سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -
عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح
عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.
مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.
مشخصات ظاهری:41ج.
شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9
وضعیت فهرست نویسی:فیپا
يادداشت:عربی.
يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -
يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.
يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.
یادداشت:کتابنامه .
یادداشت:نمایه.
مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.
موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر
موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.
شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده
شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح
رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392
رده بندی دیویی:297/342
شماره کتابشناسی ملی:3334286
ص: 1
فقه الصادق
تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
ص: 4
(و) القسم الثالث: في (كيفيّتها):
وهي (أن يكبّر بعد النيّة) التي لا شبهة في وجوبها فيها، لكونها من العبادات (خَمْساً) إجماعاً. حيث حكاه غير واحدٍ من الأساطين(1).
وتشهد له: نصوصٌ مستفيضةٌ إنْ لم تكن متواترة:
منها: صحيح أبي ولّاد: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن التكبير علي الميّت ؟ فقال عليه السلام: خَمْساً»(2).
ومنها: صحيح إسماعيل بن سعد الأشعري، عن مولانا الرضا عليه السلام، قال: «سألته عن الصَّلاة على الميّت ؟ فقال عليه السلام: أمّا المؤمن فخمسُ تكبيرات، وأمّا المنافق فأربع، ولا سلام فيها»(3).
ونحوهما غيرهما(4).
ومنها: التعليل الوارد في خبر أبي بصير: بأنّه أُخذ فيها من كلٍّ من الدعائم التي بُني عليها الإسلام، وهي: الصَّلاة، والزكاة، الصوم، الحج، والولاية تكبيرة(5).
ومنها: التعليل الوارد في صحيح ابن سنان بأنّه أُخذ من كلّ من الصلوات
ص: 5
بينها أربَعةُ أدعية.
الخمس تكبيرة(1).
وأمّا ما هو مذكورٌ في أخبار جابر، والحسن بن زيد، وعُقبة: «من أنّه ليس في التكبيرة شيءٌ مؤقّت»(2)، فمطروحٌ أو مأوّل.
(بينها) أي بين التكبيرات الخَمس (أربعة أدعية)، كما هو المشهور(3).
وعن ظاهر «الخلاف»(4)، وصريح «الغنية»(5)، و «الذكرى»(6): دعوى الإجماع عليه.
وتشهد له:
1 - الأخبار الكثيرة الواردة في بيان كيفيّة هذه الصَّلاة(7)، الآمرة بالدّعاء قولاً وفعلاً.
2 - وخبر أبي بصير، قال: «كنتُ عند أبي عبد اللّه عليه السلام جالساً، فدخل رجلٌ فسأله عن التكبير على الجنازة ؟ فقال عليه السلام: خَمسُ تكبيرات.
ثمّ دخل آخر فَسأله عن الصَّلاة على الجنازة ؟ فقال عليه السلام: أربعُ صلوات.
فقال الأوّل: جُعلتُ فداك! سألتُكَ فقلت خَمْساً، وسألكَ هذا فقلتَ أربعاً؟).
ص: 6
فقال عليه السلام: إنّك سألتني عن التكبير، وسألني هذا عن الصَّلاة، ثمّ قال عليه السلام: إنّها خَمسُ تكبيرات بينهن أربعُ صلوات»(1).
ويؤيّده: إطلاق الصَّلاة عليها، فإنّ المستفاد من النصوص أنّ ذلك إنّما يكون لأجل اشتمالها على الدُّعاء الذي هو معناها اللّغوي.
قال صاحب «الشرائع»(2): (الدُّعاء بينهن غير لازم)، واستدلّ له:
1 - بالأصل.
2 - وبما دلَّ علي أنّها خمس تكبيرات، الظاهر في أنّها تمام ماهيّة هذه الصَّلاة.
3 - وباختلاف النصوص في كيفيّة الدُّعاء، الذي هو من شواهد عدم اللّزوم.
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّه لا مجال للرجوع إليه مع الدليل.
وأمّا الثاني: فلأنّه لا مفهوم له، كي يدلّ على عدم وجوب شيءٍ آخر عدا التكبيرات. مع أنّه لو سُلّم كونه دالّاً على ذلك، يتعيّن تقيّده بما دلَّ على وجوب الأدعية.
وأمّا الثالث: فلأنّ الاختلاف من شواهد عدم وجوب دعاءٍ خاصّ ، لا عدم وجوب أصل الدُّعاء.
وعليه، فالأظهر وجوب الأدعية.
وأمّا كيفيّتها: فقد صرّح جماعةٌ من الأساطين(3) بوجوب الشهادتين بعد التكبيرة الأولى ، والصَّلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله بعد الثانية، والدُّعاء للمؤمنين بعد الثالثة،6.
ص: 7
وللميّت بعد الرابعة.
بل عن الشهيد(1) والمحقّق الثاني(2): نسبته إلى المشهور.
وعن الشيخ(3): دعوى الإجماع عليه.
وفي المتن(4) وعن «المختلف»(5) و «المدارك»(6) وغيرها(7): عدم لزوم ذلك، ونُسِب هذا القول إلى الأكثر.
واستدلّ للأوّل: بما رواه محمّد بن مهاجر، عن اُمّه، عن أُمّ سَلَمة، قالت: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: كانَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله إذا صَلّى على ميّتٍ كبّر وتشهّد، ثُمّ كبّر وصَلّى على الأنبياء ودَعا، ثمّ كبّر ودعا للمؤمنين، ثمّ كبّر الرابعة ودَعا للميّت، ثمّ كبّر الخامسة وانصرف».
وعن الصدوق روايته في «العلل» إلّا أنّه قال: «ثمّ كبّر وصَلّى على النبيّ » صلى الله عليه و آله(8).
وأُورد عليه بأمرين:
أحدهما: أنّه نقلُ فعلٍ لا إشعار بتعيّنه، فضلاً عن الدلالة عليه.
الثاني: أنّه متضمّنٌ للتشهّد بعد الأُولى ، والصَّلاة على الأنبياء بعد الثانية، والمُدّعى تعيّن الشهادتين بعد الأُولى ، والصَّلاة على النبيّ بعد الثانية.
ولكن يمكن دفع الأوّل: بأنّ ظاهر نقل المعصوم عليه السلام فعل النبيّ صلى الله عليه و آله تعيّنه لا سيّما3.
ص: 8
مع نقل مداومته عليه في مقام بيان الحكم.
ودفع الثاني: بأنّ المراد بالتشهّد الشهادتان، والصَّلاة على الأنبياء في ذاتها متضمّنة للصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله بالضرورة.
فالصحيح أن يورد عليه: بأنّه معارضٌ مع سائر نصوص الباب الصريحة أو الظاهرة في عدم تعيّن ذلك:
ففي خبر عليّ بن سُويد الأمر بقراءة أُمّ الكتاب بعد الأُولى(1).
وفي خبر إسماعيل بن همام: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله حَمَد اللّه تعالى ، ومجّده في التكبيرة الأُولى»(2).
والمذكور في صحيح أبي ولّاد، الجمعُ بين الشهادة للّه بالوحدانيّة، والصَّلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله، والدُّعاء للميّت في جميعها، وترك الشهادة بالرسالة والدُّعاء للمؤمنين في جميعها(3).
وأيضاً المذكور في مصحّح زرارة، ترك الشهادتين معاً(4).
كما جُمع في موثّق سماعة بين الشهادة بالوحدانيّة، والصَّلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله، والدُّعاء للمؤمنين بعد التكبيرة الأُولى ، والدُّعاء للميّت وللمؤمنين بعد الثلاث الآخر بعدها(3).
وأيضاً ورد في صحيح الحلبي الجمعُ بين الشهادتين، والصَّلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله، والدُّعاء للمؤمنين وللميّت بعد كلّ تكبيرةٍ من التكبيرات(4).3.
ص: 9
وفي غيرها غير ذلك، وبالتالي فيتعيّن التصرّف فيه بحمله على الاستحباب.
أقول: ثمّ إنّ هذه النصوص متّفقة في اعتبار الدُّعاء للميّت في بعض التكبيرات، ومختلفة في اعتبار غيره، والجمع بين النصوص يقتضي الالتزام بعدم اعتبار دعاءٍ موقّت، سوى الدُّعاء للميّت.
نعم، ما نُسِب إلى المشهور هو الأفضل والأحوط، وأحوط منه الإتيان بذلك كلّه بين كلّ تكبيرتين، مع أنّه أفضل.
هذا كلّه في المؤمن.
وأمّا إنْ كان الميّت منافقاً: - والمراد به في المقام بقرينة مقابلته بالمؤمن، وتصريح القوم بعدم وجوب الصَّلاة على مَنْ حُكِم بكفره من المخالفين للحقّ ، هو الأعمّ من المخالف، ومن كان مُظْهِراً للإسلام، مُبْطِناً للكفر - اقتصر المُصلّي على جنازته بأربع تكبيرات.
وتشهد له في المخالف، قاعدة الإلزام، وفي المُظهِر للإسلام المُبطِن للكفر جملةٌ من النصوص المتضمّنة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يُكبِّر على المؤمنين خَمْساً، وعلى أهل النفاق أربعاً(1).
وبالجملة: وبما ذكرناه في وجه ما اُريد بالمنافق في المقام، يظهر أنّه يدلّ على هذا الحكم فيهما صحيح إسماعيل بن سعد الأشعري، عن الإمام الرضا عليه السلام، قال:
«سألته عن الصَّلاة على الميّت ؟ فقال عليه السلام: أمّا المؤمن فخمسُ تكبيرات، وأمّا المنافق فأربع»(2).
وبما أنّه لاينحصر موضع الدُّعاء للميّت أو عليه بما بعد الرابعة، فلا ينافي هذه0.
ص: 10
وأفضلها أن يُكبِّر ويتشهّد الشهادتين، ثمّ يُصلّي على النبيّ وآله بعد الثانية، ثمّ يَدعو للمؤمنين بعد الثالثة، ثمّ يَدعو للميّت إنْ كان مؤمناً، وعليه إنْ كان منافقاً، وبدعاء المستضعفين إنْ كان منهم في الرابعة، وإنْ كان طفلاً سأل اللّه تعالى أنْ يجعل له ولأبويه فَرطاً، وإنْ لم يعرفه سأل اللّه أنْ يحشُره مع مَنْ كانَ يتولّاه، ثمّ يُكبِّر الخامسة وينصرف بعد رفع الجنازة.
النصوص ما تضمّن أنّه يَدّعي عليه في الصَّلاة، بل ظاهر خبر عامر بن السَّمط، وقوع الدُّعاء عليه من الحسين بن عليّ عليهما السلام بعد الأُولى (1).
مع أنّه لو سُلّم أنّ الدُّعاء للميّت أو عليه يكون محلّه بعد التكبيرة الرابعة - الذي نُسِب إلى ظاهر الأصحاب الاتّفاق عليه(2) - لا يكون ذلك منافياً لما ذكرناه، إذ ما دلَّ على أنّه ينصرف بعد التكبيرة الأخيرة، يختصّ بالصلاة على المؤمن، الّتي يجب فيها خمسُ تكبيراتٍ ، كما لا يخفى، وما تضمّن أنّه صلى الله عليه و آله انصرف بعد الرابعة خالٍ عن ذكر الدُّعاء عليه، والشاهد على ذلك خبر ابن مهاجر المتقدّم(3).
ثمّ إنّ النصوص كما تضمّنت الدُّعاء للميّت إذا كان مؤمناً، وعليه إنْ كان منافقاً، كذلك تضمّن بعضها أنّه يدعو بدعاء المستضعفين إنْ كان الميّت منهم، وإنْ جهله سأل اللّه أن يَحشُره مع من كان يتولّاه، وإنْ كان طفلاً سأل اللّه أن يجعل له ولأبويه فَرطاً، كما يظهر لمن راجع نصوص الباب.
وأيضاً: يستحبّ أن لا ينصرف المصلّي إلّابعد رفع الجنازة، لخبر حفصٍ ، عن1.
ص: 11
ولا قِراءة فيها ولا تَسْليم، ويستحبُّ فيها الطهارة وليستْ شَرطاً.
جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كان إذا صلّى على جنازةٍ لم يبرح من مصلّاه حتّى يراها على أيدي الرجال»(1).
وفي خبر يونس: «ولا يبرح حتّى يُحمل السرير»(2).
فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ ما ذكره المصنّف رحمه الله بقوله تامٌّ لا إشكال فيه إلّامن جهة التزامه بأنّه يكبّر على المنافق خَمساً. فتدبّر.
ولا خلاف في أنّه (لا قراءة فيها) أي في هذه الصَّلاة (ولا تَسليم). والنصوص شاهدةٌ به(3).
وما دلَّ على أنّه يُسلِّم بعد الخامسة(4) مطروحٌ .
وأمّا ما دلَّ على أنّه يقرأ بفاتحة الكتاب(5)، فالجمع بينه وبين ما صرّح فيه بأنّه قراءة فيها، يقتضي الالتزام بأنّه قراءةٌ فيها من حيث كونها قراءة، لا من حيث أنّها من مصاديق الثناء والدُّعاء، بل من أفضلها.
(ويُستَحبُّ فيها الطهارة، وليستْ شرطاً) بلا خلافٍ فيهما.
ويشهد لهما: خبر عبد الحميد بن سعيد، قال:
«قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: الجنازة يخرج بها ولستُ على وضوء، فإن ذهبت أتوضّأ فاتتني الصَّلاة، اُصلّي عليها وأنا على غير وضوء؟).
ص: 12
فقال: تكون على طُهرٍ أحبّ »(1).
وتشهد للثاني: نصوصٌ كثيرة:
منها: موثّق يونس، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الجنازة اُصلّي عليها على غير وضوء؟
فقال عليه السلام: نعم، إنّما هو تكبيرٌ وتسبيحٌ وتحميدٌ وتهليلٌ ، كما تُكبِّر وتسبِّح في بيتك على غير وضوء»(2). ونحوه غيره(3).
***).
ص: 13
اشتراط بلوغ المصلّي
غير ما تقدّم من الواجبة والمسنونة، وما يُكره فيها وبعض أحكامها. والكلامُ فيها يقع من خلال (مسائل):
أقول: وقبل التعرّض لها، لابدَّ من البحث فيما تنطوي عليها كلماتهم.
قالوا: يعتبر في المصلّي البلوغ، بمعنى أنّه لو صلّى الصَّبي، لا تُجزي صلاته عن البالغين، حتّى بناءً على شرعيّة عبادات الصبي، كما صرّح به غير واحدٍ، منهم صاحب «الجواهر»(1)، وكاشف الغطاء(2)، وعلّلوه بعدم معلوميّة إجزاء النَّدب عن الواجب، فيتعيّن الرجوع إلى قاعدة الإشتغال.
وتوضيحه: أنّه وإنْ سلّمنا شرعيّة عبادات الصّبي كما قوّيناها في محلّها، إلّاأنّ الإجزاء يتوقّف على إحراز كون ما يأتي به الصبي فرداً من أفراد الطبيعة المأمور بها، والتي تكون واجبة على البالغين، والاختلاف إنّما يكون من جهة أنّ الصبي يجوز له ترك الواجبات لقصورٍ فيه، لا كون ما يأتي به غير ما يأتي به سائر الأفراد.
وبعبارة اُخرى: إجزاء صلاته يتوقّف على إحراز ما يأتي به الصبي بجميع ما تفي به صلاة البالغين من المصلحة، وإلّا فلا وجه للإجزاء كما لا يخفى ، وحيث أنّ إحراز ذلك من أدلّة شرعيّة عبادات الصبي في غاية الإشكال، لما حقّقناه في محلّه من أنّ دليلها ليس هو إطلاق أدلّة شرعيّة العبادات - بدعوى أنّ حديث (رفع القلم) إنّما ينفي اللّزوم لا أصل التكليف - بل هي الأدلّة الدالّة على أمر الأولياء صبيانهم
ص: 14
بالصلاة(1)، وغيرها من العبادات، بضميمة ما ثبت في محلّه من أنّ الأمر بالأمر بشيء، أمرٌ بذلك الشيء إذا لم يكن الغرض حاصلاً بمجرّد الأمر كما في المقام. وتلك الأدلّة وإنْ اختصّت ببعض العبادات، إلّاأنّه بعد إلغاء الخصوصيّة، يثبُت الحكم في جميع الموارد، فالشكّ في الإجزاء شكٌّ في اشتراط الخطاب المتوجّه إلى البالغين وعدمه، وإطلاق الخطاب لو كان ينفيه، وإلّا فبما أنّه يرجع إلى الشكّ في الامتثال بعد القطع بالاشتغال، فالمرجع فيه هو الاحتياط دون البراءة.
فتحصّل: أنّ الأظهر عدم الإكتفاء بصلاته.
أقول: ثمّ إنّه على فرض الإجزاء، لو عُلم بوقوعها منه صحيحة جامعة لشروط الصحّة لا إشكال، وأمّا لو شكّ في ذلك، فهل يُجتزي بها أم لا؟ وجهان.
لا يبعد الثاني، لعدم الإطلاق لما دلَّ على جريان قاعدة الصحّة في فعل الغير، في صورة الشكّ ، بنحوٍ يشمل فعل غير البالغ.
وعليه، فالأحوط البناء على العدم.
***).
ص: 15
المسألة (الأُولى: لا يُصلّى عليه إلّابعد تغسيله وتكفينه) بلا خلافٍ .
بل في «المدارك»(1): هذا قول العلماء كافّة.
واستدلّ له في «المدارك»: بأنّه فعل النبيّ صلى الله عليه و آله وكذا الصحابة والتابعون، فيكون الإتيان بخلافه تشريعاً محرّماً.
أقول: وهذا بظاهره واضح الجواب، إذ الفعل غير الصادر لبيان الحكم مجملٌ الوجه، فلا يصلح أن يقيّد به إطلاق الأدلّة.
اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ مراده الاستدلال بالسيرة المستمرّة إلى زمان المعصومين، وأنّها ثابتة بهذه الكيفيّة المعهودة - أي الواقعة بعدهما - ومتلقّاة من صاحب الشرع، وهذا الوجه هي العمدة فيه.
وأمّا الاستدلال له: بعطف الصَّلاة بالواو على الغُسل والتكفين في جملةٍ من النصوص، كخبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام:
«عن الرّجل يأكله السَّبع أو الطير، فتبقى عظامه بغير لحمٍ ، كيف يُصنع به ؟
قال عليه السلام: يُغسّل ويُكفّن ويُصلّى عليه ويُدفن»(2). ونحوه غيره(3).
فهو غير تامّ : إذ العطف بالواو لا يدلّ إلّاعلى مشاركة ما بعدها لما قبلها في
ص: 16
الحكم، ولا يدلّ على اعتبار الترتيب.
ونحوه التمسّك بأصالة الاشتغال، بدعوى أنّها المرجع عند الشكّ في اعتبار شيء في المأمور به مطلقاً، كما عن جماعةٍ ، أو فيما نحن فيه الذي تعلّق الشكّ أوّلاً وبالذات بأنّ الصَّلاة على الميّت هل هي مشروعة قبل الغُسل أو التكفين، أم تختصّ مشروعيّتها بما بعدهما، كما عن المحقّق الهمداني رحمه الله(1)؟
إذ يرد على الأوّل: ما حقّقناه في محلّه(2) من أنّ المرجع عند الشكّ في الشرطيّة أو الجزئيّة، هو قاعدة البراءة لا الاشتغال.
ويرد على الثاني: أنّه إنْ كان الشكّ في كون الغُسل والتكفين من شروط وجوب الصَّلاة، كان لما ذُكر وجه، ولكنّه مقطوعُ العدم، وليس هو محلّ الكلام، بل الشكّ إنّما يكون في كونهما من شروط صحّتها.
وعليه، فحكم هذا الشرط، حكم سائر الشروط، كما لا يخفى ، فتدبّر.
أقول: ولا فرق في بطلان الصَّلاة قبل الغُسل والتكفين، بين كون الإيقاع عمديّاً أو سهويّاً، واحتمل صاحب «الجواهر»(3) الإجزاء في صورة السهو والنسيان، وعن النراقي رحمه الله(4): الجزم به.
واستدلّ له:
1 - بعدم ثبوت الإجماع في هذه الصورة.
2 - وبحديث الرفع(5).0.
ص: 17
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ المدرك ليس هو الإجماع كما عرفت.
وأمّا الثاني: فلما حُقّق في محلّه من أنّ حديث الرفع إنّما يرفع الحكم فيما إذا تعلّق النسيان بما هو متعلّق التكليف، فلو نسى الإتيان بهما قبل الصَّلاة، حتّى مضى وقتهما، يشمله الحديث، وإلّا فلا، لأنّ ما تعلّق به النسيان - وهو إيقاعهما قبلها في وقتٍ خاص - ليس متعلّق الأمر، وما تعلّق به الأمر لم يتعلّق به النسيان.
وبالجملة: المقام نظير ما إذا نَسي جزءً من أجزاء الصَّلاة في أوّل الوقت، وصلّى صلاةً فاقدة له.
وأمّا الجواب عنه: بأنّ الحديث لا يصلح للدلالة على صحّة الناقص، فلا يصلح لتقييد إطلاق دليل الشرطيّة.
فغير سديدٍ: إذ لو سُلّم شمول الحديث له، فهو يرفع الحكم المتعلّق بما يعتبر فيه ذلك، وحيثُ إنّه يعلم من الخارج عدم سقوط التكليف بها رأساً، فلا محالة يكون متعلّقة الصَّلاة غير المقيّدة بذلك فتصحّ . فتدبّر.
***
ص: 18
ولو تعذّر التكفين، لا تسقط الصَّلاة بلا خلافٍ .
ويدلّ على ذلك:
1 - إطلاق ما تضمّن الأمر بها، بعد كون الدليل الدالّ على اعتبار كونها بعد التكفين مختصّاً بغير هذه الصورة.
2 - والخبران الآتيان:
ألف: وحينئذٍ فلو أمكن سَتر عورته بثوبٍ ونحوه، يُصلّى عليه بعد سَترها، ولا يجبُ وضعه في القبر والصَّلاة عليه بعد ذلك، لإطلاق الأدلّة، وعدم الدليل على وجوب ذلك، لاختصاص الخبرين الآتيين بغير هذا الفرض، بل مفهوم قوله عليه السلام في خبر محمّد بن مسلم الآتي:
«إذا لم يقدروا على ثوبٍ يوارون به عورته، فليحفروا قبره ويضعوه في لحده...
الخ»(1) عدم وجوبه في هذا المورد.
وعليه، فما عن «الذكرى»(2) من أنّه إنْ أمكن سَتره بثوبٍ ، صُلّي عليه قبل الوضع في اللّحد، هو الصحيح.
ب: وإنْ لم يمكن ذلك، يضعه في القبر، ويُغطّي عورته بشيءٍ من التراب أو غيره، ويُصلّى عليه بلا خلافٍ .
ويشهد له: خبر محمّد بن أسلم، عن رجل، قال:
«قلتُ لأبي الحسن الرضا عليه السلام: قوم كُسِر بهم المركّب في بحرٍ، فخرجوا يمشون
ص: 19
على الشّط، فإذا هم برجلٍ ميّت عريان، والقوم ليس عليهم إلّامناديل متّزرين بها، وليس لهم فضلُ ثوبٍ يوارون الرَّجل، فكيف يُصلّون عليه وهو عريان ؟
فقال عليه السلام: إذا لم يقدروا عليثوب يوارون به عورته، فليحفروا قبره، ويضعوه في لحده، يوارون عورته بلَبَن أو أحجارٍ أو تراب، ثمّ يُصلّون عليه، ثمّ يوارونه في قبره.
قلت: ولا يُصلّون عليه وهو مدفونٌ بعدما يُدفن ؟
قال عليه السلام: لا، لو جاز ذلك لأحدٍ لجاز لرسول اللّه صلى الله عليه و آله، فلا يُصلّى على المدفون ولا على العريان»(1).
ونحوه موثّق عمّار(2).
ج: ثمّ هل يجوز لدى التمكّن من سَتر عورته بالتّراب ونحوه خارج القبر، أن يُصلّى عليه كذلك، أم يجب أن يكون بعد وضعه في القبر؟ وجهان:
من الأمر بها بعد وضعه في اللّحد، لا سيّما وأنّ سَتر العورة أمرٌ ممكن في جميع موارد حفر القبر كما لا يخفى، واحتمال أن يكون لسترِ سائر جَسده في الجملة مدخليّة في ذلك.
ومن ورود الأمر في الجواب مورد توهّم الحظر، وأنّ المقصود به سَترالعورة، كما يشير إليه ذيل الخبرين، حيث أنّ ظاهره سوق الخبرين لبيان عدم جواز الصَّلاة على العاري.
أقول: والأوّل لو لم يكن أقوى ، فلا ريب في كونه أحوط، وإنْ ادّعى في محكيّ «كشف اللِّثام»(3) أنّ الجواز ممّا لا خلاف فيه.3.
ص: 20
د: ثمّ إنّه هل يجبُ في حال الصَّلاة، وضعه في القبر على نحو وضعه خارجه للصّلاة، أم يجب وضعه فيه على كيفيّة الدفن، أم يتخيّر بينهما؟
وجوهٌ ، بل أقوال: نُسِب كلّ من الأولين إلى ظاهر الأصحاب(1).
ولكن أقواها الأوّل لإطلاق أدلّته.
واستدلّ للثاني: بأنّ المُنساق إلى الذهن من الخبرين، من جهة عدم التعرّض لتبديل كيفيّة الوضع بعد الصَّلاة، وإطلاق الأمر بالدفن بعدها، إنّما هو وضعه في لحده على الهيئة المعهودة في الدفن من الاضطجاع.
وفيه: أنّهما ليسا في مقام البيان من هذه الجهة، كي يُتمسّك بهما. وبذلك ظهر ضعف مستند القول الأخير، إذ لا وجه له سوى ذلك بضميمة أنّ الظاهر من الأمر كونه من باب الرخصة، فتدبّر.
***9.
ص: 21
الثانية: يُكره الصَّلاة على الجنازة مرّتين.
المسألة (الثانية: يكره الصَّلاة على الجنازة مرّتين) على المشهور، نقلاًوتحصيلاً.
بل في «الغنية»(1): الإجماع عليه، كذا في «الجواهر»(2).
وعن ابن أبي عقيل(2): نفي الكراهة مطلقاً، وتبعه بعضهم(3)، ومالَ إليه في «الجواهر»(5).
وعن جماعةٍ من الأصحاب، منهم الشيخ في «الخلاف»(4): مدّعياً عليه إجماع الفرقة.
والشهيدان(5)، والمحقّق الثاني(6): اختصاص الكراهة بالمُصلّي.
وعن «التذكرة»(7) و «نهاية الاحكام»(8): أنّ الوجه التفصيل، فإنْ خِيف على الميّت ظهور حادثة به، كَرُه تكرار الصَّلاة، وإلّا فلا.
ص: 22
وقوّى في «الجواهر»(1) ارتفاع الكراهة في ذي الفضل والشرف الاُخروي، والكراهة في غيره، وتبعه سيّد «العروة»(2) وأكثر محشّيها.
وأمّا النصوص: فهي طائفتان:
الطائفة الاُولى: ما تضمّن النهي عن التكرار:
منها: خبر وهب بن وهب، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام:
«أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله صلّى على جنازةٍ ، فلمّا فَرِغ جاءه اُناسٌ فقالوا: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم نُدرك الصَّلاة عليها، فقالب: لا يُصلّى على جنازةٍ مرّتين، ولكن ادّعوا لها»(3).
ونحوه غيره(4).
الطائفة الثانية: ما دلَّ على جواز التكرار واستحبابه:
منها: موثّق يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«عن الجنازة لم أدركها حتّى بلغت القبر؟ قال عليه السلام: إذا أدركتها قبل أن تُدفن، فإنْ شئت فصلِّ عليها»(5).
ومنها: خبر جابر، عن الإمام الباقر عليه السلام، وفيه:
«أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله خَرَج إلى جنازة امرأةٍ من بني النَّجار فصلّى عليها، فوجد الحفرة لم يمكنوا فوضعوا الجنازة، فلم يجيئ قومٌ إلّاقال لهم: صلّوا عليها»(6).4.
ص: 23
ومنها: خبر أبي بصير المتضمّن أنّ عليّاً عليه السلام كرّر الصَّلاة على سَهل(1)، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله على حمزة(2).
ونحوها غيرها(3).
أقول: ومنشأ الاختلاف هو الاختلاف في كيفيّة الجمع بين الطائفتين، حيث أنّهم ذكروا في مقام الجمع بينهما وجوهاً:
الوجه الأوّل: أنّ الطائفة الأُولى ظاهرة في الحرمة، والثانية صريحة في الجواز، فالجمع العرفي يقتضي حمل الأُولى على الكراهة.
وفيه: إنّ هذا الجمع في المقام لا يكون جمعاً عرفيّاً، لأنّا إذا جمعنا قوله: (لا يُصلّى على جنازةٍ مرّتين)(4) مع قوله صلى الله عليه و آله: (صلّوا عليها)(5)، فإنّه لا ريب في أنّ أهل العرف يرون التهافت بينهما، ولا يرون أحدهما قرينةً على الآخر.
الوجه الثاني: أنّ الطائفة الأُولى ضعيفة السند، فلا تصلح الاستناد إليها في الحكم، فالمستند خصوص الثانية.
وفيه: أنّ ضعفها منجبرٌ بعمل الأصحاب واستنادهم إليها.
الوجه الثالث: أنّ النهي في الطائفة الأُولى لوروده مورد توهّم الوجوب، لا يدلّ إلّاعلى عدم الوجوب.
وفيه: أنّ ظاهرها ثبوت المرجوحيّة، كما يظهر لمن راجعها.
الوجه الرابع: أنّ الجمع بينهما، وبين ما دلَّ على جوار الصَّلاة على المدفون يوماً4.
ص: 24
وليلة، يقتضي الالتزام باختصاص الطائفة الأُولى بالمُصلّى.
وفيه: أنّ بعض نصوص الطائفة الثانية مورده المصلّي - لاحظ خبر أبي بصير المتقدّم - مع أنّ الجواز لا ينافي الكراهة.
الوجه الخامس: حمل الطائفة الأُولى على التقيّة، لأنّ الكراهة محكية عن ابن عُمر وعائشة وأبي موسى والأوزاعي وأحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة.
وفيه: أنّ ذلك يتمّ بناءً على عدم إمكان الجمع العرفي بين الطائفتين.
فالصحيح أن يقال: إنّ جملةً من نصوص الطائفة الثانية واردة في موارد مخصوصة، ككون الميّت من أهل الفضل والشرف الأخروي - كما في خبر أبي بصير - وعدم كون التكرار موجباً للتعطيل، ومنافياً للتعجيل المطلوب شرعاً - كما في خبر جابر - وهذه النصوص لأخصيّتها من الطائفة الأُولى توجب اختصاصها بغير هذه الموارد.
وأمّا ما دلَّ على الأمر بالتكرار مطلقاً. كموثّق يونس، فهو إنّما يدلّ على رجحان فعلها من حيث هو، وهذا ممّا اتّفق عليه الكلّ ، وإلّا امتنع وقوعها عبادة، ولا ينفي عدم انطباق عنوانٍ مرجوح عليها، أو راجح على تركها، كي يصلح لمعارضة ما تضمّن النهي عنها، الذي لا محلّ له سوى ذلك، فتدبّر.
فتحصّل: أنّ الأظهر كراهة التكرار، إلّاإذا كان الميّت من أهل الفضل والشرف، أو حصل التأخير قهراً بسببٍ آخر.
***
ص: 25
الثالثة: لو لم يُصلّ على الميّت صُلّي على قبره يوماً وليلة.
المسألة (الثالثة: لو لم يُصلّ على الميّت، صُلّي على قبره يوماً وليلة) كما صرّح به جماعة منهم الشيخان(1)، والحِلّي(2)، والمحقّق(3)، والمصنّف في بعض كتبه(4)، وإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين ما لو صُلّي عليه قبل الدفن، وما لم يُصلّ عليه.
وعن «المختلف»(5): تخصيصه بمن دُفن بغير صلاة.
وعن سلّار(6): إنّه يُصلّى عليه إلى ثلاثة أيّام.
وعن ابن الجُنيد(7): يُصلّى عليه ما لم تتغيّر صورته.
وعن ابن بابويه(8): يُصلّى عليه ولم يُقدّر لها وقتاً.
أقول: وتنقيح القول في ذلك يستدعي التكلّم في موردين:
المورد الأوّل: لو دفن الميّت بغير صلاةٍ ، ففي «الجواهر»(9):
ص: 26
(الظاهر عدم سقوطها بذلك بلا خلافٍ صريح أجده، إلّامن المصنّف في «المعتبر»، والمحكيّ عن الفاضل في بعض كتبه، ومالَ إليه في «المدارك»، ولا ريب في ضعفه). انتهى.
واستدلّ له فيها:
1 - بالأصل.
2 - وإطلاق دليل الوجوب.
3 - وفحوى نصوص الجواز، كصحيح هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس أن يُصلّي الرّجل على الميّت بعدما يُدفن»(1). ونحوه غيره(2).
أقول: ولكن يرد على الجميع:
أمّا الأصل: والمراد منه الاستصحاب، فإنّه لا يجري، بناءً على ما هو الحقّ من عدم جريانه في الأحكام، كما أشرنا إليه في هذا الشرح مراراً، مع أنّه يقتضي نبش القبر، والصَّلاة عليه لا على قبره، كما لا يخفى .
وإطلاق دليل الوجوب، يقيّد بما دلَّ على اعتبار كونه قبل الدفن، من الإجماعات والنصوص، ونصوص الجواز.
مضافاً إلى عدم إمكان استفادة الوجوب منها، إلّابناءً على تماميّة قاعدة الميسور، التي عرفت ما فيها سابقاً، أو كونها هي الصَّلاة المأمور بها لزوماً قبل الدفن، الذي هو غير ثابت معارضة مع نصوص المنع، كموثّق عمّار المتقدّم:
«قلتُ : فلا يُصلّى عليه إذا دُفِن ؟ فقال عليه السلام: لا يُصلّى على الميّت بعدما يدفن،).
ص: 27
ولا يُصلّى عليه وهو عريان حتّى توارى عورته»(1). ونحوه غيره(2).
أقول: وقد جَمَعوا بين الطائفتين بوجوه:
1 - ما عن «المختلف»(3)، وفي «جامع المقاصد»(4)، وهو: حمل الأُولى على مَنْ لم يُصلّ عليه، والثانية على من صُلّي عليه.
وفيه: أنّه جمعٌ لا شاهد له، بل ظاهر الموثّق المنع من الصَّلاة على من لم يُصلَّ عليه، كما يظهر لمن تدبّر في صدره وذيله، وبعض نصوص الجواز كالصريح في إرادة الصَّلاة على من صلّى.
2 - ما احتمله الشيخ(5)، ومالَ إليه صاحب «الحدائق»(6)، وهو: حمل الأُولى على إرادة محض الدُّعاء، ونصوص المنع على صلاة الجنازة.
وفيه: أنّ ذلك لو تمّ في بعض نصوص الجواز، لا يتمّ في جميعها، لصراحة بعضها في إرادة صلاة الجنازة.
3 - حمل النصوص الناهية على إرادة الصَّلاة الواجبة، والمجوّزة على الصلاة المستحبّة.
وفيه: أنّه لو كانت نصوص المنع مختصّة بمن لم يُصلّ عليه، كان ذلك تامّاً، من جهة أنّ نصوص المنع لورودها مورد توهم الوجوب، لا يستفاد منها أزيد من عدم الوجوب، فالجمع بينها وبين نصوص الجواز، يقتضي الالتزام بذلك، ولكن عرفت2.
ص: 28
أنّها ليس كذلك، فلا يصحّ هذا الجمع.
وعليه، فالأصحّ هو عدم إمكان الجمع بين الطائفتين، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، وهي تقتضي تقديم نصوص الجواز لكونها أشهر.
أقول: وممّا ذكرناه ظهر أنّ الأشبه هو الجواز في المورد الثاني أيضاً، وهو ما لو دُفِن بعد الصَّلاة عليه، ولكن ما ذكروه من تحديد وقتها، لم نعثر على دليله، بل مقتضى إطلاق النصوص عدم تحديده.
***
ص: 29
الرابعة: يستحبُّ أن يقف الإمام عند وسط الرَّجل وصدر المرأة.
المسألة (الرابعة: يستحبُّ أن يقف الإمام عند وسط الرَّجل، وصدر المرأة) وفاقاً للأكثر، بل المشهور نقلاً وتحصيلاً، كما في «الجواهر»(1).
وعن «المنتهى»(2): نفي الخلاف فيه.
وعن «الغنية»(3)، دعوى الإجماع عليه.
ويشهد له: مرسل عبد اللّه بن المغيرة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:
«قال أمير المؤمنين عليه السلام: من صَلّى على امرأةٍ فلا يقوم في وسطها، ويكون ممّا يلي صدرها، وإذا صَلّى على الرّجل، فليقم في وسطه»(4).
ونحوه خبر جابر(5).
وظاهرهما وإنْ كان وجوب ذلك، إلّاأنّهما يُحملان على إرادة الاستحباب، لما عن «المنتهى »(6) من دعوى الإجماع على الاستحباب.
كما أنّ ظاهرهما وإنْ كان تعيّن هذه الكيفيّة، إلّاأنّ الجمع بينهما وبين ما رواه الشيخ عن موسى بن بكير، عن أبي الحسن عليه السلام:
ص: 30
ولو اتّفقا جَعَل الرَّجُل ممّا يليه، والمرأة ممّا يلي القبلة.
«إذا صلّيتَ على المرأة فقُم عند رأسها، وإذا صلّيت على الرّجل فقُم عند صدره»(1).
يقتضي الالتزام بالتخيير بين الكيفيّتين.
وبذلك ظهر ما في كلمات القوم في المقام، فلا حاجة إلى إطالة الكلام ببيانها وما فيها.
أقول: ثمّ إنّ النصوص غير مختصّة بالإمام، وتعمّ المنفرد أيضاً، نعم المأموم خارجٌ عنها قطعاً، فالتخصيص بالإمام ممّا لا وجه له.
فرع: (ولو اتّفقا) أي الرَّجل والمرأة، واُريد الصَّلاة عليهما دفعة واحدة، (جَعَل الرَّجل ممّا يليه) أي المصلّى (والمرأة ممّا يَلي القبلة)، وهو قول علمائنا كافّة كما عن «المنتهى»(2)، وتشهد به نصوصٌ كثيرة:
منها: مرسل ابن بكير، عن مولانا الصادق عليه السلام:
«في جنائز الرجال والنساء والصبيان ؟ قال عليه السلام: توضع النِّساء ممّا يلي القبلة، والصبيان دونهم، والرِّجال دون ذلك، ويقوم الإمام ممّا يلي الرِّجال»(3).
ونحوه غيره(4) من المحمولة على الفضيلة، بقرينة صحيح هشام بن سالم، عن).
ص: 31
الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس بأن يُقدَّم الرَّجل وتُؤخَّر المرأة»(1). ونحوه غيره(2).
أقول: وأمّا خبر البصري، عنه عليه السلام:
«عن جنائزالرِّجال والنساءإذا اجتمعت ؟ فقال: يُقدَّم الرِّجال في كتاب عليّ »(3).
ومضمر سماعة، قال: «سألته عن جنائز الرِّجال والنساء إذا اجتمعت ؟ فقال عليه السلام: يُقدَّم الرَّجل قُدّام المرأة قليلاً، وتوضع المرأة أسفل من ذلك قليلاً، ويقوم الإمام عند رأس الميّت، فيصلّى عليهما جميعاً»(4).
فلا ينافيان ذلك، فإنّ الظاهر منهما لا سيّما بعد الجمع بينهما وبين ما تقدّم.
وخبر طلحة: إذا صُلّي على المرأة والرّجل، قُدّم المرأة وأُخّر الرّجل»(5).
هي إرادة التقديم بمعنى جَعْل صدرها محاذياً لوسطه، ليقف الإمام موقف الفضيلة منهما، كما لا يخفى .
***9.
ص: 32
الخامسة: يَجبُ أن يُجعل رأسُ الميّت عن يمين المُصلّي.
المسألة (الخامسة: يجبُ أن يُجعل رأس الميّت على يمين المُصلّي) إجماعاً حكاه غَير واحدٍ(1).
ويشهد له: موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«أنّه سُئل عمّن صُلّي عليه، فلمّا سَلّم الإمام فإذا الميّت مقلوبٌ رجلاه إلى موضع رأسه ؟ قال عليه السلام: يُسوّى وتُعاد الصَّلاة عليه»(2).
***
المسألة السادسة: يجب فيها استقبال المُصلّي القبلة، بلا خلافٍ ظاهرٍ فيه.
واستدلّ له سيّد «المدارك»(3): بأنّ العبادة كيفيّة متلقّاة من الشارع، والمنقول من المعصومين عليهم السلام كذلك، فيكون خلافه تشريعاً محرّماً.
وفيه: أنّ مقتضى الإطلاقات - على فرض ثبوت الإطلاق لأدلّة هذه العبادة - والأصل - على فرض عدمه - عدم شرطيّة ذلك.
اللّهُمَّ إلّاأن يكون مراده بما ذكره، دعوى السيرة المستمرّة إلى زمان المعصوم عليه السلام على ذلك، وعليه فلا بأس به.
واستدلّ له كاشف اللّثام(4): بعموم ما دلَّ على اعتبار الاستقبال في الصَّلاة.
وفيه: أنّه لو سُلّم ثبوت عمومٍ دالّ على ذلك، بما أنّ هذه العبادة ليست بصلاةٍ ،
ص: 33
وإنّما هي دعاء، لما تضمّن من النصوص:
«أنّ الصَّلاة ثلاثة أثلاث: ثلثٌ الركوع، وثلثٌ السجود، وثلثٌ الطهور»(1).
ولا يعتبر شيء منها في هذه العبادة، فلا تكون مشمولة لتلك العمومات.
وإنْ شئتَ قلت: إنّه بناءً على ما هو الحقّ من ثبوت الحقيقة الشرعيّة للصلاة - وهي ما أشرنا إليها - يتعيّن حمل كلمة (الصَّلاة) فيما تضمّن أنّه (لا صلاة إلّاإلى القبلة) على إرادة تلك العبادة، لاما يشمل معناها اللّغوي.
ويؤيّد ذلك: موثّق يونس المتقدّم، المتضمّن لتعليل عدم اعتبار الطهارة فيها بأنّه (إنّما هو تكبيرٌ وتسبيحٌ وتحميدٌ وتهليل... الخ)(2).
فالصحيح أن يستدلّ له:
1 - بالسيرة القطعيّة، المعتضدة بالإجماعات المنقولة، والشهرة المحقّقة.
2 - وبأنّ الظاهر من النصوص الواردة - في كيفيّة الصلاه على الجنائزالمتعدّدة، المتقدّم بعضها، والصَّلاة على المصلوب وغيرها - أنّ اعتبار الاستقبال فيها كان من الأُمور المسلّمة عندهم، كما يظهر لمن لاحظها.
***
المسألة السابعة: يجبُ فيها القيام بلا خلافٍ .
بل عن جماعةٍ (3): دعوى الإجماع عليه.
وتشهد له: النصوص الواردة في الموارد المختلفة، مثل ما ورد في الوقوف عند الوسط والصدر، وما ورد في الصَّلاة على الجنائز المتعدّدة المتقدّمان وغيرهما،
ص: 34
المتضمّنة للأمر بالقيام.
وعدم وجوب الخصوصيّات التي تضمّنتها تلك النصوص لدليلٍ آخر، لا يلازم ندبيّة القيام، كي يُحمل الأمر به على الاستحباب.
***
المسألة الثامنة: يستحبُّ إتيان هذه الصَّلاة جماعة بلا خلافٍ .
والدليل عليه: ليس هو ما دلَّ علي استحباب الجماعة في الصَّلاة، لما تقدّم من عدم كون هذه العبادة صلاةً - مع أنّك ستعرف في الجزء الخامس من هذا الشرح عدم ثبوت مشروعيّة الجماعة في كلّ صلاة إلّاما خرج بالدليل - بل هي النصوص الواردة في بيان أحكامها التي سيمرّ عليك بعضها.
وليست هي شرطاً فيها بلا خلافٍ ، ويشهد به خبر اليَسَع بن عبد اللّه القُمّي، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يُصلّي على جنازةٍ وحده ؟ قال عليه السلام: نعم»(1).
***
ص: 35
ينبغي التنبيه على اُمورٍ:
الأمر الأوّل: لا شُبهة في اعتبار شروط الإمامة فيمن يُقتدى به:
أمّا بالنسبة إلى الشروط التي اعتبروها، مستندين إلى ما يشمل الجماعة مطلقاً، أو إلى أصالة عدم تحقّق الجماعة، مع عدم رعاية تلك الشروط فواضح.
وأمّا فيما استندوا في اعتباره إلى دليلٍ مختصّ بالصلاة كالعدالة فلأنّ هذا ممّا يقتضيه الإطلاق المقامي، كما لا يخفى .
وبما ذكرناه ظهر اعتبار اجتماع شروط الجماعة فيها أيضاً.
الأمر الثاني: لو أدرك الإمام في أثناء صلاته، له أنْ يدخل في الجماعة، فإذا فرغ الإمام يأتي بالبقيّة فُرادى بلا خلافٍ .
بل عن «الخلاف»(1): دعوى الإجماع عليه.
وتشهد به: جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أدرك الرّجل التكبيرة أو التكبيرتين من الصَّلاة على الميّت فليقض ما بقي متتابعاً»(2).
ومنها: صحيح العيص، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يُدرك من الصَّلاة على الميّت تكبيرة ؟ قال عليه السلام: يتمّ ما بقي»(3). ونحوهما غيرهما(4).
أقول: ولا يعارضها خبر إسحاق، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:).
ص: 36
«أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: لا يقضى ما سبق من تكبير الجنازة»(1).
فإنّه يتعيّن طرحه بعد موافقة معارضه للشهرة، ومخالفته للعامّة.
وعليه، فلا بأس بحمله على ما ذكره شيخ الطائفة رحمه الله(2) من إرادة أنّه لا يقضى كما كان يبتدأ بها من الفصل بينها بالدّعاء، وإنّما يقضي ولاءً .
وقد صرّح جماعة من القدماء والمتأخّرين(3): بأنّه لايدعو بين التكبيرات الّتي يأتي بها بعد الإمام، بل يأتي بها ولاء.
وظاهر ما عن «المعتبر»(4): الإجماع عليه.
وعن المصنّف رحمه الله في بعض كتبه(5) وجمعٍ ممّن تأخّر عنه(6): تقييد ذلك بصورة الخوف.
وعن المحدِّث المحقّق المجلسي رحمه الله(7) نسبته إلى الأكثر.
ويشهد للأوّل: صحيح الحلبي المتقدّم.
واستدلّ للثاني:
1 - بعمومات أدلّة الأدعية.
2 - وإطلاق سائر نصوص المقام، بعد تنزيل الصحيح على الغالب من خوف الفوات برفع الجنازة ونحوه.
3 - وبأنّ الحكم استحبابي، فيمكن مشروعيّة المطلق والمقيّد، وبصحيح ابن3.
ص: 37
جعفر يتمّ ما بقي من تكبيرة، ويبادره دفعةً ويخفّف(1)، بدعوى أنّ ظاهره الإتيان بالدّعاء، مع الاقتصار على أقلّ المُجزي.
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ غلبة عدم التمكّن من إتيان أقلّ ما يجزي من الدُّعاء غير ثابتة، مع أنّها لا تصلح لتقييد المطلق.
وأمّا الثاني: فلما أشرنا إليه من أنّ دليل المقيّد إنْ كان متضمّناً لحكمٍ إلزامي يوجب تقييد المطلق، ولو في المستحبّات.
وأمّا الثالث: فلأنّه يمكن أن يكون المراد بالتخفيف ترك الدُّعاء.
نعم، يمكن الاستدلال له بأنّ الأمر بإتيان ما بقي متتابعاً لوروده مورد توهّم الحظر، لايستفاد منه أكثر من الجواز، وعليه فلا مقيّد لدليل الأدعية.
فتحصّل: أنّ الأظهر هو القول الثاني.
الأمر الثالث: إذا سبق المأمومُ الإمامَ بتكبيرةٍ أو ما زاد، فله أنْ يُتمّها منفرداً، لاستجماعها حينئذٍ لجميع ما يُعتبر في صلاة المنفرد، وإنْ سبقه في التكبيرات المتوسّطة، ومجرّد إتيان ما قبلها جماعةً ، لا يوجب البطلان، لعدم الدليل عليه.
كما أنّ له أن يصبر حتّى يلحقه الإمام فيأتمّ به فيما بقى، لعدم بطلان الجماعة بمجرّد التقدّم في فعل، كما سيأتي تحقيقه في الجزء الخامس من هذا الشرح.
مع أنّه لو بطلت، بما أنّه يجوز العدول من إمامٍ إلى إمامٍ في الأثناء، لثبوت ذلك في اليوميّة الموجب لجواز الائتمام في الأثناء كما لا يخفى، يجوز ذلك أيضاً، لكن السؤال حينئذٍ أنّه:8.
ص: 38
هل تستحبّ إعادة التكبير، كما عن المصنّف رحمه الله(1) والمحقّق(2)، أم لا؟ وجهان:
قد استدلّ للأوّل:
1 - بأنّه ذِكرٌ.
2 - وبما عن «قُرب الإسناد»، عن الحميري، عن علي بن جعفر عليه السلام: «أنّه سأل أخاه عن الرّجل يُصلّي، له أن يُكبِّر قبل الإمام ؟ قال عليه السلام: لا يُكبِّر إلّامع الإمام، فإنْ كبّر قبله أعاد التكبير»(3).
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ استحبابه لكونه ذِكراً غير ما هو محلّ الكلام من استحبابه بما أنّه من أجزاء هذه الصَّلاة.
وأمّا الثاني: فلأنّه لو لم يكن ظاهراً في اليوميّة، لا يكون ظاهراً فيما يشمل المقام.
وبالجملة: فلا دليل على الاستحباب، سوى فتوى الأساطين(4)، فما عن «الذكرى»(5) و «جامع المقاصد»(6) و «الروض»(7) من التوقّف فيه في محلّه.
***).
ص: 39
الخامس: في الدفن. والواجب ستره في الأرض عن الهوام والسباع وطم رائحته عن النّاس.
في الدَّفن
(الخامس) من الاحكام المتعلّقة بالأموات (الدفن) إجماعاً(1)، بل لعلّه من الضروريّات.
(والواجبُ : سَتُره في الأرض عن الهوامّ والسِّباع، وطَمّ رائحته عن النّاس) بلا خلافٍ .
أقول: فهاهنا حكمان:
الحكم الأوّل: يجبُ سَتره في الأرض، فلا يكفي وضعه في صندوق من حديدٍ ونحوه ممّا يفيدُ فائدة الدّفن، لعدم صدق الدّفن عليه، وللأمر بالمواراة في بعض النصوص، وجعله في حفيرة القبر في آخر.
ودعوى:(2) جري هذه النصوص مجرى العادة، وإلّا فالمقصود الأصلي هو سَتره بالنحو الذي سيمرّ عليك.
ممنوعة: لأنّ ذلك خلاف الظاهر، لا يُصار إليه إلّامع القرينة.
الحكم الثاني: يجبُ أن تكون المواراة بنحوٍ يترتّب عليها عدم انتشار ريحه، وحفظه من أن يظهر بدنه بفعل السّباع ونحوه من العوارض العادية، وذلك:
ص: 40
1 - للسيرة القطعيّة المتّصلة إلى زمان المعصوم، المعتضدة بالإجماع(1) المنقول.
2 - ولأنّ الظاهر ورود هذه النصوص لإمضاء ما عليه بناء العُقلاء من لزوم دفن الموتى، ولا شبهة في أنّ بناءهم على لزومه بالنحو المذكور.
3 - ولما ورد في مقام بيان علّة الدّفن، كالمروي عن علل الفضل، عن مولانا الرضا عليه السلام:
«إنّه يُدفن لئلّا يظهر النّاس على فساد جَسَده، وقُبح منظره، وتغيير ريحه، ولا يتأذّى به الأحياء وبريحه، وبما يدخل عليه من الآفة والفساد»(2).
وعليه، فما ذكره بعض أكابر المحقّقين(3) من التمسّك بإطلاق الأدلّة، لكفاية مسمى الدفن، وعدم اعتبار الوصفين، لعدم الدليل عليهما، بدعوى عدم أخذهما في مفهوم (الدفن) لغةً ، وعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة أو العرفيّة له، وعدم تحقّق الإجماع على شيء منهما، غير سديد.
الفرع الأوّل: ثمّ إنّ راكب البحر إذا ماتَ ، يُلقى فيه بلا خلافٍ .
وتشهد به: نصوص كثيرة، إمّا مثقلاً بحجرٍ ونحوه، أو مستوراً في وعاءٍ كالخابية وشبهها، مخيّراً بينهما على المشهور.
وعن ظاهر «المقنعة»(4) و «المبسوط»(5) و «الوسيلة»(6) و «السرائر»(7)9.
ص: 41
و «الفقيه»(1) و «النهاية»(2) تعيّن الأوّل، لاقتصارهم عليه.
وعن جمعٍ من المتأخّرين منهم سيّد «المدارك»(3): تعيّن الثاني.
أقول: والأوّل أظهر، لأنّ ذلك ممّا يقتضيه الجمع بين صحيح أيّوب بن الحُرّ، قال: «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ مات وهو في السفينة في البحر، كيف يصنع به ؟ قال عليه السلام: يوضع في خابيةٍ ، ويوكأ رأسها، وتطرح في الماء»(4).
وبين خبر وهب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا مات الميّت في البحر، غُسِّل وكُفِّن وحُنِّط، ثمّ يُصلّى عليه، ثمّ يوثّق في رجله حَجرٌ ويُرمى به في الماء»(5). ونحوه غيره(6).
ودعوى: أنّه لا يُعتمد على الطائفة الثانية، لضعفها سنداً.
مندفعة: بأنّه منجبرٌ ضعفها بالعمل.
ثمّ إنّه إنّما يكون ذلك مع تعذّر الوصول إلى البرّ، أو تعسّره، لإنصراف النصوص إليه، فما عن ظاهر «المقنعة» من جوازه ابتداءً في غير محلّه.
***).
ص: 42
على جانبه الأيمن موجِّهاً إلى القبلة.
الفرع الثاني: ويجب فيه أيضاً أن يَوضع المدفون (على جانبه الأيمن، موجِّهاً إلى القبلة) على المشهور شُهرة عظيمة(1).
بل عن «الغنية»(2): دعوى الإجماع عليه.
وعن ظاهر «الوسيلة»(3): استحباب التوجيه إلى القبلة.
وعن «جامع» ابن سعيد(4): استحباب كونه على جانبه الأيمن.
أقول: وما اختاره المشهور هو الأقوى :
1 - لاستقرار السيرة القطعيّة على الالتزام به، المعتضدة بالإجماع المنقول.
2 - وبصحيح معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«كان البراء بن مَعرور الأنصاري بالمدينة، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله بمكّة، وأنّه حضره الموت، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله والمسلمون يُصلّون إلى بيت المَقْدس، فأوصى البراء إذا دُفِن أن يُجعل وجهه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى القبلة، فجرت به السُنّة»(5).
والمراد بها الطريقة الثابتة، كما لا يخفى .
3 - وخبر «دعائم الإسلام»، عن عليّ عليه السلام: «أنّه شهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله جنازةَ رجلٍ من ولد عبد المطّلب، فلما أنزلوه في قبره، قال: اضطجعوه في لحده على جنبه5.
ص: 43
الأيمن مستقبل القبلة، ولا تكبّوه لوجهه، ولا تلقوه لظهره»(1).
الفرع الثالث: ويستحبّ القيام باُمور قبل دفن المؤمن:
1 - اتّباع الجنازة، أو مع أحد جانبيها، وتربيعها.
2 - ووضعها عند رِجْل القبر إنْ كان رجلاً، وقدّامه ممّا يلي القبلة إنْ كانت امرأة.
3 - وأخذ الرّجل من قِبل رأسه، والمرأة عَرَضاً.
4 - وحفر القبر قدر قامة أو إلى الترقوة. واللّحدُ أفضل من الشَّق بقدر ما يجلس فيه الجالس.
5 - والذِّكر عند تناوله، وعند وضعه في اللّحد.
6 - والتَّحفي، وحَلّ الإزار، وكشف الرأس، وحَلّ عُقد الأكفان، ووضع خَدّه على التراب.
7 - ووضع شيء من التربة معه.
7 - وتلقينه الشهادتين والإقرار بالأئمّة عليهم السلام.
8 - وشرج اللّبن.
9 - والخروج من قِبل رِجليه.
10 - وإهالة الحاضرين التّرابَ بظهور الأكفّ .
11 - وطمّ القبر، وتربيعه، وصبّ الماء عليه دوراً.
12 - ووضع اليد عليه والترحّم.
13 - وتلقين الوليّ بعد إنصراف النّاس.
الفرع الرابع: في مكروهات الدّفن:4.
ص: 44
1 - يكره نزول ذوي الرَّحم إلّافي المرأة.
2 - وإهالة التراب.
3 - وفرش القبر بالسّاج من غير حاجة.
4 - وتجصيصه، وتجديده.
5 - ودفن ميّتين في قبرٍ واحد.
6 - ونقله إلى غير المشاهد.
وأخيرا: ينبغي الإشارة إلى أمرين:
1 - الميّت في البحر يُثقّل، ويُرمى فيه كما تقدّم.
2 - ولا يدفن في مقبرة المسلمين غيرهم إلّاالذميّة الحاملة من المسلم، بلا خلافٍ فيهما، والنصوص شاهدة بهما، فيُستدبر بها القبلة، ليكون الجنين وجهه إليها، فإنّه هو المقصود بالدفن أصالةً ، وتوهم وجوب شقّ بطنها وإخراج الولد ودفنه مع المسلمين، يدفعه خبر يونس.
***
ص: 45
مسائل:
الأُولى : الشّهيدُ لا يُغسّل ولا يُكفَّن، بل يُصلّى عليه بثيابه.
(مسائل: الأُولى : الشَّهيد لا يُغسّل ولا يُكفّن، بل يُصلّى عليه) ويُدفن (بثيابه) إجماعاً محصّلاً ومنقولاً مستفيضاً، وإنْ لم يكن متواتراً كما في «الجواهر»(1).
بل عليها إجماع أهل العلم، خلا سعيد بن المسيّب والحَسَن، كما عن «المعتبر»(2) و «التذكرة»(3).
وتشهد لها: جملةٌ من النصوص: كحسن أبان بن تغلب بن هاشم، عن أبي عبداللّه عليه السلام:
«الذي يُقتل في سبيل اللّه يُدفن في ثيابه، ولا يُغسّل، وإلّا أن يدركه المسلمون وبه رمق ثمّ يموت بعدُ، فإنّه يُغسّل ويُكفّن ويُحنّط. إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كَفّن حمزة في ثيابه، ولم يُغسّله، ولكن صَلّى عليه»(4).
ونحوه صحيحه، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الذي يُقتل في سبيل اللّه، أيُغسّل ويُكفّن ويُحنّط؟ قال عليه السلام: يُدفن كما هو في ثيابه، إلّاأن يكون به رمق ثمّ مات فإنّه... الخ»(5).
وصحيح زرارة وإسماعيل، عن مولانا الباقر عليه السلام، قال:
ص: 46
«قلتُ له: كيفَ رأيت الشهيد يدفن بدمائه ؟
قال عليه السلام: نعم بثيابه ودمائه، ولا يُحنّط ولا يُغسّل، ويُدفن كما هو.
ثمّ قال: ودَفَن رسول اللّه صلى الله عليه و آله حمزة في ثيابه بدمائه الّتي اُصيب فيها، وردّاه النبيّ صلى الله عليه و آله بردائه، فقصر عن رجليه، فدعا له بإذخرٍ فطَرَحه عليه، وصَلّى عليه سبعين صلاة، وكبّر عليه سبعين تكبيرة»(1).
ونحوه خبر أبي مريم(2).
ومضمرة أبي خالد، قال: «اِغْسل كلّ الموتى: الغريق، وأكيل السَّبع، وكلُّ شيء إلّا ما قُتل بين الصّفين، فإنْ كان به رَمقٌ غُسِّل وإلّا فلا»(3).
ونحوها غيرها(4).
أقول: فأصل الحكم في الجملة من الضروريّات، لا يحتاج إلى إطالة البحث والكلام عنه، إنّما الكلام يقع في موارد:
***).
ص: 47
المورد الأوّل: المراد بالشهيد، هو الذي قُتل في سبيل اللّه، في كلّ جهادٍ بحقّ ، ولو في حال الغيبة، كما لو دَهَم المسلمين عدوٌّ يُخاف منه على بيضة الإسلام، كما عن ظاهر «الغنية»(1) أو صريحها، وكذا «إشارة السبق»(2).
وصريح «المعتبر»(3) و «الذكرى»(4) و «الدروس»(5) و «المدارك»(6)و «الذخيرة»(7) و «الحدائق»(8)، وظاهر «الروض»(9) و «الروضة»(10)، بل عن ظاهر «الخلاف»(11) أو صريحه: الإجماع عليه.
والظاهر أنّ مراد من فسَّر (الشهيد) بمَن قُتل بين يدي الإمام، كالمقنعة(12)و «القواعد»(13) و «التحرير»(14) و «المراسم»(15) هو التمثيل، إذ لا كلام في عموم الحكم بالنسبة إلى من قُتل بين يدي النبيّ صلى الله عليه و آله، أو نائبه، كما صرّح به في محكيّ
ص: 48
«المبسوط»(1) و «النهاية»(2) و «الوسيلة»(3) و «السرائر»(4) و «الجامع»(5) و «المنتهى»(6).
وعن «مجمع البرهان»(7): أنّه المشهور.
أقول: وكيف كان، فيشهد للمختار؛ إطلاق حَسَن أبان، وصحيحه، ومضمر أبي خالد المتقدّمة.
ويؤيّده استبعاد كثرة السؤال من الرواة، لفرضٍ لا يحتاجون إليه أبداً.
ولا ينافيها إثبات هذا الحكم للشهيد في بعض النصوص، بناءً على اعتبار إذن المعصوم أو نائبه الخاص في مسمّاه، إذ لا مفهوم له كي يوجب تقييد المطلقات، مع أنّ اعتبار ذلك في مسمّاه ممنوعٌ .
نعم، لا يعمّ هذا الحكم غير من قُتل في سبيل اللّه في جهادٍ، فمن بذل نفسه في طاعة اللّه من غير جهاد. يجبُ غُسله وتكفينه كغيره بلا خلافٍ ، بل عن الفاضلين في «المعتبر»(8) و «التذكرة»(9): دعوى الإجماع عليه.
ويشهد له: - مضافاً إلى اختصاص النصوص بغيره - خبر العلاء بن سيّابة:
«عن رجلٍ قُتل وقُطع رأسه في معصية اللّه، أيغسّل أم يُفعل به ما يفعل بالشهيد؟ فقال عليه السلام: إذا قُتل في معصية اللّه يُغسل أوّلاً منه الدّم ثُمّ يصبّ الماء عليه1.
ص: 49
صبّاً». الحديث(1).
أقول: وأولى من ذلك، مَنْ قُتل دون نفسه أو ماله أو عرضه، وما ورد من أنّ :
(من قُتل دون مظلمةٍ فهو الشهيد)(2) فإنّه لا ينافي ذلك، إذ الظاهر منه ومن ما ورد في جملةٍ من الأموات من أنّهم بمنزلة الشهيد، كالمطعون والمبطون والغريق والمهدوم عليه والنفساء، إرادة كثرة الثواب، وسهولة الحساب، كما يشهد له خبر أبي خالد المتقدّم.
فهل يعتبر كونه عند تقابل العسكرين، فلو كان رجلٌ عيناً لهم، فقُتِل قبل التقابل، يجبُ غَسله وتكفينه أم لا يعتبر ذلك ؟ وجهان:
من إطلاق النصوص، ومن قوله عليه السلام في خبر أبي خالد: «إلّا ما قُتل بين الصَّفين»(3). ولايبعد تنزيل ذلك على الغالب، مع أنّه يحتمل أن يكون المراد به الموت في المعركة.
***1.
ص: 50
المورد الثاني: يشترط أن يكون قدماتَفي المعركة، كماصرّح بذلك غيرواحدٍ(1).
وعن ظاهر جماعةٍ (2): دعوى الإجماع عليه.
وفي محكيّ «التذكرة»(3): (الشهيد إذا ماتَ في المعركة لا يُغسَّل، ولا يُكفّن، ذهب إليه علمائنا أجمع). انتهى. ونحوه ما عن «المعتبر»(4).
بل نَقْلُ الإجماع عليه مستفيض.
أقول: لو خرجتْ روحه بعد الإخراج من المعركة، وانقضاء الحرب يُغسّل ويُكفّن، وتشهد لذلك النصوص المتقدّمة. وهذا ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في أنّه هل يعتبر الموتُ في المعركة، كما هو ظاهر معاقد الإجماعات، أم يثبتُ هذا الحكم فيما لو خرج بنفسه، أو اُخرج ثمّ مات قبل انقضاء الحرب ؟ وجهان، بل قولان:
أظهرهما الأوّل، لخبر أبي خالد المتقدّم.
بل يشهد لوجوب التغسيل والتكفين في الصورة الثانية - أي الإخراج - أكثر نصوص الباب، ولأجل ذلك فصّل بعضهم بين الصورتين.
وأمّا خبر عمرو بن خالد، عن زيد بن عليّ ، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:
«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إذا ماتَ الشهيد من يومه أو من الغد، فواروه في ثيابه، وإنْ بقي أيّاماً حتّى تتغيّر جراحته غُسّل»(5).
ص: 51
فمضافاً إلى ضعف سنده، محمولٌ على التقيّة، كما عن الشيخ(1) وغيره(2).
ولو ماتَ في المعركة: - أي محلّ العِراك - بعد انقضاء الحرب، فالظاهر أنّه لا خلاف في وجوب الغُسل والكفن.
وعن «الخلاف»(3): دعوى إجماع الفرقة على أنّه يُغسّل ولو كان غير مستقرّ الحياة.
وبه يقيّد إطلاق حَسَن أبان الدالّ على أنّه لا يُغسَّل، إذا لم يُدْرِكه المسلمون، وإنْ ماتَ بعد انقضاء الحرب.
والمحكيّ عن جماعة من الأصحاب، كالمفيد في «المقنعة»(4)، والشهيدين في ظاهر «الذكرى»(5) و «الروض»(6)، وابن البرّاج في «المهذّب»(7) وغيرهم في غيرها(8): أنّه يجبُ التغسيل بمجرّد إدراكه حيّاً، ولو في أثناء الحرب.
وخالفهم في ذلك جماعة من الأساطين(9).
أقول: إنّ مقتضى الجمود على ظاهر بعض النصوص، كحسن أبان المتقدّم، وإنْ كان هو الأوّل، إلّاأنّه:4.
ص: 52
1 - لأجل ما روي عن «المنتهى»(1) وغيره:
(أنّه رُوي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال يوم اُحد: من ينظر ما فُعِل بسعد بن الربيع ؟ فقال رجلٌ : أنا أنظرُ لكَ يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فَنَظر فوجده جريحاً وبه رمق، فقال له:
رسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمرني أن أنظر في الأحياء أنتَ أم في الأموات ؟ فقال: أنا في الأموات؛ فابلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عنّي السَّلام، قال: ثُمّ لم أبرح أنْ ماتَ ، ولم يأمر النبيّ صلى الله عليه و آله بتغسيل أحدٍ منهم).
وقريبٌ منه قضيّة عمّار(2).
2 - واستظهار المحقّق الثاني(3) من إطلاق الأصحاب.
3 - بل والإجماع المحكيّ عن غير واحدٍ على عدم الفرق بين أنْ يُدْرِكه المسلمون وبه رمق وعدمه، يُحمل على إرادة الإدراك الكامل، بإدراكهم إيّاه حيّاً بعد انقضاء الحرب.
وأيّده بعضهم بأنّه المتعارف في تفقّد القَتلى .
4 - وبإضافته إلى الجمع المُحلّى باللّام.
5 - وبأنّه هو الظاهر من خبر أبي خالد، حيث جُعل فيه أن يكون به رمق، في مقابل القتل بين الصَّفين.
***5.
ص: 53
المورد الثالث: ظاهر النصّ وكلام الأصحاب - كما عن جماعةٍ (1) - أنّه لا فرق في هذا الحكم بين الصَّغير والكبير، والرَّجل والمرأة، والحُرّ والعَبد، ولا بين من ارتدّت رميته إليه فَقَتله وغيره، ولا بين من قُتل بالجُرح أو بغيره من الأسباب.
وعن ظاهر «كشف اللِّثام»(2): الاتّفاق في خصوص الصغير والمجنون.
وعن «المعتبر»(3): نسبة الخلاف في الصغير إلى أبي حنيفة، وردّه بالإطلاق، وأيده بما رُوي أنّه كان في قتلى بدرٍ و اُحد بعض الصغار، وقضيّة رضيع مولانا سيّد الشهداء عليه السلام معروفة(4)، ولم يُنقل تيمّمه - روحي له الفداء -.
واستحسنه الشيخ الأعظم(5) ثمّ قال: (إلّا أنّ الظاهر من حَسَنة أبان وصحيحته: (المقتول في سبيل اللّه)، فيختصّ بمن كان الجهاد راجحاً في حقّه جوهد به، كما إذا توقّف دفع العدو على الاستعانة بالأطفال والمجانين). انتهى ما في «طهارة» الشيخ الأعظم رحمه الله.
أقول: لا يبعدُ دعوى الإطلاق في مضمر أبي خالد، ولعلّه المراد من ما في محكيّ «المعتبر».
وعليه، فمع التأييد بما ذُكر، وبما رُوي: «أنّ رجلاً أصاب نفسه، بالسيف فلفّه
ص: 54
رسول اللّه صلى الله عليه و آله بثيابه ودمائه، وصَلّى عليه، فقالوا: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله أشهيدٌ هو؟ قال عليه السلام: نعم، وأنا له شهيد»(1).
يصلح أنْ يكونا مدركاً للحكم.
وأمّا حَسَن أبان وصحيحه فإنّه لا مفهوم لهما، كي يوجب تقييد الإطلاق.
ودعوى:(2) الانصراف إلى من يكون الجهاد في حقّه راجحاً، ممنوعة.
وأمّا ما أجاب به بعض أعاظم المحقّقين رحمه الله(3): من أنّ المراد من (المقتول في سبيل اللّه) في هذه النصوص هو المقتول في الجهاد مِنْ عسكر المسلمين، ولو لم يكن المقتول بشخصه مقتولاً في سبيل اللّه، ولذا لا ريب في عموم الحكم لمن لا يكون ناوياً بفعله التقرّب، بل كان قاصداً إظهار الشجاعة، أو تحصيل الغنيمة ونحوهما ممّا ينافي الإخلاص.
فغيرُ سديدٍ: إذ الموضوع لو كان هو عنوانٌ جامعٌ لجميع من في العسكر، لصحّ أن يقال: إنّ المراد ما لو كان الأكثر كذلك، ولكن بما أنّ المأخوذ في لسان الدليل عنوانٌ منطبقٌ على كلّ فرد، وهو الذي يُقتل في سبيل اللّه، فكلّ من صَدَق عليه بشخصه أنّه كذلك، يترتّب عليه الحكم، وإلّا فلا، فالصحيح ما ذكرناه.
***8.
ص: 55
المورد الرابع: مقتضى إطلاق النصوص، وكلام الأصحاب، عدم الفرق بين كون المقتول جُنُباً وغيره.
وعن السيّد وابن الجنيد(1): وجوب غُسل الجنابة:
1 - لإخبار النبيّ صلى الله عليه و آله بغُسل الملائكة حَنظلة بن راهب، حيثُ خرج إلى الجهاد جُنُباً(2).
2 - ولما دلَّ على أنّه يُغسّل الميّت الجُنُب غُسلين(3).
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ غُسل الملائكة غَير الغُسل الذي اُمرنا به، كما لايخفى .
وأمّا الثاني: فلما دلَّ (4) على أنّه يُغسَّل الميّت الجُنُب كغيره غُسلاً واحداً.
***
ص: 56
المورد الخامس: الشهيد إمّا أن تبقى ثيابه أو لا تبقى ؟
فعلى الأوّل: يُدفن بثيابه إجماعاً كما تقدّم، ولا فرق بين السَّراويل وغيرها.
وعن ابن الجُنيد(1): وجوب نزع السَّراويل.
وعن المفيد(2): تقويته إذا لم يُصبها الدّم.
ويشهد للمختار: صدق (الثوب) عليها، فيشملها إطلاق النصوص.
واستدلّ للثاني: بخبر زيد بن عليّ ، عن أمير المؤمنين عليه السلام:
«يُنزع من الشهيد الفَرو والخُفّ والقَلنسُوة والعمامة والمنطقة والسَّراويل، إلّا أن يكون أصابه دمٌ ، فإنْ أصابه دمٌ تُرك، ولا يُترَك عليه شيء معقودٌ إلّاحَلّ »(3).
وفيه: أنّه لايُعتمد عليه لضعفه في نفسه، وعدم عمل الأصحاب بهذه الفقرة منه.
وأيضاً: ويجبُ نزع ما لا يصدق عليه الثوب، كالخُفّ والنَعل ونحوهما، للاقتصار في النصوص على الدفن بالثياب، فَعَدم نزع ما لا يصدق عليه الثوب تضييع للمال، وهو محرّمٌ .
وظاهر النصوص أنّ وجوب الدفن بثيابه عينيٌّ ، فلا يتخيّر بينه وبين التكفين، بل نُهي عنه في بعضها.
وأيضاً: لا يجوز تكفينه فوق ثيابه، لأنّ ظاهر الأخبار انحصار الكفن المشروع في حقّه بالثياب.
ص: 57
وعلى الثاني: يُكفّن كما عن جماعةٍ من الأصحاب، لعدم شمول نصوص الباب المتضمّنة أنّه يُدفن بثيابه له، فالمرجع فيه عموم ما دلَّ على التكفين.
واستدلّ له: في «الجواهر»(1): بصحيح أبان المتقدّم: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كفّن حمزة وحنّطه لأنّه كان قد جُرِّد.
وفيه: أنّه معارضٌ مع حسنة(2) وصحيح زرارة وإسماعيل المتقدّمين، المتضمّنين أنّه صلى الله عليه و آله لم يُكفِّن حمرة، بل دفنه بثيابه. فالعمدة ما ذكرناه.
اللّهُمَّ إلّاأن يُجمع بين الأخبار بأنّه جُرِّد من بعض ثيابه، فجعل صلى الله عليه و آله ردائه قائماً مقام ما جُرِّد عليه، ولا يخفى وجهه.
***5.
ص: 58
المورد السادس: إذا وُجد في المعركة ميّتٌ ، لم يعلم أنّه شهيد أم لا؟
1 - فإنْ كان عليه أثر القتل، فلا خلاف ظاهراً في سقوط تغسيله، كما في «طهارة» الشيخ الأعظم رحمه الله(1).
وفي «الجواهر»(2): (لا إشكال عند الأصحاب على الظاهر في إجراء أحكام الشهيد على كلّ من وُجد فيه أثر القتل). انتهى.
وهو الأظهر، لظاهر الحال الذي هو حجّة، لبناء العُرف والعقلاء على العمل به في أمثال المقام.
ويؤيّده: أنّه لولا ذلك، لما بقي للنصوص المتقدّمة إلّاموارد نادرة، كما لايخفى .
2 - وإنْ لم يكن عليه أثرُ القتل:
فعن الشيخ(3)، والمحقّق(4)، والمصنّف رحمه الله(5) ذلك أيضاً.
وعن ابن الجُنيد(6): أنّه ليس بشهيدٍ.
وعن ظاهر «الذكرى»(7) و «الروض»(8): التوقّف فيه.
واستدلّ للأوّل:
ص: 59
1 - بظاهر الحال، لعدم انحصار القتل بما ظَهر أثره.
2 - وبأصالة البراءة عن التكليف بالغُسل، بعد عدم صحّة التمسّك بالعمومات في الشبهات المصداقيّة.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلعدم ثبوته.
وأمّا الثاني: فلأنّ أصالة عدم الشهادة، يثبت بها الموضوع الباقي تحت العمومات، ويرتفع بها موضوع أصالة البراءة.
ولا يعارضها أصالة عدم الموت حَتف الأنف، لعدم كونه موضوعاً للأثر، حتّى يجري في نفيه الأصل، ولا تثبت بها الشهادة كي تكون جارية لذلك.
وعليه، فالأظهر هو عدم إجراء حكم الشهيد عليه.
***
ص: 60
المورد السابع: من وَجَب قتله برجمٍ أو قصاصٍ ، لا يُغسَّل بعد تنفيذ الحكم به غُسل الأموات، بل يؤمر بالإغتسال قبله، بلا خلافٍ فيه في الجملة.
بل عن جماعةٍ (1): دعوى الإجماع عليه.
وتشهد له: جملةٌ من النصوص:
منها: رواية مسمع كردين الذي رواه الكليني بسندٍ ضعيف، عن أبي عبداللّه عليه السلام:
«المرجوم والمرجومة يُغسّلان ويُحنّطان ويُلبسان الكفن قبل ذلك، ثمّ يُرجمان، ويُصلّى عليهما، والمقتصُّ منه بمنزلة ذلك، يُغسّل ويُحنّط ويُلبس الكفن، ويصلّى عليه»(2).
ورواها الصدوق مرسلة، عن أمير المؤمنين عليه السلام(3).
كما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب، وبإسناد آخر فيه إرسال عن مسمع كردين، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(4).
ولكن في «التهذيب»: (يغتسلان) من باب الافتعال بدل (يغسلان)، وضعفها مجبور بالعمل.
***
ص: 61
وينبغي التنبيه على اُمور:
الأمر الأوّل: نسب إلى أكثر الأصحاب، اختصاص هذا الحكم بالمرجوم والمقتص منه.
وعن «الذكرى»(1): إلحاق كلُّ من وَجَب عليه القتل بهما.
وعن المفيد(2) وسلّار(3): اختصاصه بالثاني.
أقول: والأوّل أظهر لظاهر النصّ .
واستدلّ للثاني: بالمشاركة في السبب.
وفيه: أنّه لعدم العلم بمناط الحكم، لا يجدي مجرّد المشاركة في السبب.
وأضعف منه القول الأخير، إذا لا دليل لهذا الحكم، سوى ما تقدّم المشتمل على المرجوم أيضاً.
الأمر الثاني: قد عُبّر الأصحاب في هذه المسألة بأنّه يؤمر مَنْ وَجَب عليه الحَدّ بالاغتسال والتحنيط، قالوا: والآمر هو الإمام أو نائبه، كذا في «الحدائق»(4).
واستشكل هو قدس سره تبعاً لبعضٍ في ذلك، وتبعه بعضٌ .
وقيل: يؤمر به إلّاأنّه لا يعتبر أنْ يكون الآمر هو الإمام أو نائبه.
وقيل: وإنْ اعتبر ذلك، لكن لا يعتبر الآمر في صحّة الغسل.
أقول: إنّه على تقدير أن يكون قوله عليه السلام: «يَغتَسلان ويتحنّطان»(5)، من باب4.
ص: 62
الافتعال كما عن «التهذيب»(1)، فإنّه لا ريب في ظهوره في كونه أمراً متوجها إلى الفاعل، وهو من يجب قتله برجمٍ أو قصاصٍ كما لا يخفى .
وعليه، فلا دليل على لزوم الأمر إلّامن باب الأمر بالمعروف.
وعلى تقدير أن يكون من باب التفعيل، فهو ظاهرٌ في أنّ وجوب الغُسل والحنوط إنّما يكون وجوباً كفائيّاً على كلّ واحدٍ، لأنّه ممّا يقتضيه إطلاق الخطاب، وعدم توجيهه إلى شخصٍ معيّن.
ولكن بما إنّ من المعلوم أنّ الشارع لم يرد المباشرة من غير من وجب قتله، فيُحمل على إرادة الآمر منه تنزيلاً لآمره منزلة تغسيله، ولازم ذلك وجوب الآمر في فرض امتناعه من الغُسل، فمع التصدّي لا يجب الأمر.
اللّهُمَّ إلّاأن يقال: أنّ الظاهر على هذا التقدير، توجيه الخطاب إلى غير مَنْ وجب قتله، وعليه فيجب الأمر لذلك، وحيثُ أنّ الأصحاب أفتوا بوجوب الأمر، فيعلم استنادهم إلى ما عن «التهذيب».
وعلى فرض وجوبه، الظاهر اعتباره في صحّة الغُسل، لما حقّقناه في محلّه من أنّ الأمر بالأمر بشيءٍ ظاهرٌ في كونه أمراً بذلك الشيء، مع اعتبار أمر الأوّل في صحّته.
والنصّ وإنْ لم يتضمّن اختصاص الأمر بالإمام أو نائبه، إلّاأنّه بما أنّ تولّي الحَدّ إنّما يكون له، وهذا أيضاً من مقاماته وشؤونه، لا يبعد القول بالاختصاص.
وعلى كلّ حال، لو لم يكن ذلك أظهر، فلا ريب في كونه أحوط.
أقول: ثمّ إنّ ظاهر النصّ كون هذا الغُسل هو غُسل الميّت، بقرينة التحنيط ولبس الكفن، فلابدّ من الغَسَلات الثلاث، كما صرّح به جماعة(2).2.
ص: 63
وعن المصنّف في «القواعد»(1) وتبعه جمعٌ ممّن تأخّر عنه(2): عدم وجوب الثلاث والاكتفاء بغُسلٍ واحد.
واستدلّ له:
1 - بأنّ المعهود في غُسل الأحياء الوحدة.
2 - وبإطلاق الأمر بالاغتسال في النصّ والفتوى ، فيتحقّق مع الوحدة.
3 - وبأصالة البراءة.
وجواب الجميع: ما ذكرناه من ظهور النصّ والفتوى ، في أنّ المأمور به هو غُسل الأموات، فمقتضى الإطلاق المقامي، اعتبار جميع مايعتبر في غُسل الأموات فيه.
واحتمال أنّ المأمور به هو غُسل التوبة خلاف الظاهر.
وبذلك ظهر أنّه يكفّن كتكفين الميّت، غاية الأمر أنّه لو امتنع معه القصاص، ينتزع المقدار المنافي له.
الأمر الثالث: لو مات بعد الغُسل حتف أنفه، غُسِّل، اقتصاراً فيما خالف إطلاق الأدلّة على المقدار الثابت تقييده، كما أنّه لو لم يُغسّل صحيحاً وانكشف فساده، يُغسّل لذلك. فتدبّر.
الأمر الرابع: قال في محكيّ «الروض»(3): (في تحتّمه عليه، أو التخيير بينه وبين غُسله بعد الموت، لقيامه مقامه نظرٌ).
أقول: ظاهر النصّ هو وجوب أمر الآمر به، ووجوب الفعل بعده، فهو ليس من3.
ص: 64
قبيل الأمر الواقع مورد توهّم الحظر، حتّى يقال إنّه لا يدلّ إلّاعلى عدم المنع. فتدبّر.
الأمر الخامس: هل يعتبر أن تكون نيّة الغُسل من الآمر، أو من المأمور؟ أم يكفي في صحّته نيّة كلّ واحدٍ منهما؟ وجوه وأقوال:
أقول: أقواها الثاني، لأنّ المأمور به العبادي هو فعله، وكون غُسل الميّت واجباً على غيره، لا يقتضي كون غُسله القائم مقام غُسل غيره واجباً على الغير وتعتبر نيّته.
كما أنّ قيام أمره مقام التغسيل، لا يقتضي ذلك، وعلى فرض الاقتضاء الاكتفاء بنيّة المأمور، لا يخلو عن نظرٍ.
فما في «العروة»(1) من اختيار القول الثالث ضعيفٌ جدّاً.
***2.
ص: 65
الثانية: صَدْرُ الميّت كالميّت في أحكامه.
المسألة (الثانية: صَدْرُ الميّت كالميّت في) جميع (أحكامه)، حيث يجب أنْ يُغسّل ويُكفّن، ويُصلّى عليه ويُدفن، على المشهور بين الأصحاب، كما عن «الذكرى»(1).
وفي «الجواهر»(2): بلا خلافٍ أجده في شيءٍ من ذلك بين المتقدّمين والمتأخّرين.
بل عن غير واحدٍ(3): دعوى الإجماع عليه.
أقول: والظاهر أنّ المدّعين للإجماع فهموا من عبارات الجميع، مع ما فيها من الاختلاف، إرادة معنى واحد.
وكيف كان، فالاختلاف في كلماتهم إنّما يكون من جهتين:
الجهة الاُولى: فيما يُفعل به من الأحكام ؟
فعن جماعةٍ : الاقتصار على ذكر الصَّلاة.
وعن بعضهم: الإقتصار عليها مع دفنه.
وعن بعضهم: إضافة التكفين إليهما.
وعن غير واحدٍ منهم: إضافة التغسيل أيضاً.
وعن بعضهم: إضافة التحنيط أيضاً.
الجهة الثانية: فيما يترتّب عليه الأحكام ؟
ص: 66
فعن الحِلّي(1): الاقتصار على ما فيه الصّدر.
وعن «الوسيلة»(2)، و «الغنية»(3)، و «المبسوط»(4)، و «النهاية»(5): التعبير بموضع الصّدر.
وعن «الخلاف»(6): التعبير بالصّدر وما فيه القلب.
وعن «الجامع»(7): إنْ قُطِع نصفين، فُعل بما فيه القلب.
أقول: فالكلام يقع في موضعين:
الأوّل: فيما يجب الصَّلاة عليه.
الثاني: في أنّه هل يترتّب على ما يجب الصَّلاة عليه سائر أحكامه أم لا؟
أمّا الموضع الأوّل: فالذي يظهر لي من النصوص، هو ما أفتى به المحقّق في «المعتبر»(8)، حيث قال: (لا تجبُ الصَّلاة إلّاأن يوجد مافيه القلب أو الصّدر واليدان، أو عظام الموتى )، مع إضافة موردٍ إليها، وهو ما يصدق معه أنّه إنسان ولو بقيد أنّه مقطوع الأطراف، وتعميم المورد الثالث بنحوٍ يشمل عظام النصف الأعلى، وذلك لأنّ النصوص الواردة في المقام على طوائف:
الطائفة الأُولى : ما دلَّ على وجوبها في المورد الثاني:7.
ص: 67
وهو خبر الفضل بن عثمان الأعور، المرويّ في «الفقيه»(1) و «التهذيب»(2)، عن مولانا الصادق عليه السلام، عن أبيه عليه السلام:
«في الرّجل يُقتل، فيوجد رأسه في قبيلةٍ ، ووسطه وصدره ويداه في قبيلة، والباقي منه في قبيلة ؟
قال عليه السلام: ديته على من وجد في قبيلته صدره ويداه والصَّلاة عليه».
والإيراد عليه: بضعف السند، في غير محلّه، لأنّ طريق الصدوق إلى الفضل بن عثمان صحيحٌ في قولٍ ، على ما عن بعض كتب الرِّجال المعتمدة.
مع أنّه لو سُلّم ضعفه، فهو منجبرٌ بعمل الأصحاب.
ودعوى:(3) أنّ ذكر اليدين في الجواب، إنّما يكون لذكرهما في السؤال لا لخصوصيّةٍ لهما.
مندفعة: بأنّ في السؤال ذكر الوسط أيضاً، فعدم ذكره مع ذكرهما، دليلٌ على ثبوت الخصوصيّة لهما.
مع أنّه لو سُلّم كون ذكر اليدين إنّما هو لذلك، فحيثُ أنّه لا محالة يفرض أنّ المراد الإشارة إلى مفروض السؤال، فلا مناص عن الالتزام بأنّ الموضوع هو النصف الأعلى من التَّرقوة إلى الرِّجلين، لا كون الموضوع هو الصَّدر وحده.
وأيضاً: ونحوهافي الضعف دعوى(4) اعتبار وجود القلب فعلاً في الصّدر واليدين، إذ الإطلاق محمولٌ على وجود القلب فعلاً في القطعة المشتملة على الصّدر واليدين.
إذ يرد عليها: أنّ غلبة وجود فردٍ لا توجبُ تقييد الإطلاق.5.
ص: 68
وبالجملة: فالأظهر أنّ المستفاد من المصحّح، أنّه يُصلّى على الصدر إذا كان معه اليدان.
الطائفة الثانية: ما دلَّ على وجوبها في الأوّل: كمرفوع(1) البزنطي: «المقتول إذا قُطع أعضاءه، يُصلّى على العضو الذي فيه القلب».
وأُورد عليه تارةً : بضعف السند.
واُخرى: بأنّ ما فيه القلب اُريد به نفس العضو الذي هو مستقرّ القلب - أي الصّدر - ولو لم يكن فيه القلب فعلاً.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّه يكفي في صحّة سنده، وجوده في «جامع البزنطي»، مع أنّه مرويّ عن ابن عيسى ، الذي كان لتحرّزه وشدّته يطرد مِن قم مَنْ يعتمد المراسيل ويروي عن الضعفاء.
وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر منه اعتبار وجود القلب فيه فعلاً، فإنّ الظاهر من كلّ عنوان أُخذ في الموضوع دَخْله فيه بنفسه، ودوران الحكم مدار وجوده إثباتاً ونفياً.
الطائفة الثالثة: ما دلَّ على وجوبها في المورد الثالث:
منها: صحيح عليّ بن جعفر: «أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام عن الرّجل يأكله السَّبع أو الطير، فتبقى عظامه بغير لحمٍ ، كيف يُصنع به ؟
قال عليه السلام: يُغسّل ويُكفّن ويُصلّى عليه، ويُدفن»(2).
ومنها: خبر الخالد، عن مولانا الباقر عليه السلام، قال:
«سألته عن رجلٍ يأكله السَّبع أو الطير، فتبقى عظامه بغير لحمٍ ، كيف يُصنع به ؟5.
ص: 69
قال عليه السلام: يُغسّل ويُكفّن ويُصلّى عليه ويدفن، فإذا كان الميّت نصفين صُلّي على النصف الذي فيه قلبه»(1).
أقول: والظاهر من (النصف) في هذا الخبر بقرينة التفريع؛ هو النصف من عظامه الذي هو موضع القلب، أي عظام النصف الأعلى من الجثة، وحيثُ أنّ المفروض في السؤال بقاء العظام بلا لحم، فلا مناص عن حمل قوله عليه السلام (الذي فيه قلبه) على كونه إشارة إلى مستقرّ القلب، بلا اعتبارٍ لوجود القلب فيه فعلاً.
وبالجملة: فالمستفاد من هذه الطائفة، وجوب الصَّلاة على مجموع عظام الميّت، وعلى عظام نصفه الأعلى، المشتمل على الصدر والقلب عند انقسامه نصفين.
الطائفة الرابعة: ما دلَّ على وجوبها في المورد الرابع، كخبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:
«لا يُصلّى على عضوِ رجلٍ مِنْ رِجْلٍ أو يدٍ أو رأسٍ منفرداً، فإذا كان البدن فَصَّلِّ عليه، وإنْ كان ناقصاً من الرأس واليد والرِّجل»(2).
وحيثُ أنّه لاتنافي بين هذه النصوص، لعدم المفهوم لشيء منها، فيعمل بالجميع.
فإنْ قلت: إنّ ذلك يتمّ في غير الأخيرة، وأمّا هي فتكون ذات مفهوم كما لا يخفى ، وعليه فتعارض مع غيرها.
قلت أوّلاً: إنّ الظاهر من الشرطيّة، كونها مسوقة في قبال نفي الصَّلاة على اليد والرّجل والرأس، لا على شرطيّة وجود البدن للصلاة.
وثانياً: أنّه لو سُلّم ثبوت المفهوم لها، فهو عدمُ وجوب الصَّلاة على غير البدن، وحيثُ أنّه مطلق، فيقيّد إطلاقه بما تقدّم.1.
ص: 70
أقول: وفي المقام طائفةٌ اُخرى من النصوص، وهي ما يدلّ على وجوب الصَّلاة على العضو التامّ :
منها: صحيح أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«إذا وجد الرَّجلُ قتيلاً، فإنْ وُجِد له عضوٌ تامّ صُلّىُ عليه ودُفِن، وإنْ لم يوجد له عضوٌ تامّ ، لم يُصلّ عليه ودفن»(1).
ومنها: ما عن «جامع البزنطي»، عن ابن المغيرة، قال:
«بلغني عن أبي جعفر عليه السلام أنّه يُصلّي على كلّ عضوٍ رِجْلاً كان أو يَداً، والرأس جزءٌ فما زاد، فإذا نقص عن يدٍ أو رجلٍ أو رأسٍ لم يُصلّ عليه»(2).
ونحوهما غيرهما(3).
أقول: برغم عمل الإسكافي بها(4)، ولكن لعدم عمل سائر الأصحاب بها، ومعارضتها بخبر طلحة، بل وبصحيح على بن جعفر وغيره من الأخبار الدالّة على أنّه لا يُصلّى على العضو الذي ليس فيه القلب، تُطرح هذه الرواية أو تُحمل على الاستحباب.
وأمّا صحيح محمّد بن مسلم، عن سيّدنا الباقر عليه السلام:
«إذا قُتل قتيلٌ فلم يوجد إلّالحمٌ بلا عظم، لم يُصلّ عليه، فإنْ وُجد عظمٌ بلا لحم فصلّي عليه»(5).2.
ص: 71
فلِمَ سُلّم كون المراد به مطلق العظم لا عَظمه المطلق - مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً - فيتّحد مفاده مع الطائفة الرابعة، لمعارضته مع جميع ما تقدّم من النصوص، حتّى الطائفة الأخيرة، فلا مجال للعمل به.
أقول: وقد يستدلّ على وجوب الصَّلاة على الصّدر المجرّد عن القلب بدليلين:
1 - باستصحاب الوجوب النفسي الضمني، الثابت له قبل الانفصال.
2 - وبقاعدة الميسور.
والجواب: فيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلعدم الصدق على الحكم بثبوت الحكم في زمان الشكّ ، أنّه إبقاءُ المتيقّن عرفاً، مع أنّك قد عرفت أنّ المختار عدم جريان الاستصحاب في الأحكام.
وأمّا القاعدة: فلعدم كون الصَّلاة على البعض بعضاً من الصَّلاة على الكلّ ، مضافاً إلى ما عرفت من عدم ثبوت القاعدة في أجزاء المركّب الاعتباري.
فتحصّل: أنّه لا دليل على وجوب الصَّلاة على الصّدر وحده، أو القلب وحده، لا سيّما وقد دلّ بعض النصوص على أنّه لا يُصلّى على اللّحم المجرّد، والقلب معدودٌ من اللّحوم.
وأيضاً: الاستدلال لوجوبها على القلب وحده، بأنّه رئيسُ الأعضاء، ومحلّ الاعتقادات الّتي بها تمتاز الدرجات، فكأنّه الإنسان حقيقة، كما ترى، إذ هذه الوجوه الاستحسانيّة، لا تصلح أن تكون مدركاً للحكم الشرعي، ولكن الاحتياط طريق النجاة.
وأمّا الموضع الثاني: فالمشهور بين الأصحاب ترتّب جميع أحكام الميّت عدا التحنيط على ما يُصلّى عليه.
ص: 72
بل عن ظاهر «مجمع الفائدة»(1) و «الحدائق»(2): الاتّفاق عليه، وهو الأظهر.
ويشهد له:
1 - الأولويّة.
2 - عدم القول بالفصل بين الصَّلاة وسائر الأحكام، لأخصّيّة الصَّلاة لديهم من الغُسل والكفن والدفن.
3 - فحوى ما دلَّ على وجوب الغُسل للقطعة ذات العظم من الإجماع(3)وغيره، فتدبّر.
4 - ما دلَّ على دفن كلّ عضوٍ، وهي جملةٌ من النصوص المتقدّمة في الصَّلاة:
كصحيح الفضل المتقدّم(4)، فإنّ الظاهر من قوله عليه السلام: (ديته على من وُجِد في قبيلته صدره ويداه والصَّلاة عليه). أنّ هذا العضو هو الذي يكون بمنزلة كلّ الميّت في الآثار المترتّبة عليه من مطالبة الدية وغيرها.
وبالجملة: الظاهر من النصوص كونها مسوقة لبيان تعميم الموضوع، لا خصوص الصَّلاة من الاحكام.
وأمّا الحنوط في موضع التحنيط، فهو أيضاً كسائر الأحكام.
وأمّا في غير موضعه، فالأظهر عدم الوجوب، وفاقاً لجماعة من الأساطين كالشهيدين(5) والمحقّق الثاني(6) والشيخ الأعظم(7) وغيرهم للأصل.0.
ص: 73
والأدلّة المتقدّمة لا تدلّ إلّاعلى وجوبه في موضع الحنوط، وكذلك إطلاق الفتاوي بكونه كالميّت.
وبالجملة: فظهر ممّا ذكرنا عدم وجوب تكفينه في ثلاث قطع.
هذا تمام الكلام في الصّدر.
***
ص: 74
وغيره إنْ كان فيه عَظمٌ غُسِّل.
(و) أمّا (غيره) أي غير الصدر، ف (إنْ كان فيه عَظْمٌ غُسِّل) كما هو المشهور(1).
وعن «المنتهى»(2): عدم الخلاف فيه بين علمائنا.
وعن «الخلاف»(3) و «الغنية»(4) وظاهر «جامع المقاصد»(5): الإجماع عليه.
واستدلّ له:
1 - بالاستصحاب.
2 - وبقاعدة الميسور.
3 - وبمرسل أيّوب بن نوح، عن بعض أصحابنا، عن مولانا الصادق عليه السلام:
«إذ قطع من الرّجل قطعةً فهي ميتة، فإذا مسّه إنسانٌ فكلّما كان فيه عظمٌ ، فقد وجبَ على من يمسّه الغُسل، وإنْ لم يكن فيه عَظْمٌ فلا غُسل عليه»(6)، بتقريبين:
أحدهما: أنّ مقتضى إطلاق جعلها ميتة، ترتّب جميع أحكامها، حتّى وجوب التغسيل، وتفريع غُسل مسّ الميّت عليه، لو لم يدلّ على التيمّم، لا ريب في عدم دلالته على الاختصاص به.
ص: 75
ثانيهما: أنّ ثبوت غُسل مسّ الميّت، ملازمٌ لثبوت التغسيل، كما نسبه صاحب «الحدائق»(1) إلى ظاهر الأخبار والأصحاب، ومورده وإنْ كان الحَيّ ، إلّاأنّه يتعدّى إلى الميّت للأولويّة.
4 - وبصحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام:
«في الرّجل يأكله السَّبع أو الطير، فتبقى عظامه بغير لحم ؟ قال عليه السلام: يُغسّل ويُكفّن ويُصلّى عليه ويُدفن»(2).
بدعوى صدق العظام على التامّة والناقصة.
5 - وبما تضمّن تغسيل أهل مكّة يد عبد الرحمن بن عتّاب الّتي خطفها طائر من معركة الجمل وألقاها بمكّة وعرفوها من نقش خاتمه(3).
6 - وبفحوى صحيح محمّد بن مسلم، عن مولانا الباقر عليه السلام:
«إذا قُتل قتيلٌ فلم يوجد إلّالحم بلا عظم، لم يُصلّ عليه، فإنْ وجد عظم بلا لحم صُلِّي عليه»(4).
7 - وبأنّ المستفاد من مجموع الأدلّة، لاسيّما النصوص المتضمّنة لبيان علّة وجوب التغسيل، بأنّه تطهير جسد الميّت، من كون المقصود بالغُسل ليماسّ الملائكة ويماسّونه، لا حصول أمر معنوي لا نتعقّله، وذلك لأنّ الشارع أوجب غَسل جميع الأجزاء مطلقاً، واعتبر في صحّته اُموراً تعبّديّة، يجب التقييد بها بالقدر الثابت، وحيثُ لم يثبت الاشتراط في مثل الفرض، كي يسقط التكليف بالتعذّر، فلا يرفع اليد عمّا يقتضيه إطلاق مطلوبيّة الفعل.2.
ص: 76
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلما أشرنا إليه غير مرّة من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام.
وأمّا القاعدة: فلعدم كونها حجّة في أمثال المقام، ممّا تعذّر امتثال الأمر بالمركّب.
وأمّا المرسل: فلأنّه يرد على التقريب الأوّل أنّ مجرّد صدق الميتة لا يكفي في وجوب الغُسل، لعدم الدليل على وجوب تغسيل كلّ ما يصدق عليه أنّه ميتة.
اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّه إمّا أن يكون المراد به كونه ميتة حُكماً، أو يكون كونه ميتة حقيقةً . وعلى كلا التقديرين يدلّ على المطلب.
أمّا على الأوّل: فلإطلاق دليل التنزيل.
وأمّا على الثاني: فلأنّ بيان الشارع للفرد الحقيقي الخفيّ ، لا محالة يكون بلحاظ ثبوت الحكم الثابت للفرد الجَليّ له، وإلّا فليس بيان ذلك وظيفته.
ولكن يمكن دفعه: بأنّ ذلك يتمّ بالنسبة إلى الأحكام الثابتة للميتة مطلقاً كالنجاسة، لا ما ثبت لقسمٍ خاص، فتدبّر، فإنّ التفريع يدلّ على كون التنزيل أو بيان الفرد الخفيّ بلحاظ جميع أحكام ميتة الإنسان.
ويرد على التقريب الثاني: عدم ثبوت الملازمة المذكورة، بحيث يصحّ الاستدلال لإثبات كلّ منهما بثبوت الآخر، فإنّه مضافاً إلى عدم الإجماع عليه، الظاهر كون مدركهم في الحكم بثبوت كلا الحكمين في الفرض بعض ما ذُكر.
هذا كله مضافاً إلى أنّه ضعيفٌ للإرسال.
ودعوى:(1) انجبار ضعفه بالعمل.
مندفعة: بعدم ثبوت استناد الأصحاب إليه في هذا الحكم، بل الظاهر هو العدم، ويؤيّده عدم الإفتاء بما تضمّنه في مورده وهو الحَيّ .2.
ص: 77
وأمّا الصحيح: فلأنّ صدق (العظام) على العظم ممنوعٌ ، كما لا يخفى، بل ظاهرها إرادة التامّة.
وأمّا الخامس: وهو تغسيل أهل مكّة يد عبد الرحمن، فإنّه لو ثبت - مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً - فهو عملٌ ليس بحجّة.
وأمّا السادس: وهو صحيح محمّد بن مسلم، فالظاهر أنّ المراد (بالعظم) فيه هو عظمه المطلق لامطلق عظمه، ولا أقلّ من لزوم حمله عليه، بشهادة النصّ والإجماع على عدم وجوب الصَّلاة على مطلق عظمه.
وأمّا الأخير: - فلأنّه مضافاً إلى عدم ثبوت كون حكمة وجوب التغسيل ذلك، بل جملةٌ من النصوص تدلّ على أنّ حكمته رفع الجنابة الحاصلة بالموت - أنّ الحكمة لا يدور الحكم مدارها، والظاهر من الأدلّة ثبوت تكليف واحدٍ بمجموع ما يعتبر في التغسيل، فلو تعذّر الإتيان بالجميع، فإنّ ثبوت وجوب البقيّة يحتاج إلى دليل آخر.
وعليه، فالإفتاء بالوجوب مشكلٌ ، كما اعترف به صاحب «المدارك» وغيرها.
وأشكل منه الإفتاء بالعدم، مع ذهاب الأساطين والمحقّقين إلى الوجوب، فالاحتياط طريق النجاة.
أقول: وبما ذكرناه يظهر حكم القطعة المنفصلة عن الحَيّ ، إذ لا مدرك لوجوب تغسيلها، إلّابعض ما تقدّم، الذي عرفت ما في جميعها، وحيث لم يفتِ الجميع بالوجوب فيها، فالأظهر هو العدم، كما عن «المعتبر»(1) و «الروض»(2) و «مجمع2.
ص: 78
وكُفّن ودُفِن،
البرهان»(1) و «المدارك»(2) وغيرها.
(و) بذلك كلّه انقدح مدرك ما ذكره الأصحاب، من أنّه بعد أن غُسّل (كُفِّن ودُفِن) وإنْ اختلفت عباراتهم بالنسبة إلى الأوّل، فإنّ جماعة عبّروا بأنّه يُلفَ في خرقةٍ (3)، وحيثُ عرفتَ عدم دلالة النصوص المتقدّمة على الوجوب، وانحصار المدرك بالإجماع، والقدر المتيقّن منه اللّف في خرقةٍ ، فيقتصر عليه.
***4.
ص: 79
وكذا السِّقط لأربعة أشهر. وإلّا دُفن بعد لفّه في خِرقة، وكذا السِّقط لدون أربعة أشهر.
قال المصنّف رحمه الله: (وكذا السِّقط لأربعة أشهر) يُغسّل ويُكفّن ويُدفن، كما تقدّم في مبحث التغسيل.(1)
(وإلّا) أي وإن وُجِد بعض الميّت، ولم يكن فيه عظمٌ (دُفن بعد لفّه في خِرْقة) ولا يجبُ تغسيله كما هو المشهور في اللّف(2)، وإجماعٌ في الدفن(3)، وعدم وجوب الغُسل، وهو الحجّة فيهما.
مع أنّه يدلّ على وجوب الدفن جملةٌ من النصوص المتضمّنة للأمر بدفن كلّ عضوٍ، وإن لم يكن تامّاً - المتقدّم بعضها -، وعلى عدم وجوب الغُسل الأصل.
وأمّا اللّف في الخِرقة، فحيثُ لا دليل على وجوبه، ولم يثبت إجماعٌ على اختيار المحقّق وغيره فالحقّ العدم(4)، وعليه فالأظهر عدم وجوبه.
(وكذا السّقط لدون أربعة أشهر) يُدفن بعدما يُلفّ في خِرقةٍ على الأحوط، كما تقدّم تفصيل ذلك أيضاً في مبحث التغسيل.
***
ص: 80
فرع: إذا وجد بعض الميّت، وكان عَظْماً مجرّداً، فهل يُلحق بما إذا وُجِد عضوٌ مشتملٌ على العظم أم لا؟ وجهان:
صريح جماعة كالإسكافي(1) والشهيد(2) والمحقّق، هو القول الثاني(3).
وظاهر آخرين(4) حيث اقتصروا في مقابل القطعة ذات العظم على اللّحم المجرّد: هو الأوّل.
وظاهر جماعةٍ العدم، وقوّاه الشيخ الأعظم(5).
أقول: إنْ كان المدرك لوجوب التغسيل وغيره من الآثار في القطعة ذات العظم، هو ما تضمّن تغسيل أهل مكّة يَد عبد الرحمن، أو ما ذُكر أخيراً، فالأظهر في المقام العدم.
وأمّا سائر الوجوه، فهي تدلّ على الوجوب في المقام أيضاً، كما لا يخفى على المتدبّر، ولأجل ذلك لا يُترك الاحتياط.
***5.
ص: 81
الثالثة: يُؤخَذُ الكفن من أصل التركة، قبل الدِّيون والوصايا.
المسألة (الثالثة: يؤخذ الكفن من أصل التركة قبل الدِّيون والوصايا) بلا خلافٍ فيهما.
بل عن جماعةٍ (1): دعوى الإجماع عليهما.
أقول: وتشهد لهما جملةٌ من النصوص:
منها: مصحّح زرارة، قال: «سألته عن رجلٍ مات وعليه دَينٌ بقدر ثمن كفنه ؟ قال عليه السلام: يُجعل ما ترك في ثمن كفنه»(2).
ومنها: خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أوّل شيء يُبدأ به من المال الكفن، ثمّ الدَّين، ثمّ الميراث»(3).
وهما بضميمة ما دلَّ على تأخّر الوصيّة عن الدَّين، يدلّان على تأخّر الوصيّة عن الكفن.
وأيضاً: لو كان تركة الميّت متعلّقاً لحقّ الغير، ففيه أقوال:
أحدها: تقديم الكفن عليه مطلقاً، وهو الظاهر من كلمات أكثر الأصحاب(4).
الثاني: تقديمه على الكفن كذلك.
الثالث: التفصيل بين الحقوق:
ص: 82
فعن غير واحدٍ: تقديم حقّ الجناية عليه، وتقديمه على سائر الحقوق.
وعن «البيان»(1) وحواشي «القواعد»(2) و «الموجز الحاوي»(3): أنّ المرتهن والمجنيّ عليه يُقدّمان.
وعن «الذكرى»(4): قُدّم المرتهن بخلاف غُرماء المفلّس.
أقول: الأظهر هو تقديم الكفن على جميع الحقوق، عدا حقّ الجناية، وتقديمه على الكفن.
أمّا الأوّل: فلأنّ مقتضى تقدّم الكفن على الدَّين مطلقاً هو ذلك، إذ تلك الحقوق إنّما تتعلّق بالشيء في صورة وجوب أداء الدَّين المفروض عدمه.
فإنْ قلت: هذا إنّما يتمّ بالنسبة إلى غُرماء المفلّس، ولا يتمّ في المرتهن، إذ ثبوت الحقّ يدور مدار نفس الدَّين، إذ العين تكون رهناً عليه، وحيثُ أنّ تقديم الكفن لا يوجب سقوط الدَّين، فما دلَّ على الابتداء بالكفن يعارض مع ما دلَّ على ثبوت الحقّ على نحو تعارض العامين من وجه، فيرجع بعد تساقط الإطلاقين إلى استصحاب بقاء الحقّ ، فيُقدّم على الكفن، لحرمة التصرّف في ملك الغير.
قلت: إنّ الراهن ليس له التصرّف في العين، من جهة أنّ للمرتهن استيفاء حقّه من العين في صورة وجوب أداء الدَّين، وامتناع المالك منه، فإذا دلّ الدليل على عدم وجوبه، وتعيّن صرف العين في الكفن، فلا محالة يسقط حقّ المرتهن من العين.
وأمّا الثاني: فلأنّ حقّ الجناية إنّما يتعلّق بالعين، وليس متفرِّعاً على ثبوت الدَّين، كي يجري فيه ما سبق، ودليل وجوب الكفن لا يصلح للترخيص في9.
ص: 83
التصرّف في حقّ الغير وملكه.
ودعوى:(1) أنّ قوله عليه السلام في خبر السكوني: (أوّل شيء يُبدأ به من المال الكفن).
يدلّ بإطلاقه على تقديم الكفن على حقّ الجناية.
مندفعة: بأنّه لا يصلح للمزاحمة مع حقوق النّاس.
نعم، لو أمكن البيع مع بقاء الحقّ ، لا يكون حقّ الجناية مانعاً عن بيع ماله وصرفه في الكفن، كما لا يخفى .
***3.
ص: 84
إذا لم يكن للميّت تركةٌ بمقدار الكفن، فلا خلاف ظاهراً في عدم وجوب تكفينه على المسلمين، كما عن «الذخيرة»(1).
بل عن غير واحدٍ(2): دعوى الإجماع عليه.
أقول: ويمكن أن يُستشهد له بوجوه:
الوجه الأوّل: الأصل بعد عدم الدليل على الوجوب، إذ ما يتوهّم أن يكون دالّاً على الوجوب، ليس إلّاإطلاق ما دلَّ على وجوب الكفن، بدعوى أنّه يقتضي وجوب مقدّماته، ومن جملتها بذل الكفن.
وهو توهّمٌ فاسد، لأنّه مضافاً إلى عدم وجود مطلق دالّ عليه، فإنّ النصوص التي يُستفاد منها الوجوب كلّها واردة في مقام بيان حكمٍ آخر، فلا إطلاق لها من هذه الجهة، حيث أنّ إطلاقها لو ثبت إنّما هو مَسوقٌ لبيان وجوب نفس العمل في الكفن المفروض وجوده، ولذا لم يتوهّم أحدٌ التنافي بين تلك الأدلّة، مع ما دلَّ على تعيّن شراءه من ماله أو من مال الزوج ونحوه، كما أنّ الفقهاء لم يتصدّوا لوجه الجمع بين الأدلّة من هذه الجهة، وهذا يكشف عن أنّ المستفاد من النصوص بحسب المتفاهم العرفي ليس إلّاما ذكرناه.
الوجه الثاني: أنّ تعيين مأخذ الكفن مع كثرة إمكان أخذه من ذلك المأخذ، وعدم التصريح بأنّه عند فقد ذلك المأخذ يجبُ بذله على عامّة المسلمين، دليلٌ على عدم الوجوب.
ص: 85
الوجه الثالث: الأخبار الدالّة على استحبابه:
منها: صحيح سعد بن طريف، عن إمامنا الباقر عليه السلام: «مَنْ كفّن مؤمناً كان كمَن ضَمن كسوته إلى يوم القيامة»(1).
ومنها: ما رواه ابن محبوب، عن الفضل بن يونس الكاتب، قال:
«سألتُ أبا الحسن موسى عليه السلام عن رجلٍ من أصحابنا ماتَ ، ولم يترك ما يكفّن به، أشتري له كفنه من الزكاة ؟
فقال عليه السلام: إعط عياله من الزّكاة قدر ما يجهّزونه، فيكونون هم الذين يجهّزونه.
قلت: فإنْ لم يكن له ولدٌ ولا مَنْ يقوم بأمره، فاُجهّزه أنا من الزّكاة ؟
قال عليه السلام: كان أبي عليه السلام يقول: إنّ حُرمة بدن الميّت ميّتاً كحرمته حيّاً، فوار بدنه وعورته، وكفّنه وحنّطه، واحتسب بذلك من الزّكاة، وشيّع جنازته.
قلت: فإنْ اتّجر عليه بعض اخوانه بكفنٍ آخر، وكان عليه دَينٌ أيُكفّن بواحدٍ، ويُقضى دينه بالآخر؟
قال عليه السلام: لا، ليس هذا ميراثاً، إنّما هذا شيءٌ صار إليه بعد وفاته، فليكفّنوه بالذي اتّجر عليه، ويكون الآخر لهم يُصلحون به شأنهم»(2).
أقول: والخبر الأخير يدلّ على جواز تجهيزه وتكفينه من الزكاة.
وعن جماعةٍ كالمنتهى(3) و «الذكرى»(4) و «جامع المقاصد»(5) و «الروض»(6)،0.
ص: 86
و «مجمع الفائدة»(1): القول بوجوبه للأمر به في الخبر.
وفيه: إنّ الأمر به لوروده مورد توهّم الحظر، وللاستدلال بقول أبيه عليه السلام، بضميمة عدم وجوب كسوة الحَيّ ، لا يُحمل على الوجوب، كما أنّ الأمر بإعطاء عياله ليجهّزوه محمولٌ على الفضل، لعدم القول بوجوبه، ولعدم تعيّن صرفه في تجهيزه بعد انتقال الزكاة إليهم.
هذا كلّه في غير الزوجة.
***].
ص: 87
وَكَفَنُ المرأة على زوجها، وإنْ كانَتْ موسِرةً .
(و) أمّا (كفن المرأة)، فهو (على زوجها) إجماعاً محقّقاً في الجملة(1)، ومحكياً عن «الخلاف»(2) و «المفاتيح» و «نهاية الاحكام»(3) و «الروض»(4)، كذا في «طهارة» الشيخ الأعظم رحمه الله(5).
(وإنْ كانَتْ موسِرةً )، كما عليه فتوى الأصحاب في «المعتبر»(6) و «الذكرى »(7)، وعند علمائنا في «المنتهى»(8) و «التذكرة»(9)، كذا في «الجواهر»(10).
ويشهد له:
1 - خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام:
«أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: على الزّوج كفن امرأته إذا ماتت»(11).
ص: 88
2 - ومرسل «الفقيه». قال عليه السلام: «كفن المرأة على زوجها»(1).
وربما جعله جماعة تبعاً لسيّد «المدارك»(2) هذا المرسل من تتمّة صحيح ابن سنان المرويّ عن مولانا الصادق عليه السلام:
«ثمن الكفن من جميع المال(3)، وقال عليه السلام: كفن المرأة على زوجها»(4).
إلّا أنّه غير ثابتٍ ، لا سيّما أنّه قد روى الصحيح في محكيّ «الكافي»(5)و «التهذيب»(6) خالياً عن هذه التتمّة، وملاحظة المتعارف من عادة الصدوق رحمه الله، وعدم استدلال أحدٍ من الفقهاء به إلى زمان صاحب «المدارك» رحمه الله.
وكيف كان، ففي الخبرين المنجبر ضعفهما بالعمل كفاية.
أقول: وأمّا الاستدلال له بأنّه من الإنفاق الواجب على الزوج، لبقاء الزوجيّة بعد الموت.
فهو مخدوشٌ : لعدم شمول أدلّة الإنفاق له، لو سُلّم صدق الإنفاق عليه، ولعلّه لذلك بنى الفقهاء على عدم وجوب كفن سائر من تجب نفقته، لا للإجماع حتّى يقال إنّه الفارق بين البابين.
فما عن «الروض»(7) من النقض عليه بغيرها ممّن يجب إنفاقه في محلّه.
وعليه، فالعمدة الخبران، ومقتضى إطلاقهما عدم الفرق بين كونها مُعسرة أو موسرة.8.
ص: 89
ودعوى: أنّه في صورة يسارها، يقع التعارض بين إطلاق الخبرين، وإطلاق ما دلَّ على أنّ الكفن من جميع المال فيتساقطان.
مندفعة: بأنّ غلبة وجود قيمة الكفن، وكون الزوجيّة من العناوين الثانويّة، توجبان قوّة ظهور الخبرين في إرادة كون كفنها على الزوج، حتّى مع يسارها كما لا يخفى.
وأيضاً: مقتضى إطلاقهما، عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة، والمجنونة والعاقلة، والدائمة والمتمتّع بها، والمدخول بها وغيرها، والمطيعة والناشزة.
ودعوى:(1) إنصراف الإطلاق إلى الدائمة كما ترى .
وأيضاً: أنّ مقتضى إطلاق الأدلّة، عدم الفرق في الزوج بين كونه صغيراً أو كبيراً، عاقلاً أو مجنوناً.
والاستدلال لعدم ثبوته على الصغير والمجنون، بحديث رفع القلم عنهما(2).
غيرُ سديدٍ، لما حقّقناه في محلّه في حاشيتنا على «المكاسب»(3)، من عدم شمول الحديث لباب الضمانات والتعزيرات والجناية والحيازة، ونحوها كما هو المشهور بين الأصحاب.
***).
ص: 90
أقول: هاهنا تنبيهات يقتضي التعرّض لها:
التنبيه الأوّل: قيل إنّه يعتبر في كون الكفن على الزَّوج اُمور:
أحدها: يساره.
وفي «المدارك»(1): (والحكم مختصٌّ بالزّوج الموسر فيما قطع به الأصحاب)، واحتمل شموله للمُعْسِر.
واستدلّ له: بإطلاق النصّ ، ومقتضاه أنّه لو كان مُعْسِراً يقع التزاحم بينه وبين ما دلَّ على وجوب بذل نفقة واجبي النفقة، وما يجب عليه إبقائه من داره وثيابه ونحو ذلك، ولازم ذلك وجوب الاستقراض مع الإمكان.
وأجاب عنه جماعةٌ من المتأخّرين عنه(2): بأنّ إطلاقه يقتضي ثبوته في الذمّة، وعليه فمادلّ على عدم لزوم بيع مستثنيات الدّين، كمصحّح الحلبي، الوارد فيه قوله عليه السلام:
«لا تُباع الدار في الدَّين، ولا الخادم، وذلك لأنّه لابدّ للرَّجل من ظلٍّ يسكنه وخادمٍ ... الخ»(3) ونحوه غيره(4).
يدلّ على عدم مزاحمة كفن الزوجة، مع ما هو من ضروريّات معاش الرّجل.
وفيه: إنّه ليس ذلك من الدّين، ولذا لا ينتقل إلى الوارث، وليس لهم المطالبة به بعد تكفينها من مالها ودفنها، بل الظاهر من الأدلّة كونه من قبيل الإنفاق على الأقارب، الذي يكون الخطاب به شرعيّاً لا ذميّاً، فيكون الواجب كسوتها بالكفن لا تمليكه لها.
ص: 91
وعلى ذلك، فلا تصلح تلك النصوص للدلالة على تقدّم ما هو من ضروريّات المعاش عليه، بل مقتضى إطلاق دليله ثبوته مطلقاً، ووجوب الاستقراض مع الإمكان.
واستفادة عدم مزاحمة مثل هذا الحقّ ، مع ما هو من ضروريّات معاش الرّجل من مثل المصحّح المتقدّم، تحتاج إلى لطف قريحةٍ ، وإلّا فالجمود على ظاهره يأبى عن هذه الاستفادة.
وعليه، فما ذكره صاحب «المدارك» وتبعه جماعةٌ هو الأقوى .
نعم، إذا تعذّر الكفن ولو بالاستقراض، أو كان حَرَجيّاً سقط وجوب بذله، كما لا يخفى .
أقول: ثمّ إنّه على فرض سقوطه مع الإعسار مطلقاً، أو فيما إذا كان حَرَجيّاً:
1 - هل تُدفن الزوجة عارية ؟
2 - أو يؤخذ من بيت المال، لتصبح كفاقد الكفن، كما احتمله في «الجواهر»(1)؟
3 - أم يؤخذ الكفن من تركتها لها، كما هو المشهور، بل في «الجواهر»(2): لم يُعرف الخلاف فيه ؟ وجوه:
قد استدلّ للأوّل: بأنّه خرجت الزوجة عن عموم ما دلَّ على أخذ الكفن من التركة، وسقوط الخطاب المتوجّه إلى الزوج عن كفنها، لايقضي بالانتقال إلي تركتها.
وفيه: أنّه في صورة عدم شمول ما دلَّ على كون كفنها على الزّوج، لا مخرج لها عن عموم ما دلَّ على أنّ الكفن يؤخذ من التركة، فعموم ما دلَّ على أنّه في جميع المال هو المحكّم.4.
ص: 92
ثانيها: أنْ لا يتعلّق بأموال الزوج حقّ الغير من رهنٍ أو حَجْرٍ أو غيرهما.
واستدلّ له: بأنّ المنع الشرعي كالمنع العقلي، فهو كالمُعْسِر الذي لا مال له.
أقول: بناءً على ما عرفت من عدم سقوطه عنه مع الإعسار إلّاإذا تعذّر أو كان حَرَجيّاً، لا وجه لسقوطه بتعلّق حقّ الغير.
وأمّا بناءً على السقوط، كما هو المشهور، فاشتراط هذا الشرط في محلّه.
ودعوى:(1) أنّ المستفاد من النصوص - كما تقدّم - تقدّم الكفن على حقّ الرهانة وحقّ الغرماء.
مندفعة: بأنّ ذلك يتمّ في أخذ الكفن من تركة الميّت، لا في أخذه من مال الزوج. والتعدّي يحتاج إلى دليل مفقود.
ثالثها: عدم تعيينها الكفن بالوصيّة.
استدلّ له: بعموم ما دلَّ على وجوب العمل بالوصيّة.
وفيه: أنّ ذلك الدليل لا ينافي الخطاب المتوجّه إلى الزوج في فرض عدم العمل، فلا وجه لسقوطه.
نعم في صورة العمل بها يسقط لارتفاع الموضوع.
رابعها: عدم تقارن موتهما، وإلّا فيسقط كفنها عنه. كما عن «الذكرى »(2)وجماعة من المتأخّرين عنه كالمقداد(3)، والشهيد(4) والمحقّق(5) الثانيين، لظهور الدليل في الزوج الحَيّ .
***9.
ص: 93
التنبيه الثاني: لو مات الزوج بعد الزوجة، وكان له ما يساوي كفن أحدهما:
1 - فهل يُقدّم عليها مطلقاً، كما صرّح به جماعة(1)؟
2 - أم لا يُقدّم كذلك ؟
3 - أم تقدّم عليه لو وضع عليها كما عن «الروض»(2) احتماله فيما قبل الدفن والجزم به بعده ؟
وجوهٌ أقواها الأوّل، إذ حقّ الغير لا يزاحم الكفن كما مرّ، فكون كفن المرأة على زوجها، - يعني مالكيّة الزوجة للكفن في ذمّة الزوج، أم مالكيّتها عليه أن يكفّنها، كملكها عليه الإسكان في حال الحياة - لا يصلح للمزاحمة بعد دلالة الدليل على أنّ الكفن مقدّم على الدَّين والحقّ المالي.
نعم، بناء على كونها مالكة في ذمّته عين الكفن، والبناء علي انطباق ما في الذمّة على ما كفنت به خارجاً، بحيث لو أراد التبديل لما جاز له ذلك، يتعيّن الالتزام بالوجه الثالث، من غير فرقٍ بين ما قبل الدفن وما بعده.
لكن كلا المبنيين فاسدين:
أمّا الأوّل: فلما عرفت آنفاً.
وأمّا الثاني: فلأنّه لا دليل على تعيّن ما في الذمّة بمجرّد التكفين به.
ولعلّ ما هو المقطوع به في كلمات الأساطين من جوازالتبديل، دليلٌ على العدم.
فتحصّل: أنّ الأظهر هو القول الأوّل.
***8.
ص: 94
التنبيه الثالث: كفن غير الزوجة من الأقارب ليس عليه، وإنْ كان ممّن يجب نفقته مطلقاً، سواءٌ أكان للميّت مالٌ أم لم يكن، بلا خلافٍ ظاهرٍ كما في «طهارة» الشيخ الأعظم(1).
بل ظاهر المحكيّ عن «الروض»(2): أنّه من المسلّمات.
وعن موضعٍ من «التذكرة»(3): وجوبه، ومالَ جماعةٌ من محشّي «العروة»(4)إلى وجوبه في فرض عدم المال للميّت.
أقول: مقتضى الأصل - بعد عدم الدليل على الوجوب - هو العدم.
واستدلّ للثاني: بأنّه من الإنفاق الواجب، وحيثُ أنّه يشترط في وجوب الإنفاق علي غير الزوجة أن لا يكون عنده ما يُغنيه عن أن يكون كَلاً على غيره، فخصَّ جماعةٌ الوجوب بما إذا لم يكن عنده مال.
ولكن قد مرّ أنّ صدق الإنفاق على الكفن يمكن منعه، كما أنّ شمول أدلّة الإنفاق له على فرض صدقه قابلٌ للمنع.
والاستصحابُ على فرض تماميّة أركانه، لا يجري، لكونه محكوماً لاستصحاب عدم الجعل كما أشرنا إليه غير مرّة.
وبالجملة: فالأقوى : عدم الوجوب مطلقاً.
***9.
ص: 95
التنبيه الرابع: ألحقَ بالكفن جماعةٌ من الأصحاب، كالشيخ في «المبسوط»(1)، والحلّي في «السرائر»، والمصنّف في «نهاية الاحكام»(2)، والشهيدين في جملةٍ من كتبهما(3)، والمحقّق الثاني في «جامع المقاصد»(4)، وغيرهم في غيرها(5):
مؤونة التجهيز.
بل قيل: لا أجد خلافاً فيه.
واستدلّ له:
1 - بأنّ ذكر الكفن في الخبرين، إنّما هو لكونه أهمّ مؤن التجهيز لا لخصوصيّة فيه.
2 - كما أنّه الوجه في الاقتصار على الكفن، فيما دلَّ على خروجه من أصل المال، وأنّه مقدّم على الدَّين، مع أنّه لا خلاف في أنّ سائر مؤن التجهيز تُؤخذ من أصل التركة، وبأنّه من الإنفاق الواجب.
أقول: ولكن يرد على الأخير ما عرفت آنفاً، وعلى ما قبله أنّ الظاهر من النصّ الاختصاص بالكفن، وأنّ ذكره إنّما يكون لخصوصيّة فيه، لا من باب المثال.
ولأجل ذلك توقّف جماعةٌ من متأخّري المتأخّرين(6)، تبعاً للمحقّق الأردبيلي رحمه الله(7) في هذا الحكم، وهو في محلّه، بل لولا إفتاء الأصحاب، وما ادّعاه9.
ص: 96
بعضهم من عدم الفصل بين الكفن وغيره، لكان الأقوى عدم كون ما عدا الكفن على الزوج.
***
التنبيه الخامس: إذا كفّنها الزوج، فسرقه سارق، وجب عليه مرّةً اُخرى ، إذ مقتضى إطلاق الخبرين أنّ الكفن الواجب على المكلّفين عامّة، وجوباً كفائيّاً، يجب بذله على الزوج.
***
ص: 97
الرابعة: الحرام كالحلال إلّافي الكافور فلا يَقربه.
المسألة (الرابعة: الحرامُ كالحلال إلّافي الكافور فلا يَقربه)، فلا يجوز تحنيطه، ولا وضع الكافور في ماء غُسله، بلا خلافٍ ، كما عن المصنّف(1) والمحقّق الثاني(2).
بل عن «الخلاف»(3) و «الغنية»(4): دعوى الإجماع عليه.
وتشهد له: جملةٌ من النصوص:
منها: مصحّح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام:
«عن المُحْرِم إذا مات كيف يُصنع به ؟ قال عليه السلام: يُغطّى وجهه، ويُصنع به كما يُصنع بالحلال، غير أنّه لا يُقرّبه طيباً»(5).
ونحوه خبره الآخر عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام(6).
ومنها: موثّق سماعة: عن المُحْرِم يموت ؟ فقال عليه السلام: يُغسّل ويُكفّن بالثياب كلّها، ويغطّى وجهه، ويُصنع به كما يُصنع بالمُحلّ ، غير أنّه لا يُمسّ الطيب»(7).
ومنها: صحيح عبد الرحمن، قال:
«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المُحْرِم يموت كيف يُصنع به ؟
قال عليه السلام: إنّ عبد الرحمن بن الحسن عليه السلام ماتَ بالأبواء مع الحُسين عليه السلام وهو
ص: 98
مُحْرِمٌ ، ومع الحسين عليه السلام عبد اللّه بن العبّاس، وعبد اللّه بن جعفر، وصَنَع به كما يُصنع بالميّت، وغَطّى وجهه، ولم يمسّه طيباً. قال عليه السلام: وذلك كان في كتاب عليٍّ عليه السلام»(1).
ونحوها غيرها(2).
أقول: ومقتضى إطلاقها:
1 - عدم الفرق بين الكافور وسائر أنواع الطيب.
2 - وعدم الفرق بين أقسام الإحرام.
3 - وعدم الفرق بين التحنيط، وجعل الكافور في ماء غُسله.
ودعوى:(3) ظهور النصوص في المنع عن التحنيط خاصّة، أو انصرافها إليه.
ممنوعة: فإنّ ذلك لو تمّ فإنّما هو في بعضها، لا في جميعها، لاحظ صحيح ابن مسلم المتقدّم، وخبر ابن أبي حمزة:
«في المُحْرِم يموتُ ، يُغسّل ويُكفّن ويُغطّى وجهه، ولا يحنّط ولا يمسّ شيئاً من الطيب»(4).
ومنه يظهر ضعف ما في «طهارة» الشيخ الأعظم رحمه الله(5) حيث قال: (لولا الإجماع على عدم جواز تغسيله بماء الكافور، لأمكن الخدشة فيه). انتهى.
ومقتضى عموم قولهم عليهم السلام في النصوص المتقدّمة: (ويُصنَعُ به كما يُصنَعُ بالمُحلّ )، وخصوص قوله عليه السلام: (يُغطّى وجهه ورأسه)، جواز تغطية وجهه ورأسه، كما هو المشهور على ما نُسب إليهم.0.
ص: 99
وعن السيّد(1)، وابن أبي عقيل(2)، والجُعفي(1): حرمتها.
واستدلّ لها:
1 - بأنّ النهي عن تطييبه، يدلّ على بقائه مُحْرِماً، فيجب ترتيب جميع أحكام الإحرام.
2 - وبما رُوي عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «في المُحْرِم مات، لا تمسّوه طيباً، ولا تخمّروا رأسه، فإنّه يُحشر يوم القيامة مُلبّياً»(2).
3 - وبما عن الإمام الصادق عليه السلام: «من مات مُحْرِماً بعثه اللّه مُلبيّاً»(3).
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّه لا يُعتمد على إطلاقات أدلّة أحكام الإحرام - على فرض ثبوتها - مع وجود المقيّد الذي تقدّم.
وأمّا الثاني: فلأنّه ضعيفُ السند، مع أنّه لا يصلح لمعارضة ما تقدّم.
وأمّا الثالث: فلأنّه لا يدلّ على كونه مُحْرِماً بعد الموت قبل يوم المحشر، مع أنّه لو دلّ على ذلك، وسَلّمنا أنّ مقتضى الإطلاقات ترتيب أحكام الإحرام بالنسبة إلى هذا المحرم، يتعيّن رفع اليد عنها، للنصوص المصرّح بأنّه يُغطّى وجهه ورأسه.
***4.
ص: 100
الخامسة: مَنْ مسَّ ميّتاً من النّاس بعد برده بالموت، وقبل تطهيره بالغسل.
المسألة (الخامسة: مَنْ مسَّ ميّتاً من النّاس بعد برده بالموت، وقبل تطهيره بالغُسل) وَجَب عليه الغُسل، كما عن القديمين(1)، والصدوقين(2)، والشيخين(3)، والحلّي(4)، والحلبي(5) وغيرهم(6).
بل هو المشهور بين الأصحاب(7).
وعن «الخلاف»(8): الإجماع عليه.
وتشهد له: نصوصٌ مستفيضة:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام، قال:
«قلتُ : الرّجل يغمضُ الميّت أعليه غُسلٌ؟ قال عليه السلام: إذا مسّه بحرارته فلا، ولكن إذا مسّه بعدما بَرَد فليغتسل.
قلت: فالذي يُغسّله يَغتسل ؟ قال عليه السلام: نعم»(9).
ص: 101
ومنها: صحيح عاصم بن حميد، قال: «سألته عن الميّت إذا مسّه الإنسان أفيه غُسلٌ؟ قال: فقال: إذا مَسَست جسده حين يبرَد فاغتسل»(1).
ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عن مولانا الصادق عليه السلام:
«قلت: الذي يُغسّل الميّت أعليه غُسلٌ؟ قال عليه السلام: نعم.
قلت: فإذا مسّه وهو سُخنٌ؟ قال عليه السلام: لا غُسل عليه، فادا بَرَد فعليه الغُسل.
قلت: والبهائم والطير إذا مسها عليه غُسلٌ؟ قال عليه السلام لا، ليس هذا كالإنسان»(2).
ونحوها غيرها(3).
وعن السيّد في جملةٍ من كتبه(4): الاستحباب.
وعن «الوسيلة»(5) و «المراسم»(6) و «الذخيرة»(7): التوقّف فيه.
واستدلّ له:
1 - بعدم ظهور الأخبار في الوجوب.
2 - وبذكره في سياق الأغسال المسنونة في جملةٍ من النصوص، كصحيح الحلبي:
«اغتسل يوم الأضحى والفطر والجمعة، وإذا غَسّلت ميّتاً»(8). ونحوه غيره(9).).
ص: 102
3 - وبجعله من السنّة في مقابل غُسل الجنابة الذي جُعل من الفرض في عدّة من الأخبار(1).
4 - وبخبر عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن عليّ عليهم السلام: «الغُسل من سبعة: من الجنابة هو واجب، ومن غُسل الميّت، وإنْ تطهّرت أجزأك»(2).
5 - وبالتوقيع المرويّ عن «الاحتجاج»، في جواب الحميري، حيثُ كتبَ إلى القائم عليه السلام:
«روي لنا عن العالم عليه السلام أنّه سُئل عن إمام قومٍ يُصلّي بهم بعض صلاتهم، وحدثت عليه حادثة، كيف يَعمل من خلفه ؟
قال عليه السلام: يؤخّر ويتقدّم بعضهم، ويتمّ صلاتهم، ويغتسل من مسّه ؟
التوقيع: ليس على من نحّاه إلّاغسل اليد»(3).
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّه يعدّ من المكابرة الواضحة إنكار ظهور هذه الأخبار المستفيضة، المشتملة على التعبيرات المختلفة:
ففي بعضها: (أنّ عليه الغُسل).
وفي بعضها: التصريح بوجوب الغُسل عليه.
وفي جملةٍ منها: الأمر به في الوجوب.
وأمّا الثاني: فلأنّ ذكر المأمور به في سياق المندوبات، لا يكون قرينة لرفع اليد4.
ص: 103
عن ظهور الأمر في الوجوب.
وأمّا الثالث: فلأنّه من الجائز أن يكون المراد بالسُنّة، ما وجب ولم يكن دليله الكتاب.
وأمّا الرابع: فلأنّه يمكن أن يكون المراد إجزاء التطهير بالغُسل عن الوضوء.
مع أنّه ضعيف السند، ورواته من العامّة والزيديّة.
مع أنّه يدلّ على ثبوت بدل له لا على عدم وجوبه.
وأمّا التوقيع: فمورده حال الحرارة، كما يشهد له التوقيع الآخر، قال:
«وكتب إليه: ورُوي عن العالم عليه السلام أنّ مَن مسّ ميّتاً بحرارته غَسل يده، ومَن مسّه وقد بَرد فعليه الغُسل، وهذا الميّت في هذه الحال لا يكون إلّابحرارته، فالعمل في ذلك على ما هو، ولعلّه ينحّيه بثيابه ولا يمسّه، فكيف يجب عليه الغسل ؟
التوقيع: إذا مسّه في هذه الحال، لم يكن عليه إلّاغَسل يده»(1).
مع أنّه لو سلّم إطلاقه يقيّد بما تقدّم.
أقول: ولا خلاف في عدم وجوب الغُسل إذا مسّه بعد الغُسل.
بل في «الجواهر»(2): الإجماع بقسميه عليه.
بل في «المنتهى»(3): أنّه مذهب علماء الأمصار.
ويشهد له:
1 - صحيح ابن مسلم، عن مولانا الباقر عليه السلام: «مسُّ الميّت عند موته وبعد5.
ص: 104
غُسله والقُبلة ليس بها بأس»(1).
2 - وخبر ابن سنان، عن مولانا الصادق عليه السلام: «ولا بأس بأن يمسّه بعد الغُسل ويقبّله»(2).
وبهما يقيّد إطلاق ما دلَّ على وجوب الغُسل بمسّ الميّت بعد برده.
أقول: وأمّا موثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «وكلّ مَن مسَّ ميّتاً فعليه الغُسل، وإنْ كان الميّت قد غُسّل»(3).
فهو وإنْ كان ظاهراً في الوجوب، إلّاأنّه يُحمل على الاستحباب، لما تقدّم كما عن الشيخ رحمه الله.
وأمّا تعليل عدم الأمر بغُسل مسّ الميّت في خبر سليمان بن خالد بأنّه (إنّما مسّ الثياب)، فيُحمل على إرادة عدم الاستحباب أيضاً في هذا الفرض.
***7.
ص: 105
الفرع الأوّل: المناط في وجوب الغُسل، برد تمام جسده، فلا يوجب برد بعض جسده، ولو كان هو الممسوس، إذ البرد المأخوذ في النصوص موضوعاً لوجوب الغُسل، قد اُضيف إلى الميّت، فهو ظاهرٌ في إرادة برد تمام بدنه.
ومقتضى مفهوم جملةٍ منها والمصرّح به في الخبر الذي رواه عليّ بن جعفر بقوله عليه السلام:
«إنْ كان الميّت لم يبرد فلا غُسل عليه»(1).
هو عدم وجوب الغُسل.
فإنْ قلت: إنّه يعارضه ما قاله عليه السلام في حَسَن حريز:
وإنْ مسّه ما دام حارّاً فلا غُسل عليه»(2). ونحو غيره.
لأنّها بمفهومها تدلّ على أنّه إنْ مسّه ولم يكن الميّت حارّاً، وإنْ كان بعضه كذلك، يجبُ عليه الغسل.
قلت: إنّه في جميع النصوص المتضمّنة لذلك ذكر أيضاً: (وإذا بَرَد ثمّ مسّه فليغتسل أو ما يقرّبه). ولو لم ندّع ظهورها في أنّ الفقرة الثانية تصريحٌ بمفهوم الأُولى .
وعليه، فلا ريب في عدم صحّة التمسّك بمفهوم شيء منهما، كما لا يخفى .
ولو سُلّم عدم الدليل على عدم الوجوب، وتعيّن الرجوع إلى الاُصول العمليّة، كان اللّازم البناء على ذلك، لأصالة البراءة عن الوجوب.
***
ص: 106
الفرع الثاني: هل «المعتبر» في سقوط الغُسل تمام الأغسال الثلاثة، فلو أكمل غُسل الرأس مثلاً لا يسقط الغُسل بمسّه، وإنْ كان الممسوس العضو المغسول منه، كما عن «المدارك»(1) و «الذخيرة»(2) ومحتمل «الذكرى»(3) و «جامع المقاصد»(4)وظاهر «الروض»(5)؟
أم لايعتبر ذلك كماعن المصنّف في أكثر كتبه(6)، والشهيد(7)، وجماعة(8)؟ وجهان:
واستدلّ للثاني:
1 - بالأصل.
2 - وبدوران الغُسل مدار النجاسة الزائلة بمجرّد انفصال الغُسالة عن العضو.
3 - وبتبعّض أثر الغُسل بتبعّضه.
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّه لا يُرجع إليه مع الإطلاقات التي تقتضي عدم السقوط، فإنّه يصدق في الفرض وقوع المسّ قبل الغُسل، بل في خبر عبد اللّه بن سنان: «لا بأس أن يمسّه بعد الغُسل»(9).
ص: 107
وأمّا الثاني: فلمنع الدوران، إذ لا دليل على التلازم، مع أنّ زوال النجاسة بمجرّد انفصال الغُسالة، إنّما يكون في المتنجّسات التي اُنيطت طهارتها بالغَسل (بالفتح)، لا في نجس العين الذي اُنيطت طهارته بالغُسل (بالضمّ ) الذي لا يتحقّق إلّا بغَسل تمام الأجزاء.
وبذلك ظهر الجواب عن الأخير، وعليه فالأظهر هو الأوّل.
***
ص: 108
الفرع الثالث: يدور البحث فيه عن أنّ الغُسل الاضطراري:
الذي يتحقّق فيما لو فقد السِّدر والكافور، وكانت الأغسال الثلاثة كلّها بالماء القَراح، أو كان الغاسل هو الكافر بأمر المسلم مع فقد المماثل، هل يوجب سقوط غُسل المسّ بمسّه بعده كما صرّح به جماعة(1)؟
أم لا يسقط كما عن «جامع المقاصد»(2) و «الروض»(3) وفي «طهارة» الشيخ الأعظم(4)؟
وجهان، أقواهما الأوّل، لإطلاق الأخبار.
ودعوى:(5) انصرافها إلى الغُسل التامّ ممنوعة.
وأيضاً: هل يكون التيمّم مع فقد الماء:
1 - قائماً مقام الغُسل في سقوط غُسل المسّ بمسّه بعده كما عن «كشف الغطاء»(6) وتبعه سيّد العروة(7) وجملةٌ من محشّيها(8)؟
2 - أم لا، كما عن «القواعد»(9) و «المنتهى»(10) و «جامع المقاصد»(11)
ص: 109
و «الروض»(1) و «المدارك»(2) و «كشف اللِّثام»(3) وغيرها(4). بل في «الجواهر»(5):
لا أجد فيه خلافاً ممّا عدا شيخنا في «كشف الغطاء»؟ وجهان:
أقول: مدرك وجوب التيمّم عند تعذّر الغُسل، إنْ كان إطلاق أدلّة البدليّة، فالأظهر إلحاق التيمّم بالغُسل، لأنّ تلك الأدلّة تدلّ على قيام التيمّم مقام الغُسل في جميع الآثار، ومنها رفع أثر المسّ .
ودعوى:(6) أنّ الظاهر منها البدليّة في رفع الحَدَث، ولا يرفعُ الخَبَث إجماعاً، وكون الأثر في المقام للحَدَث دون الخَبَث غيرُ ثابتٍ ، كما أشار إليه الشيخ الأعظم رحمه الله.
مندفعة: بأنّ الخَبَث الذي يزول بالغُسل (بالضمّ ) لا إجماع على عدم رفعه بالتيمّم.
نعم، الخَبَثُ الذي ينحصر رافعه بالغَسل (بالفتح) لا يرتفع به.
وبعبارة اُخرى : النصوص تدلّ على ترتّب هذا الأثر على الغُسل (بالضمّ )، ومقتضى إطلاق أدلّة البدليّة قيام التيمّم مقامه.
ودعوى: أنّ أدلّة البدليّة مختصّة بما لا يكون لغير الماء دخلٌ فيه.
مندفعة: بأنّ هذا هو الوجه الذي ذُكر لعدم شمول أدلّة البدليّة لغُسل الميّت،2.
ص: 110
وقد تقدّم الكلام فيه، والكلام في المقام إنّما يكون على فرض الشمول، وأمّا إذا كان مدرك وجوب التيمّم النصّ الوارد في المجدور، فالأقوى عدم الإلحاق، إذ لا عموم له كي يدلّ على ترتّب جميع آثار الغُسل عليه.
وبالجملة: وحيثُ عرفتَ صحّة التمسّك بإطلاق أدلّة البدليّة، فالأظهر هو الإلحاق.
***
ص: 111
الفرع الرابع: لا فرق في الميّت الذى يجبُ الغُسل بمسّه بين المسلم والكافر، كما عن المصنّف(1) والشهيد(2) والمحقّق الثاني(3).
وعن المصنّف في «المنتهى»(4) و «التحرير»(5): التوقّف في وجوبه بمسّ الكافر.
أقول: ولعلّ منشأه أنّه في النصوص جُعل الغُسل غايةً لوجوب غُسل المسّ ، فمن لا يؤثّر في حقه التغسيل ولا يقبل التطهّر، فهو غير مشمولٍ لها.
وفيه: إنّ بعض النصوص وإنْ كان مغيّاً بذلك، إلّاأنّ جملةً منها مطلقة غير مغيّاة بذلك، ومقتضى إطلاق تلك النصوص، عدم الفرق بينهما.
مع أنّ غاية ما يستفاد من القيد المزبور، انتفاء الحكم في صورة تحقّق الغاية، ولا يدلّ على قصر الحكم الذي تضمّنه صدر تلك النصوص، بمن تحقّق هذه الغاية بالنسبة إليه، كما لا يخفى .
وأمّا تعليل ذلك بأنّ مسّ الكافر لا يزيد على مسّ البهيمة والكلب، فهو كما ترى يُعدّ من الوجوه الاعتباريّة، التي لا يُعتمد عليها في الأحكام الشرعيّة، مع أنّ إيجاب الغُسل بمسّه لا يوجب مزيّة له على أخويه، فتدبّر.
وعليه، فالأظهر هو عدم الفرق بينهما.
ص: 112
وأيضاً: ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا فرق بين الصغير والكبير، حتّى السقط إذا تمّ له أربعة أشهر.
وأمّا قبل تمام أربعة أشهر، ففي وجوب الغُسل بمسّه وجهان:
1 - من صدق الميتة عليه، لأنّ الموت هو ما يقابل الحياة، تقابل العدم والمَلَكة، فهو عدم الحياة عمّا من شأنه الحياة، ولا يعتبر في صدق العدم في مقابل المَلَكة القابليّة الفعليّة، بل تكفي القابليّة النوعيّة.
2 - ومن ظهور النصوص في الميّت بعد الحياة، كما يشهد له اشتراط البرودة، الظاهر فيما بعد الحرارة، كما صرّح به في جملةٍ منها، والتعليل في خبري الفضل وابن سنان: «بأنّ الميّت إذا خَرَج منه الروح بقي منه أكثر آفته»(1).
أقول: ولعلّ الثاني أقوى ، لاسيّما وأنّه يستفاد من النصوص الواردة في القطعة المبانة، أنّ الميّت إنّما يجب الغُسل بمسّه إذا كان ذا عَظْمٍ لا مطلقاً، والسِّقط قبل ولوج الروح لا عَظْم له، فلا يجبُ على مَن مسّه الغُسل لذلك.
***1.
ص: 113
الفرع الخامس: لا فرق في الممسوس بين الأجزاء التي تحلّها الحياة وغيرها، لصدق المسّ ، فيشمله إطلاق الأدلّة.
وفي «طهارة» الشيخ الأعظم(1) ومحكيّ «الروض»(2): اعتبار المسّ لما تحلّه الحياة.
وتردّد المحقّق الثاني(3) في السِّن، بعد البناء على الوجوب في العَظْم والظُّفر، وعدم الوجوب في الشَّعر.
وكذلك الشهيد في محكيّ «الذكرى »(4) تردّد في السِّن.
وفي محكيّ «الدروس»(5): جَزَم بالعدم.
أقول: واستدلّوا للعدم في مقابل إطلاق الأدلّة، بوجوه:
منها: أنّ الأجزاء التي لا تحلّها الحياة لا تتنجّس، فلا يجب الغُسل بمسّها.
ومنها: تعليق الغُسل في خبر(6) عاصم بن حميد، ومكاتبة(7) الصفّار على مسّ الجَسَد بعد برده، والظاهر من لفظ (الجسد) سيّما بعد اتّصافه بالبرودة، ما يقابل مطلق ما عداه، ومنه شعر لحيته، لا ما يقابل ثياب الميّت.
ومنها: التعليل في حَسَن الفضل، كالصحيح عن مولانا الرضا عليه السلام الوارد في
ص: 114
عدم وجوب الغُسل بمسّ غير الإنسان، بقوله عليه السلام:
«لأنّ هذه الأشياء كلّها ملبسة ريشاً وصوفاً وشعراً ووبراً، وهذا كلّه لا يموت، وإنّما يماسّ منه الشيء الذي هو ذكي من الحيّ والميّت»(1).
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ عدم نجاستها بالموت، لا يوجبُ تقييد إطلاق الأدلّة، إذ لا دليل على التلازم بين نجاسة الممسوس ووجوب الغسل بمسّه.
وأمّا الثاني: فلأنّ دعوى عدم كون الأجزاء التي لا تحلّها الحياة كالعَظْم ونحوه من أجزاء الجَسَد، كي لا يصدق على مسّها مسّ الجسد ممنوعة جدّاً.
والشرط إنّما هو برودة جميع الجسد كما تقدّم، لا خصوص العضو الممسوس، كي يقال إنّه تختصّ الأدلّة بالعضو الذي يتصوّر فيه البرودة بعد حرارة الحياة.
نعم، لا يصدق المسّ عرفاً فيما إذا مسّ الشعر المسترسل، كأطراف اللّحية، وما يسترسل من الرأس، بخلاف اُصولها.
وأمّا الثالث: فلأنّ التعليل ممّا لا يمكن الأخذ بظاهره، إذ لا يجب الغُسل بمسّ غير الإنسان، ولو مع مباشرة الأجزاء التي تحلّها الحياة، فلابدّ من حمله على خلاف ظاهره.
ودعوى:(2) أنّ عدم فهمنا للارتباط الواقعي بين العلّة والمعلول، لا يمنع من الأخذ بظاهر العلّة، وهي في المقام ظاهرة في عدم وجوب الغُسل لمسّ ما لا تحلّه الحياة من الإنسان.0.
ص: 115
مندفعة: بأنّ هذا التعليل بظاهره معلومٌ عدم ارتباطه بالمعلول، ولذلك يتعيّن حمله على خلاف ظاهره، فلا يمكن الاستدلال به.
وأمّا الماسّ : فالأظهر وجوب الغُسل بالمسّ بكلّ ما لا تحلّه الحياة، إلّافيما لم يصدق بمسّه أنّه مسّ ميّتاً، كما هو كذلك في المسّ بطرف الشعر الطويل.
فما عن «الروض»(1) عن اعتبار الحياة في الماسّ ضعيفٌ .
***5.
ص: 116
الفرع السادس: حُكي عن كتب المحقّق(1) والمصنّف(2)، والشهيدين(3)، والمحقّق الثاني(4) عدم وجوب الغسل بمسّ الشهيد.
وعن الحِلّي(5): وجوبه.
واحتمله أو مالَ إليه في محكيّ «كشف اللِّثام»(6)، واختاره بعض أعاظم محقّقي العصر(7).
وتردّد فيه صاحبا «الذخيرة»(8) و «الحدائق»(9).
واستدلّ للأوّل:
1 - بأنّ بعض الأخبار مختصٌّ بمن من شأنه أن يُغسّل، فلا يشمل الشهيد، والنصوص المطلقة تُحمل على المقيّد.
2 - وبعموم ما دلَّ على أنّ الشهيد بحُكم المُغسّل(10).
3 - وبخلوّ الأخبار الحاكية للغزوات الصّادرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أو الوصيّ عن أمر
ص: 117
من يُباشر دفن القتلى بغُسل المسّ ، مع حصول المسّ غالباً.
4 - وبأنّ المستفاد من النصوص أنّ الغُسل بمسّ الميّت، إنّما يجب لوجود أثرٍ في الممسوس من الحَدَث أو الخَبَث، وهو مفقودٌ في الشهيد.
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلعدم حَمل المُطلق على المقيّد في المُثبِتَين.
وأمّا الثاني: فلعدم كونه في مقام تنزيل الشهيد منزلة المُغسّل، كي يصحّ التمسّك بإطلاق التنزيل، كما لا يخفى على مَن لاحظه.
وأمّا الثالث: فلأنّ خلوّ الأخبار الحاكية عن الأمر بالغُسل - لو سُلّم تلازم الدفن غالباً مع حصول المسّ - لا يصلح أن يكون مقيّداً لإطلاق الأدلّة.
وأمّا الرابع: فلأنّ عدم وجوب غُسل الشهيد، أعمٌّ من عدم وجود أثرٍ من آثار الموت الموجب لوجوب الغُسل بمسّه.
وبالجملة: فالقول بالوجوب لو لم يكن مخالفاً لفتوى أكثر الأساطين والمحقّقين، أقوى .
ويؤيّده: خبر الحَسَن بن عُبيد، قال:
«كتبتُ إلى الصادق عليه السلام: هل اغتَسلَ أمير المؤمنين عليه السلام حين غَسّل رسول اللّه صلى الله عليه و آله عند موته ؟
فقال عليه السلام: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله طاهراً مطهّراً، ولكن فَعَل أمير المؤمنين عليه السلام وَجَرت به السُنّة»(1).
ونحوه خبر الصيقل(2).7.
ص: 118
وأمّا المقتول بقصاصٍ أو حَدّ: فالظاهر عدم وجوب غُسل المسّ بمسّه، كما عن المصنّف في جملةٍ من كتبه(1)، والشهيد(2)، والمحقّق الثاني(3) وسيّد «المدارك»(4)وغيرهم(5)، إذ غُسله المقدّم هو غُسل الميّت، كما تقدّم، فيكون مسّه بعد القتل مسّاً بعد الغُسل.
ودعوى:(6) انصراف النصوص إلى الغُسل بعد الموت، لأنّه المتعارف.
ممنوعة: إذ التعارف لا يوجبُ انصرافاً موجباً لتقييد الإطلاقات.
اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّه لا إطلاق لنصوص عدم وجوب الغُسل بمسّ الميّت بعد الغُسل، بنحوٍ يشمل الغُسل قبل القتل، بل هي مختصّة بالغُسل بعد الموت، كما لا يخفى على مَن لاحظها.
وما دلَّ على أنّه يُغسّل قبل القَتل، لا دلالة له على ترتّب جميع آثار الغُسل بعد الموت عليه.
وبالجملة: فالأشبه هو الوجوب، كما عن جماعةٍ .
***ق.
ص: 119
أو مَسَّ قطعةً فيها عَظْمٌ قُطِعَتْ من حَيٍّ أو ميّتٍ ، وجبَ عليه الغُسل.
الفرع السابع: ما ذكره المصنّف بقوله: (أو مَسُّ قطعةٍ فيها عَظْمٌ قُطِعت مِنْ حَيٍّ أو ميّتٍ ، وجبَ عليه الغُسل) على المشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً، كما في «الجواهر»(1).
وخالفهم المحقّق في محكيّ «المعتبر»(2)، وتبعه سيّد «المدارك»(3) - فلم يوجباه.
ويشهد للأوّل: ما رواه المشايخ الثلاثة، عن أيّوب بن نوح، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«إذا قُطع من الرَّجل قطعةً فهي ميتة، فإذا مسّه إنسانٌ ، فكلّ ما كان فيه عَظْمٌ ، فقد وَجَبَ على مَن يمسّه الغُسل، فإنْ لم يكن عَظْمٌ فلا غُسل عليه»(4).
وهو وإنْ كان ضعيفاً للإرسال، إلّاأنّ ضعفه مجبورٌ بالعمل.
ودعوى:(5) المحقّق أنّ الرواية مقطوعة، والعمل بها قليل، كما ترى ، ومورده وإنْ كان المُبانة من الحيّ ، إلّاأنّه يثبتُ في المُبانة من الميّت بالفحوى ، وتنقيح المناط، وعدم القول بالفصل بين المُبانة من الميّت، والمُبانة من الحَيّ .
مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ الخبر بنفسه يدلّ على وجوب الغُسل بمسّ المبانة من الميّت أيضاً، من جهة صدق الميتة عليها حقيقةً ، فتندرج في الموضوع الذي
ص: 120
ترتّب عليه الحكم في الخبر.
هذا فيما لا يُسمّى ميّتاً.
وأمّا ما يُسمّى ميّتاً كالبدن المقطوع الأطراف، فيدلّ على وجوب الغُسل بمسّه، ما دلَّ على وجوبه بمسّ الميّت.
واستدلّ له: في المبانة من الميّت في محكيّ «الذكرى»(1):
1 - بأنّ هذه القطعة جزءٌ من جملةٍ يجبُ الغُسل بمسّها، فكلّ دليلٍ دلّ على وجوب الغُسل بمسّ الميّت فهو دالٌّ عليها.
2 - وبأنّ الغُسل يجب بمسّها متّصلةً ، فلا يسقط بالانفصال.
3 - وبأنّه يلزم عدم الغُسل لو مسّ جميع الميّت متفرّقاً.
أقول: يرد على الجميع:
أنّ لازمها وجوب الغُسل بمسّ كلّ جزءٍ مُبانٍ من الميّت، ولو لم يكن فيه عظم، ولم يلتزم به أحدٌ، فتأمّل.
مع أنّه يرد على الأوّل: أنّ موضوع الحكم مسّ الميّت، وهو لا يصدق على مسّ جزءٍ منه.
وبذلك يظهر ما في الوجه الثاني.
وإنْ اُريد به الاستصحاب، لعدم بقاء الموضوع، مع أنّك قد عرفت غير مرّة، عدم جريان الاستصحاب في الأحكام.
ويرد على الثالث: أنّه إنْ صدق على مسّ جميع الأجزاء المتفرّقة مسُّ الميّت، فهو الفارق بين الموردين، وإلّا فنلتزم بعدم وجوب الغسل في ذلك الفرض أيضاً.
وبالجملة: فالعمدة المُرسل، وعليه فلا يجبُ الغُسل بمسّ العظم المجرّد، فإنّ الموضوع في الخبر ما فيه عَظْمٌ ، وهو لا يصدق على العَظْم المجرّد.7.
ص: 121
والاستدلال للوجوب بمسّه، بدوران الحكم مداره وجوداً وعدماً.
في غير محلّه، إذ دوران الحكم مداره أعمٌّ من جريانه فيه.
وأمّا خبر إسماعيل الجُعفي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «سألته عن مسّ عَظْم الميّت ؟ قال عليه السلام: إذا جاز سَنة فليس به بأس»(1).
فمفهومه وإنْ كان ثبوت البأس بمسّه قبل مُضيّ السَّنة، إلّاأنّه لضعفه في نفسه، وإعراض المشهور عنه - إذ لم ينقل الإفتاء بمضمونه عن غير «الفقيه» و «المقنع»(2) - لا يعمل به.
وأمّا الاستصحاب: فقد مرّ عدم جريانه لوجهين.
وبالجملة: فما عن «التذكرة»(3)، و «المنتهى »(4)، و «نهاية الأحكام»(5)، و «التحرير»(6)، وغيرها(7) من القول بعدم الوجوب بمسّه، هو الأقوى .
وبما ذكرناه ظهر ضعف ما عن «الذكرى»(8)، و «الدروس»(9)، و «الموجز»(10)، و «فوائد الشرائع»(11)، و «المسالك»(12)، من القول بالوجوب.
وأيضاً: ظهر أنّ الأقوى عدم الوجوب بمسّ السِّن المنفصل عن الميّت.1.
ص: 122
ولو خَلَتِ القطعة مِنْ عَظْمٍ .
(ولو خَلَت القِطْعة مِنْ عَظْم) لا يجبُ على من مسّها الغُسل، بلا خلافٍ ظاهر.
وعن غير واحدٍ(1): دعوى الإجماع عليه.
ويشهد له: مرسل أيّوب المتقدّم، المنجبر ضعفه بالعمل.
***5.
ص: 123
الفرع الثامن: المشهور بين الأصحاب أنّ وجوب هذا الغُسل شرطي، وإنّما يجبُ لكلّ واجبٍ مشروط بالطهارة، على ما نُسب إليهم.
وقيل: إنّ عليه اتّفاق جميع القائلين بالوجوب.
وفي «المدارك»(1): وأمّا غُسل الميّت، فلم أقف على ما يقتضي اشتراطه في شيء من العبادات، ولا مانع من أنْ يكون واجباً لنفسه كغُسل الجمعة والإحرام عند من أوجبهما. وتبعه بعضٌ .
أقول: الجمودُ على ظواهر النصوص يقتضي ذلك، إذ لم يقيّد الأمر به في النصوص بشيء، ومقتضى إطلاقها الوجوب، وإنْ لم يجب شيءٌ من ما هو مشروطٌ بالطهارة، إلّاأنّ دعوى(2) أنّه ينسبق إلى الذهن من الأمر بالغُسل عند مسّ الميّت، كون المسّ كالجنابة من الأحداث المقتضية للتطهير منه، وليس من قبيل الأمر بغُسل الجمعة الذي يكون الأمر به مطلقاً غير مُعلّقٍ على حدوث أمر زماني مستندٍ إلى المغتسل، كما أنّ المنسبق إلى الذهن من الأمر بغَسل الثوب عند ملاقاته للبول نجاسته، قريبة جدّاً.
ويؤيّده: بل يشهد له التعليل في بعض النصوص، كصحيح الفضل أو حسنه بالطهارة ممّا أصابه من فضح الميّت:
«لأنّ الميّت إذا خَرَج منه الرّوح بقي أكثر آفةً »(3). ونحوه خبر ابن سنان(4).
ص: 124
وبالجملة: فالأظهر ما هو المشهور بين الأصحاب.
نعم، غاية ما يستفاد من الأدلّة - بعد ملاحظة ما ذكرناه - إنّما هي شرطيّة غُسل المسّ لكلّ ما كان صِرْف الحَدَث مانعاً عنه.
وأمّا ما كان الحَدَث الأكبر مانعاً عنه دون الأصغر، كالمكث في المساجد، فلايكون هذا الغُسل شرطاً له.
وبناءً على ما قوّيناه من إغناء كلّ غسل عن الوضوء، لا أثر للنزاع في أنّ مسّ الميّت ينقضُ الوضوء أم لا.
وأمّا بناءً على ما هو المشهور، من العدم، فالظاهر عدم ناقضيّته له، لعدم الدليل عليه، فإنّ الدليل إنّما دلَّ على تحقّق حدثٍ خاص بالمسّ ، ويكون رافعه الغُسل، وأمّا كون ذلك الحَدَث منافياً للوضوء وناقضاً فلا يدلّ عليه، وما دلَّ على أنّ كلّ غُسلٍ معه وضوء، لا يدلّ على ذلك، كما تقدّم تنقيحه في مبحث الحيض، فراجع.(1)
***9.
ص: 125
الفرع التاسع: ويدور البحث فيه عن بعض الشكوك:
1 - إذا شكّ في تحقّق المسّ وعدمه، بنى على العدم للاستصحاب.
2 - وكذلك إذا شكّ في أنّ الممسوس إنسانٌ أو حيوان، فإنّه يجري استصحاب عدم تحقّق المسّ الموجب للغُسل، وهو مسّ الإنسان.
3 - ولو شكّ في أنّه مسّه قبل برده أو بعده ؟
ألف: فإنْ أحرز برودته، وشكّ في تقدّم المسّ عليها وتأخّره عنها، فقد يقال إنّه يجري الاستصحاب في كلّ من الحادثين، فيتعارضان ويتساقطان، من غير فرقٍ بين ما إذا عَلم تاريخ أحدهما وجَهل تاريخ الآخر، أو جَهل التاريخ في الطرفين، بناءً على ما حقّقناه في محلّه(1) من جريان الأصل في الجميع، فيرجع إلى استصحاب الطهارة.
أقول: ولكن الأظهر عدم جريان استصحاب عدم المسّ إلى حين برودته، لعدم كون ذلك موضوع الأثر، فإنّ ما يترتّب عليه الأثر هو المسّ بعد البرودة، وهو لا يثبُت بهذا الأصل كما لا يخفى، فإذاً يجري استصحاب عدم البرودة إلى حين المسّ ، ويترتّب عليه عدم وجوب الغُسل بمسّه.
ب: وإنْ لم يحرز برودته حين الشكّ ، يستصحب عدم برودته، ويترتّب عليه عدم وجوب الغُسل على من مسّه، بناءً على ما هو الصحيح من جريان الأصل في جزء الموضوع، وأنّه بضمّ الوجدان إلى الأصل يُحرز الموضوع، ويترتّب عليه الحكم.
ص: 126
4 - ولو شكّ في أنّ الممسوس كان شهيداً أم لا؟
ألف: أمّا بناءً على المختار من وجوب الغُسل بمسّ الشهيد فلا كلام.
ب: وأمّا بناءً على المشهور من عدم الوجوب بمسّه، فلا يجبُ الغُسل في المقام، لاستصحاب عدم شهادة الممسوس.
ولا يعارضه استصحاب عدم الموت حَتف أنفه، لعدم كونه موضوعاً لوجوب الغُسل، فإنّ الدليل إنّما دلَّ على وجوب الغُسل بمسّ الميّت مطلقاً، خرج عنه ما إذا كان شهيداً وبقي الباقي، وحيثُ أنّ الشهادة صفة وجوديّة مسبوقة بالعدم، فيجري استصحاب عدمها، ويثبتُ به كون الميّت نجساً ومُحْدِثاً، فيجب تغسيله، والغُسل بمسّه.
5 - ولو شكّ في أنّه كان قبل الغُسل أو بعده ؟ وجب عليه الغُسل، لاستصحاب عدم الغُسل إلى حين المسّ ، ويترتّب عليه وجوب الغسل به، هذا فيما لم يَحرز الغُسل.
6 - وأمّا فيما علم الغسل أيضاً وشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر: فيجري استصحاب عدم المسّ إلى حين الغُسل، ويترتّب عليه عدم وجوب الغُسل، فيتعارضان ويتساقطان، فيرجع إلى استصحاب الطهارة.
***
ص: 127
الفرع العاشر: إذا كان هناك قطعتان، يعلم إجمالاً أنّ إحداهما من ميّت الإنسان، فإنْ مسّهما وجَبَ عليه الغُسل، وإنْ مسّ إحداهما:
1 - فهل يجبُ عليه الغُسل بمسّها أم لا؟
2 - أم يفصّل بين الموارد؟
وجوه، أقواها الأخير، فإنّ العلم الإجمالي بكون إحداهما من الإنسان، لا يمنع من جريان استصحاب عدم تحقّق مسّ الإنسان، الموجب لعدم وجوب الغُسل.
والعلم الإجمالي بوجوب الغُسل بمسّ هذه، أو وجوب دفن القطعة الاُخرى ، لا يوجب عدم جريان الأصل فيه، إذ بعد فرض عدم جريان الأصل في الطرف الآخر بمنجّزٍ آخر موجودٍ قبله، يجري الأصل فيه بلا معارض.
نعم، يجبُ الغُسل بمسّها فيما إذا حَدَث العلم الإجمالي بعد المسّ ، وكان الطرف الآخر مورداً لحكمٍ إلزامي من وجوب دفن ونحوه، فإنّه حينئذٍ يحصل العلمان في زمانٍ واحد، وهما:
العلم بوجوب دفن الممسوسة مثلاً أو الطرف الآخر.
والعلم بوجوب الغسل بمسّها، أو وجوب دفن الطرف الآخر.
ولا ينحلّ أحدهما بالآخر.
ودعوى: أنّ الأصل في وجوب الغُسل بالمسّ متأخّرٌ رتبةً عن الأصل الجاري في وجوب دفن الممسوسة، ففي المرتبة السابقة يتعارض ذلك الأصل مع الأصل
ص: 128
الجاري في الطرف الآخر فيتساقطان، ففي المرتبة المتأخّرة يجري الأصل في وجوب الغُسل بمسّها بلا معارض.
مندفعة أوّلاً: بأنّ هذه الأحكام ليست أحكاماً للرتبة، وإنّما هي أحكامٌ للزمان، وحيث أنّ الأصل في وجوب غُسل المسّ ، والدفن في الممسوسة، متّحدان زماناً فكلاهما طرف للمعارضة.
وثانياً: لو سَلّمنا تأخّر الأوّل، لكن لا يكون متأخّراً عن الأصل الجاري في القطعة الاُخرى غير الممسوسة، بل هما في رتبة واحدة، ولا وجه لتوهّم التأخّر، إلّا أنّ ما هو متأخّر عن شيءٍ رتبةً ، متأخّرٌ عمّا يكون في رتبته أيضاً، وإنْ لم يكن بينهما ملاك التأخّر الرتبي، وهو فاسدٌ كما حُقّق.
***
ص: 129
أو كانَ الميّت من غير النّاس، غَسل يده خاصّة.
الفرع الحادي عشر: ما في المتن (أو كان الميّت من غير النّاس، غَسَل يده خاصّة) إنْ كان له نفسٌ سائلة، وكان المسّ برطوبةٍ مُسرية، كما ستعرف تفصيله لاحقاً في مبحث النجاسات.(1)
هذا في الغَسل (بالفتح).
وأمّا الغُسل (بالضمّ ) فلا خلاف في عدم وجوبه، وتشهد له جملةٌ من النصوص المتقدّمة المصرّحة بذلك.
هذا تمام الكلام في مباحث أحكام الأموات.
***7.
ص: 130
وهي كثيرة، وعدَّ بعضهم سبعاً وأربعين، وبعضهم أنهاها إلى خمسين، وبعضهم إلى أزيد من ستّين، وبعضهم إلى سبع وثمانين، وبعضهم إلى مائة.
وهي أقسام: زمانيّة، ومكانيّة، وفعليّة.
أمّا الفعليّة: للفعل الذي يريد أن يفعله، أو للفعل الذي فَعَله.
وأمّا المكانيّة: فهي أيضاً فعليّة، لأنّها إمّا للدخول في مكانٍ أو للكون فيه.
أمّا الزمانيّة: فأغسال.
وبما أنّه ليس من دأبنا التعرّض للمستحبّات، سيّما مثل الغُسل - حيث أنّ بنائنا على التسامح في أدلّة السُّنن - وما يتفرّع عليه، بنينا على أنّ كلّ غُسل أُمر به يُغني عن الوضوء، فنشير إلى تلكم الأغسال.
وهي: غُسل يوم الجمعة، ووقته من طلوع الفجر إلى الزوال.
وغُسل أوّل ليلةٍ من رمضان، وغُسل ليلة النصف منه، وليلة السابع عشر، وليلة التاسع عشر، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وغُسل ليلة الفطر، وغُسل يومي العيدين الفطر والأضحى ، وغُسل ليلة النصف من رجب، وليلة النصف من شعبان، وغُسل يوم المبعث، ويوم الغدير، ويوم المباهلة. وغُسل الإحرام، وغُسل زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة الطاهرين عليهم السلام، وغُسل قضاء صلاة الكسوف مع الترك عمداً واحتراق القرص كلّه، وغُسل التوبة، وصلاة الحاجة، والاستخارة، وغُسل دخول الحرم، ودخول المسجد الحرام، ودخول الكعبة، ودخول المدينة المنوّرة، ودخول مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله، وغُسل المولود.
***
ص: 131
الباب الرابع: في التيمّم.
البحث عن التيمّم
(الباب الرابع: في التيمّم)
وهو في اللّغة: القصد(1)، ومنه قوله تعالى : وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (2)أي ولا تقصدوا الرَّدي من المال تُنفقون منه، والظاهر أنّه في الشّرع لم ينقل عن معناه اللّغوي إلى معنى آخر، بل استُعمل في معناه، إذ معناه الذي ينتقل إليه الذّهن عند الإطلاق لدى المتشرِّعة، من مصاديق ذلك المعنى العام، وهو قصد الصَّعيد بمباشرته على وجهٍ خاص، فهو مستعملٌ في معناه اللّغوي في الآية الشّريفة فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (3) أي اقصدوا.
وعليه، فما في «الجواهر»(4) و «الحدائق»(5) و «المدارك»(6) وغيرها، من أنّه نُقل في الشّرع إلى الضّرب على الأرض، والمسح بالوجه واليدين، غير تامّ .
والغريب أنّ صاحب «المدارك» رحمه الله عند نقل معناه اللّغوي، قال: وقال عَزَّ مِنْ قائلٍ : فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (7) ثمّ بعد التزامه بالنقل في الشّرع إلى المعنى المذكور، ذكر هذه الآية بعينها مستشهداً بها عليه.
ص: 132
أقول: ويعدّ التيمّم ممّا قضت ضرورة الدِّين بطهوريّته لدى الضرورة في الجملة، وهو الذي يُعبَّر عنه بالطهارة الترابيّة تارةً ، والإضطراريّة اُخرى .
والأصل في شرعيّته الكتاب المجيد، قال اللّه تعالى في سورة المائدة: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ (1).
ومثله ما ورد في صدر سورة النساء: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى (2).
وقد أوردوا على نظمها بحسب فهمنا من الإشكال وجوهاً، أغلبها موهونة، والعمدة منها:
أنّ اللّه تعالى جَمَع بين اُمور أربعة، عطف بعضها على بعض ب (أو)، المقتضية لاستقلال كلٍّ منها في ترتّب الجزاء، وهو الأمر بالتيمّم عليه، مع أنّ المجيء من الغائط، وما عُطف عليه يعدّ من أسباب وجوب الطهارة، أمّا المرض والسّفر فسببان لإباحة التيمّم، ولو لم يجتمع أحدُ الأوّلين مع أحد الأخيرين لم يترتّب الجزاء.
وقد أجاب عنه القاضي البيضاوي في تفسيره: (بأنّ وجه هذا التقسيم، أنّ المترخّص بالتيمّم إمّا مُحْدِثٌ أو جُنُب، والحال المقتضية له في غالب الأمر مرضٌ أو سفر، والجُنُب - لِما سبق ذكره - اقتصر على بيان حاله، والمُحْدِث لما لم يجر له ذكرٌ،3.
ص: 133
ذكر أسبابه، وما يحدث بالذّات، وما يحدث بالعَرَض، واستغنى عن تفصيل احواله بتفصيل حال الجُنُب، وبيان العدد مجملاً، فكأنّه قال: وإنْ كُنتُم جُنُباً مرضى أو على سفرٍ، أو مُحْدِثين جئتُم من الغائط، أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماءً فتيمّموا»(1).
وفيه: مضافاً إلى ما ستعرف من ذكر المُحْدِث كالجُنُب في صدرالآية أيضاً، أنّه قد ثبت عندنا من الأخبار الواردة في تفسير الآية الشريفة أنّ الملامسة كنايةٌ عن الجماع.
وعن جماعةٍ (2) الجواب عنه: بأنّ (أو) في قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ...
بمعنى الواو، نظير قوله تعالى : وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (3).
وفيه: ما عن أكثر النّحاة من إنكارهم ذلك.
والصحيح أن يقال: إنّ قوله تعالى في صدر الآية الشريفة: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ ،(4) اُريد به القيام من النوم، كما يشهد له موثّق ابن بكير، قال:
«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: قوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ ما يعني بذلك ؟
قال: إذا قمتم من النوم»(5).
ونحوه غيره(6).
أقول: ومنه يظهر ضعف الالتزام بأنّ المراد به وجوب الوضوء لكلّ صلاة، والالتزام بنسخ هذا الحكم كما عن جماعةٍ ، ويكون المراد من الجنابة في قوله تعالى:ث.
ص: 134
وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً الجنابة الحاصلة بالاحتلام، فيستفاد منه ناقضيّة النوم، وإغناء غُسل الجنابة عن الوضوء، ويكون المرض والسّفر متعلّقين بهما، وإطلاق المرض من جهة غَلَبة الضَّرر باستعماله الماء، وإطلاق السّفر من جهة غَلَبة فَقْد الماء.
وأمّا قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ فإنّ المراد منه المكان المنخفض الذي هو كناية عن التخلّي، والمراد بالملامسة في قوله تعالى : أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ هو الجماع، فهو يكون عطفاً على المقدّر في قوله: كُنْتُمْ مَرْضى على معنى كنتم المُحْدِثين بالحَدَثين السابقين؛ أي النوم والاحتلام، ويكون قوله:
فَتَيَمَّمُوا (1) جواباً للجميع.
وبالجملة: فإنّه يستفاد من منطوق قوله: أَوْ جاءَ ... ، وجوب التيمّم من حَدَث البول والغائط والجماع، ووجوب الوضوء والغُسل من مفهومه.
وبما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة، ظهر الجواب عن جملةٍ من الإشكالات، فضلاً عن الإشكال المتقدّم:
منها: الاستغناء عن قوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ... ، بدلالة المضمر عليه.
وعن قوله: أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ بقوله: إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً .
وعن قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ... .
***6.
ص: 135
مسوّغات التيمّم
وفي هذا الباب فصول:
اختلفت كلمات الأصحاب في بيان ما يسوّغ التيمّم:
ففي جملةٍ من الكتب ذُكر جملةٍ من المسوّغات التي سيأتي التعرّض لها مفصّلاً.
وفي جملةٍ اُخرى منها - كما في «منتهى»(1) المصنّف رحمه الله وتذكرته(2)، و «الجواهر»(3) وغيرها(4) - أنّه يجمعها شيءٌ واحدٌ، وهو العجر عن استعمال الماء.
وفي «منظومة» العلّامة الطباطبائي:
والمقتضي للإذن عجزٌ مانعٌ عن الطّهور وهو حدٌّ جامع
ولكن يرد عليه: أنّه ستعرف أنّ من مسوّغات التيمّم: الحَرَج، والضَّرر المالي، والضَّرر البدني غير الممنوع ارتكابه، مع أنّها لا تدخل تحت ذلك الجامع.
فالأولى أن يقال: إنّ الجامع سقوط وجوب استعمال الماء.
ص: 136
ويجبُ عند فَقْد الماء.
(و) التيمّم إنّما (يجبُ عند) ه، فيما لو تحقّق اُمور:
أحدها: (فَقْد الماء) وعدم وجدانه إجماعاً، حكاه جماعة(1).
وعن المصنّف في «التذكرة» نسبته إلى إجماع العلماء(2).
ويشهد له:
1 - الآية الشريفة(3).
2 - وجملةٌ من النصوص: كصحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا لم يجد الرّجل طهوراً، وكان جُنُباً، فليمسح من الأرض وليصلِّ ، فإذا وَجَد الماء فليغتَسل، وقد أجزأته صلاته الّتي صلّى».(4)
وهو عامٌ لكلّ فاقد. ونحوه غيره(5).
وأيضاً: لا فرق في ذلك بين الحاضر والمسافر، كما لا خلاف فيه.
بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه. ولعلّه كذلك إذ لم يُنقل الخلاف عن أحدٍ.
وما عن بعض نسخ «المدارك»: (أجمع علماؤنا كافّة إلّامَن شذّ) الدالّ على وجود المخالف منّا.
غلطٌ، والصحيح ما في أكثر النسخ من أنّه قال: (أجمع العلماء كافّة إلّامن
ص: 137
شَذّ)، بقرينة قوله في ذيل المسألة: (وقال بعض العامّة: الصحيح الحاضر إذا عَدم الماء يترك التيمّم والصّلاة)(1).
وما عن السيّد في شرح «الرسالة»: (من أنّ الحاضر يعيد إذا وجد الماء)(2).
على فرض صحّة هذا النقل، لا يكون خلافاً في المقام، لأنّه لا ينكر وجوب التيمّم والصّلاة.
وكيف كان، فيشهد له إطلاق الآية الشريفة والنصوص.
أقول: واستدلّ لعدم أمر الحاضر الصحيح الفاقد بالتيمّم؛ باختصاص الآية الشريفة بالمسافر والمريض، وأنّها لا تشمل الحاضر الصحيح.
وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت من أنّ ذكر السّفر في الآية، إنّما خرج مخرج الغالب، لكون عدم الماء في الحضر نادراً - أنّه على ما ذكرناه في معنى الآية الشريفة، على ما يستفاد من ظاهرها، بضميمة ما ورد في تفسير بعض فقراتها، هي أيضاً تدلّ على المختار، فلاحظ وتدبّر.
وأيضاً: لا فرق بين عدم وجدان الماء، وبين وجدانه بمقدارٍ لا يكفي للغُسل أو الوضوء، كما هو المشهور شهرة عظيمة.
وعن الشيخ في بعض أقواله القول بالتبعيض(1).
وعن المصنّف في «نهاية الاحكام»(2) احتماله.
وعن شيخنا البهائي رحمه الله: أنّ للبحث فيه مجالاً(3).7.
ص: 138
ويشهد للأوّل:
1 - أنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة سقوط الأمر بالطهارة المائيّة، إذ كلّ مركّبٍ لم يَقدر المكلّف على إتيانه، يسقط الأمر به، لعدم إمكان سقوط الأمر بالجزء، من غير أن يسقط الأمر بالكلّ ، فالأمر بسائر الأجزاء يحتاج إلى دليلٍ ، ومع عدمه فالأصل يقتضي العدم.
2 - وجملةٌ من النصوص، وهي النصوص الدالّة على وجوب التيمّم للجُنُب إذا كان عنده ما يكفيه للوضوء:
منها: صحيح الحلبي: «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام: عن الرجل يُجنب، ومعه قدرُ ما يكفيه من الماء للوضوء للصّلاة، أيتوضّأ بالماء أو يتيمّم ؟
قال عليه السلام: لا، بل يتيمّم»(1). ونحوه غيره(2)، فتأمّل.
فإنّ دعوى ورودها في مقام بيان عدم وجوب الوضوء، ووجوب التيمّم، لا في مقام بيان عدم وجوب التبعيض في الغسل، قريبة.
واستدلّ للثاني: بقاعدة الميسور.
وفيه: - مضافاً إلى ما حقّقناه في محلّه، وأشرنا إليه في هذا الشرح غير مرّة، من أنّها لم تثبت بنحوٍ تدلّ على عدم سقوط الميسور من الأجزاء بالمعسور منها، وغاية ما يستفاد من الأدلّة عدم سقوط الميسور من الأفراد بمعسورها - أنّها لو ثبتت ففي ثبوتها بنحوٍ تشمل الميسور من المحصّلات، كما في المقام على مسلك القوم من كون الطهارة مسبّبةً عن الغُسل والوضوء لا منطبقة عليهما كما هو المختار، نظرٌ بل منعٌ .).
ص: 139
وجوب الفحص: ويجب الفحص عن الماء بلا خلاف، بل عن «معتبر» المحقّق(1)و «منتهى» المصنّف رحمه الله(2)، وفي «المدارك»(3) دعوى الإجماع عليه.
أقول: والكلام في ذلك سيأتي في أواخر مباحث المسوّغات عند تعرّض المصنّف له.
***0.
ص: 140
أو تعذّر استعماله، لمرضٍ أو بردٍ أو خوف عطشٍ .
الأمر الثاني من مسوّغات التيمّم، ما ذكره المصنّف بقوله: (أو تعذّر استعماله لمرضٍ أو بردٍ أو خوف عطشٍ ).
وبعبارة اُخرى: إنّ من المسوّغات، تعذّر استعمال الماء، لاستلزامه حدوث مرضٍ ، أو شدّته، أو طول مدّته، أو بطؤ بُرئه، أو صعوبة علاجه، أو بردٍ، أو خوف عطشٍ أو نحو ذلك ممّا يعسر تحمّله، بلا خلاف فيه في الجملة.
وعن المصنّف رحمه الله في «المنتهى »(1)، والمحقّق في «المعتبر»(2) دعوى الإجماع عليه.
ويشهد له:
1 - عموم قوله تعالى : وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى (3) بناءً على ما تقدّم من أنّ المراد من (المرض) ما يوجبُ تعذّر استعمال الماء.
2 - وعموم(4) ما دلَّ على نفي الضَّرر والحَرَج.
3 - وصحيحة داود الرِّقي(5)، وخبر يعقوب بن سالم المتقدّمان.
ص: 141
4 - وجملةٌ من النصوص الخاصّة الواردة في موارد مخصوصة:
منها: ما ورد في المجروح والمقروح، ومَنْ يخاف على نفسه البرد، كصحيح البزنطي، عن الإمام الرضا عليه السلام:
«في الرجل تصيبه الجنابة، وبه قروحٌ أو جروح، أو يكون يخاف على نفسه البرد؟ فقال عليه السلام: لا يغتسل ويتيمّم»(1).
ونحوه غيره(2).
ومنها: ما ورد في مَن يَخاف العَطَش، كصحيح الحلبي:
«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: الجُنُب يكون معه الماء القليل، فإنْ هو اغتسل به خافَ العَطَش، أيغتسل به أو يتيمّم ؟
فقال عليه السلام: بل يتيمّم، وكذلك إذا أراد الوضوء»(3).
ومنها: موثّق سماعة، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يكون معه الماء في السّفر فيخاف قلّته ؟ قال عليه السلام: يتيمّم بالصعيد، ويستبقي الماء، فإنّ اللّه عزّ وجلّ جعلهما طهوراً: الماء والصَّعيد»(4).
ونحوهما صحيح ابن سنان(5)، وخبر ابن أبي يعفور(6).
وأورد على هذا القول: بأنّ طائفتين من النصوص تدلّان على عدم انتقال الفرض إلى التيمّم في جميع الفروض المذكورة:7.
ص: 142
الطائفة الأُولى : ما دلَّ على أنّ مَنْ على بعض مواضع وضوئه جُرْحٌ أو قُرح، يتعذّر عليه استعمال الماء بغسله، وجب عليه وضوء الجبيرة، كصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من مواضع الوضوء فيه، فيعصّبها بالخرقة ويتوضّأ، ويمسح عليها إذا توضّأ؟
فقال عليه السلام: إنْ كان يؤذيه الماء، فليمسح على الخرقة، وإنْ كان لا يؤذيه الماء، فلينزع الخرقة ثمّ ليغسلها»(1). ونحوه غيره(2).
الطائفة الثانية: ما دلَّ على لزوم الغُسل على مَن أصابته جنابة، وإنْ أصابه ما أصابه، كصحيح عبد اللّه بن سليمان، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن رجلٍ كان في أرضٍ باردة، فتخوّف إنْ هو اغتسل أنْ يُصيبه عَنَتٌ من الغُسل، كيف يصنع ؟
قال عليه السلام: يغتسل وإنْ أصابه ما أصابه.
قال: وذكر أنّه كان وَجِعاً شديدُ الوَجَع فأصابته جنابة وهو في مكانٍ بارد، وكانت ليلة شديدة الرِّيح باردة، فدعوتُ الغلمة، فقلت لهم: احملوني فاغسلوني، فقالوا: إنّا نخافُ عليك! فقلتُ : ليس بَدٌّ، فحملوني ووضعوني على خَشَباتٍ ، ثمّ صبّوا عَليَّ الماء فَغسّلوني»(3).
وصحيح ابن مسلم، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ تُصيبه الجنابة في أرضٍ باردة، ولا يجدُ الماء، وعسى أن يكون الماء جامداً؟3.
ص: 143
فقال عليه السلام: يغتسل على ما كان.
حَدّثه رجلٌ أنّه فعل ذلك فمرض شهراً من البرد؟
فقال عليه السلام: اغتسل على ما كان، فإنّه لابدَّ من الغُسل.
وذكر أبو عبد اللّه عليه السلام: أنّه اضطرّ إليه وهو مريض فأتوه به مسخّناً فاغتسل، وقال: لابدَّ من الغُسل»(1).
أقول: إنّ هذه الطائفة تعارض ما تقدّم، بناءً على ما هو الحقّ ، من عدم الفرق في جواز التيمّم بين كونه مُحْدِثاً بالحَدَث الأصغر أو الأكبر.
أقول: ويرد عليهما:
أمّا الطائفة الأُولى : أنّها إنّما تدلّ على انتقال الفرض من الوضوء التامّ إلى وضوء الجبيرة، وهي إنّما تختصُّ بما إذا لم يتضرّر من غَسل الموضع الصحيح، لعموم حديث لا ضرر، وتدلّ على أنّه في ذلك المورد وضوءه الواجب هو وضوء الجبيرة.
وما ذكرناه من الأدلّة، لا تدلّ على انتقال الفرض في ذلك المورد إلى التيمّم، فإنّها إنّما تدلّ على الانتقال إليه عند التضرّر من الوضوء الواجب، فتلك النصوص تكون لها نحو حكومةٍ على هذه الأدلّة.
والنتيجة: أنّ الانتقال إلى التيمّم، إنّما يكون فيما إذا كان وضوء الجبيرة أيضاً مضرّاً.
وأمّا الطائفة الثانية: فعن الشيخ في «الخلاف»(2)، والمفيد في «المقنعة»(3)،8.
ص: 144
والصدوق في «الهداية»(1)، وصاحب «الوسائل»(2)، والنراقي(3) في مستنده: القول بوجوب الغُسل على من أجنب متعمّداً دون غيره، جمعاً بين النصوص، بقرينة مرفوع عليّ بن أحمد، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن مجدورٍ أصابته جنابة ؟ قال عليه السلام: إنْ كان أجنب هو، فليغتسل، وإنْ كان احتلم فليتيمّم»(4).
ونحوه مرفوع إبراهيم بن هاشم(5).
وفيه: أنّ المرفوعين ضعيفان: للإرسال، وإعراض المشهور عنهما، مضافاً إلى أنّ الثاني مقطوعٌ ، والأوّل مخالفٌ لظاهر الكتاب والسُنّة، المعتضد بالقواعد العقليّة والنقليّة.
وعليه، فحيثُ أنّ الصحيحين معارضان للنصوص المتقدّم بعضها، الدالّة على أنّ من أصابته جنابة، وكان به قروحٌ أو جروح، أو يكون بحيث يخاف على نفسه البرد، يتيمّم ولا يغتسل، وهي أشهر، فتُقدَّم وتُطرح هذه النصوص، أو تُحمل على الاستحباب، بناءً على مشروعيّة الوضوء في موارد لزوم الحَرَج أو الضَّرر كما سيأتي، فانتظر.
***2.
ص: 145
أقول: وتنقيح القول يتحقّق بالبحث في موارد:
المورد الأوّل: لا يعتبر العلم بالمذكورات، بل يكفي الظنّ ، بل الاحتمال الموجب للخوف بلا خلافٍ ، إذ المأخوذ في معاقد الإجماعات هو الخوف، وكذلك في جملةٍ من نصوص الباب كصحاح البزنطي، وداود بن سرحان، والرِّقي، وخبر يعقوب المتقدّمة، من غير فرقٍ بين حصوله من نفسه أو قول غيره، وإنْ كان كافراً، فما عن «منتهى»(1) المصنّف رحمه الله من عدم قبول قول الذمّي، محمولٌ على صورة التهمة المانعة عن تحقّق الخوف.
وأيضاً: لو احتَمل احتمالاً غير موجبٍ للخوف: فظاهر السيّد في عروته، عدم انتقال الفرض إلى التيمّم، والإكتفاء بالوضوء، وتبعه جمعٌ من المتأخّرين عنه.
وأورد عليه بعض الأعاظم(2): بأنّ الموضوع للمشروعيّة:
إنْ كان هو الخوف صَحّ ما ذكره.
وإنْ كان هو الضَّرر الواقعي، كما يشهد به حديث لا ضرر، فمع احتماله ولو ضعيفاً، لا يمكن الرجوع إلى إطلاق دليل الطهارة المائيّة، لكونه تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة، إلّاأن تجري أصالة عدم الضَّرر إلى ما بعد الوضوء.
أقول: الظاهر تماميّة ما ذكره السيّد قدس سره، حتّى بناءً على كون الموضوع هو الضَّرر الواقعي، وعدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، وذلك لوجهين:
أحدهما: ماسيأتي من صحّة الوضوء، حتّى مع العلم بالضرر، فضلاً عن احتماله.
والثاني: أنّه على فرض عدم صحّته في تلك الصورة في المقام، لا مجال
ص: 146
للرجوع إلى عموم حديث لا ضرر، لعدم شموله له واقعاً، وذلك لأنّ دليل نفي الضَّرر واردٌ في مقام الامتنان، ونفيُ الحكم عن الطهارة المائيّة الضَّرريّة في المقام، لو كانت في الواقع كذلك خلاف الامتنان، فإنّه لا يترتّب عليه سوى الكُلفة الزائدة، وهي ضَمّ التيمّم إلى الوضوء قضاءً للعلم الإجمالي بوجوب أحدهما، فالحديث غيرُ شاملٍ للمقام.
وعليه، فالمرجع هو عموم دليل الطهارة المائيّة، ممّا يقتضي صحّة وضوءه في الفرض.
***
ص: 147
المورد الثاني: لو خاف من الشين(1)، وهو ما يعلو البشرة من الخشونة المشوّهة للخِلقة، أو الموجبة لتشقّق الجلد، وخروج الدّم باستعمال الماء، جاز له التيمّم، بلا خلاف فيه في الجملة.
وعن «منتهى» المصنّف(2): نسبته إلى علمائنا.
وعن «المعتبر»(3): إلى مذهبنا.
وعن «جامع المقاصد»(4): إلى إطباقهم.
وفى «المدارك»: إلى قطع الأصحاب(5).
ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - أدلّة نفي العُسر والحَرَج والضَّرر(6).
ومقتضى إطلاق كلام بعضهم، وصريح نهاية المصنّف رحمه الله(7) و «الروض»(8):
عدم الفرق بين الشديد والضعيف.
واستدلّ له: في محكيّ «الروض»: بالإطلاق.
وأوردعليه(9): بأنّه لانصّ على الشين بخصوصه في الأخبار، كي يُتمسّك بإطلاقه.
وصدق (المرض) على شديده فضلاً عن ضعيفه مشكوك فيه، فلا مورد للتمسّك بإطلاق الآية الشريفة.
ص: 148
وفيه: أنّ الظاهر كون مراده التمسّك بإطلاق معاقد الإجماعات، بناءً على كون الإجماع في المقام، من قبيل الإجماع على القاعدة الّذي يعامل مع معقده معاملة متون النصوص.
ولكن يرد عليه: عدم ثبوت كون الإجماع في المقام من قبيل الإجماع على القاعدة، لتقييده في جملةٍ من الكتب: بالفاحش، وفي اُخرى بما لا يتحمّل عادةً ، وعن «الكفاية»: دعوى الاتّفاق على عدم مشروعيّته فيما لا يغيّر الخلقة ويشوّهها.
وعليه، فيتعيّن الإقتصار على المتيقّن الذي هو مورد أدلّة نفي العُسر والحَرَج والضَّرر، وفي غيره يرجع إلى دليل الطهارة المائيّة.
وبالجملة: الأقوى تقييد الشين المسوّغ للتيمّم، بما يكون تحمّله شاقّاً، وموجباً للحَرَج أو الضَّرر.
***
ص: 149
المورد الثالث: المحكيّ عن «تحرير»(1) المصنّف، و «مبسوط»(2) الشيخ، و «معتبر» المحقّق(3): أنّ المرض اليسير لا يكفي في انتقال الفرض إلى التيمّم.
وعن المحقّق الثاني(4): نفي الخلاف فيه.
وعن «نهاية» المصنّف(5)، وقواعده(6)، و «ذكرى» الشهيد(7): تعليق الجواز على مطلق المرض.
أقول: ولا يبعدُ أن يكون النزاع لفظيّاً، كما يظهر من ملاحظة أدلّة الطرفين، فإنّه قد استدلّ للأوّل:
1 - بعدم صدق الحَرَج.
2 - وانصراف الضَّرر عنه.
3 - وإطلاق الآية الشريفة، بقرينة مناسبة الحكم والموضوع المغروسة في الأذهان.
4 - والإجماع منزّل على غير اليسير.
واستدلّ للثاني:
1 - بالحَرَج.
2 - وبقول النبيّ : «لا ضرر ولا ضِرار»(8).
ص: 150
3 - وبأنّه أشدُّ ضرراً من الشين الذي سوّغوا التيمّم له.
4 - وبعدم الوثوق بيسير المرض، عن أن يصير شديداً.
وبالجملة: فإنّ أدلّة الطرفين ظاهرة في اتّفاق الجميع على جواز التيمّم، في المرض الذي يجري فيه هذه الوجوه دون غيره.
وعليه، فلا نزاع ولا كلام، في أنّ المرض اليسير الذي لا حَرَج فيه ولا ضَرَر، ويطمئن بعدم صيرورته شديداً، لا يكون من مسوّغات التيمّم كما عرفت، كما أنّه لا يسقط به التكليف بالصّوم والصّلاة من قيام.
وبعبارة اُخرى: المرض الذي لا يعتدّ به في العادة، لا يكون موجباً لانتقال الفرض إلى التيمّم.
وأيضاً: ظهر ممّا ذكرنا حكم زيادة المرض، فإنّه إذا كانت الزيادة يسيرة، ولم تكن - ولو مع الانضمام إلى الأوّل - مشقّة لا يجوز التيمّم.
وأمّا الألم الخالي: فهل يُشرع معه التيمّم إذا كان بحيثُ لا يتحمّل عادةً كما عن الأكثر، بل عن ظاهر «الغُنية»(1) الإجماع عليه، أم لا كما عن «الذكرى»(2)؟ وجهان:
أقول: أقواهما الأوّل، لعموم دليل نفي الحَرَج، ولعلّ مراد الشهيد الألم الذى لا حرج في تحمّله.
***2.
ص: 151
المورد الرابع: إذا تحمّل المصلّي الضَّرر وتوضّأ:
1 - فإنْ كان الضَّرر في تحصيل الماء ونحوه من المقدّمات، فلا إشكال ولا كلام في صحّة الوضوء، بل وجوبه بعد تحمّل الضَّرر، وحصول المقدّمة، لصدق الوجدان، وعدم المانع عن وجوب الوضوء.
2 - وإنْ كان في استعمال الماء، ففي «الجواهر»(1)، و «العروة»(2)، وعن غيرهما:
بَطَل الوضوء.
واستدلّ له باُمور:
الأوّل: ما في «الجواهر»: من أنّ استعمال الماء حينئذٍ حرامٌ ، لكونه إضراراً بالنفس، فلا يكون مأموراً به، بل منهيّاً عنه، فيفسد.
وأُورد عليه: بأنّ استعمال الماء إنّما يكون محرّماً غيريّاً لا نفسيّاً، لكون الحرام النفسي هو الضَّرر المترتّب عليه، والحرمة الغيريّة لا تصلح للمبعّديّة، فلا مانع من التقرّب به.
وفيه: أنّ الضَّرر المترتّب لا يكون حراماً، إذ متعلّق التكليف لابدَّ وأن يكون فعل المكلّف، وهو في المقام الإضرار، فهو حرامٌ نفسي، وهو وإنْ كان عنواناً توليديّاً من استعمال الماء، إلّاأنّه ليس له وجودٌ آخر غير وجود ما تولّد منه، كالإحراق المتولّد من النار، بل هو يكون منطبقاً على ما تولّد منه، فحرمته عبارةٌ اُخرى عن حرمة استعمال الماء بالوضوء.
فالصحيح أن يُورد عليه: بأنّه لا دليل على حرمة الإضرار بالنفس، لأنّ شيئاً
ص: 152
من النصوص التي استدلّ بها لها لا يدلّ عليها، كما حقّقناه في محلّه.
الثاني: أنّ حديث لا ضرر إنّما يوجب تقييد متعلّقات الأحكام، ويدلّ على أنّ كلّ تشريعٍ ضرري منفيٌّ في الإسلام، وعليه فالوضوء المزبور لم يشرع في الشريعة، فلا يصحّ .
وأورد عليه: بأنّ ما دلَّ على وجوب الوضوء عند وجدان الماء، إنّما يدلّ على أنّ الوضوء ولو كان ضرريّاً، واجبٌ وواجد للملاك، وحديث لا ضرر إنّما يوجب تقييد ذلك الدليل من جهة دلالته على وجوب الوضوء، وأمّا دلالته على واجديّة كلّ وضوءٍ - ولو كان ضرريّاً - للملاك، فهي باقية بحالها، ولا دليل على تقييد إطلاقه من هذه الجهة، فإنّه إذا كانت للكلام دلالات وظهورات متعدّدة، وسقط بعضها عن الحجّية، فلا موجب لسقوط الآخر، وعليه فيصحّ الإتيان به بداعي الملاك.
وفيه: أنّ التمسّك بالإطلاق فرع كون الكلام مسوقاً للبيان، وكونه مسوقاً لبيان حكم لا يكفي في التمسّك بالإطلاق في حكمٍ آخر، ودليل وجوب الوضوء إنّما يكون في مقام بيان وجوب كلّ وضوءٍ ، لا كون كلّ فردٍ واجداً للملاك، وإنّما يستكشف ذلك من الحكم، فإذا فرضنا تقييد الحكم، وعدم ثبوته للوضوء الضَّرري، فلا كاشف عن وجود الملاك، ولا إطلاق حتّى يتمسّك به.
ودعوى بعض الأعاظم(1): من أنّه بناءً على أنّ الاختلاف بين الوجوب والاستحباب، إنّما يكون بالاختلاف في الترخيص في تركه وعدمه، وأنّ أدلّة نفي الضَّرر والحَرَج لا ترفع الطلب، وإنّما تقتضي الترخيص، فيرتفع الوجوب، فالطلب يكون بحاله باقياً بلا نقص فيه أصلاً.3.
ص: 153
غير سديدة: إذ تلك الأدلّة نافية للتكليف لا مثبتة، فلا يثبت بها الترخيص، وهي إنّما ترفع الأحكام الشرعيّة دون العقليّة، فلا تصلح أن تكون رافعة لحكم العقل بوجوب إتيان ما أمر به المولى، فلا محالة تكون رافعة للطلب المتعلّق بالفعل، الذي هو المُنشأ لحكم العقل بلزوم الإتيان بما تعلّق به.
أقول: ولكن يرد على أصل الاستدلال بأنّ حديث لا ضرر بما أنّه واردٌ في مقام الامتنان، فإنّه لا يصلح أن يكون رافعاً للاستحباب، إذ لا كُلفة في وضعه كي يرفعه، وإنّما يرفع التكاليف اللّزوميّة، وحيثُ أنّ الوضوء مستحبٌّ نفسي على الأظهر، ومستحبٌّ غيري على مسلك المشهور، لبنائهم على كون المستحبّ النفسي هو الكون على الطهارة - على ما تقدّم تنقيح القول في ذلك في الجزء الأوّل من هذاالشرح - فلزومه وإنْ كان مرتفعاً، إلّاأنّ استحبابه باقٍ ، فيصحّ الإتيان به لاستحبابه النفسي، أو لغايةٍ مستحبّة.
الثالث: ما نُسِب إلى المحقّق النائيني رحمه الله(1)، وهو أنّه لا ريب في صحّة التيمّم في الفرض، فلو كان الوضوء أيضاً صحيحاً، لزم التخيير بينهما، وهو يشبه الجمع بين النقيضين، إذ موضوع مشروعيّة الوضوء هو الوجدان، وموضوع مشروعيّة التيمّم هو عدم الوجدان، فالحكم بمشروعيّة كليهما معاً، يستلزم كون المكلّف واجداً للماء، وغيرُ واجدٍ له!
وفيه: أنّ موضوع مشروعيّة التيمّم لا ينحصر في عدم الوجدان، بل قد يَشرعُ التيمّم حتّى في فرض الوجدان، وهو فيما إذا كان استعمال الماء ضرريّاً، فإنّه مع صدق الوجدان لا يجب الوضوء، لعموم حديث لا ضرر.
وعليه، فلا يلزم من مشروعيّتهما معاً، صدق الوجدان وعدم الوجدان.2.
ص: 154
الرابع: أنّ ظاهر النصوص الخاصّة، الناهية عن الغُسل والوضوء، والآمرة بالتيمّم في المقام، هو عدم مشروعيّة الوضوء، ولزوم الإتيان بالتيمّم تعييناً.
وفيه: أنّ النهي عنهما لوروده مورد توهّم الوجوب، لا يكون ظاهراً في عدم المشروعيّة، بل لا يستفاد منه أزيد من عدم الوجوب، كما أنّ الأمر بالتيمّم أيضاً لا يدلّ على الوجوب لوروده مورد توهّم الحظر.
فتحصّل: أنّ الأقوى هو الحكم بالصحّة.
وأخيراً: بما ذكرناه يظهر أنّ الأقوى هو صحّة الوضوء، إذا تحمّل الحَرَج والمشقّة فتوضّأ، بل الحكم بالصحّة في هذه المسألة أولى من الحكم بها في المسألة السابقة، لعدم جريان الوجه الأوّل المذكور للبطلان في تلك المسألة في المقام، ولذلك فصّل السيّد في «العروة»(1) بين الحَرَج والضَّرر، فحَكَم بفساد الوضوء في الثاني دون الأوّل.
***3.
ص: 155
المورد الخامس: إذا تيمّم باعتقاد الضَّرر أو خوفه وصلّى، فتبيّن عدمه، فهل يصحّ تيمّمه وصلاته أم لا؟ وجهان:
أقواهما الأوّل، إذ مشروعيّة التيمّم عُلّقت في جملةٍ من نصوص الباب - المتقدّم بعضها كصحيحي البزنطي وداود(1) وغيرهما - على الخوف من البرد والعَطَش، وإذا ثبتت مشروعيّته، كان مُجزياً بلا كلام، كما سيأتي التعرّض لهذه الكليّة، ومورد هذه النصوص إنّما هو الخوف، لكن يثبت في صورة الاعتقاد للأولويّة القطعيّة.
ودعوى: أنّ المتعيّن حمل هذه النصوص على إرادة جعل حكمٍ ظاهري في ظرف احتمال الضَّرر:
1 - إمّا لأنّ ذلك ممّا يقتضيه الجمع العرفي بينها وبين ما يدلّ على تعليق الحكم على الضَّرر الواقعي، كحديث لا ضرر، والآية الشريفة، وغيرهما.
2 - وإمّا لامتناع كون كلٍّ منهما - أي الضَّرر الواقعي، وخوفه أو اعتقاده - موضوعاً مستقلّاً للحكم، لإستلزامه اجتماع المثلين فيما لو خاف الضَّرر،
وكان في الواقع كذلك، فلا بدَّ من التصرّف في إحدى الطائفتين:
إمّا بحمل تلك الأدلّة على إرادة كون الموضوع هو الخوف أو الاعتقاد.
أو حمل نصوص الباب على إرادة جعل حكمٍ ضرري، ولا ريب في أنّ الثاني أولى .
وعليه فكونه مُجزياً في صورة انكشاف الخلاف، يبتني على القول بإجزاء المأمور به الظاهري عن الأمر الواقعي، وهو خلاف الحقّ .
ص: 156
مندفعة: بأنّ الجمع العرفي في غير المقام، وإنْ كان يقتضي ذلك، إلّاأنّ ما دلَّ على مشروعيّة التيمّم عند الخوف في المقام يأبى عنه، فإنّ الأمر بالتيمّم عند الخوف في الصحيحين إنّما وقع في سياق الأمر به لدى القروح والجروح، وحيثُ أنّه لا ريب في كون الثاني حكماً واقعيّاً فكذلك الأوّل.
وأمّا دعوى: لزوم اجتماع المثلين، فيما إذا خاف الضَّرر أو اعتقده، وكان في الواقع كذلك.
فممنوعة: إذ اللّازم فيه حينئذٍ هو اجتماع جهتين لمشروعيّة التيمّم، ولا محذور في ذلك، كما لو فقد الماء وكان استعمال الماء مضرّاً بحاله، فإنّه لا يلزم من ذلك اجتماع المثلين، بل لازمه مشروعيّة التيمّم من جهتين.
وبذلك ظهر مستند القول الثاني، والجواب عنه.
أقول: وأمّا صحيح ابن سنان، حيث سأل أبا عبد اللّه الصادق عليه السلام:
«عن الرّجل تصيبه الجنابة في اللّيلة الباردة، ويخاف على نفسه التلف إنْ اغتسل ؟
فقال عليه السلام: يتيمّم ويُصلّي، فإذا أمِن البرد اغتسل وأعاد الصّلاة»(1).
فلا علاقة له بما نحن فيه، وإنّما يدلّ على لزوم الإعادة بعد ارتفاع العُذر، وسيجيء نتقيح القول في تلك المسألة.
فتحصّل: أنّ الأقوى هو الأوّل.
وأيضاً: إذا توضّأ مع اعتقاد الضَّرر أو خوفه:
1 - فبناءً على المختار من صحّة الوضوء مع تحمّل الضَّرر، كما عرفت، صحَّ وضوؤه في صورة تبيّن عدم الضرر كما هو واضح.0.
ص: 157
2 - وأمّا بناءً على عدم الصحّة في تلك المسألة:
ألف: فإنْ كان المستند هي النصوص الخاصّة الآمرة بالتيمّم مع الخوف، لم يصحّ في المقام، لما عرفت من أنّ الظاهر من تلك النصوص كون الخوف موضوعاً لمشروعيّة التيمّم، وانتقال الفرض إليه وإنْ لم يكن في الواقع كذلك.
ب: وإنْ كان المستند هو حديث لا ضرر، فيصحّ في المقام، لعدم كون الوضوء ضرريّاً على الفرض.
ج: وأمّا إنْ كان المستند هو أنّ استعمال الماء بما أنّه إضرارٌ بالنفس، فهو حرام، فلا يجوز التقرّب به.
فالبطلان في المقام يدور مدار أنّ الفعل المتجرّى به حرامٌ أم لا؟
إذ على الأوّل يصبح الوضوء محرّماً فيبطل.
وعلى الثاني لا مانع من كون الوضوء مأموراً به، فيصحّ لو أتى به.
ومجرّد الوقوع بعنوان التجرّي، لا يصلح أن يكون مانعاً عن الأمر به، وكونه مقرّباً في صورة الإتيان به مع تحقّق قصد القربة كما هو المفروض.
وبالجملة: حيثُ أنّ المختار هو الثاني كما حقّقناه في محلّه، فالأظهر هي الصحّة، كما أنّها الأظهر بناءً على كون المستند في تلك المسألة هو ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله كما لا يخفى .
***
ص: 158
ولو توضّأ باعتقاد عدم الضَّرر، ثمّ تبيّن وجوده ؟
فالمشهور بين الأصحاب على ما نَسبِ إليهم المحقّق النائيني رحمه الله(1) هي الصحّة، وعدم لزوم الإعادة.
واستدلّ لها: بأنّ من اعتقد فقدان الماء، يصدق عليه أنّه غير واجدٍ للماء، وإنْ كان الماء موجوداً عنده، فيكون ملزماً بالتيمّم.
وكذلك من اعتقد كون الوضوء مضرّاً بحاله، فإنّه يعتقد باعتقاده ذلك عدم القدرة على الامتثال، وكذلك العكس، فمن اعتقد عدم الضَّرر يكون واجداً للماء فيصحّ وضوئه.
وفيه: أنّ الضَّرر بوجوده الواقعي رافعٌ للحكم، فهو غير واجدٍ له.
أقول: الأولى الاستدلال لها بأنّ حديث (لا ضرر) لوروده مورد الامتنان، لا يشمل الحكم الذي لا امتنان في رفعه، بل يلزم منه تكليفٌ زائد، والمقام من هذا القبيل، فإنّ الحكم بارتفاع وجوب الوضوء في الفرض، يلزم منه الإتيان بالتيمّم وإعادة الصّلاة، فلا يشمله الحديث، فالأقوى هي الصحّة لما ذكرناه.
وأيضاً: لو اعتقد عدم الضَّرر فتيمّم، ثمّ تبيّن وجوده، فهل يصحّ تيمّمه أم لا؟ وجهان:
يشهد للأوّل:
1 - عموم حديث (لا ضرر)(2).
2 - وقوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى (3).
ص: 159
3 - ونصوص المجدور.
ودعوى: عدم شمول دليل نفي الضَّرر لموارد الجهل به، إذ الوقوع في الضَّرر فيها ليس مستنداً إلى الحكم الشرعي ليرفع به، بل منشأه جهل المكلّف بالضّرر، واعتقاده عدم الضَّرر، ولذا لو لم يحكم الشارع به لأتى به المكلّف لاعتقاد عدم الضَّرر.
مندفعة: بأنّ ظاهر الحديث رفع كلّ حكم كان ضرريّاً بنفسه أو بامتثاله، ولا يكون ناظراً إلى الضَّرر الشخصي الخارجي، وأنّه من أيّ شيءٍ نشأ، ومعلومٌ أنّ الأحكام الشرعيّة في موارد الجهل بالضرر - كوجوب الوضوء - لو ثبتت، لصدق عليها أنّها أحكام ضرريّة مجعولة في الشريعة، وعليه فدليل نفي الضَّرر يدلّ على انتفائها.
وأمّا دعوى: أنّه لا امتنان في شموله لموارد الجهل، فلا يكون شاملاً لها، لكونه وارداً في مقام الامتنان.
فممنوعة: لأنّه يكفي في كونه امتنانيّاً جريانه في أمثال المقام، ممّا لازمه صحّة التيمّم وإجزائه.
فإنْ قلت: إنّ ظاهر النصوص الواردة في موارد خاصّة كالمجدور وغيره، كون الموضوع هو اعتقاد الضَّرر أو خوفه لا مطلق الضَّرر.
قلت: إنّ ظاهر هذه النصوص وإنْ كان ذلك، إلّاأنّ مقتضى حديث (لا ضرر) والآية الشريفة وغيرهما من الأدلّة، كون الموضوع هو الضَّرر الواقعي.
والجمع بينهما قد عرفت في المسألة السابقة، أنّه يقتضي الالتزام بكون كلّ واحدٍ منهما موضوعاً مستقلّاً.
فتحصّل: أنّ الأظهر هي صحّة التيمّم مع تأتّي قصد القُربة منه.
***
ص: 160
الأمر السادس: لا إشكال ولا خلاف في أنّه لو كان عنده ماءٌ قليل وخاف أن يعطش إنْ توضّأ به، جاز له التيمّم، بل عن «المعتبر» نسبته إلى أهل العلم(1).
ويشهد له: صحيح الحلبي(2) وموثّق سماعة(3) المتقدّمان في أوّل هذا المسوّغ، ونحوهما صحيح ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«في رجلٍ أصابته جنابة في السّفر، وليس معه إلّاماء قليل، ويخاف إنْ هو اغتسل أنْ يعطش ؟
قال عليه السلام: إنْ خاف عَطَشاً فلا يهريق منه قطرة، ليتيمّم بالصعيد، فإنّ الصَّعيد أحبُّ إليّ »(4).
ونحوه خبر ابن أبي يعفور(5).
أقول: إنّما الكلام في أنّه هل يختصّ ذلك:
1 - بعَطَش نفسه كما في «الشرائع»؟
2 - أم يعمّ عَطَش رفيقه إذا كان مُسلماً أو كافراً ذميّاً أو معاهداً، أو عَطَش حيوانٍ له حُرمة كما عن المصنّف رحمه الله في بعض كتبه(6)؟
3 - أم يعمّ كلّ ما يلزم من عدم صرف المال فيه الوقوع في الحرام، أو الضَّرر البدني أو المالي أو الحَرَج ؟
ص: 161
4 - أم يتعدّى إلى غير ذلك ؟ وجوهٌ وأقوال.
استدلّ للثاني: وهو جواز التيمّم فيما لو خَشي العَطَش على رفيقه أو دوابّه في «المعتبر»(1): بأنّ حرمة أخيه المسلم كحرمته، وبأنّ حرمة المسلم آكد من حرمة الصّلاة، والخوف على الدّواب خوفٌ على المال، ومعه يجوز التيمّم.
وفيه: أنّ غاية ما تدلّ عليه الأدلّة، إنّما هي حرمة قتل المسلم، ووجوب حفظه من التلف، وأمّا أنّه عند الخوف من تلفه يجبُ الاحتياط في حفظه فلا دليل عليه.
كما أنّه لا دليل على وجوب حفظه من حدوث مرضٍ عليه، أو حَرَجٍ أو مشقّة، وعليه فلا يدلّ ما ذُكر على جواز التيمّم في هذه الموارد.
كما أنّ كون الخوف على المال في نفسه مطلقاً مسوّغاً للتيمّم قابلٌ للمناقشة، كيف وقد دلَّ الدليل على لزوم بذل ثمن خطير لشراء الماء للوضوء.
أقول: واستدلّ لجواز التيمّم في مطلق موارد خوف العَطَش، سواءٌ أكان على نفسٍ محترمة أو غير محترمة، إنساناً كان أم حيواناً، بما دلَّ على أنّ اللّه يحبّ إبراد كبدٍ حَرّاء(2).
وفيه: أنّ ما تضمّن ذلك، بما أنّه لا يدلّ على وجوب رفع العَطَش في جميع الموارد، فلا يصلح لمزاحمة ما دلَّ على وجوب الطهارة المائيّة، وبإطلاق قوله في موثّق سماعة(3): «ويخاف قلّته».
وفيه: أنّ الأخذ بإطلاقه، يستلزم الالتزام بجواز التيمّم مع خوف قلّة الماء عن6.
ص: 162
استعماله في سائر حوائجه كغَسل أوانيه ونحوه، وبديهي عدم جواز التيمّم في هذه الموارد.
والتحقيق يقتضي أن يقال: إنّ الظاهر من الموثّق إنّما هو جواز التيمّم في كلّ موردٍ يترتّب محذورٌ على عدم صرف الماء فيه، ولو عُرفاً، وعليه فمقتضى عمومه جواز التيمّم مع خوف عطش كلّ من هو تحت رحمته، وإنْ كان كافراً محقون الدّم، بل وإنْ كان واجب القتل، لا سيّما إذا كان ممّن يجب عليه نفقته، فإنّه يترتّب محذورٌ شرعي على عدم رفع عطشه، وكذلك إذا خاف عطش رفيقه، وإنْ لم يكن ممّن يمونه، فإنّ للرفقة حقّاً تُبذل النفوس دونها، خصوصاً على أهل المروءات كما في «الجواهر»(1).
وأمّا من لم يكن مرتبطاً به:
فإنْ كان ممّن يجب حفظه من المُهلِكات، فيجوز التيمّم، بل يجب صرف الماء فيه والتيمّم بدله، وإلّا فلا يكون خوف عطشه من مسوّغات التيمّم، لعدم شمول إطلاق الموثّق له.
وأمّا الدّواب: فإنْ كانت متعلّقة به، ولزم من ذبحها التضرّر، جاز له صرف الماء في رفع عطشها، إذ مقتضى عموم حديث نفي الضرر عدم وجوب ذبحها، وبما أنّها واجبة النفقة عليه، الّتي منها السقي، جاز له التيمّم، بل يشمله حينئذٍ عموم الموثّق.
ودعوى: أنّ (لا ضرر) لا يصلح لرفع وجوب ذبحه في المقام، لما دلَّ على وجوب شراء الماء بثمن خطير.
مندفعة: بما ذكرناه في ما لو خاف على ماله من لَصٍّ أو غيره، من الفرق بين الشراء وإتلاف المال، والتضرّر بتلفه، فراجع.5.
ص: 163
وإنْ لم يلزم من ذبحه التضرّر، وجب الذبح، ولا يجوز التيمّم كما لا يخفى .
وأمّا دواب الغير: فلا دليل على صرف الماء لرفع عطشها، مع وجوب الطهارة المائيّة، وأولى بعدم الجواز، ما إذا كان ذلك الحيوان ممّا يجوز قتله كالكلب العقور والخنزير، بلا ترتّب ضمان عليه.
***
ص: 164
أو عدم آلةٍ يتوصّل بها إليه.
الثالث من مسوّغات التيمّم: هو عدم الوصلة إلى الماء، وإنْ كان موجوداً، بلا خلافٍ ، بل إجماعاً كما ادّعاه جماعة منهم المحقّق رحمه الله(1).
ويشهد له: - مضافاً إلى الإجماع، وإطلاق الآية الشريفة،(2) لما عرفت من أنّ معنى (عدم الوجدان) المأخوذ موضوعاً في الآية الشريفة، هو عدم الوجود المقدور، لا مطلق عدم الوجود - جملة من النصوص الآتية.
أقول: ثمّ إنّ عدم الوصلة إلى الماء:
تارةً : يكون لتوقّفه على السير إلى مكانه المتعذّر عليه، لكبرٍ أو غيره.
واُخرى : يكون لخوف من سَبُعٍ (أو) لِصٍّ .
وثالثة: يكون لكونه في بئرٍ، و (عدم آلةٍ يتوّصل بها إليه).
ورابعة: أو لتوقّفه على ثمنٍ يضرّه في الحال.
أقول: فها هنا مسائل:
المسألة الأُولى : لا خلاف كما عرفت في أنّه لو لم يتمكّن من الوصول إليه لكبرٍ أو غيره ينتقل فرضه إلى التيمّم.
ويشهد له: مضافاً إلى ما تقدّم:
1 - قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى (3)، فإنّه بإطلاقه يشمل المرض، الموجب
ص: 165
للعجز عن السعي إليه.
2 - وعموم ما دلَّ على رفع العُسر والحَرَج.
أقول: إنّما الكلام فيما لومَنَعه الزُّحام يوم الجمعة، أو يوم عرفة عن الخروج للوضوء:
فعن الشيخ(1) التصريح: بأنّه يتيمّم، ويُصلّي ثمّ يعيد.
وعن المحقّق(2): إنّه يتيمّم ويُصلّي ولا يُعيد.
واستدلّ الشيخ رحمه الله: بخبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام: «أنّه سُئل عن رجلٍ يكون في وسط الزحام يوم الجمعة ويوم عرفة، لا يستطيع الخروج من المسجد من كثرة الناس ؟
قال: يتيمّم ويُصلّي معهم ويُعيد إذا انصرف»(3).
ونحوه موثّق سماعة عن الإمام الصادق عليه السلام(4).
وأجاب عنهما المحقّق(5): بضعف السند، واستدلّ بنفسه على مختاره بأنّه:
(صلّى صلاةً مأموراً بها، مستجمعة للشروط حال أدائها فتكون مُجزية).
أقول: إنّ الظاهر من الخبرين ورودهما في مورد عدم ضيق الوقت، والتمكّن من التوضّي خارج المسجد بعد تفرّق الناس، فإنّ المسؤول عنه فيهما الصّلاة في يوم الجمعة ويوم عرفة، ومعلوم أنّه في يوم عرفة عند إقامة الجماعة لا يكون وقت الصّلاة ضيّقاً.
مع أنّ الظاهر منهما هو السؤال عن الصّلاة مع المخالفين بلا وضوء، لا عن9.
ص: 166
الصّلاة الصحيحة، لأنّهم أرباب الجمعة والجماعات في تلك الأزمنة، لا سيّما في المواضع الظاهرة واجتماع عامّة الناس، وعلى ذلك فلا تكون الصّلاة المفروضة مع التيمّم مُجزية لوجهين:
الأوّل: كونها مع المخالفين.
والثاني: التيمّم لها مع عدم تضيّق وقت الصّلاة.
فالإعادة تكون على القاعدة، ولكن مع ذلك فإنّهما يدلّان على مشروعيّة التيمّم في أمثال هذا المورد، فإنّه بعد فرض كون الوضوء مأموراً به للصّلاة معهم، كما يشهد له خبر مسعدة بن صدقة(1) في من مَرَّ بقومٍ ناصبيّة قد اُقيمت لهم الصّلاة، وعدم تمكّنه من الوصلة إلى الماء من كثرة الناس، حيث أمره عليه السلام: بالتيمّم. وبذلك يظهر ما في كلمات الأصحاب في المقام.
***ة.
ص: 167
المسألة الثانية: إذا خاف من السير إلى مكان الماء من لِصٍّ أو سَبُعٍ ، جاز له التيمّم بلا خلاف فيه في الجملة.
بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه.
ويشهد له: صحيح داود الرِّقي، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«لا تطلب الماء ولكن تيمّم، فإنّي أخاف عليك التخلّف من أصحابك، فتضلّ فيأكلك السَّبع»(1).
وخبر يعقوب بن سالم، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ لا يكون معه ماء، والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحو ذلك ؟ قال عليه السلام: لا آمره أن يُغرّر بنفسه فيعرض له لِصٌّ أو سَبُعٌ »(2).
وقد تقدّم في أوّل هذا المبحث أنّهما معتبران، مضافاً إلى عمل الأصحاب بهما، فلا سبيل إلى الإعراض عنهما.
أقول: ثمّ إنّه هل يختصّ الحكم:
1 - بالخوف على النفس، كما اختاره في «الحدائق»(3)؟
2 - أم يعمّ الخوف على المال، كما عن المشهور، بل عن «المنتهى »(1) نفي الخلاف فيه، وفي «الحدائق»(5) دعوى الاتّفاق عليه ؟
ص: 168
وجهان، واستدلّ للثاني، بإطلاق الخبرين المتقدّمين.
وفيه: أنّ صريح الأوّل الاختصاص بالخوف على النفس، كما أنّه الظاهر من الثاني، إذ التغرير بالنفس إنّما هو عبارة عن تعريضها لما يوجب الهلاك.
فالأولى الاستدلال له: بما دلَّ على رفع الحَرَج والعُسر، لما في «المدارك»(1): (من أنّه لا ريب في أنّ في تعريض المال للّصوص حَرَجاً عظيماً ومهانةً على النفس، بخلاف بذل المال اختياراً، فإنّه لا غضاضة فيه على أهل المروءة بوجه) انتهى .
أقول: ومنه يظهر الجواب عن سؤال الفرق بين تعريض المال للّصوص، وبذل المال الكثير في الشراء.
والإيراد عليه: بما في «الحدائق»(2) من أنّه معارضٌ بما دلَّ على وجوب الوضوء أو الغسل، وهو أصرّح وأوضح، فيجب تقديمه.
مع أنّه لو سُلّم التكافؤ فبما أنّهما عامّان تعارضا، فلا وجه لتقييد دليل وجوب الوضوء أو الغُسل به.
غَير تامّ : لما حقّقناه في محلّه من أنّ دليل رفع العُسر والحَرَج يكون حاكماً على الأدلّة المتضمّنة لبيان الأحكام، الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّليّة، وعليه فهو يكون مقدّماً، وإنْ كانت النسبة بينهما عموماً من وجه.
فتحصّل: أنّ الأظهر هو التعميم، ولا فرق في المال بين أنْ يكون له أو لغيره، ولا بين قليله وكثيره، كما عن غير واحدٍ الجزم به، والشاهد عليه عموم ما دلَّ على رفع العُسر والحَرَج.5.
ص: 169
المسألة الثالثة: إذا كان الماء في بئرٍ، ولم يكن معه دَلوٌ أو غيره ليغترف به، ولم يتمكّن من الوصول إلى الماء إلّابمشقّةٍ ، تيمّم وصَلّى بلا خلافٍ .
بل عن «المنتهى »(1): إنّه قول علمائنا أجمع.
ويشهد له: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن الرجل يمرّ بالرِّكية وليس معه دلو؟ قال عليه السلام: ليس عليه أن يدخل الرِّكية، لأنّ ربّ الماء هو ربّ الأرض»(2).
ونحوه حسن الحُسين بن أبي العلاء(3).
وإطلاق الحكم بعدم الدخول في الرِّكية، إنّما يكون من جهة المشقّة في الدخول فيها غالباً، فلو أمكن الدخول فيها بلا مشقّة، لا ينتقل الفرض إلى التيمّم.
وأمّا صحيح ابن أبي يعفور: «إذا أتيت البئر وأنتَ جُنُبٌ ، ولم تجد دلواً ولا شيئاً تغرف به، فتيمّم بالصعيد، فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصَّعيد، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم مائهم»(4).
فالظاهر كونه أجنبيّاً عن المقام، إذ المفروض فيه أنّ الاغتسال في البئر يستلزمُ إفساد الماء على القوم، ولا ريب في عدم جواز مثل هذه التصرّفات في الماء المشترك، فتأمّل.
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الخبرين، عدم الفرق بين التمكّن من إخراج الماء بنحوٍ غير متعارف، كإدخال الثوب وإخراجه بعد امتصاصه الماء ثمّ عصره ونحوه، وعدمه.
***
ص: 170
أو ثَمَنٍ يضرّه في الحال، ولو لم يَضرّه وَجَب وإنْ كَثُر.
المسألة الرابعة: إذا توقّف الوصول إلى الماء على بذل مالٍ كثير:
1 - فإمّا أن يكون ذلك غَير مُضرٍ بحاله.
2 - أو يكون مضرّاً.
وقد فصّل المصنّف رحمه الله بين الموردين، وحكم بوجوب الشراء في الأوّل دون الثاني، قال:
(أو ثَمنٍ يضرّه في الحال، ولو لم يَضرّه وجَبَ وإنْ كَثُر).
أقول: وتنقيح القول يتحقّق بالبحث في مقامين:
المقام الأوّل: المشهور بين الأصحاب وجوب الشراء، وعدم انتقال الفرض إلى التيمّم.
وعن «الخلاف»(1): دعوى الإجماع.
ويقع الكلام أوّلاً فيما تقتضيه القواعد، ثمّ فيما تقتضيه النصوص الخاصّة:
أمّا الأوّل: فإنْ كان الشراء بالقيمة، ولم يكن بأكثر من ثمن المثل، وإنْ كان بأكثر من ثمنه المعتاد، كما لو كان الماء في محلٍّ يعتبرون العقلاء له هذا المقدار من الماليّة، لقلّته وكثرة الحاجة إليه أو غير ذلك، فحيثُ أنّه يصدق عليه الواجد، فيجبُ عليه الشراء بمقتضى إطلاق الآية الشريفة وغيرها.
ولا مجال لتطبيق لا ضرر، لا بلحاظ الشراء ولا بلحاظ الوضوء:
ص: 171
أمّا الأوّل: فلأنّه لا ضرر في شراء الشيء بقيمته.
وأمّا الثاني: - فلأنّه مضافاً إلى ما قيل من إنّ وجوب الوضوء مطلقاً حكمٌ ضرري، لاقتضائه إتلاف الماء الذي له ماليّة، فيكون دليله مخصّصاً لقاعدة لا ضرر، وإنْ كان فيه تأمّل ونظر - أنّ صرف الماء في الوضوء كصرفه في المقاصد العقلائيّة لا يعدّ ضرراً عرفاً، وإنْ اشتراه بثمن خطير.
وعليه، فمقتضى القواعد هو وجوب الوضوء في هذه الصورة.
وإنْ كان الشراء بأكثر من ثمن المثل، فمقتضى عموم حديث لا ضرر، هو عدم وجوب الشراء في هذه الصورة، لكون الشراء بأكثر من ثمن المثل ضرراً ماليّاً اتّفاقاً، فمقتضى القاعدة عدم وجوب الوضوء فيها.
وأمّا المورد الثاني: فيشهد لوجوب الشراء بأضعاف ثمنه المعتاد، وعدم انتقال الفرض إلى التيمّم:
1 - صحيح صفوان، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن رجل احتاج إلى الوضوء للصّلاة، وهو لا يقدر على الماء، فوجد بقدر ما يتوضّأ به بمائة درهم أو بألف درهم، وهو واجدٌ لها، يشتري ويتوضّأ أو يتيمّم ؟
قال عليه السلام: لا بل يشتري، قد أصابني مثل ذلك، فاشتريتُ وتوضّأت، وما يسرّني بذلك مالٌ كثير»(1).
2 - وخبر الحسين بن أبي طلحة: «سألتُ عبداً صالحاً عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (2) ما حَدُّ ذلك ؟، فَلَمْ تَجِدُوا بشراءٍ وغير شراءٍ إنْ وجد وضوءه بمائة ألفٍ أو بألفٍ وكم بلغ ؟3.
ص: 172
قال عليه السلام: ذلك على قدر جِدته»(1).
ومقتضى إطلاقهما وجوب الشراء مطلقاً، ولو كان بأضعاف ثمن المثل.
والإيراد على الصحيح: بأنّ استعمال الوجوب في الاستحباب المؤكّد شائع، والقرينة على إرادته منه في المقام، قوله: (قد أصابني فاشتريت)، والترغيب فإنّه يكون غالباً في المستحبّات، كما عن المحقّق المجلسي في شرحه على «الفقيه».
غريبٌ : لأنّه غير متضمّن للفظ الوجوب، وإنّما تضمّن النهي عن التيمّم، والأمر بالوضوء الظاهر في الوجوب.
كما أنّ قوله: (فاشتريت... الخ) لا يصلحُ أن يكون قرينةً لصرف الأمر عن ظاهره، فهذا ممّا لا ينبغي التأمّل فيه.
أقول: المهمّ الكلام في الجمع بين هذه النصوص، وقاعدة لا ضرر، فإنّ ظاهر الأصحاب تقديمها على القاعدة، بدعوى كونها أخصّ منها، وقد مرّ تصريح المجلسي قدس سره بعدم وجوب الشراء بأزيد من ثمن المثل، ولكن قد عرفت أنّ لشراء الماء بثمن خطير صورتين تشمل قاعدة لا ضرر إحداهما دون الاُخرى ، وهذه النصوص تشمل كلتا الصورتين، فتكون النسبة بينهما عموماً من وجه، فتقدّم القاعدة على الحكومة، كما تقدّم على سائر ما تضمّن الأحكام المترتّبة على الموضوعات بعناوينها الأوّليّة.
فتحصّل: أنّ الجمع بين الأدلّة يقتضي التفصيل في ما إذا كان ثمن الماء خطيراً بين كون ذلك الثمن قيمته، وكونه أزيد من قيمته، فيجبُ الوضوء والشراء في الأوّل دون الثاني.
ولعلّ هذا مراد من قيّد وجوب الشراء بثمن خطير، بما إذا لم يجحف في الثمن.6.
ص: 173
أقول: ولكن الإنصاف ان دعوى شمول قاعدة لا ضرر للوضوء بماءٍ يتوقّف الوصول إليه على شرائه بأضعاف ثمنه المعتاد مطلقاً قريبةٌ جدّاً، وعليه فتكون هذه النصوص أخصّ من القاعدة، فتكون مخصّصة لها، فما أفتى به المشهور، لو لم يكن أقوى ، فلا ريب في كونه أحوط.
المقام الثاني: فيما إذا كان الشراء مضرّاً بحاله:
فالمشهور بينهم عدم وجوب الشراء فيه في الجملة.
وعن السيّد قدس سره(1)، وابن سعيد(2): وجوبه مطلقاً.
والقائلون بعدم الوجوب اختلفوا في ما إذا كان مضرّاً بحاله في المال:
فعن المصنّف رحمه الله(3) والشهيد(4) وغيرهما: عدم الوجوب أيضاً.
وعن المحقّق(5) وجوبه.
ويشهد للأوّل:
1 - عموم ما دلَّ على رفع الحَرَج والعُسر.
2 - وقوله عليه السلام في ذيل خبر الحسين المتقدّم: (ذلك على قدر جِدته)، فإنّ مقتضى إطلاقهما عدم الفرق بين كونه مُضرّاً بحاله في الحال أو في المال.
واستدلّ لعدم وجوبه في الثاني:
1 - بعدم العلم بالبقاء إلى وقته.
2 - وبإمكان حصول مال له على تقدير البقاء.9.
ص: 174
ولكن يرد عليهما: أنّ استصحاب البقاء، وعدم حصول مالٍ آخر، يقتضي كون المورد مشمولاً لعموم ما دلَّ على رفع الحَرَج في خبر الحسين المتقدّم.
وأخيراً: وبما ذكرناه يظهر ضعف القول بالوجوب مطلقاً، مستنداً إلى إطلاق الخبرين المتقدّمين.
***
ص: 175
الرابع من مسوّغات التيمّم: ما إذا زاحم استعمال الماء في الوضوء أو الغُسل تكليفٌ آخر، كما لو كان عنده ماءٌ بقدر أحد الأمرين: من رَفع الحَدَث، أو حفظ النفس المحترمة من التلف، فإنّه يجبُ استعمال الماء في رفع عطش من يجبُ حفظه، ويتيمّم، لما حقّقناه في محلّه من أنّه لو تزاحم تكليفان، وكان لمتعلّق أحدهما بدلٌ دون الآخر، قُدّم ما ليس له البدل، ويسقط ما له البدل، وكذلك الحال في المقام فإنّه يسقط وجوب الطهارة المائيّة، وينتقل الفرض إلى التيمّم.
بل يمكن أن يُقال: إنّه يكون التيمّم مشروعاً في جميع موراد التزاحم، ما لم يَحرز أهميّة وجوب الطهارة، وإنْ لم يثبت كون ذلك من مرجّحات باب التزاحم، وذلك فيما لو أحرز أهميّة التكليف الآخر واضح، فإنّه لا كلام في كون الأهميّة من مرجّحات ذلك الباب.
وأمّا إنْ لم يُحرز ذلك، أو أحرز التساوي، فإنّ الحكم حينئذٍ هو التخيير، وهو يكفي في مشروعيّة التيمّم، إذ لو ثبت جواز ترك الطهارة المائيّة، تثبت مشروعيّة التيمّم، للملازمة بينهما المستفادة من الأخبار، لاحظ تعليل الإمام الصادق عليه السلام لمشروعيّة التيمّم في مورد الخوف من السَّبع، حيث قال: «فإنّي أخافُ عليك التخلّف من أصحابك... الخ» إذ لولا الملازمة بين نفي وجوب الطلب، ومشروعيّة التيمّم، لما صحّ ذلك.
وأيضاً: قوله عليه السلام في خبر آخر: «لا آمره أن يُغرّر بنفسه»، حيث لم يتعرّض لمشروعيّة التيمّم، بل اقتصر على بيان عدم وجوب الطلب.
وهكذا في صحيح الحلبي: «ليس عليه أن يدخل الرِّكية لأنّ ربّ الماء... الخ».
أقول: بل يمكن الاستدلال على الملازمة بوجه آخر، وهو أنّ الأمر في موارد
ص: 176
سقوط وجوب الطهارة المائيّة، يدور بين جواز ترك الصّلاة رأساً، والصّلاة بلا طهارة، ومشروعيّة طهارة اُخرى غير المائيّة والترابيّة، ومشروعيّة التيمّم، ولا سبيل إلى الالتزام بشيءٍ منها سوى الأخير، كما هو واضح.
***
ص: 177
التنبيه الأوّل: إن سقوط وجوب الوضوء عند التزاحم:
1 - ربما يكون بنحو الرُّخصة، كما لو خَشي عَطَش نفسه لو توضّأ، إذ له أن يتحمّل مشقّة العَطَش ويتوضّأ بالماء الطاهر، كما عرفت في بعض المباحث السابقة.
2 - وربما يكون بنحو العزيمة، كما لو كان عنده ماءً بقدر ما يتوضّأ به، وكان مسلمٌ في معرض الهلاكة من شدّة العَطَش، فإنّه في أمثال ذلك يجب عليه صرف الماء في رفع عطش المسلم والتيمّم، فلو عصيذلك وتوضّأهل يصحّوضوءه أم لا؟ قولان:
اختار أوّلهما بعض الأعاظم(1)، واستدلّ له:
1 - بثبوت الأمر بالوضوء على نحو الترتّب.
2 - مضافاً إلى أنّ صحّة الوضوء يكفي فيها وجود ملاكه، وإنْ لم يكن مأموراً به عقلاً.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلما حقّقناه في محلّه من مبحث الترتّب، من عدم جريانه في التكاليف المشروط بالقدرة شرعاً كالوضوء، فإنّ نفس الخطاب بالأهمّ حينئذٍ يكون مُعْدِماً لموضوع وجوب الطهارة وهو الوجدان، فلا يعقل ثبوت الحكم.
وأمّا الثاني: فلأنّه لا كاشف عن وجود الملاك بعد سقوط التكليف، وعدم كون الدليل في مقام بيان ما فيه الملاك، بل ظاهر الأدلّة عدمه.
وبالجملة: فالأقوى هو الثاني، وفاقاً للسيّد في عروته وغيره من المحقّقين.
ص: 178
التنبيه الثاني: ذَكر جماعةٌ من المحقّقين منهم السيّد في «العروة»(1) في المقام فروعاً، وتوهّموا أنّها من متفرّعات هذا المسوّغ.
منها: ما إذا كان بدنه أو ثوبه نجساً، ولم يكن عنده من الماء إلّابقدر أحد الأمرين من رفع الحَدَث أو الخَبَث.
ومنها: ما إذا كان معه مايمكن تحصيل أحد الأمرين: من ماء الوضوء، أو الساتر.
ومنها: ما إذا دار الأمر بين تحصيل الماء أو القبلة.
ومنها: غير ذلك.
واختاروا فيها تعيّن التيمّم، وإنْتوقّفَ فيه بعضهم في بعضها لشُبهةٍ حصلت له.
أقول: ويبتني جميع الفروع المتوهّمة المذكورة على ما بنوا عليه من أنّ موارد التنافي بين الحكمين الضمنيين، من موارد التزاحم، وعليه فبما أنّ من مرجّحات باب التزاحم كون أحد الواجبين ممّا ليس له بدل، والآخر ممّا له بدل، والطهارة المائيّة لها بدل، فيسقط وجوبها وينتقل الفرض إلى البدل.
ولكن قد عرفت غير مرّةٍ إجمالاً - ويأتي تفصيله في الجزء السادس من هذا الشرح في مبحث القبلة(2) - من أنّ هذه الموارد من موارد التعارض لا التزاحم، وأنّ مركز التنافي هو إطلاق دليل كلٍّ من الحكمين الضمنيين لو كان لهما إطلاق، كما في الأمثلة المتقدّمة.
وعليه، فبما أنّ النسبة بينهما عمومٌ من وجه، فيتساقطان(3) والمرجع إلى الأصل، وهو يقتضي التخيير، ففي الأمثلة يقع التعارض بين إطلاق دليل الطهارةه.
ص: 179
المائيّة، وإطلاق دليل ما عارضه، فيتساقطان والمرجع إلى أصالة البراءة عن تعيّن كلّ منهما، فيثبت التخيير.
وبالجملة: فالأظهر هو التخيير في جميع هذه الموارد.
فإنْ قلت: إنّه في المثال الأوّل يتعيّن التيمّم للنصّ ، وهو خبر أبي عُبيدة:
«قال: سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة الحائض ترى الطُهر، وهي في السّفر، وليس معها من الماء ما يكفيها لغُسلها، وقد حضرت الصّلاة ؟
قال عليه السلام: إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله، ثمّ تتيمّم وتُصلّي»(1).
حيث أمر فيه بغَسل النجاسة الخَبَثيّة مطلقاً وإنْ أمكن الوضوء.
قلت أوّلاً: قد عرفت في مبحث الأغسال(2) أنّ الأظهر عدم وجوب الوضوء مع شيءٍ من الأغسال.
وثانياً: مع أنّه لو سُلّم عدم أظهريّته، فبما أنّه محلّ الكلام، فليكن هذا الخبر أحد الأدلّة الدالّة على ذلك.
نعم، في المثال الثاني لو كان تحصيل الماء أو الساتر متوقّفاً على بذل ثمن خطير غير مُضرٍّ بحاله، الأظهر تعيّن الوضوء، إذ وجوب تحصيل الساتر مرفوع بحديث لا ضرر، بناءً على ما هو الحقّ المتّفق عليه من شموله للضَّرر المالي، وليس كذلك وجوب تحصيل الماء للطهارة، لما تقدّم من وجوبه، وإنْ توقّف على شراء الماء بأضعاف العوض ما لم يضرّ بحاله.
وعليه، فلا شيء يعارض دليل وجوب الطهارة المائيّة.
كما أنّ ما اخترناه من التخيير في المثال الثالث، فإنّما هو فيما لو دار الأمر بين9.
ص: 180
الصّلاة مع الوضوء إلى غير القبلة يقيناً، والصّلاة إليها مع التيمّم. وأمّا لو دار الأمر بين تحصيل الماء والصّلاة إلى طرفٍ من الأطراف، مع احتمال كونه قبلة، والصّلاة إليها مع التيمّم، فبما أنّ المعارض لإطلاق دليل وجوب الطهارة المائيّة حينئذٍ ليس إطلاقُ دليل الصّلاة إلى القبلة، كما لا يخفى، بل ما دلَّ على لزوم الموافقة القطعيّة، فالأقوى تقدّم دليل وجوب الطهارة.
فتأمّل، فإنّه لا يخلو عن إشكال، ولكن كونه أحوط ممّا لا ريب فيه كما لا يخفى .
***
ص: 181
الخامس من مسوّغات التيمّم: ضيق الوقت عن الطهارة المائيّة.
ذكره غير واحدٍ، منهم المصنّف في جملةٍ من كتبه(1)، وصاحب «الحدائق»(2)، وصاحب «الجواهر»(3)، وغيرهم من الأساطين.
وعن جملةٍ من أكابر المحقّقين، منهم المحقّقان في «المعتبر»(4) و «جامع المقاصد»(5)، وسيّد «المدارك»(6) وغيرهم: عدم كونه من مسوّغات التيمّم.
واستدلّ للأوّل بوجوه:
الأوّل: ما دلَّ على تنزيل التّراب منزلة الماء، كقوله عليه السلام في صحيح حمّاد بن عثمان: «هو بمنزلة الماء»، وإنّما يكون بمنزلته لو ساواه في أحكامه، ولا ريب في أنّه لو وجد الماء وتمكّن من استعماله وَجَب عليه الأداء، فكذا لو وجد ما ساواه.
الثاني: أنّه لا ريب في أنّ مشروعيّة التيمّم إنّما تكون للمحافظة على إيقاع الصّلاة في الوقت، وإلّا كان الواجب مع فَقْد الماء أو تعذّره تأخير الصّلاة إلى حين تمكّنه من استعمال الماء، وحينئذٍ فمجرّد وجود الماء في المقام مع استلزام استعماله خروج الوقت في حكم العدم.
الثالث: أنّه لا ريب في عدم وجوب السّعي إلى الماء، لو خاف فوت الوقت،
ص: 182
بل ينتقل الفرض إلى التيمّم، فكذلك في المقام لظهور مساواتهما.
الرابع: أنّه قد ورد في بعض النصوص الأمر بالتيمّم عند الزّحام يوم الجمعة ويوم عرفة، وهو يدلّ على حكم المقام أيضاً.
الخامس: ما دلَّ على عدم سقوط الصّلاة بحال، فإنّه بعد عدم سقوطها، وعدم طهارة غير المائيّة والترابيّة، وسقوط الأولى، يتعيّن التيمّم والصّلاة مع الثانية، وإلّا لزم الصّلاة من غير طهورٍ، وهي ممّا دلَّ الإجماع والنص على عدم مشروعيّتها.
السادس: أنّ الوجدان المأخوذ عدمه موضوعاً لمشروعيّة التيمّم، يختصّ بما لا محذور فيه من استعمال الماء، فإذا كان ضيق الوقت موجباً للزوم المحذور من استعمال الماء الموجود، كان موجباً لصدق عدم الوجدان.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ ما دلَّ على تنزيل التّراب منزلة الماء، لا سبيل إلى التمسّك بإطلاقه، وإلّا لزم الالتزام بكون الواجب في حال الوجدان أحدهما على سبيل التخيير، بل لا محالة يقيّد إطلاقه بما دلَّ على اختصاص مشروعيّته بصورة عدم الوجدان، فلو صدق الوجدان كما في المقام لا مورد للتمسّك بإطلاق دليل التيمّم.
وأمّا الثاني: فلأنّه وإنْ سُلّم كون علّة تشريع التيمّم ذلك، إلّاأنّ ذلك لا يُجدي، لأنّه جعل الشارع لمشروعيّة التيمّم موضوعاً، وهو عدم الوجدان، فمع عدم صدقه لا يمكن التمسّك بما دلَّ على مشروعيّته.
وأمّا الثالث: فلأنّ سقوط وجوب الطلب عند احتمال وجود الماء في الحَدّ، عند ضيق الوقت عن الطلب، لا يستلزم مشروعيّة التيمّم عند ضيق الوقت عن استعمال الماء، لما عرفت من أنّه يصدق في ذلك المورد عدم الوجدان دون المقام.
ص: 183
وأمّا الرابع: فلما مرّ في بعض المباحث السابقة من أنّ ما دلَّ على التيمّم عند الزحام يوم الجمعة ويوم عرفة أجنبيٌّ عن المقام، وإنّما يدلّ على التيمّم للصّلاة مع المخالفين، وإلّا ففي يوم عرفة لا ريب في عدم مشروعيّة التيمّم في أوّل الوقت بمجرّد الزحام، بل يجب الصبر ليتفرّق الناس فيتوضّأ ويُصلّي.
وأمّا الخامس: فلأنّ المستفاد من ما دلَّ على عدم سقوط الصّلاة بحالٍ ، أنّ كلّ مكلّفٍ في أيّ حالٍ من الحالات كان، ملزمٌ بأداء الصلاة، ولا يدلّ ذلك الدليل على أنّ من وظيفته الصّلاة مع الطهارة المائيّة لو أخّرها عصياناً أو عن غير عصيان حتّى ضاق الوقت، ينتقل تكليفه إلى الصّلاة مع التيمّم، كما لا يدلّ على انتقال فرضه إلى الصّلاة من غير طهارة، لو ضاق الوقت عن التيمّم أيضاً، فتدبّر فإنّه دقيق.
وأمّا السادس: فلأنّه إذا ترتّب محذورٌ على استعمال الماء من مرضٍ أو حرجٍ أو غيرهما، لا يجب الوضوء، لا لصدق عدم الوجدان، بل لما دلَّ على عدم وجوبه في هذه الموارد، كما أنّه لا دليل على انتقال الفرض إلى التيمّم بمجرّد ترتّب أيّ محذورٍ على استعمال الماء.
ودعوى كون المراد من عدم الوجدان ذلك، كما ترى .
فالصحيح في المقام أن يُقال: إنّه حينما يضيق الوقت ولم يتمكّن المكلّف من أداء الصّلاة في الوقت مع الطهارة المائيّة، لا محالة يسقط الأمر بالمركّب منهما، وحيث أنّه لا ريب في عدم سقوطه رأساً، بحيث لا يكون هذا الشخص مكلّفاً بالصلاة، فلا محالة يحدُث أمرٌ آخر متعلّق بالمركّب من سائر الأجزاء والشروط، وأحد هذين الأمرين الساقطين هو إمّا الطهارة المائيّة، أو إيقاع الصّلاة في الوقت، إمّا تعييناً أو تخييراً، فالأمر يدور بين أن يكون الواجب هو خصوص الصّلاة مع التيمّم
ص: 184
في الوقت، أو خصوص الصّلاة مع الوضوء خارج الوقت، أو يكون الواجب إحداهما تخييراً، ولا يحتمل وجوب كليهما معاً، فحينئذ يقع التنافي بين إطلاق دليل وجوب الطهارة المائيّة الدالّ على دخلها في الصّلاة بجميع مراتبها، وبين إطلاق ما دلَّ على لزوم إيقاع الصّلاة بتمامها في الوقت، الدالّ على لزومه كذلك، وحيث أنّ النسبة بينهما عموم من وجه يتساقطان(1) معاً، والمرجع هو الأصل، وليس هو إلّا أصالة البراءة عن وجوب إتيان كلٍّ منهما بالخصوص، بناءً على ما هو الحقّ من جريانها في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فيثبت التخيير، فالأظهر هو التخيير في المقام.
ولا مجال لتوهّم مخالفة هذا القول للإجماع المركّب، ليقتضي عدم إمكان الالتزام به، إذ لا محذور في ذلك بعد كون القائلين بتعيّن كلّ واحدٍ منها استندوا إلى وجوهٍ غير تامّة.
أقول: هذا فيما لو دار الأمر بين إيقاع الصّلاة في الوقت مع الطهارة الترابيّة، وإيقاعها في خارج الوقت مع الطهارة المائيّة. وأمّا لو دار الأمر بين إيقاع الصّلاة بتمامها في الوقت مع الطهارة الترابيّة، وإيقاع ركعةٍ منها في الوقت والباقي خارجه مع الطهارة المائيّة، ففيه أيضاً أقوال:
القول الأوّل: تعيّن الثاني.
القول الثاني: تعيّن الأوّل، اختاره السيّد في عروته(2) وتبعه جملةٌ من المتأخّرين عنه.0.
ص: 185
القول الثالث: التخيير بينهما، وهو الأقوى .
وقد استدلّ للأوّل: بما دلَّ (1) على أنّ (من أدرك ركعةً من الوقت فقد أدرك الوقت).
وفيه: أنّه لا يدلّ على جواز تفويت الوقت إلّاركعة، بل لو أمكن إيقاع الصّلاة بتمامها في الوقت وجب ذلك، وإنّما يدلّ على أنّه في صورة فوات الوقت إلّا بمقدار ركعة، تكون الصّلاة أداءً ، وفي حكم إيقاعها بتمامها في الوقت.
واستدلّ للثاني: بأنّ القاعدة مختصّة بما إذ لم يبق من الوقت فعلاً إلّامقدار ركعة، فلا تشمل ما إذا بقي بمقدار تمام الصّلاة، ويؤخّرها إلى أن يبقى مقدار ركعة، فالمسألة من باب دوران الأمر بين مراعاة الوقت ومراعاة الطهارة المائيّة، والأوّل أهمّ لأنّ الطهارة المائيّة لها بدل وهو التيمّم.
وفيه: أنّ القاعدة في نفسها شاملة للفرض، مع قطع النظر عن التيمّم، إذ المراد منها إدراك ركعة من الصّلاة بشروطها، ومنها الطهارة، والمفروض في المسألة أنّه لو حصّلها لم يكن يدرك إلّاركعة واحدة، فمقتضى قاعدة (من أدرك) تعيّن ذلك، وعدم الانتقال إلى التيمّم.
كما أنّ مقتضى ما دلَّ على مشروعيّة التيمّم لو ضاق الوقت على فرض ثبوته، هو تعيّن التيمّم، ولزوم أداء تمام الصّلاة في الوقت، فيقع التنافي بينهما.
وبعبارة اُخرى: يدور الأمر بين أمرين لكلّ منهما بدلٌ ، ولم نحرز أهميّة أحدهما عن الآخر، فلا محالة يَحكم العقل بالتخيير.
هذا بناءً على مسلك القوم الملتزمين بأنّ موارد التنافي بين الحكمين الضمنيين).
ص: 186
من موارد التزاحم.
وأمّا بناءً على المختار من كونها من موارد التعارض، وأنّ مركز التنافي إنّما هو إطلاق دليل كلٍّ من الجزئين أو الشرطين، وأنّه يتساقط الإطلاقان، والمرجع إلى الأصل، فإنّ الحكم بالتخيير واضح، إذ في المقام بعد سقوط الأمر بإيقاع تمام الصّلاة في الوقت مع الطهارة المائيّة، وحدوث أمر بالخالي عن أحدهما، يقع التعارض بين إطلاق دليل اعتبار الطهارة المائيّة، وبين إطلاق دليل لزوم إيقاع تمام الصّلاة في الوقت، فيتساقطان، ويرجع إلى الأصل، وهو يقتضي التخيير، كما أشرنا إليه آنفاً.
***
ص: 187
الفرع الأوّل: لو شكّ في ضيق الوقت وسعته، فهل يَشرع له التيمّم أم لا؟ وجهان:
استدلّ للأوّل: بصدق خوف الفوت الذي هو المناط لمشروعيّة التيمّم في المقام.
وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت من عدم كون صحيح زرارة مستنداً لمشروعيّة التيمّم - أنّ مقتضى استصحاب بقاء الوقت إلى ما بعد الطهارة والصّلاة، بناءً على جريانه في الاُمور الاستقباليّة، تعيّن البناء على السِّعة، وبه يرتفع خوف الفوت لو سُلّم كونه موضوعاً لمشروعيّة التيمّم.
فإنْ قلت: إنّ استصحاب بقاء الوقت، عاجزٌ عن إثبات وقوع الصّلاة في وقتها المكلّف به، إذ الأصل الجاري في مفاد كان التامّة لا يصلح لإثبات ما هو مفاد كان الناقصة، إلّاعلى القول بالأصل المثبت، فالأصل الجاري في المقام نظير استصحاب بقاء الكُرّ في الحوض، فإنّه لا يمكن به إثبات كرّية الماء الموجود فيه.
وإنْ شئت قلت: إنّه لا يثبت باستصحاب بقاء اللّيل أو النهار، كون الزمان الحاضر من اللّيل أو من النهار، ومع عدم إثباته لا يصدق على الفعل المأتى به كونه واقعاً في اللّيل أو في النهار الذي أُخذ ظرفاً لوقوعه.
قلت: إنّ الزمان المأخوذ ظرفاً:
إنْ أُخذ بوجوده المحمولي قيداً، فلا مانع من جريان الاستصحاب، كما في سائر القيود، إذ به وبإتيان الواجب بجميع قيوده الاُخر يُحرز كون الواجب بتمامه وكماله متحقّقاً في الخارج، غاية الأمر بعضه بالوجدان وبعضه بالتعبّد، مثلاً لو قال المولى:
(إمسك في النهار)، فلو استصحب الصائم بقاء النهار وأمسك يتحقّق امتثال ذلك التكليف، فإنّه يكون حينئذٍ إمساكاً وجدانيّاً في النهار التعبّدي.
نعم، إنْ أُخذ بوجوده النعتي قيداً، كما لو قال المولى في المثال: (إمسك إمساكاً
ص: 188
نهاريّاً)، فالاستصحاب لا يجري فيه، إذ بالإمساك الوجداني واستصحاب بقاء النهار، لا يمكن إحراز تحقّق هذا العنوان الدخيل في المأمور به.
وحيث أنّ ظاهر الأدلّة في الموقّتات ومنها الصّلاة هو أخذ الزمان بالنحو الأوّل، كما في سائر القيود كالطهارة وغيرها، فاستصحاب بقاء الزمان يفيد في الموقّتات، فتدبّر فإنّه دقيق. وعليه فالأقوى هو الثاني.
وأيضاً: لو علم المكلّف مقدار الزمان، ومع ذلك شكّ في سعته للطهارة المائيّة والصّلاة، من جهة الجهل بمقدار الصّلاة مع الطهارة المائيّة، فالأظهر أيضاً البناء على السِّعة، إذ الزمان بنفسه وإنْ كان مقداره معلوماً، ولا يجري فيه الاستصحاب، إلّا أنّه إذا لوحظ مع الصّلاة والطهارة، يكون بقاء النهار إلى آخر الصّلاة مشكوكاً فيه، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، إذ يكفي في جريانه كون الشيء مشكوكاً فيه من جهةٍ ، ولو كان معلوماً من سائر الجهات، ومعه لا يصدق خوف الفوت، كي ينتقل الفرض إلى التيمّم، كما في «العروة».
أقول: والعجب من بعض المعاصرين(1) حيث أنّه مع التزامه في الصورة الأُولى بجريان الاستصحاب، وفي هذه الصورة بعدم الجريان، التزم:
(بأنّ المرجع والمعتمد في الصورتين، قاعدة خوف الفوت، المقتضية لوجوب المبادرة إلى الموقّت عند خوف فوته الّتي يدلّ عليها تسالم الفقهاء والعقلاء فضلاً عن صحيح زرارة المتقدّم).
إذ يرد عليه: - مضافاً إلى ما تقدّم منّا ومنه من أنّ مشروعيّة التيمّم عند خوف فوت الوقت، ليس مدركها الصحيح، ولا هذا التسالم، وأنّ هذه القاعدة لا أصل لها إنْ كان مدركها ما ذكره - أنّه مع جريان الاستصحاب لا يبقى خوف فوت الوقت،2.
ص: 189
كي يرجع إلى القاعدة، لما حُقّق في محلّه من قيامه مقام القطع.
وأيضاً: ومنه يظهر أنّ ما أفاده في «العروة»(1) من الفرق بين الصورتين، بصدق خوف الفوت في الثانية دون الأُولى ، مبنيٌّ على عدم جريان الاستصحاب في الثانية، كما ذهب إليه جماعة، وقد عرفت ضعفه، فالأظهر في هذه الصورة أيضاً عدم الانتقال إلى التيمّم.
***1.
ص: 190
الفرع الثاني: لو لم يكن عنده الماء، ولكن كان قادراً على تحصيله وضاق الوقت عنه، بحيث استلزم تحصيله خروج الوقت، ولو في بعض أجزاء الصّلاة، فهل ينتقل الفرض إلى التيمّم أم لا؟
وجهان؛ أقواهما الأوّل، لصدق عدم الوجدان في الفرض، بخلاف ما لو ضاق الوقت عن استعماله مع وجوده، إذ قد عرفت أنّ دعوى صدقه حتّى في تلك الصورة ممنوعة.
بل ما أفاده المحقّق الثاني(1) من عدم صدقه في تلك الصورة، وصدقه في هذه هو الصحيح.
وعليه، فيتعيّن عليه التيمّم والصّلاة في هذه الصورة، بخلاف الصورة السابقة، إذ قد عرفت أنّه لا يتعيّن ذلك عليه.
ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - مرسل حسين العامري:
«عمّن سأله عن رجلٍ أجنَب فلم يقدر على الماء، وحضرت الصّلاة، فتيمّم بالصعيد، ثمّ مَرّ بالماء ولم يغتسل، وانتظر ماءً آخر وراء ذلك، فدخل وقت الصّلاة الاُخرى، ولم ينته إلى الماء، وخاف فوت الصّلاة ؟ قال عليه السلام يتيمّم ويُصلّي»(2).
أقول: إنّ إرساله مانعٌ عن الاعتماد عليه، فالعمدة صدق عدم الوجدان، وعلى فرض عدم الصدق، فحكمه حكم الصورة السابقة، ويجري فيها ما سبق ذكره فيها.
***
ص: 191
الفرع الثالث: يدور البحث فيه عمّن وظيفته التيمّم لضيق وقته عن استعمال الماء:
1 - فبناءً على المختار من أنّه مخيّر بين التيمّم والصّلاة، وبين أنْ يتوضّأ ويقضي فلا إشكال.
2 - وأمّا بناءً على تعيّن التيمّم عليه:
فلو توضّأ لأجل تلك الصّلاة بطل، أي لا يقع امتثالاً للأمر الآتي من قبل تلك الصّلاة، إذ لا واقع له، وحينئذٍ فهل يصحّ لو قصد غايةً اُخرى، أو توضّأ بقصد الكون على الطهارة أو استحبابه النفسي، أم لا؟
اختار أوّلهما السيّد في عروته(1)، واستدلّ له بأنّ الأمر بالشيء - أي التيمّم والصّلاة - لا يقتضي النهي عن ضدّه، وهو الوضوء.
وفيه: أنّ الأمر بالوضوء يسقط، لمزاحمته مع التيمّم والصّلاة الواجبين، فلا يصحّ لا للنهي بل لعدم الأمر.
فإنْ قلت: إنّه يمكن الالتزام بالأمر به على نحو الترتّب، مضافاً إلى أنّ صحّة الوضوء يكفي فيها وجود الملاك، وإنْ لم يكن مأموراً به عقلاً.
قلت: إنّه قد حقّقنا في محلّه عدم جريان الترتّب في أمثال الوضوء، ممّا هو مشروط بالقدرة شرعاً، ولا طريق إلى إحراز وجود الملاك فيه، فالأقوى عدم الصحّة.
ثمّ إنّه بناءً على صحّته في هذا الفرض، الأوجه هي الصحّة في الفرض الأوّل، بناءً على أنّ عباديّة الطهارات الثلاث، إنّما تكون من جهة أمرها النفسي كما لا يخفى.
***
ص: 192
الفرع الرابع: لا خلاف ظاهراً في أنّه لا يُستباح بالتيمّم لأجل الضيق غير تلك الصّلاة من الغايات.
أقول: وما في غير واحدٍ من الكلمات من الاتّفاق على أنّه يستباح بالتيمّم لغاية ما يستبيحه المُتطهِّر من سائر الغايات، لا ينافي ذلك، إذ مرادهم بذلك - كما صرّح به في «الجواهر»(1) وغيرها - ما لو كان مسوّغ التيمّم موجوداً بالنسبة إلى كلّ غايةٍ من المرض وعدم الوجدان ونحوهما، بحيث يصحّ وقوع التيمّم لكلّ منها ابتداءً ، دون ما ليس كذلك كما في المقام، لعدم تحقّق المسوّغ بالنسبة إلى غير تلك الصّلاة، وهذا ممّا لا كلام فيه.
إنّما الكلام وقع في موردين:
المورد الأوّل: لو ضاق الوقت فتيمّم وصلّى ، وصار فاقداً للماء حين الصّلاة أو بعدها بمقدارٍ لا يسع الوضوء، فهل يكفي هذا التيمّم للصّلاة الآتية أم لا؟ وجهان:
1 - بناءً على تعيّن التيمّم عند الضيق الأظهر الكفاية، إذ هو فاقدٌ للماء بالنسبة إليها من حين تيمّمه للصّلاة الأُولى ، أمّا بعد الصّلاة فواضحٌ ، وأمّا حين التيمّم والصّلاة، فلأنّه شرعاً مأمورٌ بالتيمّم والصّلاة وترك الوضوء.
وبعبارة اُخرى: إنّه عاجزٌ عن استعمال الماء في جميع تلك المدّة، ففي بعضها بالعجز الشرعي، وفي آخر بالعجز العقلي، فيكون التيمّم مشروعاً بالنسبة إليها، فتستباح تلك الصّلاة أيضاً بهذا التيمّم.
2 - وأمّا بناءً على المختار من التخيير بينه وبين الوضوء، فالأوجه عدم الكفاية، إذ حين تيمّمه للصّلاة الأُولى يكون واجداً للماء بالإضافة إلى الصّلاة
ص: 193
الآتية عقلاً وشرعاً:
أمّا الأوّل: فواضح.
وأمّا الثاني: فلعدم إلزام الشارع بالتيمّم، وعدم الوجدان بعد ذلك لا يكفي في إباحة هذا التيمّم، كما هو واضح.
المورد الثاني: أنّه حين ما يكون متشاغلاً بتلك الصّلاة، هل له الإتيان بسائر الغايات التي لم يتضيّق أوقاتها كمسّ كتابة القرآن أم لا؟ قولان:
أقواهما الأوّل، بناءً على ما هو الأظهر من أنّ التيمّم يوجب حصول الطهارة، أو أنّه بنفسه طهارة على اختلاف المسلكين، لا أنّ أثره مجرّد رفع المنع من فعل الغايات، إذ عليه لو تيمّم وحصلت الطهارة، فما دام لم تتمّ صلاته، تكون الطهارة باقية، نعم لو تمّت صلاته ارتفعت الطهارة، وعليه فله الإتيان في أثناء الصّلاة بجميع ما هو مشروطٌ بالطهارة.
ودعوى: أنّ العجز عن الطهارة المائيّة من الجهات التقييديّة لموضوع مشروعيّة التيمّم لا التعليليّة، وحيث أنّه غَير عاجزٍ عنها بالمقايسة إلى سائر الغايات، فلا يكون التيمّم المزبور نافعاً بالقياس إليها.
مندفعة: بأنّه بعد كونه مشروعاً بالإضافة إلى هذه الصّلاة، لو تيمّم فإنّه تحصل الطهارة، وهو لا يكاد يتّصف في تلك الحالة بكونه غير متطهّر، وإذا كان متطهّراً فله فعل جميع الغايات، وإلّا لزم عدم كونها من آثار الطهارة، أو تخلّف أثر الطهارة عنها، وكلاهما كما ترى .
نعم، تتمّ هذه الدعوى بناء على كونه مبيحاً لا رافعاً.
أقول: وقد استدلّ للمختار بوجهين آخرين:
الوجه الأوّل: أنّ الأمر بالتيمّم والصّلاة موجبٌ للعجز عن استعمال الماء
ص: 194
بالإضافة إلى المسّ في أثناء الصّلاة، فيصدق عدم الوجدان بالإضافة إليه.
وفيه: أنّ العجز في مدّة قصيرة، كالعجز في مكانٍ خاصّ لا يوجب صدق عدم الوجدان، مع أنّك قد عرفت أنّه لا يتعيّن التيمّم والصّلاة، فلا يكون عاجزاً حتّى حين التيمّم والصّلاة.
الوجه الثاني: إطلاق معقد إجماعهم(1) على أنّه يستبيح للمتيمّم ما يستبيحه المتطهّر بالمائيّة، فإنّ مقتضاه عدم اشتراط ثبوت مسوّغ التيمّم لكلّ غاية.
نعم، يعتبر بقاء ذلك المسوّغ لتلك الغاية، فلا يجوز المسّ بعد الصّلاة، لانتهاء المشروعيّة، إمّا قبلها أو في الأثناء فجائز.
وفيه: ما عرفت من أنّ الظاهر من كلماتهم إرادتهم بذلك الاكتفاء بتيمّم واحد لاستباحة جميع الغايات، إذا كان مسوّغ التيمّم موجوداً بالنسبة إلى كلّ غاية، فالعمدة ما ذكرناه.
***).
ص: 195
الفرع الخامس: إذا لم يفِ الوقت بقراءة السّورة في الصّلاة مع الطهارة المائيّة، ودار الأمر بين ترك إحداهما، فهل يتركها ويتوضّأ للصّلاة، أم يتيمّم ويقرؤها في صلاته، أم يتخيّر بينهما؟ وجوه:
استدلّ للأوّل:
1 - بأنّه لا إطلاق لما دلَّ على وجوب السّورة في الصّلاة يشمل المقام، فيرجع إلى الأصل، وهو يقتضي العدم.
2 - وبأنّ النصوص إنّما دلّت على سقوط وجوبها إذا ما أعجلت به حاجةً أو تخوّف شيئاً، ويكفي في صدق الحاجة الطهارة المائيّة، فيكون المقام من تعارض المقتضي واللّامقتضي.
3 - وبفحوى ما دلَّ على سقوط وجوبها في المأموم المسبوق إذا لم يمهله الإمام.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ دعوى عدم الإطلاق لما دلَّ على وجوب السّورة في الصّلاة، على فرض تسليم دلالته عليه، ممنوعة، كما يظهر لمن راجع صحيحي الحلبي ومنصور، الذين استدلّ بهما للقول بالوجوب.
وأمّا الثاني: فلأنّ كون الطهارة المائيّة حاجة وغرضاً مطلوباً، يتوقّف على سقوط السّورة، وإلّا فلا أمر بها، ولا تكون حاجةً وغرضاً مطلوباً، وعليه فلا يمكن أن يكون درك الطهارة المائيّة وجهاً لسقوط السّورة، وإلّا لزم الدور.
وأمّا الثالث: فلأنّ سقوطه عن المأموم إنّما يكون لدرك فضيلة الائتمام، وأمّا في المقام، فلم يثبت كون إدراك الصّلاة مع الطهارة المائيّة فاقدة للسورة حاجةً وغرضاً مطلوباً.
ص: 196
واستدلّ للثاني: بأنّه يقع التزاحم بين وجوب السّورة ووجوب الطهارة المائيّة، وحيث أنّ الطهارة لها بدلٌ ، وليس كذلك السّورة، فيسقط وجوب الطهارة، وينتقل الفرض إلى التيمّم، ويبقى وجوب السّورة.
وفيه: ما عرفت غير مرّة(1) من أنّ التنافي بين الحكمين الضمنيين يعدّ من موارد التعارض لا التزاحم، فلا وجه للرجوع إلى مرجّحات ذلك الباب.
أقول: وحقّ القول في المقام:
1 - إنّه بناءً على ما قوّيناه(2) بحسب الأدلّة من عدم وجوب السّورة في الصّلاة - وإنّما لم نفتِ به لذهاب أكثر المحقّقين والأساطين، ومن يُعتمد عليه إلى الوجوب - لا ينبغي التوقّف في أنّه يتعيّن عليه في الفرض الوضوء والصّلاة بلا سورة.
2 - وأمّا بناءً على القول بوجوبها فيها، فبناءً على ما هو الحقّ من أنّ موارد التنافي بين الأوامر الضمنيّة إنّما تكون من موراد التعارض لا التزاحم، وأنّ مركز التنافي إطلاق أدلّتها، يقع التعارض بين إطلاق ما دلَّ على وجوب السّورة، وإطلاق ما دلَّ على وجوب الطهارة المائيّة، وإطلاق ما دلَّ على لزوم إيقاع الصّلاة بتمامها في الوقت، فلابدَّ من سقوط أحدها، وحيث لا مرجّح، فيسقط الجميع، والمرجع هو الأصل، وهو يقتضي التخيير، كما أشرنا إليه في بيان هذا المسوّغ، فراجع.
وبالجملة: فهو مخيّر في المقام بين اُمور ثلاثة:
الأوّل: الصّلاة مع الطهارة المائيّة، والسّورة وإنْ خرج الوقت.
الثاني: الصّلاة مع الطهارة المائيّة، مع ترك السّورة في الوقت.
الثالث: الصّلاة مع الطهارة الترابيّة والسّورة في الوقت.1.
ص: 197
الفرع السادس: لو ضاق الوقت عن المستحبّات الموقّتة، كما لو ضاق وقت صلاة اللّيل مع وجود الماء، والتمكّن من استعماله، فهل يشرع التيمّم أم لا؟ وجهان:
أقول: إنْ كان الموقّت ممّا يُقضى على فرض فوته في وقته، فالأظهر هو الانتقال إلى التيمّم، بمعنى أنّه يجوز له التيمّم والإتيان به في وقته، لعين ما ذكرناه في ما لو ضاق وقت الصّلاة الواجبة، وهو العلم بسقوط التكليف بإتيان الواجب مع جميع ما يعتبر فيه في الوقت، وتعلّقه بإتيانه في الوقت مع سقوط الطهارة المائيّة، أو في خارج الوقت معها، ولازم ذلك التخيير بينهما على ما عرفت.
وإنْ كان ممّا لا دليل على قضائه لو فات، فلا مسوّغ للتيمّم، إذ بعد سقوط التكليف بإتيانه في وقته مع الطهارة المائيّة، لا علم بتعلّق التكليف بشيءٍ آخر كي يجري فيه ما ذكرناه، وبذلك - وبضميمة ما ذكرناه عند الاستدلال، لانتقال الفرض إلى التيمّم لو ضاق الوقت عن الواجب - يظهر ما في كلمات القوم في المقام، فلا نطيل بذكرها وما فيها.
***
ص: 198
الفرع السابع: لو تيمّم باعتقاد الضيق فبانت سعته بعد الصّلاة، فهل يُعيدها أم لا؟ وجهان، بل قولان:
استدلّ للثاني:
1 - بقوله عليه السلام في صحيح زرارة: «فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم(1)... الخ».
فإنّه إذا ثبت مشروعيّة التيمّم، وصحّة الصّلاة مع الخوف، أثبتنا مع القطع بالضيق بالأولويّة.
2 - ومرسل حسين العامري: «عمّن سأله عن رجلٍ أجنَب، فلم يقدر على الماء، وحضرت الصّلاة فيتيمّم بالصعيد، ثمّ مرَّ بالماء ولم يغتسل، وانتظر ماءً آخر وراء ذلك، فدخل وقت الصّلاة الاُخرى ، ولم ينته إلى الماء، وخاف فوت الصّلاة ؟ قال عليه السلام: يتيمّم ويُصلّي»(2).
ولكن يرد على الأوّل: أنّه لا يدلّ على المشروعيّة وإنْ بانت السِّعة، إلّاإذا كان الخوف بنفسه موضوعاً للمشروعيّة، وقد عرفت سابقاً أنّ الظاهر منه كون الخوف طريقاً شرعيّاً إلى الضيق.
وعلى الثاني، مضافاً إلى ذلك، أنّه لإرساله لا يُعتمد عليه.
وبالجملة: فالأظهر هو الأوّل، لانكشاف عدم مشروعيّته واقعاً، للقدرة
ص: 199
على الطهارة المائيّة.
وعليه، فإنْ كانت الوقت واسعاً توضّأ وجوباً، وإنْ لم يكن واسعاً تخيّر بين التيمّم والوضوء.
***
ص: 200
ويَجبُ الطّلب غلوةَ سهمٍ في الحَزَنة، وسهمين في السَّهلة من جوانبه الأربع.
تتيمّم في بيان اُمور:
الأمر الأوّل: أنّ المشهور بين الأصحاب أنّه في صورة عدم الماء (يجبُ الطلب غلوةَ سَهمٍ في الحَزَنة، وسهمين في السّهلة من جوانبه الأربع).
وتمام الكلام في هذا الأمر بالبحث في جهات:
الجهة الأُولى : لا خلاف في وجوب الفحص.
وعن «معتبر» المحقّق(1) و «منتهى» المصنّف(2) وفي «المدارك»(3): دعوى الإجماع عليه.
أقول: والكلام في هذه الجهة يقع:
تارةً : فيما يستفاد من الآية الشريفة ولو بضميمة ما ورد في تفسيرها.
واُخرى : فيما يستفاد من النصوص.
أمّا الموضع الأوّل: فقد يتوهّم أنّها تدلّ على عدم الوجوب، وأنّه يكتفى في انتقال الفرض إلى التيمّم، بعدم العثور على الماء، ولكنّه فاسدٌ لوجوه ثلاثة:
الأوّل: أنّ المنساق إلى الذهن من عدم الوجدان، هو عدم الوجود المقدور، ولذا لا يُطلق غير واجد الضّالة، على من لم يعثر عليها ولم يطلبها.
ص: 201
الثاني: أنّ المستفاد من الآية الشريفة، بقرينة تعليق الأمر بالتيمّم على عدم وجدان الماء، وقوله تعالى بعد ذلك: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ (1) أنّ بدليّة التيمّم عن الطهارة المائيّة بدليّة اضطراريّة لا لفقد المقتضي وانقلاب الموضوع.
وعليه، فيجبُ طلب الماء، وعند تعذّر تحصيله ينتقل التكليف إلى التيمّم.
الثالث: جملةٌ من النصوص الواردة في تفسيرها:
منها: خبر الحسين بن أبي طلحة، عن العبد الصالح عليه السلام: «عن قوله اللّه عزّ و جلّ :
أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ما حَدّ ذلك ؟
قال: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بشراءٍ وبغير شراء: إنْ وُجد قَدْر وضوئه بمائة ألف أو بألف وكم بلغ ؟ قال: ذلك على قدر جِدته»(2).
ومنها: خبر أيّوب: «إذا رأى الماء وكان يقدر عليه انتقض تيمّمه»(3).
ومنها: صحيح صفوان، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن رجل احتاج إلى الوضوء للصّلاة، وهو لا يقدر على الماء، فوجد بقدر ما يتوضّأ به بمائة درهم أو بألف درهم وهو واجد لها، يشتري ويتوضّأ أو يتيمّم ؟ قال: لا، بل يشتري...»(4).
والظاهر أنّ هذا هو مراد من فسّر الوجدان بعدم القدرة، أي عدم الوجود المقدور، وإلّا فحمل الوجدان على القدرة خلاف الظاهر.
ولكن يمكن أن يُقال: إنّه إذا شكّ في الوجود المقدور الذي هو الموضوع لوجوب الطهارة المائيّة، بحسب ما يستفاد من الآية الشريفة، يكفي في إثبات8.
ص: 202
مشروعيّة التيمّم من دون الفحص، استصحاب عدم الوجود الخاص لكونه مسبوقاً بالعدم.
ودعوى: أنّ وجوب الطهارة المائيّة ليس مشروطاً بالوجدان بل هو مطلقٌ غير مشروط به، ومع الشكّ في القدرة على الواجب المطلق يجبُ الاحتياط لبناء العقلاء عليه، فيجب الطلب من باب الاحتياط، واستصحاب عدم القدرة لا يُجدي، لعدم كون القدرة شرطاً لموضوع الحكم الشرعي، بالإضافة إلى وجوب الطهارة المائيّة، فلا يصحّ التعبّد بوجودها أو عدمها بلحاظه.
مندفعة: بأنّ الظاهر من الآية الشريفة الآمرة بالطهارة المائيّة، ثُمّ بالتيمّم عند عدم وجدان الماء، هو أنّ المُحْدِث على قسمين: واجدٌ وغير واجد، والطهارة المائيّة تجبُ على الطائفة الأُولى ، والترابيّة على الثانية.
وبعبارة اُخرى: يستفاد منها تقييد الأمر بالطهارة المائيّة بالوجدان، فهو شرطٌ شرعي، فلا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب، ومعه لا يبقى مورد للرجوع إلى حكم العقل وجوب الاحتياط، مع أنّ عدم الرجوع إلى البراءة في موارد الشكّ في القدرة إنّما هو فيما كانت القدرة شرطاً عقليّاً، وأمّا لو كانت شرطاً شرعيّاً فهي تجري فيها كما حقّقناه في محلّه.
مع أنّه لو سُلّم عدم دلالتها على اشتراط وجوب الطهارة المائيّة بالوجدان، فلا ريب في أنّ عدم الوجدان قيدٌ شرعيّ لوجوب الطهارة الترابيّة، فهو بالإضافة إليها يكون مجرى للأصل الشرعي، فإذا أثبتنا موضوع وجوب التيمّم بالأصل، وانضمّ إليه عدم وجوب الجمع بين الطهارتين، بل عدم مشروعيّته، يثبت سقوط وجوب الطهارة المائيّة. فتدبّر حتّى لا تبادر بالإشكال.
وعلى ذلك، فلا يصحّ القول بوجوب الفحص في صورة الشكّ في الوجود
ص: 203
الخاص، مستنداً إلى الآية الشريفة، بل غاية ما يمكن أن يستفاد من الآية، وجوب الطلب في صورة العلم بالعثور على الماء بعد الطلب، كما وهو مورد النصوص المتقدّمة.
وأمّا الموضع الثاني: فيشهد لوجوب الطلب في صورة الشكّ في القدرة:
1 - مصحّح زرارة عن أحدهما عليهما السلام:
«إذا لم يجد المسافر الماء، فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم وليُصلِّ »(1).
والإيراد عليه: بأنّ المرويّ في أحد طريقي «التهذيب»: (فليُمسك) بدل (فليطلب)، وبعدم التزام أحدٍ من الفقهاء بإطلاقه.
غير سديد: إذ الكليني أضبط من الشيخ، لا سيّما وفي أحد طريقي الشيخ أيضاً ما عن «الكافي».
وعدم التزام الفقهاء بإطلاقه، ليس إعراضاً عن الصحيح، كي يوجب وهنه، بل إنّما يكون لأجل المقيّد الذي سيمرّ عليك.
2 - وخبر السكوني، عن جعفر عليه السلام، عن أبيه، عن عليّ عليهم السلام:
«يطلب الماء في السّفر إنْ كانت الحزونة فغَلوة، وإنْ كانت سهولة فغلوتين، لا يطلب أكثر من ذلك»(2).
والإيراد عليه: بعدم صحّة سنده، وبعدم كونه في مقام بيان وجوب الطلب، بل إنّما هو في مقام بيان حدّه.
في غير محلّه: إذ عدم صحّة سنده لا يضرّ بعد كون الراوي هو السكوني، الذي بنى الأصحاب على العمل برواياته، وظاهره كونه في مقام بيان حكم الطلب5.
ص: 204
وحده، وهما يدلّان على إلغاء الشارع أصالة عدم الوجدان الجارية في نفسها.
وقد استدلّ للقول بعدم الوجوب:
1 - بخبر داود الرّقي، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أكون في السّفر فتحضر الصّلاة، وليس معي ماء، ويقال إنّ الماء قريبٌ منّا، فأطلبُ الماء وأنا في وقتٍ يميناً وشمالاً؟
قال عليه السلام: لا تطلب، ولكن تيمّم فإنّي أخاف عليك التخلّف عن أصحابك، فتضلّ ويأكلك السَّبع»(1).
2 - وخبر يعقوب بن سالم، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام: عن رجلٍ لا يكون معه ماء، والماء عن يمين الطريق ويساره غَلوتين أو نحو ذلك ؟ قال عليه السلام: لا آمره أن يُغرّر بنفسه فَيعرِض له لِصٌّ أو سَبُع»(2).
3 - وخبر علي بن سالم، عنه عليه السلام، قال:
«قلت له: أتيمّم - إلى أن قال - فقال له داود الرّقي: فأطلب الماء يميناً وشمالاً؟
فقال عليه السلام: لا تطلب يميناً ولا شمالاً ولا في بئر، إنْ وجدته على الطريق فتوضّأ منه، وإنْ لم تجده فامض»(3).
وأورد عليها: في «الجواهر»(4) وغيرها، بضعف سند الجميع، لأنّ داود الرِّقي ضعيفٌ جدّاً كما عن النجاشي(5).).
ص: 205
وعن أحمد بن عبد الواحد(1)، قال: (ما رأيتُ له حديثاً سديداً).
وعن ابن الغضائري: (إنّه كان فاسد المذهب، ضعيف الرواية، لايُلتفت إليه»(2).
وعن الكشّي:(3) أنّه يذكر الغُلاة أنّه من أركانهم.
وفي سند الثاني مُعلّى بن محمّد، وهو مضطرب الحديث والمذهب.
وعليّ بن سالم الذي هو راوي الثالث مشتركٌ بين المجهول والضعيف.
أقول: ولكن الظاهر صحّة سند الجميع، أمّا داود الرّقي فقد وثّقه جماعة من الأعاظم منهم الشيخان(4)، وابن فضّال(5)، والصدوق(6)، وابن طاووس(7)، والمصنّف(8)، والكشّي(9)، والطريحي، ويروي عنه كثيراً ابن أبي عُمير، والحسن بنق.
ص: 206
محبوب اللّذان هما من أصحاب الإجماع، وقد ورد في مدحه حديثٌ عن الإمام الصادق عليه السلام يأمرهم بأنْ ينزلوه منه منزلة المقداد من رسول اللّه صلى الله عليه و آله(1)، وفي آخر أنّه من أصحاب القائم عليه السلام(2).
ولأجل أنّ الظاهر من الجارحين أنّهم استندوا في ذلك إلى رواية الغُلاة عنه غير الموجبة لضعفه، وذكرهم أنّه من أركانهم الذي لم يثبت، بل ثبت خلافه، ونفي الكشّي طعن أحدٍ من العصابة فيه، الموجب للاطمئنان بأنّ مستند النجاشي في الجَرح إمّا توهّم كونه من الغُلاة، الذي على فرض ثبوته لا ينافي وثاقته مع عدم ثبوته، أو قول ابن الغضائري الذي لا يُعتنى بجرحه في مقابل توثيق مَنْ عرفت، لشدّة اهتمامه بجرح الرِّجال بأدنى شيء، وكون شأن أحمد هو النقل، وغير ذلك من القرائن، لا يُعتنى بجرح من تقدّم. وعليه، فالمعتمد هي شهادة الموثّقين، فهو ثقة.
أمّا مُعلّى بن محمّد: فعن «الوجيزة»(3): أنّه لا يضرّ في السند، لكونه من مشايخ الإجازة.
وأمّا علي بن سالم: فالظاهر كما عن غير واحدٍ(4) التصريح به، اتّحاده مع علي ابن أبي حمزة البطائني، فيكون خبره من القويّ المعمول به.
فالصحيح في الجواب عنها: أنّ صحيح داود، وخبر يعقوب يدلّان على عدم وجوب الفحص في مورد الخوف على النفس أو المال، كما يظهر من التعليل فيهما،ه.
ص: 207
وعدمه في هذا المورد، كأنّه متّفقٌ عليه، ولا ينافي وجوبه في غيره.
وأمّا خبر علي بن سالم: ففيه:
أولاً: أنّه من المحتمل قويّاً كونه هو الخبر المعلّل الذى رواه داود بنفسه، إذ من المستبعد جدّاً تعدّد الواقعة، كما لا يخفى . وعليه فلا مورد للاستدلال به.
وثانياً: أنّه لا يدلّ على جواز التيمّم من غير أن يفحص عن الماء، بل يدلّ على عدم وجوب الطلب يميناً وشمالاً، وله أن يطلبه في طريقه إلى مقصده ومضيّه إليه.
وثالثاً: أنّه مطلق يُحمل على الخبرين المتقدّمين.
فتحصّل: أنّ الأظهر وجوب الفحص والطلب.
أقول: بعدما ثبت وجوب أصل الطلب، يدور البحث عن أنّ :
1 - وجوب الطلب هل هو نفسيٌّ كما عن «قواعد»(1) الشهيد، و «الحبل المتين»(2) و «المعالم»؟(3).
2 - أو شرطي لصحّة التيمّم تعبّداً، كما اختاره صاحب «الجواهر»(4)، ونسب إلى المشهور؟
3 - أو إرشادي إلى حكم العقل بلزوم الاحتياط، مع الشكّ في القدرة، كما اختاره بعض الأعاظم(5)؟5.
ص: 208
4 - أو شرطي طريقي ؟ وجوه:
استدلّ للأوّل: بظهور الأمر في كونه نفسيّاً.
وفيه: أنّ الظاهر بحسب المتفاهم العرفي من الأوامر والنواهي الواردة في أمثال المقام، كونها إرشاداً إلى الشرطيّة والجزئيّة والمانعيّة، ومنه يظهر مستند القول الثاني.
ولكن بما أنّ الظاهر من الأمر بالطلب، إنّما هو لاحتمال وجود الماء، وإنّما أمر به ليظهر ذلك، ولذا لو علم بعدم الماء لا يجبُ عليه الفحص والطلب، وأنّ هذا القول يستلزم تقييد إطلاق الآية الشريفة الدالّة على مشروعيّته بمجرّد عدم الوجدان، بضميمة ما عرفت من عدم كون المورد من موارد حكم العقل بلزوم الاحتياط، كي يكون الأمر بالطلب إرشاداً إليه، يتعيّن الالتزام بالوجه الرابع.
مع أنّ لازم الوجه الثاني أنّ مَنْ ترك الفحص، وكان في الواقع فاقداً للماء، لا يكون مكلّفاً بالصلاة مع شيء من الطهارتين:
أمّا الترابيّة فلعدم حصول شرطها.
وأمّا المائيّة فلعدم القدرة عليها.
وهو كما ترى ، وعليه فتدلّ هذه الأدلّة على أنّ الشارع ألغى استصحاب عدم الوجود المقدور، الذي عرفت أنّه يجري في نفسه، فلا يحكم بصحّة التيمّم ظاهراً إلّا بعد الفحص.
***
ص: 209
أقول: إنّ الطلب في أماكن اخرى سوى الأرض كالقافلة والرَّحل ونحوهما، لا حدَّ له سوى تحقّق ما يكون حُجّة عقلائيّة على العدم، كالعلم واليأس عند تعسّره، أو شرعاً كالحرج والضَّرر، فما لم يتحقّق أحد هذه الروافع أو ما يُضاهيها، فإنّه يجبُ الطلب ما دام في الوقت، كما يشهد له صحيح زرارة المتقدّم(1).
وأمّا الطلب في الأرض للمسافر:
فالمشهور بين الأصحاب أنّه يكفي الطلب في الحَزَنة غَلوة سهم، وفي السَّهلة غلوة سهمين.
وعن غير واحدٍ: دعوى الإجماع عليه(2).
وعن ظاهر «النهاية»(3) و «المبسوط»(4): التخيير بين الرّمية والرّميتين.
وعن المحقّق(5): القول بوجوب الطلب ما دام في الوقت.
واختار المحقّق الهمداني رحمه الله(6): أنّه يجبُ على المسافر أحد أمرين:
1 - إمّا الفحص عن الماء ولو في طريق سفره، من غير أن ينحرف عن الطريق إلى أن يتضيّق عليه الوقت.
2 - وإمّا تحصيل الوثوق بفقد الماء فيما حوله بمقدار غَلوة سهمٍ أو سهمين.
ويشهد للأوّل: خبر السكوني المتقدّم، المنجبر ضعفه - لو ثبت - مع أنّه ممنوعٌ
ص: 210
كما تقدّم بعمل الأصحاب.
ودعوى: أنّ الحلّي ادّعى تواتر الأخبار بذلك كما لعلّهم استندوا إليها.
مندفعة: بما صرّح به المصنّف رحمه الله وغيره من عدم العثور على غير خبر السكوني.
وأمّا ما عن «النهاية» و «المبسوط»، فليس له وجهٌ ظاهر، فلعلّ مراده التفصيل المشهور، كما لا يخفى .
وأمّا ما عن المحقّق: فقد استدلّ له بصحيح زرارة المتقدّم(1).
وفيه: أنّه مطلقاً يتعيّن تقييده بخبر السكوني، فيكون مقتضى الجمع بينهما، هو الالتزام بأنّه يجبُ الطلب المحدود بالغَلوة والغلوتين ما دام في الوقت، وسقوطه مع ضيقه.
بل يمكن أن يقال: إنّ الصحيح واردٌ في مقام بيان وقت الطلب وزمانه لا مقداره، فهو أجنبي عن المقام، فتأمّل.
أقول: وبذلك يظهر أنّ ما في «الحدائق»(2) من الجمع بينهما، بحمل الصحيح على صورة الظنّ بحصول الماء، والخبر على صورة تجويز الحصول.
في غير محلّه، مضافاً إلى كونه جمعاً تبرّعيّاً.
واستدلّ للرابع(3): (بأنّه ممّا يقتضيه الجمع بين الخبرين، فإنّ خبر السكوني إنّما هو في مقام بيان حكم المسافر المريد لإتيان الصّلاة في مكان مخصوص، كما لو نزل الظهر منزلاً وأراد أن يُصلّي فيه، وإلّا فله الضّرب في الأرض في جهةٍ من الجهات، ولو في الجهة الموصلة إلى المقصد برجاء تحصيل الماء في أثناء الطريق، إلى أن يتضيّق).
ص: 211
عليه الوقت، ضرورة أنّ العود إلى المكان الأوّل، ليس واجباً تعبّديّاً، فحيثما طلب الماء في جهةٍ ، ولو في الجهة المؤديّة إلى المقصود، بمقدار رميّة سهمٍ أو سهمين، فله أن يُصلّي في المكان الذي انتهى إليه طلبه، وأنْ لا يعود إلى المكان الأوّل الذي ابتدأ منه، لكن يجب عليه الفحص عن الماء فيما حوله بالنسبة إلى المكان الذي انتهى إليه السير، فله في هذا المكان - أيضاً كالمكان الأوّل - أن يختار أوّلاً الضّرب إلى مقصده مثلاً في الجهة التي تقربه، وهكذا إلى أن يتضيّق عليه الوقت، ويتعيّن عليه الصّلاة مع التيمّم؛ فثمرة العود إلى المكان الأوّل إنّما هو جواز الصّلاة مع التيمّم، بعد الفحص عن الماء في سائر الجهات، بالمقدار المعتبر شرعاً، وإنْ لم يتضيّق عليه الوقت، فيقيّد حسنة زرارة بما عدا هذه الصوره) انتهى.
وفيه: أنّه لو طلب الماء في الجهة المؤديّة إلى المقصود بمقدار رمية سهمٍ أو سهمين، وإنْ كان له أن يُصلّي في المكان الذي انتهى إليه سيره، ولا يجب العود إلى المكان الذي ابتدأ منه الطلب، إلّاأنّه في جواز تيمّمه يشترط الطلب في الجهات الاُخر بمقتضي خبر السكوني، الظاهر في الوجوب التعييني. نعم، ما دام يكون الوقت أوسع من طلب الماء في الجهات الأربع والتيمّم والصّلاة، للمكلّف التأخير، وعدم الفحص في جهةٍ من الجهات، ولو في الجهة الموصلة إلى المقصود، ولو تضيّق الوقت ليس له ذلك أيضاً.
وبالجملة: لا مجال لإنكار ظهور خبر السكوني في الوجوب التعييني الشرطي، فحمله على الوجوب التخييري بدعوى أنّه لا يفهم منه أزيد من الوجوب التخييري كما في «مصباح الفقيه»(1) خلاف الظاهر.
وبالجملة: فالصحيح ما ذكرناه في مقام الجمع.7.
ص: 212
أقول: ثمّ إنّ المراد من (الغَلوة) هو مقدار رمية سهم، وهذا لا إشكال فيه، إنّما الكلام في تحديد الرمية، فإنّ الرمي بالسهم غير متعارفٍ في هذا الزمان، وكلمات القوم في تحديده مختلفة:
فعن أبي الشجاع(1): الغلوة: قدرُ ثلثمائة ذراع إلى أربعمائة.
وعن الارتشاف: أنّها مائة باع، والميل عشر غلاء.
وعن «العين و «الأساس»(2): أنّ الفرسخ التامّ خمسٌ وعشرون غلوة، مع عدم كونهم من أهل الخبرة.
وبما أنّ الشكّ في المقام ليس في سعة المفهوم وضيقه، فلا مورد لإجراء البراءة، بل يتعيّن الاحتياط إلى أن يحصل العلم بالخروج عن عهدة التكليف.ً.
ص: 213
وينبغي التنبيه على اُمور:
التنبيه الأوّل: في «الجواهر»(1) وعن غيرها(2) التصريح بالاكتفاء بالطلب غلوة سهمٍ في الأرض ذات الأشجار.
واستدلّ له:
1 - بشمول الحزنة التي أُخذت في الموضوع للاكتفاء بالغلوة في خبر السكوني عليها.
2 - وبأنّ الموضوع الموجب للاكتفاء بالغلوة صعوبة الطلب الشاملة للطلب في الأرض المشتملة على الأشجار.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلما عن «المجمع»(3) من تفسير الحَزَنة (بالفتح فالسكون): بما غَلُظ من الأرض. ونحوه ما في «المنجد»(4).
وأمّا الثاني: فلأنّ كون الموضوع صعوبة الطلب، إنّما أُخذت الحَزَنة في الموضوع لتلك، خلافُ الظاهر، مع أنّه لا أظنّ أنْ يلتزم بإطلاقها أحدٌ كما لو صعب الطلب لشدّة حرارة الهواء، أو لكون الطالب مريضاً أو غير ذلك ممّا يوجب الصعوبة.
وعليه، فالقول بلزوم الفحص غَلوة سهمين فيها، لو لم يكن أقوى ، فلا ريب في كونه أحوط.
ص: 214
التنبيه الثاني: المشهور بين الأصحاب اعتبار كون الفحص غَلوة سهمٍ أو سهمين في كلّ جهةٍ من الجهات الأربع، على ما نُسب إليهم.
وعن «الغُنية»(1): الإجماع عليه.
وعن المصنّف في «التذكرة»(2): نسبته إلى علمائنا.
وعن «المقنعة»(3): الاقتصار على الأمام واليمين واليسار.
وعن «النهاية»(4) و «الوسيلة»(5): الاقتصار على اليمين واليسار.
وعن بعضٍ (6): احتمال اعتبار الغلوة أو الغلوتين في مجموع الجهات المحتملة، بحيث يكون طلبه في كلّ جهةٍ بعض ذلك المقدار.
أقول: المنساق إلى الذهن من خبر السكوني أنّ احتمال وجود الماء في كلّ محلٍّ كان الفصل بينه وبين الشخص مقدار الغلوة في الحَزَنة، والغلوتين في السّهلة، أو أقلّ يكون منجزاً، ولابدّ من الفحص حتّى يطمئن بعدمه كي يجوز له التيمّم ظاهراً.
وعليه، فيعتبر الفحص في جميع الجوانب، بنحوٍ يستوعب الفحص جميع نقاط الدائرة المفروضة، التي يكون مركزها مبدأ الطلب، ومحيطها واقعاً في نهاية الغلوة أو الغلوتين، بحيثُ يكون الخطّ المفروض في كلّ ناحية من المركز إلى المحيط بمقدار الغلوة أو الغلوتين.
أقول: وبذلك يظهر ضعف سائر الأقوال، إنْ لم يرجع القولان الثاني والثالث إلى
ص: 215
ذلك، من جهة احتمال أن يكون المراد باليمين واليسار في «المقنعة»(1) نصف الدائرة المفروضة، وأنّ وجه الإهمال في «النهاية» و «الوسيلة» ما علّله في «كشف اللّثام»(2)بكونه مفروغاً عنه بالمسير، وإلّا فلا خلاف في ذلك.
التنبيه الثالث: يشترط في لزوم الفحص احتمال وجود الماء فلو تيقّن عدم الظفر به في جهةٍ ، لا يجب الفحص فيها، كما لا خلاف بين أصحابنا أنّه مع العلم بعدمه في الجميع لا يجب عليه الطلب مطلقاً، على ما استظهره صاحب «الحدائق» رحمه الله(3).
وعن «القواعد»(4) و «الحبل المتين»(5) و «المعالم»(6): عدم اعتبار ذلك، بل يجب الطلب حتّى مع العلم بالعدم، واستدلّ له بإطلاق ما دلَّ على وجوب الطلب.
وفيه أوّلاً: ما عرفت من أنّ وجوب الفحص ليس نفسيّاً أو غيريّاً بل إنّما يكون طريقيّاً إلى تحصيل الماء، فلا يجبُ عند عدم احتمال وجوده.
وثانياً: لو سُلّم كونه نفسيّاً، فلا مورد أيضاً للتمسّك بالإطلاق، إذ مفهوم الطلب لا يصدق إلّافي ظرف احتمال الظفر بالمطلوب، فإنّه عبارة عن التصدّي نحو المطلوب، فمع العلم بالعدم لا يصدق ذلك حتّى يكون واجباً.
***
ص: 216
التنبيه الرابع: لو علم وجود الماء فوق المسافة المذكورة، وَجَب طلبه كما في «الجواهر»(1) وعن غيرها.
واستدلّ له: بصدق الوجدان المانع من مشروعيّة التيمّم.
وفيه: مضافاً إلى عدم صدقه في بعض الموارد، كما لو كان الماء بعيداً بمقدار فرسخٍ أو أزيد، أنّه بعد قيام الدليل على وجوب الطلب غَلوة أو غلوتين، يكون المراد من الآية وغيرها ممّا جُعل فيه الوجدان مانعاً عن مشروعيّة التيمّم، هو الوجدان فيها، ولا ريب في عدم صدقه فيها بعد الفحص حتّى مع العلم بوجوده فوق ذلك المقدار.
اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ دليل التحديد منحصرٌ بخبر السكوني، وهو لا سيّما بقرينة ما ورد في ذيله: (ولا يطلب أكثر من ذلك) مختصّ بصورة الشكّ في الوجود، ولا يشمل صورة العلم، فالمستند فيها هو إطلاق الآية وغيرها إذا صدق الوجدان عُرفاً، وإلّا فيجوز التيمّم حتّى مع العلم بوجوده، إنْ لم يكن إجماعٌ على وجوب السعي إلى الماء مطلقاً.
وبالجملة: فتحصّل ان وجوب السعي مطلقاً ما لم يتحقّق أحد روافع التكليف لو لم يكن أقوى ، فلا ريب في كونه أحوط.
بحثٌ : هل يُلحق بالعلم الظنّ في وجوب الأزيد كما في «الحدائق»(2) وعن
ص: 217
«جامع المقاصد»(1) و «الروض»(2)، أم لا؟ وجهان:
استدلّ للأوّل:
1 - في مقابل إطلاق خبر السكوني، بأنّ الجمع بينه وبين صحيح زرارة، يقتضي حمل خبر السكوني على غير صورة الظنّ ، ففيها يرجع إلى الصحيح الدالّ على وجوب الفحص، ما لم يتضيّق الوقت.
2 - وبأنّ الظنّ في الشرعيّات كالعلم.
3 - وبأنّ من شرط التيمّم العلم بعدم وجود الماء.
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلما عرفت من عدم تماميّة الجمع المزبور، لكونه تبرّعيّاً.
وأمّا الثاني: فلأنّ الظنون الخاصّة، وإنْ كانت كالعلم، إلّاأنّ مطلق الظنّ الذي ليس بحجّة ليس كالعلم.
وأمّا الثالث: فلأنّ من شرط التيمّم، العلم بعدم الماء في المسافة المذكورة في خبر السكوني، لا فيما فوقه، ولذا لا ريب في عدم الاعتناء باحتمال وجود الماء فوق الفاصلة المذكورة.
وبالجملة: فالأظهر عدم الإلحاق.
نعم، يلحق بالعلم ما ثَبتت حجيّته من الأمارات كالبيّنة، وخبر الواحد على القول بحجيّته في الموضوعات، كما هو المختار، إذ مع وجود الحجّة على وجود الماء فوق المقدار، لا يكون المورد مشمولاً لخبر السكوني لعين ما ذكر في العلم.
***9.
ص: 218
التنبيه الخامس: المحكيّ عن جماعةٍ من الفقهاء، منهم الشهيدان(1)، والمحقّق الثاني(2)، كفاية الإستنابة في الطلب، وعدم وجوب المباشرة.
وعن المصنّف في «التذكرة»(3) و «المنتهى »(4): العدم.
واستدلّ للأوّل: في محكيّ «جامع المقاصد»(5): بأنّ إخبار العادل يثمر الظنّ .
واستدلّ للثاني: في محكيّ «التذكرة» و «المنتهى »: بأنّ الخطاب بالطلب للمتيمّم، فلا يجوز أن يتولّاه غيره.
وحقّ القول في المقام: إنّ وجوب الطلب لو كان نفسيّاً أو غيريّاً، فبما أنّ ظاهر الخطاب هو لزوم مباشرة المكلّف نفسه، فلا يجوز أن يتولّاه غيره، لعدم الدليل على مشروعيّة النيابة في المقام، فسقوط التكليف بفعل الغير خلاف الأدلّة.
ولكن قد تقدّم ضعف المبنى ، ولو كان طريقيّاً، فلا تعتبر المباشرة، حتّى يكون مورداً للنيابة، فعلى كلا التقديرين لا تكون النيابة في المقام مشروعة.
أقول: وبما أنّ الأظهر كونه طريقيّاً، فيكفي الطلب من غير المكلّف، لا لجواز النيابة، بل لحصول الغرض، وهو اليأس من وجود الماء في المسافة المذكورة.
ومنه يظهر أنّ الاكتفاء بطلب الغير، إنّما يجوز فيما إذا حصل العلم من قوله، أو كان خَبره واجداً لشروط الحجّية.
وعليه، فمن لا يرى خبر الواحد حُجّة في الموضوعات، ليس له الالتزام بكفاية الاستنابة في الطلب إذا كان النائب واحداً.
ص: 219
التنبيه السادس: لو طلب قبل دخول وقت الصّلاة ولم يجد، ففي كفايته بعد دخول الوقت، مع احتمال العثور عليه لو أعاده احتمالاً عُقلائيّاً، أقوال:
الأوّل: ما عن جماعةٍ (1): وهي الكفاية مطلقاً.
الثاني: ما عن «معتبر» المحقّق(2) و «منتهى » المصنّف(3): عدم الكفاية كذلك.
الثالث: ما عن «التحرير»(4) و «جامع المقاصد»(5) و «الذكرى»(6): الفرق بين الطلب في وقت الصّلاة وعدمه، فيجتزى بالأوّل ولو في صلاة اُخرى لم يدخل وقتها دون الثاني.
واستدلّ لعدم الكفاية:
1 - بأنّ الفحص واجبٌ بالإجماع وغيره، وهو لا يتحقّق إلّابعد الوقت، لعدم وجوبه قبله.
2 - وبتوقّف صدق عدم الوجدان على الطلب في الوقت.
3 - وبأنّ الآية الشريفة ظاهرة في إرادة عدم الوجدان عند إرادة التيمّم
ص: 220
للصّلاة، وعند القيام إليها وفي زمان صحّة التيمّم.
4 - وبخبر زرارة المتقدّم آنفاً.
5 - وبأنّه لو اكتفى به قبل الوقت، لصحّ الاكتفاء به مرّةً واحدة للأيّام المتعدّدة، وهو معلوم البطلان.
6 - وبأنّ المنساق إلى الذهن من الأدلّة، إرادة الطلب عند الحاجة إلى الماء.
أقول: ولا يخفى أنّ أغلب هذه الوجوه مقتضية للقول بالتفصيل، كما لايخفى ، ولكن الجميع قابلة للدفع:
أمّا الأوّل: فلأنّ الفحص وإنْ كان مقدّمة للتيمّم، ولازم ذلك عدم وجوبه قبل دخول الوقت، لكن الكلام ليس في ذلك، بل في أنّه لو اوجده هل يكتفى به بعد دخول الوقت، كما هو كذلك في المقدّمات الّتي يؤتى بها قبل وقت ذيها، أم لا؟.
وأمّا الثاني: فلأنّه بعد جريان الاستصحاب - أي استصحاب عدم تجدّد الماء - يُحرز ذلك بلا توقّفٍ على الطلب في الوقت، على ما سيمرّ عليك.
ومنه يظهر ما في الوجه الثالث.
وأمّا الرابع: فلأنّه إنّما يدلّ على أنّ زمان وجوب الطلب هو ما دام كون المكلّف في الوقت، وهذا لا يلازم عدم الاجتزاء بما تحقّق قبل الوقت.
وأمّا الخامس: فلعدم ترتّب محذور على الالتزام بالاكتفاء بالطلب الواحد لأيّام متعدّدة.
وأمّا السادس: فلأنّه بعد كون وجوب الفحص وجوباً طريقيّاً لا نفسيّاً ولا غيريّاً، لو طلب قبل الوقت، واستصحب العجز عن الطهارة المائيّة إلى حين إرادة التيمّم، لا يبقى موردٌ لوجوب الطلب.
وحقّ القول في المقام: إنّ الأظهر هو الاكتفاء بالطلب قبل الوقت مطلقاً،
ص: 221
لاستصحاب عدم التجدّد، وبقاء العجز وعدم الماء.
وقد أورد عليه بوجوه:
الوجه الأوّل: إنّ أدلّة وجوب الطلب تقتضي إلغاء الاستصحاب في المقام، كما تقدّم.
وفيه: أنّها إنّما اقتضت إلغاء أصالة عدم الوجدان قبل الطلب لا بعده.
الوجه الثاني: ما في «الجواهر»(1)، وهو: (أنّ شرط صحّة التيمّم، عدم وجدان الماء، وهو لا يثبتُ باستصحاب عدم الماء).
والظاهر أنّ مراده أنّ شرط التيمّم هي الحالة الحاصلة للطالب بعد الطلب، وهو اليأس من القدرة على الماء، فإذا حَدَث ما يوجب رجاء القدرة عليه، تزول تلك الحالة، ولا تثبت باستصحاب عدم الماء.
وفيه أوّلاً: لو سُلّم أنّ ظاهر الأدلّة هو اعتبار الحالة الحاصلة من الطلب في صحّة التيمّم، وهو اليأس عن الظفر بالماء، فلا ريب في كون وجوبه طريقيّاً - كما تقدّم - ودالّاً على عدم الماء واقعاً، الذي هو الموضوع لمشروعيّة التيمّم، فإذا جرى استصحاب عدم الماء والعجز عن الطهارة المائيّة، ترتّب عليه مشروعيّة التيمّم.
وثانياً: أنّ الظاهر من الأدلّة وإنْ كان اعتبار ما يحصل من الطلب في المشروعيّة، لا نفس السعي والطلب، إلّاأنّ الظاهر أنّ ذلك أيضاً أمرٌ عدمي وهو عدم العثور على الماء، لا صفة وجوديّة اعتباريّة. فتدبّر فإنّه دقيق.
الوجه الثالث: إنّ قاعدة الاشتغال تحكم بوجوب الفحص.
وفيه: أنّ الاستصحاب واردٌ عليها كما تقدّم.
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأظهر هو الاكتفاء به مطلقاً.
***4.
ص: 222
التنبيه السابع: إذا ترك الطلب حتّى ضاق الوقت، عصى، كما هو المشهور، بل الظاهر أنّه من المسلّمات، ولم يُنقل الخلاف فيه إلّامن المحقّق في «المعتبر»(1)، وصحَّ تيمّمه وصلاته على الأشهر، بل المشهور كما في «المدارك»(2)، وعن «الروض»(3):
نسبته إلى فتوى الأصحاب.
أقول: هاهنا مقامان يجب البحث عنهما:
الأوّل: في الحكم التكليفي.
الثاني: في الحكم الوضعي.
أمّا المقام الأوّل: فبناءً على كون وجوب الطلب نفسيّاً، فإنّ عصيان من أخّره حتّى ضاق الوقت، ظاهرُ الوجه، لكونه تفويتاً للتكليف.
وأمّا بناءً على كون وجوبه طريقيّاً إلى عدم الماء كما قوّيناه:
1 - فبناءً على عدم صحّة الصّلاة والتيمّم فكذلك، لأنّه فوت الصّلاة الواجبة عليه.
2 - وأمّا بناءً على صحّة الصّلاة، فيشكل الحكم بالعصيان، لأنّ الأمر بالوضوء وبالطلب مقدّمةً له، ليس إلّالتوقّف الصّلاة عليه، وهو إنّما يكون مع القدرة، ومع العجز لا تتوقّف عليه، لفرض صحّة التيمّم، فترك الطلب إنّما يوجب تعذّر الطهارة المائيّة من دون أن يلزم منه تفويت ما أمر به لأجله، فلا مقتضى للعقاب.
ص: 223
ودعوى: أنّ العقاب إنّما يكون على ترك الواجب الغيري نفسه.
مندفعة: بأنّ الصحيح المحقّق في محلّه، أنّه لا عقاب على مخالفة الواجب الغيري من حيث هو.
مع أنّه لو سُلّم ترتّب العقاب على مخالفته، فإنّما هو في صورة الانحصار، لا في مثل المقام ممّا يمكن إيجاد ذي المقدّمة بجميع شروطه.
وبعبارة اُخرى: مع ما يكون بدلاً عنه، بل يكون المقام نظير ما لو كان في أوّل الوقت مُحْدِثاً بالأصغر، وكانت وظيفته الوضوء للصّلاة، ثمّ أجنَب نفسه وتبدّل تكليفه الغيري إلى غُسل الجنابة بدل الوضوء.
وبالجملة: يكون العجز على الفرض موجباً لتبدّل الموضوع، لا مانعاً من تنجّز التكليف مع بقاء مقتضيه.
وقد يقال: في وجه الحكم بالعصيان، مع الالتزام بصحّة الصّلاة، أنّ الصّلاة مع الطهارة المائيّة فردٌ كامل من الصّلاة، ومع الترابيّة فردٌ ناقص اجتزء به الشارع عند الضرورة، فالمكلّف في الفرض فوّت بسوء اختياره صفة كمالها.
وبعبارة اُخرى: أنّ في الصّلاة مع الطهارة الجامعة بين قسميها مقداراً من المصلحة الملزمة، وفي خصوص المائيّة منها مصلحة اُخرى ملزمة، أو تلك المصلحة بنحوٍ أوفى ، بحيث تكون بحدّها لازمة الاستيفاء، فلو ترك الطلب حتّى ضاق الوقت، فلم يتمكّن من الوضوء، وإنْ صحّت صلاته مع التيمّم، إلّاأنّه لأجل تفويت المصلحة الزائدة، يحسُن عقابه ويكون عاصياً بذلك.
ودعوى: أنّه على ذلك لابدَّ من الحكم بوجوب القضاء، فحكمهم بعدمه يكشف عن عدم تماميّة هذا التقريب.
مندفعة: بأنّه يمكن أن تكون المصلحة الزائدة بحيث لا يمكن استيفائها بعد
ص: 224
استيفاء المصلحة الاُخرى ، أو ذات تلك المصلحة.
أقول: ولكن يرد على هذا التقريب: - مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر الأدلّة، لأنّها ظاهرة في تنزيل التيمّم منزلة الطهارة المائيّة في إفادته الطهارة التي هي شرط للصّلاة -:
1 - أنّ لازم ذلك عدم استباحة سائر الغايات الّتي لم يضطرّ إلى فعلها، كصلاة القضاء، وصلاة الآيات، مع أنّ بنائهم على الاستباحة.
2 - كما أنّ لازمه عدم جواز إتيان الأجير بالصلاة مع التيمّم، مع أنّهم حكموا بالجواز.
3 - وأيضاً يلزم منه عدم جواز اقتداء المتوضّي بالمتيمّم، مع أنّه يجوز.
فمن ذلك كلّه يستكشف عدم تماميّة ذلك.
وبالجملة: فالصحيح في دفع الإشكال أن يُقال:
إنّ في الطهارة المائيّة من حيث هي مقدّمة للصّلاة، مصلحةٌ اُخرى لزوميّة، غير ما تكون مترتّبة على الصّلاة، وليست تلك المصلحة في الطهارة المائيّة، مع قطع النظر عن وقوعها مقدّمة للصّلاة، حتّى يقال إنّ لازم ذلك إيجابها مطلقاً، وكون وجوبها نفسيّاً، بل تترتّب عليها حال كونها مقدّمةً للصّلاة.
وعليه، فالصلاة مع الطهارة الترابيّة وإنْ كانت كالصلاة مع الطهارة المائيّة، بلا تفاوتٍ بينهما من حيث النقص والكمال، إلّاأنّه في الفرض بما أنّ المكلّف فوَّت بسوء اختياره تلك المصلحة المترتّبة على الطهارة المائيّة يكون عاصياً لذلك.
والدليل على كون الطهارة المائيّة كذلك:
1 - ما دلَّ على أنّ التيمّم بدلٌ اضطراري من الوضوء أو الغسل، سوّغه العجز عن الإتيان به، إذ لازمه عدم كونه موجباً لانتفاء ملاك الطهارة المائيّة.
ص: 225
2 - مضافاً إلى أنّ ارتكازيّة بدليّة التيمّم عنها أيضاً تقتضي ذلك، ومقتضاه مبغوضيّة إيجاد العجز اختياراً.
3 - هذا مضافاً إلى الإجماع المُدّعى على الحرمة في المقام، فتأمّل.
لكن جميع ذلك محلّ إشكالٍ ونظر سوى الإجماع إنْ ثبت، وحيث لا مجال لاستيفاء مصلحة القيد بعد سقوط الأمر بالمقيّد، فلا قضاء عليه، وهكذا يمكن الجمع بين كلمات القوم والأدلّة، فتدبّر فإنّه دقيق.
أقول: ثمّ إنّ المراد بالعصيان في المقام، إنّما هو ما يعمّ التجرّي بالإقدام على عدم اليقين بالفراغ، إذ بناءً على المختار في وجوب الطلب من كونه طريقيّاً، لو علم بأنّه لو طلب لوجد الماء تحقّق العصيان، ولكن لو لم يعلم بذلك، فلا يكون عصياناً حقيقيّاً، إذ يحتمل عدم الماء واقعاً، فلم يكن مكلّفاً بالوضوء من الأوّل، فلا عصيان واقعاً.
ولعلّه لذلك عبّر جماعة منهم المحقّق في «الشرائع»(1)، والمصنّف في محكيّ «القواعد»(2) وغيرهما(3) بالخطأ، ولم يعبّروا بالعصيان، وهو أولى .
***3.
ص: 226
أمّا المقام الثاني: فالكلام فيه في موردين:
1 - صحّة الصّلاة وعدمها.
2 - ووجوب القضاء وعدمه.
الموردالأوّل: المشهور بين الأصحاب علي ما في «المدارك»(1): صحّة صلاته وتيمّمه.
وعن «الروض»(2): نسبتها إلى فتوى الأصحاب.
ولم يُنقل الخلاف إلّاعن ظاهر «الخلاف»(3) و «المبسوط»(4) و «النهاية»(5)، ولا يبعد أن يكون المراد بما في هذه الكتب البطلان في السِّعة، كما ترشد إليه دعوى الإجماع في محكيّ «الخلاف» عليه، وعليه فلا خلاف في الصحّة.
ويشهد لها:
1 - إطلاق قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا (6) بناءً على كون المراد عدم الوجود المقدور كما عرفت، فإنّه حينئذٍ غير واجدٍ للماء، وإنْ كان الماء موجوداً في الحَدّ وعلم به.
نعم، لو كان المراد منه عدم الماء، لما صحّ الاستدلال به، لأنّه قد قيّدت الآية الشريفة بالأدلّة الاُخر بالوجدان في الحَدّ.
أقول: وبذلك يظهر عدم صحّة الإيراد على الاستدلال بالآية الشريفة، بأنّها
ص: 227
تدلّ بعد التقييد على أنّه إنّما ينتقل الفرض إلى التيمّم، مع عدم وجود الماء في الحَدّ، فحيثُ أنّه موجود أو يحتمل وجوده، فلا يكون المورد مشمولاً للآية الشريفة.
2 - وإطلاق قوله عليه السلام في مصحّح زرارة المتقدّم: «فإذا خافَ أن يفوته الوقت، فليتيمّم وليصلِّ »(1).
وما ذكر بعض المحقّقين رحمه الله(2): من أنّ هذا الصحيح كغيره ممّا يدلّ على مشروعيّة البدل للعاجز، ومنصرفٌ عن العاجز الذي اختار العجز للفرار من التكليف المنجّز عليه، ويختصّ بصورة عدم التفريط.
غير تامّ : إذ لو سُلّم الانصراف بدواً، فليس بنحوٍ يصلح لتقييد الإطلاق، حيث يزول بأدنى تأمّل.
1 - وقد استدلّ للصحّة في «الجواهر»(3) وغيرها: بأنّ التكليف بالطلب ساقطٌ عند الضيق، لعدم التمكّن منه، فيرجع إلى العمومات الدالّة على عدم سقوط الصّلاة بحال، وهي تقتضي صحّتها مع التيمّم.
2 - وبإطلاق بدليّة التّراب.
3 - وبفحوى ما تسمعه من صحّة التيمّم لغير المتمكّن من استعمال الماء مع وجوده عنده، لضيق الوقت.
4 - وبعدم تناول ما دلَّ على شرطيّته لمثله.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: - فلأنّه مضافاً إلى عدم الدليل عليه سوى ما في مرسل يونس6.
ص: 228
الطويل: «فإنّها لا تَدَع الصّلاة بحال»، فدعوى دلالة العمومات عليه كما ترى - أنّ معنى عدم سقوط الصّلاة بحال إنّما هو أنّ كلّ مكلّف في أيّ حالٍ من الحالات حتّى حين الغرق، مكلّفٌ بالصلاة بحسب وظيفته، لا أنّ التكليف بها يكون باقياً بعد أن عصى المكلّف، وجعل إيجادها على النحو المعتبر شرعاً في حقّه ممتنعاً.
وأمّا الثاني: فلأنّ سبيله سبيل الآية الشريفة، فيجري فيه ما ذكرناه فيها.
وأمّا الثالث: فلأنّ دليل صحّة الصّلاة في تلك المسألة بعض هذه الوجوه المذكورة في المقام.
وأمّا الرابع: فلأنّ سقوط ما دلَّ على شرطيّة الطلب بنفسه، لا يصلح أن يكون دليلاً لمشروعيّة التيمّم في المقام. فالعمدة ما ذكرناه.
المورد الثاني: أسند صاحب «الحدائق»(1) القول بوجوب القضاء إلى المشهور، وعن «جامع المقاصد»(2) نسبته إلى أكثر الأصحاب.
ولكن الكلمات المحكية عن جماعةٍ من الأصحاب، الذين نُسب إليهم ذلك غير ظاهرة فيه:
فإنّ الظاهر ولا أقلّ من المحتمل أنّ مراد جماعة منهم الإعادة في الوقت لو وجد الماء بعدها في مكانٍ قريب آخر كالرحل مثلاً دون القضاء.
كما أنّ مراد جماعةٍ آخرين القضاء في خصوص صورة النسيان، كما يظهر لمن راجعها وتدبّر فيها.
ص: 229
وكيف كان، فيشهد لعدم الوجوب:
1 - أنّ الإتيان بالمأمور به الاضطراري يُجزي عن قضاء المأمور به الواقعي الأوّلي، كما حُقّق في محلّه.
2 - مضافاً إلى أنّ المورد من صغريات ما يأتي من أنّ : (من صلّى بتيمّم صحيح لا يجبُ عليه الإعادة والقضاء) المستدلّ عليه بالنصوص الكثيرة.
3 - مع أنّ قوله عليه السلام في صحيح زرارة المتقدّم(1): «فإذا خاف أن يفوته الوقت، فليتيمّم وليصلِّ في آخر الوقت، فإذا وجد الماء فلا قضاء عليه، وليتوضّأ لما يستقبل» صريحٌ في عدم وجوب القضاء في المقام، بناءً على شمول قوله: (فإذا خاف.... إلخ) له كما هو الأظهر على ما عرفت.
واستدلّ للوجوب: بخبر أبي بصير قال: «سألته عن رجلٍ كان في سفر وكان معه ماء، فنسيه وتيمّم وصلّى ، ثمّ ذكر أنّ معه ماءٌ قبل أن يخرج الوقت ؟ قال عليه السلام:
عليه أن يتوضّأ ويُعيد الصّلاة»(2).
ويرد عليه: ما أورده جماعة من اختصاصه بالنسيان، مع أنّ الظاهر منه وقوع تيمّمه في السِّعة، وهو خلاف مفروض الكلام، مضافاً إلى ضعف سنده.
وبالجملة: فالأظهر عدم وجوب القضاء.
***5.
ص: 230
التنبيه الثامن: إذا ترك الطلب في سعة الوقت وصلّى:
1 - فإنْ لم يتبيّن عدم وجود الماء، فلا إشكال في البطلان، كما لا خلاف فيه، وفي «الجواهر»(1) إجماعاً منقولاً إنْ لم يكن محصّلاً.
والوجه فيه: بناءً على كون وجوب الطلب شرطيّاً، التلازم بين انتفاء الشرط وانتفاء المشروط.
وأمّا بناءً على كونه طريقيّاً كما هو الأظهر، فلعدم ثبوت مشروعيّة التيمّم في الفرض، لإحتمال وجدان الماء.
فمقتضى استصحاب بقاء التكليف، وقاعدة الاشتغال، عدم الاكتفاء بما أتى به.
2 - وإنْ تبيّن عدم وجود الماء:
فإنْ لم يحصل منه قصد القربة، فلا إشكال في البطلان كما لا يخفى .
وإنْ حصل منه ذلك، فعن المصنّف رحمه الله في «التحرير»(2) الصحّة، وتبعه جماعة من المحقّقين.
واستدلّ للعدم:
1 - بأنّ مقتضى شرطيّة الطلب لصحّة التيمّم ذلك.
2 - وبأنّه إنْ أتى بالصلاة بقصد الأمر، فهو تشريعٌ موجبٌ للبطلان، وإنْ أتى بها باحتمال الأمر، فحيثُ أنّه يتمكّن من الامتثال العلمي، فليس له التنزّل إلى الامتثال الاحتمالي، فهو لا يكفي في الفرض.
أقول: وفيهما نظر:
ص: 231
أمّا الأوّل: فلما تقدّم من أنّ وجوب الفحص طريقي لا شرطي، وعليه فالفعل مصداقٌ للمأمور به واقعاً، فيسقط الأمر.
وأمّا الثاني: فلما حقّقناه في حاشيتنا على «الكفاية» من ضعف المبنى المذكور، وأنّه لا يعتبر في صحّة العبادة سوى الإتيان بالفعل مستنداً إلى المولى، فراجع ما ذكرناه مفصّلاً.
فإذاً ما اختاره المصنّف رحمه الله هو الأقوى .
***
ص: 232
التنبيه التاسع: إذا طلب الماء بمقتضى وظيفته فلم يجد، فتيمّم وصلّى ، ثمّ تبيّن وجود الماء في محلّ الطلب:
فهل تجب الإعادة أو القضاء؟
أم لا تجب شيءٌ منهما كما لعلّه المتّفق عليه ؟
أم تجب الإعادة إذا تبيّن في الوقت ولا تجب في خارجة ؟ وجوهٌ :
استدلّ للأوّل: بأنّ المأخوذ موضوعاً في الآية الشريفة وغيرها ممّا دلَّ على مشروعيّة التيمّم:
1 - إمّا أن يكون عدم الماء واقعاً في الحَدّ المعيّن.
2 - أو يكون عدم الوجود المقدور.
أمّا على الأوّل: فعدم تحقّق موضوع التيمّم في الفرض واضحٌ لانكشاف كونه واجداً، فما جُعل أمارةً للعدم يسقط عن الحجّية.
وكذلك على الثاني، لأنّ ما جُعل موضوعاً هو عدم القدرة واقعاً، مع قطع النظر عن العلم والجهل، وهو منتفٍ في المقام.
وفيه: أنّ الظاهر من الآية الشريفة، ولو بعد ملاحظة القرائن الداخليّة والخارجيّة، أنّ الموضوع هو عدم استيلاء المكلّف على الماء.
وبعبارة اُخرى: عدم وجود الماء المستولى عليه في الحَدّ المزبور، وعليه فهو صادق في المقام، فيدخل المورد فيما يأتي من أنّ : (من صلّى بتيمّمٍ صحيحٍ لا يجبُ عليه الإعادة والقضاء)، كما سيأتي تحقيقه.
واستدلّ للأخير: بأنّ موضوع مشروعيّة التيمّم العجز المستمر إلى آخر الوقت، لا مجرّد صدق عدم الوجدان في وقتٍ خاص، والشاهد على ذلك كون
ص: 233
البدليّة اضطراريّة، فانكشاف وجود الماء في الوقت، يوجبُ عدم تحقّق الضرورة المسوّغة للتيمّم، وإنْ كان حين العمل عاملاً بما يقتضيه تكليفه في مرحلة الظاهر، مراعياً صحّته بعدم انكشاف الخلاف، وهذا بخلاف الانكشاف في خارج الوقت.
وفيه: أنّ النصوص الآتية في محلّها الدالّة على أنّه: (لو تجدّدت القدرة بعد الإتيان بالصلاة بوجود الماء في الوقت، لا يجب إعادة الوضوء والصّلاة) تدلّ على عدم اعتبار استمرار العجز.
كما أنّه يدلّ عليه ما دلَّ على جواز التيمّم والصّلاة بعد الفحص، وعدم الوجدان، كما لا يخفى .
وعليه، فالجمع بين هذه الأدلّة، وما دلَّ على أنّ الموضوع هو عدم الوجدان، يقتضي الالتزام بأنّ الموضوع هو عدم الوجدان في الحَدّ حال الصّلاة.
فتحصّل: أنّ الأقوى عدم وجوب الإعادة أو القضاء.
***
ص: 234
التنبيه العاشر: إذا اعتقد ضيق الوقت عن الطلب فتيمّم وصلّى ، ثمّ تبيّن سعة الوقت، فهل تصحّ صلاته فلا يجب الإعادة أو القضاء أم لا تصحّ؟
وجهان بل قولان.
استدلّ للأوّل:
1 - بأنّه يستفاد ذلك من الأولويّة المستفادة من قوله عليه السلام في صحيح زرارة:
«فإذا خاف أن يفوته الوقت، فليتيمّم وليصلِّ في آخر الوقت(1)، فإذا وجد الماء فلا قضاء عليه»، إذ لو صحّت الصّلاة في صورة الخوف، واحتمال ضيق الوقت عن الطلب، صحّت في صورة اعتقاد الضيق بالأولويّة.
2 - وبأنّ اعتقاد الضيق يوجبُ صدق عدم القدرة والعجز عن استعمال الماء الذي هو الموضوع لمشروعيّة التيمّم.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ صحيح زرارة إنّما يدلّ على الصحّة ما دام لم تنكشف السِّعة، ولا ويدلّ على الصحّة حتّى في صورة انكشاف السِّعة، كي يثبت ذلك في صورة اعتقاد الضيق بالأولويّة.
ودعوى: أنّ ظاهر الصحيح كون الوجه في صحّة التيمّم عند الخوف، هو ترجيح احتمال فوت الصّلاة على احتمال إيقاع الصّلاة بالطهارة المائيّة، فإنّ المكلّف حين الخوف يحتمل السِّعة الموجبة للطلب، ويحتمل الضيق الموجب لا يقاع الصّلاة بالطهارة الترابيّة، فرجّح الشارع في حقّه العمل على الثاني، وهو إنّما يدلّ بإطلاقه على الصحّة في الفرض، حتّى على تقدير السِّعة واقعاً، فيدلّ على المشروعيّة في المقام بالأولويّة.
ص: 235
مندفعة: بأنّ الجمع بين الصحيح، وبين ما دلَّ على أنّ موضوع المشروعيّة هو عدم الوجدان في الحَدّ، المتوقّف إحرازه على الطلب، يقتضي الالتزام بأنّ موضوع الحكم الواقعي هو عدم الوجدان واقعاً، وسقوط الطلب في صورة الخوف، والأمر بالتيمّم والصّلاة من باب الحكم العقلي الطريقي أو الشرعي الظاهري، لا أنّه موضوعٌ بنفسه للحكم الواقعي، ويُشير إلى ذلك قوله في الصحيح: «وليصلِّ في آخر الوقت».
وإنْ شئت قلتَ : إنّ ترجيح أحد الاحتمالين، لأهميّة متعلّقة من باب الاحتياط، لا يوجب الحكم بالصحّة حتّى مع انكشاف السِّعة، وانعدام احتمال الضيق الذي هو الموضوع لهذا الحكم، فتدبّر فإنّه دقيق.
وأمّا الثاني: فلأنّ عدم القدرة في الفرض، إنّما يكون ناشئاً عن الاعتقاد الخاطئ، وظاهر الأدلّة غير الفرض.
وبعبارة اُخرى: إنّ عدم القدرة في الفرض تخيّلي لا واقعي، والموضوع لمشروعيّة التيمّم هو عدم القدرة واقعاً.
وعليه، فالأقوى هو لزوم الإعادة أو القضاء.
اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ الصحيح في صورة الخوف، يدلّ على لزوم التيمّم وترك الطلب، وحيثُ أنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، فهو غَير واجدٍ للماء، فيشرع له التيمّم، وتثبت المشروعيّة في المقام بالأولويّة، وتصحّ صلاته حينئذٍ، فلا يجب عليه الإعادة أو القضاء، وإنْ كان الأحوط ذلك بل لا يُترك.
وعلى تقدير الحكم بلزوم الإعادة أو القضاء، فإنّما هو فيما إذا لم يعلم بأنّه على فرض الطلب لم يكن يحصل على الماء، وإلّا فلا يجب، فإنّه حينئذٍ يعدّ من صُغريات ما في التنبيه السابع، وقد عرفت أنّ الأقوى هي الصحّة في الفرض.
***
ص: 236
وبما ذكرناه ظهر حكم ما لو اعتقد عدم الماء، فترك الطلب، ثمّ تبيّن وجوده، وأنّه لو طلب لحصل عليه، وأنّ الأظهر في هذه الصورة وجوب الإعادة أو القضاء، إذ لا وجه للحكم بالصحّة سوى صدق عدم الوجدان، وقد عرفت عدم صدقه في أمثال المقام. وما ذكرناه في توجيه صدقه في المسألة السابقة غَير جارٍ في هذه المسألة، كما لا يخفى .
هذا في غير الناسي.
وأمّا الناسي؛ ففيه أقوال:
القول الأوّل: الإجزاء، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء، وهو الذي نُسب إلى علم الهدى(1)، والمحقّق في «المعتبر»(2).
القول الثاني: وجوب الإعادة أو القضاء، وهو المنسوب إلى شيخ الطائفة(3)والشهيد(4)، وتبعهما جماعةٌ من المحقّقين(5).
القول الثالث: عدم وجوب القضاء لو تبيّن بعد الوقت، ووجوب الإعادة لو تبيّن في الوقت، وهو الذي اختاره صاحبُ «الحدائق».
وقد استدلّ للأوّل:
1 - بصدق عدم الوجدان، فتشمله الآية الشريفة، فهو قد أدّى الصلاة الصحيحة المشروعة، فيدلّ حينئذٍ على عدم وجوب القضاء، أو الإعادة ما دلَّ على
ص: 237
الأجزاء في أمثال المقام.
2 - وبحديث الرفع.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلما عرفت من عدم صدق عدم الوجدان في الفرض.
وأمّا الثاني: فلما حقّقناه في حاشيتنا على «الكفاية»: من أنّ الظاهر من الحديث الشريف رفع الآثار المترتّبة على فعل المكلّف، إذا تعلّق به أحد العناوين المذكورة في الحديث، وأمّا الآثار المترتّبة على الموضوع الخارجي، بلا دخلٍ لفعل المكلّف فيه، فالحديثُ لا يرفع تلك الآثار، وعليه يترتّب عدم ارتفاع نجاسة الملاقي المترتّبة على الملاقاة إذا لاقى يد الإنسان مع النجاسة خطأ أو نسياناً أو عن اضطرار أو إكراه، لأنّ الأثر لم يترتّب على فعل المكلّف، ولا دخل له في ذلك، كما أنّه إذا لم يتعلّق أحد هذه العناوين بفعل المكلّف، بل تعلّق بالموضوع الخارجي لا يكون مورداً للحديث، فلو اُكره على إيجاد الخمر، لا يصحّ التمسّك بالحديث لرفع حُرمة شربة.
وفي المقام إنّما تعلّق النسيان بالموضوع الخارجي، وهو وجود الماء، فالحديث لا يصلح لرفع حكمه، وهي شرطيّة الوضوء معه للصّلاة، مع أنّه على فرض الشمول يختصّ ذلك بما إذا كان النسيان مستوعباً للوقت، وإلّا فطروّه لا يوجب ارتفاع الحكم عن متعلّقه إذ ما طرأ عليه النسيان، وهو الفرد الذي لا حكم له، وما هو متعلّق الحكم وهو الطبيعي لم يطرأ عليه النسيان.
وأمّا الجواب عن الاستدلال به: بأنّ الحديث إنّما يدلّ على رفع الحكم المتعلّق بالمركّب، إذا تعلّق أحد هذه العناوين بأحد الاُمور المعتبرة فيه، إذ الأمر والنهي الضمنيان لا يرتفعان إلّابارتفاع أصل التكليف الذي هو المُنشأ لانتزاع الجزئيّة أو
ص: 238
الشرطيّة أو المانعيّة، ولا يدلّ على تعلّق التكليف بالفاقد له، ففي المقام الحديث إنّما يدلّ على عدم وجوب الصّلاة مع الوضوء، لا الوجوب مع التيمّم.
فغير تامّ : إذ في خصوص الصّلاة دلَّ الدليل على ذلك، وهو قوله: (الصّلاة لا تدع بحال)، فتأمّل.
واستدلّ للأخير: - بعد تسليم أنّ مقتضى القاعدة عدم وجوب الإعادة، والقضاء - بما رواه الشيخ عن أبي بصير، قال:
«سألته عن رجلٍ كان في سفر وكان معه ماءٌ فنسيه وتيمّم وصلّى ، ثمّ ذكر أنّ معه ماء قبل أن يخرج الوقت ؟
قال عليه السلام: عليه أن يتوضّأ ويُعيد الصّلاة»(1).
وأورد على الاستدلال به: في محكيّ «المعتبر»(2): بأنّ في سنده عمّار بن موسى وهو ضعيف، وفي محكيّ «الذكرى »(3): بأنّ في سنده عثمان بن عيسى ، وفي «الجواهر»(4): بالإضمار.
أقول: والكلّ لا يخلو من النظر:
أمّا الساباطي فهو ثقة على الأقوى ، إذ لا وجه لدعوى ضعفه سوى كونه فطحيّاً، وهو لا يوجب عدم وثاقته، بعد أن وثّقه جماعة كالشيخ(5) وغيره.
بل الظاهر أنّ كلّ من شهد بفطحيّته، شهد بوثاقته، مع عدم ثبوت ذلك منه.).
ص: 239
وأمّا ابن عيسى ، فهو وإن ضعّفه جماعة كالفاضل الجزائري والمحقّق والمصنّف(1) والأردبيلي(2)، إلّاأنّ الظاهر أنّه موثّقٌ معتمدٌ، كما نصَّ عليه المجلسي في محكيّ «الوجيزة»، والمصنّف رحمه الله في محكيّ «التحرير»، وصاحب «الذخيرة»، بل عن المحقّق الشيخ محمّد بن صاحب «المعالم»: نسبته إلى المتأخّرين، وما نُقل عن الكشّي: أنّه من أصحاب الإجماع.
وأمّا إضماره: - فمضافاً إلى أنّ المحقّق في «المعتبر» رواه عن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام - أنّ مضمرِه من أجلّاء الأصحاب، وهو لا يروي عن غيرالمعصوم عليه السلام.
أقول: ولكن الصحيح الإيراد عليه؛ بأنّ الحديث وإنْ اختصّ بالانكشاف في الوقت، ولا يشمل الانكشاف في خارجه، إلّاأنّه قد عرفت أنّ لزوم القضاء ممّا تقتضيه القاعدة الأوّليّة.
فتحصّل: أنّ الأظهر وجوب الإعادة أو القضاء.
***0.
ص: 240
التنبيه الحادي عشر: المشهور بين الأصحاب عدم جواز إراقة الماء «الكافي» للوضوء والغُسل، بعد دخول الوقت، إذا علم بعدم وجود ماءٍ آخر.
بل في «الجواهر»(1) دعوى ظهور الإجماع عليه، إذ لم يعرف الخلاف فيه، إلّاما في «المعتبر»(2).
واستدلّ له:
1 - بأولويّته من إيجاب الطلب.
2 - وبظهور الأدلّة في الاهتمام بالنسبة إلى ذلك، كما يؤمي إليه شراؤه بما يتمكّن.
3 - وبالإجماع.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّه إنّما يجبُ الطلب لينكشف الحال، وأنّه هل هو واجدٌ للماء، فلا يكون التيمّم في حقّه مشروعاً، أو غير واجدٍ فيكون مأموراً به، وهذا غير مربوط بالمقام الذي يصدق غير الواجد بعد الإراقة قطعاً.
ومنه يظهر ما في الثاني، إذ في مورد الأمر بالشّراء يصدق الوجدان، ولأجله أمر به بخلاف المقام.
وبعبارة اُخرى: الأمر بالطلب والشراء في ذينك الموردين، إنّما يكون لأجل عدم التمكّن من تحصيل الطهارة إلّابهما، وهذا بخلاف المقام، ممّا يمكن تحصيلها بالتيمّم بعد الإراقة.
ص: 241
وأمّا الإجماع: فلاحتمال أنْ يكون مدرك المجمعين بعض ما ذكر.
وبالجملة: فالأولى الاستدلال له بإطلاق ما دلَّ على وجوب الطهارة المائيّة، فيجبُ حفظ الماء مقدّمةً لها.
والإيراد عليه: بأنّ الإراقة إنّما توجب تعذّر الطهارة المائيّة من دون أن يلزم منها تفويتُ ما أمر به لأجله وهي الصّلاة، فلا وجه للعصيان.
ممنوع: قد عرفت الجواب عنه في التنبيه السابع مفصّلاً، فراجع ما حقّقناه.(1)
وأيضاً: منه يظهر عدم جواز إبطال الوضوء بعد الوقت، إذا علم بعدم وجود الماء لو كان على وضوء، إذ ما دلَّ على وجوب حفظ الماء لأجل الوضوء، يدلّ على عدم جواز نقض ذلك الوضوء.
وعليه، فالحكم بجواز الثاني دون الأوّل غريبٌ .
نعم، يجوز له إبطاله بالجماع مع عدم التمكّن من الغُسل، كما هو المشهور، بل عن المحقّق(2) دعوى الإجماع عليه، ويشهد له:
صحيح إسحاق بن عمّار، عن الإمام الكاظم عليه السلام:
«عن الرجل يكون مع أهله في السّفر، فلا يجد الماء، يأتي أهله ؟
فقال عليه السلام: ما أحبّ أن يفعل ذلك، إلّاأن يكون شبقاً أو يخاف على نفسه.
قلت: يطلب بذلك اللّذة. قال عليه السلام: هو حلال»(3).
ودعوى(4): أنّ ظاهره جواز الجماع حيث لا ماء أصلاً لا للوضوء ولا للغُسل، بحيث كانت وظيفته التيمّم على أيّ حال، فهو إنّما يدلّ على جواز تبديل2.
ص: 242
الحَدَث الأصغر بالأكبر، وهو غير مربوط بما هو محلّ الكلام من تبديل الطهارة المائيّة بالترابيّة.
مندفعة: بأنّ قوله: (فلا يجد الماء)، مطلق من حيث وجود الماء بقدر الوضوء، إذ الظاهر منه عدمه بمقدارٍ يكفي للغُسل فيعمّ المقام، مع أنّ عدم الاستفصال في الجواب بين كونه متطهّراً أو غير متطهّرٍ يشهد بشموله للمقام.
أقول: وأمّا خبر السكوني، عن جعفر، عن آبائه عليهم السلام، عن أبي ذرّ:
«أنّه أتى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله هلكتُ ، جامعتُ أهلي على غير ماء!
قال: فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله بمحملٍ فاستترتُ به، وبماءٍ فاغتسلتُ أنا وهي، ثمّ قال صلى الله عليه و آله: يا أبا ذرّ يكفيك الصَّعيد عشر سنين»(1).
فلا يدلّ على ذلك، إذ الظاهر من قوله (هلكتُ ) بقرينة جوابه صلى الله عليه و آله، إنّما هو هلاكه من حيث تفويت الصّلاة، لا تفويت الطهارة المائيّة، فقوله صلى الله عليه و آله: (يكفيك الصَّعيد عشر سنين) يكون ردعاً عن ذلك، وأنّه تصحّ الصّلاة مع الطهارة الترابيّة، لا أنّه ردعٌ عن اعتقاد الهلاك، لأجل تفويت الطهارة المائيّة، حتّى يدلّ على المختار.
وعليه، فالعمدة هو الصحيح، وبه يخرج عن القواعد المقتضية للحرمة.
وبذلك كلّه يظهر ضعف ما عن ظاهر المفيد(2) وابن الجُنيد(3) من عدم الجواز، حيث استدلّ له:
بمرفوع علي بن أحمد، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:9.
ص: 243
«سألته عن مجدورٍ أصابته جنابة ؟ قال عليه السلام: إنْ كان أجنَب هو فليغتسل، وإنْ كان احتلم فليتيمّم»(1)، ونحوه مرفوع(2) إبراهيم بن هاشم.
بدعوى أنّ لزوم الاغتسال وإنْ أصابه ما أصابه، إنّما جُعل عقوبةً لما فعله، ولو كان الإجناب جائزاً لم يكن وجهٌ لجعل العقوبة.
وفيه: - مضافاً إلى ما ستعرف من أنّهما ضعيفان للإرسال، وإعراض المشهور عنهما - أنّهما إنّما يدلّان على وجوب الاغتسال على المجنب باختياره، وعدم انتقال فرضه إلى التيمّم، فيما إذا كان الاغتسال مضرّاً، ولعلّ منشأه عدم صحّة التيمّم، فيما إذا تحقّق العجز عن اختيار، بخلاف ما إذا تحقّق بنفسه أو غير ذلك.
وعلى كلّ حالٍ لا شاهد لكون الوجه فيه كونه عقوبة مجعولة لما فعله، كي يدلّان على حرمته.
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأقوى هو جواز الجماع، مع عدم وجود الماء للغسل.
***2.
ص: 244
ثمّ إنّه هل يجوز إراقة الماء قبل الوقت، مع العلم بعدم وجدان الماء بعد الوقت، كما عن جماعةٍ ، وفي «الجواهر»(1) قطعاً؟
أم لا يجوز، كما عن غير واحدٍ احتماله، وعن الوحيد(2) الجزم به ؟ وجهان:
وقد استدلّ للثاني:
1 - بأنّ العقل إنّما يحكم بوجوب حفظ المقدّمة قبل مجيء زمان الواجب، إذا علم بعدم القدرة عليه بعده، ولذا يجبُ إبقاء الاستطاعة بعد أشهر الحجّ ، وتحصيل المقدّمات الوجوديّة، كالسفر قبل وقت الحجّ ، بلا خلافٍ في ذلك.
2 - وبأنّه يظهر من الأدلّة زيادة الاهتمام بالصلاة ومقدّماتها، ورفع موانعها، كما يشعر به النهي عن السّفر إلى أرضٍ لا ماء فيها، وأنّه هلاكُ الدِّين.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ حكم العقل بوجوب الإتيان بالمقدّمة، إذا علم بعدم القدرة عليه بعد دخول الوقت، إنّما يكون فيما إذا كانت مصلحة الواجب تامة قبل فعليّة وجوبه، وإنّما لم يؤمر به لعدم القدرة عليه، لا لعدم تماميّة ملاكه، أو كانت القدرة شرطاً عقليّاً للتكليف، وغير دخيلة في ملاك الفعل، أو شرعيّاً وكان الشرط هي القدرة المطلقة، فإنّ العقل في هذه الموارد إنّما يحكم بوجوب تحصيل المقدّمات من أوّل أزمنة الإمكان لتحصيل القدرة على الواجب، لئلّا يفوت الملاك في ظرفه بعد كونه تامّاً لا قصور فيه.
وأمّا إذا كانت القدرة شرطاً شرعيّاً، وكان الشرط هي القدرة في زمان
ص: 245
الواجب، فلا يَحكُم العقل بلزوم الإتيان بالمقدّمة، قبل مجيء زمان الواجب، إذ المفروض أنّ الفعل لا يكون ذا ملاكٍ مُلزمٍ إلّابعد القدرة عليه في زمانه، ولا يَحكم العقل بلزوم جعل الفعل ذا ملاكٍ في ظرفه، وإنّما يحكم بحرمة تفويت الملاك المُلزم في حَدّ نفسه، وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه في الاُصول.(1)
وفي المقام فإنّ مقتضى الأدلّة كون القدرة على الوضوء أو الغُسل في زمان الواجب، شرطاً شرعيّاً، فإنّه:
1 - مضافاً إلى دعوى الإجماع على جواز إراقة الماء قبل الوقت، وإلى عدم الإشكال ظاهراً عندهم في جواز اجناب المكلّف نفسه قبل الوقت، مع العلم بعدم التمكّن من الغُسل بعده.
2 - يستفاد ذلك ممّا ورد في قوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ (2).
3 - وقوله عليه السلام: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصّلاة»(3).
وغيره من النصوص التي تُقرّب هذا المضمون(4).
فيكون الشرط هو القدرة بعد الوقت، فلا يجبُ حفظ الماء، ولا إبقاء الوضوء ولا تحصيله قبل الوقت، وإنْ علم بعدم تمكّنه بعد الوقت.
وأمّا الثاني: فلعدم كون النهي عنه تحريميّاً كما لا يخفى.
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأظهر جواز إراقة الماء، وإبطال الوضوء قبل الوقت.
أقول: وأمّا التفصيل بينهما بالالتزام بحرمة الأوّل، وجواز الثاني، فالظاهر أنّه).
ص: 246
لا وجه له سوى ما نُقل عن المحقّق النائيني قدس سره في مجلس درسه من دعواه ورود رواية صحيحة دالّة على وجوب إبقائه قبل الوقت. ولا يخفى عدم صحّة هذه الدعوى ، إذ لم يرد في ذلك رواية صحيحة ولا غير صحيحة، والاُستاذ رفع مقامه نقل عنه الرجوع عن دعواه بعدما طالبوه بها، فالأظهر عدم الفرق بينهما.
وأخيراً: لو أراق الماء بعد الوقت أو قبله، فبما أنّه يصدق عليه عدم الوجدان، فيكون التيمّم في حقّه مشروعاً، فلو تيمّم وصلّى ، صحّت صلاته، ولا إعادة ولا قضاء عليه، لأنّ دليل المشروعيّة ظاهرٌ في ذلك، هذا فضلاً عن أنّه معدودٌ من صُغريات المسألة الآتية، وهي: أنّ من صلّى بتيمّمٍ صحيح لا إعادة عليه، بلا خلافٍ بينهم.
وبالجملة: فما عن المفيد(1) والشهيد(2) من وجوب الإعادة عند التمكّن ضعيف.
***1.
ص: 247
التنبيه الثاني عشر: إذا خاف على نفسه من لِصٍّ أو سَبُعٍ ، يسقط وجوب الطلب، بلا ريب فيه كما عن «الجواهر»(1).
ويشهد له خبرا داود الرِّقي، ويعقوب بن سالم(2) المتقدّمان في صدر المبحث، اللّذان عرفتَ كونهما موثّقين، مضافاً إلى عمل الأصحاب بهما، وسيجيء في المسوّغ الثالث تقريب اختصاصهما بالخوف على النفس دون المال.
وعليه، فلو خاف على ماله من لِصٍّ فهل يجب عليه الطلب أم لا؟ وجهان:
أقواهما الثاني، لعموم ما دلَّ على نفي الحَرَج، فإنّ في تعريض الإنسان نفسه للّصوص غضاضة وحزازة لا تتحمّل.
وبذلك يظهر عدم صحّة الإيراد عليه بأنّه ما الفرق بين تعريض المال للّصّ ، وبذله في الشراء، فقد دلَّ الدليل على وجوب الثاني، فإنّه فرقٌ واضح بين الشراء والتعريض للّصوص عند العقلاء، كما لا يخفى.
بل يمكن التمسّك بعموم حديث (لا ضرر)، فإنّ تخصيصه في ما لا يمكن الوصلة إلى الماء إلّامع بذل ثمنٍ خطير، الذي دلَّ الدليل على وجوب البذل، لا يستلزم تخصيصه في المقام، مع أنّك ستعرف أنّه يحتمل عدم صدق الضَّرر في ذلك المورد، فانتظر.
فالأظهر سقوط وجوب الطلب إذا خاف على ماله أيضاً.
***
ص: 248
التنبيه الثالث عشر: لو تمكّن من مزج الماء الذي لا يكفيه لطهارته بما لا يسلبه إطلاق الاسم وتحصل به الكفاية، فهل يجب عليه ذلك كما عن جمعٍ من المتأخّرين منهم المصنّف(1) وأتباعه ؟
أم لا يجب، كما عن جمعٍ من المتقدّمين كالشيخ(2) وأتباعه ؟ وجهان:
قد استدلّ للثاني:
1 - بأنّ الطهارة المائيّة واجبة مشروطة بوجود الماء، وتحصيل مقدّمة الواجب المشروط غير واجب.
2 - وبأنّ الظاهر من الوجدان المأخوذ عدمه موضوعاً لمشروعيّة التيمّم وجود ما يكفي لوضوئه، والمفروض انتفائه.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ الطهارة بالماء واجبة مطلقة، ولذا يجب تحصيل الماء عند فقده إنْ أمكن كما تقدّم.
وأمّا الثاني: فلما عرفت من أنّ المراد من (الوجدان) هو الوجود المقدور، ويصدق في المقام التمكّن بالمزج.
وبذلك يظهر مدرك القول الأوّل.
لكن يمكن أن يقال: إنّ المتَّبع في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعيّة التي منها الواجد للماء وغير الواجد له، إنّما هو نظر العرف، وهم لا يعتنون بمثل هذه القدرة الحاصلة بالمعالجات غير المتعارفة، ولعلّ سرّه هو ما ذكره بعض الأعاظم
ص: 249
المحقّقين رحمه الله(1): من أنّ صدق الوجدان في صورة الخلط والمزج، إنّما هو لعدم اعتنائهم بالمُستَهلك، وعدم ملحوظيّة الخليط في حدّ ذاته ليكون محكوماً بحكم.
وهذا يناقض حكمهم بوجوب إيجاده مقدّمةً لامتثال الأمر بالوضوء، فإنّه موقوف على تصوّره، وملاحظة كونه موجوداً مستقلّاً مؤثِّراً في زيادة الماء.
وبالجملة: فالأقوى هو القول الثاني، وإنْ كان الأوّل أحوط، نعم بعد الخلط لا ريب في وجوب الوضوء به لصدق الوجدان.
***2.
ص: 250
ولو كانَ عليه نجاسةٌ ولم يفضل الماءُ عن إزالتها، تيمّم وأزالها به.
الأمر الثاني: ما قد صرّح به الأصحاب بأنّه (ولو كان عليه نجاسة) أي كان بدن المصلي أو ثوبه نجساً (ولم يفضل الماء عن إزالتها) بمعنى أنّه لا يكفيه إلّالإزالة النجاسة أو الطهارة المائيّة، (تيمّم وأزالها به).
وفي «الحدائق»(1): والظاهر أنّ الحكم بذلك اتّفاقي كما صرّح به في «المعتبر»(2)و «المنتهى »(3) و «التذكرة»(4).
وعن «المعتبر»: نفي الخلاف بين أهل العلم فيه. واستدلّ :
1 - بأنّ الطهارة المائيّة لها بدل وهو التيمّم، بخلاف إزالة النجاسة، فيجب صرفه إليها والتيمّم جمعاً بين الحقّين.
2 - ولخبر أبي عُبيدة، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن المرأة ترى الطُهرفي السّفر، وليس معها ما يكفيها لغُسلها، وقد حضرت الصّلاة ؟
قال عليه السلام: إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله، ثمّ تتيمّم وتُصلّي»(5).
لتقديمه إزالة النجاسة فيه على الوضوء لوجوبه عليها.
ص: 251
ويرد على الأوّل: ما ذكرناه مراراً من أنّ موارد التنافي بين الحكمين الضمنيّين ليست من موارد التزاحم، ليكون ماله بدلٌ مقدّماً على ما ليس له بدلٌ في السقوط.
مع أنّ كون ذلك من مرجّحات باب التزاحم محلّ كلامٍ ، استوفيناه في الجزء الثاني من كتابنا «زبدة الاُصول»(1).
أضف إليه أنّه يمكن أن يقال: إنّ الشارع جعل للصّلاة مع الطهارة الخَبَثيّة بدلاً، وهو الصّلاة مع النجاسة، أو عارياً على الخلاف في المسألة.
وعلى الثاني: فلما مرّ من عدم وجوب الوضوء مع شيءٍ من الأغسال، فعدم الأمر به في مورد الخبر لعلّه يكون لذلك.
وتنقيح القول في المقام: إنّه حيث يكون التنافي بين دليل لزوم إزالة الخَبَث عن بدن المصلّي أو ثوبه، وبين دليل شرطيّة الطهارة المائيّة للصّلاة، من قبيل تعارض الدليلين لا التزاحم، فيتعيّن الرجوع إلى المرجّحات السنديّة، بناءً على أنّها المرجع في تعارض العامين من وجه، ولا يكونُ شيءٌ من المرجّحات ثابتاً لأحدهما، فلا محالة يُحكم بالتخيير.
لا يقال: إنّ أوّل المرجّحات، هو كون أحدهما مُجمعاً عليه ومشهوراً مع دليل إزالة النجاسة.
فإنّه يقال: إنّ المرجّح هو الشهرة الاستناديّة، لا مجرّد تطابق الدليل مع الفتوى، فتدبّر.
وبالجملة: فالمستفاد من الأدلّة هو التخيير بين إزالة النجاسة به، والصّلاة مع التيمّم، وبين الوضوء به والصّلاة عارياً، أو مع النجاسة على الخلاف في المسألة.
***).
ص: 252
الأمر الثالث: أنّه لا يجوز التيمّم مع التمكّن من استعمال الماء، إلّافي موضعين:
الموضع الأوّل: لصلاة الجنازة، حيث لا إشكال ولا كلام في مشروعيّة التيمّم لها، مع التمكّن من استعمال الماء، لو خاف فوت الصّلاة منه، لو أراد أن يتوضّأ أو يَغتسل.
ويشهد له صحيح الحلبي، قال: «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الرجل تُدركه الجنازة وهو على غير وضوء، فإنْ ذهب يتوضّأ فاتته الصّلاة ؟
قال عليه السلام: يتيمّم ويُصلّي»(1).
إنّما الكلام في مشروعيّته لها، مع عدم خوف الفوت:
فالمشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً، هو استحبابه لها.
وعن المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(2) و «المنتهى »(3): نسبته إلى علمائنا.
وعن «خلاف» الشيخ(4): دعوى الإجماع عليه صريحاً.
وعن ابن الجُنيد(5)، والسيّد في «الجُمل»(6)، والشيخ في «التهذيب»(7)
ص: 253
و «المبسوط»(1)، و «النهاية»(2)، و «الاقتصاد»(3)، وأبي علي(4)، وسلّار(5)، والقاضي(6)، والراوندي(7)، والشهيد في «الدروس»(8): عدم المشروعيّة إلّافي صورة خوف الفوت.
وفي «المعتبر»(9) تقويته.
واستدلّ للأوّل: بموثّق سماعة المضمر، قال:
«سألته عن رجلٍ مرّت به جنازة وهو على غير وضوء، كيف يصنع ؟
قال عليه السلام: يضرب بيده على حائط اللّبن فليتيمّم به»(10).
وأورد عليه في «المعتبر»(11): بأنّه ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنّ زُرعة وسماعة واقفيّان.
والثاني: أنّ المسؤول عنه في الرواية مجهول.
ويرد على الأوّل: أنّ زرعة وسماعة ثقتان، وكونهما كذلك يكفي في حجيّة5.
ص: 254
خبرهما وإن كانا واقفيين.
وعلى الثاني: أنّ سماعة أجلُّ شأناً من أن يستفتي من غير المعصوم، ثمّ ينقله لغيره.
ولكن يرد على الاستدلال به:
1 - أنّ المنساق إلى الذهن من السؤال فيه بواسطة القرائن الداخليّة والخارجيّة، إنّما هو السؤال عن وظيفته عند خوف فوت المشايعة والصّلاة عليها، فلا وجه للتعدّي عن مورده.
2 - وبمرسل حَريز، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:
«الطامث تُصلّي على الجنازة، لأنّه ليس فيها ركوع ولا سجود، والجُنُب يتيمّم ويُصلّي على الجنازة»(1).
وأورد عليه: بأنّه ضعيف لإرساله.
وفيه: أنّه لو كان الحكم لزوميّاً، وكان يشترط في الجنازة الطهارة، كان هذا الإيراد متيناً جدّاً، ولم يمكن الجواب عنه بجبره بعمل الأصحاب، لعدم اعتمادهم عليه، ولكن بما أنّ الحكم استحبابي، فيكفي هذا الخبر لإثباته، بضميمة (أخبار من بلغ)، بناءً على ثبوت الاستحباب بها كما هو الأظهر.
فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول الأوّل.
الموضع الثاني: للنوم، على المشهور بين الأصحاب، بل عن «الحدائق»(2) أنّه ممّا لا خلاف فيه، واستدلّ له:
1 - بما رواه الصدوق والشيخ مرسلاً عن الإمام الصادق عليه السلام:
«من تطهر ثُمّ آوى إلى فراشه باتَ وفراشه كمسجده، فإنْ ذَكر أنّه على غير1.
ص: 255
وضوء تيمّم من دثاره كائناً ما كان، فإنْ فعل ذلك لم يزَل في صلاةٍ وذِكر اللّه»(1).
أقول: وأورد عليه بإيرادات:
الأوّل: أنّه ضعيفٌ بالإرسال.
وفيه: أنّه مجبورٌ ضعفه بعمل الأصحاب، مضافاً إلى أنّ الحكم استحبابي يكفي في ثبوته رواية ضعيفة.
الثاني: أنّه مختصٌّ بالمُحْدِث بالأصغر الناسي، فالتعدّي إلى غيره يحتاج إلى دليل.
وفيه: أنّ أهل العرف يرون هذه الخصوصيّات مُلغاةً في مثل هذا الحكم، المبتني على التوسعة والتسهيل، كما يشهد له فهم الأصحاب بأجمعهم ذلك.
الثالث: أنّه يعارضه ما دلَّ على اختصاص شرعيّة التيمّم بغيرالمتمكّن من الماء.
2 - وما رواه أبو بصير، عن الإمام الصادق، عن آبائه عليهم السلام:
«لا ينام المسلم وهو جُنُب، ولا ينام إلّاعلى طهور، فإنْ لم يجد الماء فليتيمّم بالصعيد»(2) الحديث.
وفيه: أنّ المرسل أخصّ من ما دلَّ على اختصاص شرعيّة التيمّم بغير المتمكّن من الماء، فيخصَّص به، وهو مقدّمٌ على خبر أبي بصير للشهرة.
أقول: وأمّا ما ذكره بعض أعاظم المحقّقين رحمه الله، من حكومة المُرسَل على خبر أبي بصير، فهي كما ترى .
وبالجملة: فالأقوى ما ذكره الأصحاب.
***).
ص: 256
ولا يَصحُّ .
(ولا يصحُّ ) التيمّم إلّابالأرض، بلا خلافٍ فيه بيننا، بل عن «كشف اللّثام»(1)و «المنتهى »(2) و «السرائر»(3): دعوى الإجماع عليه.
وتشهد له: الأدلّة التي سنذكرها.
أقول: أمّا ما سيأتي في بعض المسائل الآتية - من جواز التيمّم عند الاضطرار، بما لا يصدق عليه اسم الأرض، كغبار الثوب والوَحَل، لو سُلّم عدم صدقها عليهما، مع أنّه محلّ نظر بل منع، كما سيمرّ عليك - لا ينافي الإجماع على عدم الجواز في حال الاختيار.
ومنه يظهرعدم قدح ماعن «مصباح» السيّد(4)، و «الإصباح»(5)، و «المراسم»(6)، و «البيان»(7)، وغيرها من جواز التيمّم بالثّلج عند الاضطرار، في الإجماع المُدّعى في المقام.
فهذا ممّا لا كلام فيه.
ص: 257
إنّما الكلام والخلاف في أنّه:
1 - هل يجوز التيمّم بمطلق وجه الأرض، كما عن «مصباح» السيّد(1)، و «مبسوط» الشيخ(2)، وخلافه(3)، و «المعتبر»(4)، و «التذكرة»(5)، و «المختلف»(6)، و «الذكرى»(7)، و «الدروس»(8)، و «اللُّمعة»(9)، و «جامع المقاصد»(10)، و «الروض»(11)، و «المدارك»(12)، وغيرها؟
بل المشهور تحصيلاً ونقلاً في «الحدائق»(13) و «الكفاية»(14) كما في «الجواهر»(15)؟
بل عن «التذكرة»(16): دعوى الإجماع على جواز التيمّم بالبطحاء، الذي هو مسيلٌ فيه دقاق الحَصى ، مع خروجه من مصداق التّراب.2.
ص: 258
إلّا بالتراب الخالص.
وعن «المنتهى »(1): وفي «المعتبر»(2) دعوى الإجماع على جوازه بالرمل.
2 - أم لا يجوز (إلّا بالتُّراب الخالص) كما في المتن، وعن السيّد في «شرح الرسالة»(3) وأبي علي، وأبي الصلاح الحلبي(4)، وابن زُهرة(5)؟
3 - أم يجب التفصيل بين حالتي الاختيار والاضطرار، فيمنع من غير التّراب في حال الاختيار كما عن أكثر الفقهاء، بل عن الوحيد(6) نسبته إلى معظمهم إلّامن شذّ؟ وجوه:
أقول: قبل الشروع في الاستدلال لا بأس بالتنبيه على أمرٍ، وهو:
أنّ الظاهر ولا أقلّ من المحتمل أنّه لا قائل باختصاصٍ ما يصحّ التيمّم به بالتراب، وأنّ الجماعة الذين نُسب إليهم هذا القول مطلقاً، أو في خصوص حال الاختيار، قائلون بالتعميم. أمّا المصنّف رحمه الله فلأنّ مراده بالتراب الخالص: مطلق وجه الأرض، كما يشهد له قوله فيما بعد ذلك: (ويجوزُ بأرض النّورة والحَجَر والجصّ ، ويكره بالسَّبخة والرّمل).
وأمّا السيّد فعبارته المحكيّة في «المعتَبر»(7) و «المدارك»(8) عن شرح6.
ص: 259
«الرسالة» هكذا:
(ولا يجزي في التيمّم إلّاالتّراب الخالص، أي الصافي من مخالطة ما لا يقع عليه اسم الأرض، كالزرنيخ والكُحل، وأنواع المعادن).
وهذه العبارة كما ترى كالصريحة في أنّ مراده بالتراب الخالص، الإحتراز عمّا لا يقع عليه اسم الأرض، لا مثل الحَصى ، وإلّا كان الأولى التمثيل به.
ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - قوله في محكيّ «الناصريّات»(1):
(الذي يذهب إليه أصحابنا أنّ التيمّم لا يكون إلّابالتراب، وما جرى مجرى التّراب، ما لم يتغيّر [تغيّراً] بحيث يسلبُ إطلاق اسم الأرض.
إلى أن قال: حجّتنا الإجماع).
وفي «المدارك»(2) بعد نقل العبارة المتقدّمة، عن السيّد، قال: (ونحوه قال المفيد في «المقنعة» وأبو الصلاح).
وعلى ذلك، فلا يبقى وثوقٌ بوجود قائلٍ بعدم جواز التيمّم بغير التّراب مطلقاً.
أقول: وأمّا القول بالتفصيل الذي نسبه الوحيد إلى معظم الأصحاب، إلّامن شذّ، فالظاهر أنّ منشأ النسبة - مع تصريح جماعة كثيرة منهم بجواز التيمّم بمطلق وجه الأرض - هو حكمهم بعدم جواز التيمّم بالحَجَر إلّابعد العجز عن التّراب.
وفيه: أنّه يمكن أن يكون حكمهم ذلك، لبنائهم على اعتبار العَلوق المتعذّر حصوله لدى التيمّم بالحَجَر، وعلى ذلك فدعوى أنّه لا خلاف ظاهراً في جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض في محلّها، بل لا يبعد دعوى الإجماع عليه.
وبالجملة: وكيف كان، فيشهد للمشهور الآية الشريفة: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً7.
ص: 260
طَيِّباً (1) إذ الصَّعيد اسمٌ لمطلق وجه الأرض، وذلك لوجوه:
الوجه الأوّل: تصريح جماعةٍ من اللّغويين بذلك:
ففي محكيّ «مصباح المنير»(2): (الصَّعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره).
ونحوه ما في محكيّ «المُغرِب»(3).
وعن «القاموس»(4): (الصَّعيد التّراب أو وجه الأرض).
ونحوه ما عن «العين»(5)، و «المحيط»، و «الأساس»(6)، و «المفردات»(7)، والخليل(8) وابن الأعرابي.
وفي «المعتبر»(9): (والصَّعيد هو وجه الأرض بالنقل عن فضلاء اللّغة).
وعن «المنتهى »(10) و «نهاية الاحكام»(11): نسبته إلى المشهور بينهم.
وعن «مجمع البيان»(12)، عن الزّجاج(13) أنّه قال: (لا أعلم خلافاً بين أهل).
ص: 261
اللّغة في أنّ الصَّعيد وجه الأرض.
ثمّ قال: وهذا يوافق مذهب أصحابنا في أنّ التيمّم يجوزُ بالحَجَر).
وعن «البحار»(1): إنّ الصَّعيد يتناول الحَجَر كما صرّح به أئمّة اللّغة والتفسير.
وعن «الوسيلة»(2): (قد فسّر كثيرٌ من علماء اللّغة الصَّعيد بوجه الأرض، وادّعى بعضهم الإجماع على ذلك، وأنّه لا يختصّ بالتراب، وكذا جماعة من المفسّرين والفقهاء).
الوجه الثاني: قوله تعالى فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (3) أي أرضاً ملسة مزلقة.
ومثله قوله عليه السلام(4): «يُحشر النّاس يوم القيامة عُراة حُفاة على صعيدٍ واحد، أي أرض واحدة».
الوجه الثالث: ما رواه الصدوق في محكيّ «معاني الأخبار» عن الإمام الصادق عليه السلام: «الصَّعيد الموضع المرتفع، والطيب الموضع الذي ينحدر عنه الماء»(5).
ومثله ما عن «الفقه الرضوي»(6).
الوجه الرابع: ما ذكره بعض أعاظم المحقّقين رحمه الله(7): وهو أنّ المتبادر من قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (8) إرادة القصد إلى صعيدٍ طيّب بالمُضيّ إلى نحوه، لا3.
ص: 262
مجرّد العزم على استعماله، وهذا المعنى لا يناسب إرادة التّراب الذي هو من المنقولات في حَدّ ذاته، بخلاف ما لو اُريد به الأرض أو المكان المرتفع منها.
أقول: وبذلك كلّه ظهر أنّه يدلّ على هذا القول، النصوص الدالّة على جواز التيمّم بالصعيد، كصحيح ابن أبي يعفور، وعنبسة، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«إذا أتيت البئر، وأنتَ جُنُبٌ فلم تجد دَلْواً ولا شيئاً تغرف به، فتيمّم بالصعيد، فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصَّعيد»(1).
ونحوه صحيحا الحلبي وابن سنان(2).
ويشهد للمشهور أيضاً: النبوي(3) المرويّ بعدّة طرق: (جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجداً وطهوراً).
فعن «الفقيه» مرسلاً، قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: «اُعطِيتْ خمساً لم يُعطها أحدٌ قبلي، جُعلت لي الأرضُ مسجداً وطهوراً، الحديث».
وعن «الخصال»(4) بسنده عن أبي أمامة، قال:
«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: فُضِّلتُ بأربع: جُعِلت لي الأرضُ مسجداً وطهوراً، وأيّما رجلٍ من اُمّتي أراد الصّلاة ولم يجد ماء، ووجد الأرض، فقد جُعلت له مسجداً وطهوراً... الخ»(5).
وعنه أيضاً بسنده عن ابن عبّاس، قال:
«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: اُعطيتُ خمساً لم يُعطها أحدٌ قبلي؛ جُعِلَتْ لي الأرض0.
ص: 263
مسجداً وطهوراً، ونُصِرتُ بالرّعب، واُحلّت لاُمّتي الغنائم(1)... الخ».
وأيضاً: عن «الكافي» بإسناده عن أبان بن عثمان، عمّن ذكره، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى أعطى محمّداً صلى الله عليه و آله شرائع نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى - إلى أن قال - وجُعل له الأرض مسجداً وطهوراً»(2).
وأيضاً: النصوص الدالّة على جواز التيمّم بالأرض على الإطلاق، كصحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا لم يجد الرجل طهوراً، وكان جُنُباً فليمسح من الأرض وليصلِّ (3)... الخ».
ونحوه صحيح الحلبي(4)، وصحيحه الآخر عنه عليه السلام: «إنّ ربّ الماء هو ربّ الأرض»(5).
وصحيح ابن مسلم: «فإنْ فاتكَ الماء لم تفتك الأرض»(6).
وأيضاً: جملةٌ من النصوص الواردة في كيفيّة التيمّم، المصرّح فيها بضرب كفّيه صلى الله عليه و آله على الأرض:
منها: ما ورد في تعليم التيمّم لعمّار(7)، والموثّق المتقدّم(8) في من مرّت به جنازة، الدالّ على جواز التيمّم بحائط اللّبن.2.
ص: 264
وخبر السكوني، عن جعفر عليه السلام، عن أبيه، عن الإمام أمير المؤمنين عليهم السلام:
«أنّه سُئل عن التيمّم بالجِصّ؟ فقال: نعم، فقيل: بالنورة ؟ فقال: نعم، فقيل:
بالرماد؟ فقال: لا، إنّه ليس يخرج من الأرض»(1).
واستدلّ للقول الثاني:
1 - بالآية الشريفة لما عن الجُوهري(2)، وابن فارس(3)، وأبي عبيدة(4)، من تفسير الصَّعيد بالتراب.
2 - وبالنبوي المتقدّم المرويّ مُرسلاً في «المعتبر»(5)، وعن «الغوالي»(6) عن فخر المحقّقين، ومسنداً عن «الخصال»(7) و «العلل»(8) بتفاوتٍ يسير: «جُعِلتْ لي الأرضُ مَسْجداً وترابها طهوراً».
3 - وبالنبوي المتقدّم، المرويّ عن «مجالس» المفيد الثاني:
«جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجداً وطَهوراً أينما كنتُ أتيمّمُ من ترابها»(9).
4 - وبالنصوص الآمرة بنفض اليدين(10)، بدعوى أنّ التيمّم لو لم يكن6.
ص: 265
مستلزماً للعَلوق، لم يتوجّه رُجحان النفض، فيستكشف من ذلك أنّ المراد بما يتيمّم به التّراب.
5 - وبصحيح محمّد بن حمران، وجميل ابن درّاج، جميعاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديثٍ : «إنّ اللّه جَعَل التّراب طهوراً كما جَعَل الماء طهوراً»(1).
ونحوه خبر معاوية بن ميسرة(2).
6 - وبصحيح رفاعة بن موسى ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا كانت الأرضُ مبتلّةً ليس فيها ترابٌ ولا ماء، فانظر أجفّ موضعٍ تجده فتيمّم منه»(3).
ونحوه غيره(4).
بدعوى أنّه لو جاز التيمّم بالحَجَر اختياراً لفرض عدمه كالتراب، فإنّه لا يعتبر فيه الجفاف، مع أنّ ظاهر قوله عليه السلام: (ليس فيها تراب) أنّ الموضوع في حال الاختيار خصوص التّراب.
7 - وبصحيح زرارة(5)، عن الإمام الباقر عليه السلام الوارد في بيان ما يَمسح في التيمّم، حيث قال أبو جعفر عليه السلام فيه:
«فلمّا أن وَضَع الوَضوء عمّن لم يجد الماء، أثبت بعض الغُسل مَسْحاً، لأنّه قال تعالى : بِوُجُوهِكُمْ (6) ثُمّ وَصَل بها: وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من ذلك التيمّم، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه، لأنّه يُعلّق من ذلك الصَّعيد ببعض الكفّ ولا6.
ص: 266
يُعلّق ببعضها».
وبهذه الأدلّة يُقيّد إطلاق ما دلَّ على جواز التيمّم بالأرض على الإطلاق.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ قول هؤلاء اللّغويين لا يصلح لمعارضة ما هو المشهور بينهم، لا سيّما وعن بعض من فَسّر (الصَّعيد) بالتراب تفسير التّراب بالأرض، مع أنّ اللّغوي ليس من أهل تعيين المعاني الحقيقيّة، وتمييزها عن المعاني المجازيّة، والكتب المصنّفة في اللّغة لم توضع لذلك، بل اللّغوي إنّما يذكر موارد استعمال اللّفظ واطلاقة على معنى أو معاني.
وعليه، فقولهم: (الصَّعيد هوالتّراب)، لا يدلّ إلّاعلى إطلاقه عليه، وهذا ممّا لا كلام فيه، إذ لا ريب في كونه أحد مصاديقه، فيصحّ إطلاق الصَّعيد عليه، إنّما الكلام في كونه تمام الموضوع له، وهذا لا يدلّ عليه، ويشير إلى ذلك ما عن «مصباح المُنير»(1) حيث أنّه بعد ما فسّر (الصَّعيد) بمطلق وجه الأرض، قال: (ويُقال:
الصَّعيد في كلام العرب يُطلَق على وجوه: على التّراب الذي على وجه الأرض، وعلى الطريق).
مع أنّ قول اللّغوي لا يصلح لمعارضة النصوص، وقد عرفت دلالة بعضها على كون الصَّعيد مطلق وجه الأرض.
ودعوى بعض الأعاظم(2): من أنّه بناءً على ما هو التحقيق من إعمال قواعد التعارض، من الترجيح أو التخيير، مع اختلاف نقل اللّغويين، يتعيّن الاعتماد على7.
ص: 267
التفسير الأوّل، لأنّه أشهر، ولو بُني على التساوي جاز الاعتماد عليه.
ممنوعة: إذ مضافاً إلى ما عرفت من عدم كون اللّغوي من أهل تعيين المعاني الحقيقيّة، كي يكون قوله حجّة من باب حجيّة قول أهل الخُبرة، أنّه لو سلّم ذلك لا وجه لإعمال قواعد التعارض من التخيير أو الترجيح، ولاختصاص ما دلَّ على ذلك من النصوص بتعارض الأخبار، ولا يعمّ جميع الحُجج الشرعيّة. وعليه فالصحيح ما ذكرناه.
وأمّاالثاني: فلأنّ النبوي المذكور غيرحُجّةٍ ، لضعف سند ماتضمّنه من النصوص:
أمّا المرسلان فللإرسال، وأمّا المسندان فلأنّ جُلّ رواتهما من العامّة، مع أنّه مثبتٌ لا يتنافى مع الإطلاقات المتقدّمة كي يُقيّدها.
ودعوى: أنّه بمفهومه يدلّ على عدم طهوريّة غير التّراب، فبمفهومه يقيّد الإطلاقات.
مندفعة: بما ذكره المحقّق رحمه الله(1) في «المعتبر» بأنّ التمسّك به تمسّكٌ بدلالة الخطاب، أي يتوقّف الاستدلال به على حجيّة مفهوم الوصف واللّقب، ولا نقول بها.
وأورد في «الحدائق»(2) عليه: بأنّ الاستدلال به ليس بمفهوم الخطاب، بل من جهة أنّه لو كان غير التّراب أيضاً طهوراً، كان التقييد به خروجاً عن مقتضى البلاغة الّتي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، لأنّ ذكر الأرض من غير تقييدٍ، أدخلُ في الامتنان الذى سيق الكلام لبيانه.
وفيه أوّلاً: إنّ هذا البرهان جارٍ في جميع الأوصاف، والجواب عنه أنّه يمكن أن يكون القيد مذكوراً لنكتةٍ داعية إلى ذكره، ولأجلها يخرج الكلام عن اللّغويّة،6.
ص: 268
والمقام أحد تلك الموارد، ولعلّ التعبير بالتراب لشيوع التعبير عن الأرض به أو غير ذلك.
وثانياً: إنّ الإشكال على فرض صحّته، واردٌ على كلّ حال، إذ الخصم يعترف بجواز التيمّم بغير التّراب عند الضرورة، وهذا لا يقتضي تخصيص التّراب بالذكر في مثل هذا الخبر، المسوق لبيان طهوريّة الأرض في الجملة، ولذا لم يقيّدها بما إذا فقد الماء، بل يرد الإشكال بعينه على الجملة الأُولى ، بناءً على أنّ المراد بها مكان الصّلاة، لا موضع السجود كما هو الظاهر، ويشير إليه قوله في ذيل خبر «المعتبر»(1): (أينما أدرَكَتْني الصّلاة صلّيتُ ) إذ تجوز الصّلاة في كلّ مكانٍ ولو لم يكن أرضاً.
وأمّاالثالث: فيظهر حاله ممّاذكرناه، إذ هو أيضاً من قبيل المثبت، فلا ينافى الإطلاق.
وأمّا النصوص الآمرة بالنفض: فلو سَلّمنا دلالتها على اعتبار العلوق - مع أنّه ستعرف عدمها - لا تدلّ على الاختصاص بالتراب، لعدم ملازمة العلوق له، بل هو ملائمٌ مع الرَّمل وسحيق الحَجَر وغيرهما.
وأمّا الخامس: فهو أيضاً من قبيل المُثبت، فلا يصلح لتقييد المطلقات.
وأمّا صحيح رفاعة: فيرد على التقريب الأوّل للاستدلال به، أنّ ظاهره اعتبار اليبوسة فيما يتيمّم به، حَجَراً كان أو تراباً، كما عن بعض المحدِّثين البناء عليه، وسيأتي الكلام فيه(2).
وعلى التقريب الثاني: أنّ قوله: (ليس فيها ترابٌ )، تفسيرٌ للمبتلّة، لا شرطٌ زائد كما هو واضح.ة.
ص: 269
وأمّا صحيح زرارة: فلأنّه مضافاً إلى أنّ العلوق لا يُلازم أن يكون ما يتيمّم به تراباً كما عرفت، أنّه لا يمكن الأخذ بظاهر التعليل، للأمر بالنفض في النصوص، مع أنّ التّراب غالباً ما يُعلّق بتمام اليد لا ببعضه، وعلى ذلك فيتعيّن حمله على إرادة تلقين الاستدلال لزرارة في قبال المخالفين.
وبالجملة: فتحصّل أنّ شيئاً ممّا استدلّ به على عدم جواز التيمّم بغير التّراب، لا يدلّ عليه.
وأمّا القول الثالث فقد استدلّ له:
1 - بأنّ مقتضى الآية والروايات بعد ردّ بعضها إلى بعض عدم جواز التيمّم بغير التّراب، إلّاأنّه يدلّ على الجواز في غير حال الاختيار الإجماع.
2 - وبأنّ الجمع بين الأدلّة يقتضي تقييد المطلقات في حال الاختيار، بما دلَّ على اعتبار كونه بالتراب.
3 - وبقاعدة الاشتغال.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلما عرفت من عدم الدليل على اعتبار كونه بالتراب. مع أنّه لو ثبت ذلك لا وجه لاعتماد على الإجماع، لعدم كونه تعبّديّاً، بل تكون فتواهم مستندة إلى الأدلّة الدالّة على جواز التيمّم بالأرض، فإذا فرض تقييد إطلاقها بما دلَّ على اعتبار كونه بالتراب، فلا يبقى للاستدلال المزبور مجالٌ .
وأمّا الثاني: - فلأنّه مضافاً إلى ما تقدّم من عدم الدليل على اشتراط كونه بالتراب - أنّه لو سُلّم ذلك، لا وجه للبناء على التقييد في حالٍ دون اُخرى .
وأمّا قاعدة الاشتغال، فلا مورد لها في المقام بعد دلالة الأدلّة على جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض مطلقاً، مع أنّه لو سُلّم إجمال الأدلّة، فمع وجود التّراب يُشكّ
ص: 270
في اعتبار الخصوصيّة، ومقتضى أصالة البراءة عدم اعتبارها، وأمّا مع تعذّره فيشكّ في وجوب الصّلاة، بناءً على عدم وجوب الصّلاة على فاقد الطهورين، أو في اشتراطها بالتيمّم بغير التّراب، فالمرجع هو أصل البراءة على التقديرين.
وبالجملة: فتحصّل من مجموع ما ذكرناه، أنّ القول الأوّل هو الأقوى ، فيجوز التيمّم بمطلق وجه الأرض تراباً كان أو غيره.
***
ص: 271
ويجوز بأرض النُّورة والجِصّ والحَجَر.
أقول: هاهنا مسائل ينبغي التعرّض لها:
المسألة الأُولى: (ويجوزُ) التيمّم (بأرض النُّورة والجِصّ والحَجَر) كما هو المشهور، وهاهنا مباحث:
المبحث الأوّل: في الحَجَر.
فقد تقدّم الكلام في جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض، حَجَراً كان أو غيره، واستدلّ لعدم جوازه به - مضافاً إلى ما تقدّم من الأدلّة التي استدلّ بها على اختصاص ما يصحّ التيمّم به بالتراب، إمّا مطلقاً أو في حال الاختيار، الّتي عرفت ما فيها -:
1 - باشتراط العَلوق المتعذّر حصوله لدى التيمّم بالحَجَر، ولهذا الوجه نَسبَ بعضٌ عدم جواز التيمّم به إلى أكثر الفقهاء.
2 - وبخروجه من مسمّى الأرض بالإستحالة كالمعادن، كما عن ابن الجُنيد التصريح به.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلما ستعرف في شروط ما يتيمّم به، من عدم اعتبار العَلوق، مع أنّه لو سُلّم اعتباره، فهو لا يلازم عدم جوازه بالأرض ذات الأحجار، لا سيّما وأنّ الغالب عدم خلوّها من الغبار الذي يُعلّق باليد، وبه يظهر ما في النسبة المزبورة.
مضافاً إلى أنّه لا يدلّ على عدم جوازه بالحَجَر المسحوق.
ص: 272
وأمّا الثاني: فلأنّ الحَجَر يصدقُ عليه الأرض بلا كلام، وصدق المعدن عليه لو سُلّم مع أنّه محلّ نظر بل منع. لا يمنع عنه، لأنّ المدار على صدق الأرض، لا عدم صدق المعدن، كما أنّ مناط المنع الخروج عن مسمّى الأرض لا كونه معدناً، فالأظهر جواز التيمّم به.
المبحث الثاني: يجوزُ التيمّم بأرض النُّورة والجِصّ قبل الإحراق على المشهور شهرة عظيمة، بل لم يُنقل الخلاف إلّاعن الحِلّي(1)، حيث نُسب إليه إنّه منعَ عنه في النُّورة، والشيخ في «النهاية»(2) حيث قيّد الجواز فيهما بفقد التّراب، وهما غير مخالفين للمشهور.
أمّا الحِلّي: فلأنّ ظاهر كلامه في «السرائر» أنّه منع عنه في النُّورة لا أرضها، والمتبادر منه إرادة ما بعد الإحراق.
وأمّا الشيخ فالظاهر أنّه استند في هذا التفصيل إلى ما عن «كشف اللّثام»(3)من أنّ أرض النُّورة ليست غير الحَجَر، وبناؤه فيه على عدم جواز التيمّم بالحَجَر إلّا بعد فقد التّراب.
وكيف كان، فيشهد للمشهور صدق الأرض عليهما، وصدق المعدن عليهما لو سُلّم لا ينافي ذلك كما تقدّم.
المبحث الثالث: في الجِصّ والنُّورة بعد الإحراق:
فعن جماعةٍ (4): عدم جواز التيمّم بهما.8.
ص: 273
بل في «الجواهر»(1) نسبته في النُّورة إلى الأكثر.
وعن علم الهدى (2)، وفي «المعتبر»(3)، و «الحدائق»(4)، وعن «التذكرة»(5)، و «مجمع البرهان»(6)، وجماعة آخرين: جواز التيمّم بهما.
بل يمكن دعوى الشهرة عليه، إذ المشهور بينهم جواز السجود عليهما، وهو يكشفُ عن بنائهم على عدم خروجهما بالإحراق عن كونهما أرضاً. فتأمّل.
وكيف كان، فيشهد له صدق الأرض عليهما عرفاً، إذ الإحراق لا يوجبُ خروج الأرض عن حقيقتها، وإنْ شئتَ فاختبر ذلك من اللّحم المشويّ .
أقول: ولو شُكّ في ذلك:
1 - فهل يجري استصحاب جواز التيمّم، كما تمسّك به بعض ؟
2 - أم يجري استصحاب بقاء الموضوع ؟
3 - أم لا يجري شيءٌ منهما؟
وجوهٌ وأقوال، أقواها الأخير:
أمّا الاستصحاب الحكمي، فهو لا يجري من جهة الشكّ في بقاء موضوعه، لا لما قيل من كونه من الاستصحاب التعليقي، لعدم كونه منه، إذ المراد من جواز التيمّم هو الجواز الوضعي، لا الجواز بمعنى ترتّب الطهارة عليه، كي يقال إنّه معلّق على وجوده.0.
ص: 274
وأمّا الاستصحاب الموضوعي، فعدم جريانه إنّما يكون لأجل ما ذكرناه في الجزء الأوّل من هذا الشرح، من عدم جريانه في جميع موارد الشكّ في الاستحالة، لأنّه على فرض الاستحالة يكون ما اُحيل إليه غير ما اُحيل منه، وما كان متّصفاً بالأرضيّة سابقاً هو الثاني، وما اُريد إثباتها له في الزمان الأوّل هو الأوّل، فمع الشكّ فيها لا يجري استصحاب بقاء الأرضيّة، للشكّ في بقاء معروضها.
نعم، استصحاب بقاء ذلك العنوان بنحو مفاد كان التامّة، يجري إذا ترتّب عليه الأثر، لكنّه لا يُثبت اتّصاف الموجود الخارجي به.
فإذاً العمدة ما ذكرناه من عدم خروجها عن حقيقتها بالإحراق.
ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليٍّ عليه السلام:
«أنّه سُئل عن التيمّم بالجِصّ؟ فقال عليه السلام: نعم، فقيل: بالنُّورة ؟ فقال عليه السلام: نعم. فقيل:
بالرِّماد؟ قال عليه السلام: لا، أنّه ليس يخرجُ من الأرض إنّما يخرج من الشّجر»(1).
ونحوه ما عن «نوادر» الراوندي(2) مع التفريع فيه بجواز التيمّم بالصَّفا العالية.
وأورد عليهما: تارةً بضعف السند، واُخرى بإعراض المشهور عنهما.
أقول: أمّا ضعف سند ما عن الراوندي، فهو كذلك، وأمّا خبر السكوني فلا نُسلّم ضعفه، إذ لا وجه له سوى ما في «المعتبر»(3) من أنّ السكوني الوارد اسمه في هذا السند ضعيفٌ ، وهو كما ترى ، إذ السكوني وإنْ كان من الألقاب المشتركة بين من يُعتمد عليه وغيره، إلّاأنّه عند الإطلاق يُراد به إسماعيل بن أبي زياد وهو ثقةٌ على الأقوى .6.
ص: 275
وأمّا دعوى: إعراض المشهور عنه فمردودة بما عن جماعةٍ من القدماء والمتأخّرين من الالتزام بمضمونه.
وبالجملة: فالأقوى جواز التيمّم بهما.
أقول: وبما ذكرناه أوّلاً ظهر أنّ الأظهر جواز التيمّم بالطين المطبوخ كالخزف والآجر، كما يجوز السجود عليه، بل هو المشهور فيه.
وأمّا ما في «المعتبر»(1): من أنّ الأشبه المنع، لأنّه خرج بالطبخ عن اسم الأرض.
فغير تامٍّ : لما عرفت من أنّ الشيء لا يخرج عن حقيقته بالشوي، على أنّ لازم ذلك عدم جواز السجود عليه، مع أنّه ممّن أفتى بالجواز، اعتذاره عن ذلك بأنّه قد يجوز السجود على ما ليس بأرض كالكاغذ والقرطاس أغرب، إذ الكاغذ والقرطاس قد دلَّ على جواز السجود عليهما نصٌّ خاص، وليس كذلك الطين المطبوخ، فمع عدم صدق الأرض عليه لابدَّ من البناء على عدم جواز السجود عليه، لما دلَّ على عدم جواز السجود على غير الأرض ونباتها، وعدم صدق نباتها عليه واضح.
***5.
ص: 276
المسألة الثانية: لا يجوز التيمّم على المعادن، كما هو المشهور شهرةً عظيمة، بل عن «خلاف» الشيخ(1)، و «منتهى» المصنّف(2)، و «الغُنية»(3) دعوى الإجماع عليه.
ولم يُنقل الخلاف إلّاعن ابن أبي عقيل(4) حيث أنّه جوّز التيمّم بالأرض، وبكلّ ما كان من جنسها كالكُحل والزرنيخ.
ويشهد للمشهور: أنّ الأدلّة إنّما دلّت على جواز التيمّم بالأرض، وهي لا تصدق على المعادن، فلا يجوز التيمّم بها.
وبذلك يظهر أنّ المناط عدم صدق الأرض، فلو فرضنا صدقها على معدنٍ خاص، كبعض أنحاءالطين، جاز التيمّم به، لعدم الدليل على مانعيّة المعدنيّة، فالقول بعدم جواز التيمّم على المعدن، وإنْ صدق عليه اسم الأرض، غَير ظاهر الوجه.
فإنْ قلت: إنّ وجهه إطلاق معاقد الإجماعات المحكية.
قلت: إنّ الإجماع المدّعى في المقام، ليس إجماعاً تعبّديّاً، لتمسّك المُجمعين في حكمهم بذلك إلى خروج المعدن عن اسم الأرض.
واستدلّ لما اختاره ابن أبي عقيل: بمفهوم التعليل، لعدم جواز التيمّم بالرماد في خبر السكوني، بأنّه: (ليس يخرجُ من الأرض).
واُجيب عنه: تارةً بضعف سند الخبر، واُخرى بأنّه لا يفهم من التعليل إلّاالمنع من كلّ ما لم يخرج من الأرض، وأمّا الجواز بكلّ ما خرج منها فلا.
أقول: وفيهما نظر:
ص: 277
أمّا الأوّل: فلما تقدّم من أنّه قوي.
وأمّا الثاني: فلأنّه إنكار لحجّية مفهوم العلّة.
فالصحيح في الجواب عنه أن يقال: إنّ المراد من الخروج في العلّة تبدّل الأرض إلى غيرها، لا ما هو الظاهر من لفظ الخروج، كما يشهد له قوله عليه السلام: (وإنّما يخرجُ من الشَّجر).
وعليه، فلا يشمل المعادن والنباتات، فمفهومه أجنبيٌ عمّا استدلّ به له. نعم، إنّه يدلّ على أنّ كلّ ما كان أصله أرضاً - وإنْ كان فعلاً ممّا لايصدق عليه اسم الأرض - يجوز التيمّم به، كالرّماد الذي استحيل إليه التّراب أو الحجارة، فإنْ كان إجماعٌ على عدم الجواز يرفع به اليد عن المفهوم، وإلّا فيؤخذ به كما أفتى بالجواز في محكيّ «نهاية الاحكام»(1) في المثال، وعلى كلّ تقدير لا ربط له بما بنى عليه ابنُ أبي عقيل.
وبالجملة: فالأظهر هو ما بنى عليه المشهور.
***9.
ص: 278
ويُكْره بالسَّبخة والرَّمل.
المسألة الثالثة: (ويكره) التيمّم (ب) الأرض (السَّبخة)، وهي أرض مالحة، (والرَّمل) بلا خلافٍ ، وهو مذهب فقهائنا أجمع، عدا ابن الجُنيد، فإنّه منع من السَّبخ كما في «المعتبر»(1).
أقول: يشهد لجواز التيمّم بهما، ما تقدّم من الأدلّة الدالّة على جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض، بعد وقوع اسم الأرض عليهما، ومنه يظهر ضعف ما عن ابن الجُنيد.
وأمّا كراهيته، فلم أقف لها على دليلٍ ، كما صرّح به الأساطين، وقاعدة التسامح قد مرّ اختصاصها بباب المستحبّات.
وبالجملة: فالأظهر عدم الكراهة، إلّاأنّه ينبغي ترك التيمّم بهما، مع التمكّن من غيرهما، كما لا يخفى وجهه.
***
ص: 279
وَلو لَم يَجِدْ،
المسألة الرابعة: (ولو لم يجد) ما يتيمّم به من وجه الأرض، يتيمّم بغبار الثوب، أو اللَّبد، أو عُرف الدابّة ونحوها ممّا يجتمع فيه الغبار عادةً ، بلا خلافٍ فيه.
بل في «المعتبر»(1): هو مذهب علمائنا، وقريب منه ما عن «التذكرة»(2).
وعن السيّد(3): مساواة الغبار لوجه الأرض.
وعن «المنتهى »(4): فيه قوّة.
وعن «المهذّب»(5): اشتراط فقد الوَحَل في جواز التيمّم بالغبار.
وفي «المدارك»(6): الاستشكال في تقديم الغبار على الوَحَل، بحسب الروايات، مع اعترافه بأنّ الأصحاب قاطعون به.
ويشهد للقول الأوّل: جملة من النصوص:
منها: موثّق زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إنْ كان أصابه الثّلج، فلينظر لبد سَرْجه فيتيمّم من غباره أو شيء مغبّر، وإنْ كان في حالٍ لا يجد إلّاالطين، فلا بأس أن يتيمّم منه»(7).
ص: 280
ومنها: صحيحه، قال: «قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: أرأيتَ المواقف إنْ لم يكن على وضوء، كيف يصنع، ولا يقدر على النزول ؟
قال عليه السلام: يتيمّم من لبده أو سَرْجه أو معرفة دابّته، فإنّ فيها غباراً، ويُصلّي»(1).
ومنها: صحيح رفاعة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «فإنْ كان في ثلج فلينظر لبد سَرْجه فليتيمّم من غباره أو شيء مغبر، وإنْ كان في حالٍ لا يجد إلّاالطين فلا بأس أن يتيمّم منه»(2).
ومنها: صحيح أبي بصير، عنه عليه السلام: «إذا كنتَ في حالٍ لا تقدر إلّاعلى الطين فتيمّم به، فإنّ اللّه أولى بالعُذر، إذا لم يكن معك ثوب جافٍ أو لِبدٌ تقدر أن تنفضه وتتيمّم به»(3).
ونحوه غيره(4).
وأمّا القول الثاني: فإنْ اُريد به الغبار الكثير الذي لو نَفَض ما فيه الغبار يصدق عليه التّراب - كما يشير إليه الاستدلال المذكور في محكيّ «إرشاد الجعفريّة»(5) لهذا القول - فلا إشكال فيه، إلّاأنّه خارجٌ عن محلّ الكلام، فإنّ مورد الكلام هو التيمّم بالغبار لا بالتراب، وإلّا فلا دليل عليه بعد عدم صدق الصَّعيد عليه.
وأمّا القول الثالث: فقد استدلّ له: بصدق (الصَّعيد) على الوَحَل، كما يشهد له).
ص: 281
خبر زرارة الآتي، فيكون مقدّماً على الغبار.
وفيه: أنّ (الصَّعيد) لا يصدق عليه عُرفاً، والمراد من التعليل في الخبر أنّ أصله الصَّعيد، كما يشهد له قوله عليه السلام في مرسل علي بن مطر:
«نَعْم صعيدٌ طيّبٌ وماءٌ طهور»(1).
قال صاحب «المدارك»(2): في توجيه استشكاله في تقديم الغبار على الوَحَل، إنّ غير خبر أبي بصير من نصوص الباب لا دلالة فيها على ذلك، إذ بعضها واردٌ في المواقف الّتي لا يمكن من النزول إلى الأرض فيها، وبعضها مختصٌّ بحال الثّلج المانعة من الوصول إلى الأرض، وأمّا الخبر المذكور فضعيفُ السند.
وفيه أوّلاً: إنّ قوله عليه السلام في صحيح رفاعة - والذي يجيب فيه الإمام عليه السلام عن حكم مَن هو عاجزٌ عن الوضوء والتيمّم لوجود الثّلج، حيث يأمره بالتيمّم بالغبار -: (وإنْ كان في حالٍ لا يجدُ إلّاالطين... الخ)، كالصريح في تقديم الغبار على الوَحَل، فإنّه يدلّ على أنّ طهوريّة الطين إنّما تكون بعد فَقْد ما يتيمّم به وعند الاضطرار، والقدر المتيقّن من إطلاقه هو صورة فَقْد الغبار، المجعول كونه طهوراً في أوّل الصحيح، فمقتضى مفهومه عدم جواز التيمّم به مع وجود الغبار. فتدبّر فإنّه دقيق.
ومنه يظهر أنّ أغلب النصوص الواردة في حال الثّلج، تدلّ على هذا الأمر.
وثانياً: إنّ خبر أبي بصير لا يعدّ ضعيفاً من ناحية السَّند، لأنّ جميع رواته ثقات إماميّون، بل بعضهم من الأجلّاء والعظماء عندنا، كما يظهر لمن راجع سنده، فما في جملةٍ من الكتب من توصيفه بالصحّة متينٌ .7.
ص: 282
فإنْ قلت: إنّ الظاهر منه ولا أقلّ من المحتمل أن يكون المراد من نفضه في الصحيح، تحصيل التّراب منه بجمع غباره، على وجهٍ يتمكّن من التيمّم بالتراب، ولا إشكال في تقدّم ذلك على الطين.
قلت: إنّ الظاهر من الضمير في لفظة (به) هو رجوعه إلى ما مع المريد للصّلاة لا إلى التّراب، فلاحظ وتدبّر.
وعليه، فهذا الاحتمال خلاف الظاهر.
قال صاحب «الحدائق»(1): في مقام توجيه توقّفه تقديم الغبار على الطين:
(إنّ نصوص التقديم معارضة بخبر زرارة، عن أحدهما عليهما السلام، قال:
«قلت له: رجل دخل الأجمة ليس فيها ماءٌ وفيها طين ما يصنع ؟
قال: يتيمّم، فإنّه الصَّعيد.
قلت: فإنّه راكبٌ ولا يمكنه النزول من خوفٍ ، وليس هو على وضوء؟
قال عليه السلام: إنْ خاف على نفسه من سَبُعٍ أو غيره، وخاف فوات الوقت، فليتيمّم، يضرب بيده على اللّبد أو البرذعة ويتيمّم ويصلّي»(2).
ومرسل علي بن مطر، قال: «سألت الرضا عليه السلام عن الرَّجل لا يُصيب الماء ولا التّراب يتيمّم بالطين ؟ قال عليه السلام: نعم، صعيدٌ طيّب وماءٌ طهور»(3).
وفيه: إنّ الخبرين ضعيفان:
أمّا الأوّل: فلأنّ في طريقه أحمد بن هلال، الصوفي المتصنّع، الذي ورد فيه ذمٌّ كثيرٌ من سيّدنا أبي محمّد العسكري عليه السلام، ورجع من التشيّع إلى النَّصب.1.
ص: 283
إلّا الوَحَل تيمّم به.
وأمّا الثاني: فللإرسال، مع أنّ خبر زرارة إنّما يدلّ على تأخر مرتبة التيمّم باللّبد أو البرذعة عن التيمّم بالطين، لا على تأخر مرتبة التيمّم بما فيه الغبار عن الطين، كما لا يخفى، فهو يدلّ على كون المراتب أربعاً.
والمرسل مطلقٌ يقيّد بما إذا لم يتمكّن من الغبار.
مع أنّه لو سُلّم التعارض، لابدَّ من الرجوع إلى المرجّحات، والترجيح مع تلك النصوص من وجوه غير خفيّة.
فتحصّل: أنّ الأقوى انه إنْ لم يجد وجه الأرض، يتيمّم بغبار الثوب أو باللّبد، أو بعُرف الدابّة ونحوها ممّا فيه غبار، كما أنّه لو لم يجد (إلّا الوَحَل تيمّم به).
***
ص: 284
أقول: وينبغي التنبيه على اُمور:
التنبيه الأوّل: إنّه يعتبر في صحّة التيمّم بما فيه الغبار، صدق عنوان التيمّم على الغبار نفسه، لا مجرّد التيمّم على ما فيه الغبار، للأمر بذلك، وبالتيمّم بالمغبّر في النصوص المتقدّمة، وهما لا يصدقان إلّامع كون الغبار محسوساً.
ويشهد لذلك: - مضافاً إلى ما ذكر - قوله عليه السلام في صحيح أبي بصير المتقدّم: «إذا لم يكن معكَ ثوبٌ جافٌ أو لبدٌ تقدر على أن تنفضه وتتيمّم به».
بناءً على ما عرفت من رجوع الضمير إلى الثوب أو اللّبد، فإنّه يدلّ على لزوم نفضه مقدّمةً للتيمّم، ولا وجه له سوى ظهور الغبار الكامن.
وعليه، فالقول بكفاية ضرب اليد على ذي الغبار، إمّا مطلقاً، أو بشرط انتشار الغبار منه ضعيفٌ .
فإنْ قلت: إنّ بعض النصوص تضمّن الأمر بضرب اليد على اللّبد ونحوه، ومقتضى إطلاقه عدم اعتبار وجود الغبار، فضلاً عن كونه بارزاً، ولا تنافي ذلك النصوص الآمرة بالتيمّم بالغبار كي يقيّد إطلاقه بها.
قلت أوّلاً: إنّ الخبرالمطلق ليس إلّاخبر زرارة المتقدّم، الذي عرفت أنّه ضعيف.
وثانياً: إنّ قوله عليه السلام في صحيح زرارة المتقدّم: (فإنّ فيها غباراً) يدلّ بمفهومه على عدم صحّة التيمّم بما ليس فيه غبار، فيقيّد به إطلاق الخبر.
فإنْ قلت: إنّ مقتضى إطلاق هذا الصحيح، الاكتفاء بالتيمّم بما فيه الغبار، وإنْ لم يكن بارزاً.
قلت: إنّه يقيّد إطلاقه بالأمر بالنفض في صحيح أبي بصير، الظاهر في شرطيّته
ص: 285
للتيمّم بما فيه الغبار، والظاهر منه ليس شرطيّته من حيث هو، بل لكونه مقدّمةً لبروز الغبار.
التنبيه الثاني: لا يختصّ هذا الحكم بغبار ثوبه، ولَبد سرجه، وعُرف دابّته، بلا خلافٍ ، والتعبير بذلك في الكتب الفقهيّة إنّما هو لتبعيّة النص، والتعبير في النصوص إنّما يكون لإنحصار ما فيه الغبار مع المسافر بهذه الاُمور، ويشهد للتعميم، قوله عليه السلام في صحيح رفاعة المتقدّم: (أو شيءٌ مغبّر)، وقوله عليه السلام في صحيح زرارة: (فإنّ فيها غباراً)، وقوله عليه السلام في موثّق زرارة: (أو من شيءٍ معه)، ومقتضي إطلاقها التخيير بين الأفراد.
وعليه، فما عن جماعةٍ من تقديم بعض المصاديق على بعض، ضعيفٌ .
التنبيه الثالث: مقتضى إطلاق النصوص عدم اعتبار تقديم ما هو الأكثر غباراً.
وعن جماعةٍ منهم صاحب «الجواهر» اعتبار ذلك.
واستدلّ له:
1 - بقاعدة الميسور.
2 - وبأنّ مغروسية القاعدة في الذّهن توجب صرف الإطلاقات إلى ماتقتضيه.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا القاعدة: فلعدم ثبوتها كما حُقّق في محلّه.
وأمّا الإنصراف: فلأنّه بدوي يزول بأدنى تأمّل، لا سيّما بملاحظة اختلاف المذكورات في النصوص في كميّة الغبار.
التنبيه الرابع: اختلفت كلمات القوم في كيفيّة التيمّم بالطين:
ص: 286
فعن صريح الحِلّي(1) وغيره، وظاهر «الشرائع»(2) وغيرها(3): أنّه يضرب يديه عليه، ويمسح بهما جبهته وظاهر كفّيه.
وعن المفيد(4): إنّه يضع يديه ثمّ يرفعهما فيمسح إحداهما بالاُخرى ، حتّى لا تبقى فيهما نداوة، ثمّ يمسح بهما جبهته ثمّ ظاهر كفّيه.
وعن الشيخ في كتبه(5): إنّه يضع يديه في الطين، ثمّ يفركه ويتيمّم به.
وعن «الوسيلة»(6): يضرب يديه على الوَحَل قليلاً ويتركه عليهما حتّى ييبس ثمّ ينفضه عن اليد ويتيمّم.
واستدلّ للأوّل: بأنّه مقتضى إطلاق النصوص الواردة في مقام البيان.
وفيه: إنّ مقتضي الإطلاق المقامي، اعتبار ما يعتبر في التيمّم بالصعيد في التيمّم به، وحيث أنّه يعتبر فيه المسح باليدين، فيعتبر في التيمّم بذلك أيضاً المتوقّف على إزالة الطين، وإلّا فيكون المسح بالحائل.
وعليه، فما أفاده الشيخ المفيد هو الأقوى، وإليه يرجع ما عن كتب الشيخ و «الوسيلة»، كما لا يخفى على المتدبّر فيها.1.
ص: 287
التنبيه الخامس: التيمّم بالطين إنّما يجوز إذا لم يمكن تجفيفه، وإلّا فيتعيّن عليه ذلك، وأمّا التيمّم بالصعيد كما هو المشهور - بل الظاهر - فلا خلاف فيه، فإنّ التيمّم بالصعيد واجبٌ مطلق، يجب تحصيله إنْ أمكن ما لم يلزم ضررٌ أو حرج، وقوله في بعض النصوص: (فإنّه الصَّعيد) قد عرفت أنّ المراد به أنّه مادّته وأصله.
فإنْ قلت: إنّ ظاهر قوله عليه السلام في جملةٍ من نصوص الباب: (لا يجدُ إلّاالطين) ظاهرٌ في أنّ من ليس عنده إلّاالطين يتيمّم به، ومقتضى إطلاقه عدم اعتبار تحصيل الصَّعيد وإنْ أمكن، فإنّه من المقدّمات الوجوبيّة لا الوجوديّة.
قلت: إنّ الظاهر من قوله عليه السلام: (لا يجد) عدم التمكّن منه، كما عرفت في أوّل هذا المبحث.
ص: 288
المسألة الخامسة: في بيان ما يتعلّق بفاقد الطهورين، والكلام فيها يقع في مقامين:
الأوّل: في انحصار ما يتطهّر به ولو اضطراراً بالاُمور المذكورة، فمع فقدها يكون فاقد الطهورين، من غير فرقٍ بين أن يجد الثّلج أو الماء الجامد أو لا يجدهما.
الثاني: في حكم فاقد الطهورين.
أمّا المقام الأوّل، ففيه أقوال:
القول الأوّل: ما عن أكثر الأصحاب، وهو أنّه إنْ أمكن الاغتسال أو التوضّي بالثّلج أو الماء الجامد، مع جريان الماء على الأعضاء وجب، ويكون مقدّماً على التيمّم بمراتبه، وإلّا فلا أمر باستعماله بوجه.
القول الثاني: ما عن المفيد في «المقنعة»(1)، ومحتمل «المبسوط»(2)و «الوسيلة»(3)، وهو تقديم التيمّم على الاغتسال بالثّلج، وإن حصل مسمّى الغُسل.
القول الثالث: ما في «الحدائق»(4)، ونَسبه إلى كتابي الأخبار، وهو تقديم إمساس نداوة الثّلج، وإنْ لم يحصل مُسمّى الغُسل به على التيمّم بالتراب.
القول الرابع: ما عن الشيخين في بعض كتبهما(5)، وابني حمزة(6) وسعيد(7)،
ص: 289
و «المنتهى »(1)، و «التذكرة»(2)، و «المختلف»(3) وغيرها، وهو وجوب مسح أعضاء الطهارة بندواة الثّلج مطلقاً، غاية الأمر إنْ بلغت النداوة حَدّاً يجري على العضو المغسول، بحيث يُسمّى غُسلاً فهو مقدّمٌ على التيمّم، وإلّا فالتيمّم بالتراب مقدّم عليه.
القول الخامس: وهو ما عن «مصباح» السيّد(4) و «الإصباح»(5)، وظاهر الكتاب(6) من أنّه إنْ فَقَد الوَحَل يتيمّم بالثّلج أو الماء الجامد.
أقول: وعمدة الوجه في الاختلاف، الاختلاف في ما يستفاد من النصوص، فلابدَّ من الرجوع إليها، ومن جملة النصوص المستدلّ بها في المقام، نصوص(7)التشبيه بحال الدهن، بدعوى أنّها تدلّ على عدم اعتبار جريان الماء في الوضوء، فهي من شواهد القول الثالث.
وفيه: ما تقدّم في الجزء الأوّل من هذا الشرح في مبحث الوضوء،(8) من أنّ الجمع بينها وبين ما دلَّ على اعتبار الجريان، يقتضي أن يقال إنّها سيقت لبيان عدم اعتبار الماء الكثير، وأنّه يكفي ما يوجب جريان الماء.
وبعبارة اُخرى: سيقت لبيان أقلّ أفراد مُسمّى الغُسل.
ومنها: النصوص المتقدّمة في المسألة السابقة، من صحيحة رفاعة وغيرها، وظاهرها عدم جواز استعمال الثّلج مع التمكّن من التيمّم بالغبار أو الطين، ومقتضى7.
ص: 290
إطلاقها عدم الفرق بين ما إذا بَلَغت النّدواة حَدّاً تجري على العضو أم لا، فهي تدلّ على القول الثاني.
وفيه: أنّه في صورة الجريان، وإنْ سُلّم عدم شمول إطلاق الكتاب والسُنّة الآمرين باستعمال الماء له، بدعوى أنّ المتبادر منهما إرادة استعمال ما كان ماءً حال الاستعمال، لا ما انقلب إليه بالاستعمال، إلّاأنّ جملةً من النصوص ظاهرة في أنّه عند التمكّن من الوضوء أو الاغتسال حينئذٍ، يتعيّن ذلك، فيقيّد بها إطلاق هذه النصوص، ويُحمل على صورة لزوم الحَرَج من استعماله كما هو الغالب.
ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن رجلٍ أجنَبَ في سفرٍ ولم يجد إلّاالثّلج أو ماءً جامداً؟
فقال عليه السلام: هو بمنزلة الضرورة، يتيمّم ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي تُوبِقُ دينه»(1).
واستدلّ به للقول الخامس، بدعوى أنّ المراد من قوله: (ولم يجد) أنّه لم يجد ماءً ولا تراباً، وأنّ قوله عليه السلام: (يتيمّم) ظاهرٌ في إرادة التيمّم بالثّلج.
واستدلّ به أيضاً للقول الثاني، بدعوى أنّ المراد من: (لم يجد) عدم وجدان الماء والتّراب، ومن (يتيمّم) مسح جميع الأعضاء، جرى الماء أم لم يجرِ.
ولكن يرد عليهما: أنّ الظاهر - ولا أقلّ من المحتمل - أنّ المراد من قوله: (لم يجد) عدم وجدان الماء، واُريد بالتيمّم معناه المصطلح، وهو قصد الصَّعيد، ولا ينافيه قوله عليه السلام: (ولا أرى... الخ)، لإمكان أن يكون ذلك لفوات الطهارة المائيّة، أو الطهارة من الخَبَث.
ومنها: خبره الآخر عنه عليه السلام: «عن الرَّجل يُجنب في السّفر لا يجد إلّاالثّلج ؟4.
ص: 291
قال عليه السلام: يغتسل بالثّلج أو ماء النهر»(1).
وقد استدلّ به في محكيّ «المختلف»(2) للقول الرابع.
وفيه: أنّ قوله عليه السلام: (يغتسل بالثّلج) لا يدلّ على الإجتزاء بالمماسّة، بل ظاهره اعتبار الجريان لأخذه في مفهوم الغُسل.
ودعوى: أنّ الاغتسال إذا عُلّق بشيء، اقتضى جريان ذلك الشيء على العضو، أمّا حقيقة الماء فنمنع ذلك، وعليه فظاهر قوله عليه السلام: (يغتسل... الخ)، لزوم إجراء الثّلج على الأعضاء.
مندفعة: بأنّ الغُسل حقيقة في الغَسل بالماء لا بكلّ شيء.
وأمّا الاستدلال به للقول الثاني، فهو يتوقّف على إرادة عدم وجدان ما يتطهّر به مطلقاً، من قوله: (لا يجد إلّاالثّلج) وهو محلُّ نظرٍ بل منع، إذ الظاهر منه عدم وجدان الماء.
ومنها: خبر معاوية بن شُريح: «سأل رجلٌ أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده، فقال:
يصيبنا الدّمق والثّلج، ونريد ان نتوضّأ ولا نجد إلّاماءً جامداً، فكيف أتوضّأ، أدلكُ به جلدي ؟ قال عليه السلام نعم»(3).
وقد استدلّ به في «الحدائق»(4) للقول الثالث.
وفيه: أنّ محط السؤال والجواب، هو قيام الماء الجامد مقام الماء المطلق، وأنّه أيضاً يُستعمل في الوضوء، فيدلّ على عدم اعتبار كون المستعمل ماءٌ حين الاستعمال، ويكفي ما لو انقلب إليه بالاستعمال. وأمّا سائر الشروط المعتبرة في0.
ص: 292
الوضوء، فهذا الخبر ساكتٌ عنها، فيرجع فيها إلى ما دلَّ على اعتبارها في الوضوء، ومنها إجراء الماء، مع أنّه لو سُلّم إطلاقه وشموله لصورة عدم الجريان، فيقيّد بما دلَّ على اعتباره في الوضوء مطلقاً.
ومنها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام، قال:
«سألته عن الرجل الجُنُب أو على غير وضوءٍ ، لا يكون معه ماءٌ ، وهو يصيبُ ثلجاً وصعيداً، أيّهما أفضل: أيتيمّم أم يمسح بالثّلج وجهه ؟
قال عليه السلام: الثّلج إذا بلَّ رأسه وجسده أفضل، فإنْ لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمّم»(1).
ونحوه خبره الآخر(2).
واستدلّ بهما أيضاً للقول الثالث.
وفيه: أنّ مقتضى إطلاق قوله عليه السلام: (إذا بلَّ رأسه... الخ) وإنْ كان ذلك، إلّاأنّه يقيّد إطلاقه بقوله عليه السلام في ذيلهما: (فإنْ لم يقدِر على أن يغتسل... الخ)، لأخذ الجريان في مفهوم الاغتسال.
فإنْ قلت: إنّ الظاهر من صدره التخيير بين التيمّم والغُسل أو الوضوء، فلو كان المراد ما ذُكرت لما كان وجهٌ للتخيير.
قلت أوّلاً: إنّه يحتمل إرادة التعيين من الأفضليّة، كما يشهد له قوله في الذيل:
(فإنْ لم يقدر على أن يغتسل... الخ).
وثانياً: أنّه يمكن القول بالتخيير، من جهة غلبة كون الوضوء أو الغَسل في الفرض حَرَجيّاً. وقد عرفت ثبوت التخيير في موارد الحَرَج.0.
ص: 293
فتحصّل: أنّه لا يستفاد من هذه النصوص شيءٌ سوى الأمر بالوضوء أو الغُسل بالثّلج، إذا بلغت النّداوة حَدّاً تجري على العضو المغسول، بحيث يُسمّى غُسلاً. وهو مقدّم على التيمّم.
أقول: ثمّ إنّه قد استدلّ للقول الرابع، بقاعدة الميسور.
وفيه أوّلاً: أنّها لو ثبتت كان مقتضاها ما اختاره صاحب «الحدائق» كما لايخفى .
وثانياً: أنّها غير ثابتة بنفسها كما أشرنا إليه غير مرّة.
وثالثاً: لو سَلّمنا ثبوتها، فإنّما هو في الأجزاء الخارجيّة دون التحليليّة، فلا يصحّ أن يقال إنّه عند التمكّن كان يجبُ ، بل مواضع الوضوء بالماء وإجرائه عليها، فلو تعسّر الثاني لا يسقط وجوب الأوّل.
أقول: واستدلّ للقائلين بالتيمّم بالثّلج:
1 - بالاحتياط.
2 - وباستصحاب بقاء التكليف بالصلاة.
3 - وبخبر: «الصّلاة لا تَدَعُ بحال»(1).
ويرد على الجميع: أنّ أصالة البراءة عن وجوب التيمّم به، تكون حاكمة على قاعدة الاحتياط والاستصحاب، والخبر لا يقتضي التيمّم بالثّلج، كما لا يقتضي التيمّم بالمطعوم عند فقده.
وبالجملة: فتحصّل من مجموع ما ذكرناه، أنّ للتيمّم ثلاث مراتب، ومع فَقْد الجميع يكون فاقد الطهورين
***).
ص: 294
أمّا المقام الثاني: ففيه أقوال:
أحدها: وجوب الأداء فاقداً، والقضاء مع أحد الطهورين إنْ تمكّن.
وهذا القول نسبه في «الشرائع»(1) إلى القيل، وفي «الجواهر»(2): لكنّا لم نعرف قائله، وعن بعضٍ نسبته إلى «المبسوط»(3) و «النهاية».
ثانيها: وجوب الأداء خاصّة، وهو المنسوب إلى جدّ السيّد(4)، ومالَ إليه المُحدِّث الجزائري.
ثالثها: عدم وجوب الأداء ووجوب القضاء، وهو المشهور بين الأصحاب، بل في «المدارك»(5): أمّا سقوط الأداء فهو مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفاًصريحاً.
وقريبٌ منه ما عن «جامع المقاصد»(6) و «الروض»(7).
رابعها: عدم وجوب الأداء والقضاء عليه، و هوالذى اختاره المحقّق في «المعتبر»(8)و «الشرائع»(9)، والمصنّف في جملةٍ من كتبه(10)، والمحقّق الثاني(11) وغيرهم.
ص: 295
أقول: فالكلام يقع في موردين:
الأوّل: في وجوب الأداء وعدمه.
الثاني: في ثبوت القضاء وسقوطه.
أمّا المورد الأوّل: فيشهد لسقوط الأداء، قوله عليه السلام في صحيح زرارة:
«لا صلاة إلّابطهور»(1)، فإنّه يدلّ على أنّ الصّلاة لا تتحقّق بدون الطهارة، ومقتضاه العجز عن الصّلاة في هذا المورد، فلا أمر بها.
واستدلّ لوجوب الأداء:
1 - بأنّ الصّلاة لا تسقط بحال للإجماع المحقّق.
2 - ولقول الإمام الباقر عليه السلام، في صحيح زرارة، الوارد في النفساء: «ولا تَدَعُ الصّلاة على حال»(2).
وقريبٌ منه مافي مرسل يونس الطويل، فإنّ فيه: «فإنّها لا تَدَع الصّلاة بحالٍ »(3).
3 - وبقاعدة الميسور.
4 - وبأنّ الطهارة من شروط الصحّة لا الوجوب، فهي كغيرها من الساتر والقبلة وباقي شروط الصحّة إنّما تجب مع إمكانها، وإلّا لكانت الصّلاة من قبيل الواجب المقيّد كالحجّ ، والأصوليّون على خلافه.
5 - وباستصحاب بقاء وجوب ذات الصّلاة.م.
ص: 296
أقول: وفي الجميع نظر، إذ ما دلَّ على عدم سقوط الصّلاة بحال، لا يصلحُ أن يكون دليلاً لوجوب الصّلاة في المقام، لا لما في «الجواهر»(1) من أنّه قد يراد ما يعمّ القضاء، فإنّه خلاف الظاهر، ولا لما ذكره بعض الأعاظم(2) من اختصاص الخبرين بموردهما، فإنّه إنْ تمَّ فيهما لا يتمّ في الإجماع، مع أنّه لا يتمّ فيهما أيضاً للعلم بعدم الخصوصيّة، كما يشهد له استدلال الفقهاء بهما في غير موردهما، بل لأنّ صحيح زرارة حاكمٌ على هذه الأدلّة، فإنّه يدلّ على نفي حقيقة الصّلاة بدون الطهارة.
وأمّا قاعدة الميسور: فقد مرَّ غير مرّةٍ أنّها غير ثابتة.
وأمّا الثالث فيرد عليه: ان مقتضى القاعدة الأوّليّة سقوط الواجب بتعذّر كلّ قيدٍ من قيوده، إلّاأنّه لأجل الدليل غير الشامل للمقام، حكمنا بعدم سقوط الصّلاة بتعذّر بعض أجزائها وشروطها غير الطهارة.
وأمّا مع تعذّرها، فوجوب الصّلاة ساقطٌ، وليس لازم ذلك كون الطهارة من شروط الوجوب، فإنّ مقتضى دليل اعتبارها بطلان الصّلاة بدونها، والباطلُ لا يُؤمر به، والصحيح خارج عن تحت القدرة.
وأمّا الاستصحاب فيرد عليه أوّلاً: أنّه لو جرى فإنّما هو فيما إذا طرأ الفقدان، ولا مورد له فيما إذا كان مقارناً لأوّل الوقت لعدم اليقين بالثبوت حينئذٍ.
وما عن المحقّق النائيني رحمه الله(3): من عدم الفرق بين الموردين بدعوى أنّ جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة لا يتوقّف على فعليّة الموضوع خارجاً.
غير تامّ : إذا منشأ الشكّ في بقاء الحكم:).
ص: 297
إنْ كان هو احتمال النسخ، فيجري استصحاب عدمه، وبقاء الحكم بلا دخلٍ للموضوع الخارجي فيه.
وإنْ كان هو الشكّ في حدّ الحكم الفعلي، الموجب للشكّ في سعة الحكم وضيقه، كما إذا شكّ في أنّ حرمة وطء الحائض هل ترتفع بارتفاع الحيض أم لا ترتفع إلّابالاغتسال، فبناءً على جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة، لا يتوقّف جريانه على فعليّة الموضوع، بل المُفتي يفرض المرأة حائضاً ثبتت حرمة وطئها، وشكّ في ارتفاعها بالانقطاع، فيُجري الاستصحاب ويفتي ببقاء الحرمة إلى حين الاغتسال.
وفي هذين الموردين يجري الاستصحاب من جهة تماميّة اركان الاستصحاب، وهو العلم بالحدوث والشكّ في البقاء، وهذا بخلاف المقام ممّا لا علم بالحدوث، فإنّ جعل وجوب الصّلاة لهذا الشخص غير معلوم، وثبوت وجوبها لغيره أو له في غير هذه الحالة، لا يصحّح جريان الاستصحاب، كما لا يخفى، وتمام الكلام في محلّه.
وثانياً:
1 - إنّه إنْ اُريد بالاستصحاب، استصحاب التكليف الجامع بين الضمني والاستقلالي، الثابت للأجزاء غير القيد المتعذّر.
فيرد عليه: أنّه من القسم الثالث من استصحاب الكلّي، ولا نقول به.
2 - وإنْ اُريد به استصحاب التكليف الاستقلالي الثابت للمركّب قبل التعذّر، إذا لم يكن المتعذّر من القيود المقومة، بأنْ يُقال إنّ المركّب الفاقد للقيد المتعذّر الذي هو متّحدٌ مع الواجد له عرفاً، كان مأموراً به قبل التعذّر فيستصحب بقائه، أو استصحاب التكليف الضمني المتعلّق بكلّ واحدٍ من الأجزاء قبل التعذّر، بدعوى أنّه بتعلّق التكليف بالمركّب ينبسط الأمر على الأجزاء بالأمر، فبعد ارتفاع تعلّقه،
ص: 298
وانبساطه عن الجزء المتعذّر يشكّ فى ارتفاع انبساطه علي سائر الأجزاء فيستصحب.
فيرد عليه: ما حقّقناه في محلّه من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، إذا كان الشكّ فيها من جهة الجهل بكيفيّة الجعل، لكونه محكوماً لاستصحاب عدم الجعل.
وثالثاً: أنّ قوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابطهور»، يرفع احتمال الوجوب، فإنّ الظاهر منه اعتبار الطهارة في جميع مراتب الصّلاة.
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأقوى سقوط الأداء.
وأمّا المورد الثاني: فقد استدلّ لوجوب القضاء:
1 - بعموم(1) ما دلَّ على قضاء ما فات، لكفاية وجود الملاك في صدق الفوت، وهو حاصلٌ في المقام.
2 - وبأنّ المستفاد من مجموع الأخبار الواردة في القضاء، أنّ وجوب قضاء الفرائض على من لم يأت بها في وقتها، كان من الاُمور المعهودة لديهم، بل يستفاد منها أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة في أوقاتها من قبيل تعدّد المطلوب.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّه في موارد ثبوت التكليف وعدم امتثاله، يصدق الفوت، كما أنّه يصدق في صورة وجود الملاك الملزم، وإنْ لم يثبت التكليف، كالنائم والسّاهي المستَكشف من النصوص الدالّة على وجوب القضاء عليهما.
وأمّا إذا لم يكن التكليف ثابتاً، ولم يَحرز وجود الملاك كما في المقام، فإنّه يحتمل أنْ لا تكون الصّلاة للمُحْدِث غير المتمكّن من تحصيل الطهارة ذاتِ ملاكٍ ملزم، بل تكون كالصلاة للحائض، فلا يكون صدق الفوت على الترك حينئذٍ معلوماً، فلا).
ص: 299
وجه للتمسّك بتلك الأدلّة، إلّابناءً على جواز التمسّك بالعام في الشبهات الموضوعيّة، وهو كما ترى .
وقياس فاقد الطهورين على النّائم والسّاهي، قياسٌ مع الفارق، لورود النص فيهما دونه.
وأمّا الثاني: فلأنّ المستفاد منها وإنْ كان ما ذُكر من أنّ وجوب القضاء كان من الاُمور المعهودة لديهم، لكن لا يستفاد منها أنّ موضوعه ترك الصّلاة في وقتها مطلقاً، وإنْ لم يكن تكليفٌ بها، ولم يَحرز وجود الملاك فيها. وعليه، فتلك المغروسيّة والمعهوديّة لا تكفي في المقام.
وأمّا استفادة أنّ التكليف بالصلاة في أوقاتها، من قبيل تعدّد المطلوب، فعُهدة إثباتها على مدّعيها.
فالأظهر عدم وجوب القضاء عليه للأصل.
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأقوى هو القول الرابع.
تتميم: صرّح غير واحدٍ بوجوب تحصيل ما يتيمّم به إذا لم يكن عنده، وهو في الجملة ممّا لا كلام فيه، لأنّ وجوب الطهارة ليس مشروطاً بوجود ما تحصل به عنده، كي لا يجبُ تحصيله، بل وجوبها مطلق، ومقتضاه وجوب تحصيله.
إنّما الكلام فيما لو كان الشراء مستلزماً لبذل مالٍ مُعتدّ به، فقد استدلّ لوجوبه في هذا الفرض، إذا لم يكن مُضرّاً بحاله، مع أنّ مقتضى عموم ما دلَّ على نفي الضَّرر عدم وجوبه:
1 - بأنّ المستفاد من قوله عليه السلام في بعض تلك النصوص: (وما يشتري به مال كثير)، أهميّة الطهارة مطلقاً بالنسبة إلى الضَّرر، لا خصوص المائيّة منها.
2 - وبإطلاق أدلّة التنزيل.
ص: 300
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّه لا إطلاق له من جهة المائيّة والترابيّة، واستفادة حكم الترابيّة منه بتنقيح المناط كما ترى .
وأمّا الثاني: فلعدم كون تلك النصوص في مقام بيان هذه الاُمور.
والحقّ في المقام: ما ذكرناه في من ليس عنده الماء، ولكن يتمكّن من تحصيله بالشراء:
من أنّ الشراء إنْ كان بثمن المثل، فيجبُ ولا يشمله حديث (لا ضرر).
وإنْ كان بأكثر منه، فلا يجب.
فتأمّل وراجع ما ذكرناه في تلك المسألة.
***
ص: 301
المسألة السادسة: في شروط ما يتيمّم به: وهي اُمور.
الأمر الأوّل: المنسوب إلى الُمحدِّثين: اعتبار اليبوسة مع الإمكان.
وعن جماعةٍ : التصريح بالعدم.
وعن «التذكرة»(1): نسبته إلى علمائنا.
وعن «كشف اللّثام»(2): دعوى الاتّفاق عليه.
واستدلّ للأوّل: بما في صحيح رفاعة المتقدّم: «فانظر أجفّ موضعٍ تجده فتيمّم به». بدعوى أنّ ظاهره تقديم الأجفّ على غيره، وحيثُ أنّه يدلّ على جواز التيمّم بالأرض المبتلّة، فهو يدلّ على اعتبار الجفاف مع الإمكان خاصّة.
وبذلك يظهر صحّة الاستدلال به على جواز التيمّم بالأرض النديّة.
وأورد عليه بعض الأعاظم(3): بأنّه يحمل بقرينة قوله عليه السلام: «مبتلّةٌ ليس فيها ماءٌ ولا تراب»، على الطين الذي هو غير ما نحن فيه.
وفيه: أنّه من جهة جعل الطين في نفس هذا الصحيح المرتبة الثالثة لما يتيمّم به، لا مورد لهذا الحمل، كما لا يخفى .
فإنْ قلت: إنّه يدلّ على اعتبار الأجفيّة في الأرض المبتلّة لا مطلقاً، فلا يدلّ على اعتبار الجفاف بقولٍ مطلق.
ص: 302
قلت: إنّه يدلّ على تقديم الجاف على غيره بالأولويّة.
وبالجملة: فالأظهر - بحسب الأدلّة - اعتبار الجفاف مع التمكّن منه، إلّاأنّه لأجل عدم إفتاء الأساطين به يتعيّن التوقّف في الفتوى، فالأحوط لزوماً مراعاتها.
الأمر الثاني: المشهور بين الأصحاب اعتبار أن يكون طاهراً.
وعن المصنّف في «المنتهى »(1): نفي الخلاف فيه.
وعن «الناصريّات»(2)، و «الغُنية»(3)، و «التذكرة»(4)، و «جامع المقاصد»(5)وغيرها: دعوى الإجماع عليه.
واستدلّ له:
1 - بالقاعدة المرتكزة من أنّ فاقد الشيء لا يُعطيه.
2 - وبانصراف الأدلّة إليه، ولو بقرينة القاعدة، إذ هي توجب دلالة الكلام على اعتبار الطهارة في المطهّر، كما توجب دلالته على نجاسة المنجّس.
3 - وبأنّ النجس لا يعقل أن يكون مطهّراً.
4 - وبقوله تعالى: صَعِيداً طَيِّباً (6) لدخول الطهارة في مفهوم الطيب.
وإنْ شئت قلت: إنّ المراد (بالطيّب) هنا هو الطاهر، كما عن غير واحدٍ تفسيره به، بل عن المحقّق الثاني(7) نسبته إلى المفسّرين.
ص: 303
ويؤيّده:
1 - ما عن «معاني الأخبار» المتقدّم من تفسير (الطيّب) بالمكان الذي ينحدر عنه الماء.
2 - وبقوله عليه السلام في الأخبار المستفيضة: «جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجداً وطهوراً»(1).
لأنّ الطهور هو الطاهر المطهر، فإذا عرضتها النجاسة لا تُوصف بالطهوريّة.
3 - وبإطلاق أدلّة التنزيل(2) بضميمة ما دلَّ على اعتبار الطهارة في الماء الذي يتطهّر به.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا القاعدة: - فمضافاً إلى أنّه لا مورد للرجوع إلى المرتكزات العرفيّة في مثل هذا الحكم التعبّدي المحض، الذي لا سبيل للعرف إلى فهم ملاكه وحكمته، وليس ممّا عليه بنائهم، كما يشهد له أنّ الماء والتّراب لا يكونان طاهرين من الحَدَث، ومع ذلك يعطيان الطهارة منه - أنّها لو تمّت فلا ربط لها بالمقام، إذ مفاد تلك القاعدة عدم كون فاقد الشيء معطياً له، لا شيء آخر، وفي المقام الأرض تكون فاقدة للطهارة الخَبَثيّة، فلا تدلّ القاعدة على عدم كونها معطية للطهارة الحَدَثية.
وأمّا الثاني: فيظهر ما فيه ممّا ذكرناه في الأوّل، إذ لو سُلّم الانصراف بدواً بملاحظة القاعدة، لا ريب في كونه زائلاً بأدنى تأمّلٍ والتفات، ومثل هذا الانصراف لا يصلح أن يكون مقيّداً للإطلاق.
وأمّا الثالث: فإنْ رجع إلى الأوّل فيردّ عليه بمثل ما تقدّم، وإنْ اُريد به غيره، فهو غير تامٍّ ، لعدم حكم العقل بامتناع مطهّريّة النجس، بل الماء القليل يكون).
ص: 304
مطهّراً، مع أنّه في آن مطهريّته يكون محكوماً بالنجاسة بالملاقاة مع النجس.
وأمّا الرابع: فلأنّ معنى (الطيّب) لغةً على ما صرّح به اللّغويون(1) هو ضدّ الخبيث، وما يكون خيره كثيراً، والحلال، وما يُنبت، ومنه: وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ (2). ولعلّ الجامع بين هذه المعاني، هو الثاني كما لا يخفى .
وعلى أيّ حال، ليست الطهارة إحدى معانيه لغةً ، وتفسير المفسّرين - بعد احتمال أن يكون تفسيرهم لأجل تسالمهم على هذا الحكم - لا يفيد بنحوٍ يُقدّم على قول اللّغوين.
أمّا المرويّ عن معاني الأخبار فهو لا يدلّ عليه، إذ لا تلازم بين كون المحلّ ممّا ينحدر عنه الماء، وكونه طاهراً.
وأمّا الخامس: - فمضافاً إلى ما تقدّم في أوّل الجزء الأوّل من هذا الشرح من أنّ كون الطهور بمعنى الطاهر المطهّر، محلّ تأمّلٍ ، بل منع - أنّه لو كان معناه ذلك، لا يدلّ النبوي إلّاعلى ثبوت هذين الحكمين له، وأمّا كون أحدهما شرطاً للآخر فهو أجنبيٌ عن بيانه.
وأمّا السادس: فلأنّه لا يستفاد من أخبار التيمّم مساواته للطهارة المائيّة في جميع الأحكام إلّاما خرج بالدليل، حتّى مثل هذه الشروط.
وبالجملة: فالعمدة في هذاالحكم هو الإجماع القطعي، ويؤيّده إطلاق أدلّة التنزيل، وما عن المفسّرين من تفسير الطيب بالطهارة، فلا ينبغي التوقّف في الحكم، فتأمّل.
***8.
ص: 305
الأمر الثالث: صرّح غير واحدٍ باعتبار إباحة ما يتيمّم به، وإباحة مكانه، والفضاء الذي يتيمّم فيه، ومكان المتيمّم، فهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: تعتبر إباحة ما يتيمّم به، كما هو المشهور، بل عن المصنّف في «التذكرة»(1): دعوى الإجماع عليه، وهو ممّا لا إشكال فيه، بناءً على كون الضّرب مأخوذاً في ماهيّة التيمّم، فإنّه حينئذٍ يكون الضّرب تصرّفاً في مال الغير، فينطبق عليه عنوان الغصبيّة، فيتّحد المأمور به والمنهيّ عنه وجوداً، ولا مناص في أمثال المقام من القول بالامتناع. وأمّا بناءً على كون الضّرب من مقدّماته التوصّليّة، فقد يشكل في بطلان التيمّم.
أقول: تارةً ينحصر ما يتيمّم به به، واُخرى لا ينحصر:
أمّا في الصورة الأُولى : فيقع التزاحم بين وجوب التيمّم - وهو إمرار اليد المضروبة على الأرض على الجبهة واليدين - وحُرمة الضّرب، فبما أنّ من مرجّحات باب التزاحم، كون أحدهما ممّا له البدل، وأيضاً من مرجّحات ذلك الباب تقدّم أحد المتزاحمين على الآخر، فيقدّم في المقام ما دلَّ على حرمة الغصب، فيسقط الأمر بالتيمّم، وينتقل الفرض إلى المرتبة اللّاحقة.
نعم، لو خالف النهي، فضَرَب يديه على الأرض، بناءً على عدم اعتبار نيّة القُربة فيه على فرض كونه من المقدّمات التوصّليّة للتيمّم، يصحّ تيمّمه، بل يجبُ حينئذٍ، للقدرة عليه بعده عقلاً وشرعاً كما لا يخفى .
وبذلك يظهر وجه الصحّة، ووجوب التيمّم في صورة عدم الانحصار.
المسألة الثانية: تعتبر إباحة مكانه كما صرّح به جماعةٌ ، وملخّص القول فيها:
ص: 306
إنّ الضّرب عليه حينئذٍ:
تارةً : يكون موجباً للتصرّف في ذلك المكان عرفاً.
واُخرى: لا يكون، كما لو كان التّراب في ظرف عميق مملوءٍ منه.
أمّا الثاني: فلا كلام فيه، فإنّ الضّرب حينئذٍ لا يكون حراماً.
وأمّا على الأوّل: فبما أنّ الضّرب حينئذٍ عملٌ واحدٌ ينطبق عليه كلا العنوانين:
العنوان المأمور به وهو التيمّم، والعنوان المنهيّ عنه وهو التصرّف في مال الغير، فيكون حكمه حينئذٍ حكم ما لو كان نفس التّراب مغصوباً، فيجري فيه ما ذكرناه في تلك المسألة.
المسألة الثالثة: صرّح بعضهم باعتبار إباحة الفضاء الذي يتيمّم فيه.
واستدلّ له: بأنّ غصب الفضاء موجبٌ لحرمة حركة اليد المعتبرة في مَسح الأعضاء، لأنّها تصرّف فيه.
وفيه أوّلاً: إنّ هذا النحو من التصرّف في مال الغير، لا دليل على حرمته، لانصراف الأدلّة عنه، لأنّه لا يعدّ عرفاً تصرّفاً في مال الغير.
وثانياً: إنّه لو سُلّم ذلك، يكون المحرم من مقدّمات التيمّم لا نفسه، كما لا يخفى ، فيدخل في باب التزاحم.
وعليه، فالمتّجه التفصيل بين صورة الانحصار فيبطل، وعدمه فيصحّ كما تقدّم.
وبذلك يظهر حكم المسألة الرابعة، وهي ما لو كان مكان المتيمّم غصباً، فإنّ الأظهر هو التفصيل:
بين صورة إمكان التيمّم من دون أن يتصرّف في ذلك المكان فيصحّ ، ولو جلس في ذلك المكان وتيمّم.
وبين صورة عدم إمكانه فيبطل، لسقوط أمره.
ص: 307
ولا يجري الترتّب في أمثال المقام ممّا هو مشروطٌ بالقدرة شرعاً، كما حقّقناه في الاُصول.(1)
***
الفرع الأوّل: ذكر بعض المحقّقين(2): أنّه لا فرق في بطلان التيمّم على التّراب المغصوب، بناءً على دخل الضّرب في ماهيّة التيمّم، بين صورتي العلم والعمد، والجهل أو النسيان.
واستدلّ له: بأنّه على القول بالامتناع، وتقديم جانب النهي، يخرج المجمع عن حيّز الأمر، ويكون متمحّضاً في الحرمة، ومعه لا وجه للاجتزاء به.
أقول: وبه يظهر ضعف ما ذَكره بعض المعاصرين(3) وجهاً للصحّة في صورتي الجهل والنسيان، من أنّهما عُذران عقلاً في جواز مخالفة الحرمة، فلا يترتّب عليها عقابٌ ، ومع العُذر لا يكون مُبعّداً، فلا مانع من كونه مقرّباً، لأنّ المانع عن كونه مبعّداً، وجه الضعف أنّ المانع هو تمحّض المجمع في كونه منهيّاً عنه، غير مأمورٍ به، وهو موجودٌ في الصورتين.
ولكن ما ذكر إنّما يتمّ في صورة الجهل غير المانع عن فعليّة الحكم الواقعي، ولا يتمّ في صورة النسيان، إذ في تلك الصورة تكون الحرمة مرتفعة بحديث الرفع، وعليه فلا مانع من كونه مأموراً به، لأنّ المانع هو كونه منهيّاً عنه، فبعد ارتفاعه يرتفع اعتبار كونه مباحاً.
ص: 308
ودعوى: أنّ النسيان إنّما يوجبُ سقوط الحرمة، وأمّا الملاك المقتضي للنهي فهو باقٍ على حاله، فلا محالة يقع التنافي بينه وبين ملاك الأمر، وحيث أنّ المفروض غلبة ملاك النهي، فلا يمكن التقرّب بما يشتمل عليه.
مندفعة: بأنّ الملاك الذي لا يؤثّر في المبغوضيّة الفعليّة، ومعه يكون الفعل مورداً للترخيص، لا يمكن أن يكون مانعاً عن تعلّق الأمر بالفعل.
مضافاً إلى ما ذكرناه في محلّه من أنّه بعد سقوط التكليف لا طريق لنا إلى كشف وجود الملاك.
فتحصّل: أنّ الأقوى هي الصحّة في صورة النسيان، وتلحق بها صورتي الاكراه والاضطرار.
الفرع الثاني: إذا كان عنده ترابان أحدهما نجسٌ ، يتيمّم بهما، للعلم الإجمالي بوجوب التيمّم بالطاهر منهما.
وقيل: لا يجب، بل يتركهما، وينتقل الفرض إلى المرتبة اللّاحقة.
واستدلّ له: بأنّ الوضوء بالمائين المعلوم نجاسة أحدهما ممنوعٌ ، كما في الخبر(1)، فمقتضى إطلاق أدلّة التنزيل، ثبوت هذا الحكم للتيمّم بالترابين المشتبهين.
واُجيب عنه: بالفرق بينهما، حيث أنّ الوضوء بالمشتبهين يستلزمُ نجاسة البدن، بخلاف التيمّم بهما.
وفيه: ما ذكرناه في محلّه من عدم الابتلاء بها، لتعارض استصحاب النجاسة الثابتة للأعضاء حين الملاقاة مع النجس منهما، مع استصحاب الطهارة الثابتة لها حين التوضّي بالطاهر، إذا غَسل مواضع الوضوء بعد التوضّي بالأوّل بالماء الثاني،).
ص: 309
فيتساقطان، ويرجع إلى أصالة الطهارة، ولأجل ذلك بنينا على أنّ مقتضى القاعدة هو الوضوء بهما، وإنّما منعنا عنه لمكان النصّ ، وبما أنّه مختصٌّ بالوضوء بالقليل، ففيما إذا كان المائان كُرّين، أو كان أحدهما كُرّاً، جاز له أن يتوضّأ بهما.
فالحقّ في الجواب أن يقال: إنّ أدلّة التنزيل لا نظر لها إلى مثل هذا الحكم، لا سيّما مع كونه مترتّباً على بعض أقسام الوضوء، وهو الوضوء بالماء القليل دون الجميع، كما لا يخفى .
قال المحقّق النائيني رحمه الله(1): إنّه مع التمكّن من التيمّم بغيرهما، لا يجوز التيمّم بهما، ومع عدم الإمكان يجوز ذلك.
أقول: وهو مبنيٌّ على عدم جواز الامتثال الإجمالي، مع التمكّن من الامتثال التفصيلي. وحيث أنّ المبنى فاسدٌ - كما أشرنا إليه في الجزء الأوّل من هذا الشرح، فيما لو اشتبه الثوب النّجس بالطاهر - فالأظهر هو جواز التيمّم بهما حتّى مع التمكّن من التيمّم بغيرهما.
الفرع الثالث: إذا اشتبه المباح بالمغصوب اجتُنِبَ عنهما، ومع الانحصار ينتقل الفرض إلى المرتبة اللّاحقة، للعلم الإجمالي بوجوب الاجتناب عن أحدهما.
وإنْ شئت قلت: إنّ التيمّم بالأرض إنّما يجبُ عند الوجدان، فلو كان فاقداً لها، ينتقل الفرض إلى المرتبة اللّاحقة، والفقدان كما يتحقّق فيما إذا لم يكن المكلّف متمكّناً من استعمالها وجداناً لعدم وجدانها، أو شرعاً لحرمته، فإنّه كذلك يتحقّق فيما إذا كان الاستعمال ممنوعاً بحكم العقل لاحتمال الضَّرر، وهو العقاب كما في المقام، فإنّه لأجل العلم الإجمالي بغصبيّة أحدهما لا يجري الأصل في شيء منهما، فكلٌّ ً.
ص: 310
منهما موردٌ لقاعدة وجوب دفع الضَّرر المحتمل.
الفرع الرابع: إذا كان عنده ماء وتراب، وعلم بنجاسة أحدهما، وكان الطهور منحصراً بهما:
فعن المحقّق النائيني(1): وجوب الوضوء بالماء والاكتفاء به، لعدم تنجيز هذا العلم الإجمالي، وجريان أصالة الطهارة في الماء بلا معارض، بدعوى أنّ تنجيز العلم الإجمالي متوقّف على كونه منشأً للعلم بالتكليف الفعلي، على كلّ تقدير، وهذا غيرُ ثابتٍ في المقام، إذ على تقدير كون النجس هو التّراب لا يترتّب عليه شيء، لأنّ عدم جواز التيمّم حينئذٍ من جهة التمكّن من الوضوء بالماء الطاهر لا لنجاسة التّراب.
وإنْ شئت قلتَ : إنّ النجاسة المعلومة لم تؤثّر في عدم جواز التيمّم على كلّ تقدير:
أمّا على تقدير كون النجس هو الماء فواضحٌ .
وأمّا على تقدير كونه هو التّراب، فلأنّ عدم جواز التيمّم حينئذٍ مستندٌ إلى وجود الماء الطاهر، لا إلى نجاسة التّراب، وعلى ذلك فتجري أصالة الطهارة في الماء بلا معارض، وبها يرتفع موضوع جواز التيمّم، وهو عدم التمكّن من الماء.
وفيه: أنّه إنّما يتمّ إذا لم يكن للتراب أثرٌ آخر غير جواز التيمّم، كما إذا كان التّراب في مكانٍ مرتفع لا يمكن السّجود عليه، أو كان مملوكاً للغير لم يأذن في ذلك، ولا يتمّ فيما كان الابتلاء به من غير تلك الجهة أيضاً، وكان له أثرٌ آخر كالسجود عليه، فإنّه حينئذٍ تتعارض أصالة الطهارة في الماء مع أصالة الطهارة في التّرابة.
ص: 311
فتتساقطان، وعليه فيجب عليه الجمع بين الوضوء والتيمّم.
أقول: ومنه يظهر حكم ما لو علم بغصبيّة أحدهما، فإنّه إنْ لم يكن للتراب أثرٌ سوى جواز التيمّم به، فالعلم الإجمالي بغصبيّة أحدهما لا يوجب عدم جريان أصالة الحِلّ في الماء، فتجري ويترتّب عليها جواز الوضوء ووجوبه به.
لا يقال: إنّ الماء موردٌ لأصالة الاحتياط لا الحِلّ ، بناءً على ما اشتهر من أصالة الاحتياط في الأبواب الثلاثة التي منها الأموال.
فإنّه يقال: إنّها غير ثابتة بنحو الكليّة الشاملة لما إذا لم يكن أصلٌ موضوعي مقتض للحرمة وللاحتياط، وإنْ كان له أثرٌ آخر غير جواز التيمّم يجري الأصل في كلٍّ منهما في نفسه، ويتعارضان فيتساقطان، ويُحكم بكون المكلّف فاقد للطهورين من جهة أنّ كُلّاً من الماء والتّراب ممنوعُ الاستعمال بحكم العقل، لاحتمال الضَّرر وهو العقاب.
ووجه الفرق بين ما لو عَلم غصبيّة أحدهما، وبين ما لو علم بنجاسته - حيث حكمنا في الفرض الأوّل بكونه فاقد الطهورين، وفي الثاني بوجوب الجمع بين الوضوء والتيمّم - أنّه في الأوّل يحرم التصرّف في المغصوب، وفي الثاني لا يحرم ذلك تكليفاً كما لا يخفى .
وأيضاً: فيما علم نجاسة أحدهما، وكانت وظيفته الجمع بين الوضوء والتيمّم، وجب عليه تقديم التيمّم، إذ لو قدّم الوضوء عَلم بعدم مشروعيّة التيمّم، بناءً على اعتبار طهارة الأعضاء في التيمّم لنجاسة التّراب، أو لنجاسة أعضائه.
لا يقال: إنّ شرطيّة طهارة الأعضاء ساقطة عند الاضطرار.
فإنّه يقال: إنّ التيمّم الفاقد لهذا الشرط محكومٌ بالصحّة، إذا لم يكن الفقدان بجعل المكلّف نفسه عاجزاً عن تحصيله كما في المقام، فإنّ له تقديم التيمّم على
ص: 312
الوضوء، فلا يبتلي بذلك، مع أنّ إيقاع النفس اختياراً إلى الاضطرار بترك الشرط لا يجوز، فلو فرض صحّة التيمّم يكون التقديم واجباً لذلك.
أقول: ومنه يظهر لزوم مسح الأعضاء عن الغبار، لو قدّم التيمّم، لئلّا يحصل العلم بنجاسة الماء، إمّا لكونه نجساً أو لتنجّسه بملاقاة الأعضاء، ولئلّا يبتلي بنجاسة الأعضاء، إمّا لنجاسة الماء أو لنجاسة التّراب.
الفرع الخامس: المحبوس في مكان مغصوب، هل يجوز له أن يتيمّم فيه أم لا؟ وجهان بل قولان:
أقواهما الأوّل، لأنّ التيمّم لا يكون تصرّفاً زائداً على ما اضطرّ إليه من الغصب، وحيثُ أنّ الاضطرار أوجب رفع الحرمة، فيرتفع المانع من شمول دليل الأمر بالتيمّم لهذا الفرد، فيشمله إطلاق دليله فيجب.
لا يقال: إنّ الاضطرار إنّما أوجب رفع الحرمة، فدليل حرمة الغصب خصّص في مدلوله المطابقي، وأمّا بالنسبة إلى مدلوله الالتزامي، وهو عدم وجوب متعلّق النهي، فهو باقٍ على حجيّته، لعدم ورود التخصيص عليه من هذه الجهة.
فإنّه يقال: إنّ الدلالة الالتزاميّة كما تكون تابعة للدلالة المطابقيّة وجوداً، فإنّها تكون تابعة لها في الحجّية كما حقّق في محلّه.
فإنْ قلت: إنّ الاضطرار إنّما أوجب رفع الحكم، وأمّا الملاك فلا دليل على رفعه، وهو يمنعُ من اتّصاف الفعل بالمحبوبيّة والتقرّب به إلى اللّه تعالى .
قلت: إنّ الملاك الذي لا يؤثّر في الحرمة والمبغوضيّة الفعليّة، لا يصلح أن يكون مانعاً عن إيجاب الفعل.
ودعوى: أنّ ما ذُكر إنّما يتمّ بالنسبة إلى الفضاء، ولا يتمّ بالنسبة إلى الأرض، فان الضّرب على الأرض تصرّفٌ فيها زائد على التصرّف في الفضاء، فلا يجوزه
ص: 313
الاضطرار إلى شُغل الفضاء بالجسم.
مندفعة: بأنّ المكلّف إذا كان مضطرّاً إلى المكث في المحلّ المغصوب، لا يفرق الحال بين أن يقف فيه أو ينام أو يصلّي أو غير ذلك من الحالات، ولا يعدّ النوم مثلاً بالقياس إلى الوقوف تصرّفاً زائداً، والسِّر فيه أنّ الجسم يشغل مقداراً معيّناً من الحيّز بقدر حجمه، بأيّ نحوٍ وضعه.
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأظهر جواز التيمّم فيه.
***
ص: 314
الأمر الرابع: صرّح جماعة منهم ابن الجُنيد(1)، والسيّد(2)، والمحقّق البهائي(3)، ووالده(4)، والمحدّث الكاشاني(3)، والبحراني(4)، والبهبهاني(5)، وصاحبُ «الحدائق»(6): بأنّه يعتبر أن يُعلّق مِنْ ما يتيمّم به شيءٌ باليد.
بل نُسب ذلك إلى أكثر الطبقة الثالثة.
والمشهور بين الأصحاب نقلاً مستفيضاً وتحصيلاً كما في «الجواهر»(7):
عدم اعتباره.
وعن المصنّف في «المنتهى »(8)، والمحقّق الثاني في «جامع المقاصد»(9): دعوى الإجماع عليه.
واستدلّ للأوّل: باُمور:
الأوّل: قوله تعالى : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ (10)، بدعوى ظهور كلمة (من) في التبعيض، كما يظهر من ملاحظة نظائر المقام.
ص: 315
ففي «الحدائق»(1) عن «الكشّاف»: إنّه لا يفهم أحدٌ من العرب من قول القائل:
(مسحتُرأسي من الدهن أو من الماءأو من التّراب) إلّا معنى التبعيض، وعدم ذكرلفظه (منه) في آية التيمّم(2) في سورة النساء، لا ينافي ذلك، فان القرآن يقيّد بعضه بعضاً).
وفيه: - مضافاً إلى ما عن جماعةٍ من النحويين المنع من ورود (من) لغير الابتداء - أنّه لو حُمل لفظة (من) على التبعيض، لزم زيادتها، فإنّه لو قال:
(فامسحوا بوجوهكم الصَّعيد)، لما كان يستفادُ منه إلّاذلك، لتعذّر إرادتها كلّها، مع أنّ معنى الآية حينئذٍ يكون هو لزوم مسح الصَّعيد بالوجه واليدين، وهو لا يعتبرُ نصّاً وإجماعاً، لا سيّما وأنّ رجحان النفض مورد الإجماع.
ودعوى: أنّه يمكن أن يقال إنّ الأجزاء الصغار الباقية على اليد بعد النفض، كافية في صدق كون المسح ببعض الصَّعيد.
مندفعة: بعدم صدق الصَّعيد والتّراب على الغبار الباقي على اليد كما لا يخفى ، وعليه فيتعيّن حمل (من) على الإبتداء، فيكون المعنى حينئذٍ أنّه يعتبر أن يكون ابتداءُ المسح من الصَّعيد.
وبعبارة اُخرى : يكون المسح بأثر الصَّعيد.
الثاني: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام المتقدّم:
«فلما أن وَضَع الوضوء عمّن لم يجد الماء، أثبت بعض الغُسل مَسْحَاً، لأنّه قال:
بِوُجُوهِكُمْ ، ثمّ وَصَل بها وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ، أي من ذلك التيمّم، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لا يجري على الوجه، لأنّه يعلق من ذلك الصَّعيد ببعض الكفّ ، ولا يُعلّق ببعضها»(3).8.
ص: 316
أقول: وقد استدلّ بموردين منه:
1 - قوله عليه السلام: (من ذلك التيمّم)، بدعوى أنّ المراد به ما يتيمّم به، وأنّ لفظة (من) للتبعيض.
2 - بقوله عليه السلام في مقام التعليل: (لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لا يجري على الوجه، لأنّه يُعلّق من ذلك الصَّعيد ببعض الكفّ ).
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلما عرفت في مقام الجواب عن الاستدلال بالآية الشريفة.
وأمّا الثاني: فلأنّه لو كان علّةٌ يدور الحكم مدارها، للزم اعتبار العلوق ببعض الكفّ ، بحيث لا يكفي العلوق بتمام الكفّ ، وهذا ممّا لم يلتزم به أحد.
وعليه، فلا مناص عن حمله على كونه حِكمة جارية مجرى الغالب.
وبالجملة: وبما ذكرناه في كيفيّة الاستدلال بالآية الشريفة، وصحيح زرارة، والجواب عنهما، يظهر تقريب الاستدلال بما في بعض الصِّحاح، كصحيح الحلبي من قوله عليه السلام: «فليتمسّح من الأرض» وما يرد عليه.
الرابع: إطلاق نصوص(1) النفض من دون تقييده بما إذا اتّفق العَلوق، فإنّ لازمة قابليّة كلّ تيمّمٍ صحيحٍ ، لأنّ يقع فيه هذا الأمر المطلوب.
وفيه: أنّ النفض بما أنّه مستحبٌّ ، فغاية ما يمكن إثباته بهذه النصوص استحباب العلوق، لا اعتباره، كما لا يخفى.
الخامس: ظهور ما دلَّ على(2) طهوريّة التّراب، وتنزيله منزلة الماء.
وفيه: - مضافاً إلى أنّ طهوريّته أمرٌ تعبّدي صِرفٌ متلقّاة من الشارع، وتنزيله).
ص: 317
منزلة الماء في تلك لا يستدعي اعتبار مباشرته للجسد كالماء - أنّه لا شبهة في عدم اعتبار مباشرته له نصّاً وإجماعاً حتّى من القائلين باعتبار العلوق، فإنّه لا خلاف بينهم في رجحان النفض، المستلزم لعدم بقاء الصَّعيد في الكفّ وإنْ بقى أثره.
والنتيجة: ثبت أنّ شيئاً ممّا استدلّ به على اعتبار العلوق لا يدلّ عليه، فالأظهر عدم اعتباره للأصل وإطلاق الأدلّة.
وأخيراً: وأمّا ما في «المعتبر»(1) من الاستدلال لعدم الاعتبار، بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله نفض يديه من التّراب، ولو كان بقاؤه معتبراً لما نَفَض يديه، ولأنّه تعريضٌلإزالته.
فهو كما ترى ، إذ يمكن أن يُعتبر العلوق، لا لكونه مستلزماً لمباشرة الصَّعيد للجسد، بل لجهةٍ اُخرى مجهولة لنا كملاك مطهّريّة التّراب.
نعم، يستحبّ العلوق، كما تشهد له نصوص النفض بالتقريب المتقدّم.
***5.
ص: 318
وكيفيّته أن يَضرِب بيديه على الأرض.
(وكيفيّته أن يَضْرِب بيديه على الأرض) إجماعاً محصّلاً ومنقولاً ومنصوصاً، وإنّما الكلام والخلاف في موارد:
المورد الأوّل: هل يعتبر الضَّرب كما عن المشهور، أم يكتفى بالوضع كما في «الشرائع»(1)، وعن «القواعد»(2) و «الذكرى»(3) و «الدروس»(4) و «جامع المقاصد»(5) و «حاشية الإرشاد»(6) والمحقّق الأردبيلي(7)؟ وجهان:
ومنشأ الاختلاف، اختلاف الأخبار:
1 - ففي جملةٍ منها الأمر بالضّرب، كما في صحيح زرارة، حيث قال له الإمام الباقر عليه السلام بعد أن سأله عن كيفيّة التيمّم:
«التيمّم ضربٌ واحد للوضوء والغُسل من الجنابة، تضرب بيديك مرّتين»(8).
وما رواه في محكيّ «التهذيب» عن ليث المرادي، عن الصادق عليه السلام في التيمّم:
ص: 319
«تضرب بكفّيك على الأرض مرّتين، ثمّ تنفضهما، وتمسح بهماوجهك وذراعيك»(1).
ونحوهما غيرهما(2).
2 - وفي جملةٍ منها ما يظهر منه الاكتفاء بمطلق الوضع، وعمدتها النصوص الواردة في مقام بيان التيمّم، بنقل قضيّة عمّار وفعل النبيّ صلى الله عليه و آله، كصحيح زرارة، عن الباقر عليه السلام: «أهوى - أي رسول اللّه صلى الله عليه و آله - بيده إلى الأرض، فوضعهماعلى الصَّعيد»(3).
وخبر داود بن النعمان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «فوضع يديه على الأرض ثمّ رفعهما»(4).
وخبر أبي أيّوب الخزّاز، عنه عليه السلام: «فوضع يده على المسح ثمّ رفعها»(5).
ونحوها غيرها(6).
وتنقيح القول في المقام: إنّ مفهومي (الوضع) و (الضّرب):
1 - إنْ كانا متباينين، وكان الضّرب المماسّة مع الدفع والاعتماد، والوضع المماسّة بغير دفع واعتماد، فيتعيّن الالتزام بالثاني، إذ الجمع بين الطائفتين يقتضي التخيير.
وبعبارة اُخرى : يقتضي الالتزام بكفاية القدر المشترك بين المفهومين، من دون اعتبار شيء من الخصوصيّتين.
ودعوى: أنّ هذا الجمع في المقام غَير تامّ ، إذ الظاهر أنّ الأخبار الحاكية لفعل النبيّ صلى الله عليه و آله في قضيّة عمّار، إنّما هي إخبارٌ عن واقعة شخصيّة.5.
ص: 320
مندفعة: بأنّ تلك الأخبار إنّما يستند إليها من جهة أنّ نقل المعصوم فعل النبيّ صلى الله عليه و آله إنّما يكون بياناً للحكم الشرعي، وعليه فهو إنّما يحكي الخصوصيّات الدخيلة في الحكم دون غيرها، ولذا نلتزم بأنّ كلّ خصوصيّةٍ من الخصوصيّات التي ينقلها المعصوم، دخيلة في الحكم، ويجب مراعاتها.
وعليه، فبما أنّه عليه السلام في مقام نقل فعله صلى الله عليه و آله عبّر تارةً بوضع يديه على الصَّعيد، واُخرى بضربهما عليه، فيُستكشف من ذلك عدم دخل شيءٍ من الخصوصيّتين، وأنّه عليه السلام في مقام النقل يقصد إلى بيان القدر المشترك.
2 - وأمّا إنْ كانت النسبة بين المفهومين عموماً مطلقاً، وكان (الضّرب) أخصّ مفهوماً من (الوضع)، فيتعيّن الالتزام بالأوّل، حملاً للمطلق على المقيّد.
ودعوى: أنّ النصوص الواردة في المقام، لا سبيل إلى حمل مطلقها عليمقيّدها، لكونهما من قبيل المثبتين.
مندفعة: بأنّ المقيّد لاشتماله على الأمر بالخاصّ ، الظاهر في كونه إرشاداً إلى اعتبار الخصوصيّة في صحّة التيمّم، لا مناص عن الحمل المذكور.
كما أنّه على فرض كون النسبة بين الطائفتين عموماً من وجه، بدعوى أنّ المتبادر من (الوضع) ما لم يكن فيه شدّة واعتماد عكس (الضّرب)، ومع ذلك يتصادقان في بعض المصاديق، التي تتحقّق بها أوّل مراتب الضّرب، لا مناص عن الالتزام بهذا القول، لأنّ ظهور نصوص (الوضع) في كفاية مطلق الوضع، أضعفُ من ظهور نصوص (الضّرب) في اعتبار الضّرب، فتأمّل.
وحيثُ أنّ المستفاد من كلمات اللّغويين، والمتفاهم العرفي أخصيّة (الضّرب) من (الوضع)، فالأقوى هو القول الأوّل، وهو اعتبار (الضّرب).
أقول: ثمّ إنّه لو اضطرّ بأن تمكّن من الوضع دون الضّرب، فالظاهركفاية الوضع:
ص: 321
لا لقاعدة الميسور، لما عرفت مراراً من أنّها غير ثابتة.
ولا لما في «الجواهر»(1) من إطلاق ما دلَّ على الوضع، مع عدم المقيّد هنا، لظهور اختصاص أدلّة الضّرب بالاختيار لمنع هذا الظهور.
بل مقتضى إطلاق دليل الضّرب، ثبوت اعتبار الضّرب في جميع حالات الأمر بالتيمّم، ولازمه سقوط الأمر به عند الاضطرار، وعدم التمكّن من الضّرب.
ولما عن غير واحدٍ من دعوى الإجماع عليه.
المورد الثاني: المشهور بين الأصحاب: عدم كفاية الضّرب بإحدى اليدين.
وفي «الجواهر»(2): إجماعاً محصّلاً ومنقولاً ونصوصاً.
وتشهد له: النصوص(1) المتواترة الآمرة بضرب اليدين، وحكاية ذلك عن النبيّ صلى الله عليه و آله.
وعن المصنّف في «التذكرة»(2)، و «النهاية»(3): احتمال الاجتزاءبالمسح بكفٍّواحدة.
وعن المقدّس الأردبيلي(4): استظهار الاجتزاء بضربةٍ واحدة، واستدلّلذلك:
1 - بموثّق زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، عن التيمّم: «فضرب بيده على الأرض، ثمّ رفعها فنفضها، ثمّ مَسَح بها جبينه وكفّيه مرّةً واحدة»(5).
2 - وخبره الآخر عنه عليه السلام، وفيه: «فَضَرب بيديه على الأرض، ثمّ ضَرَب3.
ص: 322
إحداهما على الاُخرى، ثمّ مَسَح بجبينه، ثمّ مَسَح كفّيه، كلّ واحدة على الاُخرى ، فمسَح اليسرى على اليمنى ، واليمنى على اليسرى »(1).
3 - وخبر أبي أيّوب(2) المتقدّم.
أقول: ولكن الأولين ظاهران - بقرينة ما في ذيلهما من مسح الكفّين - في إرادة الجنس، الصادق على القليل والكثير من اليد لا الفرد، وعليه يُحمل الأخير على ذلك.
أقول: ثمّ إنّه هل يعتبر أن يكون دفعةً كما عن «الحدائق»(3) نسبته إلى ظاهر الأصحاب، أم يكفي الضّرب بهما على التعاقب ؟ وجهان:
أقواهما الأوّل، لأنّ المتبادر إلى الذّهن من النصوص الآمرة بضرب الكفّين، إرادة ضربهما معاً، وكذلك النصوص(4) الحاكية لفعله صلى الله عليه و آله، كقوله عليه السلام: «فضرب بيديه على الأرض».
وأمّا أخبار الضربة والضربتين، فالظاهر كونها أجنبيّة عن المقام، فإنّ المتبادر منها إرادة ما يقابل التعدّد لا التدريج.
المورد الثالث: صرّح غير واحدٍ باعتبار كون الضّرب أو الوضع بباطن الكفّين، وأنّه لا يكفي الضّرب بظاهرهما.
وعن بعض المحقّقين(5): أنّه وفاقي.
ويشهد له:4.
ص: 323
1 - مضافاً إلى أنّه المعهود من الضَّرب والوضع، كما في «المدارك»(1).
2 - أنّ عليه عمل المسلمين في الأعصار والأمصار من دون شكّ كما عن بعض المحقّقين.
3 - وإلى الإجماع عليه.
4 - ما عن «نوادر»(2) أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن عبد اللّه بن بكير، عن زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام:
«فضرب (أي رسول اللّه صلى الله عليه و آله) بيديه على الأرض، ثمّ ضَرَب إحداهما على الاُخرى ، ثمّ مسح جبينه، ثمّ مسح بكفّيه كلّ واحدةٍ على ظهر الاُخرى ».
فإنّ الظاهر منه كون الماسح هو بطن كلّ كفٍّ ، وهو الذي يضرب على الصَّعيد، كما لا يخفى .
ويؤيّده: أنّه بقرينة مناسبة الحكم والموضوع، يمكن استفادة ذلك من نصوص الكفّ ، إذ الظاهر منها إذا أنّه اُسند إليها ما يناسب الباطن كالأكل والمسح ممّا جرت العادة بحصوله من الباطن، إرادته دون الظاهر.
ثمّ إنّه لو تعذّر الباطن فيهما، ينتقل إلى الظاهر، لإطلاق نصوص الكفّ ، وأدلّة التقييد مختصّة بحال الاختيار.
أمّا الأوّلان: فواضح.
وأمّا الثالث: فلأنّه إنّما يدلّ على لزوم كون المسح بالباطن عند الاختيار، من جهة نقل تيممّه صلى الله عليه و آله، ولا إطلاق له كي يشمل حال التعذّر كما لا يخفى .
وأمّا الرابع: فلأنّ انصراف الإطلاقات إلى الباطن، إنّما هو مع الإمكان، لا9.
ص: 324
مطلقاً، فان المتعارف في حقّ العاجز، الضّرب بظاهر الكفّين، فهذا الترتيب عرفيٌ ينطبق عليه الإطلاق، من دون أن يكون اللّفظ مستعملاً في أكثر من معنى واحد.
أقول: لو تعذّر الباطن في إحداهما:
1 - فهل يكتفي بالظاهر فيهما؟
2 - أم يقتصر على الضّرب بباطن إحداهما؟
3 - أم يتعيّن الضّرب بباطن إحداهما، وظاهر الاُخرى ؟ وجوه:
قد استدلّ للأوّل: باختصاص ما دلَّ على اعتبار كون الضّرب بباطن الكفّين بصورة الإمكان فيهما، ففي غيرها يرجع إلى إطلاق نصوص الكفّ .
وفيه: - مضافاً إلى أنّ الظاهر من ناحية المناسبات المغروسة في الأذهان، كون كلٍّ من الكفّين موضوعاً مستقلّاً، يعتبر أنْ يكون الضّرب في كلّ واحدة بالباطن، فتعذّر الضّرب بباطن إحداهما لا يوجبُ تبديل التكليف في الاُخرى - أنّ الإطلاقات كما أنّها تنصرف إلى الباطن فيهما مع الإمكان بالتقريب المتقدّم، كذلك تنصرف إلى الباطن في إحداهما لو تعذّر في الاُخرى كما مرّ.
وعليه، فالأقوى هو الوجه الثالث.
***
ص: 325
ناوياً.
ثمّ إنّه يعتبر أن يكون التيمّم في حال كون المتيمّم (ناوياً) إجماعاً حكاه جماعة.
بل عن «التذكرة»(1): دعوى إجماع علماء الإسلام عليه.
ويشهد له: مضافاً إلى ذلك، أنّ الفعل غير الصادر عن الاختيار، لا يُتّصف بالحُسن ولا القُبح، فلايتعلّق به الأمر ولا النهي، فنفس تعلّق الأمر يدلّ على اعتبارها.
وتعتبر أيضاً: - بلا خلافٍ بل باجماع علماء الإسلام - نيّة القربة، للإجماع على كونها من العبادات، وتقتضيها مرتكزات المتشرّعة، وإطلاق أدلّة البدليّة، بضميمة ما دلَّ على عباديّة الوضوء والغُسل.
ولا يخفى أنّ اعتبار نيّة القربة في العبادات لعلّه من الضروريّات، وتشير إليه نصوص(2) كثيرة، تقدّم بعضها في مبحث الوضوء.(3)
أقول: إنّما الخلاف والكلام في أنّه:
هل تعتبر أن تكون نيّة القربة مقارنة لضرب اليدين، كما هو المشهور؟
أم تكفي مقارنتها لمسح الجبهة، كما احتمله المصنّف رحمه الله في محكيّ «النهاية»(4)، وعن «المفاتيح»(5) التصريح به ؟ قولان:
وذكروا أنّ منشأ هذا الخلاف النزاع في أنّ ضرب اليدين من أجزاء التيمّم، أم من شروطه ؟
ص: 326
إذ على الأوّل تعتبر مقارنة النيّة له، إذ يشهد لعباديّته، ما دلَّ على عباديّة التيمّم. وعلى الثاني لا يعتبر ذلك، لعدم الدليل على اعتبارها، فيرجع إلى أصالة التوصّليّة فيه.
أقول: يقع الكلام في موردين:
الأوّل: في أنّه جزءٌ أم شرط؟
الثاني: في أنّه على فرض كونه شرطاً، هل هو من العباديّات أم من التوصّليّات ؟
أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ للثاني:
1 - بظاهر الآية الشريفة(1).
2 - وخبر زرارة، عن أحدهما عليه السلام، في حديثٍ : «إنّ من خاف على نفسه من سَبُعٍ أو غيره، أو خاف فوت الوقت فليتيمّم، يضرب يده على اللّبد أو البرذعة ويتيمّم ويصلّي»(2).
فإنّ الظاهر منه خروج (الضّرب) من حقيقة التيمّم، وكونه مقدّمةً له.
وأجاب بعض المعاصرين(3): عن الآية الشريفة:
بعدم ذكر (الضّرب) في الآية الشريفة، ممّا يقتضي ظاهرها عدم الوجوب، فإذا دلَّت النصوص على وجوبه وجزئيّته، وجب التصرّف في ظاهر الآية.
وفيه: إنّ قوله تعالى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (4) أي من الصَّعيد، فيدلّ على3.
ص: 327
اعتبار كون المسح ناشئاً من الصَّعيد، فهي تدلّ على اعتبار ممّاسة الماسح مع الصَّعيد قبل المسح، وعليه فيكون ما دلَّ على اعتبار الضّرب مثلاً مُبيّناً للآية الشريفة.
فالأولى أن يُجاب عنه: بأنّ ظاهر الآية الشريفة جزئيّته للأمر بالتيمّم - الذي عرفت في صدر المبحث، أنّ المراد به هو القصد إلى التّراب للمسح على الوجه واليدين - وظاهر الأمر دخالة ما تعلّق به في المأمور به لا دخالة التقيّد به خاصّة.
مع أنّه لو سُلّم إجمال الآية الشريفة من هذه الجهة، فمقتضى الأصل وإنْ كان هي الشرطيّة لاعتبار التقيّد فيه على التقدير، والشكّ في دخالة الضّرب بنفسه، إلّا أنّه إنّما يتمّ مع عدم الدليل على الجزئيّة، وستعرف ما يدلّ عليها.
وأمّا الخبر: فالتيمّم فيه وإنْ استعمل في ما عدا الضّرب، إلّاأنّ الاستعمال أعمٌّ من الحقيقة، وأصالة الحقيقة إنّما يرجع إليها لتعيّن المراد لا لإظهار كيفيّة الاستعمال مع معلوميّة المراد.
واستدلّ للجزئيّة:
1 - بظاهر النصوص البيانيّة.
2 - وبأنّه لولا الجزئيّة، لزم جواز تلقّيه الريح بجهته المُجمع على بطلانه.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا النصوص البيانيّة: فلأنّ الفعل أعمّ من الجزئيّة والشرطيّة.
وأمّاالثاني: فلأنّوجوب الضّرب ممّا لاكلام فيه، إنّماالكلام في الجزئيّة والشرطيّة.
وبالجملة: فالصحيح أن يستدلّ للجزئيّة، مضافاً إلى الآية الشريفة كما عرفت، بالأمر به في بعض نصوص الباب، كقوله عليه السلام في خبر زرارة، عن مولانا الباقر عليه السلام:
ص: 328
«تضرب بكفّيك الأرض(1)... الخ»، ونحوه غيره(2) الظاهر في أنّ ما تعلّق به بنفسه، دخيلٌ فى المأمور به، لا التقيّد به خاصّة، كما لايخفي ، وما في بعضها كصحيح الكندي من التصريح بأنّ «التيمّم ضربةٌ للوجه وضربةٌ للكفّين»(3)، ونحوه صحيح زرارة(4).
والنتيجة: تحصّل ممّا ذكرنا، أنّ الأقوى جزئيّته، فاعتبار نيّة القربة فيه أيضاً لا إشكال فيه.
أمّا المورد الثاني: فالأقوى أيضاً اعتبارها فيه، بناءً على شرطيّته أيضاً، وذلك لأنّ الظاهر من خبر الكندي المتقدّم، اعتبار صدور كلّ ضربةٍ بداعي مسحة واحدة، أي ضربة لمسح الوجه، وضربة لمسح الكفّين. ومن الواضح أنّ إتيان المقدّمة بداعي التوّصل بها إلى ذي المقدّمة، يوجبُ صيرورة المقدّمة عبادة، إذ لا يعتبر في العباديّة سوى العمل بالوظيفة، واستناد الفعل إلى اللّه تعالى .
ودعوى: أنّه يحتمل أن يكون المراد به، أنّ الأمر بضربتين إنّما يكون لأجل اعتبار كون المسحتين عن ضربتين، كلّ مسحةٍ عن ضربة، فلا يدلّ على اعتبار قصد التوّصل إلى المسح في كلّ ضربة.
مندفعة: بأنّه خلاف الظاهر، كما لا يخفى .
والنتيجة: أنّ الأظهر اعتبار مقارنة نيّة القُربة لضرب اليدين مطلقاً، سواءٌ أكان الضّرب جزءً أم شرطاً.
أقول: ثمّ إن الكلام في أنّه هل تعتبر نيّة رفع الحَدَث أو الاستباحة أو هما معاً،3.
ص: 329
أم لا يعتبر شيء منهما على القول بكونه رافعاً للحَدَث ؟ وأنّه هل تعتبر نيّة الاستباحة خاصّة أم لا تعتبر، بناءً على القول بعدم رافعيّته ؟ هو الكلام في اعتبار ذلك في الوضوء، طابق النعل بالنعل، فلا نُعيد ما ذكرناه.
وعليه فالأقوى عدم اعتبار نيّة شيء منهما.
وكذلك لا تعتبر نيّة البدليّة، لعدم تعدّد حقيقة التيمّم، بل هي حقيقة واحدة غير مختلفة بالذّات والعنوان، كي يتوقّف تحقّق كلّ منهما على قصد البدليّة، ولا يكون قصدها مأخوذاً فيه، لعدم الدليل عليه، من غير فرقٍ في ذلك بين ما لو قلنا بأنّ التيمّم الذي بدلٌ عن الغسل، والتيمّم الذي يكون بدلاً عن الوضوء مختلفان في الكيفيّة، من حيث عدد الضربات، وبين ما لو قلنا بأنّهما متّحدان، لعدم الاختلاف بينهما على التقديرين من حيث العنوان، كما لايخفى .
***
ص: 330
وَيَنفُضُهما،
(وينفضهما) بلا خلافٍ ، بل عن «المنتهى »(1) نسبته إلى علمائنا، للأخبار الكثيرة المتقدّمة في المباحث السابقة الآمرة بالنفض، وظاهرها وإنْ كان هو الوجوب، إلّاأنّها محمولة على الاستحباب، لعدم الخلاف في استحبابه.
بل عن المصنّف في «التذكرة»(2): دعوى الإجماع على عدم الوجوب.
ثمّ إنّ النفض لا يصدق إلّافيما عُلّق باليد شيءٌ من أجزاء الأرض ممّا يزال بالنفض، فلا يستحبّ مع عدم العلوق.
أقول: والمراد به ما يعمّ ضرب إحدى اليدين على الاُخرى وتصافقهما، لقوله عليه السلام في صحيح زرارة، الحاكي لفعله صلى الله عليه و آله(3): «ثُمّ ضرب إحداهما على الاُخرى »، فإنّه حكى هذا الفعل في سائر النصوص بقوله: (فنفضهما) فإنّ الكاشف عن اتّحاد المراد من العبارتين.
***9.
ص: 331
ويَمسَحُ بهما وجهه.
(ويمسح بهما وجهه) بلا خلافٍ فيه في الجملة، بل هو محلّ الوفاق بين المسلمين، وإنّما الكلام في موردين:
المورد الأوّل: في حَدّ الممسوح:
فالمنسوبُ إلى عليّ بن بابويه في رسالته(1): لزوم استيعاب الوجه، وإنْ كان في النسبة ما ستعرف.
وعن ولده الصدوق في «الهداية»(2): الإقتصارعلى الجبينين، مع زيادة الحاجبين.
وعن المشهور كما في «الحدائق»(3): اعتبار مسح الجبهة خاصّة، وستعرف ما في هذه النسبة أيضاً، وأنّ المشهور بينهم اعتبار مسح الجبهة والجبينين.
وفي «المعتبر»(4): التخيير بين مسح الوجه وبعضه.
وعن «كشف الرموز»(5): تقريبه.
وفي «المدارك»(6): أنّه حسنٌ .
أمّا الأوّل: فقد استدلّ له بجملةٍ من نصوص التيمّم البيانيّة قولاً وفعلاً، والتي تبلغ عشرة، وفيها الصحيح.
ص: 332
وفيه: أنّ ظاهر تلك النصوص، وإنْ كان ذلك، إلّاأنّه لابدَّ من رفع اليد عنه، وحملها على إرادة البعض لوجوه:
الوجه الأوّل: الإجماع على عدم وجوب مسح تمام الوجه، وعليّ بن بابويه لا يعدّ مخالفاً لذلك، كما يشهد له ما عن «أمالي» ولده(1) نسبته إلى دين الإماميّة، وأنّه مضى على ما مضى عليه المشايخ، فإنّ ذلك من جهة اعتقاد الصدوق أنّ والده رئيس الإماميّة، أقوى شاهد على أنّ مذهبه عدم وجوب مسح تمام الوجه، وإنّما عبّر بلفظ (الوجه) تبعاً لما في النصوص، كما هو عادة القدماء، لا سيّما طريقته في رسالته.
الوجه الثاني: دلالة الآية الشريفة على إرادة البعض من الوجه، المعتبر مسحه لمكان الباء، فإنّها إذا دخلت على المتعدّي تبعّضه كما اختاره أهل العربيّة، مع أنّها لو لم تُحمل عليه، لزم الالتزام بزيادتها، وهي خلاف الأصل.
مضافاً إلى تصريح الإمام الباقر عليه السلام في صحيح زرارة، الوارد في تفسير الآية الشريفة بذلك.
الوجه الثالث: نصوصيّة جملةٍ من النصوص البيانيّة، المتضمّنة أنّه صلى الله عليه و آله مسح جبينيه وجبهته، في عدم وجوب مسح الجميع.
وعلى هذا، فلا يبقى دليلٌ على مسح تمام الوجه كي يقال إنّ الجواب الحقّ العمل بالخبرين، فيكون مخيّراً بين مسح الوجه أو بعضه، كما في «المعتبر»(2).
وأمّا القول الثاني: فقد استدلّ له بجملةٍ من النصوص البيانيّة المقتصرة على لفظ (الجبين)، فإنّها ظاهرة في اعتبار مسحهما بالخصوص.
وفيه: أنّه للإجماع على وجوب مسح الجبهة تحصيلاً ونقلاً مستفيضاً، بل6.
ص: 333
متواتراً كما في «الجواهر»(1)، بل عن «المستند»(2) و «المصابيح»(3) أنّه ضروري الدِّين، يتعيّن حمل (الجبين) على خصوص الجبهة، أو على ما يعمّها.
ومخالفة الصدوق وحده لا تضرّ بالإجماع، مع أنّ الظاهر عدم مخالفته مع القوم في ذلك، وإنّما عبّر بالجبين لتبعيّة النصوص، كما يشهد له أنّه لم يحك أحدٌ عنه خلافاً في ذلك، فوجوب مسح الجبهة ممّا لا كلام فيه.
ويؤيّده: موثّق زرارة، المرويّ عن «التهذيب» عن الباقر عليه السلام، عن التيمّم:
«فضرب بيده الأرض، ثمّ رفعها فنفضها، ثمّ مسح بها جبهته ووجهه»(4).
والشاهد على عدم الاستدلال به وجَعْله مؤيّداً أنّه عن «الكافي» روايته(5)(جبينه)، فيدور الأمر بين وجوب مسح الجبينين أيضاً وعدمه، وقد عرفت نسبة صاحب «الحدائق»(6) عدمه إلى المشهور.
أقول: والظاهر عدم صحّة هذه النسبة، بل المشهور على وجوبه، بل عن «الأمالي» نسبته إلى دين الإماميّة تارةً ، وأنّه مضى عليه مشايخنا اُخرى(7)، وعن «شرح المفاتيح»(8): لعلّه لا نزاع فيه بين الفقهاء.8.
ص: 334
مِنْ قَصاص الشّعر إلى طرف الأنف.
ولعلّ الذي غَرّه تعبير جماعة بالوجه (مِن قَصاص الشَّعر إلى طرف الأنف) كما في المتن، وعن المفيد(1)، والسيّد(2)، والحلبي(3)، والشيخ(4)، وابن إدريس(5) وغيرهم، فاستظهر منهم الاختصاص بالجبهة، وتعبير آخرين بالجبهة، لكن الظاهر من الجميع إرادة ما يشمل الجبينين.
أمّا الأولون المعبّرون بالوجه، فلشموله لهما، لا سيّما بعد ملاحظة تحديد الوجه عَرْضاً في باب الوضوء، وأمّا المعبّرون بالجبهة، فلاستدلال بعضهم باخبار الجبينين على الجبهة، وعدّهم ابن بابويه وابن الجنيد من القائلين بمسح الجبهة مع نصّهما على الجبينين.
أقول: وكيف كان، فيشهد لوجوب مسحهما نصوص الجبين، فإنّ حملها على إرادة ما يعمّ الجبهة أقرب من حملها على خصوص الجبهة، بل لا يصحّ هذا الحمل فيما اشتمل منها على المثنّى ، ولا يعارضها خبر الجبهة المتقدّم، لما عرفت من روايته في «الكافي» بلفظ (الجبين)، مع أنّ إرادة ما يعمّ الجبينين من الجبهة شائعة.6.
ص: 335
وعلى كلّ حال، حملها على ذلك أهون من حمل (الجبين) على الجبهة خاصّة.
ويؤيّده: ما دلَّ على المسح بالكفّين معاً، لضرورة عدم سعة الجبهة المجرّد لذلك.
واستدلّ للعدم:
1 - بحمل نصوص الجبين على الجبهة، مؤيّداً له بأنّه من دون ذلك يبقى ما عليه الأصحاب من التخصيص بالجبهة بغير مستند.
2 - وبشيوع التعبير عنها بالجبين كما في حسن ابن المُغيرة(1)، وموثّق عمّار:
«لا تجزي صلاةٌ لا يُصيب الأنف ما يُصيب الجبين»(2).
3 - وبورود لفظ الجبين مفرداً في بعض النصوص(3).
4 - وبأنّ نصوص الجبينين محتملة للاستحباب، إذ هي متضمّنة لنقل الفعل غير الظاهر في الوجوب، ولذا ذكر في جملةٍ منها نفض اليدين الذي هو مستحبّ بلا كلام.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ ما عليه الأصحاب هو وجوب مسح الجبينين.
وأمّا الثاني: فلأنّ في الخبرين لم يُحرز استعمال الجبين في خصوص الجبهة، بل يمكن أن يكون المراد بها ما يعمّها.
مع أنّ استعمالها فيها في مورد مع القرينة، لا يكون دليلاً على استعمالها فيهاف.
ص: 336
مطلقاً، حتّى مع عدم القرينة.
وأمّا الثالث: فلأنّه لا يتمّ فيما اشتمل منها على المثنّى ، مع أنّ الأمر لو كان دائراً بين إرادة خصوص الجبين، وبين إرادة الجبهة، لتمّ ما ذكره في لفظ الجبين المفرد، ولكن لا يتمّ في مثل المقام الذي يكون الأمر دائراً بين إرادة ما يعمّ الجبهة، وإرادة خصوص الجبهة، فإنّ ذكر لفظ (الجبين) مفرداً يُلائم مع الأُولى أيضاً كما لا يخفى .
وأمّا الرابع: فلما عرفت مراراً من أنّ حكاية الفعل في مقام بيان الحكم تدلّ على الوجوب.
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأقوى وجوب مسح الجبينين أيضاً.
أقول: ثمّ إنّ المحكيّ عن الصدوق في «الفقيه»(1): وجوب مسح الحاجبين، واختاره في محكيّ «جامع المقاصد»(2)، ونفى عنه البأس في محكيّ «الذكرى»(3). بل ظاهر قول المصنّف رحمه الله في محكيّ «المنتهى »(4): أنّه لا يجبُ مسح ما تحت الحاجبين، وأنّ وجوب مسحهما مُسَلّم.
واستدلّ له: بما عن الصدوق: (إنّ به رواية).
وفيه: أنّها غير ثابتة، فلا يُعتمد عليها.6.
ص: 337
نعم، يمكن أن يقال: إنّ الظاهر من معقد الإجماعات المدعاة على وجوب المسح من القصاص إلى طرف الأنف الأعلى ، كماعن «الانتصار»(1) و «الغُنية»(2)، و «الروض»(3) وغيرها، وجوب مسحهما، كوجوب مسح ما بين الحاجبين، مع عدم دخوله في الجبهة والجبينين عرفاً أو لغةً .
فإذاً الأحوط مسحهما أيضاً.
***6.
ص: 338
المورد الثاني: ظاهر المصنّف(1) وغيره، لزوم كون المسح باليدين.
وفي «الجواهر»(2): (بل هو المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً، بل لعلّه مجمعٌ عليه) انتهى .
وعن ابن الجُنيد(3): الاجتزاء بالمسح باليمنى .
وعن «نهاية الاحكام»(4)، و «التذكرة»(5): احتمال الاجتزاء بواحدة.
وعن الأردبيلي(6) والخوانساري(7): استظهاره.
ويشهد للأوّل: النصوص البيانيّة، وما اشتمل من نصوص الباب على الأمر بذلك، كخبر ليث الآتي عن الإمام الصادق عليه السلام: «وتمسح بهما وجهك».
واستدلّ لعدم اعتبار ذلك: بالأصل، وبإطلاق الآية الشريفة، وبعض نصوص الباب، وبما في بعض النصوص(8) من أفراد اليد، وبالمساواة للوضوء.
أقول: والجميع كما ترى ، إذ الأصل لا يرجع إليه مع الدليل، والإطلاق يقيّد بما سبق.
ودعوى: أنّه كما يجوز حمل المطلق على المقيّد، فإنّه كذلك يجوز العمل بالمطلق،
ص: 339
وحمل المقيّد على أفضل أفراد الواجب، كما عن المحقّق الخوانساري.
مندفعة: بأنّ الثاني خلاف ما تقتضيه قاعدة الجمع بين المطلق والمقيّد، وإفراد اليد لا يصلح للمعارضة، مع ما تقدّم، لما عرفت من إمكان حملها على إرادة الجنس، بل قد عرفت تعيّن حمل اليد بقرينة ما في ذيل الخبرين عليها، والمساواة ممنوعة، لا سيّما بعد قيام الدليل على العدم، كما لا يخفى .
أقول: ثمّ إنّه لو تمّ شيءٌ من هذه الوجوه، لثبت ما احتمله المصنّف رحمه الله، فيبقى قول ابن الجُنيد بلا مستند.
كما أنّه لا ريب ولا كلام في عدم اعتبار إمرار كلّ جزءٍ من الكفّين بكلّ جزءٍ من الممسوح لتعذّره، إلّامع إمرار كلٍّ من اليدين مرّات متعدّدة غير الواجبة قطعاً، كما تشهد له النصوص البيانيّة.
وكذلك فإنّه لا يجب إمرار تمام إحداهما على بعضه، وتمام الاُخرى على الباقي، إذ لو سُلّم ظهور الأخبار في استيعاب الماسح، لا نُسلّم ظهورها في لزوم مسح تمام أجزاء الجبهة لكلٍّ منهما.
وعليه، فالأمر يدور بين:
اعتبار استيعاب الماسح كالممسوح، بمعنى وجوب مسح مجموع الممسوح بجميع باطن الكفّين.
وبين عدمه من باب كفاية إمرار كلٍّ من اليدين في الجملة، ولو بعض كلّ منهما على بعض الممسوح، بحيث يستوعب الممسوح دون الماسح.
وقد يتوهّم: أنّ الأظهر هو الأوّل، بدعوى أنّه تدلّ عليه أكثر نصوص المقام، إذ الظاهر من قوله عليه السلام: «تمسح بهما وجهك»، كقوله: «تضرب بكفّيك على الأرض»، إرادة الجميع لا البعض.
ص: 340
ويؤيّده: أنّ المتبادر من النصوص، المسح بما يضرب على الأرض، لا سيّما وكون الظاهر أنّ اعتبار الضّرب على الأرض إنّما هو لتصحيح علاقة مسح الوجه من الصَّعيد.
ولكنّه توهّمٌ فاسد: لتعيّن صرفها عن ظاهرها، لقول الإمام الباقر عليه السلام في صحيح زرارة: «ثمّ مسح جبينيه بأصابعه»(1)، فإنّه كالصريح في عدم اعتبار الاستيعاب، فإذاً الأقوى كفاية البعض.
***8.
ص: 341
ثُمّ يمسَح ظهر كفّه الأيمن ببطن كفّه الأيسر، ثمّ ظَهر الأيسر ببطن الأيمن، مِنَ الزَّند إلى أطراف الأصابع.
(ثمّ ) إنّ من واجب المتوضّي أن (يمسح ظهر كفّه الأيمن ببطن الأيسر، ثمّ ظَهر كفّه الأيسر ببطن الأيمن، من الزّند إلى أطراف الأصابع).
أقول: هاهنا مسائل:
المسألة الأُولى : لا كلام في وجوب مسح اليدين في الجملة، وفي «الجواهر»(1):
ضرورة من المذهب إنْ لم يكن من الدِّين.
ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - الكتاب والسُنّة المتواترة.
المسألة الثانية: المشهور بين الأصحاب اختصاصه بظاهر الكفّين، من الزّند إلى أطراف الأصابع، كما في المتن.
وعن «الانتصار»(2)، و «الغُنية»(3) و «الناصريّات»(4): دعوى الإجماع عليه.
وعن الصدوق في «الأمالي»(5): نسبته إلى دين الإماميّة.
ص: 342
وعن عليّ بن بابويه(1): وجوب مسح الذّراعين.
وعن «الفقيه»(2): وجوب المسح من فوق الزّند قليلاً.
وعن «السرائر»(3) عن قوم من أصحابنا أنّ المسح من اُصول الأصابع.
واستدلّ للأوّل في «المدارك»(4): بقوله تعالى : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ (5)، ثمّ قال: (والباء للتبعيض كما بيّناه، وأيضاً فإنّ اليد هي الكفّ إلى الرسغ، يدلّ عليه قوله تعالى : وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (6) والإجماع منّا ومن العامّة منعقدٌ على أنّها لا تُقطع من فوق الرسغ، وما ذلك إلّالعدم تناول اليد له حقيقة)، انتهى .
وفيه: أنّ كون الباء للتبعيض لا يوجب ظهور الآية في هذا القول، بل يلائم مع فتوى ابن بابويه أيضاً، بعد كون اليد حقيقةً هو مجموع هذا العضو إلى الكتف.
وأمّا دعواه من كون اليد حقيقةً في الكفّ إلى الرسغ:
فإنّه مضافاً إلى فساده في نفسه كما عرفت، لا يلائم مع مااستدلّ له به وهي آية السرقة، فإنّ يد السارق تقطع من اُصول الأصابع اتّفاقاً.
مع أنّ مقتضى الجمع بين دليليه - وهما كون اليد هي الكفّ إلى الرسغ، وكون الباء للتبعيض - عدم وجوب المسح من الزّند، كما لا يخفى . ولقد خرجنا بذلك عن مقتضى الأدب معه رحمه الله واللّه تعالى مُقيل العثرات.8.
ص: 343
أقول: فالصحيح الاستدلال له بالنصوص البيانيّة:
منها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «ثمّ مسح وجهه وكفّيه ولم يمسح الذراعين بشيء»(1).
ومنها: صحيح إسماعيل بن همّام، عن الرضا عليه السلام: «التيمّم ضربة للوجه وضربة للكفّين»(2).
ونحوهما غيرهما.
وما في بعض النصوص من ذكر اليد، محمولٌ على ذلك، لصراحتها في عدم وجوب الزائد على الكفّ ، مضافاً إلى ظهور الآية الشريفة في عدم وجوب مسح جميع اليد، كما تقدّم، والإجماع على عدم وجوبه.
واستدلّ للثاني:
1 - بصحيح ابن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن التيمّم:
«فضرب بكفّيه الأرض، ثمّ مَسَح بهما وجهه، ثمّ ضَرَب بشماله الأرض فمَسَح بها مِرْفَقه إلى أطراف الأصابع، واحدة على ظهرها وواحدة على بطنها، ثمّ ضَرَب بيمينه الأرض، ثُمّ صنع بشماله كما صنع بيمينه»(3).
2 - وصحيح ليث المرادي، عنه عليه السلام في التيمّم: «تضرب بكفّيك على الأرض مرّتين، ثمّ تنفضهما، وتمسح بهما وجهك وذراعيك»(4).
3 - وموثّق سماعة وفيه: «فَمَسَح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين»(5).0.
ص: 344
وأجاب عنها صاحب «الحدائق» رحمه الله(1): بأنّها مخالفة لظاهر القرآن، المأمور بعرض الأخبار عليه والأخذ بما وافقه وردّ ما خالفه، لمكان الباء الظاهرة في التبعيض بالتقريب المتقدّم.
وفيه: إنّ اليد عرفاً ولغةً هي من الكتف، فهذه النصوص لا تُنافي ظاهر الكتاب.
فالصحيح في الجواب عنها:
1 - مضافاً إلى اشتمالها على مَسح الباطن، وتثليث الضربات الذين لانقول بهما.
2 - وعدم صلاحيّتها لمعارضة النصوص المتقدّمة الصريحة في عدم وجوب مسح ما فوق الكفّ كما لا يخفى .
3 - أنّها معارضة مع صحيح زرارة(2)، قال: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: وذكر التيمّم - إلى أن قال - ومَسَح وجهه وكفّيه ولم يمسح الذراعين بشيء».
الظاهر في عدم محبوبيّة مسح الذراعين، ولو على سبيل الاستحباب، فلا يبقى وجه للجمع بين النصوص، بحمل هذه الطائفة على الاستحباب، لا سيّما مع ندرة القائل بالاستحباب أيضاً. فتأمّل مع أنّ الأظهر ورودها مورد التقيّة.
واستدلّ للثالث: بصحيح داود بن النعمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، عن التيمّم، قال:
«إنّ عمّاراً أصابته جنابة - إلى أن قال - فوضع يده على الأرض، ثمّ رفعها فمَسَح وجهه ويديه فوق الكفّ قليلاً»(3).
ونحوه صحيح أبي أيّوب الخزّاز(4).
وهما وإنْ كان موردهما ما هو بدلٌ عن غُسل الجنابة، وقد أفتى في محكيّ 2.
ص: 345
«الفقيه»(1) به في موردهما، إلّاأنّه لا يوجب تقييد إطلاقهما، ولذا أفتى الصدوق في «المقنع»(2) بثبوت هذا الحكم الذي تضمّناه فيما هو بدلٌ عن الوضوء أيضاً.
أقول: ويرد على هذا الدليل:
1 - مضافاً إلى أنّ نصوص الكفّ ، وصحيح زرارة المتقدّم، الصّريح في عدم وجوب مسح ما فوق الكفّ ، تمنع عن العمل بظاهرهما.
2 - فضلاً عن عدم عمل الأصحاب بهما.
3 - إضافةً إلى احتمال إرادة المسح فوقهما من باب المقدّمة.
4 - أنّه يحتمل أن يكون قليلاً صفة مصدرٍ محذوف، أي: (مَسْحَاً قليلاً)، ويكون المراد من فوق الكفّ ظهر الكفّ ، فيكون مفادهما حينئذٍ أنّه مَسَح ظهر كفّه مَسْحَاً قليلاً، بأن وضع مثلاً تمام بطن إحدى الكفّين على ظهر الاُخرى ، فمسح قليلاً بنحوٍ استوعب الممسوح، ولم يمرّ تمام بطن إحداهما على ظهر الاُخرى .
واستدلّ للأخير: بمرسل(3) حمّاد بن عيسى ، عن بعض أصحابنا، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سُئل عن التيمّم فتلا هذه الآية وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (4) ثمّ قال: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ (5) ثمّ قال: فامسَح على كفّيك من حيث موضع القطع، وقال: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (6).
ولا يضرّ إرساله بعد كون المُرسِل من أصحاب الإجماع.4.
ص: 346
وفيه أوّلاً: أنّ إعراض الأصحاب عنه يمنع عن العمل به.
وثانياً: أنّ الظاهر كون المعصوم عليه السلام في هذا الخبر - بقرينة ذكر الآيتين غير المربوطتين بالمقام، وقوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (1)- بصدد تعليم الاستدلال على العامّة، وأراد من موضع القطع موضع القطع عندهم، وتكون كيفيّة الاستدلال هي أنّ (اليد) مع الإطلاق يتبادر منها الكفّ ، فإذا اُريد الزائد عليها، لابدَّ من نصب القرينة بدليل الآيتين، حيث أُطلقت (اليد) في الأُولى ، وذُكرت في الثانية مع القرينة.
وعليه، فبما أنّها ذكرت في آية التيمّم بلا قرينة، فيتبادر منها الكفّ خاصّة، ولو كان المراد ما فوق الكفّ لاستلزام بيان ذلك كما بيّنه في الوضوء، فإنّ اللّه تعالى لا ينسى شيئاً. فتدبّر.
أقول: فتحصّل ممّا ذكرناه أنّ ما هو المشهور هو الأقوى .
وكيف كان، فالواجب هو مسح ظهر اليد دون باطنها إجماعاً، حكاه جماعة، ويشهد له - مضافاً إلى ذلك - حَسن الكاهلي(2): «ثمّ مَسَح كفّيه إحداهما على ظهر الاُخرى »، ونحوه موثّق زرارة(3).
أيضاً: الواجب مَسح ما تماسّه بَشَرة الماسح، فلا يجب مسح ما بين الأصابع، ولا التعميق والتدفيق فيه، كما يشهد له التيمّمات البيانيّة.
***5.
ص: 347
ثمّ إنّه يقع الكلام في سائر ما يعتبر في التيمّم، التي نصّ على بعضها المصنّف رحمه الله، وهي اُمور:
الأمر الأوّل: المباشرة في حال الاختيار، بأن يتولّاه بنفسه، بلا خلافٍ كما عن «المنتهى »(1)، بل إجماعاً كما عن غير واحد.
ويشهد له: أنّ ظاهر توجّه الخطاب إلى المكلّف، هو اعتبار صدور الفعل من نفسه، وعدم سقوطه بفعل الغير.
وبعبارة اُخرى: الأمر بشيءٍ ظاهرٌ في أنّ المطلوب هو خصوص المادّة الصادرة عن المخاطب، كما هو الحال في سائر الأفعال المستندة إلى شخص، فإنّها ظاهرة في انتساب الفعل إلى نفس من استند إليه، فسقوط الواجب بفعل الغير، يستلزمُ تقييد الواجب.
وعليه، فإذا كان المولى في مقام البيان، وأمَرَ بشيءٍ ولم يُقيّده بعدم صدوره من غيره، مقتضى الإطلاق عدم اشتراط الواجب بعدم صدوره من الغير، وعلى فرض عدم وجود الإطلاق، فإنّ مقتضى استصحاب بقاء التكليف، عدم سقوطه بفعل الغير.
هذا مضافاً إلى ما ذكرناه في وجه اعتبار المباشرة في الوضوء، فراجع ما ذكرناه في بحث (المباشرة في أفعال الوضوء)(2) من هذا الشرح، فإنّه يجري في المقام مطابقة النعل بالنعل.
***
ص: 348
الأمر الثاني: الموالاة، كما هو المشهور شهرةً عظيمة.
وعن «الغُنية»(1)، و «التذكرة»(2)، و «المنتهى »(3)، و «جامع المقاصد»(4)، و «الروض»(5) وغيرها: دعوى الإجماع عليه.
وعن «النهاية»(6): احتمال عدم اعتبارها في ما هو بدلٌ عن الغسل، واختاره في محكيّ «الدروس»(7).
واستدلّ للأوّل: في محكيّ «المنتهى»، بقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا فهي توجب التيمّم عقيب إرادة القيام إلى الصّلاة، ولا يتحقّق إلّابمجموع أجزائه، فيجب فعله عقيب الإرادة بقدر الإمكان.
وأورد عليه السيّد في مداركه(8): بأنّ المراد بالتيمّم هنا معناه اللّغوي، وهو غير ما نحن فيه.
وتبعه بعض المعاصرين(9).
وفيه: إنّه اُريد بالتيمّم في الآية المعنى الشرعي، غاية الأمر باستعماله في معناه
ص: 349
اللّغوي وإرادة المعنى الشرعي منه، بالتقريب المتقدّم في أوّل هذا المبحث، فالصحيح أن يورد عليه:
أنّ الفاء إنّما تكون فاء الجزاء، وهي لا تدلّ على شيءٍ سوى الترتّب بالعليّة، مع أنّ المراد بالشرط هو القيام من النوم، لا إرادة القيام إلى الصّلاة، كما يشهد لذلك جملةٌ من النصوص الواردة في تفسيرها، ومن المعلوم عدم وجوب فعله عقيب النوم مباشرةً ، فلا مورد للاستدلال به.
واستدلّ له في محكيّ «الذكرى»(1): بأنّه يجب التأسّي بالتيمّم البياني الصادر عن النبيّ صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.
وأورد عليه في «المدارك»(2): بأنّ التأسّي إنّما يجبُ فيما يعلم وجوبه وهو منتفٍ هنا، إذ من الجائز أن تكون المتابعة إنّما وقعت اتّفاقاً)، انتهى.
وفيه: أنّ الفعل الصادر منهم عليهم السلام في مقام بيان الحكم - كما في المقام - لا ريب في ظهوره في الوجوب، كما أنّ حكاية المعصوم عليه السلام في مقام بيان الحكم تيمّم النبيّ صلى الله عليه و آله ظاهرة فيه.
فالصحيح أن يُورد عليه: بأنّ ظهور الفعل أو الحكاية في الوجوب، كظهور الأمر فيه، إنّما يكون مع عدم القرينة أو ما يصلح لها، وفي المقام قامت القرينة على أنّه عليه السلام في مقام التعليم، إذ ذلك يقتضى بيان جميع أجزائه مرّةً واحدة، ولا يحسن التفكيك بينها في هذا المقام، وإنْ لم يكن التوالي فيها، كما لا يخفى .
واستدلّ له في «المدارك» (3) : بأنّه لو قلنا باختصاص التيمّم بآخر الوقت بالمعنى الذي ذكروه، كانت الموالاة من ضروريّات صحّته، لتقع الصّلاة في الوقت.8.
ص: 350
وفيه: أنّ محلّ الكلام اعتبار الموالاة في صحّة التيمّم، لا لزوم مراعاتها لأجل فوت الصّلاة بتركها، وإلّا لوجب مراعاتها في الغُسل في ضيق الوقت أيضاً، وهو غير مرتبط بالوجوب الشرطي، مع أنّ من يقول باختصاص التيمّم بآخر الوقت إنّما يقصد آخر الوقت العرفي، وهو لا يقتضي الموالاة، كما لا يخفى .
أقول: والتحقيق يقتضي أن يُستدلّ لاعتبارها:
1 - فضلاً عن الإجماع.
2 - وما قيل من إنّ الأمر بمركّبٌ ذي أجزاء مرتبطٌ بعضها ببعض في التأثير، يتبادر منه إرادة الإتيان بتمام أجزائه متواليةً لا بالتفريق، كما يظهر لمن لاحظ نظائر المقام، مثلاً لا يَفهم العرف من الأمر بتسبيحة الزهراء عليها السلام بعد الصّلاة إلّامطلوبيّة إتيان جميع تلك الأذكار متوالية، لا بنحو التفريق والتقطيع، بأن يُكبّر في أوّل الصبح، ويَحمد في الظّهر، ويُسبّح في العصر.
3 - بالفاء في قوله تعالى: فَامْسَحُوا عقيب قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا لدلالتها على التعقيب بنحو الاتّصال في مسح الوجه، وإذا ثبت اعتبارها في مسح الوجه والضّرب على الصَّعيد، ثبت في مسح الوجه ومسح اليدين:
إمّا لعدم القول بالفصل كما عن «جامع المقاصد»(1).
أو لاقتضاء العطف ذلك، فإنّه يدلّ على مشاركة المعطوف مع المعطوف عليه في الحكم.
واستدلّ للثاني: بإطلاق دليل البدليّة(2).ه.
ص: 351
وفيه: ما عرفت مراراً من عدم الاستدلال به في مثل هذه الخصوصيّة، فضلاً عن أنّ المراد بالموالاة هي المتابعة العرفيّة، فان مقتضى الأدلّة المذكورة ذلك.
وأمّا ما في «الجواهر»(1): من أنّ المراد بها عدم التفريق المنافي لهيئة ذلك التيمّم وصورته.
فيرد عليه: أنّ صورة التيمّم كغيره من العبادات، ليست إلّاأجزائه وشروطه المعتبرة فيه، إذ معها يتحقّق الاسم، ولم تثبت الهيئة الاتّصاليّة للتيمّم، كما ثبت في الصّلاة، كي يقال إنّ الفصل الماحي لتلك الصورة موجب للبطلان، وعليه فتفسير الموالاة بعدم التفريق المنافي لهيئة ذلك التيمّم في غير محلّه.
وأضعف منه: ما عن «الدروس»(2) من أنّ المراد بها هو المعنى المعتبر في الوضوء، بتقدير الجفاف إنْ كان ماءً لعدم الدليل عليه، وكونه خلاف المقطوع به منهم.
***3.
ص: 352
الأمر الثالث: الابتداء بالأعلى ومنه إلى الأسفل، كما صرّح به جماعة.
وفي «الحدائق»(1): نسبته إلى المشهور.
وعن المحقّق الثاني(2): دعوى الإجماع عليه في اليدين.
وعن المحقّق الأردبيلي(3) و «كشف اللّثام»(4): الالتزام بعدم وجوبه. وجَعَل رعايته في «المدارك»(5) أحوط.
واستدلّ للأوّل:
1 - بأدلّة البدليّة(6) والتنزيل، سيّما بعدما ورد في بعض الأخبار(7) من أنّ التيمّم نصف الوضوء.
2 - وبالتيمّمات البيانيّة.
3 - وبالإجماع.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا أدلّة البدليّة: فلما مرّ غير مرّةٍ من أن تلك الأدلّة لا تدلّ على اعتبار مثل هذه الخصوصيّات، وإلّا لزم تخصيص الأكثر، مع أنّ مقتضى تلك الأدلّة التفصيل بين ما هو بدلٌ عن الوضوء، وما هو بدلٌ عن الغُسل، فيعتبر في الأوّل دون الثاني.
لا يُقال: إنّه إنْ ثبت ذلك فيما هو بدلٌ عن الوضوء، ثبت فيما هو بدلٌ عن الغُسل
ص: 353
لعدم القول بالفصل.
فإنّه يُقال: إنّه يمكن أن يعكس ذلك، فيلتزم بعدم اعتباره فيما هو بدلٌ عن الوضوء أيضاً لذلك.
وأمّا التيمّمات البيانيّة فليس في شيء منها التعرّض لذلك، كي يُستدلّ بها لاعتباره، وعلى فرض التعرّض:
فإنْ كان الحاكي للفعل مع هذه الخصوصيّة، هو المعصوم عليه السلام، صحّ الاستدلال بتلك الحكاية، لظهورها في اعتبارها، وإلّا لما تعرّض لها.
وإنْ كان غيره عليه السلام، فلا يصلح الاستدلال بها، إذ الفعل لا يصلح أنْ يكون دليلاً على اعتبار مثل هذه الخصوصيّة، لأنّه لابدَّ وأن يقع على أحد الوجهين، وهذا يصلحُ أن يكون قرينةً لصرف ظهور الفعل الواقع لبيان الحكم عن الوجوب.
وأمّا الإجماع: فلأنّ مدّعيه إنّما استظهره من دعوى إجماع غير واحدٍ - منهم:
السيّد(1)، وابن زُهرة(2)، والصدوق(3) وغيرهم - على وجوب مسح الجبهة من القصاص إلى طرف الأنف، بدعوى رجوع القيد إلى المسح، وإلّا فلم يُصرّح باعتبار ذلك إلّاجماعة.
وفيه: - مضافاً إلى اختصاصه حينئذٍ بالوجه، لعدم التعرّض لبيانه بالنسبة إلى ظهر الكفّين - أنّه مسوقٌ لبيان تحديد الممسوح، لا لكيفيّة المسح، ولا أقلّ من احتمال ذلك.
وأمّا صحيح ابن مسلم المتقدّم: «ثمّ ضَرَب بشماله الأرض فمَسَح بها مرفقه إلى).
ص: 354
أطراف الأصابع»(1)، فلو سُلّم ظهوره في اعتبار ذلك، لا يُعتمد عليه، لما عرفت من أنّه مطروحٌ ، أو محمولٌ على التقيّة.
وكذلك لا يصحّ الاستدلال بما في «الفقه الرضوي» لضعف سنده.
وأمّا مرسل حمّاد: «فامسح على كفّيك مِن حيثُ موضع القطع»(2)، فقد عرفت أنّ الأظهر وروده في مقام بيان تعليم كيفيّة الاحتجاج مع العامّة، وليس في مقام بيان الحكم الواقعي، فلا يستدلّ به، مع أنّ رجوع القيد إلى المسح لا الممسوح غيرَ ظاهر.
وبالجملة: فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه لا دليل على اعتبار هذه الخصوصيّة، والمرجع إلى إطلاق الأدلّة والأصل، وهما يقتضيان العدم.
الأمر الرابع: عدم الحائل بين الماسح والممسوح، لظهور الأدلّة في اعتبار ممّاسة الماسح للممسوح، وإلّا فيكون الممسوح هو الحائل لا الوجه أو اليدين كماهو واضح.
***
ص: 355
الأمر الخامس: طهارة الماسح والممسوح، كما صرّح به جماعة.
وعن «شرح المفاتيح»(1): نسبته إلى الفقهاء.
وعن الشهيد في حاشيته على «القواعد»(2): الإجماع على اعتبار طهارة أعضاء التيمّم.
ولكن صاحب «الجواهر»(3) يدّعي أنّه لم يعثر على مصرّح بشيءٍ منه من قدماء الأصحاب.
وعليه، فالاستدلال على اعتبار الطهارة بالإجماع غير تامّ .
واستدلّ عليه: بأنّ التّراب ينجس بملاقاة النجس، فلا يكون طيباً، وبأنّ بدليّته من الطهارة المائيّة تقتضي مساواته لها في جميع الأحكام.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّه إنّما يختصّ بالنجاسة السارية، فهو أخصّ من المُدّعى، مع أنّه يختصّ بالماسح، ولا يشمل الممسوح، كما هو واضح.
وأمّا ما أورده عليه: بأنّ ما دلَّ على اعتبار طهارة ما يتيمّم به، إنّما يدلّ على اعتبار الطهارة عند إرادة التيمّم، فالنجاسة الحاصلة باستعماله لا تكون مانعة.
فغير تامّ : لظهوره في اعتبار الطهارة حين الاستعمال في التيمّم.
ص: 356
وأمّا أدلّة البدليّة: فقد تقدّم عدم استفادة هذه الاُمور منها، مع أنّك قد عرفت عدم الدليل على اعتبار طهارة ماء الوضوء.
وبالجملة: فالأظهر عدم اعتبارها، كما عن «المدارك»(1)، وفي «الحدائق»(2)، وعن «مجمع البرهان»(3)، والسيّد عميدالدين(4) وابن فهد(5)، وإنْ كان الأحوط ذلك.
***9.
ص: 357
ولو كان بدلاً من الغُسل، ضَرَب ضربتين، ضَربةً للوجه واُخرى لليدين.
الأمر السادس: المشهور على أنّه لو كان التيمّم بدلاً عن الوضوء، ضَرَب ضربةً واحدةً للوجه واليدين، (ولو كان بدلاً من الغُسل ضَرَب ضربتين: ضَربةً للوجه، واُخرى لليدين).
وفي «الجواهر»(1): هو المشهور نقلاً وتحصيلاً بين المتقدّمين والمتأخّرين، شهرةً عظيمةً كادت تكون إجماعاً.
وعن ظاهر «التهذيب»(2) و «التبيان»(3) و «مجمع البيان»(4): دعوى الإجماع عليه.
وعن «الأمالي»(5): نسبته إلى دين الإماميّة.
وعن المفيد(6) في الأركان، وجماعة من القدماء: أنّه ضربتان في الكلّ .
ص: 358
وعن السيّد(1) والمفيد(2) في العزيّة، والقديمين، وابن زُهرة(3)، و «المعتبر»(4)، و «الذكرى»(5)، والكليني في «الكافي»(6)، والقاضي(7): أنّه ضربة واحدة في الجميع.
وعن علي بن بابويه(8): اعتبار ثلاث ضربات.
وفي «المعتبر»(9) نسبته إلى قوم منّا.
هذه هي أقوال المسألة.
وأمّا النصوص الواردة في المقام: فهي على طوائف:
الطائفة الأُولى : ما دلَّ على الاكتفاء بالضربة في الجميع:
منها: موثّق زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام عن التيمّم: «فَضَرب بيده إلى الأرض، ثمّ رفعهما فنفضها، ثمّ مَسَح بها جبينه وكفّيه مرّةً واحدة»(10).
ونحوه صحيحا زرارة(11) وخبره(12)، وخبر ابن أبي المِقْدام(13)، وحَسن6.
ص: 359
الكاهلي(1)، وموثّق سماعة(2)، وموثّق زرارة(3) المرويّ في مستطرفات «السرائر»، وصحيحا(4) داود بن النعمان، وأبي أيّوب الخزّار.
الطائفة الثانية: ما دلَّ على اعتبار الضربتين في الجميع:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما، عن التيمّم، فقال عليه السلام: «مرّتين مرّتين للوجه واليدين»(5).
ونحوه صحيح الكندي(6)، وخبر ليث(7).
الطائفة الثالثة: ما دلَّ على اعتبار الثلاث:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
«سألته عن التيمّم ؟ فضرب بكفّيه الأرض، ثمّ مسح بهما وجهه، ثمّ ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع، واحدة على ظهرها، وواحدة على بطنها، ثمّ ضرب بيمينه الأرض، ثمّ صنع بشماله كما صنع بيمينه»(8).
الطائفة الرابعة: ما توهم دلالته على التفصيل بين ما هو بدلٌ عن الوضوء فيكتفى فيه بالضربة، وما هو بدلٌ عن الغُسل فيعتبر فيه ضربتان:
منها: المروي(9) عن «المنتهى »(10): أنّه روى الشيخ في الصحيح، عن الإمام7.
ص: 360
الصادق عليه السلام: «أنّ التيمّم للوضوء مرّة واحدة، ومن الجنابة مرّتان».
ومنها: صحيح زرارة(1)، عن الباقر عليه السلام، قلت له: «كيف التيمّم ؟ قال عليه السلام: هو ضربٌ واحد للوضوء، والغُسل من الجنابة تضرب بيديك مرّتين، ثمّ تنفضهما نفضةً للوجه ونفضة لليدين».
بدعوى أنّ (الواو) في قوله عليه السلام (والغُسل) استئنافيّة لا عاطفة.
ومنها: صحيح ابن مسلم(2) المتقدّم، الدالّ على اعتبار الثلاث، المذيّل بقوله عليه السلام: «هذا التيمّم على ما كان فيه الغُسل، وفي الوضوء الوجه واليدين إلى المرفقين، وألقى ما كان عليه مسح الرأس والقدمين فلا يتيمّم بالصعيد».
بدعوى أنّ المستفاد منه الفرق بين القسمين في عَدَد الضربات.
ومنها: المرسل المستفاد من «جمل» السيّد(3) و «الغُنية»(4) وغيرهما من نسبة التفصيل إلى رواية أصحابنا.
الطائفة الخامسة: ما دلَّ على التسوية بين القسمين:
منها: موثّق عمّار(5)، عن الصادق عليه السلام، قال: «سألته عن التيمّم من الوضوء ومن الجنابة، ومن الحيض للنساء سواء؟ فقال عليه السلام: نعم».
استدلّ للمشهور بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّ الطائفة الرابعة المفصّلة بين القسمين، شاهدة للجمع بين6.
ص: 361
الأوليين، بحمل الأُولى على ما هو بدلٌ عن الوضوء، والثانية على ما هو بدلٌ عن الغُسل.
وبعبارة اُخرى: تقيّد إطلاق كلتا الطائفتين، وكذلك تقيّد إطلاق الطائفة الخامسة، توجب حملها على إرادة التسوية في الممسوح لا مطلقاً.
وأمّا الثالثة، فتطرح لإعراض الأصحاب عنها.
وفيه: أنّ تلك الطائفة ما بين غير دالٍّ على التفصيل، وغير ثابت الحجّية، لأنّ صحيح «المنتهى » قد طعن فيه جماعة، منهم: السيّد في «المدارك»(1)، وصاحب «الوسائل»(2): بأنّه لا وجود له في كتب الشيخ ولا في غيرها، حيث يقول: (وهذا وهمٌ عجيبٌ ، لأنّ الحديث المدّعى لا وجود له، بل هو حديث ابن اُذينة عن محمّد بن مسلم السابق هنا، لكن الشيخ أشار إلى مضمونه على أحد الاحتمالين في أثناء كلامه في «التهذيب»، فحصل الوهم من تأدية معناه، وظنّ العلّامة وغيره أنّه حديثٌ آخر صريح وليس كذلك). انتهى (3).
أقول: الظاهر أنّه كذلك، لأنّ الشيخ في محكيّ «التهذيب»(4) بعدما جمع بين الأخبار بالحمل على التفصيل، قال:
(مع إنّا أوردنا خبرين مفسّرين لهذه الأخبار: أحدهما: عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، والآخر عن ابن أبي عُمير، عن ابن اُذينة، عن ابن مسلم، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «إنّ التيمّم من الوضوء مرّة واحدة ومن الجنابة مرّتان».
وظاهر كلامه هذا نقلُ حاصل ما فهمه من الخبرين، فإنّ الخبرين الّذين1.
ص: 362
أوردهما: هما صحيحا زرارة وابن مسلم المتقدّمان في نصوص التفصيل، اللّذان ستعرف ما فيهما، ويُشعر بذلك ذكر هذه الجملة: (إنّ التيمّم... الخ) بعد الإشارة إلى كلا الصحيحين، مع أنّه لم ينقل المصنّف في «المختلف» هذا الصحيح، ولا نقله غيره من أرباب الحديث والفقهاء.
واحتمال أن يكون متن الخبرين هو ذلك بلا تفاوت، وأنّ المصنّف رحمه الله قد وقف عليهما في كتب الشيخ، ولم يقف عليهما أحدٌ سواه، كما ترى .
أقول: ومنه يظهر ضعف ما في «الجواهر»(1) من احتمال كون هذا الخبر غير ذينك الخبرين، فلا مقتضى لردّ خبر العادل.
وأمّا صحيح زرارة: فلأنّ الظاهر ولا أقلّ من المحتمل، أن يكون (والغُسل) معطوفاً على (الوضوء)، وأنّ المراد من قوله: (هو ضَرْبٌ واحدٌ)، أنّه نوع واحد، وأنّه عليه السلام بيَّن صورته بقوله: (تضرب... الخ)، فإنّ حمل الواو على الاستئناف، مضافاً إلى أنّه يستدعي تقدير أنّ (أو) غيرها، ممّا يُصحّح الحمل ويوجب كون (تضرب... الخ) تفسيراً للغُسل لا التيمّم، وهو كما ترى .
فإنْ قلت: إنّ المراد من قوله: (ضَرْبٌ واحدٌ) إنْ كان أنّه نوعٌ واحد، لم يكن جواباً عن السؤال، وكان ذكره تطفّلاً، وهو غير مناسبٍ لوقوعه في صدر الجواب.
قلت: إنّ السائل بما أنّه سأل عن مطلق التيمّم لا خصوص قسم منه، فجوابه عليه السلام بأنّه نوعٌ واحد، ثمّ بيان حقيقته، لا يكون تطفّلاً، مع أنّ هذا - لا سيّما بعد ملاحظة ما ذكرناه - لا يوجب ظهور الصحيح في المعنى المُدّعى كما لا يخفى .
ودعوى: أنّ ما ذكر لا يتمّ في متن الخبر، على ما في «المعتبر»(2)، حيث أنّه رواه8.
ص: 363
هكذا: (ضربة واحدة للوضوء، وللغُسل من الجنابة... الخ).
مندفعة: بأنّ المحقّق انفرد بهذا النقل، وقد نقله غيره من الفقهاء وأرباب الحديث على النحو المتقدّم، فلا يعتمد على نقله، لا سيّما في كتاب «المعتبر» الذي لم يوضع لنقل الحديث، بل للإفتاء والاستدلال.
وأمّا صحيح ابن مسلم المتقدّم: فليس دالّاً على هذا التفصيل، إذ لعلّه قصد بما في ذيله من الفرق بين القسمين في الكيفيّة، بأنْ يكون الواجب فيما هو بدلٌ عن الوضوء الابتداء بالأصابع قياساً على مبدله، وفي ما هو بدلٌ عن الغُسل الانتهاء إليها. ويكون هذا أيضاً من الشواهد لحمل الخبر على التقيّة.
مع أنّه يحتمل أن يكون الغسل (بالفتح) مقابل المَسح، لا الغُسل (بالضمّ ) مقابل الوضوء، فيكون المراد أنّ التيمّم إنّما يكون على الأعضاء التي تُغسل في الوضوء لا ما تمسح.
أقول: بل يمكن دعوى ظهوره في ذلك، كما يشهد له جَرّ الوجه واليدين لكونهما بدلاً عن ما المجرورة، ويؤيّده إسقاط حرف العطف في بعض النسخ، وذكره في الوضوء غير مصدّرٍ بالواو، وقوله: (وألقى ما كان عليه مسح... الخ)، مع أنّه لو تمّت دلالته على التفصيل بين القسمين، من حيث عدد الضربات، فإنّما يدلّ على اعتبار الثلاث، فيما هو بدلٌ عن الغُسل، وعدم اعتبارها فيما هو بدلٌ عن الوضوء، فلا يدلّ على ما اختاره المشهور. وحيثُ أنّه لا قائل بمضمونه، فيطرح للإعراض.
وأمّا المراسيل: فلم يثبت كونها غير الصحيحين اللّذين استدلّ بهما الشيخ رحمه الله وغيره، وفهموا منهما التفصيل المذكور، لأنّ من البعيد وقوف هؤلاء على غيرهما دون غيرهم.
وبالجملة: فتحصّل أنّه ليس في النصوص ما يكون ظاهراً في التفصيل المزبور
ص: 364
كي يكون شاهداً للجمع، مع أنّه لو كان لما صحّ حمل نصوص المرّة على ما هو بدلٌ عن الوضوء، بعد كون أكثرها كالنّص في ما هو بدلٌ عن الغسل، لورودها في مقام تعليم عمّار لمّا أجنَب وكان فاقداً للماء، وهكذا تتحقّق المعارضة بينها وبين ما دلَّ على التفصيل، فلا يصلح أن يكون شاهدا للجمع المتقدّم.
وأمّا ما ذكره المحقّق الهمداني رحمه الله(1): من أنّ ما دلّ على التفصيل يعارض الطائفة الدالّة على التسوية بين ما هو بدلٌ عن الوضوء، وما هو بدلٌ عن الغسل، كموثّق عمّار المتقدّم.
فغير تامّ : لما عرفت من أنّه على فرض دلالة تلك النصوص على التفصيل، تكون شاهدة لحملها على التسوية في الممسوح، وإنْ كان خلاف الظاهر.
الوجه الثاني: ما عن المصنّف رحمه الله في «المختلف»(2) والمحقّق الثاني في «جامع المقاصد»(3)، من الجمع بين النصوص بالالتزام بالتفصيل المذكور معلّلاً، بأنّ وجوب استيعاب الجسد في الغُسل يناسب كثرة الضربات، وعدم الاستيعاب في الوضوء يناسب وحدتها، وبأنّهما حَدَثان مختلفان في المبدل فيختلفان في البدل، وحيثُ أنّه لا تفصيل وراء هذا التفصيل قطعاً، فيتعيّن الالتزام به.
وفيه: إنّ هذه الوجوه الاعتباريّة الاستحسانيّة، لا تصلحُ أن تكون مدركاً للحكم الشرعي.
الوجه الثالث: حمل أخبار المرّة على البدل عن الوضوء، ونصوص المرّتين على البدل من الغُسل، بقرينة الشهرة ونقل الإجماع، بدعوى أنّ الأُولى نصٌّ في كفاية4.
ص: 365
المرّة في الجملة، وظاهرة في الإطّراد، والثانية نصٌّ في اعتبار التعدّد في الجملة، وظاهرة في الإطّراد، ومقتضى القاعدة رفع اليد عن ظهور كلٍّ منهما بنصّ الاُخرى ، فتكون النتيجة وجود القسمين في التيمّم، وحيث لا تفصيل آخر، فيتعيّن الالتزام بالتفصيل المشهور.
وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت من نصوصيّة أخبار المرّة فيما هو بدلٌ عن الغُسل فلا يصحّ هذا الحمل - أنّه ليس جمعاً عرفيّاً، كما يشهد له أنّه لو جمعنا الطائفتين في كلامٍ واحد، لا يرى العرف إحداهما قرينةً على التصرّف في الاُخرى ، بل يرونهما متنافيتين، وهو آية عدم كون هذا الجمع جمعاً عرفيّاً.
وأمّا الشهرة فلا تصلح أن تكون شاهدة له في حَدّ نفسها.
فتحصّل ممّا ذكرناه: ضعف القول بالتفصيل، ويؤكّده ما دلَّ على التسوية بين ما هو بدل عن الوضوء، وما هو بدلٌ عن الغُسل.
وأمّا القول باعتبار الثلاث: فهو أيضاً ضعيفٌ لضعف مستنده، وهو صحيح ابن مسلم المتقدّم، لإعراض الأصحاب عنه، ومعارضته بما هو أشهر منه كما هو واضح.
فيدور الأمر بين القولين:
1 - الاكتفاء بالمرّة مطلقاً.
2 - أو اعتبار الضربتين كذلك.
وحيثُ أنّه لم يبق من النصوص ما يمكن أن يستدلّ به إلّاالنصوص الدالّة على كلٍّ من القولين، كما عرفت، فيتعيّن: إمّا تقييد الأُولى بالثانية، أو الالتزام بأنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، أو حمل الثانية، إمّا على الاستحباب، أو حملها على التقيّة.
ولازم الأولين اعتبار الضربتين مطلقاً، ولازم الثالث الاكتفاء بالمرّة
ص: 366
واستحباب المرّتين، كما أنّ لازم الرابع الاكتفاء بالمرّة، وعدم الدليل على استحباب الثانية.
أقول: لا سبيل إلى الأوّل، إذ نصوص المرّة لورودها في مقام بيان التعليم، وخلوّها عن التعرّض للثانية كالنّص في عدم وجوب الزائد، وليست من قبيل المطلق كي تقيّد بما دلَّ على اعتبار المرّتين.
وأمّا دعوى: أنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة:
إمّا بدعوى عدم إرادتهم في تلك الوقائع، إلّابيان كيفيّة المسح لا عدد الضربات، ولذا ضَرَب بيديه على البساط.
وإمّا بدعوى أنّ الحاكي اقتصر على حكاية الضربة الواحدة، لعدم تعلّق غرضه بنقل الفعل بجميع الخصوصيّات، ولذا أهمل ذكر جملةٍ من الخصوصيّات.
مندفعة: بأنّ النبي صلى الله عليه و آله في مقام تعليم عمّار الذي كان لا يعرف من التيمّم شيئاً سوى لزوم إيجاده بالصعيد، كما يظهر من ملاحظة فعله لا يكون في مقام الإهمال من هذه الجهة، ولذا ضرب بيديه على الأرض ليعلّمه كيفيّة التيمّم بالصعيد)، فلا وجه للالتزام بأنّها مهملة من هذه الجهة.
وأمّا ضرب يديه على البساط، إنّما هو لأجل أنّ عمّاراً كان يعلم بلزوم كونه بالصعيد، ولذا لم يتعرّض له، بخلاف الضّرب على الأرض مرّة أو مرّتين، فلو كان الواجب مرّتين، لم يترك النبي صلى الله عليه و آله الثانية، مع كونه في مقام بيان التيمّم الواجب.
وأمّا الحاكي لهذا الفعل الذي هو المعصوم عليه السلام، فلا يترك مثل هذه الخصوصيّة على فرض صدور ضربة اُخرى لليدين من النبيّ صلى الله عليه و آله، مع كونه عليه السلام في مقام بيان ماهيّة التيمّم.
وبالجملة: فنصوص المرّة صريحة في عدم وجوب الزائد.
ص: 367
ويؤيّده: قوله عليه السلام في موثّق زرارة: «فَضَرب بيديه على الأرض، ثمّ رفعهما فنفضهما، ثمّ مَسَح بهما جبهته وكفّيه مرّةً واحدة»، ونحوه خبر ابن أبي المقدام، وقريبٌ منه صحيح زرارة إذ فيه: «ثمّ لم يعد ذلك»، إذ الظاهر بحسب القواعد العربيّة - وإنْ كان رجوع القيد إلى المسح، إلّاأنّه من جهة عدم الخلاف من أحدٍ منّا ومن مخالفينا في الإكتفاء بمسحة واحدة - لا يبعد دعوى رجوعه إلى الضّرب لا إلى المسح، فتدبّر.
وأمّا دعوى: حمل نصوص المرّتين على التقيّة، كما عن المحقّق المجلسي(1)، وفي «الحدائق»(2) فقد استدلّ لها: بأنّ القول المشهور بين المخالفين الضربتان.
وفيه: أنّ مجرّد الموافقة لمذهب المخالفين، لا يصلح أن يكون دليلاً على الحمل على التقيّة، فإنّ مخالفة العامّة تعدّ من مرجّحات إحدى الحُجّتين على الاُخرى عند التعارض، وفقد جملةٍ من المرجّحات، لا أنّها من مميّزات الحجّة عن اللّاحجّة، فمع إمكان الجمع العرفي، لا وجه للحمل على التقيّة. مع أنّ المشهور بينهم نسبة القول بالضربة إلى عليّ عليه السلام وعمّار التابع له وابن عبّاس، وهو المنقول عن جماعةٍ من فقهائهم وجمهور محدّثيهم، فيتعيّن الجمع بحمل نصوص المرّتين على الاستحباب.
فتحصّل: أنّ الأقوى الاكتفاء بالمرّة مطلقاً، واستحباب الضربتين كذلك.
***0.
ص: 368
أقول: بقي في المقام فرعان، لابدَّ من التعرّض لهما:
الفرع الأوّل: أنّه على القول بالتفصيل هل الأغسال سواءٌ في كيفيّة التيمّم كما هو المشهور، وفي «الجواهر»(1): قولاً واحداً؟
أم يُفصّل بين أسباب الغُسل، فالتعدّد واجبٌ في الجنابة دون غيرها؟ وجهان:
ويشهد للأوّل: صحيح أبي بصير: «سألته عن تيمّم الحائض والجُنُب، سواءٌ إذا لم يجدا ماءً؟ قال: نعم».
فإنّه بضميمة عدم الفصل بين الحيض وسائر أسباب الغُسل، يدلّ على ذلك، ويؤيّده قوله عليه السلام في صحيح ابن مسلم المتقدّم في أدلّة التفصيل: «هذا التيمّم على ما كان فيه الغُسل... الخ»(2).
فإنّه على فرض دلالته على القول بوجود القسمين، يدلّ على أنّ التعدّد إنّما يعتبر في جميع أسباب الغُسل.
الفرع الثاني: هل يعتبر التوالي بين الضربتين، أم يعتبر الفصل بينهما بمسح الوجه، أم يتخيّر بينهما؟ وجوه:
أقواها الأخير، لأنّ الجمع بين صحيح الكندي: «التيمّم ضربةٌ للوجه وضربة للكفّين»(3)، الظاهر في تعيّن الثاني.
وبين خبر ليث، المرويّ عن «التهذيب»(4)، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«تضرب بكفّيك على الأرض مرّتين، ثمّ تنفضهما، وتمسح بهما وجهك
ص: 369
وذراعيك»، الظاهر في تعيّن الأوّل، يقتضي الالتزام بالتخيير بين الكيفيّتين، ولكن بما أنّ خبر ليث متضمّنٌ لسمح الذراعين، ولأجله قيل إنّه يُحمل على التقيّة، ويكون العمل بما تضمّنه الصحيح أحوط وأولى .
كما أنّ العمل بما قيل إنّ غاية الاحتياط أن يضرب مع ذلك مرّة اُخرى يده اليسرى ، ويمسح بها ظهر اليمنى، ثُمّ يضرب اليمنى ويمسَح بها اليسرى ، لا بأس به، لصحيح ابن مسلم المتقدّم الذي استدلّ به للقول باعتبار الثلاث.
***
ص: 370
وَيَجِب الترتيب.
(و) السابع ممّا (يجب) في التيمّم: (الترتيب) على الوجه المذكور إجماعاً، كما عن «الغُنية»(1)، و «المنتهى »(2)، و «المدارك»(3)، و «المفاتيح»(4) وغيرها، واستدلّ له بالنصوص البيانيّة.
وفيه: أنّ ظاهر الفعل في مقام بيان الحكم، وإنْ كان هو الوجوب، إلّاأنّه في غير مثل هذه الخصوصيّة، التي يمكن أن تكون لأجل أنّ الترتيب من ضروريّات الأفعال، الّتي لا يمكن الجمع بينها، فالأولى أن يُستدلّ له في غير مسح الكفّين:
1 - بالآية(5) الشريفة، فإنّ (الفاء) تدلّ على الترتيب، فهي تدلّ على اعتباره بين مسح الوجه وضرب اليدين، وكذلك الواو عند القُرّاء، فهي تدلّ على اعتباره بين مسح اليدين، ومسح الوجه.
2 - وبما تضمّن حكاية الإمام عليه السلام الترتيب، كصحيح زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام: «فضرب بيديه على الأرض، ثمّ ضَرَب إحداهما على الاُخرى ، ثمّ مَسَح بجبينه، ثمّ مسح كفّيه(6)... الخ».
ص: 371
وأمّا الترتيب بين مسح اليد اليمنى ، ومسح اليد اليسرى ، فلا دليل عليه من الكتاب والسُنّة، لخلوّهما عنه.
فالعمدة فيه الإجماع المتقدّم.
وأمّا صحيح ابن مسلم: المتقدّم في مسح اليدين، فهو وإنْ كان ظاهراً في اعتباره، إلّا أنّه سبق وأن ذكرنا تعيّن طرحه أو حمله على التقيَّة، فلا وجه للاستدلال به.
وأمّا الفقه الرضوي(1): فهو وإنْ دلَّ عليه، إلّاأنّه لضعف سنده لا يُعتمد عليه.
***3.
ص: 372
في كفاية المسح على الشَّعر وعدمها
أقول: هنا فروع ينبغي البحث عن حكمها:
الفرع الأوّل: إذا كان على محلّ المسح لحمٌ زائد وجب مسحه، لأنّه يعدّ عرفاً من أجزاء الممسوح، وإنْ كانت له يدٌزائدة، فالحكم فيها كمامرّ في الوضوء، فراجع.(1)
الفرع الثاني: إذا كان على محلّ المسح شعرٌ، بأن كان منبته فيه، يكفي المسح عليه للسيرة المستمرّة القطعيّة، ولخلوّ النصوص عن التعرّض لإزالة الشَّعر ومسح البشرة، مع غلبة وجوده، وعموم الابتلاء به، فإنّه دليلٌ قطعي على أنّ المراد من الممسوح ما يعمّ الشَّعر.
أقول: وقد استدلّ له باُمور اُخر:
الأوّل: أنّه يكون عرفاً من توابع ما نَبَت عليه.
الثاني: انسباق الذّهن إلى مسحه من الأمر بمسح الجبهة واليدين.
الثالث: لزوم الحَرَج من وجوب إزالته بالحلق ونحوه.
الرابع: دلالة عموم(2): «كلّ ما أحاط به الشَّعر... الخ».
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ التبعيّة الخارجيّة أعمٌّ من التبعيّة في الدلالة، مع أنّ مقتضى التبعيّة لزوم مسحه أيضاً، لا الاكتفاء بمسحه عن مسح البشرة.
وأمّا الثاني: فلأنّ كون الشَّعر غير الجبهة واليدين مفهوماً وخارجاً مانعٌ عن الانسباق المذكور.
وأمّا الثالث: فلأنّ الحَرَج لا يلزم نوعاً من الإزالة بالحلق، مع أنّ لزوم الحَرَج يمنع عن وجوب مسح البشرة عند لزومه لا مطلقاً.
ص: 373
وأمّا الرابع: فقد مرّ في مبحث الوضوء(1) عدم شموله للممسوح في الوضوء، فضلاً عن التيمّم. وبالجملة: فالصحيح ما ذكرناه.
الفرع الثالث: إذا كان على الماسح أو الممسوح جبيرة، يكفي المسح بها أو عليها.
بلا خلافٍ يُعرف، كما في «الجواهر»(2)، وعن غيرها دعوى الإجماع عليه.
واستدلّ له:
1 - بقاعدة الميسور.
2 - وبخبر عبد الأعلى مولى آل سام، عن الصادق عليه السلام، قال: قلت له:
«عثرتُ فانقطع ظُفري، فجعلتُ على إصبعي مرارة، كيف أصنعُ بالوضوء؟
قال عليه السلام: يُعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزّ و جلّ ، قال اللّه تعالى: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (3) امسح عليه»(4).
حيث أنّه يدلّ على أنّه يمكن استفادة سقوط لزوم ممّاسة الماسح للممسوح، وبقاء الأمر بباقي الأجزاء من عموم الآية الشريفة،(5) وعليه فمقتضى عموم الآية، لزوم المسح بها أو عليها في المقام.
3 - وبأنّ المستفاد من النصوص: أنّ الجبيرة قائمة مقام البدن عند تعذّر حَلّها، فيجبُ الغُسل فيها في موضع الغُسل، والمسح في موضعه مع تعذّره، وكذا المسح في التيمّم.
4 - وبأنّ اللّازم من عدم المسح عليها، ترك الصّلاة، إذ لا تصحّ بدون طهارة،
ص: 374
ومن المعلوم بطلانه.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا القاعدة: فلما عرفت من عدم دلالتها على عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها، وإنّما تدلّ على عدم سقوط الميسور من الأفراد بمعسورها.
وأمّا الخبر: فلأنّه إنّما يدلّ على أنّ سقوط جزئيّة ما هو حَرَجيٌ يستفاد من الآية، لا وجوب الباقي كما لا يخفى .
وأمّا الثالث: فلأنّ النصوص إنّما دلّت على قيام الجبيرة مقام الجسد في باب الوضوء لا مطلقاً.
وأمّا الرابع: فلأنّ ما دلَّ على عدم سقوط الصّلاة إنْ دلَّ على عدم السقوط حتّى مع تعذّر الطهارة، فلازمه وجوب الصّلاة بلا طهارةٍ في المقام، وإلّا فلازمه سقوطها لفرض تعذّر الطهارة، وعلى أيّ حال لا يصلح أن يكون دليلاً على حصول الطهارة بالتيمّم الناقص.
وبالجملة: العمدة هو الإجماع إنْ ثبت، وكان تعبّديّاً لا مستنداً إلى بعض ما تقدّم من الوجوه.
***
ص: 375
الفرع الرابع: يجوز الاستنابة عند عدم إمكان المباشرة بلا خلافٍ ، ونسبه سيّد «المدارك»(1) إلى علمائنا.
ويشهد له: ما رواه محمّد بن سكين وغيره، في الصحيح عن الإمام الصادق عليه السلام في المجدور الذي غُسّل فمات، قال: «ألا يممّوه إن شفاء العَيّ السؤال»(2).
ومرسل ابن أبي عمير: «يُيمّم المجدور والكسير إذا أصابتهما جنابة»(3).
ونحوهما مرسل «الفقيه»(4) في المبطون والكسير.
وعليه، فأصل الحكم ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في المراد من النصوص:
هل هو تيمّمه بيدي النائب ؟
أو أنّه يضرب بيدي العليل فيمسح بهما، كما صرّح به جمعٌ من الأساطين ؟ بل في «الجواهر»(5): لم أقف على قائل بالأوّل.
أو أنّه يضرب الصحيح بيديه، ثمّ يضرب بيديه على يدي العليل، كما عن الكاتب(6)؟
أو يتعيّن الاحتياط بالجمع بين الكيفيّتين الأوليتين كما في «الجواهر»(7)؟
أقول: الأقوى هو الثاني، إذ الظاهر من النصوص أنّ التيمّم الذي يكون وظيفة المتيمّم في حال صحّته، هو المأمور به عند عدم تمكّنه من المباشرة بسقوط المباشرة، ويكتفى بصدوره من النائب، وحيث أنّه يعتبر في التيمّم الذي وظيفته ضرب يدي
ص: 376
المتيمّم نفسه، فكذلك إذا سقطت المباشرة.
وإنْ شئت قلت: إنّ صدق عنوان التيمّم وحقيقته يتوقّف على صدور هذه الأفعال الخاصّة، أي ضرب اليدين، ومسح الجبهة واليدين من شخص واحد، فلو ضَرَب شخصٌ يديه، ومَسَح الآخر وجهه، والثالث يديه، لا يصدق على هذه الأفعال التيمّم، بخلاف ما إذا صدرت من شخصٍ واحد.
وعليه، فالأدلّة ظاهرة في أنّ النائب إنّما يباشر تيمّم المنوب عنه، فكما يجبُ مسح وجهه ويديه، فكذلك يجبُ ضرب يديه أيضاً، وإلّا لما صدق عليه التيمّم.
وبالجملة: المستفاد من النصوص سقوط المباشرة عند العجز خاصّة، وقيام النائب مقامه في ذلك لا غير.
واستدلّ للأوّل:
1 - بظهور الأدلّة في مباشرة المتولّي.
2 - وبأنّه لا يستند المسح إلى العليل بذلك، فيكون المسح بيدي العليل بالنسبة إلى العامل كالمسح بآلة أجنبيّة.
3 - وبأمر مولانا الصادق عليه السلام الغَلمة بأنْ يُغسّلوه لمّا كان شديد الوَجَع(1)، فإنّه ظاهرٌ في تصديهم للغُسل، من دون أن يباشروا بيديه عليه السلام.
ولهذه الوجوه توقّف صاحب «الجواهر» في الحكم.
ولكن يرد على الأوّل: ما عرفت من ظهور الأدلّة في اعتبار كون الضّرب بيدي العليل.
وعلى الثاني: أنّ عدم استناد المسح إلى المنوب عنه، مشتركٌ بين القولين، وهو لا يعتبر قطعاً، وإنّما الكلام في سقوط قيدٍ آخر زائداً على ما عجز عنه العليل، وقد3.
ص: 377
مرّ أنّه لا دليل عليه.
وكون المسح بيديه بالنسبة إلى العامل كالمسح بآلةٍ أجنبيّة، لا يصلحُ دليلاً لذلك، إذ لم يثبت اعتبار كونه بيديه لكونه أوّل الكلام.
وعلى الثالث: بالفرق بين المقامين، إذ لا يعتبر في الغُسل مباشرة اليد بخلاف المقام.
هذا فضلاً عن أنّ صاحب «الجواهر» رحمه الله لم يعثر للقول الثالث على مستند.
أقول: ثمّ إنّه على ما اخترناه لو لم يمكن الضّرب بيديه:
فهل يضرب النائب بيديه نفسه، ويمسح بهما أعضاء المنوب عنه، كما اختاره جماعة ؟
أم يضرب الصحيح بيديه على الأرض، ثمّ يضربهما على يدي العليل، ثمّ يمسح بيدي العليل على أعضائه، كما نُسب إلى أبي عليّ و «كاشف اللّثام»(1)؟
أم يسقط التيمّم، ويكون بحكم فاقد الطهورين ؟ وجوه:
أقواها الأخير، لما حُقّق في محلّه من أنّه إذا تعذّر أحد أجزاء المركّب الاعتباري، فإنّ مقتضى القاعدة سقوط الأمر بالكلّ ، وتوقّف الأمر بالباقي على ورود دليلٍ خاصّ مفقود في المقام.
اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ المستفاد من النصوص - ولو بضميمة تنقيح المناط - قيام النائب مقام المنوب عنه في كلّ ما يعجز عنه من ما يعتبر في التيمّم.
ثمّ إنّ الظاهر اعتبار أن ينوي النائب، لفرض عدم قدرة المنوب عنه على التيمّم وعجزه عنه، فلا يكون ذلك الفعل اختياريّاً له حتّى يعتبر أن يكون داعية لهذا الاختيار من الدواعي القربيّة.
ومنه يظهر ضعف ما قيل من اعتبار قصد العليل ونيّته.
***).
ص: 378
الفرع الخامس: يدور البحث فيه عن أنّ أقطع اليدين:
1 - هل يسقط عنه التيمّم، كما عن «المبسوط»(1)؟
2 - أم يجب عليه مسح جبهته بالأرض ؟
3 - أم يضرب ذراعيه ويمسح بهما وجهه وعليهما؟
4 - أم يستنيب ويتيمّمه النائب ؟ وجوهٌ وأقوال:
أقول: لولا الإجماع على وجوب التيمّم، كان الأظهر هو ما نسب إلى الشيخ رحمه الله، لما حقّقناه في محلّه(2) من سقوط الواجب بتعذّر بعض أجزائه، ولكن الظاهر عدم توقّفهم في وجوبه، ومخالفة الشيخ - مع عدم كونها موجبة لعدم الاعتماد على ذلك - غير ثابتة، إذ يحتمل أن يكون مراده بذلك ما صرّح به في محكيّ «الخلاف»(3) من سقوط فرض التيمّم عن اليدين، ويشير إليه تعليله بأنّ ما أمر اللّه بمسحه قد عُدِم، وفي «الجواهر»(4): ولعلّه إجماعي إنْ لم يكن ضروريّاً، وهو العمدة.
وأمّا الاستدلال له: كما في «الجواهر»(5):
1 - بقاعدة الميسور والبدليّة.
2 - وبعدم سقوط الصّلاة بحال.
3 - والاستصحاب.
فغير تامّ : إذ القاعدة غير ثابتة كما عرفت مراراً، وما دلَّ على البدليّة لا يصلحُ أن تثبت به مثل هذه الأحكام الثابتة للمبدل منه، لعدم الإطلاق بنحوٍ يشملها.
ص: 379
وقوله عليه السلام: «الصّلاةُ لا تَدع بحال» قد عرفت في مبحث فاقد الطهورين(1) عدم صلاحيّته لإثبات طهوريّة شيءٍ .
والاستصحاب - مضافاً إلى عدم جريانه في نفسه في المقام، لعدم ثبوت الحالة السابقة، بل الحالة السابقة هي عدم جعل الوجوب - محكومٌبأدلّة الشرطيّة والجزئيّة.
وأمّا كيفيّته: فحيث أنّها غير معلومة تفصيلاً، فيجب الاحتياط بالجمع بين الكيفيّات الثلاث.
وبما ذكرناه ظهر حكم أقطع اليد الواحدة، فلا نعيد.
***4.
ص: 380
الفرع السادس: إذا اعتقد كونه مُحْدِثاً بالحَدَث الأصغر، فقصد البدليّة، فتبيّن كونه مُحْدِثاً بالأكبر:
ففي «العروة»(1): (فإنْ كان على وجه التقييد بطل، وإنْ أتى به من باب الاشتباه في التطبيق أو قصد ما في الذمّة صَحّ ). انتهى.
ومحصّل ما قيل في وجه الفرق: هو أنّه إذا كان قصده امتثال الأمر بالتيمّم الذي هو بدلٌ عن الوضوء بنحو التقييد، فبما أنّه بانتفاء القيد ينتفي المقيّد، فلا يكون ممتثلاً للأمر الواقعي المتوجّه إليه، وهذا بخلاف ما إذا كان قصده امتثال الأمر الواقعي المتوجّه إليه، غاية الأمر اعتقد أنّه هو الأمر المتعلّق بما هو بدلٌ عن الوضوء، إذ خطأ اعتقاد الصفة مع عدم أخذها قيداً في الموضوع، لا يمنعُ من قصد ذات الموصوف وتحقّقه واتّصافه بوصف يغاير ذلك الوصف.
أقول: ولكن الأظهر هو الصحّة في الفرضين، وذلك لأنّ الميزان في صحّة العبادة الإتيان بذات المأمور به بجميع قيوده، متقرّباً إلى اللّه تعالى، ولا يعتبر فيها شيءٌ آخر، ولو نقصت عن ذلك لا تصحّ ، وعليه:
فلو صَلّى في آخر الوقت بظنّ أنّه أوّل الوقت، صحّت صلاته وإنْ كان ذلك بنحو التقييد، لعدم كون هذا القصد مبطلاً.
أمّا لو صلّى صلاة العصر بظنّ أنّه صلّى الظهر، لم تصحّ صلاته على القاعدة، وإنْ كان قصد الأمر بالعصر على نحو الدّاعي، لأنّ حقيقة صلاة الظهر تُغاير حقيقة صلاة العصر من حيث العنوان، كما يكشف عن ذلك اختلافهما من حيث الأحكام، فإذا لم يقصد إحداهما وقصد الاُخرى لا تقع عنه لعدم تحقّقها.
ص: 381
وعلى ذلك، ففي المقام بما أنّ المستفاد من الآية الشريفة(1) والنصوص(2)البيانيّة وغيرها الواردة في مقام بيان كيفيّة التيمّم حقيقة واحدة، وأنّ اختلاف حالات المتيمّم أوجب اختلاف الآثار، إذ لو كان مُحْدِثاً مثلاً بالحَدَث الأصغر، يكون تيمّمه مبيحاً للصّلاة، بلا توقّفٍ على شيء آخر، ولو كان مُحْدِثاً بالأكبر غير الجنابة، لا يكون تيمّمه ذلك مبيحاً إلّامع ضمّ الوضوء، أو تيمّمٍ آخر بدلاً منه إليه، بناءً على عدم الاكتفاء بمبدله من الوضوء.
وحينئذٍ، فمن قَصَد ما هو بدلٌ عن الوضوء، وكان في الواقع مُحْدِثاً بالحَدَث الأكبر، فقد أتى بالتيمّم مع جميع قيوده، متقرّباً إلى اللّه تعالى، فيقع صحيحاً، وإنْ كان قصده ذلك على وجه التقييد.
وتمام الكلام في ذلك محرّر في مبحث الوضوء، فراجع(3).
الفرع السابع: يجبُ إمرار الماسح على الممسوح، إذ هو الظاهر من الآية الشريفة، والنصوص البيانيّة، لدخول حرفي (الباء) و (على ) على الممسوح، فإنّ الظاهر كون المصحّح له مرور الماسح عليه مع سكونه.
ودعوى: أنّ المصحّح له ليس ذلك، بل المصحّح كون الآلة غير مقصودة بالأصالة.
مندفعة: بأنّ اللّفظتين في النصوص والآية دخلتا على الممسوح لا آلة المسح كي يصحّ ما ذُكر.
***).
ص: 382
الفرع الثامن: لا نقاش في أنّه إذا شكّ المتيمّم في شيء ممّا يعتبر في التيمّم:
1 - فإنْ كان شكّه بعد الفراغ منه، لم يعتن به، وبنى على الصحّة لقاعدة الفراغ.
2 - وأمّا إنْ شكّ في أثنائه قبل الفراغ، فلا إشكال في أنّه قبل تجاوز محلّه يأتي به وبما بعده.
إنّما الكلام فيما إذا تجاوز محلّه، كما لو شكّ في مسح الوجه بعد مسح اليمنى :
1 - نسب العلّامة الأنصاري رحمه الله(1) القول بعدم جريان قاعدة التجاوز ولزوم الاعتناء بهذا الشكّ إلى المشهور.
2 - لكن صرّح جماعة بجريان قاعدة التجاوز في المقام(2).
استدلّ للأوّل بوجوه:
الأوّل: إنّ دليل قاعدة التجاوز مختصّة بالصلاة، وغير شامل لغيرها، وعليه فهي لا تجري في غير الصّلاة.
الثاني: أنّ المستفاد من موثّق ابن أبي يعفور المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام:
«إذا شككت في شيء من الوضوء، وقد دخلت في غيره، فليس شكّك بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه»(3).
بعد إرجاع الضمير في (غيره) إلى الوضوء، للإجماع على عدم جريان قاعدة التجاوز فيه، وأنّ الوضوء بتمامه اعتبر شيئاً واحداً، لأجل إدخال الشكّ في شيء من الوضوء قبل الخروج عنه في الشكّ في المحلّ ، كما يشهد له ذكر الكبرى الكليّة في
ص: 383
ذيله، إذ لولا ذلك لما كان تنطبق عليه الكبرى المذكورة، ولا وجه لذلك سوى ترتّب أثر واحد، أو انطباق عنوان واحد عليه وهي الطهارة. وعليه فيلحق به التيمّم لإشتراكه مع الوضوء في ذلك.
وبما ذكرناه يظهر عدم صحّة ما أورد على هذا الوجه، بأنّه تخرّص بالغيب من دون شاهد.
وأمّا ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(1): من الإيراد عليه بأنّ لازم ذلك عدم جريان قاعدة التجاوز في شيء من العبادات حتّى الصّلاة، لترتّب أثر واحدٍ على كلّ واحدة منها.
فمندفعٌ : بأنّه فرقٌ واضح بين المسبّبات التوليديّة وما شابهها كالطهارة على المختار الّتي تكون مأموراً بها، وهي التي تعلّق التكليف بها دون محصّلها أو ما تنطبق عليه، وبين غيرها ممّا لا يكون كذلك كسائر العبادات.
الثالث: دليل البدليّة، فإنّه لا ريب في عدم جريانها في الوضوء، فكذلك فيما هو بدلٌ عنه.
ولكن يرد على الوجه الأوّل: ما حقّقناه في محلّه من هذا الشرح من أنّ الأظهر عموم الدليل، سواءٌ بنينا على اتّحاد قاعدتي الفراغ والتجاوز، أو على تغايرهما.
وعلى الثاني: أنّه على فرض حجيّة الموثّق، وعدم طرحه للإعراض، بناءً على رجوع الضمير إلى شيء من الوضوء كما هو الظاهر منه، وتسليم أنّ الوجه في إدخال الشكّ في شيء من الوضوء وهو فيه، في الشكّ في المحلّ ترتّب أثر واحد، أو انطباقه عليه، مع أنّ للمنع عنهما مجالاً واسعاً، أنّه لا وجه للإلحاق، لأنّ كون ما ذُكر علّة لا من قبيل حكمة التشريع الّتي لا يتعدّى عنها غير ثابت، فلا وجه للإلحاق.ف.
ص: 384
ويرد على الثالث: - مضافاً إلى كونه أخصّ من المدّعى - ما عرفت غير مرّةٍ من عدم عمومٍ يدلّ على بدليّة التيمّم عن الطهارة المائيّة في جميع الخصوصيّات والأحكام، مع أنّه لو كان لما كان يعتمد عليه، لاختلافهما في كثيرٍ من الخصوصيّات، فيلزم حينئذٍ تخصيص الأكثر.
فتحصّل: أنّ الأظهر جريان قاعدة التجاوز في التيمّم.
***
ص: 385
وَيَنقُضُه كلّ نواقض الطهارة، ويزيد عليه وجود الماء مع التمكّن من استعماله، ولو وَجَده قبل الشروع في الصّلاة تطهر.
(و) فيه مسائل:
في ما ينقض التيمّم
المسألة الأولى: (ينقُضُه كلّ نواقض الطهارة) المائيّة بلا خلافٍ ، بل إجماعاً كما عن جماعة حكايته.
وتشهد له: جملةٌ من النصوص كصحيح زرارة: قلت لأبي جعفر عليه السلام:
«يُصلّي الرَّجل بتيمّمٍ واحد صلاة اللّيل والنهار كلّها؟ فقال عليه السلام: نعم ما لم يُحدث أو يصبّ ماءً »(1). ونحوه غيره(2).
ومنه يظهر وجه ما في المتن من قوله: (ويزيدُ عليه وجود الماء مع التمكّن من استعماله) الذي ممّا لا خلاف فيه، بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه.
وعن «تذكرة» المصنّف رحمه الله(3): أنّه قول العلماء، إلّا مانُقل عن أبي سلمة والشِّعبي.
ويشهد له: مضافاً إلى ذلك، إطلاق دليل الطهارة المائيّة.
المسألة الثانية: (ولو وجده) أي الماء (قبل الشّروع في الصَّلاة تطهر) بالماء، كما أنّه إنْ فَقَده بعد ذلك، وجب عليه أن يتيمّم ثانياً بلا خلافٍ فيه، بل عن غير واحدٍ
ص: 386
دعوى الإجماع عليه.
وعن «التذكرة»: دعوى إجماع العلماء عليه إلّاما نقل عن أبي سلمة والشِّعبي.
بل لا استثناء كما عن «المنتهى »(1).
وتشهد له: جملةٌ من النصوص(2) - مضافاً إلى ما مرَّ - من ما دلَّ على انتقاض التيمّم بوجدان الماء:
منها: صحيح زرارة، قلت: «فإنْ أصاب الماء، ورجى أن يقدر على ماءٍ آخر، وظنَّ أنّه يقدر عليه، فلمّا أراده تعسّر ذلك ؟
قال عليه السلام: ينقض ذلك تيمّمه، وعليه أن يُعيد التيمّم»(3).
ومنها: خبر أبي أيّوب المرويّ عن «تفسير العيّاشي»: «إذا رأى الماء، وكان يقدر على انتقض تيمّمه»(4).
ومنها: خبر الشيخ عن الحسين العامري، وفيه بعد حكمه عليه السلام بتجديد التيمّم في الفرض: «فإنّ تيمّمه الأوّل قد انتَقَضَ حين مرَّ بالماء ولم يغتسل»(5).
وعليه، فأصل الحكم ممّا لا خلاف فيه ولا كلام، إنّما الكلام فيما إذا كان زمان الوجدان لا يسع الوضوء أو الغسل:
فعن «جامع المقاصد»(6)، و «فوائد الشرائع»، و «المسالك»(7) و «مجمع6.
ص: 387
البرهان»(1)، وفي «الجواهر»(2)، وغيرها: أنّه لا ينتقض التيمّم في الفرض.
وفي «الحدائق»(3) وعن ظاهر «حبل المتين»(4): الانتقاض، ونُسِب ذلك إلى ظاهر كلمات كثيرٍ من الأصحاب.
أقول: والأظهر هو الأوّل، إذ المتبادر إلى الذّهن من النصوص - بعد إلغاء الخصوصيّات الذي لا مناص عنه، ولذا نتعدّى إلى صورة زوال العذر - أنّ الناقض هو الماء الذي يتمكّن من استعماله عقلاً وشرعاً.
وإنْ شئتَ قلت: إنّ بطلان التيمّم عند وجدان الماء، إنّما يكون لأجل تحقّق ما أخذ عدمه موضوعاً لمشروعيّته، ومن الضروري أنّ المأخوذ موضوعاً ليس عدم وجود الماء خاصّة، بل عدم التمكّن من استعماله عقلاً أو شرعاً، ولذلك لم يفتِ أحدٌ بانتقاض التيمّم بالعثور على الماء المغصوب.
واستدلّ للثاني:
1 - بإطلاق النصوص، فإنها بإطلاقها تدلّ على أنّ انتقاض التيمّم بمجرّد الإصابة بالماء، أعمّ من أن يمضي زمانٌ يتمكّن فيه من الإتيان بالطهارة أم لا.
2 - وبأنّ إيجاب الشارع الطهارة المائيّة عليه في تلك الحال لا يجامع بقاء التيمّم.
لا يُقال: إنّه في نفس الأمر لا يكون مكلّفاً بها.).
ص: 388
فإنّه يُقال: إنّه يكفي في تعلّق التكليف، ظنَّ بقاءالماء أو احتماله استصحاباًللحال.
3 - وبأنّه يلزم من القول بعدم الانتقاض، أنْ يجوز الدخول في الصّلاة، ومسّ خطّ المصحف بتيمّمه ذلك، قبل مُضيّ ذلك المقدار، لأنّها طهارة صحيحة لم تنتقض، فإذا مضى ذلك حَرُمت عليه تلك الأشياء، وهو كما ترى لا يمكن الالتزام به.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلما عرفت من ظهور النصوص، لا سيّما بعد ملاحظة مناسبة الحكم والموضوع في اختصاص الانتقاض بصورة التمكّن من الاستعمال.
وأمّا الثاني: فلأنّ إيجاب الطهارة المائيّة عند وجدان الماء، إنّما يكون في صورة سعة الوقت للاستعمال والتمكّن منه، وإلّا فيكون تكليفاً بما لا يطاق.
واستصحاب بقاء تلك الحال، مضافاً إلى عدم جريانه فيما لو عُلم من الأوّل بعدم التمكّن، أنّه لا يكفي في الإيجاب واقعاً، وإنّما يكون حكماً ظاهريّاً، فإذا انكشف الخلاف، انكشف عدم الوجوب واقعاً، وعليه فيكون تيمّمه صحيحاً واقعاً، ولا ينافي صحّته واقعاً فساده ظاهراً.
وأمّا الثالث: فلأنّ القائلين باختصاص الانتقاض بصورة التمكّن، لا يلتزمون بأنّه في صورة التمكّن ينتقض بعد مضيّ ذلك المقدار، بل يلتزمون بأنّه في تلك الصورة، بمجرّد الإصابة ينتقض التيمّم، وعليه:
فإنْ اُريد من أنّه يلزمهم الحكم بجواز الدخول في الصّلاة، ومسّ المصحف، إلزامهم بذلك في صورة عدم التمكّن واقعاً، فهو حقٌّ يلتزمون به وببقاء الجواز بعد مُضيّ ذلك، ولا محذور فيه.
وإنْ اُريد أنّه يلزمهم ذلك حتّى في صورة التمكّن واقعاً، فهو غير لازمٍ عليهم.
فتحصّل: أنّ الأقوى هو اختصاص البطلان بصورة التمكّن.
ص: 389
أقول: وبذلك ظهر حكم ما لو وجده في وقت يضيق عن استعماله، فإنّه على المشهور من تعيّن التيمّم في ضيق الوقت، لا ينتقض به تيمّمه، وعلى المختار من تخييره بين الوضوء والتيمّم، يكون في الفرض مخيّراً بين أن يُصلّي مع ذلك التيمّم، وبين أن يتوضّأ ويُصلّي خارج الوقت.
وأيضاً: هل يكون من موانع الاستعمال، عدم دخول وقت العبادة حين الوجدان أم لا؟ مثلاً لو تيمّم قبل وقت الصّلاة لغايةٍ ، ثمّ أصاب الماء، وكان قادراً على أن يتوضّأ، ففُقِد الماء قبل أن يدخل الوقت، فهل ينتقض تيمّمه أم لا؟
فقد يتوهّم الثاني، بدعوى أنّه غير متمكّن قبل الوقت من الوضوء للصّلاة، فلو دخل الوقت جاز له أن يصلّي بتيمّمه ذلك، ولا يجب عليه تجديد التيمّم.
وفيه: أنّه قبل الوقت يتمكّن من أن يتوضّأ لاستحبابه النفسي، أو لغايةٍ اُخرى، فكما لا يَشرع عليه أن يتيمّم في تلك الحال، فكذلك ينتقض تيمّمه السابق بعين ذلك الملاك.
وبعبارة اُخرى: انه لا يكون عاجزاً عن الطهارة المائيّة، بل هو عاجز عن الإتيان بها لغايةٍ خاصّة لأجل عدم المقتضى.
لا يُقال: إنّه لو فرضنا حصول مانعٍ عن فعلها قبل الوقت للغايات المستحبّة، أو لاستحبابها النفسي، كما لو نهاه الوالد عن تلك، فبما أنّه لا يتمكّن من إتيانها للصّلاة ولغيرها، فيصدق عليه أنّه غير متمكّنٍ من استعمال الماء، فلو فَقَده بعد ذلك قبل دخول الوقت، لا يجب عليه التيمّم.
فإنّه يُقال: إنّه على هذا يكون حكمه حكم من كان واجداً للماء قبل الوقت، وكان يعلم بعدم تمكّنه منه بعده، الذي قد عرفت لزوم أن يتطهّر به. فراجع ما ذكرناه في تلك المسألة.(1)2.
ص: 390
ولو وَجَده في الأثناء أتمَّ صَلاته.
المسألة الثالثة: (ولو وَجَده) أي الماء (في الأثناء):
قيل (أتمَّ صلاته) مطلقاً، ولو تلبّس بتكبيرة الإحرام كما في المتن(1)، ونُسِب إلى المشهور.
وعن الحلّي(2): دعوى الإجماع عليه.
وقيل: يمضي في صلاته إذا كان قد ركع، وإلّا فيرجع ويتوضّأ ويستقبل صلاته.
وحُكي هذا القول عن السيّد في مصباحه(3) وجُمله(4)، والجُعفي(5)، والصدوق(6)، والشيخ في «النهاية»(7)، وغيرهم من الأساطين.
وعن ابن الجُنيد(8): إن وَجَد الماء بعد دخوله في الصّلاة، قَطَع ما لم يركع الركعة الثانية، وإنْ ركعها مضى في صلاته، وإنْ وجده بعد ركوع الركعة الأُولى ، وخاف ضيق الوقت، جاز أنْ لا يقطع.
ص: 391
وعن سلّار أنّه قال: انصرف ما لم يقرأ.
وعن ابن حَمزة(1) في الواسطة: يجبُ القطع مطلقاً، ما لم يغلب على ظنّه ضيق الوقت، وإلّا لم يقطعها إذا كَبّر.
هذه هي الأقوال في المسألة.
وأمّا النصوص: فهي على طوائف:
الطائفة الأُولى : ما دلّت على المشهور: كصحيح زرارة، قال:
«قلت لأبي جعفر عليه السلام: إنْ أصاب الماء وقد دخل في الصّلاة ؟
قال عليه السلام: فلينصرف فليتوضّأ ما لم يركع، وإنْ كان قد رَكَع فليمض في صلاته، فإنّ التيمّم أحد الطهورين»(2).
وخبر عبد اللّه بن عاصم، المرويّ عن «التهذيب» بثلاثة طرق، قال:
«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل لا يجدُ الماء، فيتيمّم ويقوم في الصّلاة فجاء الغلام، فقال: هو ذا الماء؟
فقال عليه السلام: إنْ كان لم يركع فلينصرف وليتوضّأ، وإنْ كان قد ركع فليمض في صلاته»(3).
الطائفة الثانية: ما دلّت على القول الثاني: كصحيح زرارة ومحمّدبن مسلم، قالا:
«قلنا لأبي جعفر عليه السلام: في رجلٍ لم يُصب الماء وحضرت الصّلاة، فتيمّم وصلّى ركعتين، ثمّ أصاب الماء، أينقض الركعتين أو يقطعها ويتوضّأ ثمّ يُصلّي ؟
قال عليه السلام: لا، ولكنّه يمضي في صلاته ولا ينقضها ويتمّها لمكان الماء، لأنّه4.
ص: 392
دخلها وهو على طهر بتيمّم»(1).
فإنّ مورده وإنْ كان هو الإصابة بعد الركعتين، إلّاأنّ التعليل يقتضي وجوب المُضيّ ، ولو بأن تلبّس بتكبيرة الإحرام.
وخبر محمّد بن سماعة، عن محمّد بن حمران، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ تيمّم ثمّ دخل في الصّلاة، وقد كان طلب الماء فلم يقدر عليه، ثمّ يؤتي بالماء حين يدخل في الصّلاة ؟
قال عليه السلام: يمضي في الصّلاة، واعلم أنّه ليس يَنبغي لأحدٍ أن يتيمّم في آخر الوقت»(2).
واشتراك محمّد بن سماعة بين الثقة وغيره، لا يضرّ بالسند، فإنّه عند الإطلاق ينصرف إلى ابن موسى بن رويد بن نشيط الثقة الجليل، كما أنّ محمّد بن حمران عند الإطلاق ينصرف إلى النهدي الثقة، مضافاً إلى شهادة المحقّق رحمه الله(3) بصحّة سند الحديث، مع أنّ الراوي عنهما البزنطي الذي يعدّ من أصحاب الإجماع، وعليه فلا مغمز في الحديث.
الطائفة الثالثة: ما دلّت على لزوم القطع حتّى بعد ركوع الركعة الأُولى ، كخبر الحسن الصيقل، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: «رجلٌ تيمّم ثمّ قام يُصلّي، فمرَّ به نهرٌ وقد صلّى ركعةً؟ قال عليه السلام: فليغتسل وليستقبل الصّلاة.
قلت: إنّه قد صلّى صلاته كلّها؟ قال عليه السلام: لا يُعيد»(4).
وخبر زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن رجل صلّى ركعة على تيمّم، ثمّ جاء8.
ص: 393
رجلٌ ومعه قِربتان من ماء؟ قال عليه السلام: يقطع الصّلاة ويتوضّأ، ثمّ يبني على واحدة»(1).
وأمّا الجمع بين النصوص: فقد ذكروا للجمع بين الطائفتين الأوّليتين وجوهاً:
الوجه الأوّل: أنّ الطائفة الثانية مطلقة قابلة للتقييد، فتقيّد بالطائفة الأُولى .
وأورد عليه:(2) بأنّ ما في ذيل خبر زرارة من التعليل المسوق مساق العلل العرفيّة ممّا يأبى ذلك.
وفيه: أنّ هذه التعليلات غاية ما يستفاد منها إطلاق الحكم، لا أنّه ممّا يأبى التقييد، ولذا ترى أنّ مثل هذا التعليل موجودٌ في صحيح زرارة المفصّل بين وجدان الماء قبل الركوع وبعده، ولم يتوهّم أحدٌ منافاته لما في صدره من التفصيل.
فالصحيح أن يورد عليه: بأنّ خبر ابن حمران كالصريح في إرادة ما قيل، ولا يكون مطلقاً.
وبعبارة اُخرى: هو كالنص في إرادة الوجدان في أوّل أوقات الدخول في الصّلاة، كما يشهد له تعبيره بلفظ المضارع، فلا يصحّ حمله على ما بعد الركوع.
ولعلّه إلى هذا الخبر أشار السيّد في جُمَله(3) حيث قال: (ورُوي أنّه إذا كَبّر تكبيرة الإحرام مضى في صلاته).
الوجه الثاني: ما في «الجواهر»(4) من حمل الدخول في الطائفة الثانية على الدخول الكامل، وهو الدخول في الركوع بقرينة الطائفة الأُولى.
وما ورد عنها من الأخبار التالية:1.
ص: 394
أنّ «أوّل الصّلاة الركوع»(1).
وأنّها «ثلثٌ طهور، وثلثٌ ركوع، وثلثٌ سجود»(2).
وأنّ «إدراك الركعة بإدراك الركوع»(3).
أقول: والجواب عن أدلّة هذا الوجه:
1 - أنّه إنْ اُريد بذلك عدم صدق الدخول في الصّلاة في نفسه، ما لم يركع، فهو بديهي الفساد.
2 - وإنْ اُريد به عدم صدقه قبل الركوع في خصوص المقام، لقيام القرينة على أنّ المراد به الدخول الكامل، غيرالصادق قبل أن يركع.
فيرد عليه: أنّها غير موجودة، إذ الطائفة الأُولى لا تصلح لذلك، لعدم تعرّضها لصدق الدخول وعدمه، وإنّما هي متضمّنة لصحّة الصّلاة إنْ أصاب الماء بعد الركوع، وفسادها إنْ أصابه قبله.
وما دلَّ على أنّ أوّل الصّلاة الركوع، فإنّما هو بلحاظ بعض الجهات والخصوصيّات، ولعلّه اُريد به أنّه أوّل جزءٍ فرضه اللّه، فان التكبيرة والقراءة من السُنّة، كما نطقت بذلك جملة من النصوص.
وما دلَّ على التثليث المذكور، لعلّه اُريد به أنّ الصّلاة اسمٌ لهذه الثلاثة، وكل ما زاد عليها يدخل في المسمّى ، ولو نقصَ عنها شيءٌ لا يصدق على المأتيّ به عنوان الصّلاة، كما حقّقناه في كتابنا «زُبدة الاُصول» في مبحث الصحيح والأعمّ .
وما ورد من أنّ إدراك الركعة بإدراك الركوع، إنّما يدلّ على أنّ آخر الركعة هوخ.
ص: 395
الركوع، لا أنّه أوّل جزء الصّلاة.
هذا فضلاً عن أنّ هذه الأدلّة لا تصلح أن تكون قرينةً لإرادة الدخول في الركوع من قول السائل، حين يدخل في الصّلاة.
3 - وإنْ اُريد أنّه يصدق الدخول من أوّل التلبّس بالتكبيرة، إلّاأنّه مطلق قابل للتقييد، فهو يرجع إلى الوجه الأوّل الذي عرفت ما فيه.
الوجه الثالث: ما في جملةٍ من كتب الأساطين(1) من حمل الطائفة الثانية على ضيق الوقت عن القطع والطهارة، كما يشعر به ذيل خبر ابن حمران.
وفيه: أنّ خبر ابن حمران دلَّ على لزوم كونه في آخر الوقت، فحاله حال ما دلَّ على ذلك المحمول على الاستحباب، وعليه فهو لا يصلح أن يكون قرينةً للتصرّف المزبور.
وأولى منه ما لو قلنا بظهوره في نفسه في الاستحباب.
وبعبارة اُخرى: لا سبيل إلى هذا الجمع إلّاتوهم دلالة خبر ابن حمران على لزوم إيقاع التيمّم في آخر الوقت، وعليه فيكون الأمر بالمضيّ وعدم الإعادة، لأجل ضيق الوقت، وحيث أنّه لو لم يكن ظاهراً في الاستحباب فهو محمول عليه بقرينة غيره، فلا وجه لهذا الجمع.
الوجه الرابع: ما عن المصنّف رحمه الله في «المنتهى »(2) من حمل الخبرين المفصّلين، على أنّ المراد بالدخول في الصّلاة فيهما، الشروع في مقدّماتها كالأذان، وبقوله: (ما لم يَركع)، ما لم يتلبّس بالصلاة، وبقوله: (وإنْ كان قد ركع) دخوله فيها إطلاقاً لاسم الجزء على الكلّ .).
ص: 396
ويرد عليه: ما أفاده السيّد في «المدارك»(1) بقوله: (ولا يخفى مافي هذا الحمل من البُعد، وشدّة المخالفة للظاهر).
الوجه الخامس: الرجوع إلى المرجّحات، وهي تقتضي تقديم الطائفة الثانية لأشهريّة رواتها في العلم والعدالة من رواة الطائفة الأُولى .
وفيه: أنّه لا سبيل إلى الرجوع إلى المرجّحات، بعد إمكان الجمع العرفي كما ستعرف.
أقول: فالحقّ يقتضي أن نلتزم بحمل الخبرين المفصّلين الآمرين بالوضوء واستقبال الصّلاة، لو وجد الماء قبل الركوع على الاستحباب، كما في محكيّ «المبسوط»(2) و «الإصباح»(3) و «المنتهى »(4).
لا يُقال: إنّه لو ثبت جواز التوضّي واستقبال الصّلاة، فهو غير عاجزٍ عن استعمال الماء، فيصدق عليه الواجد، فيرتفع موضوع مشروعيّة التيمّم، فكيف يلتزم ببقاء أثره ؟
فإنّه يقال: إنّ هذا اجتهادٌ في مقابل النصّ لا يُعبأ به، مع أنّه يمكن أن يكون عدم الأمر وجوباً باستقبال الصّلاة مع الوضوء، رعايةً لحرمة الصّلاة، أو تسهيلاً على المكلّف.
فإنْ قلت: إنّ الظاهر عدم كون هذا الجمع عرفيّاً، إذ في الخبرين المفصلين أمر الواجد قبل الركوع بالانصراف والتوضّي، وفي الطائفة الثانية أمرٌ بالمضيّ ، ولا).
ص: 397
ريب في أنّهما متعارضتان، كما يظهر لو جمعنا الأمرين في كلامٍ واحد.
قلت: إنّ ظاهر الأمر بالمضيّ كونه إرشاداً إلى عدم نقض التيمّم، وعليه فهو يصلح أن يكون قرينة لحمل الأمر بالاستقبال على الاستحباب
نعم، لو لم يتمّ ذلك، وتعيّن الرجوع إلى المرجّحات، فالترجيح مع الطائفة المفصلة لمخالفتها للعامّة، وموافقة معارضها لأكثر علمائهم بعد كون الطائفتين متساويتين من حيث صفات الراوي، كما لا يخفى .
وأمّا الطائفة الثالثة: فمحصّل القول فيها إنّ خبر الصيقل ضعيفٌ ، لأنّ في طريقه موسى بن سعدان الحنّاط الكوفي، الذي وصفه النجاشي(1) بقوله: (ضعيفٌ في الحديث). وأمّا خبر زرارة فيجب طرحه لإعراض الأصحاب عنه، حيث أنّه يدلّ على أنّه يتوضّأ ويبني على صلاته، حيث لم يفتِ به أحدٌ.
فإنْ قلت: إنّ ضعف خبر الصيقل لا ينافي مع حمله على الاستصحاب لقاعدة التسامح، كما التزم به المصنّف رحمه الله في محكيّ «التذكرة» و «نهاية الإحكام»، ولا ينافي مع ما تقدّم، إذ الأمر بالمضيّ في تلك النصوص محمولٌ على الجواز، لوروده مورد توهّم الحظر.
قلت: إنّ حمل الأمر بالمضيّ في الخبرين المفصّلين على الجواز، لا سيّما بعد حمل الفقرة الأُولى فيهما على الاستحباب كما ترى، فإذا يتعيّن طرحهما لذلك أيضاً.
وبالجملة: فتحصّل أنّ ما اختاره المشهور أظهر، وظهر ممّا ذكرناه مدرك القول الثاني وضعفه.
وأمّا القول الثالث: فقد استدلّ له بأنّ ما دلَّ على المضيّ مطلقاً يقيّد إطلاقه2.
ص: 398
بالخبرين المفصلين، وحيث أنّهما معارضان مع الطائفة الثالثة الدالّة على لزوم القطع على من صلّى ركعة، فيحمل كلّ من المتعارضين على ما هو المتيقّن إرادته منه، وهو في الطائفة الثالثة خصوص موردها، وهو قبل الدخول في ركوع الركعة الثانية، في غير مورد الضيق المظنون عدم كونه مراداً من إطلاقها، وفي غيرها ما بعد الركوع في الركعة الثانية.
وفيه: ما تقدّم من أنّ ما دلَّ على المضيّ مطلقاً غير قابل للتقييد، كما أنك عرفت أنّ أخبار القطع مطلقاً ضعيفة من حيث السند.
وأمّا القول الرابع: فقد استدلّ له بأنّ تكبيرة الافتتاح ليست من أجزاء الصّلاة، بل أوّل أجزائها القراءة.
ويرد عليه: ما ذكرناه في بحث (تكبيرة الإحرام) من هذا الشرح من أنّها من أجزاء الصّلاة. فراجع.(1)
وأمّا القول الخامس: فقد استدلّ له بأنّ التيمّم في السِّعة غير مأمور به، فوجوب القطع في فرض السِّعة إنّما يكون لفساد التيمّم، فمورد نصوص الباب هو التيمّم في ضيق الوقت، وفي ذلك المورد الجمع بينهما يقتضي الالتزام بجواز المُضيّ ، ولو بعد التلبّس بتكبيرة الإحرام، وحمل ما دلَّ على القطع قبل الركوع على الاستحباب.
وفيه: ما تقدّم من جواز التيمّم في السِّعة، مع أنّ لازم عدم جوازه إلّافي الضيق، بطلان التيمّم والصّلاة لو تيمّم في السِّعة وصلّى وإنْ لم يجد الماء في الأثناء، مع أنّ ظاهر كلامه يدلّ على التزامه بالصحّة في صورة عدم وجدان الماء مضافاً إلى أنّ 5.
ص: 399
الالتزام بلزوم إيقاع التيمّم في الضيق بهذه المرتبة كما ترى .
والنتيجة: أنّ الأظهر هو القول الأوّل.
ثمّ إنّه بعدما عرفت من أنّ مقتضى الجمع بين النصوص جواز القطع، لو وجد الماء قبل الركوع، فيتعيّن تقييد إطلاق ما دلَّ على حرمة قطع الصّلاة لو كان له إطلاق، مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً، كما سبق وأن ذكرناه في بداية البحث من هذا الشرح.
***
ص: 400
الفرع الأوّل: يدور البحث فيه عن أنّه:
هل يختصّ جواز المُضيّ في الصّلاة عند وجدان الماء مطلقاً أو بعد الركوع بالفريضة، كما عن «جامع المقاصد»(1)، و «المدارك»(2) احتماله، وفي «الجواهر»(3)و «مصباح الفقيه»(4) اختياره.
أم يعمّ النافلة، كما عن «المبسوط»(5)، و «المنتهى »(6)، و «التحرير»(7)، و «القواعد»(8) و «المسالك»(9) وغيرها؟
وجهان؛ أظهرهما الثاني لإطلاق النصوص.
واستدلّ للأوّل:
1 - بانصراف ما دلَّ على الجواز إلى الفريضة.
2 - وبأنّ إبطال النافلة جائزٌ، فيتحقّق التمكّن من استعمال الماء، ومعه يتحقّق شرط النقض.
3 - وبأنّ الأمر فيها بالإتمام، الظاهر في الوجوب، قرينة على الاختصاص،
ص: 401
لجواز قطع النافلة اختياراً.
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلمنعه لعدم الوجه له، وظهور السؤال في الفريضة لا يكون قرينةً على ذلك.
وأمّا الثاني: فلما عرفت من أنّ جواز الإبطال لا ينافي مع بقاء أثر التيمّم، ولذلك التزمنا بجواز القطع، بل استحبابه إذا وجد الماء قبل الدخول في الركوع، مع أنّ وجه عدم الانتقاض في الفريضة، ليس هو عدم جواز قطعها، إذ لو انتقض التيمّم بوجدان الماء انقطعت الصّلاة.
وأمّا الثالث: فلأنّ الأمر بالإتمام ليس نفسيّاً وجوبيّاً، بل إرشاديّاً إلى صحّة التيمّم والصّلاة وعدم نقصانها.
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأقوى هو الشمول للنافلة.
الفرع الثاني: لا يلحق بالصلاة غيرها من العبادات، إذا وُجِد الماء في أثنائها، بل تبطل مطلقاً، لاختصاص النصوص بالصلاة، فيكون المرجع فيها عموم ما دلَّ على انتقاض التيمّم بوجدان الماء.
وهذا في الجملة ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في موردين:
المورد الأوّل: فيما لو وجد الماء في أثناء الطواف، فإنّه قد يتوهّم أنّ مقتضى إطلاق ما دلَّ على أنّ الطواف في البيت صلاة، ثبوت جميع أحكامها له، ومن جملتها هذا الحكم، وهو توهّمٌ فاسد، إذ الظاهر عدم ورود خبرٍ متضمّن لهذه الجملة.
وما في بعض النصوص إنّما هو قوله عليه السلام: «فإنّ فيه صلاة»(1) وهو غير ظاهرٍ في إرادة كون الطواف صلاة.7.
ص: 402
مع أنّ هذا الحكم من أحكام التيمّم، فإنّ النصوص إنّما دلّت على عدم انتقاضه لو وجد الماء في أثناء الصّلاة، وليس من أحكام الصّلاة كي يُتعدّى إلى ما نزل منزلتها.
ولو سُلّم إمكان إرجاعه إلى الصّلاة، لا ريب في انصراف نصوص التنزيل لو كانت عنه.
وعليه، فالأظهر عدم إلحاقه بالصلاة.
المورد الثاني: إذا يمّم الميّت لفقد الماء فقد يُقال إنّه لو وجد الماء بعد الصّلاة عليه، أو الشروع فيها لا يجب الغُسل، تنزيلاً للصلاه منزلة التكبير في الفريضة أو الركوع ؟
أمّا المصنّف رحمه الله في محكيّ «القواعد»(1) فقد تنظّر فيه، حيث قال: (وفي تنزيل الصّلاة منزلة التكبير نظر).
وهو ضعيفٌ جدّاً، وغاية ما يمكن أن يقال في توجيه هذا الوجه - وإنْ كان خلاف الظاهر -: إنّ الغُسل إنّما وجب شرطاً للصّلاة، فمع فقد الماء لو تيمّم وصلّى سقط التكليف، فلا يجب الغُسل.
وفيه: أنّ ظاهر الأدلّة كون وجوبه نفسيّاً لا غيريّاً.
الفرع الثالث: هل تُعاد صلاته لو صلّى ثُمّ وُجد الماء، كما عن «الموجز»(2)، و «البيان»(3)، و «الدروس»(4)، وفي «الجواهر»(5)؟7.
ص: 403
أم لا كما عن «جامع المقاصد»(1) و «نهاية الاحكام»(2) وغيرهما؟
وجهان، أقواهما الأوّل، إذ الدليل إنّما دلَّ على لزوم إيقاع الصّلاة بعد الغُسل وهو ممكنٌ ، فلا تجزي الصّلاة التي أتى بها قبله، ولأنّ التيمّم انكشف فساده بالوجدان، ولذا يُعيد الغُسل.
نعم، بناءً على المواسعة في التيمّم - الذي هو بدلٌ عن غُسل الميّت - للملازمة بين القول بصحّة التيمّم وانتقاضه بوجدان الماء، لما دلَّ على ذلك، لا أنّه يكشف عن فساده من أوّل تحقّقه - لا تُعاد الصّلاة لوقوعها عن طهارة.
لا يقال: إنّ لازمه عدم وجوب تغسيله أيضاً.
فإنّه يقال: إنّما يجب تغسيله، لما دلَّ على اعتبار طهارة الميّت إلى أن يُدفن.
أقول: ثمّ إنّه على القول بالعدم، لو وجد الماء في أثناء الصّلاة، هل يمضي في صلاته كما عن «المعتبر»(3) أم لا؟
وجهان، أقواهما الثاني، لانتقاض التيمّم بالوجدان، فتنقطع الصّلاة بنفسها.
أقول: وبه يظهر ضعف ما استدلّ للأوّل، بأنّه دخل في الصّلاة دخولاً مشروعاً، فلم يجز إبطالها.
وأمّا الاستدلال له: بعموم قوله عليه السلام: (لمكان أنّه دخلها وهو على طُهر بتيمّم).
فغير تامّ : إذ هو مختصٌّ بما لو صلّى المتيمّم نفسه، فالتعدّي عن مورده إلى المقام غير ظاهر الوجه.
الفرع الرابع: الظاهر أنّ المراد بوجدان الماء في النصوص والفتاوى، هو التمكّن من استعماله عقلاً وشرعاً، لا خصوص الوجدان العقلي، فلو كان واجداً للماء).
ص: 404
وتيمّم لعُذرٍ آخر، فزال عُذره في أثناء الصّلاة، يجري فيه ما ذكرناه من الحكم في وجدان الماء، إذ الظاهر من النصوص والفتاوى - لاسيّما بعد ملاحظة نظائر هذا الحكم من أحكام التيمّم، وكونه طهوراً للعاجز - أنّ ذكر إصابة الماء في الأسئلة والأجوبة من باب المثال، جرياً على الغالب، وإلّا فالمراد مطلق تجدّد القدرة من استعمال الماء من غير فرقٍ بين المسوّغات.
ويشهد لذلك: - مضافاً إلى ما ذكرناه - التعليلات المذكورة في نصوص المقام، كقوله عليه السلام(1): «لمكان أنّه دخلها الخ)، وقوله عليه السلام(2): «فإنّ التيمّم أحد الطهورين»، وغيرهما.
وعليه، فما في «العروة»(3) من الاستشكال في إلحاق زوال العُذر بوجدان الماء في الحكم المذكور، ضعيفٌ .
الفرع الخامس: في حكم ما إذا وجد الماء في أثناء الصّلاة، ثمّ فقد في أثنائها، أو بعد الفراغ من الصّلاة بلا فصلٍ يفي بالطهارة المائيّة:
فعن الشيخ في «المبسوط»(4)، كما في «الموجز»(5)، و «الإيضاح»(6): لزوم تجديد التيمّم لصلاةٍ اُخرى ، وانتقاض ذلك التيمّم.
وعن المصنّف رحمه الله في «المنتهى »(7) و «التذكرة»(8) تقويته.5.
ص: 405
واستدلّ له:
1 - بإطلاق ما دلّ (1) على انتقاض التيمّم بوجدان الماء.
2 - وبإطلاق(2) دليل وجوب الطهارة المائيّة، إذ القدر المعلوم من الدليل المقيّد عدم انتقاض التيمّم، وعدم وجوب الطهارة المائيّة بالنسبة إلى الصّلاة التي هو مشغولٌ بها لا مطلقاً، فبالنسبة إلى غيرها يتعيّن الرجوع إلى الإطلاقات.
3 - وبأنّه متمكّنٌ عقلاً من استعمال الماء، والمنع الشرعي عن المضيّ في الصّلاة لا يرفع القدرة، لأنّها صفة حقيقيّة، والحكم معلّق عليها.
4 - وبأنّ مقتضى الأدلّة وجوب الوضوء أو التيمّم لكلّ صلاةٍ ، خرج ما خرج بالدليل، فيبقى الباقي، والمقام من تلك الموارد الباقية، لأنّ الدليل المخرج في التيمّم كصحيح زرارة: «يُصلّي الرَّجل بتيمّمٍ واحدٍ صلاة اللّيل والنهار؟ فقال عليه السلام: نعم ما لم يُحدِث أو يُصب ماءً »(3) مخصوصٌ بغير المورد.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلما عرفت آنفاً من أنّ المراد من الوجدان الناقض، هو وجود الماء مع القدرة على استعماله عقلاً وشرعاً، وهو غير متحقّقٍ في المقام في ما بعد الركوع، لوجوب المضيّ ، وحرمة قطع الصّلاة.
وأمّا الثاني: فهو مقيّدٌ بما دلَّ على أنّ التيمّم طهورُ العاجز عن الطهارة المائيّة، ولو لعجزٍ شرعي.
وأمّا الثالث: فلما عرفت مراراً من أنّ المراد بالوجدان المأخوذ موضوعاً0.
ص: 406
لمشروعيّة التيمّم، ليس هو التمكّن العقلي خاصّة، بل أعمّ منه ومن الشرعي.
وأمّا الرابع: فلأنّ المستفاد من مجموع الأدلّة، اشتراط الصّلاة بالطهارة، وأنّها إذا حصلت تبقى ما لم يتحقّق الناقض، فوجوب تجديدها يتوقّف على تحقّق الناقض، وهو غير متحقّقٍ في المقام.
واختصاص الصحيح بغير المورد ممنوعٌ ، لما عرفت من أنّ المراد بإصابة الماء التمكّن من استعماله عقلاً وشرعاً.
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأظهر ما عن «المعتبر»(1) و «الدروس»(2) و «البيان»(3)و «الذكرى»(4) و «جامع المقاصد»(5) و «المسالك»(6) و «الروض»(7) و «المدارك»(8)، وفي «الحدائق»(9): من عدم انتقاض التيمّم، والاكتفاء به لغير الصّلاة التي بيده.
بل في «الحدائق»(10): هو المشهور بين المتأخّرين، وعليه العلّامة(9) في باقي كتبه.
نعم، ينتقض التيمّم بما إذا كان الوجدان في النافلة، أو قبل الدخول في الركوع في الفريضة، لما تقدّم من جواز القطع في هذين الموردين، فيصدق الوجدان بالنسبة4.
ص: 407
إلى غير ما بيده، لعدم المانع شرعاً من استعماله، فلا يكتفى بذلك التيمّم، كما أنّه لا يبعد دعوى الانتقاض مطلقاً إذا كان متمكّناً من أن يتوضّأ أو يغتسل في أثناء الفريضة بنحو لا تبطل صلاته لغير تلك الفريضة، كما لا يخفى .
الفرع السادس: لو وجد الماء في أثناء الصّلاة، فهل يجوز مسّ كتابة القرآن حال الاشتغال بالصلاة أم لا؟ وجهان بل وجوه:
ومحصّل القول في المقام: إنّه إنْ وجد الماء بعد الركوع، وعلم بعدم بقائه إلى ما بعد الصّلاة، جاز ذلك جزماً، لما عرفت من صدق عدم الوجدان حينئذٍ بالنسبة إلى سائر الغايات غير الصّلاة التي بيده، فيشمله ما دلَّ على أنّ المتيمّم يستبيح ما يستبيحه المتطهّر.
وإنْ وجده قبل الركوع أو بعده، وعلم ببقائه إلى ما بعد الصّلاة، فحيثُ أنّه في الصورتين لا يصدق عدم الوجدان.
أمّا في الأُولى : فلفرض جواز القطع، وتمكّنه من استعمال الماء عقلاًوشرعاً.
وأمّا في الثانية: فلأنّ العجز عن استعمال الماء في الأمد القصير لا يصدق معه عدم الوجدان الذي جعل موضوعاً لمشروعيّة التيمّم.
فقد يتوهّم عدم جوازه، لأجل أنّ القدر المتيقّن من بقاء التيمّم وصحّته إنّما هو بالنسبة إلى تلك الصّلاة.
ولكنّه توهّم فاسدٌ: بناءً على ما هو المشهور المنصور من أنّ التيمّم أحد الطهورين، لا أنّه مبيحٌ خاصّة، فإنّه حينئذٍ يكون ما دام في الصّلاة متطهّراً فله الإتيان بجميع ما هو مشروط بالطهارة، وقد تقدّم تفصيل القول في ذلك في فروع ضيق الوقت في مبحث المسوّغات، فراجع.(1)8.
ص: 408
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأظهر جواز المسّ مطلقاً.
الفرع السابع: في جواز العدول من الصّلاة التي وجد الماء فيها إلى فائتة سابقة، في الموارد التي لا يصدق عدم الوجدان بالنسبة إلى سائر الغايات غير ما بيده من الصّلاة وعدمه ؟ وجهان بل قولان:
وقد استدلّ للثاني: بعدم بقاء أثر التيمّم بالنسبة إلى غير هذه الصّلاة.
واُجيب عنه: بأنّ العدول إنْ كان واجباً، فالصلاة المعدول إليها بدلٌ ممّا هو فيها بجعل الشارع، وإنْ كان مستحبّاً فهو أيضاً انتقالٌ من صلاةٍ واجبة إلى فائتة واجبة، غاية الأمر الانتقال غير واجب.
وفيه: أنّ بدليّة المعدول إليها ليست ثابتة بنحوٍ يترتّب عليها جميع أحكام ما بيده.
وعليه، فالأظهر هو الأوّل، ويشهد له إطلاق ما دلَّ على المضيّ في ما بيده، فان مقتضى إطلاقه المُضيّ فيها، ولو بإتمامها بعنوان آخر، غير العنوان الذي قَصَده من الأوّل، ولعلّه إلى ذلك يرجع ما في «الحدائق»(1) حيث قال: (وبالجملة إنّ قول الشيخ إنّما هو بالنسبة إلى الصّلاة المستقبلة المحكوم عليها بالصحّة، من نوع تلك الصّلاة التي شَرَع فيها، لا شخصها بعينها)، انتهى.
وعليه، فالأظهر جواز العدول مطلقاً.
الفرع الثامن: إذا كان وجدان الماء في أثناء الصّلاة، بعد الحكم الشرعي بتحقّق ما يعتبر في المُضيّ بوجدان الماء بعده، كما لو وجده وهو في السجود، وشكّ في أنّه ركع أم لا، بناءً على تعليق جواز المُضيّ على الوجدان بعد الركوع، فهل هو كالوجدان بعد الركوع الوجداني أم لا؟ وجهان:5.
ص: 409
استدلّ للثاني: بأنّ قاعدة التجاوز الثابتة بالأخبار(1) لا تكون مثبتاتها حُجّة، فلا يثبت بها الوجدان بعد الركوع.
وفيه: إنّ ذلك من قبيل الموضوع المركّب الثابت أحد جزئيه بالقاعدة وهو تحقّق الركوع، والجزء الآخر بالوجدان، وهو وجدان الماء، فبضمّ الوجدان إلى القاعدة يتمّ الموضوع، ويترتّب عليه حكمه.
وبأنّ دليل القاعدة إنّما دلَّ على ترتيب أثر وجود الجزء من حيث صحّة الأجزاء اللّاحقة، لا من جميع الجهات.
وفيه: - مضافاً إلى إطلاق دليلها - أنّ بعض ما نصّ على جريان القاعدة فيه من الأجزاء لا أثر لتركه من حيث صحّة الأجزاء اللّاحقة كالقراءة، فإنّ أثر تركها ليس بطلان الصّلاة، بل سجود السهو، وهذا دليلٌ قطعيّ على عدم اختصاص الدليل بخصوص صحّة الأجزاء اللّاحقة.
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأظهر المُضيّ في الفرض أيضاً.
***1.
ص: 410
ولا يُعيد ما صَلّى بتيمّمه.
المسألة الرابعة: (ولا يعيدُ ما صَلّى بتيمّمه) الصحيح، لو وجد الماء، وإنْ كان في الوقت، كما هو المشهور شهرةً عظيمة كادت تكون إجماعاً، وعن غير واحد حكايته.
وعن القديمين: وجوب الإعادة مع وجدان الماء في الوقت.
وعن السيّد(1) في «شرح الرسالة»: وجوب الإعادة على الحاضر إذا وجد الماء في الوقت.
وتشهد للأوّل: طائفتان من النصوص:
الطائفة الأُولى : ما دلَّ على نفي الإعادة مطلقاً، كصحيح عبد اللّه بن علي الحلبي، أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام:
«عن الرجل إذا أجنَبَ ولم يجد الماء؟ قال عليه السلام: يتيمّم بالصعيد، فإذا وجد الماء فليغتسل، ولا يُعيد الصّلاة»(2).
ونحوه جملة من الأخبار.
الطائفة الثانية: ما دلَّ على عدم الإعادة عند وجدان الماء في الوقت:
منها: صحيح أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن رجلٍ تيمّم وصلّى ، ثمّ بلغ الماء قبل أن يخرج الوقت ؟ فقال عليه السلام: ليس
ص: 411
عليه إعادة الصّلاة»(1).
ومنها: صحيح زرارة، قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: «فإنْ أصاب الماء وقد صلّى بتيمّم وهو في وقت ؟ قال عليه السلام: تمّت صلاته ولا إعادة عليه»(2).
ونحوهما غيرهما.
ويستفاد حكم ما لو وجد الماء في خارج الوقت منها بالأولويّة القطعيّة.
واستدلّ للثاني: بصحيح يعقوب بن يقطين، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام: عن رجلٍ تيمّم فصلّى فأصاب بعد صلاته ماءً ، أيتوضّأ ويُعيد الصّلاة أم تجوز صلاته ؟ قال عليه السلام: إذا وجد الماء قبل أن يمضي الوقت توضّأ وأعاد، فإنْ مضى الوقت فلا إعادة عليه»(3).
وفيه: أنّه وإنْ كان أخصّ من الطائفة الأولى من النصوص المتقدّمة، إلّاأنّه معارض مع الطائفة الثانية، فحيثُ أنّه يمكن الجمع العرفي بينهما بحمله على الاستحباب، فيتعيّن ذلك، ويشهد لذلك:
- مضافاً إلى كونه جمعاً عرفيّاً - موثّق منصور ابن حازم، عن مولانا الصادق عليه السلام:
«في رجلٍ تيمّم فصلّى، ثمّ أصاب الماء؟ فقال عليه السلام: أمّا أنا فكنت فاعلاً إنّي كنت أتوضّأ واُعيد»(4).
فإنّ ظاهره الاستحباب.
فإنْ قلت: إنّ نصوص عدم الإعادة، لاشتمال بعضها على النهي عن الإعادة،0.
ص: 412
تعارض صحيح ابن يقطين الآمر بها بنحوٍلا يمكن الجمع العرفي بينهما، وتنافي الاستحباب.
قلت: إنّها لورود النهي فيها مورد توهم الوجوب، لا تنافي الاستحباب.
واستدلّ للثالث:
1 - بانصراف نصوص عدم الإعادة عن الحاضر، لندرة عدم وجدان الماء في الحضر حين الصّلاة، مع اعتقاد استمرار العجز ووجدانه بعده.
2 - وبخبر السكوني، عن مولانا جعفر، عن آبائه، عن عليّ عليهم السلام: «أنّه سُئل عن رجلٍ يكون في وسط الزحام يوم الجمعة، أو يوم عرفة، لا يستطيع الخروج من كثرة الزحام ؟ قال عليه السلام: يتيمّم ويُصلّي معهم، ويُعيد إذا انصرف»(1).
ونحوه موثّق سماعة(2).
ولكن يرد على الأوّل: ما مرّ غير مرّةٍ من أنّ الانصراف الناشيء عن قلّة وجود فرد، لا يصلح أن يكون مقيّداً للإطلاق، مع أنّ ندرة وجود هذا الفرد ممنوعة.
وأمّا الخبران، فقد عرفت في مبحث المسوّغات(3) أنّهما أجنبيّان عن المقام، لورودهما في الصّلاة مع المخالفين، فراجع.
فتحصّل: أنّ الأقوى عدم وجوب الإعادة مطلقاً.
أقول: ثمّ إنّه قد يتوهّم وجوب الإعادة في موارد:
المورد الأوّل: فيمن تعمّد الجنابة مع كونه خائفاً من استعمال الماء.
فإنّ المحكيّ عن «التهذيب»(4) و «الاستبصار»(5) و «النهاية»(6)6.
ص: 413
و «المبسوط»(1) و «المهذّب»(2) و «الإصباح»(3) و «روض الجنان»(4) ذلك، واستدلّله:
بصحيح عبد اللّه بن سنان، المرويّ عن «الفقيه»: «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل تصيبه الجنابة في اللّيلة الباردة، ويخاف على نفسه التلف إنْ اغتسل ؟
فقال عليه السلام: يتيمّم ويصلّي، فإذا أمِنَ البرد اغتسل وأعاد الصّلاة»(5).
واُجيب عنه: بمعارضته مع ما دلَّ على نفي الإعادة عمّن أجنَبَ فتيمّم ثمّ وجد الماء، بدعوى أنّه وإنْ كان وارداً في فاقد الماء، إلّاأنّ عدم دخل هذه الخصوصيّة في الحكم واضح.
وفيه: أنّ غاية ما يقتضيه ذلك صيرورته مطلقاً، فيقيّد بالصحيح.
فالصحيح في الجواب عنه: أنّ نصوص نفي الإعادة، لاشتمالها على التعليل بأنّ (ربّ الماء هو ربّ الصَّعيد) لا يصحّ تقييدها، مع أنّ الصحيح لم يُعمل بإطلاقه، فيتعيّن حمله على الاستحباب أو التقيّة.
المورد الثاني: في من منعه الزحام يوم الجمعة من الخروج، فالمحكيّ عن «الوسيلة»(6) و «الجامع»(7) و «المقنع»(8) و «النهاية»(9) و «المبسوط»(10)1.
ص: 414
و «المهذّب»(1) وجوب الإعادة.
وقد مرّ الكلام في هذا الفرع في المسوّغات عند ذكر المسوّغ الثالث،(2)وعرفت أنّ ما استدلّ به لهذا القول أجنبيٌ عنه.
المورد الثالث: مَن أراق الماء الموجود عنده، مع العلم بعدم وجوده بعد ذلك، فالمحكيّ عن المفيد(3) والشهيد(4) وجوب الإعادة.
وقد مرّ الكلام فيه في مبحث المسوّغات(5) وعرفت أنّ الأظهر عدم الوجوب.
***7.
ص: 415
ولا يجوزُ قَبل دخول الوقت.
المسألة الخامسة: (ولا يجوزُ) التيمّم (قبل دخول الوقت) إجماعاً منقولاً مستفيضاً؛ لو لم يكن متواتراً.
أقول: إنْ كان مرادهم بذلك أنّ الوضوء والغُسل مستحبّان نفسيّان، أو للكون على الطهارة، مع قطع النظر عن أيّ غايةٍ فرضت، وليس كذلك التيمّم، لا سيّما على القول بأنّه مبيحٌ لا مطهّر، فلا يصحّ قبل دخول وقت الصّلاة.
فيرد عليهم: أنّ الأظهر كون التيمّم أيضاً كذلك كما يأتي في المسألة السادسة.
وإنْ كان مرادهم أنّه بما أنّ فقدان الماء قبل الوقت غَير مُجزٍ في التيمّم وصحّة الصّلاة به، لأنّ أدلّة التشريع إنّما وردت في فقدان الماء في الوقت لا غير.
فيرد عليهم: أنّ غاية ما يقتضيه ذلك، عدم جواز التيمّم قبل الوقت للصّلاة، لا لغايةٍ اُخرى أو الاستحباب النفسي، وعدم جوازه كذلك كما في الوضوء والغُسل ممّا تقتضيه القواعد، لأنّ وجوب الصّلاة مشروط بدخول الوقت، وليس وجوبها من قبيل المعلّق كما حقّقناه في محلّه، والوجوب الغيري تابعٌ في الإطلاق والاشتراط للوجوب النفسي، فلا أمر به قبل وقت الصّلاة، كما لا أمر بالصلاة، فلا يصحّ الإتيان به بداعي ذلك الأمر أو التوّصل إليها، كما حقّقناه في حاشيتنا على «الكفاية».
أقول: ومنه يظهر:
إنّ مرادهم لو كان ذلك، كان الفرق بينه وبين الغُسل والوضوء بلا فارق.
وإنْ كان مرادهم أنّ الوضوء التهيّؤي قبل الوقت يصحّ بخلاف التيمّم.
ص: 416
وَيجوزُ مع الضِّيق.
ففيه: أنّ ما دلَّ على صحّة ذلك الوضوء وهو المرسل(1) المرويّ عن «الذكرى»: «ما وَقّر الصّلاة من أخّرَ الطهارة لها حتّى يدخل وقتها»، المنجبر ضعفه باعتماد الأساطين عليه، يدلّ على مشروعيّة التيمّم التهيّؤي لإطلاق المرسل.
لا يُقال: إنّه يقيّد بالإجماع المتقدّم.
فإنّه يُقال: إنّه لعدم معلوميّة مراد المجمعين، لا يقيّد ذلك الإطلاق.
فتحصّل: أنّه لا فرق بين الطهارة المائيّة والترابيّة، فيما تقتضيه القواعد من هذه الجهة.
(ويجوزُ مع الضِّيق) إجماعاً لذلك، ولأنّه المتيقّن من موارد مشروعيّة التيمّم.
***5.
ص: 417
وفي حال السِّعة قولان.
(وفي حال السِّعة قولان)، بل أقوال:
القول الأوّل: ما عن «المنتهى »(1)، و «التحرير»(2)، و «الإرشاد»(3)، و «البيان»(4)، و «المفاتيح»(5)، و «المدارك»(6) وغيرها: وهو الجواز مطلقاً.
القول الثاني: ما عن المشهور مطلقاً أو بين المتقدّمين، وهو وجوب التأخير إلى آخر الوقت، كذلك وعن ناصريات السيّد(7) وجُمل القاضي(8) وغيرهما: دعوى الإجماع عليه.
القول الثالث: ما عن «المعتبر»(9) و «تذكرة»(10) المصنّف رحمه الله و «النهاية»(11)
ص: 418
و «المختلف»(1) وغيرها: وهو جواز التقديم مع العلم باستمرار العجز وعدمه مع عدمه.
وعن المحقّق الثاني(2): نسبته إلى أكثر المتأخّرين.
وعن «الروضة»(3): أنّه الأشهر بينهم.
وعن غير واحدٍ: أنّ هذه الأقوال فيما لم يعلم بزوال العُذر، وإلّا فلا يجوز قولاً واحداً.
أقول: الكلام يقع في مقامين:
الأوّل: فيما تقتضيه القواعد.
الثاني: فيما تقتضيه النصوص الخاصّة.
أمّا المقام الأوّل: فقد يقال إنّها تقتضي التوسعة، وأنّ المدار على فقد الماء حين إرادة الصّلاة لا في تمام وقتها، والشاهد عليه إطلاق أدلّة البدليّة.
وفيه: أنّه بما أنّ البدليّة اضطراريّة، فمجرّد صدق عدم الوجدان في وقتٍ خاص لا يكفي في صدق الفقدان المأخوذ موضوعاً لجواز التيمّم، فإنّ الظاهر منها بقرينة مناسبة الحكم والموضوع، اختصاص مشروعيّة التيمّم بصورة سقوط التكليف بالمبدل منه رأساً، فغاية ما يستفاد منها جوازه في السِّعة، إذا علم ببقاء العُذر إلى آخر الوقت، فالأولى الاستدلال له بإطلاق ما دلَّ على جواز التيمّم والصّلاة بعد الفحص، وعدم وجدان الماء، كما لا يخفى ، فتأمّل.9.
ص: 419
وعلى فرض تماميّته، لا يبعد دعوى اختصاصه بما إذا لم يعلم بزوال العُذر، كما يظهر ممّا دلَّ على وجوب الطلب زائداً على الحَدّ إذا علم بوجود الماء فيه.
فالمتحصّل من القواعد: جوازه في السِّعة ما لم يعلم بزوال العُذر.
وأمّا المقام الثاني: فالنصوص الواردة في المقام على طوائف:
الطائفة الأُولى : ما استدلّ به على الجواز مطلقاً بالالتزام لدلالته على عدم وجوب الإعادة لو وجد الماء في الوقت:
منها: صحيح زرارة، قال: قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: «فإنْ أصاب الماء وقد صلّى بتيمّمٍ وهو في وقت ؟ قال عليه السلام: تمّت صلاته ولا إعادة عليه»(1).
ومنها: صحيح أبي بصير، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ تيمّم وصلّى ، ثمّ بلغ الماء قبل أن يخرج الوقت ؟ فقال عليه السلام: ليس عليه إعادة الصّلاة»(2).
ونحوهما غيرهما(3).
الطائفة الثانية: ما استدلّ به على عدم الجواز كذلك: كصحيح يعقوب بن يقطين، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن رجلٍ تيمّم فصلّى ، فأصاب بعد صلاته ماءً أيتوضّأ ويُعيد الصّلاة أم تجوز صلاته ؟
قال عليه السلام: إذا وجد الماء قبل أن يمضي الوقت توضّأ وأعاد، فإنْ مضى الوقت فلا أعادة عليه»(4).
الطائفة الثالثة: ما استدلّ به على لزوم الإتيان بالتيمّم في آخر الوقت:8.
ص: 420
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «سمعتُه يقول - في حديثٍ - فإذا لم تجد ماءً وأردت التيمّم، فأخّر التيمّم إلى آخر الوقت، فإنْ فاتك الماء لم تفتك الأرض»(1).
ومنها: موثّق عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «فإذا تيمّم الرجل فليكن ذلك في آخر الوقت، فإنْ فاته الماء فلن تفوته الأرض»(2).
ومنها: موثّقه(3) الآخر: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أجنَب فلم يجد ماءً يتيمّم ويُصلّي ؟ قال عليه السلام: لا حتّى آخر الوقت، إنْ فاته الماء لم تفته الأرض».
أمّا الطائفة الأُولى : فهي تدلّ على عدم وجوب إعادة مَن صَلّى بتيمّمٍ صحيح إذا وجد الماء في الوقت، وليس في مقام البيان من جهة أن التيمّم في سعة الوقت جائزٌ مطلقاً أو في بعض الموارد، وعليه فالتمسّك بإطلاقها لجوازه في السِّعة مطلقاً، حتّى فيما لو علم بارتفاع العُذر، كما ذكره بعض المعاصرين(4) في غير محلّه.
نعم، هي بالدلالة الالتزاميّة تدلّ على جوازه في السِّعة في الجملة، وحيث لا إطلاق لها لعدم ورودها في مقام البيان من هذه الجهة، فيتعيّن الأخذ بالمتيقّن، وهو الجواز لو علم باستمرار العُذر.
وعليه، فما ذُكر من أنّ حملها على خصوص هذه الصورة، ممّا تطمئن النفس بخلافه، لندرة حصول الأسباب الموجبة للعلم المذكور ضعيف.6.
ص: 421
وأضعفُ من ذلك كلّه دعوى (1) أنّها مطلقة آبية عن التقييد، لما في الجملة منها، من التعليل بأنّ (ربّ الماء هو ربّ الصَّعيد)، فإنّه آبٍ عن التخصيص، لأنّ هذا التعليل لا نظر له إلى موارد الجواز، وإلّا كان مقتضاه جوازه مع وجود الماء، وإنّما يدلّ على عدم وجوب الإعادة لو صلّى بتيمّم صحيح.
وأمّا الطائفة الثانية: فهي إنّما تدلّ على وجوب الإعادة لو وجد الماء في الوقت، ولا نظر لها إلى أنّ التيمّم في السِّعة جائزٌ أم لا، ولا تنافي جوازه، كما أنّه لورود ما دلَّ على وجوب إعادة الصّلاة جماعة عند انعقاد الجماعة لا ينافي مشروعيّة ما صلّاه فرادى قبل ذلك، فيلتزم به تعبّداً لو لم يعارضه ما دلَّ على عدم الوجوب.
بل الظاهر ممّا ورد في ذيل صحيح ابن يقطين: (فإنْ مضى الوقت فلا إعادة عليه). جوازه في السِّعة في الجملة، فإنّ المتبادر منه أنّه في فرضٍ واحد فصّل عليه السلام بين ما لو وجد الماء في الوقت فحكم بالإعادة، وما لو وجده في خارج الوقت، فحكم بعدم الإعادة.
وعلى ذلك، فمضافاً إلى عدم تعارض الطائفتين من هذه الجهة، هما متّفقتان في الدلالة على الجواز في السِّعة في الجملة، والمتيقّن منهما صورة العلم باستمرار العُذر.
نعم، هما متنافيتان من حيث الدلالة على وجوب الإعادة وعدمه، ولكن مقتضى الجمع العرفي بينهما، كما عرفت، حمل الطائفة الثانية على الاستحباب، فراجع ماذكرناه.(1)
أقول: وبما ذكرناه ظهر أنّ ما اُفيد في مقام الجمع بين الطائفتين - بعد البناء على تعارضهما من جهة دلالة الأُولى على الجواز مطلقاً، والثانية على عدم الجواز كذلكقة
ص: 422
تارةً بحمل الأُولى على صورة وجدان الماء قبل الفراغ من الصّلاة بالتيمّم، واُخرى بحملها على صورة التيمّم قبل الوقت لغايةٍ اُخرى ، فدخل وقت الصّلاة فصلّاها في السِّعة، وثالثةً بحملها على صورة الجهل بأنّ الحكم المضايقة - كلّها أجنبيّة عن المقام.
مضافاً إلى أنّ قوله عليه السلام في تلك النصوص: (وصلّى ثمّ بلغ الماء). يأبى عن الحمل الأوّل، وقوله عليه السلام فيها: (تيمّم وصلّي) يأبى عن الثاني، والثالث خلاف ظاهرها.
أقول: كما أنّه ظاهرٌ بما حقّقناه أنّ ما أفاده بعض المعاصرين(1) في توجيه القول الثالث؛ بأنّ الطائفة الأُولى تُحمل على صورة العلم بعدم وجدان الماء، لظهور الطائفة الثالثة في الاختصاص بصورة احتمال وجدان الماء، فتكون أخصّ مطلقاً منها، ولأجل ذلك تكون أخصّ مطلقاً من الطائفة الثانية فتحمل هي على صورة الرجاء جمعاً.
غير تامّ : لما عرفت من عدم كون الطائفتين مطلقتين، مضافاً إلى عدم التنافي بينهما من هذه الجهة. مع أنّه لو سُلّم ذلك لا يتمّ الجمع المذكور لتوقّفه على القول بانقلاب النسبة، ولا نقول به في هذه الموارد.
وأمّا الطائفة الثالثة: فهي وإنْ دلَّت على وجوب التأخير، وعدم جواز البدار، إلّا أنّها لاشتمالها على الشرطيّة المزبورة، ظاهرة في الاختصاص بصورة رجاء وجدان الماء، وعليه فهي لا تنافي مع الطائفتين الأوّليتين، وبها يخرج عمّا تقتضيه القواعد من الجواز، مع الاحتمال أيضاً، مع أنّه لو منع من ذلك وبنى على كونها شاملة لجميع الصور، فيقيّد إطلاقها بالطائفة الأُولى الدالّة على الجواز في صورة6.
ص: 423
العلم باستمرار العُذر، فتأمّل.
فإنْ قلت: لا مناص عن البناء على ذلك، لأنّ من جملة تلك النصوص صحيح زرارة، عن أحدهما عليه السلام: «إذا لم يجد المسافر الماء، فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت، فليتيمّم وليصلِّ في آخر الوقت»(1). فإنّه مطلقٌ شاملٌ لجميع الصور.
قلت: إنّ ظاهره وجوب الطلب في تمام الوقت، وحيثُ أنّ الإجماع عليخلافه، فيُحمل على إرادة أنّه يطلب إنْ كان الوقت يسَع الطلب، وإلّا فليتيمّم بلا طلب، فلا دلالة له على وجوب التأخير، فهو ليس من هذه الطائفة، بل قد عرفت في مبحث وجوب الطلب أنّه يمكن دعوى ظهوره في نفسه - مع قطع النظر عن الإجماع - أو بواسطة النصوص الاُخر في ذلك. فراجع.(2)
فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه: أنّ مقتضى القواعد والنصوص الخاصّة، وجوب التأخير مع العلم بارتفاع العُذر، ومقتضى النصوص الخاصّة وجوبه مع احتمال الارتفاع أيضاً، وبها يخرج عمّا تقتضيه القاعدة من جواز البدار في هذه الصورة، ومقتضى كلتا الطائفتين من الأدلّة جوازه في السِّعة مع الاعتقاد ببقاء العُذر ولو كان خطاءً .
فإنْ قلت: إنّه بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الاُمور الاستقباليّة؛ ولو كانت تدريجيّة، يجري استصحاب بقاء العُذر إلى آخر الوقت، فتلحق صورة احتمال الارتفاع بصورة العلم بالبقاء، غاية الأمر يكون جواز البدار4.
ص: 424
حينئذٍ جوازاً ظاهريّاً لا واقعيّاً.
قلت: إنّه مع الدليل لا مجال للرجوع إلى الأصل، وقد تقدّم أنّ الطائفة الثالثة مختصّة بصورة الاحتمال، وتدلّ على وجوب التأخير، ومعها لا وجه للرجوع إلى الأصل.
***
ص: 425
أقول: بقي في المقام اُمورٌ يجب التنبيه عليها:
الأمر الأوّل: إذا تيمّم لصلاةٍ سابقةٍ وصلّى ، فإنّه لا ريب في جواز إتيان الصلوات التي لم يدخل وقتها بعد دخوله، ما لم يُحْدِث أو يجد ماءً في الجملة.
وعن «الذخيرة»(1) الظاهر أنّه لا خلاف فيه بين الأصحاب.
وعن «الخلاف»(2) و «المعتبر»(3): دعوى الإجماع عليه.
وتشهد له: جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح حمّاد بن عثمان، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل لا يجد الماء أيتيمّم لكلّ صلاةٍ؟ فقال عليه السلام: لا هو، بمنزلة الماء»(4).
ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجلٍ تيمّم ؟ قال عليه السلام: يُجزيه ذلك إلى أن يجد الماء»(5).
ومنها: صحيحه الآخر(6): «قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: يُصلّي الرَّجل بتيمّمٍ واحد صلاة اللّيل والنهار كلّها؟ فقال عليه السلام: نعم، ما لم يُحْدِث أو يُصيب ماءً ».
ونحوها غيرها(7).
ص: 426
وبإزائها طائفتان من النصوص:
الطائفة الأولى: ما دلَّ على أنّه يتيمّم لكلّ صلاة، كخبر أبي همّام، عن الإمام الرضا عليه السلام: «يتيمّم لكلّ صلاةٍ حتّى يوجد الماء»(1).
الطائفة الثانية: ما دلَّ على أنّه يتيمّم لصلاةٍ واحدة ونافلتها، كخبر السكوني، عن مولانا الصادق عليه السلام: «لا يتمتّع بالتيمّم إلّاصلاة واحدة ونافلتها»(2).
أقول: والجمع العرفي يقتضي حملهما على الاستحباب، وما فيهما من الاختلافات على اختلاف مراتب الفضل.
ومنه يظهر عدم صحّة ما قيل من حملهما على التقيّة، إذ لا يُحمل الخبر على التقيّة مع عدم المعارض، وعدم القرينة عليه، وموافقة مضمونه لمذهب المخالفين لا تصلح لذلك.
إنّما الكلام في أنّه هل يجوز الإتيان بها في أوّل وقتها أم لا؟
فعن غير واحدٍ؛ منهم الشيخ في «المبسوط»(3): الجواز مع قولهم بالمضايقة.
وعن بعضهم: القول بعدم الجواز، مع إلتزامه في تلك المسألة ولو في بعض صورها بالمواسعة.
وعن جماعةٍ : تبعيّة حكم هذا الفرع للحكم في تلك المسألة، وهي الأقوى، وذلك لأنّ نصوص الاكتفاء بتيمّمٍ واحد لصلواتٍ متعدّدة، ليست في مقام بيان جواز الصّلاة في السِّعة كي يتمسّك بإطلاقها، بل في مقام بيان عدم وجوب تجديد0.
ص: 427
التيمّم لكلّ صلاةٍ ، بل الظاهر منها هو عدم وجوب التجديد وجواز الصّلاة معه في مورد جواز التيمّم، لو كان مُحْدِثاً، كما يظهر لمن لاحظ ما فيها من السؤال والجواب، فهي لا تدلّ على جواز الصّلاة إلّافي موردٍ يجوز التيمّم والصّلاة.
وعليه، فلا يجوز في صورتي العلم بزوال العذر واحتماله، اللّتين عرفت وجوب التأخير فيهما، ويجوز مع العلم بالاستمرار.
وبذلك يظهر أنّ ما استدلّ به على الجواز في صورة الاحتمال، من اختصاص نصوص التأخير بغير المتيمّم، وأمّا هو فيرجع إلى ما تقتضيه القاعدة وهو الجواز كما تقدّم فاسد.
مع أنّ دعوى اختصاص تلك النصوص بغير المتيمّم ممنوعة، إذ الظاهر منها - لا سيّما بعد ملاحظة جواز التيمّم لغير تلك الصّلاة من الغايات - المنع عن الصّلاة به في السِّعة لا مجرّد عدم جواز التيمّم.
وبعبارة اُخرى: أنّها تدلّ على عدم ترشّح الأمر الغيري من الصّلاة إلى التيمّم، وعدم صحّة الإتيان به للتوّصل إلى الصّلاة لا عدم صحّة التيمّم، فإنّه يصحّ إذا اتى به لغايةٍ اُخرى ، أو استحبابه النفسي، ولا يتصوّر وجهٌ لذلك سوى لزوم تأخير الصّلاة، وعدم جواز الإتيان بها في السِّعة كما لا يخفى .
وبالجملة: فتحصّل أنّ الأظهر لزوم تأخير الصّلاة الثانية فيها أيضاً.
ص: 428
الأمر الثاني: المراد بآخِر الوقت الذي يجب التأخير إليه، هو الآخر العرفي دون الآخر الحقيقي، لتعذّر العمل على الحقيقي غالباً أو دائماً، فيكون تكليفاً بما لا يطاق.
إنّما البحث عن أنّه:
هل يجب الصبر إلى زمان لا يبقى من الوقت إلّابقدر الواجبات ؟
أم يكفي عدم زيادة الوقت عن الصّلاة المشتملة على الواجبات والمندوبات المتعارفة، مثل القنوت، والمقدّمات المتعارفة، كالمشي إلى مكان المصلّى ونحوه ؟
أم يكفي عدم زيادة الوقت عن الصّلاة المشتملة على المستحباب حتّي غير المتعارفة ؟
وجوهٌ خيرها أوسطها، ولا يخفى وجهه.
الأمر الثالث: صرّح جمعٌ من فضلاء الأصحاب: بأنّ من عليه فائتة، فالأوقات كلّها صالحة لتيمّمه، كذا في «الحدائق»(1).
وعن بعض(2): عدم وجدان الخلاف فيه.
واستدلّ له:
1 - بعموم قوله عليه السلام(3): «ومتى ما ذكرتَ صلاةً فاتتك صلّيتها».
2 - وباختصاص أخبار(4) المضايقة بالتيمّم لصاحبة الوقت.
ص: 429
3 - وباستفادة حكمها من أخبار(1) المواسعة الواردة في الفرائض الموقّتة، لاشتمالها على التعليل الموجب للتعدّي عن موردها إلى المقام.
ولكن يرد على الأوّل: أنّه لا نظر له إلى غير الوقت من الشروط، كي يستدلّ به لإثبات طهوريّة التيمّم والاكتفاء به، وإنّما يدلّ على أنّ الأوقات كلّها صالحة لوقوع الصّلاة القضائيّة فيها.
وبعبارة اُخرى: أنّه لا يدلّ على سقوط اعتبار الطهارة المائيّة، كما لا يدلّ على سقوط غيرها ممّا يعتبر في الصّلاة إذا تعذّر الإتيان به.
وأمّا الثاني: فهو وإنْ كان متيناً في نفسه، إلّاأنّه لا يدلّ على جوازه في السِّعة بعد ما عرفت من أنّ مقتضى الآية الشريفة وما شابهها من النصوص، عدم جواز البدار إذا علم بعدم استمرار العُذر إلى آخر الوقت، الذي يجوز تأخير الصّلاة إليه.
وإمّا الثالث: فغاية ما يمكن إثباته بتلك النصوص، جواز الإتيان به إذا علم باستمرار العُذر، لما عرفت من اختصاص الحكم في الملحق به بهذه الصورة.
أقول: وحقّ القول في المقام إنّه:
تارةً : نقول بالمضايقة في القضاء كما هو المشهور.
واُخرى : نقول إنّ وقتها العمر.
أمّا على القول بالمضايقة: فيجوز التيمّم لها، حتّى إذا علم بزوال العُذر في الزمان اللّاحق، لإطلاق أدلّة مشروعيّة التيمّم للصّلاة من الآية والنصوص.
نعم، يعتبر أن يكون أمد الزوال بعيداً، وإلّا فلا يصدق عدم الوجدان.
وأمّا على القول بالمواسعة: فإذا علم بزوال العذر في الزمان اللّاحق، لا يجوز).
ص: 430
التيمّم، وإلّا فيجوز، لما عرفت من أنّ هذا ممّا تقتضيه القاعدة، وعليها الاعتماد بعد فرض عدم شمول النصوص الخاصّة للمقام.
اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ الظاهر اتّحاد حكمها مع الفرائض الأدائيّة التي عرفت أنّه مع احتمال زوال العُذر لا يجوز البدار فيها، فكذلك في المقام.
الأمر الرابع: صرّح غير واحدٍ، منهم المحقّق(1) والشهيد(2) بجواز التيمّم لصلاة النافلة الراتبة بدخول وقتها كصلاة اللّيل.
أقول: ولكن الأظهر عدم جوازه إلّامع العلم باستمرار العُذر إلى آخر وقتها، لعين ما ذكرناه في الفرائض، لشمول الأدلّة لها أيضاً.
وأمّا النوافل غير الموقّتة: فيجوز لها التيمّم حتّى مع العلم بزوال العُذر في الزمان اللّاحق، لأنّها مضيّقة، تفوت بفوات الوقت، فلو لم يأت بها عند فَقْد الماء فَقَدْ فاتت.
الأمر الخامس: لو اعتقد ضيق الوقت وتيمّم وصلّى ، ثمّ انكشف سعة الوقت:
فعن الشيخ في جملةٍ من كتبه(3): أنّه تجبُ الإعادة.
وعن المحقّق(4) والشهيد(5): أنّها لا تجب.
واستدلّ للثاني:
1 - بأنّه تَطَهر طهارةً شرعيّة، وصلّى صلاةً مأموراً بها، فتكون مُجزية.7.
ص: 431
2 - وبما دلَّ من النصوص(1) على أنّه لا إعادة على من تيمّم وصلّى ، ثمّ بلغ الماء قبل خروج الوقت، إذ لا وجه على القول بالتضييق إلّاذلك.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّه على القول بالتضييق لم يطهر طهارة شرعيّة، ولا صلّى صلاةً مأموراً بها، بل كان يتخيّل كونها كذلك، فلا تكون مُجزية.
وأمّا النصوص: فلماعرفت من دلالتهافي أنفسهاعلى التوسعة في الجملة لا مطلقاً.
فالتحقيق: أنّه على القول بوجوب التأخير إلى آخر الوقت، يجب عليه الإعادة، وأمّا على القول بالتوسعة، فبناءً على المختار لا تجب الإعادة، إذا علم حين التيمّم باستمرار العُذر إلى أمدٍ يساوي آخر الوقت واقعاً، وتجب إذا علم بزوال العُذر أو احتمل ذلك.
ومنه يظهر الحكم بناءً على المسلك الآخر الذي اختاره جماعةٌ منهم السيّد في «العروة»(2).
***م.
ص: 432
المسألة السادسة: جميع غايات الوضوء والغُسل غاياتٌ للتيمّم، كما هو المشهور شهرة عظيمة.
بل عن «منتهى » المصنّف رحمه الله(1): دعوى نفي الخلاف فيه.
وتشهد له: جملةٌ من النصوص الدالّة على أنّ التيمّم طهور العاجز، كما أنّ الماء طهور القادر:
منها: صحيح محمّد بن حمران، وجميل: «إنّ اللّه تعالى جعل التّراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً»(2).
ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجلٍ تيمّم ؟ قال عليهم السلام يُجزيه ذلك إلى أن يجد الماء»(3).
ومنها: صحيح حمّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «هو بمنزلة الماء»(4).
ومنها: خبر السكوني، عنه عليه السلام: «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: يا أبا ذرّ يكفيك الصَّعيد عشر سنين»(5).
ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «التيمّم أحد الطهورين»(6).
ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن مولانا الصادق عليه السلام: «فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصَّعيد، فقد فعل أحد الطهورين»(7).
ص: 433
ونحوها غيرها.
ومقتضى إطلاقها أنّه يستباح به جميع ما يستباح بالطهارة المائيّة.
دعوى أنّه لا يفيد الطهارة، بل هو مبيحٌ ، ستعرف ما فيها في المسألة الثامنة.
أقول: ثمّ إنّه وقع الكلام في موارد:
المورد الأوّل: نُسب إلى فخر المحقّقين رحمه الله(1) ابن المصنّف رحمه الله أنّه منع من استباحة اللبث في المساجد، ودخول المسجدين، ومسّ كتابة القرآن بالتيمّم. واستدلّ له بقوله تعالى : وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (2) حيثُ جَعل نهاية التحريم الغُسل، فلا يستباح بغيره، وإلّا لم تكن الغاية غاية، وكذا مسّ كتابة القرآن إذ الاُمّة لم تفرّق بين المسّ واللّبث في المساجد.
وأورد عليه سيّد «المدارك»(3) بقوله: (إنّ إرادة المساجد من الصّلاة مجازٌ، لا يصار إليه إلّامع القرينة، مع احتمالها لغير ذلك المعنى احتمالاً ظاهراً، وهو أن يكون متعلّق النهي الصّلاة في أحوال الجنابة إلّافي حال السّفر، لجواز تأديتها حينئذٍ بالتيمّم) انتهى .
وفيه: إنّ هذا التفسير الذي عليه بنى الفخر رحمه الله استدلاله وهو كون المراد مواضع الصّلاة، أي المساجد ممّا دلّت عليه النصوص الواردة عن المعصومين عليهم السلام في تفسير الآية الشريفة، كصحيح(4) زراره ومحمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام:
«قلنا له: الحائض والجُنُب يدخلان المسجد أم لا؟ قال عليه السلام: الحائض والجُنُب لا يدخلان المسجد إلّامُجتازَين، إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي0.
ص: 434
سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (1) ».
أقول: فالصحيح أن يورد على دليل الفخر رحمه الله بأنّ أدلّة البدليّة حاكمة على الآية الشريفة، كما أنّها حاكمة على سائر ما دلَّ على اعتبار الوضوء أو الغُسل في شيء من العبادات، كالصّلاة ونحوها.
المورد الثاني: نَسب في «الحدائق»(2) إلى السيّد أنّه في مداركه التزم بأنّ ما ثبت توقّفه على مطلق الطهارة من العبادات يبيحها التيمّم، وما ثبت توقّفه على نوعٍ خاصّ منها كالغُسل في صوم الجُنُب لا يبيحه التيمّم، لاختصاص أدلّة كونه مبيحاً بالقسم الأوّل.
وفيه: إنّ مقتضى إطلاق الأدلّة، قيام التيمّم مقام الغُسل والوضوء في جميع أحكامهما، لا سيّما بناءً على المختار من كون الطهارة من العناوين المنطبقة عليهما لا أمراً متولّداً منهما.
المورد الثالث: المحكيّ عن «نهاية الأحكام»(3)، و «البيان»(4) الإشكال في مشروعيّة التيمّم بدلاً عن الوضوء التجديدي، ولكن صاحب «الجواهر» رحمه الله(5)ادّعى دخوله في ظاهر إجماع «المنتهى ».
وكيف كان، فيشهد لبدليّته عنه إطلاق أدلّة البدليّة، بل يمكن أن يقال: إنّ ).
ص: 435
نصوص الوضوء التجديدي بأنفسها صالحة لإثبات استحباب التيمّم التجديدي، لاحظ قوله عليه السلام في مرسل سعد: «الطُهر على الطُهر عَشْرُ حَسَنات»(1). فإنّه بضميمة ما دلَّ على طهوريّة التيمّم، وأنّه أحد الطهورين يدلّ على استحباب التيمّم التجديدي، وضعف السند لا يضرّ للتسامح.
المورد الرابع: من الموارد التي وقع الخلاف فيها، كونه مستحبّاً نفسيّاً بالمعنى الذي سلّموه في الوضوء، والأظهر كونه كذلك، فإنّ ما دلَّ من الأدلّة على أنّ التيمّم أحد الطهورين(2) - بضميمة ما دلَّ على محبوبيّة الطُهر في نفسه، المتقدّم في مبحث استحباب الوضوء في نفسه - يدلّ على استحباب التيمّم في نفسه.
والإيراد عليه: بأنّه لا يستفاد منه سوى محبوبيّة الكون على الطهارة قد عرفت دفعه في ذلك المبحث،(3) فراجع.
المورد الخامس: قد تقدّم في المسألة المتقدّمة، الإشكال في التيمّم لاستقبال الفريضة ودفعه، وعرفت أنّ الأظهر مشروعيّة التيمّم التهيّوئي كالوضوء التهيّوئي، فراجع ما ذكرناه.(4)
المورد السادس: في إباحة الوطء بالتيمّم، الذي هو بدلٌ عن غُسل الحيض، بناءً على حرمته قبل الاغتسال، وانتقاض كلّ تيمّمٍ بمطلق الحَدَث؛ قولان:
قد استدلّ للثاني: بأنّ تحقّق ما يوجب الجنابة، وهو دخول الحشفة، يوجب6.
ص: 436
ارتفاع أثر التيمّم، فلا يجوز الوطء بعده، وقد تقدّم الكلام فيه في أحكام الحائض، فراجع.
المورد السابع: إذا تيمّم لغايةٍ من الغايات، كان بحكم الطاهر، كما هو المشهور، فله الإتيان بكلّ ما يحتاج فعله إلى الطهارة، فيما إذا كانت الغاية من الغايات التي يشرع لها التيمّم للأخبار التالية:
1 - قوله عليه السلام في صحيح حمّاد - فيمن لا يجد الماء، بعد سؤاله عن أنّه يتيمّم لكلّ صلاةٍ -: «لا، هو بمنزلة الماء»(1).
2 - وقوله عليه السلام في صحيح زرارة: «في رجلٍ تيمّم ؟ يجزيه ذلك إلى أن يجد الماء»(2).
3 - وقوله عليه السلام في خبر السكوني: «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: يا أبا ذرّ يكفيك الصَّعيد عشر سنين»(3).
ونحوها غيرها من نصوص البدليّة.
***م.
ص: 437
المسألة السابعة: التيمّم الذي بدلٌ عن غُسل الجنابة، حاله كحاله من الإغناء عن الوضوء، بلا خلافٍ فيه.
ويشهد له: الآيتان الشريفتان، وغيرهما من أدلّة البدليّة.
وأمّا ما هو بدلٌ عن سائر الأغسال:
فعن المفيد، وظاهر «المقنعة»(1): الإجتزاء بتيمّمٍ واحد، وأنّه لا حاجة إلى تيمّمين.
وعن «الذكرى»(2)، وفي «المدارك»(3): نسبته إلى ظاهر الأصحاب.
وفي «الجواهر»(4): إنّا لم نتحقّق ما نسباه إلي ظاهر الأصحاب، إنْ لم يكن قد تحقّقنا خلافه!
أقول: وكيف كان، فقد استدلّ له بإطلاق(5) أدلّة تنزيل التّراب منزلة الماء.
وبما رواه أبو بصير من أنّ (تيمّم الجُنُب والحائض سواء)(6).
وفي «المدارك»(7): الأظهر الاكتفاء بتيمّمٍ واحدٍ، بناءً على ما اخترناه من اتّحاد الكيفيّة، وعدم اعتبار نيّة البدليّة، فيكون جارياً مجرى أسباب الوضوء والُغسل المختلفة.
ص: 438
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ تنزيل التّراب منزلة الماء، بعد كون الحكم في ما يتعلّق بالماء - وهو الغُسل والوضوء - متعدّداً، يقتضي اعتبار التعدّد في التّراب، لا الاكتفاء بتيمّمٍ واحد.
وأمّا ما أفاده بعض المعاصرين: من إنكار كون مفاد الأدلّة تنزيل التّراب منزلة الماء أوّلاً، وعدم الإطلاق لدليل البدليّة على فرض وجوده ثانياً.
فغير سديد: كما يظهر لمن لاحظ نصوص البدليّة.
وعليه، فالصحيح ما ذكرناه.
وأمّا الثاني: فلأنّه إنّما يدلّ على التساوي في الكيفيّة، لا في الكميّة، نظير ما ورد من أنّ (غُسل الحيض كغُسل الجنابة).
وأمّا الثالث: فلأنّ الاتّحاد في الكيفيّة لا يُلازم الوحدة، بعد كون مقتضى الأصل عدم التداخل في الأسباب والمسبّبات، وإنّما التزمنا به في أسباب الغُسل والوضوء لأجل الدليل لا لاتّحاد الكيفيّة.
وبالجملة: فالأظهر عدم إغنائه عن الوضوء، فيجبُ الوضوء أو التيمّم بدلاً عنه، بناءً على ما هو المشهور من عدم أجزاء الغسل مطلقاً عن الوضوء.
وأمّا بناءً على ما اخترناه من الإجزاء، فلا يجب لإطلاق نصوص البدليّة.
أقول: ثمّ إنّه على المشهور:
لو وجدت الحائض بعد أن تيمّمت تيمّمين الماءَ بقدر الوضوء، بطل تيمّمها الذي هو بدلٌ عنه خاصّة.
كما أنّه لو وجدتْ ما يكفي للغُسل، ولم يمكن صرفه في الوضوء، بطل تيمّمها الذي هو بدلٌ عن الغسل.
ص: 439
وأمّا إذا وجدتْ ما يكفي لأحدهما:
فهل ينتقضان معاً؟
أو ما تختار منهما؟
أم خصوص ما هو بدلٌ عن الغسل ؟ أم ترجع إلى القرعة ؟ وجوه ولعلّهاأقوال:
قد استدلّ للأوّل: بصدق الوجدان في كلٍّ منهما، وعدم الترجيح.
وفيه: أنّه بناءً على ما هو الظاهر من تسالمهم على أهميّة الغسل، يتعيّن صرف الماء فيه، وهو يوجبُ العُذر عن الوضوء، فلا يكون مأموراً به، فلا ينتقض التيمّم الذي هو بدلٌ عنه.
ودعوى: أنّها لو خالفت تكليفها وتوضّأت، صحّ وضوؤها، لقاعدة الترتّب، ومقتضاها انتقاض ما هو بدلٌ عن الوضوء أيضاً، على تقدير ترك الغُسل، فلو أتلفت الماء انتقض التيمّمان.
مندفعة: بما حقّقناه في محلّه وأشرنا إليه في هذا المبحث مراراً من عدم جريان قاعدة الترتّب في مثل الوضوء، ممّا هو مقيّدٌ شرعاً بالقدرة.
أقول: وبما ذكرناه يظهر ضعف الوجه الثاني أيضاً، فيتعيّن الثالث، بناءً على ما هو الصحيح من عدم العمل بالقُرعة في تشخيص الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها.
***
ص: 440
المسألة الثامنة: إذا تيمّم المُحْدِث بالأكبر بدلاً عن الغُسل، ثمّ أحدث بالأصغر، ففيه أقوال:
القول الأوّل: أنّه يبطل تيمّمه، فيُعيد التيمّم بدلاً من الغُسل. وهذا هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، كادت تكون إجماعاً، بل عن المصنّف في «المختلف»(1)دعوى الإجماع عليه.
القول الثاني: أنّه لا يبطل التيمّم الذي هو بدلٌ عن الغُسل، وهو الذي اختاره السيّد في «شرح الرسالة»(2)، وتبعه جماعةٌ من المتأخّرين كالمحدّث الكاشاني في محكيّ «المفاتيح»(3)، وكاشف اللّثام(4)، وصاحب «الذخيرة»(5)، والسيّدفي «العروة»(6).
القول الثالث: التفصيل بين التيمّم الذي بدلٌ عن غُسل الجنابة، وما هو بدلٌ عن غيره، فيبطل الأوّل دون الثاني.
أقول: فالكلام يقع أوّلاً فيما هو بدلٌ عن غُسل الجنابة، ثمّ في غيره.
أمّا الأوّل: فقد استدلّ للمشهور بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّ التيمّم لا يرفعُ الحَدَث الذي هو مانعٌ ، بل إنّما هو مبيحٌ ، فيوجب رفع المنع، وذلك للإجماع المُدّعى عليه في كلمات الأساطين:
ص: 441
ففي «المعتبر»(1): التيمّم لا يرفعُ الحَدَث، وهو مذهب العلماء كافّة.
وعن «جامع المقاصد»(2): (أجمع عُلماء الإسلام إلّاشاذّاً على أنّ التيمّم لا يرفع الحَدَث وإنّما يفيد الإباحة).
ونحوهما كلام غيرهما.
ولأنّ المتيمّم تجبُ عليه الطهارة عند وجود الماء بحسب الحَدَث السابق، فلو لم يكن الحَدَث السابق باقياً، لكان وجوب الطهارة بوجود الماء، إذ لا وجه غيره، ووجود الماء ليس حَدَثاً بالإجماع، وعليه فمتى أحدثَ زالت الاستباحة، وعاد حكم الحَدَث الأوّل، فيجبُ التيمّم بدلاً عن الغَسل.
وفيه أوّلاً: أنّ المستفاد من قوله تعالى في ذيل آية التيمّم ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ (3).
وقوله صلى الله عليه و آله في الحديث النبوي المرويّ بعدّة طرق: «جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجداً وطهوراً»(4).
وقوله عليه السلام في صحيح جميل: «إنّ اللّه عزّ و جلّ جَعَل التّراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً»(5). ونحوه غيره من النصوص:
أنّ التيمّم كالوضوء والغُسل طهارةٌ على المختار ومطهّر على المشهور.
وأمّا الإجماع: الذي استدلّ به على كونه مبيحاً - فلو سُلّم كونه تعبّديّاً، مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً، لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجه الاعتباري المذكور - فهو1.
ص: 442
لا يدلّ عليه الجواز، لاحتمال أن يكون المراد بما ادّعوا عليه الإجماع عدم كون التيمّم رافعاً للحَدَث كالوضوء والغُسل، مزيلاً لأثره بالمرّة، على وجهٍ لا يحتاج إلى فعل الطهور ما لم يحصل سببٌ جديد.
وأمّا الوجه العقلي المذكور فيندفع: بأنّ انتقاض التيمّم حتّى على القول بكونه رافعاً بوجدان الماء، ليس لأجل كون الماء حَدَثاً، بل لأجل أنّ رافعيّته إنّما تكون في صورة فقدان الماء، فمع تبدّله بالوجدان يتبدّل الموضوع، وينعدم موضوع مشروعيّة التيمّم، ولا مانع من الالتزام بكونه طهوراً ما دام كونه عاجزاً عن استعمال الماء، إذا ساعدنا الدليل على ذلك.
أقول: وأورد الشهيد الثاني في محكيّ شرح «الألفيّة»(1) على القول بأنّه مبيحٌ لا رافع: بأنّا لا نتعقّل من الحَدَث إلّاالحالة التي لا يصحّ معها الدخول في الصّلاة، فمتى اُبيحت الصّلاة زالت تلك الحالة، وارتفع الحَدَث بالنسبة إلى هذه الصّلاة، ممّا يعني زوال المانع.
وفيه أوّلاً: إنّ الحَدَث وإنْ لم يكن من الصفات الحقيقيّة الواقعيّة على ما سيمرّ عليك، إلّاأنّه من الأحكام الوضعيّة الاعتباريّة، وعدم جواز الصّلاة من آثاره، فعدم ترتّب الأثر أعمٌّ من عدمه.
اللّهُمَّ إلّاأن يكون مراده أنّه لكونه من الاُمور الاعتباريّة، لا يُعقل بقاءه مع عدم الأثر، إذ الاعتبار من الحكيم بلا أثرٍ مترتّب عليه محال.
وثانياً: لو تنزّلنا عن ذلك، وسلّمنا أنّه مبيحٌ ، فيرد عليه أنّه بعد دلالة الدليل على رفع مانعيّة الجنابة بالتيمّم، وإباحة الغايات به، لا دليل على عودها بالحَدَث الأصغر، فإنّه إنّما يوجبُ الوضوء أو التيمّم بدلاً عنه لا مانعيّة الجنابة، لا سيّما وأنّ 5.
ص: 443
مقتضى إطلاق ما دلَّ على كونه بمنزلة الوضوء والغُسل، رفع المانعيّة ما دام العُذر يكون باقياً.
وعليه، فلا يُصغى إلى ما قيل من إنّ التيمّم لا يقتضي إلّارفع مانعيّتها قبل أن يحدث حَدَثٌ .
الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق الهمداني رحمه الله(1) ومحصّله:
أنّ الطهارة صفة وجوديّة تحصل بأسبابها، وأنّ الحَدَثَ قذارةٌ معنويّة حادثة بأسبابها، مانعةٌ من الدخول في الصّلاة، وليس بين ذاتيهما تضادٌّ، بل التنافي إنّما هو بين أثريهما؛ وهما جواز الدخول في الصّلاة، والامتناع منه. وغُسل الجنابة إنّما يكون رافعاً للقذارة الحاصلة بها، ومفيداً للطهارة، وأمّا التيمّم الذي بدلٌ عنه، فغاية ما تدلّ عليه الأدلّة، كونه مفيدٌ للطهارة، وأمّا كونه بمنزلته في رفع القذارة، فالأدلّة قاصرة عن إثباته.
وعليه، فما دلَّ على طهوريّة التيمّم إنّما يقتضي جواز الصّلاة، ورفع مانعيّة الجنابة ما دام بقاء أثره، لعدم اقتضاء طهوريّة التيمّم إلّامزاحمتها للتأثير ما دام بقاء أثره، فمتى انتقض عادت الجنابة مانعةً بالفعل، ولا يمكن إزالة مانعيّتها إلّابالتيمّم الذي هو بدلٌ من الغسل.
أقول: وفي كلامه قدس سره مواقع للنظر:
الموقع الأوّل: أنّ ظاهر كلامه كون الحَدَث والطهارة من الاُمور الواقعيّة الخارجيّة وهو غير تامّ ، إذ لو كانا منها لكانا من جملة المقولات، وما يحتمل منها ليس إلّامقولة الكيف القائم بالنفس، وكونهما منها غير ظاهر، إذ الاُمور القائمة بالنفس على ثلاثة أقسام:).
ص: 444
منها: الصور العلميّة من الاعتقادات الصحيحة، والاعتقادات الفاسدة.
ومنها: مبادئ صدور الفعل الاختياري.
ومنها: المَلَكات الفاضلة والأخلاق الرذيلة.
وعدم كونهما من القسمين الأولين، لا يحتاج إلى بيان.
وأمّا عدم كونهما من القسم الأخير، فلأنّ الالتزام بكون الحَدَث من الأخلاق الرذيلة الموجبة للبُعد، مع أنّه يحصل للمعصومين عليهم السلام، وربما يقع على وجه العباديّة المكمّلة للنفس، كما ترى .
وعليه، فبما أنّهما ليسا حكمين تكليفيين، ولا أمرين منتزعين من الحكم التكليفي، لأنّه من آثارهما، فيتعيّن الالتزام بكونهما اعتبارين وضعيين شرعيين، وحيثُ أنّه لا يترتّب على اعتبارهما سوى إباحة الصّلاة ونحوها وعدمها، فالالتزام ببقاء الحَدَث، مع عدم منعه من الغايات، لغوٌ لا يصدر من الحكيم.
الموقع الثاني: ما ذكره قدس سره من عدم التضادّ بين الطهارة والحَدَث، لا يخلو من منعٍ ، إذ المستفاد من الآية الشريفة والنصوص هو التنافي بينهما، على وجهٍ لا يمكن رفعهما ولا اجتماعهما، إذ قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا كالصريح في أنّ الطهارة رافعة للجنابة، وكذا غيره من الأدلّة.
الموقع الثالث: ما ذكره من أنّه متى انتقض عادت الجنابة مانعة، فإنّه يرد عليه أنّه بعد دلالة الدليل على أنّ التيمّم أوجب الطهارة، ورفع مانعيّة الجنابة، فعود مانعيّتها بالحَدَث الأصغر، الموجب لِحَدثٍ آخر غير حَدَثِ الجنابة الذي يرفعه الوضوء، يحتاجُ إلى دليلٍ مفقود.
الوجه الثالث: ما رواه زرارة في صحيحه، عن الإمام الباقر عليه السلام:
ص: 445
«متى أصبتَ الماءَ فعليك الغُسل إنْ كُنتَ جُنُباً، والوضوء إنْ لم تكن جُنُباً»(1).
بدعوى أنّه بمفهومه يدلّ على عدم وجوب الوضوء على الجُنُب، وبطلان قول السيّد القائل بوجوب الوضوء على الجُنُب على تقدير عدم كفاية الماء لغُسله.
وفيه: أنّ المراد ب (إصابة الماء) وجدان الماء الكافي لرفع الحَدَث السابق، فالمُحْدِث بالأكبر الذي يصيبُ الماء غير الكافي لغُسله، خارجٌ عن مورده.
مع أنّه لو سُلّم شموله له أيضاً، فهو داخلٌ في قوله عليه السلام: «والوضوء إنْ لم تكن جُنُباً»، إذ الجُنُب الذي تيمّم ثمّ وجد الماء غير الكافي لغُسله، لا يكون جُنُباً عند السيّد حقيقةً أو حكماً، بل هو مُحْدِثٌ وجد الماء بقدر الوضوء، فعليه ذلك.
الوجه الرابع: ما دلَّ على انتقاضه بالحَدَث من النصوص المتقدّمة:
منها: صحيح زرارة، قال: «قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: يُصلّي الرجل بتيمّمٍ واحد صلاة اللّيل والنهار كلّها؟ فقال عليه السلام: نعم ما لم يحدث أو يصبّ ماءاً»(2). ونحوه غيره، وهي تدلّ على أنّ مطلق الحَدَث ناقضٌ لمطلق التيمّم.
وفيه: أنّها إنّما تدلّ على عدم جواز الدخول في الصّلاة، مع التيمّم الذي أحدث بعده، وهذا ممّا لا كلام فيه، وإنّما الكلام في أنّه هل يوجب الوضوء أو التيمّم بدل الغُسل، فإنّ هذه النصوص قاصرة عن إثباته.
الوجه الخامس: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليه السلام:
«في رجلٍ أجنَبَ في سفر، ومعه قدر ما يتوضّأ به ؟ قال عليه السلام: يتيمّم ولا يتوضّأ»(3). ونحوه غيره.3.
ص: 446
وفيه: أنّ مفاد هذه النصوص أجنبيٌ عن المقام، فإنّها تدلّ على أنّ الجُنُب يتيمّم ولا يتوضّأ، وأمّا إذا أحدثَ بالأصغر بعد التيمّم الأوّل، فهل يتيمّم أيضاً، أم يتوضّأ الذي هو محلّ الكلام ؟ فهذه النصوص غير متعرّضة لبيان ذلك.
وإنْ شئت قلت: إنّ المتيمّم غير جُنُبٍ عند السيّد وأتباعه حقيقةً أو حكماً.
ودعوى(1): أنّه أطلق الجُنُب على المتيمّم في بعض النصوص، كالمرسل المرويّ عن «الغوالي» عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال لبعض أصحابه الذي تيمّم من الجنابة وصَلّى:
«صلّيت بأصحابك وأنتَ جُنُب!».
مندفعة: بأنّه ضعيفُ السند جدّاً.
الوجه السادس: استصحاب عدم مشروعيّة الوضوء في حقّه، الثابت قبل التيمّم.
وفيه: أنّه لا يُعتمد عليه، مع ثبوت عموم سببيّة الحَدَث الأصغر للوضوء، فإنّ تخصيصه بالحَدَث بعد الجنابة قبل التيمّم، لا يمنعُ عن التمسّك به بعده.
الوجه السابع: استصحاب عدم جعل التيمّم رافعاً للحَدَث الأكبر بعد الحَدَث الأصغر.
توضيحه: إنّ الشكّ في بقاء أثر التيمّم بعد تحقّق الحَدَث الأصغر، مسبّبٌ عن الشكّ في الجعل بنحوٍ يكون باقياً بعده، وحيث أنّ رافعيّته للأكبر بعد حصول الأصغر لم تكن مجعولة في أوّل الشريعة قطعاً، فيشكّ في جعلها، فيستصحب عدم الجعل، وتثبت به عدم الرافعيّة، بناءً على ما حقّقناه في محلّه من أنّ استصحاب عدم الجعل يجري ويثبت به عدم المجعول.
ودعوى: أنّ جعل الرافعيّة للتيمّم معلومٌ : إمّا إلى ما بعد الحَدَث الأصغر إلى أن يُصيب الماء، أو إلى تحقّق الحَدَث، فاستصحاب عدم جَعلها إلى إصابة الماء، يُعارض2.
ص: 447
مع استصحاب عدم جَعلها في خصوص ما قبل الحَدَث، فيتساقطان، فيرجع إلى الأصل المحكوم، وهو استصحاب بقاء أثر التيمّم.
مندفعة: بعدم جريان استصحاب عدم جعله رافعاً إلى حصول الحَدَث، إذ رافعيّته في ذلك الوقت معلومة.
وفيه: أنّه وإنْ كان في نفسه تامّاً، ومعه لا مورد للرجوع إلى استصحاب بقاء أثر التيمّم، إلّاأنّه إنّما يرجع إليه مع عدم الدليل على بقاء أثره، وستعرف وجوده.
وبالجملة: فتحصّل أنّ شيئاً ممّا استدلّ به على المشهور، لا يدلّ عليه، فالأظهر هو القول الآخر، وهو عدم بطلانه بالحَدَث الأصغر، لما دلَّ على تنزيله منزلة الماء، وأنّه يجزيه إلى أن يجد الماء، كما هو صريح الخبرين:
1 - صحيح حمّاد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرجل لا يجدُ الماء أيتيمّم لكلّ صلاة ؟ فقال عليه السلام: لا هو بمنزلة الماء»(1).
2 - وصحيح زرارة، عنه عليه السلام: «في رجلٍ تيمّم ؟ قال عليه السلام: يُجزيه ذلك إلى أن يجد الماء»(2).
فإنّ مقتضى إطلاقهما، كونه بمنزلة الماء حتّى في عدم الانتقاض بالحَدَث الأصغر، وأنّه يُجزيه من هذه الجنابة ما لم يجد الماء، وإنْ أحدث بالأصغر.
ودعوى: أنّه لا نظر لهما إلى انتقاضه بالحَدَث وعدمه.
مندفعة: بأنّهما إنّما يدلّان بالإطلاق على بقاء أثره بعد حَدَث الأصغر، ولا معنى لعدم الانتقاض إلّاذلك.
وأضعف منها دعوى أنّ مفادهما مجرّد الحدوث، فلا مجال للرجوع إليه عند6.
ص: 448
الشكّ في البقاء، فإنّهما إنّما سيقا لبيان البقاء لا الحدوث، كما لا يخفى .
أقول: هذا كلّه في التيمّم الذي هو بدل عن غسل الجنابة.
وأمّا ما هو بدلٌ عن غيره، كغُسل الحيض ونحوه، فبناءً على ما استظهرناه من الأدلّة من الاجتزاء بكلّ غُسلٍ عن الوضوء، فالكلام فيه الكلام في ما هو بدلٌ عن غسل الجنابة.
وأمّا بناءً على ما هو المشهور من عدم الاجتزاء، فعدم البطلان أولى، فإنّه من أوّل تحقّق التيمّم كان يجتمع أثره مع الحَدَث الأصغر، فلو تيمّمت الحائض بدلاً عن الغُسل، يباح لها دخول المساجد ونحوه كمبدله، سواءٌ توضّأت أم لا، فهذه الاستباحة تُجامع مع الحَدَث الأصغر، فلا يؤثّر الحَدَث الأصغر في إزالتها.
***
ص: 449
المسألة التاسعة: لو وُجدِتْ أسبابٌ متعدّدة للغُسل، بحيث لو كان واجداً للماء كان عليه أغسال متعدّدة، وكان فاقداً للماء، وحينئذٍ:
1 - فهل يُكتفى بتيمّمٍ واحد عن الجميع، كما يُكتفى بغُسلٍ واحدٍفي صورة الوجدان.
2 - أم يكتفى به لو نوى الجميع، ولا يكتفى لو نوى واحداً منها، ولو كان المنويّ ما هو بدلٌ عن غسل الجنابة.
أم لا يجتزي بما لو نوى غير الجنابة، وإنْ كان في الغسل لو نوى غير الجنابة كان مُجزياً.
3 - أم لا يُجتزى مطلقاً؟
وجوهٌ وأقوال، أقواها الأوّل، لإطلاق أدلّة البدليّة، فكما أنّ الغُسل الواحد يرفع جميع الأحداث، فكذلك التيمّم.
وبعبارة اُخرى : مقتضى إطلاق أدلّة البدليّة، ترتيب جميع آثار الغُسل عليه، ولذا التزمنا بأنّ التيمّم الذي هو بدلٌ عن غُسل الحيض يُغني عن الوضوء، بناءً على إغناء كلّ غُسلٍ عنه، وليس ذلك إلّالأجل إطلاق أدلّة البدليّة.
واستدلّ للأخير: باحتمال عدم شمول أدلّة البدليّة لمثل ذلك، لا سيّما وأنّ التيمّم مبيحٌ لا رافع، والأصل عدم التداخل.
وفيه: ما عرفت من إطلاق أدلّة البدليّة وكونه رافعاً لا مُبيحاً، مع أنّ كونه مبيحاً لا ينافي ذلك، ولذا حكموا بالتداخل في أغسال المستحاضة.
أقول: وبه تُرفع اليد عمّا تقتضيه أصالة عدم التداخل، كما أنّ كون التيمّم طهارة
ص: 450
ضعيفة لا ينافيه بعد إطلاق أدلّة البدليّة.
وبذلك كلّه ظهر ضعف القولين الآخرين، الذين اختار أوّلهما الشيخ قدس سره، واحتمل ثانيهما المحقّق الثاني.
***
ص: 451
المسألة العاشرة: إذا اجتمع جُنُبٌ وميّتٌ ومُحْدِثٌ بالأصغر، وماءٌ لا يكفي إلّا لأحدهم:
فإنْ كان مملوكاً لأحدهم، اختصّ به، وحَرُم على غيره تناوله من غير رضاه، بلا خلافٍ ولا كلام.
كما أنّه لا إشكال في أنّه لو كان المالك هو الميّت، تعيّن صرفه في تغسيله، وليس لورّاثه بذل لغيره لأنّه أولى بماء غُسله من ورّاثه.
وبعبارة اُخرى: لا ينتقل إليهم كي يسمحون به.
وأمّا إنْ كان المالك غيره:
فعن غير واحدٍ: التصريح بعدم جواز إيثاره، بتقديم صاحبيه على نفسه.
أمّا المحقّق الهمداني رحمه الله(1) فقد اختار جواز ذلك.
أقول: والأوّل أظهر، لعموم ما دلَّ على وجوب الطهارة المائيّة، المانع عن جوازه.
واستدلّ للثاني:
1 - بأنّ غاية ما أمكننا إثباته من الأدلّة اللُّبيّة، هي حرمة تفويت التكليف بالطهارة المائيّة بالإراقة ونحوها، ممّا يعدّ في العرف فراراً عن التكليف، وأمّا صرفه في المقاصد العُقلائيّة، الّتي من أهمّها احترام الموتى بالتغسيل، فلا دليل على حرمته.
نعم، ما دام لم يُصرف، ليس له التيمّم، لكونه واجداً للماء.
ص: 452
2 - وبصحيح عبد الرحمن بن أبي نجران: «أنّه سأل أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عن ثلاثة نفر كانوا في سفرٍ، أحدهم جُنُبٌ ، والثاني ميّتٌ ، والثالث على غير وضوء، وحضرت الصّلاة، ومعهم من الماء قَدَر ما يكفي أحدهم، مَنْ يأخذ الماء، وكيف يصنعون ؟
قال عليه السلام: يَغتسل الجُنُب، ويُدفن الميّت بتيمّم، ويتيمّم الذي هو على غير وضوء، لأنّ الغُسل من الجنابة فريضة، وغُسل الميّت سُنّة، والتيمّم للآخرجائز»(1).
بدعوى أنّ مقتضى ما زعموه من إطلاق وجوب الطهارة المائيّة - المقتضي لحرمة البذل على تقدير الكفاية - طرحُ الصحيح، إذ الماء الموجود معهم:
إنْ كان مِلكاً لأحدهم، لم يَجُز له بذله للغير.
وإنْ كان مِلكاً لهم جميعاً، وجب على كلٍّ من الجُنُب والمُحْدِث السّعي في تملّك حصّة صاحبيه.
وإنْ كان مُدّخراً لقضاء حوائجهم، من غير أن يقصدوا به التملّك فبتبع إنائه، بمعنى أنّ لمالك الإناء منع الغير.
فعلى جميع التقادير، لا وجه على هذا القول لتقديم الجُنُب على المُحْدِث بالأصغر مطلقاً.
مع أنّه قلّما يتّفق قصور سهم المُحْدِث من الماء الذي يكفي لغُسل الميّت والجُنُب، عن أن يتوضّأ به ولو بمثل الدهن.
وعليه، ففرض مشاركة المُحْدِث معهم في الماء، وعدم قدرته من الوضوء5.
ص: 453
من سهمه، فرضٌ لا يكاد يتحقّق موضوعه، حتّى تُحمل الصحيحة عليه.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلما عرفت في مسألة حرمة إراقة الماء، من أنّ الدليل عليها هو إطلاق ما دلَّ على وجوب الطهارة المائيّة، فليس الدليل منحصراً بالأدلّة اللُّبيّة كي يُقتصر على القدر المتيقّن، ولا تشمل البذل في المقام.
وأمّا الثاني: فلأنّه يرد على ما اُفيد أوّلاً:
بأنّ الظاهر منه كون الماء الموجود مِلْكاً للجميع، أو مدّخراً لقضاء حوائجهم، غير قاصدين به التملّك، لأنّه موضوعٌ في إناءٍ جائز التصرّف للجميع، وعليه فمقتضى إطلاق ما دلَّ على وجوب الطهارة المائيّة، وجوب حفظ كلٍّ من الجُنُب والمُحْدِث حصّته، والسّعي في تحصيل الباقي في الفرض الأوّل، ووجوب سبقه إلى الاستعمال في الفرض الثاني. ولكن لأجل عدم قدرتهما معاً على ذلك، يتعيّن سقوط الخطاب المتوجّه إلى أحدهما، فقد حكم الشارع بسقوط الخطاب المتوجّه إلى المُحْدِث بالأصغر.
وبالجملة: فالصحيح مضافاً إلى كونه أجنبيّاً عن مفروض المسألة، لا ينافي مع القاعدة.
ويرد على ما اُفيد ثانياً: أنّ السؤال إنّما يكون عن موردٍ يكفي جميع الماء للوضوء، لا حصّة خصوص المتوضّي، مع أنّ الظاهر من السؤال عن حكم ما كان متعارفاً في ذلك الزمان، من عدم اختصاص كلّ مسافرٍ بماءٍ مخصوص، بل كان يجمع كلّ جماعةٍ منهم ما يحتاجون إليه من الماء في مكانٍ واحد، بل لا يقصد مَنْ حازه
ص: 454
الاختصاص به والملكيّة له دون الأصحاب، ولا يداق بعضهم بعضاً بالنسبة إلى كثير الاحتياج إليه وعدمه، كما صرّح به في «الجواهر».
والنتيجة: أنّ الأظهر أن يُقال: أنّه يختصّ به فيما إذا كان مِلْكاً لأحدهم، ويلحق به ما لو كان للغير وأذن لواحدٍ منهم.
وأمّا إنْ كان مباحاً أو كان للغير وأذن للكلّ ، أو كان مملوكاً لجميعهم، يختصّ به الجُنُب كما هو المشهور، ويشهد له:
صحيح عبد الرحمن المتقدّم(1)، وخبر الحسين بن النضر الأرمني، قال:
«سألتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام: عن القوم يكونون في السّفر، فيموت منهم ميّت، ومعهم جُنُب ومعهم ماءٌ قليل قدَرَ ما يكفي أحدهما، يبدأ به ؟
قال عليه السلام يغتسل الجُنُب، ويُدفن الميّت، لأنّ هذا فريضة وهذا سُنّة»(2).
ونحوه خبر الحسن التفليسي(3).
أقول: ولا يعارضهما خبر أبي بصير، قال: «سألتُ الصادق عليه السلام عن قومٍ كانوا في سفرٍ، فأصاب بعضهم جنابة، وليس معهم من الماء إلّاما يكفي الجُنُب لغسله، يتوضّؤون هم هو أفضل ؟ أو يعطون الجُنُب فيغتسل وهم لا يتوضّؤن ؟
فقال: يتوضّؤون هم، ويتيمّم الجُنُب»(4).
لأنّ مورده التزاحم بين وضوء جماعةٍ مُحْدِثين، وغُسل جُنُب، ومورد تلك6.
ص: 455
النصوص التزاحم بين وضوء مُحْدِثٍ وغُسل جُنُبٍ ، فلا مانع من العمل بالجميع، كما لا يخفى .
وقيل: - كما في «الشرائع»(1) وإنْ لم يُعرف قائله كما اعترف به غير واحد -:
يختصّ به الميّت، ويشهد له:
مرسل محمّد بن علي، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:
«قلت له: الميّت والجُنُب يتّفقان في مكانٍ لا يكون فيه الماء إلّابقدر ما يكتفى به أحدهما، أيّهما أولى أن يُجعل الماء له ؟
قال عليه السلام: يتيمّم الجُنُب، ويُغسّل الميّت بالماء»(2).
ولكنّه لإرساله ومعارضته بما هو أصحّ سنداً منه، وأكثر عدداً، لا يُعتمد عليه.
وأمّا الاستدلال له: بكون غُسله خاتمة طهارته، فهو أولى بالمراعاة.
فغير سديد: لأنّه لا يُعتمد على هذه الوجوه الاستحسانيّة في مقابل النص.
وأخيراً: ظاهر النصوص وجملة من الفتاوى، هو تعيّن صرفه في غُسل الجنابة، إلّا أنّ ظاهر كلام المحقّق في محكيّ «المعتبر»(3)، والمحقّق الثاني(4)، وغيرهما: الإجماع على عدم الوجوب، ولأجله تُحْمل النصوص على الاستحباب، ولكن برغم ذلك لا يُترك الاحتياط.
***
ص: 456
تمَّ الجزء الرابع من موسوعة «فقه الصادق» بقلم مؤلّفه الأحقر،
محمّد صادق الحسيني الروحاني عفى اللّه عنه،
ويتلوه الجزء الخامس إنْ شاء اللّه تعالى.
وما توفيقي إلّاباللّه، والحمدُ للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
ص: 457
ص: 458
كيفيّة صلاة الميّت... 5
اشتراط بلوغ المصلّي... 14
اشتراط وقوع الصَّلاة بعد الغُسل والتكفين... 16
الصَّلاة على العاري... 19
كراهة الصَّلاة على الجنازة مرّتين... 22
الصَّلاة على الميّت بعد الدفن... 26
وقوف الإمام عند وسط الرَّجل وصدر المرأة... 30
استحبابُ إتيان الصَّلاة جماعة... 35
في الدَّفن... 40
كيفيّة تجهيز الشهيد... 46
في معنى الشهيد... 48
اعتبار الموت في المعركة... 51
البحث عن عمر الشهيد وجنسه... 54
في حكم الشهيد المُجنب... 56
دفن الشهيد بثيابه... 57
في مَن شُكَّ في شهادته... 59
في حكم المقتول برجمٍ أو قصاص... 61
في حكم صَدر الميّت... 66
حكم غير الصّدر... 75
في حكم السِّقط وبعض الميّت... 80
ص: 459
في أخذ الكَفن من أصل التركة... 82
إذا لم يكن للميّت كفنٌ ... 85
كفن الزوجة على زوجها... 88
شروط كون الكفن على الزَّوج... 91
في حكم الميّت المُحْرِم... 98
وجوب الغُسل بمسّ الميّت... 101
فروع غُسل الميّت... 106
حكم الغُسل الاضطراري... 109
وجوب الغُسل بمسّ الكافر... 112
لا فرق في الممسوس بين ما تحلّه الحياة وغيره... 114
مسّ الشهيد والمقتول بقصاصٍ أو حَدّ... 117
مسّ القِطعة المُبانة... 120
وجوب غُسل المسّ شَرطي... 124
حكم الشكّ في المسّ الموجب للغُسل... 126
حكم مَسّ القطعة المشكوكة... 128
في الأغسال المَسنُونة... 131
البحث عن التيمم... 132
مسوّغات التيمّم... 136
تعذّر استعمال الماء... 141
تنبيهات باب التيمّم... 146
في حكم من تحمّل الضَّرر وتوضّأ... 152
إذا تيمّم باعتقاد الضَّرر... 156
ص: 460
لو توضّأ باعتقاد عدم الضَّرر... 159
لو خاف العَطَش على نفسه أو غيره... 161
عدم الوصلة إلى الماء... 165
الخوف من سَبُعٍ أو لِصّ ... 168
وجوبُ شِراء الماء... 171
المزاحمة بالتكليف الآخر... 176
تنبيهات باب الوضوء... 178
ضيق الوقت... 182
فروع الشكّ في ضيق الوقت... 188
التيمّم لأجل الضيق لا تُباح به الغايات الاُخر... 193
في جواز ترك السّورة أو الوضوء لضيق الوقت وعدمه... 196
في حكم المستحبّات عند ضيق الوقت... 198
في ما لو تيمّم باعتقاده ضيق الوقت... 199
وجوب الطّلب عند عدم الماء... 201
مقدار الفحص الواجب... 210
تنبيهات حول الفحص عن الماء... 214
اشتراط الفحص بالعلم بوجود الماء... 216
العلم بوجود الماء فيما زاد على المسافة... 217
الإستنابة في الطّلب... 219
الإكتفاء بالطلب قبل الوقت... 220
لو ترك الطَّلب حتّى ضاق الوقت... 223
في صحّة الصلاة لو ترك الطلب حتّى ضاق الوقت... 227
ص: 461
عدم وجوب القضاء في الفرض... 229
إذا ترك الطَّلب في سعة الوقت... 231
إذا طلب وصلّى ثمّ تبيّن وجود الماء... 233
إذا اعتقد ضيق الوقت ثمّ تبيّن السِّعة... 235
لو اعتقد عدم الماء ثمّ تبيّن وجوده... 237
إراقة الماء... 241
إراقة الماء قبل الوقت... 245
سقوط الطلب عند الخوف... 248
في جواز الوضوء بخلط المطلق بما يكفي وعدمه... 249
دوران الأمر بين الطهارة المائيّة وإزالة النجاسة... 251
التيمّم مع التمكّن من استعمال الماء... 253
الفصل الثاني / في بيان ما يصحّ التيمّم به... 257
التيمّم بأرض النُّورة والجِصّ والحَجَر... 272
التيمّم على المعادن... 277
ما يصحّ التيمّم به عند فَقْد الأرض... 280
تنبيهات باب التيمّم... 285
فاقد الطهورين... 289
حكم فاقد الطهورين... 295
شروط ما يتيمّم به... 302
اعتبار الإباحة... 306
فروع باب التيمّم... 308
عدم اعتبار العَلوق... 315
ص: 462
كيفيّة التيمّم... 319
في اعتبار النيّة... 326
مَسحُ الوجه... 332
المسح باليدين... 339
مسح اليدين... 342
بقيّة واجبات التيمّم... 348
اعتبار الموالاة... 349
الابتداء بالأعلى... 353
طهارة الماسح والممسوح... 356
في اعتبار الضربتين وعدمه... 358
في استواء الأغسال في الكيفيّة وعدمه... 369
الترتيب... 371
في كفاية المسح على الشَّعر وعدمها... 373
في كيفيّة تيمّم النائب... 376
في سقوط التيمّم عن أقطع اليدين... 379
القيد والدّاعي... 381
جريان قاعدة التجاوز في التيمّم... 383
أحكام التيمّم... 386
لو وجد الماء في أثناء الصّلاة... 391
فروع باب التيمّم... 401
لا يُعيد الصّلاة إذا وجد الماء... 411
التيمّم قبل دخول الوقت... 416
ص: 463
التيمّم في حال السِّعة... 418
لا يجبُ تجديد التيمّم لكلّ صلاة... 426
المرادُ بآخِر الوقت... 429
اتّحاد غايات الطهارة المائيّة مع الترابيّة... 433
التيمّم بدلُ الغسل يُغني عن الوضوء... 438
إذا أحدث المتيمّم... 441
البحث عن اجتماع الأسباب المتعدّدة... 450
إذا اجتمع جُنُبٌ وميّتٌ ومُحْدِثٌ بالأصغر... 452
فهرس الموضوعات... 459
ص: 464