عن حبّ و قصد موجب للعذاب.

و قد استدلّ الإمام الصادق (عليه السلام) بالآية على حكم الغيبة كما في مرسلة ابن أَبي عمير عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام): «من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أُذناه فهو من الذين قال اللّه عز و جل: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ)». ( «3»)

و قد تضافر الاستدلال بالآية على حرمة الغيبة في الروايات.

و روى الطريحي في «مجمع البحرين» مادة شيع: قوله: (الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أي يشيعونها عن قصد الإشاعة و المحبة لها. و روى فيما صح، عن هشام، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): قال: «من قال في

مؤمن ما رأت عيناه و سمعت أُذناه كان من الذين قال اللّه فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ) الآية».

و قال أبو علي الطبرسي: في الآية دلالة على أنّ العزم على الفسق، فسق. ( «4»)

______________________________

(1) النور: 23.

(2) الوسائل: 11/ 252، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 2.

(3) الوسائل: 8/ 598، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 6.

(4) مجمع البحرين: 4/ 355، مادة «شيع» نقلًا عن الطبرسي.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 564

و على ذلك فالآيتان بضميمة ما ورد حولهما من الروايات كافيتان في إثبات كون الغيبة من الكبائر.

و هناك روايات تنصُّ على كونها من الكبائر من دون إيعاز إلى الآية:

منها: رواية أَبي ذر، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في وصيّة له قال: «يا أبا ذر، إيّاك و الغيبة، فانّ الغيبة أشدُّ من الزنا» قلت: و لم ذاك يا رسول اللّه؟ قال: «لأنّ الرجل يزني فيتوب إلى اللّه فيتوب اللّه عليه، و الغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها، يا أبا ذر سباب المسلم فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه من معاصي اللّه، و حرمة ماله كحرمة دمه» قلت: يا رسول اللّه و ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قلت: يا رسول اللّه فإن كان فيه الذي يذكر به؟ قال: «اعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، و إذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته». ( «1»)

و منها: رواية العلل، عن أسباط بن محمد يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «الغيبة أشدُّ من الزنا»، فقيل: يا رسول اللّه و لم ذلك؟ قال: «أمّا صاحب الزنا فيتوب، فيتوب اللّه عليه، و أمّا

صاحب الغيبة فيتوب فلا يتوب اللّه عليه حتى يكون صاحبه الذي يحلّه». ( «2»)

و منها: في كتاب «الأخوان» بسنده، عن أسباط بن محمد رفعه عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «أ لا أُخبركم بالذي هو أشد من الزنا؟ وقع الرجل في عرض أخيه». ( «3»)

و منها: رواية علقمة بن محمد، عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) ... عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «من اغتاب مؤمناً بما فيه لم يجمع اللّه بينهما في الجنة أبداً، و من اغتاب مؤمناً بما ليس فيه فقد انقطعت العصمة بينهما، و كان المغتاب في النار خالداً فيها و بئس المصير». ( «4»)

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 598، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 9.

(2) الوسائل: 8/ 601، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 18 و 19 و 20.

(3) الوسائل: 8/ 601، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 18 و 19 و 20.

(4) الوسائل: 8/ 601، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 18 و 19 و 20.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 565

و منها: ما عن «جامع الأخبار» عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «اجتنبوا الغيبة فانّها إدام كلاب النار». ( «1»)

و منها: الإيعاد بالعذاب بل الإيعاد بالنار.

و منها: ما في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): «اعلموا أنّ غيبتكم لأخيكم المؤمن من شيعة آل محمد (عليهم السلام) أعظم في التحريم من الميتة، قال اللّه عز و جل: (وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ). ( «2»)

و روى في «مجمع البيان» في شأن نزول الآية: (وَ لٰا يَغْتَبْ

بَعْضُكُمْ بَعْضاً) نزل في رجلين من أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) اغتابا رفيقهما و هو سلمان بعثاه إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ليأتي لهما بطعام، فبعثه إلى أُسامة بن زيد و كان خازن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) على رحله، فقال: ما عندي شي ء، فعاد إليهما فقالا: بخل أُسامة، و قالا لسلمان: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثمّ انطلقا يتجسسان هل عند أُسامة ما أَمر لهما به رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) .... ( «3»)

و في «جامع الأخبار» عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «كذب من زعم أنّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم الناس بالغيبة». ( «4»)

و ما روى القطب الراوندي: «مرّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) بناس من أصحابه فقال لهم: تخلّلوا، فقالوا: ما أكلنا لحماً، فقال: بلى، مرّ بكم فلان فوقعتم فيه». ( «5»)

و روى الصدوق في عيونه و معاني الأخبار باسناده، عن الرضا (عليه السلام)، عن أَبيه،

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 113، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 31.

(2) المستدرك: 9/ 121، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1 و الآية 12 من سورة الحجرات.

(3) المستدرك: 9/ 113 و 121 و 126، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 31 و 40 و 52.

(4) المستدرك: 9/ 113 و 121 و 126، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 31 و 40 و 52.

(5) المستدرك: 9/ 113 و 121 و 126، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 31 و 40 و 52.

المواهب

في تحرير أحكام المكاسب، ص: 566

عن الصادق (عليهما السلام) قال: «إنّ اللّه يبغض البيت اللحم، و اللحم السمين» قال: فقيل له: انّا لنحب اللحم، و ما تخلو بيوتنا منه؟ فقال: «ليس حيث تذهب، انّما البيت اللحم البيت الذي تؤكل فيه لحوم الناس بالغيبة، و أمّا اللحم السمين فهو المتبختر المتكبّر المختال في مشيه». ( «1»)

أضف إلى ذلك أنّ الغيبة من الخيانة، و هي قد عدّت من الكبائر في رواية الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون قال: «الإيمان هو أداء الأمانة و اجتناب جميع الكبائر، و هي قتل النفس و ... و الخيانة». ( «2»)

و في رواية الأعمش، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة، و هي الشرك باللّه ... و الخيانة». ( «3»)

و هذه الروايات تشرف الفقيه على القطع بكون الغيبة من الكبائر.

في غيبة المخالف

هل تجوز غيبة المخالف أم لا؟

يظهر من «المسالك» الجواز، حيث قال: و خرج بالمؤمنين غيرهم، فيجوز هجاؤهم كما يجوز لعنهم. ( «4»)

و قال المحقّق الأردبيلي في «شرح الإرشاد»: الظاهر أنّ عموم أدلّة الغيبة من الكتاب و السنّة يشمل المؤمنين و غيرهم، فانّ قوله تعالى: (وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) إمّا للمكلفين كلهم، أو المسلمين فقط لجواز غيبة الكافر،

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 601، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 17.

(2) الوسائل: 11/ 260، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 33 و 36.

(3) الوسائل: 11/ 260، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 33 و 36.

(4) لاحظ الحدائق الناضرة: 18/ 46.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 567

و لقوله بعده: (لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً)، و كذا الأخبار فانّ أكثرها بلفظ الناس

أو المسلم، مثل ما روي في «الفقيه»: «من اغتاب امرأً مسلماً بطل صومه ...» إلى أنْ قال: و بالجملة عموم أدلّة الغيبة و خصوص ذكر المسلم يدلّ على التحريم مطلقاً، و أنّ عرض المسلم كدمه و ماله، فكما لا يجوز أخذ مال المخالف و قتله، لا يجوز تناول عرضه الذي هو الغيبة، و ذلك لا يدلّ على كونه مقبولًا عند اللّه تعالى، كعدم جواز أَخذ ماله و قتله كما في الكافر، و لا يدلّ جواز لعنه الذي ورد فيه النصّ على جواز الغيبة مع وجود تلك الأدلّة.

و قد بسط الكلام صاحب الحدائق في غيبة المخالف. ( «1»)

و نقل في «مفتاح الكرامة»: عن «مجمع البحرين» و «الرياض» الجواز. ( «2»)

و تحقيق الحق أنْ يقال: انّ مقتضى القواعد هو ما اختاره الأردبيلي في شرح الإرشاد، لو لا بعض ما ورد في شأن المخالف من الروايات التي سنذكرها في آخر البحث.

أمّا أوّلًا: فلأنّ موضوع الحرمة في كثير من الروايات هو المسلم، مثل ما رواه الحرث بن المغيرة قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «المسلم أخو المسلم هو عينه و مرآته و دليله، لا يخونه و لا يخدعه و لا يظلمه و لا يكذبه و لا يغتابه». ( «3»)

و ثانياً: أنّه و إن ورد لفظ المؤمن في عدّة من الروايات مثل ما رواه سليمان ابن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): المؤمن من ائتمنه

______________________________

(1) لاحظ الحدائق الناضرة: 18/ 146- 159؛ و مجمع الفائدة: 8/ 78.

(2) مفتاح الكرامة: 4/ 65.

(3) الوسائل: 8/ 597، الباب 152 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3؛ و بهذا المضمون الحديث 4

و 5 و 13 من هذا الباب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 568

المؤمنون على أنفسهم و أموالهم، و المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه، و المهاجر من هجر السيئات و ترك ما حرم اللّه، و المؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة». ( «1»)

و رواية أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية للّه، و حرمة ماله كحرمة دمه». ( «2»)

لكن المراد بالمؤمن ليس ما يقابل المخالف، بل المراد منه هو المذعن المصدق قلباً و لساناً، في مقابل المتظاهر به لساناً لا قلباً. قال سبحانه في نفس تلك السورة: (قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا ...). ( «3»)

و على ذلك فالإيمان الوارد في أوّل السورة قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ) ( «4»)، عبارة عن ذلك المعنى لا غير، و على هذا فالقول بأنّ المخالف ليس مؤمناً بالمعنى الذي ورد في صدر السورة، و لا أخاً، غير تام.

أضف إلى ذلك أنّه لا شك أنّ الآية: (وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ) يوم نزولها تعم المسلمين جميعاً، و لم يكن الشمول مقيّداً بالاعتقاد بولاية الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، و التقييد يحتاج إلى الدليل.

و عدم قبول أعمالهم يوم القيامة، أَو جواز لعنهم، لا يوجب جواز الوقيعة فيهم بأمر مستور غير ظاهر، و لعل المفسدة التي أوجبت حرمة الغيبة في الموافق موجودة بنفسها في غيبة المخالف.

و بذلك يعرف ضعف ما أفاده صاحب «مفتاح الكرامة» في رد الأردبيلي

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 596 و 599، الباب 152 من أبواب

أحكام العشرة، الحديث: 1 و 12.

(2) الوسائل: 8/ 596 و 599، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1 و 12.

(3) الحجرات: 14.

(4) الحجرات: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 569

بقوله: إنّ المؤمن الوارد في صدر الآية الشريفة، (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) في اصطلاحنا عبارة عن الفرقة الناجية، فكيف غفل عن أوّلها كما غفل عن آخرها حيث قال سبحانه: (أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً)، إذ لا أُخوّة بين المؤمن و الكافر. ( «1»)

إذ البحث في مصطلح القرآن لا في مصطلح الفرقة المحقّة.

ثمّ أفاد: أنّ الأخبار الواردة بلفظ المؤمن أربعة أخبار فيحمل عليها ما ورد بلفظ المسلم.

يلاحظ عليه: أنّه لا تعارض بين المثبتين حتى يحمل أحدهما على الآخر.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ- دام ظله- أبطل أوّلًا: أنْ يكون مصطلح الأئمة (عليهم السلام) غير مصطلح القرآن حتى يكون الإيمان عند اللّه و عند رسوله غير ما عند الأئمة (عليهم السلام).

و ثانياً: بأنّه كان مقوم الإيمان قبل نصب علي (عليه السلام) بالولاية هو الشهادتان، و بعد نصبه (عليه السلام) صارت الولاية و التصديق بها أَحد مقوّماته، فيكون خطاب (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) متوجهاً إلى المؤمنين الواقعيين و إن اختلفت أركانه حسب الأزمان.

يلاحظ عليه: أوّلًا: أنّه لا يبعد أن يكون هناك مصطلحان بملاكين «أحدهما» ما يكون ملاكاً للطهارة و حلّية الذبيحة و صحة التناكح و التناسل و المواريث.

و بعبارة أُخرى: ملاك الوحدة و إمكان التعايش الاجتماعي.

و ثانيهما: ملاك قبول الأعمال و السعادة الأُخروية، و لا بعد فيه، فانّا نرى أنّ لنفس المسلم في نفس القرآن مصطلحين: فتارة يستعمله في التصديق اللساني قائلًا: (وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ( «2»)،

______________________________

(1) مفتاح

الكرامة: 4/ 65.

(2) الحجرات: 14.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 570

و أُخرى يطبقها على التصديق اللساني و القلبي، كما في قوله سبحانه: (هُوَ سَمّٰاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) ( «1»)، و قوله سبحانه: (رُبَمٰا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ). ( «2»)

و الحاصل: أنّه إذا كان هناك حاجة لوضع اصطلاحين فلا إشكال في التغيّر، انّما الإشكال إذا لم تكن هناك حاجة للتعدّد. و لا شك أنّ الأحكام المترتبة على المؤمن في الكتاب و السنّة ناظرة إلى الأحكام التي يكفي فيها الاعتقاد بالأُصول الثلاثة من المبدأ و المعاد و النبوّة، بخلاف ما جاء على لسان الأئمة (عليهم السلام) فانّها ناظرة إلى من يسعد في الآخرة و من يشقى و من تقبل أعماله و من لا تقبل، إلى غير ذلك من الجهات المخصصة معنى المؤمن بمن يعتقد بولاية علي (عليه السلام) و الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من بعده.

و ثانياً: أنّ مقتضى ما ذكره كون الولاية ممّا يجب الإيمان به، و إلا فلا يتحقّق الإيمان، كفاية تحقّق إيمان المخالف بكل ما جاء به النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) على وجه الإجمال و إنْ لم يقف على كون الولاية من جملة ما جاء به، و هذا المقدار من الإيمان يكفي في صدق المؤمن و إن لم يكن كافياً في السعادة الأُخروية.

و ثالثاً: انّ المخالف ممّن تحرم نفسه و ماله فكيف لا يحرم عرضه و هو أهم من المال؟

نعم انّ الكلام في المخالف المحبّ لأهل البيت (عليهم السلام) و إن لم يتّخذهم أئمة منصوبين من جانبه سبحانه، و أمّا النواصب و الخوارج- الذين هم أنجس من الكلب- فخارجون عن حريم البحث، لأنّهم كفّار بحكم الكتاب و السنّة.

نعم،

لا يبعد جواز غيبة المبتدع من المخالفين بما هو مبتدع كأئمة فقههم، و كلامهم، فانّ المبتدع يجوز الوقيعة فيه من باب الأمر بالمعروف

______________________________

(1) الحج: 78.

(2) الحجر: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 571

و النهي عن المنكر، و هذا غير الكلام في جواز غيبة العامي المطلق المحبّ لأهل البيت (عليهم السلام)، إلا أنّه قلّ حظه و قصرت يده عن التمسّك بولاية المعصوم (عليه السلام)، قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم، و القول فيهم و الوقيعة، و باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، و يحذرهم الناس، و لا يتعلّمون من بدعهم، يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات، و يرفع لكم به الدرجات في الآخرة». ( «1»)

دليل المجوّزين:

1. استدلّ الشيخ الأعظم (قدس سره) على الجواز قائلًا: «إنّ ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن، فيجوز اغتياب المخالف كما يجوز لعنه، و توهم عموم الآية- كبعض الروايات- لمطلق المسلم، مدفوع بما علم بضرورة المذهب من عدم احترامهم، و عدم جريان أحكام الإسلام عليهم، إلا قليلًا ممّا تتوقف استقامة نظم معاش المؤمنين عليه، مثل عدم انفعال ما يلاقيهم بالرطوبة، وحل ذبائحهم و مناكحتهم و حرمة دمائهم لحكمة دفع الفتنة و نسائهم، لأنّ لكل قوم نكاحاً، و نحو ذلك، مع أنّ التمثيل المذكور في الآية مختص بمن ثبتت إخوته فلا يعم من وجب التبرّي عنه. ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ ما استظهره من الروايات من اختصاص الحرمة بأهل الولاية لم يتحقّق لنا، بل الظاهر أنّ الغيبة داخلة في القسم الثاني ممّا يتوقف نظم معاش المؤمنين عليه.

و الظاهر أنّه (قدس سره) خلط بين

الإسلام الذي يترتب عليه جميع الأحكام، و بين الإيمان الذي يترتب عليه الثواب و كون الإنسان من أهل السعادة. روى الكليني

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 508، الباب 39 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 1.

(2) المكاسب: 41.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 572

عن قاسم الصيرفي شريك المفضّل قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «الإسلام يُحْقَنُ به الدمُ و تؤدّى به الأمانةُ، و تستحلُّ به الفروج، و الثواب على الإيمان». ( «1»)

و روى أيضاً عن سفيان بن السمط قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الإسلام و الإيمان ... فقال: «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس: شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمداً عبده و رسوله، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و حج البيت، و صيام شهر رمضان فهذا الإسلام، و قال: الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا فإن أقرّ بها و لم يعرف هذا الأمر كان مسلماً و كان ضالًا». ( «2»)

إلى غير ذلك من الروايات الفارقة بين الإسلام و الإيمان، و انّ لكل حكماً، فالأوّل مناط ترتّب الأحكام، و الثاني ملاك ترتّب الثواب.

و يؤيد ذلك ما روي عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) قال: «قال النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها فقد حرّم علي دماؤهم و أموالهم». ( «3») و الاكتفاء بإحدى الشهادتين لتلازمهما.

و الناظر في الروايات التي بثّها الكليني في كتاب الإيمان و الكفر، و البرقي (رحمه الله) في «المحاسن» ( «4»)، و العلامة المجلسي (رحمه الله) في كتاب الإيمان و الكفر ( «5»)

يقف على أنّ الإسلام هو الملاك لترتب جميع الأحكام على المقرِّ به، و أمّا الإيمان بمعنى الولاية فهو شرط للسعادة و ترتّب الثواب.

______________________________

(1) الكافي: 2/ 24، باب انّ الإسلام يحقن به الدم، الحديث: 1.

(2) الكافي: 2/ 24، باب انّ الإسلام يحقن به الدم، الحديث: 4.

(3) البحار: 65/ 242، الحديث: 2.

(4) المحاسن: 1/ 284- 290.

(5) البحار: 65/ 242.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 573

2. استدلّ صاحب «مصباح الفقاهة»- دام ظله- بوجوه:

الأوّل: انّه ثبت في الروايات و الأدعية و الزيارات جواز لعن المخالفين و وجوب البراءة منهم و إكثار السب عليهم و اتّهامهم و الوقيعة فيهم، أي غيبتهم لأجل أنّهم أهل البدع و الريب. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ ما ورد في الروايات أَخص من المدّعى، لأنّ الظاهر أنّ إظهار البراءة و الإكثار من السب و القول فيهم و الوقيعة «و باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام» ( «2»): يختص بأهل البدع منهم، و أين ذلك من المخالف العامي الذي اعتنق الإسلام من والديه و أهل بيته و بيئته مجرّداً عن الولاية، كالمؤمن الذي اعتنق الإيمان و الولاية، كمثله؟!

و أمّا جواز اللعن فلا يدلّ على جواز الغيبة التي هي هتك لعرض المسلم. و أمّا كون منكر الولاية كافراً فمن المعلوم أنّ المراد منه ليس هو «الكفر» بالمعنى المصطلح، و إلا لزم عدم ترتب واحد من الأحكام عليهم، و لم يلتزم به أحد، فلا بد أنْ يفسّر بوجه آخر. و هو كفران النعمة كما هو الحال في تارك الحج في قوله سبحانه: (وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ). ( «3»)

و أمّا اعتقادهم بالعقائد الخرافية كالجبر و نحوه، ففيه مضافاً إلى أنّه لا يعم الجاهل منهم،

إنّه يختص بأهل البدع منهم لا غيرهم.

الثاني: انّ المخالفين متجاهرون بالفسق لبطلان عملهم رأساً كما في الروايات المتضافرة. ( «4»)

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 323.

(2) الوسائل: 11/ 508، الباب 39 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 1.

(3) آل عمران: 97.

(4) انظر الوسائل: 1/ 90، الباب 29 من أبواب مقدّمة العبادات.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 574

يلاحظ عليه: أنّ بطلان عبادتهم لا يلازم كونهم متجاهرين بالفسق مع عدم التفاتهم إلى البطلان و كونهم زاعمين صحتها، و إلا يجب أنْ يكون من صلّى بلا طهارة، أو على خلاف القبلة مع الجهل، فاسقاً، و هو كما ترى، و انّما يكون الرجل متجاهراً بالفسق إذا أَتى بالعمل الفاسد عالماً بفساده.

الثالث: قيام السيرة المستمرة بين عوام الشيعة و علمائهم على غيبة المخالفين، قال في الجواهر: إنّ جواز ذلك من الضروريات.

و الظاهر أنّ هذه السيرة لا يمكن الاحتجاج بها، فهي كسائر السير التي أشار إليها الشيخ الأعظم (قدس سره) في مبحث المعاطاة.

فلم يبق ما يمكن الاستناد إليه في تخصيص الآية و الروايات المطلقة بشي ء يُعتد به، اللّهم إلا أنْ يتمسك بما جمعه صاحب «الحدائق» من الروايات الدالة على أنّه لا عصمة بيننا و بين المخالفين. ( «1») و على كل تقدير فالأحوط الاجتناب.

غيبة الصبي المميّز

لا شك في حرمة غيبة الصبي المميز لكونه مؤمناً و مسلماً و عباداته شرعية، و لا شك أنّه أخوك المؤمن قال سبحانه: (وَ إِنْ تُخٰالِطُوهُمْ فَإِخْوٰانُكُمْ). ( «2»)

نعم: لا بأس بالقول بانصراف الأدلّة عن ذكره بما هو من مقتضيات الصباوة. بحيث لا تعد من العيوب و المساوئ، كاللعب بالجوز و الكعاب و الكرة و نحوها.

و أمّا الصبي غير المميز و المجنون فلا تحرم غيبته لعدم اتّصاف أفعاله بالعيب

و العصيان، كما لا يطلق عليه المسلم و المؤمن.

______________________________

(1) انظر الحدائق الناضرة: 18/ 148- 158.

(2) البقرة: 220.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 575

الأمر الثاني: الكلام في ماهية الغيبة
اشارة

قال في «المقاييس»: الغيب أصل صحيح يدلّ على تستر الشي ء عن العيون ثمّ يقاس. من ذلك، الغيب: ما غاب ... و الغابة: الاجمة، و الجمع غابات و غاب. و سميت لأنّه يغاب فيها. و الغيبة: الوقيعة في الناس من هذا، لأنّها لا تقال إلا في غيبة. ( «1»)

و قال في «القاموس»: غابه: عابه و ذكره بما فيه من السوء كاغتابه، و الغِيبة فِعْلة منه تكون حسنة أو قبيحة.

و هذه العبارة، و إن كانت تعدّ الغيبة أعم من ذكره بسوء أو حسن، لكن المنصرَف هو الأوّل.

و قال في «اللسان»: و اغتاب الرجل صاحبه اغتياباً: إذا وقع فيه و هو أن يتكلّم خلف إنسان مستور بسوء، أو بما يغمّه لو سمعه و إن كان فيه، فإن كان صدقاً، فهو غيبة، و إن كان كذباً، فهو البهت و البهتان. ( «2»)

و في «المصباح»: و اغتابه اغتياباً إذا ذكره بما يكره من العيوب و هو

______________________________

(1) مقاييس اللغة: 4/ 403.

(2) لسان العرب: 1/ 656.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 576

حق، و الاسم الغيبة، فإن كان باطلًا فهو الغيبة في بهت، و الغيب كل ما غاب عنك و جمعه غيوب. ( «1»)

و على هذه النصوص لا تتحقق الغيبة إلا بأُمور:

1. أن يكون المذكور مستوراً، كما هو صريح «مقاييس اللغة» و «لسان العرب».

2. أن يكون عيباً و نقصاً، كما عليه اللسان و القاموس، حيث قال الأوّل: مستور بسوء، و قال الثاني: غابه: عابه و ذكره بما فيه من السوء.

3. أن يكون ممّا يكرهه كما عليه المصباح،

أي يكره ظهوره سواء أ كان وجوده أيضاً مكروهاً كالرجس و الجذام، أم يكون ظهوره فقط مكروهاً، كما في المعاصي.

و على هذه النصوص تكون الغيبة منحصرة بما إذا كشف المتكلّم العيبَ المستور و النقصَ الخفيّ، سواء أ كان وجوده مكروهاً أم لا، و إن كان ظهوره مكروهاً.

هذا هو المتحصّل من كلمات أئمة أهل اللغة.

و أمّا النصوص فإليك بيان أُمّهاتها:

1. روى الشيخ بسنده، عن أبي ذر أنّه قال: قلت: يا رسول اللّه! و ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قلت: يا رسول فإن كان فيه الذي يذكر به؟ قال: «اعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، و إذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه». ( «2»)

______________________________

(1) المصباح المنير: 2/ 128.

(2) الوسائل: 8/ 598، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 577

2. و روى بسنده، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الرحمن بن سيابة، عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: «إنّ من الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره اللّه عليه». ( «1»)

3. و روى العياشي، عن عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «الغيبة أنْ تقول في أخيك ما قد ستره اللّه عليه». ( «2»)

4. و روى البيهقي، عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «أ تدرون ما الغيبة؟» قالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل: أ فرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، و إن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه». ( «3»)

ثمّ إنّ ما جاء في رواية «أبي ذر» ممّا

اتّفق عليه الفريقان و نقله البيهقي في «السنن الكبرى». و هذه الرواية تحتمل أمرين:

1. أن يراد من الموصول النقص الخلقي و العيب الشرعي، و المراد من الكراهة كراهة ظهوره، سواء كره وجوده أم لا، فيتّحد مع ما استظهرناه من كلام أهل اللغة.

2. أن يراد من الموصول نفس الكلام الذي يذكر به الشخص، و كراهة الكلام لأحد وجوه، إمّا لكونه إظهاراً للعيب، أو لكونه صادراً عن مذمّة و استخفاف و استهزاء، و إن لم يكن نفس إظهاره مكروهاً- لكونه ظاهراً كالأبرص- أو لكونه مشعراً بالذم و إن لم يقصد المتكلّم الذم كالألقاب المشعرة به نحو الأعمش و الأعور.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 600، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 14 و 22.

(2) الوسائل: 8/ 600، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 14 و 22.

(3) السنن الكبرى: 10/ 247، كتاب الشهادات.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 578

و قد عبّر الشيخ (قدس سره) عن هذه الأقسام الثلاثة بقوله: و إن كان المقول نقصاً ظاهراً للسامع، فإن لم يقصد القائل الذم و لم يكن الوصف من الأوصاف المشعرة بالذم نظير الألقاب المشعرة به، فالظاهر أنّه خارج عن الغيبة لعدم حصول كراهة للمقول فيه لا من إظهاره و لا من حيث ذم المتكلّم، و لا من حيث الإشعار».

و الروايات صريحة في الاحتمال الأوّل، أَعني: كراهة إظهار نفس النقص، مثل ما رواه العياشي بسنده عن عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «الغيبة أن تقول في أخيك ما قد ستره اللّه عليه». ( «1»)

و ما رواه داود بن سرحان قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الغيبة قال: «هو أن تقول لأخيك في دينه ما

لم يفعل، و تثبت عليه أمراً قد ستره اللّه عليه لم يقم عليه فيه حد». ( «2»)

و ما رواه أَبان عن رجل لا نعلمه إلا يحيى الأزرق قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): «من ذكر رجلًا من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه، و من ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه». ( «3»)

و ما رواه عبد الرحمن بن سيابة قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «الغيبة أنْ تقول في أخيك ما ستره اللّه عليه». ( «4»)

فالظاهر من هذه الروايات كون الغيبة ذكر العيب الذي ستره اللّه بحيث يكره صاحب العيب ظهوره، فاحتمال كون نفس الكلام مكروهاً بعيد عن مساق الروايات.

ثمّ إنّه ربّما لا يكون نفس المقول نقصاً في حقه لكن المقول فيه يعتقده

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 602، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 22.

(2) الوسائل: 8/ 604، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

(3) الوسائل: 8/ 604، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2 و 3.

(4) الوسائل: 8/ 604، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 579

نقصاً، كما إذا نفى الاجتهاد عن شخص مدّع له، فالظاهر عدم كونه غيبة، لأنّه ليس سلب الاجتهاد بعيب.

نعم فيما إذا كان المقول فيه متقلّداً زعامة المسلمين فربّما يكون سلب الاجتهاد عنه إهانة له فيجب الاجتناب عنه، إلا إذا كانت مفسدة زعامة مثله أعظم من مفسدة الإهانة، فيجوز من باب دفع المفسدة العظمى بغيرها.

اشتراط قصد التنقيص

ثمّ إنّ الظاهر انّ مقوّم الغيبة رفع الستر عمّا ستره اللّه من النقص الخلقي، و الخلقي (بضم الخاء) و الديني فلا يشترط فيه

قصد التنقيص، بل يكفي فيه كونه رافعاً للستر، و يدل على ذلك إطلاق ما سبق من الروايات.

و مثلها ما رواه في «عقاب الأعمال» في باب عيادة المريض، عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال في خطبة له: «و من اغتاب أخاه المسلم بطل صومه، و نقض وضوؤه، فإنْ مات و هو كذلك مات و هو مستحل لما حرم اللّه- إلى أن قال-: و من مشى في عون أَخيه و منفعته فله ثواب المجاهدين في سبيل اللّه، و من مشى في عيب أخيه و كشف عورته كانت أَوّل خطوة خطاها وضعها في جهنم، و كشف اللّه عورته على رءوس الخلائق، و من مشى إلى ذي قرابة وذي رحم يسأل به أعطاه اللّه أجر مائة شهيد، فإن سأل به و وصله بماله و نفسه جميعاً كان له بكل خطوة أربعون ألف ألف حسنة، و رفع له أربعون ألف ألف درجة، و كأنّما عبد اللّه عزّ و جل مائة سنة، و من مشى في فساد ما بينهما و قطيعة بينهما غضب اللّه عز و جل عليه و لعنه في الدنيا و الآخرة، و كان عليه من الوزر كعدل قاطع الرحم». ( «1»)

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 602، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 21. و لاحظ الحديث 1 و 2 من هذا الباب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 580

بل الظاهر من قوله في رواية زيد، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) فيما جاء في الحديث: «عورة المؤمن على المؤمن حرام، قال: ما هو ان ينكشف فترى منه شيئاً، انّما هو أن تروي عليه أو تعيبه» ( «1») انّ مجرّد الرواية، و إن لم

يكن هناك قصد التنقيص، غيبة، مضافاً إلى أنّ قصد السبب الملازم عند العرف للمسبب لا ينفك عن قصده، و يشهد على ما ذكرناه- من عدم اشتراط قصد التنقيص- ما رواه عبد الرحمن بن سيابة قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «الغيبة أن تقول في أَخيك ما ستره اللّه عليه، و أمّا الأمر الظاهر مثل الحدة و العجلة فلا، و البهتان أن تقول فيه ما ليس فيه». ( «2»)

هذا كلّه في ماهية الغيبة، و قد عرفت أنّ إظهار المستور بكلا شقّيه حرام.

نعم، يظهر من «كشف الريبة» اشتراط قصد التنقيص و الذم حيث قال: الغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره نسبته إليه بما يعد نقصاً في العرف بقصد الانتقاص و الذم، و يظهر ذلك من «صاحب جامع المقاصد» أيضاً حيث قال: إنّ ضابط الغيبة المحرّمة كل فعل يقصد به هتك عرض المؤمن أو التفكّه به أو إضحاك الناس به. ( «3»)

و حمل الشيخ الأعظم (قدس سره) كلام الشهيد على ما وقع على وجهين، دون ما يقع إلا على وجه واحد فإنّ قصد ما لا ينفك عن الانتقاص، قصد له.

العيوب الواضحة

إنّ ذكر الإنسان بالعيوب الواضحة يقع على وجوه:

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 609، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 8/ 604، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2.

(3) المكاسب: 1/ 342.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 581

1. أن يذكر الإنسان به لا بقصد الذم، و لم يكن من الألقاب المشعرة به، فليس غيبة لوضوحه، و لا حراماً لعدم قصد الذم، و لا هو مشعر بذلك.

2. إذا قصد المتكلّم التعيير و المذمة، و هو ليس بغيبة، لكنّه حرام للإيذاء و الإهانة، و كونه

من أقسام التنابز بالألقاب.

3. إذا لم يقصد المتكلّم التعيير، و لكنّه مشعر بالذم عند العرف، فهو حرام لكونه إِهانة و إيذاء، و قد مضى من الشيخ الأعظم (قدس سره) أنّ قصد السبب لا ينفك عن قصد المسبب.

ثمّ إنّه جاء في الروايات وصف الرواة ببعض الألقاب المشعرة بالذم كالأعرج و الأعمش فلا بدّ أنْ يحمل على القسم الأوّل و إلا فلا وجه لوصفهم بها.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 582

الأمر الثالث دواعي الغيبة
اشارة

الأسباب الداعية إلى الغيبة كثيرة، و قد وردت في رواية منسوبة إلى الإمام الصادق (عليه السلام) رواها المحدّث النوري في مستدركه عن «مصباح الشريعة»: «أصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع: شفاء غيظ، و مساعدة قوم، و تهمة، و تصديق خبر بلا كشفه، و سوء ظن، و حسد، و سخرية، و تعجّب، و تبرم، و تزين؛ فإنْ أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق، فيصير لك مكان الغيبة عبرة، و مكان الإثم ثواباً». ( «1»)

و المراد من «التعجب» هو إضحاك الغير و من «التبرّم» هو الاغتمام من «برم» بمعنى ضجر، و من الثالث- أعني «التزيّن»- هو إظهار البراءة من العيب الذي ينسبه إلى غيره.

ثمّ إنّ الدواعي إلى الغيبة و إن كانت كثيرة إلا أنّ أهمها «الحسد» و الغيظ للشخص، لأجل ارتقائه إلى الكمال المادي و المعنوي، فيقصد بالغيبة إسقاطه من أعين الناس، و هو العامل المساعد على أغلب الموارد، و أمّا العوامل الأُخرى- كقصد الترفّع بتنقيص الغير- فهي بالنسبة إلى الأوّل قليلة، و ربّما يبتلى الإنسان بالغيبة بصورة إظهار الاغتمام للغير فيذكر ما ستره اللّه عليه، أعاذنا اللّه و إيّاكم من دواعي الغيبة و أسبابها.

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 117، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 19.

المواهب في تحرير

أحكام المكاسب، ص: 583

اشتراط وجود المخاطب و تعيين المغتاب

فلو ذكره بلا مخاطب فلا غيبة أبداً، فانّه أولى بالجواز من صورة وجود مخاطب عالم بالحال. بل في الأخبار إشارة إلى وجود المخاطب في مقام الذكر.

كما أنّه لا شك في اشتراط ذكر المغتاب على وجه ترتفع عنه الجهالة و الإيهام، فلو ذكر رجلًا بسوء على وجه مردّد سواء أ كان بين أطراف محصورة أم غير محصورة فلا يعد غيبة، لما عرفت أنّ الغيبة كشف العيب المستور و مع التردّد فالسترباق بحاله.

نعم: إذا ذكر أحد الاثنين بسوء من غير تعيين فقد احتمل الشيخ (قدس سره) فيه وجوهاً من أنّه غيبة لكليهما لذكرهما بما يكرهانه من التعريض، و عدمها لعدم هتك ستر المعيب منهما، أو كونه اغتياباً للمعيب الواقعي، و إساءة بالنسبة إلى غيره.

و الظاهر هو الثاني، فانّه لم يغتب واحداً معيناً، و إنّما اغتاب واحداً مردّداً و هو خارج عن منصرف الأدلّة.

نعم تعريضهما لاحتمال السوء حرام، لأجل هذا العنوان لا لأجل الغيبة.

و منه يظهر غيبة الفرد المردّد بين أفراد غير محصورة، فإنّه ليس بغيبة موضوعاً، و لا حرام بحكم التعريض، لأنّ التعريض انّما يحرم إذا صار الفرد معرضاً لاحتمال السوء، و هو منتف في ما إذا كانت الأطراف منتشرة، مثل القول بوجود سارق في المدينة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 584

الأمر الرابع: كفّارة الغيبة
اشارة

إنّ الغيبة من المعاصي الموبقة فلا تغفر إلا بالاستغفار، و لأجل ذلك لا شك أنّه يجب على المغتاب الاستغفار. قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّٰهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ مٰا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ). ( «1»)

و قال سبحانه: (وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّٰهَ يَجِدِ اللّٰهَ

غَفُوراً رَحِيماً). ( «2»)

فلا شك في وجوب ذلك. انّما الكلام في وجوب أَمرين آخرين: أحدهما الاستحلال من المغتاب، و الآخر الاستغفار له أَيضاً.

1. وجوب الاستحلال و عدمه

فقد اختلفت كلماتهم في وجوب الاستحلال مطلقاً، أَو يفصّل بين وصول الغيبة إلى المغتاب و عدمه، فيجب في الأوّل دون الثاني، لعدم إمكانه لموت أو بعد مكان؛ و بين كون الاستحلال موجباً لإثارة الفتنة و عدمه، فيجب في الثاني

______________________________

(1) آل عمران: 135.

(2) النساء: 110، و قد تضافرت الروايات على وجوب الاستغفار على المذنب. انظر الوسائل: 11/ 351، الباب 85 من أبواب جهاد النفس.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 585

دون الأوّل، إلى غير ذلك من التفصيلات.

إذا عرفت ذلك فانّ الكلام يقع في وجوب الاستحلال و عدمه في مقامين:

الأوّل: ما هو مقتضى القاعدة الأوّلية؟

الثاني: ما هو مقتضى الاحتياط؟

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 585

أمّا الأوّل: فانّ المقام من قبيل الشك في المحصِّل حيث إنّه أُمر بتكفير الذنوب، و هو أَمر بسيط يشك في حصوله بالتوبة لنفسه أو يتوقف على الإتيان بكل ما يحتمل تدخّله فيه، و منه الاستحلال.

يلاحظ عليه: أنّه لم يثبت وجوب التكفير في جميع المعاصي، و انّما الواجب في مطلق الذنوب هو الاستغفار كما عرفت من بعض الآيات الواردة في هذا المضمار.

نعم: ثبت التكفير في موارد كالصوم و النذر و العهد و اليمين و غيرها.

و أمّا الثاني: فذكر المحقّق الإيرواني و قال: إنّ استحقاق العقاب أَمرٌ محقّق يشك في سقوطه بالتوبة، فيجب القيام بكل ما يحتمل تدخله في السقوط، و الشك في وجوب الاستحلال و إنْ كان

شكّاً في التكليف لكن استحقاق العقاب لمّا كان أمراً قطعياً يحب الخروج عنه و لو بالإتيان بكل أَمر محتمل.

و أورد عليه المحقّق الخوئي- دام ظله-: بأنّه لم يثبت هنا للمقول فيه حق حتى يستصحب بقاؤه فيجب الخروج عن عهدته، فإنّ من حق المؤمن على المؤمن أن لا يغتابه، و إذا اغتابه لم يحفظ حقّه، فلم يبق موضوع للاستصحاب، و لم يثبت بذلك حق آخر للمغتاب حتى يُستصحب. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الإشكال يتوجّه إلى ما استدلّ به الشيخ

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 321.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 586

الأعظم (قدس سره) على الاحتياط و الاشتغال حيث قال (قدس سره): إنّ أصالة بقاء الحق ثابتة للمغتاب (المذكور بالسوء) على المغتاب (الذاكر له) و تقتضي عدم الخروج منه إلا بالاستحلال خاصّة.

فيتوجه إليه ما ذكره- دام ظله- من أنّه ليس هنا للمقول فيه حق حتى يستصحب، و أمّا ما ذكره المحقّق الإيرواني فناظر إلى أَمر آخر غير ما ذكره الشيخ الأعظم، و هو لزوم الخروج عن العقاب الأُخروي قطعياً كان أمْ محتملًا، فإنّ الضرر الأُخروي منجّز حتى محتمله، فإذا استغفر لنفسه يشك في سقوط العقاب و رفعه فيلزمه العقل بالإتيان بكلِّ ما يحتمل تدخله في سقوطه فيجب بلا إشكال.

هذا كلّه في مقتضى القاعدة الأوّلية، و أمّا مقتضى الأَدلة الشرعية، فذهب الشيخ الأعظم إلى وجوبه، قائلًا بأنّها من حقوق الناس و لا تسقط إلا بإسقاط صاحبها.

أمّا الصغرى: فلأنّه ظلم على المغتاب، و للأخبار في أنّ من حق المؤمن على المؤمن أنْ لا يغتابه. ( «1»)

______________________________

(1) راجع الوسائل: 8/ 596، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 587

و أمّا الكبرى: فللأخبار

المستفيضة المعتضدة بالأصل. و المراد ما استفاض مضمونه بطرق مختلفة و- مع ذلك- فهي غير نافعة، و إليك البيان:

1. ما عن اسباط بن محمد، رفعه إلى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «الغيبة أشدّ من الزنا» فقيل: يا رسول اللّه و لم ذلك؟ قال: «أمّا صاحب الزنا فيتوب فيتوب اللّه عليه، و أمّا صاحب الغيبة فيتوب فلا يتوب اللّه عليه حتى يكون صاحبه الذي يحلّه». ( «1»)

2. رواية أَبي ذر عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في وصيّته له قال: «يا أبا ذر إيّاك و الغيبة، فانّ الغيبة أشدُّ من الزنا» قلت: و لم ذاك يا رسول اللّه؟ قال: «لأنّ الرجل يزني فيتوب إلى اللّه فيتوب اللّه عليه، و الغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها، يا أبا ذر سباب المسلم فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه من معاصي اللّه، و حرمة ماله كحرمة دمه»، قلت: يا رسول اللّه و ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قلت يا رسول اللّه فإن كان فيه الذي يذكر به؟ قال: «اعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، و إذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته». ( «2»)

3. ما رواه الكراجكي في «كنز الفوائد» ... ثمّ قال (عليه السلام): «سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: إنّ أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له و عليه». ( «3»)

4. النبوي كما رواه في «إحياء العلوم»: «من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه قبل أنْ يأتي يوم ليس هناك دينار و لا درهم، انّما يؤخذ من حسناته، فإنْ لم

يكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته». ( «4»)

5. و ما رواه صاحب «المستدرك» عن جابر و أَبي سعيد قالا: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «إيّاكم و الغيبة فإنّ الغيبة أشدُّ من الزنا، إنّ الرجل يزني فيتوب فيتوب اللّه عليه، و إنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه». ( «5»)

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 601، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 18.

(2) الوسائل: 8/ 598، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 9. هذا هو النبوي الأوّل، و رواه الشيخ المفيد في الاختصاص كما في المستدرك: ج 9.

(3) الوسائل: 8/ 550، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 24 و هو النبوي الثاني.

(4) إحياء العلوم: 3/ 153، كتاب الغيبة.

(5) المستدرك: 9/ 118، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 21.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 588

6. و ما رواه في «جامع الأخبار»، قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل اللّه تعالى صلاته و لا صيامه أربعين يوماً و ليلة إلا أنْ يغفر له صاحبه». ( «1»)

7. و ما روى عن عائشة أنّها قالت لامرأة قالت لأُخرى: إنّها طويلة الذليل: «قد اغتبتها فاستحلّيها». ( «2»)

و لكنّ الروايات ضعيفة الاسناد أوّلًا، و يشتمل بعضها على حقوق غير إلزامية كرواية الكراجكي ثانياً، و لا تنطبق الغيبة على مضمون بعضها كرواية عائشة ثالثاً.

و لكن يمكن الذب عن هذه الإشكالات باستفاضة المضمون فلا وجه لرفع اليد عنها، و اشتمال بعضها على حقوق غير إلزامية أَو عدم انطباق الغيبة على بعضها لا يضر بأصل الدليل.

أضف إلى ذلك أنّ الاستحلال مقتضى

طبيعة الموضوع، إذا لا شك أنّه قد أضاع حقه و تعدّى عليه، و هتك عرضه، فلا يغتفر إلا أنْ يغفر صاحبه، إلا أن يدل دليل على أنّ الاستغفار وحده كاف في المقام.

و على ذلك فيقوى الاستحلال في النفس، غير أنّ منصرف الروايات إلى إمكان الوصول إليه لاما إذا كان ممتنعاً كالموت، أو موجباً للحرج كما إذا كان بعيداً لا يوصل إليه، أو إذا كان الاستحلال مثيراً للفتنة.

و على فرض إطلاقها يجب الخروج عن هذا الحق بنحو من الأنحاء، و إلا فتبقى في ذمته كسائر الحقوق.

هذا كلّه حول الاستحلال، و أمّا الاستغفار له فقد استدلّ له بروايات:

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 122، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 34.

(2) إحياء العلوم: 3/ 154، كتاب الغيبة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 589

1

[2]. طلب المغفرة للمغتاب و عدمه

1. ما رواه النوفلي عن السكوني، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه: من ظلم أحداً وفاته فليستغفر اللّه له فانّه كفارة له». ( «1»)

و المناقشة في سنده كما في «مصباح الفقاهة»، غير تام لعمل الأصحاب بروايات النوفلي و السكوني اذا لم تكن معارضة بالأصح منها، نعم لا تدلّ على وجوب الاستغفار له مطلقاً بل مختص بالفوت.

2. و ما رواه حفص بن عمير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سئل النبي ما كفارة الاغتياب؟ قال: تستغفر اللّه لمن اغتبته كلّما ذكرته». ( «2»)

و رواه في «الوسائل» كما في «الكافي» بما عرفت، و علّق عليه المعلّق في الكافي بقوله: و في بعض النسخ «كما ذكرته» و رواه المجلسي في «مرآة العقول» بصورة «كما ذكرته» و لو صح ما في مرآة العقول فالمراد هو تطابق عدد الاستغفار مع عدد الغيبة.

3. و ما

رواه في «الجعفريات» عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «من ظلم أحداً فعابه، فليستغفر اللّه له كما ذكره فانّه كفّارة له». ( «3»)

و هذه الروايات بين ما يدلّ على طلب المغفرة مطلقاً كما في رواية حفص بن عمر و المروي عن «الجعفريات»، و بين ما يدلّ على وجوبه عند الفوت كما في رواية السكوني، و الظاهر أنّ هذه الروايات و إن وردت بصورة طلب المغفرة للمغتاب، لكنّه راجع لبّاً إلى الاستحلال، فانّه إذا أمكن الاستحلال فهو، و لما

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 343، الباب 78 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 5.

(2) الوسائل: 8/ 605، الباب 155 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1. و في الكافي: 2/ 356 عن حفص بن عمر.

(3) المستدرك: 9/ 130، الباب 135، من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 590

امتنع الاستحلال انحصر طريق الاستحلال في الاستغفار له نظراً إلى أنّ طلب المغفرة له يجلب رضاه منه، و على ذلك لو تمكّن من الاستحلال لما وجب طلب المغفرة أبداً.

بقي هنا شي ء و هو انّ الظاهر من رواية حفص بن عمر هو لزوم الاستغفار مطلقاً، سواء استحلّ منه أم لا، و سواء أ كان المغتاب موجوداً أم لا، كما أنّ الظاهر ممّا رواه عن مصباح الشريعة ( «1») هو التفصيل بين البلوغ و اللحوق بالاستحلال، و عدمه بالاستغفار.

و الأُولى ضعيفة لأجل حفص بن عمر ( «2»)، و الثانية لا يصح الاحتجاج بها. و بذلك تقف على ضعف الأقوال المذكورة هنا. و الأقوال و الوجوه المحتملة أربعة:

1. الجمع بين الاستحلال و الاستغفار.

2. التخيير بينهما.

3. الفرق بين وصول الغيبة إلى المغتاب فيستحل، و عدمه فيستغفر.

4. الفرق بين

الإمكان فالاستحلال، و عدمه فالاستغفار له.

أمّا الأوّل: فقد عرفت أنّ الدليل على وجوب الاستحلال قائم على وجه التعيّن، و لا دليل على وجوب طلب المغفرة أيضاً إلا إذا انحصر طريق الاستحلال به.

و بذلك يتبيّن ضعف الثاني أي التخيير بينهما.

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 117، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 19.

(2) حفص بن عمر الكوفي، عدّه الشيخ (رحمه الله) في رجاله من أصحاب الصادق (عليه السلام) و ظاهره كونه إمامياً إلّا أنّ حاله مجهول. تنقيح المقال: 1/ 354.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 591

كما أنّ الفرق بين وصولها و عدمه مستند إلى «مصباح الشريعة» حيث قال: «إنْ اغتبت فبلغ المغتاب فاستحل منه، فإنْ لم تبلغه و لم تلحقه فاستغفر اللّه له». ( «1») و لا يمكن الاحتجاج برواية الكتاب.

و أمّا الرابع: فهو أَقرب الى الصحة لكن بالمعنى الذي عرفت من جعل طلب المغفرة طريقاً إلى طلب الحلّية.

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 117، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 19، و هو الذي نقله الشيخ الأعظم (رحمه الله) عن بعض من قارب عصره و لم نقف على مصدره.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 592

الأمر الخامس: مستثنيات الغيبة
اشارة

قال المحقّق الثاني في «جامع المقاصد»: إنّ ضابط الغيبة المحرّمة كل فعل يقصد به هتك عرض المؤمن أو التفكّه به أو إضحاك الناس منه، و أمّا ما كان لغرض صحيح فلا يحرم، كنصح المستشير و التظلّم و سماعه و جرح الشاهد و الراوي و تعديلهما، و ردّ من ادّعى نسباً ليس له و القدح في مقالة باطلة.

قال الشهيد الثاني في «كشف الريبة»: اعلم أنّ المرخِّص في ذكر مساوي الغير غرض صحيح لا يمكن التوصّل إليه إلا بها.

قال الشيخ الأعظم (قدس سره) بعد

ذكر كلامهما: و على هذا فموارد الاستثناء لا تنحصر في عدد. ( «1»)

و أورد عليهما سيدنا الأُستاذ- دام ظله-: انّه إنْ أرادا بما ذكرا من الضابط قصور إطلاق أدلّة الغيبة عن شمول مورد يكون للمغتاب غرض صحيح أو انصرافها عنه، ففيه منع، لعدم القصور في الآية الكريمة، بل سائر الآيات و كثير من الروايات.

و إن أرادا انّ مصلحة احترام المؤمن أو مفسدة حرمة الغيبة لا تزاحم سائر المصالح مطلقاً لكون مصلحة حرمة المؤمن و مفسدة الغيبة ضعيفة لا تقاوم سائر

______________________________

(1) المكاسب: 44.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 593

المصالح المزاحمة، ففيه منع كلّية ذلك، فانّ الموارد مختلفة.

و إن أرادا أنَّ الدليل قائم على استثناء مطلق الموارد التي يكون للمغتاب فيها غرض صحيح، فالظاهر فقدان ذلك بهذا العام.

و الظاهر أنّ مرادهما أَمر رابع، و هو توجيه الموارد التي ورد النص فيها على جواز الغيبة، أو نصَّ العلماء على جوازها، حتى لا يتوهم بأنّ الاستثناء اعتباطي بلا ملاك، و ارتجالي بلا جهة. و ليسا بصدد بيان انّه كل ما كان هناك غرض صحيح تجوز الغيبة، حتى يرد عليهما أنّ الموارد مختلفة، و أنّ الميزان أَقوى الملاكين.

و ما ذكرناه هو الذي فهمه الشيخ و ذكر كلامهما استشهاداً للمقال حيث قال: فإذا فرض انّ هناك مصلحة أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه، وجب كون الحكم على طبق أقوى المصلحتين.

ثمّ إنَّ الصور التي تُستثنى من حرمة الغيبة تبلغ إلى اثني عشر مورداً ذكره صاحب مفتاح الكرامة و تبعه الشيخ الأعظم (قدس سره)، غير أنّ هذه الصور ليست على نسق واحد، بل تدور بين أحد أُمور:

1. ما يكون خارجاً عن موضوع الغيبة تخصصاً كالفاسق المتجاهر، أو ذكر

الشخص بالصفات الواضحة كالأعمش و الأعرج.

2. ما يكون خارجاً عنها تخصيصاً، كالوقيعة في المبدع الظالم.

3. ما يكون النسبة فيه بين الدليلين عموماً و خصوصاً من وجه، و يقدّم أحد الدليلين على الآخر لأجل أَقوائية الملاك.

فنحن نذكر هذه الموارد تبعاً للشيخ الأعظم (قدس سره)، و نشير في أثناء البحث لكيفية الخروج:

الأوّل: إذا كان المغتاب متجاهراً بالفسق
اشارة

، فإنّ من لا يبالي بظهور فسقه بين

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 594

الناس لا يكره فسقه بالذكر. و يقع الكلام فيه في موارد:

1. في جواز الغيبة.

2. هل يشترط في جوازها وجود الغرض الصحيح أو لا؟

3. اختصاص الجواز بالذنب الذي يتظاهر به و عدمه.

4. هل يجوز غيبة المتجاهر بالذنب لأجل شبهة حكمية أو موضوعية؟

5. هل التجاهر في بعض الأمكنة و الأزمنة يكفي في جواز الغيبة مطلقاً أم لا؟ و هذه جهات خمس يجب تنقيحها:

أمّا الأوّل: فقد حكى صاحب مفتاح الكرامة عن الشهيد أنّه قال: و منع بعض الناس من ذكر الفاسق و أوجب التعزير بقذفه بذلك ( «1»)، و هو في غاية السقوط، و القول لبعض المخالفين، و المعروف بين الأصحاب هو الجواز لوجهين:

1. انّ ذكر الفاسق المعلن خارج عن الغيبة موضوعاً، لما عرفت من أنّ الغيبة أنْ تقول في أخيك ما ستره اللّه عليه. ( «2»)

2. ما ورد من الروايات في هذا المورد و إن كانت ضعيفة الاسناد لكن يشد بعضها بعضاً.

منها: رواية هارون بن الجهم، عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة». ( «3»)

و منها: رواية أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام): قال: «ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع، و الإمام الجائر، و الفاسق المعلن

بالفسق». ( «4»)

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 66.

(2) الوسائل: 8/ 600، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 14.

(3) الوسائل: 8/ 605، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4 و 5.

(4) الوسائل: 8/ 605، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4 و 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 595

و منها: الرضوي المعروف: «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له». ( «1»)

و ليس المراد إلقاء الحجاب بينه و بين ربّه و إلا يلزم جواز غيبة كل مذنب، بل المراد هو إلقاؤه بينه و بين الناس، فيتّحد مضمون الرضوي مع رواية هارون بن الجهم.

و منها: ما رواه السيد فضل اللّه الراوندي باسناده، عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «أربعة ليس غيبتهم غيبة: الفاسق المعلن بفسقه، و الإمام الكذّاب إنْ أحسنت لم يشكر و إنْ أسأت لم يغفر، و المتفكّهون بالأُمّهات، و الخارج من الجماعة الطاعن على أُمّتي الشاهر عليها بسيفه». ( «2»)

و منها: ما رواه الراوندي، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «لا غيبة لثلاث: سلطان جائر، و فاسق معلن، و صاحب بدعة». ( «3»)

و هذه الروايات صريحة في المقصود و إنْ كانت ضعيفة الاسناد، و هناك روايات يمكن الاستئناس بها على المطلوب:

1. موثّقة سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال: «من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم، كان ممّن حرمت غيبته، و كملت مروّته، و ظهر عدله، و وجبت أُخوّته». ( «4»)

و دلالتها على المورد متوقّف على شيئين:

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 129، الباب 134 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3.

(2) المستدرك: 9/ 128، الباب 134

من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2.

(3) المستدرك: 9/ 128، الباب 134 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

(4) الوسائل: 8/ 597، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2.

أقول: و رواه صاحب الوسائل (قدس سره) في الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث: 15 عن خصال الصدوق مع اختلاف يسير في المتن.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 596

أ. أن يكون المراد من الشروط المذكورة- أعني: «من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم»- هو الإيجاب الكلّي بأن يكون الشخص واجداً كلّها، لا بعضها، و يتحقّق مفهومه بانتفاء جميع هذه الشروط لا بانتفاء بعضها، و عندئذ ينطبق على من لم يبال في دينه و جاهر بالفسق.

ب. أن يكون كل واحد من الفقرات الأربع جزاء مستقلًا. ( «1») ليدلّ على أنّه إذا انتفت الشروط الثلاثة جميعاً تنتفي جميع الأُمور المذكورة في ناحية الجزاء لا أنّه ينتفي بعضها مع بقاء البعض الآخر، كانتفاء كمال المروة مع بقاء البعض الآخر كحرمة الغيبة بحاله.

و بعبارة أُخرى: الاستدلال بمفهوم الحديث على جواز غيبة المتجاهر يتوقف على ثبوت أمرين معاً: ( «2»)

الأوّل: انّ المتفاهم من القضية الشرطية هو الإيجاب الكلّي و انتفاؤه بانتفاء جميعها على نحو العام الاستغراقي حتى ينطبق على المتجاهر بالفسق، و إلا فلا ينطبق عليه.

و لكنه غير ظاهر، لأنّ المفهوم يُعد نقيضاً للمنطوق، فإذا كان المنطوق موجبة كلّية، فنقيضه تكون سالبة جزئية لا سالبة كلّية. و قد اشتهر بين المنطقيين انّ نقيض الموجبة الكلية، هو السالبة الجزئيّة.

و توهم انّ لازم كون المفهوم سالبة جزئية و الاكتفاء بانتفاء واحد مذكور في جانب الشرط، يستلزم جواز غيبة مطلق من ترك واحداً منها، و هو يلازم

جواز

______________________________

(1) لا أن يكون الجزاء مجموع الأُمور حتى يكفي انتفاء واحد منها مثل كمال المروة و غيره- مع ثبوت الباقي- في صدق انتفاء الجزاء.

(2) أحدهما راجع إلى جانب الشرط و الآخر إلى جانب الجزاء.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 597

غيبة مطلق الفاسق و لو كان غير متجاهر، مدفوع بأنّ لازمه خلو القضية من المفهوم، لا جعل مفهومه سالبة كلّية، أي انتفاء مجموعها.

الثاني: ان يكون كل واحد من الفقرات الأربع جزاءً بحيث يستلزم انتفاء الأُمور الثلاثة بأجمعها انتفاء كل واحد من الفقرات الأَربع مستقلًا، و هو بعد غير ثابت، فكما أنّه يكفي في انتفائه انتفاء واحد من الشروط يكفي في انتفاء الجزاء المتعدّد، انتفاء واحد منها، و حينئذ يحتمل أنْ يكون المنفي هو كمال المروة، لا حرمة الغيبة.

أضف إلى أنّ انطباق الشروط الثلاثة على المتجاهر بالفسق مورد تأمل، لأنّ بعض من يرتكب هذه الأُمور، أَي يعامل الناس و يظلمهم، و يحدّثهم فيكذبهم، و يعدهم و يخلفهم ربّما لا يكون متجاهراً بالفسق.

و ربّما يورد على هذه الرواية- و ما يأتي من الروايتين- بأنّ ظاهرها اعتبار العدالة في حرمة الغيبة و لم يلتزم بها أَحد، و سيوافيك الجواب عن هذا الإشكال بعد الفراغ من الروايات.

2. صحيحة ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: «أنْ يعرفوه بالستر و العفاف و كف البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار إلى أن قال: و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه

و تفتيش ما وراء ذلك و يجب عليهم تزكيته». ( «1»)

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 288، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث: 1. و ما نقلناه موافق للوسائل و الفقيه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 598

و نقله «الوافي» بنحو آخر و هو الموافق لما نقله الشيخ الأعظم (قدس سره) حيث قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): بمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين،- إلى أن قال:- حتّى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه ...». ( «1»)

و النقل الثاني أفصح من الأوّل، و على كل تقدير: فلو صح ما في «الوسائل» يكون المراد: انّ من يكون ساتراً لجميع عيوبه يحرم على المسلمين عند ذلك أَمران:

1. عثراته و عيوبه و المراد منه إظهارهما و ذكرهما.

2. تفتيش ما وراء ذلك و هو حرام آخر، و على ذلك تدلّ على جوازهما في حق غير الساتر. و أمّا على ما في «الوافي» و «المكاسب» فهو أَجنبي عن البحث، بل يدلّ على حرمة أمر واحد، و هو التفتيش، لا الغيبة.

اللهم إلا أن يقال: إنّه اذا جاز التفتيش في مورد غير الساتر، جاز النقل، لأنّ التجسّس مقدّمة للنقل، و لأَجل ذلك قُدِّم التجسّس على الغيبة في قوله تعالى: (وَ لٰا تَجَسَّسُوا وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً). ( «2»)

و ما عن «مصباح الفقاهة» من أنّ التفتيش غير الغيبة، و إن كان صحيحاً، لكن جواز أحدهما يُلازم لجواز الآخر عرفاً.

و بذلك يظهر عدم تمامية ما أفاده سيدنا الأُستاذ- دام ظله- من عدم ارتباط الحديث على النقل الثاني بالمراد، و قد عرفت كيفية الارتباط و الدلالة، و الظاهر أنّ الحديث يدل على الجواز على كلا النقلين، غير أنّ الدلالة في أحدهما

بالدلالة المطابقية و في الآخر بغيرها.

ثمّ إنّ المراد من قوله: «ان يكون ساتراً لعيوبه» أنْ يكون ساتراً عن جميع

______________________________

(1) الوافي: 9/ 149 الباب 136 من أبواب عدالة الشاهد.

(2) الحجرات: 12.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 599

الناس. و على ذلك فيكون مفهومه ان لا يكون كذلك، و هو أعم من المتجاهر، لأنّ المفهوم ينطبق على غير الساتر عن جميع الناس و غير الساتر عن بعض الناس، فلأجل ذلك لا يتم الاستدلال بمفهوم هذا الحديث، لكون الدليل أعم من المدّعى، و المستدل لا يسلم المدّعى بعمومه.

و قد أورد على هذا الحديث بأنّ ظاهره اعتبار العدالة في حرمة الغيبة و لم يلتزم بها أحد، و سيوافيك الجواب عنه.

3. رواية علقمة ( «1») قال الصادق (عليه السلام) و قد قلت له: يا ابن رسول اللّه أخبرني عمّن تقبل شهادته و من لا تقبل؟ فقال: «يا علقمة كل من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته» قال: فقلت له: تقبل شهادة مقترف الذنوب؟ فقال: «يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء و الأوصياء (عليهم السلام)، لأنّهم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، أَو لم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من أَهل العدالة و الستر، و شهادته مقبولة و إنْ كان في نفسه مذنباً، و من اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية اللّه، داخل في ولاية الشيطان». ( «2»)

قال الشيخ الأعظم (قدس سره) بعد نقل الرواية: دل الخبر على ترتب حرمة الاغتياب، و قبول الشهادة على كونه من أَهل الستر، و كونه من أَهل العدالة على طريق اللف و النشر، أو على اشتراط الكل بكون الرجل غير مرئي منه

المعصية، و لا مشهوداً عليه بها، و مقتضى المفهوم جواز الاغتياب مع عدم الشرط، خرج

______________________________

(1) و في السند صالح بن عقبة، لاحظ رسالتنا حول سند زيارة عاشوراء، المطبوعة ضمن رسائل و مقالات: 3/ 399.

(2) الوسائل: 18/ 292، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث: 13.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 600

غير المتجاهر ...

يريد أنّ هنا شرطاً، و هو قوله (عليه السلام): «فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان» و انّ هناك جزاء مركباً من شيئين، و هو قوله (عليه السلام): «فهو من أهل العدالة و الستر».

ثمّ رتب على الجزء الأوّل من الجزاء- أَعني: كونه من أَهل العدالة- قوله (عليه السلام): «و شهادته مقبولة و إنْ كان في نفسه مذنباً».

كما رتّب على الجزء الثاني من الجزاء- أَعني: «و الستر»- قوله (عليه السلام): «و من اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية اللّه داخل في ولاية الشيطان»، و اللف و النشر مرتب.

ثمّ إنّ كلًا من جزأي الجزاء- أَعني: العدالة و الستر و ما رتب عليهما، أَي قبول الشهادة و حرمة الاغتياب- مشروطة بأمرين: كون الإنسان غير مرئي منه المعصية، و لا مشهوداً عليه بها.

و الحاصل أنّ هنا أُموراً ستة:

اثنان منها شرط، و اثنان منها جزاء، و اثنان منها رتّبا على الجزءين من الجزاء، فالخامس و السادس رتّبا على الثالث و الرابع، و في الوقت نفسه فالكل مقيّد بالأوّلين، فينتج أنّ حرمة الغيبة مقيّدة بشرطين: كون الرجل غير مرئية منه المعصية، و لا مشهوداً عليه بها.

و على ذلك فقوله (عليه السلام): «و من اغتابه بما فيه» جملة معطوفة على الجزاء، فكأنّه قال: فهو من أَهل العدالة و الستر ... و من اغتابه بما فيه، خارج من

ولاية اللّه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 601

و على ذلك فمقتضى قوله (عليه السلام): «فمن لم تره بعينك ...» انّه إنْ رُئيت منه المعصية أو شهد عليه شاهدان تجوز غيبته، سواء أ كان متجاهراً أم لا، فخرج منه الثاني بالدليل و بقي الباقي، أَعني: المتجاهر، هذا توضيح كلامه (قدس سره).

نقول: يمكن أنْ يقال: انّ المراد من الشرط ليس هو الرؤية الشخصية حتى يعم المتجاهر و غيره، بل المراد منه العنوان الكلّي، و هو صدور المعصية بمرأى و مسمع منهم، و حيث يرى الناس و يرونه، و على ذلك فلا يشمل إلا المتجاهر.

و أورد عليه سيدنا الأُستاذ- دام ظله-: بأنّه لو صح كلامه يكون المنطوق أنّ كون الرجل من أهل الستر يستلزم أنْ تكون غيبته موجبة لخروج المغتاب من ولاية اللّه، و على ذلك يكون مفهومه انّ غيبة غير أَهل الستر لا تستلزم الخروج عن ولاية اللّه، و هو غير القول بالجواز، لأنّ المعاصي لها درجات و مراتب، فبعض منها يوجب الخروج عن الولاية و بعض منها لا يوجب الخروج مع كونه معصية.

يلاحظ عليه: أنّ المعاصي كلّها يرتب عليها الخروج من ولاية اللّه و الدخول في ولاية الشيطان، فانّ العاصي لا يعصي مع اعتناقه ولاية اللّه، بل يعصي إذا اعتنق ولاية الشيطان موقتاً أو دائماً.

نعم، للخروج من الولاية مراتب و درجات حسب عظم المعصية و صغرها، و إن كان الكل بالنسبة إلى ساحته عزّ اسمه عظيماً، قال سبحانه: (إِنَّمٰا سُلْطٰانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ). ( «1»)

نعم، يرد على الشيخ الأعظم (قدس سره) أنّ عطف قوله (عليه السلام): «و من اغتابه بما فيه» على الجزاء، أَعني قوله (عليه السلام): «فهو من أهل

العدالة و الستر»، بعيد عن

______________________________

(1) النحل: 100.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 602

ظاهر الرواية، و الظاهر أنّه جملة مستأنفة مستقلة.

كما يرد عليه أنّ إخراج غير المتجاهر و إبقاء المتجاهر يوجب اختصاص الرواية بالفرد غير الغالب، و هو لا يناسب البلاغة.

ثمّ إنّه أورد على الروايات الثلاث بأنّه تعبير عن عدالة المغتاب في حرمة الغيبة، و هو ممّا لم يلتزم به أحد.

و يمكن الإجابة عن الإشكال بأنّ الجزاء- حسب تقريب الشيخ (قدس سره)- رتّب قبول الشهادة على العدالة، و حرمة الغيبة على خصوص الستر، لا على كليهما، فلم يلزم منه اعتبار العدالة في حرمة الغيبة.

كما يمكن أنْ يقال: إنّ المراد من العدالة و الستر هاهنا شي ء واحد و ليست العدالة شيئاً غير الستر. و الرواية من أدلّة من يقول بأنّ العدالة هو حسن الظاهر المعلوم بالعشرة سواء اكشف عن الملكة النفسانية الرادعة عن المعصية أم لا، و العدالة بهذا المعنى معتبرة في حرمة الغيبة و إلا صار المغتاب متجاهراً تجوز غيبته.

نعم، العدالة بمعنى حسن الظاهر الكاشف عن الملكة الرادعة، أو بمعنى نفس الملكة، ليست بمعتبرة في حرمة الغيبة، و قد حقّقنا القول في حقيقة العدالة عند البحث عن شروط الشاهد في كتاب الشهادة.

4. ما نقله الشيخ الطوسي (قدس سره) في ذيل صحيحة ابن أبي يعفور: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «لا غيبة إلا لمن صلى في بيته، و رغب عن جماعتنا، و من رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته و سقطت بينهم عدالته ...». ( «1»)

و فيه بعد ضعف السند، أنّ دلالته قاصرة، إذ الجماعة إذا أُقيمت في ذاك

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 289، الباب 41 من أبواب الشهادات،

الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 603

الوقت إمّا أنْ تكون مستحبة أو واجبة، و على كل تقدير فلا تجب غيبة تاركها بكشف عيوبه.

و الذي يمكن أنّ يقال: انّ الإعراض في زمن الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) عن إقامة الصلاة معه في المسجد كان آية النفاق و المؤامرة على مصالح المسلمين، فمثل ذلك كان يعد منافقاً، و لأجل ذلك وجبت غيبته و الوقيعة فيه.

فقد خرجنا بهذه النتيجة: إنّ الروايات الأربعة الأخيرة غير تامة الدلالة، و انّما المهم ما تقدّم عليها من الروايات.

فروع حول المتجاهر

1. هل تجوز غيبة المتجاهر بالفسق مع عدم غرض صحيح أو لا؟

الظاهر هو الأوّل لما عرفت من أنّ خروج المتجاهر خروج موضوعي لا حكمي فلا تشمله إطلاقات الغيبة، إلا إذا تضمّن أَمراً آخر كذمّه و تنقيصه، و هو بعد أيضاً محل تأمّل، لعدم الدليل على حرمة ذم المعلن بفسقه و تنقيصه.

2. هل يجوز اغتياب المتجاهر في غير ما تجاهر به أو لا؟

ذهب بعض الأساطين إلى الأوّل و استظهره «صاحب الحدائق» من كلمات جملة من الأعلام، و ذهب الشهيدان إلى الثاني، و فصّل الشيخ الأعظم (قدس سره) بين كون ما يتستر به دون ما يتجاهر به كالتعرّض بالنساء في مقابل الزنا فيجوز، و كونه فوقه كالزنا بالنسبة إلى النظر إلى النساء فلا.

و قال المحقّق الخوئي- دام ظله-: إذا تجاهر في معصية جاز اغتيابه بها و بلوازمها، فإذا تجاهر بشرب الخمر جاز اغتيابه بتهيئة مقدّمات الشرب من الشراء و الحمل أو الصنع، فإنّ الالتزام بالشي ء التزام بلوازمه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 604

أقول: أمّا استظهره صاحب الحدائق من كلام جملة من الأعلام مبني على أنّ التجاهر بمعصية واحدة مسقط لحرمة

المؤمن في نظر الشارع، فهو كما تراه، إذ ليس المتجاهر بمعصية كالنظر إلى المرأة مثل الارتداد حتى يوجب السقوط.

و أمّا التفصيل الذي اختاره المحقّق الخوئي- دام ظله- فهو ليس تفصيلًا في المسألة، فإنّ ذكر مقدّمات المعصية ليس شيئاً زائداً على نفس المعصية، للعلم بأنّها لا تتحقّق إلا بمقدمة، فيجب حينئذ الذهاب إلى مختار الشهيدين أو إلى تفصيل الشيخ الأعظم.

فنقول: لو كان المستند في جواز غيبة المتجاهر هو صحيحة داود بن سرحان، أعني قوله: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الغيبة؟ قال: «هو أنْ تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، و تثبت عليه أمراً قد ستره اللّه عليه لم يقم عليه فيه حد» ( «1»)، فلا تجوز غيبته إلا في غير المستور و هو المطابق للقاعدة، و الأَصل هو لزوم التحفّظ على عرض المؤمن إلا ما خرج بالدليل.

نعم، لو كان المستند هو رواية هارون بن الجهم، فالظاهر هو الجواز مطلقاً لقوله (عليه السلام): «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة» ( «2») فانّ المتبادر من قوله (عليه السلام): «فلا حرمة له» هو سلب الاحترام عنه مطلقاً- في المتجاهر به و المستور-.

و مع ذلك كلّه فالترجيح مع الأوّل لمناسبة الحكم و الموضوع، و انّ التجاهر في موضوع يوجب سلب الحرمة في ذلك المورد دون غيره، و على ذلك يضعف الإطلاق في رواية هارون بن الجهم.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 604، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1 و 4.

(2) الوسائل: 8/ 604، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1 و 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 605

و يمكن التفصيل بين المجاهر بمعصية أو معصيتين و بين من يتجاهر بمعاص كثيرة، و

الذي يقال في حقّه بأنّه ألقى جلباب الحياء و أنّه ممّن يركب المعاصي بلا اعتناء و لا اكتراث، و لعل قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «من ألقى جلباب الحياء» ناظر إلى هذا القسم من المتجاهرين.

ثمّ، المراد بالمتجاهر المتجاهر بالقبيح بعنوان أنّه قبيح، فلو تجاهر به مع إظهار محمل صحيح له لا يعرف فساده إلا القليل، كما إذا كان من عُمّال الظلمة و ادّعى في ذلك عذراً مخالفاً للواقع، أو غير مسموع منه، لم يعد متجاهراً، نعم لو كان اعتذاره واضح الفساد لم يخرج عن المتجاهر.

أقول: إنّ المرتكب للقبيح مع عذر لا يخلو من حالات ثلاث:

أ: إمّا أن يعلم حاله أنّه يعتقد بصحة عمله تقليداً أو اجتهاداً.

ب: أو يحتمل أَنّه يعتقد بصحة عمله.

ج: أو يعلم كذبه في إظهار المحمل.

أمّا الأوّلان فذكره بعنوان الذم و التنقيص حرام، لكون الشخص معذوراً قطعاً أو محتملًا، و أمّا ذكره مجرّداً عنهما، فلا لظهوره و عدم ستره، مضافاً إلى عدم كونه عيباً عنده و إن كان عيباً في الواقع.

و أمّا الثالث: فيجوز لأنّه معصية متجاهر بها غير مستورة، و المفروض ( «1») انّه علم كذبه في إظهار المحمل.

3. إذا كان متجاهراً في بلد و متستراً في بلد آخر، فهل تجوز غيبته مطلقاً أو تختص بالبلد الذي يتجاهر فيه؟

______________________________

(1) و الحاصل أنّ من جاهر بفسق عن عذر أو احتملنا أنّ ارتكابه لعذر غير معلوم الفساد، فهو خارج عن الأدلّة، و الأدلّة منصرفة إلى مرتكب فسق من دون احتمال الجواز في حقّه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 606

الأحوط عدمه، لانصراف الأدلّة عن غير البلد المتجاهر فيه.

اللهم إلا إذا كان الرجل ممّن ألقى جلباب الحياء فله شأن و حكم آخر.

غيبة الفاسق المصرّ المستتر

قال الطريحي: إنّ المنع من غيبة الفاسق المصر كما يميل إليه كلام بعض من تأخّر ليس بالوجه، لأنّ دلالة الأَدلة على اختصاص الحكم بغيره أَظهر من أَن يبيّن، و ما ورد من تحريم الغيبة على العموم كلّها من طرق أهل الخلاف لمن تدبر ذلك. ( «1»)

أقول: إنّ إنكار وجود العمومات عجيب جداً، و يكفي في ذلك قوله سبحانه: (وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً). و أمّا اعتبار العدالة في بعض الأخبار فقد عرفت أنّ المراد بها هو الستر بأن لا يكون متجاهراً.

فإن قلت: إنّ موثّقة سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم كان ممّن حرمت غيبته، و كملت مروّته، و ظهر عدله، و وجبت أُخوته» ( «2») كما يحتمل أنْ يكون الشرط لارتفاع الجزاء هو ارتفاع جميع ما ذكر في جانب الشرط كذلك، يحتمل أن يكون الشرط لارتفاع الجزاء ارتفاع واحد منها.

قلت: إنّ ما ذكر على خلاف الإجماع، إذ لازمه جواز غيبة مطلق الفاسق، و حمله على الفاسق المصر بفعل واحد ممّا ذكر في الشرط مكرراً، يحتاج إلى القرينة.

و الظاهر- كما قلناه- أنّ الحديث منطبق على الفاسق المتجاهر، و أن

______________________________

(1) مجمع البحرين، مادة «غيب».

(2) الوسائل: 8/ 597، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 607

الشرط هو الإيجاب الكلّي بمعنى انّ وجود جميع هذه الشروط- أعني: عدم الظلم عند المعاملة، و عدم الكذب عند الحديث، و عدم الخلف عند الوعد- يستلزم جميع الأُمور الأربعة المذكورة في جانب الجزاء، و يكون مفهومه انّ ارتفاع جميع ما ذكر في جانب الشرط يوجب ارتفاع كل واحد

واحد ممّا ذكر في جانب الجزاء.

نعم، روى في «المستدرك» عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «لا غيبة لفاسق، أوفي فاسق» ( «1»)، و هو محمول على المتجاهر مع ضعف السند.

الثاني: تظلّم المظلوم بإظهار ما فعل الظالم به

و يظهر من صاحب مفتاح الكرامة اختصاص الجواز عند من يرجو منه إزالة ظلمه حيث قال: شكاية المتظلّم بصورة ظلمه عند من يرجو منه إزالة ظلمه. و هو الذي يأتي البحث عنه في آخر المسألة من أنّه هل يشترط في جواز الغيبة ترتّب غرض صحيح أو لا؟ و استدلّ بوجوه:

الأوّل: قوله سبحانه: (لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ وَ كٰانَ اللّٰهُ سَمِيعاً عَلِيماً* إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَفُوًّا قَدِيراً). ( «2»)

و الظاهر أنّ «السوء من القول» تعبير آخر، عن القول السوء فيشمل الشتم و الغيبة و النميمة. و المراد الكلام الذي يسوء من قيل في حقّه. و تخصيص السوء من القول بالدعاء عليه لا دليل عليه، بل يعمّ الجميع و يكون المستثنى في

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 129، الباب 134 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 6.

(2) النساء: 148- 149.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 608

موضع الجر بحذف المضاف أي ممّن ظلم.

قال العلّامة الطباطبائي: السوء من القول كل كلام يسوء من قيل فيه، كالدعاء عليه و شتمه بما فيه من المساوئ و العيوب و بما ليس فيه، فكل ذلك لا يحب اللّه الجهر به و إظهاره، و من المعلوم أنّه تعالى منزّه من الحب و البغض على حد ما يوجد فينا معشر الإنسان و ما يجانسنا من الحيوان، إلا أنّه لما كان الأَمر و النهي عندنا بحسب الطبع صادرين

عن حبّ و بغض كنّى بهما عن الإرادة و الكراهة و عن الأمر و النهي.

فقوله تعالى: (لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) كناية عن الكراهة التشريعية، أعم من التحريم و الإعانة.

و قوله: (إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ) استثناء منقطع، أي لكن من ظلم لا بأس بأن يجهر بالسوء من القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، و هذه هي القرينة على أنّه انّما يجوز له الجهر بالسوء من القول يبيّن فيه ما ظلمه، و يظهر مساوئه التي فيه ممّا ظلمه به. ( «1»)

فوجه كون الاستثناء منقطعاً هو أنّ المستثنى منه أَمر حدثي مصدري، أَعني: (الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ)، و أمّا المستثنى فهو عبارة عن الشخص الخارج، أَعني: المظلوم، لكن مجوّز الاستثناء عبارة عن كونه مظهراً و معلَما بما في الظالم من المساوئ، فلأجل ذلك صح الاستثناء، و إلى ذلك يرجع ما قلنا من أنّ المستثنى في موضع الجر بحذف المضاف.

و أورد على الاستدلال سيدنا الأُستاذ- دام ظله- بقوله: إنّ الاستدلال يتوقّف على كون الاستثناء متّصلًا، و كون الاستثناء من الجهر بالسوء، و كأنّ

______________________________

(1) الميزان: 5/ 129.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 609

تقديره: لا يحب اللّه الجهر إلا جهر من ظلم. كما يتوقف على كون المتكلّم في مقام بيان عقد الاستثناء أيضاً، و كلاهما غير ثابتين لما حكي عن ابن جني أنّه منقطع، و عن ابن عباس و جماعة أُخرى قراءة (مَنْ ظُلِمَ) معلوماً، و عليه يكون منقطعاً، و يكون المعنى: لكن من ظلم (بصيغة المعلوم) لا يخفى أمره على اللّه تعالى، بقرينة (سَمِيعاً عَلِيماً) أو كان التقدير: لكن من ظلم جهر بظلامته، و من ظلم جهر بظلمه. ( «1»)

يلاحظ عليه: عدم تمامية كل هذه المحتملات،

أمّا المنقول عن ابن عباس من قراءة (مَنْ ظُلِمَ) بصيغة المعلوم فهو قراءة شاذة لا يعبأ بها، و تخالفه الآية الثانية حيث تقول: (إِنْ تُبْدُوا- ما في أنفسكم- خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) فإنّ العفو عن السوء يؤيد كون الاستثناء بصيغة المجهول لا بصيغة المعلوم.

و أمّا عدم كون عقد الاستثناء في مقام البيان فهو على خلاف الظاهر، كيف، و هو نظير قوله (عليه السلام): «لا تعاد الصلاة إلا من خمس» و المعروف التمسّك به من كلا الطرفين، و أمّا توقّف الاستدلال على كونه متّصلًا مع أنّه منقطع، فهو غير تام، لأنّ المنقطع ما لم يرجع إلى نحو من الاتّصال لا يقع في كلام فصيح، لأنّه لا يصح الاستثناء إلا إذا دخل المستثنى في المستثنى منه بضرب من التصور و التوهّم، و إلا فلا يصح الاستثناء مطلقاً، فلا يصح أن يقال: جاءني القوم إلا حجراً، لعدم توهّم مجي ء القوم مع الحجر، نعم يصح أنْ يقال: جاءني القوم إلا الحمار، و ذلك لأجل صحة توهّم أن رحلة القوم انّما تكون بالحمار، و إلا فالمنقطع ما لم يرجع إلى نحو من الاتصال لا يقع في كلام بليغ، فيجب على

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 1/ 283.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 610

كل تقدير إرجاع المنقطع إلى نحو من المتصل إمّا حقيقياً و إمّا توهّمياً. و لا تجد في الكلام الفصيح مورداً لا تكون بين المستثنى منه و المستثنى صلة.

الثاني: قوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ ( «1») إِذٰا أَصٰابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ* وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا فَمَنْ عَفٰا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّٰهِ إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الظّٰالِمِينَ* وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولٰئِكَ مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ). (

«2»)

قال الراغب: الانتصار و الاستنصار طلب النصرة.

فالمعنى: الذين إذا أصاب بعضهم الظلم طلب النصر من الآخرين، و كانوا متّفقين على الحق كنفس واحدة فكأنّ الظلم أصابهم جميعاً فطلبوا المقاومة قباله و أعدّوا عليه النصرة.

و على ذلك فالمراد مقاومتهم لرفع الظلم، فلا ينافي قوله سبحانه في حقّهم: (وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) فانّ لكل مقاماً، و يحتمل أنْ يكون المراد من الانتصار الانتقام من الظالم لا طلب النصر كما في المحتمل الأوّل.

و على كل تقدير فالآية لا تدلّ على جواز الغيبة، بل راجعة الى طلب النصر أَو جواز الانتقام من الظالم بشرط التساوي كما هو صريح قوله سبحانه: (وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا).

نعم، يمكن استظهار دلالة الآية على جواز الغيبة بأنّ طلب النصر أَو الانتقام لا ينفك عن ذكر مساوئ الظالم و الجهر بظلمه، و إلا فلا يتحقّق طلب النصر أو الانتقام، و على ذلك يجوز ذكر مساوئ الظالم و غيبته عند من يرجى

______________________________

(1) ما تكرر من الموصولات في هذه الآيات بيان لأوصاف المؤمنين الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: (و ما عند اللّه خير و أبقى للذين آمنوا و على ربهم يتوكّلون) الشورى: 36، فقد ذكرت بعده عدّة أوصاف منها قوله تعالى: (و الذين إذا أصابهم البغي ...).

(2) الشورى: 39- 41.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 611

منه النصر، سواء أ كان الظالم متجاهراً أم لا.

نعم، لو كان المظلوم وحده متمكّناً من الانتقام من دون طلب النصر من غيره يجوز له الانتقام بلا ذكر مساوئه، و هو فرد نادر، و قد ذكر سيدنا الأُستاذ أنّه لا إطلاق في الآية من جهة كيفية الانتصار.

و بذلك يظهر أنّ ما أفاده المحقّق الإيرواني و تبعه المحقّق

الخوئي- دام ظله-: بأنّ الآية أجنبية عن الغيبة و انّما هي دليل على جواز الانتصار على الظالم و مجازاة الظالم بالمثل، نظير آية الاعتداء بالمثل، و أنّه لا سبيل على المعتدي بالمثل انّما السبيل على المعتدي ابتداءً ( «1»)، غير تام لما عرفت من أنّ الدلالة لأجل الملازمة العرفية، فانّ طلب النصر و الانتقام يلازمان ذكر مساوئ الظالم غالباً، فتأمّل.

الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) من أنّ في منع المظلوم من التظلّم حرجاً عظيماً.

يلاحظ عليه: ما أوضحناه في مفاد القاعدة من أنّ الميزان هو الحرج الشخصي، فلا يمكن إثبات قاعدة كلية في حق المظلوم مطلقاً إذا لم يكن في منعه ذلك الحرج.

الرابع: انّ في تشريع الجواز مظنّة لردع الظالم، و هي مصلحة خالية عن المفسدة.

يلاحظ عليه: أنّ هذا الاستدلال أشبه باستدلال المخالفين من تخصيص الأحكام أو تأسيسها بمصالح مرسلة، مع أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول.

و منها: الاستدلال بما رواه البيهقي في سننه، و البخاري في صحيحه: أنّ أعرابياً تقاضى على النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ديناً كان له عليه فاغلظ له فهمّ به أصحاب النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)،

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني: 36.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 612

فقال النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): دعوه فإنّ لصاحب الحق مقالًا، ثمّ قال: اقضوه، فقالوا: لا نجد إلا سناً أفضل من سنّه، قال: اشتروه و أعطوه فإنّ خيركم أحسنكم قضاء. ( «1»)

و كفى في ضعف الحديث أنّه روي عن أَبي هريرة، مضافاً إلى ما في المتن، إذ من البعيد أن يستقرض النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) من الأعرابي مع وجود المقرض

بين الأنصار و المهاجرين، و مع غض النظر عن هذا، فهو لا يدل على أزيد من أنّ لصاحب الحق مقالًا، و هو طلبه بشدّة و غلظة و هو غير اغتيابه.

و يمكن أَن يكون الحديث مساوقاً لقوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «ليّ الواجد يُحلُّ عقوبته». ( «2»)

و رواه البيهقي في سننه: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «ليّ الواجد يُحلُّ عرضه و عقوبته» قال سفيان: يعني عرضه أن يقول: ظلمني في حقّي، و عقوبته أنّه يسجن. ( «3»)

الثالث: نصح المستشير

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): إنّ النصيحة واجبة للمستشير و أنّ خيانته قد تكون أَقوى مفسدة من الوقوع في المغتاب.

أقول: إنّ تجويز الغيبة عند نصح المستشير و جعله من باب التزاحم لحكم الغيبة يتوقّف على إحراز المصلحة الملزمة في النصح أوّلًا، و وجودها في مورد التزاحم مع حكم الغيبة ثانياً، و كونها مقطوعة الأَهمية أو محتملتها أو

______________________________

(1) السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 52.

(2) المستدرك: 13/ 397، الباب 8 من أبواب الدين، الحديث: 5.

(3) السنن الكبرى: 6/ 51.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 613

متساوية مع مفسدة الآخر ثالثاً، و مع عدم إحراز هذه القيود الثلاثة يختل نظام التزاحم و يدخل في باب التعارض.

و الحاصل: أنّه إذا كان بين عنواني الدليلين عموم و خصوص من وجه، كما هو في المقام، فان أحرز الملاك في كل من العنوانين يدخل في باب التزاحم مع القيود المذكورة، و إلا فلو كان واحد منهما مشتملًا على الملاك دون الآخر فهو من باب التعارض، فإمّا أن نقول بشمول الأخبار العلاجية لهذا النحو من التعارض فيرجع إلى المرجحات من موافقة الكتاب و مخالفة العامّة كما هو الظاهر من

بعض المشايخ، و إن قلنا بانصراف الأَخبار العلاجية عن هذه الصورة و اختصاصها بما إذا كان التنافي بينهما من حيث المعنى المطابقي، و العامّان من وجه ليسا كذلك، فليس بينهما تناف من جهة المعنى المطابقي، و انّما حصل التعارض بينهما بالعرض و اتفاق اجتماع العنوانين في مورد فيتساقطان و يرجع إلى الدليل الآخر من حكم اجتهادي أو أصل فقاهي.

أقول: استدلّ على وجوب نصح المستشير بروايات:

منها: خبر عيسى بن أَبي منصور، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «يجب للمؤمن على المؤمن أن يناصحه». ( «1»)

و منها: صحيحة معاوية بن وهب، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد و المغيب». ( «2»)

و منها: رواية جابر، عن أَبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه». ( «3»)

غير أنّ حمل الوجوب على الوجوب الشرعي بعيد، و المراد هو ثبوت هذا

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 594، الباب 35 من أبواب فعل المعروف، الحديث: 1 و 2 و 4.

(2) الوسائل: 11/ 594، الباب 35 من أبواب فعل المعروف، الحديث: 1 و 2 و 4.

(3) الوسائل: 11/ 594، الباب 35 من أبواب فعل المعروف، الحديث: 1 و 2 و 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 614

الحق للمؤمن على المؤمن ثبوتاً أخلاقياً، و كم فرق بين أنْ يقال يجب على المؤمن كذا و كذا، و بين أنْ يقال يجب للمؤمن على المؤمن، فهذا اللسان أشبه بلسان الاستحباب، و حاصله أنّ هذا حكم أخلاقي.

أضف إلى ذلك أنّ رواية جابر ناظرة إلى وحدة الكيفية بعد الفراغ عن حكم نفس النصيحة و انّه يجب

أنّ ينصح أخاه كما ينصح لنفسه، سواء أ كان النصح واجباً أم مستحبّاً.

و يؤيد كون الحكم استحبابياً مؤكداً خبر تميم الداري قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «الدين نصيحة»، قيل: لمن يا رسول اللّه؟ قال: «للّه و لرسوله و لأئمة الدين و لجماعة المسلمين». ( «1»)

ثمّ إنّ هاهنا روايات ناظرة إلى حرمة الخيانة في مقام النصيحة فلا صلة لها بوجوب النصح و انّما يستفاد منها أنّه إذا نصح يجب أن لا يخونه.

فعن أَبي حفص الأعشى، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): من سعى في حاجة لأخيه فلم ينصحه فقد خان اللّه و رسوله». ( «2»)

و بذلك يختل الشرط الأوّل و هو عد هذا المقام من التزاحم، لعدم ثبوت الوجوب من أَصله، و انّما الثابت هو أن يكون في المشهد و المغيب سواء، و لا يفرق بين نفسه و غيره أَو حرمة الخيانة عند النصح.

كما أنّ الشرط الثالث أَيضاً غير ثابت إذا لم يحرز كون الملاك في النصح أَقوى من جانب الغيبة.

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 595، الباب 35 من أبواب فعل المعروف، الحديث: 7.

(2) الوسائل: 11/ 596، الباب 36 من أبواب فعل المعروف، الحديث: 1. و مثل ذلك سائر روايات هذا الباب فلاحظ.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 615

نعم، لو أحرز في المقام بأنّه إذا لم ينصحه يقع فساد كبير في النفس و النفيس، أَو يقع الطرف في الحرج الدائم، فعند ذلك يجب النصح، و إنْ استلزم الوقيعة، بل يمكن تجويز ذلك بلا استشارة إذا كانت المفسدة أَعظم من مفسدة الوقيعة.

فتلخّص من ذلك أنّ ما ورد من الروايات

حول نصح المستشير بين ما لا يدل على وجوب أَصل النصح و انّما يعدّه حقاً ثابتاً للمؤمن، و ما يدلّ على وحدة الكيفية إذا أراد النصح، و بين ما يدلّ على حرمة الخيانة عند الاستشارة، و كلّها أجنبية عن المقام، و انّما تفيد لو وجد دليل دال على وجوب النصح مطلقاً حتى لو استلزم الوقيعة.

الرابع: جواز الاغتياب في موضع الاستفتاء

و الظاهر أنّ المراد منه في مورد القضاء الذي يتوقف على ذكر الظالم بالخصوص و بيان كيفية ظلمه و تعدّيه، و لو كان المراد منه هو الاستفتاء، أَي استعلام الحكم الشرعي، فالظاهر أنّه لا يتوقف على الوقيعة لأنّه طلب علم لحكم كلّي، و العلم به لا يستلزم الاغتياب.

نعم، لو فرض توقّفه عليه، و كان الحكم محتمل الوجوب و الحرمة، فالظاهر أنّ التعلّم أقوى ملاكاً من الغيبة.

و ربّما يستدلّ على ذلك بصحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال: إنّ أُمّي لا تدفع يد لامس، فقال: فاحبسها. قال: قد فعلت. قال: فامنع من يدخل عليها، قال: قد فعلت،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 616

قال: قيّدها فإنّك لا تبرّها بشي ء أفضل من أن تمنعها من محارم اللّه عز و جل». ( «1»)

و الظاهر عدم صحة الاستدلال بها، لأنّ تحقّق الغيبة فيها يتوقّف على كون الأُم معروفة عند رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)، أضف إلى ذلك أنّه يحتمل أن تكون متجاهرة، و ما ذكره الشيخ (قدس سره) من اندفاع هذا الاحتمال بالأصل غير تام، لأنّ الأصل العملي لا يعطي للرواية ظهوراً و لا يثبت أنّ الابن اغتاب غيبة امرأة متسترة حتى

يكون دليلًا على المسألة.

و ربما يستدلّ بحكاية هند زوجة أبي سفيان حين قالت: إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني و ولدي ما يكفي، فقال (صلى الله عليه و آله و سلم) لها: «خذي لك و لولدك بالمعروف». ( «2»)

الخامس: قصد ردع المغتاب

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): إنّه أولى من ستر المنكر عليه فهو في الحقيقة إحسان في حقّه، مضافاً إلى عموم أدلّة النهي عن المنكر.

و لا يخفى أنّ الدليل الأوّل أخص من المدّعى، إذ ربّما لا يرتدع، بل يزيد عناداً و لجاجاً، أضف إليه أنّ الإحسان يجب أن يكون بشي ء حلال لا حرام، فلا يمكن تحليل الحرام بإطلاقات أَدلّة الإحسان إلى المؤمن.

و بذلك يظهر عدم تمامية الدليل الثاني، لأنّ عموم أدلّة النهي عن المنكر منصرف إلى النهي بأمر حلال لا بأمر حرام، و إلّا فلو توقّف ردع المغتاب عن المنكر بعمل محرّم آخر غير الغيبة كالتعدّي على عرضه و أمواله لما جاز ذلك أبداً، و هذا قد قرر في محلّه.

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 411، الباب 48 من أبواب حد الزنا، الحديث: 1.

(2) المستدرك: 9/ 128، الباب 134 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 617

السادس: قصد حسم مادة الفساد

إذا كان المغتاب مبتدعاً يخاف من إضلاله الناس، و قد استدلّ عليه بوجهين:

الأوّل: أنّ مصلحة دفع الفتنة عن الناس أَولى من ستر المغتاب.

يلاحظ عليه: أنّه يتم إذا كانت الوسيلة أَمراً حلالًا لا أَمراً حراماً، فإنّ قلع مادة الفساد بفساد آخر دفع فساد، بفساد آخر، و هو غير جائز، إلّا إذا كان الأوّل أهمّ و انحصر الطريق بارتكاب الحرام.

الثاني: صحيحة داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فاظهروا البراءة منهم، و أكثروا من سبّهم، و القول فيهم و الوقيعة، و باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام و يحذرهم الناس و لا يتعلّمون من بدعهم، يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات، و يرفع لكم به

الدرجات في الآخرة». ( «1»)

و مرسلة العياشي عن معمر بن عمر قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «لعن اللّه القدرية، لعن اللّه الحرورية، لعن اللّه المرجئة». ( «2»)

و الرواية الأُولى ناظرة إلى أهل البدع الخارجين عن الإسلام بقرينة أهل الريب و البدع، و إسرائها إلى سائر أهل البدع من المسلمين يحتاج إلى إلغاء الخصوصية، إلا أن يقال بإطلاق الرواية و شمولها للكلّ.

نعم، الرواية الثانية راجعة إلى أهل البدع من المسلمين، و يمكن تأييد العموم بما روي في «قرب الاسناد»، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال:

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 508، الباب 39 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث: 1 و 6.

(2) الوسائل: 11/ 508، الباب 39 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث: 1 و 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 618

«ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع، و الإمام الجائر، و الفاسق المعلن بالفسق». ( «1»)

و على كل تقدير فالقدر المتيقّن هو أئمة أهل البدع من المرجئة و الحرورية و المجبرة و غير ذلك.

نعم، كلّما كانت مصلحة حفظ الدين و لو في إطار صغير أهم من مصلحة حفظ عرض المبتدع يجوز الاغتياب، و القدر المتيقّن من جواز غيبته هو ذكر بدعه التي أوردها في الدين لا ذكر سائر عيوبه.

السابع: جرح الشهود و الرواة

أمّا الأوّل: أي جرح الشهود، فلا يخلو إمّا أن نعلم بكذب الشاهد في الشهادة فلا شك في جواز جرحه، لأنّ أدلّة لزوم التحفّظ على ستر المؤمن منصرفة إلى ما لم يتخذه ذريعة إلى الحكم الزور و الباطل. انّما الكلام فيما إذا كان فاسقاً و لم نعلم بكذبه في الواقعة، فيمكن الاستدلال عليه بوجوه:

الأوّل: السيرة: فقد جرت سيرة

المسلمين على جرح الشهود عند القضاء، حتى كان القضاة يفسحون المجال للمشهود عليه أنْ يأتي بمن يجرح شهود المشهود له.

الثاني: انّ دفع مفسدة الحكم بشهادة الفاسق، أولى من الستر عليه، إذ ربّما ينجر الحكم إلى قتل الأبرياء، و هتك نواميسهم، و هو ليس بأهون عند اللّه من الستر على الفاسق و إنْ كان كذبه غير معلوم.

و ربّما يستأنس بجواز نقد الشهود و جرحهم بقوله سبحانه: (وَ لٰا تَكْتُمُوا

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 605، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 619

الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). ( «1»)

و قوله سبحانه: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا وَ لٰا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ). ( «2»)

و لا يخفى أنّ البحث انّما هو في جرح الشاهد و نقده لا في كتمان الشهادة على الواقعة، فالاستدلال بالآيتين على جواز نقد الشاهد و جرحه باطل، فلا يعد الناقد و الجارح شاهداً حتى يدخل في الآية.

و أمّا الثاني: أعني: نقد الراوي، فهو لا يخلو بين أن نعلم بكذبه في الرواية فهو داخل في المبدع، و أمّا إذا شككنا في صدق قوله و عدمه مع العلم بضعفه فجائز، و الدليل عليه مضافاً إلى السيرة الرائجة في زمن المعصومين (عليهم السلام) أَنّ مفسدة العمل برواية الفاسق أعظم من مفسدة الشهادة على فسق الراوي.

و بعبارة أُخرى: انّ مصلحة حفظ الدين أعظم من مصلحة ستر الفاسق، فإنّ السكوت في مقابل روايات الفاسق ربّما ينجر إلى اضمحلال الدين.

أضف إلى ذلك أنّ نقد الراوي الذي كان يعيش قبل ألف سنة و جرحه و تضعيفه لا يعد غيبة، لعدم معروفيته بعينه و

بشخصه، فأدلّة الغيبة منصرفة عن ذلك، و هذا مثل التاريخ الذي يذكر عيوب الأُمراء و السلاطين و الوزراء و من حولهم من الرجال و النساء.

و استدلّ صاحب مصباح الفقاهة- دام ظله- بقوله سبحانه: (إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ( «3») قائلًا بأن التبيّن عن حال الفاسق الحامل للخبر لا يخلو عن الجرح غالباً. ( «4»)

______________________________

(1) البقرة: 283، 282.

(2) البقرة: 283، 282.

(3) الحجرات: 6.

(4) مصباح الفقاهة: 1/ 354.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 620

و لا يخفى انّ متعلّق التبيّن هو نفس الواقعة لا حال الراوي، لأنّ المفروض هو كون الراوي فاسقاً.

الثامن: الشهادة على الناس

من مجوزات الغيبة الشهادة على الناس بالقتل و الزنا و غيرهما، فجوازها من ضروريات الفقه، فإنّ إجراء الحدود يتوقّف على الشهادة، فلو كانت الشهادة محرّمة لبطلت الحدود.

أضف إلى ذلك انّ التحفّظ على الستر انّما يلزم إذا لم يتّخذ وسيلة إلى الإفساد كالقتل و الزنا مع الإحصان و إلا فيجب أنْ يهتك.

التاسع: جواز الاغتياب لدفع الضرر عن المغتاب

إذا أراد الظالم هتك عرض امرأة محترمة، فيجوز غيبتها بأنّها مسلولة و مريضة بمرض معد، مع عدم كونها كذلك، دفعاً لشر الظالم عنها، بل يمكن أن يقال انّ هذا خارج عن الغيبة موضوعاً لإحراز رضا المغتاب، و عليه حمل الشيخ ذم زرارة بأنّ اغتياب الإمام (عليه السلام) كان لحفظ نفسه عن الضرر و الخطر، ثمّ و لو صح ذم زرارة لحفظه، لدلّ على جواز الاغتياب لنفس الغاية.

العاشر: ذكر الشخص بصفاته المعروفة

و ممّا استثني: ذكر الشخص في غيبته بالشي ء الذي صار بمنزلة الصفة المميزة له التي لا يعرف إلّا بها كالأعمش و الأعرج و نحوها، و لا يخفى أنّ الاستثناء منقطع لما عرفت أنَّ الغيبة هي رفع الستر عمّا ستره اللّه، و العيب الواضح ليس ذكره رفعاً للستر، و ذكره بقصد التنقيص حرام لأجل الإهانة و هو خارج عن

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 621

البحث، و قد عرفت فيما ذكرناه من أنّ المراد من الموصول في قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «ذكرك أخاك بما يكره» هو نفس العيب لا الكلام فلا يشمل المقام.

نعم، لو فسّر الموصول بالكلام لعمَّ المقام، لكنّه خلاف الظاهر.

الحادي عشر: في غيبة معلوم الحال عند السامع

ذكر الشهيد (قدس سره) في «كشف الريبة» عن بعضهم من أنّه إذا علم اثنان من رجل معصية شاهداها، فأجرى أحدهما ذكره في غيبة ذلك العاصي جاز، لأنّه لا يؤثر عند السامع شيئاً، و إنْ كان الأَولى تنزّه النفس و اللسان عن ذلك بغير غرض من الأغراض الصحيحة، خصوصاً مع احتمال نسيان المخاطب لذلك أو خوف اشتهاره بها.

و لكن الاستثناء منقطع لعدم كونه كشفاً للستر.

الثاني عشر: ردّ مدّعي النسب

يجوز ردُّ من ادّعى نسباً ليس له، فإنّ مصلحة حفظ الأنساب أَولى من مراعاة حرمة المغتاب.

أقول: النسب المدّعى إمّا أن يترتّب عليه الأَثر عاجلًا أو آجلًا، و إما أن لا يترتب عليه، كما إذا ادّعى أنّه من قبيلة حمير و ليس منها.

أمّا الثاني: فلا وجه لجواز الاغتياب، و إن كان كاذباً في ادّعائه. و أمّا الأوّل فلا شك في جواز الاغتياب لأهمية حفظ النسب و ترتب الأَثر عليه من التوارث، و المحرّمية و أخذ الأخماس و غيرها.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 622

الثالث عشر: القدح في مقالة باطلة

يجوز القدح في مقالة باطلة و إن دل على نقصان قائلها.

أقول: المقام إمّا أن يكون في مسألة تمسُّ بالدين، و أُخرى في موضوع علمي.

أمّا الأوّل: فلا إشكال في وجوب ردّه، و إن دلّ على نقصان القائل، بعموم أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أو بما دلَّ على لزوم صيانة الدين.

و أمّا إذا كان موضوع لا يمت إلى الدين بصلة، فلا إشكال في الجواز إذا كان على نمط البحث الصحيح، لجريان السيرة على ذلك، و قد اشتهر «الحقيقة بنت البحث»، و دلالته على النقصان لا تمنع منه، لأنّ الإنسان قرين النقصان و لم يخلق مصوناً من الخطأ و الاشتباه، و ليس إظهار مثل هذا النقصان عيباً شرعياً حتى يكون إظهاره غيبة.

الرابع عشر: في تفضيل العلماء

يجوز تفضيل بعض العلماء على بعض، و لا يعد ذلك غيبة و اللّه سبحانه يقول: (وَ لَقَدْ فَضَّلْنٰا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلىٰ بَعْضٍ) ( «1»)، و يقول سبحانه و تعالى: (وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوٰاراً) ( «2»)، و لو فضّل بعض العلماء على بعض بالأعلمية و الأورعيّة مع التحفّظ بعدم الكلام الباطل فليس بغيبة.

أضف إليه أنّه جرت عليه سيرة العلماء و ديدن الأصحاب.

______________________________

(1) الإسراء: 55.

(2) نوح: 14.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 623

الخامس عشر: في سلب الاجتهاد

يجوز سلب الاجتهاد عن شخص. اللهم إلا إذا استلزم إهانة المسلوب عنه، كما اذا كان الرجل شاغلًا منصب الإفتاء سنين متمادية، فسلب الاجتهاد عن مثل هذا الرجل إهانة لا تجوز، إلا اذا كان هناك مصلحة غالبة على مفسدة الغيبة. و قد مر ما ينفعك في المقام. فلاحظ.

القول في استماع الغيبة
اشارة

و يقع الكلام في أُمور:

1. في حرمة استماعها مطلقاً، و عدمها كذلك، أو التفصيل بين الاستماع للرد و الاستماع لغيره.

2. هل الاستماع على فرض كونه حراماً من الكبائر أو لا؟

3. هل المحرّم استماع الغيبة المحرّمة، أو يعمّ المشكوكة و المحلّلة؟

4. هل يجب ردُّ الغيبة أو لا؟

و هذه مباحث أربعة نبحث في كل واحد منها إجمالًا:

أمّا الأوّل: فقد قال الشيخ الأعظم (قدس سره): يحرم استماع الغيبة بلا خلاف.

و قال في «الجواهر»: أمّا استماعها لا للرد، فلا خلاف كما لا إشكال في حرمته. ( «1»)

و قال في «مفتاح الكرامة»: و كما تحرم الغيبة يحرم سماعها، و قد ترك ذكره الأصحاب لظهوره. ( «2»)

______________________________

(1) الجواهر: 22/ 71.

(2) مفتاح الكرامة: 4/ 67.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 624

و قال في «كشف الريبة»: إنّ الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجّب بنفسه غيبة، فانّه يظهر التعجّب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيزيد فيها، فكأنّه يستخرج منه الغيبة بهذا الطريق فيقول: عجبت ممّا ذكرته، ما كنت أَعلم بذلك إلى الآن.

و قال أيضاً: من ذلك أن يذكر ذاكر عيب إنسان فلا يتنبّه له بعض الحاضرين فيقول: سبحان اللّه ما أعجب هذا حتى يصغي الغافل إلى المغتاب ... ( «1»)

انّما الكلام فيما لم يكن هناك عنوان سوى الاستماع.

و قال أيضاً: العاشر إذا سمع أحد مغتاباً لآخر و هو لا يعلم استحقاق المقول عنه للغيبة و لا

عدمه، قيل: لا يجب نهي القائل، لإمكان استحقاق المقول عنه، فيحمل فعل القائل على الصحة ما لم يعلم فساده، لأنّ ردعه يستلزم انتهاك حرمته، و هو أحد المحرّمين، و الأولى التنزّه عن ذلك حتّى يتحقّق المُخْرِج منه لعموم الأدلّة و ترك الاستفصال فيها. ( «2»)

و تدلّ على الحرمة أُمور:

منها: ما رواه الصدوق في «الفقيه» عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)- في حديث المناهي-: «انّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن الغيبة و الاستماع إليها ...». ( «3»)

و الحديث و إن كان ضعيف السند لجهالة شعيب بن واقد، لكنّه تلوح عليه آثار الصدق كما هو غير خفي على من لاحظ حديث المناهي من أوّله الى

______________________________

(1) كشف الريبة: 233 و 243، المطبوع مع كشف القواعد للعلامة.

(2) كشف الريبة: 233 و 243، المطبوع مع كشف القواعد للعلامة.

(3) الوسائل: 8/ 599، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 13.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 625

آخره، فلا يشكّ في صدوره عن المعصوم (عليه السلام).

و قد يقال: انّه يدلّ على حرمة الاستماع مع عدم الرد لا معه لما قال: «ألا و من تطوّل على أَخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردّها عنه ردّ اللّه عنه أَلف باب من الشرّ في الدنيا و الآخرة».

و لا يخفى أنّ الذيل راجع إلى السماع بلا اختيار لا الاستماع، و الكلام في الثاني، و كون السماع نادراً في المجالس ممنوع.

و ربما يقال انّ النهي تنزيهي.

يلاحظ عليه: أنّ رفع اليد عن ظاهر النهي مع عدم القرينة خلاف الأَصل، و كون الحديث مشتملًا على أُمور أَخلاقية لا يوجب رفع اليد

عن الظاهر في غيرها.

و ربّما يقال: انّ الحديث حكاية عن نواهي النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و ليس نفس كلامه، و لكنّه لا يضر أَبداً، لأنّ الراوي نقل مضمونه مع العرفان بمواضع النقل.

و هناك روايات تدل على حرمة الاستماع لا بأس بذكرها:

منها: ما رواه في «الروضة» عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: «الغيبة كفر، و المستمع لها و الراضي بها مشرك» قلت: فإنْ قال ما ليس فيه؟ فقال: «ذاك بهتان». ( «1»)

و منها: ما رواه القطب الراوندي في «لبّ اللباب»، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «من سمع الغيبة و لم يغيّر كان كمن اغتاب، و من ردّ عن عرض أَخيه المؤمن كان له سبعون أَلف حجاب من النار». ( «2»)

و منها: ما في «الاختصاص»، قال: نظر أَمير المؤمنين (عليه السلام) إلى رجل

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 133 و 132، الباب 136 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 6 و 8.

(2) المستدرك: 9/ 133 و 132، الباب 136 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 6 و 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 626

يغتاب رجلًا عند الحسن ابنه (عليه السلام) فقال: «يا بني نزّه سمعك عن مثل هذا فإنّه نظر إلى أَخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك». ( «1»)

و دلالة الروايات على حرمة الاستماع واضحة، و إن لم تكن الأسناد نقية، و لكن الروايات متضافرة.

بقي هنا حديث نبوي رواه أَبو الفتوح الرازي في تفسيره، عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أنه قال: «السامع للغيبة أحد المغتابين». ( «2»)

و روى الغزالي، عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «المستمع أَحد المغتابين». (

«3»)

غير أنّه ربّما يقرأ «المغتابين» بصيغة الجمع، و أُخرى بصيغة التثنية، فلو كان بصورة الجمع، فالمراد أنّ السامع هو المغتاب أَيضاً، فالحديث بصدد إدراج السامع في المغتابين بمعونة التنزيل، فيكون السماع بمنزلة التكلّم، فلا يجوز السماع إلا إذا جاز له التكلّم، و لا يكون جواز سماعه و حرمته منوطاً بجواز تكلّم المتكلّم و حرمته، بل انّ سماعه بمنزلة تكلّمه يجب إحراز الجواز في نفسه و إلا فيحرم.

و أمّا على فرض كونه بصيغة التثنية فهنا احتمالات نذكر بعضها:

1. انّ السماع عدل للمغتاب، و ليس نفسه، فكأنّه يقول: إنّ السامع في ذلك المجلس مغتاب آخر عدل للمغتاب، و على هذا فلا يفترق المعنى مع قراءته بصيغة الجمع، فيكون جوازها و حليتها تابعاً لتشخيص حكم نفسه لا لتشخيص حكم المتكلّم.

2. انّ السامع بمنزلة المتكلّم بالغيبة في تلك الحادثة، فكأنّ السامع هو

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 132، الباب 136 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 5.

(2) المستدرك: 9/ 133، الباب 136 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 7.

(3) إحياء العلوم: 3/ 146.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 627

المتكلّم بها، و عندئذ يكون جوازها و حرمتها تابعاً لجوازها و حرمتها لنفس المتكلّم. و لكن ذلك الاحتمال بعيد، إذ لو كان هذا مقصوداً لما قال أحد المغتابين فإنّه يحكي عن الاثنينية، و التنزيل يجب أن يكون بلسان الهوهوية.

3. انّ السامع بسماعه أحد الركنين لتحقّق الغيبة الواقعة، فيكون شريكاً في الإثم، فكأنَّ المتكلّم و السامع يتعاونان في إيجاد ذلك الحرام، و ليس حال السامع حال المضروب المتوقف تحقّق الضرب على وجوده، بل هو أَحد الركنين في تحقّق الإثم.

هذه هي محتملات الرواية، و الظاهر منها هو المتن الأوّل إذا كانت بصيغة التثنية، و على ذلك

فالنتيجة واحدة.

و على كل تقدير فيمكن الاستدلال على حرمة السماع بوجوه أُخر:

1. انّ الأعمال المحرّمة على قسمين:

قسم يكون قائماً بشخص واحد، كالتطفيف و التكبّر و القتل، فإنّ كل واحد من هذه الأفعال و إن كان يتوقّف على المطفف و المُتَكَبّر عليه و المقتول، غير أنّ لهؤلاء دخلًا في تحقّق الفعل خارجاً، و لا يعد عوناً للعاصي و شريكاً له.

و قسم يكون قائماً بشخصين، بحيث يُعد الآخر- مضافاً إلى كونه متوقّفاً عليه في الخارج- شريكاً في صدور العصيان من العاصي.

و على ذلك فما دلّ على حرمة إذاعة سرّ المؤمن يعمُّ المتكلِّم و السامع، مثل قول الراوي: عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال (عليه السلام): «نعم» قلت: يعني سفلته؟ قال: «ليس حيث تذهب إنّما هو إذاعة سرّه». ( «1»)

و رواية منصور بن حازم قال: قال أَبو عبد اللّه (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم):

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 608، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 628

من أذاع الفاحشة كان كمبتديها، و من عيّر مؤمناً بشي ء، لا يموت حتى يركبه». ( «1»)

لأنّ الإذاعة بالمعنى المصدري و إن كانت قائمة بفعل المتكلّم، لكنّها بمعنى الاسم المصدري متوقّفة على العِدْل و هو السامع، و الحرام ليس نفس الصدور بل نفس الفعل القائم بالطرفين.

2. الاستدلال بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ). ( «2»)

حيث قلنا: إنّ المعنى هو: الذين يشيعون الفاحشة عن حبّ، و قد عرفت أنّ الإشاعة بمعنى الاسم المصدري قائمة بالطرفين فيدلّ على حرمة السماع أيضاً.

3. الاستدلال عليها بما ذكرناه في حرمة بيع العنب ممّن نعلم

أنّه يصنعه خمراً حيث قلنا: إنّ أدلّة لزوم النهي عن المنكر كما تشمل رفعه تشمل دفعه، فإذا وجد المقتضي للمنكر يجب دفعه حتى لا يتحقّق في الخارج.

4. و يمكن الاستدلال عليها بما دلّ على حرمة الرضا بالحرام و انّ على الداخل إثمين: إثم الرضا و إثم الدخول، و على الراضي إثم واحد، قال علي (عليه السلام): «إنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد ...». ( «3»)

و قد عقد صاحب «الوسائل» في كتاب الأَمر بالمعروف باباً خاصّاً لذلك، و قد ورد فيه قوله (عليه السلام): «انّما يجمع الناس الرضا و السخط، فمن رضي أَمراً فقد

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 608، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 6.

(2) النور: 19.

(3) نهج البلاغة: الخطبة: 201.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 629

دخل فيه، و من سخط فقد خرج منه». ( «1»)

و قال (عليه السلام): «الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه، و على كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به و إثم الرضا به». ( «2»)

غير أنّ الاستدلال الأخير ضعيف، لأنّ مورد البحث هو الاستماع، و هو أَمر جوارحي، لا الرضا الذي هو أَمر جوانحي، و هذا لا يختص بالسماع، بل يتحقّق إذا وقف على أنّ رجلًا وقع في الوقيعة فرضي به و إنْ لم يكن في المجلس حاضراً.

5. و ربّما يستدلّ على حرمة السماع بما ورد من وجوب الرد، و سيوافيك البحث عنه في محلّه، و لكنّه لا يخلو من إشعار، و لا يعد دليلًا، إذ من الممكن أنْ يكون السماع مباحاً و لكنّه إذا سمع و ارتكب ذلك الأمر المباح يجب عليه فعل آخر، و هو الرد، بخلاف ما إذا لم يرتكب. نعم لا يخلو من إشعار.

و

كما لا تدل هذه الأخبار على حرمة الاستماع لا دلالة لها على جوازه بقصد الرد كما عن صاحب مصباح الفقاهة- دام ظله- حيث التزم بالجواز إذا لم يرض السامع للغيبة أو لم يكن سكوته إمضاء لها أو تشجيعاً للمتكلّم لها أو تسبيباً للاغتياب من آخر، و إلا كان حراماً من هذه الجهات. ( «3»)

أمّا عدم الدلالة فلاحتمال أن يكون هناك تكليفان:

الأوّل: حرمة الاستماع مطلقاً، سواء كان قاصداً للرد أم لا.

الثاني: وجوب الرد عند تحقّقه، فيكون التكليف الثاني مكفّراً للعمل الأوّل.

6. و يمكن الاستدلال بما ورد عن علي (عليه السلام) في خطبة همّام حيث قال:

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 411، الباب 5 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث: 9 و 12.

(2) الوسائل: 11/ 411، الباب 5 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث: 9 و 12.

(3) مصباح الفقاهة: 1/ 360.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 630

«غضّوا أبصارهم عمّا حرم اللّه عليهم، و وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم». ( «1»)

وجه الدلالة أنّ التعبير بوقف الأسماع على استماع العلم النافع يدلّ على لزوم حبس السماع عن غير النافع، خرج منه المباحات، و بقي الباقي تحته.

اللهم إلا أنْ يقال: انّ الإمام (عليه السلام) في مقام بيان صفات المتّقين فلا يدلّ على حرمته مطلقاً.

و لعلّ هذه الوجوه كافية في إثبات حرمة الاستماع، و إن كان باب المناقشة في بعضها مفتوحاً، إلا أنّ المجموع من حيث المجموع كاف في إثبات المطلوب.

ما هو الاستماع المحرّم؟

قد تحقّق بما ذكرنا حرمة استماع الغيبة، انّما الكلام في تحديده، فهل المحرّم استماع الغيبة المحرّمة على المتكلّم، أو يعم استماع الغيبة المحلّلة له فضلًا عن المشكوكة، فإذا فرضنا انّ المغتاب متجاهر عند المتكلّم دون السامع، أو يحتمل أنْ يكون متجاهراً عنده، فهل

يجوز استماعها أم لا؟

فقد احتمل الشيخ الأعظم (قدس سره): حرمة استماعها مطلقاً، مع فرض جوازها للقائل، لأنّ السامع أَحد المغتابين، فكما أنّ المغتاب يحرم عليه الغيبة إلا إذا علم التجاهر المسوّغ، فكذلك السامع يحرم عليه الاستماع إلا إذا علم التجاهر، و أمّا نهي القائل فغير لازم لو ادّعى العذر المسوّغ، بل مع احتماله في حقّه و إن اعتقد الناهي عدم التجاهر، نعم، لو علم عدم اعتقاد القائل بالتجاهر وجب ردعه.

و لكن الاستدلال بقوله (عليه السلام): «السامع أحد المغتابين» انّما يصح إذا كان

______________________________

(1) نهج البلاغة: 303، الخطبة 139، تعليق صبحي الصالح.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 631

الوارد بصيغة الجمع، فلا يجوز له إلا إذا أحرز الحلية شخصاً، و أمّا إذا كان الوارد بصورة التثنية، و قلنا: إنّ السامع عدل للمتكلّم أو نفس المتكلّم فيتحد حكمه مع حكمه، فإذا جاز للمتكلّم جاز له أَيضاً.

و على كل تقدير فيمكن الاستدلال على حرمته مطلقاً بوجوه:

الأوّل: ما ورد في حديث المناهي عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام): «أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن الغيبة و الاستماع إليها، و نهى عن النميمة و الاستماع إليها ... ألا و من تطوّل على أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردّها عنه ردّ اللّه عنه ألف باب من الشّرّ في الدنيا و الآخرة، فإن هو لم يردّها و هو قادر على ردّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة». ( «1»)

غير أنّ كون الحديث في مقام البيان مشكوك جداً، مضافاً إلى أنّ الحديث ليس عبارة الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) حتى يلاحظ نفسها، بل يمكن استظهار اختصاص حرمة الاستماع بالغيبة المحرّمة، لأنّ

الضمير في «إليها» راجع إلى الغيبة التي تعلّق بها النهي، و المتعلّق، له ضيق ذاتي لا ينطبق إلا على القسم المحرّم.

الثاني: ما في «جامع الأَخبار» عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «ما عمر مجلس بالغيبة إلا خرب من الدين، فنزّهوا أسماعكم من استماع الغيبة، فانّ القائل و المستمع لها شريكان في الإثم». ( «2»)

و فيه: أنّه على العكس أدلّ حيث يحكم بشركة القائل و المستمع بالإثم، و هو لا يصدق إلا إذا كان محرّماً.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 599، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 13.

(2) المستدرك: 9/ 121، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 32.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 632

الثالث: ما رواه في «الروضة» عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: «الغيبة كفر، و المستمع لها و الراضي بها مشرك»، قلت: فإن قال ما ليس فيه؟ فقال: «ذاك بهتان». ( «1»)

و هي أَيضاً على العكس أدلّ، لأنّ الإثم على الراضي إنّما هو فيما إذا كانت الغيبة محرّمة على المتكلّم، لا محلّلة، فيكون قرينة على المراد من المستمع و هو المستمع للغيبة المحرّمة.

الرابع: ما رواه الشيخ المفيد في «الاختصاص» قال: نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى رجل يغتاب رجلًا عند الحسن ابنه (عليه السلام) فقال: «يا بني نزّه سمعك عن مثل هذا، فانّه نظر إلى أَخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك». ( «2»)

و مضمون الرواية لا ينطبق على الأُصول المسلّمة في باب الإمامة فهي مطروحة أو مؤوّلة.

بقي الكلام فيما إذا شككنا في كونها محلّلة أو محرّمة، فربّما يقال بجريان أَصالة الصحة في فعل المتكلّم، إلا أنّه لا أَثر لها بالنسبة إلى جواز الاستماع، لعدم تفرّع حكم الاستماع على

حكم الغيبة، و عدم كونه من آثاره و لوازمه، و انّما هو من ملازماته ... و الملازم و إنْ كان شرعياً لا يترتب على الأَصل، فأصالة الصحة في فعل المتكلّم انّما تجدي في عدم وجوب نهيه لا في جواز استماعه. ( «3»)

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر عدم جريان أَصالة الصحة في المقام من رأس، و لا تصل النوبة إلى كونها مثبتة، و ذلك لأنّ أَصالة الصحة أَصل عقلائي أَمضاه

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 133، الباب 136 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 6.

(2) المستدرك: 9/ 132، الباب 136 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 5.

(3) تعليقة المحقّق الإيرواني: 37.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 633

الشارع، و هو انّما يجري إذا كان طبع العمل مقتضياً للصحة كالبيع و الإجارة و تصرّف الولي في مال اليتيم، و أمّا إذا كان طبع العمل مقتضياً للفساد، و شككنا في طروء عنوان مصحح له، فلا يجري ذلك الأصل، لأنّ الغلبة في ذلك القسم على الفساد دون الصحة، و في مثل ذلك لا يتمسّك بالأصل، و ذلك كما إذا قام غير المتولي ببيع الوقف و شككنا في طروء مصحح له من جوع مميت، ففي هذه النظائر و مواردها لا تجري أصالة الصحة.

فتلخّص أنّه يجوز استماع الغيبة المحلّلة دون المحرّمة و دون المشكوكة.

في وجوب ردّ الغيبة
اشارة

و يقع الكلام في مقامين:

[المقام] الأوّل: هل يجب الرد أو لا؟ أو يفصّل بين السماع المعجب فيجب، و غيره فلا؟

الثاني: ما هو المراد من الرد؟

أقول: أمّا الأوّل: انّ إثبات وجوب شي ء يتوقّف على ثبوت أَحد الأمرين: إمّا ورود الأمر به، أو الإخبار عنه؛ و إمّا الإيعاد بالعقاب على تركه. فلا يكفي مجرّد وعد الثواب، لثبوته في المندوب أَيضاً، فعلى ذلك يجب إمعان النظر في الروايات الواردة، و هي على طوائف:

الأُولى: ما تضمّن الوعد بالثواب للراد، مثل رواية السكوني، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) من ردّ عن عرض أَخيه المسلم، وجبت له الجنة البتة». ( «1»)

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 606، الباب 156 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3. و لاحظ الحديث 6 و 7 من هذا الباب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 634

الثانية: ما يدلّ على أنّ من لم يرد غيبة أَخيه يعمّه خذلان اللّه و تخفيضه، و ذلك مثل رواية حمّاد بن عمرو، و أنس بن محمد، عن أَبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) (في وصية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام)): «يا علي من اغتيب عنده أَخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله اللّه في الدنيا و الآخرة». ( «1»)

و رواية أَبي الورد، عن أَبي جعفر (عليه السلام) قال: «من اغتيب عنده أَخوه المؤمن فنصره و أَعانه، نصره اللّه و أَعانه في الدنيا و الآخرة، و من لم ينصره و لم يعنه و لم يدفع عنه و هو يقدر على نصرته و عونه إلا خفضه اللّه في الدنيا و الآخرة». ( «2»)

و يمكن أن يقال: انّ الروايات تدلّ على أنّ السامع لو ترك ردّ الغيبة، يشمله أَمران: خذلان

اللّه، و خفضه إيّاه. و المراد من الخذلان على ما في القاموس ترك نصرته؛ كما أنّ المراد من الخفض، عدم رفعه، و هل هذا النوع من اللسان يشير إلى الحرمة؟ فيه تردد.

نعم مقتضى بعض الروايات أنّ خذلان المؤمن حرام، مثل رواية سليمان بن خالد، عن أَبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) المؤمن من ائتمنه المؤمنون على أَنفسهم و أموالهم، و المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه، و المهاجر من هجر السيئات و ترك ما حرّم اللّه، و المؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أَو يغتابه أو يدفعه دفعة». ( «3»)

و مثلها صحيحة فضيل بن يسار، و صحيحة ربعي، و صحيحة سماعة بن

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 606، الباب 156 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 8/ 606، الباب 156 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2. و لاحظ الحديث 4 و 8 من هذا الباب.

(3) الوسائل: 8/ 596، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 635

مهران. ( «1») و ترك ردّ الغيبة خذلان و ترك لنصرته.

الثالثة: ما يدلّ على الوعيد بالعقاب عند عدم الرد، حيث قال (صلى الله عليه و آله و سلم): «فإن لم يردها و هو قادر على ردّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة». ( «2»)

و رواية عقاب الأعمال، عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال في خطبة له: «و من ردَّ عن أَخيه غيبة سمعها في مجلس ردَّ اللّه عنه ألف باب من الشر في الدنيا و الآخرة، فإنْ لم يرد عنه و اعجبه كان عليه

كوزر من اغتاب». ( «3»)

و الروايتان مختلفتان من حيث الإطلاق و التقييد بالإعجاب و عدمه و من حيث عدد الوزر.

لكن الأُولى مطروحة لعدم تصوّر كون عقاب المستمع أَزيد من عقاب المغتاب سبعين مرّة، فيبقى تعيّن العمل بالثانية و هي مختصّة بصورة الإعجاب.

الرابع: ما ورد في رواية الكراجكي من عدّ الرد من الحقوق حيث قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «للمسلم على أَخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو ... سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: إنّ أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له و عليه». ( «4»)

غير أنّ الإفتاء بهذه الرواية مشكل لكون كثير من الحقوق الواردة فيها من الحقوق المستحبة، و معه يشكل الاستناد إليها.

فتلخّص أنّ القول بوجوب الرد عند الإعجاب لا يخلو من وجه.

ثمّ إنّه لو تمَّ الوجوب أَو الاستحباب، فالظاهر انصرافه عمّا إذا جاز

______________________________

(1) انظر هذه الروايات الثلاث في الوسائل 8/ 957، الباب 152، الحديث: 4 و 5 و 2.

(2) الوسائل: 8/ 599، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 13.

(3) الوسائل: 8/ 607، الباب 156 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 5.

(4) الوسائل: 8/ 550، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 24.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 636

اغتيابه للمغتاب، إذ لا معنى لتجويزه للمغتاب و إيجاب الرد على المستمع.

و لو شك في جوازه و عدمه، فالظاهر شمول الإطلاق لصورة الشك، و ما ذكرنا من انصراف وجوب الردّ عمّا إذا جاز اغتيابه، يختص بصورة العلم بجواز الاغتياب.

فإن قلت: إذا دلَّ الدليل على عدم وجوب الرد فيما إذا جاز للمغتاب يكون ذلك

مخصصاً لأدلّة وجوب الرد، فتكون صورة الشك في جوازه للمغتاب و عدمه شبهة مصداقية للمخصص، و لا يجوز التمسّك بالعام في تلك الصورة.

قلت: هذا انّما يتمّ لو كان هناك دليل عام على وجوب الرد، و مخصص آخر لإخراج صورة العلم بالجواز، و لكن الأَمر ليس كذلك، إذ ليس لنا مخصص لفظي أو لبّي دال على جواز الاستماع في صورة العلم بالجواز، و انّما خرجت هذه الصورة من جهة انصراف الدليل العام عن صورة العلم بالجواز، فيبقى الباقي تحته.

كما أنّ وجوب الرد منصرف عمّا إذا جاز للسامع استماعه كما في الحاكم المنصوب لرفع الظلم عن المظلوم، فانّ القاضي و الحاكم انّما نصبا لاستماع كلمات الأفراد و القضاء بينهم.

المقام الثاني: ما هو المراد من الرد؟

قال الشيخ الأعظم (قدس سره) انّ الرد غير النهي عن الغيبة، و المراد به الانتصار للغائب بما يناسب تلك الغيبة، فإن كان عيباً دنيوياً انتصر له بأنّ العيب ليس إلا ما عاب اللّه به من المعاصي التي من أَكبرها ذكرك أَخاك بما لم يعبه اللّه به، و إنْ كان عيباً دينياً وجّهه بمحال تخرجه عن المعصية، فإن لم يقبل التوجيه

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 637

انتصر له بأنّ المؤمن قد يبتلى بالمعصية.

و حاصله: أنّه يجب في مورد الغيبة أمران:

الأوّل: نهي المغتاب عن الغيبة من باب النهي عن المنكر.

و الثاني: ردّها على الوجه الذي ذكره، و على ذلك فالسامع في مظنة ارتكاب محرّمات ثلاث:

1. استماع الغيبة 2. عدم النهي عنها 3. عدم ردّها.

بل في مظنّة ارتكاب محرّم رابع و هو ما إذا كان معجباً بكلام القائل، و يكون ذلك سبباً لطول الكلام.

و أمّا كون الرد غير النهي، فلأنّ المراد من الرد ردّ المقول، و المراد من نهي

القائل التكلّم في غياب الأخ.

كون الرجل ذا لسانين

إذا كان الرجل مغتاباً في الغياب و مادحاً في الحضور بشي ء صادق فيعاقب بعقابين: أحدهما للغيبة، و الثاني لنفاقه، و كون لسانه في الغياب غير لسانه في الحضور، و لو مدحه بما ليس فيه تتوجه إليه عقوبة ثالثة: الغيبة، و النفاق، و الكذب.

و قد ورد هذا العنوان أي كون الإنسان ذا لسانين في رواياتنا، فعن ابن أَبي يعفور، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من لقي المسلمين بوجهين و لسانين جاء يوم القيامة و له لسانان من نار». ( «1»)

ثمّ إنّ النسبة بين المغتاب (بصيغة الفاعل) و بين كون الإنسان ذا لسانين،

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 581، الباب 143 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1. و في هذا الباب روايات بهذا المضمون.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 638

عموم من وجه، فإذا اقتصر بالغيبة بدون المدح في الحضور يتحقق الأوّل دون الثاني، و إذا مدح حضوراً و ذمّ بالسب و البهتان غياباً، يتحقّق الثاني دون الأوّل، و قد يجتمعان.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) أورد في خاتمة البحث بعض ما ورد من حقوق المسلم على أخيه، و هذه الحقوق كثيرة مبثوثة في روايات الباب، و قد جاء في رواية الكراجكي ثلاثون حقّاً حيث قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) للمسلم على أخيه ثلاثون حقّاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو: يغفر زلته، و يرحم عبرته، و يستر عورته ... سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: إنّ أحدكم ليدع من حقوق أَخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له و عليه». ( «1»)

و الظاهر من الشيخ الأعظم (قدس سره) اختصاص

هذه الحقوق بالأخ العارف لها دون المضيّع.

و يمكن الأخذ بالإطلاقات و تأكد القيام بها بحسب قيامهم بهذه الحقوق، و على كل تقدير فالقيام بها مستحب مؤكد كما هو واضح.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 550، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 24.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 639

استدراك على الشيخ الأعظم ( «1») التهمة و البهتان

التُّهْمة و البهتان من فروع الكذب و هو نسبة قول أو فعل سيّئين إلى شخص بري ء منهما كنسبة الفحشاء إلى المرأة العفيفة، و الخيانة لمن لم يعرف بها و هكذا، و يطلق عليها التهمة تارة، و البهتان أُخرى.

أمّا الأُولى فهي مأخوذة من الوهْم بمعنى الغلط أو الظن، يقال: اتّهمت فلاناً، و أصل التاء، واو، قلبت إلى التاء و ادغمتا، و التهْمة بسكون الهاء مصدر، و بفتحها اسم مصدر. ( «2»)

و أمّا الثاني فهو من «بهت» بمعنى دهش و تحيّر. قال الراغب: قال عزّ و جل: (هٰذٰا بُهْتٰانٌ عَظِيمٌ) ( «3») أي كذب يبهت سامعه لفظاً عنه. ( «4»)

و في اللسان: بهت الرجل: قال عليه ما لم يفعله فهو منه مبهوت.

و الفرق بين التهمة و الغيبة، هو كذب القائل في الأوّل دون الثاني.

______________________________

(1) كان اللازم على الشيخ الأعظم، البحث في التهمة و البهتان بعد الغيبة فاستدركنا عليه بهذا البحث الموجز.

(2) لسان العرب، 15، مادة «و هم».

(3) النور: 16.

(4) المفردات، 63، مادة بهت.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 640

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 640

روى الكليني بسند صحيح عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إذا اتّهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح

في الماء». ( «1»)

ثمّ إنّه يشترط في صدقهما، كون ما يُتّهم به، أمراً سيّئاً في حقّ المنسوب إليه من غير فرق بين القول و الفعل، و لذلك لم يستعمل البهتان في القرآن الكريم إلّا في هذا المورد، قال سبحانه في مورد الإفك: (مٰا يَكُونُ لَنٰا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهٰذٰا سُبْحٰانَكَ هٰذٰا بُهْتٰانٌ عَظِيمٌ) ( «2»)، و قال سبحانه في حقّ مريم (وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلىٰ مَرْيَمَ بُهْتٰاناً عَظِيماً) ( «3»)، و قال تبارك و تعالى: (وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً). ( «4»)

و أمّا إذا نسب إلى اللّه قولًا أو فعلًا كذباً، فبما انّه لا يُوصف بالسيّئ منهما، يقال: (افْتَرىٰ عَلَى اللّٰهِ*) قال تعالى: (فَمَنِ افْتَرىٰ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ) ( «5») و لا يقال: اتّهمه و باهته.

ثمّ إنّ التهمة من المعاصي الكبيرة و يشتد عقابها حسب شدة ما باهت به، فأين الرمي بالزنا من الرمي بضرب الأبشار، كما أنّه يتفاوت أيضاً بتفاوت المرميّ، فأين اتّهام مريم العذراء من اتّهام امرأة عادية؟!

______________________________

(1) الكافي: 2/ 361، باب التهمة و سوء الظن، الحديث 1.

(2) النور: 16.

(3) النساء: 156.

(4) الأحزاب: 58.

(5) آل عمران: 94.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 641

16 القمار

اشارة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): القمار حرام إجماعاً، و يدلّ عليه الكتابُ و السنّة المتواترة.

أقول: يقع الكلام في مقامات أَربعة:

الأوّل: في معنى القمار و الميسر من حيث اللغة و الأخبار.

الثاني: في اعتبار أَخذ العوض في مفهومه و عدمه.

الثالث: في اعتبار أَخذ الآلة المتعارفة في مفهومه و عدمه، سواء أ كانت معدّة له كالنرد و الشطرنج، أو غير معدّة كالجوز و البيض.

الرابع: في أحكامه

بجميع أقسامه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 642

المقام الأوّل في معنى القمار لغة
اشارة

قال في «اللسان»: قامر الرجل مقامرة، و قماراً: راهنه و هو التقامر.

و القمار: المقامرة. و تقامروا: لعبوا القمار، و قميرك: الذي يقامرك.

و قال في «القاموس»: قامره، مقامرة، و قماراً فقمره، كنصره، و تقمره: راهنه فغلبه.

و في «مجمع البحرين»: و في الحديث كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله: القمار (بالكسر) المقامرة، و تقامروا: لعبوا بالقمار ... و أصل القمار: الرهن على اللعب.

فالظاهر من الجميع هو أنّ القمار مصدر بمعنى اللعب مع المراهنة.

و أمّا القمار في الأخبار

فتارة استعمل في نفس المغالبة و المراهنة، كما في رواية محمد بن علي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ) ( «1») قال: نهي عن القمار، و كانت قريش يقامر الرجل بأهله و ماله، فنهاهم اللّه عن ذلك». ( «2»)

______________________________

(1) البقرة: 188

(2) الوسائل: 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 643

و أُخرى في نفس الآلة كما في رواية أَبي الجارود عن أَبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال: «أمّا الخمر فكل مسكر من الشراب- إلى أن قال:- و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج، و كل قمار ميسر، و أمّا الأنصاب فالأوثان التي كانت تعبدها المشركون، و أمّا الأزلام، فالأقداح التي كانت تَسْتقْسِم بها المشركون من العرب في الجاهلية، كل هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من اللّه محرّم، و هو رجس من عمل الشيطان، و قرن اللّه الخمر و الميسر مع الأوثان». ( «1»)

و ثالثة: في نفس العوض الحاصل

من اللعب؛ كما في رواية ياسر الخادم، عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الميسر؟ قال: «التفل من كل شي ء، قال: الخبز، و التفل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم و غيره» ( «2»)؛ بضميمة رواية الوشّاء، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «الميسر هو القمار». ( «3») هذا كلّه حول لفظ القمار.

و أمّا الميسر: قال في «اللسان»: الميسر: اللعب بالقداح، و قد يطلق على مطلق القمار، أي مطلق اللعب مع المراهنة. ( «4»)

و قال في اللسان أيضاً: قال مجاهد: كل شي ء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. و روي عن علي (عليه السلام): أنّه قال: «الشطرنج ميسر

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 239، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12 و الآية 90 من سورة المائدة.

(2) الوسائل: 12/ 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12 و 3.

(3) الوسائل: 12/ 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12 و 3.

(4) و هذا هو الظاهر من الروايات فانّ الميسر استعمل في مطلق القمار، فلاحظ الوسائل الجزء 12، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و 4 و 11.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 644

العجم»، شبّه اللعب به بالميسر و هو القداح».

و قد يستعمل في الجزور، قال في «اللسان» أَيضاً: الميسر الجزور نفسه سمّي ميسراً لأنّه يجزّأ أَجزاء.

و قال في «القاموس»: الميسر: اللعب بالقداح، أَو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، كانوا إذا أرادوا أَن ييسروا اشتروا جزوراً نسيئة و نحروه قبل أَن ييسروه.

و قال في «المجمع»: الميسر القمار، و قيل كل شي ء يكون منه قمار فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز الذي يتقامرون

به، لأنّه يجزّى أجزاء و كأنّه موضع التجزية، و كل شي ء جزّيته فقد يسرته. هذا كلّه من حيث اللغة.

و أمّا الأخبار: فالميسر ربّما يستعمل في نفس الآلة مثل قوله (عليه السلام) في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال: «... و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج، و كل قمار ميسر». ( «1») حيث فسّر الميسر بالنرد و الشطرنج، ثمّ قال: كلُّ قمار ميسر.

و أُخرى في نفس المعنى المصدري و هو كثير؛ مثل رواية محمد بن علي، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ) قال: «نهى عن القمار، و كانت قريش يقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه عن ذلك». ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 239، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12.

(2) الوسائل: 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 9. و الاستدلال مبني على أنّ كل قمار ميسر، فالنهي عن القمار، نهي عن الميسر. و النهي يتعلق بالمعنى المصدريّ أعني فعل المكلّف.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 645

و ثالثة: في نفس العوض الحاصل من اللعب، مثل رواية ياسر الخادم، عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الميسر؟ قال: «التفل من كل شي ء قال: الخبز، و التفل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم و غيرها». ( «1»)

ثمّ إنّ الاستعمال في هذه الموارد إمّا بالاشتراك اللفظي أَو بالاشتراك المعنوي أَو من باب الحقيقة.

و يضعف الأوّل بعدم ثبوت تعدّد الوضع، و الثاني بعدم وجود الجامع بين المعاني الثلاثة، فتعيّن كونه حقيقة في أَحدها و مجازاً في الباقية.

و

الظاهر أنّه حقيقة في المعنى المصدري، أعني: المقامرة و المراهنة، و لكن لمّا كانت له إضافة إلى الآلة و العوض استعمل فيهما مجازاً.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 646

المقام الثاني: في اعتبار العوض في صدق القمار و الميسر

فقد اختلفت الأَقوال فذهب الشيخ الأعظم (قدس سره) إلى أنّه يكفي في صدقه وجود المغالبة سواء أ كان بعوض أم لا، و يظهر من أهل اللغة اعتباره و قد عرفت نصوصهم. و الظاهر اعتبار العوض في صدق العنوان.

و يدلّ على ذلك مضافاً إلى ما عرفت من تصريح أَهل اللغة، رواية إسحاق بن عمّار قال: قلت لأَبي عبد اللّه (عليه السلام): الصبيان يلعبون بالجوز و البيض، و يقامرون؟ فقال: «لا تأكل منه فانّه حرام». ( «1»)

إذ لو لم يعتبر، لكان ذكر «يقامرون» بلا وجه، فإنَّ اللعب بالجوز و البيض يعم كلتا الصورتين و أَيضاً يكون النهي عن مطلقه غير تام، لجواز الأكل من المال الذي قامر به إذا كان مالكاً له و إنْ ارتكب أَمراً محرّماً، اللهم إلا أن يقال: انّ جواز الأكل لا يثبت جواز العمل تكليفاً، الذي هو محط البحث.

أضف إلى ذلك ما ورد في رواية زياد بن عيسى قال: سألت أَبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قوله عزّ و جلّ: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ) فقال: «كانت قريش يقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه عز و جل عن ذلك». ( «2»)

كل ذلك يؤيد مقوّمية العوض في صدق القمار.

______________________________

(1) نفس المصدر: الحديث: 7.

(2) الوسائل: 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 647

المقام الثالث: في اعتبار الآلة المتعارفة و عدمه

و الظاهر عدم اعتبارها لرواية العلاء بن سيابة، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام، و لا بأس بشهادة المراهن عليه، فإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قد أَجرى الخيل و سابق، و كان يقول: إنّ الملائكة تحضر

الرهان في الخف و الحافر و الريش و ما سوى ذلك فهو قمار حرام». ( «1»)

و الظاهر أنّ المراد من «الحمام» هو الخيل، و المراد من «الريش» هو السهم، ثمّ إنّ قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «و ما سوى ذلك فهو قمار حرام» مطلق يعم اللعب بالآلات المتعارفة و غيرها، فالمراهنة بمناطحة الغنم، أو مهارشة الديكة قمار إذا كان مع العوض و إن لم تكن الآلة متعارفة و لا معدّة.

______________________________

(1) الوسائل: 13/ 349، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 648

المقام الرابع: في بيان أحكام القمار
اشارة

فنقول:

إنّ هنا مسائل أَربع:
الأُولى: المراهنة مع العوض و الآلات المتعارفة

إذا كانت المراهنة مع العوض و مع الآلات المتعارفة، فهي القدر المتيقّن من الأدلّة، و حرمتها مجمع عليها في الكتاب و السنّة و لا تحتاج إلى تفصيل، و تكفي مطلق الآلة، و لا يحتاج إلى كونها معدّة لذلك، ففي رواية حميد بن سعيد قال: بعث أَبو الحسن (عليه السلام) غلاماً يشتري له بيضاً، فأخذ الغلام بيضة أَو بيضتين فقامر بها، فلمّا أتى به أكله، فقال له مولى له: إنّ فيه من القمار، قال: فدعا بطشت فتقيّأ، فقاءَه. ( «1»)

الثانية: اللعب بالآلة دون الرهان

إذا كان اللعب بالآلة المتعارفة من دون رهان:

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2. و لاحظ الحديث 4 و 6 و 7 من هذا الباب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 649

فقد قال الشيخ (قدس سره) فيه: و الظاهر عدم صدق القمار من دون رهن لما عرفت.

لكن عدم صدقه لا يلازم حلّيته لإمكان استفادة حرمته من إطلاقات اللعب بهذه الآلات.

قال الشيخ في «الخلاف»: اللعب بالشطرنج حرام على أَيّ وجه كان، و يفسق فاعله به، و لا تقبل شهادته.

و قال مالك و أبو حنيفة: مكروه، إلا أنّ أبا حنيفة قال: هو يلحق بالحرام، و قالا جميعاً: ترد شهادته.

و قال الشافعي: هو مكروه و ليس بمحظور. ( «1»)

قال في «مفتاح الكرامة»: لا ريب في تحريم اللعب بذلك و إنْ لم يكن فيه رهان، سواء أ كان قصد الحذق أَو اللهو كما نصّ على ذلك في الكتاب (القواعد) و «الدروس» في باب الشهادة، و «جامع المقاصد» في المقام، عملًا بإطلاق النصوص و الفتاوى، و إنْ كان أَصله- أَي القمار بالكسر- الرهن على اللعب بشي ء من هذه الأشياء كما هو ظاهر القاموس و النهاية

أَو صريحهما، و صريح «مجمع البحرين» و قال في الأَخير: و ربّما أُطلق على اللعب بالخاتم و الجوز.

و ظاهر «الصحاح» و «المصباح المنير» و كذلك التكملة و الذيل، أنّه قد يطلق على اللعب بهذه الأشياء مطلقاً، أي مع الرهن و دونه، و به صرح في «جامع المقاصد». ( «2»)

______________________________

(1) الخلاف: 3/ 343، المسألة 51.

(2) مفتاح الكرامة: 4/ 56.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 650

و قال ابن قدامة: كل لعب فيه قمار فهو محرّم، أيّ لعب كان، و هو من الميسر الذي أمر اللّه تعالى باجتنابه، و من تكرر منه ذلك ردّت شهادته، و ما خلا القمار، و هو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين و لا من أحدهما، فمنه ما هو محرّم و منه ما هو مباح، فأمّا المحرّم فاللعب بالنرد، و هذا قول أبي حنيفة و أكثر أصحاب الشافعي، و قال بعضهم: هو مكروه غير محرّم ... إذا ثبت هذا فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته، سواء لعب به قماراً أو غير قمار، و هذا قول أبي حنيفة و مالك، و ظاهر مذهب الشافعي، قال مالك من لعب بالنرد و الشطرنج فلا أرى شهادته طائلة، لأنّ اللّه تعالى قال: (فَمٰا ذٰا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلٰالُ) ( «1») و هذا ليس من الحق فيكون من الضلال. ( «2»)

و قال في فقه المذاهب: نهت الشريعة نهياً شديداً عن الميسر (القمار) فحرّمته بجميع أنواعه، و سدّت في وجه المسلمين سبله و نوافذه. و حذّرتهم من الدنو من أيّ ناحية من نواحيه. ( «3»)

و على كل تقدير فتكفي في الحرمة عدّة إطلاقات:

1. إطلاق قوله (عليه السلام) في رواية «تحف العقول»: «التي يجي ء منها الفساد

محضاً، نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كل ملهو به، و الصلبان و الأصنام و ما أَشبه من ذلك». ( «4») و لا شك أنّ تلك الأَدوات، و لا سيما المعدّة له يجي ء منها الفساد محضاً، فإذاً يحرم التقلّب و التصرّف فيه و لو لأَجل الحذق.

و أَورد عليه في «مصباح الفقاهة»: من أنّه لا يدلّ إلا على صدق الكبرى من حرمة التقلّب و التصرّف في كل ما يجي ء منه الفساد محضاً، و أمّا إحراز

______________________________

(1) يونس: 32.

(2) المغني: 12/ 35، الطبعة الثالثة.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة: 2/ 47، كتاب الحظر و الإباحة.

(4) الوسائل: 12/ 54، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 651

الصغرى فلا بدّ بأَن يثبت من الخارج، و من الواضح أنّ كون الآلات المعدّة للقمار كذلك أوّل الكلام. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ الآلات المعدّة للقمار يجي ء منها الفساد عرفاً، و يكفي أنّها في نظرهم منبع الشر و الفساد و وسيلة العداوة و الشحناء.

2. ما رواه أبو الجارود، عن أَبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال: ... و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج، و كل قمار ميسر» ( «2») و اللعب بالتنزّه نوع انتفاع.

قال الشيخ (قدس سره): و ليس المراد بالقمار في هذه الرواية المعنى المصدري حتى يرد ما تقدّم من انصرافه إلى اللعب مع الرهن، بل المراد آلاته بقرينة قوله: «بيعه و شراؤه» و قوله: «و أمّا الميسر فهو النرد».

و الظاهر انّ الاستدلال تام، سواء فسّر القمار بالمعنى المصدري بأنّ كل مقامرة ميسر، أو فسّر بآلات القمار، أي

كلّ آلة قمار ميسر، لأنّ مورد الاستدلال هو قوله:

«و الانتفاع بشي ء من هذا» فإنّ «هذا» راجع إلى الآلة بقرينة ما قبله «بيعه و شراؤه» فالانتفاع بالآلة بوجه مطلق حرام.

نعم ليست الروايتان صحيحتين من حيث السند.

3. ما رواه ولد شيخنا الطوسي، عن علي (عليه السلام) قال: «كلّ ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر». ( «3»)

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 369- 370.

(2) الوسائل: 12/ 239، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12.

(3) الوسائل: 12/ 235، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 652

غير أنّ إطلاق الرواية محمول على الكراهة، للقطع بجواز كثير من الأشياء التي تلهي عن ذكر اللّه تعالى من التنزّهات المباحة.

4. رواية الفضيل قال: سألت أَبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الأشياء التي يلعب بها الناس، النرد و الشطرنج، حتى انتهيت إلى السدر، فقال: «إذا ميّز اللّه الحق من الباطل مع أيّهما يكون؟» قال: مع الباطل، قال: «فمالك و للباطل». ( «1»)

5. رواية زرارة، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن الشطرنج، و عن لعبة شبيب التي يقال لها: لعبة الأَمير، و عن لعبة الثلث، فقال: «أ رأيتك إذا ميّز اللّه الحق و الباطل مع أيّهما تكون؟» قال: مع الباطل، قال: «فلا خير فيه». ( «2»)

و أورد عليه: بأنّ نفي الخير أعم من الحرمة.

6. رواية عبد الواحد بن المختار قال: سألت أَبا عبد اللّه (عليه السلام) عن اللعب بالشطرنج فقال: «إنّ المؤمن لمشغول عن اللعب». ( «3»)

و لسان الرواية التنزيه لا الحرمة.

7. و يمكن الاستدلال على الحرمة ببعض الإطلاقات، مثل رواية زيد الشحام حيث قال: سألت أَبا عبد اللّه (عليه السلام)، عن

قول اللّه عز و جل: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ( «4») قال: «الرجس من الأوثان الشطرنج». ( «5»)

و عن ابن أبي عمير، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «الشطرنج من الباطل». ( «6»)، و إطلاقهما يشمل الرهان و غير الرهان.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 12/ 238، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 11.

(3) الوسائل: 12/ 238، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 11.

(4) الحجّ: 30.

(5) الوسائل: 12/ 237، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 2.

(6) الوسائل: 12/ 237، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 653

و ربّما يقال باحتمال الخصوصية في الشطرنج و انّ حرمته مطلقاً لا تدلّ على الحرمة في غيره.

و رواية معمر بن خلاد، عن أَبي الحسن (عليه السلام) قال: «النرد و الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة، و كلُّ ما قومر عليه فهو ميسر». ( «1»)

8. رواية الحسين بن عمر بن يزيد، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «يغفر اللّه في شهر رمضان إلا لثلاثة: صاحب مسكر، أو صاحب شاهين، أو مشاحن». ( «2») و يفسّر الشاهين بالشطرنج.

و رواية مسعدة بن زياد، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن الشطرنج، فقال: «دعوا المجوسية لأهلها لعنها اللّه». ( «3»)

و هذه الإطلاقات تفيد حرمة اللعب بالآلات المعدّة للقمار مطلقاً.

نعم، استفادة الحرمة فيما تعارف قمار الناس عليه و لكن لم تكن معدّة إذا لم يكن هناك عوض كما هو المفروض في اللعب بالجوز و البيض، غير

تام.

المسألة الثالثة: المراهنة على اللعب بغير الآلات المعدّة للقمار
اشارة

و يقع الكلام في مواضع:

الأوّل: هل هو قمار أو لا؟

الثاني: هل هو حرام تكليفاً أو لا؟

الثالث: هل العوض حرام وضعاً أو لا؟

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 12/ 238، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

(3) نفس المصدر: الحديث: 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 654

المقام الأوّل: هل هو قمار أو لا؟

قد عرفت حقيقة الحال في صدر البحث، و نزيد هنا:

قال في «مجمع البحرين»: و ربّما أُطلق على اللعب بالخاتم و الجوز.

و قال في «مفتاح الكرامة»: إنّ ما اعتيدت به المقامرة و المغالبة حتى صار من الملاهي فحرام صنعه و نفعه حتى لعب الصبيان، و ما لم يعتد كذلك بحيث لا يدخل في الملاهي فحرام نفعه دون فعله، كما هو الشأن في اللعب و اللهو، فإنّ تحريمهما إنّما هو في اللعب المعروف المعتاد، و الملاهي التي كذلك دون ما كان خاصاً غير مشهور و لا معتاد كالمداعبات بالأبدان كما ربّما يقع من بعض أَهل الديانات، لأنّ الإطلاق انّما ينصرف إلى الفرد الشائع، و اللهو و الآلة انّما تنصرف إلى ما شاع منهما. ( «1»)

و على أَي تقدير: فالكلام كلّ الكلام في اعتبار الآلة المعدّة في صدق القمار و عدمه، فقد استدلّ على عدم اعتبار الآلة بروايتين:

إحداهما: رواية إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): الصبيان يلعبون بالجوز و البيض و يقامرون، فقال: «لا تأكل منه فإنّه حرام». ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ صدق الفعل- أعني: يتقامرون- غير ملازم لصدق المصدر أَي القمار، لاحتمال أنّ القمار بمفرده عبارة عن الرهان بالآلة المعدّة لا المتعارفة، و لكنّه لا يخلو من تأمل، إذ لم يشاهد التفريق بين المصدر و مشتقه،

فيصدق عليه دون المصدر.

الثانية: رواية العلاء بن سيابة، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول:

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 56.

(2) الوسائل: 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 655

«لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام، و لا بأس بشهادة المراهن عليه، فانّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قد أجرى الخيل و سابق و كان يقول: إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخف و الحافر و الريش، و ما سوى ذلك فهو قمار حرام». ( «1»)

و قوله: (صلى الله عليه و آله و سلم) «و ما سوى ذلك فهو قمار» يعمّ المعدّة و غير المعدّة.

و لكن يمكن أن يقال بشمول الرواية للمتعارف من الآلة و إنْ لم يكن معدّاً له كالبيض و الجوز، و عدم شمولها لغير المتعارف. و الخف و الحافر و الريش و إنْ لم يكن معدّاً للمقامرة لكنه كانت المقامرة بها متعارفة، و على هذا فلا يعتبر في صدق القمار كون الآلة معدّة له، نعم يعتبر كونها ممّا يتعارف القمار بها.

و بذلك يمكن توجيه رواية إسحاق بن عمار، فإنّ غاية ما في الباب شمولها للآلة المتعارفة لا غير المتعارفة، كالتجاوز عن الماء، و البقاء تحته لمدّة طويلة.

المقام الثاني: في حكمه من الحرمة و الجواز

إنّما الكلام في المقام الثاني و هو حكمه من حيث الحرمة و الجواز، قال في «مفتاح الكرامة»: إنّ ما اعتيدت به المقامرة و المغالبة حتى صار من الملاهي فحرام صنعه و نفعه حتى لعب الصبيان، و ما لم يعتد كذلك بحيث لا يدخل في الملاهي فحرام نفعه دون فعله كما هو الشأن في اللعب و اللهو. ( «2»)

فقد استدلّ على الحرمة بوجوه:

الأوّل: الإجماع،

و لكن لا اعتبار به لاحتمال كون سند المجمعين الدلائل الآتية.

______________________________

(1) الوسائل: 13/ 349، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث: 3.

(2) مفتاح الكرامة: 4/ 56.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 656

الثاني: صدق القمار، و قد عرفت أنّ القدر المتيقّن هو أن تكون الآلة متعارفة، سواء أ كانت معدّة أملا.

الثالث: الروايات الدالة على عدم السبق في غير الثلاثة المنصوصة، مثل رواية ابن أَبي عمير، عن حفص، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا سبق إلا في خُفّ أو حافر أَو نصل، يعني النضال». ( «1»)

و رواية الوشاء، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «لا سبق إلا في خف أَو حافر أَو نصل، يعني النضال». ( «2»)

و رواية «قرب الاسناد»، عن جعفر، عن أَبيه (عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لا سبق إلا في حافر أَو نصل أَو خف». ( «3»)

يلاحظ عليه: أنّ هذه الروايات مع تضافرها لفظاً و لبّاً تحتمل الوجهين: الحرمة التكليفية، و الحرمة الوضعية، حيث إنّ «سبق» يمكن أن يكون بسكون الباء، كما يحتمل أن يكون بفتحها، فعلى الأوّل فالروايات ناظرة إلى الحرمة التكليفية، و على الثاني ناظرة إلى الحرمة الوضعية، للفرق الواضح بين «سبق» بسكون الباء و «سبق» بفتحها لغة.

الرابع: الاستدلال بما ورد من لعن الملائكة و عدم حضورها في غير الثلاثة مثل: رواية أَبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ليس شي ء تحضره الملائكة إلا الرهان و ملاعبة الرجل أَهله». ( «4»)

و مثل رواية الصدوق قال: قال الصادق (عليه السلام): «إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان، و تلعن صاحبه ما خلا الحافر و الخف و الريش و

النصل». ( «5»)

______________________________

(1) الوسائل: 13/ 348 و 349، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث: 1 و 2 و 4.

(2) الوسائل: 13/ 348 و 349، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث: 1 و 2 و 4.

(3) الوسائل: 13/ 348 و 349، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث: 1 و 2 و 4.

(4) الوسائل: 13/ 347، الباب 2 من أبواب السبق و الرماية، الحديث: 1.

(5) الوسائل: 13/ 347، الباب 1 من أبواب السبق و الرماية، الحديث: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 657

يلاحظ عليه:- مضافاً إلى أنّ عدم حضور الملائكة أَعم من الحرمة- أنّ المتيقّن من هذه الروايات هو ما إذا كانت الآلات متعارفة كالبيض و الجوز، لا ما إذا كانت غير متعارفة كالمسابقة بالخط و الكتابة.

الخامس: إطلاق رواية العياشي، عن ياسر الخادم، عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الميسر؟ قال: «الثفل من كل شي ء قال: و الثفل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم». ( «1») فإنّ إطلاق قوله (عليه السلام): «و الثفل» يشمل مطلق العوض، سواء أ كانت الآلة معدّة أم لا.

يلاحظ عليه: أنّه منصرف إلى المتعارف و إنْ لم تكن معدّة، أضف إليه أنّها بصدد بيان حرمة العوض و فساده، و هو لا يدل على حرمة نفس العمل الذي هو محط البحث.

السادس: رواية معمّر بن خلاد، عن أَبي الحسن (عليه السلام) قال: «النرد و الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة، و كل ما قومر عليه فهو ميسر». ( «2»)

و الظاهر أنّ الرواية ناظرة إلى الحرمة الوضعية من تعميم الميسر على كلِّ ما قومر عليه، و الشاهد عليه هو كلمة «عليه» فهي ظاهرة في العوض، كما أنّ المشتمل

على كلمة «به» في رواية جابر عن أَبي جعفر (عليه السلام): عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «كل ما تقومر به حتى الكعاب و الجوز» ( «3») ظاهر في الآلة.

السابع: رواية إسحاق بن عمار قال: قلت لأَبي عبد اللّه (عليه السلام): و الصبيان يلعبون بالجوز و البيض و يقامرون، فقال: «لا تأكل منه فانّه حرام». ( «4») غير أنّ

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 243، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 9.

(2) الوسائل: 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(3) الوسائل: 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4.

(4) الوسائل: 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 658

القدر المتيقّن منه هو الحرمة في الآلة المتعارفة، لا التعميم حتى يشمل مثل رفع الحجر الثقيل و مثله.

و الظاهر ثبوت الحرمة إذا كان بالآلة، أَعم من أن تكون الآلة معدّة للمقامرة أو لا، و أمّا إذا لم يكن معها، فالظاهر عدم حرمته مع عدم الرهان، للأصل، و انصراف أَدلة المقام إلى غيره، و السيرة القطعية من الناس و العلماء على المصارعة بالأبدان و غيرها، و قد روى مغالبة الحسن و الحسين (عليهما السلام) بمحضر من النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)، بل و مع الرهان أَيضاً و إنْ حرم هو- لأنّه أَكل مال بالباطل- دونه، لما عرفت ممّا لا معارض له، و دعوى أَنّه من اللعب و اللهو المشغول عنهما المؤمن يدفعه منع كونه من اللعب المحرّم، إذ لا عموم، بل و لا إطلاق على وجه يصلح لشمول ذلك و نحوه، خصوصاً بعد ملاحظة ما

عرفته من السيرة المستقيمة، بل لعلّه مندرج فيما دلّ على ملاعبة المؤمنين و مزاحهم. ( «1»)

و ربّما يستدلّ على الجواز برواية محمد بن قيس، عن أَبي جعفر (عليه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أكل و أصحاب له شاة، فقال: إنْ أكلتموها فهي لكم، و إنْ لم تأكلوها فعليكم كذا و كذا، فقضى فيه: إنّ ذلك باطل، لا شي ء في المؤاكلة من الطعام ما قلّ منه و ما كثر» ( «2»)، حيث إنّ الإمام (عليه السلام) منع عن الغرامة فيه لبطلان المعاملة و لم يردع عن نفس العمل و اكتفى ببيان عدم ترتب الأثر.

و أجاب عنه الشيخ الأعظم (قدس سره): انّ عدم ردع الإمام (عليه السلام) وارد على القول بالبطلان و عدم التحريم، لأنّ التصرّف- أي الأكل- في هذا المال مع فساد

______________________________

(1) الجواهر: 22/ 109- 110.

(2) الوسائل: 16/ 114، الباب 5 من أبواب كتاب الجعالة، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 659

المعاملة حرام أيضاً.

توضيح ذلك: إنّ هناك أُموراً ثلاثة:

1. الفساد الوضعي و عدم ترتّب الأَثر على نفس المعاملة.

2. جواز نفس المراهنة من حيث الحرمة التكليفية.

3. حرمة التصرّف في نفس العين المرهونة مع فساد المعاملة، فكما أنّ سكوت الإمام (عليه السلام) من الجهة الثالثة ليس دليلًا على جوازها من هذه الجهة، فكذا سكوته من الجهة الثانية.

و حاصل الكلام: أنّ الإمام (عليه السلام) في مقام البيان من جهة خاصّة و هي عدم توجه تكليف عليه بعد العمل، لا من جميع الجهات.

و لأجل ذلك لم يذكر كيفية الدعوى و المدّعي و المدّعى عليه، و لعلّ أمير المؤمنين (عليه السلام) نهى عن العمل و لم يكن أبو جعفر (عليه السلام) بصدد نقله، مع

أنّ الواقعة كانت قضية خارجية لم يعلم عامّة خصوصياتها.

ثمّ إنّه ربّما يتصوّر أنّ نفي الغرامة على الأكل على خلاف القاعدة، لأنّ المعاقدة إن كانت فاسدة كان الأكل موجباً للغرامة، لأنّه كالمقبوض بالبيع الفاسد، و ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، و تصوّر أنّ الإباحة المالكية رافعة للضمان مدفوع بأنّها انّما تدفع الضمان إذا كانت مطلقة غير مبنية على فرض صحة المعاملة.

و أجاب عنه سيدنا الأُستاذ- دام ظله-: بأنّه يحتمل أن يكون المدّعي في الواقعة صاحب الشاة مع إظهار أصحابه العجز عن الأكل بعد تمامية المشارطة و قبل التصرّف في الشاة، فلم يكن هناك تصرّف حتى يغرمه المتصرّف و انّما رفع صاحب الشاة المرافعة إلى الإمام (عليه السلام) بتوهّم صحة المعاقدة فمنع

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 660

أمير المؤمنين (عليه السلام) الغرامة. ( «1»)

و الأولى أن يقال: إنّ الرواية ليست في مقام بيان جميع الجهات.

المقام الثالث: الحرمة الوضعية

و المراد بها هو بطلان المعاهدة و عدم خروج الرهان عن ملك مالكه و عدم دخوله في ملك الغالب، و هذا هو القدر المتيقّن من الروايات، و يكفي في ذلك رواية ياسر الخادم عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الميسر؟ قال: «الثفل من كل شي ء قال: الخبز و الثفل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم و غيره». ( «2»)

و مصحّح معمر، عن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إنّ الشطرنج و النرد و أربعة عشر و كل ما قومر عليه منها فهو ميسر». ( «3»)

ثمّ إنّه يترتّب على الفساد الوضعي ما يترتّب على المقبوض بالعقد الفاسد إذا كان ممّا يضمن بصحيحه فيجب ردّه على مالكه مع بقائه، و لو تلف يضمن بدله مثلًا أو قيمة.

ثمّ إنّ من الواضح أنّ

الهدف من قي ء الإمام (عليه السلام) في رواية عبد الحميد ابن سعيد- قال: بعث أبو الحسن (عليه السلام) غلاماً يشتري له بيضاً، فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها، فلمّا أَتى به أكله، فقال له مولى له: إنّ فيه من القمار، قال: «فدعا بطشت فتقيّأ فقاءه» ( «4»)- ليس هو ردّه على مالكه لأنّه كالتالف، و من المحتمل جداً أنّ البيض كان ملكاً لنفس الإمام (عليه السلام) لكن الغلام

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 2/ 22.

(2) الوسائل: 12/ 119 و 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12 و 2.

(3) الوسائل: 12/ 119 و 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12 و 2.

(4) نفس المصدر: الحديث 11، و كذا الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، ص 242، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 661

لما قامر به كره أنْ يكون ما قومر به- لا ما قومر عليه- جزءاً لبدنه الشريف، و يحتمل- بعيداً- أن يكون البيض المأكول ممّا قومر عليه. و أمّا عدم اطّلاعه (عليه السلام) على الموضوعات، فلوجوه مذكورة في علم الإمام (عليه السلام) و ليس هنا مقام بيانها.

المسألة الرابعة: المسابقة بغير رهان

يقع الكلام في المسابقة بغير رهان في غير ما نصّ الجواز به

قال العلّامة (قدس سره) في «التذكرة»: و لا تجوز المسابقة على المصارعة لا بعوض و لا بغير عوض عند علمائنا أجمع، لعموم نهيه (عليه السلام) عن السبق إلا في ثلاثة: الخف و الحافر و النصل، و لأنّه ليس بآلة للحرب. ( «1»)

و استدلّ على الحرمة بوجوه:

الأوّل: الإجماع الذي ادّعاه الشيخ نقلًا عن «التذكرة»، و لكنّه موهون لظهور أنّ مستند إجماعه هو ما ذكره من حديث نفي السبق في

غير الثلاثة.

الثاني: صدق القمار عليه، تمسّكاً بقوله عن العلاء بن سيابة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام، و لا بأس بشهادة المراهن عليه، فانّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قد أَجرى الخيل و سابق، و كان يقول إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخف و الحافر و الريش و ما سوى ذلك فهو قمار حرام». ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ صدق القمار فيما إذا كان هناك رهان مع عدم كون اللعب بالآلة المتعارفة مورد تأمّل جداً، فكيف بما إذا لم تكن هناك آلة؟

______________________________

(1) التذكرة: 2/ 354، الطبعة الحجرية، كتاب السبق و الرماية.

(2) الوسائل: 13/ 349، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 662

الثالث: التعليل الوارد في حرمة اللعب بالشطرنج بأنّه لهو، مثل رواية عبد الواحد بن المختار قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن اللعب بالشطرنج فقال: «إنّ المؤمن لمشغول عن اللعب». ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ القول بحرمة اللهو مطلقاً غير ثابت، و إلا يلزم حرمة كثير من الأُمور، أضف إلى ذلك أنّ كثيراً من المسابقات و الألعاب الرياضية يترتب عليها فوائد عسكرية و أدبية و علمية و جسمانية، كما في مسابقات الزوارق البحرية و الشراعية و كرة القدم و السباحة و الرماية و المصارعة بالأبدان يترتب عليها فوائد لا تخفى، فالقول بتحريمها مع كونها من التنزّهات السالمة يحتاج إلى دليل، و ليس كل لعب من هذا القسم كمعرفة ما في اليد من الزوج و الفرد و غيره.

ثمّ إنّ الصدوق (قدس سره) روى في «المقنع»: «و لا تلعب بالصوالج فإنّ الشيطان يركض معك و الملائكة

تنفر عنك». ( «2»)

و الظاهر عدم ارتباطه بالمقام، لأنّ المراد من الصوالج: العصا المعوجة مع الدابة، و هي كانت آلة قمار في ذلك العصر.

بقي هنا بحثان:

الأوّل: انّ الرهان المأخوذ بعنوان القمار حرام لا يجوز التصرّف فيه، و ليس التصرّف فيه كالتصرّف في مال الغير، بل الحرمة فيه آكد و أشد، و ذلك كثمن البغي و الخمر، و إلى ذلك تشير رواية معمر بن خلاد، عن أَبي الحسن (عليه السلام)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 239، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11. و لاحظ 13 و 3 من هذا الباب.

(2) المقنع: 154.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 663

قال: «النرد و الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة، و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر». ( «1»)

حيث أطلق الميسر على الرهان مشعراً بأنّ التصرّف فيه ليس بعنوان أنّه تصرّف في مال الغير، بل تصرّف فيما اكتسبه من طريق القمار.

ثمّ إنّ هذه الرواية التي نقلها صاحب الوسائل عن معمر هي التي نقلها عن «تفسير العياشي»، عن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إنّ الشطرنج و النرد و أربعة عشر و كل ما قومر عليه منها فهو ميسر». ( «2»)؛ و ليستا بروايتين كما تصوّره السيّد الأُستاذ- دام ظله-.

و لا يؤثر في ذلك جعل كل ما قومر عليه ميسراً حقيقة أو ادّعاءً، إذ على كل تقدير فالهدف تسرية حرمة الميسر إلى كل ما قومر عليه، كما أنّ الحرمة باقية و إنْ رضي صاحبه بعنوان القمار، كما أنّه لا يجوز لصاحبه التصرّف فيه مع بقائه في ملكه إذا غلبه في الدور الثاني من المقامرة، حيث إنّه يأخذه منه بعنوان القمار لا بما أنّه ملكه.

نعم، لو أخذ ماله بعنوان أنّ القمار

ليس سبباً شرعياً، يجوز التصرّف فيه.

الثاني: إنّ القمار من المعاصي الكبيرة قطعاً، لقوله سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا) ( «3») فانّ المراد من النفع هو النفع المالي، و هو أَيضاً كبير في حدّ نفسه

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11.

(3) البقرة: 219.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 664

لمن اتخذ بيع الخمر محطة لنفسه، فالآية تشير إلى أن الإثم الأُخروي و العقاب المؤلم أكبر من الدراهم التي يملكها البائع ببيع ذلك السم المهلك.

و يدلّ على ذلك أيضاً قوله سبحانه: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ ...) حيث جعلا الميسر قريناً للأوثان و نهى عن المجموع بنحو واحد، و هذا الطريق هو الذي أشار إليه أبو جعفر الثاني (عليه السلام) في رواية عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني حيث قال: «و شرب الخمر، لأنّ اللّه عز و جل نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان». ( «1»)

و أمّا الروايات فمثل رواية «عيون الأخبار»، عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون ( «2») حيث عدّ الميسر و القمار فيها من الكبائر.

و يدلّ عليه أَيضاً ما رواه محمد بن إدريس، عن البزنطي، عن أَبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، حيث قال: «بيع الشطرنج حرام، و أكل ثمنه سحت، و اتّخاذها كفر، و اللعب بها شرك، و السلام على اللاهي بها معصية و كبيرة موبقة ...». ( «3»)

و الروايات الدالّة على أنّها من الكبائر أَزيد من هذا، و فيما ذكرنا كفاية.

______________________________

(1) الوسائل:

11/ 252، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 2 و 260، الحديث 33 و انظر الحديث 36 من هذا الباب.

(2) الوسائل: 11/ 252، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 2 و 260، الحديث 33 و انظر الحديث 36 من هذا الباب.

(3) الوسائل: 12/ 241، الباب 103 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 665

17 القيادة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): و هي السعي بين الشخصين لجمعهما على الوطء المحرّم.

لم يعلم سبب تخصيص القيادة بالذكر، لأنّه لو كان المناط هو التكسّب فالزنا و اللواط و غيرهما أيضاً ممّا يجري عليهما التكسّب، فالأولى ذكر الجميع.

و على الجملة فالقيادة: هي الجمع بين الرجال و النساء للزنا، أو بين الرجال و الرجال و لو صبياناً للّواط، و نقل عن «الغنية» إلحاق الجمع بين النساء و النساء للسحق و لم يعلم مدركه.

و حرمتها من الضروريات. قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «و مَن قاد بين امرأة و رجل حراماً حرم اللّه عليه الجنة و مأواه جهنم و ساءت مصيراً، و لم يزل في سخط اللّه حتى يموت». ( «1»)

و تثبت بالإقرار مرّتين مع شرائطه الخاصّة، و بشهادة شاهدين عدلين، و يجب عليه عند الثبوت خمس و سبعون جلدة ثلاثة أرباع حد الزاني، رجلًا كان أم امرأة، و ينفى من المصر الذي هو فيه، اتّفاقاً.

و للقيادة أحكام مذكورة في كتاب الحدود، فراجع.

______________________________

(1) الوسائل: 14/ 266، الباب 27 من أبواب النكاح المحرّم، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 666

18 القيافة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): القيافة حرام.

القائف: الذي يتبع الآثار و يعرفها و يعرف شبه الرجل بأخيه و ابنه، و يقال: قاف، يقوف الأَثر و يقافه قيافةً: يتبعه، فالقيافة مصدر بمعنى تتبع الآثار لغاية من الغايات أمّا لعرفان محل الرجل و مكانه، كما توصّلت قريش عند خروج النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) من مكّة إلى غار ثور بالقائف حيث تتبع أثر قدم النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) من حيث خرج و إلى أين انتهى، و وصل

باب الغار، غير أنّ الغار كان عليها نسج العنكبوت فآيس من وجوده (صلى الله عليه و آله و سلم) داخل الغار. و ربما تكون الغاية إلحاق الرجل بأخيه و ابنه.

و أمّا العرّاف و هو كثير العرفان، و يطلق على الطبيب و الكاهن و المنجّم و من يدّعي علم الغيب، و في الحديث بهذا المضمون: «من أَتى عرّافاً أو كاهناً فقد برئ ممّا أنزل اللّه عزّ و جل على محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «1») و إطلاق «العرّاف» على القائف من هذا الباب، و على كل تقدير فالمعروف بين الأصحاب حرمتها.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 108، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 667

قال الشيخ (قدس سره) في «النهاية»: و كذلك التكسّب بالكهانة و القيافة و الشعبذة و غير ذلك محرّم محظور. ( «1»)

و قال العلّامة (قدس سره) في «المنتهى»: يحرم تعلّم السحر و الشعبذة و الكهانة و القيافة و أخذ الأُجرة عليه و تعليمه. ( «2»)

و قال في «التذكرة»: و القيافة حرام عندنا. ( «3»)

و قال المحقّق الكركي (قدس سره) في «جامع المقاصد»: و القيافة حرام، و هي إلحاق الأنساب بالأنساب بما يزعم أنّه يعلمه من العلامات، أَو إلحاق الآثار إذا رتّب عليه محرّماً، أو جزم بنسبة من زعم علمه بكونه أَثره. ( «4»)

و قال النراقي في «المستند»: و منها القيافة، قالوا: هي الاستناد إلى علامات و أمارات يترتّب عليها إلحاق نسب و نحوه ... لا أعلم خلافاً بينهم في تحريم القيافة. ( «5»)

و قال في المغني: و لا يقبل قول القائف إلا أن يكون ذكراً، عدلًا، مجرّباً في الإصابة حرّاً، لأنّ قوله حكم. (

«6»)

و على كل تقدير فالأصحاب بين مطلق للتحريم، و بين مقيّد له إذا رتّب عليه محرّم، كأن يلحق الإنسان المحكوم شرعاً بكونه ولد فلان بشخص آخر، و أمّا إذا لم يترتّب عليه حرام كما إذا ألحق الولد بأبيه الشرعي فلا.

و أمّا تحريم الجزم فلا يرجع إلى شي ء، لأنّ حصوله أَمر قهري خارج عن

______________________________

(1) النهاية: 366.

(2) المنتهى: 2/ 1013.

(3) التذكرة: 12/ 145، المسألة 650، كتاب البيع.

(4) جامع المقاصد: 4/ 33، كتاب التجارة.

(5) المستند: 14/ 117، كتاب التجارة.

(6) المغني: 6/ 398، الطبعة الثالثة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 668

الاختيار إلا أن يرجع النهي إلى النهي عن الخوض في المبادئ.

أمّا مقتضى القواعد فهو أنّ الأثر المترتّب على ذاك العلم بين حلال و حرام، فما لا يترتب عليه شي ء من الآثار المحرّمة فلا وجه لتحريمه، كتشخيص قومية الشخص بأنّه من العرب أو العجم أو من قبيلة مضر أو ربيعة، أو إذا كان مورد عمله قضية شخصية كإلحاق الولد بأَبيه الشرعي، و أَمّا في غير ذلك فله صورتان:

1. إذا دار ولد الأَمة بين كونه للبائع أو للمشتري إذا كان قابلًا للحوق بكليهما فالرجوع إلى القائف محرّم وضعاً لا تكليفاً، إذ لا حجّية لقوله و لا أَثر لتشخيصه، بل يجب أن يرجع إلى مقتضى القواعد.

2. اذا كان حكمه على خلاف القواعد الواردة في مورد قضائه حيث قال (صلى الله عليه و آله و سلم): «الولد للفراش و للعاهر الحجر» فأراد القائف إلحاق الولد بالعاهر فهو حرام تكليفاً و وضعاً. هذا مقتضى القواعد، و أمّا النصوص فقد يستظهر منها الحرمة.

نعم، وردت الروايات في النهي عن الرجوع إليه:

1. روى شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم

السلام) في حديث المناهي: «أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن إتيان العرّاف، و قال: من أَتاه و صدّقه فقد برئ ممّا أَنزل اللّه عزّ و جل على محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «1»)

2. و روى في الجعفريات، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «من السحت ثمن الميتة، و ثمن اللقاح، و مهر البغي، و كسب الحجّام، و أجر الكاهن، و أجر القائف، و ثمن الخنزير، و أجر القاضي و ...». ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 108، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) المستدرك: 13/ 69، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 669

3. ما نقله في «مجمع البحرين»: لا أخذ بقول القائف.

4. ما رواه في «المستدرك» عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال: «من جاء عرّافاً فسأله و صدّقه بما قال فقد كفر بما أَنزل اللّه على محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)، و كان يقول إن كثيراً من الرقى و تعليق التمائم شعبة من الاشراك». ( «1»)

و دلالة هذه الروايات على الحرمة- لو صح اسنادها- منصرفة إلى ما إذا رتّب عليها الأثر المخالف لمقتضى القواعد.

و يؤيد ذلك أنّ أَبا الحسن الرضا (عليه السلام) لم يمنع أُخوته عن الرجوع إلى العرّاف عند اختلافهم معه في ابنه أَبي جعفر الجواد (عليه السلام)، فقد روى زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي قال: سمعت علي بن جعفر يحدّث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال: و اللّه لقد نصر اللّه أبا الحسن الرضا (عليه السلام)، فقال له الحسن: أي و اللّه جعلت

فداك لقد بغى عليه أُخوته، فقال علي بن جعفر: أي و اللّه و نحن عمومته بغينا عليه، فقال له الحسن: جعلت فداك كيف صنعتم فإنّي لم أَحضركم؟ قال: قال له إخوته و نحن أيضاً: ما كان فينا إمام قط حائل اللون، فقال لهم الرضا (عليه السلام): «هو ابني»، قالوا: فإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قد قضى بالقافة، فبيننا و بينك القافة، قال: «ابعثوا أنتم إليهم فأمّا أنا فلا، و لا تُعلموهم لما دعوتموهم و لتكونوا في بيوتكم».

فلمّا جاءوا أقعدونا في البستان و اصطف عمومته و أُخوته و أَخواته، و أخذوا الرضا (عليه السلام) و ألبسوه جبة صوف و قلنسوة منها و وضعوا على عنقه مسحاة، و قالوا له: ادخل البستان كأنّك تعمل فيه، ثمّ جاءوا بأبي جعفر (عليه السلام) فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا: ليس له هاهنا أب، و لكن هذا عمُّ أبيه،

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 110، الباب 23 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 670

و هذا عم أبيه، و هذا عمّه، و هذه عمّته، و ان يكن له هاهنا أب فهو صاحب البستان فإنّ قدميه و قدميه واحدة، فلمّا رجع أبوالحسن (عليه السلام) قالوا: هذا أبوه. قال علي بن جعفر: فقمت فمصصت ريق أبي جعفر (عليه السلام) ثمّ قلت له: أشهد أنّك إمامي عند اللّه. ( «1») و هذا شاهد على التفصيل المختار.

نعم، ذكر المحقّق الإيرواني: بأنّ سكوته (عليه السلام) لأجل أنّ أَمر الإمامة لما كان مهمّاً و توقّف إثباته على ذلك ساغ الرجوع إليهم. ( «2») و هو كما ترى، و الظاهر الحرمة في ما إذا ترتّب عليه أَثر محرّم.

و في

الختام: إنّ العرّاف غير العريف و النقيب، فإنّ العريف عبارة عن القيّم بأُمور القبيلة أو الجماعة.

و قال الشيخ في «المبسوط»: و يستحب للإمام أن يجعل العسكر قبائل و طوائف و حزباً حزباً، و يجعل على كل قوم عريفاً عريفاً، لقوله تعالى: (وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا) ( «3»)، و النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) عرّف عام خيبر على كل عشرة عريفاً. ( «4»)

و قال العلّامة في «التذكرة»: ينبغي للإمام أن يتّخذ الديوان الذي فيه أَسماء القبائل قبيلة قبيلة، و يكتب عطاياهم، و يجعل لكلّ قبيلة عريفاً، و يجعل لهم علامة بينهم، و يعقد لهم الولاية لأنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) عرّف عام خيبر على كلّ عشرة عريفاً. ( «5»)

______________________________

(1) أُصول الكافي: 1/ 322، الحديث 14، الإشارة و النص على أبي جعفر الثاني (عليه السلام).

(2) تعليقة المحقّق الإيرواني: 39.

(3) الحجرات: 13.

(4) المبسوط: 2/ 75.

(5) التذكرة: 1/ 437.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 671

19 الكذب

اشارة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): الكذب حرام بضرورة العقول و الأديان و يدل عليه الأدلّة الأربعة. ( «1»)

نقول: يقع الكلام في أُمور:

1. ماهيّة الكذب.

2. ما هو حكمه في الشرع؟

3. هل هو من الكبائر أو لا؟

4. ما هي مسوّغات الكذب؟

______________________________

(1) المكاسب: 50.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 672

الأمر الأوّل ماهية الكذب
اشارة

فقد عرّف صدق الخبر بمطابقته للواقع و كذب الخبر بعدمها، و هذا هو التعريف الرائج للصدق و الكذب.

و توضيحه: أنّ الكلام إمّا إنشاء أَو إخبار.

فالأوّل: عبارة عن إنشاء أَمر اعتباري قابل للإيجاد بلفظ، فهو بما أنّه إنشاء، أي إيجاد بلفظ في عالم الاعتبار لا يقبل الصدق و الكذب، إذا لا يخبر عن شي ء حتى تلاحظ المطابقة فيه و عدمها.

و أمّا الثاني: فهو ما يكون ظاهر الكلام حاكياً عن واقعية في الخارج، سواء أ كانت ممكنة أم غير ممكنة، و على ذلك يشمل الإخبار عن وجود الجواهر و الأعراض، و عن المحالات و الممتنعات، فضلًا عن المعدومات و الممكنات، فقولنا: الحجر موجود، أو البياض موجود، صادق، مثل قولنا: زيد معدوم، أو شريك البارئ ممتنع، فالكل يحكي عن واقعية غير أنّ واقعية كلِّ شي ء بحسبه. و لا يشترط في الواقعية أَن تكون أَمراً ملموساً أو أَمراً موجوداً، و الملاك انّا إذا سمعنا الكلام و نظرنا إلى ورائه نجده قولًا صادقاً.

ثمّ إنّ التفتازاني قد تصرّف في التعريف المشهور في الصدق و الكذب،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 673

بأنّ المراد من مطابقة الخبر هو مطابقة حكمه، فانّ رجوع الصدق و الكذب إلى الحكم أَوّلًا و بالذات و إلى الخبر ثانياً و بالواسطة.

و الظاهر أنّه تصرّف غير تام، و مراد المشهور هو مطابقة ظهور الكلام الحاصل له من مجموع الجملة، و

أمّا ما ذكره فلا يخلو من وجهين:

فأمّا أن يريد منه النسبة الحكمية التصوّرية، فهو لا يقبل الصدق و الكذب، لأنّ الصدق و الكذب راجعان إلى الكلام التام.

و أمّا أن يريد منه الحكم بالوقوع و اللاوقوع، ففيه: أنّ الحكم بهذا المعنى أُمر إنشائي لا يقع مقسماً للصدق و الكذب، فالأولى أن يقال: انّ ملاك الصدق و الكذب هو مطابقة ظهوره و عدمها.

ثمّ إنّه يمكن التفريق بين صدق الخبر و كون المتكلّم صادقاً، و كذلك كذب الخبر و كون المتكلّم كاذباً، فالصدق و الكذب دائران مدار مطابقة الظاهر للواقع و عدمها، فانّ للجمل بل للألفاظ المفردة دلالات على المعاني الموضوعة لها، سواء أ كان هناك متكلّم أم لا، و سواء أصدر عن متكلّم شاعر أم لا، فما عن المحقق الطوسي في «منطق التجريد» و «منطق شرح الإشارات» من أنّ دلالة اللفظ لما كانت وضعية كانت متعلّقة بإرادة المتلفّظ الجارية على قانون الوضع، فما يتلفظ له و يراد به معنى ما و يفهم عنه ذكر المعنى يقال: انّه دل على ذلك المعنى ( «1») بظاهره مخدوش، فإنّ الألفاظ انّما وضعت لمعانيها الواقعية، أي جعلت علامة لها بحيث كلّما سمعه المخاطب أو رآه، يكون دالّا و علامة لذلك المعنى، و مثل هذا لا تكون دلالة مقيدة بإرادة المتكلم.

و بذلك يصح ما قلناه من أنّ صدق الخبر و كذبه يدور مدار مطابقة الظهور

______________________________

(1) منطق الإشارات: 32، الإشارة السابعة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 674

للواقع، و مخالفته، من غير فرق بين أنْ يكون الظهور حقيقة أو مجازاً و كناية، فإذا قال: زيد جبان الكلب أو مهزول الفصيل، فصدقه سخاؤه، و كذبه إمساكه، سواء أ كان هناك كلب و فصيل

أم لا، و سواء كان كلبه جباناً أَو فصيله مهزولًا أم لا، و أمّا صدق المتكلّم فسيوافيك الملاك فيه في المستقبل.

نظرية النظّام في الصدق و الكذب

ثمّ إنّ المنقول من النظّام أنّ ملاك صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر، و لو كان ذلك الاعتقاد خطأ غير مطابق للواقع، و كذب الخبر عدم المطابقة لاعتقاد المخبر كذلك- أَي و لو كان خطأ- فقول القائل: السماء تحتنا معتقداً ذلك صدق، و قوله: السماء فوقنا معتقداً خلافه كذب، بدليل قوله تعالى: (إِذٰا جٰاءَكَ الْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ) ( «1»)، فاللّه تعالى يحكم عليهم بأنّهم كاذبون في قولهم: (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ) مع أنّه مطابق للواقع، و لو كان الصدق عبارة عن المطابقة للواقع لما صح هذا.

يلاحظ عليه: أنّ الصدق و الكذب من المفاهيم العرفية الواضحة، و هما كما عرفت عبارة عن مقايسة ظاهر الكلام و مدلوله بالخارج، فإنْ طابقا فهو صدق، و إن خالفا فكذب، و أمّا الآية فالمستدل أخطأ حيث تصوّر أنّ المراد أنّهم لكاذبون في قولهم: (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ) مع أنّهم صادقون في هذا الكلام، غير أنّ متعلّق الكذب أمر آخر و هو ادّعاء تطابق كلامهم مع قلبهم الذي يطلق عليه الشهادة فهم كاذبون في الادّعاء، إذ الشهادة لا تتحقّق إلا إذا كانت

______________________________

(1) المنافقون: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 675

الشهادة من صميم القلب و خلوص الاعتقاد.

و هناك نظر آخر نقل عن الجاحظ، و هو أنّه يشترط في صدق الخبر كلا المطابقتين: المطابقة للواقع و المطابقة للاعتقاد، و يلزم في الكذب كلا المخالفتين، و ما عدا ذلك لا صدق و لا كذب بدليل قوله: (أَفْتَرىٰ عَلَى اللّٰهِ كَذِباً

أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) ( «1»)، فالكفّار حصروا أخبار النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بالحشر و النشر في الافتراء و الإخبار حال الجُنّة، و على ذلك فالقسم الثاني- أَي الإخبار حال الجُنّة- غير الكذب، لأنّه جعل في الآية قسيمه، و غير الصدق أَيضاً لأنّهم لا يريدون أَن يصفوا كلام النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بالصدق، كيف، و هم من أَعدائه و أعداء دعوته، فليزم أنْ يكون هنا- أَي الإخبار حال الجُنّة- كلام لا صادق و لا كاذب، و إنْ كان نفس الكلام مطابقاً للواقع.

و الجواب: انّهم كانوا قاطعين بكذب كلامه (صلى الله عليه و آله و سلم) و أنّه لا مساس له بالواقع، غير أنّهم كانوا متردّدين في نفس النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و حاله، و أنّه هل يتكلّم بهذا الكلام الكاذب عن قصد أو لا؟ فعلى الأوّل فهو مفتر، و كلامه افتراء، و على الثاني فهو مجنون و كلامه يشبه كلام من به الجنون فلا يعبأ به، و أين ذلك من الدلالة على شرطية الأمرين؟! هذا حال صدق الخبر و كذبه.

الملاك في كون المتكلّم صادقاً أو كاذباً

بقي الكلام، في كون المتكلّم كاذباً أو صادقاً، فهل الملاك فيه كون ظهور كلامه مطابقاً أو مخالفاً للواقع، و على ذلك فيتحد ملاك كونه صادقاً؟ أو كاذباً مع الملاك في صدق الكلام و كذبه؟ أو أَنّ ملاكاً آخر و هو مطابقة مراده من

______________________________

(1) سبأ: 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 676

الكلام للواقع و عدم مطابقته؟

فيه وجهان و تظهر الثمرة فيما إذا ورّى، و قد ذهب أكثر الأساتذة إلى الثاني، فلو أَراد الإنسان من كلامه معنى يوافق الواقع و ألقاه إلى المخاطب ليفهم

منه غير ما أراده، كما إذا جرح حيواناً و قال: «يعلم اللّه ما جرحته» فاستعمل لفظة «ما» موصولة، و لكن فهم المخاطب كونها «نافية»، فلو قلنا إنّ الملاك في كون المتكلّم صادقاً أو كاذباً مطابقة ظهور كلامه للواقع و مخالفته معه يكون كاذباً، بخلاف ما لو قلنا بأنّ الملاك مطابقة مراده للواقع و مخالفته معه فيكون صادقاً لموافقة مراده معه.

فالظاهر هو التفريق بين صدق الكلام و كذبه، فملاك الأوّل هو ظهور الكلام، و إرادة خلاف الظاهر لا يصرفه عن ظهوره و لا يعطي له ظهوراً آخر، فيكون الكلام في المثال المذكور كذباً بلا إشكال، و أمّا كون المتكلّم صادقاً في كلامه أَو كاذباً، فالظاهر أنّ اتّصافه بالصدق و الكذب دائر مدار كون ما أراده مطابقاً للواقع أو لا، فإن كان ما أراده من الكلام مطابقاً للواقع فهو صادق و إنْ كان مخالفاً للواقع فهو كاذب.

و لأجل ذلك إذا وقف المخاطب على توريته و أنّه أراد بكلامه خلاف ظاهره لما وصفه بكونه كاذباً، بل وصفه بكونه مورّياً.

و في بعض الروايات ما يدلّ على أنّ التورية ليس بكذب:

1. ما رواه محمد بن إدريس، عن كتاب عبد اللّه بن بكير، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) في الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية: قولي: ليس هو هاهنا، قال: «لا بأس. ليس بكذب». ( «1»)

2. رواية سويد بن حنظلة قال: خرجنا و معنا وائل بن حجر نريد النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 580، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 677

فأخذه أَعداء له و تحرّج القوم أن يحلفوا فحلفت باللّه أنّه أَخي فخلّى عنه العدو، فذكرت ذلك للنبيّ

(صلى الله عليه و آله و سلم) فقال: «صدقت، المسلم أخو المسلم»، النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) أجاز ما فعل سويد و بيّن له صواب قوله فيما احتال به ليكون صادقاً في يمينه، فدلّ على ما قلناه. ( «1»)

غير أنّ الظاهر من بعض الروايات أنّ كلام إبراهيم (عليه السلام) لم يكن مبنياً على التورية، بل كذِب لأجل الإصلاح، مثل رواية الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّا قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف (عليه السلام): (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ) ( «2») فقال: «و اللّه ما سرقوا و ما كذب». و قول إبراهيم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ) ( «3») فقال: «و اللّه ما فعلوا، و ما كذب». فقال أَبو عبد اللّه (عليه السلام): «ما عندكم فيها يا صيقل؟» قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم، قال، فقال: «إنّ اللّه أَحب اثنين و أبغض اثنين: أحب الخطر فيما بين الصفين، و أحب الكذب في الإصلاح؛ و أبغض الخطر في الطرقات، و أبغض الكذب في غير الإصلاح، إنّ إبراهيم (عليه السلام) انّما قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا) إرادة الإصلاح، و دلالة على أنّهم لا يفعلون، و قال يوسف (عليه السلام) إرادة الإصلاح». ( «4»)

و رواية معمر بن عمرو، عن عطاء، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): لا كذب على مصلح ثمّ تلا: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ) ثمّ قال: و اللّه ما سرقوا و ما كذب، ثمّ تلا: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ)، ثمّ قال: و اللّه ما فعلوه و ما كذب.

( «5») و قوله: «و ما كذب» نفي

______________________________

(1) الخلاف: 2/ 459، المسألة 60، كتاب الطلاق، سنن أبي داود: 3/ 224، ح 3256.

(2) يوسف: 70.

(3) الأنبياء: 63.

(4) الوسائل: 8/ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 4 و 7.

(5) الوسائل: 8/ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 4 و 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 678

الموضوع لأجل نفي الحكم، لأنّه لما لم يكن الكذب عليه حراماً فكأنّه لم يكذب.

ثمّ إنّ المروي في كتب العامة أنّ إبراهيم (عليه السلام) كذب ثلاث كذبات، حيث روي في الصحاح و السنن من طرق عن أبي هريرة، أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة و السلام غير ثلات كذبات: ثنتين في ذات اللّه تعالى: قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ)، و قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا) و قوله في سارة: (هي أُختي).

و العجب أنّ ابن كثير صار بصدد تصحيح الرواية، و قال: ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا و كلا و لما، و انّما أطلق الكذب على هذا تجوّزاً، و انّما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: «إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب». ( «1»)

و نحن لا نعلّق على الحديث و لا على التوجيه الذي ارتكبه ابن كثير بشي ء، و انّما نحيل القضاء إلى وجدان القارئ الكريم، و كفى في سقم الحديث أنّه من مرويات أبي هريرة، كما كفى في كذب الحديث أنّه من الإسرائيليات الموضوعة التي وردت في التوراة المحرّفة.

و العجب أنّ رواة هذا الحديث يزرون على الشيعة في قولهم بالتقيّة بأنّه مستلزم للكذب، مع أنّ التقية ربّما تتحقّق

بالتورية التي جوّزها القرآن الكريم و الأحاديث الصحيحة.

و إذا وصل الكلام هنا، فاعلم أنّه قد نسب إلى إبراهيم (عليه السلام) أنّه كذب في موارد ثلاثة أو ورّى فيها، و الحق أنّه لم يكذب و لم يور.

______________________________

(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 4/ 13.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 679

أمّا المورد الأوّل: و هو قوله سبحانه ناقلًا عنه: (فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي) ( «1»)، و قد كرر هذه الكلمة في مواقف ثلاثة: عند رؤية الكوكب و القمر و الشمس. ( «2»)

و الجواب: انّ هذه النسبة نشأت من الغفلة عن مساق كلام إبراهيم (عليه السلام)، لأنّه كان معترفاً بربوبيته سبحانه و نافياً ربوبية غيره، و لكنّه حيث كان بصدد هداية قوم من عبدة الكواكب و الأجرام السماوية تدرّج في إبطال ربوبية معبوداتهم، الواحد بعد الآخر، كالمعلّم الذي يريد أن يهدي جماعة معاندة، فيقبل فروضهم و عقيدتهم ظاهراً، ثمّ يبطلها بأدلّة علمية، و هذه طريقة سائدة في المناظرات الكلامية و العلمية، و لا يعد المتكلّم بكلام الخصم أنّه معتقد بذلك.

و هناك جواب آخر أوضحناه في أبحاثنا التفسيرية. ( «3»)

و أمّا المورد الثاني: قوله تعالى في قصة إبراهيم (عليه السلام): (قٰالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هٰذٰا بِآلِهَتِنٰا يٰا إِبْرٰاهِيمُ* قٰالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ). ( «4»)

فربّما يقال أنّ إبراهيم (عليه السلام) كذب في قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)، لأنّ إبراهيم (عليه السلام) كسر الأصنام، فإضافة تكسيرها إلى غيره كذب.

و الجواب الرائج في الكتب التفسيرية عن هذا، إخراج الكلام عن الكذب بأنّ الجملة الشرطية- أعني قوله: (إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ)- من قيود قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) و كأنّه قال: «بل فعله كبيرهم ان

كانوا ينطقون» و حيث انتفى المقدّم

______________________________

(1) الأنعام: 76.

(2) مفاهيم القرآن: 5/ 53.

(3) راجع مفاهيم القرآن: 5/ 49.

(4) الأنبياء: 62 و 63.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 680

انتفى التالي.

غير أنّ هذا الجواب لا يلائم ظاهر الآية، لأنّ الجملة الشرطية من قيود قوله: (فَسْئَلُوهُمْ) لا الجملة المتقدّمة، و مناسبة المقام تقتضي أن يكون السؤال مشروطاً بإمكان نطقهم، و يدلّ على ذلك الفصل بين الجملتين بقوله: (هٰذٰا) و على ذلك فإرجاع الجملة الشرطية إلى قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) مخالف للظهور.

و الأولى في الجواب أن يقال: إنّ الكذب في الكلام إنّما يتحقّق إذا لم تكن هناك قرينة على أنّ المتكلّم لم يرد ما ذكره بالإرادة الجدية، و إنّما ذكره لغاية أُخرى، و عندئذ تخرج الكلام عن الكذب، و أمّا القرينة فهي أنّ من المسلّمات بين البشر- فضلًا عن إبراهيم (عليه السلام)- أنّ الجماد لا يقدر على الحركة و الفعل، و أنّه لا يمكن أنْ تقوم الأخشاب بكسر الأصنام، و انّما ذكره إبراهيم (عليه السلام) استهزاءً بهم و استنطاقاً لهم حتى يعودوا و يقولوا (لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا هٰؤُلٰاءِ يَنْطِقُونَ) ( «1»)، فيرجع إليهم ببرهان قاطع و يقول: (أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ مٰا لٰا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لٰا يَضُرُّكُمْ). ( «2»)

و أما المورد الثالث: قوله (عليه السلام) لقومه عند ما دعوه للتنزه و الخروج إلى خارج البلد، أعني: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ* فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ* فَرٰاغَ إِلىٰ آلِهَتِهِمْ فَقٰالَ أَ لٰا تَأْكُلُونَ). ( «3»)

حيث تخيل أنّ قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) كذب ارتكبه الخليل (عليه السلام)، مضافاً إلى أنّه نظر في النجوم و هو يشبه العمل الذي يفعله المنجمون.

______________________________

(1) الأنبياء: 64 و 66.

(2) الأنبياء: 64 و 66.

(3)

الصافات: 87- 91.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 681

و الجواب: انّه لا دليل على أنّه لم يكن في ذلك اليوم سقيماً، و لعلّ سقمه كان سبباً لبقائه في البلد، و تعلّقت مشيئته سبحانه بسقمه حتى لا يطلبوا منه التنزّه و يرفعوا اليد عنه بظهور علاماته و أماراته؛ و أمّا النظر في النجوم فيمكن أنْ يكون ذلك كناية عن النظر إلى السماء، خصوصاً إذا فرضنا أنّ مذاكرته مع قومه كانت في النهار و ليس فيه أيُّ نجم ظاهر، فكأنّه نظر في السماء متفكّراً في جوابه كما يفعل أحدنا عند ما يريد أنّ يفكر في شي ء.

نعم، ورد في بعض الروايات أنّ مراده (عليه السلام) من قوله: (سَقِيمٌ) انّه مرتاد و طالب للحقيقة.

و أمّا قوله تعالى عن لسان يوسف (عليه السلام): (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ) ( «1»)، فهو كلام صادر عن المأمورين لا عن نفس يوسف، و لا يؤخذ يوسف بكلام مأموره، و لعلّهم لمّا فقدوا صواع الملك تيقّنوا أنّ الإخوة سرقوه فاتّهموهم بالسرقة، و لم يقفوا على العمل السري الذي قام به يوسف أو بعض خواصّه من جعل صواع الملك في رحل أخيه، و بذلك يظهر حال بعض ما تقدم ( «2») من الروايات من انّ إبراهيم كذب لأجل الاصلاح.

هل المبالغة كذب؟!

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): لا ينبغي الإشكال في أنّ المبالغة في الادّعاء و إن بلغت ما بلغت ليست من الكذب، و ربّما يدخل فيه إذا كانت في غير محلّها، كما لو مدح إنساناً قبيح المنظر و شبّه وجهه بالقمر.

يلاحظ عليه: إذا كان ملاك الكذب و الصدق هو مطابقة ظاهر الكلام للواقع و عدمها، فالمبالغة تكون على قسمين: قسم منها صادق، و قسم منها

______________________________

(1) يوسف:

70.

(2) لاحظ ص 677.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 682

كاذب؛ فلو مدح رجلًا بالسخاء و قال: فلان مهزول الفصيل أو جبان الكلب، فلو كان سخيّاً فالكلام صادق، و إلا فكاذب.

نعم، لو كان الملاك موجوداً و لكنّه بالغ في بيان ذلك الملاك، فلو كانت هناك قرينة على المبالغة كما في قوله:

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية*** لو لا رجاؤك قد قتّلت أولادي

- إذ من المعلوم أنّه لا يريد بكلامه ظاهر معناه، و أنّ الإنسان إذا صعب عليه أمر الحياة لا يقدم على قتل الأولاد- فلا تكون كذباً، و أمّا إذا لم تكن هناك قرينة فبيان الملاك على وجه المبالغة من غير قرينة، إغواء و إضلال و إراءة الشي ء على خلاف واقعة.

نعم، ربّما تكون القرينة موجودة دائماً، كما في التعبير بالسبع و سبعين، و الألف، عند القيام بالعمل مكرراً.

في جواز التورية اختياراً

ثمّ إنّه على القول بكون التورية ليست كذباً- كما ذهب إليه بعض- فهل تجوز اختياراً أو لا؟

الظاهر هو الثاني لما نقله الشيخ الأعظم (قدس سره) عن بعض الأساطين في غير مورد التورية حيث قال: إنّ الكذب و إنْ كان من صفات الخبر إلا أنّ حكمه يجري في الإنشاء المنبئ عنه كمدح المذموم و ذم الممدوح، و تمنّي المكاره و ترجّي غير المتوقع، و إيجاب غير الموجب، و ندب غير النادب، و وعد غير العازم. ( «1»)

فانّ العرف لا يفرّق في التقبيح بين الكذب و الصدق الذي يفيد فائدة

______________________________

(1) المكاسب: 50.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 683

الكذب، إذ ليس القبح من خصوصيات ألفاظ و هيئة خاصّة، و انّما هو بالمناط الذي هو موجود في التورية و أمثالها و هو إلقاؤه في المفسدة أو إراءة خلاف الواقع

و الإغراء بالجهل.

أدلّة القائلين بالجواز في حال الاختيار

و قد استدلّ على جواز التورية اختياراً بوجهين:

الأوّل: ما رواه ابن إدريس في «مستطرفات السرائر» من كتاب عبد اللّه بن بكير بن أعين، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية: قولي ليس هو هاهنا قال: «لا بأس، ليس بكذب». ( «1»)

غير أنّ مقتضى الجمع بينه و بين ما دلّ على الحرمة هو حمل الخبر على الاضطرار بحيث كان في قبول الضيف محذور عند السيد، فتوصّل إلى التورية بلسان أَمته.

الثاني: ما رواه عبد الأعلى مولى آل سام قال: حدّثني أبو عبد اللّه (عليه السلام) بحديث فقلت له: جعلت فداك، أ ليس زعمت إلي الساعة كذا و كذا؟ فقال: «لا»، فعظم ذلك عليّ، فقلت: بلى و اللّه زعمت. قال: «لا و اللّه ما زعمت». قال: فعظم ذلك عليّ، فقلت: بلى و اللّه قد قلته. قال: «نعم قد قلته، أما علمت أنّ كل زعم في القرآن كذب». ( «2») فقد ادّعي أنّه ظاهر الدلالة على جواز التورية مطلقاً، فان دفع عبد الأعلى عن إطلاق كلمة «زعمت» التي بمعنى قلت و تستعمل في حق و باطل ليس من الإصلاح الذي يجوز فيه الكذب أو ما

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 580، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 8.

(2) الوسائل: 8/ 581، الباب 142 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 684

بحكمه و لهذا لا يجوز الكذب في نظيره.

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر عدم صلة الحديث بالمقام فإنّ الزعم في مصطلح العراقيين بمعنى القول الأعم من الحق و الباطل، و في مصطلح الحجازيين هو القول الباطل، و لأجل ذلك نرى أنّ زرارة يستعمل كلمة «زعم» في حق الإمام الصادق

(عليه السلام) و يقول في حديث: فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم). ( «1»)

فانّ السامع في بادئ الأمر يحمل كلام زرارة على الوجه غير الصحيح و أنّه كان جسارة منه على الإمام (عليه السلام) و لكنّه غفلة عن مصطلح البلدين.

فعند ذلك الإمام (عليه السلام) يتكلّم بمصطلحه و له ظاهر مطابق للواقع، و المخاطب يحمله حسب اصطلاحه على خلاف الواقع، و ليس هنا أي تبعة على المتكلّم، و انّما القصور في المخاطب لجهله بالاصطلاحين فلا يعد مثل ذلك تورية أو ما بحكمها. ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 250، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي، الحديث: 1.

(2) فقد روي أنّ الحسين (عليه السلام) و أصحابه لما تقابلوا في حر الظهيرة مع عسكر الحر، فقال علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلمّا رأى الحسين (عليه السلام) ما بي و بفرسي من العطش قال: انخ الراوية، و الراوية عندي السقاء، ثمّ قال (عليه السلام): يا بن أخي انخ الجمل، فأنخته، قال: اشرب فجعلت كلّما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين (عليه السلام): اخنث السقاء، أي اعطفه، فلم أدر كيف أفعل، فقام فخنثه، فشربت و سقيت فرسي ... الخبر. فالراوية في مصطلح الإمام (عليه السلام) هو الجمل، و عند السامع الذي كان عراقياً هو السقاء (القربة) فلمّا لم يفهم السامع مصطلح الإمام (عليه السلام)، عاد الإمام و تكلّم بمصطلح المخاطب فقال: انخ الجمل. نفس المهموم: 99.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 685

هل خلف الوعد كذب أو لا؟

إنّ الإنسان إذا وعد الغير بإنجاز عمل فهناك أُمور ثلاثة:

1. الكلام الذي يُنشئ به الوعد.

2. حكاية انشائه عن وجود العزم

على الأمر الموعود به.

3. العمل الذي يتحقق به ذلك الوعد في الخارج.

إذا عرفت ذلك، فاعلم انّ الكلام بالنسبة إلى الأمر الأوّل انشاء لا يوصف بالصدق و الكذب، إذ لا شكّ انّه أنشأ الوعد و أمّا بالنسبة إلى الأمر الثاني فإمّا أنْ يكون مضمِراً للوفاء فلا بحث فيه، و إمّا أنْ يكون مضمِراً لعدمه، أو شاكاً فيه، فلا شك أنّه يتحقّق الكذب بالنسبة إليه، لأنّ الجملة الخبرية حاكية عن إضماره الوفاء، مع أنّ الواقع ليس كذلك. فبهذا الاعتبار يصح أن يوصف الكلام بالصدق و الكذب.

و أمّا العمل الخارجي- أعني: الإنجاز في الخارج- فليس هو وعداً، و انّما هو محقِّق للوعد، فالعمل به و عدمه ليسا مناطاً لصدق الوعد و كذبه، بل مناطهما كونه عازماً عند الوعد على الإنجاز و عدمه، فلو كان عند الوعد عازماً على الإنجاز و إنْ عدل عنه بعد مدّة، فهو كان صادقاً في وعده.

نعم، ربّما يطلق عرفاً صدق الوعد و كذبه على العمل بما وعد و عدمه، و بذلك يفسر قوله سبحانه: (وَ اذْكُرْ فِي الْكِتٰابِ إِسْمٰاعِيلَ إِنَّهُ كٰانَ صٰادِقَ الْوَعْدِ) ( «1») لكن الصدق و الكذب بهذا المعنى ليس هو الصدق و الكذب المطروحين في المقام.

______________________________

(1) مريم: 54.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 686

لزوم العمل بالوعد و عدمه

ثمّ إنّه إذا كان عازماً على الإنجاز عند الوعد، فهل يجب عليه البقاء على العزم ما لم يطرأ عليه العجز أو لا؟ و هذا لا صلة له بمسألة الكذب.

الظاهر عدم وجوبه حسب القواعد. و ما ربما يقال: من أنّ العدول عنه يوجب اتّصاف الكلام السابق بالكذب قد عرفت ما فيه، فإنّ مدار اتّصافه بالكذب و عدمه ليس إلا باعتبار وجود العزم و عدمه حين التكلّم بالجملة

الخبرية. هذا من غير فرق بين أن يخبر عن نفس العزم كما لو قال: إنّي عازم على أنْ أعطيك درهماً، أو يخبر عن إنجاز العمل و يقول: إنّي أعطيك الدرهم.

ثمّ إنّ الكلام يقع في وجوب العمل به و عدمه.

الظاهر من الروايات لزوم العمل بالوعد، و يعلم ذلك لمن لاحظها، فنذكر نزراً قليلًا:

منها: عن شعيب العقرقوفي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليف إذا وعد». ( «1»)

و منها: رواية هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ، و لمقته تعرّض، و ذلك قوله: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لٰا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لٰا تَفْعَلُونَ). ( «2»)

و منها: رواية علي بن عقبة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «المؤمن أخو المؤمن

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 515، الباب 109 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

(2) الوسائل: 8/ 515، الباب 109 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3. و الآية 2 و 3 من سورة الصف.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 687

عينه و دليله، لا يخونه و لا يظلمه و لا يغشّه و لا يعده فيخلفه». ( «1»)

و منها: رواية الحارث الأعور، عن علي (عليه السلام) قال: «لا يصلح من الكذب جد و لا هزل، و لا أن يعد أحدكم صبيه ثمّ لا يفي له، انّ الكذب يهدي إلى الفجور، و الفجور يهدي إلى النار، و ما يزال أحدكم يكذب حتى يقال كذب و فجر، و ما يزال أحدكم

يكذب حتى لا يبقى موضع إبرة صدق فيسمّى عند اللّه كذّاباً». ( «2»)

و منها: رواية سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال: «من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم، كان ممّن حرمت غيبته، و كملت مروّته، و ظهر عدله، و وجبت أُخوته». ( «3»)

فظاهر هذه الروايات يعطي وجوب العمل، إلا أنْ يحمل على الاستحباب المؤكّد لجريان السيرة على عدم المراقبة الجدية القطعية بحيث يعد المتخلّف عاصياً.

و ربّما يقال في توجيه عدم اللزوم: بأنّ ما دلّ على حرمة الكذب يختص بالكذب الفعلي الابتدائي فلا يشمل الكذب في مرحلة البقاء.

و إنْ شئت قلت: المحرّم انّما ه- و إيجاد الكلام الكاذب، لا إيجاد صفة الكذب في كلام صادق، فما دلّ على حرمة الكذب مختص بالكذب الابتدائي الفعلي المعنون بعنوان الكذب حين صدوره من المتكلّم، أمّا إذا وجد كلام في الخارج و هو غير متّصف بالكذب و لكن عرض له ما ألحقه بالكذب بعد ذلك

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 543، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 6.

(2) الوسائل: 8/ 577، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(3) الوسائل: 8/ 597، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 688

فلا يكون حراماً لانصراف ما دلّ على حرمة الكذب عنه. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ الوعد يدلُّ على أُمور:

الأوّل: إنشاء الوعد بنفس التكلّم.

الثاني: وجود الإرادة الجدية على العمل حين التكلّم.

الثالث: العمل به في ظرفه و موطنه.

فالذي يتّصف بالصدق و الكذب هو دلالة الجملة على وجود الإرادة الجدّية، فبهذا الاعتبار يصح أن يقال: صادق في وعده أو كاذب. و أمّا العمل به خارجاً فليس ملاكاً للصدق

لا ابتداءً و لا بقاءً و انّما هو تجسيد للوعد و تجسيم له، فلا يعد التخلّف كذباً للوعد إذا كان ناوياً على العمل حين الوعد، و انّما يعد خلفاً له لا كذب. فلا يتم قوله: «و لكن عرض له ما ألحقه بالكذب».

و على كل تقدير فلا شك أنّ شخصية الإنسان منوطة بالعمل بوعده و إنجازه، فيسقط عن العيون إذا وعد و أخلف.

و أمّا الاستدلال على حرمة الخلف بالوعد بقوله سبحانه: (لِمَ تَقُولُونَ مٰا لٰا تَفْعَلُونَ) ( «2») فلا صلة له بما ذكرنا فانّما هو راجع إلى الأَمر بالمعروف و النهي عن المنكر مع عدم العمل بالمعروف و الانتهاء عن المنكر، فوزانه وزان قوله سبحانه: (أَ تَأْمُرُونَ النّٰاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتٰابَ أَ فَلٰا تَعْقِلُونَ). ( «3»)

نعم، يخالف ما ذكرناه، رواية هشام بن سالم الماضية حيث طبقت الآية الأُولى على الخلف بالوعد.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 392.

(2) الصف: 2.

(3) البقرة: 41.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 689

و يدلّ على وجوب الوفاء بأمرين:

1. ما دلّ على استثناء الوعد الكاذب لزوجته، فانّ الوعد كما عرفت ليس إخباراً و لكنّه يفيد فائدته حيث يكشف عن وجود الجزم بالإنجاز عند التكلّم، فقد حرّم ذلك الوعد، و استثني منه الوعد لزوجته، فهذا الاستثناء يدلّ على أنّ كل شي ء يفيد فائدة الكذب فهو حرام و إن لم يكن منه، فعن عيسى بن حسان قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «كل كذب مسئول عنه صاحبه يوماً إلا كذباً في ثلاثة: رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما، أو رجل وعد

أهله شيئاً و هو لا يريد أن يتم لهم». ( «1»)

و رواية المحاربي، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «ثلاثة يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب، وعدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس؛ و ثلاثة يقبح فيهن الصدق: النميمة، و إخبارك الرجل عن أهله بما يكرهه، و تكذيبك الرجل عن الخبر؛ قال: و ثلاثة مجالستهم تُميت القلب: مجالسة الأنذال، و الحديث مع النساء، و مجالسة الأغنياء». ( «2»)

و الحاصل: أنّ الاستثناء دليل على حرمة الوعد الكاذب، و هو يدلّ على أنّ كل ما يفيد فائدة الكذب فهو أَيضاً حرام فالاستثناء دليل على العمومية.

2. تقبيح العرف إذا وقف على أنّ الإنسان يظهر خلاف الواقع بتورية.

و أورد على الاستدلال الأوّل أعني إلغاء الخصوصية، بأنّه من قبيل سراية حكم من موضوع إلى موضوع آخر و ذلك غير جائز، و إنّما يصح الإلغاء فيما إذا

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 5.

(2) الوسائل: 8/ 587، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 690

ذكر الموضوع بعنوان المثال مثل قوله: أصاب ثوبي دم رعاف، إذ من المعلوم أنّه ليس لثوب زرارة دخل، و قوله: رجل شك بين الثلاث و الأربع، إذ من المعلوم أنّ المرأة مثل الرجل في الحكم.

و أمّا المقام فسراية حكم الكذب إلى غيره أشبه شي ء بسرايته إلى ما يفيد فائدته بالوجوه الظنية و الاعتبارية. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ ما ورد بعنوان المثال لا يحتاج إلى إلغاء الخصوصية، فإنّ الخصوصية في مثل هذه الموارد ملغاة حين التخاطب، و انّما الإلغاء في موارد يتصوّر للموضوع خصوصية، ثمّ

يتوجه الذهن بعد الأخذ بالملاك إلى عدم اعتبارها، و ذلك كما إذا قال: كل خمر حرام، من دون تعليل، فينعطف الذهن إلى كون كل مسكر حراماً، و مثل ما إذا قال: لا تأكل ذبيحة اليهودي، فينتقل إلى حرمة ذبيحة النصراني أيضاً، لأنّ الملاك للتحريم هو الكفر.

كما أنّه يورد على الدليل الثاني بأنّه لا يثبت كون مناط الحرمة هو القبح، بل يمكن أن يكون المناط شيئاً آخر غير محرز عندنا.

يلاحظ عليه: أنّ الوجدان شاهد على خلافه، و أنّ ملاك الحرمة في الكذب و ما يفيد فائدته هو قبح الإغراء بالجهل أو الإلقاء في المفسدة أو إراءة غير الواقع واقعاً.

نعم، ربّما يجتمع مع ذلك عنوان آخر في مثل مدح من لا يستحق المدح، و ذم من لا يستحقه، و سؤال غير الفقير، ففي مثل ذلك يصير العمل قبيحاً من وجهين و وجوه، و أمّا عدم قبح تعفّف الفقير فلأجل أنّ الستر على العيب العرفي أمر ممدوح فهو بعمله هذا ستر عيبه و لا يلام الرجل على ذلك.

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 2/ 45.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 691

و ربّما يستدل أَيضاً على حرمة كلّ ما يفيد فائدة الكذب بوجه ثالث أعني ما دلّ على أنّ الكذب في الهزل محرّم، كمرسل سيف بن عميرة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول لولده: «اتّقوا الكذب الصغير منه و الكبير في كل جدّ و هزل، فانّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير، أما علمتم أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه اللّه صدّيقاً، و ما يزال العبد يكذب حتى يكتبه اللّه كذّاباً».

( «1»)

و رواية الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله و جِدَّه». ( «2») بدعوى أنّ الهزل مقابل الجِدَّ، و الهزل ليس بإخبار جداً، بل إلقاء الجملة الخبرية لا بداعي الإخبار بل بداعي المزاح و الهزل، فلا يكون له واقع حتى لا يطابقه.

و لكن هذا الاستدلال غير تام، لأنّ المراد من الكذب في الهزل ما كان ظاهره الجد، و باطنه الهزل، في مقابل الكذب الجدي الذي ظاهره و باطنه الجد، و كلا القسمين من أقسام الخبر الذي له واقع يطابقه أو لا يطابقه، و الفرق بين الكذب الجدّي و كذب الهزل هو التصريح بالخلاف بعد التكلّم في الثاني دون الأوّل، و أمّا إلقاء الجملة الخبرية لا بداعي الإخبار، بل بداعي الهزل و المزاح الذي لا ينفك عن القرينة في حال التكلّم فهو غير مراد، لجريان السيرة على جوازه.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل و هو البحث عن ماهية الكذب.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 576، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 8/ 577، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 692

المقام الثاني: في حكم الكذب

و هو محرّم بالأدلّة الأربعة، و نحن في غنى عن ذكرها.

المقام الثالث: إنّه من الكبائر أو لا؟
اشارة

قد عدّ الكذب في كلمات القوم من الكبائر و ربّما يختص ببعض مراتبه و هو الكذب على اللّه و رسوله.

لا شك أنّ مرتبة منه من الكبائر، و هي الكذب على اللّه و رسوله، أو ما استلزم مفسدة كبيرة و فاجعة عظيمة، قال سبحانه: (فَمَنِ افْتَرىٰ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ). ( «1»)

و قال سبحانه: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ كَفىٰ بِهِ إِثْماً مُبِيناً). ( «2»)

و قال سبحانه: (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ لٰا يُفْلِحُونَ). ( «3»)

و هذه الآيات و غيرها مما تشير أو تصرّح بأنّه من الكبائر، خصوصاً قوله سبحانه: (قٰالَ لَهُمْ مُوسىٰ وَيْلَكُمْ لٰا تَفْتَرُوا عَلَى اللّٰهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذٰابٍ وَ قَدْ خٰابَ مَنِ افْتَرىٰ). ( «4»)

و أمّا كونه من الكبائر مطلقاً فيمكن الاستدلال عليه بقوله سبحانه: (إِنَّمٰا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْكٰاذِبُونَ) ( «5»)، و لا يخفى عدم دلالتها على المراد، لأنّ المراد من افتراء الكذب هو تكذيب النبي

______________________________

(1) آل عمران: 94.

(2) النساء: 50.

(3) يونس: 69.

(4) طه: 61.

(5) النحل: 105.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 693

الأعظم (صلى الله عليه و آله و سلم) و رميه بأنّه يعلمه بشر، كما قال سبحانه في نفس السورة قبل هذه الآية: (وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمٰا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسٰانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هٰذٰا لِسٰانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). ( «1»)

و أمّا الروايات فهي على طوائف:
اشارة

منها: ما يدل على أنّ الكذب من الكبائر تصريحاً أو تلويحاً ننقلها عن «الوسائل» و «المستدرك» و «البحار».

و منها: ما يدل على أنّ الكذب على اللّه و رسوله من الكبائر.

و منها: ما يدل على أنّ التطبّع على الكذب و صيرورة

الإنسان كذّاباً من الكبائر.

و منها: ما يدل على أنّ الكذب ليس من الفجور و انّما يهدي إلى الفجور و نظائره. و إليك هذه الطوائف واحدة تلو الأُخرى:

الطائفة الأُولى: ما تعدّ الكذب من الكبائر صريحاً أو تلويحاً:

1. رواية الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون قال: «الإيمان هو أداء الأمانة و ...، و اجتناب الكبائر و هي ... و الكذب و الكبر و الإسراف و التبذير و الخيانة ...». ( «2»)

2. ما رواه الأعمش، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) في حديث شرايع الدين قال: «و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه ... و استعمال التكبر، و التجبر، و الكذب، و الإسراف، و التبذير، و الخيانة ...». ( «3»)

______________________________

(1) النحل: 103.

(2) الوسائل: 11/ 260، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 33.

(3) الوسائل: 11/ 262، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 36.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 694

و لكن الاستدلال بهما غير تام، لأنّ الإمام (عليه السلام) في مقام بيان عدّ الكبائر، لا في مقام بيان خصوصية كل منها، فلا يدل على أنّ الكذب على الوجه المطلق من الكبائر، و لعل قسماً خاصّاً منه من الكبائر.

فإنّ قلت: لو لم يكن الإمام (عليه السلام) في مقام البيان فلما ذا ذكر قيود بعض المحرّمات حيث قال (عليه السلام): «و أكل مال اليتيم ظلماً ... و ما أُهلّ لغير اللّه به من غير ضرورة و أكل الربا بعد البينة ... و حبس الحقوق من غير العسر» فذكر القيود في هذه الأُمور الأربعة آية على أنّ الإمام (عليه السلام) في مقام البيان؟

قلت: إنّ الامام (عليه السلام) تبع في ذكر القيود الذكر الحكيم، حيث إنّ هذه الموارد وردت فيه مع القيود و صار

ما في الذكر مع القيد دارجاً في الألسن، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً). ( «1»)

و قال سبحانه: (إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّٰهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ( «2»)

و قال سبحانه: (وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهىٰ فَلَهُ مٰا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّٰهِ). ( «3»)

و قال سبحانه: (وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). ( «4»)

فبما انّ هذه المحرمات قد جاءت في الذكر الحكيم بالقيود و صارت رائجة في الألسن أَتى الإمام (عليه السلام) بها على النحو المذكور في القرآن المجيد،

______________________________

(1) النساء: 11.

(2) البقرة: 173، 275، 280.

(3) البقرة: 173، 275، 280.

(4) البقرة: 173، 275، 280.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 695

و لا يدلّ ذلك على أنّه (عليه السلام) في مقام البيان من جميع الجهات.

و ربما يستشكل على الروايتين بأنّهما متعارضتان مع رواية السيد عبد العظيم الحسني، حيث نقل عن أَبي جعفر الثاني (عليه السلام) أنّه قال: «سمعت أَبي يقول: سمعت أبي موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: دخل (عمرو بن عبيد) على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فلمّا سلم و جلس تلا هذه الآية: (وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ) ( «1») ثمّ أَمسك، فقال له أَبو عبد اللّه (عليه السلام): ما أسكتك؟ قال: أحب أنّ أعرف الكبائر من كتاب اللّه عز و جل فقال: نعم يا عمرو، أكبر الكبائر الإشراك باللّه يقول اللّه: (مَنْ يُشْرِكْ

بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)» ( «2») إلى آخر الرواية ( «3»)، و لم يذكر الإمام (عليه السلام) فيها الكذب.

و لكنّ الإشكال مدفوع نقضاً و حلًا: أمّا الأوّل فلم يذكر فيه سائر الكبائر أَيضاً كالقمار و اللواط و السرقة و الافتراء على اللّه.

و أمّا الثاني: فإنّ الظاهر من ذيل الرواية أنّ خروج عمرو بالصراخ و البكاء صار سبباً لقطع الإمام (عليه السلام) كلامه حيث لم ينته إلى آخر ما قصده، و عند ما بلغ الإمام (عليه السلام) قوله: «و قطيعة الرحم لأنّ اللّه عز و جل يقول: (لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ*) ( «4») قال: فخرج عمرو و له صراخ من بكائه و هو يقول: هلك من قال برأيه، و نازعكم في الفضل و العلم» و من المحتمل جداً أنّ عمرو بن عبيد لو بقي في المجلس سامعاً لبلغ الإمام (عليه السلام) ما قصد.

فإن قلت: قد جاء في تلك الرواية قوله: «و اليمين الغموس الفاجرة، لأنّ

______________________________

(1) الشورى: 37.

(2) المائدة: 72.

(3) الوسائل: 11/ 252، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 2. و عمرو بن عبيد من رءوس المعتزلة. توفّي عام 143 ه-.

(4) الرعد: 25.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 696

اللّه عز و جل يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ أَيْمٰانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولٰئِكَ لٰا خَلٰاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ). ( «1»)

قلت: إنّ اليمين الغموس إنشاء لا يتّصف بالكذب و لا بالصدق إلا حسب متعلّقه، فلا يكون اليمين بما هو يمين كاذباً و لا صادقاً إلا حسب متعلّقه فلا يمكن الاستدلال بعدِّ اليمين الغموس من الكبائر على كون الكذب من الكبائر.

3. رواية محمد بن مسلم، عن أَبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ

اللّه عز و جل جعل للشر أقفالًا، و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، و الكذب شر من الشراب». ( «2»)

و أورد عليه: بأنّه خلاف الضرورة، و لأنّه إذا أُكره الرجل بين أن يكذب أو يشرب الخمر فلا يرجّح أحد، الخمر على الكذب.

يلاحظ عليه: أنّ ذاك الاختيار ليس لأجل أنّ حرمة الخمر أَشدّ من حرمة الكذب، إذ المفروض أنّ كلًا من الكذب و الخمر محلّل عليه لأجل الإكراه، بل اختيار الكذب على الخمر لأجل أنّ للخمر آثاراً أُخرى لا تنفك عن الشارب، سواء أ كان الشرب حلالًا أم حراماً. اللهم إلا أن يقال إذا كان الكذب أَشدّ فليس للمكره، العدول من الأخف إلى الأشد، و إنْ ترتب على الأخف ما ترتب.

و مع ذلك كلّه فقد فسّر العلّامة المجلسي (قدس سره) الكذب الذي هو شرٌّ من الشراب، بالكذب على اللّه و على رسوله، فإنّه قال: الكفر و تحليل الأشربة المحرّمة ثمرة من ثمرات هذا الكذب.

______________________________

(1) آل عمران: 77.

(2) الوسائل: 8/ 572، الباب 138 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 697

و نقل عن بعض: أنّ الشر في الثاني صفة مشبهة و «من» تعليلية، و المعنى أنّ الكذب أَيضاً شر ينشأ من الشراب لئلّا ينافيه ما سيأتي.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 697

و ربّما توجه شرّية الكذب من الشراب بأنّ الشرور التابعة للشراب تصدر بلا شعور بخلاف الشرور التابعة للكذب.

4. ما في وصية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لأَبي ذر: «يا أبا ذر من ملك ما بين

فخذيه و ما بين لحييه دخل الجنة ... يا أبا ذر، ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له، ويل له». ( «1») الرواية و إن كانت تامّة الدلالة و لكنّها ضعيفة السند.

5. مرسلة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أَبيه، عمّن ذكره، عن أَبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ الكذب هو خراب الإيمان». ( «2»)

6. ما رواه الصدوق من ألفاظ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «أربى الربا الكذب». ( «3»)

7. ما رواه أيضاً قال: و كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «ألا فاصدقوا، إنّ اللّه مع الصادقين، و جانبوا الكذب فإنّه يجانب الإيمان، ألا و إنّ الصادق على شفا منجاة و كرامة، ألا و إنّ الكاذب على شفا مخزاة و هلكة». ( «4»)

8. ما رواه أحمد بن محمد، عن ابن فضال رفعه، عن أَبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): إنّ لإبليس كحلًا و لعوقاً و سعوطاً، فكحله النعاس، و لعوقه الكذب، و سعوطه الكبر». ( «5»)

9. ما رواه في «المستدرك»: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «المؤمن إذا كذب بغير عذر لعنه سبعون ألف ملك و خرج من قلبه نتن ... و كتب اللّه عليه بتلك الكذبة

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 577، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 4.

(2) الوسائل: 8/ 572، الباب 138 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 4.

(3) الوسائل: 8/ 574، الباب 138 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 12 و 13 و 14.

(4) الوسائل: 8/ 574، الباب 138 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 12 و 13 و 14.

(5) الوسائل: 8/

574، الباب 138 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 12 و 13 و 14.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 698

سبعين زنية أَهونها كمن يزني مع أُمّه». ( «1»)

10. و ما رواه في «المستدرك»، عن أَبي القاسم الكوفي في كتاب الأخلاق: قال رجل لرسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): يا رسول اللّه دلّني على عمل أتقرّب به إلى اللّه، فقال: «لا تكذب»، فكان ذلك سبباً لاجتنابه كل معصية للّه، لأنّه لم يقصد وجهاً من وجوه المعاصي إلا وجد فيه كذباً أو ما يدعو إلى الكذب فزال عنه ذلك من وجوه المعاصي». ( «2»)

11. ما رواه «المستدرك»، عن فقه الرضا (عليه السلام): «عليكم بالصدق و إيّاكم و الكذب فانّه لا يصلح إلا لأهله». ( «3»)

12. ما رواه في «المستدرك» عن نهج البلاغة في وصيّة أَمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام): «و علّة الكذب أَقبح علة». ( «4»)

13. و ما نقل عن العسكري (عليه السلام) مرسلًا قال: «جعلت الخبائث في بيت و جعل مفتاحه الكذب». ( «5»)

و أورد عليه بأنّه لا يدلّ على كون الكذب حراماً، فضلًا عن كونه من الكبائر، إذ لا ملازمة بين كون الشي ء مفتاحاً و كونه محرّماً.

يلاحظ عليه: أنّ الرواية متعرّضة لنكتة التشريع و أنّ كونه مفتاحاً للشر صار علّة للتشريع و الحكم عليه بالحرمة استقلالًا لا بما أنّه سبب المحرّم حتى يقال: انّ سبب المحرّم ليس بمحرّم، غير أنّ الرواية ضعيفة السند، و تخالف ما ورد

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 86، الباب 120 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 15.

(2) المستدرك: 9/ 85، الباب 120، الحديث: 8.

(3) المستدرك: 9/ 87، الباب 120 الحديث: 17، 18 و لاحظ الحديث: 19، 21،

25، 27 من هذا الباب.

(4) المستدرك: 9/ 87، الباب 120 الحديث: 17، 18 و لاحظ الحديث: 19، 21، 25، 27 من هذا الباب.

(5) البحار: 72/ 263.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 699

من أنّ مفتاح الخبائث و الشرور هو الشراب دون الكذب.

14. رواية الأصبغ بن نباتة قال: قال علي (عليه السلام): «لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب جدّه و هزله». ( «1»)

15. ما عن علي (عليه السلام): «لا سوء أسوأ من الكذب». ( «2»)

16. و عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): شرّ الرواية رواية الكذب». ( «3»)

17. و عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «الصدق أَمانة و الكذب خيانة». ( «4»)

و هذه الروايات بين مصرّحة بكونه من الكبائر، أو مشيرة إليه بعناوين مختلفة، حيث عدّ من أوصاف الكذب بأنّه شر من الشراب الذي هو مفتاح كل شر، و أنّه مخرّب الإيمان و يجانبه، و لعوق إبليس، و أقبح علّة، و أنّه مفتاح الخبائث، و قائله لا يجد طعم الإيمان، و لا سوء أسوأ منه، و هو شر و أنّه خيانة، و ويل لقائله، إلى غير ذلك من العبارات التي لو اجتمعت لدلّت على كونه من الكبائر، و اسناد أكثرها و إنْ لم تكن سالمة حيث إنّها بين صحيح و ضعيف و مرسل، غير أنّ البعض يشدّ البعض و يشرف الفقيه على القطع بكون الكذب على الإطلاق من الكبائر.

نعم هناك طوائف أُخرى يستفاد منها أنّ قسماً منه من الكبائر، و إليك بيان تلك الطوائف واحدة بعد أُخرى:

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 577، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2.

(2) البحار: 72/ 259.

(3) البحار: 72/ 259.

(4) البحار:

72/ 261.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 700

الطائفة الثانية: ما يدلّ على أنّ الكذب على اللّه و رسوله من الكبائر:

1. عن أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «الكذب على اللّه و على رسوله من الكبائر». ( «1»)

2. و ما رواه عمر بن عطية، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، أنّه قال لرجل من أهل الشام: «يا أخا أهل الشام اسمع حديثنا و لا تكذب علينا، فإنّه من كذب علينا في شي ء فقد كذب على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)، و من كذب على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقد كذب على اللّه، و من كذب على اللّه، عذّبه اللّه عز و جل». ( «2»)

3. و روى العياشي في تفسيره، عن أَبي خديجة، عن أَبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «الكذب على اللّه و على رسوله و على الأوصياء (عليهم السلام) من الكبائر». ( «3»)

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على أنّ التطبّع على الكذب من الكبائر:

1. رواية عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): الكذّاب هو الذي يكذب في الشي ء؟ قال: «لا، ما من أحد إلا يكون ذاك منه، و لكن المطبوع على الكذب». ( «4»)

قال في «الوسائل» بعد نقل الخبر: هذا مخصوص بعدم العمد، أو المراد منه من كذب قليلًا يسمّى كاذباً لا كذّاباً. ( «5»)

وجه الدلالة: انّ قوله (عليه السلام): (ما من أحد ...) دال على أَنّ كلَّ واحد من

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 575، الباب 139 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 8/ 575، الباب 139 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 4. و لاحظ الحديث 5 و 6 من هذا الباب.

(3) المستدرك: 9/ 92، الباب 121 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 6.

(4) الوسائل: 8/ 573، الباب 138 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 9.

(5) الوسائل: 8/ 573، الباب

138 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 701

المؤمنين يبتلى بالكذب و هو مشعر بأنّ الكذب إذا لم يكن مطبوعاً ليس بمهم.

2. رواية الحسن بن محبوب المروية في اختصاص «الشيخ المفيد» (قدس سره) قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): يكون المؤمن بخيلًا؟ قال: «نعم»، قال: قلت: فيكون جباناً؟ قال: «نعم»، قلت: فيكون كذّاباً؟ قال: «لا، و لا جافياً، ثمّ قال: جُبِلَ المؤمنُ على كل طبيعة إلا الخيانة و الكذب». ( «1»)

الطائفة الرابعة: ما يدلّ على أنّ الكذب ليس فجوراً بل يهدي إلى الفجور، و لو كان من الكبائر لكان نفس الفجور:

1. رواية الحارث الأعور، عن علي (عليه السلام) قال: «لا يصلح من الكذب جدّ و لا هزل، و لا أنْ يعد أحدكم صبيّه ثمّ لا يفي له، إنّ الكذب يهدي إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النار». ( «2»)

2. عن «جامع الأخبار» عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «إيّاكم و الكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، و الفجور يهدي إلى النار». ( «3»)

هذه هي الطوائف الواردة في الباب، و أنت إذا لاحظت المجموع ربما تحدس بأنّ أصل الكذب ليس من الكبائر و انّما يعد من الكبائر باعتبار الضمائم من الكذب على اللّه و رسوله أو كون الشخص متطبّعاً عليه.

المقام الرابع: في مسوّغات الكذب
اشارة

ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) من المسوغات أمرين:

______________________________

(1) المستدرك: 9/ 84، الباب 120 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 5.

(2) الوسائل: 8/ 577، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3.

(3) المستدرك: 9/ 86، الباب 120 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 14.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 702

الأوّل: الضرورة إلى الكذب:

و استدلّ عليه بوجوه:

1. ما دلّ على جواز إظهار الكفر عند الإكراه، قال سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ). ( «1»)

قال الطبرسي (قدس سره) في «مجمع البيان»: نزل قوله (إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ) في جماعة أُكرهوا و هم: عمار، و ياسر أبوه، و أُمّه سمية، و صهيب، و بلال، و خباب، عُذِّبوا، و قتل أبو عمار و أُمّه و أعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه، ثمّ أخبر سبحانه بذلك رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال قوم: كَفَر عمّارُ، فقال (صلى الله عليه و آله و سلم): «كلّا، إنّ عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، و اختلط الإيمان بلحمه و دمه» و جاء عمّار إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): و هو يبكي، فقال (صلى الله عليه و آله و سلم): «ما وراءك؟» فقال: شرّ يا رسول اللّه، ما تركت حتى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يمسح عينيه و يقول: «إن عادُوا لك فَعُدْ لهم بما قلت». ( «2»)

2. ما دلّ على جواز ارتكاب المحرّم عند التقية و الاضطرار، مثل قوله سبحانه: (لٰا

يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّٰهِ الْمَصِيرُ). ( «3»)

قال الطبرسي (قدس سره) في «مجمع البيان»: أي لا ينبغي للمؤمنين أن يتّخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم و أنْ يستعينوا بهم و يلتجئوا إليهم و يظهروا المحبّة لهم. و قوله: (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) معناه يجب أن تكون الموالاة مع المؤمنين و هذا نهي عن موالاة الكفّار و معاونتهم على المؤمنين. ( «4»)

______________________________

(1) النحل: 106.

(2) مجمع البيان: 5/ 287.

(3) آل عمران: 28.

(4) مجمع البيان: 1/ 429.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 703

و عن علي (عليه السلام): «ستدعون إلى سبّي فسبّوني، و تدعون إلى البراءة منّي فمدّوا الرقاب، فإنّي على الفطرة». ( «1»)

و رواية سماعة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إذا حلف الرجل تقيّة لم يضرّه إذا هو أُكره و اضطر إليه». و قال: «ليس شي ء مما حرّم اللّه إلا و قد أحلّه لمن اضطر إليه». ( «2»)

3. قد استفاضت و تواترت الروايات بجواز الحلف كاذباً لدفع الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو أخيه.

4. الإجماع، و هو أظهر من أن يدّعى أو يحكى.

5. قاعدة التزاحم بحكم العقل بوجوب ارتكاب أقلّ القبيحين، خصوصاً إذا قلنا بأنّ قبح الكذب ليس بالذات بل بالوجوه و الاعتبارات.

هذه هي الوجوه التي استدلّ بها الشيخ الأعظم (قدس سره) على جواز الكذب عند الضرورة.

و لا يخفى أنّ الاستدلال ببعض هذه الأَدلّة غير تام.

و الفرق بين الإكراه و الضرورة، أنّ العامل في الإكراه خارجي يدفع الإنسان إلى الكذب بإيعاده، لكنّه في الثاني داخلي أي لأجل دفع الضرر عن نفسه و ماله يلتجئ

إلى الكذب.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى توضيح هذه الأدلّة واحداً بعد واحد.

الآية الأُولى، أعني قوله سبحانه: (إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ) فليس راجعاً إلى الكذب الذي هو إخبار، و انّما هو راجع إلى التبرّؤ و الارتداد

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 477، الباب 29 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 8. و لاحظ 9 و 10 و 13 و 21 من هذا الباب.

(2) الوسائل: 16/ 137، الباب 12 من أبواب الإيمان، الحديث: 18.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 704

اللّذين يعدّان من الإنشاء، فلا يمكن أن يستدلّ به على المقام إلا بأمرين:

الأوّل: الفحوى، و أنّه إذا جاز التبرّؤ لأجل دفع الضرر، جاز الكذب بطريق أولى.

الثاني: انّ التبرّؤ متضمّن للكذب أيضاً حيث إنّه بتبرّئه يخبر بأنّه غير معتقد و هو ليس كذلك.

و أمّا الآية الثانية: فهي أيضاً مثل المتقدّمة لا صلة لها بالكذب، لأنّ اتّخاذهم أَولياء تقيّة ليس كذباً قولياً، و انّما عمل من الأعمال سوّغته التقيّة، اللّهم إلا أنْ يقال: انّ ذاك الاتّخاذ فعلًا أو قولًا يخبر عن الاعتقاد القلبي بولايتهم مع أنّه ليس كذلك.

و أمّا حديث الاضطرار فتام، غير أنّه يجب تحديد حدّ الاضطرار و أنّه هل يصدق عند توجه الضرر القليل الذي يُدفع بالكذب أو لا؟ فلو فرضنا أنّ العشّار يأخذ درهماً واحداً إذا صدقنا و يُخلينا إذا كذبنا، فهل مثل هذا الضرر القليل مصداق لقوله: «ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلا و قد أحلّه لمن اضطر إليه»؟

و أمّا جواز الحلف كاذباً فسيوافيك بيانه.

و أمّا الإجماع: فلعلّ مستنده هذه الأدلّة المذكورة.

و أمّا الاستدلال بالعقل فيتوقف على ملاحظة الترجيحات و موازنة المناطات حتى يتميّز الراجح من المرجوح، و هو غير محرز، إلا في حفظ

النفس و العرض و الأموال الطائلة.

و بالجملة: هذه الأدلة لا تدلّ على أزيد من جواز الكذب عند الإكراه و الاضطرار إلى التقيّة الخوفية لا التقيّة التحبيبية.

نعم، يستفاد ممّا ورد من جواز الحلف كاذباً لدفع الضرر البدني أو

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 705

المالي عن نفسه و عن أخيه أنّ المسوغ أعم من الإكراه و الاضطرار، و إليك هذه الأخبار:

1. صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث قال: سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف. قال: «لا جناح عليه»، و عن رجل يخاف على ماله من السلطان فيحلفه لينجو به منه، قال: «لا جناح عليه»، و سألته: هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله؟ قال: «نعم». ( «1»)

2. موثّقة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): نمر بالمال على العشار فيطلبون منّا أن نحلف لهم و يخلّون سبيلنا و لا يرضون منّا إلا بذلك؟ قال: «فاحلف لهم فهو أحلى من التمر و الزبد». ( «2»)

3. صحيحة الحلبي، انّه سأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز بذلك ماله؟ قال: «نعم». ( «3»)

4. موثّقة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إنّما نمرّ على هؤلاء القوم فيستحلفونا على أموالنا و قد أدّينا زكاتها؟ فقال: «يا زرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاءوا» قلت: جعلت فداك بالطلاق و العتاق؟ قال: «بما شاءوا». ( «4»)

5. رواية إسماعيل الجعفى قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أمرّ بالعشار و معي المال فيستحلفوني، فإن حلفت تركوني، و إن لم أحلف فتّشوني و ظلموني؟ فقال: «احلف لهم». قلت: إن حلّفوني بالطلاق؟ قال: «فاحلف

لهم»، قلت: فإنّ

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 134، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث: 1 و 6.

(2) الوسائل: 16/ 134، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث: 1 و 6.

(3) الوسائل: 16/ 134، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث: 8 و 14.

(4) الوسائل: 16/ 134، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث: 8 و 14.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 706

المال لا يكون لي؟ قال: «تتقي مال أخيك». ( «1»)

وجه الدلالة: هو تجويز الروايات على وجه الإطلاق للحلف مطلقاً لإنجاء ماله أو مال غيره كائناً ما كان، و هذا العنوان غير عنواني الإكراه و الاضطرار، فإنّ مناط الإكراه و الاضطرار أضيق ممّا تفيده هذه الروايات.

و قد نوقش في دلالة هذه الروايات بأنّ الحلف عبارة عن جملة إنشائية يؤتى بها لتأكيد الجملة الإخبارية أو الإنشائية في بعض الأحيان، و هي غير الجملة الإخبارية المؤكَّدة بها، و لا تتصف بالصدق و الكذب، و إطلاقهما أحياناً عليها إنّما هو بنحو من التأويل و التسامح فيقال اليمين الكاذبة أو الصادقة باعتبار متعلقهما، و ما ورد في الروايات النهي عنها صادقاً أو كاذباً يمكن أن يكون ذاك و ذلك منشأ للشبهة في أنّ اليمين غير جائز حتى لإنجاء المال و التخلّص من العشار و غيره فسألوا عن حكم اليمين من حيث هي فلا إطلاق فيها يشمل اليمين المقارن للجملة الكاذبة، لأنّ جواز نفس اليمين غير ملازم لجواز الكذب. ( «2»)

يلاحظ عليه: بأنّ تجويز نفس الحلف الكاذب الملازم لجملة خبرية كاذبة يلازم عرفاً تجويز نفس الكذب، و لا يتم أن يقال: انّ موضوع الجواز نفس الحلف لا الإخبار الواقع بعده، لأنّ هذا تفكيك عقلي لا يتوجّه إليه العرف، على

أنّ في نفس الروايات قرائن تفيد بأنّ محط السؤال و الجواب هو جواز الكذب و الحلف كذباً معاً و هي تظهر بالتأمّل.

و الحاصل: أنّه إذا جاز الحلف الكاذب لجاز نفس الكذب بطريق أولى

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 136، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث: 17.

(2) المكاسب المحرمة: 2/ 82.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 707

في نفس المورد الذي يجوز فيه الحلف الكاذب، لأنّ المناط التخلّص من ظلم الظالم المجوّز للكذب و الحلف الكاذب.

ثمّ إنّه ربّما يقيّد جواز الحلف كاذباً بما إذا لم يقدر على التورية قائلًا: بأنّه إذا كان قادراً عليها فلا يصدق عليه أنّه مكره على الكذب أو مضطر إليه، فإذاً تقيّد مطلقات هذه الروايات بموثّقة سماعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «إذا حلف الرجل تقيّة لم يضره إذا هو أُكره و اضطر إليه». و قال: «ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلا و قد أحلّه لمن اضطر إليه». ( «1») حيث يخصص الحلف الكاذب بصورة الإكراه و الاضطرار و من المعلوم عدم صدقهما مع القدرة على التورية.

يلاحظ عليه: بأنّ التورية ليست من الأُمور التي تتوجّه إليها العامة، بل هي من الأُمور الإبداعية التي اخترعها الخاصة و الفهماء من الناس. و الميزان في صدق الإكراه و الاضطرار هو كونه مكرهاً أو مضطراً إليه في نظر العرف لا في نظر أهل الدقة من أهل العلم، فالقادر على التورية و غير القادر سيّان في مقابل هذه الروايات، فلا يصلح ما قيل من عدم صدقهما على القادر بها عرفاً فيقيد جواز الحلف كاذباً بعدم القدرة عليها.

على أنّه لو كانت التورية واجبة لعمل بها عمّار ذلك المؤمن الفهيم.

أضف إلى ذلك أنّه لو كانت التورية واجبة لأمر بها

الأمير (عليه السلام) أصحابه عند مخاطبتهم بقوله: «ستدعون إلى سبّي فسبّوني، و تدعون إلى البراءة منّي فمدّوا الرقاب فإنّي على الفطرة». ( «2»)

فان قلت: ما الفرق بين الأحكام الوضعية و التكليفية؟ حيث اتّفقوا على

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 137، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث: 18.

(2) الوسائل: 11/ 477، الباب 29 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 8. و لاحظ الحديث 9 و 10 و 21 من هذا الباب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 708

عدم صحة بيع المكره مطلقاً، سواء أ كان قادراً على التورية أو لا، و لكن اختلفوا في جواز الكذب عند التمكّن من التورية؟

قلت: وجهه واضح، فإنّ صحة المعاملة دائرة مدار طيب النفس، لقوله سبحانه: (إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ) ( «1»)، و قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» ( «2») و كلا الأمرين منتفيان مع الإكراه، سواء أتمكّن من التورية أم لا، وَرّى أم لم يُورِّ، و أمّا الأحكام التكليفية فقد وقعت مظنّة الشبهة و هي عدم صدق الاضطرار إلى الكذب مع التمكّن من التورية الصادقة، و مع ذلك كلّه فالإطلاقات محكمة، و لا يظهر من موثّقة سماعة أكثر من صدق الاضطرار عرفاً لا عقلًا، لأنّ الأحاديث واردة في إطار فهم العرف.

أضف إلى ذلك أنّه لو كان عدم التمكّن من التورية شرطاً للجواز في هاتيك المواضع لكان على الشارع التنبيه به، لأنّ القيود التي تغفل عنها العامة كقصد الوجه و التمييز يجب عليه التنبيه، و لو بدليل مستقل، و هذا ما يقال له: الإطلاق المقامي.

و أمّا اللائق بشأن الإمام (عليه السلام) عند ما اضطر إلى التقية فقد أفاد في

ذلك الشيخ (قدس سره) بأنّ الأليق بشأنهم هو الحمل على خلاف ظواهر كلامهم (عليهم السلام) من دون نصب قرينة، بأنّه يريد من جواز الصلاة في الثوب المصاب بالخمر جوازها عند تعذّر الغسل و الاضطرار إلى اللبس.

ثمّ الظاهر أنّه لا فرق بين مال نفسه و مال غيره، و يشهد لذلك ما عن الصادق (عليه السلام): «اليمين على وجهين:- إلى أن قال-: فأمّا الذي يؤجر عليها الرجل إذا حلف كاذباً و لم تلزمه الكفّارة فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرئ

______________________________

(1) النساء: 29.

(2) الوسائل: 3/ 424، الباب 3 من أبواب مكان المصلّي، الحديث: 1 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 709

مسلم، أو خلاص ماله من متعد يتعدّى عليه من لص أو غيره» الحديث. ( «1»)

و رواية إسماعيل الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أمرّ بالعشار و معي المال فيستحلفوني، فإن حلفت 3 تركوني، و إن لم أحلف فتّشوني و ظلموني؟ فقال: «احلف لهم»، قلت: إن حلّفوني بالطلاق؟ قال: «فاحلف لهم»، قلت: فإنّ المال لا يكون لي؟ قال: «تتقي مال أخيك». ( «2»)

نعم يستحب تحمّل الضرر المالي الذي لا يجحف احتراماً لاسمه سبحانه و أخذاً بقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): «علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك، و أن لا يكون في حديثك فضل عن علمك و ان تتقي اللّه في حديث غيرك». ( «3»)

ثمّ، إنّه ربّما يتصوّر التعارض بين ما دلّ على جواز الكذب لدى الإكراه و الاضطرار أو عند ما يجوز الحلف كاذباً، و بين ما يخص جواز الكذب بموارد ثلاثة ليس المذكور منها، مثل مرسلة أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد

اللّه (عليه السلام) قال: «الكلام ثلاثة: صدق و كذب و إصلاح بين الناس»، قال: قيل له: جعلت فداك ما إصلاح بين الناس؟ قال: «تسمع من الرجل كلاماً يبلغه فتخبث نفسه فتقول: سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا و كذا خلاف ما سمعت منه». ( «4»)

و في وصيّة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام) قال: «يا علي إنّ اللّه أحبَّ الكذب في

______________________________

(1) الوسائل: 16/ 135، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث: 9.

(2) الوسائل: 16/ 136، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث: 17.

(3) نهج البلاغة- محمد عبده-: 2/ 261؛ الوسائل: 8/ 580، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 11.

(4) الوسائل: 8/ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 710

الصلاح و أبغض الصدق في الفساد- إلى أن قال- يا علي ثلاث يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب، وعدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس». ( «1»)

و رواية المحاربي، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «ثلاثة يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب، وعدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس». ( «2»)

و رواية عيسى بن حسان قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «كلّ كذب مسئول عنه صاحبه يوماً إلا كذباً في ثلاثة: رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئاً و هو لا يريد أن يتم لهم». ( «3»)

و يمكن الجواب عنه بوجهين:

الأوّل: تخصيصها بأدلّة الاضطرار، و كون

العام محصوراً في العدد لا ينافي التخصيص لورود ذلك كثيراً في نظائره، كما في قوله (عليه السلام): «لا تعاد الصلاة إلا من خمس» مع أن سبب الإعادة أزيد من خمس. كنسيان التكبيرة و الصلاة في الثوب النجس نسيانا.

الثاني: أنّ مدار البحث في هذه الروايات هو الكذب عن اختيار، فلا يجوز إلا في هذه الموارد الثلاثة، و هذا لا ينافي جواز الكذب في غيرها عن ضرورة و اضطرار فتدبّر.

______________________________

(1) نفس المصدر: 578، الحديث: 1 و 2.

(2) نفس المصدر: 578، الحديث: 1 و 2.

(3) الوسائل: 8/ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 711

الثاني من المسوغات: إرادة الإصلاح بين الناس

قال الشيخ الأعظم (قدس سره) قد استفاضت الأخبار بجواز الكذب عند إرادة الإصلاح، و يدلّ على ذلك خبر حمّاد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام) قال: «يا علي إنّ اللّه أَحبّ الكذب في الصلاح، و أبغض الصدق في الفساد- إلى أن قال- يا علي ثلاث يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب، وعدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس». ( «1»)

و خبر المحاربي، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «ثلاثة يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب، وعدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس». ( «2»)

و خبر عيسى بن حسّان، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «كل كذب مسئول عنه صاحبه يوماً إلا كذبا في ثلاثة: رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما،

أو رجل وعد أهله شيئاً و هو لا يريد أن يتم لهم». ( «3»)

و ما رواه الطبرسي في «المشكاة»، عن الباقر (عليه السلام) قال: «الكذب كلّه إثم إلا ما نفعتَ به مؤمناً أو دفعتَ به عن دين المسلم». ( «4»)

و عن الجعفريات، عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): لا يصلح الكذب إلا في ثلاثة مواطن: كذب الرجل لامرأته، و كذب الرجل يمشي بين الرجلين ليصلح بينهما، و كذب الإمام عدوّه فانّما الحرب خدعة». ( «5»)

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 8/ 578، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2 و 5. و لاحظ الحديث: 6 من هذا الباب.

(3) الوسائل: 8/ 578، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 2 و 5. و لاحظ الحديث: 6 من هذا الباب.

(4) المستدرك: 9/ 94، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3 و 1.

(5) المستدرك: 9/ 94، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3 و 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 712

و هذه الروايات تفيد أنّ مصلحة إرادة الإصلاح بين الناس أقوى من مفسدة الكذب فيرجح الأقوى على الأضعف.

هذا و يظهر من بعض الروايات كون الملاك أعم من أن يكون المصلح خارجاً عن المتخاصمين أو يكون أحدهما كما في رواية القاسم بن الربيع قال في وصية المفضل: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «... سمعت أبي (عليه السلام) يقول: إذا تنازع اثنان فعاز ( «1») أحدهما الآخر، فليرجع المظلوم إلى صاحبه حتى يقول لصاحبه: أي أخي أنا الظالم حتى يقطع الهجران بينه و بين صاحبه، فإنّ اللّه تبارك

حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم». ( «2»)

و رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا يزال الشيطان فرحاً ما اهتجر المسلمان، فإذا التقيا اصطكت ركبتاه و تخلعت أوصاله، و نادى يا ويله ما لقى من الثبور». ( «3»)

الثالث من المسوّغات: إرشاد فرد منحرف

من مسوّغات الكذب علاوة على ما ذكره الشيخ الأنصاري إصلاح فرد منحرف عن طريق الحق، و تدلّ على ذلك الروايات التي تحمل قول إبراهيم و يوسف (عليهما السلام) على الكذب و تفسّره بالإصلاح، فقد كذب إبراهيم (عليه السلام) لأجل هداية عبدة الأصنام، و كذب يوسف (عليه السلام) لإبقاء أخيه عنده ليترتب عليه انتقال بيت يعقوب إلى يوسف (عليهما السلام).

و تدلّ على ذلك رواية الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّا

______________________________

(1) عازه: غلبه في الخطاب.

(2) الوسائل: 8/ 584، الباب 144 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3 و 6.

(3) الوسائل: 8/ 584، الباب 144 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3 و 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 713

قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف (عليه السلام) (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ) ( «1») فقال: «و اللّه ما سرقوا و ما كذب»، و قال إبراهيم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ) ( «2») فقال: «و اللّه ما فعلوا، و ما كذب» فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ما عندكم فيها يا صيقل؟» قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم، قال، فقال: «إنّ اللّه أحب اثنين و أبغض اثنين أحبَّ الخطر فيما بين الصفين، و أحبَّ الكذب في الإصلاح؛ و أبغض الخطر في الطرقات، و أبغض الكذب في غير الإصلاح، إنّ إبراهيم (عليه السلام) إنّما قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ

هٰذٰا) إرادة الإصلاح، و دلالة على أنّهم لا يفعلون، و قال يوسف (عليه السلام) إرادة الإصلاح». ( «3»)

و رواية معمر بن عمرو، عن عطاء، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): لا كذب على مصلح، ثمّ تلا: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ) ثمّ قال: و اللّه ما سرقوا و ما كذب، ثمّ تلا: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ) ثمّ قال: و اللّه ما فعلوه و ما كذب» ( «4»)، و تحمل عليه رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «المصلح ليس بكذّاب». ( «5»)

غير أنّ الاعتماد على الروايات مشكل، لما عرفت من أنّه لم يصدر من إبراهيم و من يوسف (عليهما السلام) أيّ كذب حتى يحمل على أنّه كذب للإصلاح، و قد عرفت أنّ الروايات في ذلك مختلفة، فقسم منها ينسبهما إلى الكذب، و يحمله

______________________________

(1) يوسف: 70.

(2) الأنبياء: 63.

(3) الوسائل: 8/ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 4.

(4) الوسائل: 8/ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 7 و 3.

(5) الوسائل: 8/ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 7 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 714

على الكذب من باب الإصلاح، كما أنّ قسماً منها ينفي عنهما الكذب بالحمل على التورية.

و قد مرّ الكلام فيها. ( «1»)

ثمّ إنّ هاهنا مسوّغاً رابعاً

و هو إيصال النفع إلى مؤمن و قد ورد في بعض الروايات التي نقلها المتتبع النوري في «مستدركه» حيث نقل عن الباقر (عليه السلام) قال: «الكذب كلّه إثم إلا ما نفعت به مؤمناً أو دفعت به عن دين المسلم». ( «2»)

و رواية جعفر بن أحمد

القمي في كتاب «الأعمال المانعة من الجنة»، عن أحمد بن الحسين باسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) في حديث: و الكذب كلّه إثم إلا ما نفعت به مؤمناً أو دفعت به عن دين». ( «3»)

غير أنّ سند هذه الروايات غير نقي فلا يمكن الإفتاء بمضمونها و هو جواز الكذب لداعي إيصال النفع، و هو غير عنوان دفع الضرر عن نفسه و أخيه كما مر.

ثمّ إنّ هاهنا مسوّغاً خامساً

و هو عدة الرجل زوجته. و يدلّ على ذلك رواية حمّاد في وصية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام) قال: «يا علي إنّ اللّه أحبَّ الكذب في الصلاح، و أبغض الصدق في الفساد- إلى أن قال- يا علي ثلاث يحسن فيهنّ الكذب: المكيدة في الحرب،

______________________________

(1) لاحظ ص 673 و ما بعدها من هذا الكتاب.

(2) المستدرك: 9/ 95، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3 و 7.

(3) المستدرك: 9/ 95، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3 و 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 715

وعدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس». ( «1»)

و رواية عيسى بن حسان قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «كلّ كذب مسئول عنه صاحبه يوماً إلا كذباً في ثلاثة: رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئاً و هو لا يريد أن يتم لهم». ( «2»)

فلو تمّ سند هذه الروايات تكون مخصصة بحرمة الكذب و إلا فلا.

و قد عرفت أنّ الوعد و إن كان إنشاءً لكنّه يتضمن

خبراً و هو أنّه بصدد العمل بوعده في حينه، مع أنّه جازم بعدم العمل من أوّل الأمر.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 578، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1 و 5. و لاحظ الحديث 2 من هذا الباب.

(2) الوسائل: 8/ 578، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1 و 5. و لاحظ الحديث 2 من هذا الباب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 716

20 الكهانة

اشارة

و يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: ما هي الكهانة؟

الثاني: ما هو حكمها؟

أمّا الأوّل: قال ابن الأثير في «النهاية»: الكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، و قد كان في العرب كهنة، فمنهم من كان يزعم أنّ له تابعاً من الجن يلقي إليه الأخبار، و منهم من كان يزعم أنّه يعرف الأُمور بمقدّمات أسباب يستدلّ بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، و هذا يخصّونه باسم العرّاف.

و عن «المغرب»: أنّ الكهانة في العرب كان قبل المبعث (يروى) أنّ الشياطين كانت تسترق السمع فتلقيه إلى الكهنة.

و قال العلامة في «القواعد»: و الكاهن هو الذي له رئي من الجن يأتيه بالأخبار.

و قال الفاضل السيوري في «التنقيح»: المشهور أنّ الكاهن هو الذي له رئي- أي صاحب من الجن- يأتيه بالأخبار بالمغيبات.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 717

و أمّا عند الحكماء: إنّ من النفوس ما تقوى على الاطلاع على ما سيكون من الأُمور، فإن كانت خيّرة فاضلة فتلك نفوس الأنبياء و الأولياء، و إن كانت شريرة فهي نفوس الكهنة». ( «1»)

و قال ابن قدامة: فأمّا الكاهن الذي له رئي من الجن تأتيه بالأخبار. ( «2»)

و على أيّ تقدير، فهل هي مختصة بالغائبات المستقبلة، أو تعم الماضي؟

فالظاهر من النهاية هو الأوّل كما عرفت، كما أنّ الظاهر من المصباح هو الأعم، حيث قال في مادة عرف: «العراف يخبر عن الماضي، و الكاهن يخبر عن الماضي و المستقبل».

و ربّما يستظهر من خبر الاحتجاج هو الاختصاص بالمستقبل، لقوله (عليه السلام): «و الشياطين تؤدي إلى الشياطين ما يحدث في البعد من الحوادث من سارق سرق ...». ( «3»)

غير أنّه يمكن أن يقال: انّ لفظ (يحدث) مجرّد عن الزمان بقرينة قوله: «من

سارق سرق».

ثمّ إنّ الظاهر من عبارة الفقهاء- كما نقلنا- أنّ منشأ علمه هو الجن الذي يلقي إليه الأخبار، لكن الظاهر من عبارة «النهاية» لابن الأثير أنّ له قسمين، قسم يستند إلى الجن، و قسم يعرف الأُمور بمقدّمات أسباب يستدلّ بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله.

و يمكن استفادة العمومية من عبارة الاحتجاج أيضاً حيث قال (عليه السلام):

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 74.

(2) المغني: 10/ 118، الطبعة الثالثة.

(3) الاحتجاج: 2/ 219.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 718

«و ذلك من وجوه شتّى: فراسة العين، و ذكاء القلب، و وسوسة النفس، و فطنة الروح، مع قذف في قلبه» فقوله (عليه السلام): «مع قذف في قلبه» يحتمل أن يكون قيداً للأخير و هو فطنة الروح، فتكون الكهانة تارة بقذف الشيطان و أُخرى بغيره، نعم يحتمل أنّ يكون قيداً للجميع كما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره).

ثمّ، إنّ الكهانة هل تختص بالأخبار الأرضية أو تعمّ السماوية أيضاً؟

فالظاهر من رواية الاحتجاج أنّه كان في الأصل أعمّ و إن اختص بعد مبعث النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بالأُولى حيث قال (عليه السلام): «و أمّا أخبار السماء فانّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك و هي لا تحجب و لا ترجم بالنجوم، و انّما منعت بعد مبعث النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب تشاكل الوحي من خبر السماء، و يلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن اللّه تعالى لإثبات الحجّة و نفي الشبهة- إلى أن قال (عليه السلام)- و اليوم انّما تؤدّي الشياطين إلى كهّانها أخباراً للناس بما يتحدّثون به و الشياطين تؤدّي إلى الشياطين

ما يحدث في البعد من الحوادث، من سارق سرق، و قاتل قتل، و من غائب غاب، و هم بمنزلة الناس أيضاً صدوق و كذوب».

و أمّا المقام الثاني

فقد وردت في هذا المورد روايات، و هي على طوائف:

الأُولى: ما يدلّ على حرمة نفس عمل الكاهن، مثل ما ورد عن أبي خالد الكابلي قال: سمعت زين العابدين (عليه السلام) يقول: «الذنوب التي تُغيّر النعم: البغي على الناس- إلى أن قال- و الذنوب التي تظلم الهواء: السحر و الكهانة و الإيمان بالنجوم و التكذيب بالقدر، و عقوق الوالدين- الحديث». ( «1»)

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 270، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 719

و عن «نهج البلاغة» قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لبعض أصحابه لمّا عزم على المسير إلى الخوارج فقال له: يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم ... ثمّ أقبل (عليه السلام) على الناس فقال: «أيّها الناس إيّاكم و تعلّم النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة و الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار، سيروا على اسم اللّه». ( «1»)

و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من تكهّن أو تكهن له فقد برئ من دين محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «2»)

و رواية أبي سعيد هاشم، عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال: «أربعة لا يدخلون الجنة: الكاهن، و المنافق، و مدمن الخمر، و القتّات و هو النمّام». ( «3»)

الثانية: ما يدلّ على حرمة أجر الكاهن، مثل رواية السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«السحت: ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغي، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن». ( «4»)

و رواية حمّاد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، في وصية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لعلي (عليه السلام) قال: «يا علي من السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر الزانية، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن». ( «5»)

الثالثة: ما يظهر منه النهي عن الرجوع إلى الكاهن، و هي مثل مضمون

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 271، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 8.

(2) الوسائل: 12/ 108، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

(3) الوسائل: 8/ 619، الباب 164 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 11.

(4) الوسائل: 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 9.

(5) الوسائل: 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 720

رواية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «من صدّق كاهناً أو منجّماً فهو كافر بما أنزل على محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «1»)

و في حديث المناهي أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن إتيان العرّاف و قال: «من أتاه و صدّقه فقد برئ ممّا أنزل اللّه عز و جل على محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)».

أقول: فسر بعض أهل اللغة العرّاف بالكاهن و بعضهم بالمنجم. ( «2»)

و ما رواه الهيثم قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّ عندنا بالجزيرة رجلًا ربّما أخبر من يأتيه يسأله عن الشي ء يسرق أو شبه ذلك،

فنسأله؟ فقال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللّه من كتاب». ( «3»)

و الظاهر من هذه الروايات مع ضعف أسناد بعضها أنّ عمل الكاهن عمل محرّم حيث شبّه عمله بالساحر، كما أنّ الظاهر أيضاً حرمة أُجرته حيث جعلها قرينة للرشوة و أُجرة العاهرة.

إنّما الكلام في الرجوع إليه. و الذي يمكن أن يقال: انّ المحرّم منه ما إذا رتب عليه الأثر و كان مخالفاً لما يجب ترتيبه عليه شرعاً، و لأجل ذلك نهى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في حديث المناهي عن إتيان العرّاف، و قال: «من أتاه و صدّقه فقد برئ ممّا أنزل اللّه عز و جل على محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «4») و قد مرّ نظيره في الرجوع إلى القائف.

و قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لبعض أصحابه الذي كان يدّعي علم النجوم: «فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن» و قال (عليه السلام) في ذيله: «إيّاكم و تعلّم النجوم

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 104، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11.

(2) الوسائل: 12/ 108، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 3.

(3) الوسائل: 12/ 108، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 3.

(4) الوسائل: 8/ 269، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 721

إلا ما يهتدى به في بر أو بحر فانّها تدعو إلى الكهانة». ( «1»)

ثمّ إنّ الإخبار عن الغائبات إمّا أن يكون مع الشك، أو يكون مع الجزم، فلا شك في حرمة

الإخبار به مع الشك، لأنّه إخبار بما لا يعلم بصورة أنّه يعلم.

و أمّا مع الجزم فإمّا أن يكون سبب جزمه أُموراً خارجة عن الأسباب العادية و الطبيعية، فهذا هو القدر المتيقّن من الكهانة، أو يكون علّة جزمه محاسبات الأسباب العادية و محاسبات طبيعة قد جرّبها و استنتج منها في كثير من الموارد شيئاً واحداً، فلا وجه لحرمة الإخبار معتمداً على تلك الأسباب.

و ما في رواية الهيثم المروية عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّ عندنا بالجزيرة رجلًا ربّما أخبر من يأتيه يسأله عن الشي ء يسرق أو شبه ذلك فنسأله؟ فقال: «قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم): من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللّه من كتاب». ( «2»)

فالظاهر منه أنَّ الرجل كان يحكم بغير الأسباب الطبيعية، و لأجل ذلك حصر ذلك المخبر بين كونه ساحراً أو كاهناً أو كذّاباً، و بذلك يعلم معنى قوله (عليه السلام): «أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن إتيان العرّاف». ( «3»)

فانّ الظاهر أنّ العرّاف من كان يعتمد على غير القواعد التجريبية و السنن الطبيعية العلمية.

و على ذلك فلا وجه للتنبّؤات عن المستقبل إذا كان له قواعد علمية حسيّة أو تجريبية و ترتيب الأثر عليه إذا لم يكن ما يرتب مخالفاً لما حكم به الشارع في ذلك المورد.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 271، الباب 14 من أبواب آداب السفر، الحديث: 8.

(2) الوسائل: 12/ 108، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و 1.

(3) الوسائل: 12/ 108، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و

1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 722

و أمّا ما أفاده في «الاحتجاج» من قوله (عليه السلام): «لئلّا يقع في الأرض سبب تشاكل الوحي من خبر السماء» ( «1»)، فالظاهر من المشاكل ما إذا تنبّأ بلا استناد إلى الأسباب الطبيعية، و إلا فلو استند إلى الأسباب العادية فلا يكون مشاكلًا للوحي.

ثمّ إنّ التنبّؤ عن المستقبل إذا كان مستنداً إلى الأسباب غير الطبيعية انّما يحرم إذا كانت الأسباب غير الطبيعية من قبيل الرياضات المحرّمة التي لها آثار في الروح و اطّلاعه على الغائبات، و أمّا إذا كان مستنداً إلى العبادات الشرعية و الطاعات الليلية كما هو المشهور عن الأولياء الكرام فلا إشكال أبداً.

______________________________

(1) الاحتجاج: 2/ 219.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 723

21 اللهو

اشارة

قال ابن فارس: اللّهو: شغل عن شي ء لشي ء، و قال: كل شي ء شغلك عن شي ء فقد ألهاك.

و ما في «النهاية» من تفسير اللهو باللعب تفسير باللازم، يقال: لهوت بالشي ء إذا لعبت به و تشاغلت و غفلت به عن غيره.

و المراد به ما لا يترتب عليه أثر عقلائي، و كأنّه يشغل الإنسان عن الأُمور الجدية و ما ترتبط سعادة الإنسان به.

ثمّ إنّ هذه المسألة قد عنونت في كلمات القوم في بيان شرائط القصر التي منها أن يكون السفر سائغاً.

قال المحقّق (قدس سره): و لو كان السفر معصية لم يقصر كاتّباع الجائر و صيد اللهو.

و قال في «الجواهر» في شرح العبارة: إنّ ظاهر المتن كصريح غيره كون التمام في السفر لصيد اللهو لأجل أنّه معصية فهو حينئذ من السفر للمعصية. ( «1»)

______________________________

(1) الجواهر: 14/ 262.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 724

و قال العلّامة (قدس سره) في «المختلف»: قال: أبو الصلاح: و من المحرّمات الرمي

عن قوس الجلاهق، و الإطلاق ليس بجيد، بل ينبغي التقييد بطلب اللهو و البطر، أمّا لو قصد به الصيد للقوت أو للتجارة، أو فعل لدفع الخصم، أو لغير ذلك ممّا هو مباح، فالوجه الإباحة. ( «1»)

قال العلّامة (قدس سره) في «القواعد»: الخامس: إباحة السفر، فلا يرخص العاصي به كتابع الجائر و المتصيّد لهواً.

هذا مع أنّ الظاهر من بعض الكلمات أنّ اللهو مانع من التقصير، لكنّه ليس بمعصية، قال في «الغنية»: لو كان سفره في معصية اللّه سبحانه أو اللعب و النزهة لا يقصر.

و قال في «المقنع» «و الهداية»: إذا كان سفره معصية أو سفراً إلى صيد ... ( «2»)

و قال المحقّق الهمداني (قدس سره) في «مصباح الفقيه»: ظاهر المتن كصريح غيره اندراج سفر اللهو في سفر المعصية، و لكن حكي عن المقدّس البغدادي أنّه أنكر حرمته أشد الإنكار، و جعله كالمتنزه بالمناظر البهجة و المراكب الحسنة و مجالس الأنس و نظائرها ممّا قضت السيرة القطعية بجوازها.

و على كل تقدير فالأولى صرف الكلام إلى الروايات التي استدلّوا بها على حرمة اللهو مطلقاً.

1. ما في «تحف العقول»: «ما يكون منه فيه الفساد محضاً و لا يكون منه و فيه شي ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و ...». ( «3»)

______________________________

(1) المختلف: 5/ 18، كتاب التجارة.

(2) مفتاح الكرامة: 3/ 577.

(3) الوسائل: 12/ 57، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 725

يلاحظ عليه: أنّ الصدر يدلّ على حرمة ما فيه الفساد، كما يدلّ الذيل على حرمة ما ليس فيه الصلاح، و لكن الذيل ممّا لا يمكن الاعتماد عليه، لقضاء الضرورة على جواز ارتكاب كثير ممّا ليس فيه الصلاح، فيعود الأمر إلى تحكيم

الصدر على الذيل، و يدلّ على حرمة كل لهو يجي ء منه الفساد محضاً.

2. ما في رواية الأعمش حيث عدّ اللهو من الكبائر، قال: (عليه السلام): «و الملاهي التي تصد عن ذكر اللّه عزّ و جل مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار و الإصرار على صغائر الذنوب». ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال انّما يتم لو كانت الملاهي جمع اللهو بالمعنى المصدري، و يناسبه قوله كالغناء، و أمّا إذا كان جمعاً للملهاة «اسم الآلة» فيدلّ على حرمة اللعب بآلات الأغاني و يناسبه قوله: و ضرب الأوتار، و على ذلك يمكن توجيه التمثيل بالغناء مع أنّه ليس من الآلات، بأنّ المراد الغناء بالآلات المعدّة له كالعود و المزمار، و بما أنّه لا وجه لتقديم أحد الظهورين على الآخر يسقط الحديث عن الاستدلال به.

أضف إلى ذلك أنّه لا يدلّ على حرمة اللهو مطلقاً، بل ما يصدُّ عن ذكر اللّه، و ليس المراد الصد الفعلي و إلا يلزم أن يكون الإنسان في كل حال ذاكراً للّه تعالى، فتعيّن أن يكون المراد ما يوجب حالة الاحتجاب للنفس عن اللّه تعالى لأجل الاشتغال بتلك الملاهي، فإنّ للذنوب و المعاصي آثاراً لا تنكر. قال سيد الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في دعاء كميل: «اللّهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغيّر النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 262، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 36.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 726

الدعاء».

و قد ورد في الروايات ما يصرّح بأنّ لكل ذنب أثراً خاصّاً، فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ الرجل ليذنب الذنب

فيدرأ عنه الرزق، و تلا هذه الآية: (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهٰا مُصْبِحِينَ* وَ لٰا يَسْتَثْنُونَ* فَطٰافَ عَلَيْهٰا طٰائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نٰائِمُونَ). ( «1»)

3. ما رواه في العيون في عدّ الاشتغال به من الكبائر من قوله: (عليه السلام) «و الاشتغال بالملاهي و الإصرار على الذنوب». ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ «الملاهي» جمع «الملهاة» و الرواية تدلّ على حرمة قسم خاص من اللهو و هو الاشتغال بآلات اللهو.

4. ما رواه الحلبي، عن جعفر بن محمد بن عيسى، عن عبد اللّه بن علي، عن علي بن موسى، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) قال: «كل ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر». ( «3»)

يلاحظ عليه: أنّ المراد هو الاشتغال بما يلهي عن ذكر اللّه و يصدّ الإنسان عنه و يوجد حجاباً بين العبد و ربّه، و إلا فالكبرى بظاهرها غير معمول بها.

5. ما رواه عبد اللّه بن المغيرة رفعه قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «كلّ لهو المؤمن باطل، إلا في ثلاث: في تأديبه الفرس، و رميه عن قوسه، و ملاعبته امرأته فإنّهن حق». ( «4»)

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 238، الباب 40 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 11. و الآيات 17- 19 من سورة القلم.

(2) الوسائل: 11/ 260، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 33.

(3) الوسائل: 12/ 235، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15.

(4) الوسائل: 13/ 347، الباب 1 من أبواب أحكام السبق و الرماية، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 727

يلاحظ عليه: أنّه لم يقم دليل على حرمة كلّ باطل، و إلا فالمكروه باطل و ليس بحرام، و انّما الحرام الباطل الشرعي المساوق للحرام، و صدقه

على مطلق اللهو أوّل الكلام.

مع أنّه يمكن أن يقال: انّ المراد من الباطل في الحديث هو ما يصد العبد عن الحق و يحجبه عنه، و هو لا يصدق على كل باطل، و على ذلك حمله من عدّ الشطرنج من الباطل مثل ما رواه حفص البخترى عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «الشطرنج من الباطل». ( «1»)

و رواية الفضيل قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الأشياء التي يلعب بها الناس: النرد و الشطرنج حتى انتهيت إلى السدر فقال: «إذا ميّز اللّه الحق من الباطل مع أيّهما يكون؟» قال: مع الباطل، قال: «فمالك و للباطل؟». ( «2»)

و بذلك يظهر عدم صحة الاستدلال بما دلّ على أنّ السماع في حيّز الباطل و اللهو، ( «3») لما ذكرنا في توضيح قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «كل لهو المؤمن باطل» إذ لا شك أنّه ليس كل باطل و لهو حراماً بالاتّفاق، فلا مناص من حمله على المرتبة الخاصّة، و هي الصاد عن الحق، الموجد للاحتجاب عنه.

6. و ما رواه زرارة، عن أَبي جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عمّن يخرج عن أهله بالصقورة و البزاة و الكلاب يتنزّه الليلة و الليلتين و الثلاثة هل يقصر من صلاته أم لا يقصر؟ قال: «إنّما خرج في لهو، لا يقصر». ( «4»)

يلاحظ عليه: أنّ الأمر بالتمام و النهي عن التقصير لا يدلّ على الحرمة لعدم

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 237، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و ص 242، الباب 104، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 12/ 237، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و ص 242، الباب 104، الحديث: 3.

(3) الوسائل: 12/

229، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 19.

(4) الوسائل: 5/ 511، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 728

ثبوت انحصار سبب التمام في المعصية.

7. ما رواه الوليد بن أبان الرازي قال: كتب ابن زاذان فروخ إلى أَبي جعفر الثاني (عليه السلام) يسأله عن الرجل يركض في الصيد لا يريد بذلك طلب الصيد، و انّما يريد بذلك التصحّح؟ قال: «لا بأس إلا للّهو». ( «1»)

8. و ما رواه سماعة قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «لمّا مات آدم شمت به إبليس و قابيل فاجتمعا في الأرض، فجعل إبليس و قابيل المعازف و الملاهي شماتة بآدم (عليه السلام)، فكلّ ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذّذ به الناس فانّما هو من ذلك». ( «2»)

و فيه: أنّه أخصّ من المدّعى، و انّما يدلّ على حرمة اللهو بالأغاني، و هو مستلزم لحالة التلهّي عن اللّه تعالى.

9. ما رواه علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن اللعب بأربعة عشر و شبهها؟ قال: «لا يستحب شيئاً من اللعب غير الرهان و الرمي». ( «3»)

يلاحظ عليه: عدم دلالتها لأنّ البحث في اللهو دون اللعب، و سيوافيك الفرق بينهما.

و بالجملة: لا يستفاد من الأدلّة إلا حرمة قسم خاص من اللهو كاستعمال آلات الأغاني، و استعمال الغناء و اللعب بالآلات المعدّة للغناء ممّا يصدّ عن ذكر اللّه تعالى.

10. ما دلّ على إنكار الصادق (عليه السلام) أنَّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) رخّص في أن يقال:

______________________________

(1) الوسائل: 13/ 349، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث: 6.

(2) الوسائل: 13/ 233، الباب

100 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5.

(3) الوسائل: 12/ 233، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 14.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 729

جئناكم جئناكم حيّونا حيّونا نحيكم، فقال (عليه السلام): «كذبوا إنّ اللّه عز و جل يقول: (وَ مٰا خَلَقْنَا السَّمٰاءَ وَ الْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لٰاعِبِينَ* لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ* بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ) ثمّ قال: ويل لفلان ممّا يصف- رجل لم يحضر المجلس-». ( «1»)

11. ما رواه النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): أنهاكم عن الزفن و المزمار، و عن الكوبات و الكبرات». ( «2»)

و فيه: قصور الدلالة، لأنّ النهي هنا لا يفارق الغناء و الرقص.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) قوّى حرمة اللهو إذا كان عن بطر و شدّة الفرح، و مثل لذلك بالرقص و التصفيق و الضرب بالطشت بدل الدف.

و لكنه على إطلاقه موضع منع، و إن كانت حرمة بعض موارده كالرقص ثابتة عند بعض، لأنّه كالاشتغال بآلات الملاهي يصدّ عن ذكر اللّه و يورث الاحتجاب.

و على كل تقدير: فالملاحظ لهذه الروايات المثبتة في الأبواب المتفرّقة من الوسائل لا يمكنه الإفتاء إلا بحرمة قسم خاص على ما أوضحناه، و هو ينحصر في أمثال الاشتغال بالملاهي و آلات القمار و ما يقربهما.

الكلام في اللعب

ثمّ إنّ هاهنا عنوانين آخرين و هما اللعب و اللغو:

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 228، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15 و الآيات 16- 18 من سورة الأنبياء.

(2) الوسائل: 12/ 233، الباب 100 من

أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 730

أمّا الأوّل: فقد عرّفه الشيخ (قدس سره) بأنّه عبارة عن حركات الأطفال غير المنبعثة عن القوى الشهوية، كما أنّ اللهو: عبارة عما تلتذ به النفس و ينبعث عن القوى الشهوية، و استشهد على ذلك بقوله سبحانه: (أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ) إلى آخر الآية. ( «1»)

فاللعب يناسب زمن الصبا الذي تصدر منه الأفعال لاعن قوّة شهوية، كما أنّ اللهو يناسب بعد ذلك الزمن الذي تنمو فيه القوّة الشهوية فتصدر الأفعال عن تلك القوّة، غير أنّه يجب تكميل هذا الحد بإضافة أمر آخر و هو: انّ اللهو عبارة عن حالة الالتهاء و الاشتغال عن الشي ء.

و على ذلك فاللهو فعل النفس و اشتغالها باللذائذ الشهوية، كما أنّ اللعب هو العمد إلى الحركات الجوارحية لغاية الالتذاذ بها بلا قصد غاية أُخرى، سواء أ ترتبت الغايات الأُخرى عليها أم لا، و بانضمام هذين الأمرين يحصل للّهو و اللعب تعريف كامل، و على ذلك فتكون النسبة بين اللهو و اللعب عموماً و خصوصاً من وجه، فقد يكون هناك لهو- أي فعل جانحي شاغل للقلب- من دون أنْ يكون هناك لعب أي فعل جارحي كاستماع الغناء، فهو لهو و ليس بلعب، و قد يكون هناك لعب دون لهو، أي الفعل غير الصادر عن القوة الشهوية، كفعل الأطفال، فإنّه لعب و ليس بلهو، لعدم وجود تلك القوّة فيهم. و قد يجتمعان كما في اللعب بآلات الأَغاني و القمار و الرقص.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا دليل على حرمة اللعب، إلا اللعب الذي

______________________________

(1) الحديد: 20، و لا يخفى أنّه قدّم اللعب على اللهو في

هذه الآية و يناسب ظاهره ما ذكره الشيخ من أنّ اللعب لا ينبعث عن القوى الشهوية بخلاف اللهو، و يناسب أفعال الأطفال غير المنبعثة عن القوى الشهوية لعدم وجودها فيهم، غير أنّه قدّم اللهو على اللعب في آية أُخرى، أعني قوله تعالى: (وَ مٰا هٰذِهِ الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا إِلّٰا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ) العنكبوت: 64.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 731

ينسي الآخرة و يوجب حجاباً بين اللاعب و ربّه كما في اللعب بآلات الأغاني و القمار و غير ذلك. قال سبحانه: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتّٰى يُلٰاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ*). ( «1»)

و أمّا غير ذلك فكراهته غير ثابتة، فضلًا عن حرمته، خصوصاً إذا كان موجباً لترويح النفس، قال سبحانه: (أَرْسِلْهُ مَعَنٰا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ) ( «2»)، فلو كان اللعب حراماً لما ذكرته الآية على وجه الإطلاق، بل ذكرته مشعرة بذمه، فإنّ القرآن أُسوة يجب الاقتداء به في كلّ ما ينقل و يحكي، سواء أ كان راجعاً إلى شريعتنا أم إلى شريعة من قبلنا ما لم يثبت نسخه.

كما يدلّ على الجواز قوله (عليه السلام): «لا يستحب شيئاً من اللعب غير الرهان و الرمي». ( «3»)

أمّا قوله (عليه السلام): «لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام، و لا بأس بشهادة المراهن عليه». ( «4») و المراد منه هو الخيل كما يدلّ عليه ذيل الحديث، فالحديث أجنبي عمّا نرومه.

أضف إلى ذلك قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يرمّ معاشه، وساعة يخلّي بين نفسه و بين لذتها فيما يحل و يجمل، و ليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذّة

في غير محرّم». ( «5»)

______________________________

(1) المعارج: 42.

(2) يوسف: 12.

(3) الوسائل: 12/ 235، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 14.

(4) الوسائل: 13/ 349، الباب 3 من أبواب السبق و الرماية، الحديث: 3.

(5) نهج البلاغة: 4/ 93، باب المختار من حكم أمير المؤمنين برقم 390.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 732

فقد جعل (عليه السلام) التخلية بين النفس و لذّاتها من ساعات المؤمن و غير مخالفة للإيمان، و على ذلك فاللعب بالسباحة و الرمي و العدو بالخيل، بل اللعب بما يوجب ترويح النفس و تقوية الأعصاب، ككرة القدم و ما أشبه ذلك ممّا يمارسه شباب العصر أيضاً لا ينافي الإيمان بل يلازمه.

الكلام في اللغو:

ثمّ إنّ هناك عنواناً آخر و هو اللغو، و هو عبارة عن الحركات الخارجية الخالية عن الغايات، و اللّه سبحانه يصف المؤمنين بقوله: (وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ). ( «1»)

و بقوله سبحانه: (وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً). ( «2»)

كما يصفهم أيضاً بقوله سبحانه: (وَ إِذٰا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قٰالُوا لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ لٰا نَبْتَغِي الْجٰاهِلِينَ) ( «3»). غير أنّ القدر المتيقّن منه هو الغناء كما تشهد بذلك رواية أبي أيوب الخزاز قال: نزلنا بالمدينة فأتينا أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقال لنا: «أين نزلتم؟» فقلنا: على فلان صاحب القيان فقال: «كونوا كراماً». فو الله ما علمنا ما أراد به، و ظننا أنّه يقول: تفضّلوا عليه، فعدنا إليه فقلنا: لا ندري ما أردت بقولك: كونوا كراماً؟ فقال: «أما سمعتم اللّه عز و جل يقول: (وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً)». ( «4»)

و رواية محمد بن أبي عباد و كان مستهتراً بالسماع و بشرب النبيذ قال:

______________________________

(1) المؤمنون:

2.

(2) الفرقان: 77.

(3) القصص: 55.

(4) الوسائل: 12/ 236، الباب 101 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 733

سألت الرضا (عليه السلام) عن السماع؟ فقال: «لأهل الحجاز فيه رأي، و هو في حيّز الباطل و اللهو، أما سمعت اللّه عز و جل يقول: (وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً)». ( «1»)

نعم، هو لغو عند الشرع و لو لا بيانه لما فهمنا منه كونه مصداقاً له.

و قال المحدّث الحويزي في «نور الثقلين»: في إرشاد المفيد كلام طويل لأمير المؤمنين (عليه السلام) و فيه يقول (عليه السلام): «كلّ قول ليس فيه للّه ذكر فهو لغو». و في رواية أُخرى: «إنّه الغناء و الملاهي». ( «2»)

و قد فسّر في بعض الروايات بالكلام الذي يضحك الناس، حيث قال (عليه السلام): «و الذنوب التي تهتك العصم: شرب الخمر، و اللعب بالقمار، و تعاطي ما يضحك الناس من اللغو و المزاح، و ذكر عيوب الناس، و مجالسة أهل الريب». ( «3»)

و لا شك أنّه يدلّ على الحرمة، و يؤيده ما ورد في وصية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لأبي ذر: «يا أبا ذر ... و أنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها فيهوى في جهنم ما بين السماء و الأرض». ( «4») و الذيل قرينة على أنّ المراد هو التكلم بكلام مشتمل على ذات أو بنحو أو غير ذلك و إلّا فالأخذ بالإطلاق مشكل.

و أمّا ما وراء ذلك فلا دليل على حرمته.

نعم، من شأن المؤمن أن يجتنب كل لغو لا يترتب عليه الأثر.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 229، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 19.

(2) نور الثقلين: 3/ 529.

(3) الوسائل: 11/ 519،

الباب 41 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث: 8.

(4) الوسائل: 8/ 577، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 734

22 مدح مَن لا يستحق المدح

قال في «مفتاح الكرامة»: فالمراد به مدحه من الوجه الذي يستحق به الذم و كذا عكسه، فلو مدح جائراً مؤمناً، أو كافراً لحبّه المؤمنين و حفظهم و منع المخالفين عن التسلّط عليهم، أو لكرمه و شجاعته و إحسانه إليه فلا حظر، كما لو ذم الجائر من جهة ظلمه و شربه الخمر، فإنّ إعطاء الشخص الواحد حقّه من المدح و الذم باعتبار مقتضاهما حسن إذا لم يترتّب عليه فساد، فيصح لنا أن نقول بالحرمة فيما إذا مدح من يستحق الذم من الوجه الحسن الذي لا يستحق به ذمّاً و فهم السامع منه كونه ممدوحاً لما فيه من إيهام الباطل و قد يراد بمن يستحقّ الذم من ليس أهلًا للمدح أصلًا و كذلك العكس، كما يشعر به عبارة الدروس قال: و الذم لغير أهله و المدح في غير محلّه. ( «1»)

و على كل تقدير فمدح من يستحق الذم أو لا يستحق المدح، إن كان منضمّاً بالكذب، أو تنطبق عليه أحد العناوين المحرّمة من تقوية الظالم، أو تضعيف المظلوم، أو غير ذلك، فلا إشكال في حرمته، أمّا غير ذلك فلا دليل على حرمته، و ما استدلّ به الشيخ على الحرمة لا يمكن الركون إليه.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 68.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 735

أمّا قوله سبحانه: (وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ثُمَّ لٰا تُنْصَرُونَ). ( «1»)

فلا يخفى أنّ المدح ليس من أقسام الركون مطلقاً، لأنّ المراد منه هو الاعتماد على

الظالم عن ميل إليه و حبّ له كما يشعر بذلك تعدّيه بلفظة «إلى» و هو غير انشاء الشعر أو إيراد الكلمة على وجه غير كاذب.

و إن شئت قلت: المراد اتّخاذهم أولياء كما يشعر بذلك ذيل الآية، أَعني قوله سبحانه: (وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ) الآية، و على ذلك فالركون يتحقّق بأحد أَمرين:

1. اتّخاذهم وليّاً مصدراً للحكم و الرئاسة و التصويت لهم في الأُمور المربوطة في إدارة أُمور المجتمع.

2. إظهار المودة إليهم، بحيث يتّخذهم سناداً في حياته و عماداً في عيشه.

و ليس مدح كلّ من لا يستحق المدح أو يستحق الذم اعتماد إليه عن ميل و حب و أخذه ولياً أو سناداً في الحياة، و أمّا قوله: «و من عظّم صاحب دنيا و أحبه لطمع دنياه سخط اللّه عليه، و كان في درجته مع قارون في التابوت الأسفل من النار». ( «2»)

فالمراد بقرينة كونه مجاوراً لقارون مدح الثريّ الذي يكون ذا نخوة في مقابل الحق، و أين هو من مدح من لا يستحق المدح أو يستحق الذم و هو صفر اليد ليس له قدرة و لا مكنة؟ و ليس ذا نخوة في مقابل الحقّ.

______________________________

(1) هود: 113.

(2) الوسائل: 12/ 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 14.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 736

و أمّا قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «من مدح سلطاناً جائراً و تخفف و تضعضع له طمعاً فيه كان قرينه في النار» ( «1») فلا يدلّ إلا على حرمة مدح الظالم الجائر طمعاً في ماله أو مقامه، و هو أخصّ من المدّعى، إذ قد لا يكون الممدوح ظالماً أو يكون ظالماً و لا يكون ذا مال

و قدرة.

و على الجملة: لا دليل على حرمته بما هو هو ما لم تنطبق عليه أحد العناوين.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 132، الباب 43 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 737

23 معونة الظالمين

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): معونة الظالمين في ظلمهم حرام بالأدلّة الأربعة، و هو من الكبائر.

قد اختلف تعبير الأصحاب في المقام بين معبّر بالإطلاق من غير تقييد بكلمة «في ظلمهم» كما في النهاية، و بين مقيّد بقوله: «على ما نهي عنه» كما في «المقنعة» و «المراسم»، و مقيّد ب- «في الحرام أو ما يحرم» كما في «الشرائع»، و نقل عن الكفاية و الإرشاد، و مقيّد ب- «على الظالم»، و قد عمّم بعضهم الظلم إلى الظلم للغير أو للنفس، و ترجع المسألة عندئذ إلى حرمة الإعانة في المحرّمات، و لكن المراد من الظالم في المقام هو الظالم للغير دون مطلق العاصي و الفاسق.

و أمّا صور المسألة فنقول:

1. أن يعينهم في الظلم.

2. ان يعد من أعوانهم كأن يكون اسمه في ديوانهم من دون أن يشارك في ظلمهم، و إن شارك فانّما يشارك في الأعمال الصالحة، كبناء المسجد و المسنّاة و نصب المصباح في الطرق.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 738

3. لا يعينهم في الظلم، و لا يعد من أعوانهم، و انّما يعمل لهم عملًا مرّة أو مرّتين تبرعاً أو بأُجرة.

أمّا الصورة الأُولى: أي معونة الظالم في ظلمه، فيدلّ على حرمتها بعد استقلال العقل بقبحها قوله سبحانه: (وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ثُمَّ لٰا تُنْصَرُونَ). ( «1»)

فإنّ الركون إمّا بمعنى الميل أو الاعتماد مع الميل و الحب، فإذا كان الركون

بهذا المعنى محرّماً فمعونتهم في مظالمهم محرّم بطريق أَولى.

و يدلّ عليها أيضاً قوله سبحانه: (وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ). ( «2»)

و قد سبق منّا صدق الآية في ما إذا كان العون من جانب واحد.

و أمّا الروايات فتكفي في ذلك رواية طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثتهم». ( «3»)

و رواية ورّام بن أبي فراس في كتابه قال: قال (عليه السلام): «من مشى إلى ظالم ليعينه و هو يعلم أنّه ظالم فقد خرج من الإسلام». ( «4»)

أضف إلى ذلك مسألة الأولوية، فإنّه سيوافيك أنّ كون الرجل معدوداً من أعوان الظلمة أمر محرم و إن لم يعنهم في ظلمهم و جورهم، فإذا كان ذلك حراماً كانت المعاونة لهم في الظلم و الجور حراماً بطريق أولى.

______________________________

(1) هود: 113.

(2) المائدة: 2.

(3) الوسائل: 12/ 128، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 15.

(4) الوسائل: 12/ 128، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 15.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 739

أمّا الصورة الثانية: أعني ما إذا كان الرجل معدوداً من أعوانهم فتدلّ على حرمتها- مضافاً إلى الآية المذكورة- الأخبار الكثيرة الواردة في هذا الموضوع، مثل رواية ابن عذافر، عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «يا عذافر نبّئت أنّك تعامل أبا أيوب و الربيع فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟!» قال: فوجم أبي، فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام)

لمّا رأى ما أصابه: «أي عذافر إنّما خوّفتك بما خوّفني اللّه عز و جل به»، قال محمد: فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتى مات. ( «1»)

و رواية ابن أبي يعفور قال: ... فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ما أُحب أنّي عَقَدْتُ لهم عُقْدة، أو وَكيِت لهم وكاءً، و انّ لي ما بين لابتيها، لا و لا مدّة بقلم، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم اللّه بين العباد». ( «2»)

و رواية الكاهلي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع حشره اللّه يوم القيامة خنزيراً». ( «3»)

و رواية السكوني، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواة أو ربط كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم». ( «4»)

و قال (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة و أعوان الظلمة و أشباه الظلمة حتى من برى لهم قلماً، و لاق لهم دواة، قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنم». ( «5»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 128 و 129، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و 6.

(2) الوسائل: 12/ 128 و 129، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و 6.

(3) الوسائل: 12/ 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 9.

(4) الوسائل: 12/ 130 و 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11 و 16.

(5) الوسائل: 12/ 130 و 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11 و 16.

المواهب في

تحرير أحكام المكاسب، ص: 740

و هاتان الصورتان لا إشكال في حرمتهما، انّما الكلام في حكم الصورة الثالثة، أعني: ما إذا أعانهم في أمر مباح لا في أمر محرّم و لا كان معدوداً من أعوانهم، فربّما يستظهر من بعض الروايات حرمته، مثل:

1. صحيحة ابن أبي يعفور قال: ... فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ما أحبّ أنّي عقدت لهم عقدة أو و كيت لهم وكاء و انّ لي ما بين لابتيها، لا و لا مدة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم اللّه بين العباد». ( «1»)

و لكن الظاهر أنّ الامام (عليه السلام) يحب ان لا يعمل لهم أعمالًا مباحة لئلا يتدرج في العمل و ينسلك في سلك أعوان الظلمة، فانّ الإنسان يتدرّج من مباح إلى مباح و من مباح إلى مكروه حتى يصير عوناً للظلمة فيحمل النبي على التنزيه.

2. و خبر محمد بن عذافر عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «يا عذافر نبّئت أنّك تعامل أبا أيوب و الربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟» قال: فوجم أبي، فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) لما رأى ما أصابه: «أي عذافر إنّما خوّفتك بما خوّفني اللّه عز و جل به»، قال محمد: فقدم أبي، فما زال مغموماً مكروباً حتى مات». ( «2»)

غير أنّ الرواية لا صلة لها بالبحث، لأنّ الظاهر أنّ عذافر كان يعامل أبا أيوب و الربيع بحيث كان معدوداً من أعوانهما.

3. و خبر صفوان بن مهران الجمال قال: دخلت على أبي الحسن

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 129، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

(2) الوسائل: 12/ 128، الباب 42 من أبواب

ما يكتسب به، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 741

الأوّل (عليه السلام) فقال لي: «يا صفوان كلّ شي ء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً»، قلت: جعلت فداك أيّ شي ء؟ قال: «إكراؤك جمالك من هذا الرجل»- يعني: هارون- قال: و اللّه ما أكريته أشراً و لا بطراً و لا للصيد و لا للّهو، و لكنّي أكريته لهذا الطريق- يعني: طريق مكة- و لا أتولّاه بنفسي و لكن أبعث معه غلماني، فقال لي: «يا صفوان: أيقع كراؤك عليهم؟» قلت: نعم جعلت فداك، قال: فقال لي: «أ تحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟» قلت: نعم، قال: «من أحبَّ بقاءهم فهو منهم، و من كان منهم كان ورد النار». ( «1»)

و هذه الرواية كسابقتها لا صلة لها بالمقام، إذ المذمّة ليست لمعاملته مع هارون مرّة واحدة في كل سنة، و انّما اللوم لأجل حبّه بقاء هارون، و من أحبَّ بقاء الظالمين فهو منهم.

4. و رواية «عقاب الأعمال» قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): ما اقترب عبد من سلطان جائر إلا تباعد من اللّه، و لا كثر ماله إلا اشتد حسابه، و لا كثر تبعه إلا كثرت شياطينه». ( «2»)

و الظاهر أنّ المقصود هو السعي في حوائجهم الواقعة في مسير الظلم.

5. و خبر أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام)- في حديث- قال (عليه السلام): «إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين». ( «3»)

و الظاهر أنّ المراد معونتهم في ظلمهم.

6. و رواية ورّام بن أبي فراس في كتابه قال: قال (عليه السلام): «من مشى إلى ظالم ليعينه و هو يعلم أنّه ظالم فقد خرج من الإسلام». ( «4»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 130 و

131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 17 و 12.

(2) الوسائل: 12/ 130 و 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 17 و 12.

(3) الوسائل: 12/ 128، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(4) الوسائل: 12/ 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 742

و الظاهر هو إعانته في ظلمه.

7. و رواية أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمالهم؟ فقال لي: «يا أبا محمد لا، و لا مدة قلم، انّ أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه مثله، أو حتى يصيبوا من دينه مثله». ( «1»)

8. و رواية السكوني: عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواة، أو ربط كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم». ( «2»)

و الظاهر أنّ المراد هو مَن يعدّ من أعوانهم و إن كان عمله مباحاً فالرواية بالصورة السابقة أمس.

9. و رواية يونس بن يعقوب قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام): «لا تعنهم على بناء مسجد». ( «3»)

و يمكن حمل النهي على التنزيه و الكراهة.

و يحتمل ان يكون النهي لأجل أنّ إعانتهم في بناء المسجد تكون سبباً لتقويتهم.

ثمّ إنّ المراد من الظالم في المقام من له رئاسة و حكم، أو من يظلم الغير و إن لم تكن له رئاسة، و أمّا إعانة العاصي فهو خارج عن هذا الباب، فلو حرم فلأجل عنوان آخر، أمّا لكونه مصداقاً للإعانة على الإثم، أو كونه مقدّمة للحرام

و إن لم تكن علّة تامّة للحرام.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 29- 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 11 و 8.

(2) الوسائل: 12/ 29- 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 11 و 8.

(3) الوسائل: 12/ 29- 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 11 و 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 743

24 النجش

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): النجش- بالنون المفتوحة و الجيم الساكنة أو المفتوحة- حرام.

أقول: يقع الكلام في معناه و حكمه شرعاً: قال في «اللسان»: النجش و التناجش، الزيادة في السلعة أو المهر ليسمع بذلك فيزاد فيه، و قد كره ... و في الحديث: نهى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) عن النجش في البيع، و قال: «لا تناجشوا»، هو تفاعل من النجش، قال أبو عبيد: هو أن يزيد الرجل ثمن السلعة و هو لا يريد شراءها، و لكن ليسمعه غيره فيزيد بزيادته- إلى أن قال- و قال ابن شميل: النجش أن تمدح سلعة غيرك ليبيعها أو تذمّها لئلّا تنفق عنه ... الجوهري: النجش أن تزايد في البيع ليقع غيرك و ليس من حاجتك. ( «1»)

و قال في «القاموس»: النجش ان تواطئ رجلًا إذا أراد بيعاً أن تمدحه، أو أن يريد الإنسان أن يبيع بياعة فتساومه فيها بثمن كثير لينظر إليك ناظر فيقع فيها. ( «2»)

______________________________

(1) لسان العرب: 6/ 351، مادة «نجش».

(2) القاموس: 2/ 289.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 744

و قال في «المصباح»: نجش الرجل إذا زاد في سلعة أكثر من ثمنها، و ليس قصده أن يشتريها بل ليغرَّ غيره فيوقعه فيه، و كذلك في النكاح

و غيره. ( «1»)

و على ما ذكروه فيقوّمه أمران:

الأوّل: أن يمدح سلعة و يروِّجها.

الثاني: أن يزيد الرجل في ثمن سلعة و لا يريد شراءها ليسمعه غيره.

هذا كلّه في تبيين المراد منه.

و أمّا حكمه: فنقول: استدلّ الشيخ (قدس سره) بعد أخذ قيود فيه، أعني: «لا يريد شراءها»، «المواطاة مع البائع» بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه قبيح عقلًا، لأنّه غش و تلبيس و إضرار.

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ الدليل (غش و ...) أخصّ من المدّعى، فانّه ربّما تكون الزيادة واقعة في محلها.

و ثانياً: أنّ الاغترار انّما يصدق إذا وقعت المعاملة، لا ما إذا لم تقع.

و ثالثاً: أنّ القيدين زائدان في كلامه، لأنّ الغش و الاغترار صادقان، سواء أقصد الشراء أم لا، أ كانت هناك مواطأة أم لا.

و رابعاً: أنّ الاغترار انّما يصدق إذا كان الناجش من أهل الخبرة ليكشف من ازدياده في الثمن أنّ السلعة تسوى ذلك، لا ما إذا لم يكن كذلك، خصوصاً إذا عرفه المشتري بأنّه ليس شخصاً خبيراً.

و أمّا الإضرار ففيه:

أوّلًا: عدم صدقه، لأنّ النجش صار سبباً لعدم تمكّن المشتري من اشتراء العين التي كان يتمكن من شرائها به لو لا نجش الناجش، و هو ليس بضرر بل

______________________________

(1) المصباح: 2/ 297.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 745

عدم النفع، و ما ربّما يقال من استلزام النجش، تضرّر المشتري لأجل اشترائه المتاع بالقيمة الغالية، انّما يتم إذا كان ملازماً لشرائه، و هو ليس كذلك، بل ربما لا يشتريه لأجل غلاء القيمة، و الكلام في حرمة نفس النجش بما هو هو، و لا يصح تعليله بشي ء ربّما يفارقه.

و ثانياً: أنّه أقدم على الضرر باختيار، و ليس الناجش في إيقاع الضرر أقوى من المباشر.

نعم، يصح الاستدلال على حرمته بأدلّة

الكذب، لأنّ الازدياد في سلعة متضمنة لإخباره بأنّه مقدم على البيع جداً و أنّه يسوى ذلك عنده، مع أنّهما منتفيان.

الوجه الثاني: هو الروايات:

فقد روى أهل السنّة عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه: «نهى عن النجش و التناجش». ( «1»)

و أمّا من طرقنا فإليك ما وقفنا عليه:

1. رواية عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): الواشمة و المتوشمة، و الناجش و المنجوش، ملعونون على لسان محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «2»)

2. رواية «معاني الأخبار» عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «لا تناجشوا و لا تدابروا» معناه أن يزيد الرجل في ثمن السلعة و هو لا يريد شراءها ليسمعه غيره فيزيد بزيادته، و الناجش خائن، و التدابر الهجران. ( «3»)

______________________________

(1) السنن الكبرى: 5/ 343، كتاب البيوع.

(2) الوسائل: 12/ 337، الباب 49 من أبواب آداب التجارة، الحديث: 2.

(3) الوسائل: 12/ 338، الباب 49 من أبواب آداب التجارة، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 746

فالقدر المتيقّن من هذه الروايات ما إذا زاد في ثمن السلعة و هو لا يريد أن يشتريها مع المواطأة.

و أمّا المدح، فإن كان موافقاً للواقع فلا وجه للحرمة، و إن كان على خلافه مع القرينة على المبالغة، كما إذا قال في بيع البقرة: (صَفْرٰاءُ فٰاقِعٌ لَوْنُهٰا تَسُرُّ النّٰاظِرِينَ) ( «1») فلا إشكال أيضاً، و في غير هاتين الصورتين حرام للكذب، و قد جرت السيرة على مدح المتاع من جانب البائع أو عامله على وجه يجلب المشتري، و السيرة حجّة إذا لم يدلّ دليل على خلافها.

______________________________

(1)

البقرة: 69.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 747

25 النميمة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): النميمة محرّمة بالأدلّة الأربعة، و هي نقل الحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية و الإفساد، و يقال: نمّ الحديث و ينمّه (بكسر العين) و (ضمها) سعى به ليوقع فتنة أو وحشة، و قد أشار الإمام (عليه السلام) في حديثه مع الزنديق إلى فسادها بقوله: «إنّ من أكبر السحر النميمة، يفرّق بها بين المتحابين، و يجلب العداوة على المصافين، و يسفك بها الدماء، و يهدم بها الدور، و يكشف بها الستور، و النمام أشرّ من وطأ الأرض بقدم». ( «1»)

ثمّ النسبة بينها و بين الكذب عموم و خصوص من وجه، فإذا نمّ بالكلام الكاذب، يصدق عليه العنوانان، كما إذا كذب بلا نميمة، أو نمّ بكلام صادق، فيفترقان، و هذه النسبة بعينها موجودة بينها و بين الغيبة، فاذا تكلّم الرجل سرّاً وراء أخيه فأفشاه غيره بنقله إلى أخيه، يصدق عليه العنوانان، كما أنّه إذا اغتاب بلا نميمة، أو سعى من قوم إلى قوم في أمر غير مستور، يفترق فيها العنوانان.

و على كل تقدير فقد استدلّ الشيخ على حرمة النميمة بقوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ

______________________________

(1) الاحتجاج: 2/ 82.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 748

وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ). ( «1»)

و الظاهر أنّ المراد منه هو قطع الرحم بقرينة قوله سبحانه: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ). ( «2»)

قال الطبرسي في «مجمع البيان»: ان تولّيتم الأحكام و ولّيتم أي جُعلْتُم وُلاة أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشاء و

سفك الدم الحرام، فيقتل بعضكم بعضاً، و يقطع بعضكم رحم بعض، كما قتلت قريش بني هاشم، و قتل بعضهم بعضاً. ( «3»)

فغاية ما يمكن التوسّع في مفهوم الآية هو إدخال قطع كل ما أُمر بصلته في الآية كصلة الأنبياء و الأولياء، و أمّا صلة الناس بعضهم ببعض فلم يأمر بها القرآن حتى تشمله الآية.

اللهم إلا أن يقال: أُمرنا بصلة الإخوان، فالنميمة محرمة في مورد تصدق فيه الإخوة الإسلامية.

و أمّا قوله سبحانه: (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) فهو أخص من المدّعى، إذ لا يترتب عليه الفساد مطلقاً في كل الأحيان، نعم، في ما إذا كان موجباً للفساد تعمّه الآية.

و أمّا قوله سبحانه: (الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ( «4») فالاستدلال به غير تام، لأنّ الفتنة تستعمل تارة في الاختبار، مثل قوله سبحانه: (وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولٰا إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلٰا تَكْفُرْ) ( «5»)، و قوله تعالى: (وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلٰادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللّٰهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ). ( «6»)

______________________________

(1) الرعد: 25.

(2) محمد: 22.

(3) مجمع البيان: 9/ 104.

(4) البقرة: 191.

(5) البقرة: 102.

(6) الأنفال: 28.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 749

و أُخرى في الابتلاء مثل قوله تعالى: (وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنٰاكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنّٰاكَ فُتُوناً). ( «1»)

و ثالثة في العذاب مثل قوله سبحانه: (فَإِذٰا أُوذِيَ فِي اللّٰهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّٰاسِ كَعَذٰابِ اللّٰهِ). ( «2»)

و رابعة في الصد عن الدين مثل قوله تعالى عز و جل: (وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكَ). ( «3»)

و لكن المراد من الآية هو الشرك للمناسبة بين الاختبار و الشرك، قال الطبرسي: قوله: (أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلٰادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي بلية عليكم ابتلاكم اللّه تعالى بها، فانّ

أبا لبابة حمله على ما فعله ماله الذي كان في أيديهم و أولاده الذين كانوا بين ظهرانيهم (وَ أَنَّ اللّٰهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن أطاعه و خرج إلى الجهاد و لم يخن اللّه و رسوله، و ذلك خير من الأموال و الأولاد، بيّن سبحانه بهذه الآية أنّه يختبر خلقه بالأموال و الأولاد ليتبيّن الراضي بقسمه ممّن لا يرضى به. ( «4»)

و أمّا الروايات:

1. فما رواه عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): أ لا أُنبِئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: المشّاءون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء المعايب». ( «5»)

______________________________

(1) طه: 40.

(2) العنكبوت: 10.

(3) المائدة: 49.

(4) مجمع البيان: 4/ 536.

(5) الوسائل: 8/ 616، الباب 164 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 750

2. و ما رواه أبو الحسن الاصفهاني، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): شراركم المشاءون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، المبتغون للبراء المعايب». ( «1»)

3. و ما رواه غالب البصري، عن رجل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا يدخل الجنة سفاك الدم، و لا مدمن الخمر، و لا مشاء بنميمة». ( «2»)

ثمّ إنّه إذا اجتمعت النميمة مع سائر العناوين المحرّمة يشتد العقاب و يزيد، و هي كالغيبة تنقسم إلى محرّمة و سائغة، و الثانية فيما إذا اقتضتها مصالح أقوى من مفسدتها.

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 617، الباب 164 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(2) الوسائل: 8/ 618، الباب 164 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 751

26 النياحة بالباطل

و يقع الكلام

في مقامين:

الأوّل: حكم نفس النياحة.

الثاني: حكم أُجرتها.

أمّا الأوّل: فيظهر من الأصحاب الاتّفاق على جوازها في الجملة.

قال العلّامة في «المنتهى»: النياحة بالباطل محرّمة إجماعاً، أمّا بالحق فجائزة إجماعاً، روى الجمهور عن فاطمة (عليها السلام) لمّا قالت: يا أبتاه! من ربّه ما أدناه، يا أبتاه! إلى جبرئيل أنعاه، يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، و عن علي (عليه السلام) انّ فاطمة (عليها السلام) أخذت قبضة من تراب قبر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فوضعتها على عينيها ثمّ قالت:

ما ذا على من شم تربة أحمد*** أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب ل- و أنّها*** صبّت على الأيّام صرن لياليا ( «1»)

غير أنّ الظاهر من الشيخ في «المبسوط» و ابن حمزة في «الوسيلة» الحرمة. قال الشيخ في «المبسوط»: البكاء ليس به بأس، و أمّا اللطم، و الخدش، و جز

______________________________

(1) المنتهى: 1/ 466، كتاب الصلاة فيما ورد بعد الدفن.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 752

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 752

الشعر، و النوح، فإنّه كلّه باطل محرّم إجماعاً. ( «1»)

و قال ابن حمزة في «الوسيلة»: و المحظور ثمانية أشياء: اللطم، و الخدش، و جز الشعر، و النياحة، و تخريق الثياب إلا للأب و الأخ، و إرسال الإزار على الرأس، و إرسال طرف العمامة إلا لهما، و وضع الرداء في مصيبة الغير. ( «2»)

و قال في «الجواهر»: و لعله من جواز البكاء يستفاد جواز النوح عليه أيضاً لملازمته له غالبا. ( «3»)

و قال في «الفقه على المذاهب الأربعة»: يحرم البكاء على

الميت برفع الصوت و الصياح، و أمّا هطل الدموع بدون صياح فانّه مباح، و كذلك لا يجوز الندب، و هو عدّ محاسن الميّت بنحو قوله وا جملاه، و اسنداه، و نحو ذلك، و منه ما تفعله النائحة، ( «4») ثمّ أشار في التعليقة بأنّ الشافعية و الحنابلة قالوا: يباح البكاء على الميّت برفع الصوت.

ثمّ المراد من الباطل ما لا يجوز ذكره، مثل الكذب، أو الهجر بمعنى الفحش، و هذا التفصيل هو مقصود من كل من اقتصر على ذكر تحريم أجرها إذا ناحت بالباطل.

و أمّا الأخبار فهي على طوائف:

منها: ما يدل على الجواز مطلقاً، كرواية يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا و كذا لنوادب تندبني

______________________________

(1) المبسوط: 1/ 189، أحكام الجنائز.

(2) الوسيلة: 68.

(3) الجواهر: 4/ 365.

(4) الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 418.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 753

عشر سنين بمنى أيّام منى». ( «1»)

و رواية أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «مات الوليد بن المغيرة، فقالت أُمّ سلمة للنبي (صلى الله عليه و آله و سلم): إنّ آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن لها، فلبست ثيابها و تهيّأت و كانت من حسنها كأنّها جان، و كانت إذا قامت فأرخت شعرها، جلل جسدها و عقدت بطرفيه خلخالها فندبت ابن عمّها بين يدي رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)، فقالت: أنعى الوليد بن الوليد أبا الوليد فتى العشيرة ... فما عاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ذلك، و لا قال شيئاً». ( «2»)

و منها: ما يدلّ على التحريم مطلقاً، مثل رواية الزعفراني،

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من أنعم اللّه عليه بنعمة فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفرها، و من أُصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفرها». ( «3»)

و في حديث المناهي، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «أنّه نهى عن الرنّة عند المصيبة، و نهى عن النياحة و الاستماع إليها، و نهى عن تصفيق الوجه». ( «4»)

و في «الخصال»، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه: أربعة لا تزال في أُمّتي إلى يوم القيامة: الفخر بالأحساب، و الطعن في الأنساب، و الاستسقاء بالنجوم، و النياحة، و انّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درع من حرب». ( «5»)

و ما رواه في «المستدرك»: «و لعن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أربعة: امرأة تخون زوجها

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 88، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 12/ 89، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

(3) الوسائل: 12/ 90، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 11.

(4) الوسائل: 12/ 90، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 11.

(5) الوسائل: 12/ 91، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 754

في ماله أو في نفسها، و النائحة، و العاصية لزوجها، و العاق». ( «1»)

و هناك طائفة ثالثة تدلّ عليا لكراهة: مثل رواية علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن النوح على الميت أ يصلح؟

قال: «يكره». (

«2»)

و عن «قرب الاسناد»: علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن النوح فكرهه. ( «3»)

فلو أُريد الكراهة المصطلحة، تلحق بالطائفة الأُولى، و إلا تكون من الطائفة الثانية.

و بما ان الطائفة الأُولى أصح سنداً، مضافاً إلى أنّها مخالفة للعامّة، و الطائفة الثانية أضعف سنداً و موافقة للعامّة، فنأخذ بالأُولى دون الثانية.

و يمكن حمل الطائفة الثانية على ما إذا قال هجراً، و ناح بالباطل، كما هو المستفاد من رواية خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين (عليهما السلام) في حديث قالت: ( «4») سمعت عمّي محمد بن علي (عليهما السلام) يقول: «إنّما تحتاج المرأة إلى النوح لتسيل دمعتها، و لا ينبغي لها أن تقول هجراً، فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة بالنوح». ( «5»)

أضف إلى ذلك انّ ما دلّ على الكراهة يمكن حمله على الكراهة المصطلحة، و حينئذ تكون هذه الطائفة مؤيدة للطائفة الأُولى، و قد حكى الفريقان أنّ فاطمة (عليها السلام) ناحت على أبيها فقالت: يا أبتاه! من ربه ما أدناه، يا

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 94، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

(2) الوسائل: 12/ 91، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 13 و 14.

(3) الوسائل: 12/ 91، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 13 و 14.

(4) هكذا في الكافي: 1/ 358، و لكن في الوسائل: «قال» و هو سهو.

(5) الوسائل: 12/ 91، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 755

أبتاه إلى جبرئيل أنعاه، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه. و قد روى الفريقان عن علي (عليه السلام) أنّ فاطمة (عليها السلام) أخذت قبضة من تراب قبر

النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): فوضعتها على عينيها ثمّ قالت:

ما ذا على من شم تربة أحمد*** أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب ل- و أنّها*** صبّت على الأيام صرن لياليا

و قال ابن قدامة في «المغني»: و النياحة و خمش الوجوه و شق الجيوب و ضرب الخدود و الدعاء بالويل و الثبور، فقال بعض أصحابنا: هو مكروه. ( «1») هذا كلّه في حكم النياحة.

و أمّا أخذ الأُجرة عليها فالأخبار على طوائف:

الأُولى: ما يدلّ على الجواز مطلقاً:

1. ما رواه الصدوق قال: قال (عليه السلام): «لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقاً». ( «2»)

2. قال: و سئل الصادق (عليه السلام) عن أجر النائحة فقال: «لا بأس به، قد نيح على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)». ( «3»)

الثانية: ما يدلّ على المنع مطلقاً: ما في حديث المناهي: «من أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن الرنّة عند المصيبة، و نهى عن النياحة و الاستماع إليها، و نهى عن تصفيق الوجه». ( «4») حيث إنّ النهي عنها على وجه الإطلاق يعمّ أخذ الأُجرة.

الثالثة: ما يدل على الكراهة مطلقاً:

مثل رواية سماعة قال: سألته عن كسب المغنية و النائحة فكرهه. ( «5»)

______________________________

(1) المغني: 2/ 455.

(2) الوسائل: 12/ 91، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 9 و 10.

(3) الوسائل: 12/ 91، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 9 و 10.

(4) الوسائل: 12/ 91، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11 و 8.

(5) الوسائل: 12/ 91، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11 و 8.

المواهب في تحرير

أحكام المكاسب، ص: 756

الرابعة: ما يدلّ على الجواز بشرط عدم المشارطة: كرواية حنان بن سدير قال: كانت امرأة معنا في الحي و لها جارية نائحة فجاءت إلى أبي فقالت: يا عم أنت تعلم أنّ معيشتي من اللّه ثمّ من هذه الجارية، فأحبّ أنْ تسأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ذلك فإن كان حلالًا، و إلا بعتها و أكلت من ثمنها حتى يأتي اللّه بالفرج، فقال لها أبي: و اللّه إنّي لأعظم أبا عبد اللّه (عليه السلام) أن أسأله عن هذه المسألة، قال: فلمّا قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «تشارط؟» فقلت: و اللّه ما أدري تشارط أم لا، فقال: «قل لها لا تشارط و تقبل ما أُعطيت». ( «1»)

الخامسة: ما يدل على الجواز بشرط ان تقول صدقاً: روى الصدوق قال: قال (عليه السلام): «لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا». ( «2»)

فمقتضى الجمع الدلالي هو الأخذ بالتفصيل، أعني: القول بالحليّة إذا لم يكن النوح بالباطل و الكذب.

و أمّا عدم المشارطة فليس حكماً تعبديّاً، بل هو حكم إرشادي كما ذكر في تكسّب الماشطة، فحينئذ لو صح ما يدلّ على أنّ أخذ الأُجرة مشروط بصدق كلامها فهو، و إلا فحرمة نفس العمل- أعني: النياحة بالكذب- كافية في تحريم الأُجرة.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 91، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و 9.

(2) الوسائل: 12/ 91، الباب 17 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 757

27 الولاية من قبل الجائر

اشارة

تقبُّل الولاية من قبل الجائر محرّم، لأنّ الوالي من أعظم الأعوان.

أقول: كان الأنسب هنا البحث عن أحكام الولاية مطلقاً، ثمّ البحث عن الولاية من قبل الجائر،

لأنّ الولاية من أهمّ الأُمور في الشريعة الإسلامية، و بها قوام الحياة، غير أنّ المشايخ جلّهم- إن لم يكن الكلّ- خصّصوا البحث بولاية الجائر من دون أن يبحثوا عن أحكام الولاية، أو ولاية العادل، و كأنّ الولاية منحصرة بالجائرين من دون ان يكون للعدول نصيب فيها، و بما أنّنا أعطينا حق الكلام حول الولاية و الحكومة في كتاب «معالم الحكومة الإسلامية» ( «1») فنكتفي هنا ببيان أحكام ولاية الجائر.

فنقول: لا شك في حرمة ولاية الجائر، و قد نصّ عليه الأصحاب.

قال المحقّق في «الشرائع»: الولاية من قبل السلطان العادل جائزة، و ربّما وجبت، كما إذا عيّنه إمام الأصل (عليه السلام)، أو لم يمكن دفع المنكر أو الأمر بالمعروف إلا بها، و تحرم من قبل الجائر إذا لم يأمن اعتماد ما يحرم، و لو

______________________________

(1) و هو الجزء الثاني من موسوعة «مفاهيم القرآن» التي تتألف من عشرة أجزاء طبع الجزء الأخير منها في سنة 1422 ه-.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 758

أمن ذلك و قدر على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر استحب. ( «1»)

و قال العلامة (قدس سره) في «التذكرة»: الولاية من قبل العادل مستحبة، و قد تجب إذا ألزمه بها أو كان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يتم إلا بولايته، و تحرم من الجائر إلا مع التمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. ( «2»)

و قال في «الإرشاد»: لا بأس بالولاية من قبل العادل، أو من الجائر مع علمه بالقيام بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو بدونه مع الإكراه.

و قال في «المنتهى»: و إذا علم التمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و وضع الأشياء مواضعها، جاز له التولّي

من قبل الجائر معتقداً أنّه يفعل ذلك من قبل السلطان الحق، لأنّ في ولايته حينئذ قياماً بالمعروف و نهياً عن منكر فكانت جائزة. ( «3»)

أقول: يقع الكلام في مقامات:

الأوّل: في الولاية من قبل السلطان العادل

لا شك في جواز الولاية من قبل السلطان العادل لما فيه من المعاونة على البر و التقوى، و انّما الكلام في وجوبها، و يظهر من كلمات الأصحاب وجوبها في صورتين:

1. إذا عيّنه السلطان العادل و نصبه للولاء.

2. إذا توقّف الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عليها.

أمّا الصورة الأُولى: فالظاهر أنّ ما هو الواجب انّما هو إطاعة السلطان

______________________________

(1) الشرائع: 2/ 12، كتاب التجارة.

(2) التذكرة: 12/ 149، المسألة 657، المقصد الثامن من كتاب البيع.

(3) المنتهى: 2/ 1024، كتاب البيع.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 759

العادل بما هي هي، و لكن الإطاعة تتحقّق بقبول الولاية من جانبه.

و بالجملة هنا عنوانان: أحدهما: إطاعة السلطان العادل، و ثانيهما: قبول الولاية منه؛ و هما عنوانان كليان، لا يسري حكم أحدهما إلى الآخر، غير انّهما يتحقّقان خارجاً بعمل واحد، و هو قبول ولاية منه، فالعمل الخارجي مجمع للعنوانين و هو لا يوجب تسرية الحكم من أحدهما إلى الآخر.

و أمّا الصورة الثانية: فانّ وجوب الولاية مبني على وجوب مقدّمة الواجب، و قد حقّقنا في محلّه عدم وجوبه. ( «1»)

الثاني: ما هو الملاك لحرمة الولاية عن الجائر؟

الظاهر من المحقّق أنّ حرمة قبول الولاية من الجائر لأجل ما يترتب عليها من المآثم و تبعاتها من تضييع حقوق الناس و غيرها، و المنقول عن العلامة الطباطبائي في مصابيحه أنّ تلك الولاية من المحرّمات الذاتية مطلقاً، و أنّها تتضاعف اثماً باشتمالها على المحرّمات لتضمنها التشريع فيما يتعلّق بالمناصب الشرعية.

و هناك وجه ثالث أبداه سيدنا الأُستاذ- دام ظله- و حاصله: انّ الحكومة و فروعها لأُولي الأمر من قبله تعالى، فتصدّيها و تقلّدها بدون إذنهم تصرّف في شئونهم و سلطانهم، و ترتفع الحرمة بإذنهم.

و لعلّ هذا هو مراد العلّامة الطباطبائي (قدس سره)، إذ

لو كانت الولاية أمراً حراماً بالذات كالسرقة و الغيبة، فلا معنى لاستئذان الشيعة الدخول في الولاية، كما لا معنى لإذنهم (عليهم السلام) في الدخول، فلا بدّ أن تكون الحرمة من قبيل كون الدخول

______________________________

(1) و سيوافيك الكلام عن وجوبها لأجل الأمر بالمعروف و قد ذكرناه هنا استطراداً.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 760

تصرّفاً في حقوقهم و سلطانهم و ترتفع بإذنهم، و على كل تقدير فالروايات على طوائف أربع:

الأُولى: ما يستفاد منها أنّ الحرمة لأجل ما يترتب عليها من المآثم، و إليك النصوص:

1. صحيحة أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمالهم فقال لي: «يا أبا محمد لا و لا مدّة قلم، انّ أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه مثله، أو حتى يصيبوا من دينه مثله». ( «1»)

و الرواية ظاهرة في أنّ النهي عن الدخول لأجل التحفّظ على الدين، و انّ الإصابة من دنياهم لا ينفك عن إصابتهم من دينه.

2. رواية جهم بن حميد قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «أما تغشى سلطان هؤلاء؟» قال: قلت لا، قال: «و لم؟» قلت: فراراً بديني، قال: «و عزمت على ذلك؟» قلت: نعم، قال لي: «الآن سلم لك دينك». ( «2»)

3. رواية داود بن زربي قال: أخبرني مولى لعلي بن الحسين (عليه السلام) قال: كنت بالكوفة فقدم أبو عبد اللّه (عليه السلام) الحيرة فأتيته، فقلت: جعلت فداك لو كلمت داود بن علي أو بعض هؤلاء فأدخل في بعض هذه الولايات، فقال: «ما كنت لأفعل»- إلى أن قال-: جعلت فداك ظننت أنّك انّما كرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم، و أنّ كلّ امرأة لي طالق، و كلّ مملوك لي حر و

عليّ إن ظلمت أحداً أو جرت عليه و إن لم أعدل، قال: «كيف قلت؟» فأعدت عليه الأيمان، فرفع رأسه إلى السماء، فقال: «تناول السماء أيسر عليك من ذلك». ( «3») بناء

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 129، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 7.

(2) الوسائل: 12/ 129، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5 و 7.

(3) الوسائل: 12/ 136، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 761

على أنّ «ذلك» إشارة إلى العدل و عدم الجور كما هو ظاهر.

هذه الروايات تدلّ على أنّ الحرمة لأجل عدم انفكاك الولاية عن المآثم و المحرّمات، و لأجل ذلك قال (عليه السلام): «تناول السماء أيسر عليك من ذلك» بناءً على أنّ المشار إليه هو التحرّز عن الجور و الظلم.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على كون نفس الولاية حراماً ذاتياً، نظير:

1. قوله (عليه السلام) في رواية «تحف العقول»: «و أمّا وجه الحرام من الولاية، فولاية الوالي الجائر، و ولاية ولاته، فالعمل لهم و الكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرّم، معذّب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير». ( «1») و دلالتها على الحرمة الذاتية واضحة.

2. رواية زياد بن أبي سلمة قال: دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) فقال لي: «يا زياد إنّك لتعمل عمل السلطان؟» قال: قلت: أجل، قال لي: «و لم؟» قلت: أنا رجل لي مروّة و عليّ عيال و ليس وراء ظهري شي ء. فقال لي: «يا زياد لئن أسقط من حالق فاتقطع قطعة قطعة أحبّ إليّ من أن أتولّى لأحد منهم عملًا، أو أطأ بساط رجل منهم، إلا لما ذا؟» قلت: لا أدري جعلت

فداك، قال: «إلا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فك أسره، أو قضاء دينه». ( «2»)

وجه دلالتها على الحرمة أنّه لو كانت الحرمة لأجل التصرّف في حقّهم لما كان لقوله (عليه السلام): «لئن أسقط من حالق ...» وجه، بل كان له الدخول و الإذن لشيعته في الدخول.

3. رواية سليمان الجعفري قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): ما تقول

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 55، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 9.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 762

في أعمال السلطان؟ فقال: «يا سليمان الدخول في أعمالهم و العون لهم و السعي في حوائجهم عديل الكفر، و النظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحق بها النار». ( «1»)

و هناك روايات تؤيد هذا المضمون كالروايات المستفيضة عن الرضا (عليه السلام) حيث يوجه قبوله (عليه السلام) ولاية العهد بالتقية، و لو كانت الحرمة لأجل كونه دخولًا في سلطانهم (عليهم السلام) لما كان لهذا التوجيه وجه، لأنّه (عليه السلام) هو صاحب السلطة.

4. رواية ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهلي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع حشره اللّه يوم القيامة خنزيراً». ( «2») فالظاهر منه أنّ نفس الدخول و التقلّد حرام بذاته.

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على كون الدخول، تصرّفاً في سلطان الغير و يرتفع المنع بإذنه، نظير:

1. ما رواه عبد اللّه بن جعفر في «قرب الاسناد» عن علي بن يقطين أنّه كتب إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام): انّ قلبي يضيق ممّا أنا عليه من عمل السلطان- و كان وزيراً لهارون- فإن أذنت- جعلني اللّه فداك- هربت منه، فرجع

الجواب: «لا إذن لك بالخروج من عملهم، و اتق اللّه أو كما قال». ( «3»)

فانّ المكاتبة و طلب الإذن للخروج ظاهر في أنّ الحرمة كانت مرتفعة بإذنهم (عليهم السلام) و هو ملازم عرفاً بأنّ الدخول كان تصرّفاً في حقوقهم.

2. ما رواه عمّار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، سئل عن أعمال السلطان يخرج فيه

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 138، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 12.

(2) الوسائل: 12/ 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 9.

(3) الوسائل: 12/ 143، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 16.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 763

الرجل قال: «لا إلا أن لا يقدر على شي ء يأكل و لا يشرب و لا يقدر على حيلة، فإن فعل فصار في يده شي ء فليبعث بخمسه إلى أهل البيت». ( «1»)

3. رواية أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «من أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال، و ما حرمناه من ذلك فهو له حرام». ( «2»)

وجه الدلالة: الظاهر أنّ المراد من «شيئاً» هو نفس أعمال الظالمين لا الغنائم و الزكوات و الصدقات.

و أوضح من ذلك ما رواه الكشي في رجاله عن أحمد بن محمد بن عيسى ... عن أبي حمزة الثمالي قال: قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «من أحللنا له شيئاً من أعمال الظالمين فهو له حلال، لأنّ الأئمة منّا مفوض إليهم، فما أحلّوا فهو حلال، و ما حرّموا فهو حرام». ( «3»)

و الظاهر انّا لمراد منا لتفويض، تفويضا لسلطنة و شئونها فيكون تحليلها بأيديهما أنّها من حقوقهم (عليهم السلام).

4. رواية إسحاق بن عمار، قال: سأل رجل أبا عبد

اللّه (عليه السلام) عن الدخول في عمل السلطان فقال: «هم الداخلون عليكم أم أنتم الداخلون عليهم؟» فقال: لا بل هم الداخلون علينا. قال: «لا بأس بذلك». ( «4»)

و بهذا المضمون ما رواه صفوان بن مهران قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من الشيعة فشكا إليه الحاجة، فقال له: ما يمنعك من التعرّض

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 146، الباب 48 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 12/ 143، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15.

(3) المستدرك: 13/ 138، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 24.

(4) المستدرك: 13/ 141، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 764

للسلطان فتدخل في بعض أعماله؟ فقال: إنّكم حرّمتموه علينا، فقال: «خبّرني عن السلطان لنا أولهم؟» قال: بل لكم، قال: «أهم الداخلون علينا أم نحن الداخلون عليهم؟» قال: بلى هم الداخلون عليكم، قال: «فانّما هم قوم اضطروكم فدخلتم في بعض حقّكم» فقال: إنّ لهم سيرة و أحكاماً، قال (عليه السلام): «أ ليس قد أجرى لهم الناس على ذلك؟» قال: بلى، قال: «أجروهم عليهم في ديوانهم و إيّاكم و ظلم مؤمن». ( «1»)

و الظاهر من الروايات هو جواز دخول الشيعة في أعمالهم لكونها من حقوقهم من قبل أئمتهم (عليهم السلام).

5. رواية الانباري، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «كتبت إليه أربع عشرة سنة استأذنه في عمل السلطان، فلمّا كان في آخر كتاب كتبته إليه أذكر أنّي أخاف على خيط عنقي، و أنّ السلطان يقول لي إنّك رافضي، و لسنا نشك في أنّك تركت العمل للسلطان للرفض، فكتب إليّ أبو الحسن (عليه السلام): «فهمت

كتابك [كتبك] و ما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنّك إذا وُلّيت عملت في عملك بما أمر به رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ثمّ تصير أعوانك و كتابك أهل ملتك، و إذا صار إليك شي ء واسيت به فقراء المؤمنين حتى تكون واحداً منهم كان ذا بذا، و إلا فلا». ( «2»)

و الاستئذان دليل على أنّ المنع لكونه تصرّفاً في حقوقهم و هو يرتفع بإذنهم.

الطائفة الرابعة: ما هي ظاهرة في الحرمة من دون إشارة إلى إحدى الجهات الماضية، نظير:

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 137، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 23.

(2) الوسائل: 12/ 145، الباب 48 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 765

1. صحيحة الوليد بن صبيح قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فاستقبلني زرارة خارجاً من عنده، فقال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام): «يا وليد أما تعجب من زرارة؟ سألني عن أعمال هؤلاء، أي شي ء كان يريد؟ أ يريد أن أقول له: لا، فيروي ذلك عني، ثمّ قال: يا وليد متى كانت الشيعة تسألهم عن أعمالهم؟ إنّما كانت الشيعة تقول: يؤكل من طعامهم و يشرب من شرابهم، و يستظل بظلهم متى كانت الشيعة تسأل عن هذا». ( «1»)

2. رواية يحيى بن إبراهيم بن مهاجر قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): فلان يقرؤك السلام، و فلان و فلان، فقال: «و (عليهم السلام)» قلت: يسألونك الدعاء قال: «و ما لهم؟» قلت: حبسهم أبو جعفر، فقال: «و ما لهم و ما له؟» فقلت: استعملهم فحبسهم، فقال: «و ما لهم و ما له؟ أ لم أنههم؟ أ لم أنههم؟ أ لم

أنههم؟ هم النار هم النار هم النار» ثمّ قال: «اللهم اجدع عنهم سلطانهم» قال: فانصرفنا من مكة، فسألنا عنهم، فإذا هم قد أُخرجوا بعد الكلام بثلاثة أيام». ( «2»)

و لعل هذه الروايات ظاهرة في الحرمة الذاتية.

هذا حال الروايات الواردة في المقام انّما الكلام في الجمع بينها، و لا منافاة بينها لإمكان أن يتّصف فعل واحد بعناوين مختلفة، فيكون محرّماً بذاته، و محرّماً لأجل عدم انفكاكه عن المآثم و المعاصي، و محرّماً لكونه دخولًا في سلطان الغير و تصرّفاً في حقوقهم، كما أنّه يمكن أن يكون محرّماً من جهة رابعة ككون الولاية إعانة للظالمين و تقوية لشوكتهم.

و تشهد على ما ذكرنا رواية علي بن أبي حمزة ففيها أنّ الدخول في ديوان

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 135، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 3.

(2) الوسائل: 12/ 135، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 766

الظلمة كما هو مستلزم لسلب حق الأئمة (عليهم السلام)، مستلزم لأُمور محرّمة، قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) في تلك الرواية: «لو لا انّ بني أُمية وجدوا لهم من يكتب و يجبي لهم الفي ء و يقاتل عنهم، و يشهد جماعتهم، لما سلبونا حقّنا- إلى أن قال:- فاخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت إليه ماله و من لم تعرف تصدّقت به». ( «1»)

الثالث: في مسوّغها
اشارة

اتّفقت كلمة الأصحاب على جوازها في موردين:

الأوّل: القيام بمصالح العباد.

الثاني: إذا أُكره على الولاية مع الخوف على النفس أو المال أو الأهل أو بعض المؤمنين، فيجوز حينئذ ائتمار ما يأمر إلا القتل. نعم لو خاف ضرراً يسيراً بترك الولاية كرهت له الولاية.

أمّا الأوّل-

أعني: القيام بمصالح العباد- فقال الراوندي: إنّ تقلّد الأمر من قبل الجائر جائز إذا تمكّن معه من إيصال الحق لمستحقه، بالإجماع المتردّد، و السنّة الصحيحة، و قوله تعالى: (اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ) ( «2») لأنّ ما أسنده اللّه تعالى إلى أوليائه حجّة، أو نقول: إنّ شرع من قبلنا مطلقاً حجّة ما لم يعلم نسخه. ( «3»)

و هل يشترط وجود العلم أو الظن بالتخلّص من المآثم أم لا؟ سيوافيك البحث فيه.

قال في «مفتاح الكرامة»: قد أطبق الأصحاب على عدم جواز الدخول

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 144، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) يوسف: 55.

(3) مفتاح الكرامة: 4/ 114.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 767

في أعمالهم إلا مع التمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و قسمة الصدقات و الأخماس على مستحقّها، وصلة الإخوان، و عدم ارتكابه في مثل ذلك اثماً أو ظنّاً، و قد نفى الخلاف عن ذلك كلّه في المنتهى. ( «1»)

و قال العلامة (قدس سره) في «المنتهى»: أمّا السلطان الجائر فلا يجوز الولاية منه مختاراً إلا مع العلم بالتمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و قسمة الأخماس و الصدقات على مستحقّهما، وصلة الإخوان، و لا يكون في ذلك مرتكباً للم آثم أو غلبة الظن بذلك، أمّا إذا انتفى العلم و الظن فلا تجوز الولاية من قبل الجائر بلا خلاف. ( «2»)

و الظاهر أنّ دعواه عدم الخلاف راجع إلى ما ذكره أخيراً من عدم الجواز إذا انتفى العلم و الظن بعدم ارتكابه للم آثم.

و بذلك يظهر ضعف استظهار صاحب «مفتاح الكرامة» من كلام العلامة- قدس سرهما- حول الإجماع.

و لا يخفى أنّ القيام بمصالح العباد الوارد في بعض الكلمات غير

القيام بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الوارد في كلمات الآخرين، و لأجل ذلك يجب البحث عن كلا العنوانين. و لنقدّم البحث عن العنوان الأوّل، أعني: القيام بمصالح العباد.

فنقول: استدلّ الشيخ (قدس سره) على الجواز بوجوه غير ناهضة للإثبات إلا الأخبار، و هي:

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 114. و لا يخفى أنّ التمكّن من الأمر بالمعروف غير صلة الإخوان، و هو مسوّغ آخر كما سيوافيك.

(2) المنتهى: 2/ 1024- 1025.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 768

الأوّل: قوله سبحانه (اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ) ( «1»)، و لا يخفى عدم صحة الاستدلال به، لأنّ يوسف (عليه السلام) كان مجازاً من جانبه سبحانه، و كان التقلّد حقّاً طلقاً له، و إنّ ما طلبه (عليه السلام) من الملك لأجل كون الوصول إلى ما يطلب موقوفاً على موافقته في ذلك اليوم، فلا يمكن الاستدلال به لمن ليس في رتبته، و لأجل ذلك قال سبحانه: (وَ كَذٰلِكَ مَكَّنّٰا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) ( «2») فاسنده تعالى إلى نفسه.

اللّهم إلا أن يقال: انّ المفاض عليه من اللّه سبحانه هو السلطنة المستقلّة في إطار نبوّته لا السلطنة عن جانب الغير، و الوارد في الآية هو الثاني لا الأوّل.

الثاني: الإجماع، و هو و إن كان محقّقاً غير أنّ المجمعين استندوا في إفتائهم إلى الأدلّة التي هي بأيدينا.

الثالث: انّ الولاية و ان كانت محرّمة بنفسها لكن يجوز ارتكابها لأجل التحفّظ على المصالح أو دفع المفاسد التي هي أشدّ مفسدة من الانخراط في عداد الظلمة أو أعوانهم.

يلاحظ عليه: أنّه انّما يتم لو كانت المصالح المحفوظة أو المفاسد المدفوعة أقوى من الانخراط في عدادهم، لكن المدّعى هو أعمّ، فانّ الظاهر من كلماتهم جواز قبولها لأجل قضاء حوائج الإخوان و

بذل الجهد في كشف الكربات عنهم، و غير ذلك من الأُمور المستحبة، و هي لا تقاوم حرمة الولاية، و قد ثبت في محلّه أنّ أَدلّة المستحبات لا تقاوم أَدلّة المحرّمات.

الرابع: الروايات الدالّة على الجواز على اختلاف ألسنتها، فانّها على

______________________________

(1) يوسف: 55.

(2) يوسف: 56.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 769

طوائف:

الطائفة الأُولى: ما يستفاد منها الكراهة، نظير رواية مهران بن محمد بن أبي نصر قال: سمعته يقول: «ما من جبّار إلا و معه مؤمن يدفع اللّه عز و جل به عن المؤمنين، و هو أقلّهم حظاً في الآخرة، يعني أقل المؤمنين حظاً بصحبة الجبار». ( «1»)

و لو لا قوله: «أقلّ المؤمنين حظاً بصحبة الجبار» لاحتملنا أنّ حظاً مصحّف خطأ و إلّا لوقع التعارض بينها و بين رواية المفضل بن عمر حيث قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ما من سلطان إلا و معه من يدفع اللّه به عن المؤمنين أُولئك أوفر حظاً في الآخرة». ( «2»)

غير أنّ التفسير يصدنا عن هذا الحمل سواء أ كان التفسير من الإمام (عليه السلام) أم من الراوي.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على جوازها بالذات عند القيام بمصالح العباد و أنّ العمل في هذا الظرف عمل جائز من دون أن يكون له تبعة، و إليك رواياتها:

1. ما رواه علي بن يقطين قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): «إنّ للّه تبارك و تعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه». ( «3»)

2. و ما رواه الصدوق في «المقنع» قال: روي عن الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ للّه مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه». ( «4»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 134، الباب 44 من أبواب ما يكتسب به،

الحديث: 4.

(2) المستدرك: 13/ 136، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 16، و لأجل اختلافهما في الذيل مع الاتحاد في الصدر جعلنا الأُولى من أقسام الطائفة الأُولى و الثانية من روايات الطائفة الرابعة، فلاحظ.

(3) الوسائل: 12/ 139، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 5.

(4) الوسائل: 12/ 139، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 770

3. و قال: و سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل يحبّ آل محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) و هو في ديوان هؤلاء فيقتل تحت رايتهم، فقال: «يحشره اللّه على نيّته». ( «1») فإذا كانت نيّته من الدخول هو القيام بمصالح حال العباد فيحشره على تلك النية. و سيوافيك أنّ هذه و أمثالها شواهد جمع لما اختلفت به الأخبار في المقام.

4. ما رواه زياد بن أبي سلمة قال: دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) فقال لي: «يا زياد إنّك لتعمل عمل السلطان؟» قال: قلت: أجل، قال لي: «و لم؟» قلت: أنا رجل لي مروّة و عليّ عيال، و ليس وراء ظهري شي ء، فقال لي: «يا زياد لئن أسقط من حالق فأتقطع قطعة قطعة أحبّ إليّ من أن أتولّى لأحد منهم عملًا أو أطأ بساط رجل منهم، إلا لما ذا؟» قلت: لا أدري جعلت فداك، قال: «إلا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فك أسره، أو قضاء دينه ...». ( «2»)

5. ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: ذكر عنده رجل من هذه العصابة قد ولي ولاية، فقال: «كيف صنيعه إلى إخوانه؟» قال: قلت: ليس عنده خير، قال:

«أف يدخلون فيما لا ينبغي لهم و لا يصنعون إلى إخوانهم خيراً». ( «3») و دلالته بالمفهوم.

6. ما رواه أحمد بن زكريا الصيدلاني، عن رجل من بني حنيفة من أهل بست و سجستان قال: وافقت أبا جعفر (عليه السلام) في السنة التي حج فيها في أوّل خلافة المعتصم، فقلت له- و أنا معه على المائدة و هناك جماعة من أولياء السلطان-: إنّ والينا- جعلت فداك- رجل يتولاكم أهلَّ البيت، و يحبكم، و عليّ في ديوانه خراج، فإن رأيت- جعلني اللّه فداك- أن تكتب إليه بالإحسان إليّ، فقال لي: «لا

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 139، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

(2) الوسائل: 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 9 و 10.

(3) الوسائل: 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 9 و 10.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 771

أعرفه»، فقلت: جعلت فداك إنّه على ما قلت من محبتكم أهل البيت و كتابك ينفعني عنده، فأخذ القرطاس فكتب: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد فانّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلًا، و انّما لك من عملك ما أحسنت فيه، فأحسن إلى إخوانك ...». ( «1»)

7. ما رواه يوسف بن عمّار قال: وصفت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): من يقول بهذا الأمر ممّن يعمل عمل السلطان، فقال: «إذا ولوكم يدخلون عليكم المرفق و ينفعونكم في حوائجكم؟» قال: قلت: منهم من يفعل (ذلك) و منهم من لا يفعل، قال: «من لم يفعل ذلك منهم فابرءوا منه برئ اللّه منه». ( «2») و دلالته بالمفهوم.

8. ما رواه السيّاري، عن ابن جمهور و غيره من أصحابنا قال: كان النجاشي- و هو

رجل من الدهاقين- عاملًا على الأهواز و فارس، فقال بعض أهل عمله لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّ في ديوان النجاشي عليّ خراجاً، و هو ممّن يدين بطاعتك، فإن رأيت أن تكتب له كتاباً، قال: فكتب إليه كتاباً: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، سُرّ أخاك يسرّك اللّه» فلمّا ورد عليه و هو في مجلسه، فلمّا خلا ناوله الكتاب و قال له: هذا كتاب أبي عبد اللّه (عليه السلام)، فقبّله و وضعه على عينيه، ثمّ قال: ما حاجتك؟ فقال: عليّ خراج في ديوانك، قال له: كم هو؟ قلت: هو عشرة آلاف درهم، قال: فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه، ثمّ أخرج مثله فأمره أن يثبتها له لقابل ثمّ قال: هل سررتك؟ قال: نعم. الحديث. ( «3»)

9. ما رواه الحسن بن الحسين الأنباري، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: كتبت إليه أربع عشرة سنة أستأذنه في عمل السلطان، فلمّا كان في آخر كتاب كتبته

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11 و 12.

(2) الوسائل: 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11 و 12.

(3) الوسائل: 12/ 142، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 13.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 772

إليه أذكر انّي أخاف على خيط عنقي و انّ السلطان يقول لي إنّك رافضي و لسنا نشك في أنّك تركت العمل للسلطان للرفض، فكتب إليّ أبو الحسن (عليه السلام): «فهمت كتابك و ما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنّك إذا وليت عملت في عملك بما أمر به رسول اللّه ثمّ تُصيّر أعوانك و كُتّابك أهل ملتك و إذا صار إليك شي ء واسيت به فقراء

المؤمنين حتى تكون واحداً منهم كان ذا بذا، و إلا فلا». ( «1»)

و ظاهر هذه الرواية هو عدم كفاية الإكراه في قبول الولاية بل تشرط معها، مواساة الفقراء المؤمنين فكان المجوّز هو القيام بصالح الأعمال.

10. ما رواه المفيد في «الروضة» عن أحمد بن محمد السيّاري، عن علي بن جعفر (عليه السلام) قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام): إنّ قوماً من مواليك يدخلون في عمل السلطان و لا يؤثرون على إخوانهم، و إن نابت أحداً من مواليك نائبة قاموا، فكتب: «أُولئك هم المؤمنون حقاً عليهم مغفرة من ربّهم و رحمة و أُولئك هم المهتدون». ( «2»)

11. ما رواه ابن مسكان، عن الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) يكون الرجل من إخواننا مع هؤلاء في ديوانهم فيخرجون إلى بعض النواحي فيصيبون غنيمة، فقال: «يقضي منه حقوق إخوانه». ( «3»)

12. ما رواه محمد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته من عمل السلطان و الدخول معهم، قال: «لا بأس إذا وصلت إخوانك و عضدت أهل ولايتك». ( «4»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 145، الباب 48 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) المستدرك: 13/ 130، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 2 و 4.

(3) المستدرك: 13/ 130، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 2 و 4.

(4) المستدرك: 13/ 130، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 2 و 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 773

13. ما رواه الوليد بن صبيح الكابلي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: «من سوّد اسمه في ديوان بني شيصبان حشره اللّه يوم القيامة مسودّاً

وجهه إلا من دخل في أمرهم على معرفة و بصيرة و ينوي الإحسان إلى أهل ولايته». ( «1»)

14. ما رواه محمد بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن عمل السلطان و الدخول معهم و ما عليهم فيما هم فيه، قال: «لا بأس به إذا واسى إخوانه و أنصف المظلوم و أغاث الملهوف من أهل ولايته». ( «2»)

15. ما رواه الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب قال: استأذن رجل أبا الحسن موسى (عليه السلام) في أعمال السلطان، فقال: «لا و لا قطّة قلم، إلا لإعزاز مؤمن أو فك أسره، ثمّ قال له: كفّارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم». ( «3»)

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على أنّ العمل مع قصد المواساة حرام غير إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ، و إنّ قيامه بمصالحهم كفّارة لحرمة عمله، و إليك روايات هذه الطائفة:

1. ما رواه شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): من تولّ- ى عرافة قوم أتى به يوم القيامة و يداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر اللّه عز و جل أطلقه اللّه، و إن كان ظالماً هوى به في نار جهنم و بئس المصير». ( «4»)

2. و ما رواه في عقاب الأعمال، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)- في حديث- قال: «من أكرم أخاه فانّما يكرم اللّه عز و جل، فما ظنكم بمن يكرم اللّه عز و جل أن يفعل به؟ و من تولّى

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 131، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

(2) المستدرك: 13/ 131، الباب

39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

(3) المستدرك: 13/ 131، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 8. و لاحظ بقية أحاديث الباب.

(4) الوسائل: 12/ 136، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 774

عرافة قوم حبس على شفير جهنم بكل يوم ألف سنة، و حشر و يده مغلولة إلى عنقه، فإن كان قام فيهم بأمر اللّه أطلقها اللّه، و إن كان ظالماً هوى به في نار جهنم سبعين خريفاً». ( «1»)

فانّ مجيئه يوم القيامة و يداه مغلولتان و حبسه على شفير جهنم لا ينفكان عن كونه محرّماً في نفسه، غير أنّ قيامه بالأعمال الحسنة يوجب تخلّصه من عذاب اللّه.

3. عن الصدوق: و قال الصادق (عليه السلام): «كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان». ( «2»)

4. ما رواه العياشي في تفسيره، عن مفضل بن مريم الكاتب قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) و قد أُمرت أن أُخرج لبني هاشم جوائز فلم أعلم إلا و هو على رأسي، فوثبت إليه، فسألني عمّا أمر لهم، فناولته الكتاب فقال: «ما أرى لإسماعيل هاهنا شيئاً» فقلت: هذا الذي خرج إلينا، ثمّ قلت: جعلت فداك قد ترى مكاني من هؤلاء القوم فقال: «انظر ما أصبت فعد به على أصحابك، فإنّ اللّه تعالى يقول: (إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ)». ( «3»)

5. ما رواه البرقي، عن أبيه، عن محمد بن عيسى بن يقطين قال: كتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن (عليه السلام) في الخروج من عمل السلطان فأجابه: «إنّي لا أرى لك الخروج من عمل السلطان، فإنّ للّه عزّ و جلّ بأبواب الجبابرة من يدفع بهم عن أوليائه، و هم عتقاؤه من

النار، فاتق اللّه في إخوانك أو كما قال». ( «4»)

6. ما رواه السيد هبة اللّه في الكتاب المذكور (المجموع الرائق) عن الأربعين

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 136، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

(2) الوسائل: 12/ 139، الباب 56 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

(3) الوسائل: 12/ 143، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 17.

(4) المستدرك: 13/ 130، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 775

لأبي الفضل محمد بن سعيد، عن صفوان بن مهران الجمال قال: دخل زياد بن مروان العبدي على مولاي موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فقال لزياد: أتقلد لهم عملًا؟ فقال: بلى يا مولاي، فقال: و لم ذاك؟ قال: فقلت: يا مولاي إنّي رجل لي مروّة، و علي عيلة و ليس لي مال، فقال (عليه السلام): «يا زياد و اللّه لئن أقع من السماء إلى الأرض فأنقطع قطعاً و يفصلني الطير بمناقيرها مفصلًا مفصلًا لأحبّ إليّ من أن اتقلّدهم عملًا» فقلت: إلا لما ذا، فقال: «إلا لإعزاز مؤمن أوفك أسره، انّ اللّه وعد من يتقلّد لهم عملًا أن يضرب عليه سرادقاً من نار حتى يفرغ اللّه من حساب الخلائق، فامض و اعزز من إخوانك واحداً و اللّه من وراء ذلك يفعل ما يشاء». ( «1»)

الطائفة الرابعة: ما يدلّ على استحباب التولّي لمواساة الإخوان. و إليك رواياتها:

1. ما رواه النجاشي في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): «إنّ للّه تعالى بأبواب الظالمين من نوّر اللّه له البرهان و مكّن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه و يصلح اللّه بهم (به) أُمور المسلمين، إليهم ملجأ

المؤمن (المؤمنين) من الضرّ، و إليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، و بهم يؤمِّن اللّه روعة المؤمن في دار الظلمة، أُولئك المؤمنون حقاً، أُولئك أُمناء اللّه في أرضه، أُولئك نور [اللّه] في رعيتهم يوم القيامة و يزهر نورهم لأهل السماوات كما تزهر الكواكب الدرّية لأهل الأرض، أُولئك من نورهم يوم القيامة (نور القيامة) تضي ء منهم القيامة، خلقوا و اللّه للجنة و خلقت الجنة لهم فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كلّه» قال: قلت: بما ذا جعلني اللّه فداك؟ قال: «يكون معهم فيسرّنا

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 135، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 776

بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكن منهم يا محمد». ( «1»)

و دلالة الرواية على الاستحباب ظاهرة.

2. ما رواه محمد بن إدريس من كتاب مسائل الرجال، عن أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام): «إنّ محمد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العمل لبني العباس و أخذ ما يتمكّن من أموالهم هل فيه رخصة؟ فقال: «ما كان المدخل فيه بالجبر و القهر فاللّه قابل العذر، و ما خلا ذلك فمكروه، و لا محالة قليله خير من كثير، و ما يكفر به ما يلزمه فيه من يرزقه و يسبب على يديه ما يسرك فينا و في موالينا»، قال: فكتبت إليه في جواب ذلك اعلمه أنّ مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل إلى إدخال المكروه على عدوه، و انبساط اليد في التشفّي منهم بشي ء أتقرّب به إليهم، فأجاب: «من فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً، بل أجراً و ثواباً». ( «2»)

3. ما رواه الصدوق حيث قال: «أُولئك عتقاء

اللّه من النار». ( «3»)

4. ما رواه زيد الشحام قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول: «من تولّى أمراً من أُمور الناس فعدل و فتح بابه و رفع ستره و نظر في أُمور الناس كان حقاً على اللّه عز و جل أن يؤمن روعته يوم القيامة و يدخله الجنة». ( «4»)

5. ما رواه البرقي، عن أبيه، عن محمد بن عيسى بن يقطين قال: كتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن (عليه السلام) في الخروج من عمل السلطان فأجابه: «إنّي لا أرى

______________________________

(1) رجال النجاشي: 331 في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع.

(2) الوسائل: 12/ 137، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 9.

(3) الوسائل: 12/ 139، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

(4) الوسائل: 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 777

لك الخروج من عمل السلطان، فانّ للّه عز و جل بأبواب الجبابرة من يدفع بهم عن أوليائه و هم عتقاؤه من النار، فاتق اللّه في إخوانك» أو كما قال. ( «1»)

6. ما رواه هشام بن سالم قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «إنّ للّه عز و جل مع ولاة الجور أولياء يدفع بهم عن أوليائه، أُولئك هم المؤمنون حقاً». ( «2»)

7. و عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ما من سلطان إلا و معه من يدفع اللّه به عن المؤمنين، أُولئك أوفر حظاً في الآخرة». ( «3»)

وجه الجمع بين الروايات

هذه طوائف الروايات ذكرناها، غير أنّ المهم هو الجمع بين الطائفة الأُولى الدالة على الكراهة، و الطائفة الرابعة الدالة على الاستحباب.

و قد جمع الشيخ الأعظم (قدس

سره) بينهما بقوله: بأنّ ما يدلّ على كونها مرجوحة أنّها راجعة إلى من تولّى لهم لنظام معاشه قاصداً الإحسان في خلال ذلك إلى المؤمنين و دفع الضر عنهم كما هو مورد رواية مهران بن محمد بن أبي نصر، و ما يدلّ على الاستحباب إنّها راجعة إلى من لم يقصد بدخوله إلا الإحسان إلى المؤمنين كما هو الظاهر من رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع.

و يمكن أن يقال: انّ رواية أبي نصر مقيِّدة للرواية الثانية و أضرابها فانّها ظاهرة فيما إذا قبلت الولاية للأغراض الشخصية مع قصد الإحسان إلى المؤمنين في ضمنها و لكن رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع ظاهرة في الاستحباب مطلقاً، سواء أ كانت لتأمين المعاش مع قصد الإحسان إلى المؤمنين، أم كانت لخصوص إصلاح

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 130، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

(2) المستدرك: 13/ 135 و 136، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15 و 16.

(3) المستدرك: 13/ 135 و 136، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15 و 16.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 778

حالهم، فتكون الرواية الأُولى أخصَّ مطلقاً من الثانية فتقيّد بها، كما تقيّد كل ما كان بمضمون رواية ابن بزيع كروايتي هشام بن سالم و المفضل. ( «1»)

بقيت هنا نكات

الأُولى: انّ المحقّق الإيرواني حمل رواية هشام بن سالم و المفضّل بن عمر و ما في مضمونهما على معنى آخر و هو: انّ المراد منهم عدّة من وجوه البلد و أعيانه الذين يختلفون إليه لأجل قضاء حوائج الناس لا الوالي من قبله، فإنّ العمال- أي الولاة من جانب الجائر- لا يستطيعون التخطي غالباً عمّا نصبوا لأجله و فوّض إليهم من

الأعمال، و ليس لهم الشفاعات أو المسامحة في المجازات و إقامة السياسات، إلا أن يسرّوا بها إسراراً و إلا لأزيلوا عن مستقرّهم. ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ الناظر إلى الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب يقف على أنّ (مع السلطان) عبارة عن الولاة و العمال من جانبه لا وجوه البلد، و لأجل ذلك كانوا يسألون الأئمة (عليهم السلام) عن السماح لهم للدخول لأجل القيام بمصالح الإخوان، و أعجب من ذلك قوله: «إنّهم لا يستطيعون التخطّي عمّا نصبوا لأجله» فانّ صاحب المناصب السافلة قادر على التخطّي فضلًا عن غيرهم.

الثانية: قد احتمل سيدنا الأُستاذ- دام ظله- أن يكون التسويغ للورود في سلطانهم في تلك الأعصار تسويغاً سياسياً لمصلحة بقاء المذهب، فانّ الطائفة المحقّة في ذلك العصر كانت تحت سلطة الأعادي و كان خلفاء الجور و أُمراؤهم من ألدّ الأعداء لهذه العصابة، فلولا دخول بعض أُمراء الشيعة و ذوي جلالتهم في

______________________________

(1) لاحظ الطائفة الرابعة من الروايات 775- 777.

(2) تعليقة المحقّق الإيرواني: 44.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 779

الحكومات و التولّي للأُمور لحفظ مصالحهم و الصلة إليهم، و الدفاع عنهم، لكان السواد منهم في معرض الاستهلاك في الدول، بل في معرض تزلزل الضعفاء منهم من شدّة الضيق عليهم، فكانت تلك المصلحة موجبة لترغيبهم في الورود في ديوانهم. ( «1»)

و لا يخفى أنّ ما ذكره و إن كان ينطبق على وجه ببعض الروايات، و لكنه غير منطبق على بعضها الآخر، و مع ذلك كلّه فليكن ذلك بعض الدواعي و العلل لتشريع جواز الدخول في ولايتهم لا الوجه المنحصر، فظاهر إطلاق الروايات في المقام كفاية القيام بمصالح المؤمنين و لا يختص بما إذا كان حفظ الطائفة الحقّة موقوفاً عليه.

الثالثة: انّ

مقتضى إطلاق الأدلّة جواز الدخول في أعمالهم و لو لزم من التصدّي جمع الزكوات و الخراج من غير الشيعة و إيصالها إلى السلطان الجائر، فإنّ التولّي لأُمورهم في مثل المقام لا ينفك عنه، فالسكوت في تلك الروايات دليل على جوازه، و كأنّه من باب قاعدة الإلزام، أعني: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم».

و يدلّ على ذلك ما رواه علي بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال: «إن كنت لا بد فاعلًا فاتق أموال الشيعة».

قال: فأخبرني علي أنّه كان يجبيها من الشيعة علانية و يردّها عليهم في السر. ( «2»)

و رواية صفوان بن مهران الجمال قال: دخل زياد بن مروان العبدي على مولاي موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقال لزياد: «أ تقلّد لهم عملًا؟» فقال: بلى يا مولاي،

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 2/ 136.

(2) الوسائل: 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 780

فقال: «و لم ذاك؟» قال: قلت: يا مولاي إنّي رجل لي مروءة، و علي عيلة و ليس لي مال، فقال (عليه السلام): «يا زياد و اللّه لئن أقع من السماء إلى الأرض فاتقطع قطعاً، و يفصّلني الطير بمناقيرها مفصلًا مفصلًا لأحبّ إلى من أن أتقلّدهم عملا»، فقلت: إلا لما ذا؟ فقال: «إلا لإعزاز مؤمن أو فك أسره، إنّ اللّه وعد من يتقلّد لهم عملًا أن يضرب عليه سرادقاً من نار حتى يفرغ اللّه من حساب الخلائق، فامض و اعزز من إخوانك واحداً واحداً و اللّه من وراء ذلك يفعل ما يشاء». ( «1»)

و حمل هذه الروايات على ما لم يترتب على ولايته سوى إعزاز المؤمن حمل لها على الفرد النادر.

نعم،

انّما يجوز الدخول لأجل القيام بمصالح العباد إذا لم يعلم أو لم يحصل الاطمئنان بأنّ الدخول يستلزم ارتكاب المحرّم، و إلا فلا يجوز أبداً.

نعم يظهر ممّا نقلناه من «العلامة» أنّه لا يكفي عدم العلم بارتكاب الحرام في جواز قبول الولاية، بل يشترط العلم بالتمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. ( «2»)

ثمّ إنّ صاحب الجواهر حمل النصوص المانعة على الولاية على المحرّمات، أو الممزوجة بالحلال و الحرام، و نصوص الجواز على الولاية على المباح كجباية الخراج و نحوه ممّا جوّز الشارع معاملة الجائر فيه معاملة العادل ... و نصوص الترغيب، على الدخول للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و حفظ نفس المؤمنين و أموالهم و أعراضهم و إدخال السرور عليهم. ( «3»)

______________________________

(1) المستدرك: 13/ 135، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15.

(2) المنتهى: 2/ 1024.

(3) الجواهر: 22/ 161- 162.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 781

و بعض ما ذكره و إن كان ينطبق على المختار غير أنّ حمل الأخبار المانعة على الولاية على المحرّمات أو الممزوجة بالحلال و الحرام إنّما يتم على القول بعدم حرمة نفس الدخول في ولايتهم، و أمّا على هذا القول فالأخبار المحرّمة تعم حتى ما إذا لم يكن هناك ارتكاب حرام، بل كانت الولاية على المباح كجباية الخراج.

الدخول لأجل الأمر بالمعروف
اشارة

هذا كلّه حول العنوان الأوّل الذي تضافرت الروايات- مع ضعف اسناد أكثرها- على جوازه، و هناك عنوان آخر و هو التمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لم يرد ذاك العنوان في الروايات و انّما هو من باب سراية الحكم إلى هذه الصورة، و لا يخفى أنّ الروايات السالفة قاصرة الدلالة على الجواز في هذه الصورة و يجب

التماس الدليل عليه من جهة أُخرى، و قد قدمنا كلام الأصحاب في هذا المورد في صدر البحث و قد عطف أحد العنوانين في كلام الأصحاب على الآخر. و على كل تقدير يقع الكلام في مقامين:

[المقام الأول] الأوّل: ما هو مقتضى القاعدة العقلية؟

الثاني: ما هو مقتضى الأدلّة الشرعية؟

أمّا الأوّل: فقد اختار صاحب الجواهر أنّ مقتضى القواعد التخيير، و قال: إنّ تعارض ما دل على الأمر بالمعروف و ما دلّ على حرمة الولاية من الجائر و لو من وجه، فيجمع بينهما بالتخيير المقتضي للجواز رفعاً لقيد المنع من الفعل ممّا دل على الحرمة، (هذا على القول بحرمة الولاية بنفسها). و أمّا على القول بحلية الولاية السالمة عن المحرّم كان المتّجه- بناء عليه- الوجوب لثبوت الجواز مع عدم الأمر

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 782

بالمعروف فلا معارضة حينئذ لما يقتضي وجوبه. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ مورد الجمع فيما إذا كان المورد من مصاديق التعارض، و لا يتحقّق التعارض إلا إذا كان الموضوع في كلا الدليلين واحداً و اختلفا في الحكم سلباً و إيجاباً، و أمّا المقام فليس من ذاك المورد، فإنّ موضوع الوجوب هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و موضوع الحرمة هو الولاية عن الجائر، فالدليلان مختلفان موضوعاً، فكيف يمكن عدّهما من مصاديق التعارض و إجراء قواعده فيه من الجمع و الترجيح؟!

فالأولى: عدّ المقام من المتزاحمين، فإنّه إذا توقّف الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على الولاية عن الجائر يجتمع فيه ملاكا الوجوب و الحرمة، فلا بد في تقديم أحدهما على الآخر من مرجّح، و هذا نظير الدخول إلى الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق. و القائل بالوجوب، يقدّم أدلة الأمر بالمعروف على أدلّة حرمة الولاية. غير أنّ المحقّق السبزواري (قدس سره)

في «كفايته» توقّف في التقديم قائلًا بأنّ التقديم انّما يتم لو ثبت كون وجوب الأمر بالمعروف مطلقاً غير مشروط بالقدرة الشرعية فيجب عليه تحصيلها من باب المقدّمة، و ليس بثابت.

و أورد عليه الشيخ الأعظم (قدس سره) بأنّ عدم ثبوت اشتراط الوجوب بالقدرة الحالية العرفية ( «2») كاف مع إطلاق أدلّة الأمر بالمعروف السالمة عن التقييد بما عدا القدرة العقلية المفروضة في المقام، و أمّا ما ربما يتوهم من انصراف الإطلاقات الواردة إلى القدرة العرفية غير المحقّقة في المقام فهو تشكيك ابتدائي لا يضر بالإطلاقات.

______________________________

(1) الجواهر: 22/ 164.

(2) مراده من القدرة العرفية: هي القدرة الخاصة وراء القدرة العقلية التي يعبّر عنها بالقدرة الشرعية أيضاً.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 783

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ- دام ظله- وافق صاحب «الكفاية» و قرر ما ذكره من كلامه بوجه آخر و حاصله: أنّ المتفاهم من أدلّة وجوبهما- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- أنّه معلّق على عدم استلزام ترك واجب أو فعل حرام، و دليل حرمة الولاية مطلق في موضوعه على نحو التنجيز و لا يعارض المعلّق المنجز، بل دليله حاكم على دليل الحكم المعلّق، فكما لا تعارض بين الأدلّة بما عرفت، لا مجال للتزاحم بعد عدم إطلاق يكشف منه المقتضي، و عدم استقلال العقل بوجود المقتضي حتى في مورد لزوم ارتكاب الحرام. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره (تعليق الأمر بالمعروف على عدم استلزامه ترك واجب أو ارتكاب الحرام) يتم في بعض مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما هو الحال في المرتبة اللسانية منهما، و أمّا إذا تجاوز عنه كإجراء الحدود وسد أبواب الزنا و القمار، فليس الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر معلّقاً على عدم

ارتكاب محرّم أو ترك واجب، خصوصاً أنّ إجراء الحدود أحياناً كسد أبواب القمار و الخمر لا ينفك عن ارتكاب أُمور ممنوعة، و إلا فلو كان وجوبهما معلّقاً، فلتكن حرمة الولاية عن الجائر كذلك، أي معلّقة بعدم استلزامها ترك واجب، مثل سد باب المنكرات، و المحرّمات.

و الذي يمكن ان يقال: انّ القول بالوجوب مطلقاً مقدّماً على حرمة الولاية مطلقاً أمر مشكل، لأنّ الحكم الفعلي في باب التزاحم يتبع أقوى المناطين و لم يعلم إقوائية الأمر بالمعروف مطلقاً على الآخر لاختلاف أفراد الولايات كاختلاف أفراد المعروف و المنكر، فكيف يقدّم نوع أحدهما على نوع الآخر؟ بل ينبغي مقايسة الولاية التي يتقلّدها مع المعروف الذي يريد إقامته بسببه، و لأجل ذلك لا يمكن الحكم

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 2/ 129.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 784

بالتخيير مطلقاً. هذا كله حسب القواعد الأوّلية، انّما الكلام في حكمه من حيث الأدلّة الشرعية و هذا هو الذي نوضحه في المقام التالي.

المقام الثاني: في حكمه حسب الأدلّة الشرعية

يستفاد جواز ذلك من الأخبار بوجوه:

الأوّل: ما يدلّ على جواز الورود بنيّة صالحة على الوجه الكلّي الذي يشمل الدخول لأجل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، مثل:

1. رواية الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل مسلم و هو في ديوان هؤلاء، و هو يحبّ آل محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) و يخرج مع هؤلاء في بعثهم فيقتل تحت رايتهم، قال: «يبعثه اللّه على نيّته» قال: و سألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب معهم شيئاً فيغنيه اللّه به فمات في بعثهم، قال: «هو بمنزلة الأجير إنّه إنّما يعطي اللّه العباد على نيّاتهم». ( «1»)

2. و رواية الصدوق (قدس سره) قال: و سئل أبو

عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل يحبّ آل محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) و هو في ديوان هؤلاء فيقتل تحت رايتهم، فقال: «يحشره اللّه على نيّته». ( «2»)

و الظاهر وحدة الروايتين، و المراد من (رجل مسلم) هو المسلم الشيعي، و على فرض إطلاق الرواية تشمل الموافق بطريق أولى، و مورد الرواية هو الدخول عن اختيار.

الثاني: انّ ما دلّ على جواز الولاية من قبل الجائر لمواساة المؤمنين و كشف الكرب عنهم و فك أسرهم و قضاء حوائجهم، يدلّ على الجواز في المقام، لأنّه إذا جازت الولاية لأجل هذه الأُمور، تجوز للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بطريق

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 146، الباب 48 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

(2) الوسائل: 12/ 139، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 785

أولى، بل يمكن أن يقال: انّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر نوع إصلاح لأُمورهم، و قد أشار إليه المحقّق الإيرواني بقوله: إنّ اخبار استحباب تصدي الولاية لإصلاح أُمور المسلمين تشمل المقام.

هذا كلّه حول المسوِّغين: أي صلة الإخوان، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بقي الكلام في قبوله على وجه الإكراه، و إليك البيان.

الإكراه على قبول الولاية
اشارة

ممّا يسوِّغ الولاية الإكراه عليها بالتوعيد على تركها من الجائر بما يوجب ضرراً بدنياً أو مالياً عليه، أو من يتعلّق به بحيث يعد الإضرار به إضراراً به، و يكون تحمل الضرر عليه شاقاً على النفس، و لا يخفى أنّ الإكراه غير التقية، و هما غير الاضطرار، و الثلاثة غير الحرج، و الكلّ مسوّغ للدخول على وجه الإجمال. و قد خلط الأصحاب بين العناوين و لم يفرّقوا بينها، فالأولى التفكيك بينها،

و لأجل ذلك يبحث عن التقية أوّلًا، و عن الإكراه و أخيه الاضطرار ثانياً.

1. قبول الولاية تقية

و يدلّ على ذلك على وجه الإجمال أُمور، فمن الكتاب قوله سبحانه: (لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّٰهِ الْمَصِيرُ). ( «1»)

قال الطبرسي في تفسير الآية: لا ينبغي للمؤمنين أن يتّخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم و أن يستعينوا بهم و يلتجئوا إليهم و يظهروا المحبة لهم- ثمّ قال:- ثمّ

______________________________

(1) آل عمران: 28.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 786

استثنى فقال: (إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً) و المعنى إلا أن يكون الكفّار غالبين و المؤمنون مغلوبين، فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم و لم يحسن العشرة معهم، فعند ذلك يجوز له إظهار مودتهم بلسانه و مداراتهم تقيّة منه و دفعاً عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك، و في هذه الآية دلالة على أنّ التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، و قال أصحابنا: إنّها جائزة في الأحوال كلّها عند الضرورة، و ربّما وجبت فيها لضرب من اللطف و الاستصلاح. ( «1»)

و على ضوء هذا يجوز اتّخاذ الكافرين أولياء، و مورد الآية و إن كان هو التقية من الكافر لكن الملاك هو الخوف على النفس و العرض و المال، فيعم ما إذا حصل الخوف من المسلم الجائر، كما أوضحناه في رسالتنا الخاصة بالتقية.

ثمّ إنّ المحقّق الإيرواني نفى دلالة الآية قائلًا: بأنّ ظاهرها حرمة مودة المؤمنين للكافرين، و قد وردت في حرمة مودتهم أخبار متعدّدة و قد عقد لها باباً في الوسائل، فالآية أجنبية عن المقام. ( «2»)

يلاحظ عليه: بأنّ

الظاهر هو إطلاق الآية، و انّ المحرّم اتّخاذ الكافر وليّاً حاكماً، أو صديقاً حميماً، فانّ الولي بمعنى الأولى به سواء كان منشؤه اتّخاذه والياً و حاكماً أو اتّخاذه صديقاً حميماً، و حمله على خصوص حرمة مودة المؤمنين للكافرين يحتاج إلى قرينة.

نعم، لا يبعد أن يكون: قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ( «3») راجعاً إلى ما ذكره بملاحظة قول: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) و مع ذلك لقائل أن يقول: الظاهر هو إطلاق الآية

______________________________

(1) مجمع البيان: 1/ 429- 430.

(2) تعليقة المحقّق الإيرواني: 45.

(3) الممتحنة: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 787

كالسابقة لمكان قول: (لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ).

و يدلّ على ذلك أيضاً قوله سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ). ( «1»)

ذكر المفسرون أنّ قوله تعالى: (إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ) نزل في جماعة أُكرهوا، و هم: عمّار و ياسر أبوه، و أُمّه سمية و صهيب و بلال و خباب، عذّبوا و قتل أبو عمار و أُمّه و أعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه، ثمّ أخبر سبحانه بذلك رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال قوم: كفر عمار، فقال (صلى الله عليه و آله و سلم): كلا ...، و جاء عمّار إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) و هو يبكي، فقال: «ما وراءك» فقال شر يا رسول اللّه ما تركت حتّى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله

و سلم) يمسح عينيه و يقول: «إن عادوا لك فعدلهم بما قلت»، فنزلت الآية و معنى قوله: (إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ)، أي إلا من أُكره، فتكلّم بكلمة الكفر على وجه التقية مكرهاً، و قلبه مطمئن أي ساكن بالإيمان ثابت عليه، فلا حرج عليه في ذلك. ( «2») فإذا جاز التكلّم بكلمة الكفر عن إكراه، فقبول الولاية المحرّمة جائزة بطريق أولى.

و على ذلك فالكبرى- أي الإقدام على الأمر المحرّم عند التقية- ممّا لا بحث فيه على وجه الإجمال. هذا حسب الآيات و أمّا حسب الروايات فتدلّ عليه:

صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «التقية في كل ضرورة، و صاحبها أعلم بها حين تنزل به». ( «3»)

و صحيحة أُخرى عن معمر بن يحيى بن سالم و محمد بن مسلم و زرارة قالوا:

______________________________

(1) النحل: 106.

(2) مجمع البيان: 5- 6/ 387- 388.

(3) الوسائل: 11/ 468، الباب 25 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 788

سمعنا أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «التقية في كل شي ء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له». ( «1»)

و رواية عمر بن يحيى بن سالم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «التقية في كلّ ضرورة». ( «2»)

و مكاتبة الحسن بن الحسين الأنباري، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: كتبت إليه أربع عشرة سنة استأذنه في عمل السلطان، فلمّا كان في آخر كتاب كتبته إليه أذكر أنّي أخاف على خيط عنقي، و أنّ السلطان يقول لي إنّك رافضي، و لسنا نشك في أنّك تركت العمل للسلطان للرفض، فكتب إلي أبو الحسن (عليه السلام): «فهمت كتابك و ما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنّك إذا وليت

عملت في عملك بما أمر به رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ثمّ تصيّر أعوانك و كتّابك أهل ملّتك، و اذا صار إليك شي ء واسيت به فقراء المؤمنين حتى تكون واحداً منهم كان ذا بذا، و إلا فلا». ( «3»)

و ما ورد من الروايات المتضافرة عن الرضا (عليه السلام) حول قبوله ولاية العهد عن المأمون. ( «4»)

و رواية عبد اللّه بن جعفر، عن علي بن يقطين، أنّه كتب إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام): إنّ قلبي يضيق ممّا أنا عليه من عمل السلطان- و كان وزيراً لهارون- فإن أذنت جعلني اللّه فداك هربت منه، فرجع الجواب: «لا آذن لك بالخروج من عملهم، و اتّق اللّه، أو كما قال». ( «5»)

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 468، الباب 25 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 2.

(2) الوسائل: 11/ 469، الباب 25 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 8.

(3) الوسائل: 12/ 145، الباب 48 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 4 و 5.

(4) الوسائل: 12/ 145، الباب 48 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 4 و 5.

(5) الوسائل: 12/ 143، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 16.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 789

و قوله: «فإن أذنت- جعلني اللّه فداك- هربت منه» دليل على أنّ خروجه لم يكن خالياً عن المحذور، فينتج أنّ بقاءه كان عن إكراه. إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على جواز قبول الولاية عند التقية و الاضطرار.

2. قبول الولاية لإكراه المكره

إذا كانت التقية هي المسوِّغ الأوّل، فالإكراه هو المسوغ الثاني لقبول الولاية من الجائر، و يدلّ على الجواز كل ما دلّ على رفع الحكم عند الإكراه أوضحها حديث الرفع.

روى الصدوق

(قدس سره) في «خصاله» عن النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «رفع عن أُمتي تسعة: الخطأ، و النسيان، و ما أُكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة». ( «1»)

و لا كلام في جواز القبول انّما الإشكال في الفروع المترتبة عليه، و منها الإضرار بالغير لأجل الإكراه.

ثمّ إنّ هنا أُموراً ذكرها الشيخ الأعظم في ضمن تنبيهات و نحن نقتفى أثره:

______________________________

(1) الخصال: 2/ 417.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 790

تنبيهات
اشارة

1

في الإضرار بالغير

كما يباح بالإكراه، نفس الولاية المحرّمة كذلك يباح به ما يلزمها من المحرّمات الأُخر و ما يتّفق في خلالها ممّا يصدر الأمر به من السلطان الجائر ما عدا إراقة الدم، إذا لم يمكن التفصّي عنه، و لا إشكال في ذلك، انّما الإشكال في أنّ ما يرجع إلى الإضرار بالغير من نهب الأموال و هتك الأعراض، و غير ذلك من العظائم هل يباح كل ذلك بالإكراه؟ و لو كان الضرر المتوعّد به على ترك المكره عليه، أقلَّ بمراتب من الضرر المكره عليه، كما إذا خاف على عرضه من كلمة خشنة لا تليق به، فهل تباح بذلك أعراض الناس و أموالهم و لو بلغت ما بلغت كثرة و عظمة، أو لا بد من ملاحظة الضررين و الترجيح بينهما؟ وجهان:

من إطلاق أدلّة الإكراه و أنّ الضرورات تبيح المحظورات، و من أنّ المستفاد من أدلة الإكراه كونه دليلًا امتنانياً على جنس الأُمّة و لا امتنان في ترخيص الإضرار على بعض الأُمّة لدفعه عن البعض الآخر، فإذا توقّف رفع الضرر عن نفسه بالإضرار بالغير لم يجز و وجب تحمّل الضرر، ثمّ قال الشيخ: و الأقوى هو الأوّل.

و هاهنا احتمال آخر نبّه عليه المحقّق الإيرواني و هو: ملاحظة حال الضررين

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 791

قلّة و كثرة ثمّ ترجيح أقلّهما، حيث قال: التفصيل بين ما كان الضرر الذي يُوعَد به المكرَه أعظم أو مساوياً فيرتفع، و بين ما كان أقلَّ فلا يرتفع. ( «1»)

و استدلّ الشيخ على مختاره بوجوه:

الأوّل: التمسّك بعموم دليل نفي الإكراه لجميع المحرّمات حتى الإضرار بالغير ما لم يبلغ الدم.

يلاحظ عليه: أنّ الإضرار بالغير- بأي غرض وداع تحقّق- أمر قبيح سواء أ كان

الإضرار بالغير لأجل صيانة النفس عن عقاب المكره، أم كان لأجل دفع الضرر المتوجه إلى نفسه و صرفه إلى الغير، فالكل قبيح بلا إشكال.

نعم هنا تفصيل ذكره الشيخ و إليك نصّه: إذا توجّه الضرر إلى شخص بمعنى حصول مقتضيه فدفعه عنه بالإضرار بغيره غير لازم، بل غير جائز في الجملة، فإذا توجّه ضرر على المكلّف بإجباره على مال و فرض أنّ نهب مال الغير دافع له فلا يجوز للمجبور نهب مال غيره لدفع الضرر عن نفسه.

نعم، إذا أُكره على نهب مال غيره فلا يجب تحمّل الضرر بترك النهب لدفع الضرر المتوجّه إلى الغير. ( «2»)

و تستظهر الحال بقياس المقام بمسألة السيل العارم، فلو فرضنا أنّ السيل يتوجه إلى دار زيد ابتداءً فلا يجب على الإنسان دفع الضرر عن دار زيد و صرفه إلى دار نفسه، لأنّ الضرر متوجّه إلى دار زيد بالفرض فإيجاب دفعه عنه و صرفه إلى دار نفسه يحتاج إلى دليل، بخلاف ما إذا كان السيل متوجّهاً إلى دار نفس الإنسان فلا يجوز له دفعه عن داره و صرفه إلى دار زيد برفع الساقية، لأنّ المفروض أنّ الضرر

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني على المكاسب: 45.

(2) المكاسب: 57.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 792

متوجّه إلى داره لا دار زيد فانّ ذلك الصرف نوع إضرار به.

و حاصل التفصيل: الفرق بين الاضطرار إلى الإضرار كما إذا أكرهه الجائر على مال من كيسه، و الإكراه على أخذ مال من غيره، فلا يجوز في الأوّل، لأنّ الضرر متوجه إلى نفس المكرَه، فلا يجوز لدفع الاضطرار الإضرار بالغير، بخلاف ما إذا أُكره على نهب مال الغير فالضرر متوجّه إلى الغير فلا يلزم تحمّل الضرر عن الغير، بدفع مال

من نفسه.

يلاحظ عليه أوّلًا: وجود الفرق البيّن بين السيل و بين الشخص المكرَه، لأنّ السيل إذا توجه من بدء الأمر إلى دار الغير فلا يجب على الإنسان دفع الضرر عن دار الغير و صرفه إلى نفسه. نعم، لو فعل ذلك لكان إحساناً منه بالنسبة إلى الغير، و السيل في المقام علّة تامّة للإضرار بالغير فلو لم يصرفه الإنسان إلى دار نفسه لهدم دار الغير قطعاً.

و أمّا المقام فليست إرادة المكرِه علّة تامّة لوقوع الضرر على الغير، و ربّما لا يتمكن المكره من الإضرار بالغير لو لا مباشرة المكرَه، فيكون فعل المباشر جزءاً أخيراً من العلّة التامّة، و حينئذ يكون تجويز هذه المباشرة للفعل، تجويزاً للإضرار بالغير، دفعاً للضرر المتوعّد به على النفس، و هو قبيح.

و الحاصل: وجود الفرق البيّن بين المقيس و المقيس عليه، فانّ السيل العارم يهدم دار الغير بلا دخل للإنسان في ذلك، و انّما الإنسان يريد إيجاد المانع بين السيل و دار الغير، و إيجاد المانع غير واجب إذا استلزم الإضرار، و هذا بخلاف المقام فانّ العلّة التامّة بالنسبة إلى ورود الضرر على الغير، غير موجودة و انّما الموجود هو العلّة الناقصة، أعني: إرادة المكرِه، ثمّ قيام المكره (بالفتح) على إجراء أمر المكرِه تتميم لهذه العلة الناقصة، و ما هذا إلا لأنّه يريد دفع الضرر عن نفسه

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 793

بتتميم العلّة الناقصة، و إيراد الضرر على الغير، و هذه الصورة أشبه بما إذا توجّه السيل إلى دار الإنسان فيريد دفع الضرر عن نفسه برفع الصخرة عن طريق دار الغير ليتوجه السيل إلى داره، و قد عرفت أنّه غير جائز، هذا أوّلًا.

و ثانياً: أنّه لو جاز- في صورة

الإكراه على نهب مال الغير- الإضرار به كما إذا قال له: خذلي من زيد كذا و كذا و إلا أخذت منك، لجاز إذا خيّره من أوّل الأمر بأن يقول: اعطني إمّا من نفسك، أو خذ لي من زيد، و الحقيقة واحدة و إن كانت العبارة مختلفة.

و ثالثاً: ربما يكون الضرر الوارد على المكره على تقدير المخالفة غير الضرر المتوجه إلى غيره بإرادة المكره، كما إذا هدّده بالضرب إن لم يأخذ من زيد مبلغاً معيناً، فإلزامه بترك أخذ المال ليس إلزاماً بتحمّل نفس الضرر المتوجه إلى الغير حتى يقال: انّ تحمّل الضرر المتوجّه إلى الغير أمر حرجي، بل حقيقته إلزام بترك الإضرار بالغير و إن تضرر هو إذا ترك الإضرار بالغير و لكن تضرره غير الضرر الذي تعلّقت به إرادة المكره.

و الحاصل: انّ التفريق بين الاضطرار و الإكراه مشكل جداً، لأنّ نسبة الرفع إليهما سواسية، فكما أنّ جواز الإضرار بالغير عند الاضطرار على خلاف الامتنان فكذا الثاني، و الظاهر أنّ الإضرار بالغير لدفع الضرر عن النفس قبيح، سواء أ كان الإضرار بصرف الضرر- المتوجّه إلى نفسه- إلى الغير، أم بإضرار الغير صوناً للنفس عن عقاب المكره، و قياس المقام بالسيل قياس مع الفارق كما عرفت.

فالأولى أن يقال: انّ حديث الإكراه مختص بالمحرّمات الإلهية و لا يشمل حقوق الناس و شئونهم، و غاية ما يمكن أن يقال هو التفصيل بين الضررين، فإذا أُكره على الإضرار بالغير فإن كان الضرر المتوعّد به في صورة الترك أعظم ممّا أُكره

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 794

عليه جاز مع الضمان، نحو ما إذا قال: خذ مال الغير و إلا لقتلتك، أو لقتلت ولدك، جاز مع الضمان، كما إذا تصرّف

في مال الغير لرفع الجوع، أمّا الجواز فلأهمية حفظ النفس، و أمّا الضمان فلأنّ الضرورات تقدّر بقدرها.

و أمّا لو كان الضرران متساويين، فلا يجوز فضلًا عمّا اذا كان أدون، و لو تصرّف مع ذلك يكون ضامناً، و كون الحديث وارداً في مورد الامتنان أقوى شاهد على عدم شموله لحقوق الناس و اختصاصه بحقوق اللّه، اللّهم إلا إذا قلنا بالتفصيل الذي عرفت.

نعم إنّ الشيخ استدلّ بوجوه أُخر على الجواز سيوافيك بيانها فانتظر.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ- دام ظله- لم يرتض اختصاص الأدلّة بحق اللّه تعالى، و بما إذا كان الإيعاد على مثل القتل فقط، بل ذهب إلى شمول أدلّة الإكراه لحقوق الناس و ما إذا كان الإيعاد بأدون من القتل، و استدلّ على العموم بأُمور:

1. قوله سبحانه: (إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ) ( «1») حيث إنّه نزل في قضية عمّار لمّا أُكره على البراءة من النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و سبّه و شتمه، و لا شك أنّ السبَّ و الشتم من حقوق الناس و قد رخّص فيهما بحكم الآية.

2. و رواية مسعدة بن صدقة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّ الناس يروون أنّ علياً (عليه السلام) قال على منبر الكوفة: أيّها الناس إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة مني فلا تبرءوا منّي، فقال: «ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ (عليه السلام)، ثمّ قال: إنّما قال: إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة مني و إنّي لعلى دين محمد (صلى الله عليه و آله و سلم). و لم يقل و لا تبرءوا منّي». فقال له السائل:

______________________________

(1) النحل: 106.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 795

أ رأيت إن اختار القتل دون البراءة، فقال: و اللّه ما ذلك عليه، و ماله إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة (وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ)، فأنزل اللّه عز و جل فيه: (إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ) فقال له النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) عندها: يا عمّار إن عادوا فعد، فقد أنزل اللّه عذرك، و أمرك أن تعود إن عادوا». ( «1»)

3. رواية عمرو بن مروان الخراز قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): رفعت عن أُمّتي أربع خصال: ما اضطروا إليه، و ما نسوا، و ما أُكرهوا عليه، و ما لم يطيقوا، و ذلك في كتاب اللّه قوله: (رَبَّنٰا لٰا تُؤٰاخِذْنٰا إِنْ نَسِينٰا أَوْ أَخْطَأْنٰا رَبَّنٰا وَ لٰا تَحْمِلْ عَلَيْنٰا إِصْراً كَمٰا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنٰا رَبَّنٰا وَ لٰا تُحَمِّلْنٰا مٰا لٰا طٰاقَةَ لَنٰا بِهِ) ( «2») و قول اللّه: (إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ). ( «3»)

وجه الاستدلال: أنّه تعالى رفع عن الأمّة ما أُكرهوا عليه مطلقاً بمقتضى الآية الكريمة، فكان إطلاق الآية قرينة على إطلاق حديث الرفع.

4. إذا كان الإكراه موجباً لرفع الحرمة عن هتك عرض النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و تكذيبه في نبوّته و كتابه و هو من أعظم المحرّمات صار موجباً لرفع حرمة هتك سائر الأعراض فضلًا عن الأموال التي دون الأعراض. ( «4»)

و الظاهر عدم تمامية هذه الوجوه:

أمّا الأوّل: فلأن الاستدلال بالآية على كون الإكراه مجوّزاً للإضرار بالغير- و لو كان تركه يرجع إلى الضرر المالي- مشكل جداً.

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 476، الباب 29

من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 2.

(2) البقرة: 286.

(3) الوسائل: 11/ 470، الباب 25 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 10.

(4) المكاسب المحرمة: 2/ 139- 142.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 796

أمّا أوّلًا: فلأنّ مورد الآية هو الإيعاد على القتل، فلا شك أنّه إذا دار الأمر بين القتل و الإضرار بالغير فيجوز الثاني مع الضمان تحفّظاً على النفس، و لا يمكن التجاوز منه إلى غير القتل و ما اشبهه، و ليست الآية في مقام البيان من جهة ما يوعد به حتى يؤخذ بإطلاقه، و انّما الآية تركّز على أنّ الكفر اللساني مع الاطمئنان بالإيمان لا يضر، و لا يمكن في مثل ذلك، الأخذ بالإطلاق بأنّه إذا أُكره بين سبّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و شتمه و بين دفع دينار أو درهم فيجوز السبّ.

و الظاهر أنّ الاستثناء راجع إلى قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ) لا إلى الآيتين المتقدّمتين عليه و مفاد الآية: من كفر باللّه من بعد إيمانه فعليه غضب من اللّه و عذاب أليم، إلّا من أُكره على الكفر و أظهر الكفر باللسان مع ثبات جنانه و اطمئنان قلبه.

و ثانياً: انّ سب النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و شتمه بما هو نبي لا يعد من حقوق الناس إلّا إذا سبّه و شتمه بما أنّه إنسان، و أمّا السب لأجل نبوّته و رسالته (صلى الله عليه و آله و سلم) فيرجع إلى إنكار نبوّته و رسالته فيكون من حقوق اللّه فلم يكن المطلوب من عمّار إلا الكفر بدينه و كتابه.

و أمّا الثاني:- أعني: رواية مسعدة بن صدقة- فيظهر الجواب منه ممّا ذكرناه في الجواب عن الآية، أضف إليه أنّ

أصحاب السلطة الغاشمة الأُموية كانوا يرصدون صفوة أصحاب الإمام (عليه السلام) فيأخذونهم فيخيرونهم بين السب و القتل كما اتّفق ذلك لكثير من أصحابه (عليه السلام)، منهم: ميثم التمار و رشيد الهجري و حجر بن عدي و أضرابهم، فلا شك أنّ السب مقدّم على انتخاب القتل، و لم تكن الدعوة الى البراءة مقرونة بمطلق الإيعاد، بل كانت الدعوة مقرونة بالإيعاد على القتل.

و أمّا الثالث:- أعني: رواية عمرو بن مروان- فلأنّ القول بوجود الإطلاق في

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 797

الرواية فرع وجوده في الآية، و قد عرفت خلافه، و ما ذكره- دام ظله- من أنَّ الإكراه كان موجباً لرفع الحرمة عن هتك عرض النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)، و تكذيبه في نبوّته و كتابه فليكن مجوّزاً لسائر المحرّمات، غير تام، لما عرفت من أنّ تجويز الهتك كان لأجل التحفّظ على الحياة، لا سائر الأُمور التي لا تبلغ مرتبة القتل.

ثمّ إنّه- دام ظله- استدلّ برواية الجعفريات: عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قلت: يا رسول اللّه الرجل يؤخذ يريدون عذابه قال: «يتقي عذابه بما يرضيهم باللسان و يكرهه بالقلب، قال (صلى الله عليه و آله و سلم): هو قوله تبارك و تعالى: (إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ)». ( «1»)

و رواية عبد اللّه بن عجلان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته فقلت له: إنّ الضحاك قد ظهر بالكوفة و يوشك أن ندعى إلى البراءة من علي (عليه السلام)، فكيف نصنع؟ قال: «فابرأ منه»، قلت: أيّهما أحبّ اليك؟ قال: «ان تمضوا على ما مضى عليه عمار بن ياسر، أُخذ بمكة فقالوا له: ابرأ من رسول اللّه (صلى الله

عليه و آله و سلم): فبرأ منه، فأنزل اللّه عز و جل عذره: (إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ)». ( «2»)

و لكنّ في دلالتهما تأملًا و إشكالًا فإنّ الروايتين تشيران إلى قضية عمّار، و قد عرفت أنّه خيّر بين القتل و إعطاء الكفر إليهم حسب اللسان، و في مثله يجوز تقديمه على القتل، كما عرفت أنّ أصحاب السلطة كانوا يرصدون خيار أصحاب علي (عليه السلام) و يخيّرونهم بين القتل و السب و البراءة كما يشهد به التاريخ و رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى معاوية، و قد نقلها العلّامة المجلسي (قدس سره) في بحاره، و نقتطف منها ما يلي:

أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) العبد الصالح الذي

______________________________

(1) المستدرك: 12/ 269، الباب 28 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 11/ 479، الباب 29 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 13.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 798

أبلته العبادة، فنحل جسمه و صفرت لونه، بعد ما أمنته و أعطيته من عهود اللّه و مواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل، ثمّ قتلته جرأة على ربّك و استخفافاً بذلك العهد ... أو لست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنّهم كانوا على دين علي صلوات اللّه عليه فكتبت إليه: أن اقتل كلَّ من كان على دين علي، فقتلهم و مثّل بهم بأمرك، و دين علي (عليه السلام) و اللّه الذي كان يضرب عليه أباك و يضربك، و به جلست مجلسك الذي جلست، و لو لا ذلك لكان شرفك و شرف أبيك الرحلتين. ( «1»)

فأبشر يا معاوية بالقصاص، و استيقن بالحساب،

و اعلم أنّ للّه تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها، و ليس اللّه بناس لأخذك بالظنّة، و قتلك أولياءه على التهم، و نفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة، و أخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث، يشرب الخمر، و يلعب بالكلاب لا أعلمك إلا و قد خسرت نفسك، و بترت دينك، و غششت رعيتك، و أخزيت أمانتك، و سمعت مقالة السفيه الجاهل، و أخفت الورع التقي لأجلهم، و السلام. ( «2»)

و على كل تقدير فالتشريع الإسلامي سهل سمح مطابق للفطرة الإنسانية، و لكن أيّة فطرة ترضى أن يسمح الشارع منّة على العباد، الإضرارَ بالغير في مقابل الإيعاد و التهديد.

ثمّ إنّ الشيخ استدلّ على الجواز بوجوه أُخر:

منها: عموم نفي الحرج، فانّ إلزام الشارع بالإضرار على نفسه لدفع الضرر المتوجّه إلى الغير (ترك ما أُكره عليه) حرج قطعاً. ( «3»)

يلاحظ عليه: أنّه لا يتحمل الضرر المتوجه إلى الغير حتى يقال: انّ تحمّل ضرر الغير حرج عظيم كتحمله ضرر السيل، بل أقصاه أنّه ترك الإضرار بالغير

______________________________

(1) بحار الأنوار: 44/ 213- 214.

(2) بحار الأنوار: 44/ 213- 214.

(3) المكاسب: 58.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 799

و إن كان هذا الترك ملازماً للإضرار بالنفس، و ما يتوجه إليه من العقوبة ليس هو الضرر الذي طلب منه إيقاعه على الغير.

و منها: قوله: «إنّما جعلت التقية لتحقن به الدماء، فإذا بلغ الدم فلا تقية» حيث إنّه دل على أنّ حد التقية بلوغ الدم فتشرع لما عداها. ( «1»)

يلاحظ عليه: انّه كيف يدلّ الحديث على انّ التقية تشرع لما عدا الدم مع انّ معناه أنّ التقية شرعت لحفظ الدم، فإذا أيقن بإراقة الدم- سواء اتّقى أم لم يتق-

كانت التقية لغواً، و على هذا يكون الحديث إرشاداً إلى حكم العقل، و المعنى الأوّل هو الأوضح.

و الحاصل: أنّ التقيّة شرعت لحفظ الدم فإذا بلغته التقية فلا تقية، و كذلك شرعت التقية لحفظ الأعراض و الأموال، فإذا استلزمت هتكها و نحوها فلا تجوز التقية بالهتك و النهب، لأنّ التقية غايتها الحراسة على الأعراض و الأموال فلا يجوز نفي غايتها لفعلها.

و الظاهر في هذا الباب هو التفصيل بين ما كان الضرر الذي أوعد به المكره أعظم أو مساوياً فيرتفع، و بين ما كان أقلَّ فلا يرتفع، و قد أوضحه المحقّق الإيرواني بقوله: إنَّ نسبة المكلّفين إلى الشارع نسبة واحدة، و مقتضى المنّة حفظ نوع المكلّفين عن الضرر، و إذا كان مقدار من الضرر وارداً على كل حال إمّا على نفسه أو على الغير، كانت المنّة مقتضية لحفظ نوع الأُمّة من الزيادة، و ذلك يكون بتشريع الناقص لدفع الزائد، كان الناقص هو ضرر نفسه أو ضرر الغير ...، ( «2») و يشهد لعدم عمومية الإكراه أنّه لو عم الإطلاق لعمّ الاضطرار فيلزم تشريع الإضرار بالغير لدفع الاضطرار عن النفس، و هو ما لم يجوزه أحد حتى الشيخ الأعظم (قدس سره).

______________________________

(1) المكاسب: 57.

(2) تعليقة المحقّق الإيرواني على المكاسب: 46.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 800

تنبيهات 2

لو ترتّب على ترك المكره، الإضرار بالأجنبي
اشارة

قال الشيخ الأعظم (قدس سره) ما هذا حاصله: إنّ الإكراه يتحقّق بالتوعد بالضرر على ترك المكره عليه ضرراً متعلّقاً بنفسه أو ماله أو عرضه أو بأهله ممّن يكون ضرره راجعاً إلى تضرّره و تألّمه، و أمّا إذا لم يترتب على ترك المكره عليه إلا الضرر على بعض المؤمنين ممّن يعد أجنبياً من المكره، فالظاهر أنّه لا يعد ذلك إكراهاً عرفاً، إذ

لا خوف له يحمله على فعل ما أمر به.

أقول: يشترط في تحقّق الإكراه أُمور:

الأوّل: الكراهة بالنسبة إلى الفعل المتوعّد على تركه (المكرَه عليه)، فلولا هذه الكراهة لا يصدق الإكراه، كما لو قال: تزوّج و إلا لقتلتك، أو قال: كل هذه الفاكهة و هو يحبّها بحيث كان مستعداً للتزويج أو لأكلها قبل إكراه المكره.

نعم، كراهة الفعل قد تكون ذاتية، و قد تكون عرضية لأجل نهي الشارع، كما إذا قال: استمع لهذه الأُغنية و إلا لقتلتك.

الثاني: كراهة الفعل المتوعّد به، فلو أوعده بأمر لا يكرهه، بل يحبّه فلا إكراه،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 801

و على الجملة كراهة الجزاء، و هذا يختلف باختلاف الأشخاص، فربّ شخص لا يتأثر بالسب و الشتم فلا يعد وعيده بذلك إكراهاً، و ربّ شخص آخر يتأثر بأدنى كلمة خشنة، و على ذلك فتختلف كراهة الفعل المتوعّد به حسب اختلاف الأشخاص.

الثالث: سلطة المكره و اقتداره على إنفاذ وعيده، و كان أيضاً يترقّب منه الإنفاذ، و أمّا لو علم عدم الإنفاذ و أنّه مجرّد إرعاب و تخويف فلا إكراه.

الرابع: أن يكون هناك قهر على الفعل و الإلزام عليه، فلو أوعد ابن الإنسان بأنّه لو لم يفعل كذا لقتل نفسه، أو قال الصديق: لو لم تفعل لهجرتك و كان الهجر شاقاً عليه، ففي ذينك الموردين لا يصدق الإكراه على العمل و إن صدق أنّه ارتكب فعلًا مكروهاً.

هذه مقوّمات الإكراه من غير فرق بين أن يكون ما توعّد به متعلّقاً بنفسه أو بماله أو بعرضه أو بأهله، أو على بعض المؤمنين ممّن يعد أجنبياً عن المكره (بالفتح) لما عرفت من كون الميزان هو كون الفعل المتوعّد عليه أو به مكروهاً، سواء أ كان راجعاً إلى

الإنسان بنحو من الرجوع أم لم يكون، بل يمكن أن يقال: انّه لا يشترط التوعّد بالضرر، فلو خاف المأمور شرَّ الآمر كفى في الصدق، سواء أوعده بالشر أم لا.

اللّهم إلا أن يقال: انّ الخوف من الشر نوع إيعاد تكويني من الآمر إلى المكره، و على ذلك فما عن الشيخ الأعظم من خروج الخوف على بعض المؤمنين عن صدق الإكراه، غير تام.

ثمّ إنّ الشيخ (قدس سره) لما أخرج الخوف على بعض المؤمنين عن حد الإكراه حاول إثبات جواز قبول الولاية لتلك الغاية بدليل آخر، و قال: نعم لو خاف على بعض

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 802

المؤمنين جاز له قبول الولاية المحرّمة، بل غيرها من المحرّمات الإلهية، لقيام الدليل على وجوب مراعاة المؤمنين و عدم تعريضهم للضرر.

ثمّ فرّق بين قبول الولاية لأجل الإكراه، و قبولها لحراسة المؤمنين، بأنّه لا يجوز عند القبول لحراسة المؤمنين الإضرار بالغير، بخلاف قبولها لأجل الإكراه.

أقول: الظاهر عدم الفرق بين المقامين، فكما لا يجوز الإضرار بالغير عند قبول الولاية لأجل حراسة بعض المؤمنين، فكذلك لا يجوز عند قبولها لأجل الإكراه، لما عرفت من أنّ دليل رفع الإكراه مختص بالمحرّمات الإلهية فلا يجوز الإضرار بالغير لصيانة النفس عن الضرر.

و بذلك يظهر أنّه لا ثمرة في البحث، فسواء أ كان القبول لأجل الإكراه أم لأجل حفظ المؤمنين لا يجوز الإضرار بمؤمنين بالتوعيد بإضرار مؤمن آخر، سواء أ كان الدليل هو حديث الإكراه أم لزوم حفظ المؤمنين عن التعريض للضرر.

صور الاضطرار إلى القتل و الهتك و النهب

إنّ الشيخ (قدس سره) لما فرّق بين الصورتين (قبول الولاية لأجل الإكراه و قبولها لأجل مراعاة المؤمنين) قال: إنّ هنا عنوانين: الإكراه، و دفع الضرر المخوف عن نفسه و عن غيره من المؤمنين

من دون إكراه، و الأوّل يباح به كل محرّم، و الثاني على أقسام ذكرها، بقوله: إن كان متعلّقاً بالنفس جاز له كل محرّم ... و أمّا الإضرار بالعرض ... و إن كان متعلّقاً بالمال ...

هذا ما عليه الشيخ الأعظم، و بما أنّه لا فرق بين المسألتين فحكمهما في

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 803

جميع الصور التسع واحد. و صور المسألة لا تتجاوز عن تسع تحصل من ضرب الثلاثة- أعني: سفك الدماء، و هتك الأعراض، و نهب الأموال- في مثلها، أي ضرب الثلاثة المضطر إليها في الغايات الثلاث- أعني: ما كان لأجل حفظ نفس آخر، أو صون عرضه، أو حفظ ماله-.

و أمّا حكمها فنقول:

إذا دار الأمر بين سفك دمه و بين سفك دم إنسان آخر، أو هتك عرضه أو ماله.

أمّا الصورة الأُولى: أي الدوران بين النفسين فلا يجوز الترجيح لتساويهما في الحرمة كما هو الفرض.

و أمّا الثانية و الثالثة: أي دوران الأمر بين النفس و العرض أو المال، فلا يقدمان على النفس لأنّهما لا يعادلان النفس.

نعم، تأمّل الشيخ الأعظم (قدس سره) في تقديم النفس على العرض، حيث قال: و أمّا الإضرار بالعرض بالزنا و نحوه ففيه تأمّل و إن لم يستبعد ترجيح النفس عليه.

و أمّا إذا دار الأمر بين العرض و الثلاثة الأُخر، أعني: النفس و هتك العرض و نهب المال، فقد علم حكم الصورة الأُولى، أي الدوران بين العرض و النفس، و أمّا الثانية فلا يجوز الترجيح لتساويهما في الحرمة، و أمّا الثالثة فيقدم حفظ العرض على المال.

و أمّا اذا دار الأمر بين نهب المال و بين الأُمور الثلاثة فيجوز نهب المال لغاية حفظ النفس و العرض، و لا يجوز لغاية مال مثله.

هذا

مع عدم مراعاة النسبة و المقايسة بين الدم الذي يسفك، و العرض

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 804

الذي يهتك، و المال الذي ينهب، و بين الدم و العرض و المال الذي يصونه و يحفظه كماً و كيفاً و إلا زادت الصور على التسع.

و أمّا ضمان المال فيما يجوز له الارتكاب في مورد الإكراه فهو متوقّف على شمول حديث الرفع لرفع الأحكام التكليفية فقط دون الوضعية، و هو مورد بحث و نظر، و قد ورد في بعض الروايات ارتفاع الحكم الوضعي لأجل الإكراه، و لكنّه مختص بمورده كفساد طلاق المكره، ( «1») و لذا ذهب المشهور إلى ضمان مال الغير إذا تصرّف فيه لدفع المخمصة.

______________________________

(1) روى الكليني بسند صحيح عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن طلاق المكره و عتقه. فقال: «ليس طلاقه بطلاق و لا عتقه بعتق». الوسائل: 15/ 331، الباب 37 من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 805

تنبيهات 3

في اعتبار العجز عن التفصّي في حقيقة الإكراه

لا شك في اعتبار العجز في تحقّق الإكراه، فلو قدر على التفصّي عن إكراه المكرِه لما صدق عليه الإكراه، فالوجه في ذلك أنّ الإكراه عبارة عن تسلط إرادة قاهرة على إرادة الفاعل بحيث يسخره و يجبره على اختيار ما أراده المكرِه بحيث لولاه لترتب عليه ما أوعده.

و على ذلك فكما يشترط العجز عن التفصّي في ارتكاب الأعمال المحرّمة فهكذا يشترط العجز عن التفصّي في قبول الولاية المحرمة.

و الكلام فيما إذا لم يكن هناك مجوّز آخر كالقيام بمصالح المؤمنين، بل انحصر المجوّز بالإكراه، و ليس العجز عن التفصّي عن ارتكاب المحرّم شرطاً زائداً وراء الإكراه، إذ الإكراه لا يتحقّق إلا بالعجز، و على ذلك فالعجز

عن التفصّي مقوّم لتحقّق الإكراه.

ثمّ إنّ المراد من العجز عن التفصّي هو التخلّص من ارتكاب المحرّم بلا تحمّل ضرر مالي أو نفسي، كما إذا أمكن له التظاهر بالموافقة و المخالفة في الباطن كما كان يفعله علي بن يقطين. و أمّا تفسيره بالعجز عن التفصّي مطلقاً حتى مع

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 806

تحمّل الضرر، بمعنى بلوغ الإكراه إلى حد الإلجاء و عدم القدرة على المخالفة- و لو مع تحمّل ما أُوعد به- فليس بشرط مطلقاً، لا في قبول الولاية المحرّمة و لا في ارتكاب سائر المحرّمات.

و إن شئت قلت: الشرط هو عدم القدرة الشرعية على التفصّي و المخالفة- بمعنى أن يخالفه بلا تبعة و محذور- و ليس الشرط عدم القدرة العقلية، أي عدم القدرة على المخالفة و لو بتحمّل الضرر الذي أُوعد به.

و بذلك يعلم مفاد عبارة «الشرائع» حيث قال: إذا أكرهه الجائر على الولاية جاز له الدخول و العمل بما يأمره مع عدم القدرة على التفصّي منه.

فمراده هو عدم القدرة على التخلّص من إرادة المكره بلا تبعة و لا محظور، لا عدم القدرة حتى مع التحمّل، غير أنّ صاحب «المسالك» حمل عبارة «المحقّق» على العجز المطلق و زعم أنّ مراده من هذه العبارة هو أنّ المجوّز للدخول و العمل بما يأمره هو العجز المطلق الواصل إلى حد الإلجاء، فقال: قد ذكر المصنف في هذه المسألة شرطين: أحدهما: الإكراه، و الآخر عدم القدرة على التفصي، و الأوّل شرط لقبول الولاية، و الثاني: شرط للعمل بما يأمره به المكره بعد قبول ولايته، ثمّ اعترض عليه بأنّه لا يشترط في العمل بما يأمره من المحرّمات البلوغ إلى حد الإلجاء بحيث لا يقدر على خلافه، ثمّ

رتّب على ذلك بأنّ اشتراط العجز عن التفصّي غير واضح و انّ الإكراه مسوّغ لامتثال ما يأمر به و إن قدر على المخالفة. ( «1»)

هذا كلام المسالك، و أورد عليه الشيخ الأعظم (قدس سره) بما ملخّصه: إنّ المراد من التفصّي هو التفصّي العرفي و القدرة الشرعية، أي التفصّي بلا تحمل ضرر، كأن يتظاهر بالموافقة و يخالف سراً، و ليس العجز عن التفصّي شرطاً آخر، بل هو مقوم للإكراه.

______________________________

(1) المسالك: 3/ 139- 140.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 807

تنبيهات 4

في أنّ قبول الولاية رخصة لا عزيمة

قال الشيخ الأعظم: إنّ قبول الولاية مع الضرر المالي الذي لا يضرّ بالحال رخصة لا عزيمة، فيجوز تحمل الضرر المذكور، لأنّ الناس مسلطون على أموالهم، بل ربّما يستحب تحمّل ذلك الضرر للفرار عن تقوية شوكتهم. ( «1»)

لا يخفى أنّ دفع المال و تحمّل الضرر انّما يكون جائزاً لو كانت التقية لحفظ الوحدة و الألفة، و أمّا لو كانت من موارد التقية الواجبة فلا شك في عدم جوازه.

و مثله الإكراه و الحرج فإنّ لازم الإكراه و الحرج هو رفع الإلزام عن مورد الإكراه، و أمّا تعيّن حكم تحمّل الضرر المتوعّد به فيرجع فيه إلى مقتضى القواعد، فلو كان أثر المخالفة الضرر النفسي أو العرضي فلا يجوز، و لو كان أثره مجرّد الضرر المالي فيجوز و لا يكون أمراً محرّماً.

______________________________

(1) المكاسب: 1/ 177.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 808

تنبيهات 5

في أنّ الإكراه لا يسوّغ القتل

قال الشيخ الأعظم (قدس سره): لا يباح بالإكراه قتل المؤمن و لو توعد على تركه بالقتل إجماعاً على الظاهر المصرّح به في بعض الكتب.

أقول: يقع الكلام في موارد أربعة:

1. قتل المؤمن عن تقيّة و إكراه.

2. قتل المستحق للقتل قصاصاً عن إكراه.

3. قتل المخالف عن إكراه.

4. قتل النواصب عن إكراه.

أمّا الأوّل: فلا يجوز لا عن تقية و لا إكراه، لأنّ التقية اسم مصدر لفعل «اتقى يتقي» و المراد منها الاتقاء عن توجه ضرر الظالم بإظهار الموافقة معه في فعل أو قول، و هي جائزة في كل الموارد إلا في موارد: منها إذا استلزم إراقة الدم المحرّم لقول أبي جعفر (عليه السلام): «إنّما جعلت التقية ليُحقنَ بها الدمُ، فإذا بلغ الدمَ فليس تقية». ( «1»)

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 483، الباب 31 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 1.

المواهب في

تحرير أحكام المكاسب، ص: 809

و قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «لم تبق الأرض إلا و فيها منّا عالم، يعرف الحق من الباطل، و قال: إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية، و أيم اللّه لو دعيتم لتنصرونا لقلتم: لا نفعل انّما نتقي، و لكانت التقية أحب إليكم من آبائكم و أُمّهاتكم، و لو قد قام القائم ما احتاج إلى مساءلتكم عن ذلك، و لأقام في كثير منكم من أهل النفاق حد اللّه». ( «1») و الحديث يفسر بوجهين:

الأوّل: ما اعتمد عليه الشيخ و هو أنّ التقية شرعت لصيانة الدماء، فإذا أوجبت التقية سفك الدم فلا تقية، و ان شئت قلت: إنّ الغاية من التقية هي الحراسة على دماء المسلمين، فلو أوجبت التقية إراقة الدم فلا وجه لترجيح أحدهما على الآخر.

الثاني: انّ التقية انّما شرعت لغاية حفظ النفس، فإذا لم تكن هذه الغاية مترتبة عليهما بل كان الشخص مقتولًا لا محالة اتّقى أم لم يتق فلا تقية، لانتفاء الغرض من تشريع التقية، و المعنى الأوّل أوضح.

هذا إذا استلزمت التقية سفك الدم، و أمّا إذا كانت إراقة الدم مقتضى الإكراه فغير جائزة قطعاً، لما عرفت من انصراف أدلّته عنها.

نعم لو كان مضطراً إلى إتلاف أحد الشخصين أو المالين فلا يبعد إعمال قاعدة التزاحم في المقام. و أمّا قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم». ( «2») فالمراد منه التكافؤ و التساوي في مقام القصاص دون غيره.

و أمّا الثاني:- كقتل النفس قصاصاً عن تقية و إكراه- فلا يجوز لأنّ القاتل يعد محقون الدم بالنسبة إلى غير ولي الدم فلا يجوز قتله ابتداء و إن كان مهدوراً

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 483، الباب 31 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 2.

(2) المستدرك: 11/ 45، الباب 18 من أبواب جهاد العدو، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 810

بالنسبة إلى ولي الدم. قال سبحانه: (وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً) ( «1») أي لا لغيره، و على ذلك فلا يجوز قتله لا للتقية للأحاديث المذكورة، و لا للإكراه لما عرفت من انصرافه عن حقوق الناس.

و أمّا ما أفاده المحقّق الإيرواني: من احتمال أن يكون المراد من الحديث بلوغ التقية إلى دم محقون بقول مطلق، لا محقون بالنسبة إلى من يريد التقية و لا يبعد انصرافها إلى الأوّل. فغير تام، لأنّه على خلاف إطلاقه.

و أمّا الثالث:- كقتل المخالف- فقد ذهب الشيخ (قدس سره) إلى سكوت الروايات عن حكم دماء أهل الخلاف، لأنّ التقية انّما شرّعت لحقن دماء الشيعة فحدّها بلوغ دمهم لا دم غيرهم.

يلاحظ عليه: أنّ التقية شرّعت بحكم آياتها لحقن دماء المسلم و إن كان ابتلاء الشيعة بها أكثر من غيرهم، و على ذلك لا يجوز إراقة دم مخالف عن تقيّة و إكراه.

و أمّا الرابع، كقتل الناصبي و الحربي عن تقيّة و إكراه فلا إشكال فيه، لكونهما مهدوري الدم بالنسبة إلى الكل بشرط عدم ترتّب الفساد عليه.

______________________________

(1) الإسراء: 33.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 811

28 هجاء المؤمن

و يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: تبيين الهجاء و تفسيره، و أنّه ما الفرق بينه و بين الغيبة.

الثاني: دلائل الحرمة.

أمّا الأوّل: قال في «الصحاح»: الهجاء خلاف المدح. ( «1») و كلامه هذا يعم الشعر و غيره، كما يعمّه بالمعايب الموجودة و غيرها.

غير أنّ الظاهر من «القاموس» و «النهاية» اختصاصه بالشعر، و إن كان عامّاً من الجهة

الأُخرى، فيعم الموجود من المعايب و غير الموجود.

و الظاهر اختصاصه بكلام قابل للبقاء إمّا لكونه شعراً موزوناً أو كلاماً أدبياً تميل النفوس إلى حفظه و إبقائه، و أمّا ذكره بالكلام العادي من غير صياغته في قالب الشعر أو في كلام أدبي ظريف فلا يطلق عليه هجاء.

و لو فرض اختصاصه بالشعر لغة، لكن مقتضى الأدلّة هو حرمته مطلقاً سواء كان بالشعر أو بغيره كما ستعرف عمومه، و لم ترد كلمة الهجو في النصوص إلا ما رواه في «مفتاح الكرامة» أنّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أمر حسان أن يهجو المشركين قال: «و إنّ

______________________________

(1) الصحاح: 6/ 2533، دار العلم للملايين، بيروت.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 812

الهجو أشد عليهم من رشق النبل». ( «1»)

نعم كان حسان يهجو المشركين بالشعر، و كان شاعرَ عهد الرسالة، و دعا له النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بقوله: «لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك». ( «2»)

ثمّ إنّه يفرّق بين الهجو و الغيبة بأُمور:

1. انّ الهجاء يبقى لأجل كونه موزوناً أو كلاماً أدبياً، دون الغيبة لأنّها تؤدّى بكلام عادي.

2. يشترط فيه قصد الإيذاء و التنقيص، دون الغيبة.

3. لا يشترط فيه الستر بخلاف الغيبة.

4. لا يشترط فيه كون المهجو غائباً، بل يعمّ الغائب و الحاضر، و هذا بخلاف الغيبة.

5. لا يشترط فيه كون العيب موجوداً بل يعمّه و غيره، بخلاف الغيبة فانّها الوقيعة بالشخص بما هو فيه.

6. الغيبة تتحقّق بالجملة الخبرية، بخلاف الهجاء فانّه يتحقّق بالإخبار و الإنشاء.

هذه كلّه حول المقام الأوّل.

و أمّا حرمته فيمكن الاستدلال عليه بالأدلّة الأربعة:

أمّا الكتاب: فلأنّه «همز و لمز» فيعمّه قوله سبحانه: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) ( «3»)،

و إذا هجاه بعيب مستور في غيابه فينطبق عليه عنوان الغيبة أيضاً.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 64.

(2) الغدير: 2/ 32.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 812

(3) الهمزة: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 813

و أمّا السنّة: فبما أنّه تعيير و تنقيص و إذاعة سر، و كلّ ذلك كبيرة موبقة يدل عليه:

ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال: «نعم»، قلت، يعني سِفْلتُه؟ قال: «ليس حيث تذهب، انّما هو إذاعة سره». ( «1»)

و انّما يتم الاستدلال إذا كان المراد من السرّ، هو العيب لا مطلق السر الذي ربّما يكون حقاً و كمالًا، و يمكن الاستدلال عليه بما دلّ على حرمة البهتان، لما عرفت من عموميته للعيب الموجود و عدمه.

و أمّا الإجماع: فيكفي في ذلك أنّه صرّح بالحرمة في المقنعة و النهاية و المراسم و سائر من تأخّر عنهم، و في «التذكرة»: لا خلاف فيه، و في المنتهى و كشف اللثام: الإجماع عليه. ( «2»)

و أمّا العقل: فيكفي في ذلك أنّه إيذاء و تحقير و تنقيص و هو قبيح عقلًا فيكون حراماً شرعاً.

ثمّ إنّ الهجاء يشارك الغيبة في أنّه ربّما يجوز تخصيصاً أو تخصصاً، و إليك بيان الموارد التي تستثنى أو توهم استثناؤها:

1. لا يجوز هجاء المؤمن الفاسق المستور، لإطلاق الأدلّة الماضية لأنّ كشفه إمّا غيبة أو بهتان.

2. لا يجوز هجاء المؤمن غير المستور، المعلن بفسقه، و ذلك لعدم الملازمة بين جواز ذكره و جواز تنقيصه، فانّه خارج عن الغيبة موضوعاً، لأنّها كشف ما ستره اللّه و

المفروض أنّه معلن، و لأجل ذلك يجوز ذكره بهذا الوصف، غير أنّه لا

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 608، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 1.

(2) مفتاح الكرامة: 4/ 63.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 814

يلازم جواز هجائه بكلام باق ينقصه و يؤذيه و يعيَّر به، و ما ورد في بعض الروايات «محّصوا ذنوبكم بذكر الفاسقين» فالمراد من ذكرهم هو تذكر أحوالهم و عاقبة أمرهم في يوم القيامة و أنّ مصيرهم إلى النار، لا ذكر الفاسقين بأسمائهم، و الهدف من هذا الذكر هو الارتداع و وهن العزم على ارتكاب المعاصي. و يحتمل أن يكون المراد هو ذكرهم فيما إذا يكون وسيلة لارتداعهم فتكون فيه مصلحة غالبة على التحفّظ عليهم.

3. يجوز هجاء المبدع سواء أ كان مؤمناً أم غير مؤمن، لما ورد في رواية داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فاظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة، و باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ...». ( «1»)

4. هل يجوز هجاء المخالف أو لا؟ تقدّم البحث عنه في باب الغيبة و الأخذ بالإطلاقات أولى في كلا المقامين، و إن كان الظاهر من «صاحب الحدائق» في المقامين جوازهما و القول بانصراف المؤمن إلى الموافق- في الآيات و الروايات النبوية- غير تام.

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 508، الباب 39 من أبواب الأمر و النهي، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 815

29 الهجر

الهجر بالضم: هو الفحش من القول و ما يقبح التصريح به منه، و هو حرام. و الفرق بينه و بين

السبّ، أنّ السب يعم ما استقبح التصريح به و غيره بخلاف الهجر فانّه يختص به.

و تدلّ على الحرمة رواية الحسن الصيقل قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «إنّ الفحش و البذاء و السلاطة من النفاق». ( «1»)

و ما رواه عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «إذا رأيتم الرجل لا يبالي ما قال و لا ما قيل له فهو شرك الشيطان». ( «2»)

و قد ورد مفاد الثاني في الرواية التالية، أعني: ما روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّ اللّه حرّم الجنة على كلّ فحّاش بذي ء قليل الحياء، لا يبالي ما قال و لا ما قيل له، فانّك إن فتّشته لم تجده إلا لُغْية أو شرك شيطان»، قيل: يا رسول اللّه و في الناس شرك الشيطان؟ فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): «أما تقرأ قول اللّه عز و جل: (وَ شٰارِكْهُمْ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلٰادِ) ( «3»). ( «4»)

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 327، الباب 71 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 11/ 329، الباب 72 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 1.

(3) الإسراء: 64.

(4) الوسائل: 11/ 329، الباب 72 من أبواب جهاد النفس، الحديث 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 816

غير أنّ الرواية الثالثة الظاهرة (حرّم) في الخلود كناية عن طول العهد، لما ثبت من أنّ مآل أوساط هذه الأُمّة إلى الجنة و إن طال مكثهم في النار، و أمّا قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «لغية» فهو بضم اللام و إسكان الغين المعجمة و فتح الياء بمعنى الملغى

الذي هو كناية عن المتخلّق من الزنا، و يحتمل كونه بالعين المهملة و النون المفتوحة، أي من دأبه أن يلعن الناس أو يلعنوه.

و أمّا قوله: «شرك شيطان» فهو المصدر بمعنى المفعول، أي شاركا فيه شيطان، و يحتمل أن يكون بمعنى الفاعل أي مشاركاً (بالكسر) فيه شيطان.

***

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 817

الاكتسابات المحرّمة

(5)

النوع الخامس ممّا يحرم التكسب به

اشارة

و هي أُمور:

1. أخذ الأُجرة على الواجبات

و فيها مسائل:

تمهيد للبحث

صور المسألة و نقل الأقوال فيها

الكلام في شرائط صحّة الإجارة

أدلّة المانعين عن أخذ الأُجرة على الواجبات

أسئلة و أجوبة

في تصحيح أخذ الأُجرة على الواجبات و المستحبّات

2. أخذ الأُجرة للإطافة عند طواف نفسه

3. أخذ الأُجرة على الأذان

4. أخذ الأُجرة على الإمامة

5. أخذ الأُجرة على الشهادة

6. أخذ الأُجرة على تعليم القرآن

7. أخذ الأُجرة على الإفتاء و تعليم الأحكام

8. أخذ الأُجرة على القضاء

9. الارتزاق من بيت المال

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 819

1 أخذ الأُجرة على الواجبات

اشارة

فسّر الشيخ الأعظم (قدس سره) الواجبات بقوله: ما يجب على الإنسان فعله عيناً أو كفاية، تعبّداً أو توصّلًا على المشهور.

و إليك صور المسألة أوّلًا، و أقوالها ثانياً.

أمّا صور المسألة: فالواجب الذي تؤخذ عليه الأُجرة إمّا عيني أو كفائي، و على كل تقدير إمّا تعييني أو تخييري، و على جميع الصور إمّا تعبّدي أو توصّلي.

و أمّا الأقوال: فإليك بيانها. ( «1»)

أوّلها: المنع مطلقاً.

ثانيها: ما نسب إلى السيد المرتضى (قدس سره) من الجواز في الكفائي كتجهيز الميت و إن كان تعبدياً، و المنع في غيره، و استشكل الشيخ في هذه النسبة، فلاحظ.

ثالثها: ما نقله صاحب المصابيح عن فخر المحقّقين من التفصيل بين التعبديّات و التوصّليات.

رابعها: ما حكاه المصنّف عنه من التفصيل بين الكفائي التوصلي فيجوز و غيره فلا يجوز.

______________________________

(1) راجع تعليقة السيد الطباطبائي (قدس سره): 23.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 820

خامسها: ما عن بعضهم من التفصيل بين الواجب الأصلي فلا يجوز، و المقدّمي فيجوز.

سادسها: ما يظهر من الشيخ من التفصيل بين العيني التعييني مطلقاً، و الكفائي التعبدي فلا يجوز، و الكفائي

و التخيير التوصليين فيجوز، و التردد في التخييري التعبدي.

سابعها: الجواز مطلقاً إلا إذا استفيدت المجانية من دليله فلا يجوز أخذ الأُجرة عليه كمثل تجهيز الميت و نحوه، و هو مختار السيد الطباطبائي اليزدي (قدس سره) في تعليقته.

ثامنها: ذاك القول أي حرمة أُجرة ما استفيدت مجانيته بإضافة ما كان تعبديّاً، و هو المختار كما سيوافيك.

و قبل الخوض في المقصود نذكر مقدّمة، و هي أنّ صحة الإجارة تتوقّف- مضافاً إلى الأُمور العامّة- على وجود شرائط:

الأوّل: أن يكون في مورد الإجارة غرض عقلائي للمستأجر بحيث يرغب فيها لأجل تحصيله و الوصول إليه و لا يلزم انتفاع نفس المستأجر بمتعلّق الإجارة، بل يكفي أن يكون له غرض في موردها و إن كان نفعه يعود إلى شخص آخر، كما إذا استأجر رجلًا لكنس المسجد و بناء دار لجاره أو غير ذلك.

الثاني: قدرة الأجير على الإتيان بمورد الإجارة بعد عقدها و إلا يكون باطلًا.

الثالث: أن لا يصل المستأجر إلى غرضه بدون الإجارة و أمثالها، و إلا فلو كان العمل عملًا قهرياً للأجير كالتنفس، أو عملًا اختيارياً و هو يقوم به مائة بالمائة سواء استؤجر أم لا فلا تصح الإجارة لكونها سفهية.

الرابع: أن لا يلزم من صحة الإجارة خلف، كما إذا استلزم إجماع مالكين

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 821

على مملوك واحد.

الخامس: أن لا يعتبره الشارع حقاً للغير على ذمّة الأجير بنحو المجانّ بحيث يقوم به مجاناً و يكون وقوعه بهذا الوصف مطلوباً و في مقابل الأُجرة مبغوضاً.

هذه الشرائط تضاف إلى الشرائط العامّة من العقل و البلوغ و الاختيار التي تعتبر في كل العقود و الإجارات سواء أ تعلّقت بالواجب أم لا.

فلو بطلت الإجارة في ما نحن فيه، فلأجل اختلال

أحد هذه الشروط المذكورة.

إذا عرفت ذلك فلنقدّم أدلّة المانعين عن أخذ الأُجرة على الواجبات من غير فرق بين كون العقد إجارة أو جعالة أو صلحاً أو غير ذلك.

فأقول:

استدلّ المانع بوجوه:
الدليل الأوّل إذا كان الواجب أمراً عبادياً يعتبر في صحته و انتفاع المستأجر به قصد القربة

، و أخذ الأجرة ينافيه. و على ذلك فلا يكون الأجير قادراً على تحويل مورد الإجارة.

و أورد عليه الشيخ بأنّ الاستدلال غير جامع، لعدم شموله للواجب التوصّلي- مع أنّ المدّعى عام- و غير مانع لاستلزامه الجواز فيما إذا كان المورد عملًا عبادياً مندوباً، فيلزم عدم جواز أخذ الأُجرة عليه مع أنّه غير داخل في المدّعى.

و يمكن الدفاع بأنّ الهدف إقامة الدليل على بعض المطلوب لا كلّه.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 822

و قد أجاب عن الاستدلال كاشف الغطاء (قدس سره) و تبعه «صاحبا مفتاح الكرامة و الجواهر»- قدس سرهما-: بأنّ تضاعف الوجوب بسبب الإجارة يؤكد الإخلاص.

قال في «الجواهر»: لا تنافي الإجارة الإخلاصَ في العمل المعتبر فيه، ضرورة كون الإجارة مؤكّدة له باعتبار تسبيبها الوجوب أيضاً. ( «1»)

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّه إن أُريد من التأكيد- الجائي من ناحية الإجارة- تأكيد وجوب الفعل، أعني: الصلاة، فهو غير دافع للإشكال، لأنّ الإشكال منافاة قصد الأُجرة مع الإخلاص، فتأكيد الإجارة وجوب ذلك لا صلة له بالإشكال، و إن أُريد أنّ الوجوب الجائي من ناحيتها مؤكد للإخلاص، فهو غير تام ضرورة، لأنّ الإجارة تنافي الإخلاص لا تؤكده.

و ثانياً: كيف يؤكّد وجوب الإجارة وجوبَ الفعل مع تغاير متعلّقي الوجوبين فمتعلّق وجوب الإجارة هو الوفاء بالعقود، و متعلّق الوجوب الآخر هو نفس الفعل، فكيف يؤكد وجوب ذلك؟ و كون الوفاء بعقد الإجارة متّحداً في الخارج مع امتثال التكليف المتعلّق بالفعل، لا يوجب تأكيد الأمر الأوّل للأمر الثاني مع التغاير في الوجوب، و لأجل

ذلك قلنا في تعليقاتنا على العروة الوثقى بأنّ عدّ السيد الطباطبائي (قدس سره) النوافل المنذورة من أصناف الصلوات الواجبة غير تام، لأنّ متعلّق النذر هو الوفاء بالعقد، و متعلّق الأوامر الاستحبابية هو نفس النوافل، و اتّحادهما مصداقاً لا يوجب سراية الوجوب من أحدهما إلى الآخر.

نعم، لا يتحقّق الوفاء بالنذر إلا بإتيان النوافل المستحبة، فالوفاء بالنذر واجب، و النوافل مستحبة، و يتوقف العمل بالواجب، على الإتيان بذلك

______________________________

(1) الجواهر: 22/ 117.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 823

المستحب، و هو لا يوجب سراية الوجوب من عنوان الوفاء إلى نفس النافلة المستحبة.

و بما أنّ منافاة الأُجرة مع الإخلاص أمر مشترك بين تلك المسألة، أي أخذ الأُجرة على الواجبات، و مسألة أخذ الأُجرة على العبادات النيابية، نحيل التفصيل في تلك الأجوبة بما فيها إلى ذلك المقام و نركّز على باقي الإشكالات، لأنّ البحث في المقام في كون الوجوب- بما هو وجوب- مانعاً، و أمّا كون التعبّد مانعاً فهو بحث تبعي في المقام ينحصر بقسم واحد من الواجبات، أعني: التعبدي، و لأجل ذلك فالأحسن إحالة حل الإشكال إلى المسألة الآتية.

الدليل الثاني ما أشار إليه الشيخ (قدس سره)

في ثنايا كلماته من أنّ المكلّف مقهور على الإتيان بذلك من جانب الشارع، و أخذ الأُجرة على مثل ذلك أكل للمال بالباطل فلا يجوز بنص الآية.

فقال: فإن كان العمل واجباً عينياً تعينياً لم يجز أخذ الأُجرة عليه، لأنّ أخذ الأُجرة عليه مع كونه واجباً مقهوراً من قبل الشارع على فعله أكل للمال بالباطل، لأنّ عمله هذا لا يكون محترماً، لأنّ استيفاءه منه لا يتوقّف على طيب نفسه، لأنّه يقهر عليها مع عدم طيب النفس و الامتناع- ثمّ قال:- و ممّا يشهد بما ذكرناه أنّه لو فرض أنّ المولى أمر

بعض عبيده بفعل لغرض- و كان ممّا يرجع نفعه أو بعض نفعه إلى غيره- فلو أخذ العبد العوض من ذلك الغير على ذلك العمل، عد أكلًا للمال مجاناً بلا عوض. ( «1»)

______________________________

(1) المكاسب: 63.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 824

يلاحظ عليه: أنّه إن أُريد من المقهورية أنّ العمل لا يفي بغرض المستأجر، فالمفروض خلافه، و إن أُريد أنّه يشترط وراء الإيفاء بالغرض عدم الإيجاب من جانب الشارع، لأنّ المعاوضة مع الإيجاب تكون سفهية، ففيه أنّها انّما تكون سفهية لو كان الأجير بصدد الطاعة سواء استؤجر أم لا، و أمّا إذا لم يكن على ذاك الوصف و توقّف انتفاع المستأجر على قيام الغير بواجبه فلا يعد إعطاء العوض و الانتفاع به معاملة سفهية.

و ما استشهد به من المثال غير تام لجريان ما ذكرنا في العبد أيضاً، لأنّه لو كان العبد في مقام الطاعة مطلقاً عدّ البذل معاملة سفهية، لكن لو كان محتمل الطاعة و العصيان فلا يعد ذلك معاملة سفهية. و أمّا ذم المولى عبده لأخذ الأُجرة فلأجل شهادة القرائن على أنّه طلب منه العمل بقيد مجّانيته، و إلا فلا يستحق الذم أيضاً.

الدليل الثالث انّه يعتبر في الإجارة أن يشتغل الأجير بشغل المستأجر لا بشغل نفسه

و هي من المعاملات العرفية، و العرف لا يساعد على صحة أخذ الأُجرة على عمل النفس، و على ذلك يعد أخذ الثمن في مقابله أكلًا للمال بالباطل.

و هذا الوجه غير السابق و إن كان المستند هو عد المعاملة أكلًا للمال بالباطل، غير أنّ الطريق في السابق كون الأجير مقهوراً و في الأخير اشتراط صحّة الاجارة كون العمل خالصاً للمستأجر وحده.

و لا يخفى أنّ ما ذكره لا يتم في الواجب الكفائي، لأنّه كما يعدّ عملًا للأجير يعد عملًا للمستأجر أيضاً، لأنّ الواجب الكفائي

هو العمل المطلوب من المجتمع، فإذا قام واحد منهم سقط عن الغير، و الأجير و المستأجر بالنسبة إلى

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 825

العمل سواسية.

أضف إلى ذلك: أنّه انّما يعدّ أكلًا للمال بالباطل إذا كان انتساب العمل إليه، انتساباً طبيعياً كالأكل و الشرب، أو يعدّ من الوظائف الضرورية العرفية التي يقوم بها كل إنسان عادي. و أمّا إذا كان الانتساب بإيجاب من المقنن و الشارع من دون أن يكون هناك داع طبيعي، فلا يعد أخذ الأُجرة عليه أكلًا للمال بالباطل إذا انتفع به الغير.

الدليل الرابع لزوم اجتماع مالكين على مملوك واحد

، لأنّ العمل الواجب بحكم تعلّق الطلب به ملك للّه تعالى على العبد، و تعلّق عقد الإجارة عليه يستلزم كونه ملكاً للمستأجر، فيلزم اجتماع مالكين على المملوك الواحد، و وصفه الشيخ الأعظم (قدس سره) بأقوى الأدلّة على بطلان التكسّب بالواجبات، حيث قال: استدلّ على المطلب بعض الأساطين في شرحه على القواعد بوجوه أقواها أنّ التنافي بين صفة الوجوب و التملّك ذاتي، لأنّ المملوك للمستحق لا يملك و لا يستحق ثانياً. ( «1»)

توضيحه: انّ الذي يقابل المال لا بد أن يكون كنفس المال ممّا يملكه المؤجر حتى يملكه المستأجر في مقابل تمليكه المال إيّاه، فإذا فرض العمل واجباً للّه ليس للمكلّف تركه، فيصير نظير العمل المملوك للغير.

أ لا ترى أنّه إذا آجر نفسه لدفن الميت لشخص لم يجز أن يؤجر نفسه ثانياً من شخص آخر لذلك العمل، و ليس إلا لأنّ الفعل صار مستحقاً للأوّل و مملوكاً له، فلا معنى لتمليكه ثانياً للآخر مع فرض بقائه على ملك الأوّل.

______________________________

(1) المكاسب: 82، ط تبريز.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 826

و لا يخفى أنّ الدليل يعم العيني و الكفائي، لأنّ الكفائي

يرجع إلى العيني بوجه، غير أنّه يسقط عن الجميع بقيام واحد من المكلّفين، كما أنّه يعم الواجب التخييري، فكأنّه سبحانه يملك كل واحد من أفراد التخيير، غاية الأمر يسقط بإتيان واحد منها، هذا هو توضيح الدليل، و لا يخفى ضعفه.

لأنّ المطلوبية غير المملوكية فاللّه سبحانه طالب و العمل مطلوب، لا أنّه مالك و العمل مملوك، و إن كان له سبحانه المالكية العليا على كل العالم و عبيده و أفعالهم، غير أنّ تلك الملكية غير مطروحة في هذا المقام بدليل أنّه إذا أمر الوالد بنفس ما أمرت به الوالدة لا يلزم اجتماع مالكين على مملوك واحد.

و إن شئت قلت: إنّ الإيجاب من مقولة الحكم، و الملك من مقولة الحق، فلا معنى لجعل الحكم من مقولة الحق.

أضف إلى ذلك ما أفاده السيد الطباطبائي (قدس سره) أنّه لو فرضنا صحة اللازم فلا إشكال فيه إذا كان أحد الملكين في طول الآخر لكون ملكيّة المستأجر في طول طلب الشارع و استحقاقه، فإنّه استؤجر للعمل الواجب عليه من اللّه بأن يأتي به للّه تعالى.

الدليل الخامس ما يظهر من ذيل كلام الشيخ (قدس سره) في المقام

حيث قال: إنّ حاصل الإيجاب هنا جعل الغير مستحقاً لذلك العمل من هذا العامل، كأحكام تجهيز الميّت التي جعل الشارع الميّت مستحقاً لها على الحي فلا يستحقّها غيره ثانياً.

و حاصل هذا الوجه: أنّه يلزم اجتماع استحقاقين على الشي ء الواحد، كتجهيز الميّت، فإنّ الميّت مستحق له فلا يمكن أن يستحقّه شخص آخر كالمستأجر.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 827

و هذا الوجه تام على وجه و غير تام على وجه آخر.

أمّا الأوّل: و هو أن يقال: انّ الظاهر من أدلة تجهيز الميّت أنّ الشارع يطلب تحقّق هذه الأُمور في الخارج على وجه المجان، و انّ الميت يستحقّها

على المجهّز بهذا الشكل، و هذا وجه تام يختص بالموارد التي علم من الأدلّة أنّ الشارع طلبها مجاناً و لم يرض بأخذ الأُجرة، و هذا المعنى صحيح و لكنّه بعيد عن عبارة الشيخ.

أمّا الثاني: فبأن يقال: انّ لازم أخذ الأُجرة على العمل الواجب لزوم اجتماع مستحقين على عمل واحد، أعني: الميّت و المستأجر، و هذا الوجه يرجع إلى الوجه المتقدّم بتفاوت يسير في تفسير المالكين أو المستحقين، فهما على الأوّل: اللّه تعالى و نفس المستأجر، و على الثاني هما: الميّت مع المستأجر، فلاحظ.

و على أي تقدير فالجواب على الوجهين واحد.

الدليل السادس الاستدلال بالإجماع

، و هو كما ترى، لما عرفت من الأقوال المختلفة في المسألة و قد أفتى المفيد (قدس سره) في «المقنعة» و الشيخ (قدس سره) في «النهاية» بجواز أخذ الأُجرة على القضاء.

تفصيل للشيخ الأعظم

(قدس سره)

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) فصّل في المسألة و قال بعدم جواز أخذها في الواجب العيني التعييني، لكون الأجير مقهوراً فلا يكون عمله هذا محترماً.

و أمّا الواجب التخييري، فإن كان توصلياً فلا مانع من جواز أخذ الأُجرة على أحد فرديه بالخصوص بعد فرض كونه مشتملًا على نفع محلّل، و المفروض أنّه لا يقهر عليه. و إن كان تعبديّاً فلو قلنا بكفاية الإخلاص بالقدر المشترك و إن

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 828

كان إيجاد خصوص بعض الأفراد لداع غير الإخلاص فهو كالتوصلي، و إن قلنا بأنّ اتحاد وجوب القدر المشترك مع الخصوصية مانع عن التفكيك بينهما في القصد، كان حكمه كالتعييني.

و أمّا الكفائي: فان كان توصلياً أمكن أخذ الأُجرة على إتيانه لأجل باذل الأُجرة فهو العامل في الحقيقة، و إن كان تعبدياً فلم يجز الامتثال به و أخذ الأُجرة عليه.

ثمّ إنّه استثنى ما كان يعد حقّاً لمخلوق يستحقّه على المكلّفين، فكلّ من أقدم عليه فقد أدّى حق ذلك المخلوق فلا يجوز له أخذ الأُجرة منه و لا من غيره ممّن وجب عليه أيضاً كفاية، و لعل من هذا القبيل تجهيز الميّت و إنقاذ الغريق، بل و معالجة الطبيب لدفع الهلاك.

و لا يخفى أنّ ما أفاده غير تام:

أمّا أوّلًا: فلما عرفت أنّ المقهورية القانونية غير المقهورية التكوينية، فالذي يعد بذل المال عليه أمراً سفهياً إنّما هو الثاني دون الأوّل، لأنّه حرّ مختار يتمكّن من أن يطيع و أن لا يطيع، فلو كان

العمل مورداً لرغبة المستأجر و احتمل أنّ الأجير يمكن أن يقوم بواجبه و يمكن أن لا يقوم، جاز له عند العقلاء استئجاره على العمل.

و ثانياً: أنّ المقهورية انّما تتحقّق إذا كان الأجير أيضاً عالماً بالوجوب، و من الممكن أن يكون جاهلًا به فلا يعد عقد الإجارة أمراً سفهياً.

و ثالثاً: لو جاز أخذ الأُجرة على أحد فردي الواجب التخييري التوصلي لجاز أخذها على بعض مصاديق الواجب العيني التعييني لأجل انتفاع المستأجر بذلك المصداق دون الآخر.

و رابعاً: أنّ الوجوب في الواجب التخييري تعلّق بكل من خصال الكفّارة

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 829

لا بالقدر الجامع بينها، فما ذكره (قدس سره) من إمكان غاية الإخلاص بالقدر المشترك و إن كان إيجاد خصوص بعض الأفراد لداع غير الإخلاص، كما ترى، بل يشترط له قصد الإخلاص في كل صنف من خصال الكفّارة كالصوم أو الإطعام أو غيرهما.

و خامساً: أنّ مجرّد كون الشي ء حقاً للغير لا يكفي في عدم جواز أخذ الأُجرة عليه، بل المدار ثبوت كونه مطلوباً للشارع على وجه المجّان و أن لا يجوز أخذ الأُجرة عليه و إن لم يكن من باب الحق للمخلوق.

و بالجملة: فالمناط ثبوت كون المطلوبية على الوجه المجان، لا كونه حقّاً للغير.

هذا هو حال المسألة و أدلّتها، و قد علمت أنّه لا مانع من أخذ الأُجرة على الواجبات من حيث هي هي، و انّ الوجوب بما هو هو غير مانع من الأخذ، و انّما المانع أمران:

الأوّل: التعبدية و اشتراط الإخلاص في صحة العمل، و هي جارية في الواجب و المستحب التعبديّين و غير جارية في التوصّلي واجباً كان أم مستحباً.

الثاني: ثبوت كون المطلوب الإتيان بالشي ء على الوجه المجان و مبغوضية أخذ الأُجرة

عليه.

و في غير هاتين الصورتين يجوز الأخذ.

أسئلة و أجوبة
اشارة

ثمّ إنّ المشهور لمّا ذهب إلى حرمة أخذ الأُجرة على الواجبات واجه كثيراً من الأسئلة و النقوض في المسألة، فيجب علينا طرحها و توضيحها، فنبحث عن الكل بعنوان خاص.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 830

السؤال الأوّل الواجبات الكفائية الاجتماعية كالصناعات التي يتوقّف النظام عليها تجب كفايةً

، لوجوب إقامة النظام، بل قد يتعيّن بعضها على بعض المكلّفين عند انحصار المكلف القادر، فيه، مع أنّ جواز أخذ الأُجرة عليها ممّا لا كلام لهم فيه، فلو حرم أخذ الأُجرة على الواجبات، لزم حرمة أخذ الأُجرة على الطبابة لوجوبها على الطبيب كفاية أو عيناً.

و الإشكال مبني على التنافي بين كون الشي ء واجباً على الإنسان و مملوكاً لشخص آخر، أو التنافي بين الوجوب و أخذ الأُجرة لكونه أكلًا للمال بالباطل على الوجهين.

غير أنّه لو كان الدليل على الحرمة هو العقل فلا يقبل التخصيص، و لو كان الدليل هو الإجماع فهو قابل، له، فأصح الأجوبة هو ما أفاده الشيخ (قدس سره) في الوجه السابع: من أنّ وجوب الصناعات لم يثبت من حيث ذاتها، و انّما ثبت من حيث الأمر بإقامة النظام، و إقامة النظام غير متوقّفة على العمل تبرعاً، بل تحصل به و بالعمل بالأُجرة، فالذي يجب على الطبيب لأجل إحياء النفس و إقامة النظام هو بذل نفسه للعمل لا بشرط التبرّع به، بل له أن يتبرع به و له أن يطلب الأُجرة، و حينئذ فإن بذل المريض الأُجرةَ وجب عليه العلاج، و إن لم يبذل الأُجرةَ و المفروض أداء ترك العلاج إلى الهلاك، أجبره الحاكم حسبة على بذل الأجرة للطبيب، و ان كان المريض مغمى عليه، دفع عنه وليّه، و إلّا جاز للطبيب العمل بقصد الأُجرة فيستحق الأُجرة في ماله، و إن لم يكن له مال ففي ذمته فيؤدّى

في حياته أو بعد مماته من الزكاة أو غيرها ...

و بالجملة: ما أمر به من باب إقامة النظام، فإقامة النظام تحصل ببذل

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 831

النفس للعمل به في الجملة، و أمّا العمل تبرعاً فلا.

و يمكن أن يقال: انّ مبنى الإشكال هو أنّ حفظ النظام واجب، و ما يتوقّف عليه الواجب من الصناعات فهو أيضاً واجب، و لا يجوز أخذ الأُجرة على الواجب.

أقول: لو قلنا بحفظ النظام شرعاً تكون الصناعات من مقدّماته الوجودية، و الاستدلال انّما يتم لو قلنا بوجوب المقدّمة وجوباً شرعياً لا عقلياً، و قد أوضحنا في الأبحاث الأُصولية أنّها غير واجبة لا عقلًا، و لا شرعاً، لأنّ إيجابها لغو، لأنّ الأمر بذيها، لو كان كافياً في تحريك العبد إليه لاستغنى عن الأمر بالمقدّمة، لأنّه يقوم بها لعلمه بأنّ الواجب لا يتم إلا بها، و إن كان غير واف في تحريك العبد، لما نفعه الأمر بالمقدّمة، إذ المفروض أنّه أمر غيري، لا يترتب على مخالفته عقاب، فلا يكون محركاً إلى الامتثال.

هذا تمام الكلام في السؤال الأوّل، أو بعبارة صحيحة النقض الأوّل، و إليك بقية الأسئلة و النقوض.

السؤال الثاني أخذ الوصي الأُجرة على تولّي أموال الطفل الموصى له الشامل بإطلاقه لصورة تعيّن العمل عليه

، و قد أجاب عنه الشيخ (قدس سره) بجوابين:

الأوّل: ما ذكره عند الدفاع عن مختاره من التفصيل، حيث قال: و لا ينافي ما ذكرنا حكم الشارع بجواز أخذ الأُجرة على العمل بعد إيقاعه كما أجاز للوصي أخذ أجرة المثل أو مقدار الكفاية، لأنّ هذا حكم شرعي لا من باب المعاوضة.

الثاني: ما أفاده في المقام حيث قال: إنّ أخذ الأُجرة للوصي على تولّي أموال

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 832

الطفل الموصى له الشامل بإطلاقه لصورة تعين العمل عليه من جهة الإجماع

و النصوص المستفيضة.

أقول: دلّ الكتاب على جواز الأكل من مال اليتيم بقدر المعروف، قال سبحانه: (وَ مَنْ كٰانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ). ( «1»)

و أمّا السنّة فقد روى هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عمّن تولّى مال اليتيم، ماله أن يأكل منه؟ فقال: «ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم، فليأكل بقدر ذلك». ( «2»)

و لا يخفى عدم تمامية الوجهين، أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر من الصحيحة أنّ المأكول من باب عوض العمل، لا أنّه حكم شرعي لا صلة له بباب المعاوضة.

و تظهر الثمرة بين كون الأخذ حكماً شرعياً، أو من باب المعاوضة، فيما لو مات الوصي بعد التولي و قبل الأخذ، فيستحق وارثه على العوضية، لا ما إذا كان حكماً شرعياً.

و أمّا الثاني: فلأنّه انّما يتم لو كان الدليل على حرمة أخذ الأُجرة هو الإجماع، و أمّا لو استندنا إلى الوجوه العقلية فلا يصح التخصيص في الحكم العقلي.

السؤال الثالث رجوع الأُم المرضعة بعوض إرضاع اللباء

، مع وجوبه عليها بناء على توقف حياة الولد عليه.

______________________________

(1) النساء: 6.

(2) الوسائل: 12/ 186، الباب 72 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 833

فقد أجاب عنه الشيخ (قدس سره) بأنّه من قبيل رجوع الوصي بأجرة المثل من جهة عموم آية: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). ( «1»)

يلاحظ عليه: قد عرفت أنّ الظاهر رجوع الوصي من باب المعاوضة، أي يأخذ الأُجرة عوضاً عمّا قام به من الأُمور، لا من باب الحكم الشرعي، و أنّه يجوز الأخذ من دون قصد المعاوضة، و إن أخذه من باب المعاوضة فيعود الإشكال و لا يتم الجواب، و مثله رجوع الأُم، فانّ ظاهر الآية كونه عوضاً. نعم بذل المال للمضطر

ثمّ أخذ العوض لا صلة له بالمقام، فانّ الواجب هو البذل لا المبذول، و العوض هو عوض المبذول لا البذل.

أخذ الأُجرة على الواجبات النيابية
اشارة

ذهب كثير من المتأخّرين إلى صحّة استئجار الشخص في العبادات التي تقبل النيابة كالحج و الزيارة و نحوهما، فلو كان أخذ الأُجرة مانعاً عن تمشّي القربة و حصول الإخلاص، فكيف يصح أخذ الأُجرة على العمل العبادي النيابي؟

هذا، و قد صار القوم بصدد تصحيح أخذ الأُجرة على الواجبات و المستحبات نيابة بوجوه نذكرها:

التصحيح الأوّل ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) في المقام

و قد ذكره تارة عند البحث في أخذ الأُجرة على الواجبات، و أُخرى عند البحث في أخذ الأُجرة على العبادات نيابة،

______________________________

(1) الطلاق: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 834

و نحن ننقل كلتا العبارتين حتى يقف القارئ على أنّ العبارتين تهدفان إلى معنى واحد و ليس بينهما مغايرة.

قال في المقام الأوّل: و أمّا تأتّي القربة في العبادات المستأجرة فلأنّ الإجارة انّما تقع على الفعل المأتي به تقرّباً إلى اللّه سبحانه نيابة عن فلان.

توضيحه: انّ الشخص [عند النيابة] يجعل نفسه نائباً عن فلان في العمل متقرّباً إلى اللّه فالمنوب عنه يتقرّب إليه تعالى بعمل نائبه و تقربه، و هذا الجعل في نفسه مستحب، لأنّه إحسان إلى المنوب عنه و إيصال نفع إليه ... و هذا بخلاف ما نحن فيه، لأنّ الأُجرة هنا في مقابل العمل تقرّباً إلى اللّه، و المفروض أنّ الإخلاص إتيان العمل لخصوص أمر اللّه تعالى، و التقرّب يقع للعامل دون الباذل و وقوعه للعامل يتوقّف على أن لا يقصد بالعبادة سوى امتثال أمر اللّه تعالى.

و قال (قدس سره) في المقام الثاني: إنّ نيابة الشخص عن غيره و إن كان مستحباً إلا أنّ ترتب الثواب للمنوب عنه لا يتوقّف على قصد النائب الإخلاص في نيابته، بل متى جعل نفسه بمنزلة الغير و عمل العمل بقصد التقرّب- الذي هو تقرب المنوب عنه بعد

فرض النيابة- انتفع المنوب عنه، سواء أفعل النائب هذه النيابة بقصد الإخلاص في امتثال أوامر النيابة عن المؤمن أم لم يلتفت إليها أصلًا و لم يعلم بوجودها فضلًا عن أن يقصد امتثالها، و التقرّب الذي يقصده النائب بعد جعل نفسه نائباً هو تقرّب المنوب عنه لا تقرّب النائب، فيجوز أن ينوب لأجل مجرّد استحقاق الأُجرة عن فلان بأن ينزل نفسه منزلته في إتيان الفعل قربة إلى اللّه، ثمّ إذا عرض هذه النيابةَ الوجوبُ بسبب الإجارة فالأجير غير متقرّب في نيابته، و لكنّه متقرّب بعد جعل نفسه نائباً عن غيره فهو متقرّب بوصف كونه بدلًا و نائباً عن الغير، فالتقرّب يحصل للغير.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 835

و حاصله: أنّ الأُجرة في مقابل النيابة و لا يشترط فيها الإخلاص، و ما يشترط فيه الإخلاص كالعمل ليس في مقابله شي ء.

ثمّ إنّه (قدس سره) أورد على نفسه إشكالًا و هو أنّه ليس في الخارج إلا شي ء واحد و هو الصلاة عن الميّت، و هذا متعلّق الإجارة و النيابة، فإن لم يمكن الإخلاص في متعلّق الإجارة لم يترتّب على تلك الصلاة نفع للميت، و إن أمكن الاخلاص لم يناف الإخلاص لأخذ الأُجرة، و هذا خلف، و ليست النيابة عن الميّت في الصلاة المتقرّب بها إلى اللّه تعالى شيئاً و نفس الصلاة شيئاً آخر حتى يكون الأوّل متعلّقاً للإجارة و الثاني مورداً للإخلاص.

و حاصل ما أجاب: أنّ متعلّق الإجارة- أي النيابة التي لا يعتبر فيها القربة- و إن كان متّحداً مع الصلاة التي يعتبر فيها القربة، لكن عدم القربة من الجهة الأُولى- من جهة منافاة أخذ الأُجرة- لا ينافي تحقّقها من الجهة الثانية، إذ الأُجرة لم تؤخذ على أصل

الصلاة بل على النيابة.

و لا يخفى ما في هذا الجواب من نظر:

أمّا أوّلًا: فلأنّ ما ذكره من التصوير خلاف ما هو الواقع، إذ لا تؤخذ الأُجرة على صرف النيابة، و إلا لاستحق الأُجرة بتحقّقها، و انّما تؤخذ على الصلاة بعنوان النيابة، و معه كيف يمكن أن يقال: انّ الأُجرة في مقابل النيابة و لا يشترط فيها القربة، و ما يشترط فيه القربة- أعني: الصلاة- لا يؤخذ في مقابله شي ء؟!

و أمّا ثانياً: فلو سلّمنا صحة الفرض، فالمحرّك الواقعي الأساسي للصلاة هو الأُجرة التي أخذها على النيابة بحكم كون ما بالعرض لا بدّ و أن ينتهي إلى ما بالذات، فالمحرّك للصلاة هو امتثال أمرها، و المحرّك لذاك الامتثال هو الأُجرة التي أخذها على النيابة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 836

و إن شئت قلت: إنّ الأُجرة على النيابة و الصلاة.

و ثالثاً: أنّه لو تم لكان هاهنا تكليفان، تكليف بالنيابة، و تكليف بأصل الصلاة، فيكون الأوّل توصّلياً و الثاني تعبّدياً، مع أنّ الظاهر من الأدلّة و الروايات أنّ هنا تكليفاً واحداً، و إليك بعضها:

منها: ما رواه حمّاد بن عثمان قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «من عمل من المؤمنين عن ميت عملًا أضعف اللّه له أجره و ينعم به الميت». ( «1»)

و منها: ما عن كتاب المسائل لعلي بن جعفر (عليه السلام)، عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألت أبي جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي عن بعض موتاه؟ قال: «نعم، فليصل على ما أحب و يجعل تلك للميت، فهو للميت إذا جعل ذلك له». ( «2»)

و التكليف الواحد هنا هو النيابة عن الميّت في تكاليفه الفائتة، فكما أنّ الفوت

من جانب الإنسان سبب لتوجه الأمر بالقضاء، كذلك الفوت من جانب الميّت سبب لتوجه أوامر النيابة إلى الأحياء، فالفوت المستند إلى نفس الإنسان سبب للأمر بالقضاء، و الفوت المستند إلى الميت سبب لتوجه أوامر النيابة عنه إليهم.

فهنا عنوان واحد بسيط تعلّق به الأمر و هو لا يقبل التفكيك بأن يكون توصّلياً من جهة و تعبّدياً من جهة أُخرى.

و إن شئت قلت: ليس هاهنا عنوانان: أحدهما النيابة و الآخر نفس الصلاة، لأنّ المفروض أنّ الصلاة ليست مطلوبة من الأحياء في هذه الظروف إلا بعنوان النيابة، فيكون موضوع الأمر هو الصلاة نيابة، و بذلك يعلم أنّ الشخص يتقرّب

______________________________

(1) الوسائل: 5/ 369، الباب 12 من أبواب قضاء الصلوات، الحديث: 24 و 2.

(2) الوسائل: 5/ 369، الباب 12 من أبواب قضاء الصلوات، الحديث: 24 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 837

بالأمر المتوجّه إليه لا الأمر المتوجه إلى الميّت، إذ لا أمر له و التقرّب الذي يحصل له هو تقرّب نفسه لا تقرب المنوب عنه.

نعم، هو بقصد تقرب نفسه قاصد تقرب المنوب عنه بالواسطة، فقصد الامتثال مؤثر في تقرّب نفسه بلا واسطة و تقرّب غيره مع الواسطة- و ليست هي تقرب نفسه-.

التصحيح الثاني ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) في رسالة (القضاء عن الميت)

جواباً عن الإشكال: النيّة مشتملة على قيود منها: كون الفعل خالصاً للّه سبحانه، و منها: كونه أداءً و قضاءً عن نفسه أو عن الغير بأُجرة أو بغيرها، و كل من هذه القيود غير مناف لقصد الإخلاص، و الأُجرة- فيما نحن فيه- إنّما وقعت أوّلًا و بالذات بإزاء القيد الثاني، أعني: النيابة عن زيد، بمعنى أنّه استؤجر على النيابة عن زيد بالإتيان بهذه الفريضة المتقرّب بها، و قيد القربة في محله على حاله لا تعلّق للإجارة

إلّا من حيث كونه قيداً للفعل المستأجر عليه.

نعم، لو اشترط في النيابة عن الغير التقرّب زيادة على التقرّب المشروط في صحة العبادة اتّجه منافاة الأُجرة لذلك، إلا أنّه ليس بشرط إجماعاً.

و بالجملة: فانّ أصل الصلاة مقصود بها وجهه سبحانه، لكنّ الداعي إليها و الباعث عليها مع التقرّب هو هذا المبلغ الذي قرر له. ( «1»)

و لا يخفى عدم تمامية ذكره، لما عرفت من أنّه ليس هنا إلا شي ء واحد توجّه إليه الأمر و هو الصلاة نيابة عن الغير، فلو فرضنا أنّ الأُجرة في مقابل القيد- أعني:

______________________________

(1) رسالة القضاء عن الميّت المطبوعة في ملحقات المكاسب: 341.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 838

النيابة عن الغير- فهو يستلزم وقوعها في مقابل العمل أيضاً، لأنّ النيابة عن الغير و إن كانت أمراً ذهنياً لكنّه متمثل في الخارج بنفس العمل، فلو كان العمل الذهني خالياً من القربة كما هو المفروض، فكيف يمكن أن يكون نفس العمل الخارجي مقروناً بها؟

و إن شئت قلت: إنّ هنا عملًا جوارحياً و هو الصلاة، و عملًا جوانحياً و هو النيابة عن الغير، و العمل الخارجي يستند إلى العمل الذهني، فلولا قصد النيابة عن الغير لما قام الرجل بالصلاة، و المفروض أنّ العمل الذهني خال من التقرّب فكيف يمكن أن يكون الفعل الخارجي مقروناً به؟

التصحيح الثالث ما نسب إلى الشيخ الأعظم (قدس سره) و هو أنّ النيابة عنوان يلحق الفعل المنوب عنه

و به يصير متعلّقاً للإجارة و هو كون الصلاة عن فلان. فالصلاة من حيث ذاتها عبادة، و من حيث وصفها- أي كونها عن الغير- معاملة محضة نظير الصوم و الصلاة في البيت.

و الظاهر أنّه ليس وجهاً برأسه، بل هو نفس ما أفاده في رسالة القضاء و على كل تقدير فيرد عليه.

أوّلًا: ما يرد على الوجه المتقدّم من كونه غير ما

جرى عليه المتشرعة، حيث إنّ الأجر مجعول عندهم في مقابل العمل لا النيابة.

و ثانياً: انّه لا يدفع أصل الإشكال، لأنّ الأجير لا يأتي بالعمل طلباً لرضاه تعالى بل طلبا للأُجرة.

نعم، ما ذكره إنّما يصح لو طلب الأُجرة لإيقاعه في مكان خاص كالمسجد فلا يضر بالإخلاص في أصل العمل سواء كان العمل لنفسه أم لغيره نيابة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 839

التصحيح الرابع ما بنى عليه الأساتذة و أوضحه السيد الطباطبائي (قدس سره)

بقوله: إنّ الداعي على العمل و إن كان أخذاً بالأجرة إلا أنّه ليس في غرض داعي الامتثال بل في طوله.

و بعبارة أُخرى: انّما يأتي العمل متقرّباً إلى اللّه ليأخذ الأُجرة، و من المعلوم أنّه لا يعتبر في صحة العبادة سوى كون الفعل بداعي الامتثال، و أمّا إتيان الفعل بداعي الامتثال فيمكن أن يكون لغرض آخر كغرض دنيوي أو أُخروي راجع إلى غير اللّه.

و الحاصل: أنّه لا يعتبر في العبادات إلا توسط الامتثال و كون الداعي الأوّل إلى الإتيان امتثال الأمر، و لا يعتبر كونه غاية الغايات، و من المعلوم أنّ الغالب في دواعي العباد إلى الامتثال غير اللّه من دخول الجنة أو عدم دخول النار أو الوصول إلى المقامات الدنيوية أو الأُخروية.

نعم المرتبة الكاملة أن لا يكون الداعي إلا اللّه، بمعنى كونه غاية الغايات في العبادة كما حكي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «ما عبدتك خوفاً من نارك و لا طمعاً في جنّتك، بل وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك»، فالباطل ما يكون الداعي الأوّل إلى العمل غرضاً دنيوياً أو أُخروياً من غير توسيط امتثال الأمر كأن يعمل لدخول الجنة أو لعدم دخول النار أو لأخذ الأُجرة من غير نظر إلى امتثال أمر اللّه أصلًا. ( «1»)

و الحاصل: انّ المضر بالإخلاص انّما هو

الداعي الدنيوي الذي هو في عرض داعي الامتثال، و أمّا إذا كان في طوله بأن يكون الداعي إلى العمل امتثال أمر اللّه تعالى، و الداعي إلى الامتثال غرضاً آخر دنيوياً أو أُخروياً فلا بأس به، كيف و لا

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيد (قدس سره): 24.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 840

فرق- بالبداهة- فيما لا يرجع إلى اللّه تعالى بين أن يكون أخذ العوض أو غيره من المقاصد الدنيوية أو الأُخروية، مع أنّ غالب الناس انّما يعبدون اللّه سبحانه خوفاً أو طعماً، فاللازم انّما هو توسط الامتثال و إن كان الباعث عليه غرضاً آخر راجعاً إلى نفسه، و إلا انحصرت العبادة فيما كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) و غيره ممّن لا يرى إلا أهلية المعبود للعبادة.

و هذا الجواب و إن اعتمد عليه كثير من المشايخ الأعاظم، و سيأتي من سيدنا الأُستاذ- دام ظله- توضيحه بوجه رائع، و لأجل كونه رائعاً نجعله جواباً مستقلًا، غير أنّ النفس لا تعتمد عليه، فانّه و إن كان قصد الامتثال يتوسط بين الفعل و الأُجرة، لكن الداعي الحقيقي- بحكم أنّه لا بدّ أن ينتهي كل ما بالعرض إلى ما بالذات- هو الأُجرة بدليل أنّه لو انتفت الأُجرة انتفى قصد الامتثال و نفس العمل.

و الفرق بين الأغراض الدنيوية المطلوبة من غير الشارع و الأغراض الأُخروية المطلوبة من الشارع واضح جداً، فانّ المكلّف في الصورة الأُولى يأتي بالواجب لغاية الأُجرة، و هذا بخلاف الصورة الثانية، فانّه يأتي به لأجله و لشأن من شئونه و هو فعله سبحانه، أعني: الدخول في الجنة و الاتّقاء من النار.

فالعبادة عبارة عن القيام بالعمل لأجله سبحانه، سواء كان لذاته، أو لوصف من صفاته، أو لفعل من

أفعاله، و على كل تقدير فهو يقوم بالعمل لأجله لا لغيره، بخلاف ما إذا قام به لأجل الأُجرة فهو إن قام بالعمل، فلمخلوق من مخلوقاته، و قياس هذا بذلك قياس مع الفارق، و أيُّ وجدان يقبل هذا القياس؟! و يعتقد بأنّ العمل للثواب المطلوب من اللّه كالعمل للأجر المطلوب عن عباده،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 841

مع أنّ الأوّل خضوع في مقابله باعتقاد أنّه إله و ربّ، و بيده مفاتيح كل شي ء، و الثاني خضوع في مقابل دنيا الغير و درهمه و ديناره؟ فتصوُّر وحدة العملين من عجائب الأُمور.

التصحيح الخامس ما ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في تعليقاته

و قال: يمكن أن يقال بصحة العمل من جهة امتثال الأمر الإجاري المتّحد مع الأمر الصلاتي، فانّ حاصل قوله: فِ بإجارتك صلّ وفاءً للإجارة، و دعوى أنّ هذا الأمر توصّلي لا يكون ملاكاً لعبادية العبادة مدفوعة:

أوّلًا: بأنّ غايته أنّه لا يعتبر في سقوطه قصد القربة، فإذا أتى بقصد الامتثال يكون عبادة قطعاً كما في سائر الأوامر التوصّلية، و لذا قالوا: إنّ العبادة قسمان: عبادة بالمعنى الأخص و بالمعنى الأعم، و هي كل ما لم يعتبر فيه قصد القربة اذا أتى به بقصدها.

و ثانياً: بأنّا لا نسلّم كونه توصّلياً مطلقاً بل هو تابع لمتعلّقه، و لعلّ المصنّف (قدس سره) يتخيّل أنّ الفرق بين الأمر التعبّدي و التوصّلي إنّما هو في كيفية الطلب، مع أنّه ليس كذلك قطعاً، بل الأمر على نسق واحد و انّما الفرق باعتبار المتعلّق، فكل ما كانت صحّته موقوفة على قصد القربة يقال: إنّ أمره تعبّدي، و كلّ ما ليس كذلك يقال: إنّ أمره توصّلي، و لذا حيث قلنا إنّ قصد القربة معتبر في موضوع العبادات على وجه القيدية و الشرطية قلنا إنّ

جميع الأوامر توصّلية، بمعنى أنّه لا يعتبر فيها إلا إتيان متعلّقها، و المتعلّق قد لا يعتبر فيه قصد القربة و قد يعتبر- إلى أن قال-: و الحاصل أنّ امتثال الأمر المتعلّق بالعمل من جهة وجوب

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 842

الوفاء بالإجارة كاف في الصحة. ( «1»)

يلاحظ عليه: أمّا أوّلًا: فلأنّ ما ذكره ناش من الخلط بين القربيّات و التعبّديات، فإنّ الأوّل أعمّ من الثاني و إن كانا يشتركان في اشتراط ترتّب الثواب على قصد الأمر و الامتثال لوجه اللّه لكن ليس كلّ أمر يقصد امتثاله أمراً تعبّدياً، بل يعد أمراً قربياً، فالعمل بآداب التخلي امتثال للأوامر القربية لا الأوامر التعبّدية، فالمتخلّي بإتيانه بها يتقرّب إليه، كما أنّ العمل بالأوامر الواردة في باب الأخماس و الصدقات للّه سبحانه يوجب القرب و لا يعد نفس العمل عبادة له سبحانه.

فالعبادة التي يعبر عنها بالفارسية ب- «پرستش» أخص من الأعمال القربية، فربّ عمل كالتعليم و التعلّم و احترام الوالدين و تكريمهما للّه سبحانه قربى، و ليس عبادة للّه سبحانه، بل العبادة هي الخضوع في مقابله سبحانه بعنوان أنّه «إله» و «ربّ» و ليس هذا المعنى في هذه الموارد.

و على هذا فامتثال الوفاء بالعقود في كلِّ مورد و إن كان موجباً للقرب و الثواب لكن لا يجعل نفس الوفاء عبادة بالمعنى الذي عرفت، و كل الخلط ناشئ من تصوّر أنّ كلّ عمل يؤتى لأجل أمره سبحانه عبادة للّه سبحانه، مع أنّ الصحيح أنّه أعم من العبادة، فلو وفى كل إنسان بعقود معاملاته من البيع و الإجارة و الصلح و قام بهذا الوفاء لامتثال أمره فهو متقرّب به إلى اللّه لا أنّه عابد له، فالعبادة أضيق من هذا

المعنى.

فيتلخّص من ذلك أنّ الأمر بالوفاء بالإجارة المتولّد من قوله سبحانه: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لا يجعل نفس الوفاء عبادة لعدم قابلية نفس العمل لأن يصدق

______________________________

(1) حاشية السيد (قدس سره): 25.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 843

عليه أنّه عبادة.

و ثانياً: أنّ ما ذكره من أنّ التعبّدي و التوصّلي تابع لمتعلّق الأمر و ليس من كيفيات الطلب و إن كان صحيحاً، و لكن ليس كلُّ متعلّق صالحاً لأن يعبد به اللّه تعالى، و إن قصد أمره، فما ذكره في ذيل كلامه من أنّ امتثال الأمر المتعلّق بالعمل من جهة وجوب الوفاء بالإجارة كاف في الصحة، غير كاف قطعاً، إذ كيف يكون الوفاء بأمر دنيوي- و إن كان أمر به اللّه سبحانه- عبادة للّه، مع أنّ حد العبادة هو كون المتعلّق- بغض النظر عن الأمر- خضوعاً للّه سبحانه بما هو «إله» أو بما هو «ربٌّ» فتلخّص: أنّ الوفاء لا يكون عبادة بقصد أمره.

و ثالثاً: لو سلّمنا ذلك فإنّ غايته تصحيح عبادية الوفاء بذلك الأمر لا تصحيح عبادية الصلاة، لأنّ المفروض أنّ الأمر تعلّق بالوفاء لا بالصلاة، و اتّحاد الوفاء مع الصلاة في الخارج لا يصحح عبادية الصلاة، لأنّ كلَّ أمر لا يتجاوز عن متعلّقه إلى شي ء آخر و إن اتّحدا في الخارج.

أضف إلى ذلك ما أورد عليه سيدنا الأُستاذ- دام ظله- من أنّ امتثال الأمر الإجاري لا يكون موجباً لامتثال الأمر الصلاتي و لا يوجب كون الفاعل مقرباً لأجل أمرها، بل لو تعبّد بالأمر الإجاري من غير التعبّد بالأمر الصلاتي لا يصير مقرباً مطلقاً، فانّه إذا لم يأت بمتعلّق الإجارة لم يمتثل الأمر الإجاري أيضاً، و مجرّد اتّحاد العنوانين في المصداق لا يوجب أن يصير إيجاد أحد

العنوانين بداعوية أمره أو بداع قربي آخر مربوطاً به، أ لا ترى أنّه لو أمر بإكرام العالم، و أمر بإكرام الهاشمي، و كان الأمران تعبديين غير ساقطين إلا بقصد التعبّد، فأكرم المكلّف من ينطبق عليه العنوانان بداعوية أمر العالم مع عدم داعوية أمر الهاشمي أصلًا، لا يعقل سقوط

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 844

الأمرين و تقربه بعنوانين، لأنّ التقرّب بعبادة، فرع إتيانها بداعوية أمرها أو بجهة مقرّبة أُخرى قائمة بها أو راجعة إليها. ( «1»)

التصحيح السادس ما يظهر من سيدنا الأُستاذ- دام ظله- في توجيه الداعي إلى الداعي

، و هذا الجواب و إن مرّ سابقاً غير أنّ الأُستاذ أوضحه بوجه رائع فنذكره مستقلًا، قال ما هذا حاصله ( «2»):

هل المعتبر في العبادة أن تكون المبادئ الموجودة في النفس الباعثة إلى إيجاد متعلّق الأمر امتثالًا له تعالى، كلّها مربوطة به سبحانه، فيكون خوفه من اللّه و رجاؤه إليه و طمعه في إعطائه تعالى باعثاً لطاعته و محركاً له، أو لا يعتبر فيها إلا كون العمل للّه سبحانه خالصاً بلا شركة شي ء معه، فإذا صار شي ء دنيوي سبباً لإيجاد عمل للّه تعالى و لا يكون في إتيان الفعل بداعي اللّه شريكاً و إن كان الإتيان بداعي اللّه معلولًا لداعي غير اللّه، يقع الفعل عبادة؟

و التحقيق هو الثاني، لأنّه لما كان الامتثال و الطاعة عقلا ليسا غير إتيان المأمور به حسب دعوة الأمر و لأجل موافقته- كان الباعث الأقصى عليه أيّ شي ء كان- لأنّه إذا كان الإتيان للامتثال و الطاعة محضاً و بلا تدخّل شي ء فيه يصير الفعل عبادة، لأنّ العبادة طاعة المولى و حركة العبد طبق أمره، كانت الغاية لها ما كانت.

و الشاهد على عدم اعتبار شي ء آخر في صيرورة الفعل قربيّاً و عبادياً مضافاً

______________________________

(1) المكاسب

المحرمة: 2/ 173.

(2) و هذا الجواب كما يكون مفيداً في العبادات النيابية يكون مفيداً في دفع الإشكال في أخذ الأُجرة على الواجبات العبادية، و ذكر الأُستاذ ذاك الجواب في الجواب الثاني.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 845

إلى ما ذكر، الأدلّة المرغبة في العبادات بالوعد على ترتّب آثار أُخروية أو دنيوية عليها، و تسالمهم على صحة العبادة إذا كان الإتيان و الإطاعة بطمع الجنة أو لخوف النار، بل بطمع سعة الرزق و نحوها، مع أنّ كل ذلك خارج عن الغايات الإلهية، و الغايات المذكورة غير اللّه تعالى.

و ما يقال: بأنّ طمع الأجر من اللّه غير مضر بالإخلاص دون الطمع من غيره سبحانه، غير وجيه، لأنّ الداعي عبارة عن الغاية المحرّكة، و لا ريب أنّ المحرّك في تلك العبادات المأتي بها طمعاً و خوفاً هو نفس متعلّقات الإضافات و حاصل المصادر و النتائج من غير أدنى تدخّل للإضافات و حيثية الصدور من فاعل خاص، و لهذا صارت محرّكات مع فرض سقوط الإضافة إلى اللّه تعالى.

و بعبارة أُخرى: انّ المحرّك هو نفس حصول الحور العين من غير تدخّل إضافة إلى اللّه تعالى، فلو كان هذا غير مضر فليكن سائر المحرّكات غير الإلهية غير مضرّة أيضاً، فإضافة اللّه تعالى ساقطة رأساً، و المحرّك التام هو رجاء الوصول إلى المشتهيات أو الخوف من التبعات، و لو كان للإضافة دخل فهو دخل ضعيف، أو قوي على حسب مدارج العاملين و هو مقام المتوسطين، و أمّا الخلوص التام فلا يناله إلا كُمّل الأولياء.

و يؤيد ما ذكرناه أيضاً، بل يدلّ عليه إطلاق أدلّة الأمر بالمعروف، فانّ المعروف إن كان من العبادات و المكلّف التارك، كان غير منبعث عن أمر اللّه تعالى، فلو

أمره والده أو من يحتشم منه فأتى بالتكليف الإلهي و امتثل أمر اللّه إطاعة لوالده أو غيره فتقع العبادة صحيحة، و إلا لزم أن يكون الأمر بالمعروف معدماً لموضوعه، بل موجباً لانقلابه إلى المنكر، فإنّ إتيان العمل العبادي لغير اللّه من المنكرات.

و يؤيده ثالثاً: أمر اللّه تعالى بإطاعة رسول اللّه و أُولي الأمر- صلى اللّه عليهم

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 846

أجمعين- فلو خرج المأتي به بواسطة كون الغاية إطاعة أمر اللّه تعالى، عن إطاعة الرسول و أُولي الأمر (عليهم السلام) لزم امتناع تعلّق الأمر بها لكونه معدماً لموضوعه.

و ليس المراد بإطاعتهم أخذ الحكم منهم، لأنّ ذلك ليس إطاعة لهم، بل المراد إطاعة أوامرهم السلطانية الصادرة منهم بما هم حكام و سلاطين، كالأمر بالغزو و الجهاد و غيرهما من شئون السلطنة.

ثمّ قال- دام ظله-: و ممّا ذكرنا يظهر النظر في استدلال المحقّق التقي الشيرازي (قدس سره) في تعليقته من التشبّث بحكم العرف و العقلاء: بأنّهم لا يشكّون في أنّه إذا جعل زيد أُجرة لعمرو في إطاعة شخص فأطاعه طلباً للجعل لا يستحق من هذا الثالث مدحاً و لا ثواباً، و كذا لو أمر المولى عبده بخدمة ثالث فأطاع العبد أوامره امتثالًا لأمر المولى انّه لا يعد مطيعاً له و لا يستحق منه أجراً و مدحاً.

وجه الضعف: أنّ الاعتراف بمأجورية العبد عند مولاه في إطاعة الثالث و باستحقاقه للجعل على الجاعل في المثال الأوّل ملازم للاعتراف بحصول الامتثال و الإطاعة للثالث ضرورة انّ الجعل في مقابل طاعته و امتثال المولى لا يحصل إلا بإطاعة الثالث، فلو توقّف صدق الطاعة على كون جميع المبادئ طولًا و عرضاً راجعة إلى المطاع لما أمكن صدق الطاعة في

المثالين فلا يستحق الأجر و الثواب من الجاعل أو المولى- إلى أن قال دام ظله:- و لو شككنا في اعتبار الإخلاص في العمل زائداً عن الإخلاص العرضي، فمقتضى الإطلاق فيما تمّت مقدّماته، و مقتضى الإطلاق المقامي في بعض الأحيان عدم اعتباره، و مع فقده فأصالة البراءة العقلية، و مثل دليل الرفع تكون مرجعاً. ( «1») هذا عصارة ما أفاده- دام ظله- و في كلامه مواقع للنظر:

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 2/ 181- 188.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 847

أمّا أوّلًا: فلأنّ ما ذكره- من أنّ الإتيان بالمأمور به حسب دعوة الأمر يجعل الفعل عبادة كان الباعث الأقصى عليه أيّاً ما كان- و إن كان صحيحاً، إلا أنّ الكلام في تحقّق ما ذكر، أي «كون إتيان المأمور به حسب دعوة الأمر و لأجل موافقته»، فانّ المنكر يقول: إنّ الإتيان عند الاستئجار ليس لأجل دعوة الأمر و ليس لأجل تحصيل موافقته، بل لأخذ الأُجرة فهو الداعي الحقيقي و دعوة الأُمور المتأخّرة دعوة صورية.

و قد عرفت أنّ كل ما بالعرض لا بد و أن ينتهي إلى ما بالذات.

و الحاصل: أنّ صحة العبادة رهن لتحقّق الإخلاص في مقام الامتثال و الطاعة، و مع كون المحرك الأصيل هو الأُجرة كيف يتحقّق الإخلاص في مقام الامتثال؟

و ثانياً: أنّ قياس المرغبات الأُخروية بالأُجور المادية قياس مع الفارق لما عرفت من أنّ محقّق العبادة، هو الخضوع للّه سبحانه بما أنّه «إله» و «ربٌّ»، و مثل هذا الخضوع بهذه الحيثية لا ينفك عن التوجّه إلى جماله و جلاله، كما في عبادة الأولياء، و إلى كرمه و فضله كما في المتوسطين، و لا يخرج ذلك عن كون العبادة للّه و كون المحرّك شأناً من شئونه.

و هذا

بخلاف الإتيان للأُجرة الدنيوية، فليس المحرّك شيئاً يرجع إليه أو شأناً من شئونه، و لعمري انّ قياس هذا بذلك من العجائب، إذ كيف يمكن إلحاق المحرّك الذي لا يرجع إلى اللّه تعالى (الأُجرة الدنيوية) بالمحرّك الذي يعدّ شأناً من شئونه و تجلّياً من تجلّياته؟!

و ما ذكره- دام ظله- من أنّ المحرّك هو نفس المتعلّقات، و ليست للإضافة فيه دخل و إن كان صحيحاً إلا أنّه دقة عرفانية لا يضر بتحقّق الإخلاص في مقام

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 848

العبادة، و إلا فلا يتحقّق الإخلاص عند كثير من العارفين أيضاً. كيف، و العابد طمعاً في جنته أو خوفاً من ناره يثني على اللّه سبحانه و يخضع له تعالى لما يرى أنّ الخير بيده و الشر في مخالفته؟ فيصير في ثنائه و خضوعه نائلًا للغايات التي في يده تعالى، و لو لم تتحقّق العبادة في هذا المقام لا تتحقّق في كثير من المقامات.

و ثالثاً: أنّ صحّة العبادة التي يقوم بها الإنسان لأجل السلطة و الاحتشام هي على قسمين: فلو كانت تلك المبادئ مؤثرة حدوثاً و بقاءً فالعبادة باطلة، و أمّا إذا كانت مؤثرة حدوثاً لا بقاءً بحيث أوجدت السلطة رغبة في قلبه أو رعباً فقام بالصلاة و لم تكن السلطة حاضرة و قائمة فالعبادة صحيحة.

و أمّا صدق الإطاعة للرسول مع كون الغاية إطاعة أمر اللّه تعالى، فلأجل أنّ إطاعة الرسول نفس إطاعة اللّه سبحانه، و ليس هاهنا إطاعتان مستقلّتان حتى فيما كان للرسول فيه أمر و نهي كالغزو و الجهاد و غيرهما من شئون السلطة، قال سبحانه: (وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اللّٰهِ) ( «1») و قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ

أَطٰاعَ اللّٰهَ) ( «2») و إطاعة الجندي لأمر رئيس دائرته، نفس إطاعة الرئيس الأعلى الحاكم على الكلّ، و ليس هنا طاعتان.

أضف إلى ذلك: انّ ما أورده على المحقّق الشيرازي (قدس سره) غير تام، ضرورة أنّه لا يصدق إلا أنّه أطاع الجاعل أو المولى، و صدق إطاعته للثالث إنّما هو كصدق الإطاعة في التوصّليات إذا أتى بها لا بقصد الأمر، فالمراد من الإطاعة في هذه المقامات هو تحقّق متعلّق إرادته، لا الإتيان بقصد أمره و حكمه، و المطلوب في

______________________________

(1) النساء: 64.

(2) النساء: 80.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 849

المقام صدق الثاني، لا الأوّل الذي لا ينفع صدقه.

و أمّا التمسّك بالإطلاق فهو فرع حصول الشك و ليس لدى المنكر هاهنا شك حتى يتمسّك به.

التصحيح السابع ما أفاده سيدنا الأُستاذ- دام ظله- عند البحث عن العبادات الاستئجارية

، و حاصل ما أفاده ما يلي:

إنّ الوكالة و النيابة في اعتبار العقلاء مختلفتان، فانّ الوكالة عبارة عن تفويض أمر إلى الغير و إيكاله إليه من غير اعتبار كون الوكيل نازلًا منزلته في الاعتبار أو عمله نازلًا منزلة عمله. و انتساب العمل إلى الموكل باعتبار كونه فعلًا تسبيبياً له، ففي الوكالة يكون الوكيل و الموكل ممتازين في عالم الاعتبار.

و أمّا النيابة في العمل فيحتمل تصوّراً أن تكون عبارة عن تنزيل شخص نفسه منزلة غيره فيه، بمعنى تبديل شخصية النائب بشخصية المنوب عنه في صقع الاعتبار فتكون مبنيّة على إنساء النائب و إفنائه و تحوّل وجوده إلى وجود المنوب عنه، فحينئذ يكون ما صدر منه منتسباً إلى الشخصية الثانية- أي المنوب عنه- و مسلوبة عن الأُولى، فلو كانت النيابة في الأعمال كذلك لا يعقل أن تقع الأجرة في مقابل العمل فانّ صقع إتيانه صقع فناء النائب و وجود المنوب عنه فقط و

العمل عمله و لا معنى للأجر في عمل المنوب عنه.

و في هذا الاعتبار لا يكون للعمل اعتباران، فانّ النائب و عمله منسيان، فالنائب هو المنوب عنه ليس إلّا، و العمل عمله ليس إلّا، فالأُجرة في هذا الاعتبار تقع بازاء تنزيل النائب شخصه منزلة المنوب عنه و تبديل نفسه بأُخرى في عمل.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 850

فصقع العمل ليس صقع اعتبار الأُجرة، إذ العمل للمنوب عنه فلا أجر له في عمل نفسه لنفسه.

ثمّ أورد على نفسه بأنّه لو كان الأجر في مقابل التنزيل الذي هو أمر اعتباري يلزم استحقاقه للأجرة بمجرّد التنزيل بدون العمل. و لو كانت بإزاء التنزيل و العمل- جزءاً أو قيداً- يعود الإشكال.

و أجاب: بأنّ الأجر بازاء التنزيل في العمل و هو و إن لم يتحقّق إلا بالعمل و يتوقّف تحقّقه عليه، لكن لا يكون العمل جزءاً أو قيداً له، فالعمل مترتب على التنزيل و متأخّر عنه رتبة، فلا يعقل تقييد التنزيل بالعمل للزوم صيرورة المتأخّر عن الشي ء واقعاً في رتبته.

و هذا الجواب يتمشّى لو قلنا باعتبار الإخلاص في العمل طولًا و عرضاً و بطلان الداعي إلى الداعي، للفرق الواضح بين كون الشي ء غاية لعمل أو غاية للعمل المغيّى كباب الداعي إلى الداعي، و بين كون الشي ء متوقّفاً عليه من غير غائية له مثلًا لو استأجره للسفر يكون السفر لأجل الأجرة، و لازمه الإتيان بالصلاة قصراً، فيصح أن يقال لو لا الأُجرة لما صلّ- ى قصراً، لأنّ القصر لأجل السفر، و السفر للأُجرة.

لكن ليس هذا من قبيل ترتّب ذي الغاية على غايته، بل من قبيل ترتّب شي ء على ما يتوقّف عليه من غير غائيته.

ثمّ قال- دام ظله-: و بهذا البيان تندفع

بعض الإشكالات الأُخر عن النيابة في العبادات:

منها: أنّ النائب لا أمر له بالنسبة إلى العمل و الأمر متوجّه إلى المنوب عنه حقيقة.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 851

و يندفع بتوجّه التكليف إلى الوجود التنزيلي للمنوب عنه، فالنائب وجود حقيقي لنفسه و وجود تنزيلي للمنوب عنه.

و منها: أنّه كيف يمكن تقرّب المنوب عنه بعمل النائب؟

و الجواب: انّ النائب يأتي بالفعل بما أنّه منوب عنه فيحصل قرب المنوب عنه بالوجود التنزيلي، فانّ المقصود من القرب هو القرب الاعتباري و [هو] سقوط الأمر أو المكلّف به عن عهدته بفعل الغير، و هذا حاصل بالإتيان به للوجود التنزيلي له. ( «1»)

يلاحظ عليه: أمّا أوّلًا: فلأنّ تفسير النيابة بإنساء الشخصية و تبدّلها إلى شخصية المنوب عنه، تفسير ذوقي ليس له في الخارج عين و لا أثر، بل الظاهر أنّ النيابة كالقيام بأداء العمل من الغير لا إنساء شخصيته و جعل نفسه بمنزلة الدائن. فلا يصح تفسير النيابة الرائجة بهذه النظرية الذوقية الخاصة بموضع معين.

و ثانياً: أنّ ما أفاده- دام ظله- من أنّ الأُجرة في مقابل التنزيل في العمل لكن العمل ليس مورداً للإجارة بل متوقفاً عليه لموردها، غير تام، لما صرح هو- دام ظله- في كثير من أبحاثه بأنّ الرتب العقلية ليست موضوعة للأحكام الشرعية، فالعمل و إن كان متأخّراً رتبة عن التنزيل و التنزيل مقدّماً عليه لكن هذا التقدّم و التأخّر ليسا موضوعين للأحكام الشرعية، فلا يمكن تفكيك التنزيل عن العمل في العينية الخارجية، و ما مثل به من المثال من السفر للأُجرة ثمّ الصلاة قصراً لأجل السفر لا ينطبق على المقام للتباين الموجود بين الأُجرة و السفر و الصلاة.

و ثالثاً: لو صح ما ذكره- دام ظله- من

التفصيل فهو غير منطبق على الخارج

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: 2/ 212- 218.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 852

الدارج فانّ الرائج هو دفع الأُجرة في مقابل العمل، لا غير.

التصحيح الثامن إبداء الفرق بين الاستئجار للحج و الاستئجار لباقي الأعمال العبادية

، بأنّ الحج عمل عبادي لا ينفك القيام به عن بذل مال كثير في حصوله، فلأجل ذلك يصح الاستئجار عليه، لأنّ ماهية العمل ماهية عباديّة مالية، و لذلك تضافرت الروايات على صحة الاستنابة فيه، و صحّ عن الصادق (عليه السلام) أنّه أعطى ثلاثين ديناراً يحج بها عن إسماعيل و لم يترك شيئاً من العمرة الى الحج إلا اشترط عليه حتى اشترط عليه أن يسعى في وادي محسّر، ثمّ قال: «يا هذا إذا أنت فعلت هذا كان لإسماعيل حجّة بما أنفق من ماله، و كانت لك تسع بما أتعبت من بدنك». ( «1»)

إلى غير ذلك من الأحاديث، و لا يمكن التجاوز عن باب الحج إلى سائر الأعمال خصوصاً مثل الصلاة و الصوم من الأعمال التي تعد عبادة محضة، و لم يكن الاستئجار على تلك الأعمال أمراً رائجاً في عصر الأئمة (عليهم السلام)، و حتى الأعصار القريبة من عصرهم، و انّما هو أمر حدث في الأعصار المتأخرة و لم نقف على تاريخه، و لأجل ذلك يشكل الإفتاء بصحة هذه الأعمال النيابية و الاستئجار عليها، ضرورة أنّ من شروط صحة الإجارة قدرة الأجير على الإتيان بالمتعلّق- و هو الصلاة- خالصاً للّه مع أنّه غير مقدور للأجير.

فالأولى في تلك الموارد ان يعامل مع الأجير معاملة الإمام مع القاضي و كل من يقوم بمصالح المسلمين، فكما أنّ الإمام يقوم بقضاء حوائج القاضي و يسدّ حاجته، فكذا كلّ من أراد استئجار الغير للصلاة يجب عليه القيام بقضاء حوائج

______________________________

(1) الوسائل: 8/ 115،

الباب 1 من أبواب النيابة في الحج، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 853

النائب إلى مدّة تكفي للقيام بالعمل فالمستأجر يسدّ حاجة الأجير، و هو أيضاً يقوم بنفس ما يتوخّاه الطرف الآخر، فلو قمنا بنشر تلك الفكرة في المجتمع الإسلامي و قلنا بأنّ العطاء و العمل ليسا من باب المعاوضة و المعاملة، بل من قبيل جزاء الإحسان بالإحسان، كان ألصق بالقلوب و أبعد عن الإشكال.

***

بقي الكلام في أُمور:

1. أخذ الأُجرة للإطافة عند طواف نفسه.

2. أخذ الأُجرة على الأذان.

3. أخذ الأُجرة على الإمامة.

4. أخذ الأُجرة على الشهادة.

5. أخذ الأُجرة على تعليم القرآن.

6. أخذ الأُجرة على الإفتاء و تعليم الأحكام.

7. أخذ الأُجرة على القضاء.

8. الارتزاق من بيت المال.

فنبحث عن الكلّ تباعاً:

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 854

2 أخذ الأُجرة للإطافة عند طواف نفسه

إذا استأجر لإطافة صبي أو مغمى عليه، فهل يجوز احتساب الطواف لنفسه أو لا؟ في المسألة أقوال ستة:

الأوّل: لا يجوز الاحتساب، لأنّ المستأجر يستحق الحركة المخصوصة عليه.

الثاني: يجوز الاحتساب، لأنّ استحقاق الحمل غير استحقاق الإطافة به كما لو استؤجر لحمل متاع.

الثالث: يحتسب لكل من الحامل و المحمول ما لم يستأجره للحمل لا في طوافه (أي أن يكون بشرط لا) و هو الظاهر من «الدروس».

الرابع: ما ذكره الشهيد الثاني (قدس سره) في «المسالك»: و هو أنّه يجوز إذا كان متبرّعاً أو حاملًا بجعالة، أو كان مستأجراً للحمل في طوافه، أمّا لو استؤجر للحمل مطلقاً لم يحتسب للحامل.

و حاصله: انّه انّما يجوز إذا قيّد طواف نفسه مع إطافته و انّ الجواز يحتاج إلى التقييد، بخلاف القول الثالث ففيه أنّ عدم الجواز محتاج إلى الذكر في العقد.

الخامس: ما ذكره بعض محشّي «الشرائع» حيث قال المحقّق: و لو حمله حامل في الطواف أمكن أن يحتسب كل منهما طوافه عن نفسه. فاستثنى المحشّي

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 855

صورة الاستئجار و بقي تحت الجواز صورتا التبرّع و الجعالة.

السادس: الفرق بين الاستئجار للطواف به فلا يجوز، و بين الاستئجار لحمله في الطواف فيجوز على إشكال، و هو مختار العلّامة (قدس سره) في «المختلف» حيث قال: و التحقيق أنّه لو استؤجر للحمل في الطواف أجزأ عنهما، و إن استؤجر للطواف لم

يجز عن الحامل.

و مراده من الاستئجار للحمل هو كون مورد الإجارة هو الحمل، كما أنّ مراده من الاستئجار للطواف كون مورد الإجارة هو الإطافة، و اختار الشيخ الأعظم (قدس سره) قول صاحب «المسالك» (قدس سره).

و الحق ما ذكر في «الدروس» و هو الجواز مطلقاً، إلا أن يشترط عدم احتسابه لنفسه، فإنّ مورد الإجارة هو الإطافة و الذي يملك هو عبارة عن نفس الإطافة و هي غير الحركة المخصوصة التي يحتسبها لنفسه.

و إن شئت قلت: الحركة المخصوصة أي المشي على الأقدام محقّق للإطافة و الإطافة فعل يتولّد منها، و لأجل ذلك يصح أن يقال: طفت و أطفت، و بعبارة ثالثة: مورد الإجارة هو الحمل في حال الطواف، فالمستأجر يملك الحمل في ذمة الأجير لا الحركة المخصوصة التي تعد فعلًا للحامل، و على هذا فالحق الجواز مطلقاً إلا إذا كان نائباً أو مشروطاً بأن لا يحتسب لطواف نفسه.

و يؤيد ذلك ما ورد من الروايات في المقام من جواز حمل الغير في الطواف مع العجز عنه، فهي بإطلاقها تدلّ على صحّة الاحتساب لنفسه مع إطافة الغير:

1. ما رواه محمد بن الهيثم التميمي، عن أبيه، قال: حججت بامرأتي و كانت قد اقعدت بضع عشرة سنة، قال: فلمّا كان في الليل وضعتها في شق محمل و حملتها أنا بجانب المحمل و الخادم بالجانب الآخر، قال: فطفتُ بها طواف الفريضة،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 856

و بين الصفا و المروة، و اعتددت به أنا لنفسي، ثمّ لقيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) فوصفت له ما صنعته، فقال: «قد أجزأ عنك». ( «1»)

2. ما رواه حفص بن البختري، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في المرأة تطوّف الصبي و تسعى به

هل يجزي ذلك عنها و عن الصبي؟ فقال: «نعم». ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 9/ 459، الباب 50 من أبواب الطواف، الحديث: 1 و 3.

(2) الوسائل: 9/ 459، الباب 50 من أبواب الطواف، الحديث: 1 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 857

3 أخذ الأُجرة على الأذان

هل يصح أخذ الأُجرة على الأذان إذا انتفع به الغير كإعلام دخول الوقت، أو الاجتزاء به في الصلاة أو الاقتداء إذا كان إماماً؟

و الكلام يقع في مقامين: حسب القاعدة، و حسب الروايات:

أمّا الأوّل: فالحق صحته إذا لم يكن أخذ الأُجرة مانعاً عن انتفاع الغير، كما إذا أخذ للإعلام دون الاجتزاء به في الصلاة أو الاقتداء، فانّ أخذ الأجرة ينافي الإخلاص و يوجب البطلان و لا ينتفع به غيره.

و أمّا الثاني: فالظاهر من الروايات أنّ المطلوب من الشارع وقوعه في الخارج مجاناً لا بالأُجرة، و مبغوضية أخذ الأجرة عليه، و هو آية الحرمة التكليفية:

و قد وردت في المقام روايات مبثوثة في أبواب الأذان و الأمر بالمعروف و الشهادات- فكان الأولى لصاحب «الوسائل» (قدس سره) جمعها في مكان واحد-.

الأُولى: ما رواه السكوني، عن جعفر، عن أبيه (عليهم السلام)، عن علي (عليه السلام) قال: «آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي أن قال: يا علي إذا صليت فصل صلاة أضعف من خلفك، و لا تتخذن مؤذناً يأخذ على أذانه أجراً». ( «1»)

______________________________

(1) الوسائل: 4/ 666، الباب 38 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث: 1 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 858

الثانية: قال: أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين و اللّه إنّي لأُحبّك، فقال له: و لكنّي أبغضك، قال: و لم؟ قال: «لأنّك تبغي في الأذان كسباً و تأخذ على تعليم القرآن

أجراً». ( «1»)

الثالثة: ما رواه العلاء بن سيابة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لا يصلّى خلف من يبتغي على الأذان و الصلاة الأجر، و لا تقبل شهادته». ( «2»)

الرابعة: ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لا تصل خلف من يبغي على الأذان و الصلاة بالناس أجراً، و لا تقبل شهادته». ( «3»)

و قد استشكل «الشيخ» (قدس سره) في السند و الدلالة:

أمّا السند، فالخدشة غير تامّة لتضافر الروايات أوّلًا، و صحة اسناد الصدوق (قدس سره) إلى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) ثانياً.

و أمّا الخدشة في الدلالة: فمثل السند، لأنّ الحكم بعدم قبول الشهادة أو المبغوضية آية الحرمة و لا تجتمع مع الكراهة.

نعم مورد الروايات الأذان للإعلام، أو الأذان لإقامة صلاة الجماعة، و أمّا أذان المكلّف لنفسه فحرام بطريق أولى.

______________________________

(1) الوسائل: 4/ 666، الباب 38 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث: 1 و 2.

(2) الوسائل: 18/ 278، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث: 2 و 6.

(3) الوسائل: 18/ 278، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث: 2 و 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 859

4 أخذ الأُجرة على الإمامة

و يقع الكلام في الإمامة في مقامين: حسب القاعدة، و حسب الروايات:

أمّا القاعدة: فربّما يحتمل منع اعتبار القربة في إمامة الإمام في الجماعة، فلو كان قاصداً للقربة في أصل الصلاة كفى و إن كان خصوصية الجماعة لا يقصدها، بل لا يعتبر كونه قاصداً للإمامة و الجماعة أيضاً، و لذا لو صلّى خلفه جماعة مع عدم علمه صحت صلاته و صلاتهم، فهو نظير المسجدية حيث إنّه لا يعتبر كون إيقاع الصلاة فيه بقصد القربة، بل لو كان ببعض الأغراض الدنيوية بعد كون أصل الصلاة

بقصد القربة كفى- إذا لم تكن الضميمة رياءً فانّ الرياء فيها تبطل الصلاة مطلقاً، لا لعدم تحقّق القربة حتى يقال لا فرق فيها بينها و بين غيرها، بل للأخبار الدالّة على البطلان بها بالخصوص- فلو أخذ الأُجرة على إيقاع صلاته في المسجد صحت، غاية الأمر لا يترتب ثواب الجماعة أو المسجدية، و لا يلزم من ذلك بطلان أصل الصلاة. هذا في غير مثل صلاة الجمعة ممّا يشترط فيه الجماعة، و أمّا فيه: فيمكن دعوى وجوب قصد القربة كما يعتبر فيه قصد الجماعية، و يمكن دعوى عدم الاعتبار فيه أيضاً. ( «1»)

______________________________

(1) تعليقة السيد الطباطبائي: 30.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 860

و لو صح ذلك- و إن كان على خلاف المشهور- لجاز أخذ الأُجرة على الإمامة حسب القاعدة.

و أمّا من حيث الروايات: فلا يجوز، لما تقدّم من الرواية الصحيحة حيث روى الصدوق باسناده، عن محمد بن مسلم قال: «لا تصل خلف من يبغي على الأذان و الصلاة بالناس أجراً و لا تقبل شهادته». ( «1»)

و روى الكليني باسناده، عن العلاء بن سيابة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لا تصل خلف من يبتغي على الأذان و الصلاة الأجر، و لا تقبل شهادته». ( «2») فانّ عدم قبول الشهادة آية الحرمة.

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 278، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث: 6 و 2.

(2) الوسائل: 18/ 278، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث: 6 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 861

5 أخذ الأُجرة على الشهادة تحمّلًا و أداءً

ذهب المشهور إلى وجوب تحمّل الشهادة شهرة عظيمة، و خالف ابن إدريس. قال المحقّق (قدس سره): إذا ادعى من له أهلية التحمّل وجب عليه، قال سبحانه: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا). (

«1»)

و قال سبحانه: (وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). ( «2») و ظاهر الآية الأُولى هو الأداء مثل الثانية، غير أنّها فسّرت بالتحمّل و تدل عليه روايات الباب:

الأُولى: ما رواه ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: « (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ) قال: قبل الشهادة، و قوله: (وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) قال: بعد الشهادة». ( «3»)

الثانية: ما رواه سماعة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) فقال: «لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها أن يقول: لا أشهد لكم». ( «4»)

______________________________

(1) البقرة: 282 و 283.

(2) البقرة: 282 و 283.

(3) الوسائل: 18/ 225، الباب 1 من أبواب الشهادات، الحديث: 1.

(4) الوسائل: 18/ 225، الباب 1 من أبواب الشهادات، الحديث: 5 و 7. تقاعس و تقعس: تأخّر.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 862

3. ما رواه محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) فقال: «إذا دعاك الرجل لتشهد له على دين أو حق لم ينبغ لك أن تقاعس عنه». ( «1»)

ثمّ إنّ القول بالوجوب لا يكون سبباً لحرمة أخذ الأُجرة لو انتفع فيه الغير.

نعم لو امتنع المشهود له من إعطاء الأجرة وجب للشاهد التحمّل و الأداء.

و لكن الظاهر من الآية أنّ ذلك حق للمؤمن على المؤمن، فحق عليه أن يتحمّل شهادته و يؤدّيها بلا حق له في ماله.

نعم لو توقّف أداء هذا الحق على صرف المال

فالقول بوجوبه يحتاج إلى وجود الإطلاق في الأدلّة.

و ربّما يقال: انّ التحمّل و الأداء غير واجب، و انّما يحرم الإباء عن التحمّل و الكتمان للشهادة، فإذا لم يكن ممتنعاً من التحمّل و لكن كانت الواقعة في مكان بعيد، أو استلزم أداء الشهادة على طيّ طريق جاز له أخذ الأُجرة على الحضور عند الواقعة، كما أنّ الحال كذلك في مقام الأداء، و هذا الاحتمال يناسب ظاهر الآية.

نعم لا يجوز التعلل في الحضور عند القاضي بحجّة أنّ الحرام عليه هو الكتمان، لأنّ ذلك أمر على خلاف العادة في جميع الأعصار.

______________________________

(1) الوسائل: 18/ 225، الباب 1 من أبواب الشهادات، الحديث: 5 و 7. تقاعس و تقعس: تأخّر.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 863

6 أخذ الأُجرة على تعليم القرآن و كتابته

و قد نهي عنه في بعض الروايات:

ما رواه الحسين بن علوان عن علي (عليه السلام) أنّه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين و اللّه إنّي أُحبّك للّه، فقال له: «لكنّي أُبغضك للّه» قال: و لم؟ قال: «لأنّك تبغي في الأذان، و تأخذ على تعليم القرآن أجراً، و سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: من أخذ على تعليم القرآن أجراً كان حظه يوم القيامة». ( «1»)

و هو محمول على الكراهة أو التقية كما يظهر من بعض الروايات.

و يدلّ على الجواز:

ما رواه الفضل بن أبي قرّة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): هؤلاء يقولون: إنّ كسب المعلّم سحت، فقال: «كذبوا- كذب- أعداء اللّه انّما أرادوا أن لا يعلموا أولادهم القرآن، لو أنّ المعلّم أعطاه رجل دية ولده لكان للمعلم مباحاً». ( «2»)

و ما رواه الصدوق قال: «نهى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) عن أُجرة القارئ الذي

لا يقرأ إلا على أجر مشروط». ( «3»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 114، الباب 30 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 12/ 112، الباب 29 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 7.

(3) الوسائل: 12/ 112، الباب 29 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 7.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 864

أضف إلى ذلك وجود السيرة المستمرة على ذلك.

ثمّ إنّه يجوز أخذ الأُجرة على كتابة القرآن، نصّ بذلك في «المراسم» و «التحرير» و «التذكرة» و «نهاية الأحكام» و إجارة «القواعد»، و نسبه في «التذكرة» إلى أكثر علمائنا من دون كراهة، و وردت بذلك النصوص، غير أنّ المحكي عن «النهاية» و «النافع» أنّه مكروه مع الشرط، و في «السرائر» الإجماع على أنّه مكروه مع الشرط و بدونه حلال طلق، و في النصوص إشارات إليه:

نظير ما رواه الفضل بن أبي قرة، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): هؤلاء يقولون: إنّ كسب المعلم سحت فقال: «كذبوا- كذب- أعداء اللّه انّما أرادوا أن لا يعلموا أولادهم القرآن، لو أنّ المعلّم أعطاه رجل دية ولده لكان للمعلم مباحاً». ( «1»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 112، الباب 29 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 865

7 أخذ الأُجرة على الإفتاء و تعليم الأحكام

الظاهر من الآية المباركة هو كونه مطلوباً على نحو المجان، قال سبحانه: (فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). ( «1»)

أضف إلى ذلك أنّ الإفتاء و تعليم الحديث و الأحكام رسالة تشبه رسالة الأنبياء، و قد وردت النصوص على أنّ شعار الأنبياء هو الدعوة إلى اللّه خالصاً من دون أجر، قال ذلك سبحانه ناقلًا عن

أنبيائه في سورة الشعراء مرّات.

***

8 أخذ الأُجرة على القضاء

قدّمنا الكلام فيه عند البحث عن الرشوة. ( «2»)

______________________________

(1) التوبة: 122.

(2) لاحظ ص 458 من هذا الكتاب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 866

9 الارتزاق من بيت المال

إنّ الإسلام دين عالمي يتماشى مع جميع الحضارات الإنسانية، فلا يمكن أن تكون قوانينه و دساتيره مصادمة للفطرة الإنسانية الصحيحة، و لا شك في أنّ الإنسان الاجتماعي لا يستغني عن القضاء و الإفتاء و تعليم الأحكام و غير ذلك ممّا يحرم أخذ الأُجرة عليه، هذا من جانب.

و من جانب آخر فانّ القيام بهذه المهمات الاجتماعية يعوقه عن الاشتغال بسائر الضروريات الحيوية كتحصيل الرزق لنفسه و عياله، و لأجل ذلك عالج الإسلام تلك المشكلة بتسويغ ارتزاقه من بيت المال حتى يقوم بالأُمور الشرعية فارغ البال غير مضطرب الحال، و معنى الارتزاق من بيت المال أنّ القاضي يمارس القضاء للّه سبحانه و لا أقل تبرّعاً، و بما أنّ الاشتغال بهذه المهمّة يتوقّف على سد عيلة القاضي و رفع حاجته، ينفق الحاكم الأعلى على القضاة حسب حاجاتهم حتى يتسنّى لهم القيام بالواجب، و لأجل ذلك نجد أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يأمر عامله (الأشتر) في عهده المعروف بقوله: «و افسح له في البذل ما يُزيل علّته و تَقلُّ معه حاجتُه إلى الناس، و أعطِه مِنَ المنزلةِ لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك». ( «1»)

______________________________

(1) نهج البلاغة: 435، كتاب 53، تعليق صبحي الصالح.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 867

و إن شئت قلت: إنّ بيت المال معدّ للصرف في المصالح الإسلامية، و صرفه في مصلحة القضاء و الإفتاء من أهم المصالح، و ما يأخذه القاضي من بيت المال ليس أُجرة في مقابل العمل، بل إصلاح و تأمين له حتى يتفرّغ للواجب، فلا

يشترط أن يكون الرزق بمقدار أُجرة المثل بل تابع للمصالح التي يراها الحاكم الأعلى فربّما تقتضي المصلحة الإنفاق أزيد منها أو أقلّ.

ثمّ إنّ الظاهر من الشيخ (قدس سره) اشتراط الحاجة حيث قال: فمقتضى القاعدة عدم جواز الارتزاق إلا مع الحاجة على وجه يمنعه القيام بتلك المصلحة عن اكتساب المئونة. فالارتزاق مع الاستغناء- و لو بكسب لا يمنعه عن القيام بتلك المصلحة- غير جائز.

غير أنّه لا دليل على ذلك التقييد.

و على ذلك فالحكم تابع للمصلحة التي يقف عليها الحاكم الاعلى.

***

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 869

خاتمة و فيها مسائل ثلاث:

اشارة

1. بيع المصحف

أدلّة المسألة

الجمع بين الأدلّة

2. جوائز السلطان الجائر

صور المسألة ثلاث:

الصورة الأُولى: عدم العلم بوجود الحرام في مال السلطان

الصورة الثانية: العلم الإجمالي بوجود الحرام في مال السلطان

الصورة الثالثة: العلم التفصيلي بوجود الحرام في ماله

3. حكم الخراج و المقاسمة

***

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 871

1 بيع المصحف
اشارة

قال العلّامة (قدس سره): و يحرم بيع المصحف، بل يباع الجلد و الورق.

و حكاه في مفتاح الكرامة عن «النهاية»، و «السرائر»، و «التحرير» و «التذكرة»، و «نهاية الأحكام» و «الدروس» و «جامع المقاصد» و ذهب صاحب «الجواهر» (قدس سره) إلى الجواز و تبعه غيره.

و استدلّ عليه في «نهاية الأحكام» بمنع الصحابة منه، و عدم العلم بالمخالف، و المراد خط المصحف.

قال في «الدروس»: و يحرم بيع خط المصحف دون الآلة (و المراد من الآلة: الورق).

و أورد عليه في «الجواهر» ب- أنّه مناف لقوله (عليه السلام): «و إياك أن تشتري منه الورق و فيه القرآن مكتوب، فيكون عليك حراماً و على من باعه حراماً». ( «1») كما أنّ الخبر مناف للأخبار السابقة الدالّة على جواز ذلك إذا كان المقصود بالبيع

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 116، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 872

ما عدا الكتابة. ( «1»)

أقول: الظاهر أنّ الخبر غير مناف لكلا الأمرين، فانّ المراد منه هو اشتراء الورق مع كون الخط جزءاً للمبيع لا ما إذا كان الخط داعياً إلى اشتراء الورق، و على ذلك فلا يكون الخبر منافياً لما أفاده في الدروس، و لا منافياً للأخبار السابقة الدالة على جواز ذلك إذا كان المقصود بالبيع ما عدا الكتابة.

و بذلك يعلم عدم تماميّة ما أفاده

صاحب «مصباح الفقاهة»- دام ظله- ردّاً على «الدروس» حيث قال: و المراد بالمصحف، الأوراق المشتملة على الخطوط كبقية الكتب دون الخط فقط، كما اختاره المصنف تبعاً «للدروس»، فانّ الخط بما هو خط غير قابل للبيع لكونه عرضاً محضاً تابعاً لمعروضه، فلا يمكن انفكاكه عنه حتى يبحث فيه بأنّه يقابل بالثمن أم لا، و على تقدير كونه من قبيل الجواهر كالخطوط المخطوطة بالحبر و نحوه فانّه لا يقبل النقل و الانتقال، و كيف كان فلا وجه للبحث عن جواز بيع الخط الخالي عن الأوراق و عدم جوازه. ( «2»)

يلاحظ عليه: أنّ الإشكال مبنيّ على تفسير كلام «الدروس» بغير ظاهره، فانّ مراد «الدروس» من قوله: «و يحرم بيع المصحف دون الآلة» ليس بيع الخط مستقلًا عن الآلة حتى يرد عليه ما ذكره، بل المراد جعله داخلًا في المبيع.

و على ذلك: فمحل النزاع ليس بيع الورق- مع قطع النظر عن الخط و جعله داعياً- و لا بيع الخط بما هو هو، إذ ليس هو أمراً معقولًا، بل المراد بيع الورق مع الخط أو متقيداً مع الخط.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ

الروايات على طائفتين:
اشارة

ما يدلّ على عدم الجواز و ما يدلّ على الجواز:

______________________________

(1) الجواهر: 22/ 126.

(2) مصباح الفقاهة: 1/ 483.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 873

الطائفة الأُولى: ما يدلّ على عدم الجواز

1. خبر عبد الرحمن بن سيابة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إنّ المصاحف لن تشترى، فإذا اشتريت فقل: إنّما اشتري منك الورق و ما فيه من الأديم و حليته و ما فيه من عمل يدك بكذا و كذا». ( «1»)

2. موثّقة سماعة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن بيع المصاحف و شرائها، فقال: «لا تشتر كتاب اللّه، و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفتين، و قل: اشتري منك هذا بكذا و كذا». ( «2»)

3. رواية عثمان بن عيسى قال: سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كلام اللّه، و لكن اشتر الحديد و الجلود و الدفتر، و قل: اشتري هذا منك بكذا و كذا». ( «3»)

و الظاهر اتّحاد الرّوايتين: الثانية و الثالثة و إنّما التعدّد في الراوي عن الإمام.

4. رواية جراح المدائني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في بيع المصاحف قال: «لاتبع الكتاب و لا تشتره و بع الورق و الأديم و الحديد». ( «4»)

5. رواية سماعة بن مهران قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «لا تبيعوا المصاحف فانّ بيعها حرام»، قلت: فما تقول في شرائها؟ قال: «اشتر منه الدفتين و الحديد و الغلاف، و إيّاك أن تشتري منه الورق و فيه القرآن مكتوب فيكون عليك حراماً و على من باعه حراماً». ( «5»)

و النهي ظاهر في الحرمة و حمله على الكراهة يحتاج إلى الدليل.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 114، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) الوسائل:

12/ 114، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3 و 7 و 11.

(3) الوسائل: 12/ 114، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3 و 7 و 11.

(4) الوسائل: 12/ 114، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3 و 7 و 11.

(5) الوسائل: 12/ 114، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3 و 7 و 11.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 874

الطائفة الثانية: ما يدلّ على الجواز

1. خبر روح بن عبد الرحيم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن شراء المصاحف و بيعها؟ فقال: «إنّما كان يوضع الورق عند المنبر، و كان ما بين المنبر و الحائط قدر ما تمر الشاة أو رجل منحرف، قال: فكان الرجل يأتي فيكتب من ذلك ثمّ إنّهم اشتروا بعده». قلت: فما ترى في ذلك؟ فقال لي: «أشتري أحبّ إليّ من أن أبيعه»، قلت: فما ترى أن أعطي على كتابته أجراً؟ قال: «لا بأس، و لكن هكذا كانوا يصنعون». ( «1») فانّ في قوله (عليه السلام) «أشتري أحب إليّ من أن أبيعه» دلالة على جواز البيع، غير أنّ الشراء أحبُّ من البيع.

2. رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «إنّما كان يوضع عند القامة و المنبر قال: كان بين الحائط و المنبر قيد ممر شاة و رجل و هو منحرف، فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة و يجي ء آخر فيكتب السورة كذلك كانوا، ثمّ إنّهم اشتروا بعد ذلك»، فقلت: فما ترى في ذلك؟ فقال: «أشتريه أحبُّ إليّ من أن أبيعه». ( «2»)

ثمّ إنّ الشيخ (قدس سره) جمع بين

الروايات بتقديم الأُولى على الثانية بحمل ما يدلّ على الجواز على الكيفية التي وردت في الروايات المانعة، حيث إنّ الطائفة الثانية دلّت على جواز أصل البيع، لا على كيفيته، بخلاف الأُولى، و على ذلك فلا تعارض ما تقدّم من الأخبار المتضمنة لبيان كيفيته.

و لا يخفى، أنّ هذا الجمع جمع تبرعي لا شاهد له، بل مخالف لظاهر الروايات المجوّزة فانّها ناظرة إلى البيع الرائج في السوق، و ليس هو إلّا جعل الورق و الخط جزءاً للمبيع، فحملها على ما ورد في الروايات المانعة حمل غير صحيح.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 115، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4 و 8.

(2) الوسائل: 12/ 115، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 4 و 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 875

و هنا جمع آخر: اختاره صاحب «مصباح الفقاهة»- دام ظله- و هو حمل الطائفة المانعة على الكراهة بدعوى أنّ الغاية القصوى من النهي عن بيع المصحف انّما هو التأدّب و الاحترام لكلام اللّه عزّ و جلّ فانّه أجلُّ من أن يجعل مورداً للبيع كسائر الكتب و الأَمتعة، و أرفع من أن يقابل بثمن بخس دراهم معدودة، إذ الدنيا و ما فيها لا تساوي عند اللّه جناح بعوضة، فكيف يمكن أن يقع جزء من ذلك ثمناً للقرآن؟! ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ بعض الروايات المانعة، و إن كان يقبل هذا الجمع غير أنّ بعضها آبية عنه، فكيف يمكن حمل قوله (عليه السلام): «فيكون عليك حراماً و على من باعه حراماً» على ذلك؟

ثمّ إنّ صاحب «الجواهر» حمل الأخبار المجوّزة على إرادة شراء الورق قبل أن يكتب به على أن يكتبه فيكون العقد في الحقيقة متضمناً لمورد البيع و مورد

الإجارة بقرينة قوله (عليه السلام): «و ما عملته يدك بكذا» ضرورة عدم صلاحية العمل مورداً للبيع فلا بد من تنزيله على الإجارة. ( «2»)

و ما ذكره ليس جمعاً بين الأخبار، بل تفسيراً للروايات المانعة.

و الأولى الأخذ بالروايات المجوّزة لصحّة إسنادها و صراحتها و موافقتها لعمومات الكتاب و السنّة.

و يؤيد ذلك ما في روايات الحبوة من انتقال الكتاب إلى الولد الأكبر مثل:

1. ما رواه حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إذا مات الرجل فسيفه و مصحفه و خاتمه و كتبه و رحله و راحلته و كسوته

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 485.

(2) الجواهر: 22/ 126.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 876

لأكبر ولده، فإن كان الأكبر ابنة فللأكبر من الذكور». ( «1»)

2. و ما رواه ابن أبي عمير، عن ربعي بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: «إذا مات الرجل فللأكبر من ولده سيفه و مصحفه و خاتمه و درعه». ( «2»)

أضف إلى ذلك ظهور الروايات في حدوث السيرة في زمن المعصومين (عليهم السلام).

ثمّ إنّ القائلين بحرمة بيع المصحف وقعوا في إشكال عويص ذكره الشيخ (قدس سره) بشقوقه:

1. انّ النقوش إن لم تعدّ من الأعيان المملوكة، بل من صفات المنقوش التي تتفاوت قيمته بوجودها و عدمها فلا حاجة إلى النهي عن بيع الخط فانّه لا يقع بازائه جزء من الثمن حتى يقع في حيّز المنع.

2. و ان عدّت من الأعيان المملوكة و فرض بقاؤها على ملك البائع بعد بيع الورق و الحديد، يلزم شركته مع المشتري و هو خلاف الاتّفاق.

3. و إن انتقلت إلى المشتري بجزء من العوض فهو البيع المنهي عنه.

4. و إن انتقلت

إليه قهراً لا بجزء من العوض، نظير ما يدخل في المبيع، فهو خلاف مقصود المتبايعين.

5. و إن قيل: إنّ المبيع هو الورق المقيّد بوجود هذه النقوش فيه لا الورق و النقوش، فانّ النقوش غير مملوكة بحكم الشارع، فهو مجرّد تكليف صوري لا يقبله العرف إذ تجري على الخط أحكام الملك عرفاً.

و لأجل ذلك يشكل الالتزام بواحد من هذا الوجوه، و على القول بالحرمة لا مناص عن انتخاب الشق الرابع.

______________________________

(1) الوسائل: 17/ 439، الباب 3 من أبواب ميراث الأبوين، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 17/ 439، الباب 3 من أبواب ميراث الأبوين، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 877

ثمّ على القول بالحرمة لا إشكال في جواز هبة المصحف مجاناً. و أمّا الهبة المعوّضة فيمكن منعها لصدق أخذ العوض عرفاً في مقابل القرآن، و أمّا جعله جزءاً من الصداق فلا إشكال فيه.

كما أنّه لا إشكال في مبادلة المصحف بالمصحف.

ثمّ على القول بحرمة البيع لو ظهر عيب في الخط فلا يثبت للمشتري خيار العيب.

في بيع المصحف من الكافر

قال العلّامة (قدس سره): ... و لو اشتراه الكافر فالأقرب البطلان. قال صاحب «مفتاح الكرامة» (قدس سره): كما في «التحرير» و «التذكرة» و «الإرشاد» و «نهاية الأحكام» في أوّل كلامه، و الإيضاح و الدروس و اللمعة و جامع المقاصد و المسالك و الروضة. و كأنّه مال إليه في «مجمع البرهان»، ذكر ذلك بعضهم في المقام و بعضهم في باب البيع. ( «1»)

و يظهر من هذا النقل أنّ المسألة عنونت من زمن «العلّامة» (قدس سره)، لكن يظهر ممّا ذكر في «المبسوط» في الغنائم: «أنّ ما يوجد في دار الحرب من المصاحف و الكتب- ب التي ليست بكتب الزندقة و الكفر داخل في الغنائم و يجوز

بيعها» تملّك الكافر للمصاحف و إلا كانت من المجهول المالك المسلم. و استدلّ الشيخ (قدس سره) بوجوه:

1. فحوى عدم تملّك الكافر للمسلم.

2. الإسلام يعلو و لا يعلى عليه.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 83.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 878

3. الإهانة و الهتك.

4. انّ بيعها من الكافر مع العلم بمسّه إيّاه مع الرطوبة توجب تنجيسه.

يلاحظ عليه بأنّ الاستدلال بها على بطلان البيع، غير تام، لمنع الفحوى أوّلًا، فانّ مالكية الكافر للعبد المسلم توجب استخدام المسلم فيما يأمر و ينهى و أين ذلك من اشتراء القرآن و وضعه في مكتبة أو التجارة به؟!

و بذلك يظهر الجواب عن الثاني، فانّ العلو ممنوع في الصورتين الماضيتين، نعم لو استلزم البيع هتك القرآن كان البيع حراماً لا بما هو هو، بل لأجل الهتك، و هو موجود في عامة الموارد.

و مثله الرابع، فلو علم أنّ البيع مستلزم لتنجيس المصحف يكون البيع من صغريات الإعانة على الإثم، فلو قلنا بحرمته في أمثال هذه الصورة- ممّا لا يعد البيع علّة تامّة و لا جزءاً أخيراً من العلّة التامّة- ليقع حراماً و إلا فلا.

و بذلك يظهر حكم بيع الأبعاض من المصحف و الأدعية و الكتب المشتملة على أسماء اللّه فلا دليل على الحرمة بما هو هو، إلا أن يكون هناك عنوان ثانوي كالهتك و التنجيس و غير ذلك.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 879

2 في جوائز السلطان و عماله
اشارة

المسألة الثانية: في أحكام جوائز السلطان و عماله، بل مطلق المال المأخوذ منهم مجاناً أو عوضاً. و إليك صور المسألة:

1. أن لا يعلم أنّ في أمواله حراماً حتى يتردّد بين كون المأخوذ كلّه حراماً أو حلالًا أو مختلطاً منهما.

2. أن يعلم أنّ في أمواله حراماً و لكن، لا يعلم

بوجود الحرام في المأخوذ لا إجمالا و لا تفصيلًا، و إن كان يعلم بوجود الحرام في مجموع أمواله. فتكون الجائزة طرفاً للعلم.

3. أن يعلم تفصيلًا ما يأخذ.

4. أن يعلم إجمالًا أنّ المأخوذ مشتمل على الحرام. و إليك أحكام الصور:

الصورة الأُولى: إذا لم يعلم وجود الحرام في ماله

إنّ ظاهر الفتاوى الجواز، و ليس في الأخبار ما ينافي ذلك إلا ما ذكره الشيخ، و هو الخبر المروي عن الاحتجاج للطبرسي، و كتاب الغيبة للشيخ قدس سرهما.

أقول: ما أشار إليه من حديث الطبرسي ليس راجعاً إلى هذه الصورة، بل

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 880

راجع إلى ما علم أنَّ في ماله حراماً.

و أمّا الشيخ فاستدلّ على الجواز بأُمور: 1. الأصل 2. الإجماع 3. الروايات.

غير أنّه لم يعلم المراد من الأصل، و ربّما يفسّر بقاعدة اليد، و انّ يد الجائر على المال إمارة الملكية، و لكن إطلاق الأصل و إرادة قاعدة اليد بعيد جداً.

و ربّما يحمل على أصالة الصحة في فعل المسلم.

يلاحظ عليه: أنّ حمل الأصل على أصالة الصحة في فعل المسلم غير مفيد، لأنّ الاعتماد عليه إمّا في صورة جريان القاعدة (قاعدة اليد) أو مع عدمه.

فعلى الأوّل: لا حاجة إلى الأصل، لحكومة القاعدة على الأصل و إن اتّحدا مفاداً كما هو مقرر في محله.

و على الثاني، لا موضوع للأصل، لأنّه انّما يجري إذا أحرزت صلاحية و مالكية الشخص لإعطاء المال، و لكن وقع الشك في كونها صحيحة أو فاسدة، فيحمل على الصحة، و أمّا إذا شك في كونه مالكاً أو فضولياً، فلا يجري الأصل و لا تثبت الصلاحية.

و لأجل ذلك فرق الشيخ الأعظم (قدس سره) في «الفرائد» بين الشك في كون الصلاة على الميّت صحيحة أو باطلة، و الشك في كون تصرّف الأجنبي

في مال اليتيم صحيحاً أو فاسداً، فقال بصحة الأُولى أخذاً بأصالة الصحة في فعل الغير، دون الثانية لعدم إحراز الموضوع و هو صلاحية الأجنبي للتصرّف في مال اليتيم و انّه مقارن للغبطة أو لا.

و الأولى أن يقال: انّ المراد من الأصل هو إباحة الأخذ لا لأجل احتمال كون المجيز غير مالك أو كون المال حراماً، بل لاحتمال أنّ نفس الأخذ من الجائر

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 881

المجيز حرام لكونه احتراماً و تكريماً منه يورث محبّة في القلوب فيحتمل الحرمة لأجل ذلك، فيندفع هذا الاحتمال بالأصل.

كما أنّ احتمال أن لا يكون المال منه و تكون يده عليه غاصبة، مدفوع بقاعدة اليد.

و بالجملة: احتمال أن يكون نفس الأخذ حراماً مرتفع بالأصل، و احتمال كونه مغصوباً، مرتفع بقاعدة «اليد»، و ليس في المقام شبهة غيرهما، فإذا ارتفعت لا وجه لعدم الجواز.

و أمّا الإجماع: فقد عرفت أنّ الحلّية ظاهر الفتاوى، قال في «مفتاح الكرامة»: قد اتّفقت كلمة الأصحاب على أنّه إن لم يعلم حرمتها فهي حلال، صرح بذلك في النهاية و السرائر و الشرائع و النافع و التذكرة و نهاية الأحكام و غيرها، و في «الرياض»: أنّه لا خلاف فيه. ( «1»)

و بالجملة: فهذا القسم ممّا لا إشكال فيه حسب الفتوى.

الصورة الثانية: إذا علم أنّ في ماله حراماً
اشارة

إذا علم أنّ في ماله حراماً دون أن يعلم أنّ نفس الجائزة مشتملة على الحرام تفصيلًا أو إجمالًا، و مع ذلك فهي طرف للعلم، و هي على أقسام:

القسم الأوّل: إذا كان العلم بالحرام في أمواله بصورة الشبهة غير المحصورة، فحكمها حكم الصورة الأُولى.

القسم الثاني: ما إذا علم بوجود الحرام في أموال المجيز بصورة الشبهة المحصورة، لكن يتردّد بين ما يبتلى المكلّف به و بين ما

لا يبتلى به، كما إذا علم إمّا

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 117.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 882

أنّ الجائزة المأخوذة حرام أو أُمّ ولده التي في بيته و تعدّ من خواص حرمه.

فعلى القول بأنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن تكون الأطراف مورداً للابتلاء، لا يكون العلم منجزاً، فيجوز له التصرّف في الجائزة المأخوذة.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 882

و وجه الاشتراط هو أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كل تقدير، فلو كان محدثاً للتكليف على تقدير دون تقدير فلا يكون العلم منجزاً، ففي المثال المزبور لو كان المغصوب هو الجائزة يكون العلم محدثاً للتكليف، و أمّا إذا كان في الطرف الآخر، لا يكون العلم كذلك، لقبح الخطاب عن الاجتناب عمّا لا يقع في إطار الابتلاء، و عند ذلك لا يكون هناك علم بالتكليف على كل حال، إذ التكليف على فرض دون فرض ليس تكليفاً على كل تقدير. و على ما أوضحه سيدنا الأُستاذ- دام ظلّه- في محلّه بأنّ الخطابات الشرعية ليست خطابات شخصية حتى يتطلب شرطية الابتلاء لشخص المكلّف، بل هي خطابات قانونية يكفي فيه كونه مورداً للابتلاء لسائر المكلّفين فيكون حكم هذا القسم، حكم القسم الآتي.

و على كل تقدير فقد قيل بكراهية الأخذ لوجوه غير تامّة ذكرها الشيخ الأعظم (قدس سره) و أوضحها سيدنا الأُستاذ- دام ظله- فلاحظ.

القسم الثالث للصورة الثانية: ما إذا كانت الشبهة محصورة، و كانت الأطراف مورداً للابتلاء بحيث تقتضي قاعدة الاحتياط لزوم الاجتناب عن الجميع، فمقتضى القاعدة هو لزوم الاجتناب

في هذا القسم، غير أنّ المشهور عند الأصحاب عدم لزوم الاجتناب عن الجائزة و إن كانت طرفاً للعلم الإجمالي.

قال العلّامة (قدس سره) في «القواعد»: السادس من المحرّمات: جوائز الظالم إن

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 883

علمت غصباً حرمت.

و قال في «مفتاح الكرامة»: بعد هذه العبارة: «بلا خلاف في ذلك، و به نطقت عباراتهم» لكن في الشرائع و النافع و نهاية الأحكام و الدروس و الكفاية: إن علمت حراماً بعينها فالتقييد بالعين فيه إشارة إلى جواز أخذها و إن كان في ماله مظالم كما هو مقتضى حال الظالم، و أنّه لا يكون حكمه حكم المال المختلط بالحرام في وجوب اجتناب الجميع، للنص على ذلك، كما قال ذلك كلّه في «المسالك».

و أوضح من ذلك عبارة «السرائر» قال: إذا كان يعلم أنّ فيه شيئاً مغصوباً إلا أنّه غير متميّز العين، بل هو مخلوط في غيره من أمواله أو غلاته التي يأخذها على جهة الخراج، فلا بأس بشرائه منه، و قبول صلته، لأنّها صارت بمنزلة المستهلكة، لأنّه غير قادر على ردّها.

و نحوها عبارة «النهاية»- إلى أن قال-: و ينفتح من ذلك باب واسع في خصوص الجائر إلا أن يقال: انّه مخالف لأُصول المذهب و قواعده من عقل و نقل و كتاب و سنّة و إجماع. ( «1»)

لا شك أنّ مقتضى القاعدة هو لزوم الاجتناب عمّا وقع في يد المجاز من العين، غير أنّ المورد استثني من موارد تنجيز العلم الإجمالي من جهة النصوص الواردة فيه.

فإن قلت: إنّ تنجيز العلم الإجمالي عقلي، و القاعدة العقلية لا تقبل التخصيص.

قلت: إنّ العلم الإجمالي بالتكليف على قسمين:

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 4/ 116.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 884

تارة يكون هناك علم

بالتكليف على وجه نعلم أنّ المولى لا يرضى بتركه أبداً، كما في الغريقين نعلم أنّ أحدهما ابنه، ففي مثل ذلك لا يمكن الترخيص لا بالطرفين و لا في أحدهما.

و أُخرى يكون منشأ العلم بالتكليف، إطلاق الدليل الشامل للشبهة المحصورة بإطلاقه كما إذا قال: اجتنب عن الغصب، فانّ إطلاقه يشمل ما إذا علم بوجود المغصوب كما إذا أجاز كيساً يعلم فيه اختلاط الدينار المغصوب بغيره فإنّ العلم بالتكليف هنا ليس علماً وجدانياً به على وجه لا يقبل التخصيص، بل منشؤه إطلاق الدليل الشامل لهذه الصورة، فلا شك أنّ مقتضى القاعدة بعد وجود الإطلاق هو لزوم الاجتناب إلا إذا كان هناك دليل يقيد الإطلاق و يخصّه بما إذا كان هناك علم تفصيلي بالغصب فيخرج ما إذا علم بوجود المغصوب في ضمن الكيس المجاز دون أن يكون كلّ ما فيه مغصوباً، فمثل هذا الإطلاق قابل للتقييد بلا شك إنّما الكلام في وجود ذاك المقيّد.

فنقول: يمكن الاستدلال على الجواز بطوائف من الروايات:

الطائفة الأُولى: ما ورد في باب الربا

1. صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «أتى رجل أبي (عليه السلام) فقال: إنّي ورثت مالًا و قد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يُربي، و قد أعرف أن فيه ربا و استيقن ذلك و ليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه، و قد سألت فقهاء أهل العراق و أهل الحجاز فقالوا: لا يحل أكله. فقال أبو جعفر (عليه السلام): «إن كنت تعلم بأنّ فيه مالًا معروفاً ربا و تعرف أهله فخذ رأس مالك ورد ما سوى لك، و إن كان مختلطاً فكله هنيئاً فانّ المال مالك، و اجتنب ما كان يصنع صاحبه، فإنّ رسول

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 885

اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قد وضع ما مضى من الربا و حرم عليهم ما بقي، فمن جهل وسع له جهله حتى يعرفه فإذا عرف تحريمه حرم عليه و وجب عليه فيه العقوبة إذا ركبه كما يجب على من يأكل الربا». ( «1»)

2. ما رواه أبو المعزا، قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «كل ربا أكله الناس بجهالة ثمّ تابوا فانّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة، و قال: لو أنّ رجلًا ورث من أبيه مالًا و قد عرف أنّ في ذلك المال ربا و لكن قد اختلط في التجارة بغيره حلال كان حلالًا طيّباً فليأكله، و إن عرف منه شيئاً أنّه ربا فليأخذ رأس ماله و ليرد الربا، و أيما رجل أفاد مالًا كثيراً قد أكثر فيه من الربا فجهل ذلك ثمّ عرفه بعد فأراد أن ينزعه فما مضى فله و يدعه فيما يستأنف». ( «2»)

3. ما رواه أبو الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل أربى بجهالة ثمّ أراد أن يتركه، قال أمّا ما مضي فله، و ليتركه فيما يستقبل- ثمّ قال:- إنّ رجلًا أتى أبا جعفر (عليه السلام) فقال: إنّي ورثت مالًا» و ذكر الحديث نحوه. ( «3»)

و لا يخفى عدم صحة الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات، فإنّ البحث في الحرام الذي يكون بما هو هو حراماً من غير قيد بالعلم، و انّما يكون العلم طريقاً محضاً إلى الواقع، و أمّا باب الربا فيظهر من تلك الروايات حلّيته في موردين:

الأوّل: إذا كان جاهلًا بحكمه، فإذا بلغه الحكم فله ما سلف و ينتهي فيما يأتي.

و الثاني: فيمن ورث المال المختلط بالربا، فقد ذهب بعض المتأخّرين إلى

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 431، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث: 3 و 2.

(2) الوسائل: 12/ 431، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث: 3 و 2.

(3) الوسائل: 12/ 431، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 886

جواز التصرّف استناداً إلى هذه الروايات، و على ذلك فالاستدلال بهذه الروايات على جواز الارتكاب- فيما إذا كان المال مشتملًا على ما كان حراماً بما هو هو- غير تام.

الطائفة الثانية: ما دلّ على حلّية الشي ء حتى يعلم الحرام بعينه

1. ما رواه سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل أصاب مالًا من عمل بني أُمية و هو يتصدّق منه و يصل منه قرابته، و يحج ليغفر له ما اكتسب، و يقول: إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «إنَّ الخطيئة، لا تكفّر الخطيئة، و إنّ الحسنة تحط الخطيئة، ثمّ قال: إن كان خلط الحرام حلالًا فاختلطا جميعاً فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس». ( «1»)

2. ما رواه عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». ( «2»)

و لا يخفى أنّ لازم الأخذ بهذه الروايات جواز الارتكاب في جميع صور الشبهة المحصورة و إن جرّت إلى المخالفة القطعية، و على ذلك فينبغي حملها على الشبهة البدوية، و قد عالجنا مفاد هذه الروايات عند البحث عن الشبهة البدوية التحريمية في مبحث البراءة و الاشتغال.

الطائفة الثالثة: ما ورد في جواز شراء السرقة و الخيانة

1. ما رواه أبو بصير قال: سألت أحدهما (عليهما السلام) عن شراء الخيانة و السرقة؟ قال: «لا، إلا أن يكون قد اختلط معه غيره، فأمّا السرقة بعينها فلا، إلا أن يكون

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 1.

(2) الوسائل: 12/ 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 887

من متاع السلطان فلا بأس بذلك». ( «1»)

2. ما رواه سماعة قال: سألته عن شراء الخيانة و السرقة؟ فقال: «إذا عرفت أنّه كذلك فلا، إلا أن يكون شيئاً اشتريته من العامل». ( «2»)

3. ما رواه جراح المدائني عن أبي عبد

اللّه (عليه السلام) قال: «لا يصلح شراء السرقة و الخيانة إذا عرفت». ( «3»)

و أجاب عنها سيدنا الأُستاذ- دام ظله- بأنّ مفاد الروايات هو التفصيل بين العلم و الجهل، لا العلم الإجمالي و التفصيلي. ( «4»)

و لا يخفى أنّ ما ذكره و إن كان يتم في رواية جراح المدائني و موثّقة سماعة، و لكنّه لا يتم في صحيحة أبي بصير، و قد اعترف به- دام ظله- تلويحاً، فإنّ الإمام (عليه السلام) أجاب عن سؤاله بقوله: «إلا أن يكون قد اختلط معه غيره فأمّا السرقة بعينها فلا» فهذه العبارة نص بالتفصيل بين المعلوم بالإجمال الذي يحكي عنه قوله (عليه السلام): «و قد اختلط معه غيره» و بين المعلوم بالتفصيل الذي يحكي عنه قوله (عليه السلام): «و السرقة بعينها».

نعم يمكن الإجابة عن تلك الصحيحة بما أجبنا به عن روايات الطائفة الثانية من أنّ الأخذ بظاهرها يوجب جواز الارتكاب في عامّة الصور و إن انجر إلى المخالفة القطعية، و هذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

الطائفة الرابعة: ما ورد في هذا الباب

1. ما روي- صحيحاً- عن أبي ولاد قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم و أنا أمرُّ به فأنزل عليه

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 249، الباب 1 من أبواب عقد البيع، الحديث: 4 و 6 و 7.

(2) الوسائل: 12/ 249، الباب 1 من أبواب عقد البيع، الحديث: 4 و 6 و 7.

(3) الوسائل: 12/ 249، الباب 1 من أبواب عقد البيع، الحديث: 4 و 6 و 7.

(4) المكاسب: 2/ 242.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 888

فيضيفني و يحسن إلي، و ربما أمر لي بالدرهم و الكسوة، و قد ضاق صدري

من ذلك؟ فقال لي: «كل و خذ منه، فلك المهنأ و عليه الوزر». ( «1»)

و قد أجاب الشيخ (قدس سره) عن الاستدلال بهذا الحديث بقوله: إنّ الاستدلال به على المدّعى لا يخلو من نظر، لأنّ الاستشهاد إن كان من حيث حكمه (عليه السلام) بحل مال العامل المجيز للسائل، فلا يخفى أنّ الظاهر من هذه الرواية و من غيرها من الروايات حرمة ما يأخذه عمال السلطان بازاء عملهم له، و أنّ العمل للسلطان من المكاسب المحرّمة، فالحكم بالحل ليس إلا من حيث احتمال كون ما يعطى من غير أعيان ما يأخذه من السلطان، بل ممّا اقترضه أو اشتراه في الذمة.

و أمّا من حيث إنّ ما يقع من العامل بيد السائل لكونه من مال السلطان حلال لمن وجده فيتم الاستشهاد، لكن فيه مع أنّ الاحتمال الأوّل مسقط للاستدلال على حل المحصور الذي تقتضي القاعدة لزوم الاحتياط فيه، لأنّ الاعتماد حينئذ على اليد كما لو فرض مثله في غير الظلمة، أنّ الحكم بالحل على هذا الاحتمال غير وجيه، إلا على تقدير كون المال المذكور من الخراج و المقاسمة المباحين للشيعة، إذ لو كان من صلب مال السلطان أو غيره لم يتّجه حلّه لغير المالك بغير رضاه، لأنّ المفروض حرمته على العامل لعدم احترام عمله.

و كيف كان فالرواية إمّا من أدلّة حل مال السلطان المحمول بحكم الغلبة الى الخراج و المقاسمة، و إمّا من أدلّة حل المال المأخوذ من المسلم لاحتمال كون المعطي مالكاً له و لا اختصاص له بالسلطان، أو عماله أو مطلق الظالم، أو غيره ... ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 156، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) المكاسب: 69.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص:

889

و لا يخفى أنّ كلا الاحتمالين على خلاف الظاهر، و الظاهر أنّ الشيخ حمل قوله: «يلي أعمال السلطان» على العمل للسلطان كالخيّاط الذي ليس عاملًا للسلطان لكنّه يخيط ثوبه كما يخيط لغيره، فعند ذلك احتمل أنّ حلية الجائزة- مع حرمة ما يأخذه من السلطان بازاء عمله- إمّا لأجل كون ما يعطي ممّا اقترضه أو اشتراه في الذمّة، أو حمل ما يعطي على كون المال المذكور من الخراج و المقاسمة المباحين للشيعة، إذ لو كان من صلب مال السلطان أو غيره لم يتّجه حلّه لغير المالك بغير رضاه.

و لكن الظاهر أنّ المراد من قوله: «يلي أعمال السلطان» هو من يعمل في ديوانه بأن يكون عاملًا له يأخذ منه الرواتب و يشتغل لديه بعمل كالكتابة و جباية الأموال أو غير ذلك.

و الحاصل: انّ المراد من يكون له منصب سلطاني بقرينة قوله: «ربّما أمر لي بالدرهم و الكسوة» و الحديث نظير ما ورد في الاحتجاج حيث قال: فهل يجوز لي أن آكل من طعامه، و أتصدق بصدقة و كم مقدار الصدقة؟ ( «1»)

و قوله: «ليس له مكسب إلا أعمالهم» يشير إلى أنّ ما في يده هو نفس ما في يد السلطان، فيكون العلم بحرمة ما في يده أو حلّيته نظير العلم بما في يد السلطان، كما أنّ قوله (عليه السلام): «لك المهنأ و عليه الوزر» لا يدلّ على العلم التفصيلي بوجود الحرام، بل هو إشارة إلى الكلمة الدارجة في العرف أيضاً بأنّه لو كان حلالًا فلك المهنأ و لو كان حراماً فعليه الوزر.

و قد أورد صاحب «مصباح الفقاهة» على الاستدلال بهذه الصحيحة بقوله: إنّ العلم بإطلاقها يقتضي إباحة أخذ الجائزة من الجائر حتى مع العلم التفصيلي

______________________________

(1)

الوسائل: 12/ 160، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 15.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 890

باشتمالها على الحرام، و لم يتفوّه به أحد، و عليه فلا بد من رفع اليد عن إطلاقها و حملها على الشبهات البدوية أو المقرونة بالعلم الإجمالي الذي لا يوجب التنجيز. ( «1»)

و الظاهر عدم صحة ما أفاده، إذ ليس المراد تجويز شراء ما علم إجمالًا أنّ فيه حراماً قطعاً، بل المراد ما هو المتعارف حيث لا يعلم بأنّ في مورد الشراء محرّماً و إن علم أنّ في أموال العامل محرّماً.

و الحاصل: أنّه لا مانع من أن يكون هناك تسهيل من جانب الشارع إذا علم أنّ في أموال العامل حراماً و لم يعلم بوجود الحرام في المأخوذ، فإنَّ مقتضى القاعدة و إن كان لزوم الاجتناب عند اجتماع شرائط التنجيز، غير أنّ الشارع تسهيلًا للأمر جوّز الارتكاب تقييداً للإطلاق، فما ذكره الشيخ (قدس سره) في خاتمة البحث من أنّه لم يثبت في النص و لا الفتوى- مع اجتماع شرائط اعمال قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة- عدم وجوب الاجتناب في المقام، غير تام.

و ما تمحّل الشيخ (قدس سره) في ردّ دلالة هذه الروايات من حملها على الشبهة البدوية أو الشبهات غير المحصورة، أو ما إذا كانت بعض الأطراف خارجة عن محل الابتلاء، أو الاعتماد على اليد، غير تام أيضاً، حيث قال: «فلا بد حينئذ من حمل الأخبار على مورد لا تقتضي القاعدة لزوم الاجتناب عنه كالشبهة غير المحصورة، أو المحصور الذي لم تكن كلّ محتملاته مورداً لابتلاء المكلّف، أو على أنّ ما يتصرّف فيه الجائر بالإعطاء يجوز أخذه حملًا لتصرّفه على الصحيح- إلى أن قال-: فلو فرضنا مورداً خارجاً عن

هذه الوجوه المذكورة كما إذا أراد أخذ شي ء من ماله مقاصةً، أو أذن له الجائر في أخذ شي ء من أمواله على سبيل التخيير، أو علم أنّ المجيز قد أجازه من المال المختلط في اعتقاده بالحرام، بناء على أنّ اليد لا تؤثر

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: 1/ 504، نشر وجداني، الطبعة الثالثة- 1371 ه-. ش.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 891

في حل ما كلّف ظاهراً بالاجتناب عنه كما لو علمنا أنّ الشخص أعارنا أحد الثوبين المشتبهين في نظره فانّه لا يحكم بطهارته، فالحكم في هذه الصور بجواز أخذ بعض ذلك مع العلم بالحرام فيه، و طرح قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة في غاية الإشكال بل الضعف». ( «1»)

و الذي دعا الشيخ (قدس سره) إلى هذا الرأي هو أنّ تنجيز العلم الإجمالي كان أمراً مفروغاً عنده فصار جواز الارتكاب في بعض الأطراف موجباً لنقض تلك القاعدة المحكمة عقلًا، و لكنّك عرفت أنّ الترخيص في الأطراف ممكن في بعض الصور و محال في البعض الآخر، و على ذلك فجواز الارتكاب لا يخلو من قوّة، و يؤيده ما نذكره من الروايات.

2. ما روى عن أبي المعزا قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام)- و أنا عنده- فقال: أصلحك اللّه، أمرّ بالعامل فيجيزني بالدراهم، آخذها؟ قال: «نعم»، قلت: و أحج بها؟ قال: «نعم». ( «2»)

3. ما رواه داود بن رزين قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إني أُخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها أو الدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال، فلي أن آخذه؟ قال: «خذ مثل ذلك و لا تزد عليه». ( «3»)

4. ما رواه إسحاق بن عمّار قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل و

هو يظلم، قال: «يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحداً». ( «4»)

5. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل و هو يظلم؟ فقال: «يشتري منه». ( «5»)

______________________________

(1) المكاسب: 68- 69، ط. تبريز ..

(2) الوسائل: 12/ 156، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 7.

(3) الوسائل: 12/ 156، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 7.

(4) الوسائل: 12/ 163، الباب 53 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3.

(5) الوسائل: 12/ 163، الباب 53 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 892

و حمل هذه الروايات على خصوص الشبهة البدوية، أو غير المحصورة منها، أو المحصورة التي ليس العلم فيها منجزاً، بلا دليل، بل إطلاقها يقتضي جواز التصرّف، فما ذكره الشيخ الأعظم أنّ إطلاق الجماعة لحل كلِّ ما يؤتيه الجائر مع عدم العلم بحرمته عيناً إن كان شاملًا لصورة العلم الإجمالي بوجود حرام في ماله مردّد بين هذا و غيره مع انحصار الشبهة فهو مستند إلى حمل تصرّفه على الصحة، أو لعدم الاعتناء بالعلم الإجمالي لعدم ابتلاء المكلّف بالجميع، لا لكون هذه المسألة خارجة بالنصّ عن حكم الشبهة المحصورة، منظور فيه، بل الظاهر كون الحكم بالحل مستنداً إلى بعض هذه النصوص.

إلى هنا تمّ الكلام في الصورتين من الصور الأربع، و إليك البحث في الصورة الثالثة.

***

الصورة الثالثة: أن يعلم تفصيلًا حرمة ما يأخذه
اشارة

و فيه بحوث نذكرها واحداً بعد آخر.

الأوّل: هل يجوز أخذه أو لا؟

لا شك في أنّه لا يجوز الأخذ فيما إذا علم عدم رضا مالكه، كما أنّه لا شك في جوازه إذا علم رضاؤه. انّما الكلام فيما إذا شك في رضاه و عدمه، يمكن أنّ يقال انّ المورد شبهة مصداقية، لما دلّ على جواز الأخذ و عدمه، فلا يجوز التمسّك بواحد من الدليلين. فيجب أن يرجع إلى الأُصول العملية، و من المعلوم أن الأصل في الأموال هو الاحتياط.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 893

و بعبارة أُخرى: أنّ قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، فانّه لا يحل دم امرئ مسلم و لا ماله إلا بطيبة نفسه» ( «1») يدلّ بالدلالة المطابقية على أنّ الحلّية، تتوقّف على طيب النفس، و بالدلالة الالتزامية على الحرمة مع عدمها. فمع الشك في رضا المالك و كراهته، لا يصح التمسّك بواحد من الدليلين فيرجع إلى الأصل المحكم في المقام و هو ما ادّعاه الشيخ الأعظم (قدس سره) في مورد الأموال و الأعراض و النفوس من الاحتياط حتى في الشبهات البدوية.

هذا و لكن يمكن أن يقال انّ ما ذكره الشيخ الأعظم من كون الأصل في الأموال هو الاحتياط، حكم مصطاد من التفحّص في موارد مختلفة تكشف عن مذاق الشارع فيها، و ليس هناك نصّ يؤخذ بإطلاقه، و على ذلك فالقدر المتيقّن ما إذا كان الأخذ لصالح نفسه، و أمّا إذا كان الأخذ لصالح المالك و بنية الإيصال إليه، فدخوله فيه مشكوك فيرجع فيه إلى الأدلّة العامّة، و على ذلك فالظاهر هو الجواز إذا كان بتلك النيّة، و يمكن استظهار الجواز من روايات اللقطة، فانّ الأخذ

هناك جائز بهذه النيّة في صورة الشك.

نعم ربما تُستظهر الحرمة في صورة الشك من موثّقة أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه». ( «2»)

وجه الاستظهار انّ الرواية ليست بصدد بيان أصل الحرمة بدليل تغيير اسلوب البيان فيها، بل بصدد بيان الكيفية في حرمة المال و انّ حكم المال هو حكم الدم. كما لا يجوز القتل في صورة الشك، فكذا الحال في المال لدى الشك.

______________________________

(1) الوسائل: 3/ 424، الباب 3 من أبواب مكان المصلي، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 8/ 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 3. و توصيفها بالموثّقة لأجل وقوع عبد اللّه بن بكير في سنده.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 894

يلاحظ عليه: أنّ تغيير الاسلوب ليس إلا لأجل تأكيد الحرمة، من خلال التشبيه بالدم، لا أنّه مثله في جميع الحالات، إذ فرق بين أن يقول: «و حرام ماله»، و أن يقول: «و حرمة ماله كحرمة دمه» و لو سلمنا، فانّما هو إشعار، فأين هو من دلالة قوله سبحانه: (مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ( «1») على الجواز؟ فانّ إطلاقه يشمل صورة الشك كما يشمل صورة خلو ذهن المالك عن الرضا و الكراهة، نعم لا يشمل صورة العلم بعدم الرضا، فإنَّ الأمر الاستحبابي لا يزاحم المحرّم، أعني: التصرّف في مال الغير، بغير إذنه، و يؤيد مضمون الآية ما ورد في موثّقة السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): عونك الضعيف من أفضل

الصدقة». ( «2»)

فتلخص: أنّ صورة الشك لمّا كانت شبهة مصداقية لما دلّ على الجواز و الحرمة، يحكم بالحرمة بحكم الأصل المعروف في باب الأموال لو لا القول بانصراف دليله إلى ما إذا لم يكن الأخذ لصالح المالك. و قد عرفت تأييده بالآية و الرواية.

الثاني: في ضمانه إذا أخذ، فنقول هنا صور:

1. إذا كان عالماً بكونها مال الغير و أخذها بنيّة الرد، كان الأخذ جائزاً كما في صورة العلم بالرضا أو الشك فيه- على ما قوّيناه- و يكون المال في يده أمانة شرعية، و يردّه عند التمكّن و لا ضمان في هذه الصورة.

2. إذا أخذ بنيّة التملّك مع الجهل بكونه مال الغير، فلا شك في ضمانه،

______________________________

(1) التوبة: 91.

(2) الوسائل: 11/ 108، الباب 59 من أبواب جهاد العدو، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 895

لأنّه استولى على مال الغير، بغير إذنه، و مقتضى عموم «على اليد ما أخذت» هو الضمان كما إذا وضعت يده على مال الغير أو أتلفه مع الجهل به، و لم ينقل الخلاف إلا من «صاحب المسالك» و «صاحب المصابيح» و ربّما نقل الخلاف من «المحقّق» و «العلّامة» في مسألة الاستعارة من الغاصب حيث خصّ المحقّق الضمان بالغاصب، و الكل محجوج بإطلاق قاعدة «على اليد» و كون الاستيلاء على مال الغير موجباً للضمان.

3. إذا أخذ بنيّة التملّك مع الجهل بكونه مال الغير ثمّ بدا له- بعد العلم- حفظ المال لغاية الإيصال إلى مالكه، فهل يحكم بالضمان أيضاً أو لا؟ ظاهر الشيخ الأعظم (قدس سره) الضمان لأجل عدم التفصيل بين هذه الصورة و ما تقدّم، غير أنّ السيد الطباطبائي في تعليقته قوّى عدم الضمان قائلًا بزوال الضمان بنيّة الحفظ و الرد إلى المالك لدخوله تحت عنوان الإحسان الموجب لعدم

الضمان المخصّص لعموم «على اليد» في الابتداء و الأثناء.

و إن شئت قلت: إنَّ اليد إذا انقلبت من العدوان و الخيانة إلى الإحسان و الأمانة، ينقلب الحكم أيضاً، و دعوى أنّ علّة الضمان الأخذ العدواني من الأوّل فلا يفيده الانقلاب، مردودة، لأنّ مقتضى عموم «ما على المحسنين من سبيل» و نحوه من أدلّة الأمانات المخصّصة لعموم «على اليد»، زوال الضمان و كون الضمان ما دامت اليد عدوانية. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ وضع اليد على مال الغير عدواناً موجب للضمان حدوثاً و بقاءً و انّما يرتفع الضمان بالغاية الواردة في الرواية و هو الأداء إلى المالك، و المفروض أنّه غير محقّق، و تبدّل النيّة من العدوان إلى الإحسان لا يرفع الضمان، إذ

______________________________

(1) تعليقة السيد الطباطبائي: 35.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 896

غايته أنّ الأخذ أو الإبقاء بنيّة الرد غير مقتض للضمان لا أنّه مقتض لعدم الضمان فلا يزاحم ما دلّ على الضمان.

4. إذا كان الأخذ من أوّل الأمر على وجه الإحسان ثمّ بنى على التملّك (عكس الصورة السابقة) فهل يكون ضامناً أو لا؟ نظير ذلك ما إذا أخذ اللقطة بنيّة التعريف و لكنه نوى التملّك قبل الحول، و الظاهر هو الضمان لما عرفت من أنّ الاستيلاء على مال الغير حدوثاً و بقاء موجب للضمان، و منه يظهر حكم ما إذا تبدّلت نيته أيضاً بعد قصد التملّك، فانّه لا يؤثر في رفع الضمان لعدم التزاحم بين اللااقتضاء وذي الاقتضاء.

الثالث: هل يجب الرد أو يكفي التخلية إذا كان معلوم المالك؟

لا شك في أنّه إذا أخذه بنيّة التملّك حدوثاً أو بقاءً يجب عليه الرد إلى مالكه لحديث «على اليد» الذي جعلت الغاية فيه لرفع الضمان هي الأداء انّما الكلام فيما إذا كان المال في يده أمانة شرعية،

فالظاهر كفاية التخلية، على وجه لو حاول المالك أن يستولي على ماله لأمكن بلا أيّ مانع، إذ لا يتجاوز ذلك عن الوديعة التي يكفي فيها التخلية، و أمّا قوله سبحانه: (إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا) ( «1»)، فالظاهر أنّ المراد من ردّ الأمانة هو عدم الخيانة بشهادة قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَخُونُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمٰانٰاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ( «2»)، فالخيانة حرام لا أنّ الرد واجب.

______________________________

(1) النساء: 58.

(2) الأنفال: 27.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 897

الرابع: إذا كان المالك مجهولًا فهل يجب الفحص عن المالك أو لا؟

الظاهر وجوب الفحص، فانّه لا يخلو إمّا أنْ يكون أمانة شرعية، فيجب ردّها عملًا بقوله سبحانه: (إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا) فانّ الرد حتى و لو فسرناه بالتخلية بين المال و المالك، يتوقّف على الفحص، فيجب عقلًا لا شرعاً لما قلنا في محلّة أنّ المقدّمة واجبة عقلًا لا شرعاً، أو أمانة مضمونة إذا كان الاستيلاء عليه موجباً للضمان فيكفي في وجوب الفحص قوله: «على اليد» فلا يرتفع ضمانه إلا بالرد المتوقّف على الفحص.

و يؤيد وجوب الفحص ما ورد في غير هذا المورد من وجوب الفحص كالأخبار الواردة في وجوب تعريف اللقطة، أو ما ورد في وجوب الفحص عن الأجير لإيصال حقه ( «1»)، إلى غير ذلك من الموارد الأُخر بحجة أنّ الجامع هو كون الجميع مجهول المالك.

نعم، احتمل الشيخ الأعظم (قدس سره) عدم وجوب الفحص لإطلاق بعض الروايات، و هو محجوج بالدليل على التقييد، على أنّ بعض الروايات ( «2») قاصرة عن الدلالة، مثل ما ورد في رجل كان من كتّاب بني أُمية ثمّ استبصر و أراد التخلّص من المظالم، فقال الإمام (عليه السلام): «فمن عرفت

منه رددت عليه ماله، و من لم تعرف تصدّقت به»، إذ لعل عدم الأمر بالتعريف هو اليأس عن التعرّف لوجود الفصل بين الاستيلاء على الأموال و زمان الاستبصار، فمن البعيد أن يكون التعريف مفيداً مع الفصل الطويل، خصوصاً إذا كان استبصاره بعد انقراض الدولة الأُموية و استيلاء العباسيين على عرش الخلافة.

______________________________

(1) الوسائل: 17/ 349، الباب 2 من أبواب اللقطة.

(2) الوسائل: 12/ 144، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 898

الخامس: في مقدار الفحص عن المالك

إذا قلنا بوجوب الفحص، فهل يجب الفحص سنة كاملة كما هو الحال في اللقطة، أو إلى حد حصول اليقين بعدم إمكان الإيصال أو يكفي الاطمئنان؟ لا سبيل إلى الأوّل، لأنّها واردة في اللقطة و في خصوص إيداع اللص ( «1») و إلحاق مطلق مجهول المالك بهما قياس، و لو قيل به يلحق به مطلق الغصب، لا مجهول المالك على الإطلاق.

و الثاني و الثالث متقاربان، فالاطمئنان العرفي هو اليقين في نظر العرف، و عليه أساس المعاش، و أمّا الفحص إجمالًا فساقط جداً، إذ ليس الفحص إلا طريقاً عقلائياً إلى التعرّف و ليست له موضوعية حتّى يكتفى بوجود ما منه، أضف إلى ذلك أنّه لم يرد أمر بالفحص في المقام، و انّما الواجب في المقام هو الرد في الأمانة الشرعية و الأداء في الأمانة المضمونة، و بما أنّهما يتوقّفان على الفحص عقلًا قلنا به، و ليس الفحص إلّا وسيلة يقطع معه الآخذ بالقيام بالوظيفة.

السادس: أُجرة الفحص على المالك

لو احتاج الفحص إلى بذل كأُجرة دلال صالح عليه، أو إعلان في الجرائد و الإذاعة أو غير ذلك ممّا يعد طريقاً إلى الإيصال، فهل هو على المالك أو الآخذ؟ ربما يقال بأنّه على الآخذ لتوقّف الواجب عليه، لكنّه أعم من المدّعى، لأنّ كون الشي ء واجباً، لا يلازم كون نفقته عليه، كحفظ المال المشرف على التلف، أو الحيوان على الهلاك، فلو اقتضى نفقة فهي على صاحب المال.

و الحق أنّه إذا كان أمانة شرعية بيده كما إذا أخذه بنيّة الرد إلى صاحبه، و مثله

______________________________

(1) الوسائل: 17/ 368، الباب 18 من أبواب اللقطة، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 899

إذا أخذ المال من السارق و الغاصب للإيصال إلى صاحبه، فالأُجرة على المالك، لقوله

سبحانه: (مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) دون ما إذا كان أمانة مضمونة أخذه لصالح نفسه، ثمّ تبيّن الحال، فإنّ الأُجرة عليه، لأنّ وضع اليد على مال الغير بغير دليل شرعي يوجب الضمان و يجب عليه القيام به، و إن بلغ ما بلغ، و أولى منه حال الغاصب، و السارق، و الخائن.

السابع: مصرف مجهول المالك

إذا قام بواجبه في مجال التعريف و لم يتعرّف على المالك، فما هو مصرفه؟ هناك احتمالات:

1. وجوب التصدّق به.

2. وجوب الإمساك و الوصيّة به حين الموت.

3. وجوب الدفع إلى الحاكم.

4. التخيير بين اثنين منهما.

5. التخيير بين الثلاثة.

أقول: مقتضى القاعدة الأوّلية هو الدفع إلى الحاكم ما لم يدلّ دليل على الخلاف، و ذلك لأنّ كلًا من التصدّق و الإمساك، تصرّف في مال الغير بغير إذنه فهو محرّم شرعاً، فيبقى احتمال واحد و هو وجوب الرد إلى الحاكم، و لا يعد ذلك تصرّفاً في مال الغير بمقتضى كونه وليّاً للمسلمين، بل يصير الإيصال إليه إيصالًا إلى صاحبه.

و لا تمنع منه حرمة مال المسلم، لأنّ أدلّة ولايته حاكمة عليها كما لا يخفى.

هذا مقتضى القواعد، غير أنّ الروايات دلّت على التصدّق به، كما في قضية

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 900

كاتب من كتاب بني أُمية حيث قال له الإمام (عليه السلام): «و من لم تعرف تصدّقتَ به» ( «1») و الظاهر أنَّ الإمام (عليه السلام) بصدد بيان الحكم الشرعي على الوجه الكلي، و احتمال أنّ الأمر بالتصدّق كان إذناً شخصيّاً له دون غيره، بعيد جداً فتنحصر الوظيفة في التصدّق به.

و يؤيد ما ذكرنا صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رجل ترك غلاماً له في كرم له يبيعه عنباً أو عصيراً، فانطلق

الغلام فعصر خمراً ثمّ باعه. قال: «لا يصلح ثمنه ...» ثمّ قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «إنّ أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدّق بثمنها». ( «2»)

و في رواية أبي أيوب قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): رجل أمر غلامه أن يبيع كرمه عصيراً، فباعه خمراً، ثمّ أتاه بثمنه، فقال: «إنّ أحبَّ الأشياء إليّ أن يتصدّق بثمنه» ( «3»)، و لا فرق بين أن يقرأ الفعل (يتصدق) بصيغة المعلوم أو المجهول، فإنّ الإمام (عليه السلام) بصدد بيان الحكم الشرعي الكلي، و لو كان الواجب دفعه إلى الإمام (عليه السلام) لكان له التصريح به ثمّ الإذن بالتصدّق.

ثمّ إنّ في بعض الروايات ما يدلّ على لزوم حفظه و الوصية به، إلا أنّ موردها عدم اليأس عن معرفة صاحبه أو محمول عليه. ( «4»)

الثامن: في ضمانه إذا تصدّق

قد عرفت أنّ الوظيفة هي التصدّق فهل يضمن إذا جاء صاحبه و لم يرض به

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 144، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 2.

(3) الوسائل: 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1 و 2.

(4) لاحظ الوسائل: 17/ 583، الباب 6 من أبواب ميراث الخنثى، الحديث: 2 و 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 901

أو لا؟ أو يفصّل بين يد الضمان و غيره؟

احتمل الشيخ الأعظم التفصيل بين يد الضمان و غيرها، استدلّ على الضمان بقاعدة «على اليد» و قاعدة «الإتلاف»، و الأوّل مختص بما إذا كانت اليد، يد ضمان، لا يد أمانة، و قد مرّ أنّها في بعض الصور يدُ أمانة، و الثاني أي قاعدة «الإتلاف» مختص بما كان

الإتلاف علّة تامّة الضمان، و ليس المقام كذلك، فانّه هو مراعى (على القول بالضمان) بعدم رضا المالك.

و الحق عدم الضمان للملازمة العرفية بين أمر الشارع بالتصدّق و عدم الضمان، خرج ما خرج كباب اللقطة. فانّ الظاهر أنّ التصدّق تمام وظيفته.

و بعبارة أُخرى: أنّ أمره بالتصدّق أمرٌ بإتلافه، فحينئذ يكون إتلافه مستنداً إلى السبب و هو أمر الشارع لا على المباشر فلا وجه للضمان.

***

الصورة الرابعة: و هو ما علم إجمالًا اشتمال الجائزة على الحرام
اشارة

و هي تنقسم إلى قسمين، لأنّ الاشتباه إمّا يكون موجباً لحصول الإشاعة أو لا، أمّا القسم الأوّل فله صور أربع:

1. أن يكون القدر و المالك معلومين.

2. أن يكون المالك معلوماً و القدر مجهولًا.

3. أن يكون المالك و القدر مجهولين.

4. أن يكون المالك مجهولًا و القدر معلوماً.

*** أمّا الأوّل، فلا شك في أنّه تحصل الشركة بين المالكين، و طريق التخلّص

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 902

و الإفراز معلوم.

و أمّا الثاني، أي إذا كان المالك معلوماً و القدر مجهولًا، فيجب التخلّص و لا يعد من مجهول المالك الذي يجب فيه الخمس أو يتصدّق به، و إنْ لم يرض المالك بالصلح ففي جواز الاكتفاء بالأقل أو وجوب إعطاء الأكثر، قولان، أقواهما الأوّل و إن كان الثاني أحوط أخذاً بمقتضى اليد في غير المتيقّن، و المورد بحكم حصول الإشاعة من قبيل الأقل و الأكثر لا المتباينين.

و على كل تقدير فإذا كان المالك محصوراً في عدد، فهل يجب دفع ذلك المقدار إلى كلّ واحد منهم أو يقسم بينهم أو يتخيّر في دفعه إلى واحد؟ و هذا الكلام جار في كل مال تحت يد إنسان و دار مالكه بين أشخاص محصورين، و كذا إذا علم اشتغال ذمّته بدين لشخص مردّد بين أشخاص ثلاثة، و الظاهر

كفاية التقسيم بينهم دفعاً للضرر و الغرامة، اللّهم إلا إذا كانت اليد عادية فالمشهور هو أخذ الغاصب بأشد الأحوال.

و أمّا الثالث، أعني: ما إذا كان كلاهما مجهولين، فهو المال الحلال المخلوط بالحرام فيحل بإخراج خمسه، و مصرفه مصرف سائر أقسام الخمس، و إن كان الأحوط إعطاءه بقصد الأعم من الخمس و المظالم، أو الخمس و الصدقة.

و الموضوع في الروايات هو عدم عرفان الحلال عن الحرام، أو الاختلاط، ففي رواية الحسن بن زياد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: إنّ رجلًا أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إنّي أصبت مالًا لا أعرف حلاله من حرامه، فقال له: «اخرج الخمس من ذلك المال، فانّ اللّه عزّ و جل قد رضي من ذلك المال بالخمس، و اجتنب ما كان صاحبه يُعلم». ( «1»)

______________________________

(1) الوسائل: 6/ 352- 353، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 903

و في رواية السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: أتى رجل أمير المؤمنين فقال: إنّي كسبت مالًا أغمضت في مطالبه حلالًا و حراماً، و قد أردت التوبة و لا أدري الحلال منه و الحرام، و قد اختلط عليّ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تصدّق بخمس مالك فانّ اللّه [قد] رضى من الأشياء بالخمس و سائر المال لك حلال». ( «1»)

و على ضوء هذا لا فرق في كفاية الخمس في حلّية المال، بين أن يعلم إجمالًا زيادة مقدار الحرام أو نقيصته عن الخمس، و بين صورة عدم العلم، لأنّ الموضوع هو عدم عرفان الحرام عن الحلال، أو الاختلاط، ففي هذه الصورة يكون الخمس مطهّراً و إن كان الحرام أزيد منه

أو أقلَّ.

و إن كان الاحتياط في صورة العلم بالزيادة إخراج ما هو المعلوم المتيقّن من الزيادة، و صرفه في السادة الفقراء. كما أنّ الأقوى في صورة النقيصة هو الاكتفاء بالمقدار المعلوم، غير أنّ إخراج الخمس أحوط.

و اعلم أنّ هاهنا طائفتين من الروايات، يجب التعرّف على مجراهما:

1. ما دلّ على وجوب التخميس.

2. ما دلّ على وجوب التصدّق بالمظالم.

و الموضوع في الطائفة الأُولى، هو الجهل بالمالك، و عدم التميّز و الخلط، و الموضوع في الطائفة الثانية، هو الجهل بالمالك فقط مع تميّز مال الغير و معلوميته. كما عرفت في رواية كاتب من كتّاب بني أُمية.

و من المعلوم أنّ المقام (الجهل بالمالك، و امتزاج الحلال بالحرام و عدم تميز مال الغير) داخل في الطائفة الأُولى دون الثانية.

______________________________

(1) الوسائل: 6/ 352- 353، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 904

و أمّا حكم الصورة الرابعة من صور الامتزاج، أعني: ما إذا كان المالك مجهولًا، و القدر معلوماً فالظاهر من «الشيخ الأعظم» (قدس سره) في هذه الصورة أنّه يتصدّق، أي يُعمل بالطائفة الثانية من الروايات، حيث قال: و لو علم القدر فقد تقدّم في القسم الثالث و غرضه أنّه يكون من إفراد مجهول المالك الذي حكمه التصدّق، لا التخميس و صرفه في السادة، و عليه السيد الطباطبائي في عروته حيث قال: و أمّا إن علم المقدار و لم يعلم المالك تصدّق به عنه. ( «1»)

و الذي يقرّبه، أنّ الرجوع في المقام إلى روايات الخمس يستلزم الاكتفاء به حتى فيما إذا كان القدر المعلوم أزيد منه. هذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّه يتصدّق بالقدر المعلوم.

و لكن الذي يبعده هو أنّ الأخبار الدالّة على

التصدّق بمجهول المالك ظاهرة في صورة تميّزه و عدم اختلاطه و امتزاجه. و المفروض في المقام هو و الامتزاج.

و الأحوط صرفه في السادة بقصد ما في الذمة من الخمس أو الصدقة، كما أنّ الأحوط عدم الاكتفاء بالخمس فيما إذا كان المقدار أزيد من الخمس، فالأولى إخراج ما هو المعلوم المتيقّن من الزيادة مع رعاية الاحتياط في تصرّفه أيضاً.

هذا كلّه راجع إلى صور الامتزاج.

و أمّا القسم الثاني، أعني: ما إذا اختلط الحرام بالحلال و اشتبها من دون امتزاج موجب للشركة و الإشاعة، كثوب حرام بين الثياب، أو إناء بين الأواني، فذهب الشيخ الأعظم (قدس سره) إلى أنّ الحرام يخرج بالقرعة، و بذلك يتميّز الحرام عن

______________________________

(1) المكاسب: 1/ 213- 214.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 905

الحلال، ثمّ إذا كان المالك معلوماً، يدفع إليه، و إذا كان محصوراً في عدد يدفع إلى الجميع، و إن لم يكن معلوماً يتصدّق به.

يلاحظ عليه: أوّلًا: أنّه قد أجمل الكلام في المقام مع أنّ التربيع الماضي جار في المقام أيضاً.

و ثانياً: إذا كان القدر و المالك مجهولين، فالظاهر الرجوع- في تمييز الحرام عن الحلال- إلى أخبار التخميس الواردة في الحلال المختلط بالحرام، و قد ورد عنوان الاختلاط في الروايات، مثل رواية السكوني ( «1») و صحيحة عمّار بن مروان ( «2»)، و هو أعم من الامتزاج المورث للإشاعة، بل يعمّ الاشتباه.

و على ضوء هذا نقول:

1. فيما إذا كان المالك و القدر معلومين، و لكن كان الحرام غير متميز، فإن تراضيا على ثوب من الأثواب، و إلا يخرج بالقرعة.

2. فيما إذا كان المالك معلوماً، و القدر- مضافاً إلى عدم تميّزه- كان مجهولًا مردّداً بين ثوب أو ثوبين، فيؤخذ بالأقل أخذاً بحكم اليد في مجموع

المال إلا ما علم كونه مال الغير، و يعمل في تميّزه عن غيره بما سبق من التراضي أو القرعة.

3. فيما إذا كان المالك و القدر مجهولين، فيكفي إخراج الخمس، لعدم قصور في شمول رواياته للمقام، و قد مرّ حكم العلم بزيادة الحرام عن الخمس و نقيصته في القسم السابق فلا نعيد.

______________________________

(1) الوسائل: 6/ 353، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث: 4.

(2) الوسائل: 6/ 344، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 906

4. فيما إذا كان المالك مجهولًا، و القدر معلوماً، يجري فيه ما ذكرنا من الاحتمالين في صورة الامتزاج، فهل يخرج الحرام بالقرعة و يتصدّق على الفقراء- سواء كانوا من السادة أو غيرهم- أو يخمس و يدفع إلى السادة؟ يُبعِّد الأوّل ظهور روايات التصدّق فيما إذا كان الحرام متميّزاً، لا مختلطاً، و يُبعِّد الثاني، أنّ لازمه الاكتفاء به و لو علم كون الحرام أزيد من الخمس.

و الأحوط إخراج الخمس و صرفه على السادة، و إخراج ما هو المتيقّن في الزيادة مع رعاية الاحتياط في مصرفه.

***

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 907

3 الخراج و المقاسمة
اشارة

ما يأخذه السلطان- المستحل لأخذ الخراج و المقاسمة، من الأراضي باسمهما، و من الأنعام باسم الزكاة- يجوز أن يقبض منه مجاناً أو بالمعاوضة.

و لنقدّم أُموراً:
الأمر الأوّل: الأرضون على أربعة أضرب

الضرب الأوّل: أرض أسلم عليها أهلها طوعاً، فهذه ملك لأهلها يصح لهم التصرّف بسائر أنواع التصرّفات إذا عمّروها و قاموا بعمارتها، و هذه كأرض المدينة و الطائف و اليمن.

الضرب الثاني: أرض صولح عليها، و هذه على ضربين:

أحدهما: أن يكونوا صولحوا على أنّ الأرض لهم و عليهم طسقها، و هي أرض الجزية، فيلزمهم ما يصالحهم الإمام (عليه السلام) عليه، و يصح بيعها و التصرّف فيها بجميع أنواعه، فإذا أسلموا كان حكمُها حكمَ ما أسلِمَ عليها أهلها طوعاً.

ثانيهما: أن يكونوا قد صولحوا على أنّ الأرض للمسلمين و لهم السكنى و على رقابهم الجزية، و هذه حكمها حكم المفتوحة عنوة كبعض أراضي خيبر.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 908

الضرب الثالث: الأنفال من الأراضي على أقسامها المقررة في محلّه.

الضرب الرابع: الأرض التي فتحت عنوة، و هذه للمسلمين قاطبة بإجماع علمائنا، و هذه كسواد العراق، و بلاد خراسان و الشام و مكة المكرمة، إلى غير ذلك ( «1») لرواية محمد الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، و لمن لم يخلق بعد». ( «2»)

الأمر الثاني: الحقوق الشرعية الثابتة في أموال الناس أو في ذممهم أربعة

الأخماس، و الزكوات، و الخراج، و المقاسمة. و هذه رءوس الأموال التي تعد منابع مالية للحكومة الإسلامية.

هذا هو المعروف، و لكنّ الحق أنّ المنابع الماليّة للحكومة الإسلامية أوسع من ذلك، فانّ لها منابع أُخرى نشير إليها:

1. الأنفال بأقسامها: و هي الأرض الموات، و رءوس الجبال، و بطون الأودية، و الآجام، و الغابات، و المعادن، و ميراث من لا وارث له، و ما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام (عليه السلام)، و كافة المياه العامة، و الأحراش الطبيعية،

و المراتع التي ليست حريماً لأحد، و قطائع الملوك و صفاياهم غير المغصوبة. قال سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ) ( «3») و ما للّه و للرسول في هذه الآية يصرف في مصالح المسلمين.

______________________________

(1) فلاحظ كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم: 23- 59؛ و المغني لابن قدامة: 2/ 586- 588، الطبعة الثالثة.

(2) الوسائل: 17/ 346، الباب 18 من أبواب إحياء الموات، الحديث: 1.

(3) الأنفال: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 909

2. الجزية: و هي الضريبة العادلة المفروضة على أهل الذمّة على رءوسهم، و هي غير الخراج الذي يضرب على الأراضي.

3. الكفّارات: مثل كفّارة قتل العمد و الخطأ، و مخالفة النذر و العهد و اليمين في ما يتعلّق بالأحكام، فيجوز للحكومة أن تتولى أمرها بدلًا عن صاحب الكفّارة.

4. اللقطة: و هي الضالّة من الأشياء و لم يعرف لها صاحب، فيجوز للحكومة الإسلامية التصرّف فيها حسب الشروط.

5. الأوقاف و الوصايا و النذور العامّة و القرابين التي يذبحها الحجاج في منى في مناسك الحج، فيجوز للحكومة الإسلامية التصرّف فيها، و صرفها في مصالح المسلمين عامة.

6. هناك ضرائب ليس لها حد معيّن و لا زمان خاص، بل هي موكولة إلى نظر الحاكم الإسلامي يفترضها عند الحاجة إليها من عمران للبلاد، أو جهاد في سبيل اللّه، أو سد عيلة الفقراء، أو غير ذلك مما يحتاج إليه قوام العباد و البلاد، و هذا هو الذكر الحكيم يصرح بأنّ (الْنَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤمِنِينَ مِن أَنفُسِهِم) ( «1») فهو أُولى بهم من أموالهم، يتصرّف فيها كيفما اقتضت المصلحة الملزمة.

و هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول في عهده إلى مالك الأشتر حين ولاه على مصر:

«و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد ... فربّما حدث من الأُمور ما إذا عوّلتَ فيه عليهم من بعد احتَملُوه طيبة أنفسهم به، فانّ العمران محتمل ما حمّلتَه و انّما يُؤتي خرابُ الأرض من إعواز

______________________________

(1) الأحزاب: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 910

أهلها». ( «1»)

فلو كان للخراج حد معين غير متجاوز عنه لما كان لقوله (عليه السلام): «احتملوه طيبة أنفسهم» وجه، فانّ معناه: أنّهم قبلوا ما طلبته من الناس بطيب خاطر فيعطونك كذلك.

أضف إلى ذلك قوله (عليه السلام): «فانّ العمران محتمل ما حملته» فانّه يدلّ على أنّ الوالي إذا عمّر البلاد و صارت عامرة و خصبة و غارقة في الخيرات و النعم يمكن له أن يفرض الخراج عليها بالمقادير التي يتوخّاها الوالي و تقتضيها المصلحة.

روى محمد بن مسلم، و زرارة بن أعين، عن الباقر و الصادق (عليهما السلام)، قالا: «وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام، دينارين و جعل على البراذين ديناراً». ( «2»)

ثمّ إنّ كلّ من عنون المسألة حذف الخمس منها، و ذلك لأنّ الحاكم الجائر غير معتقد بوجوب الخمس في غير الغنائم.

و أمّا الغنائم فقد صرح الكتاب العزيز بوجوب إخراج الخمس منها ثمّ تقسيمها بين الغانمين، غير أنّ المروي أنّ عمر بن الخطاب أسقط وجوب إخراج الخمس من الغنائم. فقد روي عن ابن عباس أنّ نجدة الحروري أرسل إليه يسأله عن سهم ذي القربى الذين ذكر اللّه، فكتب إليه: انّا كنّا نرى أنّا هم فأبى ذلك علينا قومنا و قالوا، و

يقول لمن تراه؟ فقال ابن عباس: هو لقربى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قسّمه لهم رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)، و قد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون

______________________________

(1) نهج البلاغة: قسم الرسائل، الرسالة: 53.

(2) الوسائل: 6/ 51، كتاب الزكاة، فقوله (عليه السلام). «وضع» يدلّ على ما ذكرناه من أنّ الحاكم الإسلامي له جعل الضرائب كلّما احتاجت مصلحة البلاد إلى ذلك.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 911

حقّنا، فرددناه عليه و أبينا أن نقبله، و كان عرض عليهم أن يعين ناكحهم و أن يقضي عن غارمهم، و أن يعطي فقيرهم و أبى أن يزيدهم على ذلك. ( «1»)

الأمر الثالث: الخراج ما يضرب على الأَرض كالأُجرة لها

، و في معناه المقاسمة غير أنّها تكون جزءاً من حاصل الزرع، و الخراج مقدار من النقد يضرب عليها، و قد يسمّى كلاهما بالقبالة و الطسق، و قد يطلق الخراج على المقاسمة، و أمّا الجزية فتطلق على المال المضروب على الرءوس.

الأمر الرابع: لا شك أنّه لا يجوز للسلطان الجائر أخذ الخراج و المقاسمة و لا يجوز له التصرّف في الأَراضي

و التراضي مع من هي في يده سواء كان التراضي بمال في ذمّه أم بجزء من حاصل الأرض، لأنّه غاصب لا ينفذ شي ء من عقوده و معاوضته، و مع ذلك كلّه فقد أنفذ الشارع تسهيلًا للأمر على الشيعة، أمرين:

الأوّل: براءة ذمة المشغولين بهذه الحقوق إذا أخذها الجائر و إن كان مقتضى القاعدة الأَوّلية بقاء الاشتغال لعدم وصولها إلى أهلها و عدم صرفها في مواضعها، و سيتّضح حال هذا البحث في الأمر الثاني.

الثاني: التصرّف في ما يأخذه الجائر باسم الصدقة و الخراج و المقاسمة إذا كان مستحلًا لذلك و صحة تملّكها بالمعاوضة و غيرها على الشهرة المحقّقة.

و قد نقل ذلك في «مفتاح الكرامة» عن «نهاية الشيخ» و «السرائر» و كتابي المحقّق و كتب العلّامة و الدروس و اللمعة و جامع المقاصد و كتابي الشهيد الثاني، و كفاية السبزواري، و مفاتيح الفيض قدس سرهم، غير أنّ عبارة الأصحاب مختلفة من حيث السعة و الضيق فعبارة النهاية و النافع و السرائر و المسالك، تعم الصدقة و الخراج، و الباقي يخص الجواز بزكاة الأنعام، و في «المقنع»: لا بأس بشراء الطعام من

______________________________

(1) الدر المنثور: 4/ 68، سورة الأنفال.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 912

السلطان.

و قد نقل الإجماع صاحب «جامع المقاصد» إذ قال فيه: ... إلا أنّ الإجماع من فقهاء الإمامية و الأخبار المتواترة عن أئمة الهدى (عليهم السلام)، دلّت على جواز أخذ أهل الحقّ لها عن

قول الجائر، تقصّياً من الحرج العظيم. ( «1») و أفرد في الموضوع رسالة اسماها «قاطعة اللجاج في حل الخراج».

و في «المسالك»: أذن أئمتنا (عليهم السلام) في تناوله منه، و أطبق عليه علماؤنا، و لا نعلم فيه مخالفاً و إن كان ظالماً في أخذه، و لاستلزام تركه و القول بتحريمه الضرر و الحرج العظيم على هذه الطائفة. ( «2»)

و لو ثبت أنّ الأئمة (عليهم السلام) أذنوا في ذلك لشيعتهم يكون تصرّف الجائر كتصرّف الفضولي، و إجازة الإمام (عليه السلام) كإذن المتولّي إذا انضم إليه.

نعم، خالف في ذلك العلمان الجليلان:

1. الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي (المتوفّى عام 984 ه-)، و قد كتب رسالة في ردّ رسالة «المحقّق الكركي» و أسماها: السراج الوهّاج في رد رسالة قاطعة اللجاج. ( «3»)

2. المحقّق أحمد الأردبيلي في شرحه على «الإرشاد».

و على كل تقدير فيدلّ على الجواز، بعد الشهرة و الإجماع المنقول، و الضرر العظيم و الحرج الشديد المرفوعين في الشريعة خصوصاً في الأعصار المتقدّمة بالنسبة إلى من لا يرى حقّاً للسلطان في تصدّي المقام، نصوصٌ نأتي ببعضها:

ما رواه الكليني بسند صحيح، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

______________________________

(1) جامع المقاصد: 4/ 45، كتاب المتاجر.

(2) المسالك: 3/ 142، كتاب التجارة.

(3) طبع في ضمن عدّة رسالات خراجية.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 913

سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة و غنم الصدقة و هو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم، قال: فقال: «ما الإبل إلا مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك، لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه»، قيل له: فما ترى في مصدِّق يجيئنا فيأخذ منّا صدقات أغنامنا، فنقول: بعناها فيبيعناها،

فما تقول في شرائها منه؟ فقال: «إن كان قد أخذها و عزلها فلا بأس». قيل له: فما ترى في الحنطة و الشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا، و يأخذ حظه فيعزله بكيل فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال: «إن كان قبضه بكيل و أنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل». ( «1»)

و محل الاستشهاد فيها فقرات:

منها قوله: «و هو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحق» و هو يدلّ على أنّ الجواز كان أمراً معروفاً بين الإمام (عليه السلام) و الراوي، غير أنّ السؤال لأجل العلم بظلم السلطان و أخذه أكثر من الحق بحيث لولاه لما كان هنا إشكال في الشراء منه.

منها قوله (عليه السلام): «إن كان قد أخذها و عزلها فلا بأس» و هو صريح في جواز الشراء عند تحقّق الشرطين: «الأخذ و العزل»، و لعلّ عدم الاكتفاء بالعزل لعدم تعيّن الصدقة به بل يحتاج إلى تحقّق الأمرين، و هذه العبارة لو تمّت دلالتها على لزوم الشرطين لدلّت على الجواز في خصوص ما أخذه الجائر، لا فيما إذا أحال الجائر على الزارع أخذ الخراج، و سيوافيك هذا الأمر في التنبيهات التي عقدها الشيخ (قدس سره).

و منها قوله (عليه السلام): «إن كان قبضه بكيل و أنتم حضور» و هو أيضاً صريح في

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 161، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 914

جواز شراء الصدقة و كفاية الكيل السابق. و الفقرتان الأُوليان راجعتان إلى الصدقة، و الأخيرة إلى المقاسمة بشهادة قوله: «و يجيئنا القاسم».

و قد أورد المحقّق الأردبيلي (قدس سره) على الاستدلال بوجوه:

1. يحتمل أن يكون السند غير صحيح، لاحتمال أن

يكون أبو عبيدة غير أبي عبيدة الحذاء المشهور:

أقول: إنّ المعنونين ب- «أبي عبيدة» لا يتجاوزون عن ثلاثة أشخاص:

أحدهم صحابي و هو «أبو عبيدة الجرّاح» و هو عامر بن الجرّاح بن بلال، و هو أحد العشرة المبشّرة بالجنّة عند العامّة، من السبّاقين في البيعة لأبي بكر في السقيفة.

و ثانيهم: قاسم، و هو أبو عبيدة المدائني، و هو قليل الرواية. ( «1»)

و ثالثهم: أبو عبيدة الحذّاء كثير الرواية، يروي عنه كثير من مشايخ الحديث، انتهى عددهم في معجم الرجال إلى 27 شيخاً، منهم: هشام بن سالم الوارد في سند الحديث، فالمراد منه هو الحذاء لا غير بقرينة رواية هشام عنه.

2. انّها لا تدلُّ على شراء الخراج و المقاسمة، إذ غايتها الدلالة على حكم الزكاة خاصّة، و على فرض العموم فهو مخصوص بالشراء، و لا يصح قياس جواز هبتها و سائر التصرّفات على الشراء.

يلاحظ عليه: أنّ الفقرة الثالثة صريحة في المقاسمة بقرينة قوله: «يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا». و أمّا عدم ورود غير الشراء فيه فيكفي في دفعه عدم القول بالفصل، مضافاً إلى أنّ ما يدلّ على جواز تملّك جوائز السلطان يدلّ على

______________________________

(1) يروي عنه عمرو بن سعيد، يروي الكليني عنه في الكافي، 1/ 46، كتاب الحجة، الباب 4 باب أنّ الأئمة (عليهم السلام) إذا شاءوا أن يعلموا علموا، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 915

جواز أخذ الخراج بغير الشراء أيضاً، فانّ جوائز السلطان كانت من الخراج غالباً.

3. انّه لا تدلّ إلا على جواز شراء ما كان حلالًا بل ما كان مشتبهاً، و عدم جواز شراء ما كان معروفاً أنّه حرام بعينه، و لا تدلّ على جواز شراء الزكاة بعينها صريحاً، نعم ظاهرها ذلك، لكن

لا ينبغي الحمل عليه لمنافاة العقل و النقل، و يمكن أن يكون سبب الإجمال منه فيه التقية.

يلاحظ عليه: أنّ السؤال عن إبل الصدقة و عنها و شرائها، فكيف يكون السؤال و الجواب مجملًا؟! و لا وجه للتقية بعد قول القائل: إنّهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم.

4. يحتمل أن يكون المصدّق من قبل العدل.

يلاحظ عليه: أنّه احتمال لا دليل عليه، و الظاهر أنّ المصدّق من جانب من يأخذ الأكثر من الحق الذي يجب عليهم، الذي ورد في الرواية.

5. يحتمل أن يكون الشراء للاستنقاذ لا المعاملة الحقيقية بأن كان متعلّقها الصدقات المشتركة.

يلاحظ عليه: أنّه خلاف الظاهر، و إن تمّ فلا يتم في سؤال الراوي، إذ قال (عليه السلام): «اشتر ما لم يعلم كونه حراماً»، فالحق دلالة الصحيحة على فتوى المشهور.

و هناك طائفة من الروايات تدل على جواز شراء ما في يد العامل:

1. ما رواه إسحاق بن عمّار قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل و هو يظلم، قال: «يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحداً». ( «1»)

و الظاهر أنّه يشتري ممّا هو عامل فيه لا ما هو غير عامل فيه كأملاكه

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 163، الباب 53 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 916

الشخصية فإنّه بعيد جداً.

2. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: سألته عن الرجل أ يشتري من العامل و هو يظلم؟ فقال: «يشتري منه». ( «1») و كيفية الدلالة فيها تتّحد مع ما سبق.

3. ما رواه ابن أبي عمير، عن محمد بن أبي حمزة، عن رجل قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم و يقول:

ظلمني، فقال: «اشتره». ( «2»)

فهذه الروايات تعرب عن أنَّ وجه السؤال هو ظلم العامل بحيث لو لا ظلمه و اكتفاؤه بالحق المضروب لما كان للسؤال وجه.

4. ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) و عنده إسماعيل ابنه، فقال: «ما يمنع ابن أبي السمال أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس، و يعطيهم ما يعطي الناس؟»، ثمّ قال لي: «لم تركت عطاءك؟» قال: مخافة على ديني، قال: «ما منع ابن أبي السمال أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً؟». ( «3»)

قال المحقّق الثاني (قدس سره): أنّه نصٌّ في الباب، لأنّه (عليه السلام) بيّن أنّ لا خوف للسائل على دينه إذا لم يأخذ إلا حقّه.

و أورد عليه الأردبيلي (قدس سره) بأنّه يمكن أن يكون من بيت المال ما يجوز أخذه و إعطاؤه للمستحقّين، مثل أن يكون منذوراً أو وصية لهم بأنّ يعطيه ابن أبي السمال، و لا يقاس عليه الخراج الذي أخذه الظالم باسم الخراج ظلماً.

و لا يخفى أنّ بيت المال منصرف إلى الأموال المجلوبة إليه من طريق

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 163، الباب 53 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 12/ 161، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

(3) الوسائل: 12/ 157، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 917

الزكوات و الخراج. و صرفها إلى غيرها خلاف الظاهر.

و هناك طائفة من الروايات وردت في تقبّل الأرض و أهلها من السلطان، و قد استدلّ بها الشيخ (قدس سره) و خفى على بعض الأعلام كيفية الاستدلال بها، و إليك الروايات:

1. ما رواه الحلبي عن أبي

عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال في القبالة: «أن تأتي الأرض الخربة فتقلبها من أهلها عشرين سنة، فإن كانت عامرة فيها علوج فلا يحل له قبالتها إلا أن يتقبل أرضها فيستأجرها من أهلها، و لا يدخل العلوج في شي ء من القبالة فانّ ذلك لا يحلّ- إلى أن قال- و قال: لا بأس أن يتقبل الأرض و أهلها من السلطان». ( «1»)

2. ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الرجل يتقبّل بجزية رءوس الرجال و بخراج النخل و الآجام و الطير و هو لا يدري لعلّه لا يكون من هذا شي ء أبداً أو يكون، أ يشتريه؟ و في أي زمان يشتريه و يتقبّل منه؟ قال: «إذا علمت أنّ من ذلك شيئاً واحداً انّه قد أدرك فاشتره و تقبّل به- منه-». ( «2»)

وجه الاستدلال بالروايات كما ذكره السيد المحقّق اليزدي (قدس سره) أنّ أخبار التقبّل على قسمين:

أحدهما: ما دلّ على جواز تقبّل الأرض من السلطان.

و الثاني: ما دلّ على جواز تقبل نفس الخراج.

و الذي ينفع للمقام هو القسم الثاني إذ الأوّل انّما يدلّ على صحة نفس تقبّل الأرض و بعد ذلك فالخراج يكون عليه، فليس حينئذ معاملة على الخراج قبل أخذ السلطان.

______________________________

(1) الوسائل: 13/ 213، الباب 18 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 12/ 264، الباب 12 من أبواب عقد البيع، الحديث: 4.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 918

و الحاصل: أنّ الحديثين يدلان بوضوح على أنّه يجوز للرجل أن يتقبّل جزية رءوس الرجال و خراج النخل و الآجام و الطير كما في الرواية الثانية، أو يتقبّل جزية أهلها كما في الرواية الأُولى.

و المراد هو الضرائب المضروبة عليهم من

جانب السلطان و هو دين عليهم للسلطان، و الرجل يتقبّل هذا الدين من السلطان و يدفعه إليه حتى يأخذه عنهم، و في النتيجة يكون متصرّفاً في الخراج بالمعنى الأعم- الشامل لجزية الرءوس و خراج النخل و الآجام و الطير- بإذن السلطان.

و بذلك يعلم أنّ ما استدلّ به الشيخ (قدس سره) بغير هذين الحديثين في هذا القسم من الروايتين غير تام، لأنّهما لا يدلان على أزيد من جواز تقبّل الأرض من السلطان و هو خارج عن محل البحث، و إليك متن الروايتين:

1. ما رواه الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): جعلت فداك ما تقول في أرض أتقبّلها من السلطان، ثمّ أؤاجرها أكرتي على أنّ ما أخرج اللّه منها من شي ء كان لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حق السلطان؟ قال: «لا بأس به كذلك أُعامل أكرتي». ( «1»)

2. ما رواه إسماعيل بن الفضل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا بأس أن تستأجر الأرض بدراهم و تزارع الناس على الثلث و الربع و أقلّ و أكثر إذا كنت لا تأخذ الرجل إلا بما أخرجت أرضك». ( «2»)

فانّ غاية ما فيهما هو أن يتقبّل الأرض من السلطان و يقبّلها من الآخر، فالسلطان يرجع إليه، و هو يرجع إلى الزارع.

______________________________

(1) الوسائل: 13/ 208، الباب 15 من أبواب أحكام المزارعة، الحديث: 3 و 1.

(2) الوسائل: 13/ 208، الباب 15 من أبواب أحكام المزارعة، الحديث: 3 و 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 919

ثمّ إنّ المحقّق الإيرواني ذكر للروايات توجيهاً آخر، حيث قال: إنّ هذه الأخبار لا دلالة لها بوجه على جواز أخذ ما قبضه السلطان بعنوان الخراج، بل و كذا تقبّل ما

استقرّ له في الذمم، بل و كذا لا دلالة فيها على جواز تقبّل الأرض منهم.

توضيح هذا: انّه بعد مفروغية أنّ السلطان آخذ لا محالة عن مستعمل الأراضي الضرائب، تخلو الأخبار عن الدلالة على صحة المعاملة معه، فانّ مساق هذه الأخبار هو السؤال عن أُمور أُخر لاعن جواز أصل التقبّل، بل جوازه فيها مفروغ عنه، و لعلّ جوازه لأجلّ أنّ السلطان يأخذ ما يأخذ البتة، و بعد ذلك كل مستعملي الأراضي يرضون لا محالة أن يتقدّم واحد و يضمن للسلطان ما هو آخذ منهم لا محالة، ثمّ هم يدفعون ما هو عليهم بهذا المتقبل، فانّ ذلك أمان لهم من جور الجائرين و اعتداء المأمورين، فهم يدفعون بطيب النفس لهذا، و هذا يدفع عنهم جزاءً لما صنع و أداء لحقّ الإحسان. ( «1»)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من التوجيه لا يناسب ظاهر الحديثين اللّذين اعتمدنا عليهما، بل يناسب بعض الروايات: كرواية إبراهيم بن ميمون قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قرية لأُناس من أهل الذمّة، لا أدري أصلها لهم أم لا، غير أنّها في أيديهم و عليها خراج، فاعتدى عليهم السلطان فطلبوا إليّ فاعطوني أرضهم و قريتهم على أن أكفيهم السلطان بما قلّ أو كثر، ففضل لي بعد ذلك فضل بعد ما قبض السلطان ما قبض؟ قال: «لا بأس بذلك، لك ما كان من فضل». ( «2»)

و رواية أبي الربيع قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) في الرجل يأتي أهل قرية و قد اعتدى عليهم السلطان فضعفوا عن القيام بخراجها و القرية في أيديهم و لا يدري

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الإيرواني: 66.

(2) الوسائل: 13/ 212، الباب 17 من أبواب أحكام المزارعة، الحديث: 2.

المواهب في

تحرير أحكام المكاسب، ص: 920

هي لهم أم لغيرهم فيها شي ء فيدفعونها إليه على أن يؤدّي خراجها فيأخذها منهم و يؤدّي خراجها و يفضل بعد ذلك شي ء كثير، فقال: «لا بأس بذلك إذا كان الشرط عليهم بذلك». ( «1»)

و ينبغي التنبيه على أُمور:
التنبيه الأوّل: قال الشيخ (قدس سره) إنّ ظاهر عبارات الأكثر، بل الكلّ، انّ الحكم مختص بما يأخذه السلطان

، فقبل أخذه للخراج لا يجوز المعاملة عليه بشراء ما في ذمّة مستعمل الأرض أو الحوالة عليه و نحو ذلك، و به صرح السيّد العميد في ما حكي عن شرحه للنافع، و لكن حكي الجواز عن شرح المحقّق الكركي (رحمه الله) و الشهيد على قواعد العلّامة.

و الظاهر هو الأعم ممّا أخذه أو ما قرّر أن يأخذه، و يدلّ على ذلك أمران:

الأوّل: ما مرّ من صحيحة الحلبي و صحيحة إسماعيل بن الفضل، و قد عرفت أنّ الرجل يعامل مع ما في ذمة متقبّل الأراضي و هو ممّا يأخذه السلطان في المستقبل لا ممّا أخذ.

الثاني: ما أفتى به المشهور من أنّ خراج الأشجار على مالك الأرض و الأشجار لا على المساقي، و لكن يصح أن يشترط أنّ الخراج على المساقي، فعند ذلك يعامل مالك الأرض و الأشجار ما في ذمّته و ينقله إلى المساقي.

نعم، يمكن الاستدلال- على اختصاص الجواز بما هو أخصّ- بما سمعت من رواية أبي عبيدة الحذّاء حيث قال: «إن كان قد أخذها و عزلها فلا بأس». ( «2»)

______________________________

(1) الوسائل: 13/ 212، الباب 17 من أبواب أحكام المزارعة، الحديث: 4.

(2) الوسائل: 12/ 161، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 921

و لكن الاستظهار ضعيف، لأنّ التعبير بالأخذ و العزل بصورة الماضي لأجل كون المشتري يريد أن يشتري نفس ماله الذي يدفعه بعنوان الصدقة و الخراج، فعند ذلك لا

مناص إلا أن يعزل و يؤخذ ثمّ يشتري، و إلا كان مشترياً لمال نفسه و هو باطل.

و على ذلك لا فرق في جواز التصرّف فيما من شأنه أن يأخذه السلطان بالمعاوضة و الهبة و غير ذلك.

التنبيه الثاني: قال الشيخ الأعظم (قدس سره) هل يختص حكم الخراج من حيث الخروج عن قاعدة كونه مالًا مغصوباً محرّماً

، بمن ينتقل إليه فلا استحقاق للجائر في أخذه أصلًا فلم يمض الشارع من هذه المعاملة إلا حلّ ذلك للمنتقل إليه، أو يكون الشارع قد أمضى سلطنة الجائر عليه فيكون منعه عنه أو عن بدله المعوض عنه في العقد معه حراماً؟

و حاصل هذا التنبيه تعيين حكم الأراضي الخراجية حال الغيبة، إذ لا شك أنّها ملك لجميع المسلمين، و أنّ أمر التصرّف فيها و في خراجها إلى الإمام (عليه السلام) و إنّما الإشكال في حكمها حال الغيبة، و اختلفت كلمات الأصحاب في ذلك و قد أنهاها السيد المحقّق الطباطبائي (قدس سره) إلى ثمانية ( «1»)، و إن كان بعضها احتمالًا لم يقل به أحد، و نذكر ما هو المهم من الأقوال:

القول الأوّل: لا يجوز التصرّف في الأراضي و لا في الخراج إلّا بإذن السلطان الجائر، فإنّه ولي هذا الأمر بعد غصبه للخلافة.

و ظاهر هذا القول حصر جواز التصرّف بإذن الحاكم الجائر و عدم كفاية غيره، سواء كان الحاكم الشرعي موجوداً أم لا، و كان الرجوع إليه ميسوراً أم لا،

______________________________

(1) حاشية السيد (قدس سره): 46.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 922

و هذا هو المنسوب إلى الشيخ علي بن هلال أحد أساتذة المحقّق الكركي و الشهيد الأوّل في الدروس و الشهيد الثاني في المسالك، و إن ناقش الشيخ الأعظم في صحة النسبة، و أوضح كلامهم ببعض القرائن الحافّة به، قائلًا بأنّ مرادهم من قولهم: إنّه لا يجوز لمن عليه الخراج سرقته

و لا جحوده و لا منعه و لا أخذ شي ء منه، لأنّ ذلك حق واجب عليه. هو أنّه لا يجوز منع الحصة مطلقاً بأن يتصرّف في الأرض من دون أُجرة، لأنّه ملك للمسلمين فلا بدَّ لها من أُجرة تصرف في مصالحهم ( «1»)، و مع ذلك كلّه فقد- نقل السيد الطباطبائي أنّه يظهر من الكفاية وجود القائل به، بل في الجواهر نقله عن مشايخه المعاصرين حيث قال: و من الغريب دعوى بعض مشايخنا المعاصرين اختصاص جواز الدفع في الخراج و نحوه بالجائر ملاحظة للتقية الزمانية، و أنّ الأصل عدم الإذن منهم (عليهم السلام) في الدفع إلى غيره، و لاقتصار النص في المقام و نظائره على بيان حكمه في يد الجائر. ( «2»)

و لا يخفى استهجان هذا القول.

القول الثاني: أنّه مع إمكان الاستئذان من السلطان الجائر لا يجوز التصرّف إلا بإذنه، و مع فقده أو عدم إمكان الرجوع إليه فإلى الحاكم الشرعي.

و كلا القولين لا يوافقان أُصول الشيعة القائلين بعدم مشروعية حكومة الجائرين و تصرّفاتهم، و معه كيف يمكن جعل الاستئذان منه أصلًا؟! و عدم لزوم الرجوع إلى الحاكم الشرعي مطلقاً كما هو مقتضى القول الأوّل، أو مع إمكان الاستئذان من الحاكم الجائر كما هو مقتضى القول الثاني لا يجتمع مع أُصول الشيعة.

القول الثالث: أنّ الأمر موكول إلى الحاكم الشرعي و مع عدمه أو عدم

______________________________

(1) المكاسب: 1/ 220.

(2) الجواهر: 22/ 195.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 923

إمكان الاستئذان منه فالأمر موكول إلى الجائر، و على هذا فكفاية إذن الحاكم الجائر منوط بعدم الحاكم الشرعي أو عدم إمكان التوصّل إليه.

و هذا القول هو الظاهر من صاحب المسالك، حيث فرّق بين باب الأنفال و المقام، فالتصرّف

في الأنفال جائز بلا لزوم الاستئذان من الحاكم الشرعي، بخلاف المقام، و وجه الفرق أنّهم (عليهم السلام) أذنوا لشيعتهم في التصرّف في الأنفال في حال الغيبة، لأنّ ذلك حقّهم فلهم التصرّف فيه مطلقاً، بخلاف المفتوحة عنوة فانّها للمسلمين قاطبة، و لم ينقل عنهم (عليهم السلام) الإذن في هذا النوع، و لأجل ذلك يجب الاستئذان في كلّ مورد عند الإمكان.

القول الرابع: عطف الأراضي الخراجية على الأنفال و أنّ الأمر أوّلًا إلى الحاكم الشرعي، لكنّهم (عليهم السلام) لمّا أمضوا تصرّف الجائر في المصالح الموجودة فلا يحتاج إلى الإذن من الحاكم الشرعي و إن أمكن.

و هذا هو الظاهر من بعض كلمات الشيخ، و لعلّ هذا القول مخصوص بما إذا بادر الجائر إلى التصرّف، و في هذا الموضع لا يحتاج إلى الاستئذان من الحاكم الشرعي و إن أمكن، و يُشبه المقام بباب تصرّف الفضولي و إجازة الولي له، و لعلّ هذا هو المستفاد من الأدلّة من حيث المجموع، لأنّ مقتضى القاعدة كون الأمر إلى الإمام (عليه السلام)، إلا أنّ المستفاد من بعض ما مرّ نفوذ تصرّف الجائر من باب إذن الإمام (عليه السلام) عموماً للشيعة المعاملين معه، و هذا يختص بما إذا بادر الجائر إلى التصرّف.

هذه هي الأقوال المهمة، و انّما المهم نقد القول الأوّل، فهناك روايات تدلّ على جواز امتناع دفع الخراج إلى الجائر، و هي لا تجتمع مع حصر جواز التصرّف بإذنه:

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 924

منها: ما رواه زرارة قال: اشترى ضريس بن عبد الملك و أخوه من هبيرة أُرزاً بثلاثمائة ألف، قال: فقلت له: ويلك أو ويحك انظر إلى خمس هذا المال، فابعث به إليه، و احتبس الباقي فأبى عليّ، قال: فأدّى المال

و قدم هؤلاء، فذهب أمر بني أُمية، قال: فقلت ذلك لأبي عبد اللّه (عليه السلام)، فقال مبادراً للجواب: «هو له هو له»، فقلت له: إنّه قد أدّاها، فعضَّ على اصبعه. ( «1»)

و قد اختلفت كلماتهم في تفسير الحديث، فحمله صاحب «الحدائق» على كون الأرز مالًا شخصياً للناصب، أعني: هبيرة أو بعض بني أُمية، فيكون دليلًا على حلّ مال الناصب بعد إخراج خمسه.

و لكن هذا الحكم غير مشهور بين الأصحاب فلا يصحّ حمل الرواية عليه.

و حمله الشيخ (قدس سره) على كون الأرز من مال المقاسمة، و أمّا التخميس فلاختلاطه أو احتمال اختلاطه بالحرام فوجب تخميسه أو استحب، و جعله أوضح المحامل. ( «2»)

فلو صحّ هذا الحمل لدلّ على جواز المنع من الحاكم الجائر، و معه كيف يمكن القول بانحصار جواز التصرّف بإذنه؟!

و منها: ما رواه علي بن يقطين قال لأبي الحسن (عليه السلام): ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال: «إن كنت لا بد فاعلًا فاتق أموال الشيعة»، قال: فأخبرني علي أنّه كان يجبيها من الشيعة علانية و يردّها عليهم في السر. ( «3»)

فإنّ ما أخذ يمكن أن يكون من باب المقاسمة و الخراج، فالأمر بالرد

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 161، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

(2) المكاسب: 74.

(3) الوسائل: 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 925

لا يجتمع مع الانحصار.

و لكن هذا الحمل ضعيف لاستلزامه جواز التصرّف في الأراضي الخراجية مجاناً بلا دفع شي ء لا إلى الإمام (عليه السلام) و لا إلى مصالح المسلمين، و يحتمل أن يكون ما يردّه من الوجوه المحرّمة.

و منها: ما رواه عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه (عليه

السلام) في الزكاة قال: «ما أخذوا منكم بنو أُمية فاحتسبوا به، و لا تعطوهم شيئاً ما استطعتم، فإنّ المال لا يبقى على هذا أن يزكّيه مرّتين». ( «1»)

و منها: ما رواه أبو أُسامة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): جعلت فداك إنّ هؤلاء المصدّقين يأتونا و يأخذون منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها أ تجزي عنّا؟ فقال: «لا، إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أو قال: ظلموكم أموالكم و انّما الصدقة لأهلها». ( «2»)

فإنّ تجويز المنع لا يجتمع مع القول بالانحصار.

و الذي يمكن في المقام هو قوّة القول الأخير، إذ القدر المتيقّن- ممّا ورد في باب جواز التصرّف فيما يأخذه الجائر باسم المقاسمة و الخراج- هو أنّه إذا بادر الجائر إلى التصرّف يكفي استئذانه، و كانت الأسئلة الواردة في هذه الروايات على هذا الأساس.

و منها: رواية أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة و غنم الصدقة، و هو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم، قال: فقال: «ما الإبل إلا مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك، لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه ...». ( «3»)

______________________________

(1) الوسائل: 6/ 174، الباب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 6/ 174، الباب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة، الحديث: 6.

(3) الوسائل: 12/ 161، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 926

و منها: ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) و عنده إسماعيل ابنه، فقال: «ما يمنع ابن أبي السمال أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس و يعطيهم ما

يعطي الناس؟» ثمّ قال لي: «لم تركت عطاءك؟» قال: مخافة على ديني، قال: «ما منع ابن أبي السمال أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً». ( «1»)

فالظاهر منها أنّ الحكومة الجائرة بادرت إلى التصرّف في الأراضي الخراجية و أخذ خراجها، ففي مثل ذلك أجاز الإمام (عليه السلام) الشراء، و أمّا عند عدم تسلّطها و مبادرتها إلى التصرّف في الأراضي مع إمكان الوصول إلى الحاكم الشرعي فالرجوع إليه متعيّن.

و منها: يظهر حكم مسألة أُخرى، و هو براءة ذمّة الدافع إذا دفع عند مبادرة الجائر، و تدلّ على ذلك رواية أبي عبيدة الحذاء، إذ لو لم يكن ما أخذ محتسباً على الزكاة لكان على الآخذ أن يردّه إلى صاحبه.

و تدلّ عليه رواية يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن العشور التي تؤخذ من الرجل، أ يحتسب بها من زكاته؟ قال: «نعم إن شاء». ( «2»)

و منها: ما رواه النوفلي، عن السكوني، عن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) قال: «ما أخذه منك العاشر فطرحه في كوزة فهو من زكاتك، و ما لم يطرح في الكوز فلا تحتسبه من زكاتك». ( «3»)

و منها: ما رواه عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الزكاة قال: «ما أخذوا منكم بنو أُمية فاحتسبوا به، و لا تعطوهم شيئاً ما استطعتم، فانّ المال

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 157، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

(2) الوسائل: 6/ 173، الباب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة، الحديث: 1 و 2.

(3) الوسائل: 6/ 173، الباب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة، الحديث: 1 و 2.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 927

لا يبقى على

هذا أن يزكّيه مرّتين». ( «1»)

و أمّا ما يعارضه من رواية أبي أُسامة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) جعلت فداك، إنّ هؤلاء المصدّقين يأتونا و يأخذون منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها أ تجزي عنّا؟ فقال: «لا إنّما هؤلاء قوم غصبوكم، أو قال ظلموكم أموالكم و انّما الصدقة لأهلها» ( «2») فمحمول على الاستحباب.

التنبيه الثالث: قال الشيخ الأعظم (قدس سره): إنّ ظاهر الأخبار و إطلاق الأصحاب حل الخراج و المقاسمة المأخوذين من الأراضي التي يعتقد الجائر كونها خراجية

و إن كانت عندنا من الأنفال و هو الذي يقتضيه نفي الحرج. ( «3»)

هذا التنبيه معقود لبيان أحكام الخراج إذا وضع على غير المفتوحة عنوة، و هو على أقسام:

1. وضع الخراج على أرض أسلم أهلها طوعاً.

2. وضع الخراج على الأراضي التي هي ملك للإمام (عليه السلام) من حيث إنّه شخص خاص، و مثله وضع الخراج على أملاك أشخاص آخرين.

3. وضع الخراج على الأراضي التي هي ملك للإمام (عليه السلام) بما هو إمام كالأنفال، و مثله وضعه على مجهول المالك، فقد عرفت أنّ الشيخ الأعظم استظهر أنّ ظاهر الأخبار حلُّ أخذ الخراج و المقاسمة المأخوذين من هذه الأراضي أخذاً بقاعدة نفي الحرج.

و الظاهر عدم وجود الإطلاق في الروايات و لا في كلمات الأصحاب فانّ

______________________________

(1) الوسائل: 6/ 173، الباب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة، الحديث: 3 و 6، و لاحظ 4 و 5 و 7 من هذا الباب.

(2) الوسائل: 6/ 173، الباب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة، الحديث: 3 و 6، و لاحظ 4 و 5 و 7 من هذا الباب.

(3) المكاسب: 1/ 224.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 928

الأخبار ليست بصدد البيان من تلك الناحية حتى يؤخذ بإطلاقها، بل هي بصدد بيان أنّه يتعامل مع السلطان الجائر معاملة العادل، و ظاهرها اختصاص هذا التنزيل فيما إذا كان أخذ الخراج مشروعاً

بالذات، لاما كان حراماً بالذات.

و بعبارة أُخرى: هدف الروايات تصحيح تصرّفات الجائر فيما يصحّ أن يتصرّف فيه العادل، لا تصحيح تصرفاته مطلقاً حتى فيما لا تصحّ فيه تصرّفات العادل، فأخذ الخراج من الأراضي المزبورة لا يصحّ للعادل فكيف من ينزل منزلته؟

و يقوى المنع فيما إذا كان المنع مذهب نفس الجائر نظير الأخذ من الأراضي الشخصية.

و إن شئت قلت: إنّ الإعطاء و الأخذ فيها إذا كانت الأرض خراجية واقعاً يصحّ توجيههما عن طريق التقيّة، فالدافع و الآخذ يتعاملان مع السلطان في هذه المجالات معاملة التقيّة، و هذا بخلاف ما إذا كانت الأرض غير خراجية حتى على مذهب السلطان نفسه.

و غاية ما يمكن أن يقال هو التفصيل في هذا القسم من الأراضي بين ما كان الآخذ موافقاً لمذهبه أي السلطان، و بين كونه مخالفاً له، فالأوّل كالأنفال حيث إنّ الجائر يعتقد بصحة الأخذ و التعامل فيها و لا يفرق بينها و بين المفتوحة عنوة، ففي مثل ذاك المورد يمكن إلحاقها بالأراضي الخراجية واقعاً، و يشعر بذلك ترك الاستفصال في الروايات مع كثرة الابتلاء فلا تجد استفصالًا لا في أخبار الجوائز، و لا في أخبار تقبّل الأرض من السلطان و دفعها إلى غيره، و لا في أخبار اشتراء الخراج من السلطان، فإنّ كثرة الابتلاء من جانب، و عدم الاستفصال في واحد من هذه الروايات من جانب آخر، يشرف الفقيه على الجزم بالصحة فيما

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 929

يعتقد الجائر صحة الأخذ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك.

و يؤيد ذلك عنوان المسألة في كلامهم ب- «ما يأخذه السلطان باسم الخراج و المقاسمة يجوز شراؤه أو المعاملة عليه» فإنّ ظاهره أنّه كذلك و إن لم يكن خراجاً

واقعياً شرعياً.

و يشعر بذلك ما في صحيحة أبي بصير، و محمد بن مسلم جميعاً، عن أبي جعفر (عليه السلام)، انّهما قالا له: هذه الأرض التي يزارع أهلها ما ترى فيها؟ فقال: «كل أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك ممّا أخرج اللّه منها الذي قاطعك عليه، و ليس على جميع ما أخرج اللّه منها العشر انّما عليك العشر فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك». ( «1»)

فإنّ ظاهر الرواية هو الإطلاق في ناحية الأرض مشروطاً بكونها ممّا دفعها إليه السلطان.

نعم، هي منصرفة عمّا إذا كان الخراج مخالفاً لمعتقده.

التنبيه الرابع: هل الحكم بجواز شراء ما في يد السلطان و قبول هبته يختص بالسلطان المدّعي للرئاسة العامّة

و تحقّقها له كالخلفاء قبل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) و من بعدهم كالخلفاء من بني العباس، أو تكفي سلطنته على قطر من الأقطار كالسلاجقة في إيران، و الأدارسة في المغرب، أو يكفي أدنى تحقّق سلطنة بالشخص و إن كان يعد خارجاً على حاكم الوقت؟

الظاهر أنّ المراد هو السلطان الذي خضعت له الأعناق و صار سلطاناً رسمياً حسب الظروف المختلفة، من دون فرق بين كونه مدّعياً للرئاسة العامّة و تحقّقها له أو كونه ذا رئاسة رسمية لقطر من الأقطار.

______________________________

(1) الوسائل: 6/ 129، الباب 7 من أبواب زكاة الغلات، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 930

نعم، لا يشمل الخارج على السلطان ما دام يعد عمله خروجاً، إلا إذا استقرّت سلطنته و صار من أصحاب السلطنة الرسمية.

ثمّ إنّ الحكم المزبور هل يختص بالسلطان المخالف المعتقد، لصلاحيته لذاك المقام و ما يتبعه من الأفعال فلا يعمّ المخالف غير المعتقد لصلاحيته و استحقاقه للمقام- و لا المؤمن- سواء كان معتقداً الصلاحية و هو النادر أم غير معتقد بها كما هو الشائع- و لا الكافر أو لا يختص؟ وجهان:

يرجّح الثاني بوجهين:

1. لزوم الحرج في القول بالاختصاص.

2. دعوى الإطلاق في بعض الروايات كما رواه الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال في القبالة: «أن تأتي الأرض الخربة فتقبلها من أهلها عشرين سنة، فإن كانت عامرة فيها علوج فلا يحلّ له قبالتها إلا أن يتقبل أرضها فيستأجرها من أهلها- الحديث». ( «1»)

و ما رواه حمّاد، عن أبي بصير و محمد بن مسلم جميعاً، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّهما قالا له: هذه الأرض التي يزارع أهلها ما ترى فيها؟ فقال: «كلّ أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك ممّا أخرج اللّه منها الذي قاطعك عليه، و ليس على جميع ما أخرج اللّه منها العشر، انّما عليك العشر فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك». ( «2»)

و الوجهان ضعيفان: أمّا الأوّل، فلما ذكره الشيخ (قدس سره) من لزوم الحرج على كل تقدير، لأنّ المفروض أنّ السلطان المؤمن يأخذ كثيراً من وجوه الظلم المحرّم

______________________________

(1) الوسائل: 13/ 213، الباب 18 من أبواب المزارعة، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 6/ 129، الباب 7 من أبواب زكاة الغلّات، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 931

منضماً إلى الخراج، و ليس الخراج عندهم ممتازاً عن سائر ما يأخذونه ظلماً من العشور و غيرها، فلا بدّ إمّا من الحكم بحل كلِّه لدفع الحرج، و إمّا من الحكم بكون ما في يد السلطان و عماله من الأموال المجهولة المالك.

و الأولى أن يقال: انّا لا نتصوّر الحرج في ترك المعاملة مع السلطان مطلقاً حتى في ما يأخذه من الأراضي الخراجية، و التحليل في هذا القسم لأجل التسهيل، لا لأنّ عدمه يستلزم الحرج.

و أمّا الآخر فلعدم الإطلاق، إذ ليست الروايات في مقام

البيان من تلك الجهة. أمّا رواية الحلبي ( «1») فهي مقام بيان جواز إدخال خراج الأهل و الرؤوس في تقبّل الأرض. و أمّا صحيحة محمد بن مسلم ( «2») فهي في مقام بيان أنّ الزكاة بعد دفع المقاسمة لا قبله.

و مثل ذلك كلُّ ما ورد من الروايات حول جواز شراء ما في يد السلطان فإنّها ناظرة إلى حيثية خاصّة و هي جواز الشراء مع العلم بأنّ العامل يأخذ الأكثر من الحق.

و استظهر الشيخ (قدس سره) عدم شمول كلمات الأصحاب للمقام لما في المنتهى في عنوان المسألة ب- «ما يأخذه السلطان لشبهة المقاسمة و الزكاة» و المراد من الشبهة، شبهة الاستحقاق و هي تختص بالمخالف المعتقد لذلك.

يلاحظ عليه: أنّ المسألة معنونة في بعض الكلمات باسم الخراج و المقاسمة لا «بشبهة المقاسمة» اللّهم إلا أن يُدّعى وحدة العنوانين معنى.

و بذلك يظهر أنّ ما فصّل به الشيخ (قدس سره) بين المخالف المعتقد و المخالف غير

______________________________

(1) الوسائل: 13/ 213، الباب 18 من أبواب المزارعة، الحديث: 3.

(2) الوسائل: 6/ 229، الباب 7 من أبواب زكاة الغلات، الحديث: 1.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 932

المعتقد قائلًا بالجواز في الأوّل لوجود شبهة الاستحقاق فيه و بالعدم في الثاني لعدمها فيه، غير تام.

و التحقيق هو انصراف الروايات إلى كل سلطان يأخذ الخراج باسمه، سواء كان مخالفاً أم موافقاً، مسلماً أم كافراً.

و أمّا من يأخذ باسم آخر فلا تنصرف إليه الروايات، و وجه التفصيل هو اختصاص الروايات بمن يأخذ باسم الخراج لا باسم آخر كما لا يخفى.

التنبيه الخامس: لا يعتبر في حل التصرّف في الخراج المأخوذ، أن يكون المأخوذ منه معتقداً لاستحقاق الآخذ للأخذ

، بل يعمّ المعتقد كالمخالف و غير المعتقد كالمؤمن، لورود بعض الروايات في مورد المؤمن غير المعتقد كرواية أبي عبيدة الحذاء و غيرها. ( «1»)

نعم

لو كان جواز التصرّف لأجل قاعدة الإلزام: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم» لصار للاختصاص وجه، لكن المستند هو الروايات التي تحقّق فيها الإطلاق من جانب الآخذ و المأخوذ منه.

التنبيه السادس: ليس للخراج قدر معيّن

، بل المناط فيه ما تراضى به السلطان و مستعمل الأرض، لأنّ الخراج هو أُجرة الأرض فيكون منوطاً برضى المؤجر و المستأجر.

نعم يجب أن لا تكون الأُجرة زائدة على قدر طاقة الزارع، فلو جعل أزيد من ذلك فلا يمضي، إذ ليس هو مالكاً حقيقياً حتى تتوقّف صحة المعاملة على رضاه بأيّ وجه حصل، بل هو لأجل ولايته على المسلمين، و لا ولاية له إلّا على القدر الذي فيه صلاح الزارع، و على ذلك فالإجارة زائدة على هذا القدر غير

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 161، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 933

نافذة إلا إذا رضي الزارع، و على ذلك فلو لم يرض الحاكم إلا بالقدر الزائد على الصلاح و عمل الزارع في الأرض اضطراراً لأجل أنّ ارتحاله عن القرية يعد أمراً حرجياً أو ضررياً، فليس عليه إلا أُجرة المثل.

كما أنّه إذا أجبره الحاكم على العمل بإجارة زائدة فعليه أُجرة المثل، كما هو شأن كل معاملة باطلة.

فإن قلت: إنّ المالك بإجباره قد أسقط احترام ماله فعليه لا يصحّ له أخذ الأُجرة مطلقاً.

قلت: إنّه إنّما يجري إذا كان المجبر مالكاً حقيقياً، و لكنّه في المقام أمين المالك و وليّه و لا يوجب إجباره ضرراً على المالكين الحقيقيّين.

ثمّ إنّ المحقّق الإيرواني (رحمه الله) حمل قول الإمام (عليه السلام)-: «على قدر طاقتهم»- على أنّه إشارة إلى سيرة الوالي و رفقه برعيته، و معلوم أنّ الوالي العادل لا يجحف في المعاملة، فتكون الرواية أجنبية

عن التعرّض لكيفية معاملات الجائر، فإن كان هناك إطلاق في إمضاء معاملات الجائر بحيث يشمل ما كان منها ضررياً قلنا به و لم يزاحمه دليل نفي الضرر إذا كان الضرر الوارد على الرعية وارداً عليهم بإقدامهم، لأنّهم علموا بأنّ المعاملة ضررية فأقدموا عليها. ( «1»)

و لا يخفى أنّ حمل الرواية على ما ذكر ليس بأظهر من حمله على بيان الكيفية و انّ هذا الشرط شرط لازم يجب مراعاته للوالي أيّاً من كان.

التنبيه السابع: هل يشترط في من يصل إليه الخراج، أو الزكاة من السلطان على وجه الهدية، أو يقطعه الأرض الخراجية إقطاعاً أن يكون مستحقاً له أو لا؟

اختار المحقّق الكركي (قدس سره) عدمه ناسباً له إلى إطلاق الأخبار و الأصحاب و ليس

______________________________

(1) تعليقة المحقّق الايرواني: 68.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 934

للمسألة حدود واضحة في كلمات الأصحاب حتى يمكن ادّعاء الاتّفاق فيها فنقول:

لا شك أنّه لا يشترط الاستحقاق في الموارد التي لا يعدّ الاستحقاق ملاكاً للجواز فيها كالموارد التالية:

1. شراء نفس الأرض إذا قلنا بذلك.

2. تقبّل الأرض في مقابل خراجه.

3. تقبّل خراج الرءوس و جزيتها.

4. شراء نفس الزكاة.

5. شراء الخراج و المقاسمة و المعاوضة عليها.

و قد دلّت الروايات على جواز التصرّف فيها تنزيلًا ليد الجائر منزلة يد العادل.

إنّما الكلام فيما إذا أعطاه الجائر شيئاً من الخراج على وجه الهبة و الصدقة، أو أقطعه الجائر، فهل يشترط الاستحقاق أو يكفي رضى الجائر؟ الظاهر هو الأوّل، أخذاً بقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في قطائع عثمان و هباته لغير المستحقّين، حيث خطب (عليه السلام) في اليوم الثاني من بيعته: و اللّهِ لو وجدتَه قد تُزوّج به النساءُ، و مُلِكَ به الإماءُ، لرددتُه، فانّ في العدلِ سعةً، و مَنْ ضاقَ عليه العدلُ، فالجورُ عليه أضيق. ( «1»)

و معنى قوله (عليه السلام): «و من ضاق عليه العدل» هو أنّ من عجز عن

تدبير أمره بالعدل فهو عن تدبيره بالجور أشد عجزاً، فانّ الجور مظنّة أن يصادم و يصد عنه.

______________________________

(1) نهج البلاغة: 57، الخطبة 15.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 935

و قال (عليه السلام): «ألا و إنّ كل قطيعة أقطعها عثمان، و كل مال أعطاه من مال اللّه، فهو مردود على بيت مال المسلمين، فإنّ الحق القديم لا يبطله شي ء». ( «1»)

و قد صار هذا الحكم سبباً لقيام العصاة ضد حكومته (عليه السلام) و أوردوا عليه ما أوردوا.

نعم يمكن أن يقال: انّها منصرفة إلى القطائع الكبيرة و الأموال الطائلة التي أحدثت كنوزاً عظيمة، لا الأموال الطفيفة المعطاة للعاديّين من الأشخاص و إن كانوا غير مستحقّين، و ذلك لإطلاق أدلّة حلّ جوائز السلطان من غير تفصيل بين المستحقّ و غيره كما سيأتي.

و يستأنس لأصل الحكم بما ورد في رواية الحضرمي: «ما منع ابن أبي السمال أن يبعث إليك بعطائك أما علم أنّ لك نصيباً من بيت المال». ( «2»)

و أشكل عليه الشيخ (قدس سره) بأنّه انّما يدلّ على أنّ كل من له نصيب في بيت المال يجوز له الأخذ، لا أنّ كلَّ من لا نصيب له لا يجوز أخذه، و حاصله: أنّ القيد بمنزلة الوصف و ليس له مفهوم. و لكن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية، و هو أنّ علّة الجواز هي كونه ذا نصيب و ينتفي بانتفائه.

و يدلّ على المقصود ما ورد في رواية عبد اللّه بن الفضل، عن أبيه في حديث أنّ الرشيد أمر بإحضار موسى بن جعفر (عليه السلام) يوماً فأكرمه و أتى بها بحقة الغالية، ففتحها بيده فغلفه بيده، ثمّ أمر أن يحمل بين يديه خلع و بدرتان دنانير، فقال موسى بن جعفر (عليه

السلام): «و اللّه لو لا أنّي أرى من أُزوّجه بها من عزّاب بني أبي طالب

______________________________

(1) نهج السعادة مستدرك نهج البلاغة: 1/ 186.

(2) الوسائل: 12/ 157، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 6.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 936

لئلا ينقطع نسله ما قبلتها أبدا». ( «1»)

نعم هناك إطلاقات في جوائز السلطان تدلّ بترك الاستفصال على الجواز مطلقاً، و نحن نشير إلى بعضها:

1. ما رواه أبو ولاد قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم، و أنا أمرّ به فأنزل عليه فيضيفني و يحسن إليَّ، و ربّما أمر لي بالدرهم و الكسوة و قد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي: «كل و خذ منه فلك المهنا و عليه الوزر». ( «2»)

2. ما رواه أبو المعزا قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) و أنا عنده فقال: أصلحك اللّه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدرهم آخذها؟ قال: «نعم»، قلت: و أحج بها؟ قال: «نعم». ( «3»)

3. يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) عن أبيه: «أنّ الحسن و الحسين (عليهما السلام) كانا يقبلان جوائز معاوية». ( «4»)

4. ما رواه محمد بن مسلم و زرارة قالا: سمعناه يقول: «جوائز العمال ليس بها بأس». ( «5»)

5. ما رواه أحمد بن محمد بن عيسى (في نوادره) عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لا بأس بجوائز السلطان». ( «6»)

و هذه الروايات و إن كانت قابلة للتخصيص بما دلّ على شرطية الاستحقاق، لكن يمكن التحفّظ على الإطلاق في الموارد التي لا تعد الهبة أمراً مجحفاً.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 159، الباب 51 من أبواب ما

يكتسب به، الحديث: 11 و 1.

(2) الوسائل: 12/ 159، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 11 و 1.

(3) الوسائل: 12/ 156، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 4 و 5 و 16. و يدلّ على ذلك الحديث 8 من هذا الباب.

(4) الوسائل: 12/ 156، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 4 و 5 و 16. و يدلّ على ذلك الحديث 8 من هذا الباب.

(5) الوسائل: 12/ 156، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 4 و 5 و 16. و يدلّ على ذلك الحديث 8 من هذا الباب.

(6) الوسائل: 12/ 156، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2 و 4 و 5 و 16. و يدلّ على ذلك الحديث 8 من هذا الباب.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 937

فالحق أنّ للخراج و المقاسمة موارد خاصّة، فأمر السلطان الجائر لا يحل الحرام، فمن حرم عليه التصرّف في الخراج فتحليله لا يصيره حلالًا.

و أقصى ما يستفاد من أدلّة ولاية الجائر أنّ تصرفاته ممضاة حيث يجوز التصرّف لا أنّها ممضاة حتى فيما لا يصح التصرّف فيه.

ثمّ إنّ الشيخ (قدس سره) جعل التصرف في الزكاة أشكل من التصرّف في الخراج، و لم يعلم له وجه، فانّ لكلّ من الزكاة و الخراج مصرفاً معيناً، فلو كان الاستحقاق شرطاً فهو شرط في كلا الموردين فلا يكون التصرّف في أحدهما أشكل من الآخر.

التنبيه الثامن: في تعريف الأراضي الخراجية:
اشارة

يشترط في اتّصافها بالخراجية أُمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: كونها مفتوحة عنوة
اشارة

، و هذا هو الشائع من بين الأراضي الخراجية، و لها أقسام أُخرى نشير إليها:

1. إذا صولحوا على أن تكون الأرض للمسلمين فتعد الأرض من الأراضي الخراجية.

2. إذا صولحوا على أن تكون الأرض للإمام (عليه السلام) فتكون الأرض من الأنفال.

3. إذا صولحوا على أن تكون الأرض لهم و لكن عليهم سهم من الثلث أو الربع أو غيرهما من حاصل الأرض بحيث تكون الجزية حقّاً للمسلمين في الأرض، و هذه أيضاً من الأراضي الخراجية.

و الخراج يتبع الأرض فلو انتقلت الأرض إلى غيرهم تتبعها الجزية و إن كان مسلماً، و إطلاق الجزية عليه توسّع، بل هو حق للمسلمين تعلّق بالأرض فمن تكون له اليد على الأرض يكون مسئولًا عن أداء الخراج.

4. إذا صولحوا على أن تكون الأرض لهم و عليهم الجزية من باب الرءوس،

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 938

فالأرض تكون ملكاً للمتصالح. و بذلك تقف على مفاد بعض الروايات:

1. صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)؛ و عن الساباطي، و عن زرارة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّهم سألوهما عن شراء أرض الدهاقين من أرض الجزية فقال: «إنّه إذا كان ذلك انتزعت منك أو تؤدي عنها ما عليها من الخراج» قال عمار: ثمّ أقبل علي فقال: «اشترها، فإنّ لك من الحق ما هو أكثر من ذلك». ( «1»)

2. و ما رواه محمد بن مسلم قال: سألته عن شراء أرضهم؟ فقال: «لا بأس أن تشتريها فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدّي فيها كما يؤدّون فيها». ( «2»)

3. و ما رواه أيضاً عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن شراء أرض أهل الذمّة، فقال: «لا بأس بها

فتكون إذا كان بمنزلتهم تؤدّي عنها كما يؤدّون- الحديث». ( «3»)

فهذه الروايات تدلُّ على أنّه يجوز بيع الأراضي الخراجية و شراؤها إذا قام المشتري بأداء الخراج، الظاهر أنّ هذه الروايات واردة في القسم الثالث على أن تكون الأرض لهم و عليهم الخراج من الأرض بالثلث أو الربع ففي مثل ذلك يصح البيع مع تعلّق حق المسلمين بها.

و بذلك تقف على عدم المنافاة بينها و بين ما دلّ على أنّ الأراضي الخراجية لا تصلح للشراء، نظير: رواية الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم، و لمن يدخل في الإسلام بعد

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 12/ 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع، الحديث: 7.

(3) الوسائل: 12/ 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع، الحديث: 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 939

اليوم، و لمن لم يخلق بعد»، فقلت: الشراء من الدهاقين؟ قال: «لا يصلح إلا أن تشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين، فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها» قلت: فإن أخذها منه قال: «يرد عليه رأس ماله، و له ما أكل من غلّتها بما عمل». ( «1»)

و ما رواه أبو الربيع الشامي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا تشتر من أرض السواد شيئاً إلا من كانت له ذمّة فانّما هو في ء للمسلمين». ( «2»)

نعم، الأراضي التي أسلم عليها أهلها طوعاً لا عنوة و لا صلحاً لا شي ء عليهم سوى الزكاة إذا بلغت ثمارها حد النصاب، و لكن إذا تركوا عمارتها فللإمام (عليه السلام) أن يقبِّلها ممّن يعمرها بما يراه من النصف أو

الثلث و إن لم تبلغ حد الموات. و مع ذلك فالرقبة لا تخرج من ملك صاحبها فعلى الإمام دفع الأُجرة لصاحبها و صرف ما زاد في مصالح المسلمين و لم يخالف في ذلك إلا الحلّي، و كأنّ وجه التجويز مطلوبية عمارة الأرض و كراهة تعطيلها.

و يدلّ على ذلك صحيحة سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها و يجري أنهارها و يعمرها و يزرعها ما ذا عليه؟ قال: «الصدقة»، قلت: فإن كان يعرف صاحبها، قال: «فليؤدّ إليه حقّه». ( «3») و بذلك يخصص ما دلّ على عدم جواز التصرّف في ملك الغير، كما أنّه يخصص ما دلّ على أنّ «من أحيا أرضاً فهي له» بحمله على غير ما كان ملكاً لمن أسلم طوعاً و ترك عمارة الأرض، و التفصيل موكول إلى محلّة.

______________________________

(1) الوسائل: 12/ 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع، الحديث: 4 و 5.

(2) الوسائل: 12/ 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع، الحديث: 4 و 5.

(3) الوسائل: 17/ 329، الباب 3 من أبواب إحياء الموات، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 940

الطرق إلى إثبات كون الأرض مفتوحة عنوة

لا شك في كفاية العلم و شهادة العدلين و الشياع المفيد للاطمئنان بناء على كفايته في كلّ ما تكفيه إقامة البيّنة عليه كالوقف و الملك المطلق. و الأقوى كفاية القول الواحد بناء على الاكتفاء به في الموضوعات عدا المرافعات و الهلال و أشباههما. انّما الكلام في كفاية الأُمور الأُخرى، و إليك بيانها:

1. قول المؤرّخين، بناء على أنّ قولهم في هذا المجال كقول اللغوي في مجال اللغة.

2. استمرار السيرة على أخذ الخراج من الأرض.

3. حمل فعل الجائر على الصحة.

أمّا الأوّل، فالمشهور عدم

حجية قولهم، و لذا قال الشيخ الأعظم (قدس سره): إنّ إثبات حجية أقوالهم دونه خرط القتاد، و لكن السلب الكلّي على خلاف الإنصاف فانّ يد التحريف و إن لعبت في التاريخ دوراً كبيراً فزينت المفسد و شوّهت المصلح، لكنّها غالباً لعبت في مجال السياسة و الحكم و الفضائل و المثالب و الأُمور الطائفية و القبيلية، و أمّا المسائل الأُخر فالظاهر عدم الداعي للتحريف إلّا خطأ و اشتباهاً، فلأجل ذلك لو تطابقت التواريخ أو أكثرها على أمر ربّما يحصل منه الاطمئنان و هو علم عرفي حجّة بلا شك فلو اتّفقت كلمة المؤرخين القدماء من الكلبي و اليعقوبي، و البلاذري، و ابن قتيبة، على كون بلدة معينة مفتوحة عنوة فيحصل طبعاً الاطمئنان بالمخبر به و ليس للفقيه الإعراض عن ذلك. ( «1»)

أمّا الثاني، فلو أُريد منه سيرة الجائر على الأخذ بها، أو سيرة المتعاملين مع

______________________________

(1) المكاسب: 1/ 230.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 941

الجائر فيما يأخذه معاملة الخراج فليس بشي ء، لأنّ الجائر يأخذ الخراج من الأراضي الخراجية و الأنفال و الأملاك الشخصية، كما أنّ معاملتهم مع ما يأخذه السلطان معاملة الخراج لا تنحصر بالأراضي الخراجية، بل تعم غيرها.

و لو أُريد منه سيرة المسلمين على أخذ الخراج من هذه الأراضي فهو جيّد.

و إن شئت قلت: إذا كان عليها يد المسلمين بشهادة يد الجائر عليها، فكون يد السلطان عادية لا يضر بيد المسلمين، غاية الأمر أنّ تصرّف الجائر و نيابته عن المسلمين عادية و لا يضر بثبوت يد المسلمين عليها، فإذا جرت سيرة المسلمين و ثبوت يدهم على الأرض فتعد خراجية، و إن كانت تعد تصرفات نائبهم عادية.

أضف إلى ذلك أنّه إذا اعترف الزارع أنّ الأرض خراجية

فيجب ترتيب الأثر عليه: «إذا لم ينكره باللسان».

و أمّا الثالث، فإن أُريد حمل فعل السلطان على الصحة فهو باطل، فانّ التمسّك بأصالة الصحة إنّما يصح إذا دار الأمر بين كونه صادراً على وجه الصحة أو الفساد، و أمّا إذا كان الصدور على كل تقدير فاسداً، فلا وجه للحمل على الصحة فإنّ الأرض لو كانت خراجية في الواقع فأخذه الخراج أيضاً حرام.

نعم بينهما فرق من حيث الحكم المتعلّق بفعل غير السلطان، و هو من يقع في يده شي ء من الخراج فيحل إذا كانت الأرض خراجية دون غيرها، و لكنّه أمر آخر لا يوجب صحة عمل السلطان.

فإن قلت: إنّ أخذه من الأراضي الخراجية أقلُّ فساداً من أخذه عن غيرها فيحمل على الأقل فساداً.

قلت: أجاب عنه الشيخ (قدس سره) بأنّ ذلك فيما إذا تعدّد العنوان، كما إذا دار

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 942

عمل الزاني بين كونه زناً عن إكراه أو عن رضاً، لا في مثل المقام فانّ مناط الحرمة في كلتا الصورتين واحد، و هو أخذ مال الغير من غير استحقاق. و لكن الأولى أن يقال إنّ وحدة العنوان و تعدّده انّما يؤثر إذا كان الفاعل معتقداً بذلك كما في المسألة المزبورة، لا في مثل المقام فإنّ الأراضي عنده ذات حكم واحد.

أضف إلى ذلك أنّ أصالة الصحة انّما تثبت بعض الآثار و هو جواز التصرّف فيما يأخذه السلطان، و أمّا كون الأرض خراجية يترتب عليه كل مالها من الآثار فلا يمكن أن يراد حمل فعل المسلمين على الصحة بادّعاء أنّ يد الجائر يد جهة لا يد ملكية.

الأمر الثاني: أن يكون الفتح بإذن الإمام (عليه السلام)

و إلا كان المفتوح من الأنفال: و المشهور بين الفقهاء في الغنائم المنقولة هو التفصيل بين المأخوذة بالإذن

و عدمه، فعلى الأوّل يخمس و الباقي للمقاتلين، نسب إلى الشيخين و المرتضى، و أتباعهم قدس سرهم، و في «التنقيح» نسبه إلى عمل الأصحاب، و في «الروضة» نفي الخلاف، و عن الحلبي الإجماع، و نقل الإجماع عن المحقّق في «المعتبر» و «النافع» و العلّامة في «المنتهى» و استجوده في «المدارك».

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، المواهب في تحرير أحكام المكاسب، در يك جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1424 ه ق المواهب في تحرير أحكام المكاسب؛ ص: 942

هذا كلّه حول المنقول من الغنائم، انّما الكلام في المقام في الأراضي، فهل يجري فيها هذا التفصيل أم لا؟ يظهر من المحقّق في «الشرائع» كون المفتوحة عنوة للمسلمين من غير فرق بين فتحها بالإذن و عدمه.

قال (قدس سره) في «الشرائع»: و الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين قاطبة، لا يملك أحد رقبتها و لا يصح بيعها و لا رهنها، و لو ماتت لم يصح إحياؤها، لأنّ المالك لها معروف و هو المسلمون قاطبة. ( «1»)

______________________________

(1) الشرائع: 3/ 271، كتاب إحياء الموات.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 943

و هذا هو الظاهر، لتضافر الروايات على أنّ الأراضي المفتوحة عنوة للمسلمين من غير تقييد بكونه بإذن الإمام (عليه السلام) كما في مرسلة حمّاد بن عيسى عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قال: «... و الأرضون التي أُخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها و يحييها، و يقوم عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحق (الخراج): النصف أو الثلث أو الثلثين على قدر ما يكون لهم صلاحاً و لا يضرّهم». ( «1»)

و نظير ذلك ما ورد في أراضي السواد التي هي أرض العراق

كرواية الحلبي قال: «سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم، و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، و لمن لم يخلق بعد» فقلت الشراء من الدهاقين؟ قال: «لا يصلح إلا أن تشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين، فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها»، قلت: فإن أخذها منه؟ قال: «يرد عليه رأس ماله و له ما أكل من غلّتها بما عمل». ( «2»)

و ما استدلّ به على التفصيل بين الإذن و عدمه منصرف إلى المنقول من الغنائم، كصحيحة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف يقسم؟ قال: «إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم، أخرج منها الخمس للّه و للرسول، و قسم بينهم ثلاثة أخماس؛ و إن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين، كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحب». ( «3»)

و مرسلة العباس الوراق، عن رجل سمّاه، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إذا

______________________________

(1) الوسائل: 11/ 85، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث: 2.

(2) الوسائل: 12/ 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع، الحديث: 4.

(3) الوسائل: 6/ 363، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 944

غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلّها للإمام، و إذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس». ( «1»)

على أنّ الظاهر من رواية معاوية بن وهب هو التفصيل بين المأخوذ عن قتال و المأخوذ عن غيره بحكم قوله (عليه السلام): «و إن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام يجعله حيث أحب» لا التفصيل بين

الإذن و عدمه.

توضيح ذلك: انّ الراوي فرض أنّ السرية يبعثها الإمام (عليه السلام) فيصيبون غنائم، ففي هذا الفرض فصّل الإمام (عليه السلام) بين ما لو قاتلوا و بين ما لو لم يقاتلوا، و ليست الرواية ناظرة إلى ما لو لم يكن هناك إذن أبداً.

ثمّ لو لم نقل بالانصراف و قلنا بالإطلاق، فالنسبة بينهما و بين ما دلّ على أنّ حكم الأرضين المفتوحة عنوة للمسلمين بلا تقييد بالإذن، عموم من وجه، فالأخير خاص لاختصاصه بالأرض المفتوحة عنوة، و عام بالنسبة إلى صورتي الإذن و عدمه، و الحديثان خاصّان لأجل التقييد بإذن الإمام (عليه السلام) و عامّان من حيث الأرض و عدمه، فيتعارضان في الأرض المفتوحة عنوة بغير إذن الإمام (عليه السلام) و يتساقطان، فيرجع إلى إطلاق الآية حيث تعدّ الغنائم ملكاً للمسلمين سوى الخمس، و لكن كون الخمس من الأراضي للإمام (عليه السلام) هو كون خراجها له، كما أنّ كون الباقي للمسلمين كذلك.

و قد أشار الشيخ (قدس سره) إلى ما ذكرناه في آخر كلامه فقال: إنّ عموم ما دلّ من الأخبار الكثيرة على تقييد الأرض المعدودة من الأنفال بكونها ممّا لا يوجف عليه بخيل و لا ركاب و على أنّ ما أُخذ بالسيف من الأرضين يصرف حاصلها في مصالح المسلمين، معارض بالعموم من وجه لمرسلة الورّاق، فيرجع إلى عموم قوله تعالى:

______________________________

(1) الوسائل: 6/ 369، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث: 16.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 945

(وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ) ( «1») فيكون الباقي للمسلمين، إذ ليس لمن قاتل شي ء من الأرضين نصّاً و إجماعاً.

و هنا احتمال آخر ذكرناه في كتاب الخمس عند البحث عن

اشتراط الإذن، حاصله: أنّ المراد من الإمام في مرسلة الورّاق أو صحيحة معاوية بن وهب ليس هو الإمام المعصوم (عليه السلام)، و لا الفقيه العادل، بل هو مطلق الحاكم على القطر الإسلامي، ففي مثل هذا المورد يفصّل بين الإذن و عدمه، فإذا كان القتال بإذنه يغنم المقاتلون سوى الخمس، و في غيره يكون للحاكم بما له من الحكم و الإمامة، و الهدف من هذا التفصيل هو التحفّظ على نظم المجتمع الإسلامي.

و بذلك يقع التصالح في كثير من الروايات التي استدلّ بها على عدم شرطية الإذن حتى في المنقول من الغنائم، و ذلك لأنّ عدم إذن المعصوم غير عدم الإذن المطلق و لو عن المدعي للحكومة، ففي الروايات التي تمسّك بها على عدم الإذن، الإذن موجود و لو عن مدّعي الحكومة، فلاحظ الروايات التالية:

1. ما رواه الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم و يكون معهم فيصيب غنيمة، قال: «يؤدّي خمساً و يطيب له». ( «2»)

2. و ما رواه علي بن مهزيار قال: كتب إليه أبو جعفر (عليه السلام): و قرأت أنا كتابه إليه في طريق مكة قال: «فالغنائم و الفوائد ... مثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله، و مثل مال يؤخذ و لا يعرف له صاحب، و ما صار إلى موالي من أموال الخرمية الفسقة فقد علمت أنّ أموالًا عظاماً صارت إلى قوم من موالي، فمن كان عنده شي ء من ذلك فليوصله إلى وكيلي، و من كان نائياً بعيد الشقة فليتعمد

______________________________

(1) الأنفال: 41.

(2) الوسائل: 6/ 340، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث: 8.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 946

لإيصاله و لو بعد حين، فإنّ

نيّة المؤمن خير من عمله، فأمّا الذي أوجب من الضياع و الغلّات في كل عام فهو نصف السدس ممّن كانت ضيعته تقوم بمئونته، و من كانت ضيعته لا تقوم بمئونته فليس عليه نصف سدس و لا غير ذلك». ( «1»)

و بما أنّ كلَّ الأراضي المفتوحة في زمن الخلفاء كان الغزو فيها صادراً عن إذنهم اكتفى الشارع بهذا الإذن و إن لم يكن هناك إذن من الإمام المعصوم (عليه السلام)، فلا بعد في أن يكتفي الإسلام- لمصالح اجتماعية- بإذن غير المعصوم و إن لم يكن فقيهاً عالماً، كما اكتفى به في المعاملة مع ما يأخذه الجائر.

و بذلك يستغنى عن كثير مما تمسّك به الشيخ (قدس سره) و غيره على إثبات وجود الرضى و الإذن من المعصومين (عليهم السلام) في الفتوحات الواقعة في زمانهم.

الأمر الثالث: ان يثبت كون الأرض المفتوحة عنوة بإذن الإمام (عليه السلام) محياة حال الفتح

. فإن كانت مواتاً كانت للإمام، و دليل هذا الاشتراط انصراف الروايات إلى المحياة.

و إن شئت قلت: الرواية منصرفة إلى أَموال الكفّار المغنومة و ليست الموات من أموالهم، بل من أموال الإمام (عليه السلام).

و يظهر من الشيخ (قدس سره) أنّ للإمام من الأرض المعمورة الخمس، و هو محلّ تأمّل لعدم ذكر منه في الأراضي الخراجية، و الآية منصرفة إلى ما يحويه العسكر، و كذا ما ورد من الروايات الدالّة على الخمس مثلها.

ثمّ إنّه إذا ماتت المحياة حال الفتح، فقد عرفت عن الشيخ (قدس سره) بقاءها على ملك المسلمين ناقلًا عدم الخلاف من السرائر أوّلًا، و لاختصاص أدلّة الموات بما

______________________________

(1) الوسائل: 6/ 350، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث: 5.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 947

إذا لم يجر عليه ملك مسلم دون ما عرف صاحبه.

و لكن الظاهر خلافه، و

انّها إذا خربت فالظاهر خروجها عن ملك المسلمين و دخولها في ملك الإمام (عليه السلام) كما هو الحال في سائر الأراضي المحياة غير الخراجية، لتحكيم الإطلاقات الواردة في باب الأنفال، و معها لا يصح استصحاب الملكية للمسلمين، و يؤيّد ذلك ما يدلّ على تملّك المحياة بعد ما كانت مسبوقة بملك الغير، و لكنّه تركها و صارت خربة، و إليك ما يدلّ على الحكم بإطلاقه:

1. ما رواه حفص بن البخترى، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، أو قوم أُعطوا بأيديهم، و كل أرض خربة، و بطون الأودية، فهو لرسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)، و هو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء». ( «1»)

2. مرسلة حمّاد بن عيسى، عن العبد الصالح (عليه السلام) في حديث قال: «و للإمام ... إلى أن قال: و له بعد الخمس الأنفال، و الأنفال كل أرض خربة باد أهلها ... و كل أرض ميتة لا ربّ لها». ( «2»)

3. ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه سمعه يقول: «إنّ الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم، أَو قوم صولحوا و أعطوا بأيديهم، و ما كان من أرض خربة، أو بطون أودية، فهذا كلّه من الفي ء و الأنفال للّه و للرسول، فما كان للّه فهو للرسول يضعه حيث يحب». ( «3»)

4. ما رواه معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «أيّما

______________________________

(1) الوسائل: 6/ 364، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 6/ 364، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث: 4.

(3) الوسائل: 6/ 367، الباب 1

من أبواب الأنفال، الحديث: 10.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 948

رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها و كرى أنهارها و عمرها فانّ عليه فيها الصدقة، فإن كانت أرض لرجل قبله فغاب عنها و تركها فأخربها، ثمّ جاء بعد يطلبها فانّ الأرض للّه و لمن عمرها». ( «1»)

و هناك ما يخالفه بعض الروايات مثل ما رواه سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها و يجري أنهارها و يعمرها و يزرعها ما ذا عليه؟ قال: «الصدقة»، قلت: «فإن كان يعرف صاحبها، قال: «فليؤدّ إليه حقّه». ( «2»)

ثمّ إنّه يثبت كونها محياة حال الفتح بما يثبت به كونها مفتوحة عنوة، و قد سبق الكلام فيه.

و لو شك في كونها محياة حال الفتح أم لا، فهل تكفي أصالة عدم كونها محياة حال الفتح أو لا؟

و حاصل الكلام: أنّ الأراضي المفتوحة عنوة المحياة فعلًا- غير المعلوم كونها محياة حال الفتح أم لا- على أقسام:

1. ان تكون في يد مدع للملكية حكم بها له، و يستكشف كونها مواتاً حال الفتح.

2. ما لا يد لمدّعي الملكية عليها، فهي مردّدة بين أُمور:

الف. كونها محياة حال الفتح أيضاً فتصير ملكاً للمسلمين.

ب. كونها مالًا للإمام (عليه السلام) لاحتمال كونها تركة من لا وارث له.

ج. كونها ملكاً لشخص آخر مجهول لا نعرفه، ففي مثل ذلك يحتمل القرعة

______________________________

(1) الوسائل: 17/ 328، الباب 3 من أبواب إحياء الموات، الحديث: 1.

(2) الوسائل: 17/ 328، الباب 3 من أبواب إحياء الموات، الحديث: 3.

المواهب في تحرير أحكام المكاسب، ص: 949

لتعيين واحد من المحتملات، أو تصرف في مصرف مشترك بين المحتملات كفقير يستحق الأنفال لقيامه ببعض مصالح المسلمين.

*** بلغ الكلام إلى

هنا عشية يوم الجمعة، ثاني شهر صفر المظفر من شهور عام

1407 من الهجرة النبوية «على مهاجرها و آله الصلاة و السلام»

نشكره سبحانه على توفيقه لتسويد هذا السفر الجليل و تبييضه

و ندعو اللّه سبحانه للمزيد من التوفيق لنشر كل ما أفاده

شيخنا الأُستاذ- دام ظله الوارف- في الأحوال

الشخصية أعني النكاح و الطلاق و الميراث،

و كم لشيخنا الأُستاذ من حقّ كبير على

الجيل الحاضر في مختلف الحقول

نسأل اللّه سبحانه أن يحفظه

و يطيل عمره بمنّه

و كرمه، إنّه خير

مجيب.

سيف اللّه اليعقوبي الاصفهاني القمشئي

قم- الحوزة العلمية

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.