فقه الصادق المجلد 14

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمدُ للّه الذي أوجب الحجّ تشيّيداً للدِّين، وجَعَله من القواعد التي عليها بناءً الإسلام، والصّلاة على محمّدٍ المبعوث إلى كافّة الأنام، وعلى آله هُداة الخلق، وأعلام الحَقّ ، واللّعن الدائم على أعدائهم إلى يوم الدِّين.

وبعدُ، فهذا هو الجزء الرابع عشر من كتابنا «فقه الصادق»، وقد وفّقني اللّه سبحانه لطبعه، راجياً منه تعالى التوفيق لنشر بقيّة الأجزاء، إنّه وليّ التوفيق.

ص: 5

ص: 6

تتمة باب الأول وأمّا النائب: فشرطه الإسلام.

في النيابة

اشارة

قد تقدّم في بعض المباحث المتقدّمة أنّ النيابة عن الحَيّ أو الميّت خلاف الأصل، وأنّ إطلاق الصيغة، بل توجّه الأمر نفسه أيضاً يقتضيان المباشرة، فسقوط الواجب بفعل الغير يتوقّف على ورود دليلٍ تعبّدي، وقد ورد في عدّة موارد:

منها: الحَجّ المندوب عن الميّت والحَيّ ، والحَجّ الواجب عن الميّت، وكذلك عن الحَيّ في بعض الحالات، وقد تقدّم تفصيله.

(و) إنّما الكلام في المقام فيما يعتبر في النائب والمنوب عنه، وحقيقة النيابة وشرائطها.

(أمّا النائب فشرطه) أُمور:

الأمر الأوّل: (الإسلام) بلا خلافٍ في اعتباره، وادّعى صاحب «الجواهر»: قيام الإجماع عليه بقسميه(1). واستدلّوا له بعدم تمشّي قصد القربة منه، وقد تقدّم ما فيه.

أقول: والحقّ أن يستدلّ له - مضافاً إلى ما تقدّم من عدم صحّة حَجّ الكافر لتسالم الأصحاب عليه، ولتوقّف بعض الأعمال على دخوله الحَرم وهو ممنوعٌ منه، ولتوقّف بعض أعماله كالطواف على طهارة البدن وهو نجسٌ - بخبرين واردين في المقام:

1 - خبر مصادف، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «في المرأة تحجّ عن الرّجل الصَّرورة ؟

ص: 7


1- جواهر الكلام: ج 17/357.

فقال: إنْ كانت قد حجّت وكانت مسلمة فقيهة، الحديث»(1).

2 - وخبره الآخر، عنه عليه السلام، قال: «سألته أتحجّ المرأة عن الرّجل ؟ فقال عليه السلام: نعم إذا كانت مسلمة فقيهة»(2).

فإنّهما يدلّان على اشتراط الإسلام في النائب، ولا يضرّ فيه شرط كونها قد حَجّت، مع أنّه غير شرط، لأنّه قرينة على أنّ المراد المرأة المستطيعة.

***

نيابة المخالف

فرع: هل يشترط في النائب الإيمان، بحيث لا يصحّ نيابة المخالفين، كما ذهب إليه جماعةٌ منهم صاحبا «الحدائق»(3) و «الجواهر»(4)؟

أم لا يعتبر ذلك فتصحّ نيابتهم، كما هو ظاهر الأكثر، حيث لم يتعرّضوا لهذا الشرط؟ وجهان:

وقد استدلّ للأوّل: بما ذكره جماعة(5) وهو أن عمل المخالف غير صحيح في نفسه، لفقده شرط الصحّة وهو الولاية، فإذا كان باطلاً لا يصحّ أن ينوب، وهو واضح.

وأُورد عليهم: بأنّ بطلان عبادة المخالف إنّما استفيدت من الأخبار، والظاهر منها العبادات الراجعة إلى نفسه، فلا تشمل ما نحن فيه(6).

ص: 8


1- الكافي: ج 4/306، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/177، ح 14563.
2- وسائل الشيعة: ج 11/177، ح 14566.
3- الحدائق الناضرة: ج 14/240.
4- جواهر الكلام: ج 17/357.
5- منهم السيّد اليزدي في العروة الوثقى : ج 4/534 (ط. ج).
6- مستمسك العروة الوثقى : ج 11/7.

وفيه: أنّه قد تقدّم ذكر النصوص المستدلّ بها على شرطيّة الولاية لصحّة الأعمال، وعرفت أنّ طائفة من تلك النصوص المتضمّنة أنّ العمل بلا ولاية كلّا عمل، تدلّ على الشرطيّة، ومقتضى إطلاقها أنّ كلّ عملٍ يعمله المخالف كذلك، سواءٌ أكان عن نفسه أو بعنوان النيابة عن الغير.

ويؤيّد هذا الوجه: ما ذكره جمعٌ آخرون، وهو أنّ المخالف إنْ أتى به على وفق مذهبه فهو باطل، لفقده بعض ما يعتبر فيه شرطاً أو شطراً، وإنْ أتى به على وفق مذهبنا، فلا يتمشّى منه قصد القربة، فعمله باطلٌ عند كِلا الفريقين.

وجه كونه مؤيّداً لا دليلاً: أنّه يمكن أنْ يفرض المخالف غير معتقد بطلان مذهبنا، أو يحتمل أن يكون الحَجّ المأمور به هو ما يوافق مذهب الحقّ ، فيأتي بما يوافق المذهب باحتمال الأمر.

وأمّا ما ذكره بعضهم:(1) من أنّه يشترط في الحكم بإجزاء العمل أن يكون عن اجتهادٍ صحيح، أو تقليدٍ أو احتياط كذلك، ومن الواضح عدم كون عمل المخالف كذلك.

فيرد عليه: أنّه يمكن أن يأتي المخالف بما يوافق مذهب الحقّ ، ويكون موافقاً لفتوى من يجب تقليده.

أقول: وأمّا خبر عمّار الذي رواه السيّد ابن طاووس رحمه الله بإسناده عن كتاب «أصل عمّار بن موسى » المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرّجُل يكون عليه صلاة أو صوم، هل يجوز له أن يقضيه غير عارفٍ؟ قال عليه السلام: لا يقضيه إلّامسلم6.

ص: 9


1- كتاب الحَجّ للشاهرودي رحمه الله: ج 2/16.

عارف»(1)، الذي استدلّ به بعض، واستقربه بعض الأعاظم من المعاصرين(2)بتقريب أنّ المسلم العارف - على ما هو المصطلح في لسان الأخبار - هو المؤمن، وهو وإنْ وردَ في الصلاة والصوم ألا أنّه يتعدّى عنها إلى غيرهما من العبادات.

فيرد عليه: أنّ التعدّي مع عدم إحراز المناط لا وجه له، فالعمدة ما ذكرناه.

وأيضاً: قد يستدلّ على جواز نيابته بالنصوص الدالّة على أنّ المخالف لو استبصر لا يجبُ عليه إعادة اعماله، فإنّه يستكشف منها صحّة أعماله، فيصحّ نيابته.

ولكن يرد عليه أوّلاً: أنّ تلك الروايات نظير ما دلّ على أنّ (الإسلام يجبُّ ما قبله) تفضّلٌ من اللّه تعالى على المخالفين، ولا تدلّ على الصحّة.

وثانياً: أنّه لو سُلّم دلالتها على الصحّة، فإنّما تدلّ على الصحّة بشرط موافاة الإيمان لا مطلقاً.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى عدم جواز نيابة المخالف.

***7.

ص: 10


1- وسائل الشيعة: ج 8/277، ح 10651، بحار الأنوار: ج 85/310.
2- كالسيّد الحكيم في مستمسكه: ج 11/7.

والعقل.

اعتبار البلوغ والعقل

(و) الأمر الثاني: ممّا يعتبر في النائب، كمال (العقل) على المشهور، وفي «الجواهر» إجماعاً بقسميه(1)، فلا يصحّ نيابة الصبي ولا المجنون.

أقول: يقع الكلام في موردين:

الأوّل: في نيابة الصبي.

الثاني: في نيابة المجنون.

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ على المنع عن نيابة الصبي، وعدم الاجتزاء بحجّه بوجوه:

الوجه الأوّل: عدم صحّة عباداته لكونها تمرينيّة.

واُجيب عنه: بأنّ عباداته تشريعيّة فتصحّ نيابته.

أقول: ولكن الحقّ تماميّة هذا الوجه، ويظهر ذلك ببيان أُمور:

الأمر الأوّل: أنّ حديث رفع القلم عن الصبي لا يختصّ برفع الإلزام، ولا العقوبة، ولا التكاليف الإلزاميّة، بل يعمّ جميع التكاليف، من غير فرقٍ بين خطاب الوجوب والحرمة والندب والكراهة، بل لا يبعد إلحاق خطاب الإباحة بها، وأنّ عدم مؤأخذة الصبي لارتفاع القلم عنه كالمجنون، لا لأنّه مخاطب بالخطاب الإباحي، كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) وقد مرّ تنقيح ذلك في مسألة استحباب الحَجّ للصبي المميّز، فراجع(1).

ص: 11


1- فقه الصادق: ج 13/182.

الأمر الثاني: إنّ في بعض الموارد أمر الشارع الوليّ بأمر الصبي بالفعل كالصَّلاة، وعليه:

فإنْ قلنا بأنّ الأمر بالأمر بشيء ليس أمراً بذلك الشيء، يصبح عمل الصبي تمرينيّاً محضاً، وهو الذي يظهر من المحقّق وغيره.

وإنْ قلنا بأنّ الأمر بالأمر بالشيء أمرٌ به - كما هو الحقّ - فلا يبعد أن يُقال إنّ الغرض من الأمر التمرين لا استيفاء المصلحة الموجبة للأمر المتوجّه إلى البالغين، كما يظهر من الأكثر، واختاره صاحب «الجواهر»، حيث قال:

(والمختار صحّة عمله، لكن على وجه التمرين، لا على كيفيّة أمر المكلّف بالنافلة مثلاً، لاختصاص ذلك بالمكلّفين - إلى أنْ قال - نعم لمّا أمر الولي بأمره بالعبادة، وكان الظاهر من هذا الأمر إرادة التمرين، كان هو أيضاً مأموراً بما أمر به الولي من التمرين، وإن استحقّ عليه الثواب من هذه الجهة) انتهى (1).

الأمر الثالث: إنّ العبادات التي أمر الأولياء بأمر الصبي بها، أو دلّ دليلٌ على مطلوبيّتها منه، تكون صحيحة، ولو على وجه التمرين، وأمّا غيرها الذي لم يدلّ دليلٌ عليه، فلا وجه للقول بصحّته ومطلوبيّته منه، ومنه الحَجّ عن الغير حيث لم يدلّ دليلٌ على مطلوبيّته منه، ولا أمر الولي بالأمر به، فيبقى على أصالة عدم المشروعيّة والمطلوبيّة.

الأمر الرابع: إنّ في النيابة في العبادات لا يأتي النائب بالعمل بداع الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه، لأنّ ذلك غير معقول؛ إذا الأمر المتوجّه إلى شخص لا يعقل أن يكون محرِّكاً لآخر، بل فيها يأتي النائب بالعمل بداع الأمر المتوجّه إلى نفسه، ولذلك1.

ص: 12


1- جواهر الكلام: ج 17/361.

يتوقّف على ورود أمر به، فقد دلّت النصوص المستفيضة على توجّه أمر استحبابي إلى جميع النّاس في النيابة عن الميّت والحَيّ في جملة من الموارد، منها الحَجّ ، وهو أمرٌ عبادي نظير الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه، وهو متعلّق بالفعل المعنون بعنوان النيابة عن الغير، وقد أشبعنا الكلام عنه في حاشيتنا على المكاسب المسمّاة ب «منهاج الفقاهة» في مبحث الاُجرة على الواجبات(1).

أقول: إذا تمّت هذه الأُمور، يظهر:

أوّلاً: أنّ نيابة الصبي في الحَجّ لا تكون مشروعة، لعدم الدليل عليه، فإنّه في موارد خاصّة تكون عباداته صحيحة، ولكن تمرينيّة وليس الحَجّ منها.

وثانياً: يظهر أنّ ما أفادوه من شرعيّة عباداته لا يتمّ ، كما أنّه ظهر أنّه لو قلنا بشرعيّتها لا يكون ذلك كافياً في إثبات صحّة نيابته إلّاعلى القول بتوجّه جميع الخطابات، سيّما غير الإلزاميّة إليه، وأنّ حديث رفع القلم لا يشمله.

وثالثاً: يظهر عدم تماميّة أفاده بعض الأعاظم من المعاصرين، من أنّه: (لو بنى على كون عباداته تمرينيّة بأيّ معنى من المعنيين فُرض، لا مانع من صحّة نيابته عن غيره في الحَجّ وغيره من العبادات المشروعة في حقّ المنوب عنه، لأنّ النائب يتعبّد بأمر المنوب عنه لا بأمره) انتهى (2) لأنّ النائب يتعبّد بأمر نفسه لا بأمر المنوب عنه.

مع أنّه لو سُلّم تعبّده بأمر المنوب عنه، لا ريب في توقّف ذلك على دليلٍ دالّ عليه، وحيث إنّه غير موجود في الصبي، لأنّ الخطابات العامّة تختصّ بواسطة حديث الرفع بالبالغين، فلا تصحّ نيابته، ممّا يقتضي أن تكون النتيجة عدم صحّة نيابته. هذا في الصبيّ المميّز.5.

ص: 13


1- منهاج الفقاهة: ج 2/230.
2- مستمسك العروة الوثقى : ج 11/5.

وأمّا غيره فعدم صحّتها منه من الضروريّات، لأنّ الحَجّ عبادة فلا تصحّ بدون القصد.

نعم، مقتضى إطلاق خبر طلحه بن زيد، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«أنّ أولاد المسلمين موسومون عند اللّه شافع مشفّع، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كُتبت لهم الحسنات، فإذا بلغوا الحُلُم كتبت عليهم السيّئات»(1).

أنّه يكتب له الحسنات مطلقاً، منها الحَجّ عن الغير، فيدلّ على استحبابه ومطلوبيّته.

ولكن الخبر ضعيف، لأنّ طلحة صحابيٌ مجهول، ولم يقل أحدٌ بمضمونه.

الوجه الثاني: ما استند إليه صاحب «العروة» حيثُ قال: (لأصالة عدم فراغ ذمّة المنوب عنه، بعد دعوى انصراف الأدلّة، خصوصاً مع اشتمال جملةٍ من الأخبار على لفظ الرّجل)، انتهى (2).

وفيه: أنّ ما أفاده في وجه عدم شمول الأدلّة له من الانصراف، مردودٌ، إذ لا وجه له سوى اُنس الذهن الحاصل من الفتاوى، فليس انصرافاً صالحاً لتقيّيد الإطلاق، واشتمال بعض النصوص على لفظ (الرّجل) لا يصلح لذلك، لصدقه على المميّز المراهق، كصدقه على البالغ في بدايات بلوغه، مع أنّ في غير ما تضمّنه كفاية، هذا فضلاً عن أنّ المراد به الجنس كما لا يخفى .

نعم، ما أفاده على تقدير تسليم الانصراف من الأصل متينٌ ، فإنّ النيابة - كما عرفت - خلاف الأصل، فلابدَّ من الاقتصار فيها على المتيقّن.

الوجه الثالث: ما عن بعض، وهو أنّ الأخبار المتضمّنة للنيابة، ليست في مقام بيان الشرائط، فلا إطلاق لها من هذه الجهة، كي يتمسّك به لدفع احتمال اعتبار).

ص: 14


1- الكافي: ج 6/3، ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/42، ح 71.
2- العروة الوثقى : ج 4/533، (ط. ج).

البلوغ، فيشكّ في تناول دليل النيابة له، فيبقى حينئذٍ على مقتضى أصل عدم الجواز، وعدم فراغ ذمّة المنوب عنه.

وفيه: أنّ جملة من النصوص وإنْ تَمَّ هذه الدعوى فيها، إلّاأنّها لا تتمّ في جميعها، لاحظ النصوص الواردة في حَجّ الرّجل عن المرأة والعكس، والنصوص المتقدّمة في مبحث الإستنابة وغيرهما، وفي «الجواهر».

أقول: وهو كما ترى ، لمنع الشكّ ، والشاهد على ثبوت الإطلاق لها، عدم توقّف أحد في التمسّك بإطلاقها في كلّ موردٍ شكّ في صحّة النيابة كالسفيه والصَّرورة والأعمى ، ومَن يكون الحَجّ عليه حَرَجيّاً وما شاكل، فإنّ ذلك شاهدٌ ودليلٌ على أنّ الأصحاب فهموا من النصوص الإطلاق، والصحيح في منع الشمول ما ذكرناه من حديث رفع القلم.

الوجه الرابع: ما عن سيّد «المدارك» رحمه الله من (عدم صحّة نيابته، لعدم الوثوق بإخباره)(1) ولعدم الرادع له من جهة عدم تكليفه، وأيّده بعضُ من تبعه بناءً على جهل الصبيّ وعدم معرفته بالمسائل والأحكام، فلا يوثّق بإتيانه بالحَجّ على الوجه الصحيح.

وفيه: إنّ البحث عن الحكم في مقام الثبوت، وأنّه لو أتى الصبي بالحَجّ صحيحاً هل يكون ذلك مُجزياً أم لا؟ لا في مقام الطريق إلى إحراز الصحّة.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم صحّة نيابته، وأنّ الصحيح هو الوجه الأوّل.

والمحكي عن صاحب «المدارك» القطع بصحّة نيابة الصبي في الحَجّ المندوب بإذن الولي(2)، وذكر في وجه هذه الفتوى: أنّ الحَجّ المندوب يصحّ عن نفسه بناءً على شرعيّة عباداته، بخلاف الحَجّ الواجب.3.

ص: 15


1- مدارك الأحكام: ج 7/113.
2- مدارك الأحكام: ج 7/113.

وفيه: أنّ الحَجّ المندوب يصحّ عن نفسه للدليل، ولا دليل في النيابة عن الغير، ومقتضى الأصل عدم مشروعيّتها كما تقدّم.

نيابة المجنون

المورد الثاني: ويدور البحث فيه عن صحّة نيابة المجنون وعدمها.

أقول: المجنون تارَةً إدواريٌ ، واُخرى إطباقيٌ :

وعلى التقديرين: قد يتمشّى منه القصد، وقد لا يتمشّى منه ذلك.

وإنْ لم يتمشّ منه القصد يكون بطلان نيابته من الواضحات، والقضايا التي قياستها معها.

وإنْ تمشّى منه القصد، ففي وقت إفاقة ذي الادوار لا مانع من نيابته، إذا وفت إفاقته بجميع الأعمال، وأمّا في وقت الجنون، أو فرض كون المجنون مُطبِقاً، فيشهد لعدم جواز نيابته: حديث رفع القلم عن المجنون، بناءً على شموله لجميع الخطابات، كما اخترناه وبيّناه، وهو يكون حاكماً على إطلاق أدلّة النيابة.

وقد استدلّ لذلك في كثير من كلمات الفقهاء بانتفاء القصد منه(1)، ولعلّ مرادهم به القصد المعتدّ به عند العقلاء، وإلّا فالمجنون ربّما يتأدّى منه القصد.

وأمّا السفيه: فالظاهر عدم الخلاف في جواز نيابته، ومقتضى إطلاق أدلّة النيابة جوازه، وكونه محجوراً عليه في تصرّفاته الماليّة لا يصلح مانعاً، كما لا يخفى .

***

ص: 16


1- كما في جواهر الكلام: ج 17/361.

عدم اعتبار العدالة

الأمر الثالث: العدالة.

قال صاحب «المستند»: (وقد اعتبرها المتأخّرون في الحَجّ الواجب، كما في «المدارك» و «الذخيرة» و «المفاتيح»، أو في الحَجّ مطلقاً كما في بعض شروح «المفاتيح»، وهو ظاهر المفيد في باب مختصر المسائل والجوابات من كتاب الأركان) انتهى (1).

وقد استدلّوا له: بأنّ الإتيان بالحَجّ الصحيح إنّما يعلم بإخباره، والفاسق لا تعويل على إخباره، لآية التثبّت، وحيث إنّهم رأوا أخصيّة هذا الوجه من المدّعى، فلذلك اكتفى بعضهم بكونه ممّن يظنّ بصدقه، ويحصل الوثوق من إخباره أو غيره بصحّة عمله، واستحسنه جماعة آخرون(2).

أقول: والحقّ أن يُقال إنّ في المقام مبحثين:

أحدهما: أنّ نيابة الفاسق في نفسها صحيحة ومُجزية أم لا؟ كما لو فرضنا أنّ الولي كان بنفسه فاسقاً، وأتى بالحَجّ ، هل يجزيه بينه وبين ربّه، أم يجبُ عليه أن يستنيب شخصاً آخر؟

ثانيهما: أنّه هل يعتبر في مقام الاجتزاء به للولي مثلاً إذا أتى به غيره، أن يكون الحاجّ عادلاً، أم يكفي الوثوق بصحّة عمله، أو يكفي الوثوق بصدور العمل منه ولو لم يوثّق بصحّته، أو يكفي إخباره بالإتيان به وإنْ لم يحصل الوثوق منه، أو يكفي الإستنابة في فراغ ذمّة المنوب عنه ؟

ص: 17


1- مستند الشيعة: ج 11/113.
2- كما في مدارك الأحكام: ج 7/109، المفاتيح: ج 1/302.

أمّا المبحث الأوّل: فمقتضى إطلاق أدلّة النيابة عدم اعتبار العدالة، وصحّة نيابة الفاسق، وما ذكر من الوجه إنّما يكون مربوطاً بالمبحث الثاني، ولا ربط له بهذا المبحث كما هو واضح.

وأمّا المبحث الثاني: فقد استدلّ لاعتبار الوثوق بصحّة عمله، وعدم الاعتناء بإخباره بإتيان العمل صحيحاً، بأنّه فاسقٌ يجب التبيّن عن خبره، ولا يكون حجّة، وقد التزمَ بعض الأعاظم من المعاصرين(1) بعدم قبول إخبار النائب وإنْ كان عادلاً، من جهة عدم حجيّة خبر الواحد في الموضوعات، قال: (فالميزان هو حصول الوثوق بإتيان النائب بالحَجّ الصحيح عن المنوب عنه).

وقد تردّد الشهيد في محكي «الدروس»، وقال: (وفي قبول إخباره بذلك تردّد، أظهره القبول، لظاهر حال المسلم، ومن عموم قوله تعالى: (فَتَبَيَّنُوا) (2).

أقول: لو اُحرز إتيان الحَجّ عن المنوب عنه، وشُكّ في صحّته وفساده تكون أصالة الصحّة في فعل المسلم كافية للبناء على الإتيان به صحيحاً، ولا يحتاج إلى الإخبار أو الوثوق به، فضلاً عن كون المخبر عادلاً ومتعدّداً.

وإنْ لم يُحرَز ذلك، ولا حصل الوثوق به:

فإنْ كان النائب ثقة وإنْ لم يكن عادلاً، وأخبر به أو أخبر ثقة آخر بذلك، كفى ذلك بناءً على ما حقّقناه في محلّه(3) من حجيّة خبر الثقة الواحد في الموضوعات إلّا ما خرج بالدليل.).

ص: 18


1- لعلّ المراد به السيّد الخوئي في كتابه الحَجّ : ج 2/17.
2- الدروس: ج 1/320.
3- راجع: زبدة الاُصول، الجزء الرابع: (التنبيه الأوّل: حجيّة الخبر الواحد في الموضوعات).

وإنْ كان النائب غير ثقةٍ ، ولم يخبر ثقةٌ آخر بذلك، وأخبر النائب بالإتيان به، فإنّه لا يبعد حجيّة قوله وإخباره، لقيام السيرة على قبول خبر المستناب على عملٍ في أداء عمله، نظير إخبار ذي اليد عمّا في يده.

وعليه، فيعتبر إخباره به، فلا يعتبر العدالة في هذا المقام أيضاً.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: بأنّ الحَجّ يثبت للمنوب عنه، ويفرغ ذمّته عنه بعد الإستنابة، من غير حاجةٍ إلى إحراز صدور الفعل عن الأجير والنائب، بل حتّى ولو أُحرز عدمه، لشهادة جملةٍ من النصوص على ذلك:

منها: مرسل ابن أبي عُمير الذي هو في حكم الصحيح، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «في رجلٍ أخذ من رجل مالاً ولم يحجّ عنه، ومات ولم يخلّف شيئاً؟ فقال عليه السلام: إنْ كان حَجّ الأجير أخذت حجّته، ودفعت إلى صاحب المال، وإنْ لم يكن حَجّ كتب لصاحب المال ثواب الحَجّ »(1).

ومنها: مرسل «الفقيه»، قيل لأبي عبد اللّه عليه السلام: «الرّجل يأخذ الحُجّة من الرّجُل فيموت فلا يترك شيئاً؟ فقال: أجزأتْ عن الميّت، وإنْ كان له عند اللّه حجّة اُثبتت لصاحبه»(2).

وحيثُ أنّ الصدوق ينسب ذلك إلى الإمام الصادق عليه السلام جزماً، فيستكشف أنّ الوسائط كانوا ثقات عنده، ولكن لا يبعد اتّحاده مع الخبر الأوّل كما لا يخفى .

ومنها: صحيح ابن أبي عمير، عن ابن أبي حمزة، والحسين، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «في رجلٍ أعطاه رجلٌمالاً ليحجّ عنه، فحجّ عن نفسه ؟ فقال: هي عن صاحب المال»(3).3.

ص: 19


1- الكافي: ج 4/311، ح 3، وسائل الشيعة:: ج 11/194، ح 14605.
2- الفقيه: ج 2/423، ح 2871، وسائل الشيعة: ج 11/194، ح 14606.
3- وسائل الشيعة: ج 11/193، ح 14603.

ومنها: مكاتبة أبي علي أحمد بن محمّد بن مطهر، إلى أبي محمّد عليه السلام: «إنّي دفعت إلى ستّة أنفس مائة دينار وخمسين ديناراً ليحجّوا بها، فرجعوا ولم يشخص بعضهم، وأتاني بعضٌ وذكر أنّه قد أنفق بعض الدنانير وبقيت بقيّتها، وأنّه يردّ عَليَّ ما بقي، وإنّي قد رمتُ مطالبة من لم يأتني بما دفعتُ إليه ؟ فكتب عليه السلام: لا تعرض لمن لم يأتك، ولا تأخذ ممّن آتاك شيئاً ممّا يأتيك به، والأجر فقد وقع على اللّه عَزَّ وَجَلّ »(1).

ومنها: موثّق إسحاق بن عمّار - وهو ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه - عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرّجُل يحجّ عن آخر، فاجترح في حجّه شيئاً، يلزمه فيه الحَجّ من قابل أو كفّارة ؟ قال: هي للأوّل تامّة، وعلى هذا ما اجترح»(2).

ومنها: موثّقه الآخر، في حديثٍ : «قال: قلتُ : فإنْ ابتُلي بشيءٍ يفسد عليه حجّه حتّى يصير عليه الحَجّ من قابل، أيجزي عن الأوّل ؟ قال عليه السلام: نعم، قلت: لأنّ الأجير ضامن للحَجّ ، قال عليه السلام: نعم»(3).

وهذه النصوص تدلّ على ثبوت الحَجّ للمنوب عنه بعد الإستنابة مطلقاً، بلا حاجة إلى كون الأجير مقبول القول أو لا حتّى يشترط عدالته.

فالمتحصّل: أنّه لا إشكال في صحّة استنابة الفاسق، وأنّه لا يعتبر إحراز صدور الحَجّ منه ولا إخباره به، وأنّه لو أخبر يقبل قوله، سيّما إذا كان ثقة.

***1.

ص: 20


1- الفقيه: ج 2/422، ح 2868، وسائل الشيعة: ج 11/180، ح 14575.
2- الكافي: ج 4/544، ح 23، وسائل الشيعة: ج 11/185، ح 14582.
3- الكافي: ج 4/306، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/185، ح 14581.

اعتبار الفقاهة

الأمر الرابع: أن يكون فقيهاً حال الحَجّ ، أي عارفاً بما يلزم عليه من أفعال الحَجّ اجتهاداً أو تقليداً، وإنْ كان بإرشاد معلِّم حين أداء النُسك.

وعن «المدارك»: (ومن الشرائط أيضاً قدرة الأجير على العمل وفقهه في الحَجّ ، واكتفى الشهيد في «الدروس» بحجّه مع مرشدٍ عدل، وهو جيّد حيث يوثّق بحصول ذلك) انتهى (1).

ويشهد به: خبرا مصادف المتقدّمان في شرطيّة إسلام النائب.

أقول: ثمّ الظاهر أنّ اعتبار الفقاهة إنّما هو من جهة عدم القدرة على إتيان الحَجّ بدونها، وعليه فمقتضى الجمود على ظاهر النّص وإنْ كان اعتبار علم المستنيب بفقاهة النائب، إلّاأنّ الأظهر ما عليه بناءً العلماء من الاكتفاء بعدم العلم بالعدم، والمعاملة معه حينئذٍ معاملة كونه عالماً، لأنّ هذا الشرط راجع إلى فعل النائب، ويكفي في إحراز صحّته أصالة الصحّة في عمل المسلم، واللّازم هو معرفة ما يجبُ عليه الإتيان به حال العمل تفصيلاً، ولو لم يعلم بجميع المناسك بالتفصل قبل الأعمال، فلو كان معه كتابٌ يرجع إليه عند أداء كلّ فعلٍ ونُسُكٍ كان كافياً، وكذا إنْ كان ذلك بتعليم مرشدٍ يحجّ معه، كما هو المتداول في هذه الأزمنة.

وأمّا ما عن الشهيد رحمه الله احتماله، وهو كفاية العلم الإجمالي بذلك(2):

ص: 21


1- مدارك الأحكام: ج 7/109.
2- الدروس: ج 1/320.

فإنْ أراد كفاية ذلك قبل الأعمال، فلا يعتبر العلم لا التفصيلي منه، ولا الإجمالي.

وإنْ أراد كفايته حين العمل، فلا معنى لكفاية العلم الإجمالي، إلّاأن يريد كفاية الاحتياط، ولا يعتبر العلم بالحكم تفصيلاً عن اجتهاد أو تقليد، وعليه فليس هو محتملاً، بل هو مقطوعٌ به.

***

ص: 22

وأن لا يكون عليه حَجٌّ واجب.

عدم اشتغال ذمّة النائب بحَجٍّ واجب

(و) الأمر الخامس: (أنْ لا يكون عليه حَجٌّ واجبٌ ) كما هو المشهور.

قال صاحب «المستند»: (ومنها خلوّ ذمّته من حَجّ واجب عليه في عام النيابة، بالأصالة أو بالاستيجار أو بالإفساد، أو بغير ذلك، فلو وَجَب عليه حَجّ في ذلك العام، لم يجز أن ينوب عن غيره بالإجماع) انتهى (1).

ونحوه في «التذكرة»(2) من غير دعوى الإجماع عليه.

ولكن قد تقدّم في الفصل الثاني في المسألة الثانية عشر الكلام في ذلك مفصّلاً، وقد مرّ أنّ نيابة من استقرّ عليه حَجّة الإسلام عن الميّت لا تجوز، للنّص، وأمّا غير ذلك المورد من موارد استقرار الحَجّ فالأظهر جوازه، فراجع ما ذكرناه(3)، كما أنّه بيّنا هناك أنّه على فرض صحّة الحَجّ ، تصحّ الإجارة عليه، فالتفكيك بينهما كما في «العروة»(4) في غير محلّه.

***

ص: 23


1- مستند الشيعة: ج 11/116 و 117.
2- تذكرة الفقهاء: ج 7/112، (ط. ج).
3- راجع: فقه الصادق: ج 13/330، بحث (نيابة من استقرّ عليه الحَجّ ).
4- العروة الوثقى : ج 4/535 (ط. ج).

ولو لم يكن، جاز ولو صرورةً أو امرأة.

عدم اعتبار المماثلة في النيابة

وفي اشتراط المماثلة بين النائب والمنوب عنه في الذكورة والاُنوثة خلافٌ بين الفقهاء، كما هو الحال كذلك في استنابة الصَّرورة، وصريح المتن - حيث قال: (ولو لم يكن) أي لم يكن عليه حَجٌّ واجب (جاز)، أي جاز الحَجّ عن الغير، (وإنْ كان صرورة أو امرأة) - هو عدم اعتبار المماثلة، وجواز استنابة الصَّرورة مطلقاً.

أقول: وتحقيق القول يتمّ بالبحث في موردين:

المورد الأوّل: في اعتبار المماثلة وعدمه.

المشهور بين الأصحاب - كما في «الحدائق»(1)، و «الجواهر»(2) - عدم اعتبارها، فتصحّ نيابة المرأة عن الرّجل كالعكس.

وعن «الاستبصار»: المنع من نيابة المرأة الصَّرورة عن الرّجُل(3).

وعن «النهاية»(4)، و «التهذيب»(5)، و «المهذّب»(6)، و «المبسوط»(7): المنع عن نيابتها مطلقاً، أي سواء كان المنوب عنه رَجُلاً أو امرأة.

ص: 24


1- الحدائق الناضرة: ج 14/251.
2- جواهر الكلام: ج 17/364.
3- الإستبصار: ج 2/322، في تعليقه على الحديث رقم 3.
4- النهاية: كتاب الحَجّ ، في النيابة: ص 280.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/414، كتاب الحَجّ ، في فقه الحَجّ .
6- المهذّب: ج 1/269، كتاب الحَجّ ، في النيابة.
7- المبسوط: ج 1/326، كتاب الحَجّ ، في الإستئجار.

ويشهد للمشهور: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح معاوية بن عمّار: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرّجُل يَحجّ عن المرأة، والمرأة تحجّ عن الرّجُل ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(1).

ومنها: صحيح رفاعة، عنه عليه السلام: «تحجّ المرأة عن اُختها وعن أخيها؟ وقال: تحجّ المرأة عن أبيها»(2).

ومنها: صحيح صفوان، عن حكم بن حكيم، عنه عليه السلام: «يحجّ الرّجل عن المرأة، والمرأة عن الرّجُل، والمرأة عن المرأة»(3).

ونحوها غيرها من النصوص الكثيرة، ولا معارض لهذه النصوص بالنسبة إلى حَجّ الرّجُل عن المرأة.

نعم، ورد في حَجّ المرأة عن الرّجل ما ظاهره المنع، وهو موثّق عُبيدبن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجُل الصَّرورة يُوصي أن يحجّ عنه، هل يُجزي عنه امرأة ؟ قال عليه السلام: لا، كيف تُجزي امرأة وشهادته شهادتان!؟ قال: إنّما ينبغي أن تحجّ المرأة عن المرأة، والرّجُل عن الرّجُل، وقال: لا بأس أن يحجّ الرّجُل عن المرأة»(4).

أقول: الرواية - مضافاً إلى عدم ظهورها في نفسها في المنع من جهة ذيلها - لا تصلح لمعارضة النصوص المتقدّمة الصريحة في الجواز، فتُحمل على الأولويّة.

وهل الأولى المماثلة مطلقاً أو يختصّ ذلك بما إذا كان المنوب عنه رجُلاً، وإنْ كان امرأةً لا تكون المماثلة أولى ، بل نيابة الرّجُل أولى؟0.

ص: 25


1- الكافي: ج 4/307، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/176، ح 14561.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/413، ح 84، وسائل الشيعة: ج 11/177، ح 14564.
3- تهذيب الأحكام: ج 9/229، ح 50، وسائل الشيعة: ج 11/177، ح 14565.
4- تهذيب الأحكام: ج 9/229، ح 49، وسائل الشيعة: ج 11/179، ح 14570.

مقتضى الموثّق هو الأوّل، ولكن في خبر بشير النبّال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام:

إنّ والدتي توفّيت ولم تحجّ؟ قال عليه السلام: يحجّ عنها رجلٌ أو امرأة. قلت: أيّهما أحبُّ إليك ؟ قال: رجلٌ أحبُّ إليّ »(1).

وهما متعارضان، ويقدّم الأوّل للأوثقيّة، فيُحمل الثاني على ما إذا كان الرّجل خيراً من المرأة تأدية، كما في «الجواهر»(2).

وأمّا القولان الآخران فسيأتي الكلام فيهما في المورد الثاني.

استنابة الصَّرورة

المورد الثاني: في استنابة الصَّرورة، والمشهور جوازها مطلقاً، وبإزائه القولان المتقدّمان في المورد الأوّل.

ويشهد للمشهور: جملةٌ من النصوص، وقد تقدّم بعضها في المورد الأوّل، الدالّة على ذلك بالإطلاق.

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليه السلام: «لا بأس أن يحجّ الصَّرورة عن الصَّرورة»(3).

واستدلّ للقول بالمنع عن نيابة المرأة الصَّرورة مطلقاً، بخبر سليمان بن جعفر، قال: «سألتُ الرِّضا عليه السلام عن امرأة صرورة حَجّت عن امرأة صرورة ؟ فقال عليه السلام:

لا ينبغي»(4).

ص: 26


1- الفقيه: ج 2/442، ح 2921، وسائل الشيعة: ج 11/178، ح 14567.
2- جواهر الكلام: ج 17/366.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/411، ح 75، وسائل الشيعة: ج 11/173، ح 14554.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/414، ح 86، وسائل الشيعة: ج 11/179، ح 14571.

وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السند، لأنّ في طريقه عليّ بن أحمدبن أشيم وهو مجهول.

وثانياً: قوله عليه السلام: (لا ينبغي) غير ظاهر في الحرمة وعدم الجواز.

أقول: واستدلّ للقول بالمنع عن نيابة المرأة الصَّرورة عن الرّجل:

1 - بخبر زيد الشحّام، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «سمعته يقول: يحجّ الرّجل الصَّرورة عن الرّجل الصَّرورة، ولا تحجّ المرأة الصَّرورة عن الرّجل الصَّرورة»(1).

2 - وبخبري مصادف المتقدّمين في المرأة الّتي تحجّ عن الرّجل الصَّرورة، وقد ورد في أحدهما:

«إنْ كانت قد حَجّت، وكانت مسلمة فقيهة، فرُبَّ امرأة أفقه من الرّجل»(2).

ونحوه الآخر، وفيه قوله عليه السلام: «ربّ امرأةٍ خيرٌ من الرّجُل»(3).

3 - وبموثّق عُبيد المتقدّم(4) بعد تقيّيد إطلاقه بخبري مصادف.

ولكن يرد على الأوّل: أنّه ضعيف السند، لأنّ الراوي عن زيد هو المفضّل، وبهذه القرينة يكون هو المفضّل بن صالح أبو جَميلة الأسدي النخّاس، ووصفه ابن الغضائري: بأنّه ضعيفٌ كذّابٌ يضع الحديث، وقد روي عنه أنّه قال: (أنا وضعتُ رسالة معاوية إلى محمّد بن أبي بكر)، وكذا قالوا عنه غيره من مهرَة الفنّ . مع أنّه مختصّ بما إذا كان المنوب عنه صرورة، ولا يشمل ما لو كان غير صرورة.

وأمّا خبرا مصادف، فهما أيضاً ضعيفان، لتضعيف ابن الغضائري إيّاه من دون أن يوثّقه أحد.0.

ص: 27


1- تهذيب الأحكام: ج 5/414، ح 85، وسائل الشيعة: ج 11/178، ح 14569.
2- الكافي: ج 4/306، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/177، ح 14563.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/413، ح 82، وسائل الشيعة: ج 11/177، ح 14566.
4- تهذيب الأحكام: ج 9/229، ح 49، وسائل الشيعة: ج 11/179، ح 14570.

مع أنّ في طريق أحدهما الحسين اللّؤلؤي، وهما أيضاً لا يشملان النيابة عن الرّجل غير الصَّرورة.

وبذلك يظهر ما في الاستدلال بالموثّق، مضافاً إلى ما تقدّم من تعيّن حمله على الأولويّة لروايات اُخر.

فالمتحصّل: أنّ الأظهر هو ما عن المشهور من جواز تلك مطلقاً.

أقول: وقد استظهر صاحب «الجواهر»(1) رحمه الله من النصوص، كراهة استئجار الصَّرورة ولو كان رَجُلاً، وأمّا صاحب «العروة»(2) فقد أفتى بكراهة استنابة المرأة الصَّرورة، خصوصاً مع كون المنوب عنه رجلاً، ولم يستبعد ما أفتى به صاحب «الجواهر» رحمه الله.

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ المستفاد من النصوص أنّ الصَّرورة موجبة للمرجوحيّة في نفسها ولو كان رجُلاً.

2 - وبمكاتبة بكر بن صالح، إلى أبي جعفر عليه السلام: «أنّ ابني معي وقد أمرتهُ أن يحجّ عن أُمّي، أيُجزي عنها حَجّة الإسلام ؟ فكتب عليه السلام لا، وكان ابنه صرورة، وكانت اُمّه صرورة»(3).

3 - وبخبر إبراهيم بن عُقبة، قال: «كتبتُ إليه أسأله عن رجلٍ صَرورة لم يحجّ قطّ، حَجَّ عن صرورةٍ لم يحجّ قط، أيجزي كلّ واحدٍ منهما تلك الحَجّة عن حَجّة الإسلام أو لا؟ بيّن ذلك يا سيّدي إن شاء اللّه. فكتب عليه السلام: لا يُجزي ذلك»(4).6.

ص: 28


1- جواهر الكلام: ج 17/365.
2- العروة الوثقى : ج 4/538 (ط. ج).
3- تهذيب الأحكام: ج 5/412، ح 79، وسائل الشيعة: ج 11/174، ح 14557.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/411، ح 76، وسائل الشيعة: ج 11/173، ح 14556.

ولكن يرد على الأوّل: - مضافاً إلى عدم بيان وجه الاستظهار - أنّ مصحّح معاوية - المتقدّم في مسألة ما لو مات المستطيع في عام استطاعته - عن الإمام الصادق عليه السلام: «عليه أن يحجّ من ماله صرورة لا مال له»، وكذا غيره من النصوص الآمرة باستئجار الصَّرورة الذي لا مال له - المحمولة عندهم على الاستحباب - تأبى عن ذلك.

وأمّا المكاتبة: فهي ضعيفة السند، معارضة بما تقدّم.

وأمّا خبر إبراهيم: - فمضافاً إلى ضعف سنده وإضماره - أنّه إنّما نفى الإجزاء عن كليهما معاً، لا عن المنوب عنه، مع أنّه لو تمّ دلالته وسنده يكون معرضاً عنه عند الأصحاب، ومعارضاً بما هو أقوى منه، فإذاً لا وجه للكراهة.

وأمّا ما في «العروة»، فالظاهر أنّ مدركه النصوص السابقة التي عرفت أنّها ضعيفة، وهي كما لا تصلح لأنْ تكون مدركاً للإفتاء بعدم الجواز، لا تصلح أن تُجعل مدركاً للإفتاء بالكراهة، وقاعدة التسامح مختصّة بالسنن ولا تشمل الكراهة.

***

ص: 29

شرائط المنوب عنه

أقول: قد ذُكر للمنوب عنه شرائط:

الشرط الأوّل: موته أو عجزه، وقد مرّ وجهه، هذا في الواجب، وأمّا في المستحبّ فلا يعتبر ذلك، كما تطابقت عليه النّص والفتوى.

الشرط الثاني: الإسلام، فلا تصحّ النيابة عن الكافر إجماعاً، كما في «المستند»(1)وغيره، واعتبر بطلانها صاحب «المدارك» ممّا لا ريب فيه(2).

واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: الآية الكريمة: (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ) (3).

وفيه أوّلاً: أنّها مختصّة بالمشركين، ولا تشمل غيرهم من الكفّار.

وثانياً: أنّ النيابة عنه في الحَجّ غير الاستغفار، والمناط غير محرز.

الوجه الثاني: الآية الشريفة: (وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى ) (4).

وفيه: أنّه تخصّص الآية بالروايات الدالّة على جواز النيابة في الحَجّ .

الوجه الثالث: انصراف الأدلّة الدالّة على جواز النيابة، إلى النيابة عن المسلم.

وفيه: أنّه لو سُلّم الانصراف، فهو بدوي ناش من اُنس الذهن بالفتاوي.

ص: 30


1- مستند الشيعة: ج 11/118.
2- مدارك الأحكام: ج 7/110.
3- سورة التوبة: الآية 113.
4- سورة النجم: الآية 39.

الوجه الرابع: النهي عن الموادّة لمَن حَادّ اللّه و رسوله، كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1).

وفيه أوّلاً: النقض بالإحسان إليه، وإهداء شيء إليه، إذ لا شَكّ في جوازهما.

وثانياً: أنّ الموادّة ظاهرة في الموادّة القلبيّة، فإنّها كالحُبّ والبغض ظاهرة في تلك، ولا تشمل المجاملة العمليّة والقوليّة.

الوجه الخامس: ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) من أنّه لا ينتفع الكافر بذلك، ثمّ قرّبه:

أوّلاً: بأنّ الثواب الذي هو دخول الجنّة لازمٌ لصحّة العمل، ولو من حيث الوعد بذلك، والكافر لا ينال الثواب.

وثانياً: قرّبه احتمالاً بوجهٍ آخر، وهو أنّ الكافر لا يخفّف عنه العذاب، لعدم قابليّته لذلك، ولعلّه المستفاد من قوله تعالى في سورة البقرة: (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ ) (1) وبديهي أنّ صحّة عمل النائب مستلزمة لفراغ ذمّة المنوب عنه، المستلزم لارتفاع العذاب الذي كان مترتّباً على تركه للحَجّ .

ويرد على ما أفاده أوّلاً: أنّ الثواب إنّما هو تفضّلٌ من اللّه تعالى على العباد، وإلّا فهو غير لازم لصحّة العمل، بل كم من عمل لا يترتّب عليه الثواب، إلّاأنّه يوجب ارتفاع العقاب خاصّة، ووعد الثواب على ما لو حَجّ النائب للمنوب عنه لو كان فيخصّص بما اُفيد، وهذا لا يلزم منه عدم الصحّة.

ويرد على ما أفاده ثانياً: أنّ الكافر في الآخرة لا يُخفّف عنه العذاب، ولكن ذلك6.

ص: 31


1- سورة البقرة: الآية 86.

لا ينافي ارتفاع سبب العقاب الخاص في عالم البرزخ.

وبعبارة أُخرى : إنّ الكافر يُعاقب ويستحقّ العقوبة لكفره، وهذا لا يخفّف عنه لو مات كافراً، ويعاقب عقاباً لترك كلّ واجبٍ وفعل كلّ حرامٍ كغيره، وهذا كما يتوقّف على حدوث سببه، فلو لم يشرب الخمر لا يُعاقب عقاب الشارب، وكذلك يتوقّف على بقاء سببه، فإذا ارتفع سبب العقاب على مخالفة وجوب الحَجّ ، ارتفع ذلك العقاب، أي لا يعاقب في الآخرة عقاب تارك الحَجّ ، وهذا لا ينافي عدم تخفيف العذاب عنه.

الوجه السادس: ما أفاده صاحب «الجواهر» أيضاً وهو أنّه يستحقّ العقاب في الآخرة لا الأجر والثواب(1).

وفيه: ما عرفت.

الوجه السابع: ما عن «كشف اللّثام»(2)، وهو أنّ فعل النائب تابعٌ لفعل المنوب عنه في الصحّة لقيامه مقامه، فكما لا يصحّ منه لا يصحّ من نائبه.

وفيه أوّلاً: النقض بالنيابة عن الحائض في الطواف والصلاة، فإنّها جائزة في بعض الموارد، مع أنّهما لا يصحّان عن المنوب عنها.

وثانياً: بالحَلّ ، وهو أنّ الملازمة ممنوعة، إذ يمكن أن يكون المنوب عنه فاقداً لبعض ما يعتبر في الصحّة، والنائب يكون واجداً له، فإذاً لا دليل عليه. ولكن الظاهر تسالم الأصحاب عليه، ومخالفتهم مشكلة جدّاً.

***).

ص: 32


1- جواهر الكلام: ج 17/375.
2- كشف اللّثام: ج 5/150 (ط. ج).

النيابة عن المخالف

الشرط الثالث: الإيمان.

اعتبره جماعة. وقد صرّح صاحب «الحدائق»: بأنّ (المنقول عن الشيخين وأتباعهما أنّه لا يجوز النيابة عن غير المؤمن) انتهى (1).

وفي «الشرائع»: (بل لا عن المسلم المخالف، إلّاأن يكون أب النائب) انتهى (2).

وفي «الجواهر»: (فالتحقيق حينئذٍ اعتبار الإيمان في النائب والمنوب عنه) انتهى (3).

وعن «الجامع»(4)، و «المعتبر»(5)، و «المنتهى »(6)، و «المختلف»(7)، و «الدروس»(8)وغيرها أنّه يجوز النيابة عن غير الناصب مطلقاً.

أقول: يقع الكلام في موارد:

الأوّل: في النيابة عن غير الناصب.

الثاني: في الناصب.

الثالث: في النيابة عنه إذا كان أب النائب.

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ لعدم جواز النيابة مطلقاً:

ص: 33


1- الحدائق الناضرة: ج 14/243.
2- شرائع الإسلام: ج 1/169.
3- جواهر الكلام: ج 17/361.
4- الجامع للشرائع: ص 226.
5- المعتبر: ج 2/766.
6- منتهى المطلب: ج 2/863، (ط. ق).
7- مختلف الشيعة: ج 4/322.
8- الدروس: ج 1/319.

1 - بقوله تعالى : (وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى ) (1).

2 - وبالأخبار الكثيرة المتضمّنة لعدم انتفاع المخالف بشيءٍ من الأعمال، وبأنّه كافرٌ في الآخرة، فيجري فيه نحو ما سمعته في الكافر.

وقد ظهر ضعف ذلك كلّه ممّا قدّمناه في النيابة عن الكافر.

3 - وربما يستدلّ لعدم جواز النيابة عنه، بأنّ النَّص الصحيح دلّ على عدم جواز النيابة عن الناصب، وهو صحيح وهب أو حسنه، قال:

«قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام: أيحجّ الرّجل عن الناصب ؟ فقال عليه السلام: لا، قال: قلت:

فإنْ كان أبي ؟ قال: فإنْ كان أباك فنعم»(2).

كما رواه الصدوق بإسناده عن وهب بن عبد ربّه مثله إلّاأنّه قال: (إنْ كان أباك فحجّ عنه)(3).

4 - وخبر عليّ بن مهزيار، قال: «كتبتُ إليه: الرّجُل يحجّ عن الناصب، هل عليه إثم أذا حَجّ عن الناصب ؟ وهل ينفع ذلك الناصب أم لا؟ فقال: عليه السلام لا يحجّ عن الناصب ولا يحجّ به»(4).

وقد دلّت طائفة من النصوص على أنّ غير الإثنى عشريّة من فرق المسلمين، ممّن أزالوا الأئمّة عليهم السلام عن مراتبهم وأنكروها لهم هم النواصب، كخبر محمّد بن عيسى ، قال: «كتبتُ إليه - أي الهادي عليه السلام - أسأله عن الناصب، هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب:0.

ص: 34


1- سورة النجم: الآية 39.
2- الكافي: ج 4/309، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/192، ح 14599.
3- الفقيه: ج 2/425، ح 2875، وسائل الشيعة: ج 11/192، بعد ذكره للحديث رقم 14599.
4- الكافي: ج 4/309، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/192، ح 14600.

من كان على هذا فهو ناصب»(1).

ونحوه غيره، ونتيجة ضَمّ هذه الطائفة إلى الأُولى عدم جواز النيابة عن المخالف مطلقاً.

وفيه: أنّ نصوص المنع معارضة بطائفة أُخرى من النصوص، تدلّ على جواز النيابة عن الناصب، كموثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي إبراهيم عليه السلام، قال: «سألته عن الرّجل يحجّ فيجعل حجّته وعمرته، أو بعض طوافه، لبعض أهله وهو عنه غائب ببلد آخر، قال: فقلت: فينقص ذلك من أجره ؟

قال: لا، هي له ولصاحبه، وله اجرٌ سوى ذلك بما وصل.

قلت: وهو ميّتٌ ، هل يدخل ذلك عليه ؟ قال: نعم، حتّى يكون مسخوطاً عليه، فيغفر له، أو يكون مضيّقاً عليه فيوسّع عليه، قلت: فيعلم هو في مكانه إن عمل ذلك لحقّه ؟

قال: نعم.

قلت: وإنْ كان ناصباً ينفعه ذلك ؟ قال: نعم يخفّف عنه»(2).

وخبر عليّ بن أبي حمزة، قال: «سألته عن الرّجُل يحجّ ويعتمر ويُصلّي ويصوم، ويتصدّق عن والديه، وذوي قرابته ؟ قال عليه السلام: لا بأس به يُؤجر فيما يصنع، وله أجرٌ آخر بصلته قرابته. قلت: إنْ كان لا يرى ما أرى وهو ناصبٌ؟ قال عليه السلام: يُخفّف عنه بعض ما هو فيه»(3).9.

ص: 35


1- وسائل الشيعة: ج 9/490، ح 12559، مستطرفات السرائر، ص 583.
2- الكافي: ج 4/315، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/197، ح 14613.
3- وسائل الشيعة: ج 8/278 ح 10654، عوالي اللآلي: ج 1/339.

أقول: والجمع بين الطائفتين يقتضي حمل الأُولى على الكراهة، وبه يظهر الحال في المورد الثاني.

وأمّا المورد الثالث: فالحكم الثابت للناصب، سواءٌ أكان هو المنع أو الكراهة لا يثبت لو كان الناصب أب النائب، لمصحّح معاوية المتقدّم.

وهل يلحق به الجدّ أم لا؟ وجهان، أقربهما العدم، لظهور الأب فيما لا يشمله.

***

اعتبار البلوغ والعقل

الشرط الرابع: ممّا قيل باعتباره في المنوب عنه هو: البلوغ، فلا تجوز النيابة عن الصبي وإنْ كان مميّزاً.

والوجه في ذلك: ما تقدّم من أنّ مقتضى حديث رفع القلم، ارتفاع كلّ تكليف وإنْ كان غير إلزامي عن الصبي، وأنّه إنّما يكون مأموراً بأُمور أمر الولي بأمره بها من باب أنّ الأمر بالأمر بشيء أمرٌ بذلك الشيء، وليس الحَجّ منها، فلا يكون الحجّ ثابتاً في ذمّة الصبي حتّى ينوب عنه فيه، ولكن الصبي وإنْ لم يكن مأموراً بحَجّة الإسلام، فلا يجوز النيابة عنه فيه، إلّاأنّه مأمور بالحَجّ بالأمر الاستحبابي كما مرّ، فلا مانع من النيابة عنه في ذلك.

وبما ذكرناه ظهر اندفاع ما قيل من أنّ عبادات الصبي تمرينيّة لا شرعيّة، فلا معنى للنيابة عنه.

فالمتحصّل: أنّه لاتجوز النيابة عنه في حَجّة الإسلام، وتجوز في الحَجّ التطوّعي.

وأمّا العقل: فالظاهر اعتباره، بمعنى أنّ المجنون في تمام عمره لا يجوز النيابة عنه.

نعم، من كان عاقلاً وتوجّه إليه خطاب الحَجّ ، ثمّ طرأ عليه الجنون، تجوز النيابة

ص: 36

عنه، بل تجبُ الاستئجار عنه إذا استقرّ عليه حال إفاقته ثمّ مات مجنوناً.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ مقتضى حديث الرفع، رفع جميع الخطابات، منها الخطاب بالحَجّ ، ومع عدم ثبوت التكليف على المنوب عنه لا معنى للنيابة عنه.

ودعوى: أنّ المنفي هو العقاب أو الإلزام أو الأحكام اللّزوميّة لا كلّ خطاب.

مندفعة: بما مرّ مراراً من عدم تماميّة شيء من ذلك.

وأمّا الثاني: فلأنّ المفروض توجّه الخطاب إليه حال إفاقته، والجنون كالموت لا يوجبُ رفع ذلك التكليف وفراغ الذمّة، فإنّ مفاد حديث الرفع رفع قلم التكليف حال الجنون لا ما قبله، وهذا واضحٌ ، وقد اتّفق عليه الفقهاء على ما نُسب إليهم.

***

ص: 37

حقيقة النيابة وشروطها

المورد الثالث: في حقيقة النيابة وشروطها.

أمّا حقيقتها: فقد أشكل على جمعٍ من الأساطين تصوير النيابة في العبادة، ومنشأ الإشكال أمران:

أحدهما: أنّه بعد فرض كون الفعل مطلوباً من المنوب عنه، والأمر متوجّهاً إليه، كيف يُتصوّر أن يكون ذلك الأمر محرّكاً للنائب ؟!

أضف إليه: أنّه ربما لا يكون أمرٌ متوجّهاً إلى المنوب عنه أيضاً، كما إذا كان ميّتاً، فما المحرّك للنائب نحو الفعل ؟

ثانيهما: أنّ التقرّب المعنوي كالتقرّب الحسّي لا يقبل النيابة، إذ لا يعقل تقرّب النائب وحصول القرب للمنوب عنه، ومع عدم حصول القرب للمنوب عنه لا يسقط غَرض الآمر، فلا تفرغ ذمّته عن العمل القُربي المكلّف به، ولهذا نُقل عن «الانتصار»(1) و «الغُنية»(2) و «المختلف»(3) منع صحّة النيابة، وأنّ المراد من قولنا:

(يقضي وليّ الميّت عنه)، أنّه يقضي عن نفسه، ونسبته إلى الميّت باعتبار أنّه السبب في وجوب القضاء.

والتزم بعضٌ بأنّ باب النيابة باب إهداء الثواب(4)، كما التزم المحقّق الخراساني رحمه الله - على ما نُسب إليه - بعدم لزوم قصد التقرّب على النائب، وأنّ رضا

ص: 38


1- الإنتصار: ص 198.
2- غنية النزوع، لإبن زُهرة الحلبي: ص 100.
3- مختلف الشيعة: ج 3/530.
4- كشف الغطاء: ج 2/327.

المنوب عنه بما نُسب إليه كافٍ في مقرّبيّة العمل له(1).

أقول: ولكن سيأتي بيان حقيقة النيابة، وستعرف أنّ سقوط التكليف عن المنوب عنه إنّما هو لحصول الغرض من إتيان النائب بذلك العمل نيابةً عنه، الذي ستعرف أنّه مأمور به بالأمر الاستحبابي، وقصد النائب التقرّب إنّما يكون لأجل الأمر المتوجّه إلى النائب نفسه، وحصول القرب المعنوي الملازم لفراغ الذمّة عن التكليف، إنّما يكون لأجل فراغ ذمّة المنوب عنه عنها، وبالمعنى الآخر لا نتعقّله، وإعطاء الثواب إنّما هو باختيار اللّه تعالى ، فقد وَعَد على إعطائه المنوب عنه لو أتى النائب بالعمل نيابةً عنه.

هذا، وللقوم في تصوير النيابة في العبادة مسالك:

المسلك الأوّل: ما يظهر من الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله(2) في «كتاب القضاء» من أنّ للنائب فعلين:

الأوّل: فعلٌ جانحي قلبي، وهو جعل نفسه بدلاً عن المنوب عنه في الإتيان بتكاليفه، وتنزيله منزلته، وهذه هي حقيقة النيابة، والأمر المتعلّق به أمرٌ غير عبادي.

الثاني: ما هو فعلٌ جارحي وهو الحَجّ أو الصلاة، وما شاكل، والأمر المتعلّق به أمرٌ تعبّدي، ولكلّ من الفعلين غاية مترتّبة عليه.

ويرد عليه: أنّ التنزيل ممّا لا يخطر ببال النائب والمنوب عنه، مع أنّه تنزيلٌ ادّعائي لا حقيقي، فلابدّ وأن يكون صادراً ممّن بيده جعل الآثار، وإلّا فلا يكادت.

ص: 39


1- نقله عنه تلميذه الشيخ الأصفهاني في كتابه (الإجارة): ص 233.
2- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري (ط. ق): ج 2/415، مسألة قضاء الصلاة عن الميّت.

يترتّب عليه الأثر، ألا ترى أنّه لو نزّل زيدٌ نفسه منزلة عمرو لا يترتّب عليه وجوب الإنفاق على زوجته، وغيره من الآثار والأحكام الثابتة لعمرو.

المسلك الثاني: ما يظهر ممّا أفاده في «المكاسب»(1) في مبحث أخذ الاُجرة على الواجبات، وفي «الفرائد» في مبحث أصالة الصحّة، وحاصله:

أنّ العبادة النيابيّة كالحَجّ إذا تحقّقت في الخارج، كان لها اعتباران، فباعتبار أنّها فعل المنوب عنه، ولذا إذا كانت هي الصلاة، وجبَ فيها مراعاة القصر والإتمام، وباعتبار هي فعل النائب يجب عليه مراعاة الأجزاء والشرائط، وهي بالاعتبار الثاني لا يجب التقرّب فيها، وبالاعتبار الأوّل عباديّة، فلا مانع من وقوعها قُربيّاً محضاً عن المنوب عنه.

وبالجملة: العبادة النيابيّة فعلٌ لشخصين اعتباراً، وهي بأحد الاعتبارين قُربيّة، وبالاعتبار الآخر غير قُربيّة.

وفيه: لا مجال لتصوّر كون فعل النائب فعل المنوب عنه اعتباراً، فإنّ كون الفعل منتسباً إلى شخصٍ إنّما هو باعتبار صدوره عنه، وعليه فإنْ كان المراد أنّ الشارع الأقدس يعتبر صدور الفعل عن النائب صادراً عن المنوب عنه، فما الدليل على هذا الاعتبار أوّلاً.

وثانياً: أنّ هذا الاعتبار إنّما يكون بعد إتيان العمل عن الغير، فقبل أن ينوي الفعل عن الغير يُسئل عن محرّكه له، وأنّ محرّكه هل الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه ؟ فهو غير معقول، أو غيره ؟ وبالجملة بهذا المقدار لا يتمّ ، ولعلّه سيأتي توجيهه لاحقاً.6.

ص: 40


1- كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: ج 2/146.

المسلك الثالث: ما أفاده المحقّق اليزدي رحمه الله(1) في «درر الاُصول» بما حاصله: أنّ مباشرة الفاعل:

تارةً : تكون دخيلة في حصول الغرض المترتّب على الفعل، فلا يسقط الأمر بفعل الغير وإنْ لم يكن العمل عباديّاً.

وأُخرى : لا تكون دخيلة فيه، فلا مانع من صيرورة الأمر المتعلّق به محرّكاً للغير، لإيجاد ذلك الفعل مراعاةً لصديقه واستخلاصه من المحذورات المترتّبة على ذلك الأمر من العقاب، والبُعد عن ساحة المولى .

والظاهر أنّه إلى هذا نظر المحقّق النائيني رحمه الله(2) حيث قال: (إنّ الأمر الإجاري تعلّق بإتيان العبادة بداعي الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه).

وفيه: أنّه إذا كان الغرض مترتّباً على فعل كلّ واحدٍ منهما بما هو، لزم كون الأمر متوجّهاً إليهما، غاية الأمر بما أنّ الغرض واحد، ويحصل بفعل كلّ منهما، يكون الوجوب كفائيّاً، فيخرج عمّا هو محلّ الكلام.

وإنْ كان مترتّباً على فعل المنوب عنه خاصّة، غاية الأمر أعمّ من المباشري والتسبيبي، وما بالذات وما بالعَرَض، فمثله لا يصلح إلّالتوجّه الأمر إلى المنوب عنه المحرّك نحو الفعل أعمّ من المباشرة والتسبيب، ولكن هذا الأمر لا يعقل أن يكون محرّكاً للنائب نحو الفعل، إذ التكليف غير المتوجّه إليه عاجزٌ عن تحريك الفاعل!

نعم، إذا كان الغرض يحصل بفعله، وكان الواجب توصّليّاً، لزم سقوط التكليف بفعله، لحصول الغرض لا للامتثال.8.

ص: 41


1- أجود التقريرات: ج 2/174 (والتحقيق في الجواب).
2- كتاب المكاسب والبيع، تقرير بحث النائيني للآملي: ج 1/58.

وبالجملة: الأمر المتوجّه إليه لا يعقل أن يكون محرّكاً نحو عمل غيره الصادر عنه بإرادته واختياره.

المسلك الرابع: ما أفاده بعض المحقّقين(1) من أنّ النيابة من الاعتبارات العقلائيّة، ولها آثار عند العقلاء، فإذا أمضاها الشارع الأقدس، لزم ترتّب تلك الآثار عليها، فإذا كان المنوب فيه أمراً عباديّاً كان مقتضى إمضاء النيابة توجّه التكليف المتوجّه إلى المنوب عنه إلى النائب أيضاً.

وفيه: أنّه إنْ اُريد بذلك توجّه ذلك التكليف إليه، فهو غير معقول، إذ الفرد المشخّص كيف يمكن توسعته، وإنْ اُريد انتسابه إليه بالعرض، فيرد عليه أنّ البعث العَرَضي لا يُجدي في الانبعاث الحقيقي.

وإنْ اُريد توجّه تكليفٍ آخر إلى النائب، فهو يحتاج إلى دليل.

أقول: وهناك مسالكٌ اُخر، لكن لوضوح ضعفها ممّا بيّناه أغمضنا عن ذكرها.

والصحيح في المقام أن يقال: إنّه في مورد النيابة يكون العمل ثابتاً في ذمّة المنوب عنه، إمّا مع الأمر المتوجّه إليه أو بدونه، وهناك تكليفٌ آخر متوجّهٌ إلى النائب إمّا وجوبيّاً أو استحبابيّاً، بأن يأتي بذلك العمل الثابت في ذمّة المنوب عنه، نظير الأمر بأداء الدَّين عنه، فالمحرّك للنائب هو الأمر العبادي المتوجّه إليه متعلّقاً بالفعل المعنون بعنوان النيابة عن الغير، لا الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه.

وعلى هذا، فالنائب إنّما يأتي بالعبادة بداعي الأمر المتوجّه إلى نفسه، لا بالأمر العبادي المتوجّه إلى المنوب عنه، وسقوط التكليف عن المنوب عنه إنّما هو لحصول الغرض من إتيان النائب بذلك العمل نيابةً عنه، الذي عرفت أنّه مأمور به بالأمر9.

ص: 42


1- حكاه عنه الشيخ الأصفهاني في كتابه الإجارة: ص 229.

الاستحبابي، وقصد النائب التقرّب إنّما يكون لأجل الأمر المتوجّه إلى النائب نفسه، وقد مرّ أنّ حصول القُرب المعنوي بالمعنى الملازم لفراغ الذمّة عن التكليف، إنّما يكون لأجل فراغ ذمّة المنوب عنه عنه، وبالمعنى الآخر لا نتعقّله، وإعطاء الثواب إنّما هو باختيار اللّه تعالى ، فقد وَعَد على إعطائه المنوب عنه لو أتى النائب بالعمل نيابةً عنه.

***

ص: 43

شرائط النيابة

وأمّا شرائطها: فيعتبر فيها قصد النيابة، فإنّه لا يصدق وقوع الحَجّ عن الغير الذي هو المأمور به إلّابذلك.

وبعبارة أُخرى : إنّ المأمور به فردان:

أحدهما: الحَجّ عن نفسه.

والآخر: الحَجّ عن غيره.

ولعلّ الأوّل لا يتقوم بالقصد زائداً عن إتيان الأعمال متقرّباً إلى اللّه تعالى ، وأمّا الثاني فامتيازه عن الأوّل إنّما هو بذلك، فلابدَّ وأن يُقصد وإلّا لا يتحقّق.

كما أنّه يعتبر في النيابة تعيّين المنوب عنه، فإنّ الفعل الصالح للوقوع عن المتعدّد لا يتعيّن لأحدهم إلّابالقصد، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح، بل النيابة وإتيان الحَجّ عن الغير حقيقتها تتقوم بتعيّين المنوب عنه.

ولا يعتبر ذكر اسمه اتّفاقاً كما في «الجواهر»(1)، خلافاً عن ظاهر الصدوق من لزوم تسميته عند الذبح(2).

وأمّا النصوص: فهي على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما تضمّن الأمر به كخبر ابن عبد السلام، عن أبي عبداللّه عليه السلام:

«في الرّجُل يحجّ عن الإنسان، يذكره في جميع المواطن كلّها؟ قال: إنْ شاء فعل وإنْشاء لم يفعل، اللّه يعلم أنّه قد حَجّ عنه، ولكنّه يذكره عند الأضحية إذا ذبحها»(3).

ص: 44


1- جواهر الكلام: ج 17/362، قوله: (لعدم وجوب ذلك إتّفاقاً).
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2/224، قوله: (ولكنّه يذكره عند الأضحية إذا ذبحها).
3- تهذيب الأحكام: ج 5/419، ح 100، وسائل الشيعة: ج 11/188، ح 14589.

الطائفة الثانية: ما تضمّن الأمر به بعد الإحرام كصحيح الحلبي، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: «قلتُ له: الرّجل يحجّ عن أخيه، أو عن أبيه، أو عن رجلٍمن النّاس، هل ينبغي له أن يتكلّم بشيء؟ قال عليه السلام: نعم يقول بعدما يَحرم: اللّهُمَّ ما أصابني في سفري هذا من تعبٍ أو بلاءٍ أو شَعَثٍ فآجر فلاناً فيه، وآجرني في قضائي عنه»(1).

ونحوه صحيح معاوية أو حسنه(2).

الطائفة الثالثة: ما تضمّن الأمر به في جميع المواطن والمواقف، كصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«قلت له: ما يجبُ على الذي يحجّ عن الرّجل ؟ قال عليه السلام: يسمّيه في المواطن والمواقف»(3).

الطائفة الرابعة: ما تضمّن عدم لزومه في شيء من المواقف، كصحيح البزنطي، أنّه قال: «سأل رجلٌ أبا الحسن الأوّل عليه السلام عن الرّجل يحجّ عن الرّجل، يسمّيه باسمه ؟ قال: إنّ اللّه تعالى لا يخفى عليه خافية»(4).

أقول: والجمع بين النصوص يقتضي البناء على الاستحباب والرجحان، وتأكّده في الموقفين، وذلك لأنّه لو لم تكن الطائفة الثالثة، كان الجمع بين الأولتين والأخيرة بتقيّيدها بهما، والحكم بوجوبه في الموقفين مع قطع النظر عمّا نشير إليه.

كما أنّه لو كنّا قائلين بانقلاب النسبة، كان مقتضى الجمع العرفي ذلك، فإنّه يُقيّد إطلاق الأخيرة بالأولتين، فتصبح أخصّ من الثالثة، وتقيّد هي بها، وكانت0.

ص: 45


1- تهذيب الأحكام: ج 5/418، ح 98، وسائل الشيعة: ج 11/187، ح 14587.
2- وسائل الشيعة: ج 11/188، ح 14588.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/418، ح 99، وسائل الشيعة: ج 11/187، ح 14586.
4- الفقيه: ج 2/460، ح 2969، وسائل الشيعة: ج 11/188، ح 14590.

هو الوجوب في الموقفين.

ولكن بيّنا في محلّه(1) بطلان القول بانقلاب النسبة، وأنّه تلاحظ النصوص كما هي، كما أنّه لو كان للأولتين مفهومٌ ، كانتا دالّتين به على عدم الوجوب في غير الموطنين، حيث تكون النتيجة أيضاً كذلك، فإنّه كان يُقيّد حينئذٍ إطلاق الأخيرة بمنطوق الأولتين، وإطلاق الثالثة بمفهومهما، ولكن ليس لهما مفهوم.

وعليه، فيتعيّن الجمع بما ذكر، بأن يُحمل ظاهر الثالثة من الوجوب على الاستحباب بقرينة الأخيرة، والطائفتان الاُولى والثانية وإنْ كان لا مانع من إبقائهما على ما هما عليه من الظهور في الوجوب، إلّاأنّه بقرينة الاتّفاق على عدم الوجوب، ولما في التعليل في الرابعة الآبي عن التخصيص بقوله عليه السلام: (إنّ اللّه لاتخفى عليه خافية)، يتعيّن حملهما على الاستحباب، فتكون النتيجة ما ذكرناه.

***ن.

ص: 46


1- زبدة الاُصول: ج 4 / بحث انقلاب النسبة في التعارض بين أكثر من دليلين.

ولو تبرّع عن الميّت برئت ذمّته.

التبرّع عن الميّت في الحَجّ

أقول: بقي الكلام في جملة من أحكام هذا الباب، ولنذكرها في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: أنّه لا يكون الخطاب بالنيابة عن الميّت مختصّاً بالولي (و) لا مشروطاً بإذنه، بل (لو تبرّع) إنسانٌ بالحَجّ (عن الميّت) بعد موته، (برئت ذمّته)، ولا نعلم فيه خلافاً، كما في «التذكرة»(1)، بل الإجماع بقسميه عليه كما في «الجواهر»(2)، بل الإجماع المحقّق والمحكي مستفيضاً كما في «المستند»(3)، من غير فرقٍ في الميّت بين أن يكون عنده ما يحجّ به أم لا، وبين إيصائه به وعدمه، وبين قرب المتبرّع للميّت وعدمه، وبين وجود المأذون من الميّت أو وليه وعدمه.

كلّ ذلك، لإطلاق معاقد الإجماعات والنصوص، لاحظ:

1 - صحيح معاوية بن عمّار، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل مات ولم يكن له مال، ولم يحجّ حجّة الإسلام، فأحَجّ عنه بعض إخوانه، هل يجزي ذلك عنه أو هل هي ناقصة ؟ قال عليه السلام: بل هي حَجّة تامّة»(4).

ومعلوم أنّ المراد به أنّه لم يكن له مالٌ حين الموت، وإنّما استقرّ عليه الحَجّ من قبل، كما نبّه عليه صاحب «الوسائل» رحمه الله.

ص: 47


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/120، (ط. ج).
2- جواهر الكلام: ج 17/387.
3- مستند الشيعة: ج 11/137.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/404، ح 54، وسائل الشيعة: ج 11/77، ح 14282.

2 - وخبر ابن عميرة، عن الصادق عليه السلام: «أنّ رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: إنّ أبي مات ولم يحجّ؟ فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: حَجّ عنه، فإنّ ذلك يُجزي عنه»(1).

ونحوها غيرها، وقد ادّعى صاحب «المستند» استفاضتها(2).

بل قال صاحب «الجواهر»: (وثبوت مشروعيّة النيابة عنه، مع تعذّر الإذن عنه، وأنّ الحَجّ مع شغل الذمّة به كالدَّين الذي لا أشكال في جواز التبرّع به مع النهي، فضلاً عن عدم الإذن، وأصل عدم اشتراط حصولها منه حال حياته، وعدم تعلّق الغرض بما يقابلها منه) انتهى (2).

أقول: وهذه الوجوه وإنْ كانت لا تخلو عن المناقشة، فإنّ ثبوت مشروعيّة النيابة مع تعذّر الإذن عنه، إذا لم يأذن في حال الحياة لغير الولي، أوّل الكلام، وكون الحَجّ مع شُغل الذمّة به كالدين لا يوجبُ جواز التبرّع عنه في الأفعال، وأصالة عدم اشتراط حصولها منه حال الحياة، محكومة لأصالة عدم مشروعيّتها، بناءً على كون النيابة عليخلاف الأصل، كما هو الحقّ ، إلّاأنّه لابأس بذكرها تأييداًللمطلب.

وأمّا التبرّع عن الميّت في الحَجّ المندوب: فجوازه أيضاً لا كلام فيه، بل ادّعى صاحب «المستند»(4) قيام الإجماعين، أي المحصّل والمنقول عليه.

ويشهد به: جملةٌ من النصوص، وقد عقد صاحب «الوسائل» في أبواب النيابة باباً جمعَ فيه الأخبار الدالّة على استحباب التطوّع بالحَجّ والعُمرة عن المؤمنين، خصوصاً الاقارب أحياءً وأمواتاً، وعن المعصومين عليهم السلام أحياءً وأمواتاً(3)، وذكر فيهة.

ص: 48


1- الكافي: ج 4/277، ح 13، وسائل الشيعة: ج 11/77، ح 14283. (2و4) مستند الشيعة: ج 11/137.
2- جواهر الكلام: ج 17/387.
3- وسائل الشيعة: ج 11/196، باب 25 من أبواب النيابة.

أحد عشر حديثاً، ثمّ قال: وتقدّم ما يدلّ على ذلك، ويأتي ما يدلّ عليه:

منها: خبر حازم بن حبيب، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ أبي هلك وهو رجلٌ أعجمي، وقد أردتُ أن أحَجّ عنه وأتصدّق ؟ فقال عليه السلام: افعل فإنّه يصل إليه»(1).

ومنها: خبر عمرو بن الياس، في حديثٍ : «قال أبي لأبي عبداللّه عليه السلام وأنا أسمع:

إنّ ابني هذا صرورة، وقد ماتت اُمّه، فأحبَّ أن يجعل حجَّته لها، أفيجوز ذلك له ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: يُكتب ذلك له ولها، ويُكتب له أجر البِرّ»(2).

ومنها: موثّق إسحاق الآتي(3)، و نحوها غيرها.

التبرّع عن الحَيّ في الحَجّ : فهو جائز بالتطوّع بلا خلافٍ ، وفي «المستند» بالإجماعين(4).

وفي «المنتهى »: (لا يجوز الحَجّ والعُمرة عن حَيٍّ إلّابإذنه، سواءٌ كان الحَجّ فرضاً أو نفلاً) انتهى (5).

أقول: والأوّل أظهر، لجملةٍ من النصوص التي قيل إنّها متواترة:

منها: موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «عن الرّجُل يحجّ فيجعل حجّته وعمرته أو بعض طوافه لبعض أهله، وهو عنه غائبٌ ببلد آخر؟ قال: فقلت:

فينقص ذلك من أجره ؟ قال عليه السلام: لا، هي له ولصاحبه، وله سوى ذلك بما وصل.

قلت: وهو ميّت هل يدخل ذلك عليه ؟ قال: نعم حتّى يكون مسخوطاً عليه).

ص: 49


1- وسائل الشيعة: ج 11/199، ح 14618.
2- وسائل الشيعة: ج 11/196، ح 14610.
3- وسائل الشيعة: ج 11/197، ح 14613.
4- مستند الشيعة: ج 11/137.
5- منتهى المطلب: ج 2/863 (ط. ق).

فيغفر له، أو يكون مضيّقاً عليه فيوسّع عليه.

فقلت: فيعلم هو في مكانه إن عمل ذلك لحقّه، قال: نعم»(1).

ومنها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ : «من حَجّ فجعل حجّته عن ذي قرابته يصِله بها، كانت حجّته كاملة، وكان للذي حَجّ عنه مثل أجره، إنّ اللّه عَزَّ وَجَلّ واسع لذلك»(2). ونحوهما غيرهما.

وعلّل المصنّف رحمه الله «المنتهى » ما اختاره بقوله: (لأنّها عبادة يدخلها النائب، فلم يجز عن الحَيّ المكلّف إلّابإذنه كالزكاة) انتهى (3).

وهذا الاستدلال في مقابل النصوص يعدّ اجتهاداً في مقابل النّص.

وفي «الجواهر»: (ولعلّه حمل النصوص على إهداء الثواب، لا على وجه النيابة) انتهى (4).

لكنّه واضحُ الضعف، فإنّ الروايات متضمّنة لجعل الحَجّ له، والإتيان بالحَجّ عنه، وهذه التعابير كالصريحة في النيابة، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين كونه قادراً أو عاجزاً، كما لا فرق بين من كان عليه حَجّ واجب مستقرّاً كان أولا وغيره، تمكّن من أدائه ففرّط أو لم يفرّط، بل يحجّ بنفسه واجباً ويستنيب غيره في التطوّع، لإطلاق الأخبار، وإذا جاز التبرّع جاز للمنوب عنه أن يستأجر له، وهو واضح.

وأمّا التبرّع عن الحَيّ في الواجب: فيما إذا كان له عذرٌ مسوّغ للاستنابة، وكفايته عنه، ففيه قولان:8.

ص: 50


1- الكافي: ج 4/315، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/197، ح 14613.
2- الكافي: ج 4/316، ح 7، وسائل الشيعة: ج 11/197، ح 14612.
3- منتهى المطلب: ج 2/863.
4- جواهر الكلام: ج 17/388.

1 - ذهب جماعة منهم المصنّف رحمه الله في محكي «القواعد»(1)، وكاشف اللّثام(2)، وفي «الحدائق»(3)، و «الجواهر»(4)، و «المستند»(5) إلى عدم الجواز، وعن جماعة آخرين الجواز والكفاية.

وقد استدلّ للأوّل: في «الجواهر»:

1 - بأصالة عدم فراغ ذمّته بذلك، السالمة عن معارضة ما دلّ على مشروعيّتها عنه بإذنه، ضرورة أعمّية ذلك من جواز التبرّع.

2 - وبأنّه يجبُ الإستنابة عليه نصّاً وفتوىً ، ولا دليل على سقوطه بذلك بعد حرمة القياس على الميّت، وعدم ثبوت كونه في هذه الحال كالدَّين الذي يقضى عن صاحبه مع نهيه.

ثمّ قال فيها بعد ذكر الدليلين: (فالأحوط حينئذٍ - إنْ لم يكن الأقوى - الاقتصار في النيابة حينئذٍ على الإذن)(5).

وأمّا صاحب «المستند» فقد استدلّ له: بالأخبار المتضمّنة للأمر بالتجهيز من ماله، قال: (فلعلّ هذا العمل واجبٌ عليه مقام الحَجّ بنفسه، وكفاية فعل الغير موقوفة على الدليل وهو في المقام مفقود)(7).

أقول: إنّ نصوص الإستنابة - بعد ملاحظة ما بيّناه في حقيقة النيابة - ظاهرة في أنّ البدل فعل النائب لا فعل المنوب عنه، وعليه فلا دخل للتسبيب في إفراغ9.

ص: 51


1- قواعد الأحكام: ج 1/411، قوله: (وتبرّع الحَيّ يبريء الميّت).
2- كشف اللّثام: ج 2/250 (ط. ق).
3- الحدائق الناضرة: ج 14/289.
4- جواهر الكلام: ج 17/389. (5و7) مستند الشيعة: ج 11/138.
5- جواهر الكلام: ج 17/389.

الذمّة وأداء الواجب، وإنّما يجبُ الإستنابة تحصيلاً للبدل، فمع حصوله بنفسه لا وجه لبقاء الوجوب.

***

نيابة الواحد عن المتعدّد

المسألة الثانية: لا يجوز أن ينوب عن اثنين بحَجّ واحدٍ في الحَجّ الواجب، إجماعاً كما في «المستند»(1).

وهذا مضافاً إلى أنّ وضوحه مطابق للأصل، فإنّ الخارج عن تحت أصالة عدم فراغ الذمّة، هو نيابة واحد عن واحد، ويبقى الباقي.

أقول: وأمّا صحيح البزنطي - عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ أخذ حجّةً من رجل، فقطع عليه الطريق، فأعطاه رجل حجّة أُخرى يجوز له ذلك ؟ فقال عليه السلام:

جائز له ذلك، محسوب للأوّل والأخير، وما كان يسعه غير الذي فعل إذا وجد من يعطيه الحجّة»(2) - الدالّ بالإطلاق وعدم الاستفصال على جواز نيابة واحد عن اثنين حتّى في الحَجّ الواجب:

فمضافاً إلى معارضته بصحيح محمّد بن إسماعيل، قال: «أمرتُ رجلاً أن يسأل أبا الحسن عليه السلام عن رجلٍ يأخذ من رجل حجّة، فلا تكفيه، ألَهُ أن يأخذ من رجلٍ آخر، فيتّسع بهما، ويجزي عنهما جميعاً أو يتركهما جميعاً إنْ لم يكفه إحداهما؟ فذكر أنّه قال: أحبُّ إليّ أن تكون خالصةً لواحد، فإنْ كانت لا تكفي فلا يأخذها»(3) - فإنّه لم يفتِ أحدٌ بما تضمّنه من الإطلاق، فيتعيّن حمله على الحجّتين على وجه

ص: 52


1- مستند الشيعة: ج 11/137.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2/423، ح 2869، وسائل الشيعة: ج 11/191، ح 14598.
3- الفقيه: ج 2/444، ح 2926، وسائل الشيعة: ج 11/191، ح 14597.

الاستحباب، أو أنّ إحدى الحجّتين لا على وجه الإجارة، أو على غير ذينك من المحامل التي ذكرها الفقهاء، راجع «الحدائق»(1).

نعم، إذا كان حَجٌّ واحدٌ واجباً على المتعدّد، كما إذا نذر كلّ منهما أن يشترك مع الآخر في تحصيل الحَجّ ، فحينئذٍ لا مانع من النيابة فيه ووجهه ظاهر.

وأمّا في الحَجّ المندوب: فالظاهر جواز النيابة عن المتعدّد، كما هو المشهور.

وعن «المسالك»(2) وفي «الحدائق»(3) تخصيص جواز الإستنابة في المستحبّ على وجه التشريك، بما إذا اُريد إيقاع الفعل عنهما معاً، ليشتركا في ثوابه، أمّا لو اُريد من النيابة فعل الحَجّ عن كلّ واحدٍ منهما، فهو كالحَجّ الواجب.

أقول: الأوّل أظهر، لجملةٍ من النصوص:

منها: خبر هشام بن الحكم بإسنادين أحدهما صحيح أو حسن، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرّجل يشرك أباه أو أخاه أو قرابته في حجّه ؟ فقال: إذن يكتب لك حَجّاً مثل حجّهم، وتزداد أجراً بما وصلت»(4).

ومنها: صحيح محمّد بن إسماعيل، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام كم أشرك في حجّتي ؟ قال: كم شئت»(5).

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«قلت له: أشرك أبويّ في حجّتي ؟ قال: نعم. قلت: أشرك إخواتي في حجّتي ؟2.

ص: 53


1- الحدائق الناضرة: ج 14/278.
2- مسالك الأفهام: ج 2/179.
3- الحدائق الناضرة: ج 14/275.
4- الكافي: ج 4/316، ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/202، ح 14624.
5- الكافي: ج 4/317، ح 9، وسائل الشيعة: ج 11/202، ح 14622.

قال: نعم، إنّ اللّه تعالى جاعلٌ لك حجّاً ولهم حَجّاً، ولك أجرٌ لصلتك إيّاهم»(1).

ومنها: خبر محمّد بن الحسن، عن أبي الحسن عليه السلام، قال:

«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: لو أشركت ألفاً في حجّتك، لكان لكلّ واحدٍ حجّة من غير أن تنقص حجّتك شيئاً»(2).

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «عن الرّجل يشرك في حجّته الأربعة والخمسة من مواليه ؟ فقال: إنْ كانوا صرورة جميعاً فلهم أجر، ولا يجزي عنهم الذي حَجّ عنهم من حَجّة الإسلام، والحجّة للّذي حَجّ »(3).

ونحوها في الدلالة على جواز النيابة عن المتعدّد، وكذا في استثناء حجّة الإسلام غيرها، وظاهرها النيابة، ولا محذور فيه، فحملها على إهداء الثواب لا وجه له.

وأمّا نيابة المتعدّد عن واحد: ففي الحَجّ المندوب لا إشكال فيها، ولا خلاف، ويشهد به جملةٌ من النصوص:

منها: خبر محمّد بن عيسى اليقطيني، قال: «بعث إليّ أبو الحسن الرِّضا عليه السلام رزم ثياب وغلماناً وحجّةً لي، وحجّة لأخي موسى بن عبيد، وحجّةً ليونس بن عبدالرحمن، وأمرنا أن نحجّ عنه، فكانت بيننا مائة دينار أثلاثاً فيما بيننا...) الحديث(4).

ومنها: خبر أحمد بن محمّد بن مطهر، قال: «كتبتُ إلى أبي محمّد عليه السلام إنّي دفعتُ إلى7.

ص: 54


1- الكافي: ج 4/315، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/202، ح 14623.
2- الكافي: ج 4/317، ح 10، وسائل الشيعة: ج 11/202، ح 14625.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/413، ح 81، وسائل الشيعة: ج 11/175، ح 14559.
4- تهذيب الأحكام: ج 8/40، ح 40، وسائل الشيعة: ج 11/208، ح 14637.

ستّة أنفس مائة دينار وخمسين ديناراً ليحجّوا بها...؟

إلى أن قال: فكتب عليه السلام لا تعرض لمن لم يأتك، ولا تأخذ ممّن أتاك شيئاً ممّا يأتيك، والأجر فقد وقع على اللّه عَزَّ وَجَلّ »(1). ونحوهما غيرهما.

وفي «الجواهر»: (فقد اُحصي عن علي بن يقطين في عامٍ واحد ثلاثمائة مُلبّياً، ومائتان وخمسون وخمسمائة وخمسون)(2).

وأمّا الحَجّ الواجب: فإنْ كان في ذمّة الميّت أو الحَيّ الممنوع عن المباشرة حجّتان مختلفتان بالنوع، كحجّة الإسلام، وحجّة النذر، أو متّحدتان من حيث النذر، كحجّتين للنذر، جاز نيابة نائبين في سنة واحدة.

وكذا يجوز إذا كان إحداهما واجبة والاُخرى مستحبّة، بل يجوز أن ينوب شخصان عنه في حَجّ واجب واحد، كحجّة الإسلام في عام واحد، وإنْ كان أحدهما أسبق شروعاً، فإن ذمّة المنوب عنه لا تفرغ بالشروع، وعليه فيجوز ما دامت الذمّة مشغولة لكلّ أحدٍ النيابة عنه.

وبعبارة أُخرى : إنّ التكليف بالنيابة متوجّهٌ إلى جميع النّاس ما دامت الذمّة مشغولة به، نعم إذا كان أحدهما أسبق ختاماً، ولا يحتمل في حجّه البطلان، بطل فعل اللّاحق، لعدم بقاء المورد، وأمّا إذا كان يحتمل بطلانه فلا بأس بإتمامه رجاءً واحتياطاً.

***8.

ص: 55


1- الفقيه: ج 2/422، ح 2868، وسائل الشيعة: ج 11/180، ح 14575.
2- جواهر الكلام: ج 17/388.

موت الأجير قبل تمام الحَجّ

المسألة الثالثة: إذا مات النائب قبل الإتيان بالمناسك:

فتارةً : يكون ذلك قبل الإحرام.

وأُخرى : يكون بعد الإحرام ودخول الحرم.

وثالثة: يكون بعد الإحرام وقبل الدخول في الحرم.

أقول: قبل الدخول في البحث عن هذه المواضع، ينبغي التنبيه على أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ ما تقدّم منا من إمكان القول بكفاية الاستيجار في فراغ ذمّة المنوب عنه، إنّما هو فيما إذا قصّر الأجير في الإتيان به، وأمّا إذا لم يقصّر ولكن الوقت لم يكن صالحاً له، لموته قبل تمام الحَجّ ، فالظاهر خروجه عن تحت تلك الأخبار، ولعلّ الاعتبار أيضاً يساعد الفرق بينهما.

الأمر الثاني: إنّ النصوص الواردة في المقام التي استُدلَّ بها في هذه المسألة، واردة في الاستيجار، ولا تشمل النيابة التبرّعيّة، كما أنّ مورد كلام الأصحاب أيضاً ذلك، فإسراء الحكم المخالف للقاعدة إليها، يتوقّف على إحراز المناط وإلّا فلا.

أقول: إذا عرفت ذلك، يقتضي المقام البحث عن الصور المذكورة:

الصورة الاُولى: لا خلاف بينهم في عدم الإجزاء في هذه الصورة، والشاهد على ذلك ما ادّعاه صاحب «المستند» بقوله: (لم يُجزىء عنه إجماعاً للأصل والإجماع..) انتهى (1)، وكذلك صاحب «الجواهر»: (قطعاً، بل إجماعاً بقسميه)(2)، ولكن موثّق إسحاق الآتي يدلّ على الإجزاء، لو مات في الطريق مطلقاً، ولعلّ إجماع الأصحاب

ص: 56


1- مستند الشيعة: ج 11/121.
2- جواهر الكلام: ج 17/368.

يصلح لتقيّيده.

وأمّا نصوص كفاية الاستيجار في فراغ ذمّة المنوب عنه، فقد عرفت عدم شمولها للمقام، واللّه العالم.

وأمّا الصورة الثانية: وهي لو مات النائب بعد دخول الحرم والإحرام، ففي «الجواهر» في شرح قول المحقّق: (فقد اجزأت عنه)، قال: (بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه..) انتهى (1).

وفي «التذكرة»: (أجزأه ما فعله عن نفسه وعن المنوب عنه، وسقط الحَجّ عن المنوب عنه عند علمائنا..) انتهى (1).

وفي «المستند»: (بلا خلافٍ يوجد، بل بلا خلافٍ على الظاهر المصرّح به في «التنقيح» و «المفاتيح» وشرحه و «الحدائق»، بالوفاق كما في «الذخيرة»، بل بالإجماع كما عن «المسالك» و «المنتهى » وجماعة، بل بالإجماع المحقّق..) انتهى (3).

وقد استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع، حيث استدلّ به جماعة منهم الفاضل النراقي(4).

وفيه: ما تقدّم منّا مراراً من أنّ الإجماع الذي يصحّ الاستناد إليه في الحكم، هو الإجماع التعبّدي، وهو الذي يكون كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام، وأمّا مع معلوميّة مدرك المجمعين، فلا يعتمد على الإجماع.

الوجه الثاني: ما استدلّ به سيّد «المدارك»(2) وصاحب «الجواهر»(6)، وهو صحيحا ضُريس والعُجْلي:8.

ص: 57


1- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/153. (3و4) مستند الشيعة: ج 11/122.
2- مدارك الأحكام: ج 7/118.

أمّا ضريس فقد روى عن أبي جعفر عليه السلام: «في رجلٍ خرج حاجّاً حَجّة الإسلام فمات في الطريق ؟ فقال: إنْ مات في الحرم فقد أجزأت عنه حَجّة الإسلام، وإنْ مات دون الحرم فليقض عنه وليّه حَجّة الإسلام»(1).

وأمّا خبر بريد العجلي، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن رجلٍ خرج حاجّاً ومعه جمل له وزاد ونفقة، فمات في الطريق ؟ قال عليه السلام: إنْ كان صرورة ثمّ مات في الحرم فقد أجزأ عنه حَجّة الإسلام، وإنْ كان ماتَ وهو صرورة قبل أن يحرم جَعَل جَمَله وزاده ونفقته وما معه في حَجّة الإسلام، الحديث)(2).

وقرّب الاستدلال بهما في «الجواهر» بقوله: (وإنْ كان موردهما الحَجّ عن نفسه، إلّاأنّ الظاهر ولو بمؤونة فهم الأصحاب، كون ذلك كيفيّة خاصّة في الحَجّ نفسه، سواءٌ كان عن نفسه أو عن الغير، وسواءٌ كان بالنذر أو غيره) انتهى (3).

ولكن يرد عليه: أنّ البناء عليكون الحكم الوارد في موردٍ خاص حكماً للطبيعة بإلغاء الخصوصيّة، يحتاج إلى دليل، ومجرّد إفتاء الأصحاب لا يصلح منشئاً لذلك.

قال صاحب «المدارك»:(3) في تقريب الاستدلال بهما: أنّه إذا ثبت ذلك في حقّ الحاجّ عن نفسه، ثبت في نائبه، لأنّ فعله كفعل المنوب عنه، وتبعه صاحب «الجواهر»(5) رحمه الله في هذا التقريب أيضاً.

وفيه أوّلاً: ما عرفت في حقيقة النيابة من أنّ عمل النائب يوجبُ سقوط ذمّة المنوب عنه لا أنّ عمله كعمله.8.

ص: 58


1- الكافي: ج 4/276، ح 10، وسائل الشيعة: ج 11/68، ح 14261.
2- الكافي: ج 4/276، ح 11، وسائل الشيعة: ج 11/68، ح 14262. (3و5) جواهر الكلام: ج 17/367.
3- مدارك الأحكام: ج 7/118.

وثانياً: حتّى لو سُلّم ذلك فإنّ ظاهر الخبرين اختصاص الحكم بما إذا أوجد الحَجّ بنفسه وقام بأداءه شخصيّاً، وشمول الحكم لما هو منزّلٌ منزلته يتوقّف على دليل خاص، أو عموم لدليل التنزيل، وهما مفقودان.

وأمّا دعوى تنقيح المناط فعهدة إثباتها على مدّعيها، كما أنّ دعوى أنّ بالإستيجار تتّسع ذمّة المنوب عنه بضمّ ذمّة النائب إليها وإلّا فما فيها لا يتغيّر، فهو مشمول للخبرين. كلامٌ شعري لا تبتني الأحكام الشرعيّة عليه.

الوجه الثالث: ما استدلّ به جماعة، من أنّ طائفة من النصوص تدلّ عليه:

منها: موثّق إسحاق بن عمّار - الصحيح عن من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه - عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «سألته عن الرّجل يموت، فيُوصي بحجّة، فيعطي رجلٌ دراهم يحجّ بها عنه، فيموت قبل أن يحجّ ثمّ أعطى الدراهم غيره ؟ فقال عليه السلام: إنْ مات في الطريق أو بمكّة قبل أن يقضي مناسكه، فإنّه يجزي عن الأوّل.

قلت: فإنْ ابتُلي بشيءٍ يفسد عليه حجّه حتّى يصير عليه الحَجّ من قابل، أيجزي عن الأوّل ؟ قال: نعم، قلت: لأنّ الأجير ضامن للحَجّ؟ قال: عليه السلام نعم»(1).

ومنها: مرسل الحسين بن عثمان، عنه عليه السلام: «في رجلٍ أعطى رجلاً ما يحجّه فحَدَث بالرجل حَدَثٌ؟ فقال عليه السلام: إنْ كان خرج فأصابه في بعض الطريق فقد أجزأت عن الأوّل وإلّا فلا»(2).

ومنها: مرسل الحسين بن يحيى ، عمّن ذكره، عنه عليه السلام: «في رجلٍ أعطى رجلاً مالاً يحجّ عنه فمات ؟ قال عليه السلام: فإنْ مات في منزله قبل أن يخرج فلا يجزي، وإنْ مات3.

ص: 59


1- تهذيب الأحكام: ج 5/417، ح 96، وسائل الشيعة: ج 11/185، ح 14581.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/418، ح 97، وسائل الشيعة: ج 11/186، ح 14583.

في الطريق فقد أجزأ عنه»(1).

أقول: وأُورد على الاستدلال بها بإيرادين:

الإيراد الأوّل: أنّ مقتضى إطلاقها هو الإجزاء، وإنْ مات النائب قبل الإحرام، والأصحاب غير ملتزمين بذلك ولم يفتوا به.

واُجيب عنه: بجوابين:

الجواب الأوّل: أنّه يُقيّد إطلاقها بالإجماع.

وفيه: - مضافاً إلى أنّه تخصيصٌ بعيد، كما نبّه عليه صاحب «الذخيرة»(2)، وما في «المستند» في الإيراد على «الذخيرة» بقوله: (إنّه غفلة عن حال بلد السؤال الذي هو المدينة، فإنّ محلّ الإحرام فيها قريبٌ منها، معدود من حدودها)(3) غريبٌ ، غريب، فإنّ السائل هو إسحاق وكان يسكن بغداد، والظاهر من السؤال إمّا الإطلاق أو عن من في بلده - أنّ الإجماع قد مرّ عدم كونه تعبّديّاً، بل إنّما أفتى الفقهاء بذلك من جهة الجمع بين النصوص والاستفادة منها، فكما لا يُعتمد عليه في الحكم، كذلك لا يُعتمد عليه في التقيّد والتخصيص.

الجواب الثاني: ما في «العروة»(4) من أنّه يُقيّد إطلاقها بالخبر المرسل الذي رواه المفيد في «المقنعة»، قال:

«قال الصادق عليه السلام: مَن خرج حاجّاً فمات في الطريق، فإنّه إنْ كان مات في الحرم، فقد سقطت عنه الحجّة، فإنْ مات قبل دخول الحرم، لم يسقط عنه الحَجّ ،0.

ص: 60


1- تهذيب الأحكام: ج 5/461، ح 250، وسائل الشيعة: ج 11/186، ح 14584.
2- ذخيرة المعاد: ج 3/568.
3- مستند الشيعة: ج 11/123.
4- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/539 و 540.

وليقض عنه وليّه»(1). الشامل للحاجّ عن غيره.

ولا يرد عليه: أنّه مرسلٌ ضعيف لا يُعتمد عليه، واستناد الأصحاب إليه غير ثابت.

فإنّه يدفعه: ما تقدّم منّا غير مرّة من أنّ المرسل إنْ كان من قبيل نسبة المرسل الخبر إلى المعصوم جزماً كان حجّة، لأنّه توثيق للواسطة، إذ مع عدم وثاقته يكون النقل هكذا كذباً، والمرسل غير الحجّة هو ما لم يُنسب إلى المعصوم كذلك، والمفيد رحمه الله نَسب ذلك إلى الصادق عليه السلام فهو حجّة.

كما أنّه لا يرد عليه: أنّ ما ورد في ذيله: (فإنْ مات قبل دخول الحرم...

وليقض عنه وليّه) ظاهرٌ في الاختصاص بالأصيل، إذ الأجير لا قضاء عنه، فإنّه إنْ كانت المباشرة معتبرة، واعتبرت في ضمن العقد بطلت في الفرض، لذهاب الموضوع، وإلّا فهو أداء عنه لا قضاء، فإنّه أيضاً يندفع بأنّ القضاء في لسان الأخبار يُراد به الفعل الأعمّ من القضاء المصطلح.

ولكن يرد عليه: أنّ المرسل كما يكون أخصّ من النصوص المتقدّمة من هذه الجهة، يكون أعمّ من جهة أُخرى ، وهي شموله للأصيل والنائب، واختصاصها بالنائب، ومورد الاجتماع موت النائب قبل الإحرام، فإنّ النصوص المتقدّمة تدلّ على الإجزاء، وهذا المرسل يدلّ على عدمه، وعليه فإنْ بنينا على أنّ العامين من وجه أيضاً يدخلان في أخبار الترجيح والتخيّير، فإنّه لاريب في تقديم المرسل على تلك النصوص، كما سيأتي.

الإيراد الثاني: أنّه يعارضها موثّق عمّار الساباطي، عن الإمام الصادق عليه السلام:5.

ص: 61


1- وسائل الشيعة: ج 11/69، ح 14264، المقنعة: ص 445.

«في رجل حَجّ عن آخر ومات في الطريق ؟ قال عليه السلام: قد وقع أجره على اللّه، ولكن يوصي فإنْ قَدَر على رجل يركب في رحله ويأكل زاده فعل»(1).

أقول: وللأصحاب في الجمع بينها وبينه مسالك:

المسلك الأوّل: ما أفاده بعض الأعاظم من المعاصرين(2) من أنّ موثّق إسحاق الذي هو العمدة من تلك النصوص نصٌّ في الإجزاء إذا مات بعد دخول الحرم، لأنّه القَدَر المتيقّن من الإجزاء، إذ لو كان الموت في أوّل الطريق سبباً للإجزاء، لكان الموت بعد دخول الحرم سبباً له قطعاً، ولكن بالنسبة إلى ما قبل الدخول في الحرم ظاهرٌ، وأمّا موثّق عمّار فهو نصٌّ في عدم الإجزاء بالنسبة إلى ما قبل الدخول في الحرم، ولو بقرينة الإجماع، لأنّه هو القدر المتيقّن من عدم الإجزاء، فيرفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر، والنتيجة هو التفصيل بين الموت قبل الدخول في الحرم وبعده في الحكم بالإجزاء في الثاني وعدمه في الأوّل، كما هو المعروف بين الأصحاب.

وفيه: أنّه لم ترد آية ولا رواية دالّة على لزوم تقديم النّص على الظاهر، بل إنّما يلتزم به لكونه جمعاً عرفيّاً، وضابط كون الجمع عرفيّاً جمع المتعارضين في بادئ النظر في كلام واحد، بأن يرى العرف أحدهما قرينةً على الآخر، وأن لا تهافت بينهما، فأيّ جمع اجتمع فيه هذا الملاك كان ذلك الجمع عرفيّاً وإلّا فلا.

وفي المقام إذا جمعنا الخبرين، يرى العرف تهافتاً بينهما، ولا يرى أحدهما قرينةً على الآخر، ولذلك لا يعدّ جمعاً عرفيّاً.

المسلك الثاني: أنّ موثّق عمّار نصٌّ في المطلوبيّة، وظاهرٌ في الوجوب، وموثّق1.

ص: 62


1- تهذيب الأحكام: ج 5/461، ح 253، وسائل الشيعة: ج 11/186، ح 14585.
2- الظاهر أنّ المراد به السيّد الخوئي في كتاب الحَجّ : ج 2/38-41.

إسحاق صريحٌ في عدم الوجوب، فيُحمل موثّق عمّار على الاستحباب.

أقول: وهذا لا بأس به، إذ لو جمعنا بين قوله في موثّق إسحاق: (فإنّه يجزي عن الأوّل) وبين قوله في موثّق عمّار: (ولكن يوصي) فإنّ العرف لا يرى تهافتاً بينهما، ويرون الأوّل قرينةً على حمل الأمر بالإيصاء على الاستحباب.

ولكن الحقّ في المقام أن يُقال: إنّ في المقام طوائف من النصوص:

الطائفة الأُولى : ما دلّ على الإجزاء لو مات في الطريق مطلقاً، وهي موثّق إسحاق والمرسلان.

الطائفة الثانية: ما دلّ على عدم الإجزاء مطلقاً، ولو لم يكن غير هاتين الطائفتين، لكنّا حاملين للثانية على الاستحباب.

أقول: ولكن في المقام طائفة ثالثة، وهي مرسلة المفيد المعتبرة المفصّلة بين الموت قبل الدخول في الحرم، والموت بعده، والحكم بعدم الإجزاء في الأوّل، وبه في الثانية، ونسبتها مع كلّ من الطائفتين وإنْ كانت عموماً من وجه كما مرّ، إلّاأنّها تقدّم عليهما بناءً على المختار من الرجوع في تعارض العامين من وجه إلى نصوص الترجيح، فإنّ الشهرة الفتوائيّة التي هي أوّل المرجّحات مع المرسلة، والمرجّحات الاُخرى إنّما هي في طول ذلك على المختار من الترتيب بينها، وعليه فيقيّد بذيلها الطائفة الأُولى ، وبصدرها الطائفة الثانية، فيكون المتحصّل أنّه إن مات بعد الدخول في الحرم سَقَط الحَجّ عنه، وأجزأ عن المنوب عنه، وإن مات قبله لم يجزئ.

وأمّا الصورة الثالثة: وهي ما لو مات بعد الإحرام وقبل الدخول في الحرم، ففيها قولان:

ص: 63

1 - الإجزاء: نُسب إلى الشيخ في «المبسوط»(1)، و «الخلاف»(2)، والحِلّي في «السرائر»(3)، وفي «المستند»: (بل عن «الخلاف»: أصحابنا لا يختلفون في ذلك)(4).

2 - وعدم الإجزاء: اختاره صاحب «الجواهر»(5)، ونسب إلى المشهور، وهو الأظهر بناءً على ما عرفت من حجيّة مرسل «المقنعة»، وأنّه يُقيّد إطلاق ما دلّ على الإجزاء لو مات في الطريق مطلقاً.

ومنشأ الاختلاف في هذه الصورة على فرض عدم حجيّة المرسل، هو الاختلاف في الدليل على الإجزاء في الصورة السابقة:

فإنْ كان المدرك هو الإجماع، لزم البناء على عدمه في هذه الصورة لعدمه.

وإنْ كان هو النصوص الواردة في الحاجّ عن نفسه، لزم البناء على عدم الإجزاء أيضاً، لما عرفت في تلك المسألة.

وإنْ كان المدرك هو موثّق إسحاق مع تقيّيد إطلاقه بالإجماع، لزم البناء على الإجزاء، لعدم الإجماع فيه، فالموثّق هو المحكّم.

***0.

ص: 64


1- المبسوط: ج 1/323.
2- الخلاف: ج 2/390.
3- السرائر: ج 1/628.
4- مستند الشيعة: ج 11/124.
5- جواهر الكلام: ج 17/370.

موت الأجير قبل تمام الحَجّ

المسألة الرابعة: إذا استؤجر شخصٌ للحَجّ فمات في أثناء الحَجّ :

فتارةً : يكون أجيراً في إفراغ ذمّة المنوب عنه.

وأُخرى : يكون أجيراً في الإتيان بطبيعة الحَجّ .

وثالثة: يكون أجيراً في الإتيان بالأعمال المخصوصة خاصّة.

ورابعة: يكون أجيراً في الأعمال مع المقدّمات، ومنها طيّ الطريق.

وخامسة: يكون أجيراً في الحَجّ من دون أن يصرّح بخروج المشي أو دخوله.

الصورة الأُولى : لو مات بعد الإحرام وبعد دخوله الحرم، استحقّ تمام الاُجرة، كما هو المشهور بين الأصحاب، وعن «المسالك» نسبته إلى اتّفاق الأصحاب(1)، والوجه فيه واضحٌ ، لتحقّق المستأجر عليه.

ودعوى: بطلان الإجارة المزبور، لأنّ فراغ الذمّة أمرٌ قهريّ ، وليس من قبيل المسبّب التوليدي لفعل الأجير، إذ الشارع الأقدس يحكم بالفراغ تفضّلاً لو مات وإنْ لم يأت بالمناسك، فلا يصحّ الاستيجار عليه، فلا محالة تكون الإجارة على الأعمال التي هي تحت قدرة المكلّف واختياره، ولعلّه لذلك قال الشهيد الثاني في محكي «المسالك»: (واتّفق الأصحاب على استحقاقه جميع الاُجرة)، فهذا الحكم ثبت على خلاف الأصل.

مندفعة: بأنّ الشارع الأقدس حكم بفراغ الذمّة لو مات بعد الدخول في الحرم، فهو وإنْ كان قهريّاً إلّاأنّ سببه اختياري، نظير ما لو أتى بجميع الأعمال، فإنّه حينئذٍ

ص: 65


1- مسالك الأفهام: ج 2/169.

قهري، وعليه فالموت وإنْ كان خارجاً عن تحت القدرة، إلّاأنّ الإتيان بالمناسك قبله داخلٌ تحت الاختيار، والفراغ بالنسبة إليها بعد جعل الشارع من قبيل المسبّب التوليدي، فإنّ إيجاد تمام الموضوع حينئذٍ باختيار المكلّف وبفعله، وله أن يأتي بالمناسك، فيحكم بفراغ الذمّة، وأن لا يأتي به فلا يحكم به.

وعليه، فلا مانع من جعله متعلّق الإجارة، فيستأجر على إفراغ الذمّة، فلو أفرغ ذمّة المنوب عنه استحقّ تمام الاُجرة، وإنْ مات قبل ذلك لا يستحقّ شيئاً، لعدم تحقّق شيء من العمل المستأجر عليه.

وما نُسب إلى الأصحاب من أنّه يستعاد من الاُجرة ما قابل المتخلّف ذاهباً وعائداً، إنّما هو في غير هذه الصورة.

الصورة الثانية: لو مات بعد الدخول في الحرم وقبل الإحرام، استحقّ تمام الاُجرة، لأنّه أتى بالحَجّ ، وإنْ مات قبله يأتي فيه ما سيأتي في الصورة الثالثة.

الصورة الثالثة:

1 - لو مات بعد الإحرام وبعد دخول الحرم، فالمنسوب إلى الأصحاب أنّه يستحقّ تمام الاُجرة، وعن «المعتبر»: (أنّه المشهور بينهم)(1)، كما قال صاحب «الحدائق»: (عن «المسالك» و «الخلاف» دعوى الإجماع عليه، والشهيد الثاني قدس سره مع اعترافه بأنّه خلاف القاعدة، التزم به للإجماع، والمحقّق في محكي «المعتبر» أفاد إن ثبت إجماعٌ أو نصٌّ ، وإلّا اتّجهت استعادة ما بإزاء الباقي..) انتهى (2).ة.

ص: 66


1- المعتبر: ج 2/768.
2- حكاه الفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 5/157 (ط. ج) في المطلب السادس: في شرائط النيابة، بتصرّف. والسيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 11/26، في حكم موت النائب في الطريق من حيث استحقاق الأُجرة.

وما أفاده العَلَمان متين، فإنّ مقتضى قاعدة الإجارة الاستحقاق من الإجارة بالنسبة إلى ما أتى به من الأعمال، فإنّ الحاصل بعض ما استؤجر عليه لا تمامه، فتوزّع الاُجرة على الجميع، ويستحقّ من الاُجرة على النسبة، إلّا أنّ اتّفاق الأصحاب على استحقاق تمام الاُجرة مع عدم نصّ في المقام يوجب الاطمينان بالحكم.

وما أفاده بعض الأعاظم: من أنّه لا إشكال في دعوى الاتّفاق والإجماع على الحكم في الجملة، أمّا في خصوص ما إذا كانت الإجارة على نفس العمل فغير ظاهرة، ولا مجال للاعتماد عليها(1).

يدفعه: أنّ الفرد الغالب الخارجي الذي هو موضوع حكم الأصحاب، هو الإجارة على العمل لا إفراغ الذمّة، وهو من قبيل الدّاعي. وإنْ مات قبل الشروع في الأعمال، لا يستحقّ شيئاً لفرض الإجارة على العمل.

وما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله:(2) من أنّ مقتضى أصالة احترام عمل المسلم الذي لم يقصد التبرّع به - بل وقع مقدّمةً للوفاء بالعمل المستأجر عليه فلم يتيسر له ذلك - استحقاق الاُجرة عليه على نحو بعض العمل المستأجر عليه الذي لا استقلال له كبعض الصلاة.

يرد عليه: أنّ عمل المسلم محترمٌ إذا لم يُسقط احترامه، ومن آجر نفسه للأعمال خاصّة، وأخرج طيّ الطريق من متعلّق الإجارة، فقد أسقط احترام عمله بنفسه، ولذلك لا يستحقّ له شيئاً.

وأيضاً: ما اُفيد من أنّ من أسباب الضمان، الاستيفاء بالأمر، فمن عمل بأمر6.

ص: 67


1- مستمسك العروة الوثقى : ج 11/26.
2- جواهر الكلام: ج 17/376.

غيره فقد استوفى ذلك الغير عمله، فيكون مضموناً عليه، وفي المقام وإنْ لم يأمر المستنيب بطيّ الطريق نفساً، إلّاأنّه مأمورٌ به بالأمر الغيري ممّا يقتضي الضمان.

يرد عليه أوّلاً: النقض بما لو أتى بتمام الأعمال، فإنّ لازم ذلك أن يستحقّ تمام الاُجرة للعمل، ويستحقّ اُجرة المثل لطيّ الطريق لكونه بأمره وخارجاً عن مورد الإجارة.

وثانياً: بالحلّ وهو أنّ الأمر الغيري - سيّما المبنيّ على المجّانيّة - لا يعدّ من أسباب الضمان.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا مورد لقاعدة الغرور المستفادة من قوله: (المغرور يرجعُ إلى من غَرّه).

2 - وإن مات بعد الشروع في الأعمال، وقبل أن يدخل الحرم:

فعن «المدارك»(1) وغيرها، وعن «النافع»(2) و «القواعد»(3) في نظير المسألة التوزيع على ما أتى به من الأعمال بعد الإحرام، وأنّه يستحقّ بنسبة ما فعله إلى الجملة، وعن بعضهم نسبة ذلك إلى تصريح الأصحاب.

وذهب صاحب «الجواهر» رحمه الله(4) إلى أنّه وإنْ لم يستحقّ من المُسمّى بالنسبة، إلّا أنّه يستحقّ اُجرة المثل لما أتى به.

واختار جماعةٌ من الأصحاب عدم استحقاقه شيئاً.

فقد استدلّ للأوّل: بأنّ الإجارة وقعت على مجموع العمل، فكلّ جزءٍ من أجزاء0.

ص: 68


1- مدارك الأحكام: ج 7/119.
2- المختصر النافع: ص 77.
3- قواعد الأحكام: ج 1/410.
4- جواهر الكلام: ج 17/370.

العمل جزءٌ من مورد الإجارة، وبإزائه مقدارٌ من الاُجرة المسمّاة فيستحقّه، نظير تبعّض الصفقة في باب البيع.

وأورد عليه: بأنّ بعض مورد الإجارة إنّما يستحقّ الأجير ما يقابله من الاُجرة المسمّاة إنْ كان له بانفراده ماليّة وقيمة، وإلّا فلا يستحقّ شيئاً، كما هو الشأن في تبعّض الصّفقة في باب البيع، فإنّه يستحقّ ما يقابله من المال لا مطلقاً، بل إذا كان له قيمة بانفراده، مثلاً لو استؤجر على الصلاة، فأتى بركعة ثمّ أبطلت صلاته، فإنّه لا يستحقّ بإزاء ما أتى به من الركعة شيئاً، والمقام من هذا القبيل، فإنّ بعض أعمال الحَجّ قبل الدخول في الحرم لا أثر له ولا قيمة، فلا يوزّع عليه الاُجرة.

أقول: إنّ عدم الأثر:

إنْ كان بمعنى عدم ترتّب الغرض من الإجارة، وهو سقوط ما في الذمّة على بعض الحَجّ ، فهو مسلمٌ ، لكنّه وحده لا يمنع من استحقاق الاُجرة بالنسبة، فإنّ الميزان في الصحّة واستحقاق العوض في باب المعاملات، ليس هو الأغراض والدواعي، ألا ترى أنّ من اشترى ثوباً ليلبسه فمات بعد الاشتراء، يستحقّ البائع تمام الثمن، وإنْ لم يترتّب على الشراء الغرض والدّاعي من المعاملة.

وإنْ كان المراد عدم ترتّب أثر عليه أصلاً، ولأجله لا ماليّة له ولا قيمة، فأكل المال بإزائه يعدّ أكلاً للمال بالباطل، فيرد عليه أنّه يترتّب عليه أثرٌ وهو ترتّب الثواب على ذلك العمل، وذلك يوجب ماليّته بلا كلام، ونظير المقام ما لو استؤجر على الصلاة، فأتى بركعةٍ ومات، فإنّه يستحقّ الاُجرة بمقدار الركعة، وبهذا يمتاز المقام عن تبعّض الصَّفقة في باب البيع.

نعم، إذا وقعت الإجارة على المجموع بقيد كونه مفرغاً للذمّة، لا يستحقّ من

ص: 69

الاُجرة ما يقابل ما أتى به، وهو واضح.

أقول: ثمّ لو أغمضنا عمّا ذكرناه، فما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله متينٌ ، فإنّه لم يأتِ بالعمل مجّاناً، بل أتى به استجابةً لأمر المستنيب، فلا ينبغي أن يذهب عمله هدراً، وفي استحقاق اُجرة المثل لا يعتبر الماليّة والقيمة، كما هو واضح.

نعم، إذا كانت الإجارة واقعة على مجموع العمل بقيد كونه موجباً لفراغ الذمّة، يكون بعض العمل الذي أقدم العامل على الإتيان به مجّاناً على تقدير عدم ضَمّ البقيّة إليه، ولعلّه بما ذكرناه يمكن الجمع بين كلمات النافين والمثبتين، واللّه تعالى أعلم.

الصورة الرابعة: وهي ما لو كانت الإجارة على الأعمال مع طيّ الطريق:

1 - فإنْ كان طيّ الطريق مأخوذاً جزءً لمورد الإجارة، فحكم المشي إلى الحَجّ حينئذٍ حكم الأعمال بعد الإحرام، وقبل الدخول في الحرم، ويجري فيه ما ذكرناه في تلك الأعمال طابق النعل بالنعل.

2 - وأمّا إنْ كان مأخوذاً شرطاً، بأن وقعت الإجارة على العمل المقيّد بالذهاب، فقد يستشكل في أخذه قيداً، نظراً إلى أنّ الذهاب ضروري وممّا لابدَّ منه، فلا إطلاق له كي يحسن تقيّيده.

ولكن يندفع ذلك: بأنّه لو تمّ فإنّما هو فيما لو أخذ الذهاب المطلق قيداً لا الذهاب الخاص، وهو ما كان بنيّة النيابة، فلا مانع من أخذه قيداً.

وكيف كان، ففي «الشرائع»: (ولو مات قبل ذلك لم يُجزيء، وعليه أن يُعيد من الاُجرة ما قابل المتخلّف من الطريق ذاهباً وعائداً..) انتهى (1)، وأمّا صاحب «الحدائق» فقد نسب استحقاق الاُجرة بالنسبة إلى تصريح الأصحاب(2)، وأمّا0.

ص: 70


1- شرائع الإسلام: ج 1/170.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/260.

صاحب «الجواهر» رحمه الله فقد اختار استحقاق اُجرة المثل له(1).

واستدلّ للأوّل: في «الحدائق»(2) بأنّ مقتضى قواعد الإجارة، وإنْ كان عدم الاستحقاق، إلّاأنّه يشهد به موثّق عمّار الساباطي، عن إمامنا الصادق عليه السلام: «في رجلٍ حَجّ عن آخر، ومات في الطريق ؟ قال: وقد وقع أجره على اللّه، ولكن يوصي، فإنْ قدر على رجل يركب في رحله ويأكل زاده فعل»(3).

بتقريب: أنّه يدلّ على أنّ ما مضى من مؤونة الطريق، كان مستحقّاً للميّت، فلم يأمر باستعادته منه، فيستكشف من ذلك استحقاقه له.

أقول: لا بأس به إلّاأنّه لا يدلّ على عدم استعادته منه، من جهة كونه بعض الاُجرة المسمّاة، أو لكونه اُجرة المثل، بل يمكن أن يقال بالثاني، إذ الاُجرة المسمّاة ربما تزاد على مقدار ما صرفه، وعليه فينطبق الخبر على القاعدة، فإنّ عمل المسلم محترمٌ لا يذهب هَدراً، والمفروض أنّه لوحظ المشي قيداً في الإجارة، لا مجّاناً، كي يُقال إنّه أقدم عليه مجّاناً.

فإنْ قيل: إنّ مقتضى عدم الاستفصال، استحقاق ما صرفه حتّى إذا كانت الإجارة على الأعمال خاصّة.

قلنا: ظاهر الخبر كون الإجارة متعلّقة بالحَجّ البلدي، لاحظ قوله عليه السلام: (حَجّ عن آخر ومات في الطريق)، وعليه، فما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله هو الصحيح.

الصورة الخامسة: وهي ما لو أوقع الإجارة على الحَجّ من دون أن يصرّح بخروج المشي إلى بيت اللّه أو دخوله:5.

ص: 71


1- جواهر الكلام: ج 17/370.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/263.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/461، ح 253، وسائل الشيعة: ج 11/186، ح 14585.

أقول: أمّا بالنسبة إلى ما لو مات بعد الإحرام وبعد دخول الحرم، أو قبل دخول الحرم وبعد الإحرام، فالحكم هو ما في الصورتين السابقتين على هذه الصورة.

وأمّا بالنسبة إلى خصوص المشي:

1 - فعن «النهاية»(1)، و «الكافي»(2)، والمقنعة»(3)، و «المهذّب»(4)، و «الغُنية»(5):

أنّه يستحقّ بنسبة ما فعل من الذهاب إلى المجموع منه ومن أفعال الحَجّ .

2 - أمّا في «الشرائع»(6)، وعن «القواعد»(7)، و «الإرشاد»(8) وغيرها، فنسبته إلى ما ذكر مع العود أيضاً.

3 - وأمّا في «الإيضاح»(9)، و «المبسوط»(10)، و «السرائر»(11)، و «المختلف»(12)، و «التذكرة»(13)، و «الروضة»(14)، و «المدارك»(15)، و «الذخيرة»(16) وغيرها(17):8.

ص: 72


1- النهاية للشيخ الطوسي: ص 278.
2- الكافي للحلبي: ص 220.
3- المقنعة: ص 443.
4- المهذّب: ج 1/268.
5- غنية النزوع: ص 197.
6- شرائع الإسلام: ج 1/170.
7- قواعد الأحكام: ج 1/413.
8- إرشاد الأذهان: ج 1/313.
9- إيضاح الفوائد: ج 1/281 و 282.
10- المبسوط: ج 1/323.
11- السرائر: ج 1/629.
12- مختلف الشيعة: ج 4/17.
13- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/153.
14- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/188.
15- مدارك الأحكام: ج 7/119.
16- ذخيرة المعاد: ج 3/569.
17- رياض المسائل، (ط. ج): ج 6/98.

عدم استحقاق شيء من الاُجرة.

4 - وفي «الجواهر»(1) وعن «كشف اللّثام»(2): استحقاق اُجرة المثل.

واستدلّ للأوّل: بأنّ إطلاق الإجارة على الحَجّ يقتضي دخول الذهاب، بل والإياب على نحو الجزئيّة، ولذا نرى بالوجدان تأثير قُرب الطريق وبعده في القيمة، وأنّه لا يبذل بإزاء الحَجّ الميقاتي ما يبذل بإزاء الحَجّ البلدي، كما لا يبذل بإزاء الحَجّ من البلاد القريبة إلى مكّة ما يبذل بإزاء الحَجّ من البلاد البعيدة، كما أنّه لا يبذل لمن لا يريد العود من مكّة ما يبذل لمن يريد العود، وهذا كلّه كاشفٌ عن دخل الذهاب بل والإياب في متعلّق الإجارة.

وفيه: ربما يكون بعض القيود والأوصاف دخيلاً في زيادة قيمة المقيّد، ومع ذلك لا يؤخذ جزءً لمورد المعاملة، ولعلّ مقدّمة الحَجّ كذلك، فلا صارف عن ظهور الحَجّ في الأعمال المخصوصة.

لا يُقال: إنّ حَجّ البيت معناه قصده والتوجّه إليه، فيدخل طيّ الطريق فيه بما له من المفهوم.

فإنّه يُقال: إنّ مقصود الطرفين من جعل الحَجّ مورداً للإجارة، هو الحَجّ بما له من الحقيقة المتشرعيّة، وهي الأعمال الخاصّة.

واستدلّ للثاني: بأنّ مقدّمات الأعمال المستأجر عليها لا تكون داخلة في الإجارة، ألا ترى أنّ من يستأجر عاملاً لبناء داره يريد خروجه من سكناه ومجيئه إلى موضع العمل، وليس ذلك ممّا استؤجر له قطعاً، لا عرفاً ولا عادةً ، والحال في8.

ص: 73


1- جواهر الكلام: ج 17/370.
2- كشف اللّثام، (ط. ج): ج 5/158.

العبادات كذلك، فمن استؤجر للصلاة لا يكون تحصيله الماء والتوضّي داخلاً في مورد الإجارة، والحَجّ من هذا القبيل، فطيّ الطريق إلى الميقات بنفسه لا ماليّة له.

نعم، هو يوجب بذل المال بإزاء الحَجّ الواقع بعده أزيد ممّا يبذل بإزاء الحَجّ الميقاتي، فلا يوزّع عليه الاُجرة، ولا يعدّ من قبيل الأوصاف، فكما لا تكون هي جزء للمبيع، كذلك هذا، وبأنّ الإياب كالذهاب يوجبُ ازدياد القيمة، ومع ذلك لو لم يرجع النائب عن مكّة، وأراد المقام بها، لا يكون بنظر العرف ذمّته مشغولة بشيء، فكذلك الذهاب.

ولكن يرد على الأوّل: أنّه فرقٌ بين المشي إلى الحَجّ ، وبين سائر مقدّمات الأعمال، فإنّ المشي بنفسه عبادة يترتّب على كلّ قدمٍ منه ثواب، ويكون ملحوظاً في الإجارة قطعاً. وبذلك يظهر ما في الوجه الثاني، فإنّ له ماليّة قطعاً.

ويرد على الثالث: أنّ أوصاف المبيع الدخيلة في زيادة الماليّة، إنّما لا تكون دخيلة في المبيع لعدم إمكانه، والمشي إلى بيت اللّه ليس كذلك.

ويرد على الرابع: أنّ بين الذهاب والإياب فرقاً من الناحية التي أشرنا إليها.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر أنّه يوزّع على ما أتى به من طيّ الطريق بنسبة ما فعل من الذهاب إلى المجموع منه ومن أفعال الحَجّ ، وعليه فما أفاده قدماء أصحابنا أظهر، ويوافقه أيضاً خبر عمّار المتقدّم.

وأمّا استحقاق اُجرة المثل، فوجهه كما في كشف اللِّثام(1)، هو أنّه وإنْ لم يكن الذهاب جزءً للإجارة، إلّاأنّه بلحاظه يُبذل المال بإزاء ما تعقّبه من الحَجّ ، أزيد ممّا يبذل بإزاء الحَجّ خاصّة، فهو فعلٌ جُعل له اُجرة بإذن المستأجر ولمصلحته،8.

ص: 74


1- كشف اللّثام، (ط. ج): ج 5/158.

فيستحقّ اُجرة مثله، كمن استأجر رجلاً لبناء فنقل الآلة، ثمّ مات قبل الشروع فيه، فإنّه يستحقّ اُجرة مثل النقل قطعاً.

واستدلّ له في «الجواهر»(1) بأصالة احترام عمل المسلم، الذي لم يقصد التبرّع به، بل وقع مقدّمةً للوفاء بالعمل المستأجر عليه، فلم يتيسّر له لمانعٍ قهري.

أقول: لو سلّمنا عدم استحقاقه الاُجرة المسمّاة، لعدم كونه دخيلاً في متعلّق الإجارة جزءً ، لكن لا مناص عن البناء على ما أفاده المحقّقان، كما يظهر ممّا ذكرناه في الصورة السابقة.

***0.

ص: 75


1- جواهر الكلام: ج 17/370.

وجوب تعيّين نوع الحَجّ في الإجارة

المسألة الخامسة: يجب تعيّين نوع الحَجّ في الإجارة، من تمتّعٍ أو إفرادٍ أو قِرانٍ ، بلا خلاف، وفي «الجواهر» ظاهرهم الاتّفاق عليه(1).

أقول: مضافاً إلى ذلك أنّه موافق مع القواعد، فإنّه مع اختلاف الأنواع في الكيفيّة والأحكام، لو لم يعيّن لزم منه الغرر، مع أنّه يعتبر في صحّة الإجارة معلوميّة العوضين كما هو محرّر في محلّه.

ولكن هذا بظاهره ينافي ما ذكروه في مسألة جواز العدول إلى التمتّع، من أنّه إذا علم أنّ قصد المستأجر التخيّير جاز له العدول، ولازم ذلك صحّة الإجارة التخيّيرية، بل قال صاحب «الجواهر» بعد نقل جملةٍ من الكلمات: (إلى غير ذلك من كلماتهم المتّفقة على جواز العدول مع فرض التخيّير..) انتهى (2).

قال الفاضل النراقي في «المستند»: في مقام رفع التنافي، إنّ الإجارة:

تارةً : تقع على منافع الشخص في الزمان المعيّن، وإنْ كان مراد المستأجر استيفاء نفع خاصٍ منه.

وأُخرى : على العمل.

فإنْ وقعت على الطريق الأوّل يتحمّل التخيّير، فيستأجر الشخص في سنةٍ معيّنة مطلقاً، لأن يحجّ بما يأمره أو بما يشاء الأجير، فالمنتقل إلى المستأجر منفعة الشخص، وله أن يخيّره في كيفيّة إيجاد المنفعة، ومن هذا القبيل إجارة الشخص لمعونة السفر أو الخدمة مع أنّ أنواعهما غير محصورة.

ص: 76


1- جواهر الكلام: ج 17/373.
2- جواهر الكلام: ج 17/373.

وإنْ وقعت على الطريق الثاني، بأن يستأجره للحَجّ خاصّة، أي ينتقل إليه هذه المنفعة خاصّة، فلا شكّ في اشتراط التعيّين، لاختلاف العمل والكيفيّة، وزمان كلّ منهما، فلا يتحمّل التخيّير، للزوم تعيّين المنتقل إليه من المنافع(1).

وفيه: أنّ المنفعة عبارة عن الحيثيّة القائمة بالعين الموجودة بوجودها، على نحو وجود المقبول بوجود القابل، فمنفعة الخادم ليست ما هو فعله، بل المنفعة هي حيثيّة كون الخادم خادماً، وهذه إنّما تصبح فعليّة بالعمل، ففي الإجارة يكون المورد هو العمل دون المنفعة، وبما أنّه على الفرض مختلف وله أنواع متضادّة لا يمكن الإتيان بها جميعاً، فلا تكون متعلّقة لها، فلابدّ من التعيّين فراراً عن الإبهام والجهالة والغرر، وتمام الكلام في كتاب الإجارة.

وأمّا في مسألة الخدمة، فإنّما تصحّ الإجارة مع عدم اختلاف أنواعها من حيث الماليّة، فيوقع الإجارة على الطبيعي، بلا لحاظ الخصوصيّات، أو الكلّي في المعيّن، وأمّا مع اختلاف أنواعها في الماليّة، فلا تصحّ الإجارة على الخدمة من دون تعيّين.

نعم، في جملةٍ من الموارد يكون من باب العمل بأمر المستأجر ولمصلحته، ويستحقّ حينئذٍ الاُجرة، وهذا ليس من باب الإجارة.

وبالجملة: مع فرض اختلاف أنواع الحَجّ من حيث الماليّة - كما هو المفروض - لا تصحّ الإجارة إلّاعلى المعيّن، ومع عدم اختلافها من حيث الماليّة، يصحّ إيقاع الإجارة على الكلّي المعيّن، لكنّه خلاف الفرض، فلا مناص في المقام إلّاالالتزام بما أفاده صاحب «الجواهر» بقوله: (نعم لو قلنا بعد تعيّين الفرد بالعقد بإجزاء غيره عنه مع رضا المستأجر نحو الوفاء بغير الجنس، أمكن الإجزاء حينئذٍ لذلك، لا0.

ص: 77


1- مستند الشيعة: ج 11/129 و 130.

لأنّه مقتضى الإجارة..) انتهى (1)، وهكذا يظهر أنّه:

تارةً : يكون على المنوب عنه نوعٌ خاص من الحَجّ ، وتقع الإجارة عليه.

وأُخرى : يكون مخيّراً بين النوعين أو الأنواع، كما في الحَجّ المستحبّي والمنذور المطلق، أو كان ذا منزلين متساويين في مكّة وخارجها، ولكن يستأجر على نوعٍ خاصٍ منه.

أمّا في الصورة الأُولى: فلا خلاف في عدم جواز العدول.

وفي الصورة الثانية: أقوال:

القول الأوّل: ما عن الشيخ(2)، والقاضي(3)، والإسكافي(4) وغيرهم، من جواز العدول إلى الأفضل مطلقاً.

القول الثاني: ما عن ظاهر «النافع»(5)، و «الجامع»(6)، و «التلخيص»(7) من عدم جوازه مطلقاً.

القول الثالث: ما عن «المعتبر»(8)، من عدم جواز العدول إلّاإذا كان الحَجّ 9.

ص: 78


1- جواهر الكلام: ج 17/373.
2- النهاية: ص 278، المبسوط: ج 1/324.
3- المهذّب: ج 1/268.
4- نقله عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 4/323 بقوله: (وقال ابن الجُنيد: وإذا خالف الأجير المستأجر فيما شرطه عليه إلى ما هو أفضل في الفعل والسنة جاز، وإنْ كان غير ذلك لم يجز)، وحكاه عنه في كشف اللّثام: ج 5/167 (ط. ج)، ومستمسك العروة الوثقى: ج 11/37.
5- المختصر النافع: ص 79.
6- الجامع للشرائع: ص 226.
7- تلخيص المرام (سلسلة الينابيع الفقهيّة): ج 30/341.
8- المعتبر: ج 2/769.

مندوباً، ونسب صاحب «الجواهر»(1) ذلك إلى «المنتهى »، ولكن سيمرّ عليك ما في «المنتهى ».

القول الرابع: ما في «المنتهى »(1)، فإنّه قال بعد حكمه بعدم جواز العدول في الواجب: (وإنْ كان غير واجبٍ عليه، وعلم من قصد المستأجر الإتيان بالأفضل وإنْ لم يضمنه العقد، فإنّه يجوز له العدول إلى الأفضل له، لأنّه كالمنطوق به) انتهى .

وقد نسبه صاحب «الجواهر»(3) إلى «التحرير» أيضاً، بل ونسب كاشف اللّثام(2) ذلك إلى المعظم.

القول الخامس: ما عن «القواعد»(3) من جواز العدول إلى الأفضل مع تعلّق الغرض به وإلّا فلا.

القول السادس: ماقاله صاحب «الشرائع»(4) من أنّه: (يجوز إذا كان الحَجّ مندوباً أو قصد المستأجر الإتيان بالأفضل، لا مع تعلّق الغرض بالقِران أو الإفراد).

أقول: وتنقيح القول في المقام يقتضي التكلّم في موردين:

الأوّل: فيما تقتضيه القواعد.

الثاني: في مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا المورد الأوّل:

أمّا بالنسبة إلى الصورة الاُولى: فلا إشكال في أنّه لا يجوز العدول عنه، سواءٌ 0.

ص: 79


1- منتهى المطلب: ج 2/867 (ط. ق).
2- كشف اللّثام، (ط. ج): ج 5/166.
3- قواعد الأحكام: ج 1/411.
4- شرائع الإسلام: ج 1/170.

أكان المعدول إليه أفضل أم لم يكن، لأنّه خلاف أدلّة النفوذ والصحّة، ولو عدل وأتى بغيره، فلا كلام في عدم فراغ ذمّة المنوب عنه، لأنّ إتيانه لا يغير موضوع الوجوب، وفراغ الذمّة عن نوع بإتيان غيره خلاف الأصل، وعليه فإنْ أتى بغيره بما هو واجبٌ على المنوب عنه، وثابتٌ في ذمّته وقع باطلاً، لعدم كونه كذلك، وإن أتى به عنه لا بهذا العنوان وقع عنه ندباً، وعلى جميع التقادير لا يستحقّ الاُجرة مطلقاً، لا المسمّاة لعدم الإتيان بالمستأجر عليه، ولا اُجرة المثل لعدم كونه بأمره. هذا مع عدم رضاه.

وأمّا إذا كان راضياً، فإنْ كان الرِّضا مقدّماً، فلا يصحّ تصحيحه بالالتزام بكونه إجارة ثانية بالمعاطاة، إذ - مضافاً إلى بطلانه إلّاإذا قصد الحَجّ الندبي - أنّ مجرّد الرِّضا لا يكفي في المعاطاة، واقترانه بالأمر أيضاً لا يُجدي، لأنّ أمر الآمر وحده ليس عقد الإجارة، نعم العمل بأمر الغير ولمصلحته بنفسه موجبٌ لثبوت اُجرة المثل له، وهو المسمّى في اصطلاحهم بالعمل بالضمان، كما أنّه لا يصحّ بعنوان الوفاء بغير الجنس، لعدم كونه وفاءً ، فإنّه لا يسقط ما في ذمّة المنوب عنه به، فلا يكون ذلك وفاءً عمّا في ذمّة النائب الثابت بالإجارة.

وبالجملة: ظهر بما ذكرنا أنّه لو كان التعيّين بعنوان الشرط، لم يمكن تصحيحه بعنوان إسقاط حقّ الشرط، لأنّه يصحّ مع انطباق المأتي به لما في الذمّة، كما ظهر بما ذكرناه حكم الرِّضا اللّاحق.

وأمّا في الصورة الثانية:

فتارةً : لا يرضى المستأجر بالعدول.

وأُخرى : يكون راضياً.

ص: 80

فإن لم يكن راضياً، لم يجز له العدول، لكونه خلاف قواعد الإجارة، ولو أقدم عليه برغم ذلك فهل يكون مُجزياً أم لا؟

أظهرهما ذلك، لانطباق المأتي به على ما اشتغلت ذمّة المنوب عنه به.

وقد استدلّ لعدم الإجزاء: بأنّ المعدول إليه يقع باطلاً:

1 - إمّا لأنّ الأمر بإتيان المعدول عنه المضادّ لما أتى به، يقتضي النهي عنه، وهو يوجب الفساد.

2 - أو لأنّ المعدول إليه غير مقدورٍ شرعاً لوجوب صرف قدرته في المعدول عنه، وغير المقدور الشرعي كغير المقدور العقلي، فلا يصحّ منه.

3 - أو لأنّه لا يكون مالكاً له، لأنّه بعد صيرورته أجيراً للإتيان بالمعدول عنه، لا يكون مالكاً لما أتى به، لأنّ الإنسان لا يملك أعماله المتضادّة، بل هو مالكٌ لواحدٍ منها، وقد ملكه المستأجر.

أقول: لكن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، وكون غير المقدور الشرعي من جهة تعيّن صرف قدرته في ضدّه حراماً أو باطلاً لم يدلّ عليه دليل، ولا يعتبر في الصحّة كونه مالكاً للعمل، بل الإنسان الحُرّ لا يكون مالكاً بالملكيّة الاعتباريّة لأعماله، لأنّ الملكيّة لابدَّ لها من سبب وهو مفقود.

وعلى أيّة حال فهل يستحقّ الاُجرة أم لا؟

الظاهر عدم الاستحقاق، أمّا عدم استحقاق المسمّاة، فلعدم الإتيان بالعمل المستأجر عليه، وأمّا عدم استحقاق اُجرة المثل، فلأنّه لم يأتِ بالعمل بأمره وإذنه، وهو واضح.

قد يُقال: إذا كان المستأجر راضياً قبل العمل، وكان التعيّين بعنوان الشرطيّة،

ص: 81

فإنّ رضاه حينئذٍ يُعدّ من باب إسقاط حقّ الشرط، فيستحقّ الاُجرة المُسمّاة، لأنّه أتى بالعمل المستأجر عليه، وحقّ الشرط قد سقط، وكونه مبرّءاً للذمّة واضح.

ولكن يرد عليه: أنّ المراد بالشرط:

إنْ كان ما ينشأ مستقلّاً في ضمن العقد، لزم منه بطلان الإجارة في المقام، فإنّها حينئذٍ واقعة على المردّد بين أنواع مختلفة.

وإنْ كان المراد به الوصف المتعلّق بموضوع العقد، الموجب تخلّفه الخيار، فالظاهر عدم تماميّته، فإنّ ضابط القيد الذي يوجب تخلّفه الخيار، وامتيازه عن القيد الذي تخلّفه موجب للبطلان، كون الأوّل خارجاً عن الذات بنظر العرف، والثاني داخلاً فيه، فلو باع الحيوان على أنّه حمار فانكشف كونه فرساً بطل البيع، لأنّ الحماريّة والفرسيّة داخلتان في الذات، وتبدّل إحداهما موجبٌ لتبدّل المبيع وتغيّره، وهذا بخلاف ما لو باع العبد على أنّه كاتب فانكشف عدم كونه كاتباً، فإنّ هذا الاختلاف يوجب الخيار من غير فرق في الموردين بين أخذه قيداً في الإنشاء أو شرطاً، بأن يقول: (بعتُ هذا العبد الكاتب)، أو (بعت العبد بشرط أن يكون كاتباً)، وتمام الكلام في ذلك في محلّه.

وعليه، ففي المقام بما أنّ كون الحَجّ تمتّعاً أو قِراناً أو إفراداً من الخصوصيّات الداخلة في الذات دون الخارجة عنها، فلا يكون العدول عن أحدها إلى الآخر موجباً لتحقّق مورد المعاملة مع تخلّف الشرط، بل حينئذٍ يكون من قبيل تبدّل ما عُومل عليه.

ولكن يمكن أن يقال: إنّه إنْ أتى بغير ما أستؤجر عليه مع رضا المستأجر وبإذنه، يمكن الحكم باستحقاقه الاُجرة من أحد الطريقين:

ص: 82

1 - إمّا أن يكون من قِبل الوفاء بغير الجنس، بحيث تقع مصالحة بين الطرفين، بأن يأتي عوض ما استحقه عليه بنوع آخر من الحَجّ ، وعليه فيستحقّ الاُجرة المسمّاة، وتبرأ ذمّته أيضاً.

2 - وإمّا أن يكون الإتيان بالحَجّ الثاني من قبيل العمل بالضمان، فيستحقّ اُجرة المثل، ويجب رَدّ الاُجرة المسمّاة إن أخذها.

هذا كلّه في الرِّضا المتقدّم.

وأمّا الرِّضا المتأخّر: فهو لا يغيّر الحكم أصلاً، ووجوده كعدمه.

المورد الثاني: عن النصوص الخاصّة، وهي روايتان:

إحداهما: رواية أبي بصير - التي رواها المشائخ الثلاثة، وعلى ما في «الوسائل» فهي في أعلى مراتب الصحّة - عن أحدهما عليهما السلام: «في رجل أعطى رجلاً دراهم يحجّ بها عنه حَجّة مفردة، فيجوز له أن يتمتّع بالعُمرة إلى الحَجّ؟ قال عليه السلام: نعم، إنّما خالف إلى الفضل»(1).

وفي رواية الصدوق: (إنّما خالفه إلى الفضل والخير)(2).

ثانيتهما: رواية علي - الذي استظهر صاحب «المدارك» رحمه الله أنّه ابن رئاب -:

«في رجلٍ أعطى رجلاً دراهم يحجّ بها عنه حَجّة مفردة ؟ قال عليه السلام: ليس له أن يتمتّع بالعُمرة إلى الحَجّ ، لا يخالف صاحب الدراهم»(3).

أقول: وفي الجمع بينهما قيل وجوه:8.

ص: 83


1- الكافي: ج 4/307، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/182، ح 14577.
2- الفقيه: ج 2/425، ح 2874.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/416، ح 93، وسائل الشيعة: ج 11/182، ح 14578.

1 - ما عن المحقّق(1) رحمه الله من حمل خبر أبي بصير على ما إذا كان على المنوب عنه حَجٌّ ندبي.

2 - ما عن الشيخ(2) - على ما في «الوسائل»(3) - من حمل خبر عليّ بن رئاب على مَن أعطى غيره حَجّة من قاطني مكّة والحرم.

3 - ما في «العروة»(4) من حمل خبر أبي بصير على صورة العلم برضا المستأجر بذلك، مع كونه مخيّراً بين النوعين.

وفيه: وهذه الوجوه كلّها لا شاهد لها، بل الجمع بينهما يقتضي حمل خبر أبي بصير على صورة كون المستأجر مخيّراً بين الأنواع، أعمّ من أن يكون ندبيّاً أو وجوبيّاً، وذلك لاختصاصه - بقرينة ما في ذيله من التعليل - بما إذا كان مخيّراً، وكان التمتّع أفضل، فمفاد التعليل أنّ التمتّع حيث يكون أفضل من غيره يكون العدول إحساناً للمستأجر، وإنْ لم يرض به، ولأجله يختصّ الخبر بهذا المورد، وبه يُقيّد إطلاق خبر عليّ ، وعليه فمقتضى إطلاق خبر أبي بصير جواز العدول إلى الأفضل في كلّ موردٍ، سواءٌ أكان المنوب عنه مخيّراً رضي به المستأجر، أم لم يرض به.

ولا يبعد أن يُقال: إنّ مفاد التعليل أنّ المنوب عنه حيث يكون مخيّراً بين النوعين، والتمتّع أفضل، فهذا قرينة على رضاه بذلك، فتكون النتيجة جواز العدول مع رضاه به، ولا أقلّ من الإجمال، فالمرجع في هذه الصورة إلى ما تقتضيه القواعد.

***).

ص: 84


1- المعتبر: ج 2/769.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/416، في تعليقه على الحديث 93.
3- وسائل الشيعة: ج 11/182، في تعليقه على الحديث 14578.
4- العروة الوثقى: ج 4/548 (ط. ج).

عدول النائب عمّا عُيِّن له من الطريق

المسألة السادسة: لا يشترط في الحَجّ تعيّين الطريق، لعدم تعلّق الغرض بالطريق نوعاً، ولكن لو عيّن تعيّن، وهذا ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في أنّه:

هل يجوز العدول عنه إلى غيره مع التعيّين مطلقاً، كما عن الشيخين(1)، والقاضي(2)، والحِلّي(3)، و «الجامع»(4)، و «الإرشاد»(5)، وجماعة آخرين ؟

أم يجوز إلّامع العلم بتعلّق غرضٍ بذلك المعيّن، كما في «الشرائع»(6)، بل نُسب ذلك في «الجواهر»(7) إلى المشهور؟

أم لا يجوز إلّامع العلم بانتفاء الغرض في ذلك الطريق، كما في «المستند»(8)وعن غيره ؟

أقول: لا إشكال في أنّ مقتضى قواعد باب الإجارة، لزوم الإتيان بخصوص ما وقعت الإجارة عليه، إلّاإذا كان ذكر طريقٍ خاص من باب التعارف، لعموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود والشروط من غير فرق في صورة التعيّين في عقد الإجارة، بين تعلّق غرض بذلك المعيّن وعدمه، فإنّ التعيّين في عقد الإجارة يوجبُ

ص: 85


1- النهاية للشيخ الطوسي: ص 278، المقنعة للشيخ المفيد: ص 443.
2- المهذّب: ج 1/268.
3- السرائر: ج 1/627.
4- الجامع للشرائع: ص 226.
5- إرشاد الأذهان: ج 1/313.
6- شرائع الإسلام: ج 1/170.
7- جواهر الكلام: ج 17/374.
8- مستند الشيعة: ج 11/132.

تعيّن ذلك، وإنّما لا يجبُ إذا كان الموضوع الطريق الكلّي، وإنّما ذكر طريقاً معيّناً من باب المثال.

ولكن في المقام رواية صارت هي منشئاً لهذا الاختلاف، وهي صحيحة حريز ابن عبد اللّه، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ أعطى رجلاً حَجّةً يحجّ بها عنه من الكوفة، فحجّ عنه من البصرة ؟ فقال عليه السلام: لا بأس إذا قضى جميع المناسك ففد تمّ حَجّه»(1).

والقائلون بجواز العدول مطلقاً تمسّكوا بإطلاقها، وأمّا غيرهم فقد حملوها على محامل وهي:

1 - ما عن «الذخيرة»(2)، من أنّ قوله: (من الكوفة)، متعلّق ب (أعطى) لا ب (يحجّ ).

وفيه: أنّ قرينة المقابلة بين (من الكوفة) و (من البصرة) مقتضية لتعلّقه بالحَجّ .

وبه يظهر ما في الوجه الثاني.

2 - ما عن «المدارك»(3) من أنّه متعلّق بقوله: (رجلاً)، وأنّه صفة له.

3 - ما عن «المنتقى»(4) و «العروة»(5) من حملها على صورة عدم تعلّق الغرض بخصوص الطريق، فينطبق مفادها مع القول الثالث.

وفيه: أنّه تقيّيدٌ للإطلاق من غير قرينة عليه.).

ص: 86


1- تهذيب الأحكام: ج 5/415 ح 91، وسائل الشيعة: ج 11/181، ح 14576.
2- ذخيرة المعاد: ج 3/569.
3- مدارك الأحكام: ج 7/123.
4- منتقى الجمان: ج 3/84.
5- العروة الوثقى ج 4/550 (ط. ج).

4 - ما عن «المنتقى»(1) أيضاً من حملها على ما إذا كان المدفوع بعنوان الرزق لا بعنوان الإجارة.

وفيه أوّلاً: أنّه خلاف الظاهر، ولا أقلّ من أنّه خلاف الإطلاق وعدم الاستفصال.

وثانياً: أنّ البذل إنْ كان مشروطاً بالحَجّ من الكوفة، فمع عدم الحَجّ منها يكون المبذول له ضامناً للثمن المبذول.

5 - ما عن السيّد الجزائري رحمه الله(2) من كون الشرط خارجاً عن العقد، والشرط الابتدائي لا يجبُ الوفاء به.

وفيه: أنّه خلاف ظاهر قوله: (أعطى حَجّةً يحجّ بها عنه من الكوفة).

6 - ما عن «الذخيرة»(3) و «العروة»(4)، ونفي عنه البُعد في «المستند»(5)، من أنّها تدلّ على صحّة الحَجّ من حيث هو، وإجزائه عن المنوب عنه، ولا نظر لها إلى جواز ذلك للأجير.

وتوضيح ذلك: أنّ السؤال يحتمل أن يكون عن أحد أُمور:

إمّا جواز العدول تكليفاً، وعدم ترتّب الإثم عليه.

أو إجزائه عن المنوب عنه.3.

ص: 87


1- منتقى الجمان: ج 3/84.
2- حكاه عن السيّد نعمة اللّه الجزائري كلّ من المحقّق النراقي في مستند الشيعة: ج 11/133، والسيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 11/41.
3- ذخيرة المعاد: ج 3/569.
4- العروة الوثقى : ج 4/550 (ط. ج).
5- مستند الشيعة: ج 11/133.

أو جوازه وضعاً واستحقاق الاُجرة.

وقوله عليه السلام في الجواب: (فقد تمّ حَجّه) يعيّن الثاني، بمعنى كونه ظاهراً في صحّة الحَجّ وإجزائه، ولا أقلّ من الإجمال، وحيثُ أنّ صحّة الحَجّ وسقوط ما في ذمّة المنوب عنه موافقة للقواعد - كما عرفت ممّا ذكرناه في نظير المسألة - فلا يستفاد من الرواية شيءٌ أزيد ممّا يقتضيه قواعد باب الإجارة.

ولكن هذا يبتني على أن يكون قوله: (إذا قضى... فقد تمّ حجّه)، متفرّعاً على قوله: (لا بأس)، وهو خلاف الظاهر، بل الظاهر كون الجواب متضمّناً لحكمين:

أحدهما: نفي البأس عن الحَجّ نفسه، الظاهر في جواز ذلك للأجير.

ثانيهما: إجزائه عن المنوب عنه، المؤدّى ذلك بقوله: (إذا قضى... فقد تمّ حَجّه).

ودعوى: أنّ الصحيح محمولٌ على الغالب من عدم تعلّق الغرض في طريق معيّن.

تندفع: بأنّه بملاحظة أنّ الحَجّ من الكوفة أكثر ثواباً من الحَجّ من البصرة، لا محالة يكون الغالب تعلّق الغرض به.

فتحصّل: أنّ الأظهر جوازه مطلقاً، وإجزائه عن المنوب عنه.

وأمّا الاُجرة:

1 - فإنْ كان تعيّين الطريق من باب المثال، فإنّه لا إشكال ولا كلام في استحقاقه تمام الاُجرة المسمّاة وهو واضح.

2 - وإنْ كان تعيّينه على وجه الشرطيّة الفقهيّة، بمعنى الالتزام في الالتزام، بأن أوقع العقد على الحَجّ بالاُجرة، وشَرَط في ضمنه أن يكون الحَجّ من الطريق المعيّن، فإنّه يثبت الخيار للمستأجر، لتخلّف الشرط، فإنْ أمضاه استحقّ الأجير الاُجرة المسمّاة، وإنْ فَسَخه استحقّ اُجرة المثل، لأنّ الحَجّ وقع بطلب المستأجر وأمره،

ص: 88

فيكون من باب العمل بالضمان.

3 - وإنْ كان تعيّينه على وجه الجزئيّة، بأنْ كان متعلّق الإجارة مركّباً من الحَجّ والطريق الخاص، فالظاهر استحقاقه من الاُجرة المسمّاة بالنسبة، إلّاإذا فسخ المستأجر الإجارة للتبعض فيستحقّ اُجرة المثل.

4 - وإنْ كان تعيّينه على وجه القيديّة الارتباطيّة، بأن أوقع الإجارة على الحَجّ المقيّد بكونه من طريق خاص، فإنّه لم يستحقّ شيئاً.

أمّا عدم استحقاق الاُجرة المسمّاة، فلعدم الإتيان بالعمل المستأجر عليه ولا بعضه، فإنّ المقيّد بقيدٍ خاص غير ما لم يُقيّد به.

وبعبارة أُخرى : ليس مورد الإجارة ذا أجزاء.

وأمّا عدم استحقاق اُجرة المثل، فلعدم كون الحَجّ من غير ذلك الطريق بأمره، فلا يكون مشمولاً للعمل بالضمان، فإنّ ما أمر به غير ما وقع.

قال صاحب «الجواهر»: (لكن الأصحّ خلافه، ضرورة كونه بعض العمل المستأجر عليه، وليس هو صنفاً آخر، وليس الاستئجار على خياطة تمام الثوب فخاط بعضه مثلاً، بأولى منه بذلك) انتهى (1).

يرد عليه: أنّ في المثال إنّما يلتزم باستحقاق بعض الاُجرة المسمّاة إذا كانت الإجارة واقعة على خياطته، بحيث تكون خياطة بعضه جزءً من مورد الإجارة، وإلّا فلو كان مورد الإجارة مقيّداً بإتمام العمل لم يستحقّ شيئاً، وهكذا في المقام أيضاً فإنْ كان طِيّ الطريق مأخوذاً جزءاً للمورد، استحقّ الأجير الاُجرة بالنسبة، وإنْ كان قيداً لا يستحقّ شيئاً منها لانتفاء المقيّد بانتقاء قيده.6.

ص: 89


1- جواهر الكلام: ج 17/376.

وما استدلّ به للضمان من أصالة احترام عمل المسلم، فإنّما يكون موردها ما لو كان العمل بأمر المستأجر وإذنه، وإلّا فقد أسقط احترام عمله.

وبالجملة: فالأظهر عدم استحقاق شيء في هذه الصورة، ولكن الفرض المتعارف الشائع هو الصورة الثالثة، فيستحقّ فيما هو الغالب من الاُجرة المسمّاة بالنسبة.

***

ص: 90

تعدّد الإجارة للحَجّ في سنةٍ واحدة

المسألة السابعة: إذا آجر نفسه للحَجّ عن شخصٍ مباشرة في سنةٍ معيّنة، ثمّ آجره شخصٌ آخر للحجّ في تلك السنة مباشرةً أيضاً، بطلت الثانية على ما هو المعروف بينهم، بل في «الجواهر»(1) و «المستند»(2) عَدّ بطلانها من القطعيّات.

وقد استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «التذكرة»(3) و «المنتهى »(4) من أنّ فعله صار مستحقّاًللأوّل، فلا يجوز صرفه إلى غيره.

وفيه: أنّ هذا يصلح وجهاً لعدم الجواز تكليفاً، فإنّه يكون عاصياً بتركه الحَجّ عن الأوّل، ولكن لا يصلح وجهاً للبطلان، فإنّ الإجارة الأُولى على الفرض لم تقع على وجهٍ تكون منفعته الخاصّة للمستأجر، بل وقعت على العمل وهو الحَجّ عنه، وأمّا الحَجّ عن غيره فليس متعلّقاً لحقّه.

الوجه الثاني: ما في «الجواهر»(5) من أنّه لا يقدر على التسليم، وعبّر عن ذلك صاحب «العروة»(6) بعدم القدرة على العمل والمراد واحد.

وفيه: أنّ المراد من عدم القدرة إنْ كان عدم القدرة عقلاً، فهو بديهي البطلان،

ص: 91


1- جواهر الكلام: ج 17/377 و 378.
2- مستند الشيعة: ج 11/134.
3- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/159.
4- منتهى المطلب: ج 2/868 (ط. ق).
5- جواهر الكلام: ج 17/378.
6- العروة الوثقى ، (ط. ج): ج 4/551.

وإنْ كان عدم القدرة شرعاً، فلا دليل على اعتباره في متعلّق الإجارة، بل الدليل دلّ على اعتبار القدرة والاستطاعة في حَجّة الإسلام لا في الحَجّ عن الغير، ولا في إيجار نفسه عليه.

الوجه الثالث: النصوص الدالّة على عدم جواز نيابة من ثَبَت الحَجّ في ذمّته، والتي تقدّمت في المسألة الثانية عشر من الفصل السابق، وهي تشمل المقام، ولا أقلّ مع ضَمّ تنقيح المناط.

وفيه: أنّه قد تقدّم في تلك المسألة أنّ النّص مختصٌّ بمن في ذمّته حَجّة الإسلام، ولا يتعدّى عنه لعدم العلم بالمناط.

الوجه الرابع: أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، فالحَج عن الأوّل حيث يكون مأموراً به، فيكون الثاني منهيّاً عنه وفاسداً.

وفيه: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه كما مرّ مراراً.

الخامس: أنّ الأمر بالحَجّ عن الأوّل، وإنْ لم يقتض النَّهي عن الحَجّ عن الثاني، إلّا أنّه يقتضي عدم تعلّق الأمر به، لامتناع توجّه الأمر إلى الضدّين، وحيث إنّه عبادة فلا يصحّ بدون الأمر، وحديث كفاية الملاك والمحبوبيّة في صحّته قد مرّ أنّه لا كاشف عنهما مع سقوط الأمر.

وفيه: أنّه يلتزم بالترتّب كما هو الشأن في سائر موارد المتزاحمين.

الوجه السادس: كما لا يمكن أن يُملّك الإنسان منافعه المتضادّة في آنٍ واحد، كذلك لا يملك الغير تلك المنافع كذلك، وعليه فإذا صار الحَجّ عن الأوّل مملوكاً له بالإجارة الأُولى ، فالإجارة الثانية إنْ صحّت لزم من صحّتها صيرورة الحَجّ عن الثاني مملوكاً له، وهو غير ممكن، وإنْ لم يصبح مملوكاً له فسدت الثانية، لملازمة

ص: 92

صحّتها لذلك، بل حقيقتها ذلك، ونظير المقام ما لو آجر داره سنة واحدة لسُكنى زيد، فإنّه لا يصحّ أن يؤجّرها تلك السنة ثانياً لعمرو.

والفرق بينهما: من جهة أنّ في المقام الإنسان لا يملك عمل نفسه قبل الإجارة، وفي المثال لابدَّ وأن يكون قبل الإيجار مالكاً للمنفعة، فإذا ملّكها لزيدٍ لا يكون مالكاً للمنفعة، كي يُملّكها لعمرو.

غير فارق: فإنّه في الإجارة لا بدَّ من التمليك، فكما أنّ في المثال يقال لا يكون مالكاً للمنفعة ثانياً كي يملكها، كذلك في المقام نقول ليس له أن يملّك عمله للثاني.

وهذا هو الفارق بين هذه المسألة وما تقدّم من أنّ من في ذمّته الحَجّ النذري لسنة معيّنة، حيث يصحّ أن يؤجّر نفسه للحَجّ عن الغير في تلك السنة، فإنّه بالنذر لا يصبح الحَجّ مملوكاً للغير، فلا مانع عن تمليكه بالإجارة، فتدبّر فإنّه دقيق. هذا مع اشتراط المباشرة في الحجَّتين.

وأمّا لو آجر نفسه من شخصين لحجَّتين في سنةٍ واحدة، لكن مع عدم اشتراط المباشرة فيهما أو في إحداهما صحّتا معاً، فإنّ الأجير يتمكّن من العمل بكلتا الإجارتين، ولا مانع من كون المستأجرين مالكين لحجَّتين في ذمّته كذلك، فلا وجه للمنع، وإطلاقات أدلّة النفوذ والصحّة شاملة لهما.

قال صاحب «الجواهر»: (بل قد يقال بكون الحكم كذلك مع عدم اعتبار المباشرة، فإنّه وإنْ تمكّن من الإتيان بهما باستنابة، لكن يعتبر في الإجارة تمكّن الأجير من العمل بنفسه، فلا يجوز إجارة الأعمى على قراءة القرآن على إرادة الإستنابة، ففي الفرض لا يجوز الإجارة للثانية للحَجّ في تلك السنة، وإنْ كان المراد

ص: 93

بها أو بالأولى أو بهما ما يعمّ الإستنابة، ولكن قد ذكرنا في كتاب الإجارة احتمال الصحّة) انتهى (1).

وفيه: أنّ المعتبر في الإجارة تمكّن الإتيان من العمل، وأمّا اعتبار التمكّن منه بالمباشرة خاصّة، فلم يدلّ عليه دليل فالأظهر هي الصحّة فيهما، هذا كلّه في الإجارة لسنةٍ معيّنة.

حكم الإجارتين مع إطلاقهما أو إطلاق إحداهما

أقول: وهناك صورٌ أُخرى لهذه المسألة، وهي:

الصورة الاُولى: ما لو كانت الإجارتان مطلقتين، ولم يكن انصرافٌ إلى التعجيل، ففي «التذكرة»(2) و «المستند»(3) و «العروة»(4) وغيرها صحّتهما معاً، وهذا بخلاف ما في «الشرائع»(5)، وعن الشيخ(6) من بطلان الإجارة الثانية.

ولا يخفى أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الإجارة هو الأوّل.

واستدلّ للثاني: بأنّ مقتضى إطلاق الإجارات كلّها التعجيل، لا من جهة دلالة الأمر على الفور، بل من جهة أنّ قاعدة السلطنة على الأموال والحقوق تقتضي وجوب المبادرة إلى الأداء، والتأخير مخالفٌ لها، وعليه فتكون الثانية مزاحمة للإجارة الأُولى فتبطل.

ص: 94


1- جواهر الكلام: ج 17/378.
2- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/159.
3- مستند الشيعة: ج 11/135.
4- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/551.
5- شرائع الإسلام: ج 1/170.
6- النهاية للشيخ الطوسي: ص 278.

وفيه: أنّ التعجيل الذي يقتضيه الإطلاق، ليس بمعنى انحصار المملوك في الحَجّ في السنة الأُولى ، كي لا يقدر الأجير على تمليكه للثاني، ولا بمعنى التوقيت، كي تكون الثانية واقعة على الحَجّ في غير وقته، بل هو حكمٌ تكليفي مستقلّ ، وعليه فلا تكون الثانية مزاحمة للاُولى ، ولوكان هناك مزاحمة، فإنّما هي مزاحمتها لقاعدة السلطنة، وهي لا توجب البطلان.

مع أنّه لو تمّ ذلك، فإنّما هو فيما لو كانت الإجارة الثانية واقعة على الحَجّ في السنة الأُولى ، وأمّا إذا كانت مطلقة، فاقتضاء التعجيل في الثانية مندفعٌ بسبب استحقاق الأوّل.

الصورة الثانية: ما لو كانت الأُولى مطلقة، والثانية مقيّدة بالسنة الأُولى ، ومن ذهب في الصورة الأُولى إلى بطلان الثانية، التزم به في هذه الصورة.

أقول: ومن القائلين بالصحّة في تلك الصورة المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(1)، حيث بنى على البطلان في الفرض، واستدلّ له بما ذكر وجهاً للبطلان فيها، فكأنّه قدس سره لم يُسلّم الجواب الذي ذكرناه الجاري في الفرض، واقتصر على الثاني، ولا مورد له في المقام كما لا يخفى ، وبعد صحّتهما معاً يقع التزاحم بين الوجوبين التكليفيّين، فيجري فيهما ما يجري في سائر المتزاحمين.

الصورة الثالثة: ما لو كانت الأُولى مطلقة، والثانية مقيّدة بالسَّنة اللّاحقة، حيث لا إشكال في صحّتهما.

والقول ببطلان الثانية من جهة اعتبار اتّصال زمان الإجارة بالعقد، لعدم القدرة على التسليم في غير المتّصل، مندفع بأنّ اللّازم هو التسليم في زمان9.

ص: 95


1- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/159.

الاستحقاق لا قبله.

الصورة الرابعة: ما لو كانت الأُولى مقيّدة بالسنة الأُولى ، والثانية مطلقة.

فقد يقال: بالبطلان، أي بطلان الثانية، نظراً إلى أنّ الإطلاق يقتضي التعجيل، فتُزاحم الإجارة الثانية الأُولى .

ولكن قد عرفت في الصورة الأُولى فساد هذا الوجه، وأنّه لا يقتضي البطلان، غاية الأمر أن يكون للمستأجر الثاني الخيار لو كان جاهلاً بالإجارة الأُولى ، ووجهه واضح.

وممّا ذكرنا ظهر حكم الخامسة، وهي ما لو كانت الثانية مطلقة، والأُولى مقيّدة بالسنة المتأخّرة وأنّهما تصحّان جميعاً.

ولو اقترنت الإجارتان أو اشتبه السابقة منهما

ثمّ إنّ الإجارتين اللّتين لا تصحّان معاً، كالواقعتين على الحَجّ مباشرة في سنة واحدة لو اقترنتا، كما إذا آجر نفسه من شخصٍ وآجره وكيله من آخر في سنة واحدة، وكان وقوع الإجارتين في وقتٍ واحد، بطلتا معاً، إذا لا يمكن البناء على صحّتهما لما تقدّم، والحكم بصحّة إحداهما المعيّن ترجيحٌ بلا مرجّح، وإحداهما لا بعينها لا تكون موضوعة للصحّة.

وبعبارة أُخرى : عنوان إحداهما ليس موضوعاً للصحّة، وواقعها متعيّن، فلا مناص عن البناء على بطلانهما معاً.

والحكم بالتخيّير في نظائر المقام، كمسألة العقد على اُختين في زمانٍ واحد - لو تزوّج امرأتين وله ثلاث وما شاكل، لورود النّص الخاص في تلك الموارد -

ص: 96

لا يوجبُ الحكم به في المقام، كما لا يخفى .

ولو اشتبه السابقة من الإجارتين، فأصالة الصحّة في كلٍّ منهما بناءً على جريانها في مورد العلم الإجمالي بالخلاف، وعدم تماميّة ما قيل من أنّ مدركها بناءً العقلاء، وبناؤهم عليها في مورد العلم الإجمالي، غير ثابت، وبناءً على جريانها مع العلم بصورة العمل، والشكّ في الصحّة من جهة الأُمور الخارجيّة الاتّفاقيّة، تعارض أصالة الصحّة في الآخر، وتتساقطان.

وأمّا أصالة عدم حصول كلّ منهما عند تحقّق الاُخرى ، أو عدم مملوكيّة الحَجّ له إلى حين تحقّق هذه، فهي وإنْ كانت جارية في نفسها، ولا تكون مثبتة، لأنّ بها يثبت شرط الصحّة أو يرفع المانع عنها، إلّاأنّه بناءً على ما هو الحقّ من جريان الأصل في مجهول التاريخ ومعلومه، يتعارض الأصل الجاري في كلّ منهما، مع الأصل الجاري في الاُخرى في جميع الصور، أعمّ من أن تكونا مجهولتي التاريخ أو يكون تاريخ إحداهما معلوماً وتاريخ الاُخرى مجهولاً.

وأمّا على القول بعدم جريانه في معلوم التاريخ: فإنْ كان وقت إحداهما مجهولاً، ووقت الاُخرى معلوماً، جري الأصل في المجهول، ويثبت به صحّة المعلوم وقتها، وحينئذٍ فهل يعارضه أصل الصحّة الجاري في المعلوم، ليكون ذلك الأصل معارضاً مع أصلين طوليّين في الآخر، أم لا؟

الظاهر هو الثاني، لأنّ الأصلين في أطراف العلم الإجمالي، لا يجريان إنْ لم يكن لأحدهما مرجّحٌ ، وفي المقام يكون الترجيح مع الأصل المزبور، فإنّ أصل الصحّة لا يجري على كلّ تقدير، لابتلائه بالمعارض، فيجري ذلك، وتمام الكلام في محلّه.

أقول: ويمكن أن يقال في المورد الذي يتعارض فيه الاُصول: إنّ المرجع إلى

ص: 97

القرعة، لأنّها لكلّ أمرٍ مشكل، بناءً على ما حقّقناه في رسالتنا في القرعة من أنّ إجراءها لا يتوقّف على إحراز عمل المشهور، بل كلّ مورد أشكل الأمر فيه ولم يمكن التخلّص، ولم يكن طريقٌ ولا أصل محرَزٌ للوظيفة، ولم يمكن فيه إعمال قواعد الاحتياط، تجري القرعة، وفي المقام حيث يكون كذلك تكون جارية، وفي رعاية شرائط إجرائها لابدّ من الرجوع إلى تلك الرسالة.

وأيضاً: لو آجر نفسه من شخص للحَجّ في سنة معيّنة، ثمّ علم أنّه آجره فضولي من شخصٍ آخر سابقاً على عقد نفسه، فهل له أن يُجيز ذلك العقد، وتبطل إجارة نفسه بناءً على كاشفيّة الإجازة، فإنّ الإجازة تكشف عن صحّة الإجارة من الأوّل، فالثانية واقعة بعد الإجارة الأُولى الصحيحة، فتكون باطلة أم لا؟

وجهان أظهرهما الثاني، لأنّه ولو قلنا بالكشف الحقيقي في الإجارة، ولكن لاريب في أنّ الإجازة الصادرة ممّن له السلطان تكون كاشفة، لا الإجازة من كلّ أحدٍ، والفرض أنّه بإجارة نفسه سَلَب سلطانه، فليس له الإجارة، فإجارة نفسه معدمة لما هو المصحّح للإجازة، فليس له تلك.

تصحيح الإجارة الثانية بإجازة المستأجر الأوّل

أقول: وفي المورد الذي حكمنا فيه ببطلان الإجارة الثانية - وهو ما لو آجر نفسه من شخصٍ للحَجّ في سنةٍ معيّنة، ثمّ آجر نفسه من شخصٍ آخر للحَجّ في تلك السنة - هل يمكن تصحيح الثانية بإجازة المستأجر الأوّل، أم لا؟

ونخبة الكلام في المقام:

تارةً : تكون الإجارتان واقعتين على منفعته الخاصّة، وهي الحَجّ في تلك السنة.

ص: 98

وأُخرى : تكونان واقعتين على العمل الشخصي الخارجي، وهو الحَجّ عنه في تلك السنة.

وثالثة: تكون الأُولى من قبيل الأوّل، والثانية من قبيل الثاني.

ورابعة: بالعكس.

ففي الصورة الأُولى والثالثة: للمستأجر الأوّل أن يجيز الإجارة الثانية، لوقوعها على ما هو ماله وملكه، فلا مانع من تصحيحها بإجازة المالك، ولو أجازها يكون العقد تامّاً، والمستأجر الأوّل يستحقّ الاُجرة المسمّاة في الثانية، لفرض كون العمل المستأجر عليه له فله عوضه، والأجير لا يستحقّ منها شيئاً، لعدم كون العمل مِلْكاً له، ولكنّه يستحقّ الاُجرة المسمّاة في الأُولى ، وهو واضح.

وأمّا في الصورة الثانية والرابعة: فقد يقال بأنّه لا مورد للإجازة، فإنّ المستأجر الأوّل لا يملك ما وقعت الثانية عليه، فليس له الإجازة.

وأورد عليه: بأنّه لا يعتبر في الإجازة صدورها من المالك، بل يكفي في صحّة العقد كونه لولا الإجازة منافياً لحقّ غير العاقد، فإذا أجاز ذو الحقّ لم يكن مانعٌ من نفوذ العقد، ولذا صحَّ بيع العين المرهونة بإجازة المرتهن، وإنْ لم يكن مالكاً لموضوع الحقّ .

وفيه: أنّ الإجازة إنّما تصحّح العقد إذا صدرت ممّن له الملك أو الحقّ في مورد العقد، وفي المقام ليس كذلك، فإنّ المستأجر الأوّل ليس مالكاً لمورد الإجارة الثانية، ولا يكون حقّ له متعلّق به، وإنّما لا يصحّ العقد من جهة قصورٍ في نفس مورد الإجارة، فإنّه لا يصلح أن يصير ملكاً للمستأجر الثاني، لما تقدّم، وعليه فليس له الإجازة، فتدبّر فإنّه دقيق.

ص: 99

نعم، للمستأجر الأوّل إبراء ما في ذمّة الأجير، أو إسقاط ما ملكه عليه من العمل، إذا كان عنوان المباشرة في الإجارة الأُولى قيداً، وإسقاط حقّ الشرط إذا كان شرطاً، وبذلك تصحّ الإجارة الثانية، لعدم المانع من نفوذها، وعلى هذا فحيثُ لا مانع من أبراز ذلك بإجازة الإجارة الثانية، فدعوى أنّ للمستأجر الأوّل إجازة الثانية مطلقاً في محلّها، وحينئذٍ إنْ كانت الإجازة إسقاطاً لنفس العمل استحقّ الأجير كلتا الاُجرتين، وعليه العمل بالإجارة الثانية، وإنْ كانت إسقاطاً لحقّ الشرط، استحقّ الاُجرتين، ولكن عليه كلا العملين: الواقع عليه الإجارة الثانية بالمباشرة، والواقع عليه الإجارة الأُولى بالاستنابة والتسبيب.

***

ص: 100

حكم الأجير المحدود أو المحصور

المسألة الثامنة: لو صدّ الأجير أو اُحصر فأصبح ممنوعاً من الحجّ لمرضٍ أو لوجود عدوّ، وما ماثله، كان حكمه كالحاجّ عن نفسه فيما عليه من الأعمال.

فالممنوع بالمرض الذي هو المصدود يبعث بهديه مع أصحابه، ويواعدهم يوماً لذبحه، فيتحلّل في ذلك اليوم من كلّ شيء إلّامن النساء، حتّى يحجّ من قابل إنْ كان حجّه واجباً، أو يُطاف عنه للنساء إنْ كان ندباً.

والممنوع بالعدو الذي هو المحصور، يذبح هَدْيه حينئذٍ، ويحلّ له كلّ شيء حتّى النساء، وسيأتي بقيّة أحكامهما في محلّه.

وبالجملة: تلك الأحكام تثبت للأجير، لعموم الآية وغيرها من الأدلّة، ويقع ما فعله عن المستأجر، لأنّه قصده بفعله.

وعليه، فإنْ كانت الإجارة مقيّدة بتلك السنة على وجه التقيّيد، انفسخت الإجارة لتعذّر العمل المستأجر عليه، الكاشف عن عدم صحّة تمليكه وتملّكه الاُجرة.

وإنْ كانت مقيّدة بها على وجه الاشتراط، كان للمستأجر خيار التخلّف.

وإنْ كانت مطلقة، يبقى الحَجّ في ذمّته إلى القابل، فإنْ تعذّر بعض أفراد المستأجر عليه، لا يوجب الانفساخ ولا الخيار، ولذلك فما التزم به الشهيد رحمه الله(1) من ثبوت الخيار، لا وجه له.

وفي صورة الانفساخ أو الفسخ، يستحقّ الأجير من الاُجرة المسمّاة بالنسبة إلى ما أتى به من الأعمال، وقد تقدّم تفصيل القول في ذلك في المسألة الثالثة.

ص: 101


1- كما حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 17/380.

ولو كان الصدّ أو الإحصار قبل إتمام الحَجّ ، لا يجزي عن المنوب عنه، وإنْ كان ذلك بعد الإحرام، ودخول الحرم، لأنّ إجزاء الناقص على خلاف الأصل يحتاج إلى دليلٍ مفقود، وإنّما التزمنا به في موت النائب - كما مرّ - للنصوص الخاصّة، والتعدّي عن موردها إلى المقام مع عدم إحراز المناط قياسٌ لا نقول به، وعليه فما عن الشيخ(1)، ويشعر به عبارة «الشرائع»(2) من الإجزاء، غير تامّ ، ولعلّهما أيضاً لا يقولان به، فراجع «الجواهر»(3) في توجيه ما أفاداه.

فرع: وفي صورة التقيّيد لو ضمن المؤجر الحَجّ في المستقبل، فهل تجب إجابته كما عن ظاهر المقنعة»(4)، و «النهاية»(5)، و «المهذّب»(6)، بل ربما قيل إنّه ظاهر «المبسوط»(7) و «السرائر»(8) وغيرهما؟

أم لاتجب كمافي «التذكرة»(9)، و «المنتهى »(10)، و «الشرائع»(11)، و «المستند»(12)، و «الجواهر»(13) وغيرها؟0.

ص: 102


1- النهاية: ص 278.
2- شرائع الإسلام: ج 1/170.
3- جواهر الكلام: ج 17/380.
4- المقنعة: ص 443.
5- النهاية: ص 278.
6- المهذّب: ج 1/268.
7- المبسوط: ج 1/324.
8- السرائر: ج 1/629.
9- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/161.
10- منتهى المطلب: ج 2/869 (ط. ق).
11- شرائع الإسلام: ج 1/170.
12- مستند الشيعة: ج 11/136.
13- جواهر الكلام: ج 17/380.

وجهان، أقواهما الأوّل، إذ المفروض أنّ العقد واقعٌ على المقيّد ولا يتناول غيره، فلا وجه للزوم قبول غيره. وقد وجّه صاحب «الجواهر» قول من قال بوجوب الإجابة بقوله: (ولذا حمله غير واحدٍ على إرادة ما رضي المستأجر بضمان الأجير، بمعنى استيجاره ثانياً بالمتخلّف من الاُجرة ولو معاطاةً ، فإنّه حينئذٍ لا إشكال فيه) انتهى (1)، وهو حسن.

***0.

ص: 103


1- جواهر الكلام: ج 17/380.

لو أفسد الأجير حَجّه

المسألة التاسعة: لو أفسد الأجير حجّه، وجبَ عليه الحجّ من قابل، وإتمام ما بيده، وكفّارة بدنة كالحاجّ عن نفسه بلا خلافٍ ، وفي «الجواهر»: (بل يمكن تحصيل الإجماع عليه)(1)، ويشهد به جملةٌ من النصوص التي سيمرّ عليك بعضها.

أقول: إنّما الكلام في موارد:

1 - هل الأوّل مسقطٌ لذمّة المنوب عليه أم لا؟ وعلى الثاني هل الحَجّ الثاني مبريءٌ للذمّة أم لا؟

2 - هل تنفسخ الإجارة أم لا؟

3 - هل يستحقّ الاُجرة على ما أتى به وإنْ ترك الإتيان به ثانياً من قابل أم لا؟

4 - هل يجب الإتيان بالثاني بالعنوان الذي أتى به الأوّل، أم هو واجبٌتعبّدي ؟

أمّا المورد الأوّل: فالقول بالمسقطية وعدمها يبتنيان على القول بأنّ الأوّل هو الواجب والثاني عقوبة، أو أنّ الواجب هو الثاني وإتمام الأوّل عقوبة، إذ على الأوّل يكون ما أتى به مبرّءاً لذمّة المنوب عنه دونه على الثاني.

وفيه قولان مشهوران:

أحدهما: صحّة الأوّل وكون الثاني عقوبة.

ثانيهما: العكس، وهو مختار صاحب «الجواهر» في المقام، لكنّه يختار الأوّل في مبحث كفّارات الإحرام في الحَجّ عن نفسه.

وقد استدلّ للثاني في «الجواهر»: بإطلاق اسم الفاسد على الأوّل في النّص

ص: 104


1- جواهر الكلام: ج 17/389.

والفتوى ، ثمّ قال: (احتمال أنّ هذا الإطلاق مجازٌ لا داعي إليه، بل هو منافٍ لجميع ما ورد في بيان المبطلات من النصوص، من أنّه قد فاته الحَجّ ، أو لا حَجّ له، أو نحو ذلك ممّا يصعب ارتكاب المجاز فيه، بل مقتضاه أنّ الحَجّ لا يبطله شيء، وإنّما يوجب فعل هذه المبطلات الإثم والإعادة عقوبة، وهو كما ترى) انتهى (1).

أقول: وسيمرّ عليك ما في هذا الاستدلال من الإشكال.

واستدلّ للأوّل: بطائفتين من النصوص:

الطائفة الأُولى : ما ورد في الحاجّ مطلقاً، وهي حسنة زرارة، بل صحيحته المرويّة في «الكافي»، قال: «سألته عن محرم غشى امرأته ؟ قال عليه السلام: جاهلين أم عالمين ؟ قلت: أجنبيٌ على الوجهين جميعاً، قال عليه السلام: إنْ كانا جاهلين استغفرا ربّهما، ومضيا على حجّهما، وليس عليهما شيء، وإنْ كانا عالمين فرّق بينهما من المكان الذي أحدثا فيه، وعليهما بدنة، وعليهما الحَجّ من قابل، فإذا بلغا المكان الذي أحدثا فيه فرّق بينهما حتّى يقضيا نُسُكهما، ويرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا.

قلت: فأيّ الحَجّتين لهما؟ قال عليه السلام: الأُولى التي أحدثا فيها ما أحدثا، والاُخرى عليهما عقوبة»(2).

أقول: وأُورد عليها:

تارةً : بكونها مضمرة، ولم يُحرز كون المسؤول عنه الإمام عليه السلام.

وأُخرى : بأنّها مختصّة بالحاجّ عن نفسه، ولا تشمل مفروض المقام بقرينة قوله: (فأيّ الحَجّتين لهما؟).2.

ص: 105


1- جواهر الكلام: ج 17/389.
2- الكافي: ج 4/373، ح 1، وسائل الشيعة: ج 13/108، ح 17352.

ولكن يندفع الأوّل: بأنّ السائل الراوي للخبر عن غيره بما أنّه زرارة لا محالة يكون المسئول عنه هو الإمام عليه السلام، على أنّ الظاهر كون الإضمار قد حصل عند تجميع الشيخ وإلّا فلا إضمار في أصل الخبر كما هو مذكورٌ في محلّه.

ويندفع الثاني: بأنّ السؤال مطلق، وقوله: (لهما) في مقابل كون الحَجّ الآخر عقوبة لا في مقابل النيابة، وعلى هذا فيتعيّن حمل الفساد في بعض النصوص المشار إليه على إرادة كون الأُولى كالفاسدة، باعتبار وجوب الإعادة ولو عقوبة لا تداركاً، خصوصاً بعدما ورد من إطلاقه فيما أجمعوا على صحّته، كما في حديث حمران فيمن جامع بعد أن طاف ثلاثة أشواط، قال: «قد أفسد حجّه وعليه بدنه»(1).

مع الإجماع على صحّة الحَجّ في هذه الصورة، كذا في «الجواهر»(2) في مبحث كفّارات الإحرام في الحَجّ عن نفسه.

الطائفة الثانية: ما ورد في خصوص الأجير، وهي موثّقا إسحاق بن عمّار، عن أحدهما عليهما السلام:

ففي أحدهما: «قال: سألته عن الرّجُل يموت، فيُوصي بحجّة، فيُعطي رجل دراهم يحجّ بها عنه، فيموت قبل أن يحجّ ، ثمّ اُعطي الدراهم غيره ؟ فقال عليه السلام: إنْ مات في الطريق أو بمكّة قبل أن يقضي مناسكه، فإنّه يجزي عن الأوّل، قلت: فإن ابتلى بشيء يفسد عليه حجّه حتّى يصير عليه الحَجّ من قابل أيجزي عن الأوّل ؟ قال عليه السلام: نعم، قلت: لأنّ الأجير ضامن للحَجّ؟ قال: نعم»(3).1.

ص: 106


1- الكافي: ج 4/379، ح 6، وسائل الشيعة: ج 13/126، ح 17397.
2- جواهر الكلام: ج 20/354 (الفرض المفسد لحجّ هي الثانية دون الأُولى ).
3- تهذيب الأحكام: ج 5/417، ح 96، وسائل الشيعة: ج 11/185، ح 14581.

وفي الآخر: «سأل الإمام الصادق عليه السلام عن رجل حَجّ عن رجلٍ فاجترح في حجّه شيئاً، يلزمه فيه الحَجّ من قابل أو كفّارة ؟ قال عليه السلام: هي للأوّل تامّة، وعلى هذا ما اجترح»(1).

والضمير في قوله: (يجزي) في الخبر الأوّل راجعٌ إلى الحَجّ الذي وقع فيه المفسد، والمراد من الأوّل الشخص الأوّل.

وأورد عليهما في «الجواهر»: في هذه المسألة: (بأنّهما وإنْ كانا ظاهرين في أنّ الفرض هو الأوّل، إلّاأنّه يجبُ حملهما على إرادة إعطاء اللّه للمنوب عنه حجّة تامّة تفضّلاً منه، وإن قصّر النائب في إفسادها، وخوطب بالإعادة) انتهى (2).

ولكن ما أفاده في ذلك المبحث جوابٌ عن ذلك، إذ حمل الفساد على النقص الموجب للعقوبة أسهل من حمل الخبرين على ما اُفيد.

فتحصّل: أنّ الأظهر كون الأوّل هو الفرض والثاني عقوبة، وعليه فهو الموجبُ لفراغ الذمّة، وقد صرّح بذلك في الخبرين أيضاً.

وأمّا على القول الآخر: فهل الثاني يوجبُ فراغ ذمّة المنوب عنه أم لا؟

ربما يقال - كما عن «المبسوط»(3) و «الخلاف»(4) و «السرائر»(5) و «القواعد»(6)قطعاً، وعن «المعتبر»(7) احتمالاً - بالثاني، وأنّه لابدَّ للمستأجر أن يستأجر مرّة6.

ص: 107


1- الكافي: ج 4/544، ح 23، وسائل الشيعة: ج 11/185، ح 14582.
2- جواهر الكلام: ج 17/390.
3- المبسوط: ج 1/325.
4- الخلاف: ج 2/388.
5- السرائر: ج 1/632.
6- قواعد الأحكام: ج 1/414.
7- المعتبر: ج 2/776.

أُخرى في صورة التعيّين، وللأجير أن يحجّ ثالثاً في صورة الإطلاق.

واستدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الثاني إنّما وجب للإفساد عقوبةً ، سواءٌ أكان الأوّل صحيحاً أم لا، بمعنى أنّه عقوبة ما جناه من ارتكاب المفسد، ولذا لا يختصّ بالحَجّ الواجب، فيجب ثالث، إذ التداخل خلاف الأصل.

وفيه أوّلاً: النقض بما إذا أفسد المستطيع حجّه، فإنّ عليه الحجّ من قابل ويكتفي به عن خطاب الاستطاعة والإفساد.

وثانياً: بالحَلّ ، وهو أنّ التداخل مفهوم من دليل السببين، فإنّه يجب على النائب أن يأتي بالحَجّ في القابل عن المنوب عنه، وبذلك العنوان، فذلك الحَجّ بنفسه يتعلّق به حكمٌ آخر.

وبهذا يظهر اندفاع ما قيل من إنّه من عدم اختصاصه بالحَجّ الواجب، يستكشف كونه تكليفاً متعلّقاً بحَجّ آخر.

وبالجملة: على القول بعدم صحّة الأوّل، يكون الثاني هو المعنون بذلك العنوان.

الوجه الثاني: ما ذكره صاحب «الجواهر»، بقوله: (ودعوى أنّ الحَجّ بإفساده له انقلب لنفسه لأنّه غير المتسأجر عليه - إلى أن قال - فيكون القضاء عن نفسه) انتهى (1).

فيه أوّلاً: منع الانقلاب لنفسه.

وثانياً: أنّ المأتي به ثانياً بدلٌ عن الأوّل بالعنوان الذي أتى به، لا بما صار إليه بعد الفسخ والانقلاب.

وأمّا المورد الثاني: وهو أنّه هل تنفسخ الإجارة أم لا؟ وقد اختلفت كلمات1.

ص: 108


1- جواهر الكلام: ج 17/391.

القوم فيه، ولخّصها صاحب «الجواهر» بقوله: (المحصَّل من الأقوال ثمانية:

1 - انفساخ الإجارة مطلقاً، إنْ كان الثاني فرضه، وهو ظاهر المتن.

2 - انفساخها مع التعيّين دون الإطلاق، ووجوب حجّة ثالثةً نيابة كما هو خيرة الفاضل في «القواعد»(1)، والمحكي عن الشيخ(2) وابن إدريس(3).

3 - عدم الانفساخ مطلقاً، ولا يجب حجّة ثالثة، وهو خيرة الشهيد(4).

4 - إنْ كان الثاني عقوبة لم تنفسخ مطلقاً، ولا عليه حجّة ثالثة، وإنْ كان فرضه انفسخ في المعيّنة دون المطلقة، وعليه حجّة ثالثة، وهو على ما قيل خيرة «التذكرة»(5) وأحد وجهي «المعتبر»(6) و «المنتهى »(7).

5 - كذلك وليس عليه حجّة ثالثة مطلقاً، وهو محتمل «المعتبر»(8) و «المنتهى »(9).

6 - انفساخها مطلقة كانت أو معيّنة، كان الثاني عقوبة أم لا، لانصراف الإطلاق إلى العام الأوّل، وفساد الحَجّ الأوّل وإنْ كان فرضه.

7 - عدم انفساخها مطلقاً، كذلك قيل، ويحتمله «الجامع»(6) و «المعتبر»(7)و «المنتهى »(8) و «التحرير»(9).6.

ص: 109


1- قواعد الأحكام: ج 1/414.
2- المبسوط: ج 1/322، الخلاف: ج 2/388.
3- السرائر: ج 1/632.
4- الدروس: ج 1/323، ويظهر من قوله: (ولو جامع قبل الوقوف أعاد الحَجّ وأجزأ عنهما، سواء كانت الإجارة معيّنة أو مطلقة على الأقوى ).
5- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/158. (6و8) المعتبر: ج 2/776. (7و9) منتهى المطلب، (ط. ق): ج 2/865.
6- الجامع للشرائع: ص 225.
7- المعتبر: ج 2/776.
8- منتهى المطلب، (ط. ق): ج 2/865.
9- تحرير الأحكام، (ط. ق): ج 1/126.

8 - المختار، وهو محتمل محكي «المختلف»(1)، وهو الأصحّ ، وليس في الخبرين منافاة له بعدما عرفت) انتهى (2).

أقول: بناءً على ما عرفت من أنّ الأوّل فرضه، لا يؤدّي إلى فسخ الإجارة مطلقاً للإتيان بالعمل المستأجر عليه، غاية الأمر يجب عليه الإتيان به ثانياً أيضاً.

وأمّا على القول بأنّ إتمام الأوّل عقوبة، والثاني فرض، فإنْ كان الحَجّ المستأجر عليه مقيّداً بتلك السنة انفسخت، لعدم الإتيان به لفرض بطلان ما أتى به.

ودعوى: أنّ الحَجّ في القابل عوضٌ شرعي عمّا وقع عليه العقد، فالإجارة بالنسبة إلى الأوّل وإن انفسخت، إلّاأنّها بالنسبة إلى الثاني باقية كما في «العروة»(3).

تندفع: بأنّه ليس في نصوص الباب ما يدلّ على أنّ الثاني عوض شرعي تعبّدي عن العمل المستأجر عليه بهذا العنوان، بحيث يصبح الثاني متعلّق الإجارة كما لا يخفى .

وإنْ كان غير مقيّد بها، لم تنفسخ الإجارة، فإنّ فساد الفرد لا يقتضي انفساخ الإجارة الواقعة على المطلق، وإن قلنا بوجوب التعجيل في الإجارة المطلقة، لأنّه لا يوجب تعيّين المستأجر عليه، وقد مرّ أنّه يجتزي بالحَجّ من قابل عن الحَجّ ثانياً.

وأمّا المورد الثالث: فإنْ كان الفرض هو الثاني، لا يستحقّ الاُجرة بالأوّل، غاية الأمر إذا كانت مطلقة يستحقّها بالثاني، وإنْ كان الفرض هو الأوّل استحقّها مع الإتيان به من قابل لا بدونه، فإنّ ظاهر الأخبار أنّ الحَجّ الثاني مربوط بالأوّل، وتدارك للنقص الواقع فيه، ومعلومٌ أنّ متعلّق الإجارة هو الحَجّ الكامل غير1.

ص: 110


1- مختلف الشيعة: ج 4/329.
2- جواهر الكلام: ج 17/391.
3- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/561.

الناقص، فلو لم يأتِ بالمكمل لا يستحقّ الاُجرة.

اللّهُمَّ إلّاأن يُقال: إنّ قوله عليه السلام في موثّق إسحاق الثاني: (هي للأوّل تامّة وعلى هذا ما اجترح) يدلّ على تماميّة الأوّل بالنسبة إلى المنوب عنه، وأنّ الحَجّ الثاني في ذمّة ذلك، وليس تداركاً للنقص، وعليه فيستحقّ تمام الاُجرة وإنْ لم يأت بالثاني عصياناً، بل قول السائل في الموثّق الأوّل: (أيجزي عن الأوّل ؟ قال عليه السلام: نعم، قلت:

لأنّ الأجير ضامن للحَجّ؟ قال: نعم) يدلّ على ذلك.

وأمّا المورد الرابع: فالظاهر لزوم الإتيان به بالعنوان الذي أتى به الأوّل، فإنّه الظاهر من الدليل الآمر بإعادة الحَجّ ، فإنّ المستفاد منها - كسائر الموارد التي يأمر الشارع بإعادة المأمور به - هو الإتيان بالثاني بالعنوان الذي أتى به الأوّل. لا أقول إنّ الإعادة ظاهرة في ذلك، كي يقال ليس هذا اللّفظ في النصوص، بل أقول:

قوله عليه السلام: (عليهما الحَجّ من قابل)، ظاهرٌ في ذلك، ولذا سأل الراوي بعد ذلك عن أيّ الحجّتين لهما؟ إذ لو لم يكن الثاني بالعنوان الأوّل لما كان موردٌ لهذا السؤال، مع أنّ التعليل في الموثّق بأنّ الأجير ضامنٌ للحَجّ يُشعر بذلك، كما لا يخفى .

***

ص: 111

تمليك الأجير الاُجرة بالعقد

المسألة العاشرة: يملك الأجير الاُجرة بالعقد، لأنّ ذلك مقتضى صحّة الإجارة المملّكة لها، وقد دلّت النصوص الخاصّة في الحَجّ على ذلك، لاحظ موثّق الساباطي، وخبر مسمع، ورواية عبد اللّه الآتية في آخر هذه المسألة.

كما لا إشكال في وجوب تسليمها بعد الإتيان بالعمل، لوجوب رَدّ المال إلى صاحبه، وكذا لا كلام في وجوب تسليمها قبل إكمال العمل لو شرط ذلك.

أقول: إنّما الكلام في أنّه هل يجبُ تسليمها قبل العمل لو طالبها الأجير، مع عدم اشتراط ذلك في ضمن العقد، ولم يكن قرينةً على التعجيل، أم لا؟

المنسوب إلى المشهور هو عدم الوجوب، بل عدم جواز المطالبة.

واستدلّ له بعض الأعاظم من المعاصرين(1) باقتضائه طبع المعاوضة، فما دام لم يُسلّم المعوّض إلى المستأجر، له الحقّ في تأخير العوض، فيجوز لكلّ منهما أن يمتنع من التسليم في ظرف امتناع الآخر عنه.

وفيه أوّلاً: أنّ المعاوضة هي المبادلة بين المالين ولا ربط لها بالتسليم والتسلم الخارجيّين.

وثانياً: أنّ محلّ الكلام ليس امتناع الآخر عن العمل، بل بناؤه على العمل في ظرفه المقرّر له، وإنّما يطالب الاُجرة قبل ذلك.

أقول: تسليم العمل إنّما هو بالإتيان به، وعليه فكما أنّ في البيع نقول بأنّه يجب تسليم العوض والمعوّض معاً، ولا يُصغى إلى ما قيل من أنّ كلّاً من البائع والمشتري

ص: 112


1- مستمسك العروة الوثقى : ج 11/66.

ملك أحد العوضين، ولابدّ من تسليم ماله إليه، ووجوب التسليم عليه ليس مشروطاً بتحقّقه من الآخر، فلا يسقط التكليف بأداء مال الغير عن أحدهما بمعصية الآخر، وأنّ ظلم أحدهما لا يسوّغ ظلم الآخر، والوجه فيه أنّ مبنى البيع على التقابض وكون المعاملة يداً بيد، فهناك شرطٌ ضمني ارتكازي يكون العقد مبنيّاً عليه، وهو التزام كلّ منهما بتسليم العين مقارناً لتسليم صاحبه، والتزام على صاحبه أن لا يسلّمه مع الامتناع.

وعليه فلكلّ منهما الامتناع من التسليم لو امتنع الآخر، ولا يجب تسليم ما بيده قبل تسليم صاحبه ما تحت يده - كذلك نقول في المقام، فإنّ هذا الشرط الضمني الارتكازي الذي هو بحكم الذكر لبناء العقد عليه، كما يكون في البيع، كذلك يكون في الإجارة.

هذا، مع قطع النظر عمّا نفينا عنه البُعد، وأفتى به جماعة منهم الفاضل النراقي(1)من أنّه بمجرّد الإجارة تصبح ذمّة المنوب عنه فارغة، وتشتغل ذمّة الأجير به، وإلّا فيجب تسليم الاُجرة وإنْ لم يعمل كما هو واضح، والمسألة محتاجة إلى مزيدٍ من التأمّل.

وقد يقال: إنّه ما الفرق بين استيجار العبد لعمل، وبين استيجار الحُرّ له، حيث التزم الأصحاب بجواز مطالبة الاُجرة قبل إتيان العبد بالعمل، بخلاف ما هُم عليه في الحُرّ حيثُ لَم يلتزموا بذلك، مع أنّ المدرك عامّ لهما؟

والجواب عنه: أنّه لا فرق بينهما أصلاً، وما قيل من أنّ تسليم منفعة العبد إنّما هو بتسليم نفسه، وهذا بخلاف الحُرّ، فإنّه لا يقع تحت اليد، كلام شعري لا أصل له،5.

ص: 113


1- مستند الشيعة: ج 11/145.

إذ المراد من الوقوع تحت اليد ليس صيرورته مِلْكاً لمن وقع تحت يده، فإنّ العبد أيضاً لا يصير كذلك، بل المراد التسلّط الخارجي وإمكان الانتفاع به، وهو فيهما على حَدٍّ سواء، وإنّما الفرق بين موارد الإجارة، فإنّه قد تقع الإجارة على المنفعة الخاصّة، وهذا إنّما يكون بتسليم من تكون المنفعة قائمة به، لوجودها بوجوده، من غير فرق بين العبد والحُرّ، وقد تقع على العمل، وهذا لا يكون تسليمه إلّابالعمل، وتمام الكلام في كتاب الإجارة.

أقول: وعلى ما ذكرناه من أنّ للمستأجر الامتناع من تسليم الاُجرة قبل العمل، فلو كان المستأجر وكيلاً أو وصيّاً وسلّمها قبله، هل يكون ضامناً على تقدير عدم العمل من المؤجّر، أو فساده كما عن جمع من الأساطين، أم لا؟

استدلّ للأوّل في «الجواهر»: بأنّ مثل هذا التصرّف منه يُعدّ تفريطاً(1).

وأُورد عليه: بأنّ الاُجرة صارت ملكاً للأجير بالإجارة، وخرجت عن ملك الميّت والموكّل، ولذلك لا يمكن عدّ رَدّ المال إلى صاحبه تفريطاً!؟

ولكن يمكن أن يقال: إنّه حيث يكون لهما - أي الميّت والموكّل - حقّ الامتناع عن التسليم قبل العمل، فلا يجوز ذلك بدون إذنهما، فلو سلّم الاُجرة الوكيل أو الوصي والحال هذه، ولم يأت الأجير بالعمل وانفسخت الإجارة، وعاد المال إلى الموكّل أو الميّت، يكون الوصيّ أو الوكيل متعدّياً وضامناً.

نعم، في خصوص الحَجّ لمّا كان المتعارف تسليم الاُجرة أو نصفها قبل المشي إلى مكّة، يستحقّ الأجير المطالبة في صورة الإطلاق، ويجوز للوكيل والوصي دفعها من غير ضمان للإذن المستفاد من التعارف، ولذلك ترى في النصوص أنّ 7.

ص: 114


1- جواهر الكلام: ج 17/397.

تسليم الاُجرة قبل الحَجّ أمرٌ مفروغٌ عنه، كما في مثل:

1 - خبر مسمع، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أعطيتُ الرّجل دراهم يحجّ بها عنّي، ففضل منها شيء، فلم يردّه عَليَّ؟ فقال: هو له، لعلّه ضيَّق على نفسه في النفقة لحاجته إلى النفقة»(1).

2 - وخبر محمّد بن عبد اللّه القمّي، عن الإمام الرِّضا عليه السلام: «عن الرّجل يعطى الحَجّة يحجّ بها، ويوسّع علينفسه، فيفضل منها أيردّها عليه ؟ قال عليه السلام: لا، هي له»(2).

3 - وموثّق الساباطي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يأخذ الدراهم ليحجّ بها عن رجل، هل يجوز أن ينفق منها في غير الحَجّ؟ قال عليه السلام: إذا ضمن الحجّة فالدراهم له يصنع بها ما أحبّ وعليه حجّة»(3).

***4.

ص: 115


1- تهذيب الأحكام: ج 5/414، ح 88، وسائل الشيعة: ج 11/179، ح 14572.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/415، ح 89، وسائل الشيعة: ج 11/180، ح 14573.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/415، ح 90، وسائل الشيعة: ج 11/180، ح 14574.

استيجار الأجير غيره على الحَجّ

المسألة الحادية عشر: إذا استؤجر للحَجّ عن الغير:

فتارةً : تقع الإجارة على الحَجّ مباشرة.

وأُخرى : تقع على تحصيل الحَجّ في الخارج، أعمّ من المباشرة والتسبيب.

وثالثة: تكون مطلقة، ولا يصرّح فيها بشيء من الإطلاق والتقيّيد.

وفي الأخيرة قد يُنسب الحَجّ إلى الفاعل، كما لو قال: (آجرتُكَ على أن تحجّ ) بصيغة المعلوم، وقد لا يُنسب إليه ولا يذكر فاعله، كما لو قال: (آجرتُكَ على أن تُحجّ ) بصيغة المجهول.

أمّا الصورة الأُولى : فلا كلام في وجوب المباشرة، وعدم جواز استنابة غيره فيها، كما لا كلام في جواز الإستنابة في الصورة الثانية.

أمّا في الصورة الثالثة: فالظاهر عدم جواز الإستنابة، إذ ظاهر نسبة الفعل إلى الفاعل، كون النسبة على نحو القيام به لا بنحو السبب في حصوله، فقوله: (أن تَحجَّ ) أي تُوجِد الحَجّ مباشرة.

وأمّا في الصورة الرابعة: فالظاهر جوازها، لأنّ المستأجر عليه هو الحَجّ من دون نظر إلى فاعلٍ معيّن، ونسبته إلى الأجير ليست نسبة قيام بل نسبة تحصيل، هذا ما يقتضيه القواعد.

أقول: ولكن في المقام رواية وهي رواية عثمان بن عيسى ، قال:

«قلتُ لأبي الحسن الرِّضا عليه السلام: ما تقول في الرّجل يعطى الحَجّة فيدفعها إلى غيره ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(1).

ص: 116


1- تهذيب الأحكام: ج 5/417، ح 95، وسائل الشيعة: ج 11/184، ح 14580.

وما أفاده بعض المعاصرين(1) من الخدشة في سندها غير صحيح، فإنّ سندها صحيح، ورجالها ثقات، ولكن في دلالتها على خلاف مقتضى القواعد تأمّلاً.

قال صاحب «المستند»: (فلا دلالة فيها على الاستيجار بوجه، بل مدلولها إعطاء ما يَحجّ به لأجل الحَجّ ، فيحتمل التوكيل أيضاً، بل هو الظاهر، فسئل أنّه إذا أعطى رجل وجه حَجّة لغيره، هل يجب على الغير مباشرته بنفسه أو يجوز له الدفع إلى الغير؟) انتهى (2).

وأمّا دعوى صاحب «العروة»:(3) من حملها على صورة العلم بالرِّضا من المستأجر.

فيرد عليها: - مضافاً إلى أنّه لا شاهد لهذا الحمل - أنّ مجرّد العلم بالرِّضا لا يكفي، إلّاأن يرجع إلى الإذن الإنشائي في الاستيفاء بفرد آخر، فالعمدة ما ذكرناه، وإلّا فالرواية غير معمول بها.

***5.

ص: 117


1- مستند العروة الوثقى، كتاب الحَجّ : ج 2/96 و 97، مسألة 23.
2- مستند الشيعة: ج 11/135.
3- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/565.

الاستئجار للحَجّ مع ضيق الوقت عنه

المسألة الثانية عشر: لا يجوز استيجار من ضاق وقته عن إتمام الحَجّ تمتّعاً، وكان وظيفته العدول إلى الإفراد عن من عليه حَجّ التمتّع، إذ الإفراد في الفرض المذكور بدلٌ اضطراري، وعلى فرض القول بجواز العدول إليه من الأوّل إذا علم بالضيق، ولم يختصّ ذلك بمَن شرع في الحَجّ ثمّ تبيّن، فإنّ المنوب عنه مع فرض إمكان غير هذا النائب له لا يكون مضطرّاً، فلا يكون ذلك مشروعاً للنائب، كي تصحّ استيجاره له.

ولو استأجره مع سعة الوقت، فنوى التمتّع، ثمّ اتّفق ضيق الوقت، فهل يجوز العدول، ويجزي عن المنوب عنه أم لا؟ وجهان:

وفي «المستند»: (لم أعثر على مصرّح من الفقهاء بحكمه)(1)، واعتماداً عليه قدس سره تركنا الفحص عن ذلك، ولكن المتأخّرين عنه اختلفوا على قولين:

أحدهما: جواز العدول، ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله(2).

ثانيهما: عدم جوازه، اختاره جمع من الفقهاء.

واستدلّ للأوّل: بإطلاق أخبار العدول إليه.

واُجيب عنه: بانصرافها إلى الحاجّ عن نفسه، وحيثُ إنّه يكون على خلاف الأصل فلا دليل عليه.

ص: 118


1- مستند الشيعة: ج 11/134.
2- في تعليقه على العروة الوثقى: ج 4/566، قوله في تعليقه على المسألة: (لا مجال لأن يمنع عن العدول، والأظهر الإجزاء).

وفيه: أنّ دعوى الانصراف لا منشأ لها، وعلى فرضه فهو بدويٌ لا يعتنى به، فالمحكّم هو إطلاق أخبار العدول.

وعلى فرض جواز العدول هل يكون مجزئاً عن المنوب عنه أم لا؟

ذهب جماعةٌ منهم الفاضل النراقي رحمه الله(1) وسيّد «العروة»(1) إلى الثاني، واستدلّ له صاحب «المستند» بأنّ : (عمومات عدول المتمتّع إلى الإفراد مع العُذر لا يفيد أزيد من جوازه أو لزومه عليه، وعدم ترتّب إثم أو شيء آخر عليه من هذه الحيثيّة، وهو مسلمٌ ولا يدلّ ذلك على براءته عمّا لزم عليه من جهة الإجارة، واستحقاقه لمال الإجارة) انتهى (3).

وفيه: أنّه على تقدير تسليم شمول أخبار العدول له، يكون تلك ظاهرة في كون الإفراد بدلاً شرعيّاً عمّا عليه، فمع إتيان البدل لا محالة يسقط المبدل عنه عن الذمّة، فالإجزاء لازمُ شمول الأخبار له، ويترتّب عليه استحقاقه الاُجرة المسمّاة، وبهذا يندفع ما استدلّ به على عدم الإجزاء عنه، بأنّ الأبدال الاضطراريّة إنّما تجزي على تقدير الاضطرار، والاضطرار بالنسبة إلى المنوب عنه يتوقّف على انحصار النائب بالشخص المعيّن، فمع إمكان غيره لا اضطرار، فإنّ هذا الوجه يصلح وجهاً لعدم جواز استيجاره لمن يعلم بذلك من أوّل الأمر، ولا يصلح الاستناد إليه في فرض المسألة بعد عموم النّص.

***6.

ص: 119


1- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/566.

فصل في الوصيّة بالحَجّ

اشارة

الفصل الرابع: في الوصيّة بالحَجّ ، والكلام فيه في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى : إذا وجبَ الحَجّ على المكلّف، ولم يأت به إلى أن قَرُب أجله، وجب عليه أن يوصي به، وفاقاً لصريح غير واحدٍ، وظاهر آخرين في جميع العبادات البدنيّة، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: عموم معاقد الإجماعات الدالّة على وجوب الوصيّة لكلّ حقّ واجب.

وفيه: كون تلك الإجماعات تعبّديّة غير ثابت.

الوجه الثاني: ما عن «جامع المقاصد»(1) من أنّفيه دفعاًلضرر العقاب عن نفسه.

وفيه: أنّه إنْ اُريد العقاب على ترك مباشرته حال الحياة - فمع أنّه قد يفوت الواجب لعذرٍ يُسقط العقاب - أنّ العقاب على ترك المباشرة لا يندفع بالوصيّة.

وإنْ اُريد العقاب على ترك الوصيّة، فهو أوّل الكلام.

وإنْ اُريد العقاب على عدم إتيان النائب، فهو لا يكون متوجّهاً إلى الميّت.

الوجه الثالث: ما أفاده الشيخ الأعظم(2) رحمه الله في كتاب الوصيّة، وحاصله:

أنّه بناءً عليمشروعيّة النيابة في العبادة البدنيّة كالحَجّ على ما هو المفروض، لا محالة يكون حَجّ النائب حَجّاً للمنوب عنه، وعليه فخطاب الحَجّ وإنْ لم يشمل

ص: 120


1- جامع المقاصد: ج 10/120.
2- الوصايا والمواريث للشيخ الأنصاري: ص 162 و 163.

الإيصاء به، لأنْ يأتي النائب به، إلّاأنّه مستفاد ممّا ثبت من أنّ الأمر بالمسبّب المتوقّف على أُمور غير اختياريّة يرجع إلى إرادة إيجاد ما في وسع المكلّف من المقدّمات، وإنْ لم يكن ذلك مراداً من اللّفظ، فإنْ صادف الأسباب الموجودة باقي الأُمور الخارجة عن اختيار المكلّف، فقد حصل الامتثال وإلّا سقط الأمر، فالإيصاء بفعل الحَجّ نيابة عنه، يسقط معه الأمر بالحَجّ على كلّ تقدير، سواءٌ حصل من النائب أم لم يحصل.

أقول: وفي كلامه قدس سره مواقع للنظر:

أحدها: ما أفاده قدس سره من أنّ فعل النائب فعل المنوب عنه تنزيلاً، فإنّه قد عرفت في فصل النيابة عند بيان حقيقتها أنّ هذا لا يتمّ ، بل النائب مأمورٌ بإتيان العمل بعنوان النيابة مستقلّاً، فراجع(1).

ثانيها: ما أفاده من أنّ المنوب عنه مأمورٌ بفعل النائب.

فإنّه يرد عليه: أنّه لا يعقل توجّه الأمر بفعل الغير الذي لا يكون مسبّباً توليديّاً لفعله، ويكون اختياره فاصلاً إليه فإنّه من الأمر بغير المقدور، فضلاً عن أنّه لا دليل عليه، وثبوته في ذمّته غير الأمر به، وإلّا لزم سقوطه بالموت من دون الإيصاء.

ثالثها: ما أفاده من أنّ الإيصاء بفعل الحَجّ نيابةٌ عنه، يسقط معه الأمر به على كلّ تقدير.

فإنّه يرد عليه: أنّه مع سقوطه عنه لا مورد للنيابة.

والحقّ في المقام أن يقال: إنّه كما يستقلّ العقل بوجوب إطاعة المولى ولزومء.

ص: 121


1- النيابة بكلّ تفاصيلها مرّت في بداية هذا الجزء.

تفريغ الذمّة عن الواجب، كذلك يستقلّ العقل بلزوم التسبيب إلى فراغ الذمّة بالمقدار الممكن، وليس هو إلّاالإيصاء، وبالملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع فيما يمكن توجّه الأمر المولوي كما في المقام، يُستكشف الحكم الشرعي، وهو وجوب الإيصاء.

***

الحَجّ الموصى به يخرج من الأصل أو الثُّلث

المسألة الثانية: قد مرّ في فصل الحَجّ النذري، أنّ الحَجّ الواجب أعمٌّ من حَجّة الإسلام أو النذري على القول بوجوب قضائه أو غيرهما، بل جميع الواجبات البدنيّة تخرج من الأصل، راجع المسألة الرابعة من ذلك الفصل(1).

أمّا الحَجّ الموصى به فلا كلام ولا خلاف في أنّه لو علم إنّه ندبي يخرج من الثُّلث، ويشهد به طائفتان من النصوص:

الطائفة الأُولى : ما ورد في مطلق الوصيّة، وهي أخبارٌ كثيرة قد عقد لها الحُرّ العاملي رحمه الله باباً في «الوسائل» في كتاب الوصيّة، وتدلّ على أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثُّلث، خرج عنه الوصيّة بالحَجّ الواجب بالتقريب المتقدّم:

منها: صحيح أحمد بن محمّد، قال: «كتب أحمد بن إسحاق إلى أبي الحسن عليه السلام:

أنّ دُرّة بنت مقاتل توفّيت، وتركت ضيعةً أشقاصاً في مواضع، وأوصت لسيّدنا عليه السلام في إشقاصها بما يبلغ أكثر من الثُّلث... إلى أن قال: فكتب بخطّه: ليس يجبُ لها في تركتها إلّاالثُّلث»(2). ونحوه غيره.

ص: 122


1- فقه الصادق: ج 13/379، مبحث (القضاء يؤدّي من أصل التركة أو الثُّلث).
2- تهذيب الأحكام: ج 9/192، ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/275، ح 24580.

الطائفة الثانية: ما ورد في خصوص الإيصاء بالحَجّ ، كصحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن رجل مات وأوصى أن يُحجّ عنه ؟ قال عليه السلام: إنْ كان صرورةً فمن جميع المال، وإنْ كان تطوّعاً فمن ثلثه»(1). ونحوه غيره.

حكم ما إذا لم يعلم أحد الأمرين

فرع: وإنْ لم يعلم أنّ ما أوصى به واجبٌ أو ندبٌ ، فهل يخرج من الأصل، أو الثُّلث، أم يفصّل بين الموارد؟

أقوال: ففي «التذكرة»: (وإنْ لم يعلم اخرج من الثُّلث اُجرة المثل أو ما عينه..) انتهى (2).

وعن سيّد «الرياض»: (أنّه يُخرج من الأصل)(3).

أمّا صاحب «العروة»(4) فقد فصّل بين مالو كانت الحالة السابقة فيه هو الوجوب، كما إذا علم وجوب الحَجّ عليه سابقاً، ولم يعلم أنّه أتى به أم لا، فيخرج من الأصل، وبين ما لو لم يعلم به فيخرج من الثُّلث.

وقد استدلّ للخروج من الأصل:

1 - بأنّ مقتضى عمومات وجوب العمل بالوصيّة، خروجها من الأصل، خرج عنها صورة العلم بكونه ندبيّاً.

2 - وبالرضوي(5): (فإنْ أوصى بماله كلّه، فهو أعلم بما فعله، ويلزم الوصي

ص: 123


1- تهذيب الأحكام: ج 5/404، ح 55، وسائل الشيعة: ج 11/66، ح 14255.
2- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/99.
3- رياض المسائل، (ط. ج): ج 9/513.
4- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/573.
5- فقه الرِّضا عليه السلام: ص 298، بحار الأنوار: ج 100/199، ح 28.

إنفاذ وصيّته على ما أوصى به).

وبعض أخبارٍ أُخر الذي يكون بهذا المضمون.

وقال في محكي «الرياض»(1): (ويحتمل عبارة المخالف كالرضوي لما يلتئم مع فتاوي العلماء، بأن يكون المراد به يجبُ على الوصيّ صَرف المال المُوصى به بجميعه على ما أوصى به، من حيث وجوب العمل بالوصيّة، وحرمة تبديلها بنصّ الكتاب والسُنّة، وإنّما جاز تغيّيرها إذا علم أنّ فيها جوراً ولو بالوصيّة بزيادة عن الثُّلث، وهو بمجرّد الاحتمال غير كافٍ ، فلعلّ الزيادة منه وقعت الوصيّة بها من دون حيفٍ كان، وجبت عليه في ماله بأحد الأسباب الموجبة له، والموصي أعلم، وهذا غير جواز الوصيّة بالزيادة تبرّعاً، فلا يمضى منه إلّاالثُّلث كما عليه العلماء) انتهى .

3 - وبأصالة الصحّة في فعل الموصي، فإنّه مع الشكّ في أنّ الموصى به واجبٌ ليصحّ الوصيّة في أكثر من الثُّلث، أو مندوب فلا يصحّ ، فيحمل تصرّفه على الصحّة، فيبنى على أنّ وصيّته في الواجب.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ عمومات وجوب العمل بالوصيّة خُصّصت بما دلّ على عدم نفوذ الوصيّة بأزيد من الثُّلث، إنْ كان المُوصى به ندبيّاً، وعليه فالتمسّك بها عند الشكّ في كونه ندبيّاً أو وجوبيّاً يعدّ تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة، وهو لا يجوز.

ويرد على الثاني: أنّ تلك النصوص ظاهرة في نفوذ الوصيّة، وإنْ كان بأزيد من الثُّلث، ويعارضها روايات كثيرة التي هي أشهر وأصحّ سنداً، وأكثر عدداً، وأوضح دلالةً ، ويتعيّن طرح هذه النصوص لذلك، ولا وجه لحملها على ما أفاده قدس سره.2.

ص: 124


1- رياض المسائل، (ط. ج): ج 9/512.

ويرد على الثالث: أنّه إنْ اُريد إجراء أصالة الصحّة في الوصيّة كما هو ظاهر الدليل.

فيرد عليه: أنّ أصالة الصحّة إنّما تجري عند دوران الأمر بين الصحّة نفسها والفساد، وأمّا لو دار الأمر بين الصحّة الفعليّة والصحّة التأهليّة، كما لو شكّ في صحّة بيع الراهن من جهة الشكّ في إذن المرتهن أو إجازته، فلا تجري، فإنّه لا يثبت الإذن أو الإجازة بإجراء أصالة الصحّة في العقد.

أقول: وفي المقام يدور الأمر بين الصحّة الفعليّة والصحّة التأهليّة، فإنّه لو كان الموصى به واجباً، فهي صحيحة بالفعل، وإنْ كان مندوباً فهي صحيحة بالصحّة التأهليّة، لتوقّفها على إجازة الورثة، فلا تجري أصالة الصحّة، فتأمّل، فإنّ ذلك قابلٌ للمناقشة، فإنّه وإنْ أفاده الشيخ الأعظم، ولكن قد أشبعنا الكلام فيه في «رسالة القواعد الثلاث» في مبحث أصالة الصحّة(1)، وأثبتنا جريانها عند الدوران بين الفعليّة والتأهليّة، مع أنّه لو تمّ ذلك اختصّ بما إذا زاد اُجرة ما أوصى به عن الثُّلث بالنسبة إلى الزيادة، كما هو واضح.

وإنْ اُريد إجراء أصالة الصحّة في فعل الموصي، وأنّه أتى بما كان واجباً عليه.

فيرد عليه: أنّ إجراء أصالة الصحّة يتوقّف على إحراز صدور العمل في الخارج، ومع الشكّ في تحقّق أصل العمل الموصوف بالصحّة، لا تجري، فإن دليلها يتكفّل التعبّد بالوصف، لا التعبّد بالموصوف وإثباته، ولا تعبّد بالوصف إلّامع إحراز الموصوف.

واستدلّ سيّد «العروة»(2) لما ذهب إليه بجريان الاستصحاب، أي استصحاب3.

ص: 125


1- راجع ايضاً: زبدة الاصول: ج 6/166، مبحث (أصالة الصحة).
2- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/573.

بقاء وجوبه إذا علم وجوب الحَجّ عليه سابقاً، ويدخل بذلك في موضوع ما دلّ على الخروج من الأصل، وهذا بخلاف ما لو لم يعلم به، فإنّ مقتضى الأصل عدم كونه واجباً، فيخرج من الثُّلث.

أقول: ما ذكره يتمّ في الشقّ الثاني، ولا يتمّ في الأوّل، لأنّ استصحاب بقاء الوجوب لا يكون مثبتاً لدين الميّت الذي هو موضوعٌ لتوجّه الخطاب إلى الوارث، وتمام الكلام في محلّه.

وبالجملة: فالأظهر أنّه يخرج من الثُّلث بمقتضى أصالة عدم الوجوب.

***

إذا لم يعيّن الموصي الاُجرة اقتصر على الأقلّ

المسألة الثالثة: إذا أوصى بالحَجّ :

فتارةً : لا يعيّن الاُجرة.

وأُخرى : يعيّنها.

وعلى التقديرين:

تارةً : يعيّن أجيراً معيّناً.

وأُخرى : لا يعينه.

فإنْ أوصى به ولم يعيّن الاُجرة ولا الأجير، ففي «الشرائع»(1) وغيرها انصرف ذلك إلى اُجرة المثل، كما هو مقتضى إطلاق عبارة «التذكرة»(2) أيضاً.

ص: 126


1- شرائع الإسلام: ج 1/171.
2- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/99.

ولكن في «المنتهى »(1)، وعن «القواعد»(2) وغيرهما أنّه يلزم الاقتصار على أقلّ ما يوجد من يَحجّ عنه.

واستدلّوا للأوّل: بالانصراف إلى اُجرة المثل، أو الانصراف عن الأكثر.

وأفاد سيّد «المدارك»(3) بقوله: (أمّا انصراف الاُجرة مع عدم التعيّين إلى اُجرة المثل فواضحٌ ، لأنّ الواجب العمل بالوصيّة مع الاحتياط للوارث، فيكون ما جرت به العادة كالمنطوق به).

أقول: هذا الوجه يتمّ إذا كان الوصيّة بالإخراج من الثُّلث، فإنّ له التصرّف بما شاء، وأمّا إذا لم تكن كذلك، بل كانت بإخراجه من الأصل أو كانت مطلقة، وقلنا بأنّه يخرج من الأصل، فهذا الوجه غاية ما يدلّ عليه أنّه كالتصريح بالاستيجار باُجرة المثل، فإذا أمكن الاستيجار بالأقلّ وجب الاقتصار عليه، فإنّه به يُجمع بين ما دلّ على لزوم العمل بالوصيّة، وما دلّ على أنّه لا يجوز الحيف على الورثة.

وبالجملة: العمل بالوصيّة لازم، إلّاأنّه لابدّ وأن يراعى حَقّ الورثة، ولا يزاحمهم، ولا يكون ذلك إلّابالاستيجار بالأقلّ إنْ أمكن، بل يمكن منع ذلك وإنْ كانت الوصيّة بالإخراج من الثُّلث، فإنّ إطلاق الوصيّة يقتضي الإذن بما فيه مصلحة الموصى، ومعلومٌ أنّ مصلحته تقتضي الاستيجار بالأقلّ إنْ أمكن.

أقول: وعلى ما اخترناه، يجب الفحص عنه، إذ مع احتمال وجوده لا يكون جواز الاستيجار باُجرة المثل معلوماً، نعم يكون وجوب الفحص مغيّى بأن يلزم1.

ص: 127


1- منتهى المطلب، (ط. ق): ج 2/874.
2- قواعد الأحكام: ج 1/414.
3- مدارك الأحكام: ج 7/141.

منه الحرج أو تعطيل الواجب.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الحَجّ الموصى به، هو الحَجّ الواجب أو الندبي، فإن أوصى به وعيّن أجيراً ولم يعيّن الاُجرة، فإنْ رضي الأجير بما يرضى به الأقلّ اُجرةً فلا كلام، وإنْ لم يرض به:

ففي «المنتهى »(1): (كان على الولي أنْ يحجّ عنه بأقلّ ما يوجد من يحجّ عنه..) انتهى .

والظاهر من «التذكرة»(2) أنّ الواجب الاستيجار باُجرة المثل، لا أقلّ اُجرة يوجدُ من يَحجّ بها.

وفي «المستند»(3): (فيجبُ إجابة الموصى له فيما يرضي، بأن يحجّ به، وإنْ كان زائداً عن الاُجرة، إلّاأنّ الزائد يخرج من الثُّلث) انتهى .

أقول: الكلام في أنّ الاُجرة التي يقتصر عليها في الخروج من الأصل، هل هي اُجرة المثل، أو أقلّ ما يوجد؟ هو الكلام فيها في الصورة السابقة.

وأمّا الزائد عليها: فإنْ كان أقلّ من الثُّلث، يخرج منه، ويجبُ إجابة الموصى له، وإنْ كان أزيد منه، فلا يجب إجابته، وتبطل الوصيّة.

هذا إذا كان الحَجّ واجباً.

وإنْ كان مندوباً، فيخرج اُجرة الحَجّ بتمامها من الثُّلث إن اتّسع، وإلّا فتبطل الوصيّة.

الفرع الأوّل: لو أوصى بالحَجّ وعيّن الاُجرة، ولم يعيّن الأجير:2.

ص: 128


1- منتهى المطلب، (ط. ق): ج 2/874.
2- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/99.
3- مستند الشيعة: ج 11/152.

فإنْ كان الحَجّ ندبيّاً فالحكم واضح.

وإنْ كان واجباً، فإنْ كانت الاُجرة المعيّنة مساويةً لأقلّ ما يجد من يحجّ به، صرفها الوارث إلى من شاء ممّن يقوم بالحَجّ .

وإنْ كانت أزيد منه كان ما يساويه من الأصل، والزائد من الثُّلث.

الفرع الثاني: لو أوصى بالحَجّ وعيّن الأجير والاُجرة معاً، فهنا صورتان:

تارةً : تكون الوصيّة بالحجّ الواجب، ففي «المنتهى »: (وإنْ عيّنهما معاً، فقال:

(أحجّوا عنّي فلاناً بمائة) اُعطي فلان اُجرة المثل من أصل المال، والزائد من الثُّلث، فإنْ رضي الموصى له فلا بحث، وإلّا استؤجر غيره بالمعيّن إن ساوى اُجرة المثل أو كان أقلّ ، وإنْ زاد فالوجه أنّ الزيادة للوارث، لأنّه أوصى بها لشخصٍ معيّن بشرط الحَجّ ، ولم يفعل الموصى له فيكون للوارث، ولا شيء للموصى له، لأنّه إنّما وصّى له بشرط قيامه بالحَجّ ..) انتهى (1).

أقول: حكمه بإخراج اُجرة المثل من الأصل، ينافي ما اخترناه، واختاره هو في الصورة السابقة من أنّ اُجرة الحَجّ التي تخرج من الأصل هي أقلّ ما يوجد من يحجّ عنه.

وحقّ القول في المقام: إنّ المقدار المشار إليه يُخرج من الأصل، والزائد عليه من الثُّلث إن اتّسع، وإلّا فمع إجازة الوراث، وبدونهما تبطل الوصيّة، لتعلّق الوصيّة بشخصٍ معيّن.

ودعوى صاحب «الحدائق»:(2) من الإشكال في بطلان الوصيّة، باعتبار (أنّه قد3.

ص: 129


1- منتهى المطلب، (ط. ق): ج 2/874.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/303.

أوصى بأمرين: الأجير والاُجرة، والحَجّ واجبٌ لابدَّ من إخراجه، وتعذّر الأجير لامتناعه لا يوجبُ بطلان تعيّين الاُجرة إلّاأن يعلم أنّ التعيّين إنّما وقع من حيث خصوصيّة ذلك الأجير الموصى له، وهو هنا غير معلوم..) انتهى .

مردودة: بأنّ الوصيّة نظير غيرها ممّا يتوقّف تحقّقه على الإنشاء والإبراز، والمفروض أنّ المُنشَأ هو الوصيّة لشخص معيّن، فمع امتناعه تبطل الوصيّة، ومجرّد تعلّق غرض الموصي بشيء لا يُجدي إلّاأن يعلم إرادة هذا الغرض من اللّفظ ولو مجازاً وبدلالة القرينة.

ومعلوم أنّ ما نحن فيه ليس كذلك، وقاعدة الميسور مع ارتباط أحدهما بالآخر في الإنشاء، لا مجرى لها، وإذا بطلت الوصيّة، فحيث أنّ الحَجّ واجب، لابدَّ من إخراجه، فيستأجر غيره بأقلّ ما يوجد.

واُخرى: تكون الوصيّة بالحَجّ المندوب.

فإنْ كانت الاُجرة الموصى بها بمقدار الثُّلث أو أقلّ منه، تعيّن استيجار ذلك الأجير، وإنْ زادت عنه أو لم يوافق الوصي بتلك الاُجرة، بطلت الوصيّة وتدفع الاُجرة إلى الورثة.

ودعوى: أنّه لو علم تعلّق غرض الموصي بالحَجّ مطلقاً، وجب إخراجه، لأنّ الموصى به على هذا التقدير في قوّة شيئين، فلا يبطل أحدهما بفوات الآخر.

تامّة: إذا كان المُنشَأ بالإيصاء متعدّداً، ولم يحتمل ارتباطهما، وإلّا فمجرّد التعدّد الضمني لا يُجدي كما مرّ.

***

ص: 130

إذا لم يعيّن عدد الحَجّ

المسألة الرابعة: إذا أوصى بالحَجّ وعيّن المرّة أو التكرار بعددٍ معيّن، تعيّن بلا خلافٍ ولا كلام.

وإنْ لم يعيّن:

فتارةً : لا يعلم أنّه أراد المرّة أو التكرار.

وأُخرى : يعلم أنّه أراد التكرار، ولكن لا يعلم العدد.

أمّا في الصورة الأُولى :

1 - ففي «المنتهى »(1)، و «الشرائع»(2)، و «الجواهر»(3)، وعن «القواعد»(4)، و «المدارك»(5) وغيرها لزوم الاقتصار على المرّة.

2 - وعن بعضٍ أنّه إنْ اُخرج من الأصل، وجب الاقتصار على الواحد، إلّا مع إذن الورثة، وإنْ اُخرج من الثُّلث جاز الواحد كما جاز المتعدّد في سنة واحدة.

3 - وعن الشيخ(6)، وجماعة، وفي «الحدائق»(7)، و «المستند»(8): أنّه يجبُ التكرار ما دام الثُّلث باقياً.

واستدلّ للأوّل: بأنّ مقتضى الإطلاق لو كان هناك إطلاقٌ ، كون المراد صِرف

ص: 131


1- منتهى المطلب، (ط. ق): ج 2/874.
2- شرائع الإسلام: ج 1/171.
3- جواهر الكلام: ج 17/398.
4- قواعد الأحكام: ج 1/412.
5- مدارك الأحكام: ج 7/143.
6- حكاه عن الشيخ المحقّق اليزدي في العروة الوثقى: ج 4/578، (الوصيّة بالحَجّ ) م 5.
7- الحدائق الناضرة: ج 14/299.
8- مستند الشيعة: ج 11/143.

وجود الطبيعة، المنطبق على أوّل الوجودات، وهو وإنْ يصدق على المتعدّد كما يصدق على الواحد، إلّاأنّه من جهة مزاحمته لحقّ الورثة، يقتضي الاقتصار فيه على أقلّ ما يتحقّق به الوصيّة، أمّا وإنْ لم يكن لكلامه إطلاق، فإنّ مقتضى أصالة العدم، عدم الوصيّة بأزيد من واحد، فيقتصر على المرّة.

أقول: ما ذكر من مقتضى الإطلاق والأصل متين، وأمّا ما اُفيد من أنّه لمزاحمة حقّ الورثة يجبُ الاقتصار على الأقلّ - فإنّما يتمّ إذا أُخرج من الأصل، وإنْ أُخرج من الثُّلث فلا يتمّ ، فإنّه أحقّ به من غيره، وعليه فالقول الثاني هو الصحيح بحسب القاعدة.

واستدلّ للثالث:

1 - بإنّ يقين البراءة من تنفيذ الوصيّة لا يحصلُ إلّابذلك، كما في «الحدائق»(1).

2 - وبجملةٍ من الأخبار:

منها: خبر محمّد بن الحسين بن أبي خالد، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن رجلٍ أوصى أن يُحجّ عنه مبهماً؟ فقال عليه السلام: يحجّ عنه ما بقي من ثلثه شيء»(2).

ومنها: خبر محمّد بن الحسن: «قال لأبي جعفر عليه السلام: جعلتُ فداك قد اضطررتُ إلى مسألتك، فقال: هات. فقلت: سعد بن سعد أوصى حَجّوا عنّي مبهماً، ولم يُسمّ شيئاً، ولا يُدرى كيف ذلك ؟ فقال عليه السلام: يحجّ عنه ما دام له مال»(3).

ومنها: خبر محمّد بن الحسن الأشعري: «قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: جعلتُ فداك9.

ص: 132


1- الحدائق الناضرة: ج 14/299.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/408، ح 66، وسائل الشيعة: ج 11/171، ح 14550.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/408، ح 65، وسائل الشيعة: ج 11/171، ح 14549.

إنّي سألتُ أصحابنا عمّا اُريد أن أسألك عنه، فلم أجد عندهم جواباً، وقد اضطررتُ إلى مسألتك، وأنّ سعد بن سعد أوصى إليّ فأوصى في وصيّته حَجّوا عنّي مبهماً، ولم يُفسّر كيف أصنع ؟ قال عليه السلام: يأتيك جوابي في كتابك، فكتب إليّ : يحَجُّ عنه ما دام له مالٌ يحمله»(1).

أقول: والأخيران وإنْ كانا في بادئ النظر مطلقين من حيث الثُّلث أو التمام، إلّا أنّهما يُقيّدان بالثُّلث:

إمّا للإجماع أو للخبر الأوّل الذي هو كالمقيّد بالنسبة إليهما.

وإمّا لأنّ المراد بالمال فيهما هو الثُّلث بقرينة (له)، فإنّ الثُّلث له لا أزيد.

ولكن يرد على الوجه الأوّل: أنّه لا يقين بالشُّغل بأزيد من مرّة، كي يجري قاعدة الاشتغال.

وأمّا النصوص: فقد أُورد على الاستدلال بها بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّها موهونة بإعراض المشهور عنها.

وفيه: قال صاحب «المستند»(2): (لا وجه له مع عدم ظهور رادٍّ لها من المتقدّمين، سوى شاذّ، وقد أفتى بمضمونها في التهذيب)(3)، وإذا انضمّ إليه أنّ إعراض المتأخّرين لا يوجبُ الوهن ارتفع هذا الإيراد.

الوجه الثاني: ما عن «كشف اللّثام»(4) وفي «العروة»(5) من أنّه يمكن أن يكون8.

ص: 133


1- تهذيب الأحكام: ج 9/226، ح 38، الإستبصار: ج 4/137، ح 1.
2- مستند الشيعة: ج 11/143.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/408.
4- كشف اللّثام، (ط. ج): ج 5/178.
5- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/578.

المراد من الأخبار أنّه يجبُ الحَجّ ما دام يمكن الإتيان به، ببقاء شيءٍ من الثُّلث بعد العمل بوصايا اُخر.

وبعبارة أُخرى : أنّه يُحجّ عنه إنْ بقي شيء من ثلثه بعد وصيّة مقدّمة عليه، فلا يفهم التكرار منها أصلاً.

وفيه: - مضافاً إلى أنّه حملٌ لا شاهد له، فإنّه يشهد بخلافه قوله: (مبهماً لم يفسّر)، فإنّ ما اُفيد لا إبهام فيه، فضلاً عن أنّ مثل هذا السؤال ليس شيئاً يعجز الأصحاب عن جوابه، بل هو من الواضحات.

الوجه الثالث: ما عن سيّد «المدارك»(1) من حملها على صورة إرادة التكرار، وتبعه صاحب «العروة»(2).

وفيه: أنّه خلاف الإطلاق وعدم الاستفصال.

الوجه الرابع: ما في «الجواهر»(3) من (أنّه من المحتمل أن يكون مورد الأخبار ما لو أوصى بإخراج الثُّلث أوّلاً، ولم يذكر إلّاالحَجّ ، وكان تردّد السائل من جهة أنّه هل يَحجّ عنه مرّة ويصرف الباقي في سائر وجوه البِرّ، أو يصرف الثُّلث بتمامه في الحَجّ مراراً.

ثمّ قال: بل يُدّعى ظهور الاقتصار في الوصيّة بالحَجّ عنه في إرادة الوصيّة بالثُّلث، وأنّه يصرف في ذلك وإنْ لم يوص بالثلث بغير اللّفظ المزبور.

إلى أن قال: ولعلّ مراد الشيخ ومن تبعه ذلك، لا الحمل على التكرار تعبّداً،9.

ص: 134


1- مدارك الأحكام: ج 7/143.
2- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/578.
3- جواهر الكلام: ج 17/399.

وإنْ كان ظاهر اللّفظ خلافه، ضرورة استبعاد مثل ذلك من مثله) انتهى .

أقول: دعوى الظهور المزبور غير ظاهرة، بل فرض السؤال في النصوص فرض الابهام وعدم الظهور، ومجرّد الاحتمال لا يضرّ بالاستدلال بعد الإطلاق، واستبعاد مثل ذلك من مثل الشيخ وأتباعه في غير محلّه بعد كونه مقتضى النصوص.

أقول: والإنصاف أنّ إنكار دلالتها على ذلك مكابرة، فالمتعيّن بحسب النصوص هو القول الثالث.

وبالجملة: ممّا ذكرناه ظهر حكم ما لو علم إرادة التكرار ولم يعلم العدد.

***

ص: 135

إذا عيّن مقداراً لا يكفي للحَجّ

المسألة الخامسة: لو أوصى رجلٌ أن يحجَّ عنه سنين، وعيّن لكلّ سنةٍ مقداراً معيّناً من المال، واتّفق عدم كفاية ذلك المقدار لكلّ سنةٍ ، جُمع نصيب سنتين في سنة، وكذا لو قصر اُضيف إليه من نصيب الثالثة كما هو المشهور شهرة عظيمة، بل قال صاحب «الجواهر»(1): (بلا خلاف أجده فيه)، بل في «المدارك»(2): (هذا الحكم مقطوعٌ به في كلام الأصحاب)، وفي «الحدائق»(3): (من غير خلافٍ يُعرَف).

واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «المنتهى »(4) من أنّ المال الموصى به قد خرج بالوصيّة عن ملك الورثة، ووجب صرفه فيما عيّنه الموصي بقدر الإمكان، ولا يمكن صرفه إلّا بهذا الوجه فيتعيّن.

وفيه: أنّ الواجب صرف الموصى به فيما عيّنه الموصي إنْ أمكن، وفي الفرض لا يمكن، لأنّه عيّن قدراً معيّناً لكلّ سنة لا يفي به، فلا يمكن الصرف فيما عيّن، وصرفه فيما هو أقرب إليه يحتاج إلى دليل، فليكن المقام من قبيل ما إذا أوصى بمالٍ في جهة معيّنة لا يمكن صرفه فيها، وسيأتي الكلام فيه وأنّه يُصرف في وجوه البِرّ.

ص: 136


1- جواهر الكلام: ج 17/400.
2- مدارك الأحكام: ج 7/144.
3- الحدائق الناضرة: ج 14/296.
4- منتهى المطلب، (ط. ق): ج 2/874.

الوجه الثاني: قال صاحب «المستند»(1): (من أنّ المال خرج عن الإرث، ووجب أمران: الحَجّ وكونه بقدر مخصوص، فإذا تعذّر الثاني لم يسقط الأوّل.

ثمّ قال: ومرجعه إلى قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) وهي عندي ضعيفة جدّاً..) انتهى .

وفيه: أنّ الوصيّة لو كانت بأمرين مستقلّين غير مرتبطين تمّ ما اُفيد، ولكن الفرض ارتباط الوصيّتين، ووجوب الحَج بقدرٍ مخصوص.

الوجه الثالث: قال صاحب «العروة»(2)، بأنّ (الظاهر من حال الموصي، إرادة صَرف ذلك المقدار في الحَجّ ، وكون تعيّين مقدار كلّ سنةٍ بتخيّل كفايته).

وفيه: ما تقدّم منّا من أن في باب الوصيّة كسائر الإنشائيّات لا اعتبار بالمرادات والأغراض، وإنّما الميزان هو المُنشَأ، والفرض أنّه لا يمكن العمل به.

الوجه الرابع: قاعدة الميسور، وهي إنْ رجعت إلى أحد الوجوه السابقة، فقد ظهر حالها، وإلّا فإنْ اُريد إجراؤها في مراد الموصي، فيرد عليه أنّ القاعدة غير تامّة في نفسها، وعلى فرض تماميّتها فهي في المطلوبات الشرعيّة دون غيرها.

وإنْ اُريد إجراؤها في وجوب العمل بالوصيّة، فهو لا يصحّ ، لأنّ وجوب العمل بها متوقّفٌ على صدقها على البعض، ومع إنتفائه لانتفاء القيد لا يصدق الميسور.

وبالجملة: قاعدة الميسور على فرض تماميّتها، لا تصلحُ لإثبات وجوب ما لم يوص به الميّت.

الوجه الخامس: النصوص الخاصّة الواردة في الباب:9.

ص: 137


1- مستند الشيعة: ج 11/145.
2- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/579.

منها: خبر إبراهيم بن مهزيار، قال: «كتبَ إليه عليّ بن محمّد الحصيني أنّ ابن عمّي أوصى أن يُحجّ عنه بخمسة عشر ديناراً في كلّ سنة، وليس يكفي، ما تأمرني في ذلك ؟ فكتب عليه السلام: يُجعل حَجّتين في حَجّة، فإنّ اللّه تعالى عالمٌ بذلك»(1).

ومنها: خبره الآخر، قال: «كتبَ إليه عليه السلام أنّ مولاك عليّ بن مهزيار أوصى أن يُحجّ عنه من ضيعةٍ صيَّر ربعها لك في كلّ سنةٍ حَجّةً إلى عشرين ديناراً، وأنّه قد انقطع طريق البصرة، فتضاعف المؤن على النّاس، فليس يكتفون بعشرين ديناراً، وكذلك أوصى عدّة من مواليك في حَجّهم ؟ فكتب عليه السلام: يُجعل ثلاث حِجج حَجّتين إنْ شاء اللّه»(2).

ومعلوم أنّ ما فيهما من الكيفيّتين من باب المثال، سيّما بلحاظ التعليل في الأوّل.

أقول: وأورد صاحب «المدارك»(3) على الاستدلال بهما بضعف السند، والظاهر أنّ نظره إلى روايتهما في «الكافي» عن محمّد بن يحيى ، عمّن حَدّثه عن إبراهيم.

ولكن للخبرين طريقين آخرين:

أحدهما: أنّ الشيخ رواهما عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن إبراهيم، وطريقه إليه صحيح.

ثانيهما: أنّ الصدوق رواهما عن إبراهيم بن مهزيار، وطريقه إليه أيضاً صحيح.

وأمّا إبراهيم فهو من الثقات، مع أنّه لو سُلّم ضعفهما، فلا شبهة في انجبار ضعفهما بعمل الأصحاب، حيث إنّهم عملوا بهما، ولم يستندوا إلى الوجوه الاُخر،4.

ص: 138


1- تهذيب الأحكام: ج 5/408، ح 64، وسائل الشيعة: ج 11/169، ح 14547.
2- الكافي: ج 4/310، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/170، ح 14548.
3- مدارك الأحكام: ج 7/144.

كما يشهد به تعبيرهم في فتاويهم بما هو منطبق على مضمون الخبرين، فلا إشكال في الحكم.

الفرع الأوّل: ولو فَضُل من الجميع - إن حصر السنين في عددٍ كعشرة ونحوها - فضلةٌ لا تفي بالحَجّ :

قال صاحب «كشف اللّثام»(1): (عادت ميراثاً، أو صرفت في غيره من المبرّات).

أمّا صاحب «الجواهر»(2) فإنّه قال بعد ذكر الوجهين:

(قد يقال بوجوب دفعها اُجرة في بعض السنين، وإنْ زادت عن اُجرة المثل، مع فرض الوصيّة، فلا فضلة حينئذٍ، نعم لو أمكن فرضها جَرى فيها الوجهان، بل يتعيّن الثاني منهما مع فرض الوصيّة بها، وأنّه ذكر ذلك مصرفاً لها فاتّفق تعذّره، كما أنّه يتعيّن الأوّل إذا فرض إخراجها عن الوارث بالوصيّة المزبورة الّتي قد فرض تعذّرها..) انتهى .

أقول: مورد البحث الفرض الأخير، أي كون الوصيّة واحدة، الظاهرة في إنشاء مطلوب واحد غير متعدّد، وعليه فنظر صاحب «الجواهر» إلى عودها ميراثاً، ولكن الأظهر لزوم صرفها في وجوه البِرّ، لما سيأتي من النصوص الدالّة على أنّ ما عيّن للحَجّ إنْ لم يكفِ له، يصرف في وجوه البِرّ، وموردها وإنْ كان غير المقام، ولكن الظاهر وحدة المناط.

ولعلّ القول الأخير مبنيٌّ على أنّ الازدياد على اُجرة بعض السنين من وجوه البِرّ، ومع ذلك فهو أقرب إلى الوصيّة ولا بأس به.1.

ص: 139


1- كشف اللّثام، (ط. ج): ج 5/179.
2- جواهر الكلام: ج 17/401.

الفرع الثاني: لو كان الموصى به الحَجّ من البلد، ودار الأمر بين جعل اُجرة سنتين مثلاً لسنةٍ ، وبين الاستئجار بذلك المقدار من الميقات لكلّ سنة ؟ ففيه قولان:

ذهب كاشف اللّثام(1) إلى الثاني، ولم يستبعده سيّد «العروة»(2)، واختار صاحب «الجواهر»(3) الأوّل.

وقد يُقال: إنّ مقتضى الأخبار القادمة - أي صحيح البزنطي الآتي المتضمّن أنّه إذا أوصى بمالٍ لا يكفي للحَجّ من البلد، أنّه يَحجّ من حيث أمكن، وكذا خبر علي بن مزيد الذي سيمرّ عليك المتضمّن أنّه يحجّ به من الميقات، ونحوهما غيرهما - هو تقديم الحَجّ الميقاتي، كما أنّ ذلك مقتضى قواعد باب التزاحم، حيث أنّه لا شَكّ في أهميّة الحَجّ الميقاتي من الطريق.

ولكن يرد عليه: أنّ مورد الخبرين وما شاكلهما هو ما إذا دار الأمر بين ترك الحَجّ رأساً، والحَجّ من الميقات وهو غير المقام.

وأمّا ما ذكره من أنّه مقتضى القواعد، فهو متين إذا ثبت تعيّن الالتزام بأحد الوجهين، ودار الأمر بينهما، لا مثل المقام ممّا لا يكون الحكم مسلّماً.

والحقّ أن يُقال: إنّ مقتضى إطلاق الخبرين - أي خبري إبراهيم الوارد أحدهما في الحَجّ البلدي - هو القول الأوّل، فإنّ إطلاقهما شامل لما لو تمكّن من الإستنابة من الميقات كشموله لما إذا لم يمكن.

***2.

ص: 140


1- كشف اللّثام، (ط. ج): ج 5/179.
2- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/580.
3- جواهر الكلام: ج 17/402.

إذا عيّن للحَجّ اُجرةً لا تكفي

المسألة السادسة: إذا حدّد للحَجّ اُجرة لا يرغب فيها أحد، وكان الحَجّ مستحبّاً، ففيه أقوال:

القول الأوّل: ما عن ابن إدريس(1) والشيخ(2) في «المسائل الحائريّات» وصاحب «المدارك»(3)، وفي «المستند»(4) من أنّها ميراثاً.

القول الثاني: ما عن المشهور(5) من أنّه تُصرف في وجوه البِرّ.

القول الثالث: ما عن المحقّق الكركي(6) والشهيد الثاني في «المسالك»(7) من أنّه إنْ كانت كذلك من الأوّل فترجع ميراثاً، وإنْ كان الراغب موجوداً ثمّ طرأ التعذّر، فتُصرف في وجوه البِرّ.

أقول: والكلام يقع في موردين:

تارةً : فيما تقتضيه القواعد.

وأُخرى : فيما تقتضيه النصوص الخاصّة.

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ لما هو المشهور بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «المنتهى »(8) من أنّه بالوصيّة خرجت عن ملك الورثة،

ص: 141


1- السرائر: ج 3/214.
2- كما حكاه عنه السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 11/95.
3- مدارك الأحكام: ج 7/151.
4- مستند الشيعة: ج 11/154.
5- نقل الشهرة عليه في مدارك الأحكام: ج 7/150.
6- جامع المقاصد: ج 3/148.
7- مسالك الأفهام: ج 2/189.
8- منتهى المطلب، (ط. ق): ج 2/874.

ولا يمكن صرفها في الطاعة التي عيّنها الموصي، فتُصرف إلى غيرها من الطاعات.

وفيه: أنّه مع بطلان الوصيّة، لعدم إمكان العمل بها، لا تخرج الاُجرة المعيّنة عن ملك الورثة، مع أنّ الوصيّة إنّما تعلّقت بصرفها في الحَجّ ولا يمكن، وصرفها في وجوه الطاعات الاُخر يحتاج إلى دليل مفقود.

الوجه الثاني: قاعدة الميسور، بدعوى أنّ الفصل إذا تعذّر يبقى الجنس، فمع تعذّر الحَجّ يجب صرفها في جنس الطاعة.

وفيه أوّلاً: أنّ القاعدة غير تامّة في نفسها.

وثانياً: أنّه إذا تعذّر الفصل لا يكون الجنس ميسور المتعذّر بنظر العرف، ألا ترى أنّ إطعام الحيوان لا يعدّ ميسور إطعام الإنسان.

وعليه، فعلى فرض تماميّة القاعدة تكون مختصّة بالمركّبات الخارجيّة دون التحليليّة.

الوجه الثالث: قد تعلّق غرض الموصي بصرفها في الطاعة، وتكون تلك الطاعة هو الحَجّ ، فإذا تعذّر الثاني يعمل بها في الأوّل.

وفيه أوّلاً: لعلّ الغرض متعلّق بواحد هو المقيّد، دون أنْ يكون هناك تعدّد الغرض.

وثانياً: قد مرّ أنّه في باب الوصيّة لا عبرة بالأغراض، ما لم تُنشأ، والفرض في المقام إنشاء وصيّة واحدة متعلّقة بالحَجّ .

أقول: وبما ذكرناه يظهر وجه القول الأوّل، إذ مع بطلان الوصيّة، لا محالة يكون المال للورثة.

واستدلّ للقول الثالث: بأنّه إذا طرأ العُذر تكون الوصيّة صحيحة ابتداءً ، فيخرج المال عن ملك الورثة، ولا يعود إليهم إلّابدليل ولم يثبت، غاية الأمر أنّه

ص: 142

قد تعذّر صرفه في الوجه المعيّن، فيكون كمجهول المالك، فيُصرف في وجوه البِرّ.

وأورد عليه في «المستند»(1): بأنّ الموصى به إنّما هو بحيث لو بطلت الوصيّة فيه ابتداءً أو لعارضٍ لصار كما كان مِلْكاً للموصي، وهذا حقّ له ينتقل إلى الوارث، ويلزمه انتقال الموصى به إليه.

ثمّ أورد على نفسه أوّلاً: بأنّه ما الدليل على ثبوت هذا الحقّ للموصي ؟

وأجاب عنه: بأنّ الموصى به كان مِلكاً له، فالأصل بقائه عليه إلّابقدر عَلم خروجه منه، ولم يُعلم إلّاهذا القدر، يعني علم أنّه خرج عن ملكه ما دامت باقية، وأمّا الزائد عنه فلا.

ثمّ أورد على نفسه ثانياً: بأنّه بالوصيّة خَرَج عن ملكه، فستصحب ذلك.

وأجاب عنه: بأنّه بالوصيّة صار واجب الصرف في الوصيّة، ولزمه الخروج عن ملكه، فإذا انتفى الملزوم لا يمكن استصحاب اللّازم.

أقول: وفي كلامه رحمه الله مواقع للنظر والمناقشة:

المناقشة الاُولى: ما ادّعاه من ثبوت حقّ للموصي ينتقل ذلك بالإرث.

ممنوعة: بأنّ هذا ليس حقّاً، بل في فرض حياة الموصي، لم يخرج المال عن ملكه بالوصيّة، بل يتوقّف خروجه عنه على الموت، فلو بطلت الوصيّة يكون الملك على ما هو عليه، والانتقال عنه يحتاج إلى دليل، فهو ليس حقّاً من الحقوق، مع أنّه لو كان حقّاً له ففرضه حقّاً في مقابل الحكم، وقابلاً للانتقال كي يورث، ممّا لم يدلّ على شيء منهما دليل، وبدون إثباتهما لا يصحّ التمسّك بعموم أدلّة الإرث، للشكّ في الموضوع.5.

ص: 143


1- مستند الشيعة: ج 11/155.

المناقشة الثانية: ما أفاده من أنّه علم أنّه خرج عن ملكه ما دامت الوصيّة يجب العمل بها، وأمّا الزائد عنه فلا.

فإنّه يرد عليه: أنّه على فرض صحّة الوصيّة، ولو آناً مّا، وتأثيرها في الانتقال، يكون المنتقل عنه الملكيّة الدائميّة لا الموقّتة.

المناقشة الثالثة: ما أفاده بأنّه بالوصيّة صار واجب الصرف، ولزمه الخروج عن ملكه.

فإنّه يرد عليه أيضاً: أنّ للوصيّة النافذة أثرين:

أحدهما: خروج المال عن ملكه.

الثاني: وجوب العمل بها.

ومع انتفاء أحدهما لا وجه لانتفاء الآخر.

المورد الثاني: وهو البحث عن مقتضى الأخبار الخاصّة، فهي طائفتان:

الأُولى : ما ورد في خصوص المقام.

الثانية: ما ورد في نظائره.

أمّا الطائفة الأُولى : فهي خبر عليّ بن زيد صاحب السابري، قال: «أوصى إلَيَّ رَجُل بتركته، فأمرني أن أحَجّ بها عنه، فنظرتُ في ذلك فإذا هي شيءٌ يسير لا يكفي للحَجّ ، فسألت أبا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة، فقالوا: تصدّق بها عنه - إلى أن قال - فلقيت جعفر بن محمّد عليهما السلام في الحِجر، فقلتُ له: رجلٌ مات وأوصى إليَّ بتركته أن أحجّ بها عنه، فنظرتُ في ذلك فلم يكف للحَجّ ، فسألت مَن عندنا من الفقهاء فقالوا: تصدّق بها؟

فقال عليه السلام: ما صنعتَ؟ قلت: تصدّقت بها. فقال: ضمنت إلّاأن لا يكون يبلغ ما

ص: 144

يحجّ به من مكّة، فإنْ كان لا يبلغ ما يحجّ به من مكّة، فليس عليك ضمان، وإنْ كان يبلغ ما يحجّ به من مكّة فأنت ضامن»(1).

ودلالته على أنّه يتصدّق به إذا لم يكُن المال كافياً للحَجّ واضحة.

وأمّا الثانية: فعدّة أخبار:

منها: خبر محمّد بن الريّان الذي رواه المشائخ الثلاثة، قال:

«كتبتُ إلى أبي الحسن - يعني عليّ بن محمّد عليهما السلام - أسأله عن إنسان أوصى بوصيّة فلم يحفظ الوصي إلّاباباً واحداً منها، كيف يصنع بالباقي ؟

فوقّع عليه السلام: الأبواب الباقية اجعلها في البِرّ»(2).

ومنها: ما ورد في من أوصى بألف درهم للكعبة، المتضمّن أنّها تُصرف في وجوه البِرّ: (لغناء الكعبة عنها).

ومنها: غير ذلك.

فإنّ المستفاد من المجموع، أنّه إذا تعذّر العمل بالوصيّة، يصرف المال في سائر وجوه المبرّات، فالأصحّ - بحسب الروايات - ما هو المشهور بين الأصحاب.

***0.

ص: 145


1- وسائل الشيعة: ج 19/349، ح 24742.
2- تهذيب الأحكام: ج 9/214، ح 21، وسائل الشيعة: ج 19/393، ح 24830.

إذا صالحه داره على أن يحجّ عنه

المسألة السابعة: إذا صالحه داره مثلاً، وشرط عليه أن يحجّ عنه بعد موته، فهل يلحقه حكم الوصيّة، فإنْ كان الحَجّ ندبيّاً يُحسب مقدار اُجرة المثل لهذا العمل، فإنْ كانت زائدة عن الثُّلث توقّف على إمضاء الورثة، كما عن المحقّق القمّي رحمه الله(1)؟

أم لا يلحقه حكمها، فيخرج من الأصل، ولا ينتقل ذلك إلى الورثة كما عن سيّد «العروة»(2) وجماعة ؟

واستدلّ المحقّق القمّي: لما ذهب إليه بأنّ المنوب عنه بهذا الشرط يملك عليه الحَجّ ، وهو عملٌ له اُجرة وماليّة، فيلحقه حكم الوصيّة.

ويرد عليه أوّلاً: ما قاله صاحب «العروة»(3): (وفيه أنّه لم يملك عليه الحَجّ مطلقاً في ذمّته، ثمّ أوصى أن يجعله عنه، بل إنّما ملك بالشرط الحَجّ عنه، وهذا ليس مالاً تملكه الورثة، فليس تمليكاً ووصيّةً ، وإنّما هو تمليك على نحوٍ خاص لا ينتقل إلى الورثة) انتهى .

أقول: ومراده قدس سره ليس أنّ الحَجّ لا يكون مالاً حتّى يرد عليه - كما في بعض الكلمات - بأنّه كيف لا يكون مالاً وقد جُعل عوضاً عن مال!؟ مع أنّ الانتقال إلى الميّت لا يتوقّف على المال، بل على الملك مثل حبّة الحنطة، فإنّها ملكٌ ليس بمال، وتنتقل إلى الورثة.

بل مراده - واللّه العالم - أنّ الحَجّ في الفرض وإنْ كان مالاً ومِلْكاً، إلّاأنّ ملكيّته

ص: 146


1- حكاه عنه السيّد اليزدي في العروة الوثقى: ج 4/585 (الوصيّة بالحَجّ ) م 10. (2و3) العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4 / ص 585.

إنّما تكون بنفس هذا الشرط لا أنّ الشرط وارد عليها.

وبعبارة أُخرى : إنّ التصرّف الإيصائي على قسمين:

تارةً : يكون شيءٌ مِلْكاً لأحدٍ، ثمّ هو يتصرّف فيه بالإيصاء، فهذا هو الإيصاء الذي يكون نافذاً في الثُّلث وما دون، ولا ينفذ في الأكثر منه.

وأُخرى : يكون التصرّف الإيصائي هو الموجب لصيرورة ذلك الشيء مِلْكاً، فالملكيّة مترتّبة عليه ومتأخّرة عنه رتبة، وهذا خارجٌ عن موضوع الأدلّة، ثمّ إنّه يكون مِلْكاً خاصّاً لا ينتقل إلى الورثة، فإنّ موضوع دليل الإرث هو المال الذي لا تعيّن له في التصرّف للميّت، وإنّما يكون التصرّف فيه مردّداً بينه وبين الوارث، كالأعيان والحقوق التي لا تعيّن لها في الصرف للميّت، وأمّا ما يكون معيّناً في ذلك كالحَجّ المشروط بوقوعه عنه، فلا تشمله أدلّة الإرث، لقصور ما تركه الميّت عن الشمول لذلك.

وهذا الذي ذكرناه في وجه عدم انتقاله إلى الورثة منقولٌ عن المحقّق النائيني رحمه الله(1).

وثانياً: أنّ دليل الشرط لا يفيد ملك المشروط له، بل مفاده مجرّد الحكم التكليفي، وذلك لأنّ دليله النصوص المتضمّنة لقولهم عليهم السلام: (المسلمون عند شروطهم)(2)، ومفاد ذلك ليس عدم انفكاك الشرط عن المسلم، حتّى يُدّعى كونه إرشاداً إلى اللّزوم أو الصحّة، بل مضمونه عدم انفكاك المسلم عن شرطه، وهذا ليس صفة في الشرط، بل هو صفة في المسلم، فلا محالة يكون ظاهراً في كونه أمراً بالوفاء بالشرط تكليفاً، فهو حكم تكليفي صرف.0.

ص: 147


1- نقله السيّد الخوئي قدس سره عن اُستاذه النائيني رحمه الله في مصباح الفقاهة: ج 3/361.
2- تهذيب الأحكام: ج 9/337، ح 20، وسائل الشيعة: ج 26/55، ح 32480.

وعليه، فقد استوفى الميّت ذلك بنفسه، فلا شيء حتّى يرثه الورثة.

لا يقال: إنّه لا ريب في ثبوت خيار تخلّف الشرط لو خالفه المشروط عليه، والورثة يرثون ذلك.

فإنّه يقال: الخيار وإنْ كان يورث، إلّاأنّ الكلام في صورة عدم تخلّف الشرط وعدم ثبوت الخيار.

قال صاحب «العروة»: (وكذا الحال إذا ملكه داره بمائة تومان مثلاً، بشرط أن يصرفها في الحَجّ عنه أو عن غيره، أو ملكه إيّاها بشرط أن يبيعها ويصرف ثمنها في الحَجّ أو نحوه) انتهى (1).

أقول: إنّ الفرع الثاني من قبيل الفرع المتقدّم، أمّا الأوّل فالظاهر تماميّة ما أفاده المحقّق القمّي رحمه الله فيه، فإنّ المشروط حينئذٍ هو صرف ما في ذمّته من مائة تومان في الحَجّ ، وهذا تصرّفٌ في ماله وملكه.

فالمتحصّل: أنّ الحَقّ في فرع المصالحة وفي الفرع الثاني الذي أضافه السيّد رحمه الله يكون معه قدس سره، ولا يتمّ ما أفاده المحقّق القمّي رحمه الله، ولكن في الفرع الأوّل الحقّ مع المحقّق قدس سره.

***

من كان عنده وديعة ومات صاحبها ولم يحجّ

المسألة الثامنة: إذا كان عند شخص وديعة، ومات صاحبها، وكان عليه حَجّة الإسلام، له أن يحجّ بها عنه، وإن زادت عن اُجرة الحَجّ ردّها إلى الورثة، كما هو المشهور بين الأصحاب، كما نسبه صاحب «الحدائق»(2) إلى الأصحاب، بل قال

ص: 148


1- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/586.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/278.

صاحب «المستند»(1): (بلا خلاف فيه في الجملة).

واستدلّ له في «التذكرة»(2) و «المنتهى »(3): (بأنّه مالٌ خارجٌ عن الورثة، ويجب صرفه في الحَجّ ، فليصرف فيه).

ويرد عليه: أنّه لا إشكال ولا كلام في أنّ ولاية الصرف للورثة في أداء ديون الميّت؛ حَجّاً كان أو غيره، وسواء قلنا بانتقال الأعيان والأموال بأجمعها إلى الورثة حتّى في مقدار الدَّين، غاية الأمر لا يكون مِلْكاً طلقاً، أو قلنا بأنّ مقدار الدَّين يبقى على ملك الميّت، أو في حكم ملكه، فإنّه على جميع التقادير، لهم ولاية الصرف كما حُقّق في محلّه.

وعليه، فلا يتمّ هذا الوجه، فإنّ للورثة أن يحجّوا عنه بأنفهسم أو إعطاءه من أموالهم الاُخر.

أقول: والحقّ أن يستدلّ له بصحيح بُريد العِجلي، الذي رواه الصدوق بإسناده عن سويد القلا، عن أيّوب بن الحُرّ، عن بريد، عن الصادق عليه السلام، قال:

«سألته عن رجل استودعني مالاً فهَلَك، وليس لولده شيء، ولم يحجّ حَجّة الإسلام ؟ قال عليه السلام: حجّ عنه وما فضل فأعطهم»(4).

والخبر صحيح السند، لأنّ إسناد الصدوق إلى سويد صحيح، وسويد وأيّوب ثقتان، وكذا بُريد الذي يُعدّ من الأكابر، مضافاً إلى أنّ الكليني والشيخ أيضاً روياه بطريقين صحيحين، فلا إشكال في سنده، فضلاً عن ظهور دلالته، والأصحاب9.

ص: 149


1- مستند الشيعة: ج 11/146.
2- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/105.
3- منتهى المطلب، (ط. ق): ج 2/874.
4- الفقيه: ج 2/445، ح 2930، وسائل الشيعة: ج 11/183، ح 14579.

اعتمدوا عليه، فلا ينبغي التوقّف في الحكم في الجملة، إنّما الكلام في موارد:

المورد الأوّل: هل يختصّ الحكم بما إذا علم المستودع أنّ الورثة لا يؤدّون كما صرّح به جماعة، منهم المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(1)، والمحقّق في «الشرائع»(2)؟

أو يعمّ ما إذا ظنّ بذلك، كما عن «النهاية»(3)، و «المبسوط»(4)و «المهذّب»(5) و «السرائر»(6).

أم يكون الحكم عامّاً حتّى لو علم بأنّهم يؤدّونه ؟ وجوه.

يشهد للأخير إطلاق الخبر، نعم لو علم أو ظنَّ ظنّاً معتبراً شرعاً بأنّ الورثة قد أدّوه، وجب عليه ردّه إليهم، ولكن الكلام قبل الأداء، ومقتضى الإطلاق عدم اعتبار هذا القيد.

أقول: واستدلّ لاعتبار هذا القيد في الجملة بوجوه:

الوجه الأوّل: ما يظهر من جماعة، من أنّ هذا الحكم مخالفٌ للقاعدة، فيجب الاقتصار فيه على المتيقّن، وقد تقدّم وجه مخالفته للقاعدة، ولازم هذا الوجه أنّه لو شكّ في سعة القيد وضيقه يؤخذ بالأوّل، وعليه فالظنّ بالأداء بحكم العلم به.

ولكن يرد عليه: أنّ مدرك هذا الحكم هو الصحيح المتقدّم، وبإطلاقه يرفع اليد عن القاعدة، فإنّ إطلاق المقيّد مقدّمٌ على إطلاق المطلق.

الوجه الثاني: إنكار إطلاق الخبر، والشاهد على دعوى صاحب0.

ص: 150


1- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/105.
2- شرائع الإسلام: ج 1/172.
3- النهاية: ص 279.
4- المبسوط: ج 1/326.
5- المهذّب: ج 1/269.
6- السرائر: ج 1/629 و 630.

«الجواهر»(1)، بقوله: (ضرورة أنّه خطاب المشافهة، والمتيقّن من تعديته إلى غير المشافه ذلك، فلابدّ من الاقتصار على المتيقّن، وهو ما لو علم أنّ الورثة لا يؤدّونه).

وفيه: أنّ مقتضى ترك الاستفصال ثبوت الحكم حتّى مع العلم بأنّهم يؤدّونه، فعلى التعدية - كما هي المفروضة، إذ لا يحتمل اختصاص العِجلي بهذا الحكم - يثبت الحكم لغيره كما ثبت له.

الوجه الثالث: الإجماع فيقيّد به الخبر، والمتيقّن من معقده ما لو لم يعلم ولم يظنّ بعدم الأداء.

وفيه: أنّ الإجماع غير ثابت، وعلى فرضه ليس تعبّديّاً.

الوجه الرابع: أنّه يمكن استفادة ذلك من قوله عليه السلام: (وليس لولده شيء)، بدعوى أنّه مع عدم المال لولده، يحصل العلم أو الظنّ بأنّهم يصرفونه في حوائجهم، ولا يؤدّون الحَجّ .

وفيه أوّلاً: أنّه يمكن أن يصرفونه في حوائجهم ويحجّوا عنه متسكّعاً.

وثانياً: أنّ المُسلم المعتقد بأنّه لم ينتقل إليه المال، كيف يظنّ أو يعلم بأنّه يصرفه في حوائجه ولا يحجّ؟!

وبالجملة: فالحقّ أنّ الحكم عامٌ لما لو علم بأنّهم يؤدّونه.

المورد الثاني: هل يعتبر في ذلك الاستئذان من الحاكم الشرعي:

إمّا مع إمكانه كما في «التذكرة»(2) و «الجواهر»(3) وعن «الروضة»(4)؟1.

ص: 151


1- جواهر الكلام: ج 17/402.
2- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/106.
3- جواهر الكلام: ج 17/402.
4- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/201.

أو مطلقاً كما عن «المدارك»(1)؟

أم لا يعتبر ذلك كما صرّح به جماعة من الفحول ؟ وجوه.

أقول: قد استدلّ لاعتبار الاستيذان في الجملة، بما في محكي «المدارك»(2) بأنّ الخبر إنّما تضمّن أمر الإمام الصادق عليه السلام لبُريد في الحَجّ عمّن له الوديعة وهو إذنٌ وزيادة.

وفي «الجواهر»(1) احتمال الأمر منه لبُريد الإذن به فيه، فلا إطلاق فيه حينئذٍ يدلّ على خلافه، ضرورة أنّه خطاب المشافهة، والمتيقّن من تعديته إلى غير المشافه ذلك.

وفيه: الظاهر من السؤال، هو السؤال عن الحكم الشرعي، والجواب أيضاً ظاهر في ذلك، فإنْ كان إذنه معتبراً في الحكم، كان عليه عليه السلام أن يبيّن، فمن عدم بيانه في مقام البيان، يُستكشف أنّه غير معتبر، وعليه فالأظهر هو القول الأخير.

المورد الثالث: ظاهر الخبر من جهة ظهور الأمر في الوجوب، وجوب الحَجّ عنه، وعدم جواز إعطاء المال للورثة، ولكن في جملةٍ من الكلمات التعبير بالجواز، وقد وجّه صاحب «المستند»(2) ذلك بقوله: (إمّا بإرادة معناه الأعمّ الجامع للوجوب كما قيل، أو باعتبار ما ذكرنا من كونه مشروطاً بعدم العلم بأداء الوارث من جهة أُخرى ، فللمستودع إعلام الوارث وأدائهم من جهة أُخرى ، وله الأخذ من الوديعة، فيكون الأخذ جائزاً، وإنْ كان أحد فردي المخيّر) انتهى .8.

ص: 152


1- جواهر الكلام: ج 17/402.
2- مستند الشيعة: ج 11/148.

وقد يقال: إنّه يمكن أن يكون التعبير بالجواز من جهة عدم ظهور الأمر في الوجوب، لوروده مورد توهم الحظر، وهذا غَير بعيدٍ، ولكن الجواز بهذا المعنى لا يسوّغ جواز إعطاء المال للورثة، حتّى مع العلم بعدم صرفه في الحَجّ ، لعدم كونه لهم، فيكون ذلك تفريطاً وتعدّياً ممنوعاً.

المورد الرابع: قد يُقال إنّ ظاهر الأصحاب التسالم على عدم اختصاص الحكم بما إذا لم يكن للورثة شيءٌ ، مع أنّ النّص مختصٌّ بذلك المورد.

ولكن يمكن أن يُقال: إنّ التقيّيد بذلك إنّما هو في السؤال لا في الجواب، وظاهره أنّ عدم ثبوت شيء للورثة كان منشئاً للشكّ في وجوب الحَجّ ، من جهة استلزامه لحرمان الورثة من الميراث، لا احتمال أنّ له دخلاً في الوجوب وهو ظاهر.

المورد الخامس: قال صاحب «المستند»(1): (قالوا مقتضى النّص حَجّ الودعي بنفسه، ولكن الأصحاب جوّزوا له الاستئجار، بل ربّما جعلوه أولى ، خصوصاً إذا كان أنسب، وأسند بعضهم في ذلك إلى تنقيح المناط القطعي، وهو جيّد، مع أنّ إرادة الحَجّ بنفسه من اللّفظ في هذا المقام محلّ تأمّل، وعلى ما ذكرناه من الأصل يكون جواز الاستئجار أظهر).

واقتصر صاحبا «التذكرة»(2) و «الشرائع»(3) على الاستئجار، وأمّا العلّامة في «القواعد»(4) فقد حكم بأنّ عليه أن يحجّ أو يستأجر.).

ص: 153


1- مستند الشيعة: ج 11/150.
2- تذكرة الفقهاء، (ط. ج): ج 7/105.
3- شرائع الإسلام: ج 1/172.
4- قواعد الأحكام: ج 1/412، وعبارته هكذا: (للمستودع - بعد موت المودع المشغول بحجّة واجبة - إقتطاع الاُجرة، ويستأجر مع علمه بمنع الوارث).

فيعلم من ذلك أنّ جواز الاستئجار لم يكن محلّ تأمّل، ولعلّ السرّ فيه: إمّا تنقيح المناط، أو أنّ قوله: (حَجّ وما فضل)، بقرينة (وما فضل) ظاهرٌ في الاستئجار أو الأعمّ ، فتدبّر.

المورد السادس: هل الحكم مختصٌّ بالوديعة كما عن جماعة(1)، ونُسب إلى «الدروس»(2)؟ أو يتعدّى إلى سائر الحقوق الماليّة من الغصب والدين وغيرهما كما اختاره آخرون(3)؟ وجهان:

لا إشكال في أنّ النّص مختصّ بالوديعة.

ودعوى: فهم المثال من الخبر، مع ذكر الوديعة في السؤال عن حكم موضوع خارجي معيّن، كما ترى .

وما عن «المسالك»(4) و «المدارك»(5) من دعوى تنقيح المناط، وتبعهما صاحب «العروة»(6) وإنْ كانت غير بعيدة، ولكن المناط المعتبر هو القطعي منه، وهو غير حاصل، وبالتالي فإنّ الخبر لا يصلح منشئاً للحكم في غير الوديعة.

وأمّا القاعدة: فقد يقال - كما في «المستند»(7) وغيره - بأنّ مقتضى القاعدة ثبوت الحكم في غيرها.

أقول: وحقّ القول في المقام يبتني على بيان أُمور:0.

ص: 154


1- منهم صاحب مجمع الفائدة والبرهان: ج 6/152.
2- الدروس: ج 1/327.
3- منهم الفاضل المقداد في التنقيح: ج 1/433، والشهيد الثاني في الروضة: ج 2/200.
4- مسالك الأفهام: ج 2/186.
5- مدارك الأحكام: ج 7/146.
6- العروة الوثقى، (ط. ج): ج 4/593.
7- مستند الشيعة: ج 11/150.

الأمر الأوّل: قد تقدّم في المبحث التاسع من المسألة الحادية عشر من الفصل الثاني(1) أنّه مع ثبوت الدين ومنه الحَجّ والوصيّة، لا ينتقل المال إلى الورثة إلّا بقدَر ما زاد على الدَّين أو الوصيّة، وأمّا ما يساويهما فلا ينتقل إليهم، ويترتّب على ذلك أنّ الاستدلال لعدم الجواز، بأنّ تصرّف الغير في المال بالحَجّ به تصرّفٌ في مال الغير لا يجوز إلّابإذنه بالضرورة، غير تامّ .

الأمر الثاني: أنّه قد صرّح جماعة بأنّ أولويّة الولي في الأُمور الراجعة إلى الميّت من التكفين والتدفين والصلاة عليه، وأداء دَينه، وما شاكل إنّما تكون على سبيل الاستحباب لا الوجوب، ومالَ إليه في محكي «الذخيرة»(2) تبعاً للمحقّق الأردبيلي(3)، ونحن وإنْ لم نُسلّم ذلك في شؤون تجهيز الميّت مثل تغسيله وتكفينه وما شاكل، إلّاأنّ الوجه الذي ذكرناه لكون الأولويّة على سبيل الوجوب لا يجري في الحَجّ عنه بماله.

وحاصله: أن مباشرة شؤون تجهيز الميّت من الحقوق، فتشملها الآية الشريفة (وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) (4)، مضافاً إلى النصوص الخاصّة الواردة فيها، وهذا الوجهان لا يجريان في المقام، وعليه فالاستدلال لعدم جواز الحَجّ عنه بدون إذن الورثة؛ بأنّ المال وإنْ كان للميّت لكن ولاية التصرّف فيه للوارث، فلا يجوز بدون إذنه. غير تامّ .

الأمر الثالث: أنّ النصوص الدالّة على وجوب القضاء عن الميّت من صلب ماله على كثرتها، لم يخاطب في واحدٍ منها شخصٌ معيّن بذلك.5.

ص: 155


1- فقه الصادق: ج 13/323.
2- ذخيرة المعاد: ج 2/334.
3- مجمع الفائدة والبرهان: ج 2/463، (عدم جواز التقدّم على الوليّ بدون إذنه).
4- سورة الأنفال: الآية 75.

ودعوى: عدم كون شيء منها في مقام البيان من هذه الجهة، كما ترى ، أضف إلى ذلك أنّه إذا تعيّن صرف مالٍ في مصرف خاص، وشُكّ في اعتبار إذن شخص معيّن، فإنّ مقتضى الأصل عدم اعتبار إذنه.

فالمتحصّل من هذه الأُمور: أنّه يجوز صَرف مال الميّت في الحَجّ عنه، ولا يجب دفعه إلى الورثة، بل ربما لا يجوز إذا لم يطمئن بأن الورثة يؤدّون الحَجّ .

فرع: وهل يعتبر الاستئذان من الحاكم الشرعي، أم لا؟

وجهان، أظهرهما العدم، فإنّ ولاية الحاكم ولزوم اتّباع رأيه في غير باب الأُمور الحسبيّة، وهي الأُمور التي علم من الشارع إرادة إيقاعها في الخارج، ولا إطلاق لدليلها ليدلّ على جواز تصدّي كلّ أحدٍ لها، واحتمل دخالة رأي شخص خاص فيها، وفي غير باب الأُمور التي يرجع فيها في العرف إلى الرئيس - وفي غير باب القضاء والفتوى - غير ثابتة، كما حقّقناه في كتابنا «منهاج الفقاهة»(1).

وقد ظهر ممّا ذكرناه حكم فرعٍ آخر، وهو إلحاق غير حَجّة الإسلام - من أقسام الحَجّ الواجب، أو غير الحَجّ من سائر ما يجب عليه مثل الخمس والزكاة والمظالم والكفّارات والدين - بها وعدمه ؟ حيث ذكرنا ما في أدلّة الطرفين، ولقد أشرنا إلى جملةٍ منها مع ما يرد عليها.

أقول: بقي في المقام شيءٌ وهو أنّ بعض الأعاظم من المعاصرين(2) استدلّ لثبوت ولاية أداء الدين للوارث بروايتين:

إحداهما: صحيحة عبّاد بن صُهيب أو موثّقته، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في رجلٍ فرّط في إخراج زكاته في حياته، فلمّا حَضَرته الوفاة حسب جميع ما0.

ص: 156


1- راجع: منهاج الفقاهة: ج 4/296، بحث (عدم أولويّة الفقيه في التصرّف في الأموال والأنفس).
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 11/120.

فرّط فيه ممّا لزمه من الزكاة، ثمّ أوصى به أن يخرج ذلك فيدفع إلى من تجب له ؟ قال عليه السلام: جائزٌ يخرج ذلك من جميع المال، إنّما هو بمنزلة دَين لو كان عليه، ليس للورثة شيءٌ حتّى يؤدّوا ما أوصى به من الزكاة»(1).

ثانيتهما: رواية يحيى الأزرق، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ قتل وعليه دينٌ ، ولم يترك مالاً، فأخذ أهله الدية من قاتله عليهم أن يقضوا دَينه ؟ قال عليه السلام: نعم. قلت:

وهو لم يترك شيئاً؟ قال عليه السلام: إنّما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه»(2).

ولكن يرد على الأُولى: أنّها واردة في مقام بيان عدم جواز التصرّف في المال، ما دام لم يخرج الدين، وليست في مقام بيان من يجب عليه إخراجه، وحيثُ أنّ المفروض فيها الإيصاء، فلا محالة كان المخاطب به الورثة، وإلّا لبين الوصي، ولذا قال عليه السلام: (حتّى يؤدّوا).

وإن شئت قلت: إنّه لا ريب في أنّه لو أدّى دينه غير الوارث تبرّعاً يسقط الدين، ويكون المال جميعه للورثة، وعليه، فقوله: (حتّى يؤدّوا) لا يكون دالّاً على تعيّن أدائهم، وإنّما هو لبيان أنّ غاية عدم جواز التصرّف هو أداء الدين، وحيث إنّه بحسب الغالب يكون ما للميّت تحت يد الورثة، وبناءً النّاس على عدم الدخالة في وفاء ديون الميّت، قال عليه السلام: (حتّى يؤدّوا).

ويرد على الثانية: أنّ المفروض فيها سؤالاً وجواباً أخذ الورثة الدية، وحيث إنّها المخرج للدين، لفرض عدم مالٍ له غيرها، فلا محالة يكون الخطاب بالأداء موجّهاً إليهم لا لخصوصيّة فيهم، واللّه العالم.

***1.

ص: 157


1- تهذيب الأحكام: ج 9/170، ح 39، وسائل الشيعة: ج 19/357، ح 24755.
2- تهذيب الأحكام: ج 9/167، ح 27، وسائل الشيعة: ج 19/336، ح 24721.

حكم حَجّ من أعطاه رجل مالاً لاستئجار الحَجّ

المسألة التاسعة: إذا أعطاه رجلٌ مالاً لاستئجار من يحَجّ عنه، هل يجوز له أن يحجّ بنفسه، أم لا، أم هناك تفصيلٌ؟ وجوه:

أقول: هذه المسألة معنونة في كلمات الفقهاء تحت عنوان آخر، وهو: أنّه إذا دفع إنسانٌ إلى غيره مالاً ليصرفه في جماعة يكون المدفوع إليه منهم، ولم يكن هناك قرينة حاليّة على جواز أخذه أو عدمه، فهل له أن يأخذه منه أم لا؟ ولهم فيه أقوال:

القول الأوّل: ما عن وكالة «المبسوط»(1)، وزكاة «السرائر»(2)، ومكاسب «النافع»(3)، و «كشف الرموز»(4)، و «المختلف»(5)، و «التذكرة»(6)، و «جامع المقاصد»(7)من تحريم الأخذ مطلقاً.

القول الثاني: ما عن «النهاية»(8)، ومكاسب «السرائر»(9)، و «الشرائع»(10)، و «التحرير»(11)، و «الإرشاد»(12)، و «المسالك»(13)، و «الكفاية»(14) من جواز الأخذ

ص: 158


1- المبسوط: ج 2/403.
2- السرائر: ج 1/463.
3- المختصر النافع: ص 118.
4- كشف الرموز: ج 1/443.
5- مختلف الشيعة: ج 5/23.
6- تذكرة الفقهاء، (ط. ق): ج 1/583.
7- جامع المقاصد: ج 4/43.
8- النهاية ونكتها: ج 2/101.
9- السرائر: ج 2/223.
10- شرائع الإسلام: ج 2/266.
11- تحرير الأحكام، (ط. ج): ج 2/267.
12- إرشاد الأذهان: ج 1/358.
13- مسالك الأفهام: ج 3/136.
14- الكفاية: ص 88.

من دون زيادة على غيره، وعن «الدروس»(1) نسبته إلى الأكثر، وعن «الحدائق»(2) إلى المشهور.

القول الثالث: ما عن «المهذّب البارع»(3) من التفصيل بين ما لو كان بصيغة (ضعه فيهم) أو ما أدّى معناه فالجواز، وبين ما إذا كان بصيغة (ادفعه) فالمنع.

القول الرابع: ما عن بعض الفضلاء(4) من أنّه إنْ قال: (للفقراء) مثلاً جاز، وإنْ قال: (أعطه للفقراء) فإنْ علم فقره لم يجز وإلّا جاز.

احتجّ المانع:

1 - بظهور اللّفظ في مغايرة الدافع والمدفوع إليه، وبما ورد في المرأة توكّل رجلاً أن يزوّجها فيزوّجها من نفسه، الدالّ على عدم الجواز(5).

2 - وبما ورد في من وكّله شخصٌ في بيع شيءٍ فباعه من نفسه، الدالّ على المنع(6).

3 - وبجملة من النصوص الدالّة على أنّه لا يجوز أن يأخذ ممّا أُعطي لأن يفرّقه في مساكين، كمصحّح ابن الحجّاج، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجل أعطاه رجلٌ مالاً ليقسّمه في محاويج أو في مساكين، وهو محتاج، أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه ؟ قال عليه السلام: لا يأخذ منه شيئاً حتّى أذن له صاحبه»(7).4.

ص: 159


1- الدروس: ج 3/171.
2- الحدائق الناضرة: ج 18/237.
3- المهذّب البارع: ج 2/354.
4- حكاه في التنقيح: ج 3/21، وحكاه في مفتاح الكرامة: ج 4/110.
5- تهذيب الأحكام: ج 7/378، ح 5، وسائل الشيعة: ج 20/288، ح 25648.
6- وسائل الشيعة: ج 17/391، ح 22819، الباب 6 من أبواب آداب التجارة.
7- تهذيب الأحكام: ج 6/352، ح 121، وسائل الشيعة: ج 17/277، ح 22514.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ ظاهر تعليق كلّ حكمٍ على موضوع، ثبوته لجميع الأفراد، فلو عَلّق رضاه بتصرّفه في ماله على المجتهد، كان مقتضاه جواز تصرّف كلّ مجتهدٍ بما هو مجتهد، ولا سيّما مع إحراز عدم خصوصيّة فرد في نظره، فإذا كان المدفوع إليه يرى نفسه مجتهداً جاز له التصرّف.

وهذا الظهور أقوى من المشار إليه، مع أنّ للمنع عن الظهور المذكور مجالاً واسعاً.

ويرد على الثاني: أنّ صدر الخبر صريحٌ في التوكيل في أنْ يزوّجها من شخص معيّن، فهو غير مربوط بالمقام.

ويرد على الثالث: أنّه ليس متضمّناً لبيان كيفيّة التوكيل، ولعلّه كان بنحوٍ لا يشمل نفسه.

ويرد على الرابع: أنّه يعارض تلك النصوص جملة أُخرى من الأخبار:

منها: صحيح سعيد بن يسار: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرّجُل يعطى الزكاة فيقسّمها في أصحابه أيأخذ منها شيئاً؟ قال عليه السلام: نعم»(1).

ومنها: حسن الحسين بن عثمان، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «في رجلٍ أعطي مالاً يفرّقه فيمن يحلّ له، ألَهُ أن يأخذ منه شيئاً لنفسه وإنْ لم يسمّ له ؟ قال عليه السلام: يأخذ منه لنفسه مثل ما يعطى غيره»(2).

ونحوهما غيرهما.

أقول: والجمع بين النصوص إنّما هو بحمل خبر المنع من جهة التعبير فيه بالنكرة على إرادة أشخاص معيّنين، أو بحمل النصوص المجوّزة على المال الذي0.

ص: 160


1- الكافي: ج 3/555، ح 1، وسائل الشيعة: ج 9/287، ح 12039.
2- الكافي: ج 3/555، ح 2، وسائل الشيعة: ج 9/288، ح 12040.

يكون من الحقوق الشرعيّة على ما هو موردها، وخبر المنع على ما يكون للدافع، ولعلّ الأوّل أظهر.

فالمتحصّل: أنّه لا دليل على المنع، والقاعدة تقتضي الجواز.

وأيضاً: في المقام رواية يمكن استفاة الجواز منها، وهي رواية عيثم(1) بن عيسى ، عن أبي الحسن الرِّضا عليه السلام:

«عن الرّجل تُعطى الحَجّة فيدفعها إلى غيره ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(2).

بتقريب: ما تقدّم من أنّه من المحتمل بل الظاهر ورودها في التوكيل، فسئل أنّه إذا أعطاه رجلٌ مالاً للحَجّ ، هل يجب مباشرته بنفسه، أم يجوز الدفع إلى الغير؟ وعليه فهي سؤالاً وجواباً كالصريحة في جواز مباشرته بنفسه.

فالمتحصّل: أنّ الأظهر هو الجواز.

***0.

ص: 161


1- في التهذيب ووسائل الشيعة: (عثمان بن عيسى).
2- تهذيب الأحكام: ج 5/462، ح 255، وسائل الشيعة: ج 11/184، ح 14580.

الفصل الخامس في الحَجّ المندوب

اشارة

وفيه مسائل:

المسألة الأُولى : يستحبّ لفاقد شرائط الاستطاعة أو بعضها أن يحجّ مهما أمكن بلا خلافٍ فيه، وكذا من أتى بوظيفته من الحَجّ الواجب، ويشهد به نصوصٌ كثيرة، وقد ذكرت في «الوسائل» تحت أبواب، وذكر في كلّ باب روايات كثيرة:

منها: باب استحباب الحَجّ والعُمرة عيناً في كلّ عام، وإدمانهما ولو بالاستنابة، وقد نقل في ذلك الباب تسعة أحاديث.

ومنها: باب استحباب تكرار الحَجّ والعُمرة بقدر القدرة، وذكر فيه أربعة وثلاثون حديثاً.

ومنها: باب استحباب التطوّع بالحَجّ ولو بالإستدانة، وذكر فيه عشرة أحاديث.

ومنها: أبواب ثلاثة في استحباب اختيار الحَجّ المندوب على الصدقة، وعلى العتق، وعلى الجهاد مع غير الإمام، وذكر فيها سبعة وعشرون حديثاً.

ومنها غير ذلك من الأبواب.

أقول: ويستحبّ تكراره في كلّ سنة، ويشهد به - مضافاً إلى الإطلاقات الحاثّة عليه، وإلى ما ورد في حَجّ المعصومين عليهم السلام - عدّة أخبار:

1 - خبر عذافر: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: ما يمنعك من الحَجّ في كلّ سنة ؟ قلت:

جُعِلت فداك العيال. قال: فقال: إذا مُتَّ فمَن لعيالك ؟ اطعم عيالك الخَلّ والزيت، وحَجّ بهم كلّ سنة»(1).

ص: 162


1- الكافي: ج 4/256، ح 16، وسائل الشيعة: ج 11/134، ح 14449.

2 - وخبر عيسى بن أبي منصور، قال: «قال لي جعفر بن محمّد: يا عيسى إنْ استطعت أن تأكل الخبز والملح وتحجّ في كلّ سنة فافعل»(1).

ونحوهما أخبارٌ مستفيضة اُخر.

وأيضاً: يكره تركه خمس سنين متوالية لطائفةٍ من الأخبار:

1 - خبر ذُريح، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من مضت له خمس سنين فلم يفِد إلى ربّه هو موسرٌ إنّه لمحروم»(2).

2 - وخبر عبد اللّه بن سنان، عن حمران، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ للّه مُنادياً يُنادي أيُّ عَبدٍ أحسن اللّه إليه، وأوسع عليه في رزقه، فلم يفد إليه في كلّ خمسة أعوام مرّة ليطلب نوافله إنّ ذلك لمحروم»(3). ونحوهما غيرهما.

وقد تضمّنت جملة من النصوص لذكر فوائد لمراتب التكرار:

ففي خبر صفوان بن مهران الجمّال، عن إمامنا الصادق عليه السلام: «من حَجّ ثلاث حجج لم يصبه فقرٌ أبداً»(4).

وفي خبر منصور بن حازم، عنه عليه السلام: «من حَجّ أربع حِجج لم تُصبه ضغطة القبر»(5).

وفي خبر أبي بكر الحضرمي، عنه عليه السلام: «مَن حَجّ خمس حِجج لم يُعذّبه اللّه أبداً»(6).

وفي مرسل الصدوق: من حَجّ خمس حِجج لم يُعذّبه اللّه أبداً، ومن حَجّ عشر8.

ص: 163


1- تهذيب الأحكام: ج 5/442، ح 183، وسائل الشيعة: ج 11/135، ح 14452.
2- الكافي: ج 4/278، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/138، ح 14463.
3- الكافي: ج 4/278، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/139، ح 14464.
4- الفقيه: ج 2/216، ح 2206، وسائل الشيعة: ج 11/129، ح 14434.
5- الفقيه: ج 2/217، ح 2209، وسائل الشيعة: ج 11/129، ح 14437.
6- وسائل الشيعة: ج 11/130، ح 14438.

حِجج لم يُحاسبه اللّه أبداً، ومَن حَجّ عشرين حَجّة لم يرَ جهنّم، ولم يسمع شهيقها ولا زفيرها، ومن حَجّ أربعين حَجّة قيل له اشفع من أحببتَ ، ويُفتح له بابٌ من أبواب الجنّة يدخل هو ومن يشفع له، ومن حَجّ خمسين حجّة بُنيَ له مدينة في جنّة عدن، فيها ألف قصر في كلّ قصر ألف حوراء من الحور العين، وألف زوجة، ويُجعل من رفقاء محمّدٍ صلى الله عليه و آله في الجنّة، ومن حَجّ أكثر من خَمسين حَجّة كان كمَن حَجّ خمسين حَجّة مع محمّدٍ والأوصياء، وكان ممّن يزوره اللّه تعالى في كلّ جمعة، وهو ممّن يدخل جنّة عدن التي خَلَقها اللّه عَزَّ وَجَلّ بيده ولم ترها عين، الحديث»(1).

المسألة الثانية: يستحبّ نيّة العود إلى الحَجّ عند الخروج من مكّة، ويشهد به خبر عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من رجع من مكّة وهو ينوي الحَجّ من قابل زيد في عمره»(2). ونحوه غيره.

بل يُكره نيّة عدم العود، لخبر الحسين الأحمسي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من خرج من مكّة وهو لا يريد العود إليها، فقد اقترب أجلَهُ ، ودنى عذابه»(3).

ونحوه غيره.

المسألة الثالثة: يستحبّ التبرّع بالحَجّ عن الأقارب أحياءً وأمواتاً:

1 - لمصحّح إسحاق بن عمّار، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «عن الرّجل يحجّ فيجعل حَجّته وعمرته أو بعض طوافه لبعض أهله، وهو عنه غائبٌ ببلدٍ آخر، قال: فقلت:

فنيقص ذلك من أجره ؟ قال عليه السلام: لا، وهي له ولصاحبه، وله سوى ذلك بما وصل.8.

ص: 164


1- الفقيه: ج 2/217، ح 2210 إلى 2213.
2- الكافي: ج 4/281، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/150، ح 14497.
3- الكافي: ج 4/270، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/151، ح 14498.

قلت: وهو ميّتٌ ، هل يدخل ذلك عليه ؟ قال عليه السلام: نعم، حتّى يكون مسخوطاً عليه فيغفر له، أو يكون مُضيَّقاً عليه فيوسّع عليه، الحديث»(1).

2 - وخبر جابر، عن الإمام الباقر عليه السلام: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: مَن وصل قريباً بحجّةٍ أو عُمرةٍ كَتب اللّه له حَجّتين وعمرتين»(2).

3 - وخبر موسى بن القاسم البجليّ ، قال: «قلتُ لأبي جعفر الثاني عليه السلام: ربما حججتُ عن أبيك، وربما حججتُ عن أبي، وربما حججتُ عن الرّجل من إخواني، وربما حججتُ عن نفسي، فكيف أصنع ؟ فقال عليه السلام: تمتّع»(3).

وكذا يجوز الحَجّ عن المعصومين عليهم السلام، لخبر البجلي المتقدّم وغيره.

النيابة في الطواف

المسألة الرابعة: يستحبّ النيابة عن الغير في الطواف في الجملة بلا خلافٍ ، وتفصيل الكلام في طيّ فروع:

الفرع الأوّل: الطواف بنفسه مستحبٌّ مستقلٌّ من غير أن يكون في ضمن الحَجّ بلا إشكال، ويشهد به نصوصٌ كثيرة، وقد عقد لها صاحب «الوسائلً أبواباً تتضمّن ذلك:

منها: باب استحباب التطوّع بالطواف، وتكراره، واختياره على العتق المندوب، وذكر فيه أخباراً كثيرة.

ص: 165


1- الكافي: ج 4/315، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/197، ح 14613.
2- الكافي: ج 4/10، ح 1، وسائل الشيعة: ج 9/412، ح 12356.
3- وسائل الشيعة: ج 11، ص 247، ح 14703.

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ اللّه جعل حول الكعبة عشرين ومائة رحمةً ؛ منها ستّون للطائفين»(1).

وخبر أبان بن تغلب، عنه عليه السلام في حديثٍ ، قال: «يا أبان هل تدري ما ثواب من طاف بهذا البيت اسبوعاً؟ فقلت: لا واللّه ما أدري. قال: يُكتب له ستّة آلاف حَسَنة، ويُمحا عنه ستّة آلاف سيّئة، ويُرفع له ستّة آلاف درجة»(2). ونحوهما غيرهما.

الفرع الثاني: يجوز النيابة فيه عن الميّت بلا خلافٍ فيه بين الأصحاب، ويشهد به نصوصٌ كثيرة واردة في الموارد المتفرِّقة:

1 - خبر أبي بصير، عن أمّامنا الصادق عليه السلام: «من وصل أباه أو ذا قرابة له، فطاف عنه، كان له أجره كاملاً، وللّذي طاف عنه مثل أجره، ويفضل هو بصلته إيّاه بطواف آخر»(3).

2 - وخبر يحيى الأزرق، قال: «قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: الرّجُل يَحجّ عن الرّجل، يصلح له أن يطوف عن أقاربه ؟ فقال عليه السلام: إذا قضى مناسك الحَجّ فليصنع ماشاء»(4).

3 - وخبر موسى بن القاسم، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام، في حديثٍ :

«قلت: طفت يوماً عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقال ثلاث مرات: صَلّى اللّه على رسول اللّه، ثمّ اليوم الثاني عن أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ طفت اليوم الثالث عن الحسن عليه السلام، والرابع عن الحسين عليه السلام، والخامس عن علي بن الحسين عليهما السلام، واليوم السادس عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليهما السلام، واليوم السابع عن جعفر بن محمّد عليهما السلام، واليوم1.

ص: 166


1- وسائل الشيعة: ج 13/302، ح 17800.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/120، ح 64، وسائل الشيعة: ج 13/302، ح 17798.
3- الكافي: ج 4/316، ح 7، وسائل الشيعة: ج 11/190، ح 14595.
4- الكافي: ج 4/311، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/193، ح 14601.

الثامن عن أبيك موسى عليه السلام، واليوم التاسع عن أبيك عليّ عليه السلام، واليوم العاشر عنك يا سيّدي، وهؤلاء الذين أدين اللّه بولايتهم ؟

فقال: إذاً واللّه تدين اللّه بالدين الذي لا يُقبَل من العباد غيره.

فقلت: ربما طفتُ عن اُمّك فاطمة عليها السلام وربما لم أطف ؟ فقال عليه السلام: استكثر من هذا، فإنّه أفضل ما أنتَ عامله إنْ شاء اللّه»(1). ونحوها غيرها.

الفرع الثالث: وكذا يجوز النيابة فيه عن الحَيّ إذا كان غائباً عن مكّة بلا خلافٍ ، للنصوص الكثيرة:

منها: خبر ابن أبي نجران، عمّن حدّثه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قلت له: الرّجل يطوف عن الرّجُل وهُما مُقيمان بمكّة ؟ قال عليه السلام: لا، ولكن يطوف عن الرّجل وهو غائبٌ عن مكّة.

قال: قلت: كم مقدار الغيبة ؟ قال عشرة أميال»(2).

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام في حديثٍ : «قال: قلت له: فأطوف عن الرّجل والمرأة وهما بالكوفة ؟ فقال عليه السلام: نعم»(3).

الفرع الرابع: وكذا تجوز النيابة عن الحَيّ الحاضر بمكّة إذا كان معذوراً في الطواف بنفسه، بأحد الأعذار المذكورة في النصوص، بلا خلافٍ ولا إشكال، ويشهد به نصوص:

منها: صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «المريض المغلوب والمُغمى عليه4.

ص: 167


1- الكافي: ج 4/314، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/200، ح 14620.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/419، ح 101، وسائل الشيعة: ج 11/190، ح 14596.
3- الكافي: ج 4/315، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/190، ح 14594.

يُرمى عنه ويُطاف عنه»(1).

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «المبطون والكسير يُطاف عنهما ويرمى عنهما»(2).

ومنها: صحيح حبيب الخثعمي، عنه عليه السلام: «أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يُطاف عن المبطون والكسير»(3).

ومنها: صحيح معاوية: «الكسير يُحمَل فيرمي الجمار، والمبطون يُرمى عنه ويُصلّى عنه»(4).

أقول: وهذه النصوص كما ترى متعرّضة للمريض المغلوب، والمُغمى عليه، والكبير، والمبطون، والكسير، والأصحاب - رضوان اللّه عليهم - قد تعرّضوا لهم بالخصوص، والتعدّي عنهم إلى كلّ معذورٍ يتوقّف على إحراز المناط، وفي خصوص الحائض كلامٌ ، وقد تعرّض بعض الأصحاب أيضاً لها، وتنقيح القول فيها سيأتي إنْ شاء اللّه في مبحث الطواف(5)، فانتظر.

وأيضاً: لو كان المنوب عنه حاضراً غير معذورٍ، فلا تصحّ النيابة عنه اتّفاقاً، كما عن «كشف اللّثام»(6)، ويشهد به جملة من النصوص، كخبر ابن أبي نجران المتقدّم عنه، وخبر إسماعيل بن عبد الخالق، وقال: «كنت إلى جنب أبي عبد اللّه عليه السلام وعنده ابنه عبد اللّه أو ابنه الذي يليه، فقال له رجلٌ : أصلحك اللّه، يطوف الرّجل عن0.

ص: 168


1- تهذيب الأحكام: ج 5/123، ح 72، وسائل الشيعة: ج 13/389، ح 18029.
2- الكافي: ج 4/422، ح 2، وسائل الشيعة: ج 13/393، ح 18044.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/124، ح 77، وسائل الشيعة: ج 13/394، ح 18046.
4- الفقيه: ج 2/404، ح 2822، وسائل الشيعة: ج 13/394، ح 18048.
5- فقه الصادق: ج 17/7.
6- كشف اللّثام، (ط. ج): ج 5/170.

الرّجل وهو مُقيمٌ بمكّة ليس به علّة ؟ فقال عليه السلام: لا، لو كان ذلك يجوز لأمرتُ ابني فلاناً فطافَ عنّي»(1).

وأمّا سائر أفعال الحَجّ حتّى مثل السعي بين الصفا والمروة، الذي يظهر من جملةٍ من النصوص استحبابه لنفسه، فمشروعيّتها مستقلّاً لم تثبت، والأصل عدمها.

المسألة الخامسة: يستحبّ لمَن ليس له زاد وراحلة، أن يستقرض ويحجّ إذا كان واثقاً من الوفاء، لخبر موسى بن بكر الواسطي، قال:

«سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن الرّجل يستقرض ويحجّ؟ فقال: إنْ كان خلف ظهره مالٌ ، فإن حَدَث به ما حدثٌ أدّى عنه، فلا بأس»(2). ونحوه غيره.

أقول: بل الظاهر من جملة من الأخبار استحباب ذلك مطلقاً:

منها: خبر يعقوب بن شُعيب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ يحجّ بدين وقد حَجّ حجّة الإسلام ؟ قال عليه السلام: نعم إنّ اللّه سيقضي عنه إنْ شاء اللّه تعالى »(3).

ومنها: خبر محمّد بن أبي عمير، عن جُفينة، قال: «جاءني سُدير الصيرفي، فقال: إنّ أباعبداللّه عليه السلام يقرأ عليك السلام، ويقول: ما لكَ لاتحجّ؟! استقرض وحَجّ »(4).

ولا وجه لتقيّيدها بما تقدّم، لعدم حمل المطلق على المقيّد في المستحبّات، فتأمّل، ولعدم المفهوم له لعدم ثبوت كون (إذا) شرطيّة.

المسألة السادسة: يستحبّ كثرة الإنفاق في الحَجّ ، ويشهد به خبر ابن أبي يعفور، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله:9.

ص: 169


1- الكافي: ج 4/422، ح 5، وسائل الشيعة: ج 13/397، ح 18054.
2- الكافي: ج 4/279، ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/141، ح 14473.
3- الكافي: ج 4/279، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/142، ح 14474.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/441، ح 180، وسائل الشيعة: ج 11/140، ح 14469.

«ما من نفقةٍ أحبّ إلى اللّه عَزَّ وَجَلّ من نفقة قصد، ويبغض الإسراف إلّافي الحَجّ والعُمرة، فرحم اللّه مؤمناً اكتسب طيّباً وأنفق من قصد أو قدّم فَضلاً»(1).

المسألة السابعة: يستحبّ لمن لا مال له يحجُّ به أن يأتي به ولو بإجارة نفسه، ويدلّ عليه خبر عبد اللّه بن سنان، قال: «كنتُ عند أبي عبد اللّه عليه السلام إذ دخل عليه رجلٌ فأعطاه ثلاثين ديناراً ليحجّ بها عن إسماعيل، ولم يترك شيئاً من العُمرة إلى الحَجّ إلّااشترط عليه، حتّى اشترط عليه أن يسعى في وادي مُحسَّر، ثمّ قال: يا هذا إذا أنتَ فعلت هذا كان لإسماعيل حَجّة بما أنفق من ماله، وكانت لك تسعٌ بما أتعبت من بدنك»(2). ونحوه غيره.

***0.

ص: 170


1- وسائل الشيعة: ج 11/149، ح 14494.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/451، ح 219، وسائل الشيعة: ج 11/163، ح 14530.

الباب الثاني

في أنواعه، وهي ثلاثة:

تمتّعٌ بالعُمرة إلى الحَجّ ، وقِرانٌ ، وإفراد.

الباب الثاني: في أنواع الحجّ

اشارة

(وهي ثلاثة: تمتّعٌ بالعُمرة إلى الحَجّ ، وقِرانٌ ، وإفراد) بلا خلافٍ بين العلماء كما في «التذكرة»(1)، وبلا خلافٍ أجده بين علماء الإسلام، بل الإجماع بقسميه عليه كما في «الجواهر»(2)، وهو موضع وفاق كما عن «المدارك»(2)، والنصوص الشاهدة بذلك كثيرة، بل في «الجواهر»(4) دعوى تواترها:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: الحَجّ ثلاثة أصناف: حَجٌّ مفرد، وقِران، وتمتّعٌ بالعُمرة إلى الحَجّ ، وبها أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله، والفضل فيها، ولا نأمر النّاس إلّابها»(3).

ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «الحاجّ على ثلاثة وجوه؛ رجلٌ أفرد الحَجّ وساق الهَدي، ورجلٌ أفرد الحَجّ ولم يسق الهَدي، ورجلٌ تمتّع بالعُمرة إلى الحَجّ »(4). ونحوهما غيرهما.

ص: 171


1- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/167. (2و4) جواهر الكلام: ج 18/2.
2- مدارك الأحكام: ج 7/155.
3- الكافي: ج 4/291 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/211 ح 14641.
4- وسائل الشيعة: ج 11/212 ح 14643، الخصال ج 1/147 ح 176.

أقول: والذي يظهر من الروايات أنّه لم يكن حَجّ التمتّع مشروعاً في صدر الإسلام، وإنّما شُرّع في حَجّة الوداع، لاحظ النصوص الكثيرة المتضمّنة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أذّن بالحَجّ في عام حَجّة الوداع، وأحرم وأحرم النّاس كلّهم بالحَجّ لا ينوون عمرة، ولا يدرون ما المتعة، حتّى إذا قدموا مكّة، وعند فراغه صلى الله عليه و آله من سعيه جاءه جبرئيل وأمره أن يأمر النّاس أن يحلّوا، إلّامن سائق هَدي، فبلّغ صلى الله عليه و آله ذلك، فقال له رجلٌ من القوم(1): لنخرجنّ حُجّاجاً وشعورنا تقطر؟

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: أمّا إنّك لن تؤمن بعدها أبداً، فسأله رجلٌ إنّ هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل ؟ قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: بل هو للأبد إلى يوم القيامة، ثمّ شبّك أصابعه بعضها إلى بعض، وقال: دخلت العُمرة في الحَجّ إلى يوم القيامة(2).

قال سيّد «المدارك»(3): (وجه التسمية: أمّا في الإفراد: فلإنفصاله عن العُمرة وعدم ارتباطه بها، وأمّا القِران: الإحرام بسياق الهَدْي، وأمّا التمتّع فهو لغةً التلذّذ والانتفاع، وإنّما سُمّي هذا النوع بذلك، لما يتحلّل بين حَجّه وعمرته من التحلّل المقتضي لجواز الانتفاع والتلذّذ بما كان قد حرّمه الإحرام قبله، مع الارتباط بينهما، وكونهما كالشيء الواحد، فيكون التمتّع الواقع بينهما كأنّه حاصلٌ في أثناء الحَجّ ). انتهى .

أقول: والعُمرة في حَجّ التمتّع مرتبطة بالحَجّ كما أشار إليه السيّد، ونطقت به النصوص، فلا يجوز الإتيان بأحدهما منفرداً، وهذا بخلاف أخويه، لعدم ارتباطها به فيهما، وكونها واجبة مستقلّة.6.

ص: 172


1- وهو عُمر بن الخطّاب.
2- الكافي: ج 4/245 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/213 ح 14647.
3- مدارك الأحكام: ج 7/155 و 156.

والفرق بينهما كما أفاد السيّد: أنّه إذا ساق الهَدْي في حجّه سُمّي قِراناً، وإلّا سُمّي إفراداً، ولذا قال في «المنتهى »: (إنّ العُمرة إنْ تقدّمت على الحَجّ كان تمتّعاً، وإن تأخّرت فإنْ انضمّ إليه سياقٌ فهو قِران، وإلّا فإفراد، والجمهور قالوا: التمتّع أن يُقدّم العُمرة، والمفرد أن يؤخّرها في الإحرام، والقارن أن يجمع بينهما)(1).

وأيضاً: لا يجوز الجمع بين النُسكين عند الإماميّة(2) وخالفهم ابن أبي عقيل، وعن الشيخ في «الخلاف»(3): (ينعقد إحرامه بالحَجّ ) وسيأتي الكلام في ذلك.

***4.

ص: 173


1- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/659.
2- شرح اللّمعة: ج 2/219.
3- الخلاف: ج 2/264.

حَجّ التمتّع

وحَجّ التمتّع على قسمين:

1 - فقد يكون ابتداءً كمَن يحرم أوّلاً بالعُمرة ثمّ بعد قضاء مناسكها يحرم بالحَجّ ، وهذا لا كلام في مشروعيّته وسيأتي أنّه فرض النائي، لا يجوز غيره له مع الاختيار، وإنّما يجوز العدول عنه في بعض الموارد، ولم يخالفنا الجمهور في مشروعيّة ذلك، ولذا ترى الفقهاء والمحصّلين منهم حَمَلوا نهي عمر بن الخطّاب(1)عن متعة الحَجّ - على فرض كون مورد نهيه ذلك، لا القسم الثاني منه - على وجه الاستحباب لا على الحظر.

قال السيّد المرتضى في «الانتصار»:(2)(فإنّ الفقهاء والمحصّلين من مخالفينا حملوا نهي عمر من هذه المتعة على وجه الاستحباب لا على الخطر) انتهى .

وقال النووي:(3)(قلت: والمختار أنّ عمر وعثمان وغيرهما إنّما نهوا عن المتعة التي هي الاعتمار في أشهر الحَجّ من عامه، ومرادهم نهي أولويّة للترغيب في الإفراد، لكونه أفضل، وقد انعقد الإجماع بعد هذا على جواز الإفراد والتمتّع والقِران من غير كراهة، وإنّما اختلفوا في الأفضل منها..) انتهى .

ونحو ذلك كلمات غيرهما.

2 - وقد يكون بالعدول من حِجّ الإفراد، فإنّ من دخل مكّة مُحرِماً بحجّ

ص: 174


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 14/483 ح 17359.
2- الإنتصار: ص 240.
3- شرح صحيح مسلم: ج 8/169.

الإفراد، فالأفضل له أن يَعدل بإحرامه إلى عُمرة التمتّع، ويُتمّ حَجّ التمتّع، وهذا الذي منعه جميع فقهاء العامّة.

قال المحقّق في «المعتبر»(1): (وزعم فقهاء الجمهور أنّ نقل الحَجّ المفرد إلى التمتّع منسوخٌ . لنا ما اتّفق عليه الرّواة من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أمر أصحابه حين دخول مكّة محرمين بالحَجّ ، فقال من لم يسق الهَدي فليحلّ وليجعلها عُمرة فطافوا وسعوا وأحلّوا، وسئل عن نفسه، فقال إنّي سقتُ الهَدْي، ولا ينبغي لسائق الهَدْي أن يحلّ حتّى يبلغ الهَدْي مَحِلّه، وروى ذلك ومنعاه جماعة، منهم جابر وعائشة وأسماء بنت أبي بكر، وقالت: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله فلمّا قدمنا مكّة، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله من لم يكن معه هديٌ فليحلّ ، فأحللتُ ، وكان مع الزبير هَدي، فلبستُ ثيابي وخرجتُ فجلست إلى جانب الزبير، فقال قومي عنّي، فقلت أتخشى إن أثِب عليك ؟!) انتهى .

أقول: اختلف المجوّزون للعدول، فمنهم من جوّزه حتّى في فرض العين، ومنهم من جوّزه في الندب والفرض غير المتعيّن:

قال صاحب «الروضة البهيّة»: (وقيل لايختصّ جواز العدول بالإفراد المندوبة بل يجوز العدول عن الحَجّ الواجب أيضاً، سواءٌ كان متعيّناً أو مخيّراً بينه وبين غيره، كالناذر مطلقاً، وذي المنزلين المتساويين، لعموم الأخبار الدالّة على الجواز، كما أمر به النبيّ صلى الله عليه و آله من لم يسق من الصحابة، من غير تقيّدٍ بكون المعدول عنه مندوباً أو غير مندوب، وهو قوي.

لكن فيه سؤال الفرق بين جواز العدول عن المعيّن إختياراً، وعدم جوازه ابتداءً ، بل ربما كان الابتداء أولى ، للأمر بإتمام الحَجّ والعُمرة للّه، ومن ثمّ خصه بعض7.

ص: 175


1- المعتبر: ج 2/797.

الأصحاب بما إذا لم يتعيّن عليه الإفراد وقسيميه، كالمندوب والواجب المخيّر، جمعاً بين ما دلَّ على الجواز مطلقاً، وما دلَّ على اختصاص كلّ قومٍ بنوع، هو أولى إنْ لم نقل بجواز العدول عن الإفراد إلى التمتّع ابتداءً ) انتهى (1).

أقول: لا إشكال في مشروعيّة هذا القسم من المتعة، ويشهد به - مضافاً إلى الخبر المتّفق على نقله المشار إليه المتقدّم في أوّل البحث، المتضمّن لأمر النبيّ صلى الله عليه و آله أصحابه بذلك - جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ لبَّى بالحَجّ مفرداً، فقدم مكّة وطاف بالبيت، وصَلّى ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام، وسعى بين الصفا والمروة ؟ قال عليه السلام: فليحلّ وليجعلها متعة، إلّاأن يكون ساق الهَدْي»(2).

ونحوه غيره، وقد عقد لها صاحب «الوسائل» باباً، وذكر فيه روايات كثيرة، كما لا إشكال في أنّ فرض الحاضر هو الإفراد أو القِران، لا يجوز له التمتّع، وسيأتي تفصيل القول فيه، وسيمرّ عليك النصوص الدالّة على أنّه ليس لأهل مكّة متعة، والجمع بين النصوص يقتضي البناء على اختصاص مشروعيّة هذا القسم بغير من وجب عليه الإفراد تعيّيناً.

وقد اختلفت كلمات أصحابنا والجمهور في المتعة التي حَرّمها عمر:

ففي «الانتصار»(3) و «المنتهى »(4) و «الجواهر»(5)، وعن النووي في شرح2.

ص: 176


1- شرح اللّمعة: ج 2/213.
2- الكافي: ج 4/298 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/255 ح 14728.
3- الإنتصار: ص 240 و 241.
4- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/660.
5- جواهر الكلام: ج 18/2.

«صحيح مسلم»(1)، وغيرهم في غيرها: أنّه الاعتمار في أشهر الحَجّ ثمّ الحَجّ من عامه، وهو القسم الأوّل من حَجّ التمتّع.

وعن «المعتبر»(2)، وفي «كنز العرفان»(3) وعن المازري(4)، والقاضي عياض(5):

أنّه فسخ الحَجّ إلى العُمرة، وهو القسم الثاني من حَجّ التمتّع.

أقول: وأمّا الكلام في بطلان ذلك، وأنّه ليس لعمر بن الخطّاب ذلك، فموكولٌ إلى محلٍّ آخر؛ لعدم وضع الكتاب لذلك، ومن أراد الوقوف على ما هو الحقّ الذي لا ريب فيه، فليراجع كتاب «البيان في تفسير القرآن» للمرجع الديني الأعلى المحقّق الخوئي دام ظلّه.

***ه.

ص: 177


1- شرح صحيح مسلم للنووي: ج 8/169.
2- المعتبر: ج 2/797.
3- كنز العرفان: ج 2/156 فإنّه تعرّض للرواية دون ذٖكر التفسير في هذا المورد.
4- حكاه عنه ابن حجر في فتح الباري: ج 5/209.
5- حكاه عنه ابن حجر في فتح الباري: ج 5/223، وغيره.

أمّا التمتّع فصورته الإحرام بالعُمرة إلى الحَجّ من الميقات، والطواف بالبيت سَبْعاً... الخ.

صورة حَجّ التمتّع

(أمّا التمتّع فصورته الإحرام بالعُمرة إلى الحَجّ من الميقات، والطواف بالبيت سَبْعاً، وصلاة ركعتين في مقام إبراهيم عليه السلام، والسَّعي بين الصَّفا والمروة سَبعاً، والتقصير، والإحرام ثانياً من مكّة بالحَجّ ، والوقوف بعرفات تاسع ذي الحِجّة إلى الغروب، والإفاضة إلى المشعر، والوقوف به بعد الفجر، ورمي جَمَرة العقبة، ثُمّ الذَّبح، ثُمّ الحَلْق يوم النحر بمِنى ، وطواف الحَجّ وركعتاه وسعيه، وطواف النساء وركعتاه، والمبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر، ورمي الجِمار الثلاث في اليومين، ثمّ إنْ أقام الثالث عشر رَمى ).

هذه صورة التمتّع إجمالاً، وسيمرّ عليك تفصيل ذلك، ولعلّه هناك كلامٌ في بعض مواضعها.

***

ص: 178

وهذا فرض من نأى عن مكّة.

التمتّع فرضُ من كان بعيداً عن مكّة

(وهذا) أي حجّ التمتّع (فرضُ من نأى عن مكّة) بلا خلافٍ ، لا يجزيه غيره اختياراً، إجماعاً محكيّاً عن «الانتصار»(1) و «الخلاف»(2) و «الغُنية»(3).

وفي «التذكرة»(4): (أجمع علماؤنا كافّة على أنّ فرض من نأى عن مكّة التمتّع، لا يجوز لهم غيره إلّامع الضرورة...) انتهى .

وفي «المنتهى »(5): (قال علماؤنا أجمع: فرض اللّه على المكلّفين ممّن نأى عن المسجد الحرام، وليس من حاضريه، التمتّع مع الاختيار، لا يُجزيهم غيره، وهو مذهب فقهاء أهل البيت).

وفي «الجواهر»(6): (بإجماع علمائنا) ونحو ذلك كلمات غيرهم.

واستدلّ له: - مضافاً إلى ذلك - بالكتابة والسُنّة.

أمّا الكتاب:

1 - قوله تعالى: (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ

ص: 179


1- الإنتصار: ص 238.
2- الخلاف: ج 2/272.
3- غنية النزوع: ص 151.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/169.
5- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/659.
6- جواهر الكلام: ج 18/5.

اَلْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) (1) .

وتقريب الاستدلال: أنّ ذلك إمّا أن يرجع إلى جميع ما تقدّم، أو أنّه يرجع إلى التمتّع، نظراً إلى ما نصّ عليه أهل العربيّة من أنّ (ذلك) للبعيد.

نعم، الآية لا تدلّ على عدم إجزاء غيره، لأنّ ظاهرها حصر التمتّع بالنائي، لا حصر وظيفة النائي به.

2 - وقوله تعالى : (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ ) بتقريب أنّ الأمر بالإتمام أمرٌ بإيجادهما تامّين للاجزاء والشرائط، نظير قوله تعالى : (إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (2) أي من أتى بعملٍ حَسَن، ونظير قولنا: (أطل جلفة قلمك) وما شاكل.

وفي صحيح ابن اُذينة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن قوله تعالى: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ ) (3) يعني بتمامها أداءهما»(4).

وفي صحيح معاوية، عنه عليه السلام: «العُمرة واجبة على الخلق، مثل الحَجّ على مَن استطاع، لأنّ اللّه عَزَّ وَجَلّ يقول: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ ) »(5).

والأمر ظاهرٌ في الوجوب، فتدلّ الآية على وجوب كلّ منهما، ووجوب كلّ واحدٍ من الأجزاء، يستلزم وجوب الماهيّة المركّبة منهما، والآية وإنْ كانت مطلقة، إلّا أنّه يُقيّد إطلاقها بما دلّ على أنّ فرض من بمكّة غير ذلك.1.

ص: 180


1- سورة البقرة: الآية 196.
2- سورة الكهف: الآية 30.
3- سورة البقرة: الآية 196.
4- الكافي: ج 4/264 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/7 ح 14108.
5- الكافي: ج 4/265 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/9 ح 14111.

وأمّا السُنّة: فنصوص كثيرة:

منها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «في قول اللّه عَزَّ وَجَلّ : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) (1) قال: يعني أهل مكّة ليس عليهم متعة، كلّ من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ذات عرق وعسفان كما يدور حول مكّة، فهو ممّن دخل في هذه الآية، وكلّ من كان إهله وراء ذلك فعليهم المتعة»(2).

ومنها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «دَخَلَت العُمرة في الحَجّ إلى يوم القيامة، لأنّ اللّه تعالى يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ ) (3) فليس لأحدٍ إلّاأن يتمتّع، لأنّ اللّه أنزل ذلك في كتابه، وجرت به السُنّة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(4).

وهذا كالآية مطلق يقيّدُ إطلاقه بما سيأتي، ونحوهما غيرهما.

وحِجّ الإفراد والقِران فرضُ مَن كان حاضراً، أي غير بعيدٍ، كما هو المشهور شهرة عظيمة، ولم يخالف أحدٌ غير الشيخ(5) في أحد قوليه، ويحيى بن سعيد(6).

ويشهد للمشهور: الآية الأُولى كما عرفت، والنصوص:

منها: صحيح الفضلاء، عن الإمام الصادق عليه السلام: «ليس لأهل مكّة ولا لأهل مُرّ(7) ولا سَرف(8) متعة، وذلك لقول اللّه عَزَّ وَجَلّ : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِيل.

ص: 181


1- سورة البقرة: الآية 196.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/33 ح 27، وسائل الشيعة: ج 11/259 ح 14738.
3- سورة البقرة: الآية 196.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/25 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/240 ح 14683.
5- الخلاف: ج 2/272.
6- الجامع للشرايع: ص 179.
7- مُرّ بالتشديد موضع بقرب مكّة من جهة الشام نحو مرحلة.
8- سرف بالمهملة كتف موضع من مكّة على عشرة أميال.

اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) »(1).

ومنها: خبر سعيد الأعرج، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: ليس لأهل سَرف ولا لأهل مُرّ ولا لأهل مكّة متعة، يقول اللّه تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) »(2). ونحوهما غيرهما.

واستدلّ - لما ذهب إليه الشيخ وابن سعيد بصحيحي عبد الرحمن بن الحجّاج الآتيين في مسألة أنّ أهل مكّة إذا خرجوا إلى بعض الأمصار، جاز لهم التمتّع، وسوف نقول إنّ موردهما خاصٌّ لا يتعدّى عنه.

حَد البُعد الموجب للتمتّع

وقد اختلفت كلماتهم في حَدّ البُعد الموجب للتمتّع، على قولين:

أحدهما: ما في المتن و «الشرائع»(3)، و «الجواهر»(4)، وعن «السرائر»(5)، و «الإرشاد»(6)، و «الاقتصاد»(7)، و «المبسوط»(8)، و «التبيان»(9)، و «مجمع البيان»(10)،

ص: 182


1- تهذيب الأحكام: ج 5/32 ح 25، وسائل الشيعة: ج 11/258 ح 14736.
2- الكافي: ج 4/299 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/260 ح 14741.
3- شرائع الإسلام: ج 1/174.
4- جواهر الكلام: ج 18/6.
5- السرائر: ج 1/519.
6- إرشاد الأذهان: ج 1/309.
7- الإقتصاد: ص 298.
8- المبسوط: ج 1/306.
9- التبيان: ج 2/158-159 وص 161.
10- مجمع البيان: ج 1/291.

اثنى عشر ميلاً فما زاد من كلّ جانب.

و «فقه القرآن»(1)، و «روض الجنان»(2)، و «الجُمل والعقود»(3)، «الغُنية»(4)، و «الكافي»(5)، و «الوسيلة»(6)، و «الجامع»(7)، و «الإصباح»(8)، و «الإرشاد»(9)، و «القواعد»(10)، وهو البُعد عن مكّة (اثنى عشر ميلاً فما زاد من كلّ جانب).

ثانيهما: ما عن عليّ بن إبراهيم(11)، والصدوقين(12)، والشيخ في «التهذيب»(13)، و «النهاية»(14) والمحقّق في «النافع»(15) و «المعتبر»(16)، والمصنّف في4.

ص: 183


1- فقه القرآن: ج 1/266.
2- نسبه إلى روض الجنان في كشف اللّثام (ط. ج): ج 1/277.
3- الجمل والعقود (الرسائل العشر): ص 224.
4- الغنية (الجوامع الفقهيّة): ص 573.
5- الكافي في الفقه: ص 191.
6- الوسيلة: ص 157.
7- الجامع للشرايع: ص 177.
8- إصباح الشيعة للكيدري البيهقي: ص 149.
9- الإرشاد: ج 1/309.
10- قواعد الأحكام: ج 1/398.
11- تفسير القمّي: ج 1/69.
12- المقنع: ص 215، من لا يحضره الفقيه: ج 2/203 في ذيل الحديث 926، وكذلك نسبه في مختلف الشيعة (ط. ج): ص 260.
13- التهذيب: ج 5/32.
14- النهاية: ص 206.
15- المختصر النافع: ص 78.
16- المعتبر: ج 2/784.

«المختلف»(1) و «التذكرة»(2) و «المنتهى »(3) و «التحرير»(4)، والشهيدين(5) وسيّد «المدارك»(6) وصاحب «الذخيرة»(7)، وغيرهم من المتأخّرين(8)، بل عند أكثرهم، كما عن الآخرين وعن شرح «المفاتيح»(9): أنّه المشهور، وعن «المعتبر» أنّ القول الآخر شاذٌّ نادر، وهو البُعد عن مكّة بثمانية وأربعين ميلاً من كلّ جانب.

أقول: يقع الكلام في مقامين:

تارةً : مع قطع النظر عن النصوص الخاصّة.

وأُخرى : بملاحظة النصوص الخاصّة الواردة.

أمّا المقام الأوّل: فقد استدلّ للقول الأوّل بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «المستند»(10) و «الجواهر»(11) وغيرهما من أنّ الآية الشريفة وجملة من النصوص المتقدّم بعضها، تدلّ على أنّ التمتّع فرض كلّ أحدٍ، خرج عنهم ما دون اثنى عشر ميلاً بالإجماع، وهو المتيقّن من النصوص، فيبقى الباقي، وعبّروا عن هذا الوجه بالأصل، ومرادهم به أصالة العموم.6.

ص: 184


1- مختلف الشيعة (ط. ج): ص 260.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/177.
3- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/661.
4- تحرير الأحكام (ط. ج): ج 1/558.
5- الدروس: ج 1/330، اللّمعة الدمشقيّة ص 55، شرح اللّمعة: ج 2/204، مسالك الأفهام: ج 2/193.
6- مدارك الأحكام: ج 7/160.
7- ذخيرة المعاد: ج 3/551.
8- كابن فهد الحِلّي في المهذّب: ج 2/145.
9- حكاه عنه المحقّق النراقي في مستند الشيعة: ج 11/219.
10- مستند الشيعة: ج 11/220.
11- جواهر الكلام: ج 18/6.

الوجه الثاني: ما عن «كشف اللّثام»(1) وغيره من أنّ الآية تدلّ على أن من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وظيفته التمتّع، والحاضر مقابلُ المسافر، والسفر أربعة فراسخ، وهي أثنا عشر ميلاً.

ولا يرد على هذا الوجه ما أفاده جمعٌ من المحقّقين من أنّه يكون مفاد الآية حينئذٍ أنّ من كان أهله مسافراً عن المسجد، فعليه التمتّع وإلّا فعليه القِران، لأنّ هذا كما ترى لا يرتضيه أحد، فإنّه يمكن الجواب عنه بأنّ المستدلّ يدّعي أنّ الحضور مقابلُ السفر، ولكلّ منهما حَدّ خاص في الشريعة، والآية تدلّ على أنّ المتوطّن في أحد الحَدّين يجب عليه الإفراد أو القِران، والخارج عنه يجب عليه التمتّع.

فإنْ قيل: إنّ السفر الموجب للقصر والإفطار ثمانية فراسخ لا أربعة.

قلنا: إنّه حيث يكون من يذهب أربعة فراسخ ويرجع يقصّر، لصيرورة المجموع ثمانية فراسخ، فأقلّ حَدّ البُعد الموجب لصدق السفر هو أربعة فراسخ.

أقول: ولكن يرد على هذا الوجه:

أوّلاً: منع كون ذلك حَدّ المسافر شرعاً، بحيث أنّ الشارع الأقدس حدّد مفهوم السفر بذلك، ويكون ذلك حقيقة شرعيّة له يحمل عليه هذا اللّفظ إذا وقع في لسان الشارع.

وثانياً: منع كون الحاضر مقابل المسافر، وإنّما هو اصطلاح طارٍ بعد نزول الآية.

ثالثها: أنّ الحاضر المعلّق عليه وجوب التمتّع أمرٌ عرفي، وأهل العرف لا يوافقون على أزيد من اثني عشر ميلاً.6.

ص: 185


1- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/16.

وفيه: إنّ أهل العرف يرون اختصاص عنوان (حاضري المسجد الحرام) بمَن يعدّ من مواطني مدينة مكّة خاصّة، وأمّا المتوطّن خارجها ولو على خمسة أميال من مكّة، فهو لا يُسمّى (حاضري المسجد الحرام)، فنظر العرف لا يكون متّبعاً هنا قطعاً، فالعمدة إذاً هو الوجه الأوّل.

أمّا المقام الثاني: وهو البحث عن النصوص الخاصّة، فهي على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على التحديد بثمانية وأربعين ميلاً:

منها: صحيح زرارة المتقدّم في وجوب التمتّع على من نأى عن مكّة، حيث قال عليه السلام: «كلّ من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ذات عرق وعَسفان كما يدور حول مكّة، فهو ممّن دخل في هذه الآية، وكلّ من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة»(1).

ومنها: صحيحه الاخر أو موثّقه، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن قول اللّه عَزَّ وَجَلّ :

(ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ ) (2) إلى آخره ؟ قال: ذلك أهل مكّة ليس لهم متعة ولا عليهم عمرة.

قال: قلت: فما حَدّ ذلك ؟ قال: ثمانية وأربعين ميلاً من جميع نواحي مكّة دون عسفان ودون ذات عرق»(3).

وأورد عليهما تارةً : بأنّ ذات عِرق وعَسفان - على ما صرّح به في «القاموس»(4) و «التذكرة»(5) - هما موضعين على مرحلتين من مكّة، وبموجب كون المرحلتين عبارة عن مسافة يومين كما عن أهل اللّغة، واليومان عبارة عن ثمانية0.

ص: 186


1- تهذيب الأحكام: ج 5/33 ح 27، وسائل الشيعة: ج 11/259 ح 14738.
2- سورة البقرة: الآية 196.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/492 ح 412، وسائل الشيعة: ج 11/260 ح 14742.
4- حكاه غير واحد من أهل اللّغة منها ما في مجمع البحرين: ج 3/167، باب ع.
5- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/170.

وأربعين ميلاً، يكون الموضعان المذكوران خارجين عن حدود مكّة وملحقتين بالآفاق، والموجب صيرورة الحجّ لهم تمتّعاً، مع أنّهما من توابع مكّة، وداخلتان في مسافة الثمانية والأربعين، كما صرّح به في الصحيح الأوّل.

وأُخرى : بأنّ ظاهر الخبر الأوّل، أنّه ليس لأهلهما متعة، وصريح الثاني خروجهما عن الحَدّ، فالخبران متعارضان في ذلك.

وثالثة: بأنّ قوله: (ذات عرق وعسفان)، في الخبر الأوّل:

إنْ جُعل تمثيلاً للثمانية والأربعين، فهو تفسيرٌ بالأخفي ، ولا يناسب موضوع الشرطيّة.

وإنْ جُعل تفسيراً لما دونها، كان مخالفاً لما ذكره الأصحاب من أنّهما على مرحلتين من مكّة.

مضافاً إلى أنّ قوله فيه: (كما يدور حول الكعبة)، لم يتَّضح ارتباطه بما قبله.

ورابعة: بأنّ ظاهر الخبر الثاني أنّ الثمانية والأربعين دون عسفان وذات عرق، مع أنّ المذكور في كلماتهم أنّهما على مرحلتين وتكون أنفسهما.

أقول: إنّ قوله في الخبر الأوّل: (ذات عِرْق وعسفان) يعدّ تفسيراً لثمانية وأربعين ميلاً، ودعوى كونه تفسيراً بالأخفى ، غريبة، حيث إنّهما موضعان كانا معروفين عند الأصحاب، والبُعد بينهما وبين مكّة كان معيّناً عندهم، فكيف يمكن فرضه تفسيراً بالأخفى؟!

وقوله فيه: (كما يدور حول مكّة) أي بالمقدار الذي بين الموضعين ومكّة يلاحظ من جميع نواحيها، وعليه فيرتفع الإشكالات الثلاثة الأول.

وأمّا الإشكال الرابع: فيمكن دفعه بأنّ قوله: (دون عسفان) تفسيرٌ للمحدّد

ص: 187

دون الحَدّ، وهو واضح، فإذاً لا إشكال أصلاً.

أقول: وأمّا خبر أبي بصير المتضمّن أنّه ليس لأهل عسفان وذات عرق متعة(1). فهو لابدّ وأن يطرح، لمخالفته للإجماع، أو يُحمل على أنّ أهلهما في ذلك الزمان كانوا مواطنين بين مكّة والموضعين، واللّه العالم.

أضف إلى ذلك أنّ شيئاً من هذه الإشكالات لا يصلح لرفع اليد عمّا يكون الخبران ظاهرين فيه، وهو أنّ حَدّ البُعد ثمانية وأربعون ميلاً، إذ اشتمال الرواية على أُمور مشكلة، إذا لم يقدح في دلالتها على الحكم، لا يضرّ بحجيّتها والاستناد إليها.

الطائفة الثانية: ما دلّ على أنّه ثمانية عشر ميلاً، وهو صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه عَزَّ وَجَلّ : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) (2)؟ قال عليه السلام: من كان منزله على ثمانية عشر ميلاً من بين يديها، وثمانية عشر ميلاً من خلفها، وثمانية عشر ميلاً عن يمينها، وثمانية عشر ميلاً عن يسارها، فلا متعة له مثل مُرّ وأشباهه»(3).

ولكن يرد عليه أوّلاً: أنّ مُرّ - على ما عن «القاموس» وغيره - موضعٌ من مكّة على مرحلة، والمرحلة عبارة عن مسافة يوم، كما صرّح به أهل اللّغة، واليوم عبارة عن أربعة وعشرين ميلاً، فقوله عليه السلام: (مثل مُرّ وأشباهه) لا يلائم مع ثمانية عشرميلاً.

وثانياً: أنّ الخبر ليس وارداً لبيان آخر حَدّ حاضري المسجد الحرام، وإنّما يبيّن حكم فردٍ من الحاضرين، وهو أنّ من يكون على رأس ثمانية عشر ميلاً لا متعة عليه.5.

ص: 188


1- الكافي: ج 4/299 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/262 ح 14747.
2- سورة البقرة: الآية 196.
3- الكافي: ج 4/300 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/261 ح 14745.

وإن شئت قلت: إنّ منطوقه لا ينافي ما استفيد من الطائفة الأُولى ولا مفهوم له، فهو نظير صحيح الفضلاء، وخبر سعيد الآتيين، وعلى فرضه يُقيّد إطلاقه بمنطوق الطائفة الأُولى .

الطائفة الثالثة: ما دلّ على أنّه دون الميقات:

منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في حاضري المسجد الحرام ؟ قال عليه السلام: ما دون المواقيت إلى مكّة فهو حاضري المسجد الحرام، وليس لهم متعة»(1).

ومنها: صحيح حمّاد بن عثمان، عنه عليه السلام: «في حاضري المسجد الحرام ؟ قال عليه السلام:

ما دون الأوقات إلى مكّة»(2).

وأُورد عليها: بأنّ الظاهر أنّ المراد ما دون جميعها، دون خصوص الأقرب منها، وما دونها أعمٌّ من أن يكون ثمانية وأربعين ميلاً أو أزيد، فيلزم منه اختلاف الحَدّ باختلاف الجهات المسكونة، فكلّ موضعٍ يكون بين الميقات ومكّة يكون حكم أهله أنْ لا متعة لهم، وكلّ موضعٍ يكون وراء الميقات، يكون حكم أهله التمتّع، وهذا ما لا قائل به.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّه عليه السلام لم يقل ما دون كلّ ميقاتٍ إلى مكّة فهو حاضر، بل قال: (ما دون المواقيت)، فلابدّ ملاحظة الأقرب منها إلى مكّة، فما فوق ميقات واحد مع اختلاف المواقيت، ليس ما دون المواقيت، بل ما بينها وهذا، سيّما مع ملاحظة أنّ الميقات لا خصوصيّة له، وأنّ المراد تحديد البُعد الموجب للتمتّع ظاهرٌ لا ستُرة عليه.0.

ص: 189


1- تهذيب الأحكام: ج 5/33 ح 28، وسائل الشيعة: ج 11/260 ح 14739.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/476 ح 329، وسائل الشيعة: ج 11/260 ح 14740.

وحيثُ إنّ أقرب المواقيت هو ذاتُ عِرق ويَلَمْلَم وقَرْنُ المنازل، وبين كلّ واحدٍ منها ومكّة مرحلتان، كما صرّح بذلك في الأوّل أهل اللّغة والمصنّف، وفي الثاني اليعقوبي في محكي «تاريخ البلدان»، والمصنّف في محكي «التذكرة»، وفي الثالث غير واحدٍ، فيكون مفاد هذه النصوص أنّ الحَدّ هو ثمانية وأربعون ميلاً.

الطائفة الرابعة: ما دلّ على أنّه لا متعة على أهل مُرٍّ وسَرف، كصحيح الفضلاء، وخبر سعيد المتقدّمين، وعرفت أنّ بين مُرّ ومكّة مرحلة، وهى أربعة وعشرون ميلاً.

أقول: لكن هذه النصوص لا مفهوم لها كي نستدلّ بها على ثبوت المتعة على من تجاوزهما، وعليه فهي تصلح للردّ على القول الآخر ولا تنافي هذا القول.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ مقتضى النصوص الخاصّة، هو أنّ الحَدّ الموجب لحجّ التمتّع هو ثمانية وأربعون ميلاً، وبها يُقيّد إطلاق الآية الشريفة، ويخرج عنها.

اعتبار الحَدّ من المسجد أو مكّة

وهل يعتبر الحَدّ المذكور من مكّة أو من المسجد؟ فيه قولان:

أحدهما: ما يظهر من الشيخ في «المبسوط»(1) و «الاقتصاد»(2) و «الجُمل»(3)حيث قال: (من كان بين منزله وبين المسجد الحرام اثنا عشر ميلاً من كلّ جانب)، كما أنّ المصنّف في «التحرير»(4) وغيرهما في غيرها اعتبار الحَدّ من المسجد.

الثاني: ما عن ظاهر كلام الشيخ في «النهاية»(5) حيث قال: (حَدّ حاضري

ص: 190


1- المبسوط: ج 1/306.
2- الإقتصاد: ص 298.
3- الجمل والعقود (الرسائل العشر): ص 224.
4- تحرير الأحكام (ط. ج): ج 1/558.
5- النهاية: ص 206.

المسجد الحرام من كان من أهل مكّة، أو يكون بينه وبينها ثمانية وأربعون ميلاً من كلّ جانب)، وأيضاً قال المصنّف في محكي «القواعد»(1): (من نأى عن مكّة باثنى عشر ميلاً من كلّ جانب) وكذلك قال في «المنتهى »(2) وغيرها من اعتباره من مكّة.

وقد استدلّ للأوّل: بأنّ صحيح زرارة وخبره المتقدّمين، لمّا كان السؤال فيهما عن قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) (3) وفُسِّر أنّ المراد هو (حاضري المسجد)، فالمنسبق من التقدير فيهما أن يكون المبدأ نفس المسجد.

ولكن يرد عليه: أنّه في الصحيح يفسّر أوّلاً الحاضر والمسجد بأهل مكّة، ثمّ يبيّن الحَدّ ويعقبه بقوله: (يدور حول مكّة)، وكذا في الخبر فسّر أوّلاً بقوله: (ليس لأهل مكّة متعة)، ثمّ بيّن الحَدّ وعقّبه بقوله: (من جميع نواحي مكّة)، وعليه فالمنسبق من التقدير كون المبدأ هو مكّة لا المسجد الحرام، ويؤيّده ما قيل من أنّ بين عَسفان وذات عِرْق وبين مكّة ثمانية وأربعين ميلاً.

فالمتحصّل: أنّه يعتبر الحَدّ المذكور من مدينة مكّة.

أقول: وحيثُ لا يكون ما تضمّن هذا الحكم من قبيل القضيّة الحقيقيّة، بل هو متضمّن لقضيّة خارجيّة، فالميزان هو سور مكّة الذي كان موجوداً في زمان صدور الخبر، ولا اعتبار بالتوسعة الحاصلة بعده، وفي ذلك لابدّ وأن يحصل الاطمئنان أو شهادة ثقة به، بناءً على كفايتها في الموضوعات كما هي الأظهر.

فرع: من كان على نفس الحَدّ هل وظيفته التمتّع، أو الإفراد والقِران ؟6.

ص: 191


1- قواعد الأحكام: ج 1/398.
2- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/661.
3- سورة البقرة: الآية 196.

وجهان مبنيّان على أنّ التمتّع وظيفة من فوق الحَدّ، أو أنّ الإفراد والقِران وظيفتا من دونه ؟

صريح قوله عليه السلام في صدر صحيح زرارة: (كلّ من كان أهله دون... إلى آخره)، هو الثاني، وكذا ظاهر صحيح حمّاد والحلبي، ففي أحدهما: (ما دون الأوقات إلى مكّة)، وفي الآخر: (ما دون المواقيت إلى مكّة)، بل في خبر زرارة: (دون عسفان وذات عرق) بناءً على أنّهما على مرحلتين من مكّة.

ولا يعارض ذلك ما في ذيل صحيح زرارة من قوله عليه السلام: (وكلّ من كان أهله وراء ذلك فعليهم المتعة)، فإنّه من جهة ورودة بعد الجملة الأُولى الصريحة فيما ذكرناه، يكون جارياً عليه، فالمراد من أسم الإشارة فيه، هو المقدار الذي سبق ذكره، الذي جُعل موضوعاً للقِران والإفراد، لا الثمانية والأربعون.

وبالجملة: فالأظهر أنّ وظيفة من على رأس الحَدّ هي التمتّع، ولكن من المعلوم أنّ نفس الحَدّ الذي هو خطٌّ موهوم بين داخل الحَدّ وخارجه لا يكون مسكناً لشخص عادةً ، كى يجري فيه هذا البحث، اللّهُمَّ إلّاأن يفرض بناء الدار على نفس الحَدّ بحيث يكون نصفها داخل الحَدّ ونصفها الآخر خارجه، وكانت إقامته في النصفين على حَدٍّ سواء، فتأمّل.

من شكّ في أنّ وظيفته التمتّع أو غيره

مَن شكّ في أنّ منزله في الحَدّ أو خارجه، فهل يجب عليه الفحص ؟ ومع عدم تمكّنه عليه أن يراعي الاحتياط؟ أم يجب عليه التمتّع ؟ أم وظيفته غير ذينك ؟

أقول: وقد استدلّ على أنّ وظيفته التمتّع بوجوه:

ص: 192

الوجه الأوّل: ما في «العروة»(1) وحاصله: أنّ غير التمتّع معلّقٌ على عنوان الحاضر، وهو عنوانٌ وجودي مسبوقٌ بالعدم، فمع الشكّ فيه يستصحب عدمه، فيشمله العام الدالّ على أن غير الحاضر يتمتّع.

وليس ذلك من التمسّك بالعام بالشبهة المصداقيّة، كي يورد عليه بأنّه غير جائز، كما أفاده بعض الأعاظم من المعاصرين(2)، بل من قبيل إحراز الموضوع بالأصل.

ولكن يرد عليه: أنّه إنْ كان الشخص قبل ذلك مواطناً وراء الحَدّ المذكور للحاضر، ثمّ انتقل إلى مكانٍ شكّ في ذلك، عليه أن يستصحب عدم كونه حاضراً، كما أنّه لو كان قبل مُقيماً في الحَدّ، يستصحب كونه حاضراً، وكلاهما خارجان عن الفرض، بل محلّ الكلام من لا يكون له حالة سابقة فلا يجري هذا الأصل.

فإنْ قيل: إنّ نظره الشريف إلى استصحاب العدم الأزلي، بتقريب أنّه قبل وجوده وأهليّته لم يكن هو ولا حضورٌ في المسجد الحرام، وبعدما وجد يشكّ في تبدّل عدم الحضور، عليه أن يستصحب ذلك بناءً علي جريان الأصل فى العدم الأزلي.

قلنا: إنّ استصحاب العدم الأزلي وإنْ كان يجري، إلّاأنّه فيما لم يكن عدم القيد مأخوذاً وصفاً وقيداً للموضوع، وإلّا فباستصحاب العدم المحمولي لا يثبت العدم النعتي، الذي هو جزء الموضوع، ولا يحرز الموضوع، لأنّه من الاُصول المثبتة، ولا يجري، والمقام من هذا القبيل، فإنّ عدم كونه (حاضري المسجد الحرام) مأخوذٌ في الآية الشريفة وصفاً، فلا يجري هذا الأصل.

أضف إلى ذلك أنّ النصوص قد فسّرت الحاضر وغير الحاضر، فالأوّل هو من كان أهله دون ثمانية وأبعين ميلاً، والثاني من كان أهله وراء تلك كما في صحيح0.

ص: 193


1- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/602.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 11/159-160.

زرارة، فكلّ منهما أمرٌ وجودي، فلا مجال لإجراء الأصل.

الوجه الثاني: المستفاد من الأدلّة أنّ الاستطاعة مقتضية لوجوب حَجّ التمتّع، لكن عنوان (حاضري المسجد الحرام) مانعٌ عنه، فمع الشكّ في المانع يُبنى على تحقّق المقتضى بالفتح.

وفيه: أنّه لو تمّ ما ذكر، يتوقّف على تماميّة قاعدة المقتضي والمانع وحجّيتها، ولا نقول بها، مع أنّه لعدم العلم بمناطات الأحكام لا نعلم أنّ الاستطاعة مقتضية لذلك، ولعلّها لا تكون مقتضية مع الحضور.

الوجه الثالث: أنّ تعليق الحكم على أمرٍ وجودي - سواءٌ أكان تكليفيّاً أو وضعيّاً بالالتزام العرفي - يدلّ على إناطته بإحراز ذلك الأمر، ودخالة الإحراز في الموضوع، فإذا لم يحرز الحضور الذي هو أمرٌ وجودي، يكون موضوع حَجّ الإفراد والقِران منتفياً واقعاً، فيجب عليه التمتّع.

وفيه أوّلاً: أنّه لو كان وظيفة الحاضر هو التخيّير بين التمتّع وأخويه، كان مورداً لهذه القاعدة، فإنّ تلك القاعدة إنّما هي في الحكم الترخيصي المعلّق على أمر وجودي، لا في كلّ حكم، وإلّا فهي بديهي البطلان، ومن المفروض أنّ الحاضر لايجوز له التمتّع.

وثانياً: أنّها لا أصل لها، لعدم ثبوت كون تلك قاعدة عقلائيّة.

وبعبارة أُخرى : ما لم يؤخذ العلم في لسان الدليل دخيلاً في الموضوع، لا يكون الحكم منوطاً به من غير فرق بين الحكم التكليفي والوضعي.

الوجه الرابع: أنّ مقتضى العمومات وجوب التمتّع على كلّ أحدٍ، خرج عنها الحاضر، فمع الشكّ فيه يُشكّ في المصداق، والمرجع في الشبهة المصداقيّة هو العموم.

وفيه: أنّ المُحقَّق في محلّه عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

ص: 194

فتحصّل: أنّ شيئاً ممّا استدلّ به على وجوب التمتّع عليه لا يتمّ .

أقول: وقد استدلّ لوجوب الفحص عليه بوجهين:

أحدهما: أنّه بدون الفحص يجبُ عليه الامتثال الإجمالي، للعلم الإجمالي بوجوب أحدهما، والامتثال الإجمالي لا يجوزُ مع التمكّن من الامتثال التفصيلي، لكونه في طوله.

وفيه: ما حُقّق في محلّه من أنّه يجوز الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي، ومع التمكّن منه.

ثانيهما: أنّه إذا ترك الفحص لابدّ له من الاحتياط بالجمع بين الحَجّين، وحيث إنّه لا يمكن الجمع بينهما في عامٍ واحد، فلابدّ من إتيان أحدهما في عام الاستطاعة، والآخر في العام اللّاحق، فيلزم تفويت فوريّة الواجب.

وبعبارة أُخرى : لا يمكن الاحتياط إلى فوريّة الواجب، فيجبُ الفحص مقدّمةً لامتثال ذلك الوجوب.

وأجاب عن ذلك بعض الأعاظم(1): بأنّه يمكن الاحتياط في العام الواحد، وهو أن يحرم من الميقات، ويدخل مكّة، ويأتي بأعمال العُمرة رجاءً ، ثمّ يقصّر ويُجدّد الإحرام احتياطاً بعد التقصير، لاحتمال أن يكون تكليفه حَجّ التمتّع الذي يكون إحرامه في مكّة، ويأتي بالعُمرة بعد الحَجّ رجاءً .

فما أتى به من الحَجّ يكون تمتّعاً على تقدير كون تكليفه التمتّع، وإفرادٌ على تقدير كون تكليفه الإفراد، وما أتى به من أعمال العُمرة قبل الحَجّ يكون بناءً على كون تكليفه الإفراد فعلاً لغواً غير مُضرّ بالحَجّ ، والتقصير المأتي به على فرض كونه إفراداً حرامٌ ، وعلى فرض كون تكليفه تمتّعاً ليس بحرام، فيشكّ في حرمته فيجري6.

ص: 195


1- كتاب الحَجّ للسيد الخوئي: ج 2/196.

فيه الأصل.

أقول: بعد تصحيحه بأنّ الإحرام الذي يأتي به من الميقات، يقصد فيه ما هو وظيفته الفعليّة، أعمّ من الحَجّ أو العُمرة، يرد عليه أنّه يحصل له العلم الإجمالي بأنّه إمّا أن يحرم عليه التقصير إنْ كان حَجّه إفراداً، أو يجبُ عليه الهَدْي إنْ كان تمتّعاً، وهذا العلم الإجمالي بتوجّه أحد التكليفين الإلزاميّين إليه، يكون كالعلم الإجمالي بثبوت تكليف إلزامي معيّن، ويمنع عن جريان الأصل في التقصير، فبمقتضى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لابدّ من تركه.

فإنْ قيل: إنّه يدور أمر التقصير بين الوجوب والحرمه، فهذا العلم الإجمالي يمنع عن تأثير العلم الإجمالي المزبور.

قلنا: إنّه حيث لا يكون هذا العلم منجزاً، لعدم التمكّن من المخالفة ولا الموافقة القطعيّتين، فالعلم الإجمالي الذي أشرنا إليه يكون منجزاً، وعلى ذلك فلا يمكن الاحتياط في عامٍ واحد، فيجبُ الفحص مقدّمةً للامتثال، ولو فحص ولم يظهر له شيءٌ لا مناص له عن الاحتياط في عامين.

وما ذكرناه تبعاً للأصحاب من أنّ التمتّع وظيفة النائي، والإفراد والقِران وظيفة الحاضر، إنّما هو بالنسبة إلى حجّة الإسلام، وأمّا الحَجّ المندوب فيجوزُ لكلٍّ من النائي والحاضر كلّ من الأقسام الثلاثة، بلا خلافٍ فيه من أحد، وإنْ كان الأفضل اختيار التمتّع، قال صاحب «الجواهر»(1): (لا خلاف أيضاً في أفضليّة التمتّع على قسمين لمَن كان الحَجّ مندوباً بالنسبة إليه، لعدم استطاعته، أو حصول حَجّ الإسلام0.

ص: 196


1- جواهر الكلام: ج 18/10.

منه، والنصوص مستفيضة فيه أو متواترة، بل هو من قطعيّات مذهب الشيعة، بل في بعضها عن الإمام الصادق عليه السلام: لو حَجَجتُ ألفي عامٍ ما قَدِمتها إلّامتمتّعاً)(1)، ويشهد به نصوصٌ كثيرة:

منها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قلت له: إنّي قرنتُ العام وسقتُ الهَدْي ؟ فقال: ولِمَ فعلت ذلك ؟ التمتّع واللّه أفضل لا تعودنّ »(2).

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام ونحن بالمدينة:

إنّي اعتمرتُ في رجب، وأنا اُريد الحَجّ فأسوق الهَدْي، أو أفرد الحَجّ أو أتمتّع ؟ قال عليه السلام: في كلٍّ فضلٌ وكلٌّ حسن. قلتُ : فأيّ ذلك أفضل ؟ فقال: إنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: لكلّ شهرٍ عُمرة تمتّع، فهو واللّه أفضل»(3).

ونحوها غيرها من النصوص الكثيرة، وبها يُقيّد ما ظاهره تعيّن التمتّع للبعيد مطلقاً، كصحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام المتقدّم، قال: «دَخَلَتِ العُمرة بالحَجّ إلى يوم القيامة، لأنّ اللّه تعالى يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ ) (4) فليس لأحدٍ إلّاأن يتمتّع، لأنّ اللّه أنزل ذلك في كتابه، وجرت به السُنّة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(5). ويُحمل على الفرض.

***3.

ص: 197


1- تهذيب الأحكام: ج 5/29 ح 16، وسائل الشيعة: ج 11/250 ح 14714.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/29 ح 19، وسائل الشيعة: ج 11/251 ح 14717.
3- الكافي: ج 4/293 ح 15، وسائل الشيعة: ج 11/251 ح 14718.
4- سورة البقرة: الآية 196.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/25 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/240 ح 14683.

من له وطنان داخل الحَدّ وخارجه

مسألة: من كان له وطنان، أحدهما في الحَدّ، والآخر خارجه، لزمه فرض أغلبهما، بلا خلافٍ أجده فيه كما في «الجواهر»(1)، ويشهد به صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «مَنْ أقام بمكّة سنتين، فهو من أهل مكّة، ولا متعة له. فقلت لأبي جعفر عليه السلام: أرأيتَ إنْ كان له أهلٌ بالعراق وأهلٌ بمكّة ؟ قال عليه السلام: فلينظر أيُّهما الغالب فهو من أهله»(2).

والظاهر اختصاص الحكم بما إذا كان كلّ منهما وطناً له، إذ ظاهر قوله: (له أهلٌ بالعراق وأهلٌ بمكّة) ذلك، لا مجرّد وجود أهل بالعراق وأهل بمكّة.

أقول: والمستفاد من الخبر حكمان:

أحدهما: أنّ ذا المنزلين متى غلبت عليه الإقامة في أحدهما، وَجَب عليه الأخذ بفرضه، أعمّ من أن يكون أقام بمكّة سنتين أو لم يقم، فلو فرضنا أنّ له وطنين، ولكن في كلّ مرّة يُقيم بمكّة سنتين أو ثلاث سنين، ثمّ يُقيم في الآفاق خمس سنين، فإنّه يجب عليه التمتّع.

ثانيهما: أنّ من أقام بمكّة سنتين، سواءٌ أكان ذا منزلين أم كان ذا منزل واحد، يجب عليه فرض المكّي.

وتوهّم: أنّ النسبة بين الدليلين عمومٌ من وجه، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر، وفي المجمع وهو المثال يتعارضان، وأيضاً ما قاله صاحب «المدارك»(3) من

ص: 198


1- جواهر الكلام: ج 18/92.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/34 ح 30، وسائل الشيعة: ج 11/265 ح 14755.
3- مدارك الأحكام: ج 7/211.

أنّه يجب تقيّيد هذا الحكم، بما إذا لم يكن إقامته في مكّة سنتين متواليتن، فإنّه حينئذٍ يلزمه حكم أهل مكّة، وإنْ كانت إقامته في الثاني أكثر.

في غير محلّه، لا ينبغي الركون إليه.

أقول: إنْ قلنا بأنّ ما دلّ على أنّ المُقيم بمكّة سنتين لا يشمل ذا المنزلين، كما هو الظاهر بقرينة قوله عليه السلام: (فهو من أهل مكّة) فكما أنّ ما أفاده سيّد «المدارك» في غير محلّه، كذلك ما أفاده صاحب «الحدائق»(1)، ولا يتعارض الدليلان، والمجمع المفروض موردٌ لخصوص ما دلّ على أنّ الميزان هو الغلبة، اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال بعد إقامته في مكّة سنتين، يصير مكّة وطناً له بمقتضى النّص، فيشمله ما دلّ على أنّ وظيفة ذي المنزلين مراعاة الغلبة.

لكن يرد عليه: أنّ قوله عليه السلام: (من أهل مكّة) تنزيلٌ إيّاه لأهل مكّة بالنسبة إلى ما دلّ على أنّه لا متعة لهم، ويشهد له ذيله.

وإنْ قلنا بأنّه يشمل ذا المنزلين أيضاً، فظاهره أنّ الإقامة بمكّة سنتين بنفسها جهة مستقلّة لانتقال الفرض، ولذا لو كان له منزل واحدٍ خارج الحَدّ وأقام في مكّة سنتين، يتبدّل وظيفته من التمتّع إلى أخويه، ففي ذي المنزلين أولى بذلك كما عن سيّد «المدارك»(2) وكاشف اللّثام(3)، فيجبُ التقيّيد بأن يجاور ذو المنزلين بمكّة سنتين، فإنّه لا متعة له، وإنْ كان الغالب مُقيماً خارج الحَدّ، فعلى التقديرين لا يتمّ ما أفاده صاحب «الحدائق» رحمه الله(4).

وإنْ تساوى المنزلان، فالمشهور بين الأصحاب أنّه يتخيّر بين العمل9.

ص: 199


1- الحدائق الناضرة: ج 14/429.
2- مدارك الأحكام: ج 7/211.
3- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/65.
4- الحدائق الناضرة: ج 14/429.

بالوظيفتين، وفي «الجواهر»(1): (بلا خلاف أجده فيه).

واستدلّ له تارةً : بأنّ ما دلّ على وجوب التمتّع يختصّ بمن كان منزله نائياً، وما دلّ على وجوب القِران إو الإفراد يختصّ بمن كان من أهل مكّة، والمورد خارجٌ عنهما، فيؤخذ بإطلاق دليل الوجوب المقتضي للتخيّير بين الأفراد الثلاثة.

وأُخرى : بأنّ كلّاً من العنوانين يشمل المورد، فيتعارض الدليلان ويتساقطان، فيتعيّن الرجوع إلى الإطلاق.

وثالثةً : بأنّه حيث يشمل كلا العنوانين للمورد، والمفروض عدم وجوب حَجّين عليه، وعدم الاحتياط لعدم موضوعه، فلا محالة يتخيّر بينهما تخيّيراً شرعيّاً.

ولكن يرد على الأوّل أوّلاً: أنّ المورد لا يكون خارجاً عن الدليلين، بل هو داخل فيهما لصدق كلا العنوانين عليه.

وثانياً: مع الإغماض عمّا دلّ على وجوب التمتّع على كلّ أحدٍ، المخصّص بما دلّ على عدم وجوبه على أهل مكّة، وعمّا دلّ على وجوب أحد أخويه على أهل مكّة، فإنّه لا إطلاق لدليل يدلّ على وجوب طبيعة الحَجّ من دون تقيّيد، والآية الكريمة ليست في مقام البيان، بل هي واردة في مقام بيان أصل التشريع.

وبذلك ظهر ما في الوجه الثاني، مع أنّه على فرض صدق التعارض بين الدليلين نظراً إلى العلم بعدم وجوبهما معاً، إذ لا يجب أكثر من مرّة، كما دلّ على ذلك الدليل، فهما يتعارضان بالعرض، فلامجال حينئذٍ للرجوع إلى أخبار الترجيح والتخيّير.

ويرد على الثالث: أنّه مع فرض دلالة كلٍّ من الدليلين على وجوب كلٍّ من4.

ص: 200


1- جواهر الكلام: ج 18/94.

القسمين تعيّيناً، كيف يُحملان على إرادة التخيّير؟

فالحقّ في المقام أن يقال: إنّه بناءً على شمول إطلاق دليل كلٍّ من الوظيفتين للمورد، لصدق العنوانين عليه، والعلم بعدم وجوب أكثر من حَجٍّ واحد، وهو إمّا التمتّع أو غيره، يقع التعارض بين الدليلين، فلابدَّ من أحد الأمرين:

إمّا رفع اليد عن إطلاق كلّ من الدليلين الإفرادي، فيخرج المورد عن تحت الدليلين.

أو إبقاء إطلاق كلّ منهما الإفرادي، وتقيّيد إطلاقه الأحوالي، إذ كلٌّ منهما كما يدلّ على وجوب ما تضمّنه من الوظيفة لكلّ من صَدَق عليه العنوان المأخوذ فيه، وبهذا اللّحاظ له إطلاق إفرادي، كذلك يدلّ على وجوبها عليه في جميع الحالات، وبهذا اللّحاظ له إطلاقٌ أحوالي، والتعارض كما يرتفع بتقييد الإطلاق الإفرادي لكلّ منهما، فيخرج المجمع عن تحت الدليلين، كذلك يرتفع بتقيّيد الإطلاق الأحوالي لكلّ منهما، ويقال إنّه لا يجبُ العمل به في حال العمل بالآخر، وكذلك لا يجبُ العمل بالآخر عند العمل بهذا.

ونتيجة ذلك: هو التخيّير، وحيثُ أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، فالمتعيّن هو الثاني، وعرفت أنّ لازمه التخيّير بينهما، أي يجب العمل بكلّ منهما عند ترك العمل بالآخر.

وإنْ قلنا بأنّ الدليلين لا يشملان المورد، فحيث نعلم من الخارج وجوب أحدهما، فكلّ منهما طرفٌ للعلم الإجمالي، فأصالة البراءة عن كلّ منهما في نفسها تجري، ولكن للتعارض بين الأصلين يتردّد الأمر بين تقيّيد الإطلاق الإفرادي

ص: 201

لدليل الأصل بالنسبة إلى كلّ منهما، وبين تقيّيد إطلاقه الأحوالي، والمتعيّن هو الثاني كما عرفت، فتجري البراءة عن وجوب كلّ منهما في ظرف الإتيان بالآخر، ونتيجة ذلك أيضاً التخيّير.

أقول: ولهذه الكبرى الكليّة التي أشرنا إليها بنينا على أنّ الأصل في تعارض الخبرين هو التخيّير لا التساقط، كما أنّ لأجلها بنينا على أنّ مقتضى القاعدة هو جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي بنحو التخيّير، ويترتّب عليها ثمرات مهمّة، فتأمّل في أطرافها فإنّها دقيقة.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو التخيّير، كما ظهر أنّ من له منزلٌ واحد على نفس الحَدّ، بحيث يكون مقداراً منه داخل الحَدّ ومقداراً خارجه، وبعبارة أُخرى كان محلّ إقامته محلّاً نصفه خارج الحَدّ ونصفه داخله، يكون مثله مخيّراً في العمل بالوظيفتين، سواءٌ شمله الدليلان أم لم يشملاه.

نعم، فرق بينه وبين ذي المنزلين، وهو أنّه في ذي المنزلين إذا كان غالبيّة إقامته في أحدهما لزمه فرضه، وهذا لا يجري في المقام لاختصاص النّص به، والتعدّي عنه إلى هذه المسألة يحتاج إلى دليل، أو العلم بالمناط، وكلاهما مفقودان، فالأظهر فيه أيضاً التخيّير.

وأيضاً: لا فرق فيما ذكرناه من الحكم بالتخيّير في صورة تساوي المنزلين، بين أن يكون مستطيعاً من كلّ منهما، وبين أن يكون مستطيعاً من أحدهما، ولا بين ما لو استطاع في غير الوطنين أو استطاع في أحدهما، فإنّ الآفاقي يجبُ عليه التمتّع وإنْ استطاع من داخل مكّة، والمكّي يجبُ عليه الإفراد أو القِران وإن استطاع الحجّ

ص: 202

من خارجها.

أقول: وممّا ذكرنا يظهر أنّ دعوى صاحب «الجواهر» بأنّ (هذا كلّه مع الاستطاعة من كلّ منهما، وأمّا لو استطاع في أحدهما لزمه فرضه كما في «كشف اللّثام»)(1) غير تامّة، سواءٌ أكان مراده من الاستطاعة في أحدهما، تمكّنه من المشي إلى الحَجّ من أحد الوطنين دون الآخر، أم كان حصول الاستطاعة في أحدهما، إذ الميزان هو الاستطاعة من الحَجّ الذي هو أفعال خاصّة، كان الاستطاعة في أي مكان.

وأيضاً: يجب الحَجّ مع التمكّن منه فعلاً، وإنْ لم يتمكّن لو كان في وطنه.

كما أنّ دعوى صاحب «العروة»(2): (إنْ كان مستطيعاً من أحدهما - أي من أحد المنزلين - لزمه فرض وطن الاستطاعة) أيضاً في غير محلّه كما يظهر وجهه ممّا ذكرناه.

فرع: لو اشتبه الحال، ولم يعلم هل هناك أغلب أو لا، فقد احتمل الشهيد الثاني رحمه الله(3) تعيّن التمتّع؛ نظراً إلى أنّه الأصل في أنواع الحَجّ .

وفيه: إذا شكّ في أنّ الإقامة خارج الحَدّ، هل تكون أغلب، يمكن أن يقال - مع قطع النظر عمّا نذكره - بتعيّن التمتّع، من جهة دوران الأمر بين التعيّين والتخيّير، كما أنّه إذا شكّ في أنّ الإقامة داخل الحَدّ أغلب، يمكن أن يقال بتعيّن الإفراد أو القِران بعين تلك الجهة، وكلاهما خارجان عن الفرض، بل الفرض ما لو احتمل أغلبية كلّ 0.

ص: 203


1- جواهر الكلام: ج 18/94.
2- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/603.
3- مسالك الأفهام: ج 2/210.

منهما، فلا يتمّ ما أفاده، فإنّ التمتّع واجبٌ على تقدير كون خارج الحَدّ أغلب، كما أنّ الآخر يجبُ على تقدير كون الداخل أغلب.

والحقّ أن يقال: إنّه يجرى أصالة عدم غلبة كلّ منهما على الآخر، فيحكم بالتخيّير بعين الوجه الذي ذكرناه للتخيّير في صورة إحراز التساوي، ولا تعارضها أصالة عدم التساوي، لعدم كون عنوان التساوي الذي هو أمرٌ وجودى داخلاًفى الموضوع، بل الداخل فيه هو غلبة أحدهما، وبأصالة عدم التساوي لا يثبت الغلبة لأحدهما.

***

ص: 204

حكم أهل مكّة إذا خرجوا إلى بعض الأمصار

مسألة: من كان من أهل مكّة، وخرج إلى بعض الأمصار، ثمّ رجع إليها وحَجّ حَجّة الإسلام، وجب عليه الإحرام من الميقات، بلا خلاف فيه ولا إشكال، لأنّ المواقيت مواقيت لمن يمرّ عليها، ويشهد به أخبار كثيرة:

منها: صحيح صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن الرِّضا عليه السلام: «أنّه كتب إليه: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقّت المواقيت لأهلها، ومن أتى عليها من غير أهلها، وفيها رخصةٌ لمن كانت به علّة، فلا تجاوز الميقات إلّامن علّة»(1) ونحوه وغيره.

أقول: إنّما الكلام في النوع الذي يحرم به:

1 - فعن الشيخ(2) في جملةٍ من كتبه، والمحقّق في «المعتبر»(3)، وفي «المنتهى »(4)و «التذكرة»(5) وغيرها أنّه يجوز له التمتّع، وفي «الجواهر»(6)، بل في «المدارك»(7)نسبته إلى الأكثر، بل في غيرها إلى المشهور.

2 - وعن ابن أبي عقيل(8)، وفي «الحدائق»(9)، وعن سيّد «الرياض»(10)

ص: 205


1- الكافي: ج 4/323 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/331 ح 14941.
2- النهاية: ص 206، المبسوط: ج 1/308.
3- المعتبر: ج 2/798.
4- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/664.
5- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/181.
6- جواهر الكلام: ج 18/79.
7- مدارك الأحكام: ج 7/206.
8- حكاه عنه في مختلف الشيعة: ج 4/33.
9- الحدائق الناضرة: ج 14/408.
10- رياض المسائل (ط. ج): ج 6/167.

وغيرهم، أنّه لا يجوز له التمتّع.

والمحقّق الأوّل(1) قد اكتفى بردّ القول المشهور، وأنّ الخبر الذي استدلّ به لا يدلّ عليه، أمّا المحقّق الثاني فقد توقّف في الحكم، وهو ظاهر «المختلف»(2) لاكتفائه بنقل القولين.

دليل المشهور: استدلّ لما نُسب إلى المشهور:

1 - بصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ من أهل مكّة يخرج إلى بعض الأمصار، ثمّ يرجع إلى مكّة، فيمرّ ببعض المواقيت، ألَهُ أن يتمتّع ؟ قال عليه السلام: ما أزعم أنّ ذلك ليس له، لو فعل وكان الإهلال أحبّ إليَّ »(3).

2 - صحيح عبد الرحمن بن أعين، وعبد الرحمن بن الحجّاج، قالا:

«سألنا أبا الحسن موسى عليه السلام: عن رجلٍ من أهل مكّة خرج إلى بعض الأمصار، ثمّ رجع فمرَّ ببعض المواقيت التي وقّت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، له أن يتمتّع ؟

فقال: ما أزعم أنّ ذلك ليس له، والإهلال بالحَجّ أحبّ إلىّ .

ورأيتُ مَن سأل أبا جعفر عليه السلام وذلك أوّل ليلةٍ من شهر رمضان، فقال له:

جُعلت فداك، إنّي قد نويت أن أصوم بالمدينة ؟ قال عليه السلام تصوم إنْ شاء اللّه تعالى ...، فقال له: قد نويتُ أن أحَجّ عنك أو عن أبيك فكيف أصنع ؟ فقال له عليه السلام: تمتّع، فقال له: إنّ اللّه ربما مَنَّ عَليّ بزيارة رسوله صلى الله عليه و آله وزيارتك، والسَّلام عليك، وربما حَجَجتُ عنك وربما حَجَجتُ عن أبيك، وربما حَجَجتُ عن بعض إخواني، أو عن نفسي فكيف أصنع ؟9.

ص: 206


1- شرائع الإسلام: ج 1/176، المختصر النافع: ص 79.
2- مختلف الشيعة: ج 4/33.
3- الكافي: ج 4/300 ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/263 ح 14749.

فقال عليه السلام له: تمتّع، فردَّ عليه القول ثلاث مرّات، يقول: إنّي مُقيمٌ بمكّة وأهلي بها، فيقول: تمتّع، فسأله بعد ذلك رجلٌ من أصحابنا، فقال: إنّي اُريد أن أفرد عمرة هذا الشهر - يعني شوّال -؟ فقال له: أنتَ مرتهن بالحَجّ ، فقال له الرّجل: إنّ أهلي ومنزلي بالمدينة، ولي بمكّة أهلٌ ومنزل وبينهما أهلٌ ومنازل ؟ فقال له: أنتَ مرتهن بالحَجّ ، فقال له الرّجل: فإنّ لي ضياعاً حول مكّة، واُريد أن أخرج حلالاً، فإذا كان أبان الحَجّ حَجَجتُ »(1).

وتقريب الاستدلال بهما: أنّهما يدلّان بإطلاقهما الشامل للحَجّ الإسلامي على أنّ أهل مكّة إذا خرجوا إلى بعض الأمصار جاز لهم التمتّع.

وأُورد على الاستدلال بهما:

تارةً : بأنّ ما ورد في ذيل الخبر الثاني وهو السؤال الذي رواه بقوله: (ورأيتُ من سأل أبا جعفر) مورده الندب، بل عن «المنتقى»(2) صراحته في ذلك، وهو يصلح قرينةً لاختصاص ذلك بالحَجّ الندبي.

ونُسب إلى بعض الأعاظم من المعاصرين(3) في تقريب هذا الإيراد، أنّ استشهاد أبي الحسن عليه السلام لجواز حَجّ التمتّع له بقوله: (ورأيتُ مَن سأل أبا جعفر عليه السلام) قرينةٌ على اختصاص الصّدر أيضاً بالحَجّ الندبي.

أقول: الظاهر أنّ قوله: (رأيتُ من سأل أبا جعفر عليه السلام) قول موسى بن القاسم الثقة الجليل الذي هو من أصحاب الإمامين الرِّضا والجواد عليهما السلام، ومراده أبو جعفر6.

ص: 207


1- تهذيب الأحكام: ج 5/33 ح 29، وسائل الشيعة: ج 11/262 ح 14748.
2- حكاه عنه في مستمسك العروة الوثقى: ج 11/166.
3- لعلّ المراد به السيّد الحكيم في المستمسك: ج 11/166.

الثاني عليه السلام لا الإمام أبي الحسن موسى عليه السلام، لأنّ أبا جعفر الباقر عليه السلام توفّي في سنة مائة وأربع عشر، أو مائة وست عشر، أو مائة وسبع عشرة، وولد الإمام أبي الحسن موسى عليه السلام سنة مائة وثمان وعشرين، أو مائة وتسع وعشرين، وعليه فكيف يمكن أنْ يروي عنه ويقول: (رأيتُ من سأل أبا جعفر)؟، وعليه فهو رواية أُخرى اُقحمت في الرواية الاُولى ، وإحدى الروايتين مرويّة عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، والاُخرى عن الإمام أبي جعفر الثاني عليه السلام، وراوي الأُولى عبد الرحمن بن الحجّاج، وابن أعين، وراوي الثانية موسى بن القاسم، فكيف يصلح أن تكون إحداهما قرينةً على الاُخرى؟

بل الظاهر أنّ قوله: (فسأله بعد ذلك رجلٌ من أصحابنا) كونه رواية ثالثة راويها موسى بن القاسم، وسائله غير السائل في الخبر الثاني، ومورده أيضاً الحَجّ الندبي، إلّاأنّه عن ذي المنزلين.

وأُخرى : يورد على الصحيحين بأنّ ما في ذيل الصحيح الثاني وإنْ كان خبراً آخر، وما في صدره والصحيح الآخر مطلقان، إلّاأنّه يُقيّد إطلاقهما به؛ لأنّ في إيراد الثاني - أي ما في ذيل الصحيح - على أثر ما في صدره بصورة (رأيتُ ) إشعارٌ بأنّ موسى بن القاسم فهم منهما اتّحاد الموضوع.

وفيه: أنّهما مثبتان، ولا يُحمل المطلق على المقيّد فيهما، وفهم موسى اتّحاد الموضوع لا يصلح قرينةً عليه؛ لعدم حجيّة فهمه لنا.

وثالثةً يورد عليهما: بأنّ بقاء المكّى بغير حَجّ إلى أن يخرج ويرجع ممّا يُستبعد عادةً .

وفيه: أنّ مجرّد الاستبعاد لا يصلح مقيّداً لإطلاق النّص.

فإذاً الصحيحان مطلقان شاملان للحَجّ الإسلامي، ويؤيّد الإطلاق ما عن

ص: 208

«كشف اللّثام»(1) من أنّ حملهما على الحَجّ الندبي، مخالفٌ لما اتّفق عليه النّص والفتوى من استحباب التمتّع في المندوب، وجه كون ذلك مؤيّداً لا دليلاً: أنّه من الجائز خروج هذا المورد عن عموم ما دلّ على أفضليّة التمتّع.

والنسبه بين الصحيحين على هذا، وبين ما دلّ على أنّه (لا متعة لأهل مكّة) عمومٌ من وجه، لأنّهما أعمٌّ لشمولهما للمندوب أيضاً، وهو أعمّ لشموله لمن لم يخرج منها، والمجمع هو الحَجّ الإسلامي لمن خرج منها، وحيثُ أنّ المختار في تعارض العامين من وجه هو الرجوع إلى أخبار الترجيح والتخيّير، وأوّل المرجّحات هي الشهرة، وهي لم تثبت في المقام - لأنّ ما نُسب إلى المشهور من جواز التمتّع غير ثابتٍ - ثمّ صفات الراوي، وهما فيها متساويان، ثمّ موافقة الكتاب.

وعليه، فحيث أنّ ما دلّ على أنّ قوله عليه السلام: (لا متعة لأهل مكّة) موافقٌللكتاب، فيقدّم على الصحيحين، ويخصّصان بالمندوب، فما ذهب إليه ابن أبي عقيل أظهر.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يُقال: إنّ مثل صاحب «الجواهر» وهو الثقة الجليل والفقيه المتتبّع حينما ينسب جواز التمتّع إلى المشهور، وإخباره بالشهرة حجّة قطعاً، بناءً على ما هو الحقّ من حجيّة خبر الواحد فى الموضوعات، وإذاً فالصحيحان لموافقتهما للشهرة التي هي أوّل المرجّحات يقدّمان، ممّا يقتضي أن يكون ما نُسب إلى المشهور هو الأظهر.

نعم، الأحوط في حَجّة الإسلام اختيار غير التمتّع، لجوازه قطعاً، والشكّ في جواز التمتّع وإنْ كان مقتضى الدليل ذلك، ففي الحَجّ الإسلامي يختار غير التمتّع.

***6.

ص: 209


1- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/26.

حكم الآفاقي إذا صار مُقيماً بمكّة

مسألة: لا خلاف أنّ الآفاقي إذا صار مُقيماً بمكّة، لا ينتقل فرضه إلى فرض المكّي، ما لم يقم مدّة تُوجب انتقال الفريضة إلى غيرها.

قال صاحب «الجواهر»(1): (لا خلاف نصّاً وفتوىً في عدم انتقاله عن فرض النائي بمجرّد المجاورة، وإنْ لم يكن قد وجب عليه سابقاً، بل لعلّه إجماعي أيضاً...) انتهى .

وفي «المستند»(2): (إذا أراد أن يحجّ حَجّة الإسلام، يحرم للتمتّع وجوباً إجماعاً نصّاً وفتوى، للاستصحاب والأخبار) انتهى .

ويشهد به النصوص الآتية، ولا إشكال ولا كلام أيضاً نصّاً وفتوى في أنّه ينتقل فرضه إلى فرض المكّي في الجملة.

أقول: إنّما الكلام في الحَدّ الذي به يتحقّق الانقلاب، وفيه أقوالٌ ووجوه:

القول الأوّل: ما عن الشيخ(3) في كتابى الأخبار، والفاضلين(4)، والشهيدين(5)وغيرهم، بل عن «المسالك»(6) وغيرها أنّه المشهور بين الأصحاب، وفي «الجواهر»(7): (بل نَسَبه غير واحدٍ إلى المشهور)، بل ربما عُزي إلى علمائنا - عدا

ص: 210


1- جواهر الكلام: ج 18/82.
2- مستند الشيعة: ج 13/111.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/34، الإستبصار: ج 2/159.
4- المعتبر: ج 2/799، منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/664.
5- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة (المتن والشرح): ج 2/217.
6- مسالك الأفهام: ج 2/207.
7- جواهر الكلام: ج 18/87-88.

الشيخ - وهو مُضيّ سنتين كاملتين على إقامته في البلد المذكور، والدخول في الثالثة.

القول الثاني: ما عن الشهيد في «الدروس»(1)، من أنّ الحَدّ هو مُضيّ سنة كاملة والدخول في الثانية، ولكن ظاهر كلامه التردّد في المسألة لأنّه يقول: (ولو أقام النائي بمكّة سنتين، انتقل فرضه إليها في الثالثة، كما في «المبسوط» و «النهاية» ويظهر من أكثر الروايات أنّه في الثانية)، وعن «كشف اللّثام»(2) وفي «الجواهر»(3) الميل إليه بل تقويته.

القول الثالث: ما عن الشيخ في «النهاية»(4) و «المبسوط»(5)، والإسكافي(6)والحِلّي(7)، والمصنّف رحمه الله في «القواعد»(8)، من مُضيّ ثلاث سنين والدخول في الرابعة.

القول الرابع: مُضيّ خمسة أشهر أو ستّة أشهر، ولم يُذكر قائله.

نعم، عن سيّد «المدارك»(9) إمكان الجمع بين النصوص بالتخيّير بعد السنة والستّة أشهر.

أقول: ومنشأ الاختلاف النصوص، فإنّها على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يكون ظاهراً في القول الأوّل:0.

ص: 211


1- الدروس: ج 1/331.
2- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/64.
3- جواهر الكلام: ج 18/89.
4- النهاية ونكتها: ج 1/463.
5- المبسوط: ج 1/308.
6- حكاه عنه في مختلف الشيعة (ط. ج) ص 261.
7- السرائر: ج 1/522.
8- قواعد الأحكام: ج 1/73.
9- مدارك الأحكام: ج 7/210.

منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «من أقام بمكّة سنتين فهو من أهل مكّة لا متعة له»(1).

ومنها: صحيح عمر بن يزيد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «المجاور بمكّة يتمتّع بالعُمرة إلى الحَجّ إلى سنتين، فإذا جاوز سنتين كان قاطناً وليس له أن يتمتّع»(2).

الطائفة الثانية: ما يكون ظاهراً في القول الثاني:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «سألته لأهل مكّة أن يتمتّعوا؟ قال عليه السلام: لا، قلت: فالقاطنين بها؟ قال عليه السلام: إذا أقاموا سنة أو سنتين صنعوا كما يصنع أهل مكّة، فإذا أقاموا شهراً فإنّ لهم أن يتمتّعوا»(3).

ومنها: خبر حمّاد، عنه عليه السلام: «عن أهل مكّة أيتمتّعون ؟ قال عليه السلام: ليس لهم متعة.

قلت: فالقاطنُ بها؟ قال: إذا أقام سنة أو سنتين صَنَع صُنع أهل مكّة. قلت: فإن مكث الشهر؟ قال عليه السلام: يتمتّع»(4).

ومنها: مرسل حريز، عن الإمام الباقر عليه السلام: «من دَخَل مكّة بحجّةٍ عن غيره، ثمّ أقام سنة فهو مكّي»(5) ونحوها غيرها.

الطائفة الثالثة: ما يكون ظاهراً في القول الرابع:

منها: صحيح حفص بن البُختري، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في المجاور بمكّة، يخرج إلى أهله، ثمّ يرجع إلى مكّة، بأيّ شيء يدخل ؟ قال عليه السلام: إنْ كان بمكّة أكثر من3.

ص: 212


1- تهذيب الأحكام: ج 5/34 ح 30، وسائل الشيعة: ج 11/265 ح 14755.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/34 ح 31، وسائل الشيعة: ج 11/266 ح 14756.
3- وسائل الشيعة: ج 11/266 ح 14757.
4- الكافي: ج 4/300 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/268 ح 14761.
5- الكافي: ج 4/302 ح 8، وسائل الشيعة: ج 11/269 ح 14763.

ستّة أشهر فلا يتمتّع، وإنْ كان أقلّ من ستّة أشهر فله أن يتمتّع»(1).

ومنها: خبر الحسين بن عثمان، عمّن ذكره، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«من أقام بمكّة خمسة أشهر، فليس له أن يتمتّع»(2).

أقول: وقيل في مقام الجمع بينها وجوه:

الوجه الأوّل: ما عن «المدارك»(3) من حمل غير الأُولى على الجواز، والأُولى على اللّزوم، فالنتيجة هو التخيّير بين الفرض من خمسة أشهر إلى السنتين، وبعد سنتين يتعيّن فرض المكّي.

وفي «المستند»(4): (بل التأمّل في الأخبار الأخيرة - ومراده خصوص أخبار خمسة أشهر أو ستّة أشهر، أو هي مع أخبار السنة - لا يثبت منها سوى الجواز) الذي هو معنى التخيّير.

وفيه: إنّ هذا يتمّ في أكثر تلك النصوص، ولا يتمّ في جميعها، لاحظ:

1 - قوله في صحيح حفص: (إنْ كان بمكّة ستّة أشهر فلا يتمتّع) فإنّه ظاهرٌ في لزوم فرض المكّي، والجمع بينه وبين نصوص السنتين بما ذكر جمعٌ لا شاهد له.

2 - وكذا قوله في خبر عبد اللّه بن سنان: (المجاور بمكّة سنة يعمل عمل أهل مكّة) فإنّه ظاهر في تعيّن الوظيفة في ذلك.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يُقال: إنّ النهي في صحيح حفص واردٌ مورد توهم اللّزوم، فقوله:

(فلا يتمتّع) لا يكون ظاهراً في أكثر من نفي التعيّن، ويشهد به ما ورد من قوله عليه السلام فى6.

ص: 213


1- تهذيب الأحكام: ج 5/476 ح 325، وسائل الشيعة: ج 11/264 ح 14752.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/476 ح 328، وسائل الشيعة: ج 11/265 ح 14754.
3- مدارك الأحكام: ج 7/210.
4- مستند الشيعة: ج 13/116.

ذيله: (وإنْ كان أقلّ من ستّة أشهر فله أن يتمتّع).

وكذا الأمر في خبر ابن سنان، فإنّه واردٌ مورد توهم المنع، فلا يستفاد منه أزيد من الجواز.

وأمّا ظهور بقيّة النصوص فى الجواز فواضح، فإنّ قوله: (إذا أقام سنةً أو سنتين) في صحيح الحلبي، وخبر حمّاد معلومٌ ، يُراد منه جواز فعل التمتّع، وليس في مقام بيان حَدّ الانقلاب، وإلّا لم يعقل التحديد بين الناقص والزائد.

وأمّا خبر حريز والحسين بن عثمان، فهما ضعيفان للإرسال.

وبالجملة: فالجمع بين النصوص يقتضي البناء على التخيّير بين الفرضين من بعد المقام ستّة أشهر إلى الإقامة سنتين، وبعد ذلك يتعيّن فرض المكّي، إلّاأنّه لعدم عمل الأصحاب بنصوص السنة والستّة أشهر، وإعراضهم عنها، يتعيّن طرحها والعمل بخصوص نصوص السنتين، ومع ذلك فالاحتياط يقتضي التمتّع بالأدون لجوازه على القولين.

الوجه الثاني: ما عن «كشف اللّثام»(1) وفي «الجواهر»(2) من أنْ يُراد من الإقامة والمجاورة سنتين، الدخول في الثانية، فإنّ نصوص السنة كخبر عبد اللّه ومرسل حريز ونصوص السنة أو السنتين كصحيح الحلبي وخبر حمّاد، إذا انضمّتا إلى نصوص السنتين، تصلحان قرينةً على إرادة ذلك منها، سيّما مع احتمالهما لسنتي الحَجّ بمضيّ زمان يسع حَجّتين وهو سنة، كما أنّ شهر الحيض ثلاثة عشر يوماً.

ثمّ قال صاحب «الجواهر»: (وعلى كلّ حال، فجميع نصوص السنة والسنتين،9.

ص: 214


1- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/64.
2- جواهر الكلام: ج 18/89.

والسنة أو السنتين حينئذٍ على معنى واحد).

وأمّا نصوص ستّة أشهر، فقال فيها: (إنّها تُحمل على التقيّة، أو على اعتبار مُضيّ ذلك في إجراء حكم الوطن لمن قصد التوطّن، أو على إرادة بيان حكم ذي الوطنين بالنسبة إلى قيام الستّة أشهر، أو أقلّ ) ثمّ قال صاحب «الجواهر» رحمه الله أخيراً:

(وبذلك بانَ لكَ قوّة هذا القول المزبور)(1).

أقول: حمل نصوص السنتين على إرادة الدخول في الثانية، لا يعدّ جمعاًعرفيّاً، فإنّه كيف يمكن حمل قوله عليه السلام: (فإذا جاوز سنتين)، أو قوله: (من أقام بمكّة سنتين) على الدخول في الثانية، وأيّ فرقٍ بينهما وبين قوله في خبر حريز: (من أقام بمكّة سنة فهو مكّي)؟ فإنّه لم يُحمل أحد إرادة الدخول في السنة الأُولى .

وإن شئت قلت: إنّه لو جمعنا هاتين الجملتين في كلامٍ واحد، لا يشكّ أهل العرف في التهافت بينهما، ولا يرون قوله: (من أقام سنة) قرينةً على قوله: (من أقام سنتين) فهذا ليس جمعاً عرفيّاً، كما أنّ حملهما على إرادة سنتي الحَجّ يكون بلا قرينة.

وأمّا حمل نصوص الستّة أشهر على التقيّة، فلا وجه له إذ لم يظهر كون ذلك مذهب المخالفين، وحملها على المَحملَين الآخرين يعدّ صَرفاً للّفظ عن ظاهره بلا قرينة عرفيّة عليه، وهو غير جائز.

وبما ذكرناه يظهر ما في سائر وجوه الجمع المذكورة في كلماتهم.

فالمتحصّل من النصوص: أنّ الحَدّ لانقلاب الفرض من التمتّع إلى الإفراد أو القِران، هو تمام السنتين، والدخول في الثالثة.

فرع: وحيث إنّه قد يكون إقامة المُقيم بمكّة للتوطّن، وقد تكون بقصد المجاروة0.

ص: 215


1- جواهر الكلام: ج 18/90.

خاصّة، فهل الحكم يعمّ الموردين، أم يختصّ بالأوّل، أو الثاني ؟

ففي «الجواهر»(1)، وعن صريح «المدارك»(2)، وفي «المستند»(3)، بل المنسوب إلى الأصحاب هو الأوّل، وأنّه عام للموردين.

وقال صاحب «الرياض»(4) بعد نقل هذا القول: (وربما قيد بالثاني، أي قصد المجاورة، إلى أن قال: وبه صرّح في «المسالك».

وفي كلٍّ من القولين نظر، لأنّ بين إطلاقيهما عموماً وخصوصاً من وجه، لتواردهما في المجاور سنتين بنيّة الدّوام، وافترق الأوّل عن الثاني في المجاور سنتين بغير نيّة، والعكس فيما نحن فيه، فترجيح أحدهما على الآخر، وجعل القيد له غير ظاهر الوجه...) انتهى .

أقول: نخبة القول في المقام أنّ لنا أدلّة ثلاثة، يقع التعارض بينها:

أحدها: ما دلّ على أنّه ليس لأهل مكّة متعة.

ثانياً: ما دلّ على أنّ النائي غير حاضري المسجد الحرام لابدّ له وأن يتمتّع.

ثالثها: نصوص المقام.

فلو حَمَلناها على الأعمّ من قصد المجاورة أو التوطّن، وقعت المعارضة بينها وبين كلّ من الدليلين الأولين بالعموم من وجه، فإنّها تدلّ على أنّ المُقيم بمكّة ولو بقصد التوطّن، وصدق كونه من أهل مكّة، يتمتّع إلى سنتين، فهي أخصّ من الأوّل، للاختصاص بسنتين، وأعمّ منه لشمولها للمُقيم بقصد المجاورة، كما أنّها تدلّ على3.

ص: 216


1- جواهر الكلام: ج 18/90.
2- مدارك الأحكام: ج 7/210.
3- مستند الشيعة: ج 13/116.
4- رياض المسائل (ط. ج): ج 6/172-173.

أنّه لا يتمتّع بعد السنتين، ولو كان المقام بقصد المجاورة، فيقع التعارض بينها وبين الثاني والنسبة عمومٌ من وجه.

وحيثُ أنّ المختار في تعارض العامين من وجه، هو الرجوع إلى المرجّحات السنديّة، كما أنّ المختار في تعارض أكثر من دليلين، هو ملاحظة النسبة بين الجميع، أي كلّ واحدٍ من الأدلّة مع معارضة من دون ملاحظة الثالث، بحيث قد يلزم منه طرح أحد الأدلّة رأساً، ففي المقام إذا لاحظنا ذلك نرى تقديم نصوص الباب على كلا الدليلين، للشهرة التي هي أوّل المرجّحات.

ولكن قد يُقال: إنّ النصوص بأنفسها مختصّة بصورة قصد المجاروة؛ لقوله في الصحيح الأوّل: (فهو من أهل مكّة)، وقوله في الصحيح الثاني: (وكان قاطناً)، فإنّهما قرينتان على أنّ محطّ النظر في هذه النصوص، بيان حكم غير المتوطّن، فإنّ المتوطّن من أهل مكّة، ويكون قاطناً قبل أن تتمّ إقامة سنتين.

ويمكن أن يُقال: إنّ قوله: (من أهل مكّة) أو: (قاطناً) إنّما هو بلحاظ خصوص هذا الحكم، كما يشهد به تعقيبه بقوله: (ولا متعة له، وليس له أن يتمتّع).

وعليه، فلا قرينة على الاختصاص بغير المتوطّن.

وأضعف من ذلك: ما قيل من الإشكال في صدق المجاور على المتوطّن، فإنّ الصحيح الأوّل متضمّنٌ للفظ (الإقامة) لا (المجاور)، مع أنّه يصدق عليه لغةً وعرفاً، فالحقّ شمول الحكم لهما.

وأمّا الآفاقي المُقيم بمكّة:

فتارةً : تكون استطاعته للحَجّ قبل إقامته.

وأُخرى : تكون بعد إقامته، وقبل مُضيّ سنتين.

ص: 217

وثالثة: تكون بعد مُضيّ سنتين من إقامته.

والمتيقّن من النصوص هو الأخير، والظاهر شمول إطلاقها للقسمين الأوّلين.

ولكن قال صاحب «الجواهر»(1) في شرح قول المحقّق: ولو أقام من فرضه التمتّع بمكّة سنةً أو سنتين لم ينتقل فرضه: (بلا خلافٍ أجده فيه نصّاً وفتوىً ، بل لعلّه إجماعي...) انتهى .

وكذا عن «المدارك»(2)، وصريحهما الإجماع على عدم ثبوت الحكم في القسم الأوّل، بل ظاهر «المدارك» الإجماع على عدمه في القسم الثاني أيضاً، ولكنّه قدس سره تأمّل في كليهما، نظراً إلى إطلاق نصوص السنتين. واستحسنه صاحب «الحدائق»(3) وأفتى بثبوته فيهما أيضاً.

أقول: والإنصاف أنّ النصوص مطلقة، وتدلّ على أنّ المُقيم بمكّة بعد سنتين إذا أراد الحَجّ ، ليس له أن يتمتّع سواءٌ أكانت استطاعته قبل أو بعد، فإنْ ثبت إجماعٌ تعبّدي فهو المقيّد لإطلاق النصوص، والظاهر ثبوته في القسم الأوّل، واللّه العالم.

وأيضاً: الظاهر عدم الفرق في الحكم بين الاستطاعة من بلده، أو الاستطاعة من مكّة، وبين الاستطاعة للرجوع إلى بلده وعدمه، وذلك لما عرفت في مبحث الاستطاعة(4) من أنّ الاستطاعة من البلد لا تعتبر في الحَجّ ، بل الآفاقي الواجب عليه التمتّع إذا كان في بلدٍ قريب مكّة، وكان يستطيع الحَجّ من ذلك البلد، ولا يستطيع من بلده، وجب عليه الحَجّ ، لأنّ المعتبر الاستطاعة للحَجّ لا الاستطاعة2.

ص: 218


1- جواهر الكلام: ج 18/82.
2- مدارك الأحكام: ج 7/209.
3- الحدائق الناضرة: ج 14/408.
4- فقه الصادق: ج 13/22.

من البلد، كما أنّ الاستطاعة للرجوع إلى بلده في وجوب الحَجّ إنّما تعتبر إذا أراد الرجوع، وإلّا فلا تعتبر.

فعلى هذا، يظهر أنّ المُقيم بمكّة والذي لا ينوي الرجوع إلى بلده، يجب عليه الحَجّ ولو الحَجّ التمتّعي، وإنْ لم يستطع من بلده، ولم يستطع الرجوع إليه، وعليه فما في «العروة»(1): من أنّه في صورة الانقلاب، يلحقه حكم المكّي بالنسبة إلى الاستطاعة، وفي «الجواهر»(2) من عدم الانقلاب، وكذا في غيرهما من كتب الفقهاء، لا أفهم له وجهاً صحيحاً، ولعلّه لقصور فهمي، وعليك بالتأمّل في كلماتهم.

***1.

ص: 219


1- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/606.
2- جواهر الكلام: ج 18/81.

ميقات التمتّع المُقيم بمكّة

مسألة: يجب على المُقيم بمكّة التمتّع، والخروج إلى الميقات لإحرام عمرة التمتّع بلا إشكال، وقد اختلفوا في تعيّين ميقاته على أقوال:

القول الأوّل: أنّه مَهلّ أرضه، أي يجب عليه أن يحرم من الميقات الذي كان يمرّ عليه إذا جاء من بلده، وهو المحكيّ عن «المقنعة»(1) و «الكافي»(2) و «الخلاف»(3)و «الجامع»(4) و «المعتبر»(5) و «النافع»(6) و «المنتهى »(7) و «التحرير»(8) و «التذكرة»(9)وموضع من «النهاية»(10).

القول الثاني: أنّه أحد المواقيت المخصوصة، مخيّراً بينها، اختاره جماعة كأصحاب «المقنع»(11) و «المبسوط»(12) و «الروضة»(13) و «الشرائع»(14) و «الإرشاد»(15)

ص: 220


1- المقنعة: ص 396.
2- الكافي: ص 202.
3- الخلاف: ج 2/285.
4- الجامع للشرايع: ص 179.
5- المعتبر: ج 2/341.
6- المختصر النافع: ص 81.
7- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/671.
8- التحرير: ج 1/93.
9- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 1/321.
10- النهاية: ص 211.
11- المقنع: ص 69.
12- المبسوط: ج 1/313.
13- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/226.
14- الشرائع: ج 1/177.
15- إرشاد الأذهان: ج 1/309.

و «القواعد»(1) و «النهاية»(2) و «الدروس»(3) و «المسالك»(4).

القول الثالث: أنّه أدنى الحِلّ ، وهو المحكي عن الحلبي(5)، ومالَ إليه السيّد في «المدارك»(6) وعن «الكفاية»(7) استحسانه، وعن المحقّق الأردبيلي استظهاره(8).

أقول: ويدور الكلام في ثلاثة موارد:

تارةً : فيما تقتضيه الاُصول الشرعيّة.

وأُخرى : فيما تقتضيه الأخبار العامّة.

وثالثة: في مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ للقول الأوّل بالاستصحاب.

وتقريبه: أنّه على الفرض لم ينتقل فرضه عن فرض إقليمه، وكان يجب عليه سابقاً أن يكون ميقاته ميقات أهل إقليمه، ويشكّ في ارتفاع ذلك، والأصل بقاؤه.

وفيه: أنّه من الاستصحاب التعليقي، فإنّه كان يجب عليه الإحرام منه على تقدير المرور عليه، كما أنّه كان يجب عليه الإحرام من ميقاتٍ آخر لو كان يمرّ منه، وهو لا يجري، وعلى فرض جريانه تكون نتيجة الإستصحابين المشار إليهما هو التخيّير لا التعيّين.1.

ص: 221


1- قواعد الأحكام: ج 1/79.
2- النهاية: ص 211.
3- الدروس: ج 1/342.
4- مسالك الأفهام (ط. ج): ج 1/104.
5- الكافي في الفقه: ص 202.
6- مدارك الأحكام: ج 7/207.
7- كفاية الأحكام: ص 58.
8- مجمع الفائدة والبرهان: ج 6/41.

وربما يقال: كما في «الرياض»(1): (بأنّ الأصل في المقام هو البراءة عن تعيّين ميقات أهله إن اتّفق على الصحّة، مع المخالفة لما يوجب عليه، ووجوب الأخذ بالمبرّئ للذمّة منها يقيناً، إنْ كان ما يوجب عليه شرطاً، فالذي ينبغي تحصيله تشخيص محلّ النزاع من تعيّين الوقت، أهو أمرٌ تكليفي خاصّة أو شرطي ؟) انتهى .

أقول: ما أفاده من جريان البراءة على تقدير كون تعيّين الوقت تكليفيّاً واضح، وأمّا ما أفاده على القول الآخر من وجوب الأخذ بالمبرّئ لا يتمّ ، فإنّه وإنْ دار الأمر في التكليف الشرطى بين تعيّين ميقات أهله والتخيّير بين المواقيت، لكن الحقّ جريان أصالة البراءة في موارد دوران الأمر بين التعيّين والتخيّير عن التعيّين، فتكون نتيجة الأصل هو التخيّير بين المواقيت، والظاهر كون تعيّين الوقت شرطيّاً، إذ الأوامر المتعلّق بأجزاء المركّب الاعتباري ظاهرة في الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة.

وأمّا المورد الثاني: فربما يستدلّ على الأوّل بعموم ما دلّ على تعيّين الميقات الخاص على أهل إقليمٍ هو منهم، ففي «المنتهى »(2): (أنّه لم ينتقل فرضه عن فرض إقليمه، فيلزمه الإحرام من ميقاته لا مكانه) انتهى .

وفيه: أنّ الواجب على أهل إقليمه هو الإحرام من الميقات الخاص على فرض المرور عليه لا مطلقاً، إذ لا شَكّ في صحّة إحرام من مَرّ من أهل إقليمٍ على ميقات أهل إقليمٍ آخر وأحرم منه.

وأيضاً: قد يستدلّ بأخبار المواقيت للقول الثاني، بدعوى أنّها تدلّ على أنّ المارّ على كلّ ميقاتٍ عليه أن يحرم منه.4.

ص: 222


1- رياض المسائل (ط. ج): ج 6/169.
2- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/664.

وفيه: أنّها مختصّة بالنائي العابر على الميقات إلى مكّة، ولا تشمل المقام.

ودعوى: أنّ المأخوذ في تلك الأخبار (من أتى على الميقات) وعند وصول المجاور إلى الميقات يصدق عليه أنّه أتى عليه، فيكون ميقاتاً له.

مندفعة أوّلاً: بأنّ محلّ الكلام عن وظيفته قبل أن يأتي عليه، وأنّه الإتيان على كلّ ميقاتٍ ، أو ميقاتٍ خاص، أو أدنى الحِلّ؟

فإنْ قلنا بأنّ الواجب هو الخروج إلى ميقاتٍ خاص، لم يجزه الخروج إلى غيره.

وثانياً: أنّ المتبادر من الإتيان عليه هو المرور به، وهو لا يصدق على الواصل إلى أحد المواقيت من مكّة.

أمّا صاحب «الحدائق»(1): فقد استدلّ للقول الأوّل بالأخبار الدالّة على أنّ من دخل مكّة ناسياً الإحرام أو جاهلاً به؛ فإنّه يجب عليه الخروج إلى ميقات أهل أرضه، كصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن رجلٍ نسى الإحرام حتّى دخل الحرم ؟ فقال: يرجع إلى ميقات أهل بلده الذي يحرمون منه، فإن خشي أن يفوته الحَجّ ، فليحرم من مكانه، وإنْ استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج»(2) ونحوه غيره، بدعوى أنّها تدلّ على أنّ الجاهل والناسي، يجبُ عليهما الرجوع إلى ميقات بلدهما، وما ذاك إلّامن حيث أنّ الواجب على الآفاقي الخروج إلى مَهلّ أرضه، والظاهر أنّ خصوصيّة الجهل والنسيان غير معتبرة وإنْ وقع السؤال عن ذلك.

ولكن يرد عليه: أنّ التعدّي عن مورد النّص يتوقّفُ على إحراز المناط، ومجرّد عدم تعقّل الخصوصيّة لا يكفي، بل لابدّ وأن يتعقّل عدم الخصوصيّة، وحيث إنّا1.

ص: 223


1- الحدائق الناضرة: ج 14/413.
2- الكافي: ج 4/323 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/328 ح 14931.

نحتمل وجداناً دخل العنوانين في الحكم، لا أقلّ من دخل عنوان المرور على الميقات الذي كان يجب عليه الإحرام منه في هذا الحكم، ففي الحقيقة يكون حينئذٍ بقاء للحكم المتحقّق سابقاً. وعليه يظهر الفرق بين موردها وما نحن فيه.

فالمتحصّل: أنّه لا يستفاد من الأخبار العامّة شيء.

وأمّا المورد الثالث: فالنصوص الخاصّة الواردة في المقام على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على القول الأوّل، وهو خبر سماعة، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: «سألته عن المجاور، ألهُ أن يتمتّع بالعُمرة إلى الحَجّ؟ قال عليه السلام: نعم، يخرج إلى مَهلّ أرضه فيلبي إنْ شاء»(1).

وأُورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: ما في «الرياض»(2) من أنّه ضعيف سنداً بمعلّى بن محمّد.

وفيه أوّلاً: أنّ معلّى من مشائخ الإجازة، كما صرّح به المجلسي رحمه الله، وكون الشخص شيخ إجازة يُغنيه عن التوثيق، ومجرّد روايته عن الضعفاء لا يضرّ بما يرويه عن الثقات، كما أنّ فساد مذهبه لم يثبت، فالحقّ الاعتماد على نقله.

وثانياً: أنّ ضعف السند لو كان فهو ينجبر بعمل الأصحاب.

الإيراد الثاني: ما في «الرياض»(3) أيضاً، من الحكم بضعف الدلالة من جهة ما قاله عليه السلام: (إنْ شاء) فإنّه حينئذٍ ظاهر في عدم الوجوب.

أقول: (إنْ شاء) في بادئ النظر يُحتمل فيه أُمور:

كونه قيداً للتلبية، أو كونه قيداً للتمتّع، أو كونه قيداً للخروج إلى مهلّ أرضه.

لا إشكال في عدم كونه قيداً للتلبية، لوجوبها على كلّ تقدير، فيدور الأمر بين8.

ص: 224


1- الكافي: ج 4/302 ح 7، وسائل الشيعة: ج 11/264 ح 14750. (2و3) رياض المسائل (ط. ج): ج 6/168.

أحد الأخيرين:

فإنْ كان قيداً للتمتّع، كان مفاد الخبر أنّ المجاور إذا أراد التمتّع، وجب عليه الخروج إلى مهلّ أرضه، فتتمّ دلالته على المطلوب.

وإنْ كان قيداً للخروج إلى مهلّ أرضه، كان ظاهراً في جواز ذلك لا تعيّنه.

والظاهر رجوعه إلى الأوّل، وذلك يظهر بعد ملاحظة أمرين:

أحدهما: أنّ الخروج إلى الميقات واجبٌ عليه على كلّ تقدير، غاية الأمر إمّا خصوص مهلّ أرضه، أو التخيّير بينه وبين غيره.

ثانيهما: أنّ كلّ طرفٍ من طرفي الواجب التخيّيري إنّما يجوز تركه إلى بدلٍ ، لا أنّه يجوز بقول مطلق، وهذا بخلاف المستحبّ ، فإنّه يجوز بقول مطلق، فإنّه في الخبر إن أرجعنا القيد إلى التمتّع، كان صحيحاً لا محذور فيه، وإن أرجعناه إلى الخروج إلى مهلّ أرضه، لم يصحّ ، فإنّه لا يجوز تركه بقول مطلق، بل على فرض التخيّير يجوز تركه إلى البدل، والخبر حينئذٍ يدلّ على جواز تركه مطلقاً، فهذه قرينة على أنّه إنّما يكون قيداً للتمتّع، فتأمّل فإنّه دقيق.

الإيراد الثالث: إنّه مختصٌّ بالحَجّ المستحبّ ، لقوله: (إنْ شاء) والتعدّي إلى الحَجّ الواجب يحتاج إلى دليل مفقود.

وفيه أوّلاً: أنّه إذا وجب الخروج إلى ميقات خاص في المستحبّ الذي هو أولى بأن يوسع فيه، فهو أولى بالوجوب في الحَجّ الواجب.

وثانياً: أنّ التعليق على المشيئة يحسن إذا كان بعض الأفراد مستحبّاً، فلا مقيّد لإطلاقه الشامل للمستحبّ والواجب.

الإيراد الرابع: ما في «الرياض»(1) أيضاً، من احتمال كون المراد الاحتراز من مكّة.8.

ص: 225


1- رياض المسائل (ط. ج): ج 6/168.

وفيه: أنّ مجرّد الاحتمال لايضرّ بالاستدلال، بعد كونه ظاهراً فى الخصوصيّة والاعتبار.

الإيراد الخامس: عدم ظهور الجملة الخبريّة في الوجوب، ولا يخفى بطلانه لأنّ الجملة الخبريّة أظهر في الوجوب من صيغة الأمر.

وبالجملة: ثبت ممّا ذكرنا أنّه لا إشكال في الخبر سنداً ودلالة.

الطائفة الثانية: ما استدلّ به للقول الثاني:

منها: مرسل حريز، عمّن أخبره، عن أبي جعفر عليه السلام: «من دخل مكّة بحجّة عن غيره، ثمّ أقام سنة فهو مكّي، فإذا أراد أن يحجّ عن نفسه، أو أراد أن يعتمر بعدما انصرف من عرفة، فليس له أن يحرم من مكّة، ولكن يخرج إلى الوقت، وكلما حَوّل رجع إلى الوقت»(1).

ومنها: موثّق سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من حَجّ معتمراً في شوّال، وفي نيّته أن يعتمر ويرجع إلى بلاده، فلا بأس بذلك، وإنْ هو أقام إلى الحَجّ ، فهو يتمتّع، لأنّ أشهر الحَجّ : شوّال وذو القعدة وذو الحِجّة، من اعتمر فيهنّ وأقام إلى الحَجّ فهي متعة، ومن رجع إلى بلاده ولم يقم إلى الحَجّ فهي عمرة، وإنْ اعتمر في شهر رمضان أو قبله، وأقام إلى الحَجّ ، فليس بمتمتّع، وإنّما هو مجاور أفرد العُمرة، فإنْ هو أحبّ أن يتمتّع في أشهر الحَجّ بالعُمرة إلى الحَجّ ، فليخرج منها حتّى يجاوز ذات عِرْق وعَسفان فيدخل بالعُمرة متمتّعاً بالعُمرة إلى الحَجّ ، فإنْ هو أحبّ أن يفرد الحَجّ فليخرج إلى الجِعرانه فيُلبّي منها»(2).

ومنها: خبر إسحاق بن عبد اللّه: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن المُقيم بمكّة يجرّد الحَجّ أو يتمتّع مرّة أُخرى؟ قال عليه السلام: يتمتّع أحبّ إليّ ، وليكن إحرامه من مسيرة ليلة5.

ص: 226


1- الكافي: ج 4/302 ح 8، وسائل الشيعة: ج 11/269 ح 14763.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2/448 ح 2937، وسائل الشيعة: ج 11/270 ح 14765.

أو ليلتين»(1).

أمّا الأوّل فيرد عليه: أنّه ضعيف السند للإرسال، مع أنّه في العُمرة المفردة التي لا إشكال في عدم لزوم الإحرام لها من الميقات، أضف إلى ذلك أنّه مطلق يُقيّد إطلاقه بما تقدّم.

وأمّا موثّق سماعة فيرد عليه أوّلاً: أنّ عسفان ليس من المواقيت، فإنّه على ما تقدّم على مرحلتين من مكّة لمن قصد المدينة بين مكّة والجُحفة، فالموثّق مخالفٌ للإجماع لا يعتمد عليه.

وثانياً: بعدما لم يقل أحدٌ بخصوصيّةٍ في الموضعين، يتعيّن:

إمّا التصرّف فيه بالحمل على أنّ الميزان هو الميقات أي ميقات كان، وذكرهما من باب التمثيل.

أو الحمل على أنّ المخاطب كان من النائي الذي مَهلّه ذات عِرق وعسفان.

ويتعيّن الثاني ولو من باب الجمع بينه وبين ما تقدّم.

وأمّا خبر إسحاق: فإن أبقيناه على ظهوره، كان مخالفاً للإجماع، وإنْ حملناه على إرادة المواقيت المختلفة بالقُرب والبُعد، فيرد عليه:

أوّلاً: أنّه ليس فيها ما يكون مسير ليلة، راجع كلماتهم في المواقيت.

وثانياً: أنّه لابدّ حينئذٍ أن يقول: (أو ثلاث) أو (أكثر) لا ختلاف المواقيت في المسافة.

وثالثاً: أنّه حينئذٍ يمكن حمله على إرادة مسير ليلة، لمن كان ميقاته على ذلك، ومسير ليلتين لمن كان ميقاته على مسير ليلتين، فيتعيّن ذلك حينئذٍ جمعاً.0.

ص: 227


1- تهذيب الأحكام: ج 5/200 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/252 ح 14720.

الطائفة الثالثة: ما استدلّ به للقول الثالث:

منها: صحيح عمر بن يزيد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر، أحرم من الجِعرانة أو الحُديبيّة أو ما أشبههما»(1).

ومنها: خبر حمّاد، عنه عليه السلام: «عن أهل مكّة أيتمتّعون ؟ قال عليه السلام: ليس لهم متعة.

قلت: فالقاطن بها - إلى أن قال - قلت: فإن مكث الشهر؟ قال: يتمتّع. قلت: من أين يحرم ؟ قال عليه السلام: يخرج من الحرم»(2).

ومنها: صحيح الحلبي - المتقدّم في المسألة السابقة - عنه عليه السلام في حديثٍ : «فإذا أقاموا شهراً، فإنّ لهم أن يتمتّعوا. قلت: من أين ؟ قال عليه السلام: يخرجون من الحرم. قلت:

من أين يهلّون بالحَجّ؟ فقال عليه السلام: من مكّة نحواً ممّا يقول النّاس»(3).

ولكن يرد على الأخيرين: أنّهما مطلقان قابلان لأنْ يُقيّدان ب (مهلّ أهل الأرض أو (مطلق الوقت) أو صورة تعذّر المصير إليهما، للاتّفاق على الجواز حينئذٍ، وهذا هو مقتضى الجمع بينهما وبين موثّق سماعة الدالّ على القول الأوّل.

وأمّا الصحيح فأوّلاً: أنّه مطلقٌ قابلٌ للحمل على العُمرة المفردة، لو لم يكن ظاهراً فيها، وقد دلّت المستفيضة على ذلك فيها، فيقيّد بها لموثّق سماعة.

وثانياً: أنّه لو سُلّم اختصاصه بالعُمرة المتمتّع بها إلى الحَجّ ، يقع التعارض بينه وبين الموثّق، والترجيح مع الموثّق للشهرة.

ودعوى: أنّه يمكن الجمع العرفي بينهما بحمل الموثّق على الاستحباب.

يرد عليها: أنّ ذلك ليس جمعاً عرفيّاً في المقام، بل يراهما العرف متعارضين،7.

ص: 228


1- تهذيب الأحكام: ج 5/95 ح 123، وسائل الشيعة: ج 11/341 ح 14967.
2- الكافي: ج 4/300 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/262 ح 14746.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/35 ح 32، وسائل الشيعة: ج 11/266 ح 14757.

فإن قوله عليه السلام في الصحيح: (أحرم من الجِعرانه.. إلى آخره) وقوله عليه السلام في الموثّق:

(يخرج إلى مهلّ أرضه) لا يكون أحدهما قرينةً عرفيّة على الآخر كما هو واضح.

وثالثاً: أنّه لإعراض المشهور عنه لابدّ من طرحه.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ مقتضى النصوص الخاصّة، هو القول الأوّل، فتدبّر في أطراف ما ذكرناه.

أقول: ومقتضى إطلاق الموثّق، أنّه لا فرق بين أن يكون تمتّع المجاور واجباً أم مستحبّاً، ففي كليهما يخرج إلى مهلّ أرضه.

فرع: إنّ أهل مكّة إذا أرادو أن يتمتّعوا استحباباً أو واجباً بنذرٍ أو نحوه، فهل يجب عليهم الخروج إلى أحد المواقيت المخصوصة، أم يحرمون من منازلهم، أم من أدنى الحِلّ؟ وجوه.

أقول: لا إشكال في عدم شمول الموثّق لتمتّعهم، وأمّا نصوص المواقيت، فقد مرّ أنّها مختصّة بالنائي المارّ على الميقات، والبناء على الإحرام من المنزل لإطلاق ما دلّ على أنّ (من منزله دون الميقات أحرم من منزله) بناءً على شموله لأهل مكّة، مخالفٌ لما هو المتسالم عليه بين الأصحاب، فيتعيّن الأخير، ويشهد به صحيح عمرو ابن يزيد المتقدّم: (من أراد أنْ يَخرج من مكّة ليعتمر، أحرم من الجِعرانة أو الحُديبيّة أو ما أشبهها) لعمومه لمطلق العُمرة كما هو ظاهر.

أمّا المجاور بمكّة إذا لم يتمكّن من الإحرام من المواقيت، يكفيه الرجوع إلى أدنى الحِلّ ، للمستفيضة الدالّة عليه، وستأتي، وظاهرهم التسالم عليه، وقد صرّح جمعٌ بأنّه ممّا قطع به الأصحاب.

***

ص: 229

حَجّ الإفراد والقِران

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ وظيفة أهل مكّة هي حَجّ الإفراد والقِران، وقد مرّ جملة ممّا يتعلّق بهما من المسائل.

منها: أنّهما وظيفة الحاضر، المحدّد في النصوص بمن كان منزله مكّة أو ما حولها إلى ثمانية وأربعين ميلاً من كلّ جانب.

ومنها: أنّه لا يجوز لمن وظيفته ذلك تعيّيناً الرجوع إلى التمتّع، وإنّما يجوز ذلك لمن يتعيّن أحدهما له.

منها: عن وظيفة المكّي إذا خرج إلى بعض الأمصار ورجع إليها.

ومنها: حكم من له وطنان خارج الحَدّ وداخله.

ومنها: أنّ تعيّين الإفراد أو القِران عليهم إنّما هو في الحَجّ الإسلامي، دون المندوب، وأنّه يجوز للحاضر التمتّع بل هو أفضل.

وستأتي جملة أُخرى من المسائل الخاصّة بهما في مبحث المواقيت(1)، كتعيين الميقات، وما شاكل، وفي غيره من المباحث.

أقول: وفى المقام نتعرّض لبعض المسائل المتعلّقة بهما، الذى لم يرد لها ذكرٌ فى غيره:

المسألة الاُولى : في بيان صورتهما إجمالاً، فالإفراد هو أن يحرم بالحَجّ من المحلّ المعيّن الذي ستعرفه في مبحث المواقيت(2)، ثمّ يمضي إلى عرفات فيقف بها، ثمّ إلى المشعر فيقف به، ثمّ يأتي مِنى فيقضي مناسكه بها، ثمّ يأتي مكّة فيه أو بعده إلى آخر ذي الحجّة فيطوف بالبيت، ويُصلّى ركعتين، ويَسعى بين الصفا والمروة، ويطوف طواف النساء، ويُصلّي ركعتين، بلا خلافٍ أجده في شيء من ذلك نصّاً وفتوىً ، كذا في «الجواهر»(1). وستعرف تمام البحث عن جميع هذه الأُمور، كما ستعرف جواز تقديم الطواف والسعي على الموقفين على كراهة.

ص: 230


1- جواهر الكلام: ج 18/43.

والمُفرِد يُقدّم الحَجّ ثمّ يعتمر عُمرة مفردة بعد الإحلال، والقارِن كذلك، لكنّه يسوق الهَدْي عند إحرامه.

المسألة الثانية: (والمُفْرِد يقدِّم الحَجّ ثمّ يعتمر عُمرة مفردة بعد الإحلال) من الحَجّ ، إنْ كانت قد وجبت عليه، وإلّا فإنْ شاء فَعَلها بلا خلافٍ في ذلك، بل في «الرياض»(1) (أنّ ظاهر الأصحاب الاتّفاق عليه)، وفي «المنتهى »(1): (هذا اختيار علمائنا)، وعن غيره دعوى الإجماع عليه صريحاً.

المسألة الثالثة: (والقارِن كذلك) أي القارن في أفعاله كالمُفرد (لكنّه يسوق الهَدْي عند إحرامه) كما عن المشهور، وفي «الرياض»(3): (بل عليه عامّة من تأخّر). وعن أبن أبي عقيل: (القارن كالمتمتّع غير أنّه يسوق الهَدْي).

وظاهر عبارة «الدروس»(2) موافقة جمعٍ من الأصحاب له، قال فيه - على ما حُكي - بعد أن ذكر أنّ سياق الهَدْي يتميّز به القارِن عن المُفرِد على المشهور: (وقال الحسن: القارِن من ساق وجَمَع بين الحَجّ والعُمرة، فلا يتحلّل منها حتّى يحلّ من الحَجّ ، فهو عنده بمثابة المتمتّع إلّافي سوق الهَدْي، وتأخّر التحلّل وتعدّد السعي، وأنّ القارِن عنده يكفيه سعيه الأوّل عن سعيه في طواف الزيارة، وظاهره وظاهر الصدوقين الجمع بين النسكين بنيّة واحدة، وصرّح ابن الجُنيد بأنّه يجمع بينهما، فإنْ ساق وَجَب عليه الطواف والسعي قبل الخروج إلى عرفات، ولا يتحلّل، وإنْ لم9.

ص: 231


1- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/661.
2- الدروس: ج 1/329.

يسق جَدّد الإحرام بعد الطواف، ولا تحلّ له النساء، وإن قصر.

وقال الجُعفي: القارِن كالمتمتّع، غير أنّه لا يَحلّ حتّى يأتي بالحَجّ للسياق.

وفي الخلاف: إنّما يتحلّل من أتمّ أفعال العُمرة أذا لم يكن ساق، فإنْ كان قد ساق، لم يصحّ له التمتّع، ويكون قارناً عندنا.

وظاهره أنّ المتمتّع السائق قارنٌ ، وحكاه الفاضلان ساكتين عليه..) انتهى .

أقول: ويشهد للمشهور كثير من النصوص:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «أنّه قال في القارِن: لا يكون قِران إلّابسياق الهَدْي، وعليه طوافٌ بالبيت، وركعتان عند مقام إبراهيم، وسعيٌ بين الصفا والمروة، وطوافٌ بعد الحَجّ وهو طواف النساء - إلى أن قال - وأمّا المفرد للحَجّ فعليه طوافٌ بالبيت، وركعتان عند مقام إبراهيم، وسعيٌ بين الصفا والمروة، وطواف الزيارة وهو طواف النساء، وليس عليه هدى ولا اُضحية»(1).

ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «إنّما نُسُك الذي يقرن بين الصفا والمروة مثل نُسك المفرد، ليس بأفضل منه إلّابسياق الهَدْي، وعليه طوافٌ بالبيت، وصلاة ركعتين خلف المقام، وسعيٌ واحد بين الصفا والمروة، وطوافٌ بالبيت بعد الحَجّ ، وقال: أيّما رجلٍ قرن بين الحَجّ والعُمرة، فلا يصلح إلّاأن يسوق الهَدْي قد أشعره أو قلّده، والإشعار أن يطعن في سنامها بحديدة حتّى يُدميها، وإن لم يسق الهَدْي فليجعلها متعة»(2).9.

ص: 232


1- تهذيب الأحكام: ج 5/41 ح 51، وسائل الشيعة: ج 11/212 ح 14644-14645.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/42 ح 53، وسائل الشيعة: ج 11/218 ح 14649.

قال صاحب «الوافي»:(1) بعد نقل الخبر الوارد فيه أنّه يقرن بين الصَّفا والمروة:

(هكذا وجدناه في النسخ التي رأيناها، ويشبه أن يكون وهماً من الراوي، إذ لا معنى للقران بين الصفا والمروة، ولعلّ الصواب يقرن بين الحَجّ والعُمرة، كما قاله في آخر الحديث، ويكون معناه أن يكون في نيّته الإتيان بهما جميعاً مقدّماً للحَجّ لا بأحدهما مفرداً دون الآخر، وليس المراد أنّ يجمعهما في نيّة واحدة، ويتمتّع بالعُمرة إلى الحَجّ ، فإنّه التمتّع وليس فيه سياقُ هَدي).

ومنها: صحيح الفُضيل بن يسار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «القارِن الذي يسوق الهَدْي عليه طوافان، بالبيت وسعيٌ واحد بين الصفا والمروة، وينبغي له أن يشترط على رَبّه إنْ لم تكن حَجّة فعُمرة»(2).

ومنها: خبر منصور بن حازم، عنه عليه السلام: «لا يكون القارن إلّابسياق الهَدْي، وعليه طوافان بالبيت، وسعيٌ بين الصفا والمروة كما يفعل المفرد، فليس بأفضل من المفرد إلّابسياق الهَدْي»(3).

ونحوها غيرها من النصوص الكثيرة الصريحة في ذلك.

واستدلّ للقول الآخر: بالأخبار المتضمّنة لحجّ النبيّ صلى الله عليه و آله المشتملة على طوافه وصلاة الركعتين، وسعيه بين الصفا والمروة حين قدومه مكّة، وكذا أصحابه حيث لم يحلّ من إحرامه صلى الله عليه و آله لكونه سائقاً، وأمر غيره ممّن لم يسق الهَدي بالإحلال، وجعلها عُمرة، وقال:3.

ص: 233


1- الوافي: ج 12/458.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/43 ح 54، وسائل الشيعة: ج 11/213 ح 14646.
3- الكافي: ج 4/295 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/220 ح 14653.

«لو استقبلتُ ما استدبرتُ لفعلتُ كما أمرتكم، ولكنّىُ سقتُ الهَدْي وليس لسائق الهَدْي أن يحِلّ حتّى يبلغ الهَدْي محلّه، وشبّك بين أصابعه بعضها إلى بعض، وقال: دخلت العُمرة في الحَجّ إلى يوم القيامة»(1).

أقول: ويمكن تأييد هذا الدليل:

1 - بأنّ النصوص خالية أجمع عن اعتمار النبيّ صلى الله عليه و آله بعد الحَجّ .

2 - وبما رواه الصدوق في «العلل» مسنداً إلى فضيل بن عياض:

«أنّه سئل الصادق عليه السلام عن الاختلاف في الحَجّ ، فبعضهم يقول خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله مهلّاً بالحَجّ ، وقال بعضهم مهلّاً بالعُمرة، وقال بعضهم خرج قارناً، وقال بعضهم ينتظر أمر اللّه تعالى؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: علم اللّه عَزَّ وَجَلّ أنّها حَجّة لا يحجّ بعدها، فجمع اللّه له ذلك كلّه في سفرةٍ واحدة، ليكون جميع ذلك سُنّة لاُمّته، فلمّا طاف بالبيت وبالصفا والمروة أمره جبرائيل أن يجعلها عمرة، إلّامن كان معه هَدي، فهو محبوسٌ على هَديه لا يحِلّ لقوله عَزَّ وَجَلّ : (حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) (2)، فجُمعت له العُمرة والحَجّ ، وكان خرج على خروج العرب الأوّل، لأنّ العرب كانت لا تعرف الحَجّ وهو في ذلك ينتظر أمر اللّه تعالى ، وهو يقول: النّاس على أمر جاهليّتهم إلّاما غيّره الإسلام، وكانوا لا يرون العُمرة في أشهر الحَجّ ، وهذا الكلام من رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّما كان في الوقت الذي أمرهم بفسخ الحَجّ ، فقال: دَخَلتِ العُمرة في الحَجّ إلى يوم القيامة، وشبّك بين أصابعه يعني في أشهر الحَجّ »(3).3.

ص: 234


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2/236 ح 2288، وسائل الشيعة: ج 11/231 ح 14668.
2- سورة البقرة: الآية 196.
3- علل الشرائع: ج 2/414 ح 3.

3 - وبالمرسل المتضمّن إنكار عثمان على أمير المؤمنين عليه السلام بقرنه بين الحَجّ والعُمرة، وقوله: لبيك بحجّةٍ وعُمرة معاً»(1).

4 - وبصحيح الحلبي المتقدّم.

ولكن يرد على الأوّل: أنّه في خبر معاوية المتقدّم الوارد في حجّة الوداع أنّه صلى الله عليه و آله لبّى بالحَجّ مفرداً وساق الهَدْي، وفي صحيح الحلبي المتقدّم: (أهلَّ بالحَجّ وساق مائة بدنة، وأحرم النّاس كلّهم بالحَجّ ، لا ينوون عُمرة، ولا يدرون ما المتعة)، وهما صريحان خصوصاً الأوّل منهما في أنّه لَبّى بالحَجّ مفرداً، بل عرفت أنّ المتعة إنّما شُرِّعت في تلك السنه بعد أن حَجّوا أي في أثناء الحَجّ ، فلا محالة كان صلى الله عليه و آله مفرداً لا متمتّعاً، وعدم اعتماره في تلك السنة من جهة أنّه كان اعتمر عمراتٍ متفرّقة، وحينئذٍ فما فعله من الطواف والسعي حين قدومه لم يكن إلّاالحَجّ .

ويرد على الثاني: أنّه يمكن حمله على أنّ اللّه تعالى أراد الجمع بين االنسكين، ولو لاُمّته لا له نفسه، إذ النصوص صريحة في أنّه صلى الله عليه و آله لم يطف بالبيت طوافين غير طواف النساء، كما هو مقتضى الجمع بين الحَجّ والعُمرة، بل قوله في الخبر: (أمره جبرائيل أن يجعلها عُمرة إلّامن كان معه هَديٌ ) كالصريح فيما ذكرناه.

ويرد على المُرسل: مضافاً إلى إرساله، أنّ المراد به أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد أهلَّ بحَجّ التمتّع الذي هو حَجّة وعمرة، وإنّما أنكر عليه عثمان لمخالفته عليه السلام لرأي عمر.

وأمّا صحيح الحلبي: فقد عرفت حاله.

المسألة الرابعة: ويدور البحث فيها عن كيفيّة تحقّق إحرام القارِن:2.

ص: 235


1- تهذيب الأحكام: ج 5/85 ح 90، وسائل الشيعة: ج 12/350 ح 16486، سنن البيهقي: ج 4/352.

1 - المشهور بين الأصحاب أنّ القارِن يتخيّر في عقد إحرامه بالتلبية والإشعار والتقليد.

2 - وعن السيّد(1) وابن إدريس(2): أنّه لا ينعقد إحرامه إلّابالتلبية.

3 - وعن الشيخ في «الجُمل»(3) و «المبسوط»(4): أنّه لا ينعقد إحرامه بالإشعار والتقليد إلّاعند العجز عن التلبية.

ويشهد للأوّل: نصوصٌ كثيرة:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «يوجبُ الإحرام ثلاثة أشياء: التلبية والإشعار والتقليد، فإذا فعل شيئاً من هذه الثلاثة فقد أحرم»(5).

ومنها: صحيح عمر بن يزيد، عنه عليه السلام: «من أشعر بدنته فقد أحرم، وإنْ لم يتكلّم بقليلٍ ولا كثير»(6).

ومنها: صحيح حريز، عنه عليه السلام في حديثٍ : «فإنّه إذا أشعرها وقلّدها وجب عليه الإحرام، وهو بمنزلة التلبية»(7). ونحوها غيرها.

واستدلّ للثاني: بالإجماع عليها وبالتأسّي، فإنّه صلى الله عليه و آله لَبّى بالاتّفاق، مع قوله صلى الله عليه و آله:

«خذوا عَنّي مناسككم»(6).

وفيه: أنّه يخرج منهما بالنصوص المتقدّمة.1.

ص: 236


1- الإنتصار (للسيّد المرتضى): ص 242.
2- السرائر: ج 1/532.
3- الجمل والعقود: ص 130.
4- المبسوط: ج 1/307-308.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/43 ح 58، وسائل الشيعة: ج 11/279 ح 14798. (6و7) وسائل الشيعة: ج 11/279 ح 14799 و 14797.
6- الصراط المستقيم: ج 3/188، عوالي اللآلي: ج 1/215، نهج الحقّ : ص 471.

واستدلّ للثالث: بأنّه مقتضى الجمع بين النصوص، وهو كما ترى .

المسألة الخامسة: القارِن إذا لَبّى استحبّ له إشعار ما يسوقه من البُدن.

وفي «الرياض»(1): (ولعلّه لإطلاق الأمر بهما، وإلّا فلم نقف في ذلك على أمرٍ بالخصوص)، ونحوه عن «المدارك»(2).

وفي «الجواهر»(3): (قلت: خصوصاً بعد خبر ابن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في رجلٍ ساق هَدْياً ولم يقلّده، ولم يُشعره ؟ قال: قد أجزأ عنه ما أكثر ما لا يشعر ولا يقلد»(4)...) انتهى .

أقول: وكيفيّة الإشعار على ما يستفاد من مجموع النصوص، وكلمات الأصحاب، هي أنْ يقوم الرّجل من الجانب الأيسر ويشقّ ويطعن سنامه بحديدة من الجانب الأيمن باركاً معقولاً مستقبلاً بها القبلة، ويلطخ صفحته بدمه، وإنْ كان معه بُدنٌ كثيرة دخل ما بين اثنين منها وأشعر يميناً أوّلاً وشمالاً ثانياً، كما صرّح بذلك في صحيح حريز(5) وصحيح جميل(6).

ويستحبّ له أيضاً التقليد، وهو أن يعلّق في رقبة المسوق نعلاً خَلِقاً قد صَلّى فيه، هذا حال البُدن.

وأمّا الغنم والبقر، فلا إشعار فيهما، ويختصّان بالتقليد لضعفهما عن الإشعار.

***5.

ص: 237


1- رياض المسائل (ط. ج): ج 6/154.
2- مدارك الأحكام: ج 7/195.
3- جواهر الكلام: ج 18/56.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 2/323 ح 2572، وسائل الشيعة: ج 11/277 ح 14788.
5- وسائل الشيعة: ج 11/279 ح 14797.
6- وسائل الشيعة: ج 11/276 ح 14785.

وشرط التمتّع: النيّة.

شرائط حَجّ التمتّع

مسألة: (و) يدور البحث فيها عن (شروط التمتّع) وهي شروط:

الشرط الأوّل: (النيّة).

وقد طفحت كلماتهم بذلك، ولكن اختلفوا في المراد بها.

فعن بعضهم: أنّها الإرادة المحرّكة للعضلات نحو الفعل.

وعن آخرين: أنّ المراد بها الخلوص والقرابة كما في كلّ عبادة.

وعن «المسالك»(1): أنّ المراد بها نيّة الحَجّ بجملته.

وعن «الدروس»(2): أنّ المراد بها نيّة الإحرام.

وعن سلّار(3): أنّ المراد بها نيّة الخروج إلى مكّة.

أقول: يتوقّف معرفة الحقّ على المراد من النيّة:

1 - إنْ اُريد بالنيّة الإرادة المحرّكة، فاعتبارها من الواضحات، إذ لا شبهة في أنّ الحَجّ والعُمرة من العبادات المطلوبة شرعاً، كما لا شبهة في اعتبارها فيها، إذ الفعل غير الصادر عن الاختيار لا يتّصف بالحُسن ولا بالقُبح، ولا يتعلّق به الأمر، فانطباق المطلوب على المأتيّ به يتوقّف على أن يكون الفعل صادراً عن الاختيار والإرادة.

ص: 238


1- مسالك الأفهام: ج 2/194.
2- الدروس: ج 1/339.
3- المراسم: ص 104.

2 - وإنْ اُريد بها الخلوص والقُربة، فاعتبارها أيضاً ظاهر، إذ لا شبهة في أنّهما من العبادات، واعتبارها في العبادات من الضروريّات.

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك - الآية الشريفة: (وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (1) إذ قوله تعالى : (للّه) يدلّ صريحاً على أنّه يجب إيقاعهما خالصين للّه، لا للرّياءوالسُّمعة، ولا لقصد المعاش، وحيث إنّهما مركّبان من عدّة أجزاء، فالآية الشريفة دالّة على اعتبارها في كلّ فعلٍ من أفعالها.

3 - وإنْ اُريد بها نيّة الحَجّ بجملته، بحيث يكون عنوان المتعة من العناوين القصديّة المعتبرة في المأمور به، كعنوان الظهريّة والعصريّة لصلاة الظهر والعصر، فإنّه إذا أتى بأربع ركعات لا بقصد الظهر لا تقع صحيحةً ، فكذلك في المقام، لابدَّ وأن يقصد عنوان حَجّ التمتّع، فهو في نفسه لا مانع عنه، إلّاأنّه يحتاج إلى دليل، ويشهد لاعتبارها بهذا المعنى جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: «سألته عن رجل متمتّع كيف يصنع ؟ قال عليه السلام: ينوي العُمرة ويحرم بالحَجّ »(2).

ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «كيف أصنع إذا أردتُ التمتّع ؟ فقال عليه السلام: لَبِّ بالحَجّ وأنو المتعة»(3).

ومنها: خبر اسحاق بن عمّار، عن أبي إبراهيم عليه السلام، في حديثٍ ، قال عليه السلام: «انو المتعة»(4). ونحوها غيرها.9.

ص: 239


1- سورة البقرة: الآية 196.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/80 ح 72، وسائل الشيعة: ج 12/351 ح 16487.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/86 ح 93، وسائل الشيعة: ج 12/352 ح 16490.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/80 ح 73، وسائل الشيعة: ج 11/248 ح 14709.

ولا يعارضها النصوص الآتية الدالّة على أنّه لو اعتمر بعمرة مفردة في أشهر الحَجّ ، جاز أن يتمتّع بها، فإنّها دالّة على أنّ نيّة الخلاف في بعض الموارد لا تضرّ، كما لا تضرّ في الصلاة بالعدول في جملةٍ من الموارد عن الصلاة التي قُصد عنوانها إلى صلاة أُخرى التي لها عنوانٌ آخر.

وأمّا قضيّة إهلال عليّ عليه السلام بما أهلَّ به النبيّ صلى الله عليه و آله، فنمنع كونه عليه السلام جاهلاً بإهلاله صلى الله عليه و آله، بل الظاهر كونه عالماً به، فالأظهر اعتبارها.

4 - وإنْ اُريد بها نيّة الإحرام:

فإنْ كان المراد اعتبار الإرادة المحرّكة للعضلات، أو اعتبار الخلوص، فاعتبارها واضحٌ كما مرّ، ويتمّ ما عن «المسالك»(1) من أنّه كالمستغنى عنه، فإنّه من جملة الأفعال، وكما تجب النيّة له، تجب لغيره، ولم يتعرّضوا لها في غيره على الخصوص.

وإنْ كان المراد قصد عنوان الإحرام، فلا دليل على اعتبار قصده زائداً عن قصد عنوان الحَجّ .

5 - وإنْ اُريد بها نيّة الخروج إلى مكّة، فلا ريب في دخلها في ترتّب الثواب على المسير بهذه النيّة، ولكن لا تعتبر في صحّة الحَجّ والعُمرة قطعاً نصّاً وفتوىً .

وبالجملة: فقد ظهر ممّا ذكرناه أنّه يعتبر قصد نوع الحَجّ من المتعة أو غيرها، فلو نوى غير المتعة مثلاً، أو لم ينو شيئاً، أو تردّد في نيّته بينها وبين غيرها، لم يصحّ .

التمتّع بالعُمرة المفردة

أقول: وردت في جملةٍ من الروايات أنّه لو أتى بعمرة مفردة في أشهر الحَجّ جاز

ص: 240


1- مسالك الأفهام: ج 2/194.

أن يتمتّع بها، وأفتى بذلك الأصحاب:

قال صاحب «المنتهى »(1): (وإذا عقد عن غيره أو تطوّعاً وعليه فرضه وقع عن فرضه) انتهى .

ومثله في «التذكرة»(2)، وقال صاحب «الجواهر»: (بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع محكيٌّ عليه صريحاً وظاهراً في جملةٍ من الكتب كالخلاف و «المعتبر» و «المنتهى » وغيرها)(3) انتهى .

بل عن جماعةٍ دعوى استحباب ذلك، كما قاله في «القواعد»(4): (ولو اعتمر في أشهر الحَجّ استحبّ له الإقامة ليحجّ ويجعلها متعة) ونحوه كلام غيره، بل عن القاضي وجوبه إذا بقى إلى يوم التروية.

أقول: والأصل في هذا الحكم، جملة من النصوص:

منها: موثّق سماعة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من حَجّ معتمراً في شوّال، ومن نيّته أن يعتمر ويرجع إلى بلاده، فلا بأس بذلك، وإن هو أقام إلى الحَجّ فهو يتمتّع، لأنّ أشهر الحَجّ : شوّال وذو القعدة وذو الحِجّة، فمن اعتمر فيهنّ وأقام إلى الحَجّ ، فهي متعة، ومن رجع إلى بلاده ولم يقم إلى الحَجّ فهي عمرة، وإن اعتمر في شهر رمضان أو قبله فأقام إلى الحَجّ ، فليس بمتمتّعٍ ، وإنّما هو مجاور أفرد العُمرة، فإنْ هو أحبّ أن يتمتّع في أشهر الحَجّ بالعُمرة إلى الحَجّ ، فليخرج منها حتّى يجاوز ذات عِرق، أو يتجاوز عَسفان، فيدخل متمتّعاً بعُمرةٍ إلى الحَجّ ، فإنْ هو أحبّ أن يفرد2.

ص: 241


1- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/675.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/234.
3- جواهر الكلام: ج 18/71.
4- قواعد الأحكام: ج 1/452.

الحَجّ فليخرج إلى الجِعرانة فيُلبّي منها»(1).

ومنها: صحيح عمر بن يزيد، عنه عليه السلام: «من دخل مكّة معتمراً مفرداً للعمرة فقضى عمرته، ثمّ خرج كان له ذلك، وإن أقام إلى أن يدركه الحَجّ ، كانت عمرته متعة. وقال: ليس تكون متعة إلّافي أشهر الحَجّ »(2).

ومنها: موثّق عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام «من دخل مكّة بعمرة فأقام إلى هلال ذي الحِجّة، فليس له أن يخرج حتّى يحجّ مع النّاس»(3).

ومنها: ما رواه الصدوق بإسناده عن عمر بن يزيد، عنه عليه السلام: «من اعتمر عمرة مفردة، فله أن يخرج إلى أهله متى شاء، إلّاأن يدركه خروج النّاس يوم التروية»(4).

ومنها: صحيح يعقوب بن شعيب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن المعتمر في أشهر الحَجّ؟ قال عليه السلام: هي متعة»(5).

ومنها: خبر وهيب بن حفص، عن عليّ عليه السلام قال: «سأله أبو بصير وأنا حاضر عمّن أهلَّ بالعُمرة في أشهر الحَجّ له أن يرجع ؟ قال عليه السلام: ليس في أشهر الحَجّ عمرة، يرجع منها إلى أهله، ولكنّه يحتبس بمكّة حتّى يقضي حجّة، لأنّه إنّما أحرم لذلك»(6).

ونحوها غيرها من الأخبار الكثيرة.

أقول: وظاهر هذه النصوص أنّه إذا نوى العُمرة المفردة، وأقام إلى الحَجّ 0.

ص: 242


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2/448 ح 2937، وسائل الشيعة: ج 11/270 ح 14765.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/435 ح 159، وسائل الشيعة: ج 11/284 ح 14813.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/436 ح 163، وسائل الشيعة: ج 14/312 ح 19289.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 2/449 ح 2938، وسائل الشيعة: ج 14/313 ح 19292.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/436 ح 160، وسائل الشيعة: ج 11/285 ح 14814.
6- تهذيب الأحكام: ج 5/437 ح 166، وسائل الشيعة: ج 14/312 ح 19290.

انقلبت عمرته إلى التمتّع قهراً، ولكن تُحمل على إرادة القلب لا الإقلاب القهري، لعدم القائل بالانقلاب القهري، كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1)، ولأنّه لو كان كذلك لزم الحَجّ ، وسيأتي ما يدلّ على عدم وجوبه، ولما سيأتي من النصوص المتوهّم دلالتها على عدم جواز ذلك، ولأجل ذلك تُحمل النصوص على إرادة القلب، كما أنّ الظاهر من خبري وهيب ويعقوب بن شعيب لزوم أن يتمتّع، إلّاأنّهما يُحملان على من دخل لعمرة التمتّع، ثمّ أراد إفرادهما، كما عن الشيخ قدس سره في «الاستبصار»(2).

والظاهر من موثّق عمر بن يزيد لزوم أن يتمتّع بها إذا بقى إلى ذي الحِجّة، لكنّه يُحمل على الندب لعدم القائل بوجوبه، ولما سيأتي من النصوص.

وظاهر صحيحي ابن يزيد، هو ما عن ابن البرّاج من وجوب التمتّع إذا بقى إلى يوم التروية، ولكنّهما يُحملان على الاستحباب أيضاً لدلالة جملةٍ من النصوص على عدم وجوبه:

1 - صحيح إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«أنّه سُئل عن رجلٍ خرج في أشهر الحَجّ معتمراً، ثمّ خرج إلى بلاده ؟ قال عليه السلام: لا بأس وإن حَجّ من عامه ذلك وأفرد الحَجّ ، فليس عليه دم، وانّ الحسين بن علي عليهما السلام خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمراً»(3).

2 - خبر معاوية بن عمّار: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: من أين افترق المتمتّع والمعتمر؟ فقال عليه السلام: إنّ المتمتّع مرتبطٌ بالحَجّ ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء،5.

ص: 243


1- جواهر الكلام: ج 18/71.
2- الاستبصار: ج 2/327-328.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/436 ح 162، وسائل الشيعة: ج 14/310 ح 19285.

وقد اعتمر الحسين عليه السلام في ذي الحِجّة، ثمّ راح يوم التروية إلى العراق، والنّاس يروحون إلى مِنى ، ولا بأس بالعُمرة في ذي الحِجّة لا يريد الحَجّ »(1).

ودعوى صاحب «كشف اللّثام»:(2) وغيره من احتمال الضرورة في فعل سيّد الشهداء سلام اللّه عليه، يدفعها ظاهر الخبرين حيث أنّ الإمام عليه السلام احتجّ بفعله على جواز ترك الحَجّ اختياراً.

وما في كتب المقاتل من أنّه عليه السلام كان عمرته عمرة التمتّع، وعَدَل بها إلى الإفراد، لا يعتمد عليه في مقابل هذه النصوص، وقال صاحب «العروة»(3) معلّقاً على هذه النصوص: (ولكن القدر المتيقّن منها هو الحَجّ الندبي، ففيها إذا وجب عليه التمتّع فأتى بعمرة مفردة ثمّ أراد أن يجعلها عمرة التمتّع يشكل الاجتزاء بذلك عمّا وجب عليه...) انتهى .

وعلّله بعض الأعاظم من المعاصرين(4) بأنّ النصوص إنّما تضمّنت الأمر بجعل العُمرة المفردة متعة، وليس لها نظر إلى تنزيله منزلة حَجّ التمتّع الواجب، وكونه مصداقاً مطلقاً، فتفرغ به الذمّة، وحينئذٍ يتعيّن الإقتصار على الندب.

وفيه: أنّ النصوص في مقام جعل العُمرة المفردة، العُمرة المتمتّع بها، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين الواجب والمندوب.

أقول: وفي المقام طائفة من النصوص، قد يتوهّم منافاتها للنصوص المتقدّمة:

منها: خبر حمران بن أعين، قال: «دخلتُ على أبي جعفر عليه السلام فقال لي: بما5.

ص: 244


1- تهذيب الأحكام: ج 5/437 ح 165، وسائل الشيعة: ج 14/311 ح 19286.
2- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/27.
3- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/612.
4- مستمسك العروة الوثقى: ج 11/195.

أهللت ؟ فقلت: بالعُمرة. فقال لي: أفلا أهللت بالحَجّ ، ونويت المتعة، فصارت عمرتك كوفيّة وحجّتك مكيّة، ولو كنتَ نويت المتعة وأهللت بالحَجّ كانت حجّتك وعمرتك كوفيّتين»(1).

ومنها: صحيح زرارة، عنه عليه السلام، قال: «وأفضل العُمرة عمرة رجب. وقال: المُفرِد للعمرة إنْ اعتمر ثمّ أقام للحَجّ بمكّة، كانت عمرته تامّة، وحجّته ناقصة مكيّة»(2).

ومنها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، في حديثٍ : «فإنْ أقام بمكّة إلى الحَجّ فعمرته تامّة وحجّته ناقصة»(3).

بدعوى: أنّها تدلّ على أنّ من نوى العُمرة المفردة، وحَجّ بعدها، لا يكون حَجّه حَجّ التمتّع بل يعدّ إفراداً.

والجواب: يمكن أن تُحمل هذه النصوص على من نوى العُمرة المفردة، وبعدها لم ينو كونها العُمرة المتمتّع بها، وعليه فتكون هذه النصوص قرينة على ما اخترناه من عدم الانقلاب القهري، واللّه العالم.

***3.

ص: 245


1- تهذيب الأحكام: ج 5/88 ح 100، وسائل الشيعة: ج 12/350 ح 16484.
2- وسائل الشيعة: ج 14/301 ح 19247.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/31 ح 22، وسائل الشيعة: ج 11/253 ح 14723.

ووقوعه في أشهر الحَجّ ، وهي:

اعتبار وقوع النسكين في أشهر الحَجّ

(و) الشرط الثاني: من شرائط حَجّ التمتّع (وقوعه) أي وقوع مجموع عمرته وحجّه (في أشهر الحَجّ ) بلا خلافٍ ، بل الإجماع بقسميه عليه، كما في «الجواهر»(1)، ويشهد به نصوصٌ كثيرة:

منها: صحيح عمر بن يزيد المتقدّم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «ليس يكون متعة إلّا في أشهر الحَجّ »(2).

ومنها: موثّق سماعة المتقدّم في مسألة التمتّع بالعُمرة المفردة(3). ونحوهماغيرهما.

أقول: اختلف الأصحاب في تحديد أشهر الحَجّ على أقوال:

القول الأوّل: ما عن الشيخ المفيد في مبحث أركان الحجّ (4)، والشيخ الطوسي في «النهاية»(5)، وابني الجُنيد(6) وإدريس(7)، وفي «التذكرة»(8) نسبته إلى أكثر علمائنا، وفي المتن قال: (هي شوّال وذو القعدة وذو الحِجّة) بتمامه.

ص: 246


1- جواهر الكلام: ج 18/12.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/435 ح 159، وسائل الشيعة: ج 11/284 ح 14813.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 2/448 ح 2937، وسائل الشيعة: ج 11/270 ح 14765.
4- حكاه ابن إدريس الحِلّي في السرائر: ج 1/538-539 عن المفيد في الأركان.
5- النهاية: ص 207.
6- فتاوى ابن الجنيد: ص 124.
7- السرائر: ج 1/539.
8- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/183.

القول الثاني: ما عن المرتضى(1)، وسلّار(2)، وابن أبي عقيل(3) وغيرهم أنّها شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحِجّة.

القول الثالث: ما عن «الاقتصاد»(4) و «الجُمل والعقود»(5) و «المهذّب»(6) من أنّه شوّال وذو القعدة وتسع من ذي الحجّة.

القول الرابع: ما عن الشيخ في «المبسوط»(7) و «الخلاف»(8) من أنّها الشهران وتسع من ذي الحجّة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، وعن ابن إدريس(9) إلى طلوع الشمس.

أقول: ظاهر قوله تعالى : (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) (10) أنّها ثلاثة، من جهة أنّ أقلّ الجمع ثلاثة، فضلاً عن صريح النصوص الكثيرة:

منها: ما تقدّم في مسألة التمتّع بالعُمرة المفردة.

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «انّ اللّه تعالى يقول:

(اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ..) إلى آخره وهي شوّال وذو القعدة وذو الحِجّة»(11).6.

ص: 247


1- الإنتصار: ص 91.
2- المراسم العلويّة: ص 104، كتاب الحَجّ .
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 4/27.
4- الإقتصاد: ص 300.
5- الجمل والعقود: ص 131.
6- المهذّب: ج 1/213.
7- المبسوط: ج 1/308.
8- الخلاف: ج 1/258.
9- السرائر: ج 1/524.
10- سورة البقرة: الآية 197.
11- تهذيب الأحكام: ج 5/445 ح 196، وسائل الشيعة: ج 11/271 ح 14766.

ومنها: خبر زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «الحَجّ أشهر معلومات شوّال وذو القعدة وذو الحِجّة»(1).

ومنها: غير ذلك من الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام هو الأوّل.

أقول: واستدلّ على التحديد بطلوع الفجر، بقوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ ) (2) إذ لا يمكن فرضه بعد طلوع الفجر من يوم النحر بقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ ) (3)، وهو سائغٌ يوم النحر متى تحلّل في أوّله.

واستدلّ للثاني: بما رواه الكليني، عن علي بن إبراهيم، قال: «أشهر الحَجّ شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة»(2).

وقال المصنّف في «المنتهى »(3): (وليس يتعلّق بهذا الاختلاف حكم) انتهى .

وقال في «التذكرة»(4): (واعلم أنّه لا فائدة كثيرة في هذا النزاع، للإجماع على أنّه لو فاته الموقفان، فقد فاته الحَجّ ، وأنّه يصحّ كثير من أفعال الحَجّ يوم العاشر وما بعده) انتهى .

وقريبٌ منه ما عن «المختلف»(5) واستحسنه من تأخر عنه، وهو كذلك.

***8.

ص: 248


1- الإستبصار: ج 2/161 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/272 ح 14770. (2و3) سورة البقرة: الآية 197.
2- الكافي: ج 4/290 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/273 ح 14771.
3- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/664.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/185.
5- مختلف الشيعة: ج 4/28.

العُمرة قبل أشهر الحَجّ

مسألة: إذا أتى بالعُمرة قبل أشهر الحَجّ بقصد عمرة التمتّع، فقد عرفت أنّها لا تقع تمتّعاً، وهل تصحّ مفردة كما في العكس أم لا؟ وجهان:

اختار الأوّل جماعة، بل ظاهر المصنّف رحمه الله في «التذكرة» و «المنتهى » عدم الخلاف فيه، قال صاحب «التذكرة»: (لا ينعقد بالعُمرة المتمتّع بها قبل أشهر الحَجّ ، فإن أحرم بها في غيرها انعقد للعمرة المبتولة)(1) انتهى . ونحوه في «المنتهى »(2).

وعن «المدارك»(3) و «كشف اللّثام»(3) اختيار الثاني، وعن «التحرير»(4)الترديد فيه.

وقد استدلّ السيّد(6) لما ذهب إليه من بطلان ما أتى به، بأنّه لا يقع عن المنويّ لعدم حصول شرطه، ولا عن غيره لعدم نيّته، ونيّة المقيّد لا تستلزم نيّة المطلق.

وصاحب «الجواهر» رحمه الله بعد نقل ذلك منه قال: (لا ريب في البطلان بمقتضى القواعد العامّة)(5).

أقول: إنّ محلّ الكلام ما لو أتى بالعُمرة بقصد المتعة، جاهلاً عدم صحّتها أو غافلاً عن اعتبار وقوعها في أشهر الحَجّ أو نحو ذلك، ممّا يلزم منه التشريع المحرّم، وإلّا فهي باطلة لذلك، وحينئذٍ:

ص: 249


1- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/186.
2- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/665. (3و6) مدارك الأحكام: ج 7/171.
3- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/41.
4- تحرير الأحكام: ج 1/94.
5- جواهر الكلام: ج 18/19.

فتارةً نقول: إنّ عنوان المتعة ليس من العناوين القصديّة، بل حقيقة حَجّ التمتّع عبارة عن الحَجّ الواقع عقيب العُمرة الواقعة في أشهر الحَجّ ، فلا ينبغي الإشكال في صحّة العُمرة في المقام، ووقوعها عمرة مفردةً صحيحة، للإتيان بالمأمور به بجميع حدوده وقيوده مضافاً إلى اللّه تعالى ، والتقيّيد بعنوان المتعة لا يستلزم عدم نيّة المطلق، إذ المطلق هو عنوان العُمرة نفسها، وهو مقصود، غاية الأمر منضمّاً إلى عنوان المتعة، لا أنّه غير مقصودٍ أصلاً، وقصد عنوان العُمرة بنفسه ليس من الموانع والمبطلات، فلا محالة تكون صحيحة.

وأُخرى : نبني كما هو الحقّ على أنّ عنوان المتعة من العناوين القصديّة الدخيلة في العُمرة المتمتّع بها إلى الحَجّ ، والظاهر أنّه على هذا أيضاً لابدّ من البناء على الصحّة، فإنّ هذا دخيلٌ في التمتّع لا في العُمرة المفردة، بل هي لا دليل على دخل عنوان قصدي فيها، وعليه، فالأظهر أنّ مقتضى القاعدة هي الصحّة، فما في «الجواهر»(1) و «العروة»(2) وغيرهما من تسليم أنّ مقتضى القاعدة هو ما أفاده السيّد في «المدارك»(3) من البطلان، غير تامّ ، بل مقتضى القاعدة هي الصحّة.

أقول: وقد استدلّوا للصحّة في المقام:

1 - بخبر أبي جعفر الأحول، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل فرض الحَجّ في غير أشهر الحَجّ؟ قال عليه السلام: يجعلها عُمرة»(4).

2 - وبخبر سعيد الأعرج، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «من تمتّع في أشهر الحَجّ ثمّ أقام2.

ص: 250


1- جواهر الكلام: ج 18/19.
2- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/613.
3- مدارك الأحكام: ج 7/171.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 2/458 ح 2963، وسائل الشيعة: ج 11/273 ح 14772.

بمكّة حتّى يحضر الحج من قابل، فعليه شاة، ومن تمتّع في غير أشهر الحَجّ ، ثمّ جاور حتّى يحضر الحَجّ ، فليس عليه دم، إنّما هي حجّة مفردة، وإنّما الأضحى على أهل الأمصار»(1).

وأورد على الأوّل: بأنّ المفروض فيه الحَجّ في غير أشهر الحَجّ لا العُمرة، فلا يكون ممّا نحن فيه.

وفيه: أنّه يتعدّى حينئذٍ إلى العُمرة بالأولويّة، مع أنّ الحَجّ مركّبٌ من العُمرة والحَجّ ، فبالإطلاق يشمل ما نحن فيه.

نعم، يمكن أن يُقال إنّ المراد من قوله عليه السلام: (يجعلها عمرة) أنّه يُنشئ عُمرةً لا أن يكون عمرة كما أفاده سيّد «المدارك»(2)، فتأمّل.

وأورد على الثاني: بأنّه وإنْ دلّ على انقلاب عمرة التمتّع إلى العُمرة المفردة، إلّا أنّه من جهة عدم وجوب حَجّ التمتّع على المجاور لا من جهة وقوعها في غير أشهر الحَجّ ، فيكون منافياً للنصوص والإجماعات السابقة.

وفيه: أنّه متضمّنٌ لحكمين:

أحدهما: أنّ المتمتّع أي من أتى بعمرة التمتّع في غير أشهر الحَجّ ، تصحّ عمرته، والدالّ عليه قوله عليه السلام: (وإن تمتّع في غير أشهر الحَجّ )، إذ لو كانت فاسدة لم يصحّ هذا التعبير.

ثانيهما: أنّ الواجب عليه الحجّة المفردة، والثاني مخالفٌ للإجماعات والنصوص، والأوّل هو محلّ الكلام.

فالمتحصّل: أنّ من أتي بعمرة التمتّع فى غير أشهرالحَجّ تكون عمرته مفردة وتصحّ .0.

ص: 251


1- الكافي: ج 4/487 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/270 ح 14764.
2- مدارك الأحكام: ج 7/170.

وإتيان الحَجّ والعُمرة في عام واحد.

اعتبار كون الحَجّ والعُمرة في سنة واحدة

(و) الثالث من الشرائط: (إتيان الحَجّ والعُمرة في عام واحد) بلا خلافٍ بينهم كما في «الحدائق»(1)، بل بلا خلافٍ فيه بين العلماء كافّة كما في «الجواهر»(2)، وعن غيرهما، وقال صاحب «التذكرة»(3) بعد ذكر هذا الشرط وما قبله من الشرطين:

(وهذه الشرائط الثلاثة عندنا شرائط في التمتّع)، وظاهره قيام الإجماع عليه، بل قال فيها: (ولو اعتمر في أشهر الحَجّ ، ولم يحجّ في ذلك العام، بل حَجّ من العام المقبل - إلى أن قال - لأنّه لا يكون متمتّعاً، وهو قول عامّة العلماء).

واستدلّ له بوجوه:

1 - الإجماع.

وفيه: ما تكرّر منّا من أنّ الإجماع غير التعبّدي ليس بحجّة.

2 - قاعدة توقيفيّة العبادات ذكرها في «العروة»(4).

وفيه: أنّ توقيفتها لا تنافي البناء على عدم دخل شيء فيها جزءً أو شرطاً، للإطلاق أو الأصل.

3 - أصالة الاحتياط، للشكّ في أنّ العُمرة في سنة والحَجّ في سنةٍ أُخرى

ص: 252


1- الحدائق الناضرة: ج 14/356.
2- جواهر الكلام: ج 18/14.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/214.
4- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/614.

مجزيتان أم لا؟ والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة.

وفيه: أنّ المحقّق في محلّه أنّ الأصل عند الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيين هو البراءة لا الاحتياط، فلو شَكّ في اعتبار إيقاع النُسكين في سنةٍ واحدة وعدمه، فإنّ الأصل يقتضي العدم.

4 - النصوص الدالّة على دخول العُمرة في الحَجّ ، وارتباطها به:

منها: الخبر الذي تقدّم ذكره والمروي عن معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام عن افتراق المتمتّع والمعتمر، حيث قال عليه السلام: «إنّ المتمتّع مرتبط بالحَجّ والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء الحديث»(1).

ومنها: صحيح معاوية وغيره المتضمّن لبيان حَجّه صلى الله عليه و آله في حَجّة الوداع، وقد تقدّم، وفيه بعد بيان التمتّع: (ثمّ شبك صلى الله عليه و آله أصابعه بعضها إلى بعض، وقال: دخلت العُمرة بالحَجّ إلى يوم القيامة)(2). ونحوهما غيرهما.

وفيه: أنّه لا إشكال في أنّ المراد بالارتباط والدخول، ليس هو الاتّصال، ولذا لو أتى بالعُمرة في أوّل شوّال، ثمّ حَجّ في موقعه، يكون حَجّه تمتّعاً، فليكن الفصل بسنة أيضاً كذلك، بل المراد به وحدة النسكين، وأنّهما ليسا عملين مستقلّين بل كلّ منهما مرتبطٌ بالآخر.

5 - النصوص الدالّة على أنّ المعتمر بعمرة التمتّع مرتهنٌ بالحَجّ ومحتبس، لايجوز له الخروج عن مكّة ما لم يأتِ بالحَجّ ، كصحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام:

«كيف أتمتّع ؟ فقال: يأتي الوقت فيُلبّي بالحَجّ فإذا أتى مكّة طاف وسعى أحلَّ من كلّ 7.

ص: 253


1- الكافي: ج 4/535 ح 4، وسائل الشيعة: ج 14/311 ح 19286.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/454 ح 234، وسائل الشيعة: ج 11/213 ح 14647.

شيء، وهو محتبس، وليس له أن يخرج من مكّة حتّى يحجّ »(1). ونحوه غيره.

وفيه: أنّ عدم جواز الخروج أعمٌّ من إيقاع الحَجّ في تلك السنة، إذ له أن يجاور مكّة إلى القابل فيحجّ فيه.

ودعوى: أنّ المتبادر من عدم جواز الخروج قبل الحَجّ التتابع بين الأعمال.

مندفعة: بأنّه كما يلتزم مع الفصل بينهما بشهرين - كما لو اعتمر في شوّال - بالصحّة، كذلك مع الفصل بسنة.

6 - الأخبار المبيّنة لكيفيّة حَجّ التمتّع مطلقاً، أو مع خوف الحَجّ .

وفيه: أنّه لا إشكال في جواز إيقاعهما في سنة واحدة، ومن تلك النصوص لا يستفاد تعيّن ذلك زائداً على جوازه.

7 - الأخبار المتضمّنة للأفعال البيانيّة، فإنّه لم يرد خَبرٌ عن معصومٍ ، ولم يسمع أحد إتيان واحدٍ منهم بالتمتّع مفرّقاً بين النُسكين بسنة.

وفيه: إنّ عدم التفريق أعمٌّ من عدم جوازه ولزوم الاتّصال.

وأمّا ما رواه صاحب «المعتبر» عن سعيد بن المسيّب، أنّه كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعتمرون في أشهر الحَجّ ، فإذا لم يحجّوا من عامهم ذلك لم يهدوا»(2)، فيرد عليه أنّ عدم تمتعهم أعمٌّ من عدم جوازه.

8 - النصوص التي تدلّ على ذهاب المتعة بزوال يوم التروية، أو زوال يوم عرفة:

منها: صحيح عليّ بن يقطين، عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «عن الرّجل والمرأة6.

ص: 254


1- تهذيب الأحكام: ج 5/31 ح 22، وسائل الشيعة: ج 11/254 ح 14725.
2- سنن البيهقي: ج 4/356.

يتمتّعان بالعُمرة إلى الحَجّ ، ثمّ يدخلان مكّة يوم عرفة، كيف يصنعان ؟ قال: يجعلانها حَجّة مفردة، وحَدّ المتعة إلى يوم التروية»(1).

ومنها: خبر إسحاق بن عبد اللّه، عن أبي الحسن عليه السلام: «المتمتّع إذا قدم ليلة عرفة فليس له متعة، يجعلها حَجّة مفردة، إنّما المتعة إلى يوم التروية»(2).

ونحوهما غيرهما من النصوص الكثيرة الآتية في المسألة اللّاحقة.

وتقريب الاستدلال بها على ما في «المستند»(3): (أنّه لو لم يعتبر في المتعة اتّحاد سنة النسكين، لم يصحّ ذلك النفي والحكم بالذهاب والأمر بالعدول على الإطلاق، بل مطلقاً، والتقيّيد بمن أراد الحَجّ في سنة العُمرة أو من لم يتمكّن من البقاء إلى عامٍ آخر تقيّيد بلا دليل) انتهى .

وفيه: إنّ هذه النصوص في مقام بيان جواز العدول من التمتّع إلى الإفراد، ومتضمّنة لبيان حَدّ ذلك، وأنّه يجوز في ذلك الحَدّ، وليست في مقام بيان بطلان المتعة.

وربما يُقال: إنّ خبر سعيد الأعرج، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من تمتّع في أشهر الحَجّ ، ثمّ أقام بمكّة حتّى يحضر الحَجّ من قابل فعليه شاة»(4)، يدلّ على عدم اعتبار ذلك، فإنّه يدلّ على أنّ من أتى بالعُمرة في وقتها ثمّ أقام بمكّة وحَجّ في السنة اللّاحقة فعليه شاة، أي عليه حجّة تمتّع، إذ المراد من الشاة الهَدْي.

وفيه: أنّه لم يذكر الموصوف بقابل، ولعلّه الشهر، ومع الإطلاق يُقيّد بما تقدّم4.

ص: 255


1- تهذيب الأحكام: ج 5/173 ح 28، وسائل الشيعة: ج 11/299 ح 14855.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/173 ح 26، وسائل الشيعة: ج 11/298 ح 14853.
3- مستند الشيعة: ج 11/247.
4- الكافي: ج 4/487 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/270 ح 14764.

إنْ تمّ دلالته، ولكن قد عرفت ضعف الجميع، ومقتضى الأصل عدم الاعتبار، إلّا أنّه من جهة تسالم الأصحاب، وتراكم الظنون الحاصلة من النصوص المشار إليها، لو لم نفت بعدم جواز إيقاعهما في سنتين، فلا نتأمّل في وجوب الاحتياط، وعلى ذلك فما عن «الدروس»(1) من احتمال الصحّة لو بقي بعد العُمرة في مكّة وعلى إحرام عمرته قوي، إذ لا يظهر تسالمٌ من الأصحاب على عدم الجواز فيه.

والمراد من كونهما في سنة واحدة، هو أن يوقعا في أشهر الحَجّ من سنةٍ واحدة، لا أن لا يكون بينهما أزيد من سنة، بحيث لو أتى بالعُمرة في آخر ذي الحجّة صحّ منه أن يأتي بحجّه في السنة اللّاحقة وهو واضح.

***9.

ص: 256


1- الدروس: ج 1/339.

وإنشاء إحرام الحَجّ من مكّة.

اعتبار كون إحرام الحَجّ من مكّة

(و) الرابع من الشرائط: (إنشاء إحرام الحَجّ من مكّة) بلا خلاف.

وفي «التذكرة»(1): (ذهب إليه علماؤنا).

وفي «المنتهى »(2): (ذهب إليه علماؤنا، ولا نعرف فيه خلافاً إلّافي رواية عن أحمد) انتهى .

وفي «الحدائق»(3): (قد أجمع علماؤنا كافّة على أنّ ميقات حَجّ التمتّع مكّة).

وما قاله صاحب «الشرائع»(4): (ولو أحرم بحَجّ التمتّع من غير مكّة لم يجزه، ولو دخل مكّة على الأشبه)، قد يوهم وقوع الخلاف فيه، إلّاأنّ الشهيد الثاني رحمه الله في محكي «المسالك»(5) نقل عن شارح تردّدات الكتاب(6) أنّه أنكر ذلك، ونقل عن شيخه أنّ المحقّق قد يشير في كتابه إلى خلاف الجمهور، وإلى ما يختاره من غير أن يكون خلافه مذهباً لأحدٍ من الأصحاب، فيظنّ أن فيه خلافاً.

أقول: وكيف كان، فيشهد للحكم نصوص:

منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في القاطنين بمكّة: «إذا أقاموا شهراً،

ص: 257


1- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/193.
2- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/667.
3- الحدائق الناضرة: ج 14/359.
4- شرائع الإسلام: ج 1/174.
5- مسالك الأفهام: ج 2/197.
6- إيضاح تردّدات الشرائع: ج 1/158.

فإنّ لهم أن يتمتّعوا؟ قلت: من أين ؟ قال عليه السلام: يخرجون من الحرم. قلت: من أين يهلّون بالحَجّ؟ فقال: من مكّة نحواً ممّا يقول النّاس»(1). ومثله خبر حمّاد(2).

ودعوى: أنّ ذيلهما يوجبُ الإشكال في دلالتهما، كما ترى .

ومنها: صحيح عمرو بن حُريث الصيرفي، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: من أين أهلُّ بالحَجّ؟ فقال عليه السلام: إنْ شئت مِنْ رحلك، وإنْ شئت من الكعبة، وإنْ شئت من الطريق»(3). فتأمّل.

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «إذا كان يوم الترويه إنْ شاء اللّه تعالى فاغتسل، ثمّ البس ثوبيك، وادخل المسجد حافياً - إلى أن قال - فأحرم بالحَجّ »(4).

ونحوه غيره.

أقول: واشتمال هذه النصوص على كثيرٍ من المستحبّات، لا ينافي ظهورها في الوجوب بالنسبة إلى الإحرام من مكّة، الذي لم يدلّ دليلٌ على عدم لزومه.

ولا يعارض هذه النصوص خبر اسحاق عن أبي الحسن عليه السلام: «عن المتمتّع يجيء فيقضي متعته، ثمّ تبدو له الحاجة، فيخرج إلى المدينة، وإلى ذات عرق أو إلى بعض المعادن ؟ قال عليه السلام: يرجع إلى مكّة إنْ كان في غير الشهر الذي تمتّع فيه، لأنّ لكلّ شهرٍ عمرة، وهو مرتهن بالحَجّ . قلت: فإنّه دخل في الشهر الذي خرج فيه، قال عليه السلام: كان أبي مجاوراً ها هنا فخرج يتلقّى بعض هؤلاء، فلمّا رجع فبلغ ذات عِرق أحرم من ذات عِرق بالحَجّ ، ودخل محرم بالحَجّ »(5).8.

ص: 258


1- تهذيب الأحكام: ج 5/35 ح 32، وسائل الشيعة: ج 11/266 ح 14757.
2- الكافي: ج 4/300 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/268 ح 14761.
3- الكافي: ج 4/455 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/339 ح 14964.
4- الكافي: ج 4/454 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/339 ح 14963.
5- الكافي: ج 4/442 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/303 ح 14868.

لا لما أفاده في محكي «كشف اللّثام»(1) من أنّه عليه السلام أحرم مفرداً لا متمتّعاً، إذ يرد عليه أنّه لا يناسب مع السؤال الذي هو عن المتمتّع.

ولا من جهة حمله على التقيّة، إذ لا يناسب ذلك مع التعبير عن المخالفين بما هو ظاهرٌ في التوهين.

ولا من جهة أنّه عليه السلام جدّد الإحرام من مكّة من جهة كونه مخالفاً للإطلاق وعدم البيان.

ولا لما في «العروة»(2) من أنّ المراد بالحَجّ عمرته، حيث أنّها أوّل أعماله، إذ الخبر ظاهر في أنّ الإحرام كان بالحَجّ مقابل العُمرة، ولو تأمّلت فيه وجدته كالصريح ولو بمؤونة ما فيه من التعليل في ذلك.

بل من جهة خصوصيّة المورد، فإنْ أمكن تقيّيد ما تقدّم من النصوص به فيقيّد، وإلّا فيطرح لعدم العمل به.

أقول: وأمّا خبر يونس بن يعقوب: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: من أيّ المسجد أحرم يوم التروية ؟ فقال عليه السلام: من أيّ المسجد شئت»(3)، المتوهم كونه معارضاً لما تقدّم، فظاهره أنّ السؤال عن الإحرام من أيّ الموضع من المسجد الحرام لا أيّ مسجدٍ من مساجد مكّة وخارجها.

فتحصّل: أنّ الأظهر اعتبار كون الإحرام من مكّة، نعم يتخيّر في الإحرام من أيّ موضعٍ منها كان، لإطلاق النصوص، ولصحيح عمرو بن حريث المتقدّم الوارد فيه قوله عليه السلام: (إنْ شئت من رحلك، وإنْ شئت من الكعبة، وإنْ شئت من الطريق)5.

ص: 259


1- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/306-307.
2- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/615.
3- الكافي: ج 4/455 ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/340 ح 14965.

أي سكك مكّة، وأفضل مواضعها المسجد، للإجماع، ولكونه أشرف الأماكن، ولاستحباب كون الإحرام بعد الصلاة التي هي في المسجد أفضل.

أقول: وأفضل مواضع المسجد: المقام أو الحِجْر مخيّراً بينهما، كما عن «الهداية»(1)، و «الفقيه»(2)، و «النافع»(3)، و «المدارك»(4) لصحيح معاوية المتقدّم، المتضمّن للأمر بصلاة ركعتين عند مقام إبراهيم، أو في الحجر، والقعود إلى أن تزول الشمس، ثمّ الإحرام من مكانه.

والمحكيّ عن المصنّف(3) في جملةٍ من كتبه، وكذا المحقّق(6) والشهيد(4) وغيرهم(5)

التخيّير بين المقام وتحت الميزاب الذي هو بعض من الحِجْر، ولم أظفر بدليله بالخصوص.

ولو أحرم بحَجّ التمتّع اختياراً من غير مكّة، لم يُجزئ عنه، وكان عليه العود إلى مكّة لإنشاء الإحرام، كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، كما عن «المدارك»(9)و «الذخيرة»(6) وغيرهما، بل عليه الإجماع كما عن «المنتهى »(7)، و «التذكرة»(8)، لتوقّف الواجب عليه، ولا يكفي دخولها مُحْرِماً.3.

ص: 260


1- الهداية: ص 60.
2- الفقيه: ج 2/207. (3و6) المختصر النافع: ص 79. (4و9) مدارك الأحكام: ج 7/169 و 171.
3- تحرير الأحكام: ج 1/94، منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/668، تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/194، قواعدالأحكام: ج 1/85.
4- الدروس: ج 1/341.
5- الكافي في الفقه: ص 212، الغنية: ص 579، الجامع للشرايع: ص 179.
6- ذخيرة المعاد: ج 3/572.
7- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/667.
8- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/193.

ولو نسى الإحرام منها، فإنْ أمكن أن يعود عاد إليها، وأنشأ الإحرام منها، وإن تعذّر ذلك، ولو لضيق الوقت، أحرم من موضعه ولو كان بعرفات، كما صرّح به جماعة، ويشهد به:

صحيح علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام: «عن رجلٍ نسي الإحرام بالحَجّ فذكر وهو بعرفات ما حاله ؟ قال: يقول: (اللّهُمَّ على كتابك وسنّة نَبيّك) فقد تمّ إحرامه، فإنْ جهل أن يحرم يوم التروية بالحَجّ حتّى رجع إلى بلده إنْ كان قضى مناسكه كلّها فقد تمّ حجّه»(1).

ولا فرق في ذلك بين ترك الإحرام رأساً، أو الإتيان به من غيرها، خلافاً للشيخ في محكي «الخلاف»(2)، وعن «التذكرة»(3) و «كشف اللّثام»(4) حيث التزموا بالإجزاء بالإحرام من غيرها مع تعذّر العود إليها، واستدلّوا له بالأصل ومساواة ما فعله لما يستأنف في الكون من غير مكّة وفي العذر، لأنّ النسيان عذر.

ولكن يرد على الأصل: أنّه يقتضي الفساد لا الصحّة، فإنّ إجزاء غير المأمور به عن الأمر خلاف الأصل، وقد دلّ الدليل عليه مع استئناف الإحرام، وبدونه يبقى على مقتضى الأصل، ودعوى المساواة ليست إلّاالقياس.

نعم، لا يبعد القول بالاكتفاء بالإحرام المصادف للعذر واقعاً، كما لو نسي وأحرم من موضعٍ يتعذّر عليه العود إلي مكّة منه حين الإحرام، لمصادفة الأمر به واقعاً.1.

ص: 261


1- تهذيب الأحكام: ج 5/175 ح 32، وسائل الشيعة: ج 11/330 ح 14938.
2- الخلاف: ج 2/284.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/194.
4- كشف اللّثام (ط. ج): ج 6/51.

فرع: ولو ترك الإحرام منها جهلاً فذكره وهو بعرفات، فهل يلحق بنسيانه أم لا؟ وجهان:

أظهرهما الإلحاق، لفحوى ما دلّ على الإحرام من موضعه لو جهل الإحرام من المواقيت الاُخر، كما في موثّق زرارة(1)، وغيره.

بل يمكن الاستدلال بعموم العلّه في الموثّق، إذ فيه بعد السؤال عن إمرأةٍ تركت الإحرام جهلاً حتّى قدمت مكّة ؟ قال عليه السلام: «تحرم من مكانها قد علم اللّه نيّتها».

لا يقال: إنّ ذيل صحيح علي المتقدّم في خصوص الجهل، يدلّ على كونه عذراً، فلا حاجة إلى هذه التكلّفات.

فإنّه يقال: الظاهر - كما فهمه الأصحاب - أنّ المراد به بقرينة الصدور وبقرينة قوله: (حتّى يرجع إلى بلاده) هو النسيان، ولذا استدلّوا به لما ذهب إليه الشيخ في طائفةٍ من كتبه، وابن حمزة من صحّة حَجّ من نسى الإحرام بالحَجّ حتّي رجع إلي بلاده.

وأورد عليهم الحِلّي(2): بأنّه خبرٌ واحد لا يُعتمد عليه.

وبالجملة: بما ذكرناه ظهر أنّه لا يبعد التعدّي عن النسيان إلى كلّ عذرٍ، لعموم العلّة، ولإلغاء الخصوصيّة.

***4.

ص: 262


1- الكافي: ج 4/324 ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/330 ح 14936.
2- راجع السرائر: ج 1/584.

اعتبار كون النسكين من واحدٍ عن واحد

أقول: ظاهر الأصحاب أنّه لا يعتبر في حَجّ التمتّع غير هذه الشرائط الأربعة، لكن صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) بعد اعترافه بذلك، نقل عن بعض الشافعية اعتبار أمرٍ آخر فيه، وهو كون مجموع عمرته وحَجّه من واحد عن واحد، فلو حَجّ اثنان عن ميّتٍ ، أحدهما أتى بعمرته والآخر بحجّه، لم يُجزئ عنه، كما أنّه لو حَجّ شخصٌ واحد ولكن جعل عمرته عن شخصٍ وحَجّه عن شخص آخر، لم يصحّ ، وقد توقّف فيه صاحب «الجواهر» نفسه، بل رجَّح عدم اعتبار ذلك.

وأمّا سيّد «العروة»(2) فقد تأمّل فيه، ثمّ استظهر من خبر محمّد بن مسلم صحّة نيابة شخص واحدٍ في العملين عن شخصين.

والحقّ أن يقال: إنّه لا ريب في وحدة العمل في حَجّ التمتّع، وأنّ الحَجّ والعُمرة مرتبطان، وليسا واجبين مستقلّين، ولكن لم يقم دليلٌ على عدم جواز نيابة شخصين عن واحد في هذا العمل الوحداني، بأن يأتي ببعضه واحد وبالآخر غيره، وقياسه بإتيان شخصين لصلاةٍ واحدة قياسٌ مع الفارق.

ولكن حيث ثبت أنّ النيابة على خلاف الأصل، ففي كلّ مورد دلّ الدليل على جوازها نلتزم به، وفي غير ذلك المرجع هو الأصل، وحيث لا دليل يدلّ ولو بإطلاقه على جواز مثل هذه النيابة فالأظهر عدم جوازها.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يستدلّ : لذلك بخبر جابر، عن أبي جعفر عليه السلام: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

ص: 263


1- جواهر الكلام: ج 18/20.
2- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/616.

من وصل قريباً بحجّة أو عمرة كَتَب اللّه له حَجّتين وعمرتين»(1).

فإنّ إطلاقه يشمل العُمرة المفردة، والعُمرة المتمتّع بها، وكذلك الحجّة، وعليه فتجوز جميع هذه الاُمور.

وأمّا خبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن رجلٍ يحجّ عن أبيه أيتمتّع ؟ قال: نعم المتعة له، والحَجّ عن أبيه»(2).

وقد أُورد على الاستدلال به للجواز في المقام: بأنّه مجملٌ :

1 - يحتمل أن يكون المراد به أنّه يحجّ التمتّع عن أبيه.

2 - ويحتمل أن يكون المراد أنّه يتمتّع لنفسه زائداً على عمرته عن أبيه.

3 - ويحتمل أن يكون المراد به أنّه يعتمر عن أبيه ويحجّ عن نفسه، والاستدلال يتوقّف على ثبوت الأخير.

أضف إلى ذلك: أنّه يحتمل أن يكون المراد إهداء الثواب دون النيابة في خصوص الحَجّ ، بأن يكون متعته له وحجّه عن أبيه، حيث لم يرد تفصيلٌ في الحديث بين الحَجّ الواجب والمستحبّ ، ومن المعلوم أنّه لو فرض وجوب الحَجّ على أبيه لم تبرأ ذمّته بذلك قطعاً، إذ لو كانت ذمّته مشغولة بحَجّ الإفراد، يكون ما قد قام به من حَجّ التمتّع وإنْ كانت مشغولة بحَجّ التمتّع، لكنّه فاقد لعمرته.

أقول: الجواب يعيّن الأخير، ويدلّ على وقوع العُمرة عن نفسه، والحَجّ عن أبيه، وأمّا احتمال كونه من باب إهداء الثواب، فهو خلاف ظاهر قوله في السؤال:

(يحجّ عن أبيه).1.

ص: 264


1- الكافي: ج 4/10 ح 1، وسائل الشيعة: ج 9/412 ح 12356.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2/446 ح 2932، وسائل الشيعة: ج 11/201 ح 14621.

وعدم كونه مُبرّءاً لذمّة الميّت لا ينافي ذلك، لعدم كون السؤال والجواب في مقام بيان فراغ الذمّة.

وما أفاده بعض الأعاظم(1) من أنّه علي تقدير الظهور لامجال للأخذ به فى مقابل النصوص الدالّة على الارتباط، قد عرفت جوابه، وأنّه لا ينافي الارتباطيّة، والذي يوقفنا ويمنعنا عن الإفتاء عدم ثبوت عمل الأصحاب بالخبر، والاحتياط حسن.

***7.

ص: 265


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 11/207.

خروج المُعتمر عن مكّة قبل الحَجّ

مسألة: في الخروج من مكّة بعد الإحلال من عمرة التمتّع، وقبل القيام بأعمال الحجّ أقوال:

القول الأوّل: ما نُسب إلى المشهور(1) من عدم جواز الخروج إلّاأن يحرم بالحَجّ ، فيخرج مُحرِماً به، وإن خرج مُحلّاً ورجع بعد شهرٍ فعليه أن يَحرم بالعُمرة.

القول الثاني: ما في «المنتهى »(2)، و «التذكرة»(3)، و «العروة»(4)، وعن «السرائر»(5)، و «النافع»(6)، وموضعٍ من «التحرير»(7)، وظاهر «التهذيب»(8)وموضعٍ من «النهاية»(9) و «المبسوط»(10) من عدم حرمة الخروج، وجوازه مُحِلّاً على كراهية.

القول الثالث: حرمة الخروج ما لم يتمّ الحَجّ وإنْ أحرم به.

القول الرابع: عدم جواز الخروج قبل أن يتمّ حجّه مع عدم الحاجة، وجوازه بعد أن يحرم به معها، وهناك وجوهٌ اُخر ستطّلع عليها.

ص: 266


1- حكى الشهرة في العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/617.
2- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/877.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 8/241.
4- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/617.
5- السرائر: ج 1/633-634.
6- المختصر النافع: ص 99.
7- تحرير الأحكام: ج 1/598، مسألة 2068 (ط. ق) الثامن: (يكره للمتمتّع أن يخرج من مكّة بعد عمرته.. الخ).
8- تهذيب الأحكام: ج 5/166.
9- النهاية: ص 246.
10- المبسوط: ج 1/363.

أقول: ومنشأ الاختلاف كالعادة من اختلاف النصوص، وهي على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على المنع من الخروج مطلقاً:

منها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «قلت له: كيف أتمتّع ؟ فقال عليه السلام: يأتي الوقت فيلبّى بالحَجّ ، فإذا أتى مكّة طاف وسعى وأحَلّ من كلّ شيء، وهو محتبسٌ وليس له أن يخرج من مكّة حتّى يحجّ »(1).

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديثٍ ، قال عليه السلام: «تمتّع فهو واللّه أفضل، ثمّ قال: إنّ أهل مكّة يقولون: إنّ عمرته عراقيّة وحجّته مكيّة.

وكذبوا، أو ليس هو مرتبطاً بحجّه لا يخرج حتّى يقضيه»(2).

ونحوهما غيرهما.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على عدم جواز الخروج قبل الإحرام، وبعده يجوز إلى ما يقرب مكّة:

منها: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام: «عن رجلٍ قدم متمتّعاً ثمّ أحلّ قبل يوم التروية ألَهُ الخروج ؟ قال عليه السلام: لا يخرج حتّى يحرم بالحَجّ ، ولا يجاوز الطائف وشبهها»(3).

ومنها: خبره الآخر، قال: «وسألته عن رجل قدم مكّة متمتّعاً، فأحلّ أيرجع ؟ قال عليه السلام: لا يرجع حتّى يحرم بالحَجّ ، ولا يجاوز الطائف وشبهها، مخافة أن لا يُدرك الحَجّ ، فإنْ أحبّ أن يرجع إلى مكّة رجع، وإنْ خاف أن يفوته الحَجّ مضى على6.

ص: 267


1- تهذيب الأحكام: ج 5/31 ح 22، وسائل الشيعة: ج 11/254 ح 14725.
2- الكافي: ج 4/293 ح 15، وسائل الشيعة: ج 11/301 ح 14862.
3- وسائل الشيعة: ج 11/304 ح 14871، قرب الإسناد: ص 106.

وجهه إلى عرفات»(1).

الطائفة الثالثة: ما يكون ظاهراً في كراهة الخروج إلى الطائف وما شابهها بدون الإحرام، وعدم جواز الخروج إلى مسافة بعيدة:

منها: صحيح الحلبي أو حسنه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجل يتمتّع بالعُمرة إلى الحَجّ ، يريد الخروج إلى الطائف ؟ قال: يهلّ بالحَجّ من مكّة، وما أحبُّ أن يخرج منها إلّامُحرِماً، ولا يتجاوز الطائف إنّها قريبة من مكّة»(2).

الطائفة الرابعة: ما يدلّ على جواز الخروج مع الإحرام بالحَجّ ، إذا كان له حاجة:

منها: صحيح حمّاد بن عيسى أو حسنه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من دخل مكّة متمتّعاً في أشهر الحَجّ ، لم يكن له أن يخرج حتّى يقضى الحَجّ ، فإنْ عرضت له حاجة إلى عسفان أو إلى الطائف أو إلى ذات عِرق، خرج مُحرماً ودخل مُلبّياً بالحَجّ ، فلا يزال على إحرامهم، فإنْ رجع إلى مكّة رجع مُحرماً ولم يقرب البيت حتّى يخرج مع النّاس إلى منى .

قلت: فإن جهل فخرج إلى المدينة، أو إلى نحوها بغير إحرامٍ ، ثمّ رجع في أبان الحَجّ في أشهر الحَجّ يريد الحَجّ ، فيدخلها مُحرماً أو بغير إحرام ؟

قال عليه السلام: إنْ رجع في شهره دخل بغير إحرام، وإنْ دخل في غير الشهر دخل مُحرِماً. قلت: فأيّ الإحرامين والمتعتين، متعة الأُولى أو الأخيرة ؟

قال: الأخيرة هي عمرته، وهي المحتبس بها التي وصلت بحجّته.7.

ص: 268


1- وسائل الشيعة: ج 11/305 ح 14872، قرب الإسناد: ص 107.
2- الكافي: ج 4/443 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/303 ح 14867.

قلت: فما فرق بين المفردة وبين عمرة المتعة إذا دخل في أشهر الحَجّ؟ قال: أحرم بالحَجّ وهو ينوي العُمرة، ثمّ أحلّ منها، وليس عليه دم، ولم يكن محتبساً، لأنّه لا يكون ينوي الحَجّ »(1).

ومنها: خبر حفص بن البختري، عن الصادق عليه السلام: «في رجلٍ قضى متعته وعرضت له حاجة، أراد أن يمضي إليها؟ قال: فقال: فليغتسل للإحرام وليهلّ بالحَجّ وليمض في حاجته، فإنْ لم يقدر على الرجوع إلى مكّة مضى إلى عرفات»(2).

ومنها: مرسل أبان بن عثمان، عنه عليه السلام: «المتمتّع محتبسٌ لا يخرج من مكّة حتّى يخرج إلى الحَجّ ، إلّاأن يأبق غلامه، أو تضلّ راحلته، فيخرج مُحرماً ولا يجاوز إلّا على قدر ما لا تفوته عرفة»(3).

الطائفة الخامسة: ما يدلّ على أنّه يجوز الخروج بغير إحرام حتّى إلى مسافة بعيدة، إذا علم أنّه لا يفوته الحَجّ :

منها: مرسل الفقيه، قال الصادق عليه السلام: «إذا أراد المتمتّع الخروج من مكّة إلى بعض المواضع، فليس له ذلك لأنّه مرتبطٌ بالحَجّ حتّى يقضيه، إلّاأن يعلم أنّه لا يفوته الحَجّ ، وإنْ علم وخرج وعاد في الشهر الذي خرج، دخل مكّة مُحِلّاً وإن دخلها في غير ذلك الشهر دخلها مُحرِماً»(4).

وأمّا الجمع بين النصوص: فقد يقال بأنّه يقتضي البناء على الكراهة، بقرينة0.

ص: 269


1- الكافي: ج 4/441 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/302 ح 14866.
2- الكافي: ج 4/443 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/302 ح 14864.
3- وسائل الشيعة: ج 11/304 ح 14869.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 2/378 ح 2752، وسائل الشيعة: ج 11/304 ح 14870.

قوله عليه السلام في صحيح الحلبي: (وما أحبُّ أن يخرج منها إلّامُحرِماً)، وفي «الجواهر»(1):

(وهو لا يخلو عن وجه).

ولكن يرد عليه: أنّه صرّح فيه في خصوص الخروج إلى المسافة القريبة، والمسافة البعيدة بعدم التجاوز.

قال صاحب «العروة»(2): (بأنّ المنساق من جميع الأخبار المانعة، أنّ ذلك للتحفّظ عن عدم إدراك الحَجّ وفوته، لكون الخروج في معرض ذلك، وعلى هذا فيمكن دعوى عدم الكراهة أيضاً مع علمه بعدم فوات الحَجّ منه) انتهى .

وفيه أوّلاً: أنّ في خبر أبان أمرٌ بأن يحرم بالحَجّ ، ويخرج ولايجاوز مايفوته عرفة.

وثانياً: أنّه لا يُلائم مع الجمل المتتابعة المتضمّنة للمنع من الخروج إلّا للضرورة، وأنّه على تقدير الضرورة والحاجة لا يخرج مُحِلّاً.

والحقّ أن يُقال: إنّ الجمع بين النصوص يقتضي البناء على عدم جواز الخروج إلّا في موردين:

أحدهما: الخروج إلى ما يقرب من مكّة كالطائف، فإنّه يجوز الخروج إليه حتّى بدون الإحرام، ومع كراهة فيه، وذلك لأنّ الطائفة الثانية تخصّص الطائفة الأُولى، وهي وإنْ تضمّنت الخروج مُحرِماً، إلّاأنّ الطائفة الثالثة بقرينة تضمّنها قوله عليه السلام: (ما أحبُّ ) توجبُ حمل النهي عن الخروج بغير الإحرام في الثانية على الكراهة.

ثانيهما: ما إذا عرضت له حاجة، فإنّه يجوز أن يخرج منها مُحرِماً على قدر لا يفوته عرفة، فإنّ الطائفة الرابعة التي هي أخصّ من الأُولى تقتضي ذلك،8.

ص: 270


1- جواهر الكلام: ج 18/26.
2- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/618.

فتخصّص الأُولى بها.

لا يُقال: إنّ الطائفة الخامسة تدلّ على جواز الخروج بدون الإحرام مع عدم الحاجة أيضاً إذا علم بأنّه لا يفوته الحَجّ .

فإنّه يُقال: إنّ الطائفة الرابعة الدالّة على عدم جواز الخروج بدون الحاجة، وجوازه مُحرماً معها، موردها صورة العلم بعدم فوت الحَجّ ، فإنّه بعد الأمر بالخروج مُحرماً في صورة الحاجة، قال: (فإن رجع إلى مكّة رجع مُحرِماً، ولم يقرب البيت حتّى يخرج مع النّاس إلى منى )، فما فيها من المفهوم، وهو عدم جواز الخروج بدون القيدين - أي الحاجة والإحلال - يوجب تقيّيد هذه الطائفة أيضاً.

وأمّا ما أورد على مرسل الصدوق: بأنّه ضعيفٌ للإرسال.

فيرد عليه: ما تكرّر منّا بأنّ المرسل على قسمين؛ قسمٌ يُعبّر فيه بمثل: (رُوي عن الصادق عليه السلام) مثلاً، وقسمٌ يعبّر فيه بمثل: (قال الصادق عليه السلام).

وبعبارة أُخرى : قسمٌ يسند فيه الخبر إلى المعصوم جزماً، وقسمٌ لا يسنده إليه، والذي لا يكون حجّة إذا كان الراوي ثقة هو القسم الأوّل، وأمّا القسم الثاني الذي يُنسب فيه الخبر إلى المعصوم جزماً فهو حجّة، فإنّ من إسناد الخبر إليه يُستكشف كون الواسطة كان ثقة عنده، وثبت لديه صدوره من المعصوم، وإلّا لزم الكذب.

ودعوى: أنّه لعلّ ثبوت ذلك كان مستنداً إلى مقدّمات حدسيّة اجتهاديّة لا يُعتمد عليها.

يدفعها: أنّه إذا علمنا اتّحاد مسلك الراوي معنا في ما هو ضابط حجيّة الخبر، لا يعتنى بمثل هذه الاحتمالات البعيدة، كما لا يخفى .

ص: 271

تنبيهات خروج المعتمر

التنبيه الأوّل: المراد بالحاجة الموجبة لجواز الخروج، هي الحاجة العادية، لا خصوص الحاجة الضروريّة الموجب فوتها العُسر والحَرَج، لإطلاق صحيح حمّاد وخبر حفص.

وأمّا مرسل أبان الظاهر في أنّ الحاجة المسوّغة، هي ما كان من قبيل أن يأبق غلامه، أو أن تضلّ راحلته، فمضافاً إلى ضعف سنده، لا يصلح للتقيّيد، إذ منطوقه أعمّ من صحيح حمّاد وخبر حفص، فيخصّص بهما، ومفهومه معهما من قبيل المتوافقين، لا يحمل المطلق على المقيّد فيهما، كما هو واضح.

التنبيه الثاني: لو خرج المعتمر من مكّة مُحِلّاً - إمّا في مورد جوازه أو للضرورة أو جهلاً - فهل يجبُ عليه الإحرام لدخول مكّة بعمرة أُخرى أو لا يجب ذلك ؟

ذهب سيّد «العروة»(1) إلى الثاني، واستدلّ له:

1 - بأنّ ظاهر النصوص الآمرة بالعُمرة إذا دخلها بعد الشهر الذي خرج فيه، أنّه من جهة أنّ لكلّ شهرٍ عُمرة، ومعلوم أنّ العُمرة التي هي وظفية كلّ شهر ليست واجبة.

2 - وبخبر إسحاق بن عمّار، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن المتمتّع يجيء فيقضي متعة، ثمّ تبدو له الحاجة فيخرج إلى المدينة أو إلى ذات عِرق أو إلى بعض المعادن ؟ قال عليه السلام: يرجع إلى مكّة بعمرة إنْ كان في غير الشهر الذي تمتّع فيه، لأنّ لكلّ شهرٍ عمرة، وهو مرتهن بالحَجّ (2)... إلى آخره».

ص: 272


1- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/618-619.
2- الكافي: ج 4/442 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/303 ح 14868.

فإنّه صريح في أنّ علّة الأمر بالعُمرة، هي أن لكلّ شهرٍ عمرة، فالمأمور به هو الوظيفة المستحبّة المتوجّهة إلى كلّ أحد.

ولكن يرد عليه: ما تنبّه إليه قدس سره من أنّ صحيح حمّاد وغيره الآمرة بالعُمرة، إنّما تدلّ على أنّ المدار على الدخول في شهر الخروج أو بعده، ومعلومٌ أنّ شهر الخروج قد لا يكون شهر الاعتمار، ولا وجه للحمل على الغالب من كون الخروج بعد الاعتمار بلا فصل. مضافاً إلى منع الغلبة.

وعليه، فمورد التعليل غير مورد النصوص، فلا يصلح للحكومة عليها.

فالجمع بين خبر إسحاق وما تقدّم، يقتضي أن يقال إنّ هناك جهتين:

إحداهما: مقتضية لاستحباب العُمرة، وهي ما لو دخل بعد شهر التمتّع.

ثانيتهما: مقتضية لوجوبها، وهي ما لو دخل بعد شهر الخروج، فلو دخل بعد شهر الخروج وشهر التمتّع، يجتمع الجهتان فيبني على الوجوب، مضافاً إلى محبوبيّتها من جهةٍ أُخرى أيضاً.

فالمتحصّل: أنّه يجبُ الإحرام للعمرة إذا دخلها بعد شهر الخروج، وبذلك يرتفع نزاعٌ آخر، وهو أنّه هل المدار على شهر الخروج أو على شهر التمتّع ؟

وقد أطال صاحب «الجواهر» رحمه الله - في آخر مباحث الإحرام في حكم دخول مكّة - الكلام في ذلك، واستشهد لكون المدار على شهر الخروج بالنصوص المتقدّمة، وأيّده بكلمات الأساطين في «المقنعة» و «النافع» و «الذخيرة» وغيرها، وأشكل عليه الأمر في خبر إسحاق، وطعن فيه بالإجمال(1).

ولكن على ما بيّناه لا مورد لهذا النزاع أصلاً، فإنّ المدار في استحباب العُمرة9.

ص: 273


1- جواهر الكلام: ج 18/24-29.

شهر التمتّع، وفي وجوبها شهر الخروج، واللّه العالم.

التنبيه الثالث: لو دخل في الشهر الذي خرج فيه، دخلها مُحلّاً كما صرّح بذلك في النصوص المتقدّمة، وأفتى به الأصحاب، فهل يجوز أن يحرم من الميقات بالحَجّ؟ وجهان:

يشهد للجواز ما في ذيل خبر إسحاق المتقدّم: «قلتُ : فإنّه دخل في الشهر الذي خرج فيه ؟ قال عليه السلام: كان أبي مجاوراً هاهنا فخرج يتلقّى بعض هؤلاء، فلمّا رجع بلغ ذات عِرق أحرم من ذات عِرق بالحَجّ ، ودخل وهو محرم بالحَجّ ».

قال المصنّف في محكي «التذكرة»:(1) بعد البحث في المسألة:

(إذا عرفت هذا، فلو خرج من مكّة بغير إحرام، وعاد في الشهر الذي خرج فيه، استحبّ أن يدخلها مُحرماً بالحَجّ ، ويجوز له أن يدخلها بغير إحرام على ما تقدّم، روى الشيخ في الصحيح عن إسحاق بن عمّار... ثمّ ساق الحديث إلى آخره كما تقدّم، ثمّ قال: هذا قول الشيخ رحمه الله واستدلاله، وفيه إشكال: إذ قد بيّنا أنّه لا يجوز إحرام الحَجّ للمتمتّع إلّامن مكّة) انتهى .

وقال صاحب «الدروس»(2): (ولو رجع في شهره دخلها مُحلّاً، فإنْ أحرم فيه من الميقات بالحَجّ ، فالمروي عن الصادق عليه السلام: أنّه فعله من ذات عِرق، وكان قد خرج من مكّة إليها) انتهى .

ويشهد للمنع: ما دلّ على أنّ إحرام حَجّ التمتّع لا يجوز إلّامن مكّة، وأفتى بذلك الأصحاب.5.

ص: 274


1- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/152.
2- الدروس: ج 1/335.

ولكن لولا عدم إفتاء الأصحاب، لكنّا ملتزمين بتخصيص تلك الأدلّة بمصحّح إسحاق لكونه أخصّ منها.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يُقال: إنّ فعل الصادق عليه السلام كان هو الإحرام بالعُمرة المتمتّع بها لا الإحرام بالحَجّ .

توضيحه: أنّه عليه السلام بعدما حكم باستحباب العُمرة لمن دخلها في غير الشهر الذي تمتّع فيه، سأله الراوي: (قلت: فإنّه دخل في الشهر... إلى آخره) فإنّ ظاهر السؤال عن أنّه هل العُمرة مستحبّة حتّى ولو كان دخوله في الشهر الذي خرج فيه ؟ والإمام عليه السلام في مقام الجواب عن ذلك اكتفى بنقل فعل الصادق عليه السلام وقوله:

(أحرم من ذات عِرق بالحَجّ ) أي حَجّ التمتّع، وعليه فلا ينافي المصحّح النصوص الدالّة على أنّ إحرام حَجّ التمتّع لابدّ وأن يكون من مكّة، فتدبّر فإنّه حقيق به.

التنبيه الرابع: إذا دخل مكّة بعد شهرٍ بإحرام، فهل عمرة التمتّع هي العُمرة الأُولى أو الأخيرة ؟ وجهان: أظهرهما الثاني وعن «كشف اللّثام»:(1) لعلّه اتّفاقي، ويشهد به:

صحيح حمّاد أو حسنة المتقدّم، قلت: «فأيّ الإحرامين والمتعتين متعته، الأُولى أو الأخيرة ؟ قال عليه السلام: الأخيرة هي عمرته وهي المحتبس بها التي وصلت بحجّته».

وعليه، فهل يجب طواف النساء في الأُولى التي وقعت مفردةً ، كما في «الحدائق»(1) و «العروة»(2)؟ أم لا كما عن «كشف اللّثام»(4)، و «المدارك»(3)، وعن5.

ص: 275


1- الحدائق الناضرة: ج 14/368.
2- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/623.
3- مدارك الأحكام: ج 7/175.

«الدروس»(1) نقل الوجهين من غير اختيار لأحدهما؟

أقول: وغاية ما استدلّ به لعدم وجوبه في مقابل إطلاق ما دلّ على لزومه في العُمرة المفردة، أنّه بعدما أحلّ من الأُولى بالتقصير، ربما يأتي النساء قبل الخروج، وهو جائزٌ عليه، فإنْ قلنا بوجوبه بعد ذلك، لزم حرمة النساء عليه قبل الإتيان به، ولازم ذلك حرمتهنّ من غير موجبٍ .

ولكن يرد عليه: أنّه بعد أن أحرم للعمرة الثانية، ينكشف أنّه من الأوّل لم تكن العُمرة المأتي بها عمرة التمتّع، بل كانت مفردة، فكان مباشرته النساء حلالاً ظاهراً لا واقعاً، فلا تكون حرمتهنّ بعد ذلك بلا موجب.

وإن شئت قلت: إنّ هذه الاستبعادات في مقابل النّص تعدّ اجتهادات في مقابلها ولا يعتنى بها، فالأظهر وجوبه ولكن صاحب «الحدائق» يصرّح بعدم الوقوف على قائلٍ بذلك.

التنبيه الخامس: إذا ترك الإحرام بعد الدخول في شهر آخر، مع كونه واجباً عليه، فهل لا يكون ذلك موجباً لبطلان عمرته السابقة، فيصحّ حجّه ؟ أم يكون موجباً لذلك فلا يصحّ حجّه ؟

قال صاحب «الجواهر»:(2) بعد أن يذكر عدم تعرّض الأصحاب لذلك: (ولكن الذي يقوى في النظر الأوّل، لعدم الدليل على فسادها) انتهى .

وأورد عليه بعض الأعاظم(3) من المعاصرين: بأنّه لا يبعد أن يكون الأمر7.

ص: 276


1- الدروس: ج 1/335.
2- جواهر الكلام: ج 18/29.
3- مستمسك العروة الوثقى: ج 11/217.

بالعُمرة الثانية إرشاداً إلى بطلان العُمرة الأُولى ، والاحتياج إلى الثانية في صحّة الحَجّ بملاحظة أنّ الأمر والنّهي في أمثال هذه الموارد إرشاديّان إلى الشرطيّة والمانعيّة. ولا ينافيه ما دلّ على أنّه لو رجع قبل شهرٍ جاز له الدخول مُحِلّاً، لإمكان اختصاص البطلان بخصوص صورة وجوب الإحرام للعمرة.

وفيه: أنّه يتعلّق الأمر بالعُمرة الثانية في ضمن الحَجّ ، ولم ينه عن الحَجّ بدونها كي يكون ذلك إرشاداً إلى الشرطيّة أو المانعيّة، وإنّما أمر بالعُمرة نفسها، وبضميمة مطلوبيّة العُمرة في نفسها يمنع عن ظهوره في الشرطيّة.

وما دلّ على أنّ عمرته هي العُمرة الثانية، إنّما يدلّ على أنّه بعد تحقّق العُمرتين، تكون عمرته المتمتّع بها هي الثانية لاتّصالها بالحَجّ ، وذلك لا يدلّ على قابليّة الأُولى ، لكونها كذلك في صورة الانفراد، سيّما وكونها صحيحة على التقديرين، لوقوعها مفردة على التقدير الآخر لا أنّها باطلة رأساً.

وعليه، فالأظهر أنّه لا يبطل حجّه، ولو تركه فعليه الإثم خاصّة.

التنبيه السادس: مقتضى إطلاق النصوص، عدم الفرق في الأحكام المذكورة بين الحَجّ الواجب والمستحبّ ، فلو نوى التمتّع مستحبّاً، ثمّ أتى بعُمرته، يكون مرتهناً بالحَجّ ، ويكون حاله في الخروج مُحرِماً أو مُحِلّاً والدخول كذلك كالحَجّ الواجب.

التنبيه السابع: لو دخل مكّة بعد العُمرة والخروج عنها بغير إحرام للحَجّ ، فهل يكون سقوط العُمرة عنه على وجه الرخصة، ليجوز أن يعتمر مع فرض مُضيّ أقلّ زمان يعتبر فاصلاً بين العمرتين، أخذاً بإطلاق ما دلّ على مشروعيّة العُمرة، أم يكون على وجه العزيمة ؟ وجهان:

ص: 277

أظهرهما الثاني، وذلك لأنّه بناءً على ما هو صريح النّص من كون الثانية عمرة التمتّع، يشكّ في مشروعيّتها قبل مُضيّ شهر، والأصل عدمها، بل يشهد لعدم الجواز ما في صحيح جميل من الأمر بدخول مكّة مُحِلّاً إن دخل في الشهر الذي خرج، فتأمّل.

***

ص: 278

حَدّ الضيق المسوّغ للعدول عن التمتّع

مسألة: لا خلاف بين الأصحاب في أنّ مَنْ فرضه التمتّع، ليس له العدول إلى غيره اختياراً، وعن «المعتبر»(1)، وجملة من كتب المصنّف رحمه الله دعوى الإجماع عليه، ودليله واضح، فإنّ من فرضه التمتّع لو عدل إلى غيره لم يكن آتياً بالمأمور به، فلا يجزيه، وقد صرّح في بعض الأخبار المتقدّمة بأنّه ليس لأحدٍ إلّاأن يتمتّع.

نعم، يجوز ذلك مع ضيق الوقت عن إدراك أفعال الحَجّ ، لو أتمّ العُمرة المتمتّع بها، فمن أحرم للعمرة، وضاق وقته عن الإتيان بمناسكها، وإدراك الحَجّ بمناسكه، عدل عن نيّة التمتّع إلى الإفراد، وإنْ كان ممّن تعيّن عليه التمتّع ثمّ مضى كما هو إلى الموقف، وبعد إتمام الحَجّ يأتي بعمرة مفردة بلا خلاف.

وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه، وفي «الجواهر»(2): (بلا خلاف أجده فيه، بل لعلّ الإجماع بقسميه عليه) ويشهد به الأخبار الآتية.

إنّما الخلاف في حَدّ الضيق المسوغ للعدول، واختلفوا فيه على أقوال:

القول الأوّل: ما عن والد الصدوق(3) وعن المفيد(4) من زوال يوم التروية.

القول الثاني: ما عن الصدوق في «المقنع»(5) والمفيد في المقنعة»(6) من غروب يوم التروية.

ص: 279


1- المعتبر: ج 2/781.
2- جواهر الكلام: ج 18/29.
3- حكاه عنه في المختلف: ص 294.
4- حكاه عنه في السرائر: ج 1/582.
5- المقنع: ص 265.
6- المقنعة: ص 431.

القول الثالث: ما عن الشيخ في «المبسوط»(1)، و «النهاية»(2)، والإسكافي(3)، والقاضي في «المهذّب»(4)، وابن حمزة في «الوسيلة»(5)، والسيّد في «المدارك»(6)، والفاضل الخراساني في «الذخيرة»(7)، وعن «كشف اللّثام»(8) من زوال الشمس من يوم عرفة.

القول الرابع: ما عن ابن إدريس(9) و محتمل الحلبي(10) من خوف فوت اضطراري عرفة.

القول الخامس: ما عن الحلبيّين(11) وابني إدريس(12) وسعيد(13) والمصنّف في «القواعد»(14) من فوات الرّكن من الوقوف الاختياري في وقوف عرفة، وهو المسمّى منه.

القول السادس: ما عن ظاهر «الدروس»(15) من خوف فوات الاختياري من6.

ص: 280


1- المبسوط: ج 1/364.
2- النهاية: ص 247.
3- حكاه عنه في المختلف: ص 294.
4- المهذّب: ج 1/243.
5- الوسيلة: ص 176.
6- مدارك الأحكام: ج 7/176.
7- ذخيرة المعاد: ج 3/553.
8- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/48.
9- السرائر: ج 1/582.
10- الكافي في الفقه: ص 194.
11- الكافي في الفقه: ص 194، غنية النزوع: ص 515.
12- السرائر: ج 1/581-582.
13- الجامع للشرايع: ص 204.
14- قواعد الأحكام: ج 1/401.
15- الدروس: ج 1/335-336.

وقوف عرفة.

القول السابع: ما نقله صاحب «الجواهر»(1) عن بعض متأخّري المتأخّرين من التخيّير بعد زوال يوم التروية بين العدول والإتمام إذا لم يخف الفوت.

أقول: ومنشأ الاختلاف كالعادة اختلاف النصوص، فإنّها مختلفة وعلي طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على أنّ الحَدّ يوم التروية:

منها: صحيح علي بن يقطين، عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «عن الرجل والمرأة يتمتّعان بالعُمرة إلى الحَجّ ، ثمّ يدخلان مكّة يوم عرفة، كيف يصنعان ؟ قال: يجعلانها حجّة مفردة وحَدّ المتعة إلى يوم التروية»(2).

ومنها: خبر إسحاق بن عبد اللّه، عن أبي الحسن عليه السلام: «إنّما المتعة إلى يوم التروية»(3).

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: «أرسلتُ إلى أبي عبداللّه عليه السلام أنّ بعض من معنا من صرورة النساء قد اعتللن فكيف نصنع ؟

قال عليه السلام: تنتظر ما بينها وبين التروية، فإن طهرت فلتهلّ ، وإلّا فلا يدخلنّ عليها التروية إلّاوهي مُحرمة»(4).

ونحوها في ذلك صحيح جميل في خصوص الحائض(5).

الطائفة الثانية: ما يدلّ على التحديد بزوال الشمس من يوم التروية:6.

ص: 281


1- جواهر الكلام: ج 18/35.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/173 ح 28، وسائل الشيعة: ج 11/299 ح 14855.
3- الإستبصار: ج 2/249 ح 16، وسائل الشيعة: ج 11/298 ح 14853.
4- الكافي: ج 4/300 ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/300 ح 14859.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/390 ح 9، وسائل الشيعة: ج 11/296 ح 14846.

منها: صحيح إسماعيل بن بزيغ، قال: «سألتُ أبا الحسن الرِّضا عليه السلام عن المرأة تدخل مكّة متمتّعة، فتحيض قبل أن تحلّ ، متى تذهب متعتها؟

قال عليه السلام: كان جعفر عليه السلام يقول: زوال الشمس من يوم التروية، وكان موسى عليه السلام يقول: صلاة الصبح من يوم التروية.

فقلت: جُعلت فداك عامّة مواليك يدخلون يوم التروية، ويطوفون ويسعون ثمّ يحرمون بالحَجّ؟

فقال: زوال الشمس، فذكرت له رواية عجلان أبي صالح [تأتي هذه الرواية في المسألة اللّاحقة] فقال عليه السلام: لا، إذا زالت الشمس ذهبت المتعة.

فقلت: فهي على إحرامها أو تجدّد إحرامها للحَجّ؟

فقال: لا، هي على إحرامها.

قلت: فعليها هَدي ؟

قال عليه السلام: لا، إلّاأن تحب أن تطوّع.

ثمّ قال: أمّا نحن فإذا رأينا هلال ذي الحجّة قبل أن نحرم فاتتنا المتعة»(1).

الطائفة الثالثة: ما دلّ على التحديد بإدراك النّاس بمنى :

منها: صحيح مرازم بن حكيم، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: المتمتّع يدخل ليلة عرفة مكّة، أو المرأة الحائض، متى يكون لها المتعة ؟ قال عليه السلام: ما أدركوا النّاس بمنى »(2).

ومنها: مرسل ابن أبي بكير، عن بعض أصحابنا، وقد سأل عن أبي عبداللّه عليه السلام:1.

ص: 282


1- تهذيب الأحكام: ج 5/391 ح 12، وسائل الشيعة: ج 11/299 ح 14858.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/171 ح 13، وسائل الشيعة: ج 11/294 ح 14841.

«عن المتعة متى تكون ؟ قال عليه السلام يتمتّع ما ظنّ أنّه يدرك النّاس بمنى »(1).

ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «المتمتّع يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ما أدرك النّاس بمنى »(2). ونحوها غيرها.

الطائفة الرابعة: ما دلّ على التحديد بسَحَر يوم عرفة:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إلى متى يكون للحاجّ عمرة ؟ قال: إلى السحر من ليلة عرفة»(3).

الطائفة الخامسة: ما دلّ على التحديد بأوّل عرفة:

منها: خبر زرارة، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن الرّجل يكون في يوم عرفة، وبينة وبين مكّة ثلاثة أميال، وهو متمتّع بالعُمرة إلى الحَجّ؟ فقال عليه السلام: يقطع التلبية تلبية المتعة، ويهلّ بالحَجّ بالتلبية إذا صَلّى الفجر، ويمضي إلى عرفات، فيقف مع النّاس، ويقضي جميع المناسك، ويُقيم بمكّة حتّي يعتمر عُمرة المحرم، ولا شيء عليه»(4).

ومنها: خبر زكريا بن آدم، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن المتمتّع إذا دَخَل يوم عرفة ؟ قال عليه السلام: لا متعة له يجعلها عمرة مفردة»(5).

الطائفة السادسة: ما دلّ على التحديد بغروب يوم التروية:

منها: صحيح عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المتمتّع يقدم مكّة يوم التروية صلاة العصر، تفوته المتعة ؟ فقال عليه السلام: له ما بينه وبين غروب الشمس،2.

ص: 283


1- تهذيب الأحكام: ج 5/170 ح 12، وسائل الشيعة: ج 11/293 ح 14833.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/170 ح 11، وسائل الشيعة: ج 11/293 ح 14835.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/172 ح 19، وسائل الشيعة: ج 11/293 ح 14836.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/174 ح 31، وسائل الشيعة: ج 11/298 ح 14851.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/173 ح 25، وسائل الشيعة: ج 11/298 ح 14852.

وقال: قد صنع ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(1).

ومنها: صحيح عمر بن يزيد، عنه عليه السلام: «إذا قدمت مكّة يوم التروية، وأنتَ متمتّع، فلك ما بينك وبين الليل أن تطوف باللّيل وتسعى وتجعلها متعة»(2).

ونحوها غيرها.

الطائفة السابعة: ما دلّ على التحديد بزوال الشمس من يوم عرفة:

منها: صحيح جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «المتمتّع له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة، وله الحَجّ إلى زوال الشمس من يوم النحر»(3).

ومنها: مرفوعة سهل بن زياد، عنه عليه السلام: «في متمتّعٍ دخل يوم عرفة ؟ قال:

متعته تامّة إلى أن يقطع التلبية»(4). وقطع التلبية كناية عن زوال الشمس من يوم عرفة.

الطائفة الثامنة: ما دلّ على أنّ المناط خوف فوت الوقوف بعرفة:

منها: خبر يعقوب بن شعيب، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لا بأس للمتمتّع إنْ لم يحرم من ليلة التروية متى ما تيسّر له ما لم يخف فوت الموقفين»(5).

وعن «الوافي»: (وفي بعض النسخ: «إنْ لم يحرم من ليلة عرفة» بدل: «إنْ لم يحرم من ليلة التروية»).

ومنها: خبر محمّد بن سرو(6)، قال: «كتبتُ إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام: ما تقولر.

ص: 284


1- تهذيب الأحكام: ج 5/172 ح 20، وسائل الشيعة: ج 11/294 ح 14837.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/172 ح 22، وسائل الشيعة: ج 11/294 ح 14839.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/171 ح 15، وسائل الشيعة: ج 11/295 ح 14842.
4- الكافي: ج 4/444 ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/293 ح 14834.
5- الكافي: ج 4/444 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/292 ح 14832.
6- وفي «المنتقى »: محمّد بن مسرور.

في رجل متمتّع بالعُمرة إلى الحَجّ وافى غَداة عرفة، وخرج النّاس من منى إلى عرفات، أعمرته قائمة، أو قد ذهبت منه ؟ إلى أيّ وقت عمرته قائمة إذا كان متمتّعاً بالعُمرة إلى الحَجّ ، فلم يواف يوم التروية، ولا ليلة التروية، فكيف يصنع ؟

فوقّع عليه السلام: ساعة يدخل مكّة إنْ شاء اللّه تعالى يطوف ويُصلّي ركعتين ويسعى ويقصّر، ويخرج بحجّته ويمضي إلى الموقف، ويفيض مع الإمام»(1).

ومنها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ أهلّ بالحَجّ والعُمرة جميعاً ثمّ قدم مكّة والنّاس بعرفات، فخشى إنْ هو طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يفوته الموقف ؟ قال: يدع العُمرة، فإذا أتمّ حجّه صنع كما صنعت عائشة، ولا هَدي عليه»(2). ونحوها غيرها.

أقول: هذه هي النصوص المختلفة الواردة في المقام، وللأصحاب في مقام الجمع بينها مسالك:

المسلك الأوّل: ما عن جماعةٍ منهم صاحب «الجواهر»(3) وسيّد «العروة»(4)من حمل الطوائف الأُولى - أي غير الطائفة الأخيرة - على صورة عدم إمكان الإدراك إلّاقبل هذه الأوقات، فإنّه مختلف باختلاف الأوقات والأحوال والأشخاص، فإنّ بعض الأشخاص لا يصل إلى عرفات في أوّل زوال الشمس من عرفة إلّاإذا خرج إليها من أوّل يوم التروية، ومنهم من لا يصل إليها إلّاإذا خرج من أوّل ليلتها، ومنهم من لا يصل إليها إلّاإذا خرج من سحر عرفة، وهكذا.4.

ص: 285


1- وسائل الشيعة: ج 11/295 ح 14843.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/174 ح 30، وسائل الشيعة: ج 11/297 ح 14850.
3- جواهر الكلام: ج 18/35.
4- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/624.

وفيه: أنّ وجود أشخاص لا يصلون في أوّل زوال الشمس إلى عرفات إذا لم يخرجوا ليلة التروية أو يومها، وما شاكل نادرٌ جدّاً، إنْ لم يكن مجرّد فرض، والالتزام بأنّ النصوص الكثيرة واردة في مقام بيان حكم هذه الطبقة من الحجّاج، ومع ذلك لو لم تكون مطلقة، كما ترى ، مع أنّ بعض النصوص المتقدّمة لا يصلح للحمل على ذلك، لو لم يكن ممتنعاً، أضف إليه أنّه جمعٌ لا شاهد له.

المسلك الثاني: ما عن الشيخ في «التهذيب»(1) من (حمل النصوص على اختلاف مراتب الفضل، فالأفضل الإحرام بالحَجّ بعد الفراغ من العُمرة عند الزوال يوم التروية، فإنْ لم يفرغ عنده من العُمرة، كان الأفضل العدول إلى الحَجّ ، ثمّ ليلة عرفة ثمّ يومها إلى الزوال السابق منها أفضل من اللّاحق، وإنْ كانت مشتركة في التخيّير، وعند الزوال يوم عرفة يتعيّن العدول، لفوات الموقف غالباً.

ثمّ قال: هذا إذا كان الحَجّ مندوباً لا فيما إذا كان هو الفريضة..) انتهى .

واستجوده سيّد «المدارك»(2)، وبعض الأعاظم من المعاصرين، ثمّ قال بعد نقل ما عن الشيخ رحمه الله: (ويشهد لهذا الجمع ما في ذيل صحيح ابن بزيع المتقدّم: «أمّا نحن فإذا رأينا هلال ذي الحجّة قبل أن نحرم فاتتنا المتعة»، فإنّ المراد به فوت أفضل الأفراد، لجواز الإتيان بالعُمرة المتمتّع بها في شهر ذي الحجّة قطعاً).

ولكن يرد على هذا الوجه أوّلاً: أنّه لا وجه للتخصيص بالحَجّ المندوب بعد فرض عموم الأخبار للجميع، بل صحيح ابن الحجّاج المتقدّم في التحديد بيوم التروية، مورده صرورة النساء، فيكون حجّهن حَجّ الإسلام.8.

ص: 286


1- تهذيب الأحكام: ج 5/170.
2- مدارك الأحكام: ج 7/178.

وثانياً: أنّه كيف يصحّ الجمع بين الطائفة الأُولى المتضمّنة أن من يدخل مكّة يوم عرفة تتبدّل وظيفته إلى الإفراد، وأنّه لا متعة له بعد يوم التروية، وبين ما يدلّ على بقاء وقت المتعة إلى يوم عرفة، سيّما مثل صحيح محمّد بن ميمون المتضمّن لقدوم أبي الحسن متمتّعاً ليلة عرفة، ثمّ إهلاله بالحَجّ والخروج، فإنّ فعله عليه السلام لو لم يدلّ على أنّه أفضل، لا نقاش في الدلالة على أنّ غيره ليس أفضل منه.

وبالجملة: طوائف من النصوص المتقدّمة آبية عن الحمل على الأفضل.

المسلك الثالث: ما أفاده بعضهم - ويقرب ممّا ذكره الشيخ رحمه الله الأخبار المختلفة على بيان أنّ لعمرة التمتّع أوقاتٌ مختلفة:

أحدها: الوقت الإضطراري، وهو بعد زوال الشمس من يوم عرفة إلى أن يدرك المُسمّى من الوقوف.

ثانيها: الوقت الاختياري الإجزائي، وهو يوم عرفة ما قبل زوال الشمس.

ثالثها: وقت الفضيلة، وله مراتب:

1 - إلى زوال الشمس من يوم التروية.

2 - إلى غروبها من يوم التروية.

3 - إلى سحر عرفة.

وفيه: أنّه جمعٌ تبرّعيٌ لا شاهد له، ومجرّد الاختلاف بين الأخبار لايصلح لذلك.

المسلك الرابع: ما ذكره صاحب «العروة»(1) من حمل جميع الطوائف غير الأخيرة على التقيّة، إذا لم يخرجوا مع النّاس يوم التروية، فيكون التقيّة في عمل المكلّف.

وفيه أوّلاً: أنّ المخالفين غير مفتين بما تضمّنته تلك النصوص المختلفة، كي تُحمل على التقيّة.4.

ص: 287


1- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/624.

وثانياً: أنّ موافقة العامّة من مرجّحات إحدى الحجّتين على الاُخرى بعد فرض فقد جملةٍ من المرجّحات، لا من مميّزات الحجّة عن اللّاحجّة.

المسلك الخامس: ما في «العروة»(1) أيضاً، قال: (مع أنّا لو أغمضنا عن الأخبار من جهة شدّة اختلافها وتعارضها، نقول مقتضى القاعدة هو ما ذكرناه، لأنّ المفروض أنّ الواجب عليه هو التمتّع، فما دام ممكناً لا يجوز العدول عنه، والقدر المسلّم من جواز العدول صورة عدم إمكان إدراك الحَجّ ، واللّازم إدراك الاختياري من الوقوف، فإنّ كفاية الاضطراري منه خلاف الأصل..) انتهى .

وفيه: أنّه مع وجود النصوص لا مجال للرجوع إلى القاعدة، إذ لو أمكن الجمع العرفي بين النصوص تعيّن، ومع عدم إمكانه إنْ كان لبعض الأطراف مرجّحٌ من المرجّحات المنصوصة يقدّم ذلك، وإلّا تخيّر في العمل بأيّها شاء، فعلى جميع التقادير لا يصل الدور إلى الرجوع إلى القاعدة إلّاأن يكون مراده من القاعدة ما يستفاد من الكتاب والسُنّة، ويجعل ذلك مرجّحاً للنصوص الدالّة على ما اختاره، ولا بأس به حينئذٍ إذا لم يمكن الجمع العرفي بين النصوص، وكانت المرجّحات التي قبل موافقة الكتاب مفقودة، وسيمرّ عليك ما هو الحقّ .

والحقّ أن يُقال: إنّ الطائفة الأُولى والثالثة والرابعة والخامسة من الطوائف الثمان المتقدّمة لم يَعمل بها الأصحاب، فهي مطروحة، للإعراض.

وأمّا الطائفة الثانية: فلم يعمل بها إلّاابن بابويه، وذلك لا يُخرجها عن الشذوذ الموهن لها، أضف إلى ذلك أنّ نصوصها واردة في الحائض، والتعدّي إلى غيرها كما هو المطلوب يحتاج إلى دليلٍ مفقود، مع أنّ الثانية أشهر، ورواياتها أصحّ وأكثر، فتقدّم عليها.4.

ص: 288


1- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/624.

وكذا الطائفة السادسة، فإنّه لم يعمل بها غير المفيد في «المقنعة»، والصدوق في «المقنع»، فهي أيضاً مهجورة عند بقيّة الأصحاب، ومعارضة بما هو أصحّ سنداً، وأشهر منها، فيبقى من الطوائف المتقدّمة الطائفتان الأخيرتان.

فإنْ قلنا: بأنّ الوقوف الواجب هو المسمّى منه - كما أفتى به جماعة - لا تعارض بين الطائفتين، فإنّ من أتمّ مناسك العُمرة عند زوال الشمس من يوم عرفة، وأحرم بالحَجّ فإنّه بحسب الغالب يدرك النّاس بعرفات أواخر يوم عرفة.

وإنْ قلنا: بأنّ الواجب هو جميع ما بين الزوال إلى الغروب، فقد يقال إنّه تتعارض الطائفتان، ولكن لا يبعد القول بظهور فوت الموقف، سيّما بقرينة نصوص التحديد بزوال يوم عرفة، وفهم الأصحاب، لعدم إفتاء أحد منهم بأنّ المدار على خوف فوت تمام الواجب، بل المشهور - كما عرفت - أنّ المدار على خوف فوت المسمّى منه، إرادة خوف فوت المسمّى منه الذي هو ركن.

وبعبارة أُخرى : ظهوره في فوت الموقف تماماً، وعليه فلا تعارض بينهما، وعليه فما هو المشهور هو المتعيّن.

وإنْ أبيتَ عن ذلك، فلا محالة يقع التعارض بينهما، والترجيح مع نصوص التحديد بزوال عرفة، لكونها أشهر، بل على هذا لا قائل بنصوص التحديد بخوف فوت الموقف.

فتحصّل: أنّ الأظهر أنّ حَدّ الضيق المسوّغ للعدول عن التمتّع إلى الإفراد، هو فوات الركن من الوقوف الاختياري، وهو المسمّى منه، وإنْ حاولنا تحديد آخر المتعة فلابدّ من تحديده بزوال الشمس من يوم عرفة.

أقول: بقي في المقام ما استدلّ به للقول بأنّ المدار على درك الوقوف

ص: 289

الاضطراري من وقوف عرفة، حيث استدلّ له بالأخبار الدالّة على أنّ من أتى بعد إفاضة النّاس من عرفات وأدركها ليلة النحر تَمّ حجّه.

ولكن يرد عليه أوّلاً: أنّ تلك النصوص واردة فيمن لا يدرك الوقوف الاختياري، ومحلّ الكلام ما يمكن إدراكه إلّاأنّه من جهة كونه في أثناء العُمرة يحتمل أن يكون ذلك بحكم عدم الإدراك، فما نحن فيه أجنبيٌ عن مورد تلك الأخبار.

وثانياً: أنّ النصوص المتقدّمة كالنص في إرادة الاختياري منه، لاحظ قوله عليه السلام في خبر محمّد بن سرو: (ويفيض مع الإمام) فإنّه صريحٌ في أنّ إتمام العُمرة إنّما هو بإدراك الإمام في عرفات، وقوله في صحيح الحلبي: (والنّاس بعرفات فخشي... أن يفوته الموقف)، فإنّ الوقوف بعرفات مع النّاس هو الاختياري منه.

ونحوهما غيرهما.

***

ص: 290

تنبيهات حَدّ الضيق المسوّغ للعدول

التنبيه الأوّل: الظاهر عدم اختصاص هذا الحكم بالحَجّ الواجب، بل يشمل المندوب أيضاً لإطلاق النصوص، وقد مرّ أنّ الشيخ قدس سره حمل نصوص التحديد بغير الضيق على المندوب، ممّا يوجب أن يكون الحكم فيه أوضح.

وعليه، فهل يجب عليه العُمرة بعد الحَجّ ، كما في الحَجّ الواجب، نظراً إلى الأمر بها في النصوص الظاهر في الوجوب، أم لا؟ وجهان:

أقواهما الثاني، لأنّ الظاهر منها أنّ الأمر بالعُمرة إنّما يكون إرشاديّاً إلى بقاء الأمر بها وتغيّير مكانها، وأنّ ما أمر به قبل الحَجّ يكون أمره باقياً بعده، فيؤتي به بعد ذلك، وعليه فإنْ كان أمر العُمرة وجوبيّاً، كان كذلك وإلّا فلا.

التنبيه الثاني: هل يُجزي الإفراد عن التمتّع في الضيق، بحيث لو كان الواجب عليه حَجّ التمتّع فأتى بالإفراد ليكون التكليف بالحَجّ ساقطاً عنه، أم لا؟ وجهان:

استدلّ للأوّل:

1 - بالمرسل عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «المتمتّع إذا فاتته عُمرة المتعة أقام إلى هلال المحرّم واعتمر، فأجزأت عنه مكان عمرة المتعة»(1).

2 - وبقوله عليه السلام في خبر زرارة المتقدّم: «ولا شيء عليه».

3 - وبأنّه يجب عليه حَجّ الإفراد، للنصوص المتقدّمة، ولا يجب الحَجّ في العمر إلّامرّة واحدة.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلإرساله.

ص: 291


1- تهذيب الأحكام: ج 5/438 ح 168، وسائل الشيعة: ج 11/297 ح 14849.

وأمّا الثاني: فلأنّه لا إطلاق له من هذه الجهة.

وأمّا الثالث: فلأنّ عدم وجوب الحَجّ أكثر من مرّة إنّما هو بمقتضى التشريع الأصلي، وذلك لا ينافي وجوبه بعنوان آخر كالنذر واليمين، والشروع في الحَجّ الموجب لإتمامه، ولعلّ المقام من ذلك القبيل.

أقول: ولكن يمكن أن يستدلّ للإجزاء، بأنّ الظاهر من النصوص تبدّل الوظيفة، وتغيّير مكان العُمرة الواجبة عليه، لا أنّ ما يأتي به واجبٌ مستقلّ .

وعليه، فظاهر نصوص الباب هو الإجزاء.

التنبيه الثالث: ولو دخل في العُمرة بنيّة التمتّع في سعة الوقت، وأخَّر الطواف والسعي متعمّداً إلى أن ضاق الوقت، فهل يجوز له العدول ويكفيه عن الواجب عليه ؟

أم يجبُ عليه إتمام العُمرة والإجتزاء في فعل الحَجّ بإدراك المَشعر؟

أم لا يكفي ذلك عن الحَجّ الواجب عليه ؟ وجوهٌ وأقوال:

استدلّ للأوّل: (بإطلاق نصوص الباب، وأيّده بعض بملاحظة نظائر المقام من موارد الأبدال الاضطراريّة، فإنّ من أراق ماء الوضوء عملاً صحَّ تيمّمه، ومن أخّر الصلاة حتّى أدرك ركعة من الوقت صحّت صلاته، ومن أعجز نفسه عن القيام في الصلاة صَحّت صلاته، إلى غير ذلك من الموارد..) انتهى .

وفيه: الظاهر من نصوص الباب كغيره من موارد الأبدال الاضطراريّة، أنّ الموضوع هو عدم الإدراك طبعاً لا اختياراً، ولذا في مسألة من أخّر الصلاة حتّى أدرك ركعةً بنينا على سقوط التكليف بالصلاة، وأنّ حكمه حكم من لم يُدرك ركعة، وفي مسألة من أراق ماء الوضوء عمداً أفتى المفيد قدس سره والشهيد(1) رحمه الله بوجوب إعادة4.

ص: 292


1- البيان: ص 34.

الصلاة وإنْ كان فيه بحث.

وبالجملة: ظاهر النصوص الاختصاص بغير العامد، نعم في خصوص الصلاة من جهة ما دلّ على أنّها لا تسقط بحال بحثٌ .

واستدلّ للثاني: بعموم قوله عليه السلام: «مَنْ أدرك الوقوف بالمشعر فقد تمّ حجّه».

ويرد عليه: ما أوردناه على سابقه، وعلى هذا فيدور الأمر بين فعلين:

إمّا إتمام العُمرة والحَجّ من قابل، أو الإتيان بحَجّ الإفراد وتأخير العُمرة.

ومقتضى الا ستصحاب هو الأوّل.

***

ص: 293

حكم الحائض والنفساء إذا ضاق وقتهما عن إتمام العُمرة

مسألة: إذا حاضت المرأة المتمتّعة أو نفست، ومنعها العذر من الطواف وبقيّة أفعال عمرتها، لضيق الوقت عن التربّص للطهر، ففيها أقوال:

القول الأوّل: أنّها تعدل إلى الإفراد، ثمّ تأتي بعُمرةٍ بعد الحَجّ ، وهو الأشهر كما في «المدارك»(1)، و «الذخيرة»(2)، و «الكفاية»(3)، و «المفاتيح»(4) وشرحه، بل في الأخيرين كاد أن يكون إجماعاً. كذا في «المستند»(5).

وفي «الجواهر»(6): (على المشهور شهرة عظيمة، بل في «المنتهى »(7): الإجماع عليه..) انتهى .

وفي «التذكرة»(8): (دعوى الإجماع عليه)، وكذا عن «المنتهى ».

القول الثاني: ما عن علي بن بابويه(9)، والحلبي(9)، وابن زُهرة(10)، والإسكافي(12) وغيرهم، من أنّه مع الضيق لا تعدل، بل تؤخّر طواف العُمرة،

ص: 294


1- مدارك الأحكام: ج 7/178.
2- ذخيرة المعاد: ج 3/553.
3- الكفاية: ص 55.
4- المفاتيح: ج 1/308.
5- مستند الشيعة: ج 11/233.
6- جواهر الكلام: ج 18/36.
7- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/663.
8- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/188. (9و12) حكاه عنه في الدروس: ج 1/406.
9- الكافي في الفقه: ص 218.
10- غنية النزوع: ص 578.

فتسعى ثمّ تحرم بالحَجّ وتقضي طواف العُمرة مع طواف الحَجّ . وعن «الغُنية»(1)دعوى الإجماع عليه.

القول الثالث: التخيّير بين الأمرين. نُسب إلى الإسكافي(2)، وفي «المستند»(3):

أنّه احتمله بعض متأخّري المتأخّرين(4).

القول الرابع: ما عن «الوافي»(5)، و «المفاتيح»(6)، و «الحدائق»(7)، من أنّه إن أحرمت هي بالمتعة قبل الحيض تمتعت كما في القول الثاني، وإنْ حاضت قبل الإحرام أفردت كما في القول الأوّل.

القول الخامس: أنّ المرأة تستنيب للطواف، ثمّ تتمّ العُمرة، وتأتي بالحَجّ ، ويبدو أنّ هذا مجرّد قول احتمله صاحب «الجواهر»(8) دون أن ينسبه إلى قائل.

وأمّا النصوص: فهي على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يكون ظاهراً في القول الأوّل:

منها: صحيح جميل، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة الحائض إذا قَدِمت مكّة يوم التروية ؟ قال عليه السلام: تمضي كما هي إلى عرفات فتجعلها حجّة، ثمّ تُقيم حتّى تطهر، فتخرج إلى التنعيم فتحرم فتجعلها عُمرة»(9).6.

ص: 295


1- غنية النزوع: ص 578.
2- حكاه عنه في المختلف: ص 316.
3- مستند الشيعة: ج 11/235.
4- مدارك الأحكام: ج 7/180، والسبزواري في الذخيرة: ص 553.
5- الوافي: ج 13/986.
6- المفاتيح: ج 1/341.
7- الحدائق الناضرة: ج 14/344.
8- جواهر الكلام: ج 18/39.
9- تهذيب الأحكام: ج 5/390 ح 9، وسائل الشيعة: ج 11/296 ح 14846.

ومنها: مصحّح إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام: «سألته عن المرأة تجيء متمتّعة فتطمث قبل أن تطوف بالبيت، حتّى تخرج إلى عرفات ؟ قال عليه السلام تصير حَجّة مفردة وعليها دم اُضحيتها»(1).

ومنها: صحيح ابن بزيع المتقدّم في المسألة السابقة، الدالّ على التحديد بزوال الشمس من يوم التروية، وقد تؤيّد أو تُعضَد ببعض الأخبارالآتية فى المسألة اللّاحقة.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على القول الثاني:

منها: صحيح العلاء بن صبيح، وعبد الرحمن بن الحجّاج، وعلي بن رئاب، وعبيد اللّه بن صالح، كلّهم يروونه عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «المرأة المتمتّعة إذا قَدِمت مكّة ثمّ حاضت، تُقيم ما بينها وبين التروية، فإنْ طهرت طافت بالبيت وَسَعتْ ، وإنْ لم تطهر إلى يوم التروية اغتسلت واحتشت، ثمّ سعت بين الصفا والمروة، ثمّخرجت إلي مِني ، فإذا قضت المناسك وزارت البيت، وطافت بالبيت طوافاً لعُمرتها، ثمّ طافت طوافاً للحَجّ ، ثمّ خرجت فسعت، فإذا فعلت ذلك فقد أحلّت من كلّ شى ءيَحلّ منه المُحرم إلّافراش زوجها، فإذا طافت اُسبوعاً آخر حَلَّ لها فراش زوجها»(2).

ومنها: خبر عجلان أبي صالح، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: متمتّعة قَدِمت مكّة فرأت الدم كيف تصنع ؟ قال عليه السلام: تسعى بين الصفا والمروة، وتجلس في بيتها، فإنْ طهرت طافتْ بالبيت، وإنْ لم تطهر فإذا كان يوم التروية، أفاضت عليها الماء، وأهلت بالحَجّ ، وخرجت إلى منى فقضت المناسك كلّها، فإذا قَدِمت مكّة طافت بالبيت طوافين، ثمّ سعت بين الصفا والمروة، فإذا فعلت ذلك فقد حَلَّ لها كلّ شيء6.

ص: 296


1- تهذيب الأحكام: ج 5/390 ح 11، وسائل الشيعة: ج 11/299 ح 14857.
2- الكافي: ج 4/445 ح 1، وسائل الشيعة: ج 13/448 ح 18186.

ما عدا فراش زوجها.

قال: وكنت أنا وعبد اللّه بن صالح سمعنا هذا الحديث في المسجد، فدخل عبيداللّه على أبي الحسن عليه السلام فخرج إليّ فقال: سالتُ أبا الحسن عليه السلام عن رواية عجلان فحدّثنا بنحو ما سمعنا عن عن عجلان»(1).

ونحوه خبراه الآخران(2)، وقريبٌ منها مرسل يونس بن يعقوب(3).

الطائفة الثالثة: ما يكون ظاهره القول الرابع، وهو خبر أبي بصير، قال:

«سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: في المرأة المتمتّعة إذا أحرمت وهي طاهر، ثمّ حاضت قبل أن تقضي متعتها، سعت ولم تطف حتّى تطهر، ثمّ تقضي طوافها وقد تمّت متعتها، وإنْ هي أحرمت وهي حائض لم تسع ولم تطف حتّى تطهر»(4).

أقول: وقد قيل في الجمع بين هذه الطوائف من النصوص أُمور:

الأمر الأوّل: ما أفاده صاحب «الحدائق»(5) من أنّ خبر أبي بصير يصلح شاهداً للجمع بين الطائفتين، وبه تُحمل الأُولى الدالّة على العدول إلى الإفراد على ما إذا أحرمت وهي حائض، وتُحمل الثانية الدالّة على البقاء على المتعة وقضاء طواف العُمرة بعد المناسك على ما إذا أحرمت وهي طاهر.

وأيّد بعضهم ذلك بوجهين:4.

ص: 297


1- الكافي: ج 4/446 ح 2، وسائل الشيعة: ج 13/449 ح 18187.
2- الكافي: ج 4/447 ح 6، وسائل الشيعة: ج 13/449 ح 18188، والآخر في الكافي: ج 4/446 ح 3، وسائل الشيعة: ج 13/450 ح 18191.
3- الكافي: ج 4/447 ح 7، وسائل الشيعة: ج 13/451 ح 18193.
4- الكافي: ج 4/447 ح 5، وسائل الشيعة: ج 13/450 ح 18190.
5- الحدائق الناضرة: ج 14/344.

أحدهما: أنّها في الصورة الأُولى لم تُدرك شيئاً من أفعال العُمرة طاهرةً ، فعليها العدول إلى الإفراد، وفي الصورة الثانية أدركت بعض أفعالها طاهرةً ، فتبني عليها وتقضي الطواف بعد الحَجّ .

ثانيهما: ما عن «شرح الفقيه» للمجلسي(1)، ومحصله: أنّها في الصورة الأُولى لا تقدر على نيّة العُمرة، لأنّها تعلم أنّها لا تطهر للطواف ولا تدرك الحَجّ ، بخلاف الصورة الثانية، فإنّها حيث كانت طاهرة وقعت منها النيّة والدخول فيها.

أقول: يرد على ما أفاده صاحب «الحدائق» رحمه الله أنّ خبر أبي بصير شاذٌّ لم يعمل به الأصحاب، فهو موهونٌ بعدم العمل، فلا يصلح مقيّداً لإطلاق ما تقدّم من الطائفتين، مع أنّ جملة من نصوص العدول إلى الإفراد ظاهرة في كون الحيض بعد الإحرام، لاحظ مصحّح إسحاق، فإنّ قوله فيه: (تجيء متمتّعة فتطمث) ظاهر بقرينة العطف بالفاء الدالّة على الترتيب، في كون الحيض بعد دخول مكّة، ومن المعلوم أنّ دخول مكّة للتمتّع إنّما يكون بعد الإحرام، وكذا صحيح ابن بزيع.

أضف إلى ذلك: أنّه مطلقٌ من حيث حدوث الحيض قبل الطواف، أو بعد أربعة أشواط منه، ولذا حمله الشيخ قدس سره على ما بعدها، واستشهد به عليه، وعليه فيقيّد إطلاقه بما سيأتي من النصوص في المسألة اللّاحقة، ويُحمل البقاء على المتعة على ما إذا حاضت بعد أربعة أشواط من الطواف.

وأمّا الوجه الأوّل: من التأييد فيرد عليه أنّ مجرّد دركها بعض أفعال العُمرة طاهرةً لا يكفي في الحكم بوجوب إتمامها، كما أنّ مجرّد عدم إدراكها لا يكفي في وجوب العدول.).

ص: 298


1- حكاه عنه السيّد اليزدي في العروة الوثقى: ج 4/627 (صورة حَجّ التمتّع).

وأمّا الوجه الثاني: فيرد عليه أنّه إذا تمّ دلالة النّص على البقاء على المتعة، وقضاء الطواف بعد الحَجّ ، تكون قادرة على نيّة العُمرة في الصورة الأُولى ، مع أنّه:

إذا كان مراده عدم القدرة على النيّة الجزميّة فيها، ففي الصورة الثانية مع احتمال طروّ الحيض لا تقدر على النيّة أيضاً.

وإنْ كان مراده عدم القدرة على النيّة الإحتماليّة، والإتيان بقصد الرجاء، فعدم القدرة ممنوعٌ .

الأمر الثاني: ما عن سيّد «المدارك»(1) قدس سره قال بعد نقل صحيحة العلاء والجماعة معه: (والجواب: أنّه بعد تسليم السَّند والدلالة، يجبُ الجمع بينها وبين الروايات السابقة المتضمّنة للعدول إلى الإفراد بالتخيّير بين الأمرين، ومتى ثبت ذلك، كان العدول أولى ، لصحّة مستنده وصراحة دلالته، وإجماع الأصحاب عليه) انتهى .

وفيه: أنّه إنْ اُريد بالتخيّير التخيّير في المسألة الفرعيّة، بدعوى أنّ ذلك مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين، فيرد عليه أنّ أهل العرف يرون الطائفتين المتضمّن كلٌّ منهما لتعيّن الوظيفة في شيء معيّن متعارضتين، ولا يفهمون منهما التخيّير.

وإنْ اُريد به التخيّير في المسألة الاُصوليّة، وهو الأخذ بإحدى الطائفتين، فهو يتوقّف على فقد المرجّحات، وسيمرّ عليك أنّها تقتضي ترجيح الأولى .

الأمر الثالث: أنّ الطائفة الأُولى تتضمّن التحديد بزوال يوم التروية، وقد سبق أنّ الأخبار المقتضية لذلك مردودة، لا مجال للعمل بها كغيرها من التحديدات التي لم يقل بها المشهور.

وفيه: أنّ صحيح ابن بزيع وإنْ كان كذلك، إلّاأنّ مصحّح إسحاق خالٍ عنه، وصحيح جميل مورده صورة استمرار الحيض إلى ما بعد قضاء المناسك، لقوله فيه:1.

ص: 299


1- مدارك الأحكام: ج 7/181.

(ثمّ تُقيم حتّى تطهر)، ولا مانع من خروج المرأة يوم التروية إلى عرفات، بعد عدولها إلى الحَجّ في تلك الصورة، وفيهما كفاية.

والحقّ أن يُقال: إنّ الطائفة الثانية إمّا أن تُحمل على ما إذا حاضت بعد أربعة أشواط من الطواف أو تُطرح، وذلك لأنّ مرسل أبي إسحاق صاحب اللؤلؤ - الصحيح عمّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه - ورد فيه قوله:

«حدّثني من سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: المرأة المتمتّعة إذا طافت بالبيت أربعة أشواط ثمّ حاضت فمتعتها تامّة»(1).

ونحوه خبر إبراهيم بن إسحاق، وزاد فيه: «وإنْ هي لم تطف إلّاثلاثة أشواط، فلتستأنف الحَجّ ، فإنْ أقام بها جِمالها بعد الحَجّ ، فلتخرج إلى الجعرانة أو إلى التنعيم فلتعتمر»(2).

فإنّ مفهوم الأوّل أنّه قبل أربعة أشواط لا تكون متعتها تامّة، ودلالة الثاني على ذلك واضحة، وبهما يُقيّد إطلاق تلك النصوص، وتختصّ بذلك، ثمّ بتلك النصوص يُقيّد إطلاق النصوص الأُولى .

هذا على القول بانقلاب النسبة في أمثال هذا المورد الذي يكون هناك طائفتان متعارضتان، ولإحداهما مقيّدٌ لو قيّدت به انقلب نسبتها مع معارضتها إلى العموم المطلق.

وأمّا على القول بعدم الانقلاب كما هو المختار، فالطائفتان متعارضتان، وحيثُ أنّ الأصحاب عملوا بالأُولى ، وهي أشهر من حيث العمل والاستناد، والشهرة أوّل المرجّحات، فتقدّم هي لذلك، وتُطرح الطائفة، وممّا يؤيّد الطرح اشتمال ما هو2.

ص: 300


1- الكافي: ج 4/449، ح 4، وسائل الشيعة: ج 13/456، ح 18204.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2/383 ح 2767، وسائل الشيعة: ج 13/455 ح 18202.

الصحيح منها من حيث السند، كصحيح عبد الرحمن وعلي بن رئاب على التحديد بيوم التروية، ولأجل ذلك لا مجال للاعتماد عليه، وغير المشتمل منها على ذلك ضعيفٌ من حيث السند.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول الأوّل المشهور بين الأصحاب، وبما ذكرناه ظهر مدرك القول الثاني والثالث والرابع، والجواب عنه.

وأمّا القول الخامس فلم يذكر له وجه ولا عرف قائله.

والمناط للحائض والنفساء أيضاً ما مرّ في مَن ضاق وقته، وهو إدراك الركن من الموقف الاختياري، كما مرّ دليله.

وقال الفاضل الخراساني(1): (إنّ المناط فيهما زوال الشمس من يوم التروية) برغم أنّه اختار في المسألة السابقة أنّ المدار على زوال الشمس من يوم عرفة الذي قد عرفت إمكان انطباقه على ما اخترناه.

وعلّق على كلامه صاحب «المستند»(2) بقوله: (الظاهر أنّه خرقُ الإجماع المركّب، ونسبة هذا القول إلى علي بن بابويه والمفيد لا تفيد، لأنّهما قالا بذلك فيه أيضاً..) انتهى .

وقد استدلّ له بصحيحي ابن بزيع وجميل، ولكن صحيح جميل قد عرفت ظهوره في بقاء الحيض واستمراره إلى ما بعد قضاء المناسك، وكذا صحيح ابن بزيع ظاهرٌ في ذلك، فإنّه صرّح فيه بأنّها تحيضُ بعد دخول مكّة، وبأنّ عامّة الموالي يدخلونها يوم التروية، ولازم ذلك أنّ تحيّضها لم يتقدّم على التروية، فلا تطهر قبل غروب الشمس من يوم عرفة.

***7.

ص: 301


1- ذخيرة المعاد: ج 3/553، كفاية الأحكام ص 55.
2- مستند الشيعة: ج 11/237.

حدوث الحيض

مسألة: إذا حَدَث الحيض وهي في أثناء طواف عمرة التمتّع، ففيه أقوال:

القول الأوّل: ما هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة(1) من أنّ ذلك:

1 - إنْ كان قبل تمام أربعة أشواط بطل طوافها، وحينئذٍ إنْ كان الوقت موسّعاً أتمّت عُمرتها بعد الطهر، وإلّا فيجري عليها حكم الحائض والنفساء المتقدّم في المسألة السابقة.

2 - وإنْ كان بعد تمام أربعة أشواط، تقطع الطواف، وبعد الطهر تأتي بالثلاثة الباقية، وتسعى وتقصّر مع سعة الوقت، ومع ضيقه تأتي بالسّعي وتقصّر ثمّ تحرم للحَجّ ، وتأتي بأفعاله، ثمّ تقضي بقيّة طوافها، وحجّها صحيح تمتّعاً.

القول الثاني: ما عن الصدوق(2) قدس سره فإنّه صحّح الطواف والمتعة، وإنْ حاضت قبل أربعة أشواط، قال قدس سره بعد نقل ما سيأتي من صحيح محمّد بن مسلم: (قال مصنّف هذا الكتاب رضى الله عنه، وبهذا الحديث أفتي) انتهى .

القول الثالث: ما عن الحِلّي(3) من بطلان المتعة وإنْ كان الحيض بعد أربعة أشواط.

أقول: استدلّ صاحب «الجواهر»(4) رحمه الله للأوّل:

1 - بعموم ما دلّ على إحراز الطواف بإحراز الأربعة منه.

2 - وبخبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا حاضت المرأة وهي بالطواف

ص: 302


1- جواهر الكلام: ج 18/39، مدارك الأحكام: ج 7/181، ذخيرة المعاد: ج 3/643.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2/383.
3- السرائر: ج 1/623.
4- جواهر الكلام: ج 18/39-40.

بالبيت وبين الصفا والمروة، فجازت النصف، فعلّمت ذلك الموضع، فإذا طهرت رجعت فأتمّت بقيّة طوافها من الموضع الذي علّمته، فإنْ هي قطعت طوافها في أقلّ من النصف، فعليها أن تستأنف الطواف من أوّله»(1).

ونحوه خبر أحمد بن عمر الحلال عن أبي الحسن عليه السلام(2).

بتقريب: (أنّ المراد بمجاوزة النصف، بلوغ الأربع فما زاد، بقرينة غيره من النّص والفتوى، وذكر الصفا والمروة لا ينافي حجّيتهما فيه كما هو واضح..) انتهى .

أقول: إنّ محلّ الكلام في هذه المسألة ليس بطلان الطواف وصحّته، إنّما الكلام في أنّها تعدل إلى الإفراد وتأتي بعمرة مفردة بعد الحَجّ؟ أو أنّ عليها أن تأتي بحَجّ التمتّع، وتقضي ما لم تأتِ به من أفعال العُمرة بعد الحَجّ ، وما ذكر من العمومات والخصوصات تفيد في المسألة الأُولى دون الثانية.

وبالجملة: فالحقّ أن يستدلّ له:

1 - بصحيح ابن مسكان، عن أبي إسحاق صاحب اللؤلؤ، قال: حدّثني من سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «في المرأة المتمتّعة إذا طافت بالبيت أربعة أشواط ثمّ حاضت، فمتعتها تامّة، وتقضي ما فاتها من الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وتخرج إلى منى قبل أن تطوف الطواف الآخر»(3).

ورواه الكليني إلى قوله: (فمتعتها تامّة).

فإنّ مفهومه عدم تماميّة المتعة إذا طافت أقلّ من ذلك، وإرساله لا يضرّ بعد كون الراوي من أصحاب الإجماع، مضافاً إلى استناد الأصحاب إليه.4.

ص: 303


1- الكافي: ج 4/448 ح 2، وسائل الشيعة: ج 13/453 ح 18199.
2- الكافي: ج 4/449 ح 3، وسائل الشيعة: ج 13/454 ح 18200.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/393 ح 16، وسائل الشيعة: ج 13/456 ح 18204.

قال صاحب «الحدائق»:(1)(ولعلّ المراد بالطواف الآخر الطواف المقضيّ ).

2 - ومرسل إبراهيم بن أبي إسحاق - الصحيح عمّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه - عمّن سأل أبا عبد اللّه عليه السلام: «عن امرأة طافت أربعة أشواط وهي معتمرة، ثمّ طمثت ؟ قال عليه السلام: تمَّ طوافها، وليس عليها غيره، ومتعتها تامّة، ولها أن تطوف بين الصفا والمروة، لأنّها زادت على النصف وقد قضت متعتها، فلتستأنف بعد الحَجّ ، وإنْ هي لم تطف إلّاثلاثة أشواط فلتستأنف الحَجّ ، فإن أقام بها جمالها فلتخرج إلى الجعرانة أو إلى التنعيم فلتعتمر»(2).

وظاهر الخبرين أنّ بقيّة الطواف وما بعده من الأعمال تأتي بها بعد الحَجّ ، ولكن قال العلّامة في «القواعد»(3): (ولو طافت أربعاً فحاضت سعت وقصّرت، وصحّت متعتها، وقضت باقي المناسك وأتمّت بعد الطهر) انتهى .

وظاهر ذلك أنّها تسعى وتقصّر في حال الحيض، وأنّ المأتي به من الأشواط الأربعة بمنزلة الطواف التامّ ، ولعلّه يشهد بجواز السعي مرسل إبراهيم المتقدّم، ولها أن تطوف بين الصفا والمروة، ولكن الأولى الإتيان به بعد الحَجّ .

ربما يُقال: إنّ ظاهر الخبرين عدم الفرق في ذلك بين سعة الوقت وضيقه، وفي كليهما لها أن تحرم للحَجّ وتقضيي ما بقي من عمرتها بعد الحَجّ ، وهو الظاهر من عبارة «القواعد» المتقدّمة لإطلاقها، سيّما وأنّه رحمه الله عقّب عبارته بقوله:

(ولو كان أقلّ ، فحكمها حكم من لم تطف، فتنتظر الطهر، فإن حضر وقت الوقوف ولم تطهر خرجت إلى عرفة، وصارت حجّتها مفردة، وإنْ طهرت وتمكّنت9.

ص: 304


1- الحدائق الناضرة: ج 14/348.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2/383 ح 2767، وسائل الشيعة: ج 13/455 ح 18202.
3- قواعد الأحكام: ج 1/399.

من طواف العُمرة وأفعالها صحّت متعتها، وإلّا صارت مُفرِدة)، فإنّ تفصيله في هذا المورد، كالصريح في عدم التفصيل في المورد الأوّل.

ولكن بما أنّ أحد الخبرين المتقدّمين مورده ضيق الوقت، وآلاخر غير خالٍ عن التشويش، ففي صورة السّعة لا مخرج عمّا دلّ على اعتبار الترتيب بين العُمرة والحَجّ ، وبين الطواف والسعي، فلابدّ في تلك الصورة من أن تنتظر حتّى تطهر، ثمّ تأتي ببقيّة أشواط الطواف، ثمّ تسعى بين الصفا والمروة وتقصّر، ثمّ تحرم للحَجّ .

وبذلك ظهر ما في «الجواهر»(1) أيضاً حيث أنّه رحمه الله جعل ذلك أولى وأحوط.

وقد استدلّ للقول الثاني: بصحيح محمّد بن مسلم، قال: «سألتُ أبا عبداللّه عليه السلام عن إمرأة طافت ثلاثة أشواط أو أقلّ من ذلك ثمّ رأت دماً؟ قال عليه السلام: تحفظ مكانها، فإذا طهرت طافت واعتدّت بما مضى »(2).

ولكن يرد عليه أوّلاً: إنّ الخبر يعارض الخبران المتقدّمان الدالّان على بطلان الطواف إنْ حدث الحيض قبل أربعة أشواط، وحيث إنّه مطلق وهما مختصّان بالمتمتّعة، فيقيّد إطلاقه بهما، سيّما بعد تأييدهما بخبري أبي بصير وأحمد المتقدّمين، ولهذا حمله الشيخ(3) رحمه الله على طواف النافلة، وهو حسن.

وثانياً: أنّه يدلّ على انقلاب الفرض إلى الإفراد، أو بقاء ما عليه من العُمرة وسقوط الترتيب بين بقيّة الأفعال والحَجّ الذي هو محلّ الكلام.

واستدلّ للثالث: ابن إدريس(4) بقوله: (والذي تقتضيه الأدلّة أنّه إذا جاء3.

ص: 305


1- جواهر الكلام: ج 18/41.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/397 ح 26، وسائل الشيعة: ج 13/454 ح 18201.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/397 في ذيل الحديث رقم 26.
4- السرائر: ج 1/623.

الحيض قبل جميع الطواف فلا متعة لها، وإنّما ورد بما قاله شيخنا أبو جعفر خبران مرسلان فعمل عليهما، وقد بيّنا أنّه لا يُعمل بالأخبار الآحاد، وإنْ كانت مسندة فكيف بالمراسيل..) انتهى .

واستحسنه السيّد في محكي «المدارك»(1) عملاً باشتراط الترتيب بين السعي وتمام الطواف، وبين أفعال الحَجّ وتمام أفعال عمرة. وبصحيح ابن بزيع المتقدّم.

أقول: ولكن حيثُ عرفت أنّ المرسلين المتقدّمين حُجّتان، لصحّة السند ولعمل الأصحاب بهما، فبهما نرفع اليد عن القواعد ونقيّد إطلاق الصحيح.

وأيضاً: بما ذكرناه ظهر حكم ما لو حدث الحيض بعد الطواف وقبل صلاته، فإنّه لا إشكال ولا كلام في صحّة طوافها.

ويشهد بها: - مضافاً إلى ما تقدّم - صحيح أبي الصباح الكناني، قال:

«سالتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن امرأة طافت بالبيت في حَجٍّ أو عمرة، ثمّ حاضت قبل أن تُصلّي الركعتين ؟ قال عليه السلام: إذا طهرت فلتصلِّ ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام وقد قضت طوافها»(2). ونحوه مضمر زرارة(3).

وعليه، ففي السعة تنتظر الطهر عملاً بالقواعد، وفي الضيق تخرج للحَجّ وتأتي ببقيّة أعمال العُمرة بعد الحَجّ ، لا للخبرين المتقدّمين - حتّى يقال كما عن سيّد «المدارك»(4): (وفي الدلالة نظر، وفي الحكم إشكال) - بل للأولويّة من الصورة السابقة التي كان الحيض فيها قبل تمام الطواف، واللّه العالم.

***4.

ص: 306


1- مدارك الأحكام: ج 7/182 قوله: (وهذا القول لا يخلو من قوّة).
2- الكافي: ج 4/448 ح 1، وسائل الشيعة: ج 13/458 ح 18208.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 2/381 ح 2762، وسائل الشيعة: ج 13/458 ح 18207.
4- مدارك الأحكام: ج 7/184.

وشرط الباقييّن النيّة، ووقوعه في أشهر الحَجّ . وعقد الإحرام من الميقات، أو من منزله إنْ كان دون الميقات.

شرائط حَجّ الإفراد والقِران

أقول: هذا كلّه في شرائط حَجّ التمتّع، (و) أمّا (شرط الباقيين) وهما حجّ الإفراد والقِران فثلاثة:

1 - (النيّة) على ما مرّ في حَجّ التمتّع.

2 - (ووقوعه في أشهر الحَجّ ) بلا خلافٍ فيه بيننا، وفي «المعتبر»(1): (عليه اتّفاق العلماء) كذا في «الجواهر»(2).

ويشهد به: - مضافاً إلى العمومات كتاباً وسُنّة - خصوص:

1 - صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في قول اللّه تعالى: (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ ) (3) والفرض التلبية والإشعار والتقليد، فأيّ ذلك فعل فقد فرض الحَجّ ، ولا يفرض الحَجّ إلّافي هذه الشهور التي قال اللّه عَزَّ وَجَلّ : (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) وهي شوّال وذو القعدة وذو الحِجّة»(4).

2 - وخبر زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «في قوله تعالى: (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) شوّال وذو القعدة وذو الحِجّة، ليس لأحدٍ أن يحرم بالحَجّ فيما سواه»(5).

ونحوهما غيرهما من الأخبار الكثيرة.

3 - (وعقد الإحرام من الميقات، أو من منزله إنْ كان دون الميقات) بلاخلافٍ

ص: 307


1- المعتبر: ج 2/786.
2- جواهر الكلام: ج 18/49.
3- سورة البقرة: الآية 197.
4- الكافي: ج 4/289 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/271 ح 14767.
5- من لا يحضره الفقيه: ج 2/456 ح 2959، وسائل الشيعة: ج 11/273 ح 14773.

فيه أيضاً بيننا.

إنّما الكلام في اعتبار الأقربيّة إلى مكّة، كما في أكثر الأخبار، أو إلى عرفة، وسيجيء الكلام فيه إنْ شاء اللّه تعالى .

قال صاحب «الجواهر»(1): (وعن «المبسوط»(2): زيادة رابع، وهو الحَجّ من سنته، قال في «الدروس»(3): وفيه إيماءٌ إلى أنّه لو فاته الحَجّ انقلب إلى العُمرة، فلا يحتاج إلى قلبه عمرة في صورة الفوات.

قلت: يمكن أن يقول بالبطلان حينئذٍ) انتهى .

***0.

ص: 308


1- جواهر الكلام: ج 18/50.
2- المبسوط: ج 1/307.
3- الدروس: ج 1/340.

ويجوز لهما الطواف قبل المُضيّ إلى عرفات.

الطواف قبل المُضيّ إلى عرفات

أقول: (و) الظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في أنّه (يجوز لهما) أي للقارن والمُفرِد (الطواف) المندوب (قبل المُضيّ إلى عرفات).

وفي «الجواهر»:(1) (بل في «كشف اللّثام»(2) الظاهر الاتّفاق على جوازه، كما في «الإيضاح»(3) انتهى .

واستدلّ له سيّد «المدارك»:(4) بالأصل السالم عن المعارض، ومراده عموم ما دلّ على رجحانه من النصوص الكثيرة.

واستدلّ له في «الحدائق»:(5) بحسن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«سألته عن المفرِد للحَجّ ، هل يطوف بالبيت بعد طواف الفريضة ؟

قال: نعم ما شاء، ويجدّد التلبية بعد الركعتين، والقارن بتلك المنزلة يعقدان ما أحلّا من الطواف بالتلبية»(6).

وقد عقد صاحب «الوسائل» باباً ذكر فيه حديثين، ثمّ قال: (ويأتي ما يدلّ

ص: 309


1- جواهر الكلام: ج 18/58.
2- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/55.
3- إيضاح الفوائد: ج 1/262.
4- مدارك الأحكام: ج 7/197.
5- الحدائق الناضرة: ج 14/376.
6- تهذيب الأحكام: ج 5/44 ح 60، وسائل الشيعة: ج 11/286 ح 14816.

على ذلك)(1).

وأمّا عن تقديم الطواف الواجب: ففي «الحدائق»(2) أنّه قول الأكثر، وعزاه في «المعتبر»(3) إلى فتوى الأصحاب، لكن نُقل عن ابن إدريس(4) المنع من التقديم محتجّاً بإجماع علمائنا على وجوب الترتيب، وأجاب عنه العلّامة في «المنتهى »(5):

(بأنّ الشيخ ادّعى الإجماع على جواز التقديم، فكيف يصحّ له دعوى الإجماع على خلافه ؟! والشيخ أعرف بمواضع الوفاق والخلاف) انتهى .

وعن «الغُنية»(6): الإجماع عليه.

واستدلّ للمشهور: بجملةٍ من النصوص:

منها: صحيح حمّاد بن عثمان، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن مفرد الحَجّ أيعجِّل طوافه أو يؤخّره ؟ قال عليه السلام: هو واللّه سواءٌ عجّله أو أخّره»(7). ونحوه أخبارٌ اُخر موثّقات.

وعن المصنّف رحمه الله في «المنتهى »(8) و «المختلف»(9)، والمحقّق في «المعتبر»(10)4.

ص: 310


1- وسائل الشيعة: ج 11/285 باب جواز طواف القارِن والمفرد.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/376.
3- المعتبر: ج 2/793.
4- السرائر: ج 1/624.
5- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/709.
6- غنية النزوع: ص 172، قوله: (وأوّل وقته [أي الطواف] للقارن والمفرد من حين دخولهما مكّة، وإنْ كان ذلك قبل الموقفين، بدليل ما قدّمناه [أي إجماع الطائفة]).
7- الكافي: ج 4/459 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/282 ح 14808.
8- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/709.
9- مختلف الشيعة: ج 4/39.
10- المعتبر: ج 2/794.

الإعتراض على هذه الأخبار باحتمال إرادة التعجيل بعد مناسك مِنى قبل انقضاء أيّام من التشريق وبعده. وهو متينٌ .

ولكن يشهد به النصوص الصحيحة الواردة فى حَجّة الوداع الصريحة فى ذلك(1).

ومنها: موثّق زرارة، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن مفرد الحَجّ ، يقدِّم طوافه أو يؤخّره ؟ فقال: يقدّمه. فقال رجلٌ إلى جنبه: لكن شيخي لم يفعل ذلك، كان إذا قَدِم أقام بفخّ حتّى إذا رجع الناسِ إلى منى راح معهم. فقلت له: مَنْ شيخك ؟ فقال: علي ابن الحسين عليه السلام، فسألت عن الرّجل فإذا هو أخو علي بن الحسين عليه السلام لاُمّه»(2).

ومنها: موثّق ابن عمّار في حديثٍ ، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن المفرد للحَجّ إذا طاف بالبيت وبالصّفا والمروة، أيعجّل طواف النساء؟

قال عليه السلام: لا، إنّما طواف النساء بعدما يأتي من منى »(3).

ومنها: خبر أبي بصير المتقدّم عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنْ كنتَ أحرمت بالعُمرة فقدمت يوم التروية، فلا متعة لك، فاجعلها حجّة مفردة تطوف بالبيت وتسعى بين الصفا والمروة، ثمّ تخرج إلى منى ولا هَدي عليك».

والظاهر كما صرّح به في «الرياض»(4) و «الجواهر»(5) عدم الكراهة أيضاً، كما هو ظاهر المتن.

وعن المحقّق في «الشرائع»(6)، والمصنّف في «القواعد»(7) الكراهة، واستدلّ لها:9.

ص: 311


1- راجع وسائل الشيعة: ج 11 باب 2 من أبواب أقسام الحَجّ .
2- الكافي: ج 4/459 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/283 ح 14810.
3- وسائل الشيعة: ج 11/283 ح 14811.
4- رياض المسائل (ط. ج): ج 7/78.
5- جواهر الكلام: ج 18/60.
6- شرائع الإسلام: ج 1/203.
7- قواعد الأحكام: ج 1/429.

1 - بالشبهة الناشئة من خلاف الحِلّي رحمه الله.

2 - وبموثّق زرارة المتقدّم الوارد فيه: (فقال رجلٌ إلى جنبه: لكن شيخي لم يفعل ذلك...).

ولكن يرد على الأوّل: أنّ دليل الحِلّي واضحُ الفساد، فإنّه استدلّ له:

1 - بالأصل.

2 - وبالاحتياط للإجماع على الصحّة مع التأخير.

3 - وبصحيح ابن اُذينة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، أنّه قال: «وهؤلاء الذين يفردون الحَجّ إذا قدموا مكّة وطافوا بالبيت أحلّوا، وإذا لبّوا أحرموا، فلا يزال يحلّ ويعقد حتّى يخرج إلى مِنى بلا حَجّ ولا عُمرة»(1).

4 - وبصحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام في حديثٍ : «قلت: فما الذي يلي هذا؟ قال: ما يفعله النّاس اليوم يفردون الحَجّ ، فإذا قدموا مكّة وطافوا بالبيت أحلّوا، وإذا لبّوا أحرموا، فلا يزال يحلّ ويعقد حتّى يخرج إلى مِنى بلا حَجّ ولا عُمرة»(2).

وتقريب الاستدلال بهما: أنّ ظاهرهما إرادة بطلان حجّهم بتقديم طوافه، المقتضي للتحلّل المزبور.

ويرد على الأولين: أنّه لا مجال للرجوع إليهما مع النصوص الخاصّة الدالّة على جواز التقديم، وعلى الأخيرين ما ستعرف في تجديد التلبية في ذيل هذه المسألة.

وأمّا موثّق زرارة، فهو على عدم الكراهة أدلّ ، لقول أبي جعفر عليه السلام فيه:

(يقدّمه)، فضلاً عن أنّ مجرّد نقل تأخير عليّ بن الحسين عليهما السلام لا يصلح دليلاً على3.

ص: 312


1- الكافي: ج 4/541 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/244 ح 14699.
2- وسائل الشيعة: ج 11/253 ح 14723.

كراهة التقديم، فالأظهر عدم الكراهة.

هذا كلّه في المفرد والقارن.

وأمّا المتمتّع: فالكلام فيه في موردين:

المورد الأوّل: في تقديم الطواف المندوب على الوقوف بعرفات إذا أحرم بالحَجّ ، وفيه قولان:

1 - الأشهر المنع.

2 - وعن جماعةٍ منهم صاحب «الجواهر»(1) رحمه الله الجواز.

واستدلّ للأوّل: بحسن الحلبي، قال: «سألته عن رجل أتى المسجد الحرام وقد أزمع بالحَجّ ، أيطوف بالبيت ؟ قال عليه السلام: نعم ما لم يحرم»(1).

وقد حمله صاحب «الجواهر»(3) رحمه الله على الكراهة، قال: (لقوّة إطلاق ما دلّ على جوازه، بل بموثّق إسحاق بن عمّار: «سألته - يعني أبا الحسن عليه السلام - عن الرّجل يحرم بالحَجّ من مكّة، ثمّ يرى البيت خالياً، فيطوف قبل أن يخرج، عليه شيء؟ فقال: لا»(2)، بناءً على ظهوره في إرادة نفي أن يكون عليه شيء لا النهي عن الطواف، خصوصاً بعد خبر عبد الحميد بن سعيد عن أبي الحسن عليه السلام: «سألته عن رجلٍ أحرم يوم التروية من عند المقام بالحَجّ ، ثمّ طاف بالبيت بعد إحرامه، وهو لا يرى أنّ ذلك لا ينبغي، أينقض طوافه بالبيت إحرامه ؟ فقال: لا، ولكن يمضي على إحرامه)(3) انتهى .5.

ص: 313


1- الكافي: ج 4/455 ح 3، وسائل الشيعة: ج 13/447 ح 18183.
2- الكافي: ج 4/457 ح 1، وسائل الشيعة: ج 13/312 ح 17823.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/169 ح 10، وسائل الشيعة: ج 13/447 ح 18185.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ المطلق مهما بلغ إطلاقه في القوّة، لا يصلح لمعارضة المقيّد، وهو يكون مقدّماً، إلّاأنّ الموثّق ظاهر في الجواز كما أفاده.

وما ذكره بعضٌ من أنّ قوله عليه السلام: (لا) راجعٌ إلى الطواف قبل الخروج، خلاف الظاهر، ويؤيّده خبر عبد الحميد، وعليه فالأظهر هو الكراهة.

المورد الثاني: في تقديم الطواف الواجب للحَجّ على الوقوف بعرفات:

المشهور بين الأصحاب المنع، بل لا خلاف فيه ظاهراً، وعن «المعتبر»(1)، و «المنتهى »(2)، و «التذكرة»(3) دعوى إجماع العلماء عليه كافة. نعم استثنوا من ذلك صورة الضرورة والعُذر.

وعن الشيخ حسن في كتابه «المنتقى »(4)، والسيّد في «المدارك»(5) الجواز مطلقاً.

وعن الحِلّي(6) المنع كذلك.

وأمّا النصوص: فهي على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على الجواز مطلقاً:

منها: صحيح علي بن يقطين، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل المتمتّع يهلّ بالحَجّ ، ثمّ يطوف ويسعى بين الصفا والمروة قبل خروجه إلى منى؟ قال عليه السلام:

لا بأس»(7).3.

ص: 314


1- المعتبر: ج 2/794.
2- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/708.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 8/143.
4- منتقى الجمان: ج 3/284.
5- مدارك الأحكام: ج 7/198.
6- السرائر: ج 1/575.
7- تهذيب الأحكام: ج 5/131 ح 102، وسائل الشيعة: ج 11/281 ح 14803.

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «عن الرّجل يتمتّع ثمّ يهلّ بالحجّ ، فيطوف بالبيت ويَسعى بين الصّفا والمروة قبل خروجه إلى مِنى؟ فقال: عليه السلام: لا بأس»(1). ونحوهما غيرهما.

الطائفة الثانية: ما دلّ على المنع كذلك، كخبر أبي بصير، قلت: «رجلٌ كان متمتّعاً وأهلَّ بالحَجّ؟ قال: لا يطوف بالبيت حتّى يأتي عرفات، فإنْ هو طاف قبل أن يأتي منى من غير علّةٍ ، فلا يَعتدّ بذلك الطواف»(2).

الطائفة الثالثة: ما دلّ على التفصيل بين ذوي الأعذار وغيرهم:

منها: خبر إسماعيل بن عبد الخالق، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لا بأس أن يعجِّل الشيخ الكبير والمريض والمرأة والمعلول طواف الحَجّ قبل أن يخرج إلى مِنى »(3).

ومنها: موثّق إسحاق بن عمّار، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن المتمتّع إذا كان شيخاً كبيراً أو امرأة تخاف الحيض، يعجّل طواف الحَجّ قبل أن يأتي منى؟ فقال عليه السلام:

نعم من كان هكذا يعجّل»(4).

ومنها: حسن الحلبي ومعاوية بن عمّار، جميعاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«لا بأس بتعجيل الطواف للشيخ الكبير، والمرأة تخاف الحيض قبل أن تخرج إلى منى »(5).4.

ص: 315


1- تهذيب الأحكام: ج 5/477 ح 332، وسائل الشيعة: ج 11/280 ح 14802.
2- الكافي: ج 4/458 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/281 ح 14805.
3- الكافي: ج 4/458 ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/281 ح 14806.
4- الكافي: ج 4/457 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/281 ح 14807.
5- الكافي: ج 4/458 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/281 ح 14804.

ومنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن القاسم، عن صفوان بن يحيى الأزرق، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن امرأة تمتّعت بالعُمرة إلى الحَجّ ففرغت من طواف العُمرة، وخافت الطمث يوم النحر، أيصلح لها أن تعجّل طوافها طواف الحَجّ قبل أن تأتي مِنى؟ قال عليه السلام: إذا خافت أن تضطرّ إلى ذلك فعلت»(1).

أقول: واستدلّ المجوّزون مطلقاً بالطائفة الأُولى ، والمانعون كذلك بالثانية.

واستدلّ لما هو المشهور بأنّ الطائفة الثالثة تقيّد كلّاً من الأُولى والثانية، لكونها أخصّ مطلق منهما، فتكون النتيجة هو التفصيل بين صورة العذر وعدمه، ويجوز في الأُولى خاصّة، ولكن بما أنّ الطائفة الثالثة لا مفهوم لشيء من أخبارها غير الأخير، بناءً على ما هو الحقّ من عدم المفهوم للوصف، كي يُقيّد به نصوص الجواز ومنطوقها، لا يصلح للتقيّيد، لكونه معها من قبيل المتوافقين، ولا يحمل المطلق على المقيّد فيهما.

وأمّا الأخير فالظاهر أنّه تصحيفٌ ، والصواب: (عن يحيى )، فإنّ صفوان بن يحيى من الآحاد، لم يرد في ترجمته قيد الأزرق، ويحيى الأزرق حاله مجهول، نعم إنْ كان الراوي عنه صفوان بن عثمان الذي هو من أصحاب الإجماع لاعتمدنا عليه، لكنّه غير معلوم، فالخبر ساقط عن الحجيّة.

لايُقال: إنّ موثّق أسحاق من جهة تضمّنه للقضيّة الشرطيّة، يدلّ على المنع في غير صورة العذر، فإنّ القضيّة الشرطيّة مذكورة في السؤال، وفي الجواب بيّن الإمام عليه السلام الحكم بغير صورة القضيّة الشرطيّة.7.

ص: 316


1- تهذيب الأحكام: ج 5/398 ح 30، وسائل الشيعة: ج 13/415 ح 18097.

فإن قيل: إنّه يُقيّد خبر المنع بنصوص العُذر، ويختصّ بغير صورة العذر، فتقيّد به أخبار الجواز.

أجبنا عنه: بأنّ ذلك يتوقّف على القول بانقلاب النسبة، وهو ما لا نقول به، وعلى هذا فما أفاده صاحب «المنتقى» وسيّد «المدارك» بحسب الروايات أظهر، فإنّه بواسطة نصوص الجواز يُحمل خبر المنع على الكراهة، ولكن لعدم إفتاء الأصحاب بذلك لا يترك الاحتياط.

وأمّا طواف النساء: فالمشهور بين الأصحاب أنّه لا يجوز تقديمه اختياراً، ويجوز مع الضرورة، وفي «الحدائق»(1) دعوى الاتّفاق على ذلك، لكن عن ظاهر «الخلاف»(2) جواز التقديم مطلقاً. وعن الحِلّي(3) عدم الجواز ولو للضرورة.

واستدلّ للجواز مطلقاً: بصحيح عليّ بن يقطين، عن الإمام الكاظم عليه السلام:

«لا بأس بتعجيل طواف الحَجّ وطواف النساء قبل الحَجّ يوم التروية، قبل خروجه إلى منى ، وكذلك من خاف أمراً لا يتهيّأ له، الانصراف إلى مكّة أن يطوف ويودّع البيت، ثمّ يمرّ كما هو من مِنى إذا كان خائفاً»(4).

أقول: وهذا الخبر كما ترى ظاهرٌ في جواز التقديم اختياراً، كما أفاده صاحب «الحدائق»، فالاستدلال به للقول باختصاص الجواز بصورة الضرورة كما عن جمعٍ - كما هو ظاهر «الجواهر»(5) - في غير محلّه.3.

ص: 317


1- الحدائق الناضرة: ج 14/383.
2- الخلاف: ج 2/350.
3- السرائر: ج 1/575-576.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/133 ح 109، وسائل الشيعة: ج 13/415 ح 18096.
5- جواهر الكلام: ج 18/63.

وأمّا الروايات التي استدلّوا بها لاختصاص الجواز بصورة الضرورة، فهي في غير طواف النساء.

نعم، بإزاء ذلك روايتان تدلّان على المنع مطلقاً، وهما:

إحداهما: موثّقة إسحاق، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن المفرِد للحَجّ إذا طاف بالبيت وبالصّفا والمروة، أيعجّل طواف النساء؟ قال عليه السلام: لا، إنّما طواف النساء بعدما يأتي من مِنى »(1).

ومورده وإنْ كان حَجّ الإفراد إلّاأنّ الجواب عام.

ثانيتهما: رواية علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرّجل يدخل مكّة ومعه نساء، وقد أمرهنّ فتمتعن قبل التروية بيومٍ أويومين أوثلاثة، فخشي على بعضهنّ الحيض ؟ قال عليه السلام: إذا فرغن من متعتهنّ وأحللن، فلينظر إلى التي يخافُ عليها الحيض، فيأمرها فتغتسل وتهلّ بالحَجّ من مكانها، ثمّ تطوف بالبيت وبالصفا والمروه، فإنْ حَدَث بها شيءٌ قَضَت بقيّة المناسك وهي طامث.

فقلت: أليس قد بقي طواف النساء؟ قال عليه السلام: بلى . قلت: فهي مرتهنة حتّى تفرغ منه ؟ قال: نعم.

قلت: فلِمَ لا يتركها حتّى تقضي مناسكها؟ قال عليه السلام يبقى عليها منسكٌ واحد أهون عليها من أن يبقى عليها المناسك كلّها مخافة الحدثان. قلت: أبي الجمّال أن يقيم عليها والرفقة ؟ فقال عليه السلام: ليس لهم ذلك، تستعدي عليهم حتّى يقيم عليها حتّى تطهر وتقضي مناسكها»(2). وظاهر ذلك المنع حتّى في صورة العذر.0.

ص: 318


1- وسائل الشيعة: ج 11/283 ح 14811.
2- الكافي: ج 4/457 ح 2، وسائل الشيعة: ج 13/416 ح 18100.

أقول: ولكن الخبر ضعيف، لأنّ المشهور بين الأصحاب أنّ علي بن أبي حمزة ضعيف، فقد قال عنه ابن الغضائري(1): (علي بن أبي حمزة لعنه اللّه أصل الوقف، وأشدّ الخلق عداوةً للمولى - يعني الرِّضا عليه السلام - بعد أبي إبراهيم). كما روى الكشي(2)عن ابن مسعود، قال: (سمعتُ عليّ بن الحسن يقول: ابن أبي حمزة كذّاب ملعون، وقد رويتُ عنه أحاديث كثيرة - إلى أن قال - إلّاأنّي لا استحلّ أن أروي عنه حديثاً واحداً). ونحو ذلك كلمات غيرهما.

وعليه، فالعمدة هو الأوّل، وعلى هذا فإنْ أمكن الجمع بين النصوص بحمل خبر المنع على الكراهة، وعُدَّ ذلك جمعاً عرفيّاً، لزم منه البناء على الجواز مطلقاً، وإلّا فالمرجع إلى المرجّحات، ويقدّم خبر المنع للشهرة، ولازمه البناء على المنع مطلقاً، فلا دليل على الجواز في صورة العذر، إلّاأن يستدلّ له حينئذٍ بإطلاق نصوص جواز تقديم الطواف في صورة العذر، الشامل لطواف الحَجّ وطواف النساء المتقدّم بعضها، وهو محلّ تأمّل، واللّه تعالى أعلم.

***7.

ص: 319


1- رجال ابن الغضائري: ج 4/157.
2- رجال الكشي (ط. ج): ص 467.

لكنّهما يجدّدان التلبية عند كلِّ طوافٍ

تجديد التلبية

أقول: ثبت ممّا ذكرنا أنّ للقارن والمفرد الطواف مندوباً وواجباً (لكنّهما يجدّدان التلبية عند كلّ طواف) بلا خلافٍ ، وإنّما الكلام في أنّه هل يجب ذلك، أم يكون مستحبّاً؟

وعلى التقدير الأوّل: هل يحلّ بالطواف دون النيّة أم لا؟ وفي ذلك أقوال:

القول الأوّل: ما عن الشيخ في «المبسوط»(1) و «الخلاف» و «النهاية»(2)، والشهيدين في «المسالك»(3) و «الروضة»(4) - بل قال الشهيد: (الفتوى به مشهورة) - من أنّه يجب تجديد التلبية عند كلّ طواف لئلّا يحلّ .

القول الثاني: ما عن الشيخ في «التهذيب»(5)، وعن سيّد «الرياض»(6)، وعن «الذخيرة»(7)، من أنّه إنّما يحلّ المفرِد دون القارِن.

القول الثالث: ما عن المرتضى(8) والمفيد(9) وهو عكس ذلك.

ص: 320


1- المبسوط: ج 1/311.
2- النهاية: ص 208.
3- مسالك الأفهام: ج 2/205.
4- شرح اللّمعة: ج 2/214.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/44.
6- رياض المسائل (ط. ج): ج 6/10.
7- ذخيرة المعاد: ج 3/555.
8- جمل العلم والعمل: ص 105، حكاه عنه في المدارك: ج 7/199.
9- المقنعة: ص 61.

استحباباً.

القول الرابع: ما عن الحِلّي(1)، وفي «الشرائع»(2)، واختاره المصنّف(3) وولده(4)، من أنّه لا يحلّان إلّابالنيّة، ولكن مع ذلك يجدّدان التلبية عقيب صلاة الطواف وهو المراد بقولهم عند كلّ طواف (استحباباً)، بل عن «المفاتيح»(5) نسبته إلى المتأخّرين، بل ظاهر المحكي عن «التذكرة»(6) الإجماع ممّن عدا الشيخ على القول الرابع.

أقول: يشهد لوجوب التلبية وأنّهما يحلّان بدون النيّة جملةٌ من النصوص:

منها: حسن معاوية بن عمّار المتقدّم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «سأله عن المفرِد للحَجّ ، هل يطوف بالبيت بعد طواف الفريضة ؟ قال عليه السلام: نعم ما شاء، ويجدّد التلبية بعد الركعتين، والقارِن بتلك المنزلة يعقدان ما أحلّا من الطواف بالتلبية»(7).

ومنها: صحيح ابن الحجّاج، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي اُريد جوار مكّة كيف أصنع ؟ فقال: إذا رأيتَ الهلال - إلى أن قال - قلت له: أليس كلّ من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروه فقد أحَلّ؟ فقال: إنك تعقد بالتلبية.

ثمّ قال كلمّا طِفت طوافاً، وصلّيت ركعتين، فاعقد طوافاً بالتلبية»(8).5.

ص: 321


1- السرائر: ج 1/522.
2- شرائع الإسلام: ج 1/176.
3- قواعد الأحكام: ج 1/401، تبصرة المتعلّمين ص 88.
4- إيضاح الفوائد: ج 1/262.
5- في الجواهر: ج 18/65 حكى نسبته إلى المتأخّرين عن التنقيح.
6- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 8/70-71.
7- الكافي: ج 4/298 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/286 ح 14816.
8- الكافي: ج 4/300 ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/285 ح 14815.

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في المفرِد يطوف بالبيت ويقصّر، ثمّ ذكر بعدما قصّر أنّه مُفرِد؟ قال عليه السلام: ليس عليه شيءٌ ، إذا صَلّى فليجدّد التلبية»(1).

ومنها: موثّق زرارة، قال: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: مَنْ طاف بالبيت وبالصّفا والمروة أحلّ ، أحبّ أو كره»(2). ونحوها غيرها.

أقول: وبإزاء هذه النصوص طائفتان من الأخبار:

الطائفة الاُولى: ما يدلّ على اختصاص ذلك بالمفرِد، وعدم ثبوته للقارن:

منها: موثّق زرارة المتقدّم آنفاً على ما رواه الصدوق، فإنّه - في نقلٍ - بعدما نقل الخبر كما تقدّم، قال: «إلّا من اعتمر في عامه ذلك أو ساق الهَدْي وأشعره وقلّده».

ومنها: صحيح زرارة: «جاء رجلٌ إلى أبي جعفر عليه السلام وهو خلف المقام، فقال:

إنّي قرنتُ بين حَجّة وعمرة ؟ فقال له: هل طفت بالبيت ؟ قال: نعم. فقال: هل سُقتَ الهَدْي ؟ قال: لا. فأخذ أبو جعفر بشعره، وقال أحللت واللّه»(3).

ونحوهما غيرهما.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على أنّ لمَن طاف بالبيت أن يحلّ ، ويجعل ما أتى به متعة.

وظاهره عدم الإحلال به بدون النيّة:

منها: خبر صفوان، قال: «قلت لأبي الحسن عليّ بن موسى عليه السلام: إنّ ابن السرّاج روى عنك أنّه سألك عن الرّجل يهلّ بالحَجّ ، ثمّ يدخل مكّة فطاف بالبيت سبعاً وسعى بين الصفا والمروة، فيفسخ ذلك ويجعلها متعة، فقلت له: لا؟ فقال: قد5.

ص: 322


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2/524 ح 3128، وسائل الشيعة: ج 13/518 ح 18347.
2- الكافي: ج 4/299 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/255 ح 14729.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 2/313 ح 2547، وسائل الشيعة: ج 11/289 ح 14825.

سألني عن ذلك وقلت له: لا، وله أن يحلّ ويجعلها متعة»(1).

ومنها: حسن معاوية بن عمّار: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ لبّى بالحَجّ مفرداً، فقدم مكّة وطاف بالبيت وصَلّى ركعتين عند مقام إبراهيم، وسعى بين الصفا والمروة ؟ فقال عليه السلام: فليحلّ وليجعلها متعة، إلّاأن يكون ساق الهَدْي»(2).

فإنّ ظاهر قوله: (فليحلّ ) أنّه لا يحلّ بالطواف بدون النيّة، هذه هي نصوص الباب.

وأمّا الجمع بين هذه الأخبار:

قال صاحب «الجواهر»(3): (إنّ النصوص الصريحة في أنّ القارن لا يحلّ حتّى يبلغ الهَدْي مَحلّه وإنْ طاف ولم يُلبِّ لا معارض لها سوى حسن ابن عمّارالمتقدّم، الذي جعل فيه القِران بمنزلة المفرِد، ويمكن إرادة العازم على الحَجّ والعُمرة من القارن فيه، مع أنّه متّحدٌ لا يعارض المتعدّد المعتضد بالأصل وبغيره.

ثمّ قال: إنّ من المستبعد جدّاً الإحلال قهراً، والانقلاب عمرةً كذلك، خصوصاً في الطواف المندوب الذي قد عرفت جوازه من القارن المفرد، وخصوصاً فيمن كان فرضه ذلك، فإنّ الأدلّة المزبورة لا تصلح لإثبات الانقلاب القهري، خصوصاً بعد معلوميّة توقّف الإحلال على التقصير نصّاً وفتوىً ، واحتمال تخصيص ذلك بما هنا ليس بأولى من العكس على معنى أنّ له الإحلال إنْ شاء به في مقامٍ يجوز العدول إلى العُمرة) انتهى ملخّصاً.8.

ص: 323


1- تهذيب الأحكام: ج 5/89 ح 102، وسائل الشيعة: ج 12/353 ح 16492.
2- الكافي: ج 4/298 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/255 ح 14728.
3- جواهر الكلام: ج 18/68.

أقول: وفي كلامه قدس سره مواقع للنظر والمناقشة:

المناقشة الاُولى: ما ذكره من المحمل لحسن ابن عمّار، فإنّ قوله عليه السلام في ذيله:

(والقارن بتلك المنزلة، يعقدان ما أحلّا به من الطواف بالتلبية) يدفع ذلك.

المناقشة الثانية: ما أفاده من أنّه متّحدٌ لا يعارض المتعدّد المعتضد بالأصل، فإنّه يرد عليه أنّ التعدّد وكذا الإعتضاد بالأصل ليس من المرجّحات الموجبة لتقديم واجدها.

المناقشة الثالثة: ما أفاده من الإستبعادات، فإنّه يرد عليه أنّ تلك الإستبعادات لا توجبُ رفع اليد عن ظهور الأخبار.

والحقّ أن يُقال: إنّ الطائفة الأخيرة إنّما هي في مقام بيان أنّ له أنْ يجعل ما أتى به عمرة ويجعل حجّته متعة، وقوله: (وليحلّ ) أي يبقى على الإحلال ولا يعقد بالتلبية، ثمّ يأتي بالحَجّ ويصير ذلك تمتّعاً، وله أن يعقد ويتمّها إفراداً.

وأمّا الطائفة الثانية: فهي معارضة مع حسن معاوية، فإنْ كان الجمع بينهما ممكناً، بأن تُحمل الطائفة الثانية على إرادة عدم صحّة العدول إلى التمتّع من جهة ما فيها من استشناء القارن عن الإحلال فهو، وإلّا فالمرجع إلى المرجّحات، والترجيح مع تلك الطائفة الموافقة للكتاب والسُنّة الدالّين على أنّ القارن لا يَحلّ حتّى يبلغ الهَدْي محلّه وحتّى يقصّر.

وعليه، فالمتعيّن هو الأخذ بظاهر النصوص الأُولى ، الدالّة على أنّ المُفرِد يحلّ بالطواف، وأنّه يجبُ عليه العقد بالتلبية، وإذا انضمّ إليها نصوصُ جواز العدول إلى التمتّع، تكون النتيجة هو وجوب العقد بالتلبية، إلّاإذا جاز له العدول إلى التمتّع وقصد ذلك.

ص: 324

تنبيهات التلبية

التنبيه الأوّل: أنّ ما أفاده السيّد في محكي «المدارك»، بعد نقل بعض ما تقدّم من الروايات، وبعد نقل ما عن الشهيد رحمه الله من (أنّ دليل التحلّل ظاهرٌ، والفتوى به مشهورة، والمعارض منتفٍ )، قال: (وهو كذلك، لكن ليس في الروايات دلالة على صيرورة الحجّة مع التحلّل عمرة، كما ذكره الشيخ رحمه الله وأتباعه)(1) انتهى . هو الصحيح.

وإيراد صاحب «الحدائق» رحمه الله عليه: بأنّ ظاهر صحيح معاوية أو حسنه المتقدّم:

(فليحلّ وليجعلها متعة) أنّه مع عدم العقد بالتلبية، الواجب عليه الإحلال والعدول إلى التمتّع، وإذا انضمّ إلى ذلك الأخبار الواردة في حجّة الوداع المتضمّنة لأمر اللّه عَزَّ وَجَلّ بأنّ من لم يسق الهَدْي يجبُ عليه العدول إلى التمتّع بعد الطواف والسعي، يستنتج أنّ كلّ من أحرم مفرداً وطاف وسعى ولم يسق الهَدْي، ولم يعقد إحرامه بالتلبية، فإنّه يصير مُحِلّاً، ويجبُ عليه أن يجعل ما أتى به عمرة يتمتّع به إلى الحَجّ (1).

في غير محلّه: فإنّ السيّد رحمه الله لايدّعي أنّه لايجوزالعدول، بل مدّعاه أنّ النصوص لا تدلّ على الانقلاب القهري، وهو متينٌ ، وما أفاده لايدلّ على الانقلاب القهري.

التنبيه الثاني: أفاد سيّد «المدارك»(3) أنّ مراد المحقّق ومن قال بمقالته من النيّة هو أنّ المُفرِد لا يحلّ إلّابنيّة العدول إلى العُمرة، فيتحلّل مع العدول بإتمام أفعالها، وعلى هذا فلا يتحقّق التحلّل بالنيّة إلّافي موردٍ يسوغ فيه العدول إلى العُمرة.

أقول: الظاهر صحّة ما أفاده، وعليه فلا يرد على هؤلاء ما أورده المحقّق الثاني رحمه الله - بعد أن جَعل مرادهم من النيّة نيّة التحلّل بالطواف - بأنّ (اعتبار النيّة لا

ص: 325


1- الحدائق الناضرة: ج 14/390.

يكاد يتحقّق، لأنّ الطواف منهيٌّ عنه إذا قصد به التحلّل، فيكون فاسداً فلا يَعتدّ به في كونه مُحِلّاً، لعدم صدق الطواف الشرعي حينئذٍ، والرواية بالفرق بين القارن والمفرد ضعيفة، فالأصحّ عدم الفرق، ولكن على هذا القول يوتر كالتلبية، فالذي يلزمهما في الرواية وعبارة الشيخ أنّ حجّهما يصير عمرة فينقلب تمتّعاً.

إلى أن قال: فعلى هذا هل يحتاج إلى طوافٍ آخر للعمرة أم لا؟ كلٌّ منهما مشكلٌ :

أمّا الأوّل: فلأنّه إنْ احتيج إليه، لم يكن لهذا الطواف أثرٌ في الإحلال، وهو باطل.

وأمّا الثاني: فلأنّ إجزاءه عن طواف العُمرة بغير نيّة أيضاً معلومُ البطلان)(1) انتهي .

ويرد على المحقّق الثاني رحمه الله: - مضافاً إلى ما عرفت - أنّ الطواف بقصد التحلّل في المورد لا يكون منهيّاً عنه كما تقدّم، مع أنّ إجزاء ما أتى به عن الطواف للعُمرة - بعد دلالة أخبار حجّة الوداع، حيث إنّه لم يذكر في شيء من تلك الأخبار أنّهم أعادوا الطواف بعد أمر الرسول صلى الله عليه و آله لهم بالإحلال من حجّهم وجعله عمرة - لا إشكال فيه.

التنبيه الثالث: قد عرفت اتّفاق النّص والفتوى على أنّه بعد الطواف والسعي على الحاجّ أن يعقد الإحرام بالتلبية، ليصبح حجّه صحيحاً، إلّاأنّ هناك خبرين صريحين في بطلان الحَجّ :

الخبر الأوّل: صحيح عمر بن اُذينة أو حسنه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّه قال:

وهؤلاء الذين يفردون الحَجّ إذا قَدِموا مكّة وطافوا بالبيت أحلّوا، وإذا لبّوا أحرموا، فلا يزال يحلّ ويعقد حتّى يخرج إلى مِنى بلا حَجّ ولا عُمرة»(2).9.

ص: 326


1- جامع المقاصد: ج 3/115-116.
2- الكافي: ج 4/541 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/244 ح 14699.

قال المُحدِّث الكاشاني رحمه الله في توضيح الخبر: (بيان: كانوا يقدّمون الطواف والسعي على مناسك منى ، وربما يكرّرون، فحكم ببطلان حجّهم بذلك، وذلك لأنّ طواف البيت وسعيه موجب للإحلال، لأنّها آخر الأفعال، فإذا طاف قبل الإتيان بمناسك منى ، فقد أحلّ من حجّه قبل تمامه، فإذا جدّد التلبية فقد أحرم إحراماً آخر، وإنْ لم يطف بعد ذلك، فقد بقي حجّه بلا طواف، فلا حجّة ولا عُمرة له أيضاً، لعدم نيّته لها، وعدم إتمامه إيّاها، لأنّه لم يأتِ بالتقصير بعد فقد خرج منها قبل كمالها فبطلت، ثمّ إذا كرّر الطواف والتلبية فقد كرّر الحلّ والعقد)(1) انتهى .

ثمّ إنّه قدس سره بعد ذلك قال: (ولأجل ذلك يحمل حسن معاوية المتقدّم على التقيّة).

الخبر الثاني: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام في حديثٍ :

«قلت: فما الذي يلي هذا؟ قال: ما يفعله النّاس اليوم، يفردون الحَجّ فإذا قدموا مكّة وطافوا بالبيت أحلّوا، وإذا لبّوا أحرموا، فلايزال يحلّ ويعقد حتّى يخرج إلى مِنى بلا حَجّ ولا عُمرة»(2).

ولأجل ذلك توقّف صاحب «الحدائق»(3) رحمه الله في الحكم، وقال: (فالمسألة عندي محلّ إشكال)، ووجهه أنّ الخبرين صريحان في بطلان الحَجّ ، ولازم ذلك حمل النصوص المتقدّمة على التقيّة، ولكن الأصحاب عملوا بها.

أقول: إذا لم يتمكّن من الجمع بينهما وبين ما تقدّم فلابدّ من طرحهما، لأنّ الشهرة مع معارضهما، وهي أوّل المرجّحات.9.

ص: 327


1- حكاه عنه في الحدائق الناضرة: ج 14/396-397.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/31 ح 22، وسائل الشيعة: ج 11/253 ح 14723.
3- الحدائق الناضرة: ج 14/399.

ويجبُ على المتمتّع الهَدْي،

التنبيه الرابع: صريح الأخبار المتقدّمة أنّ الطواف موجبٌ للإحلال، لاحظ:

1 - قوله عليه السلام: (ما طاف بالبيت والصفا والمروة أحدٌ إلّاأحلّ ).

2 - وقوله عليه السلام: في صحيح ابن الحجّاج، في جواب السائل: (أليس من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد أحلّ؟ قال: إنّك تعقد بالتلبية).

3 - وقوله عليه السلام في حسن معاوية: (يعقدان ما أحلّا من الطواف بالتلبية، وأنّ التلبية توجب عقد الإحرام).

وناقشه المحقّق الأردبيلي(1) بأنّ حصول الإحرام الجديد بالتلبية مستلزمٌ لتوالٍ فاسدة، لأنّ المتجدّد ليس بإحرام بالحَجّ ولا بالعُمرة، لسبق بعض عمل الحَجّ ، وعدم فعل العُمرة، حيث لم يُذكر له وقتٌ ولا ميقات، كما لم يذكر له نيّة ولا قال به أحدٌ، مع أنّه لابدّ في العبادات كلّها من النيّة، ولأجل ذلك التزم بأنّ المراد من الأخبار أنّه إنْ لبّى لا يحصل الإحلال بالطواف، وأنّ التلبية مانعة عنه، وتبعه على ذلك صاحب «المدارك» رحمه الله(2).

ولكن يرد عليهما: أنّه لا مانع من الالتزام بالإحلال بالطواف، وأنّ التلبية توجبُ تجديد الإحرام الأوّل، لا أنّه إنشاء إحرامٍ جديد، ولا استبعاد في ذلك، وعليه فلا صارف عن ظهور الروايات.

***

وجوب الهَدْي على المتمتّع

(ويجبُ على المتمتّع الهَدْي) بالإجماعين والكتاب والسُنّة، كذا في

ص: 328


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 6/30.
2- مدارك الأحكام: ج 7/203.

ولا يجبُ على الباقين.

«المستند»(1)، والدليل عليه قول اللّه تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ) (2). فضلاً عن النصوص الكثيرة الدالّة على ذلك، وسيأتي الكلام في ذلك مفصّلاً، (و) ستعرف أنّه (لا يجب على الباقين).

***6.

ص: 329


1- مستند الشيعة: ج 12/295.
2- سورة البقرة: الآية 196.

الباب الثالث

في الإحرام:

وإنّما يصحّ من الميقات.

المواقيت

(الباب الثالث: في الإحرام):

(وإنّما يصحّ من الميقات) والمراد به الأمكنة المعيّنة شرعاً للإحرام، فإنّ الإحرام لا ينعقد إلّامن المكان المعيّن الذي قرّره الشارع بالإجماع والأخبار التي ستمرّ عليك، وإطلاقه على ذلك المكان إنّما يكون من باب إطلاق الكلّي على الفرد، فإنّ كلمة (الميقات) أصله (موقات)، فانقلبت الواو ياءً ، لأنّ ما قبلها مكسور، ويكون للزمان والمكان، فميقات الصلاة الزمان، وميقات الحَجّ المكان.

فما عن «المصباح المنير»(1) من أنّ الميقات: (الوقت، والجمع مواقيت، وقد استعير الوقت للمكان، ومنه: مواقيت الحَجّ موضع الإحرام)، ونحوه ما عن «النهاية» لابن الأثير(2)، غير تامّ .

ويؤيّد ما ذكرناه ما عن «الصحاح»(3) و «القاموس»(4) من أنّ الميقات:

(الوقت المضروب للفعل والموضع، يقال: هذا ميقات أهل الشام للموضع الذي يحرمون منه).

ص: 330


1- المصباح المنير: ج 2/667.
2- النهاية لابن الأثير: ج 3/418.
3- الصحاح (للجوهري): ج 1/269.
4- القاموس المحيط: ج 1/166.

وهي ستّة.

وبذلك ظهر أنّ ما في «العروة»(1) من أنّ (المواقيت اُطلقت على المواضع المعيّنة للإحرام مجازاً أو حقيقة متشرّعيّة) في غير محلّه.

وكيف كان، فلا ريب في أنّه لابدّ وأن يَحرم الحاجّ والمعتمر من مكان معيّن، وقد قرّر الشارع الأقدس لكلّ طائفة موضعاً خاصّاً، وباعتبار تعدّد الطوائف تكثرّت المواقيت.

(و) قد اختلفت كلمات القوم - تبعاً للنصوص - في تعدادها:

فمنهم من قال (هي) خمسة، ومنهم من جعلها (ستّة)، ومنهم من قال إنّها سبعة، ومنهم من ذكر عشرة، وليس ذلك اختلافاً في الحكم، بل هم متّفقون على جواز الإحرام من الجميع، بل لكلّ واحدٍ منهم سببٌ في تعيّين العدد بحسب نظره، ولكن المشهور بين الأصحاب أنّ المواقيت هي الستّة(2).

أمّا النصوص: فقد اختلفت أيضاً:

1 - المذكور في بعضها ستّة كصحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من تمام الحَجّ والعُمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، لا تجاوزها إلّا وأنتَ محرم، فإنّه وقّت لأهل العراق ولم يكن يومئذٍ عراقٌ ، بطن العقيق من قبل أهل العراق، ووقّت لأهل اليمن يلملم، ووقّت لأهل الطائف قَرن المنازل، ووقّت لأهل المغرب الجُحفة وهي مهيعة، ووقّت لأهل المدينة ذا الحُليفة، ومن كان منزله خلف3.

ص: 331


1- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/629.
2- مسالك الأفهام: ج 1/103.

هذه المواقيت ممّا يلي مكّة فوقته منزله»(1).

2 - والمذكور في بعض الأخبار خمسة، كصحيح الحلبي: «قال أبوعبداللّه عليه السلام:

الإحرام من مواقيت خمسة وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، لا ينبغي لحاجّ ولا معتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها، ووقّت لأهل المدينة ذا الحُليفة وهو مسجد الشجرة، يصلّي فيه، ويفرض الحَجّ ، ووقّت لأهل الشام الجُحفة، ووقّت لأهل نجد العقيق، ووقّت لأهل الطائف قَرن المنازل، ووقّت لأهل اليمن يلملم، ولا ينبغي لأحدٍ أن يرغب عن مواقيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(2). ونحوه غيره.

أقول: برغم هذه النصوص، لكن المستفاد من مجموع النصوص، وما عليه فتوى الفقهاء، هو أنّ المواضع التي يجوز الإحرام منها عشرة، كما سيمرّ عليك عند ذكرها.

***5.

ص: 332


1- الكافي: ج 4/318 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/307 ح 14874.
2- الكافي ج 4/319 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/308 ح 14875.

لأهل العراق العقيق.

ميقاتُ أهل العراق

الميقات الأوّل: وهو الميقات المضروب (لأهل العراق) والنجديّين، ومن يمرّ عليه من غيرهم، وهو (العقيق) بفتح أوّله وكسر ثانيه وقافين بينهما ياء مثنّاة.

قال صاحب المستند(1): (وهو في اللّغة كلّ وادٍ عقّه السَّيل، أي شقّه فأنهره ووسّعه، وسمّيت به أربعة أودية في بلاد العرب، أحدها: الميقات، وهو وادٍ يندفق سيله في غوري تهامة كما حُكي عن «تهذيب اللّغة»(2)، وله طرفان ووسط، فأوّله المَسْلح، الميم وكسرها، كما في «السرائر»(3)، ثمّ بالمهملتين كما عن فخر المحقّقين(4)و «التنقيح»(5)، أي الموضع العالي، أو مكان أخذ السلاح، ولبس لامَة الحرب، ويناسبه تسميته ببريد البعث أيضاً كما يأتي.

أو بالخاء المعجمة كما حكاه الشهيد الثاني عن بعض الفقهاء(6)، أي موضع النزع، سمّي به لأنّه تُنزع فيه الثياب للإحرام، ومقتضى ذلك تأخير التسمية عن وضعه ميقاتاً.

وأوسطه غمرة - بالمعجمة، ثمّ الميم الساكنة، وقيل: المكسورة، ثمّ المهملة -:

ص: 333


1- مستند الشيعة: 11/166-167.
2- تهذيب اللّغة: ج 1/59.
3- السرائر: ج 1/528.
4- حكاه عنه في كشف اللّثام: ج 1/304 (ط. ج).
5- التنقيح: ج 1/446.
6- مسالك الأفهام: ج 1/103.

منهلة من مناهل طريق مكّة، وهي فصل ما بين نجد وتهامة كما عن الأزهري(1)و «القاموس»(2)، سمّيت به، لزحمة النّاس فيها.

وآخره: ذات عِرْق بالمهملة المكسورة، ثمّ المهملة الساكنة، وهو الجبل الصغير، سُمّيت بها، لأنّه كان بها عِرْقٌ من الماء، أي قليل، وقيل: إنّها كانت قرية فخربت)(3) انتهى .

ويشهد لكون أوّل العقيق المسلح، جملةٌ من النصوص:

منها: خبر أبي بصير، عن أحدهما عليهما السلام: «حَدّ العقيق ما بين المسلخ إلى عقبة غمرة»(4).

ومنها: خبره الآخر، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «حَدّ العقيق: أوّله المسلخ وآخره ذات عِرق»(5).

ومنها: مرسل الصدوق: «قال الصادق عليه السلام: وقّت رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأهل العراق العقيق، وأوّله المسلخ، ووسطه غمرة، وآخره ذات عِرق، وأوّله أفضل»(6).

ونحوها غيرها.

أقول: ولكن في بعض النصوص أوّل العقيق بريد البعث، كصحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «أوّل العقيق بريد البعث، وهو دون المسلخ بستة أميال ممّا يلي العراق، وبينه وبين غمرة أربعة وعشرون ميلاً بريدان»(7).7.

ص: 334


1- نقله عنه في لسان العرب: ج 5/33.
2- القاموس: ج 2/108.
3- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/671.
4- الكافي: ج 4/320 ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/312 ح 14890.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/56 ح 17، وسائل الشيعة: ج 11/313 ح 14892.
6- من لا يحضره الفقيه: ج 2/304 ح 2526، وسائل الشيعة: ج 11/315 ح 14900.
7- الكافي: ج 4/321 ح 10، وسائل الشيعة: ج 11/312 ح 14887.

وهذا الخبر كما ينافي الأخبار المتقدّمة، وما صرّح به الأصحاب من أنّ أوّل العقيق المَسلخ، كذلك ينافيهما من جهة أنّ لازم ذلك كون آخره غمرة، لما دلّ من النصوص على أنّ مسافة العقيق بريدان، ما بين بريد البعث إلى غمرة بريدين، وقد صرّح بذلك أيضاً:

1 - في صحيح عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «وقّت رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأهل المشرق العقيق نحواً من بريدان ما بين البعث إلى غمرة، الحديث»(1).

2 - وفي رواية أُخرى أنّ آخر العقيق أوطاس، وهي جمع وطس؛ اسم وادٍ في بلاد هوازن، كانت فيه وقعة حُنين، لاحظ: صحيح معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «آخر العقيق بريد أوطاس»(2).

3 - ولكن في مرسل ابن فضّال عنه عليه السلام: «أوطاس ليس من العقيق»(3).

أقول: ولا يحضرني الآن شيء يمكن أن يجمع به بين هذه النصوص المختلفة في تعيّين حدود العقيق، وأمّا من ناحية الإحرام فسيأتي الكلام فيه فانتظر.

وأمّا كلمة (نَجْد) على ما صرّح به الفيّومي(4) فهي ما ارتفع من الأرض، والجمع نجود، سُمّي به بلاد معروفة من جزيرة العرب، أوّلها من ناحية الحجاز ذات عِرْق، وآخرها سواد العراق، ولهذا قيل: ليست من العراق.

وعن «القاموس»(5): (إنّه اسمٌ لما دون الحجاز ممّا يلي العراق، أعلاه تهامة0.

ص: 335


1- تهذيب الأحكام: ج 5/56 ح 16، وسائل الشيعة: ج 11/309 ح 14878.
2- الكافي: ج 4/319 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/312 ح 14886.
3- الكافي: ج 4/320 ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/313 ح 14891.
4- المصباح المنير: ج 2/593.
5- القاموس المحيط: ج 1/340.

واليمن، وأسفله العراق والشام، وأوّله من جهة الحِجاز ذات عِرْق، وهو مؤذنٌ بدخول العراق).

أقول: وكون العقيق ميقاتاً لمن ذُكر، ممّا لا خلاف فيه، وقد نقل صاحب «المستند»(1) الإجماع المستفيض عليه.

ويشهد لكونه ميقاتاً لأهل العراق:

1 - صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من تمام الحَجّ والعُمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، لا تجاوزها إلّاوأنتَ مُحرم، فإنّه وقّت لأهل العراق ولم يكن يومئذٍ عراق، بطن العقيق من قبل أهل العراق»(2).

2 - وصحيح عمر بن يزيد، عنه عليه السلام: «وقّت رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأهل المشرق العقيق نحواً من بريدين»(3).

3 - وصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «أمّا أهل الكوفة وخراسان وما يليهم فمن العقيق»(4). ونحوها غيرها.

ويشهد لكونه ميقاتاً لأهل نجد:

1 - صحيح أبي أيّوب الخزّاز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «ووقّت لأهل نجد العقيق وما انجدت»(5).

2 - وصحيح علي بن رئاب، عنه عليه السلام في حديثٍ : «ولأهل نجد العقيق»(6).9.

ص: 336


1- مستند الشيعة: ج 11/167.
2- الكافي: ج 4/318 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/307 ح 14874.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/56 ح 16، وسائل الشيعة: ج 11/309 ح 14878.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/55 ح 15، وسائل الشيعة: ج 11/309 ح 14877.
5- الكافي: ج 4/319 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/307 ح 14873.
6- وسائل الشيعة: ج 11/309 ح 14879.

3 - وصحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الإحرام من مواقيت خمسة وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله - إلى أن قال - ووقّت لأهل نجد العقيق»(1).

4 - وصحيح رفاعة بن موسى ، عنه عليه السلام: «وقّت رسول اللّه صلى الله عليه و آله العقيق لأهل نجد، وقال: وهو وقتٌ لما انجدت الأرض وأنتَ منهم»(2). ونحوها غيرها.

ويشهد لكون العقيق ميقاتاً لمن يمرّ عليه: جملةٌ من النصوص المتقدّمة، كصحيح عمر بن يزيد، وصحيح الخزّار، وصحيح رفاعة، لأنّ قوله: (وما انجدت) إشارة إلى وجوب الإحرام من هذا الميقات على من مرّ به، وإنْ لم يكن من أهل نجد، لأنّ الإنجاد الدخول في أرض نجد، وتأنيث الضمير باعتبار الأرض المفهومة من السياق في صحيح الخزّاز، والمصرّح بها في صحيح رفاعة.

وسيأتي تمام الكلام في ذلك عند تعرّض المصنّف رحمه الله لهذه المسألة.

أقول: صريح النصوص المتقدّمة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقّت لأهل العراق ذلك، وقد ذهب إلى ذلك طائفةٌ من أهل السُنّة، ورووا في ذلك روايات، ولكن عن جماعةٍ منهم أنّه وقّته عمر بن الخطّاب، وعن جماعةٍ آخرين منهم أنّه ثبت قياساً، واستدلّوا له بأنّ أهل العراق كانوا مشركين في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله.

وأجاب عن ذلك المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة»(3) بقوله: (ولا حجّة فيه، لعلمه صلى الله عليه و آله بأنّهم يَسْلمون أو يمرّ على هذا الميقات مُسلمٌ كما عن أبي عبد اللّه عليه السلام)، ثمّ نقل صحيح معاوية المتقدّم.0.

ص: 337


1- الكافي: ج 4/319 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/308 ح 14875.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2/303 ح 2523، وسائل الشيعة: ج 11/310 ح 14882.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/190.

وأفضله المسلخ، وأوسطه غمرة، وآخره ذات عرق.

والمشهور بين الأصحاب أنّه يجوز الإحرام اختياراً من كلّ من المسلخ وغَمرة وذات عِرْق (و) لكن (أفضله المسْلَخ، وأوسطه غَمرة، وآخره ذات عِرق).

ويشهد به: جملة من النصوص، وقد تقدّمت، لاحظ خبر أبي بصير، ومرسل الصدوق وخبر إسحاق المتقدّمة.

أقول: إنّما الكلام هنا في موردين:

المورد الأوّل: أنّه قد عرفت دلالة جملة من النصوص كخبر أبي بصير وصحيح عمر بن يزيد وصحيح ابن عمّار المتقدّمة، على أنّ أوّل العقيق بريد البعث وهو دون المسلخ بستة أميال، وقد مرّ أنّه لا يمكن لنا الجمع بينها وبين النصوص والكلمات المصرّحة بأنّ أوّل العقيق المسلخ.

ودعوى صاحب «المستند»:(1) (وقيل إنّ هذه الستّة أميال وإنْ كانت من العقيق، ولكنّها خارجة عن بطنه الذي هو الميقات، كما نص عليه في صحيحة ابن عمّار الأُولى) انتهى .

مردودة عليه: بأنّ هذا الجمع وإنْ كان يتمّ بالنسبة إلى صحيح معاوية الثاني، ولكن لا يتمّ بالنسبة إلى صحيح عمر بن يزيد الوارد فيه قوله عليه السلام: «وقّت رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأهل المشرق العقيق نحواً من بريدين ما بين بريد البعث إلى غمرة».

فالمتعيّن أن يقال: إنّه لإعراض الأصحاب عن هذه النصوص، يتعيّن طرحها، إذ الظاهر أنّ عدم جواز تقديم الإحرام على المسلخ إجماعيٌ .0.

ص: 338


1- مستند الشيعة: ج 11/170.

وفي «المستند»(1): (وادّعى بعضهم الاتّفاق عليه، وعلى فرض عدم سقوطها بالإعراض الموهن، ومعارضتها مع النصوص الاُخر، تقدّم تلك النصوص، للشهرة التي هي أوّل المرجّحات).

المورد الثاني: ويدور البحث فيه عن أنّه:

1 - هل يجوز التأخير إلى ذات عِرق اختياراً، كما هو المشهور، بل قيل كاد أن يكون إجماعاً، بل عن «الخلاف»(2) و «الناصريّات»(3) و «الغُنية»(4) الإجماع عليه.

2 - أم لا يجوز التأخير إليها إلّالمرضٍ أو تقيّةٍ ، كما عن الشيخ في «النهاية»(5)، ووالد الصدوق، والصدوق في «المقنع»(6) و «الهداية»(7)، والشهيد في «الدروس»(8)، وظاهر «المدارك»(9) الميل إليه ؟ وجهان:

يشهد للأوّل: خبر أبي بصير، ومرسل الصدوق، وخبر إسحاق المتقدّمة.

ويشهد للثاني: صحيح عمربن يزيد، وصحيح معاوية، وخبر أبي بصير المتقدّمة.

وربما يُقال: إنّ الجمع بين الطائفتين إنّما يكون بحمل نصوص المشهور على التقيّة، بشهادة ما رواه صاحب «الاحتجاج» عن محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري: «أنّه كتبَ إلى صاحب الأمر أرواحنا فداه، يسأله عن الرّجل يكون مع7.

ص: 339


1- مستند الشيعة: ج 11/171.
2- الخلاف: ج 2/284.
3- الناصريّات: ص 308.
4- غنية النزوع: ص 154-155.
5- النهاية: ص 210.
6- المقنع: ص 217-218.
7- الهداية: ص 218.
8- الدروس: ج 1/340-341.
9- مدارك الأحكام: ج 7/217.

بعض هؤلاء، ويكون متّصلاً بهم، يحجّ ويأخذ عن الجادة، ولا يحرم هؤلاء من المسلخ، فهل يجوز لهذا الرّجل أن يؤخّر إحرامه إلى ذات عِرق، فيحرم معهم، لما يخاف من الشهرة، أم لا يجوز إلّاأن يحرم من المسلخ ؟

فكتب إليه في الجواب: يحرم من ميقاته، ثمّ يلبس الثياب، ويُلبّي في نفسه فإذا بلغ إلى ميقاتهم أظهره»(1).

ولكن يرد عليه: أنّ التوقيع الشريف:

إنْ دلّ على تعيّن الإحرام من المسلخ، فهو ممّا لم يفتِ به أحدٌ، فلابدّ من رَدّ علمه إلى قائله.

وإنْ دلّ على الفضل، وأنّ مراد السائل من يجوز ولا يجوز من جهة ترك الأفضل، فهو لا يصلح شاهداً على ما ذكر.

وأمّا الجمع بذلك، فهو في نفسه مخدوشٌ من جهات لا تخفى .

وعن الحِلّي(2) الجمع بين النصوص بنحوٍ آخر، وارتضاه صاحبا «الحدائق»(3)و «الجواهر»(4)، وحاصله أنّه يجوز الإحرام من أيّ جهةٍ من جهات العقيق، إلّاأنّ له ثلاثة أوقات:

أوّلها: المَسْلخ، وهو أفضلها عند ارتفاع التقيّة.

وأوسطها: غَمرة، وهي ممّا يلي المسلخ في الفضل عند ارتفاع التقيّة.

وآخرها: ذات عِرق، وهي أدونها في الفضل إلّاعند التقيّة والشناعة والخوف.7.

ص: 340


1- وسائل الشيعة: ج 11/313 ح 14895.
2- السرائر: ج 1/528.
3- الحدائق الناضرة: ج 14/441-442.
4- جواهر الكلام: ج 18/106-107.

وعليه، فذات عِرق هي أفضلها في هذا الحال، وحينئذٍ فما في مكاتبة الحميري تعليمٌ للجمع بين مراعاة الفضل والتقيّة.

وفيه: وهذا أيضاً جمعٌ تبرّعي لا شاهد له.

فالحقّ أن يُقال: إنّ النصوص الدالّة على عدم جواز التأخير إلى ذات عِرق مع كثرتها، وصحّة أسانيدها، معرضٌ عنها عند الأصحاب، فهي موهونة بذلك لابدّ من طرحها، لسقوطها عن الحجيّة، وقد حُقّق في محلّه أنّ الخبر كلّما ازداد صحّةً ازداد ضعفاً بالإعراض.

فإنْ قيل: إنّ جماعة من الأصحاب عملوا بها وأفتوا بمضمونها، فلا تكون معرضاً عنها.

قلنا أوّلاً: لا تأثير لعمل نفرٍ قليل في مقابل إعراض الجُلّ .

وثانياً: قد مرّ أنّ تلك النصوص من جهة تضمّنها أنّ أوّل العقيق هو بريد البعث لم يفتِ أحدٌ بمضمونها، فهي مطروحة لذلك أيضاً.

وثالثاً: لم يثبت إفتاء الشيخ وابني بابويه بذلك، لاحظ كلماتهم:

قال الشيخ رحمه الله في محكي «النهاية»:(1)(وقّت رسول اللّه صلى الله عليه و آله لكلّ قومٍ ميقاتاً على حسب طُرُقهم، فوقّت لأهل العراق ومن حَجّ على طريقهم العقيق، وله ثلاثة أوقات:

أوّلها: المَسْلخ وهو أفضلها، ولا ينبغي أن يؤخّر الإنسان الإحرام منه إلّا عند الضرورة.

وأوسطها: غَمرة.0.

ص: 341


1- النهاية: ص 210.

فلا يجوز عبورها إلّامُحرِماً.

وآخرها: ذات عِرْق، ولا يجعل إحرامه من ذات عِرق إلّاعند الضرورة والتقيّة، لا يتجاوز ذات عِرق إلّامُحْرِماً على حال) انتهى .

وقال في محكي «المقنع»(1): (ولأهل العراق العقيق، وأوّل العقيق المسلخ، ووسطه غمرة، وآخره ذات عِرق، ولا يؤخّر الإحرام إلى ذات عِرق إلّامن علّةٍ ، وأوّله أفضل) انتهى .

وظاهر هذه الكلمات أنّ ذات عرق من العقيق، غاية الأمر أنّ الأفضل أن لا يؤخّر الإحرام إليها. وأصرّح من ذلك عبارة «الدروس»(2)، فإذاً هذه النصوص مخالفة للإجماع، ولم يثبت إفتاء أحدٍ بمضمونها، فالأقوى ما عليه المشهور.

أقول: والمتّفق عليه بين الأصحاب كون آخره ذات عرق، (فلا يجوز عبورها) أي ذات عرق (إلّا مُحْرِماً) ويشهد به النصوص المتقدّمة، فما في بعض النصوص المتقدّمة من أنّ آخر العقيق أوطاس، فلمخالفته للإجماع والاتّفاق لابدّ من طرحه.

وقد يُقال: إنّ أفضل مواضع العقيق بِرْكة الشريف، وهي بِرْكة مربّعة في يمين من يذهب من العراق إلى مكّة في حواليها أشجار الشوك الكثيرة، ولم يذكر لذلك دليلٌ سوى كونها أوّل المسلخ، وقد دلّ النّص على أنّ أوّل العقيق أفضل، ولكن قال صاحب «المستنند»(3): (لم يظهر لي ذلك بعد التفحّص).

***4.

ص: 342


1- المقنع: ص 217.
2- الدروس: ج 1/340.
3- مستند الشيعة: ج 11/174.

ولأهل المدينة مسجد الشجرة.

ميقات أهل المدينة

(و) الميقات الثاني: ما (لأهل المدينة) وهو (مسجد الشجرة)، كما في المتن، و «المنتهى »(1)، و «التذكرة»(2)، و «الشرائع»(3)، وعن «المقنعة»(4)، و «الناصريّات»(5)، و «جُمل العلم والعمل»(6)، و «المبسوط»(7)، و «الخلاف»(8)، و «النهاية»(9)، و «النافع»(10)، و «الإرشاد»(11)، و «القواعد»(12)، و «الكافي»(13)، و «الإشارة»(14)، و «الغُنية»(15)، و «السرائر»(16)، و «المعتبر»(17)، و «التحرير»(18)،

ص: 343


1- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/665.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/191.
3- شرائع الإسلام: ج 1/177.
4- المقنعة: ص 394.
5- الناصريّات: ص 308.
6- حكاه عنه في مستند الشيعة: ج 11/174.
7- المبسوط: ج 1/312.
8- ذكره الشيخ فى الاقتصاد: ص 300، وفى الرسائل العشر: ص 226، وفى النهاية: ص 210، فضلاً عن المبسوط وقد مرّ.
9- النهاية: ص 210.
10- المختصر النافع: ص 80.
11- إرشاد الأذهان: ج 1/315.
12- قواعد الأحكام: ج 1/416.
13- الكافي: ص 202.
14- إشارة السبق: ص 125.
15- غنية النزوع: ص 154.
16- السرائر: ج 1/528.
17- المعتبر: ج 2/802.
18- تحرير الأحكام (ط. ج): ج 1/561.

و «المهذّب»(1)، بل جميع كتب الشيخ(2) والصدوق(3) والقاضي(4) والديلمي(5).

ويشهد به: طوائف من الأخبار.

الطائفة الأُولى : ما دلّ على أنّ الميقات هو مسجد الشجرة:

منها: صحيح معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام المتضمّن لبيان حَجّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال:

«فلما انتهى إلى ذي الحُليفة فزالت الشمس، اغتسل ثمّ خرج حتّى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلّى فيه الظهر وعزم بالحَجّ »(6).

ومنها: صحيح الفضلاء، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «إذا صلّيت في مسجد الشجرة فقل وأنت قاعد في دَبر الصلاة قبل أن تقوم ما يقول المُحرم، ثمّ قُم فامش حتّى تبلغ المِيل وتستوي بك البيداء، فإذا استوت بك فلبّه»(7).

ورواه الصدوق بإسناده عن حَفص بن البُختري، ومعاوية بن عمّار، وعبد الرحمن بن الحجّاج، والحلبي كلّهم عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

ومنها: ما رواه المفيد في «المقنعة»، قال عليه السلام: «إذا أحرمتَ من مسجدالشجرة، فلا تلبِّ حتّى تنتهي إلى البيداء»(8). ونحوها غيرها.

الطائفة الثانية: ما دلّ على أنّ الميقات ذو الحُليفة، ولكنّه قد فُسّر بمسجدالشجرة:8.

ص: 344


1- المهذّب: ج 1/213.
2- الإقتصاد: ص 300.
3- المقنع: ص 68.
4- القاضي في شرح جمل العلم والعمل: ص 213.
5- الديلمي في المراسم: ص 107.
6- وسائل الشيعة: ج 11/213 ح 14647.
7- الكافي: ج 4/333 ح 11، وسائل الشيعة: ج 12/373 ح 16548.
8- وسائل الشيعة: ج 12/372 ح 16544، المقنعة: ص 448.

منها: صحيح الحلبى المتقدّم: «وقّت لأهل المدينة ذا الحُليفة، وهو مسجد الشجرة»(1).

ومنها: خبر الأمالي: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقّت لأهل العراق العقيق - إلى أن قال - ووقّت لأهل المدينة ذا الحُليفة وهو مسجد الشجرة»(2).

ومنها: ما عن «المقنع»: «وقّت رسول اللّه صلى الله عليه و آله - إلى أن قال - ولأهل المدينة ذا الحُليفة وهو مسجد الشجرة»(3).

الطائفة الثالثة: ما دلّ على أنّ الميقات الشجرة:

منها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من أقام بالمدينة شهراً وهو يريد الحَجّ ، ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق أهل المدينة الذين يأخذونه، فليكن إحرامه حِذاء الشجرة من البيداء»(4).

ومنها: خبر علي بن جعفر، عن أخيه: «عن المتعة في الحَجّ من أين أحرامها وإحرام الحَجّ؟ قال عليه السلام: وقّت رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأهل العراق من العقيق، ولأهل المدينة ومن يليها من الشجرة، الحديث»(5).

ونحوهما في ذلك صحيح الحلبي.

وتقريب الاستدلال بها: أنّ من المعلوم أنّ ليس المراد بالشجرة نفس الشجرة، بل الظاهر أنّ المراد بها مسجد الشجرة.

الطائفة الرابعة: ما دلّ على أنّ الميقات هو ذو الحليفة، وفُسّر ذلك بالشجرة:8.

ص: 345


1- الكافي ج 4 ص 319 ح 2 / وسائل الشيعة: ج 11 ص 308 ح 14875.
2- وسائل الشيعة: ج 11/310 ح 14883، الأمالي ص 650.
3- وسائل الشيعة: ج 11/311 ح 14884.
4- الكافي: ج 4/321 ح 9، وسائل الشيعة: ج 11/317 ح 14908.
5- وسائل الشيعة: ج 11/310 ح 14881، قرب الإسناد: ص 108.

منها: صحيح علي بن رئاب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الأوقات التي وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله للنّاس ؟ فقال عليه السلام: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقّت لأهل المدينة ذا الحُليفة وهي الشجرة»(1).

ولا ينافي ذلك النصوص الدالّة على أنّه ذو الحُليفة من دون أن يفسّره الظاهر في بادئ النظر في أنّه المكان الذي فيه المسجد، مثل:

1 - صحيح أبي أيّوب الخزّاز المتقدّم: «وقّت لأهل المدينة ذا الحُليفة»(2).

2 - وصحيح معاوية المتقدّم أيضاً، قال عليه السلام: «ووقّت لأهل المدينة ذا الحُليفة»(3).

ونحوهما غيرهما، لا لما أفاده في «العروة»(4) من أنّه يجبُ حمل المطلق على المقيّد، لأنّ نسبة المسجد إلى ذي الحليفة - بناءً على أنّه المكان الذي فيه المسجد - نسبة الجزء إلى الكلّ ، لا الجزئي إلى الكلّي، بل لأنّه فُسّر في النصوص الاُخر ذو الحُليفة بالمسجد، وعليه فما في جملةٍ من كلمات الفقهاء من أنّ ميقات أهل المدينة ذو الحُليفة، إنّما هو لأجل تبعيّة النصوص، وإلّا فمرادهم منه هو المسجد، وعليه فلا خلاف في هذا الميقات.

قال السيّد في «العروة»: (لكن مع ذلك الأقوى جواز الإحرام من خارج المسجد ولو اختياراً، وإنْ قلنا بأنّ ذا الحُليفة هو المسجد، وذلك لأنّ مع الإحرام من جوانب المسجد يصدق الإحرام منه عرفاً، إذ فرق بين الأمر بالإحرام من المسجد أو بالإحرام فيه.0.

ص: 346


1- وسائل الشيعة: ج 11/309 ح 14879، قرب الإسناد: ص 76.
2- الكافي: ج 4/319 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/307 ح 14873.
3- الكافي: ج 4/318 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/307 ح 14874.
4- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/630.

هذا، مع إمكان دعوى أنّ المسجد حَدٌّ للإحرام، فيشمل جانبيه مع محاذاته، وإن شئت فقل: المحاذاة كافية ولو مع القرب)(1) انتهى .

ويرد على ما أفاده أوّلاً: أنّ الإحرام من خارج المسجد لو صدق عليه الإحرام من المسجد، فإنّما هو من الجانب المتّصل به دون الجانب منه مع عدم الاتّصال، لأنّ الابتداء حينئذٍ ليس من المسجد.

ويرد على الثاني: أنّ ظاهر النصوص خصوصيّة المسجد، لا أنّه أُخذ فى الموضوع بلحاظ البُعد عن مكّة، فيكفي جميع ما يحاذيه من المواضع المساوية له في البُعد.

وأمّا الثالث: فسيأتي الكلام في الميقات التاسع، في أنّ كفاية المحاذاة هل تكون مختصّة بصورة البُعد، أم تشمل القريب من المسجد، فانتظر.

تنبيهٌ : اختلفت كلمات اللّغويين بل الفقهاء في مقدار بُعد ذي الحُليفة عن المدينة المنوّرة:

فعن «القاموس»(2): أنّه موضعٌ على ستّة أميال من المدينة، وهو ماءٌ لبني جُشَم.

وعن النووي في «تهذيب الأسماء واللّغات»(3): أنّه بضمّ الحاء المهملة، وفتح اللّام، وإسكان الياء المثناة من تحت وبالفاء، وهو على نحو ستّة أميال من المدينة، وقيل سبعة، وقيل أربعة.

وفي «شرح مسلم» لعياض(4): ذو الحُليفة ماءٌ لبني جُشَم... انتهى .2.

ص: 347


1- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/630.
2- القاموس المحيط: ج 3/129.
3- تهذيب الأسماء واللّغات (القسم الثاني) ص 114.
4- حكاه غير واحد من أهل اللّغة كالقاموس: ج 3/129، والفقهاء كالفاضل الهندي كما سيأتي، وصاحب الجواهر: ج 18/109، ومستمسك العروة الوثقى: ج 11/252.

وعند الضرورة الجُحفة.

ونحوه ما عن «تحرير الأحكام»(1).

وعن «المصباح المنير»(2): ماءٌ من مياه بني جُشَم، ثمّ سُمّي به الموضع، وهو ميقات أهل المدينة نحو مرحلة، ويُقال على ستّة أميال.

وفي «التذكرة»(3)، وعن «المبسوط»(4): وهو على عشرة أميال من مكّة وعن المدينة ميل.

وعن «شرح الإرشاد»(5) لفخر الإسلام: ويقال لمسجد الشجرة ذو الحُليفة، وكان قبل الإسلام اجتمع فيه ناس وتحالفوا. ونحوه عن «التنقيح»(6).

أقول: لا ريب في أنّه لا فائدة في هذا النزاع والاختلاف، إذ مسجد الشجرة لم يزَل معروفاً من صدر الإسلام إلى اليوم، كما صرّح به في «الجواهر»(7)، ووقوع الاختلاف المذكور من الغرائب.

ميقات الجُحفة

ثمّ إنّه لا إشكال (و) لا خلاف بينهم في أنّه يجوز لأهل المدينة أن يحرموا (عند الضرورة) من (الجُحفة)، ويشهد به النصوص الآتية.

ص: 348


1- حكاه عنه الفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 5/211.
2- المصباح المنير: ج 1-2/146.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/191.
4- المبسوط: ج 1/313.
5- حكاه عنه الفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 5/212 (ط. ج).
6- التنقيح الرائع: ج 1/447.
7- جواهر الكلام: ج 18/109.

أقول: إنّما الكلام في موارد:

1 - في تعيّين حَدّ الجُحفة، وبيان المراد منها؟

2 - في أنّه هل يجوز تأخير الإحرام إليها اختياراً أم لا؟

3 - أنّه هل يختصّ الضرورة بالمرض والضعف أم تعمّ كلّ ضرورةٍ؟

4 - في أنّه هل يجوز الإحرام منها اختياراً إذا مشى من غير طريق ذي الحُليفة، فيختصّ المنع بمَن مشى من ذلك الطريق، أم لا يجوز؟

5 - في أنّه بناءً على عدم جواز التأخير لو لم يحرم من ذي الحُليفة وجاوزه فأحرم من الجُحفة، هل يكون إحرامه صحيحاً، وإنْ عصى بالتأخير أم لا؟

أمّا المورد الأوّل: ففي «المستند»(1): الجُحفة بالجيم المضمومة ثمّ المهملة الساكنة ثمّ الفاء المفتوحة، فناء على سبع مراحل من المدينة، وثلاث من مكّة كما عن بعض أهل اللّغة.

وعنه: أنّ بينها وبين البحر نحو ستّة أميال، وعن غيره ميلان.

قيل: ولا تناقض، لاختلاف البحر باختلاف الازمنة.

وقيل: كانت مدينةً فخربت سُمّيت بها، لإجحاف السيل بها، أي ذهابه بها(2).

وسُمّيت مَهْيَعة بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الياء المثناة التحتانيّة، ومعناه المكان الواسع.

وفي «القاموس»(3): (كانت قرية جامعة على اثنين ميلاً من مكّة، يُسمّى مَهيعة،5.

ص: 349


1- مستند الشيعة: ج 11/180.
2- ذخيرة المعاد: ج 3/576، الحدائق الناضرة: ج 14/435.
3- القاموس المحيط: ج 3/125.

فنزل بها بنو عُبيد وهم إخوة عاد، وكان أخرجهم العماليق من يثرب، فجاءهم سيلٌ فاجتحفهم فسُمّيت الجُحفة).

وعن «المصباح المنير»(1): (منزلٌ بين مكّة ومدينة قريبٌ من رابغ بين بدر وخَليص) انتهى .

وفي «المجمع»(2): (هي مكانٌ بين مكّة والمدينة، محاذية لذي الحُليفة من الجانب الشامي، قريبٌ من رابغ بين بدر وخَليص).

وقال ياقوت في «معجم البلدان»: (كانت قرية كبيرة ذات مبني على طريق المدينة من مكّة، على أربع مراحل، وهي ميقات مصر والشام إنْ لم يمرّوا على المدينة، وإنّما سُمّيت الجُحفة، لأنّ السيل اجتحفها، وحمل أهلها في بعض الأعوام، وهي الآن خراب) انتهى .

وقيل إنّها تبعد عن مكّة المكرّمة مسافة مائتين وعشرين كيلاً.

وأمّا المورد الثاني: فالمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أنّه لايجوز التأخير إليها اختياراً، ولم يخالف إلّاالجُعفي(3) وابن حمزة في «الوسيلة»(4)، فإنّهما جوّزا التأخير إليها اختياراً.

استدلّ للأوّل: بجملةٍ من النصوص:

منها: خبر إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى عليه السلام، قال: «سألته عن قوم قدموا المدينة فخافوا كثرة البرد وكثرة الأيّام يعني الإحرام من الشجرة،0.

ص: 350


1- المصباح المنير: ص 91.
2- مجمع البحرين: ج 5/31.
3- حكاه عنه في الدروس: ج 1/493.
4- الوسيلة: ص 160.

وأرادوا أن ياخذوا منها إلى ذات عرق فيحرموا منها؟ فقال عليه السلام: لا - وهو مغضبٌ - مَنْ دخل المدينة فليس له أن يحرم إلّامن المدينة»(1).

أقول: وقوله: (إلّا من المدينة) أي من ميقات أهل المدينة، هو مسجد الشجرة، كما دلّ على ذلك النصوص المتقدّمة.

ومنها: خبر أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: خصال عابها عليك أهل مكّة! قال: وما هي ؟ قلت: قالوا أحرم من الجُحفة، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله أحرم من الشجرة.

قال: الجُحفة أحد الوقتين، فأخذتُ بأدناهما وكنتُ عليلاً»(2).

وظاهره أنّ وجه تأخيره كونه عليه السلام كان عليلاً، فيدلّ بالمفهوم على عدم جواز التأخير إلّاعند حدوث العلّة والمرض.

ومنها: صحيح أبي بكر الحضرمي: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: إنّي خرجتُ بأهلي ماشياً فلم أهلّ حتّى أتيتُ الجحفة، وقد كنت شاكياً، فجعل أهل المدينة يسألون عنّي، فيقولون لقيناه وعليه ثيابه، وهم لا يعلمون وقد رَخّص رسول اللّه عليه السلام لمن كان مريضا أو ضعيفاً أن يحرم من الجُحفة»(3).

هذا، مضافاً إلى ما تقدّم من النصوص المعيّنة لمسجد الشجرة لأهل المدينة الظاهرة في التعيّين.

واستدلّ للقول الآخر: بطائفة من النصوص:

منها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام، قال: «سألته عن إحرام أهل7.

ص: 351


1- تهذيب الأحكام: ج 5/57 ح 25، وسائل الشيعة: ج 11/318 ح 14911.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/57 ح 22، وسائل الشيعة: ج 11/317 ح 14906.
3- الكافي: ج 4/324 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/317 ح 14907.

الكوفة وأهل خراسان وما يليهم، وأهل الشام ومصر من أين هو؟ قال: أهل الكوفة وخراسان وما يليهم فمن العقيق، وأهل المدينة من ذي الحُليفة والجُحفة، وأهل الشام ومصر من الجُحفة، وأهل اليمن من يَلملم، الحديث»(1).

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار: «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ من أهل المدينة أحرم من الجُحفة ؟ فقال عليه السلام: لا بأس»(2).

ومنها: صحيح الحلبي: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام: من أين يحرم الرّجل إذا جاوز الشجرة ؟ فقال عليه السلام: من الجُحفة ولا يجاوز الجُحفة إلّامُحرماً»(3).

أقول: ولأجل دلالة هذه النصوص، الصريحة في الجواز، أي جواز الإحرام من الجُحفة اختياراً، حمل هذا القائل نصوص تعيّن مسجد الشجرة على إرادة الأفضليّة.

والتحقيق أن يقال: إنّ هذه النصوص وإنْ كانت ظاهرة في الجواز، وصالحة للقرينيّة على حمل نصوص تعيّن مسجد الشجرة على إرادة الأفضليّة، وخبرين من أخبار عدم الجواز، قابلان للمناقشة فى دلالتهما عليه - وهما خبرا إبراهيم، وأبي بصير:

أمّا الأوّل: فلأنّه من المحتمل إرادة الحصر بالإضافة إلى ذات عِرق، بل الجمع بينه وبين خبر أبي بصير المصرّح بأنّ الجُحفة أحد الوقتين، يقتضي ذلك.

وأمّا الثاني: فلظهورة بقرينة قوله: (الجُحفة أحد الوقتين) - في أنّ الاعابة كانت بلحاظ تركه الأفضل، واعتذاره بأنّه كان عليلاً عن ذلك، إلّاأنّ صحيح الحضرمي ظاهرٌ في اختصاص الترخيص بالمريض الضعيف، لتضمّنه معنى الشرط، فيدلّ 5.

ص: 352


1- تهذيب الأحكام: ج 5/55 ح 15، وسائل الشيعة: ج 11/309 ح 14877.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2/306 ح 2527، وسائل الشيعة: ج 11/316 ح 14903.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/57 ح 23، وسائل الشيعة: ج 11/316 ح 14905.

بالمفهوم على عدم الجواز في غير حال المرض والضعف، وهو يصلح قرينةً لحمل خبر علي بن جعفر عليه السلام على إرادة بيان أصل المشروعيّة، ولو في حال الاضطرار، وحمل صحيح معاوية على إرادة أنّ متوطّن المدينة له أن يحرم من الجُحفة ولو في بعض الموارد، دفعاً لتوهّم السائل أنّ أهل المدينة وإنْ مرّوا على طريق الشام، يتعيّن عليهم الإحرام من مسجد الشجرة، فليحملا على ذلك جمعاً بين النصوص.

وأمّا صحيح الحلبي: فالمفروض فيه التجاوز عن الشجرة، فلا يكون في مقام بيان حكم التجاوز عنها، وأنّه يجوز أم لا يجوز.

وبالجملة: فما أفاده المشهور هو الأظهر.

وأمّا المورد الثالث: فالجمود على ظواهر النصوص، يقتضي البناء على الإختصاص بالمرض والضعف، للتصريح بهما في صحيح الحضرمي، وبالمرض في خبر أبي بصير، إلّاأنّ الأصحاب فهموا منهما إرادة المثال، وإلّا فالمدار على الضرورة، وهو حسنٌ ، وطريق الاحتياط معلوم.

وأمّا المورد الرابع: ففي «المستند»(1)، و «الجواهر»(2)، و «العروة»(3) وعن «الدروس»(4)، و «المدارك»(5): أنّه لو عدل عن طريقه ولو من المدينة في الابتداء جاز، وأحرم منها اختياراً.

واستدلّ له في «الجواهر»: بأنّها أحد الوقتين.0.

ص: 353


1- مستند الشيعة: ج 11/182-183.
2- جواهر الكلام: ج 18/112.
3- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/631.
4- الدروس: ج 1/341.
5- المدارك: ج 7/220.

وفيه: أنّ الجمع بين النصوص اقتضى حمل ذلك على إرادة أحدهما في حال الضرورة لا مطلقاً، وعليه فالأولى أن يستدلّ له بعموم ما دلّ على أنّه يجوز الإحرام من أيّ ميقاتٍ اتّفق المرور عليه، ولو لغير أهله، وأنّ المراد ب (أهل كلّ ميقاتٍ ) مَن يمرّ عليه، كما يشهد به مضافاً إلى وضوحه، صحيح معاوية المتقدّم الذي حملناه على إرادة ذلك، فلاحظه.

وبذلك يظهر أنّه لو أتى إلى ذي الحُليفة ورجع منه، ومشى من طريق آخر، له أن يحرم من الجُحفة، وأنّ ما دلّ على عدم جواز المرور عن الميقات بغير إحرام، ظاهرٌ في ارادة التجاوز عنه، والمفروض في المثال عدم التجاوز، فيشمله إطلاق ما دلّ على أنّ كلّ مَن مَرّ على ميقاتٍ له أن يحرم منه.

وأمّا خبر إبراهيم المتقدّم: فهو ضعيفُ السند، فتأمّل.

وأمّا المورد الخامس: ففيه ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: عن «الدروس»(1)، و «المدارك»(2)، وفي «الجواهر»(3) أنّه يصحّ إحرام من أخّر الإحرام عن ذي الحُليفة من الجُحفة، وإنْ عصى بتأخير الإحرام عنه.

واحتمل بعض أعاظم المعاصرين(4) عدم العصيان أيضاً.

القول الثاني: من صاحب «الحدائق»(5) أنّه: (لا يصحّ إحرامه حينئذٍ منها).6.

ص: 354


1- الدروس: ج 1/341.
2- مدارك الأحكام: ج 7/220.
3- جواهر الكلام: ج 18/112.
4- مستمسك العروة الوثقى: ج 11/256.
5- الحدائق الناضرة: ج 14/446.

القول الثالث: في «المستند»(1): (التفصيل بالإمكان وعدم المشقّة، فلا يصحّ وإلّا فيصحّ ).

واستدلّ للأوّل في «الجواهر»: (بصدق الإحرام من الميقات الذي هو وقتٌ لكلّ من يمرّ عليه، وإنْ كان آثماً أوّلاً عند المرور على الأوّل، إلّاأن ذلك لا يُخرجه عن صدق اسم المرور على الثاني، مضافاً إلى إطلاق نفي البأس عن الإحرام منه، وتقيّيد الحكم التكليفي لايقتضي تقيّيد الحكم الوضعى المستفاد من ظاهر النصوص) انتهي .

ولعلّه لذلك قال سيّد «المدارك»: (ينبغي القطع بذلك).

أقول: لا يبعد دعوى اختصاص ما دلّ على أنّ كلّ من مرّ على ميقاتٍ فهو ميقاتٌ له بمن لم يمرّ على ميقات بلده، والشاهد على ذلك خبر صفوان فقد كتب إلى الإمام الرِّضا عليه السلام:

«أنّ قوماً من أهل البصرة يمرّون على بطن العقيق، ولا يحرمون منه، وإنّما يريدون الإحرام من منزلٍ وراء العقيق بخمسة عشر ميلاً؟

فكتب: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقّت المواقيت لأهلها، ومن أتى عليها من غير أهلها....(2) إلى آخره».

وأمّا نفي إطلاق البأس عن الإحرام منه، مقيّدٌ بصورة الإضطرار، ولم يُقيّد خصوص الحكم التكليفي.

وأمّا القول الثاني: فقد ظهر وجهه، ويشهد به مضافاً إلى ذلك:

1 - خبر إبراهيم بن عبد الحميد المتقدّم، فيمن أراد الإحرام من المدينة فأراد1.

ص: 355


1- مستند الشيعة: ج 11/183.
2- الكافي: ج 4/323 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/331 ح 14941.

أن يأخذ منها إلى ذات عِرق، قال عليه السلام: «من دخل المدينة فليس له أن يُحرم إلّامن المدينة»(1). فتأمّل، فإنّ الخبر ضعيف السند.

2 - وصحيح الحلبي، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل ترك الإحرام حتّى دخل الحرم ؟ فقال: يرجع إلي ميقات أهل بلاده الذى يحرمون منه، فيحرم، فإن خشي أن يفوته الحَجّ ، فليحرم من مكانه، فإنْ استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج»(2).

3 - خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن رجل ترك الإحرام حتّى انتهى إلى الحرم كيف يصنع ؟ قال: يرجع إلى ميقات أهل بلاده الذي يحرمون به فيحرم»(3).

ودلالتهما على المدّعى واضحة، وبهما يُقيّد إطلاق ما دلّ على أنّ من مَرّ على ميقاتٍ فهو ميقاته، لو كان له إطلاقٌ شامل للمقام.

وأمّا التفصيل: الذي ذهب إليه في «المستند»، فالظاهر أنّ مدرك الاكتفاء في صورة المشقّة وعدم الإمكان، هو ما دلّ على أنّ الجُحفة ميقات لأهل المدينة عند الضرورة.

ولكن يرد عليه: أنّ التعدّي عن المرض والضعف إلى مثل هذه الضرورة غير ظاهر، نعم إذا خاف فوت الحَجّ إن رجع إلى الميقات الأوّل، جاز له الإحرام منها لصحيح الحلبي.

***9.

ص: 356


1- تهذيب الأحكام: ج 5/57 ح 25، وسائل الشيعة: ج 11/318 ح 14911.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/58 ح 26، وسائل الشيعة: ج 11/330 ح 14937.
3- وسائل الشيعة: ج 11/331 ح 14939.

حكم إحرام الحائض والجُنُب من أهل المدينة

فرع: إذا كان المُحرم جُنُباً أو حائضاً، ولم يكن استعمال الماء ميسوراً له ولو لضيق الوقت:

فعلى القول بجواز الإحرام من خارج المسجد، أو جواز الإحرام من الجُحفة اختياراً لا إشكال.

وأمّا على ما اخترناه من لزوم كون الإحرام من داخل المسجد، وأنّه لا يُجزي الإحرام من الجُحفة اختياراً:

فلا كلام إنْ أمكن له الإحرام في حال الاجتياز من المسجد.

وإنْ لم يمكن له ذلك:

فهل يحرمان من خارج المسجد، كما عن الشهيد الثاني(1) و «المدارك»(2)و «الذخيرة»(3) لوجوب قطع المسافة من المسجد إلى مكّة محرماً؟

أم يؤخّرانه إلى الجُحفة، لكون العذر ضرورة مبيحة للتأخير، كما في «المستند»(4).

أم يحرمان من خارج المسجد، ويجدّدان الإحرام من الجُحفة أو محاذاتها؟

أم يفصّل بين الحائض غير المنقطع دمها، وبين الجُنُب والحائض التي انقطع دمها؟ وجوه وأقوال:

والحقّ أن يُقال: إنّ الجُنُب والحائض المنقطع دمها يتيمّمان بدلاً عن غُسل

ص: 357


1- مسالك الأفهام: ج 1/104.
2- مدارك الأحكام: ج 7/219.
3- ذخيرة المعاد: ج 3/576.
4- مستند الشيعة: ج 11/183.

الجنابة والحيض، إمّا للصلاة، أو للكون في المسجد، فيدخلان المسجد ويُحرمان منه، ويصحّ إحرامهما.

ودعوى: أنّه لا يشرع المكث في المسجد لها مع التيمّم، لقوله تعالى : (وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (1) فجعل الغاية هو الغُسل، ولو أباحه التيمّم لكان أيضاً غايةً كما عن فخر المحقّقين(2) رحمه الله.

ممنوعة: وقد أجبنا عنها في مبحث التيمّم مفصّلاً(3)، وحاصله:

أنّ أدلّة بدليّة التيمّم حاكمة على الآية الكريمة كحكومتها على غيرها من الأدلّة.

كما أنّ ما أفاده بعض الأعاظم(4) من أنّ جعل المكث غايةً للغُسل أو التيمّم، لايخلو عن إشكالٍ ، إذ المتوقّف عليها جواز المكث، لا نفس المكث.

أجبنا عنه في الأجزاء السابقة من هذا الشرح في مبحث وجوب إزالة النجاسة عن المسجد، فراجع(5).

وأمّا الحائض قبل نقائها وانقطاع دمها، فلا يشرع لها التيمّم، لعدم اقتضاءه الإباحة فضلاً عن رفع الحَدَث منها، ولا وجه لإحرامها من خارج المسجد، باعتبار أنّ الميقات نفس المسجد، وكفاية المحاذاة إنّما هي مع البُعد، فلا تتمكّن من الإحرام قبل الجُحفة، فيجوز لها ترك الإحرام من هناك والتحرّم من الجُحفة، لا لكون ذلك عذراً، بل لعموم ما دلّ على أنّ من مَرّ على ميقاتٍ عليه أن يحرم منه،2.

ص: 358


1- سورة النساء: الآية 43.
2- إيضاح الفوائد: ج 1/66.
3- فقه الصادق: ج 4/432.
4- كتاب الطهارة للسيّد الخوئي قدس سره: ج 5/428.
5- فقه الصادق: ج 2/202.

وأنّه المراد من قوله عليه السلام: (أهل كلّ ميقاتٍ مَن يمرّ عليه).

نعم، بناءً على كفاية المحاذاة حتّى للقريب، يجب عليها أن تحرم من خارج المسجد، وسيمرّ عليك الكلام في المبنى.

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرنا وجه الاحتياط بأن تحرم من خارج المسجد، ثمّ تُجدّد الإحرام من الجُحفة.

أقول: وأمّا خبر يونس بن يعقوب، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحائض تريد الإحرام ؟ قال عليه السلام تغتسل وتستثفر وتحتشي بالكُرسُف، وتلبس ثوباً دون ثياب إحرامها، وتستقبل القبلة، ولا تدخل المسجد، وتهلّ بالحَجّ بغير الصلاة»(1)، الذي استدلّ به سيّد «العروة»(2) لوجوب إحرامها من خارج المسجد، فالظاهر كونه أجنبيّاً عن المقام، لوروده في خصوص إحرام الحَجّ دون العُمرة.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يُقال: إنّ العُمرة جزء من الحَجّ ، فيصحّ أن يقال إنّها تهلّ بالحَجّ في صورة الإهلال بالعُمرة، فتأمّل.

ولعلّ هذا الخبر يوجبُ صيرورة الاحتياط المتقدّم لزوميّاً.

***2.

ص: 359


1- الكافي: ج 4/444 ح 1، وسائل الشيعة: ج 12/399 ح 16617.
2- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/632.

وهي ميقات أهل الشام اختياراً.

ميقات أهل الشام ومصر والمغرب

الميقات الثالث: وهي الجُحفة (وهي ميقات أهل الشام) ومصر، والمغرب، ومن يمرّ عليها من غيرهم (اختياراً) بلا خلافٍ في شيء من ذلك، ويشهد بالجميع نصوصٌ كثيرة.

أمّا كونها ميقاتاً لأهل الشام، فيشهد به:

1 - صحيح رفاعة بن موسى ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «وقّت رسول اللّه صلى الله عليه و آله العقيق - إلى أن قال - ووقّت لأهل الشام الجُحفة ويقال لها المَهيعة»(1).

2 - وصحيح الحلبي، عنه عليه السلام، في حديثٍ : «ووقّت لأهل الشام الجُحفة»(2).

ونحوهما غيرهما.

وأمّا كونها ميقاتاً لأهل مصر، فيشهد به:

1 - صحيح علي بن جعفر، عن أخيه الإمام موسى عليه السلام: «وأهل الشام ومصر من الجُحفة»(3). ونحوه غيره.

وأمّا كونها ميقاتاً لأهل المغرب، فيشهد به، صحيح أبي أيّوب الخزّاز، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: حدّثني عن العقيق أوقتٌ وقّته رسول اللّه صلى الله عليه و آله، أو شيءٌ

ص: 360


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2/303 ح 2523، وسائل الشيعة: ج 11/310 ح 14882.
2- الكافي: ج 4/319 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/308 ح 14875.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/55 ح 15، وسائل الشيعة: ج 11/309 ح 14877.

صنعه النّاس ؟ فقال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقّت لأهل المدينة ذا الحُليفة، ووقّت لأهل المغرب الجُحفة، وهي عندنا مكتوبة مهيعة... إلى آخره»(1).

ويشهد لكونها ميقاتاً لمن يمرّ عليها من غيرهم، صحيح صفوان بن يحيى المتقدّم، عن أبي الحسن الرِّضا عليه السلام: «فكتب - أي الإمام عليه السلام - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقّت المواقيت لأهلها، ومن أتى عليها من غير أهلها، وفيها رخصة لمن كانت به علّة، فلا تجاوز الميقات إلّامن علّةٍ »(2).

***1.

ص: 361


1- الكافي: ج 4/319 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/307 ح 14873.
2- الكافي: ج 4/323 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/331 ح 14941.

ولليمن يَلَمْلَم.

ميقات أهل اليمن

(و) الميقات الرابع: ما (ل) أهل (اليمن) وهو (يَلَمْلَم) بلا خلافٍ فيه، والنصوص الدالّة عليه مستفيضة:

ففي صحيح الحلبي المتقدّم: «ووقّت لأهل اليمن يَلَمْلَم».

ونحوه صحيح الخزّاز، وصحيح معاوية بن عمّار وغيرهما.

واليمن على ما عن «المراصد» بالتحريك، سمّيت باليمن لتيامنهم، لمّا تفرّقت العرب من مكّة، كما سُمّيت الشام لأخذهم الشمال.

والبحر يحيط بأرض اليمن من المشرق إلى الجنوب، ثمّ راجعاً إلى المغرب، يفصل بينهما وبين باقي جزيرة العرب خطٌّ يأخذ من بحر الهند إلى بحر اليمن عرضاً في البرية من المشرق إلى جهة المغرب.

وأمّا يَلَمْلَم: فعن «المصباح المنير»(1) و «القاموس»(2): قيل الأصل: المَلَم.

فخفّفت الهمزة، وقد يقال: يرموم.

وعن «شرح الإرشاد» أنّه وادٍ(3).

وعن «القواعد»(4): أنّه جبلٌ .

ص: 362


1- المصباح المنير: ص 26.
2- القاموس المحيط: ج 4/177.
3- حكاه عنه الفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 5/215.
4- قواعد الأحكام: ج 1/416.

وفي «الجواهر»(1): جبلٌ أو وادٍ يقال له يلملم، والملم، ويرموم.

وهو على مرحلتين من مكّة، وقيل إنّه جبلٌ ، ويبعدُ عن مكّة تقريباً أربعة وتسعون كيلومتراً.

وعن «كتاب البلدان»: من مكّة إلى صنعاء إحدى وعشرون مرحلة، فأوّلها الملكان ثمّ يلملم.

وقال ياقوت في «معجم البلدان»: يلملم، ويقال الملم وململم، المجموع موضعٌ على ليلتين من مكّة، وهو ميقات أهل اليمن، وفيه مسجد معاذ بن جَبَل.

أقول: ويُعلم من هذه الكلمات أنّه لا خلاف بينهم في محلّه، وإنّما الاختلاف في أنّه وادٍ أو جبل.

***3.

ص: 363


1- جواهر الكلام: ج 18/113.

وللطائف قَرن المنازل.

ميقات أهل الطائف

(و) الميقات الخامس: ما (ل) أهل (الطائف)، وهو (قَرن المنازل) بفتح القاف وسكون الراء المهملة، خلافاً للمحكي عن الجوهري(1) من فتحهما، وزعم أنّ أويسَ القرني منسوبٌ إليه.

وفي «كشف اللّثام»(2): (إتّفق العلماء على تغليطه فيهما، وإنّما اُويس من بني قَرن، بطنٌ من مراد، بخلاف ما نحن فيه، فإنّه جبلٌ مشرف علي عرفات علي مرحلتين من مكّة، ويقال له قرن الثعالب، وقرن بلا إضافة، وعن بعض أنّ قرن الثعالب غيره، وأنّه جبلٌ مشرف على أسفل منى ، بينه وبين مسجدها ألف وخمسمائة ذراع) كذافي «الجواهر»(3).

قال القاضي عياض: (قرن المنازل وهو قرنُ الثعالب - بسكون الراء - ميقاتُ أهل نجد، تلقاء مكّة على يوم وليلة، وهو قرن أيضاً غير مضاف، وأصله الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير، ورواه بعضهم قرن بفتح الراء. وهو غلط إنّما هو قبيلة من اليمن).

أقول: ومن الغريب ما قاله صاحب «مجمع البحرين»(4): (والقرن موضعٌ ، وهو ميقات أهل نجد، ومنه أويس القرني، ويُسمّى أيضاً قرن المنازل).

ص: 364


1- الصحاح للجوهري: ج 6/2181.
2- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/216.
3- جواهر الكلام: ج 18/113.
4- مجمع البحرين: ج 3/498.

ولحجّ التمتّع مكّة.

لما عرفت من اتّفاق العلماء على تغليط الجوهري في تحريكه، ونسبة أويس القرني إليه.

وكيف كان، فالأمر سهلٌ بعد وضوح أنّه المكان المخصوص لدى المتردّدين عليه.

وقد دلّت النصوص الصحيحة على أنّه ميقات أهل الطائف: كصحيح الخزّاز:

«ولحجّ التمتّع مكّة، ومن كان منزله أقرب من الميقات، فمنزله ميقاته، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل».

ونحوه صحيح معاوية بن عمّار، وصحيح الحلبى المتقدّم جميعها، ونحوها غيرها.

ولا ينافي ذلك ما في صحيح علي بن رئاب المتقدّم: «ووقّت لأهل اليمن قرن المنازل»، وما في صحيح عمر بن يزيد، عن الصادق عليه السلام وقد تقدّم: (ولأهل نجد قرن المنازل).

فإنّه لابدّ من حمل الثاني على التقيّة، أو على إرادة أنّ لنجد طريقين: أحدهما يمرّ بالعقيق، والآخر يمرّ بقرن المنازل، كما أنّ الأوّل يُحمل على أنّ لليمن طريقين:

أحدهما بقرن المنازل، والآخر بيلملم.

تنبيه: قال المصنّف في «المنتهى »(1): (أبعد تلك المواقيت الخمسة ذو الحُليفة، وهو على عشرة مراحل من مكّة على ميل من المدينة، ويليه في البُعد الجُحفة، والمواقيت الثلاثة الباقية على مساحة واحدة بينها وبين مكّة ليلتان قاصدتان).

الميقات السادس: مكّة (و) قد تقدّم تفصيل القول في أنّ الميقات (لحجّ التمتّع مكّة) في الشرط الرابع من شروط حَجّ التمتّع، فلا نعيد.

***7.

ص: 365


1- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/667.

ومَنْ كان منزله أقرب من الميقات، فمنزله ميقاته.

ميقات مَنْ منزله أقرب من الميقات

الميقات السابع: ما ذكره بقوله: (ومَنْ كان منزله أقرب من الميقات، فمنزله ميقاته) وهو المشهور بين الأصحاب.

وفي «المنتهى »(1): (ذهب إليه علمائنا أجمع، وهو قول أهل العلم كافّة إلّا مجاهد) انتهى .

وفي «التذكره»(2): (بإجماع العلماء خلافاً لمجاهد) انتهى .

وفي «الجواهر»(3): (بل الإجماع بقسميه عليه) انتهى .

ويشهد به كثيرٌ من الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام:

1 - صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من كان منزله دون الوقت إلى مكّة، فليحرم من منزله»(4).

2 - وعن «التهذيب» بعدما روى ذلك قال: وفي حديثٍ آخر: «إذا كان منزله دون الميقات إلى مكّة فليحرم من دويرة أهله»(5).

3 - وصحيح عبد اللّه بن مسكان، قال: حدّثني أبو سعيد، قال: «سألتُ أبا

ص: 366


1- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/667.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/190.
3- جواهر الكلام: ج 18/113.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/59 ح 29، وسائل الشيعة: ج 11/333 ح 14946.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/59 ح 30، وسائل الشيعة: ج 11/334 ح 14947.

عبداللّه عليه السلام عمّن كان منزله دون الجُحفة إلى مكّة ؟ قال عليه السلام: يحرم منه»(1).

4 - وصحيح مسمع، عنه عليه السلام: «إذا كان منزل الرّجل دون ذات عِرق إلى مكّة، فليحرم من منزله»(2).

ونحوها غيرها من الأخبار.

أقول: وهذه النصوص كما ترى ، متّفقة على أنّ المعتبر القُرب إلى مكّة كما أفتى المشهور بذلك، ولكن عن موضع من «المعتبر»(3) اعتبار القُرب إلى عرفات، وكذا في «كنز العرفان»(4)، لكن النصوص تدفع ذلك.

وأفاد بعض الأعاظم:(5)(أنّ المراد من القرب إلى مكّة، أنّه دون الميقات إلى جهة مكّة. وهذا يلازم كونه أقرب إلى عرفات من الميقات، فلا تفاوت بين العبارتين عملاً ولا خارجاً، وإنْ كان بينهما تفاوت مفهوماً) انتهى .

وعلى هذا فلا يهمّ التعرّض لما استدلّ به له في مقابل النّص، والإيراد بأنّه اجتهادٌ في مقابل النّص.

فرع: وهل يشمل هذا الحكم أهل مكّة، إذا أرادوا أن يحجّوا حَجّ الإفراد أو القِران، كما هو المشهور بين الأصحاب، وفي «المستند»(6): (نفي بعضهم الخلاف فيه)، أم لا؟ وجهان.6.

ص: 367


1- تهذيب الأحكام: ج 5/59 ح 32، وسائل الشيعة: ج 11/334 ح 14949.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/59 ح 31، وسائل الشيعة: ج 11/334 ح 14948.
3- المعتبر: ج 2/786.
4- كنز العرفان: ج 1/286.
5- مستمسك العروة الوثقى: ج 11/270.
6- مستند الشيعة: ج 11/186.

يشهد للأوّل:

1 - مرسل الفقيه: «وسُئل الصادق عليه السلام عن رجلٍ منزله خلف الجُحفة من أين يحرم ؟ قال عليه السلام: من منزله»(1)، فإنّ مقتضى إطلاقه ثبوت هذا الحكم لأهل مكّة.

وفيه: قد مرّ غير مرّة أنّ المرسل إذا كان مُرسِله ينسب ما تضمّنه إلى المعصوم عليه السلام يكون حجّة، وغير الحجّة هو ما كان بلسان: روي وما شاكل.

2 - وخبر ابن أبي نصر، عن أخيه رياح، قال: «قلت لأبي عبداللّه عليه السلام إنّا نروي أنّ عليّاً عليه السلام قال: إنّ من تمام الحَجّ والعُمرة أن يحرم الرّجل من دويرة أهله ؟ فقال: قد قال ذلك عليّ عليه السلام لمَن كان منزله خلف هذه المواقيت»(2).

ويمكن الاستدلال بالنصوص المتقدّمة بالتقريب الذى ذكره في «المستند»(3): بأن يكون المراد بها من كان منزله فى جميع ذلك الموضع المبتدأ بدون الميقات المنتهي بمكّة.

ثمّ قال: (واستشكل بعضهم من جهة أنّ الأقربيّة إلى مكّة تقتضي المغايرة.

وأجاب عنه: بأنّ الأقرب إنّما ورد في كلام الأصحاب، دون أخبار الأطياب) انتهى .

وعن الفاضل الخراساني(4): الإشكال في الحكم، بأنّ في حديثين صحيحين ما يخالف ذلك:

أحدهما: صحيح سالم الحنّاط، قال: «كنتُ مجاوراً بمكّة، فسألتُ أبا عبداللّه عليه السلام من أين أحرم بالحَجّ؟ فقال عليه السلام: من حيثُ أحرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله من الجِعرانة، أتاه في6.

ص: 368


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2/306 ح 2530، وسائل الشيعة: ج 11/335 ح 14951.
2- وسائل الشيعة: ج 11/335 ح 14954.
3- مستند الشيعة: ج 11/187.
4- ذخيرة المعاد: ج 3/576.

ذلك المكان فتوح فتح الطائف وفتح خيبر والفتح(1)، الحديث».

ثانيهما: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي أريدُ الجوار بمكّة، فكيف أصنع ؟ فقال عليه السلام إذا رأيتَ الهلال هلال ذي الحجّة فاخرج إلى الجِعرانة فأحرم منها بالحَجّ »(2).

وأجاب عنه صاحب «العروة»(3): بأنّ المتيقّن منهما المجاور الذي لم ينتقل فرضه، فلا يشملان محلّ الكلام، وهو المجاور الذي انتقل فرضه.

ولكن يرد عليه: أنّه ذكر عليه السلام في ذيل صحيح ابن الحجّاج محاجّته مع سفيان، واعتراض سفيان بأنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله أحرموا من المسجد، قال: «فقلتُ : إنّ اُولئك كانوا متمتّعين في أعناقهم الدّماء، وإنّ هؤلاء قطنوا مكّة فصاروا كأنّه من أهل مكّة، وأهلُ مكّة لا متعة لهم ؟ فأحببت أن يخرجوا من مكّة إلى بعض المواقيت وأن يستغبوا به أيّاماً. الحديث».

فإنّه لو لم يكن صريحاً في أنّ مورده من انتقل فرضه، فلا أقلّ من كونه ظاهراً فيه، أو كونه المتيقّن، مع أنّ كون فردٍ متيقّناً لا يوجبُ تقيّيد الإطلاق.

وأجاب عنه في «الحدائق»(4): وتبعه غيره، بأنّ الصحيحين مختصّان بالمجاور، ولا يعمّان المتوطّن، ومن المحتمل اختصاص الحكم به.

وما دلّ على أنّ المجاور بعد إقامة سنتين بحكم أهل مكّة، وفي الصحيح:

(كأنّهم من أهل مكّة)، اُريد بهما أنّه بحكمهم في عدم المتعة لا من جميع الجهات،0.

ص: 369


1- الكافي: ج 4/302 ح 9، وسائل الشيعة: ج 11/268 ح 14760.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/45 ح 66، وسائل الشيعة: ج 11/267 ح 14759.
3- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/634.
4- الحدائق الناضرة: ج 14/450.

وعليه فأهل مكّة يحرمون منها، والمجاور يحرم من الجِعرانة وهي أحد مواضع أدنى الحِلّ ، والأحوط لأهل مكّة أيضاً أن يحرموا منها.

هذا كلّه في حَجّ الإفراد والقِران.

وأمّا إذا أراد المكّي التمتّع، فقد مرّ بيان ميقاته في مسألة ما لو صار الآفاقي مُقيماً بمكّة. فراجع(1).

فرع: هل يكون إحرام هؤلاء من منزلهم من باب الرخصة، ليجوز لهم الإحرام من أحد المواقيت، كما عن جماعةٍ ، بل عن «الكافي»(2) و «الغُنية»(3) و «الإصباح»(4):

أنّ الإحرام من الميقات أفضل ؟

أم يكون من باب العزيمة، فلا يجوز؟

ظاهر النصوص هو الثاني، واستدلّ لأفضليّة الإحرام من الميقات كاشف اللّثام(5) وسيّد «العروة»(6) ببُعد المسافة، وطول الزمان. وهما كما ترى .

نعم، يمكن أن يقال: إنّهم إذا ذهبوا إلى أحد المواقيت، جاز لهم الإحرام منه، لصدق المرور على الميقات، كما لا يخفى .

***4.

ص: 370


1- صفحة 210 من هذا المجلّد.
2- الكافي للحلبي: ص 202.
3- غنية النزوع: ص 155.
4- إصباح الشيعة: ص 151.
5- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/310.
6- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/634.

وفَخّ للصبيان.

ميقات الصبيان

الميقات الثامن: (و) هو ميقات (فَخّ ) بفتح الفاء وتشديد الخاء المعجمة.

وفي «المجمع»: (إنّه بئرٌ قريبة من مكّة، على نحو فرسخ - إلى أن قال - ويوم فَخّ كان أبو عبداللّه الحسين بن علي بن الحسن ابن عَمّ موسى الكاظم عليه السلام دعا إلى نفسه، وقال موسى بن جعفر عليهما السلام حين ودّعه: يابن عَمّ إنّك مقتولٌ فأجِد الضِّراب، فإنّ القوم فُسّاق، فقُتِل بفخّ كما أخبر به)(1) انتهى .

وعن «كشف اللّثام»(2): إنّه بئرٌ معروف على نحو فرسخ من مكّة.

وعن «السرائر»(3): إنّه موضعٌ على رأس فرسخ من مكّة، قُتِل فيه الحسين ابن بن الحسن بن الحسن بن عليّ أمير المؤمنين عليهما السلام.

وما عن «القاموس»(4): إنّه موضع بمكّة.

وعن «النهاية» لابن الأثير(5): إنّه موضعٌ عند مكّة.

أقول: وكيف كان، فهو ميقات (للصبيان) في غير حَجّ التمتّع، بمعنى جواز تأخير إحرامهم إلى هذا المكان، لا أنّه يتعيّن ذلك كما عليه جماعة.

ص: 371


1- مجمع البحرين: ج 3/369.
2- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/218.
3- السرائر: ج 1/537.
4- القاموس المحيط: ج 1/266.
5- النهاية: ج 3/418.

قال المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(1): (والصَّبي ميقاته هذه المواقيت، ويجوز أن يجرّد من فَخّ وأن يؤخّر إحرامه إليه) انتهى .

وقال في «المنتهى »(2): (ويجرّد الصبيان من فخّ ، ويجوز أن يحرم لهم من الميقات - إلى أن قال - أمّا جواز التأخير إلى فَخّ ، فلأنّ إحرامهم مستحبٌّ فلا يجب الإحرام لهم من الميقات).

وفي «الرياض»(3): (وعزاه بعضهم إلى الأكثر، ويظهر من آخر عدم الخلاف فيه).

وعن «السرائر»(4)، والفاضل المقداد، والمحقّق الثاني(5)، وفي «الجواهر»(6):

أنّه لابدَّ وأن يحرم لهم من الميقات، إنّما ينزعون الثياب من فخ.

وتوقّف في الحكم جماعة.

أقول: وقد استدلّ الطرفان بوجوه اعتباريّة لايعتني بها، وبالنصوص وهى العمدة.

يشهد للثاني:

1 - عموم ما دلّ على المواقيت، فإنّه يعمّ الصبيان كما يعمّ البالغين، فإنّه متضمّنٌ لدخالة ذلك في الحَجّ ، لا وجوب ذلك نفساً كي يُقال إنّ حديث رفع القلم يُقيّده بغير الصبيان.

2 - وما دلّ على أنّه لا يجوز تأخير الإحرام عنها وضعاً.

3 - وصحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «انظروا مَن كان معكم من0.

ص: 372


1- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/192.
2- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/667.
3- رياض المسائل (ط. ج): ج 6/196.
4- السرائر: ج 1/537.
5- جامع المقاصد: ج 3/160.
6- جواهر الكلام: ج 18/120.

الصبيان فقدّموه إلى الجُحفة أو إلى بطن مُرّ، ويصنع بهم ما يصنع بالمُحْرِم»(1).

وفي «الرياض»(2): (إنّه على خلافه أظهر)، ولعلّه من جهة خروج بطن مُرّ من الميقات، فإنّه على مرحلة من مكّة، والمرحلة مسيرة يوم، واليوم عبارة عن أربعة وعشرين ميلاً، وقد تقدّم أنّ بين أقرب المواقيت ومكّة مرحلتين.

4 - وموثّق يونس بن يعقوب، عن أبيه: «قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: إنّ معي صبية صغاراً وأنا أخاف عليهم البرد، من أين يحرمون ؟ قال عليه السلام: إيت بهم العرج فليحرموا منها، فإنّك إذا أتيت بهم العرج وقعتَ في تهامة. ثمّ قال: فإنْ خفت عليهم فأت بهم الجُحفة»(3).

وهو ظاهر في مراعاة الميقات ولو ميقات الإضطرار.

أقول: لكن بإزاءهما خبران:

أحدهما: صحيح أيّوب بن الحُرّ، قال: «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام: من أين تُجرّد الصبيان ؟ قال عليه السلام: كان أبي يُجرّدهم من فخ»(4).

ثانيهما: نحوه وهو صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام(5).

ولا ينبغي التوقّف في أنّ المراد بالتجريد في الصحيحين هو الإحرام، كما أنّ الخبرين المتقدّمين، سيّما بملاحظة ما في الموثّق: (وأنا أخاف عليهم البرد من أين يحرمون ؟) ظاهران في الإحرام مع التجريد.ة.

ص: 373


1- الكافي: ج 4/304 ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/287 ح 14819.
2- رياض المسائل (ط. ج): ج 6/197.
3- الكافي: ج 4/303 ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/289 ح 14823.
4- الكافي: ج 4/303 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/288 ح 14822.
5- المصدر السابق في وسائل الشيعة.

ومن حَجّ على طريق أحرم من ميقات أهله.

وعليه، فالطائفتان متعارضتان، وحيثُ أنّ الأصحاب أفتوا بجواز تأخير التجريد إلى فَخّ ، فالصحيحان أشهر ويقدّمان لذلك، وبهما يُقيّد إطلاق نصوص المواقيت، فتدبّر حتّى لا تبادر بالإشكال.

فالمتحصّل: أنّه يجوز تأخير إحرامهم إلى فَخّ .

ولكن الدليل مختصٌّ بفخ، وحمله على إرادة المثال وأنّ المراد أدنى الحِلّ لا دليل عليه، فالمتعيّن الاقتصار عليه، فإذا سلكوا طريقاً لا يصل إلى فخ فاللّازم إحرامهم من الميقات، كما نصّ على ذلك محكي «القواعد»(1) وغيره.

(و) قد تقدّم في الميقات الثاني والثالث أنّ (من حَجّ على طريقٍ أحرم من ميقات أهله).

***6.

ص: 374


1- قواعد الأحكام: ج 1/416.

محاذاة المواقيت

الميقات التاسع: وهي محاذاة أحد المواقيت الخمسة الأُولى ، وهي ميقاتٌ لمَن لم يمرّ على أحدها. قاله جمعٌ من الأصحاب كما عن «المدارك»(1)، بل المشهور بينهم كما في «المستند»(2)، بل عليه الشهرة العظيمة كما في «الرياض»(3) قال: (إذ لم نجد مخالفاً في المسألة عدا الماتن في ظاهر «الشرائع»).

واحتمل في «الجواهر»(4) عدم كونه مخالفاً في أصل الحكم، وأنّ نسبته إلى القيل من جهة القيود الاُخر، ولذلك نسبه في «الجواهر» إلى ظاهر الأصحاب، ومع ذلك فقد خالف جماعة كالمحقّق الأردبيلي(5)، وسيّد «المدارك»(6)، والفاضل الخراساني(7)، وصاحب «الحدائق»(8)، ولم يفتوا بكفايتها.

واستدلّ للمشهور: بصحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«من أقام بالمدينة شهراً وهو يريد الحَجّ ، ثمّ بدا أن يخرج من غير طريق أهل المدينة الذي يأخذونه، فليكن إحرامه من مسيرة ستّة أميال، فيكون حِذاء الشجرة من البيداء»(9).

ص: 375


1- مدارك الأحكام: ج 7/223.
2- مستند الشيعة: ج 11/187.
3- رياض المسائل (ط. ج): ج 6/194.
4- جواهر الكلام: ج 18/117.
5- مجمع الفائدة: ج 6/186.
6- مدارك الأحكام: ج 7/223.
7- ذخيرة المعاد: ج 3/577.
8- الحدائق الناضرة: ج 14/452.
9- الكافي: ج 4/321 ح 9، وسائل الشيعة: ج 11/317 ح 14908.

ورواه الصدوق بطريق آخر مع اختلافٍ يسير في المتن.

وعلى كلٍّ من النصّين، فإنّه لا إشكال في ظهوره في كفاية المحاذاة، ولا يعارضه:

مرسل «الكافي»: (وفي روايةٍ أُخرى : يحرُم من الشجرة ثمّ يأخذ أيّ طريقٍ شاء)(1).

ولا خبر إبراهيم بن عبد الحميد المتقدّم، في مسألة عدم جواز تأخير أهل المدينة الإحرام إلى الجُحفة اختياراً.

لضعفهما، وعدم عمل الأصحاب بهما.

أقول: لكن الإشكال في التعدّي عن مورد الصحيح، فإنّه واردٌ في موردٍ خاصٍ وهو محاذاة مسجد الشجرة مع بعض القيود، مثل كونه مُقيماً في المدينة شهراً وهو عازم على الحَجّ ، ويكون الإحرام من مسيرة ستّة أميال، وهذه القيود جميعها واردة في كلام المعصوم عليه السلام، الظاهر في أنّ لها خصوصيّة، فالتعدّي عنها إلى الفاقد لها يحتاج إلى دليل.

وما قيل: في وجهه من الإجماع، وعدم القول بالفصل، وفهم المثاليّة، والقطع بوحدة المناط، كما ترى ، فإنّ الإجماع غير التعبّدي ليس بحجّة، وفهم المثاليّة غير ظاهر، والمناط غير معلوم حتّى يقطع به.

وأيضاً: ربما يستدلّ للإكتفاء بالمحاذاة بأنّ نصوص المواقيت مختصّة بأهلها ومن أتاها، ولا تشمل غيرهم، فمن لا يمرّ بميقات يشكّ في أنّه هل يجب عليه أن يحرم من الميقات، أم يكفي الإحرام من محاذاته ؟ والمرجع أصالة البراءة.

وفيه: أنّ جملة من النصوص تدلّ على أنّ الإحرام لابدّ وأن يكون من الميقات:9.

ص: 376


1- الكافي: ج 4/321 ذيل ح 9، وسائل الشيعة: ج 11/318 ح 14909.

منها: صحيح الحلبي المتقدّم: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: الإحرام من مواقيت خسمة وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، لا ينبغي لحاجٍّ ولا معتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها»(1).

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام وقد تقدّم: «من تمام الحَجّ والعُمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، لا تجاوزها إلّاوأنتَ محرم»(2). ونحوهما غيرهما.

ودعوى: أنّ المستفاد منها أنّه لابدّ وأن لا يقطع بقدر ما بين أحد المواقيت إلى مكّة من المسافة إلّامُحرِماً من أيّ جهةٍ دخل فيكفي المحاذاة.

مندفعة: بكون ذلك خلاف ظاهر الصحيحين.

فالمتحصّل: أنّ التعدّي عن مورد الصحيح، والقول بكفاية المحاذاة مشكلٌ جدّاً، وأظنّ أنّ قدماء الأصحاب غير متعرّضين لذلك.

وعلى فرض التعدّي، الأظهر لزوم الاقتصار على المحاذاة غير البعيدة والقريبة، فإنّ الدليل ورد في مورد خاص وهو المحاذاة للشجرة بمسيرة ستّة أميال عن المدينة، والمحاذاة الحاصلة من ذلك إنّما تكون محدودة بحَدٍّ خاصٍّ ، فالتعدّي إلى طرفيه بأن يكفي المحاذاة مع الفصل عن الميقات بذراعٍ مثلاً، أو يكفى المحاذاة مع البُعد، يحتاج إلى دليلٍ مفقود.

ويؤيّده: وجوب إحرام أهل العراق من العقيق، برغم محاذاتهم على الظاهر لمسجد الشجرة قبل وادي العقيق، ولا وجه له سوى عدم الاعتناء بالمحاذاة إذا كانت بعيدة، وكذا أهل الشام إذا جاؤوا إلى الجُحفة، فإنّهم يحاذون مسجد الشجرة4.

ص: 377


1- الكافي: ج 4/319 ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/308 ح 14875.
2- الكافي: ج 4/318 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/307 ح 14874.

قبل الجُحفة.

وعلى القول بالتعدّي إذا كان في طريق يُحاذي اثنين، هل يجب محاذاة أبعد الميقاتين، أو أقربهما، أم يتخيّر؟

ظاهر النّص هو الأوّل، وعن صريح «المبسوط»(1) و «المنتهى »(2) وظاهر «القواعد»(3) اختيار الثاني.

واستدلّ له سيّد «المدارك»(4) بأنّه يجب الاقتصار فيما خالف الأصل على موضع الوفاق.

أقول: والظاهر أنّ مراده أنّ الإحرام لابدّ وأن يكون من الميقات، فمن محاذاة أقرب المواقيت إلى مكّة يجب كونه مُحْرِماً اتّفاقاً، وفيما زاد عليه لا دليل على ذلك، والأصل عدمه، ولكنّه كما ترى اجتهادٌ في مقابل النّص.

وعن الحِلّي(5) اختيار الثالث، ولعلّه لإلغاء الخصوصيّة، وفهم إرادة المثاليّة ممّا في النّص للميقات، وهو غير بعيدٍ على فرض التعدّي عن مورد النّص.

ما به تتحقّق المحاذاة

وقع الخلاف في بيان ما به تتحقّق المحاذاة:

ففي «العروة»(6) ذكر وجهين:

أحدهما: أن يكون الخطّ من موقفه إلى الميقات أقصر الخطوط في ذلك الطريق.

ص: 378


1- المبسوط: ج 1/313.
2- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/671.
3- قواعد الأحكام: ج 1/417.
4- مدارك الأحكام: ج 7/223.
5- السرائر: ج 1/529.
6- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/635-636.

ثانيهما: أن يصل في طريقه إلى مكّة إلى موضعٍ يكون بينه وبين مكّة كما بين ذلك الميقات ومكّة بالخطّ المستقيم.

الوجه الثالث: ما ذكره جماعة(1)، والظاهر أنّ إليه مرجع وجهي «العروة»، وهو أن يكون للمحاذي موضعٌ من الطريق لو فرضنا دائرة تكون مكّة في مركزها، ويمرّ محيطها بالميقات، لمرّ بذلك الموضع أيضاً.

أقول: ولكن الظاهر عدم تماميّة شيء من ذلك، فإنّ الشخص إذا كان على موضع من الدائرة المارة بالميقات، كان الخطّ الخارج منه ومن موضعه إلى الميقات خطّاً منحنياً لا خطّاً مستقيماً، فلا يكونا محاذيين.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2) وتبعه جمع من أنّ ظابط المحاذاة أن تكون مكّة المشرّفة على جَبهة المُستقبِل، والميقات على جهة يمينه أو شماله بالخطّ المستقيم.

ولكن الظاهر كفاية المحاذاة العرفيّة التي هي أوسع من ذلك.

ومع إمكان العلم بالمحاذاة يتعيّن ذلك، لكن هل يكفي الظنّ حتّى معه أو بدونه، أم يفصل بين الظنّ الخاص وغيره ؟ وجوه:

المحكي عن «المبسوط»(3)، و «الجامع»(4)، و «التحرير»(5)، و «المنتهى »(6)،1.

ص: 379


1- منهم السيّد البروجردي قدس سره في تعليقته على العروة الوثقى: ج 4/636.
2- في تعليقته على العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/636.
3- المبسوط: ج 1/313.
4- الجامع للشرائع: ص 181.
5- تحرير الأحكام: ج 1/95.
6- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/671.

و «التذكرة»(1)، و «الدروس»(2) وغيرها اختيار الأوّل.

واستدلّ لذلك صاحب «الجواهر»(3): بانسباق إرادة الظنّ في أمثال ذلك.

واستدلّ فيها وفي محكي «كشف اللّثام»(4) بلزوم الحرج، والأصل.

وما قاله صاحب «المستند»(5): (قالوا: ويكفي الظنّ بالمحاذاة، لعدم حصول غير الظنّ إمّا مطلقاً أو غالباً، فلا يكون متعلّق التكليف إلّاالظنّ ) مرجعه إلى الوجه الأوّل، وبه يندفع ما أُورد عليه بأنّ الانسباق غير ظاهر، فإنّه إذا كان الموضوع ممّا لا يتعلّق العلم به، فمن توجّه الخطاب إليه يفهم بالملازمة العرفيّة الاكتفاء بالظنّ .

لا أقول: إنّه لا يمكن الامتثال إلّابه، حتّى يقال إنّه يمكن ذلك بالاحتياط بالطريق الآتي، أو نذر الإحرام من مكانٍ خاص، بناءً على جواز تقديم الإحرام بالنذر على الميقات، بل يكون ذلك من قبيل الدلالة الالتزاميّة.

نعم، الاستدلال له بالوجهين الآخرين في غير محلّه، إذ لا يلزم الحرج من عدم اعتباره مع إمكان الاحتياط أو النذر، كما أنّ الأصل أيضاً غير أصيل.

وعليه، فالأظهر الاكتفاء بالظنّ كما أفاده الأساطين.

فرع: إنْ لم يكن له سبيلٌ إلى الظنّ ، فإن أخبر ثقة بها اكتفي بخبره، بناءً على حجيّة الخبر الواحد في الموضوعات، وإنْ لم يخبر بها، فقد يُقال: إنّ له أن يحرم من أوّل موضع احتماله، واستمرار النيّة والتلبية إلى آخر مواضعه.9.

ص: 380


1- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/204.
2- الدروس: ج 1/34.
3- جواهر الكلام: ج 18/117.
4- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/224.
5- مستند الشيعة: ج 11/189.

وأورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّه كما يمتنع تأخير الإحرام عن الميقات، كذلك يمتنع تقديمه عليه.

وفيه: أنّ حُرمة الإحرام حرمة تشريعيّة لا ذاتيّة، فلا بأس به إذا كان بعنوان الاحتياط، مع أنّه في كلّ موضع يحتمل قبل الميقات المحاذاة يدور الأمر فيه بين وجوب الإحرام منه وحرمته، والأصل يقتضي الجواز حينئذٍ، أضف إليه أنّ غايته احتمال الحرمة، وهو يُدفع بالأصل.

الإيراد الثاني: أنّه إن أمكن الذهاب إلى الميقات، والامتثال التفصيلي، لا يجزي الامتثال الإجمالي، لكونه في طوله.

وفيه: ما حقّقناه في محلّه من أنّه في عرضه لا في طوله.

الإيراد الثالث: مقتضى أصالة عدم الوصول إلى المحاذاة، الاكتفاء بالإحرام من آخر مواضع احتمالها.

وفيه: أنّه لا يثبت بذلك المحاذاة المعتبرة في الإحرام.

فرع: ولو أحرم في موضع الظنّ بالمحاذاة، ولم يتبيّن الخلاف، فلا إشكال، وإن تبيّن الخلاف:

فإنْ تبيّن كونه بعد المحاذاة، فسيأتي الكلام فيه في أحكام المواقيت.

وإنْ تبيّن كونه قبله، ولم يتجاوزه أعاد الإحرام.

وإنْ تبيّن كونه قبله وقد تجاوز:

فإنْ أمكن العود والتجديد تعيّن ذلك لبطلان إحرامه، وما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) من الحكم بالإجزاء، غير تامّ ، لعدم الإجزاء في الأحكام الظاهريّة.

وإنْ لم يمكن العود، يجدّد الإحرام في مكانه كما سيأتي.7.

ص: 381


1- جواهر الكلام: ج 18/117.

لو لم يؤدّ الطريق إلى المحاذاة

قال المصنّف رحمه الله في محكي «القواعد»(1): (ولو لم يؤدّ الطريق إلى المحاذاة، فالأقرب أن ينشأ الإحرام من أدنى الحِلّ ، ويحتمل مساواة أقرب المواقيت) انتهى .

أقول: يقع الكلام في موضعين:

الأوّل: هل يتصوّر طريقٌ لا يمرّ عليميقاتٍ ، ولا يكون محاذياً لواحدٍ منها أم لا؟

الثاني: في حكمه.

أمّا الموضع الأوّل: فظاهر المصنّف رحمه الله في «القواعد»، وولده في الشرح(2)، وسيّد «المدارك»(3) وغيرهم، المفروغيّة عن صحّة الفرض، لكن أنكره صاحب «المستند»(4) وصاحب «الجواهر»(5) وسيّد «العروة»(6).

قال صاحب «المستند»: (واختلفوا في حكم من سَلَك طريقاً لا يحاذي شيئاً منها، وهو خلاف لا فائدة فيه، إذ المواقيت محيطة بالحرم من الجوانب) انتهى .

ونحوه ما في «الجواهر» وفي «العروة».

أقول: يرد عليهم أمران:

الأمر الأوّل: ما ذكره جمعٌ (7) من محشّي «العروة»، قالوا:

إنّ ذا الحُليفة والجُحفة كليهما في شمال الحرم، على خطٍّ واحد تقريباً، وقرن المنازل في المشرق منه، والعقيق بين الشمال والمشرق، فيبقى يَلَملم وحدها لثلاثة

ص: 382


1- قواعد الأحكام: ج 1/417.
2- إيضاح الفوائد: ج 1/283-284.
3- مدارك الأحكام: ج 7/224.
4- مستند الشيعة: ج 11/189.
5- جواهر الكلام: ج 18/118.
6- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/638-639.
7- منهم السيّد البروجردي قدس سره في تعليقته على العروة الوثقى: ج 4/639.

أرباع الدائرة المحيطة بالحرم، وبينها وبين قَرن المنازل أكثر من ثلاثة أثمان الدائرة، ومنها إلى الجُحفة قريب من ذلك.

الأمر الثاني: ما ذكرناه تبعاً لسيّد «العروة» من اختصاص المحاذاة المعتبرة بالمحاذاة غير البعيدة، وعليه فيتمّ ما ذكروه من الفرض.

وأمّا الموضع الثاني: فقد يقال إنّه يحرم من مساواة أقرب المواقيت إلى مكّة في أيّ محلّ يكون بينه وبين مكّة بقدر ما بين أقرب المواقيت إليها وهو مرحلتان، والمرحلتان - كما مرّ - عبارة عن ثمانية وأربعين ميلاً.

واستدلّوا له بأنّ هذه المسافة لا يجوز لأحدٍ قطعها إلّامُحرِماً من أيّ جهةٍ دخلها، وإنّما الاختلاف فيما زاد عليها.

وفيه: أنّ ذلك إنّما ثبت عند المرور على الميقات لا مطلقاً.

وقد يقال: - كما في «العروة»(1) وغيرها - إنّه يحرم من أدنى الحِلّ ، واستدلّ له بإطلاق ما دلّ على عدم جواز دخول الحرم بلا إحرام، وأمّا لزوم الخروج عنه فيمن مَرَّ على الميقات أو من حاذاه، لنصوص المواقيت، فإنّه لا يقتضي خروج غيره من الأفراد، والأصل البراءة عن وجوب الإحرام قبله.

وفيه: ما تقدّم من أنّ مقتضى الأخبار كصحيح الحلبي وغيره أنّه يتعيّن الإحرام من المواقيت الخمسة التي وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله خَرج عنها بعض الموارد، ولا دليل على خروج الفرض منها.

وعليه، فيتعيّن أن يذهب إلى الميقات ويحرم منه، أو إلى موضعٍ محاذٍ له على القول بكفاية المحاذاة، واللّه تعالى أعلم.

***9.

ص: 383


1- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/639.

ميقات العُمرة المفردة

الميقات العاشر: أدنى الحِلّ ، وهو ميقات العُمرة المفردة بعد حَجّ القِران والإفراد، بلا خلافٍ فيه كما في «المنتهى »(1) و «التذكرة»(2).

ويشهد به:

1 - صحيح عمر بن يزيد، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«من أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر، أحرم من الجِعرانة أو الحُديبيّة أو ما أشبههما(3).

قال: وإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله اعتمر ثلاث عُمر متفرّقات، كلّها في ذي القعدة: عُمرةٌ أهلَّ فيها من عَسفان، وهي عمرة الحُديبيّة، وعُمرةُ القضاء أحرم فيها من الجُحفة، وعُمرةٌ أهلَّ فيها من الجِعرانة، وهي بعد أن رجع من الطائف من غزاة حُنين»(4).

وأورد عليه: بأنّه لا ظهور فيه في وجوب الخروج عن مكّة للاعتمار.

وفيه: ظاهر قوله عليه السلام: «من أراد أن يخرج من مكّة معتمراً» كون الخروج مقدّمة للإعتمار بقول مطلق فيكون واجباً.

2 - وصحيح جميل بن دُرّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المرأة الحائض إذا قدمت مكّة يوم التروية ؟ قال عليه السلام: تمضي كما هي إلى عرفات، فتجعلها حَجّة، ثمّ تُقيم

ص: 384


1- منتهى المطلب (ط. ج): ج 2/841.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/168.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/95 ح 123، وسائل الشيعة: ج 11/342 ح 14967.
4- وسائل الشيعة: ج 11/342 ح 14968.

حتّى تطهر، فتخرج إلى التنعيم فتحرم فتجعلها عُمرة»(1).

والإيراد عليه: بأنّه لا يمكن حمل الأمر بالإحرام من التنعيم على الوجوب.

يدفعه: أنّه يُحمل عليه بعد فهم المثال من ذكر التنعيم خاصّة، فلا إشكال في الحكم.

أقول: والصحيح الثاني وإنْ كان مختصّاً بالعُمرة المفردة بعد حَجّ الإفراد، إلّاأن الصحيح الأوّل عامٌ شاملٌ لكلّ عمرة مفردة يأتي بها أهل مكّة.

ولكن ادّعى صاحب «الجواهر»(2) الإجماع ظاهراً على اختصاص ذلك بالعُمرة المفردة بعد حَجّ القِران والإفراد.

وفي «المستند»(3) و «الحدائق»(4) على ثبوته في كلّ عمرة مفردة.

وصريح صحيح عمر بن يزيد المتقدّم عدم خصوصيّة للجِعرانة والحُديبيّة، لقوله: (أو ما أشبههما)، والتنعيم المذكور بالخصوص في صحيح جميل، قد عرفت تعيّن حمله على إرادة المثال، وكذا أمره صلى الله عليه و آله لعائشة بالإحرام من التنعيم، وفعله صلى الله عليه و آله أعمٌّ من الأفضليّة، فإذاً لا دليل على أفضليّة الإحرام من المواضع الثلاثة.

فما في «العروة»(5) من أنّ الأفضل أن يكون من الحُديبيّة أو الجِعرانة أو التنعيم. ضعيفٌ .

أقول: وأضعف منه ما في «التذكرة»(6) من أنّه: (ينبغي أن يحرم عن الجِعرانة،4.

ص: 385


1- تهذيب الأحكام: ج 5/390 ح 9، وسائل الشيعة: ج 11/296 ح 14846.
2- جواهر الكلام: ج 18/119.
3- مستند الشيعة: ج 11/190.
4- الحدائق الناضرة: ج 14/422.
5- العروة الوثقى (ط. ج): ج 4/640.
6- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/194.

فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله اعتمر منها، فإنْ فاته فمن التنعيم، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أمر عائشة بالإحرام منه، فإن فاته فمن الحُديبيّة، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لمّا قفل من خيبر أحرم عن الجِعرانة) انتهى .

تذنيبان حول ميقات العمرة

التذنيب الأوّل: الحُديبيّة بضمّ الحاء المهملة، وفتح الدالّ المهملة، ثمّ ياء مثنّاة تحتانيّة ساكنة، ثمّ باء موحدة، ثمّ ياء مثناة تحتانيّة، ثمّ تاء التأنيث.

وعن علي بن المديني(1): أهل المدينة يُثقلون الحُديبيّة، وأهل العراق يخفّفونها.

وعن السُّهيلي(2): التخفيف أعرف عند أهل العربيّة.

وقال أحمد بن يحيى(3): لا يجوز فيها غيره. وكذا عن الشافعي.

وعن أبي جعفر النحّاس(4): سألتُ كلّ من لقيتُ ممّن أثق بعلميّته من أهل العربيّة عن الحُديبيّة، فلم يختلفوا في أنّها مخفّفة.

وقيل(5): إنّ التثقيل لم يُسمع من فصيح.

وعن «كشف اللّثام»(2): إنّ عامّة الفقهاء والمحدّثين يشدّدونها.

ثمّ إنّها في الأصل اسمُ بئرٍ خارج الحرم كما عن «السرائر»(3).

ص: 386


1- ما ذكر في المتن قاله في معجم البلدان: ج 2/63، وما نقل عن ابن المدائني مختلف، كما في الحدائق: ج 14/456، عنه: العراقيّون يُثقلون الجعرانة والحديبيّة، والحجازيّون يخفّفونهما. (2و3و4و5) حكاه عنه في المصباح المنير: ج 1/170.
2- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/220.
3- السرائر: ج 1/641.

وقيل(1): اسمُ شجرةٍ حدباء، ثمّ سُمّيت بها قرية كانت هناك ليست بكبيره.

قال ياقوت(1): هي قرية متوسّطة ليست بالكبيرة، سُمّيت ببئرٍ هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول اللّه صلى الله عليه و آله تحتها.

وعن الفيّومي(2): أنّها دون مرحلتين.

وعن النووي(4): على نحو مرحلةٍ من مكّة.

وعن الواقدي(5): أنّها على تسعة أميال من المسجد الحرام.

وقيل: إنّها من الحِلّ . وقيل: إنّها من الحرم. وقيل: بعضها في الحِلّ وبعضها في الحرم(6).

وعلى أيّ تقدير الموضع معروفٌ لا نزاع حول محلّه.

وأمّا الجِعرانة: فقد اختلفت كلماتهم فيها أيضاً، بعد اتّفاقهم على كسر أوّلها، فإنّ أصحاب الحديث يكسرون عينها ويشدّدون الرّاء(3)، وأهل الأدب يخطئونهم ويسكنون عينها ويخفّفون الرّاء(4).

وعن ياقوت(5): أنّهما روايتان جيّدتان.

وعن علي بن المديني(6): أهل المدينة يثقلونها، وأهل العراق يخفّفونها.

وهي موضعٌ بين مكّة والطائف من الحِلّ ، بينها وبين مكّة ثمانية عشر ميلاً على ما عن الباجي(7).0.

ص: 387


1- معجم البلدان: ج 2/63.
2- المصباح المنير: ج 1/169. (5و6) حكاه عنه في المصباح المنير: ج 1/169.
3- جمهرة اللّغة: ج 2/79.
4- حكاه عنهم في تهذيب اللّغة: ج 1/362.
5- معجم البلدان: ج 1/499.
6- نقله في معجم البلدان: ج 1/499، عن إسماعيل بن القاضي عن علي بن المديني.
7- حكاه عنه في كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/220.

وعن الفيّومي(1): أنّها على سبعة أميال من مكّة.

وعن «كشف اللّثام»(2): أنّه سهوٌ في سهو، فإنّ الحرم من جهته تسعة أميال أو بريد كما يأتي.

وأمّا التنعيم: بالفَتح ثمّ السكون، وكسر العين المهملة، وياء ساكنة:

فعن «معجم البلدان»(3): (هو ما بين مكّة وسَرف على فرسخين من مكّة.

وقيل: على أربعة، وسُمّي بذلك، لأنّ جبلاً عن يمينه يُقال له: نعيم، وآخر عن شماله يُقال له: ناعم. واسم الوادي نعمان، وبالتنعيم مساجد حول مسجد عائشة).

وعن «كشف اللّثام»(3): سُمّي به موضعٌ على ثلاثة أميال من مكّة أو أربعة.

وقيل(5): على فرسخين على طريق المدينة به مسجد أمير المؤمنين عليه السلام ومسجد زين العابدين عليه السلام، ومسجد عائشة.

التذنيب الثاني: أنّه تحصّل من مجموع ما ذكرناه هنا وفي مسألة الآفاقي المُقيم بمكّة، أنّ ميقات حَجّ التمتّع مكّة، واجباً كان أو مستحبّاً، من الآفاقي أو من أهل مكّة، وميقات عُمرته أحد المواقيت الخمسة أو محاذاتها كذلك إذا كان المعتمر من غير أهل مكّة، وأمّا أهل مكّة فميقاتهم أدنى الحِلّ ، وميقات حَجّ القِران والإفراد لأهل مكّة هي مدينة مكّة، وللمجاور أدنى الحِلّ ، ولغيرهم أحد المواقيت الخمسة إلّا إذا كان منزله دون الميقات، فميقاته منزله، وميقات عمرتهما أدنى الحِلّ إذا كان في مكّة، ويجوز من أحدها، وإذا لم يكن في مكّة فيتعيّن أحدها، وكذا الحكم في العُمرة المفردة.

***1.

ص: 388


1- المصباح المنير: ج 1/141.
2- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/220. (3و5) معجم البلدان: ج 2/49.
3- كشف اللّثام (ط. ج): ج 5/221.

فهرس الموضوعات

في النيابة... 7

نيابة المخالف... 8

اعتبار البلوغ والعقل... 11

نيابة المجنون... 16

عدم اعتبار العدالة... 17

اعتبار الفقاهة... 21

عدم اشتغال ذمّة النائب بحَجٍّ واجب... 23

عدم اعتبار المماثلة في النيابة... 24

استنابة الصَّرورة... 26

شرائط المنوب عنه... 30

النيابة عن المخالف... 33

اعتبار البلوغ والعقل... 36

حقيقة النيابة وشروطها... 38

شرائط النيابة... 44

التبرّع عن الميّت في الحَجّ ... 47

نيابة الواحد عن المتعدّد... 52

موت الأجير قبل تمام الحَجّ ... 56

موت الأجير قبل تمام الحَجّ ... 65

وجوب تعيّين نوع الحَجّ في الإجارة... 76

عدول النائب عمّا عُيِّن له من الطريق... 85

ص: 389

تعدّد الإجارة للحَجّ في سنةٍ واحدة... 91

حكم الإجارتين مع إطلاقهما أو إطلاق إحداهما... 94

ولو اقترنت الإجارتان أو اشتبه السابقة منهما... 96

تصحيح الإجارة الثانية بإجازة المستأجر الأوّل... 98

حكم الأجير المحدود أو المحصور... 101

لو أفسد الأجير حَجّه... 104

تمليك الأجير الاُجرة بالعقد... 112

استيجار الأجير غيره على الحَجّ ... 116

الاستئجار للحَجّ مع ضيق الوقت عنه... 118

فصل / في الوصيّة بالحَجّ ... 120

الحَجّ الموصى به يخرج من الأصل أو الثُّلث... 122

حكم ما إذا لم يعلم أحد الأمرين... 123

إذا لم يعيّن الموصي الاُجرة اقتصر على الأقلّ ... 126

إذا لم يعيّن عدد الحَجّ ... 131

إذا عيّن مقداراً لا يكفي للحَجّ ... 136

إذا عيّن للحَجّ اُجرةً لا تكفي... 141

إذا صالحه داره على أن يحجّ عنه... 146

من كان عنده وديعة ومات صاحبها ولم يحجّ ... 148

حكم حَجّ من أعطاه رجل مالاً لاستئجار الحَجّ ... 158

الفصل الخامس / في الحَجّ المندوب... 162

النيابة في الطواف... 165

الباب الثاني: في أنواع الحجّ ... 171

حَجّ التمتّع... 174

ص: 390

صورة حَجّ التمتّع... 178

التمتّع فرضُ من كان بعيداً عن مكّة... 179

حَد البُعد الموجب للتمتّع... 182

اعتبار الحَدّ من المسجد أو مكّة... 190

من شكّ في أنّ وظيفته التمتّع أو غيره... 192

من له وطنان داخل الحَدّ وخارجه... 198

حكم أهل مكّة إذا خرجوا إلى بعض الأمصار... 205

حكم الآفاقي إذا صار مُقيماً بمكّة... 210

ميقات التمتّع المُقيم بمكّة... 220

حَجّ الإفراد والقِران... 230

شرائط حَجّ التمتّع... 238

التمتّع بالعُمرة المفردة... 240

اعتبار وقوع النسكين في أشهر الحَجّ ... 246

العُمرة قبل أشهر الحَجّ ... 249

اعتبار كون الحَجّ والعُمرة في سنة واحدة... 252

اعتبار كون إحرام الحَجّ من مكّة... 257

اعتبار كون النسكين من واحدٍ عن واحد... 263

خروج المُعتمر عن مكّة قبل الحَجّ ... 266

تنبيهات خروج المعتمر... 272

حَدّ الضيق المسوّغ للعدول عن التمتّع... 279

تنبيهات حَدّ الضيق المسوّغ للعدول... 291

حكم الحائض والنفساء إذا ضاق وقتهما عن إتمام العُمرة... 294

حدوث الحيض... 302

ص: 391

شرائط حَجّ الإفراد والقِران... 307

الطواف قبل المُضيّ إلى عرفات... 309

تجديد التلبية... 320

تنبيهات التلبية... 325

وجوب الهَدْي على المتمتّع... 328

المواقيت... 330

ميقاتُ أهل العراق... 333

ميقات أهل المدينة... 343

ميقات الجُحفة... 348

حكم إحرام الحائض والجُنُب من أهل المدينة... 357

ميقات أهل الشام ومصر والمغرب... 360

ميقات أهل اليمن... 362

ميقات أهل الطائف... 364

ميقات مَنْ منزله أقرب من الميقات... 366

ميقات الصبيان... 371

محاذاة المواقيت... 375

ما به تتحقّق المحاذاة... 378

لو لم يؤدّ الطريق إلى المحاذاة... 382

ميقات العُمرة المفردة... 384

تذنيبان حول ميقات العمرة... 386

فهرس الموضوعات... 389

ص: 392

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.