سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، الائمةالاثناءعشر المجلد 2

اشارة

نام كتاب: سلسلة اعرف الحق تعرف اهله ، ألأئمةالإثناءعشر

نويسنده: حسيني ميلاني، علي

موضوع: عقائد

زبان: عربي

تعداد جلد:

ناشر: الحقائق

مكان چاپ: قم

كلمة المركز … ص: 5

نظراً للحاجة الماسّة والضرورة الملحّة لنشر العقائد الحقّة والتعريف بالفكر الشيعي، بالبراهين العقليّة المتقنة والأدلّة النقلية من الكتاب والسنّة، من أجل ترسيخها في أذهان المؤمنين، ودفع الشبهات المثارة حولها من قبل المخالفين، فقد بادر (مركز الحقائق الاسلامية) بإخراج سلسلة علمية- عقائدية، متنوّعة، تميّزت بجامعيتها بين العمق في النظر والقوّة في الاستدلال والوضوح في البيان، تحت عنوان (إعرف الحق تعرفه أهله)، وهي من بحوث سماحة الفقيه المحقق آية اللَّه الحاج السيد علي الحسيني الميلاني (دام ظلّه)، آملين أن نكون قد قمنا ببعض الواجب الملقي علي عواتقنا في هذه الأيام التي كثرت فيها الشبهات وازدادت الانحرافات، سائلين اللَّه عز و جل أن يسدّد خطانا علي نهج الكتاب والعترة الطاهرة كما أوصي الرسول الأكرم صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، والحمد للَّه رب العالمين.

مركز الحقائق الاسلامية

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 7

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصّلاة والسلام علي خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين، من الأوّلين والآخرين.

وبعد

فإني لمّا كتبت شرح (منهاج الكرامة) للعلّامة الحلّي رحمه اللَّه، مع الردّ علي كلام ابن تيميّة في (منهاجه) رأيت من المناسب إفراد القسم المتعلّق بتراجم الأئمة الاثني عشر في كرّاسٍ مستقلّ، لتعمّ به الفائدة واللَّه الموفّق وهو المسئول لذلك بفضله وكرمه.

علي الحسيني الميلاني

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 9

الأئمة الاثنا عشر: في كتاب منهاج الكرامة في معرفة الامامة … ص: 9

قال العلّامة الحلي رحمه اللَّه:

إنّ الإماميّة أخذوا مذهبهم عن الأئمّة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم والزهد والورع والاشتغال في كلّ وقت بالعبادة والدعاء وتلاوة القرآن والمداومة علي ذلك من زمن الطفوليّة إلي آخر العمر، ومنهم تعلّم الناس العلوم؛ ونزل في حقّهم «هل أتي»، وآية الطهارة، وإيجاب المودّة لهم، وآية الابتهال وغير ذلك. وكان عليّ

عليه السلام يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة، ويتلو القرآن مع شدّة ابتلائه بالحروب والجهاد.

فأوّلهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، وجعله اللَّه تعالي نفسَ رسول اللَّه؛ حيث قال: «وَأنْفُسَنَا وَأنْفُسَكُمْ»، وآخاه الرسول صلي الله عليه و آله و سلم وزوّجه ابنته، وفضلُهُ لا يُحصي، وظهرت عنه معجزات كثيرة حتّي ادّعي قوم فيه الربوبيّة، وقتلهم، وصار إلي مقالتهم آخرون إلي هذه الغاية، كالنصيريّة والغُلاة.

وكان ولداه سبطا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم سيّدا شباب أهل الجنّة إمامَيْن

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 10

بنصّ النبيّ صلي الله عليه و آله و سلم، وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهم، وجاهدا في اللَّه حقّ جهاده حتّي قُتلا، ولبس الحسن الصوف تحت ثيابه الفاخرة من غير أن يُشْعِر أحداً بذلك. وأخذ النبيّ صلي الله عليه و آله و سلم يوماً الحسين علي فخذه الأيمن، وولده إبراهيم علي فخذه الأيسر، فنزل عليه جبرئيل عليه السلام وقال:

إنّ اللَّه لم يكن ليجمع لك بينهما، فاختَرْ مَن شئتَ منهما، فقال صلي الله عليه و آله و سلم: إذا مات الحسين بكيتُ عليه أنا وعليّ وفاطمة، وإذا مات إبراهيم بكيتُ أنا عليه؛ فاختار موت إبراهيم، فمات بعد ثلاثة أيّام، فكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبّله ويقول: أهلًا ومرحباً بِمَنْ فديتُه بابني إبراهيم.

وكان عليّ بن الحسين زَين العابدين يصوم نهاره ويقوم ليله، ويتلو الكتاب العزيز، ويصلّي كلّ يوم وليلة ألف ركعة، ويدعو بعد كلّ ركعتَيْن بالأدعية المنقولة عنه وعن آبائه عليهم السلام، ثم يرمي الصحيفة كالمتضجّر ويقول: أنّي لي بعبادة عليّ! وكان يبكي كثيراً حتّي أخذت

الدموع من لحم خدَّيه، وسجد حتّي سُمّي ذا الثفنات، وسمّاه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم سيّد العابدين.

وكان قد حجّ هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه من الزحام، فجاء زين العابدين عليه السلام فوقف الناس له وتنحّوا عن الحجر حتّي استلمه، ولم يبقَ عند الحجر سواه، فقال هشام: مَن هذا؟

فقال الفرزدق الشاعر:

هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأته والبيتُ يعرفه والحِلُّ والحَرَمُ

هذا ابن خير عباد اللَّه كلّهمُ هذا التقيُّ النَّقيُّ الطاهرُ العَلَمُ

يكادُ يُمسِكُهُ عِرفانَ راحتِه رُكنُ الحطيمِ إذا ما جاء يَستلمُ

إذا رَأتْهُ قريشٌ قال قائلُها إلي مكارمِ هذا ينتهي الكرمُ

إن عُدّ أهلُ التُّقي كانوا أئمَّتَهم أو قِيلَ مَن خير خلق اللَّه قيل هُمُ

هذا ابن فاطمة إنْ كنتَ جاهله بجَدِّه أنبياءُ اللَّهِ قد خُتموا

يُغضي حَياءً ويغضي من مَهابته فما يُكلَّمُ إلّاحينَ يبتسمُ

ينشقُّ نورُ الهُدي عن صُبح غُرَّتِهِ كالشمس تَنجاب عن إشراقها الظُلمُ

مشتقّةٌ من رسول اللَّه نَبْعَتُهُ طابَتْ عَناصِرُهُ والخِيمُ والشِّيَمُ

اللَّهُ شرّفه قِدْماً وفضّله جري بذاكَ له في لَوحةِ القلمُ

مِنْ مَعشَرٍ حُبّهم دِينٌ وبُغضُهُم كُفْرٌ وقُربُهُم مَلْجاً ومُعْتَصمُ

لا يَستطيع جَوادٌ بُعْدَ غايتهم ولا يُدانيهِمُ قومٌ وإن كَرمُوا

هُمُ الغيوثُ إذا ما أزمةٌ أزِمَتْ والأُسْدُ أُسْدُ الشَّري والرأيُ مُحْتَدِمُ

لا ينقصُ العُسرُ من أكفّهِمُ سيّانَ ذلك إن أثْرَوا وإن عَدِموا

ما قال لا قطُّ إلّافي تشهّده لو لا التشهّدُ كانت لاؤهُ نَعمُ

يُستَدْفَعُ السوءُ والبلوي بحبّهمُ ويُستَرَقُّ به الإحسانُ والنِّعَمُ

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 12

مقدّمٌ بعد ذِكر اللَّه ذِكرُهُمُ في كلِّ برٍّ، ومختومٌ به الكلمُ

مَن يعرف اللَّه يعرفْ أولويّة ذا الدينُ مِنْ بيتِ هذا نالَهُ الأُمم

وليس قولُكَ مَنْ هذا بضائرهِ العُرْبُ تعرفُ مَن أنكَرْتَ والعَجَمُ

فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بين مكّة والمدينة، فبعث إليه الإمام

زينُ العابدين عليه السلام بألف دينار، فردّها وقال: إنّما قُلت هذا غضباً للَّه ولرسوله، فما آخذ عليه أجراً. فقال عليّ بن الحسين عليه السلام: نحن أهلُ بيتٍ لا يعود إلينا ما خرج منّا؛ فقبلها الفرزدق.

وكان بالمدينة قومٌ يأتيهم رزقهم ليلًا ولا يعرفون ممّن هو، فلمّا مات مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام انقطع ذلك عنهم، وعرفوا به أنّه كانَ منه عليه السلام.

وكان ابنه محمّد الباقر عليه السلام أعظم الناس زُهداً وعبادة، بَقر السجودُ جبهَتَه، وكان أعلم أهل وقته، سمّاه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم الباقر.

وجاء جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ إليه وهو صغير في الكتّاب، فقال له: جدّك رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم يسلّم عليك، فقال: وعلي جدّي السلام، فقيل لجابر: كيف هذا؟ قال: كنتُ جالساً عند رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، والحسين في حِجره وهو يلاعبه، فقال: يا جابر! يولد له مولود اسمه عليّ، إذا كان يوم القيامة نادي منادٍ: ليقم سيّد العابدين! فيقوم ولده، ثمّ

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 13

يولد له مولود اسمه محمّد الباقر، إنّه يبقر العلم بقراً، فإذا أدركتَه فأقْرِئْهُ مِنّي السلامَ.

روي عنه أبو حنيفة وغيره.

وكان ابنه الصادق عليه السلام أفضل أهل زمانه وأعبدهم. قال علماء السيرة: إنّه انشغل بالعبادة عن طلب الرئاسة. قال عمرو بن أبي المقدام:

كنتُ إذا نظرتُ إلي جعفر بن محمّد علمتُ أنّه من سلالة النبيّين.

وهو الذي نُشِرَ منه فقه الإماميّة والمعارف الحقيقيّة والعقائد اليقينيّة، وكان لا يُخبر بأمرٍ إلّاوقع، وبه سمّوه الصادق الأمين.

وكان عبد اللَّه بن الحسن جمعَ أكابرَ العلويّين للبيعة لولده، فقال له الصادق عليه السلام: إنّ هذا الأمر لا يتمّ! فاغتاظ

من ذلك، فقال: إنّه لصاحب القباء الأصفر؛ وأشار بذلك إلي المنصور، فلمّا سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يُخبِرُ به، وعلم أنّ الأمر يصل إليه؛ ولمّا هرب كان يقول: أين قول صادقهم؟! وبعد ذلك انتهي الأمر إليه.

وكان ابنُه موسي الكاظم عليه السلام يُدعي بالعبد الصالح، كان أعبد أهل وقته، يقوم الليل ويصوم النهار، سُمّي الكاظم لأنّه كان إذا بلغه عن أحد شي ء بعث إليه بمالٍ، ونقل فضلَه المخالفُ والمؤالف.

قال ابن الجوزيّ من الحنابلة عن شقيق البلخيّ، قال: خرجتُ

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 14

حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومائة، فنزلت «القادسيّة» فإذا شابّ حسن الوجه، شديد السمرة، عليه ثوب صوف، مشتمل بشملة، في رجليه نعلان، وقد جلس منفرداً عن الناس، فقلتُ في نفسي: هذا الفتي من الصوفيّة يريد أن يكون كَلّاً علي الناس، واللَّه لأمضينّ إليه وأُوبّخه، فدنوتُ منه، فلمّا رآني مقبلًا، قال: يا شقيق! «اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ»! فقلتُ في نفسي: هذا عبدٌ صالح قد نطق علي ما في خاطري، لألحقنّه ولأسألنّه أن يحلّلني، فغاب عن عيني. فلمّا نزلنا «واقصة»، (إذا به يصلُي) وأعضاؤه تضطرب، ودموعه تتحادر، فقلت:

أمضي إليه وأعتذر؛ فأوجز في صلاته، ثمّ قال: يا شقيق، «وَإنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَي » فقلت: هذا من الأبدال قد تكلّم علي سرّي مرّتين.

فلمّا نزلنا «زبالة» إذا به قائم علي البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي ماءً، فسقطت الركوة في البئر، فرفع طرفه إلي السماء، وقال: أنتَ ربّي إذا ظمئتُ إلي الماء، وقُوتي إذا أردتُ الطعام، يا سيّدي ما لي سواها! قال شقيق: فو اللَّه لقد رأيتُ البئر قد ارتفع ماؤها، فأخذ الركوة وملأها وتوضّأ وصلّي أربع

ركعات، ثمّ مال إلي كثيب رمل هناك، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب، فقلتُ: أطعِمني من فضل ما رزقك اللَّه وأنعم اللَّه عليك! فقال: يا شقيق، لم تزل نعم اللَّه علينا ظاهرة وباطنة،

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 15

فأحسِنْ ظنّك بربّك؛ ثمّ ناولني الركوة، فشربتُ منها فإذا سويق وسكّر ما شربتُ- واللَّه- ألذّ منه وأطيب ريحاً، فشبعت ورويت وأقمت أيّاماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً.

ثمّ لم أره حتّي دخل مكّة، فرأيتُه ليلةً إلي جانب قبّة السراب نصف الليل يصلّي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتّي ذهب الليل، فلمّا طلع الفجر جلس في مصلّاه يسبّح، ثمّ قام إلي صلاة الفجر، وطاف بالبيت أُسبوعاً، وخرج فتبعته فإذا له حاشية وأموال وغلمان، وهو علي خلاف ما رأيتُه في الطريق، ودارَ به الناس يُسلّمون عليه ويتبرّكون به، فقلتُ لبعضهم: مَن هذا؟ فقال: موسي بن جعفر عليهما السلام، فقلتُ: قد عجبتُ أن تكون هذه العجائب إلّالمثل هذا السيّد. رواه الحنبلي.

وعلي يده عليه السلام تاب بشر الحافيّ؛ لأنّه عليه السلام اجتاز علي داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقَصَب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل فرمت بها في الدرب؛ فقال لها: يا جارية! صاحب هذه الدار حرٌّ أم عبد؟ فقالت: بل حرّ؛ فقال: صدقتِ، لو كان عبداً خافَ من مولاه! فلمّا دخلت قال مولاها وهو علي مائدة السُكر: ما أبطأك علينا؟ فقالت: حدّثني رجلٌ بكذا وكذا. فخرج حافياً حتّي لقي مولانا الكاظم عليه السلام فتاب علي يده.

وكان ولده عليّ الرضا عليه السلام أزهد أهل زمانه وأعلمهم؛ وأخذ عنه

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 16

فقهاء الجمهور كثيراً، ولّاه «1» المأمون لعلمه بما هو عليه من

الكمال والفضل.

ووعظ يوماً أخاه زيداً فقال له: يا زيد، ما أنت قائلٌ لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم إذا سفكتَ الدماء وأخفتَ السبيل وأخذتَ المال من غير حِلّه؟! غرّك حُمقاءُ أهل الكوفة، وقد قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم: «إنّ فاطمة أحصنت فَرجها فحرّم اللَّه ذرّيّتها علي النار»، واللَّهِ ما نالوا ذلك إلّا بطاعة اللَّه؛ فإن أردتَ أن تنال بمعصية اللَّه ما نالوه بطاعته، إنّك إذاً لأكرم علي اللَّه منهم.

وضرب المأمون اسمه علي الدراهم والدنانير، وكتب إلي الآفاق ببيعته، وطرح السواد ولبس الخُضرة.

وقيل لأبي نؤاس: لِمَ لا تمدح الرضا عليه السلام؟ فقال:

قيل لي أنتَ أفضلُ النّاس طُرّاً في المعاني وفي الكلام البديهِ

لك من جوهرِ الكلام بديع يُثمر الدرّ في يدَيْ مُجتنيه

فلماذا تركتَ مدحَ ابنِ موسي والخصالَ الّتي تجمّعن فيه

قلت: لا أستطيع مدحَ إمامٍ كان جبريلُ خادماً لأبيه

وكان ولده محمّد الجواد عليه السلام علي منهاج أبيه في العِلم والتقوي

__________________________________________________

(1) أي: جعله وليّاً للعهد.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 17

والجود، ولمّا مات أبوه الرضا عليه السلام شغف به المأمون لكثرة علمه ودينه ووفور عقله مع صغر سنّه، فأراد أن يزوّجه ابنته أُمّ الفضل، وكان قد زوّج أباه الرضا عليه السلام بابنته أُم حبيب، فغلظ ذلك علي العبّاسيين واستكبروه، وخافوا أن يخرج الأمر منهم، وأن يُتابعه كما تابع أباه، فاجتمع الأدنون منه وسألوه تَرْك ذلك، وقالوا: إنّه صغير لا عِلم عنده.

فقال: أنا أعرف به، فإن شئتم فامتحنوه؛ فرضوا بذلك، وجعلوا ليحيي بن أكثم مالًا كثيراً علي امتحانه في مسألة يُعجزه فيها، فتواعدوا إلي يوم، فأحضَرَهُ المأمون، وحضر القاضي وجماعة العبّاسيين، فقال القاضي أسألُك عن شي ء؟ فقال لَهُ عليه السلام: سل.

فقال:

ما تقول في مُحرمٍ قَتَل صيداً؟

فقال له الإمام عليه السلام: أقَتَله في حِلٍّ أم حَرَم؟ عالِماً كان أو جاهلًا؟

مُبتَدِئاً بقتله أو عائداً؟ مِن صغار الصيد كان أو من كبارها؟ عبداً كان المُحرِم أو حُرّاً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مِن ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها؟

فتحيّر يحيي بن أكثم وبان العجزُ في وجهه، حتّي عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون لأهل بيته: عرفتم الآن ما كنتم تُنكرونه؟! ثمّ أقبل علي الإمام، فقال: أتخطب؟ فقال: نعم. فقال: إخطِب لنفسك خطبة النكاح! فخطب وعقد علي خمسمائة درهم جياداً مهر

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 18

جدّته فاطمة عليها السلام، ثمّ تزوّج بها.

وكان ولده عليّ الهادي عليه السلام، ويُقال له: العسكريّ، لأنّ المتوكّل أشخصه من المدينة إلي بغداد، ثمّ منها إلي «سرّ مَن رأي»، فأقام بموضع عندها يُقال له «العسكر»، ثمّ انتقل إلي «سرّ من أري» فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر، وإنّما أشخصه المتوكّل لأنّه كان يُبغض عليّا عليه السلام، فبلغه مقام عليّ بالمدينة ومَيل الناس إليه، فخاف منه، فدعا يحيي بن هرثمة فأمره بإشخاصه، فضجّ أهل المدينة لذلك خوفاً عليه، لأنّه كان مُحسناً إليهم، مُلازماً للعبادة في المسجد، فحلف لهم يحيي أنّه لا مكروه عليه، ثمّ فتّش منزله فلم يجد فيه سوي مصاحف وأدعية وكتب العلم.

(فعظم في عينه) وتولّي خدمته بنفسه، فلمّا قدم بغداد بدأ بإسحاق بن إبراهيم الطاهريّ والي بغداد، فقال له: يا يحيي، هذا الرجل قد ولده رسولُ اللَّه عليه السلام، والمتوكّل مَنْ تعلم، فإنْ حَرَّضتَه عليه قَتَله وكان رسولُ اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم خصمك. فقال له يحيي: واللَّهِ ما وقعتُ منه إلّاعلي خير.

قال: فلمّا دخلتُ علي المتوكّل أخبرتُه

بحسن سيرته وزُهده وورعه، فأكرمه المتوكّل.

ثمّ مرض المتوكّل فنذر إن عُوفي تصدّق بدراهم كثيرة، فسأل الفقهاء عن ذلك، فلم يجد عندهم جواباً، فبعث إلي عليّ الهادي يسأله، فقال: تصدّق بثلاثة وثمانين درهماً، فسأله المتوكّل عن السبب، فقال:

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 19

لقوله تعالي: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ»؛ وكانت المواطن هذه الجملة، فإنّ النبيّ صلي الله عليه و آله و سلم غزا سبعاً وعشرين غزاة، وبعث ستّاً وخمسين سريّة.

قال المسعوديّ: نُمي إلي المتوكّل بعليّ بن محمّد أنّ في منزله سلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنّه عازم علي المُلك؛ فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا علي داره ليلًا فلم يجدوا شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وهو يقرأ (القرآن) وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس علي الرمل والحصباء، متوجّه إلي اللَّه تعالي يتلو القرآن، فَحُمل علي حالته تلك إلي المتوكّل، فأُدخل عليه وهو في مجلس الشراب، والكأس في يد المتوكّل، فأعظمه وأجلسه إلي جانبه وناوله الكأس، فقال: واللهِ ما خامر لحمي ودمي قطّ (فأعفني!) فأعفاه وقال له: أسْمِعني صوتاً، فقال عليه السلام: «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» … الآيات؛ فقال: أنشِدني شعراً! فقال: إنّي قليل الرواية للشعر، فقال: لا بدّ من ذلك، فأنشده.

باتُوا علي قُلَلِ الأجبال تحرُسُهُمْ غُلْبُ الرِّجالِ فما أغْنَتْهُمُ القُلَلُ

واستُنزِلُوا بعدَ عزٍّ مِن مَعاقِلِهِمْ وأُسْكِنُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزَلُوا

ناداهُمُ صارخٌ من بعدِ دَفْنِهِمُ أينَ الأساورُ والتّيجانُ والحُللُ

أينَ الوجوهُ الّتي كانَتْ مُنعَّمَةً مِن دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكُلَلُ

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 20

فأفْصَحَ القَبْرُ عنهُم حينَ سائلَهُ تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يَقتتِلُ

قد طالما أكَلُوا دهراً وقَد شَرِبُوا فأصْبَحُوا بعدَ طُولِ الأكلِ قد أُكِلُوا

فبكي المتوكّل حتّي بلّت دموعه لحيته.

وكان ولده

الحسن العسكري عليه السلام عالماً فاضلًا زاهداً، أفضل أهل زمانه، روت عنه العامّة كثيراً.

وولَدُهُ مولانا الإمام المهديّ محمّد عليه السلام؛ روي ابن الجوزيّ بإسناده إلي ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم: يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمُه كاسمي وكُنيته كُنيتي، يملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جوراً، فذلك هو المهديّ.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 21

(1)

الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام … ص: 21

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 23

(كان أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم)

كونه أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم ثابت بالكتاب والسنّة والعقل والتاريخ، فالآيات الكريمة الواردة في حقّه كثيرة، والأحاديث عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم في فضله في كتب الفريقين لا تحصي، وقد وقع في بعضها التصريح بالأفضليّة، كما أنّ قراءة سيرته وقياسها بسير الآخرين طريق آخر لمعرفة ذلك، إذ الصفات التي كانت متوفّرةً فيه لا نجدها عند غيره أو هي موزّعة فيهم.

ومن هنا ذهب جماعة كبيرة من أعلام الصحابة ومشاهير التابعين وعلماء الإسلام في مختلف القرون إلي أفضليته بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، وقد ذكر الحافظان ابن عبد البر وابن حزم أسماء بعضهم «1».

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1090، الفصل في الملل والنحل 4/ 181.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 24

(وجعله اللَّه نفس رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم حيث قال: «وأنفسنا وأنفسكم»)

وهذه الآية المباركة من جملة أدلّة أفضليته من الكتاب الكريم، وهي آية المباهلة، حيث أمر اللَّه فيها النبي بمباهلة النصاري في أمر عيسي عليه السلام، فخرج رسول اللَّه، لذلك

بعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقط، فكان المراد من «أنفسنا» هو أمير المؤمنين عليه السلام.

والأخبار في كتب الفريقين في هذه الحادثة العظيمة متواترة، وهذه جملة من مصادرها من كتب أهل السنة:

صحيح مسلم 7/ 120

مسند أحمد 1/ 185

صحيح الترمذي 5/ 596

المستدرك 3/ 150

فتح الباري 7/ 60

الكشاف 1/ 434

تفسير البغوي 1/ 481

تفسير الطبري 3/ 212

تفسير ابن كثير/ 379

الدر المنثور 2/ 231- 233

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 25

أحكام القرآن 2/ 14

الكامل في التاريخ 2/ 293

اسد الغابة 4/ 26

ولنا رسالة مستقلة بحثنا فيها الموضوع من جميع جوانبه، وهي إحدي حلقات سلسلتنا (إعرف الحق تعرف أهله).

(وآخاه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم)

والمؤاخاة بينهما من القضايا الثابتة كذلك.

فلقد آخي النبي صلي الله عليه و آله و سلم بين أصحابه، وكان من ذلك أنْ آخي بين أبي بكر وعمر … فقال علي عليه السلام له: آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد؟ فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم: «أنت أخي في الدنيا والآخرة».

راجع: الترمذي 5/ 595، الطبقات الكبري لابن سعد 2/ 60، المستدرك علي الصحيحين 3/ 16، مصابيح السنّة 4/ 173، الإستيعاب 3/ 1089، البداية والنهاية 7/ 371، الرياض النضرة 3/ 111، مشكاة المصابيح 3/ 356، الصواعق المحرقة: 122، تاريخ الخلفاء: 159، وغيرها … وهذه الروايات هي عن جمٍّ غفيرٍ من الأصحاب، وعلي رأسهم: أمير المؤمنين عليه السلام، ومنهم: عبد اللَّه بن عباس، وأبو ذر الغفاري، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وعمر بن

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 26

الخطاب، وأنس بن مالك، وعبد اللَّه بن عمر، وزيد بن أرقم …

وفي بعض الروايات أجاب علياً بقوله: «والذي بعثني بالحق ما أخّرتك

إلّالنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون بن موسي غير أنّه لا نبّي بعدي، وأنت أخي ووارثي».

ومن رواته: أحمد بن حنبل في المناقب، الحديث: 141، وابن عساكر بترجمة علي عليه السلام برقم 148، والمتّقي في كنز العمال 13/ 106 عن أحمد في المناقب.

وتجد خبر المؤاخاة، وأنّه آخي بينه وبين علي عليه السلام في سائر كتب السير والتواريخ، فراجع: سيرة ابن هشام 2/ 109، السيرة النبوية لابن حبان: 149، عيون الأثر لابن سيد الناس: 1/ 264، السيرة الحلبية 2/ 23، وفي هامشها سيرة زيني دحلان 1/ 325.

ومع هذا كلّه، فقد تعصّب ابن تيمية فكذّب خبر المؤاخاة بلا أيّ دليلٍ «1»، فردَّ عليه كلامه غير واحدٍ من حفّاظ أهل السنة المشاهير، كابن حجر العسقلاني، إذ قال في شرح البخاري ما نصّه- بعد أن ذكر من أخبار المؤاخاة عن الواقدي وابن سعد وابن اسحاق وابن عبد البر والسهيلي وابن كثير-: «وأنكر ابن تيميّة في كتاب الردّ علي ابن المطهر

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7/ 279، 361.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 27

الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لعلي، قال: لأنّ المؤاخاة شرّعت لإرفاق بعضهم بعضاً، ولتأليف قلوب بعضهم علي بعض، فلا معني لمؤاخاة النبي لأحدٍ منهم، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري.

وهذا ردّ للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوي من بعض بالمال والعشيرة والقوي ، فآخي بين الأعلي والأدني …

قلت: وأخرجه الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني.

وابن تيمية يصرّح بأنّ أحاديث المختارة أصحّ وأقوي من أحاديث المستدرك … » «1».

وقال الزرقاني المالكي تحت عنوان «ذكر المؤاخاة بين الصّحابة رضوان اللَّه عليهم أجمعين»: «وكانت- كما قال ابن عبد البر وغيره- مرّتين، الأُولي بمكّة قبل

الهجرة، بين المهاجرين بعضهم بعضاً علي الحق والمواساة، فآخي بين أبي بكر وعمر، و … وهكذا بين كلّ اثنين منهم إلي أن بقي علي فقال: آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال: أنا أخوك.

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح البخاري: 7/ 217.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 28

وجاءت أحاديث كثيرة في مواخاة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لعلي، وقد روي الترمذي وحسّنه والحاكم وصحّحه عن ابن عمر أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعلي: أمّا ترضي أن أكون أخاك؟ قال: بلي ؟

قال: أنت أخي في الدنيا والآخرة.

وأنكر ابن تيمية هذه المؤاخاة بين المهاجرين، خصوصاً بين المصطفي وعلي، وزعم أنّ ذلك من الأكاذيب، وأنّه لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، قال: لأنّها شرعت لإرفاق بعضهم بعضاً …

وردّه الحافظ بأنّه ردّ للنص بالقياس … » «1».

وبما ذكرنا كفاية لمن أراد الرشاد والهداية.

(وزوّجه ابنته، وفضله لا يخفي)

نعم زوّجه ابنته الصدّيقة الطّاهرة فاطمة الزهراء، ولا يخفي فضل هذا التزويج ودلالته علي أفضليّته عليه السلام، لوجوه مستندة إلي روايات الفريقين في هذه القضية، ونحن نكتفي بالإشارة إلي بعضها اجمالًا:

فأمّا أولًا: فلأنّ اللَّه تعالي هو الّذي زوّج علياً بفاطمة وأمر بذلك النبي صلي الله عليه و آله و سلم حيث قال له: «إنّي قد زوّجت فاطمة ابنتك من علي بن أبي طالب في الملأ الأعلي فزوّجها منه في الأرض».

__________________________________________________

(1) شرح المواهب اللدنية 1/ 273.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 29

وأمّا ثانياً: فلأنّ أبا بكر وعمر وغيرهما خطبوا فاطمة، فردّهم الرسول صلي الله عليه و آله و سلم قائلًا: «لم ينزل القضاء بعد».

وأمّا ثالثاً: فلأنّ فاطمة أفضل من الشيخين، وهذا ممّا اعترف به بعض أكابر الأئمة والحفّاظ من أهل السنة، كمالك بن أنس وأبي

القاسم السهيلي، لكونها بضعة من النبي، لكنّ عليّاً عليه السلام كفؤها، فلو لم يخلق ما كان لها كف ء، فهو أفضل منهما من هذه النّاحية أيضاً.

راجع للوقوف علي الأحاديث المشار إليها في هذه الوجوه إلي:

مجمع الزوائد 9/ 204 الرياض النضرة 2/ 183، ذخائر العقبي 29- 31، كنز العمّال 6/ 153، 7/ 113 فيض القدير 2/ 215، 4/ 421، كنوز الحقائق 29/ 124، الصواعق: 74.

فهل يقاس سائر بنات النبي- علي فرض كونهنّ من صلبه- بفاطمة؟ وهل يقاس عثمان علي فرض كونه صهراً له علي بنتيه بعليّ حتي يعارض تزويج علي بفاطمة بتزويج عثمان؟ هذا، بغض النظر عمّا كان منه في حقّ رقيّة، وأنّه آذي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم ليلة وفاة أُم كلثوم حتّي منعه من النزول في قبرها، وقد روي هذه القضيّة عامّة أرباب الصحاح والسنن، راجع البخاري في كتاب الجنائز، وأحمد في المسند 3/ 126، والحاكم في المستدرك 4/ 47، والبيهقي في سننه 4/ 53، والإصابة 4/ 489 وعمدة القاري 4/ 85.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 30

(وظهرت عنه معجزات كثيرة، حتّي ادّعي قوم فيه الربوبيّة وقتلهم، وصار إلي مقالتهم آخرون إلي هذه الغاية كالغلاة والنصيرية)

فإنّ المعجزات التي صدرت منه تدلُّ دلالةً واضحةً علي أفضليّته بإمامة المسلمين وخلافة رسول ربّ العالمين، وقد روي طرفاً منها كبار علماء أهل السنّة في كتبهم، وأورد بعضها العلّامة الحلّي في كتابه (منهاج الكرامة) في الأدلّة علي إمامته، المستنبطة من أحواله، مضافاً إلي كونه مستجاب الدّعوة وإخباره عن أُمورٍ كائنةٍ قبل أن تكون.

فلمّا رأي بعض الناس منه تلك المعجزات ونحوها، ولم يشاهدوا شيئاً منها من أحدٍ غيره من الأصحاب، ادّعي قومٌ فيه الربوبيّة، فقضي عليهم

عن آخرهم، لكنْ صار إلي مقالتهم فيما بعدُ آخرون، وهم موجودون إلي زماننا هذا، كأصحاب محمد بن نصير النميري الذين عرفوا بالنصيريّة، كانوا معاصرين للإمام الهادي علي بن محمّد العسكري، وقد لعنهم الإمام كما لعن غيره من الأئمة سائر الغلاة وكفّروهم.

وهل يجوز ترك الاقتداء بمن كان هذا حاله والمخالفة معه وسلوك غير سبيل المؤمنين؟!

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 31

(2- 3)

الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام … ص: 31

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 33

(وكان ولداه سبطا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم سيدا شباب أهل الجنّة)

قال ابن تيمية: «وأمّا قوله: وكان ولداه سبطا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سيّدا شباب أهل الجنة إمامين بنصّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فيقال: الذي ثبت بلا شكّ عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في الصحيح أنّه قال عن الحسن: إنّ ابني هذا سيّد وإنّ اللَّه سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. وثبت عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه كان يقعده وأسامة بن زيد علي فخذه ويقول: اللّهمّ إنّي أحبّهما وأحبّ من يحبّهما. وهذا يدلّ علي أنّ ما فعله الحسن من ترك القتال علي الإمامة وقصد الإصلاح بين الناس كان محبوباً عند اللَّه ورسوله، ولم يكن ذلك مصيبة … ولم يكن الحسن أعجز عن القتال من الحسين … وأنّ الذي فعله الحسن هو الأحبّ إلي اللَّه ورسوله ممّا فعله غيره، واللَّه يرفع

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 34

درجات المتّقين المؤمنين بعضهم علي بعض. وكلّهم في الجنّة، رضي اللَّه تعالي عنهم أجمعين. وقد ثبت أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أدخلهما مع أبويهما تحت الكساء وقال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. وأنّه دعاهما إلي المباهلة. وفضائلهما كثيرة.

وهما من أجلّاء سادات المؤمنين» «1».

أقول:

أوّلًا: لم يتعرّض لفضيلة كونهما سبطي هذه الأُمة، فإنّ ذلك معدود من جلائل فضائلهما في الأحاديث الكثيرة الواردة عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، كما في ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي 130 وغيره من كتب الحديث والفضائل.

وثانياً: لم يتعرّض لحديث «إنّ الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» أصلًا، مع أنّه من أثبت وأصح فضائلهما الكثيرة كما اعترف، فقد رواه أحمد في المسند 3/ 3 والترمذي 2/ 306، 307 وابن ماجة في باب الفضائل، والنسائي في الخصائص: 36، والحاكم 3/ 167 وابن حجر في الإصابة وابن الأثير في أُسد الغابة، والخطيب في تاريخه 6/ 372 وأبو نعيم في الحلية 4/ 139 والمتّقي في كنز العمّال

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2/ 121.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 35

عن عدّة من كبار الحفّاظ، بل في فيض القدير عن السيوطي أنّه حديث متواتر «1».

وثالثاً: قوله: «ثبت عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه كان يقعده وأُسامة بن زيد علي فخذه».

أقول:

إنّ الحسن عليه السلام ولد سنة ثلاث من الهجرة علي ما في الإستيعاب «2»، وأُسامة ولد قبلها بعشر سنوات تقريباً، فلو كان الحسن حين كان يقعده النبي صلي الله عليه و آله و سلم علي فخذه ابن سنتين أو ثلاث، كان أُسامة ابن ثلاث عشرة سنة، ومثله لا يقعد علي الفخذ … بل الثابت أنّه كان يجلس الحسنين علي فخذيه ويقول ذلك، بل إنّ أُسامة من رواة الخبر- فيمن رواه من الصحّابة- كما في الصواعق عن الترمذي «3» وفي كنز العمال وفيض القدير عن الطبراني «4». فكأنَّ الحديث الذي أورده الرجل محرّف وإن كان كذلك في الكتب الموصوفة بالصّحة، ويشهد بما ذكرنا

وروده في مواضع بلفظ: «عن أُسامة كان النبي صلي الله عليه و آله و سلم يأخذني

__________________________________________________

(1) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 3/ 415.

(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/ 384.

(3) الصواعق المحرقة: 82.

(4) كنز العمال 6/ 221، فيض القدير 3/ 415.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 36

والحسن فيقول: اللّهمّ إنّي أحبّهما فأحبّهما» رواه جماعة منهم بترجمة أُسامة أو الحسن، وكأنّ راويه التفت إلي الإشكال فأبدل اللفظ إلي «يأخذني». والذي يؤكّد الإشكال ويوضّح الحال ما أخرجه الترمذي في باب مناقبهما عليهما السلام عن أسامة قال: «طرقت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ذات ليلة لبعض الحاجة، فخرج النبيّ وهو مشتمل علي شي ء لا أدري ما هو. فلمّا فرغت عن حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشف عنه فإذا حسن وحسين علي وركيه فقال: هذان ابناي وابنا ابنتي، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي أحبّهما فأحبّهما، اللّهمّ انّك تعلم أنّي أُحبّهما فأحبّهما وأحبّ من يحبّهما» «1» فكان أُسامة حينما كان الرسول يحتضن السبطين، بالغاً مبلغ الرجال يطرق الرسول لبعض الحاجة …

فالسؤال هو: كيف قد خفي كلّ هذا علي هذا المدّعي والمعترض المغرض؟

وعلي كلّ حال، فنحن لا ننكر أنّه صلي الله عليه و آله و سلم كان يحبّ أُسامة، لكنّ الدّعاء المذكور فضيلة تختصّ بالحسنين عليهما السلام ولا ريب في أنّ دعاءه مستجاب، وما ذكره الرجل كذب.

ورابعاً: إنّ من الأحاديث المتّفق عليها- كما في كتاب المناقب

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 5/ 614.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 37

لابن شهرآشوب السروي- قوله صلي الله عليه و آله و سلم: «الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا». وممّن رواه من أهل السنة: الصفوري في نزهة المجالس 2/ 184، والصدّيق القنوجي في

السراج الوهّاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج في باب المناقب، وفي الاتحاف بحبّ الأشراف:

أنّه صلي الله عليه و آله و سلم قال لهما: «أنتما الإمامان ولأُمّكما الشفاعة» «1» وقد ذكر ابن تيميّة نفسه أنّه صلي الله عليه و آله و سلم قال للحسين عليه السلام: «هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة» «2».

وحينئذ، يكون ما فعله الإمام الحسن عليه السلام وما فعله الإمام الحسين عليه السلام مرضيّاً للَّه ورسوله بلا فرق أصلًا. فكلٌّ منهما إمام معصوم قام بما كان واجباً عليه في زمانه.

(إمامين بنصّ النبي صلي الله عليه و آله و سلم)

وهذا أيضاً سكت عليه ابن تيميّة، وكأنّه معترف بمفاد الأحاديث التي ذكرناها، وعلي كلّ حال، فإنّ نصّ النبي صلي الله عليه و آله و سلم غير منحصر بالأحاديث المزبورة، ومن أراد المزيد فليرجع إلي مظانّه.

(وكانا أزهد الناس)

__________________________________________________

(1) الاتحاف بحبّ الأشراف: 129.

(2) منهاج السنّة 4/ 210.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 38

قال ابن تيميّة: «وأمّا كونهما أزهد النّاس وأعلمهم في زمانهما فهذا قول بلا دليل» «1».

أقول:

لو كان عنده دليل- ولو ضعيفاً- ينقض به ما ذكره العلّامة لأتي به، لأنّه حاول الرّد حتّي بالأباطيل والأكاذيب، كما في المواضع الكثيرة، فنفس سكوته أقوي دليل! وكيف يطالب بالدليل علي الأزهدية والأعلميّة لهما وهما إمامان بالنصوص المتواترة والبراهين المتقنة، والإمام يجب أن يكون أزهد وأعلم أهل زمانه؟

ومن مظاهر زهد الإمام الحسن عليه السلام أنّه قاسم اللَّه ماله مرتين أو ثلاث مرّات. وهذا من الأُمور الثابتة التي رواها من لا يقول بإمامته:

كابن سعد في طبقاته، وأبي نعيم في حليته، وابن عساكر في تاريخه.

ومن ذلك ما رواه ابن عساكر بترجمته من تاريخه بسنده عن مدرك بن زياد

أحد الصحابة قال: «كنا في حيطان ابن عباس وحسن وحسين، فطافوا في البستان، فنظروا ثمّ جاءوا إلي ساقية فجلسوا علي شاطئها، فقال لي حسن: يا مدرك أعندك غداء؟ قلت: قد خبزنا. قال: ائت به. قال:

فجئته بخبز وشي ء من ملح جريش وطاقتين من بقل فأكل ثم قال: يا

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 12.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 39

مدرك ما أطيب هذا؟ ثمّ أتي بغدائه- وكان كثير الطعام طيّبه- فقال لي: يا مدرك اجمع لي غلمان البستان. قال: فقدّم إليهم فأكلوا ولم يأكل. فقلت:

ألا تأكل؟ فقال: ذاك كان أشهي عندي من هذا».

ومن مظاهر زهد الإمام الحسين عليه السلام: ما رواه القوم أيضاً من أنّه:

«حجّ خمسة وعشرين حجة ماشياً وانّ النجائب تقاد معه». ومن ذلك أنّه قيل له: ما أعظم خوفك من ربّك؟ فقال: «لا يأمن يوم القيامة إلّامن خاف اللَّه في الدنيا».

أمّا أعلميّتهما من أهل زمانهما ففي غاية الوضوح، فإنّهما الوارثان لعلوم أبيهما باب مدينة علم النبيّ وأقضي الأُمّة من بعده، ومن هنا كانا مستغنيين عن غيرهما، والكلّ محتاجون إلي علمهما.

وقد روي أنّه استفتي أعرابي عبد اللَّه بن الزبير وعمرو بن عثمان، فتواكلا، فقال: اتّقيا اللَّه فإنّي أتيتكما مسترشداً، أمواكلة في الدين! فأشارا عليه بالحسن والحسين فأتاهما».

(وجاهدا في سبيل اللَّه حتّي قتلا)

قال ابن تيميّة: «وأمّا قوله: وجاهدا في اللَّه حقّ جهاده حتّي قتلا.

فهذا كذب عليهما؛ فإنّ الحسن تخلّي عن الأمر وسلّمه إلي معاوية ومعه جيوش، وما كان يختار قتال المسلمين قط. وهذه متواترة في فضائله.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 40

وأمّا موته فقيل: إنّه مات مسموماً. وهذه شهادة له وكرامة في حقّه، لكن لم يمت مقاتلًا. والحسين رضي اللَّه عنه ما خرج مقاتلًا … ».

أقول:

لقد

ذكر العلّامة قدس سره عن الإمامين السبطين أمرين أحدهما: إنّهما جاهدا في اللَّه حقّ جهاده. والآخر: إنّهما قتلا حال كونهما مجاهدين في اللَّه حقّ جهاده. فأيّهما كذب عليهما؟ كأنّ هذا الرجل يجهل أو يتجاهل أنّ «الجهاد» في اللَّه لا يختص ب «القتال» وأن «القتل» في سبيل اللَّه و «الشهادة» لا يختص ب «السّيف»؟! وإذا عرفت أنّ الوقوف مطلقاً أمام الكفر والجور «جهاد» وأنّ الموت في تلك الحال «شهادة» عرفت من الكاذب!!

(ولبس الحسن عليه السلام الصوف تحت ثيابه … )

قال ابن تيميّة: «وأمّا قوله عن الحسن إنّه لبس الصوف تحت ثيابه الفاخرة، فهذا من جنس قوله في عليّ إنّه كان يصلّي ألف ركعة. فإنّ هذا لا فضيلة فيه، وهو كذب».

أقول:

إنّ هذا الرّجل إمّا لا يفهم معني العبادة والزّهد وجهاد النّفس، وإمّا أنّ العناد لأهل البيت عليهم السلام يحمله علي إنكار حتّي مثل هذه

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 41

المناقب والمراتب لهم … لكنّ العلّامة قد كتب لمن يفهم العبادة وترويض النفس ويعترف بأنّ ذلك من الفضائل المؤهلة لأصحابها للاقتداء بهم في تلك الأعمال وغيرها، وليشير إلي أنّ الفضل في أن يلبس الإنسان الخشن للَّه فلا يعلم بذلك أحداً، لا أن يلبسه للخلق ويتظاهر بذلك بين الناس فيجلب قلوبهم ويشتهر بالزّهد فيهم، كما كان يصنع غيرهم حتّي صار الزهد علماً لهم، وألّفت في ضلالاتهم الكتب، وجاء هذا الرجل يقول: «وهذه كتب المسلمين التي ذكر فيها زهّاد الأُمة ليس فيهم رافضي» «1».

وأمّا صلاة علي أمير المؤمنين في اليوم والليلة ألف ركعة فكذلك، وهو مرويٌ في كتب الفريقين عن مولانا الشهيد أبي عبداللَّه الحسين وولده الامام السجاد سيد العابدين «2» بل قد زعموا ذلك لعدّةٍ من التابعين وغيرهم

«3».

(وأخذ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يوماً الحسين علي فخذه

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 1/ 169- 170.

(2) أُنظر عن الإمام الحسين: العقد الفريد 4/ 384، المختصر في أخبار البشر 1/ 191 و غيرهما، وعن الإمام سيد العابدين: تذكرة الحفاظ 1/ 75، تهذيب الكمال 13/ 241، تاريخ دمشق 41/ 378.

(3) أُنظر: الفوائد البديعة من كتاب وسائل الشيعة، في مجلّة تراثنا العدد 79- 80.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 42

الأيمن، وولده إبراهيم عليه السلام علي فخذه الأيسر، وفنزل جبرئيل عليه السلام فقال … )

قال ابن تيميّة: «هذا الحديث لم يروه أحدٌ من أهل العلم ولا يعرف له إسناد، ولا يعرف في شي ء من كتب الحديث، وهذا الناقل لم يذكر لنا اسناده ولا عزاه إلي كتب الحديث، لكن ذكره علي عادته من رواية أحاديث سائبة، بلا زمام ولا خطام، والنقل المجرّد بمنزلة سائر الدعاوي، ثمّ يقال: هذا الحديث كذب موضوع باتّفاق أهل المعرفة بالحديث، وهو من أحاديث الجهّال».

أقول:

أوّلًا: قولك: «هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم ولا يعرف له إسناد، ولا يعرف في شي ء من كتب الحديث» كذب كما ستعلم.

وثانياً: ليس من دأب المؤلّفين في الكتب الكلاميّة ذكر الأحاديث المستدلّ بها بالإسناد، فهذه كتب الكلام كالمواقف وشرحها، والمقاصد وشرحها، وكتب البيضاوي وغيرها، تذكر فيها الأحاديث بلا أسانيد، ومن هنا جاء من بعدهم فألّفوا الكتب في تخريج أحاديث تلك الكتب. فإن كان ما ذكرته حقّاً توجّه إلي الجميع.

وثالثاً: إنّه كثيراً ما يعزو العلّامة الحديث إلي ناقله، فليس من

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 43

عادته ما ذكرته.

ورابعاً: إذا كان النقل المجرّد بمنزلة سائر الدعاوي، فلماذا تقتصر أنت في كثير من الموارد بالنقل المجرّد؟

وخامساً: إن كان ما أورده العلّامة لم

ينقله أحد من أهل العلم ولا هو في شي ء من كتب الحديث، فلماذا وصفته بالحديث وحكمت عليه بالوضع؟ وكيف قام الإتفاق من أهل المعرفة بالحديث علي وضع ما ليس له وجود في شي ء من كتب الحديث؟

وبعد، فالحديث رواه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، وهو من أهل العلم عندهم! في كتابه تاريخ بغداد، وهو من كتبهم المعتبرة!

قال: «أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقري قال: نبّأنا محمّد بن الحسن النقّاش قال: زيد بن الحباب قال: نبّأنا سفيان الثوري، عن قابوس ابن أبي ظبيان، عن أبيه، عن أبي العبّاس قال: كنت عند النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وعلي فخذه الأيسر ابنه إبراهيم، وعلي فخذه الأيمن الحسين بن علي، تارة يقبّل هذا وتارة يقبّل هذا، إذ هبط عليه جبريل عليه السلام بوحي من ربّ العالمين، فلمّا سري عنه قال: أتاني جبريل من ربّي فقال لي: يا محمّد، ربّك يقرأ عليك السلام ويقول لك:

لست أجمعهما لك، فافْدِ أحدهما بصاحبه. فنظر النبي صلّي اللَّه عليه

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 44

وسلّم إلي إبراهيم فبكي، ونظر إلي الحسين فبكي. ثمّ قال: انّ إبراهيم أمّه أمة ومتي مات لم يحزن عليه غيري، وأُم الحسين فاطمة، وأبوه علي ابن عمّي، لحمي ودمي، ومتي مات حزنت ابنتي فاطمة وحزن ابن عمّي وحزنت أنا عليه. وأنا أوثر حزني علي حزنهما، يا جبريل تقبض إبراهيم.

فديته بإبراهيم. قال: فقبض بعد ثلاث.

فكان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم إذا رأي الحسين مقبلًا قبّله وضمّه إلي صدره ورشف ثناياه وقال: فديت من فديته بابني إبراهيم» «1».

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 2/ 204.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 45

(4)

الإمام علي بن الحسين عليه السلام … ص: 45

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 47

(وكان علي بن

الحسين زين العابدين عليهما السلام يصوم نهاره ويقوم ليله، ويتلو … وسجد حتّي حشي مساجده كخفّ البعير وسمّي ذا الثفنات، وسمّاه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم سيد العابدين)

قال ابن تيمية: «وأمّا علي بن الحسين، فمن كبار التابعين وساداتهم علماً وديناً، أخذ عن: أبيه، وابن عباس، والمسور بن مخرمة، وأبي رافع مولي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، وعائشة، وأمّ سلمة، وصفيّة أُمّهات المؤمنين، وعن مروان بن الحكم، وسعيد بن المسيب، وعبد اللَّه بن عثمان، وذكوان مولي عائشة، وغيرهم رضي اللَّه تعالي عنهم.

وروي عنه: أبو سلمة بن عبد الرحمن، ويحيي بن سعيد الأنصاري، والزهري، وأبو الزناد، وزيد بن أسلم، وابنه أبو جعفر.

قال يحيي بن سعيد: هو أفضل هاشمي رأيته في المدينة، وقال

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 48

محمّد بن سعد في الطبقات: كان ثقة مأموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً.

وروي عن حمّاد بن زيد قال: سمعت علي بن الحسين- وكان أفضل هاشمي أدركته- يقول: يا أيّها الناس أحبّونا حبّ الاسلام، فما برح بنا حبّكم حتّي صار عاراً علينا. وعن شيبة بن نعامة قال: كان علي بن الحسين يبخل. فلمّا مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة في السرّ.

وله من الخشوع وصدقة السرّ وغير ذلك من الفضائل ما هو معروف، حتّي أنّه كان من صلاحه ودينه يتخطّي مجالس أكابر الناس ويجالس زيد بن أسلم مولي عمر بن الخطاب- وكان من خيار أهل العلم والدين من التابعين- فيقال له: تدع مجالس قومك وتجالس هذا؟ فيقول:

انّما يجلس الرجل حيث يجد صلاح قلبه.

وأمّا ما ذكره من قيام ألف ركعة، فقد تقدّم أنّ هذا لا يمكن إلّاعلي وجه مكروه في الشريعة، أو لا يمكن بحال، فلا يصلح ذكره

لمثل هذا في المناقب.

وكذلك ما ذكره من تسمية رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم له سيّد العابدين، هو شي ء لا أصل له. ولم يروه أحد من أهل العلم والدّين» «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2/ 123.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 49

أقول:

هذا كلّ ما ذكره الرجل حول الإمام السجاد عليه السلام أوردته بنصّه، فأقول:

أوّلا: لقد سكت عن بعض ما ذكره العلّامة، وسكوته دليل القبول، لكن نفسه لم تسمح له بالتّصريح. نعم لقد كان الإمام علي بن الحسين عليه السلام أعبد أهل زمانه عند الخاصّ والعامّ، يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويتلو الكتاب العزيز، ويدعو بالأدعية المنقولة … ثمّ يرمي الصحيفة كالمتضجّر … وكان يبكي كثيراً … وسجد حتّي حشي مساجده … وعن كلّ هذا سكت الرّجل، وكلّه ثابت سواء قبل أو أنكر …

وسكت أيضاً عن قضيّة استلامه الحجر بعد أن لم يمكن ذلك لهشام، وشعر الفرزدق في هذه القضية … وأنّي له أو لغيره انكار قضيّة تجاوزت حدّ الرّواية وعدّت من ضروريّات التاريخ!!

وثانياً: لقد اعترف بكون الإمام عليه السلام من كبار التابعين وساداتهم علماً وديناً، ونقل كلمات عن بعض أكابر القوم في الثناء عليه.

وأقول: إنّ الإمام علي بن الحسين عليه السلام إمام معصوم منصوص عليه، والأدلّة النقلية والعقليّة علي إمامته كثيرة مذكورة في محلّها،

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 50

فعدّه من «التابعين» إنّما هو علي اصطلاح أهل السنّة.

ولقد كان بإمكان الرجل نقل كلمات أُخري، لكن منعه عن ذلك بغضه وعناده، وإلّا، فقد أطنب في موارد كثيرة بأباطيل وأكاذيب، وربّما كرّر المطلب الواحد أكثر من مرّة، وربّما تعرّض في مواضع لبحوث خارجة عن المقصود فيها، بل لم تسمح له نفسه بإيراد كلّ ما نقله محمّد بن سعد

وأبو نعيم الحافظ بترجمته من الطبقات والحلية، فنقل عنهما بعض ما ورد فيهما.

وثالثاً: لقد أنكر ما ذكره العلّامة من صلاة الإمام في اليوم والليلة ألف ركعة، وما ذكره من تسمية رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم له سيّد العابدين وقال:

«هو شي ء لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل العلم والدين».

أقول:

أمّا الصّلاة ألف ركعة في كلّ يوم وليلة، فكان ذلك عمله كأبيه وجدّه … والتكذيب به عداء وعناد وتعصّب، وقد أقرّ به غير واحد من حفّاظ أهل السنّة كما تقدّم.

وأمّا تسمية الرسول صلي الله عليه و آله و سلم إيّاه سيّد العابدين، فذاك مرويّ عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم في كتب الفريقين، وممّن رواه من العامة الحافظ سبط ابن الجوزي عن المدائني عن جابر بن عبد اللَّه أنّه قال

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 51

لأبي جعفر محمّد بن علي عليه السلام: «رسول اللَّه يسلّم عليك، فقيل لجابر:

وكيف هذا؟ فقال: كنت جالساً عند رسول اللَّه والحسين في حجره هو يداعبه، فقال: يا جابر يولد له ولد اسمه علي، إذا كان يوم القيامة نادي مناد: ليقم سيّد العابدين، فيقوم ولده، ثمّ يولد له ولد اسمه محمّد، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السّلام: «وكفاه شرفاً أن ابن المديني روي عن جابر أنّه قال له- وهو صغير-: رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يسلّم عليك. فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنت جالساً … » «1». ورواه أبو عمرو الزاهد في كتابه (اليواقيت) عن الزهري، وفي الحلية: «وكان الزهري إذا ذكر علي بن الحسين يبكي ويقول: زين العابدين» «2».

ولقد جاء وصفه عليه السلام: ب «سيّد العابدين» أو «زين العابدين» في

سائر الكتب المذكورة فيها أحواله وترجمته مثل: وفيات الأعيان 2/ 429، حلية الأولياء 3/ 133، طبقات ابن سعد 5/ 156 تذكرة الحفّاظ 1/ 74، تهذيب التهذيب 7/ 304، طبقات الحفاظ: 37، طبقات القراء 1/ 534.

فهل يكفي هذا القدر لبيان كذب الرجل؟!

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة: 120.

(2) حلية الأولياء 3/ 135.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 52

ورابعاً: لقد ذكر أشياء لا بدّ من التحقيق حولها:

أخذه عن أبيه وابن عبّاس و … فإنّ الإمام زين العابدين عليه السلام أخذ عن أبيه الإمام الحسين الشهيد عليه السلام، والحسين السبط أخذ عن والده أمير المؤمنين، وهو عن رسول ربّ العالمين صلي الله عليه و آله و سلم … وبحسب السجّاد أخذه عن والده، فإنّه حينئذ وارث علوم سيد النبيّين صلي الله عليه و آله و سلم، وغنيّ عن الأخذ عن غيره، لأنّ الذين ذكرهم لم يدانوه في العلم والفضل أصلًا، بل فيهم من لا يعدّ من أهل العلم، ولا ريب في أنّ أفضل من ذكر اسمه- بعد الحسين عليه السلام- هو ابن عبّاس، لكنّ كلّ ما عنده من العلم فمأخوذ عن علي والحسنين عليهما السلام وهو بعض ما ورثه السجّاد عنهم …

ومن الإفك: ما ذكره من أنّه أخذ عن عائشة ومروان بن الحكم، فإنّ كلّ عاقل يعلم بأن لا نسبة بينه وبينهما في العلم والفضيلة، ومع ما كان منهما بالنسبة إلي جدّه أمير المؤمنين وعمّه الحسن السّبط الأكبر عليهما السلام، وما ورد في مروان بن الحكم اللعين ابن اللعين!!

كما أنّ ما ذكره من أنّه كان يتخطّي مجالس أكابر الناس … كذب واضح، ولو كان هناك مجالسة بينهما، فإنّ الأمر بالعكس، فقد عدّ زيد بن أسلم في كتبنا في أصحاب السجاد

عليه السلام، كما أنّ الرجل نفسه

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 53

عدّه فيمن أخذ عنه عليه السلام، واللفظ الذي رواه الحافظ أبو نعيم: «كان علي بن الحسين يتخطّي حلق قومه حتّي زيد بن أسلم فيجلس عنده، فقال: إنّما يجلس الرجل إلي من ينفعه في دينه» «1» فهو الذي كان ينفع زيداً- بناءً علي صحّة هذا الخبر- لأنّه كان يقول: «من كتم علماً أحداً أو أخذ عليه أجراً رفداً فلا ينفعه أبداً» «2».

أقول:

وكم كذبوا علي هذا الإمام كما كذبوا علي آبائه وأبنائه؟! فلقد جاء في أصحّ كتبهم- أعني البخاري- «وقال علي بن الحسين: يعني مثني أو ثلاث أو رباع» قال شرّاحه:

«وهذا من أحسن الأدلّة في الردّ علي الرافضة، لكونه من تفسير زين العابدين، وهو من أئمتهم الذين يرجعون إلي قولهم ويعتقدون عصمتهم» «3».

وحاصله نسبة القول بجواز التزوّج بما يزيد علي الأربع إلي

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 3/ 138.

(2) حلية الأولياء 3/ 140.

(3) فتح الباري 11/ 41، إرشاد الساري 8/ 26، عمدة القاري 20/ 91. وقد وصفوه ب «زين العابدين» علي رغم أنف المعاندين والحاسدين!

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 54

الإمام زين العابدين عليه السلام، وهي نسبة كاذبة لا أساس لها من الصحّة أبداً.

بل الأمر بالعكس، فإنّ القول بجواز التزوّج بما يزيد علي الأربع منسوب إلي غير واحد من كبار فقهاءهم مستدلّين بالآية المباركة؛ كما لا يخفي علي من راجع: تبيين الحقائق للزيلعي الحنفي 1/ 143 ونيل الأوطار للشوكاني 6/ 169، بل فيهم من قال بجواز التزوّج بأيّ عدد شاء من النساء. وذكره النيسابوري بتفسير الآية من تفسيره غرائب القرآن 4/ 172.

وكان قد حجّ هشام بن عبد الملك، فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه للزحام، فجاء زين

العابدين عليه السلام، فوقف الناس له، وتنحّوا عن الحجر حتي استلمه …

أقول:

قد ذكرت هذه القصة والقصيدة في كثير من مؤلَّفات الفريقين، ونحن نكتفي بذكر عدّة من كتب أهل السنّة فقط:

حلية الأولياء لأبي نعيم الإصفهاني 3/ 139. تذكرة خواص الأُمّة لسبط ابن الجوزي الحنفي: 329. وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 200. صفة الصفوة لابن الجوزي الحنبلي 2/ 55. تاريخ ابن كثير 9/ 108. مرآة الجنان، لليافعي 1/ 239. مطالب السئول، لابن طلحة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 55

الشافعي: 64. حياة الحيوان، للدميري 1/ 9. شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي 1/ 142. زهر الآداب، للقيرواني 1/ 102. شرح شواهد مغني اللبيب، للسيوطي: 249. كفاية الطالب، للكنجي الشافعي: 303. شرح الحماسة، للتبريزي 4/ 82. الفصول المهمة، لابن الصبّاغ المالكي: 193. الصواعق المحرقة، لابن حجر: 120.

قصص العرب، لأحمد جاد المولي 2/ 254. جواهر الأدب، لأحمد الهاشمي 2/ 15. نور الأبصار، للشبلنجي: 193.

وقد أورد ذلك ابن تيميّة، ولم يتكلَّم عليه بشي ء!!

هذا، والفرزدق هو: همام بن غالب الدارمي التميمي البصري، كنيته: أبو فراس، ولد سنة: 19، قدّمه أئمّة الأدب علي مثل جرير والأخطل، وقال بعضهم: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب.

اشتهر أخيراً بتجاهره بحبّ أهل البيت عليهم السلام ودفاعه عنهم، وقصيدته الرائعة المشهورة من أقوي الشواهد علي إيمانه بإمامتهم وولايتهم بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، قال السيد المرتضي: كان الفرزدق قد نزع في آخر عمره عمّا كان عليه من القذف والفسق، وراجع طريقة الدين، علي أنّه لم يكن في خلال فسقه منسلخاً عن الدين جملة ولا مهملًا أمره أصلًا.

وتوفي بالبصرة سنة: 110 وقد قارب المائة. توجد ترجمته في: أمالي المرتضي 1/ 62، الأغاني 21/

229، الدرجات الرفيعة: 541، معجم

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 56

الأُدباء 7/ 252، خزانة الأدب 1/ 202، شذرات الذهب 1/ 141 وغيرها.

(وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلًا ولا يعرفون ممّن هو، فلمّا مات زين العابدين انقطع ذلك عنهم، وعرفوا أنّه منه عليه السلام)

وهذا ممّا اعترف به ابن تيميّة أيضاً، واتّفقت عليه كلمة المؤرّخين من الفريقين، كما لا يخفي علي من راجع حلية الأولياء لأبي نعيم الحافظ 3/ 139 وصفة الصفوة للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي 2/ 70 وغيرهما.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 57

(5)

الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام … ص: 57

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 59

(وكان ابنه محمّد الباقر عليه السلام أعظم الناس زهداً وعبادةً، بقر السجود جبهته، وكان أعلم أهل وقته)

قال ابن تيميّة: «وكذلك أبو جعفر محمّد بن علي، من خيار أهل العلم والدّين. وقيل: انّما سمّي الباقر لأنّه بقر العلم، لا لأجل بقر السجود جبهته، وأمّا كونه أعلم أهل زمانه فذا يحتاج إلي دليل. والزّهري من أقرانه وهو عند الناس أعلم منه» «1».

أقول:

لم يعترض علي العلّامة وصفه الإمام الباقر عليه السلام: ب «أعظم الناس زهداً وعبادة» ولم يقره بصراحةٍ حقداً وعناداً.

أمّا أنّه سمّي الباقر لأنّه بقر العلم، فهذا ما يقوله العلّامة وسينقل

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2/ 123.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 60

الخبر فيه وإنّها تسمية من النبي صلي الله عليه و آله و سلم، وإنّما قال: «أعظم الناس زهداً وعبادة بقر السجود جبهته» لبيان كثرة عبادته. لكن في (الطبقات):

« … حدّثني هارون بن عبد اللَّه بن الوليد المصيّصي قال: رأيت محمّد بن علي علي جبهته وأنفه أثر السجود، ليس بالكثير» «1» والحافظ سبط ابن الجوزي الحنفي قال: «وإنّما سمّي الباقر من كثرة سجوده، بقر

السجود جبهته، أي فتحها ووسّعها. وقيل لغزارة علمه. قال الجوهري في الصحاح: التبّقر التوسّع في العلم، قال: وكان يقال محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الباقر، لتبقّره في العلم» «2».

وأمّا قوله: «كونه أعلم أهل زمانه يحتاج إلي دليل، والزهري من أقرانه وهو عند الناس أعلم منه» فيقال:

أولًا: لو أمكنه الإنكار، لباح بذلك، فإمساكه عن الإنكار- مع ما هو عليه من العناد لآل البيت الأطهار- دليل.

وثانياً: إشتهاره بالباقر- لأنّه بقر العلم ووسّعه، وهذا الوجه في التسمية هو الذي ذكره- دليل آخر.

وثالثاً: لو كان في عصره أعلم منه لاشتهر وعرف، كيف وأئمة

__________________________________________________

(1) طبقات ابن سعد 5/ 323.

(2) تذكرة خواص الأُمة: 366.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 61

القوم- الذين مازالوا يقلّدونهم- هم تلامذته كما ستعرف.

موجز ترجمة الزهري:

رابعاً: إنّه قد ذكر الزّهري في مقابلة الباقر عليه السلام، لكنّه نسب القول بأعلميّته إلي الناس، وكأنّه غير جازم بهذه الدّعوي، ولكن من هؤلاء الناس الذين يقولون بأعلميّة الزهري من الباقر عليه السلام؟ لقد نسب هذا إلي «الناس» هنا وكان من قبل نسبه إلي «اتّفاق أهل العلم» حيث قال:

« … فالزهري أعلم بأحاديث النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وأحواله وأقواله- باتّفاق أهل العلم- من أبي جعفر محمّد بن عليّ، وكان معاصراً له» «1».

إنّه يريد الحطّ من شأن أئمة أهل البيت عليهم السلام! لكنّه يعلم بأنّ آراءه لا قيمة لها، فينسب مزاعمه تارة إلي «أهل العلم» وإلي «الناس» أُخري! وهل يقول أحد- إذا كان من أهل العلم والدّين حقّاً- بأعلميته والكلّ يشهدون بأنّه من الراوين والآخذين عن الباقر فيمن أخذ وروي؟

وما الذي يحمله علي ذكر خصوص الزهري والتبجّح به في مقابلة أئمة أهل البيت في غير موضع من كتابه؟

الحقيقة

أنّ الزّهري من أشهر المنحرفين عن أميرالمؤمنين

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 1/ 230.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 62

وأهل البيت الطّاهرين، فالرجل إنّما يذكره لكونه علي رأيه واعتقاده، علي ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي، فإنّه قال: «وكان الزهري من المنحرفين عنه عليه السلام. وروي جرير بن عبد الحميد عن محمد بن شيبة قال: شهدت مسجد المدينة، فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً عليه السلام فنالا منه، فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فجاء حتي وقف عليهما، فقال: أمّا أنت يا عروة فانّ أبي حاكم أباك إلي اللَّه فحكم لأبي علي أبيك. وأما أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك كير أبيك» قال: «وروي عاصم بن أبي عامر البجلي عن يحيي بن عروة قال: كان أبي إذا ذكر علياً نال منه» «1».

ويؤكّد هذا سعيه وراء انكار مناقب الأمير عليه السلام، كمنقبة سبقه إلي الإسلام، قال ابن عبد البر بترجمة زيد بن حارثة: «وذكر معمر في جامعه عن الزهري قال: ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة. قال عبد الرزّاق: وما أعلم أحداً ذكره غير الزهري» «2».

وروايته عن عمر بن سعد اللعين قاتل الحسين بن علي أمير المؤمنين عليه السلام، قال الذهبي «عمر بن سعد بن أبي وقّاص،

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة 4/ 102.

(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/ 546.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 63

عن أبيه، وعنه إبراهيم وأبو اسحاق، وأرسل عنه الزهري وقتادة. قال ابن معين: كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟» «1».

وكونه من عمّال بني أُميّة ومشيّدي سلطانهم حتّي أنكر عليه ذلك العلماء والزّهاد؛ فقد ذكر العلّامة الدهلوي بترجمته من (رجال المشكاة): «أنّه قد ابتلي بصحبة الأُمراء بقلّة الديانة،

وكان أقرانه من العلماء والزهاد يأخذون عليه وينكرون ذلك منه، وكان يقول: أنا شريك في خيرهم دون شرّهم! فيقولون: ألا تري ما هم فيه وتسكت؟!».

ومن هنا قدح فيه ابن معين؛ فقد «حكي الحاكم عن ابن معين أنّه قال: أجود الأسانيد: الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه. فقال له إنسان: الأعمش مثل الزهري. فقال: تريد من الأعمش أن يكون مثل الزهري! الزهري يري العرض والإجازة، ويعمل لبني أُميّة، والأعمش فقير صبور مجانب للسلطان ورع عالم بالقرآن» «2».

وقال الذهبي: «أبو بكر ابن شاذان البغدادي، حدّثنا علي بن محمّد السّواق، حدّثنا جعفر بن مكرم الدقّاق، حدّثنا أبو داود، حدّثنا شعبة قال:

خرجت أنا وهشيم إلي مكة، فلما قدمنا الكوفة رآني هشيم مع

__________________________________________________

(1) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستة 2/ 84.

(2) تهذيب التهذيب 4/ 197 ترجمة الأعمش.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 64

أبي إسحاق فقال: من هذا؟ قلت: شاعر السبيع، فلما خرجنا جعلت أقول:

حدّثنا أبو إسحاق، قال: وأين رأيته؟ قلت: هو الذي قلت لك شاعر السبيع. فلما قدمنا مكة مررت به وهو قاعد مع الزهري فقلت: يا أبا معاوية من هذا؟ قال: شرطي لبني أُميّة، فلما قفلنا جعل يقول: حدّثنا الزهري فقلت: وأين رأيته؟ قال: الذي رأيته معي. قلت: أرني الكتاب، وأخرجه. فخرّقته» «1».

وقال الذهبي: «قال أحمد بن عبدويه المروزي: سمعت خارجة بن مصعب يقول: قدمت علي الزهري وهو صاحب شرط بني أُميّة، فرأيته ركب وفي يديه حربة وبين يديه الناس في أيديهم الكافر كوبات، فقلت:

قبّح اللَّه ذا من عالم، فلم أسمع منه» «2».

هذا، ولقد ورث الزهري هذا العداء للاسلام والنبي وأهل بيت النبوّة من آبائه، فقد ذكر ابن خلّكان بترجمته: «وكان أبو جدّه عبد اللَّه بن

شهاب شهد مع المشركين بدراً، وكان أحد النفر الذين تعاقدوا يوم أحد لئن رأوا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ليقتلنّه أو ليقتلنّ دونه. وروي:

أنّه قيل للزهري: هل شهد جدّك بدراً؟ فقال: نعم ولكن من ذلك الجانب.

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 7/ 226.

(2) ميزان الإعتدال 1/ 625.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 65

يعني أنّه كان في صفّ المشركين. وكان أبوه مسلم مع مصعب بن الزبير.

ولم يزل الزهري مع عبد الملك ثم مع هشام بن عبد الملك، وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه» «1».

(سمّاه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم «الباقر» جاء جابر … )

هذا الخبر ممّا اتّفق الطرفان علي روايته. وقال ابن شهراشوب:

«حديث جابر مشهور معروف رواه فقهاء المدينة والعراق كلّهم» «2» وفي (كشف الغمة) نقله عن ابن الزبير محمّد بن مسلم المكي أنّه قال:

«كنّا عند جابر بن عبد اللَّه، فأتاه علي بن الحسين ومعه ابنه محمّد وهو صبيّ … » «3» وروي ابن قتيبة: «أنّ هشاماً قال لزيد بن علي: ما فعل أخوك البقرة؟ فقال زيد: سمّاه رسول اللَّه باقر العلم وأنت تسمّيه بقر! فاختلفتما اذن» «4».

وقال الزبيدي الحنفي في «الباقر»: «قلت: وقد ورد في بعض الآثار عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال له: يوشك أن تبقي حتّي تلقي ولداً لي من الحسين يقال له محمّد يبقر

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 4/ 177 ترجمة الزهري.

(2) مناقب آل أبي طالب 4/ 196.

(3) كشف الغمة في معرفة الأئمة 2/ 331.

(4) عيون الأخبار 1/ 212.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 66

العلم بقراً، فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام، خرّجه أئمة النسب» «1».

وهذا القدر كاف لتبيين كذب المفتري القائل: «ونقل تسميته بالباقر

عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لا أصل له عند أهل العلم، بل هو من الأحاديث الموضوعة. وكذلك حديث تبليغ جابر له السلام هو من الموضوعات عند أهل العلم بالحديث».

هذا، ولا بدّ من التنبيه علي أنّ جملة «وهو صغير في الكتاب» زيادةٌ من الرّواة.

(وروي عنه أبو حنيفة وغيره)

أقول:

ذكر رواية أبي حنيفة وغيره عن الباقر عليه السلام الحافظ ابن حجر العسقلاني بترجمته «2»، وبترجمة الباقر عليه السلام: «روي عنه: أبو إسحاق السبيعي، والأعرج، والزهري، وعمرو بن دينار، والأوزاعي، وابن جريج، والأعمش وغيرهم» «3».

وقال أبو نعيم: «روي عنه من التابعين: عمرو بن دينار، وعطاء بن

__________________________________________________

(1) تاج العروس 3/ 55.

(2) تهذيب التهذيب 10/ 401.

(3) تهذيب التهذيب 9/ 312.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 67

أبي رباح، وجابر الجعفي، وأبان بن تغلب. وروي عنه من الأئمة والأعلام، ليث بن أبي سليم، وابن جريج، وحجاج بن أرطاة، في آخرين» «1».

وقال الذهبي: «الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني، أحد الأعلام، … حدّث عنه: ابنه جعفر بن محمّد، وعمرو بن دينار، والأعمش، والأوزاعي، وابن جريج، وقرّة بن خالد، وخلق» «2».

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 3/ 188.

(2) تذكرة الحفاظ 1/ 124.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 69

(6)

الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام … ص: 69

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 71

(وكان ابنه الصادق عليه السلام أفضل أهل زمانه وأعبدهم)

قال ابن تيميّة: «وجعفر الصّادق- رضي اللَّه عنه- من خيار أهل العلم والدّين. أخذ العلم عن جدّه أبي أُمّه أُمّ فروةبنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق، وعن محمّد بن المنكدر، ونافع مولي ابن عمر، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم. وروي عنه: يحيي بن سعيد الأنصاري، مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وشعبة، ويحيي بن سعيد القطّان،

وحاتم بن إسماعيل، وحفص بن غياث، ومحمّد بن إسحاق بن يسار. وقال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلي جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين … »

أقول:

لم يلتفت الرجل إلي كلمة العلامة: «أفضل أهل زمانه وأعبدهم»

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 72

لا بالنفي ولا بالإثبات … ولنورد كلمات عدّة من أئمة القوم تأكيداً لما ذكره العلّامة رحمه الله:

قال إمامهم مالك بن أنس: «جعفر بن محمّد، اختلفت إليه زماناً، فما كنت أراه إلّاعلي إحدي ثلاث خصال، إمّا مصلّ وإمّا صائم وإمّا يقرأ القرآن، وما رأيته يحدّث إلّاعن طهارة» «1».

وقال إمامهم أبو حنيفة: «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد. لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة: انّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّئ له من المسائل الشّداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر- وهو بالحيرة- فأتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمّد جالس عن يمينه، فلمّا أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمّد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه وأومأ إليّ، فجلست، ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد اللَّه هذا أبو حنيفة. قال جعفر: نعم ثمّ أتبعها قد أتانا- كأنّه كره ما يقول فيه قوم انّه إذا رأي الرجل عرفه- ثمّ التفت المنصور إليّ فقال: يا أبا حنيفة ألق علي أبي عبد اللَّه من مسائلك.

فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا. فربّما تبعناهم وربّما خالفنا جميعاً. حتّي

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 2/ 89.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 73

أتيت علي الأربعين مسألة. ثمّ قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس» «1».

وقال ابن

حبّان: «كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلًا» «2».

وقال أبو حاتم محمّد بن إدريس الرازي: «لا يسأل عن مثله» «3».

وقال ابن خلّكان: «كان من سادات آل البيت، ولقّب بالصادق لصدقه، وفضله أشهر من أن يذكر» «4».

وقال أبو الفرج ابن الجوزي: «كان مشغولًا بالعبادة عن حبّ الرئاسة» «5».

وقال أبو الفتح الشهرستاني: «جعفر بن محمّد الصادق، هو ذو علم وأدب كامل في الحكمة، وزهد في الدنيا وورع تامّ عن الشهوات.

وقد أقام بالمدينة مدّةً يفيد الشيعة المنتمين إليه ويفيض علي الموالين له أسرار العلوم. ثمّ دخل العراق وأقام بها مدّةً، ما تعرّض للإمامة قط،

__________________________________________________

(1) جامع مسانيد أبي حنيفة 1/ 222، تذكرة الحفاظ 1/ 157.

(2) الثقات وعنه تهذيب التهذيب 2/ 89.

(3) تهذيب التهذيب 2/ 88.

(4) وفيات الأعيان 1/ 291.

(5) صفة الصفوة 2/ 94.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 74

ولا نازع في الخلافة أحداً. ومن غرق في بحر المعرفة لم يقع في شط، ومن تعلّي إلي ذروة الحقيقة لم يخف من حط» «1».

وقال أبو نعيم: «جعفر بن محمّد الإمام الناطق، ذو الزّمام السابق، أبو عبد اللَّه جعفر بن محمّد الصادق، أقبل علي العبادة والخضوع. وآثر العزلة والخشوع. ونهي عن الرئاسة والجموع» «2».

وقال النّووي: «اتفقوا علي إمامته وجلالته» «3».

وأمّا الذين ذكر أنّهم أخذوا عنه فهم بعض من كلّ، كما لا يخفي علي من راجع ترجمته في الكتب المذكورة وغيرها. وأمّا أخذه عن الذين ذكرهم فكذب، وممّا يوضّح كذبه دعواه الأخذ عن الزّهري الذي عرفت حاله.

(وقال علماء السّيرة: إنّه اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة)

قال ابن تيميّة: «وأمّا قوله: اشتغل بالعبادة عن الرئاسة، فهذا تناقض من الإمامية، لأنّ الإمام عندهم واجب أن يقوم بها وبأعبائها، فانّه لا إمام في وقته الّا

هو. فالقيام بهذا الأمر أعظم لو كان واجباً وأولي من

__________________________________________________

(1) الملل والنحل 1/ 147.

(2) حلية الأولياء 3/ 192.

(3) تهذيب الأسماء واللغات 1/ 155.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 75

الاشتغال بنوافل العبادات».

أقول:

إنّ الإمام المنصوص عليه بالإمامة يجب عليه قبولها والقيام بأعبائها متي ما أقبل عليه المسلمون وبايعوه وطلبوا منه ذلك، لكنّ هذا لم يكن من الناس، وعلي الجملة، فإنّ الحكومة والرئاسة من شئون الإمام الحق، فإن تمكّن منها وجبت عليه وإلّا لم تجب عليه المطالبة بها، كما هو الحال بالنسبة إلي النبي.

وفي كلمات أئمة أهل البيت ممّا يشهد بذلك كثير، ومن ذلك كلمات الأمير عليه السلام في (نهج البلاغة). ثمّ إنّ الذي ذكره العلّامة لم يكن منقولًا عن الإمامية حتي يكون تناقضاً منهم، بل إنّه قال: «قال علماء السّيرة … » وقد وجدت هذا القول في الكلمات التي نقلناها، في عبارة ابن الجوزي، وأبي نعيم، والشهرستاني … لكن الرّجل نسب هذا إلي العلّامة نفسه قائلًا: «وأمّا قوله … » حتّي يشكل بالتناقض علي زعمه!!

(قال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلي جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين)

هذا مذكور بترجمة الإمام أبي عبد اللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، عن عمرو بن أبي المقدام، في سائر كتب الرجال

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 76

والحديث المعتبرة عند القوم. فراجع منها: تهذيب الكمال، وتهذيب التهذيب، وتهذيب الأسماء واللغات.

(وهو الذي نشر فقه الإماميّة والعقائد اليقينيّة)

أشار إلي ذلك أبو الفتح عبد الكريم الشهرستاني في كلامه المتقدّم، وقال اليافعي بترجمته: «له كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها. قد ألّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتاباً يشتمل علي ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة» «1» وقال

الآلوسي «هذا أبو حنيفة- وهو من أهل السنّة- يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السّنتان لهلك النعمان» يعني اللتين جلس فيهما لأخذ العلم من الإمام جعفر الصادق» «2».

لكنّ الرّجل لم يفهم مغزي هذا الكلام فقال: «وأمّا قوله: هو الذي نشر فقه الإمامية والمعارف الحقيقية والعقائد اليقينية. فذا الكلام يستلزم أحد أمرين: إمّا أنّه ابتدع في العلم ما لم يكن يعلمه من قبله. وإمّا أن يكون الذي قبله قصّر فيما يجب من نشر العلم. وهل يشكّ عاقل أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بيّن لأُمّته المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية أكمل بيان، وأن أصحابه تلقّوا عنه ذلك وبلّغوه إلي المسلمين؟ وهذا

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان وعبرة اليقظان 1/ 304.

(2) مختصر التحفة الإثنا عشرية: 8.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 77

يقتضي القدح إمّا فيه وإمّا فيهم، بل هو كذب، فقد كذب علي جعفر الصادق، أكثر ممّا كذب علي من قبل، فالآفة وقعت من الكذّابين عليه لا منه».

أقول:

باللَّه عليك! أيّ شي ء قاله العلّامة حتّي تتوجّه إليه هذه التّهم والإفتراءات؟ يقول العلّامة: إنّ الصادق عليه السلام «نشر المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية» وكلّ من يكون من أهل اللّسان- وليس في قلبه مرض- يفهم من هذا الكلام أنّ الصادق عليه السلام علّم وبيّن وشرح وبلّغ المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية التي كان قد جاء بها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، وتعلّمها منه عن طريق آبائه، فلا هو ابتدع أشياء، ولا أنّ النبي صلي الله عليه و آله و سلم قصّر … ولا قدح فيه ولا في أصحاب الرّسول الذين تعلّموا منه شيئاً وبلّغوا ما تعلّموا كما تعلّموا …

(وكان لا يخبر بأمرٍ إلّاوقع، وسمّوه الصادق الأمين)

وحياته سلام اللَّه عليه مليئة بالوقائع من

هذا القبيل، فقد كان صادقاً، «مستجاب الدّعوة إذا سأل اللَّه شيئاً لا يتمّ قوله إلّاوهو بين يديه» «1»، ولا يخبر بشي ء إلّاوقع، ومن ذلك ما ذكره العلّامة من

__________________________________________________

(1) نور الأبصار: 295.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 78

أمر العلويين.

(وكان عبد اللَّه بن الحسن عليه السلام جمع أكابر العلويين للبيعة لولديه … )

روي أبو الفرج الإصفهاني بسنده عن عمر بن شبّة بأسانيده: أنّ جماعةً من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء وفيهم: إبراهيم بن محمّد بن علي بن عبد اللَّه بن العبّاس، وأبو جعفر المنصور، وصالح بن علي، وعبد اللَّه بن الحسن بن الحسن، وإبناه محمّد وإبراهيم، ومحمّد بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان … فبايعوا جميعاً محمّداً [ابن عبد اللَّه بن الحسن ] وأُرسل بذلك إلي جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال عبد اللَّه بن الحسن: لا نريد جعفراً لئلّا يفسد عليكم أمركم … وجاء جعفر، فأوسع له عبد اللَّه بن الحسن إلي جنبه فقال: لا تفعلوا، فإنّ هذا الأمر لم يأت بعد، فغضب عبد اللَّه وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، وواللَّه ما أطلعك اللَّه علي غيبه، ولكن يحملك علي هذا الحسد لابني، فقال: واللَّه ما ذاك يحملني، ولكن ذا واخوته وأبناؤهم دونكم- وضرب بيده علي ظهر أبي العبّاس، ثمّ ضرب بيده علي كتف عبد اللَّه بن الحسن وقال: إنّها- واللَّه- ما هي إليك ولا إلي ابنيك ولكنّها لهم، وإنّ ابنيك لمقتولان، ثمّ نهض وتوكّأ علي يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال: أرأيت صاحب الرداء الأصفر- يعني أبا جعفر-؟

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 79

قال: نعم. قال: فإنا- واللَّه- نجده يقتله. قال له عبد العزيز: أيقتل محمّداً؟ قال: نعم. قال: فقلت في نفسي: حسده

وربّ الكعبة. قال: ثمّ واللَّه ما خرجت من الدنيا حتّي رأيته قتلهما. قال: فلما قال جعفر ذلك نفض القوم فافترقوا ولم يجتمعوا بعدها. وتبعه عبدالصد وأبو جعفر فقالا: يا أبا عبد اللَّه أتقول هذا؟ قال: نعم أقوله واللَّه وأعلمه» «1».

__________________________________________________

(1) مقاتل الطالبيين 184- 187 ملخصاً. وعنه الشيخ المفيد في الارشاد ومصادر أُخري.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 81

(7)

الإمام موسي بن جعفر الكاظم عليه السلام … ص: 81

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 83

(وكان ابنه موسي الكاظم عليه السلام يدعي العبد الصالح)

كما بتراجمه في كتب الفريقين، فراجع من كتب أهل السنة: صفة الصفوة 2/ 124، مرآة الجنان 1/ 394، تهذيب الكمال 29/ 44، تاريخ بغداد 13/ 27، تهذيب التهذيب 10/ 302، مطالب السئول 76.

(كان أعبد أهل وقته، يقوم الليل ويصوم النهار، سمّي الكاظم لأنّه … )

قال ابن تيميّة: «وأمّا من بعد جعفر، فموسي بن جعفر، قال فيه أبو حاتم الرازي: ثقة أمين صدوق من أئمة المسلمين. قلت: موسي ولد بالمدينة سنة بضع وعشرين ومائة، وأقدمه المهدي إلي بغداد، ثمّ ردّه إلي المدينة وأقام بها إلي أيام الرشيد، فقدم هارون منصرفاً من عمرته، فحمل موسي معه إلي بغداد وحبسه بها إلي أن توفّي في حبسه. قال

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 84

ابن سعد: توفّي سنة ثلاث وثمانين ومائة. وليس له كثير رواية. روي عن أبيه جعفر. وروي عنه أخوه علي. وروي له الترمذي وابن ماجة» 2/ 124.

أقول:

هذا كلامه، فلم ينكر إلي هنا شيئاً ممّا ذكره العلّامة واكتفي بنقل كلمة أبي حاتم … ولننقل كلمات أبي حاتم … وكلمات أُخري، تشييداً لما ذكره العلّامة، ثمّ نشير إلي ما في كلام ابن تيميّة:

قال ابن حجر: «عنه: أخواه علي ومحمّد، وأولاده: إبراهيم وحسين وإسماعيل وعلي

الرضي وصالح بن يزيد ومحمّد بن صدقة العبري. قال أبو حاتم: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين. قال يحيي بن الحسين بن جعفر النسّابة: كان موسي بن جعفر يدعي العبد الصالح من عبادته واجتهاده. وقال الخطيب: يقال انّه ولد بالمدينة في سنة ثمان وعشرين ومائة … ومناقبه كثيرة … » «1».

وقال الخطيب: «كان موسي يدعي العبد الصالح من عبادته واجتهاده، روي أنّه دخل مسجد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم فسجد سجدةً في أول الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: عظم الذنب من عندي فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوي ويا أهل المغفرة. فجعل يردّدها حتي

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 10/ 302.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 85

أصبح. وكان سخياً كريماً، وكان يسمع عن الرجل ما يؤذيه، فيبعث إليه بصرّة فيها ألف دينار» «1».

ونقل ابن خلّكان كلام الخطيب المذكور، ثمّ نقل عن المسعودي ما سنذكره.

وقال الذهبي: «موسي الكاظم، الإمام القدوة … ذكره أبو حاتم فقال: ثقة صدوق، إمام من أئمة المسلمين. قلت: له عند الترمذي وابن ماجة حديثان … له مشهد عظيم مشهور ببغداد، دفن معه فيه حفيده الجواد، ولولده علي بن موسي مشهد عظيم بطوس. وكانت وفاة موسي الكاظم في رجب سنة 183 … » «2».

وقال ابن الجوزي: «موسي بن جعفر، كان يدعي العبد الصالح، وكان حليماً كريماً، إذا بلغه عن رجل ما يؤذيه بعث إليه بمال» «3».

وقال القرماني: «هو الإمام الكبير الأوحد الحجّة، الساهر ليله قائماً القاطع نهاره صائماً، المسمّي لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً، وهو المعروف بباب الحوائج، لأنّه ما خاب المتوسّل به في قضاء

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 13/ 27.

(2) سير أعلام النبلاء 6/ 270.

(3) صفوة الصفوة 2/ 103.

سلسلة

اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 86

حاجته قط» «1».

وقال ابن حجر المكّي: «هو وارث أبيه علماً ومعرفة وكمالًا وفضلًا، سمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند اللَّه، وكان أعبد أهل زمانه، وأعلمهم وأسخاهم» «2».

وقال ابن طلحة: «هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن الكبير، المجتهد الجادّ في الإجتهاد، المشهور بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه، دعي كاظماً كان يجازي المسي ء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يسمّي بالعبد الصالح، ويعرف بالعراق بباب الحوائج إلي اللَّه، لنجح مطالب المتوسّلين إلي اللَّه تعالي به، كراماته تحار منها العقول وتقضي بأنّ له عند اللَّه تعالي قدم صدق لا تزل ولا تزول» «3».

هذه نتف من كلمات المخالفين، وأمّا مناقبه وفضائله في كتب

__________________________________________________

(1) أخبار الدول: 112.

(2) الصواعق المحرقة: 112.

(3) مطالب السئول: 76.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 87

الشيعة القائلين بإمامته فلا تعدّ ولا تحصي، تجدها مروية بالأسانيد المعتبرة في (الإرشاد) للشيخ المفيد، و (المناقب) لابن شهراشوب، و (إعلام الوري) للطبرسي، و (كشف الغمة) للاربلي، و (إثبات الهداة) للحرّ العاملي، و (بحار الأنوار) للمجلسي … كما ألّفت في أحواله وفضائله كتب خاصّة.

ولد بالأبواء، قرية من قري المدينة المنوّرة، وكانت سنة ولادته (128) وقيل (127) وقيل (129).

وتوفّي سنة 183- وقيل غير ذلك- في سجن هارون، وكان قد كتب إليه من السجن: «إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتّي ينقضي عنك يوم من الرخاء، حتّي نفني جميعاً إلي يوم ليس له انقضاء وهناك يخسر المبطلون» «1» ولم تكن وفاته حتف أنفه، وإنّما توفّي مسموماً.

وأمّا قول الرّجل: «وليس له كثير رواية، روي عن أبيه

جعفر، وروي عنه أخوه علي. وروي له الترمذي وابن ماجة».

فأقول:

حسبه الرواية عن أبيه جعفر، فإنّ الصّيد كلّه في جوف الفرا. وأمّا الرواة عنه فلا يعدّون كثرةً؛ أمّا من أهل بيته، فأخوه علي بن جعفر

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 29/ 50، البداية والنهاية 10/ 183، سير أعلام النبلاء 6/ 273.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 88

وأولاده، وأمّا من غيرهم، فقد ذكر ابن حجر بعضهم مع أخويه وأولاده، وقال الخزرجي: «وعنه: ابنه علي الرضا وأخواه علي ومحمّد ابنا جعفر بن محمّد، وطائفة» «1».

وأمّا أصحابنا، فقد ذكروا في الكتب الرّجالية أسامي كثيرين من تلامذته، والرّواة عنه، يعدّون بالمئات، وعن طريقهم امتلأت كتبهم الفقهيّة وغيرها بالأخبار في الأحكام الشرعيّة والمعارف الدينية والعلوم الاسلامية … وأمّا الرّجل فقد حاول التقليل من أهميّة الإمام الكاظم والحطّ من شأنه وشأن الرواة عنه، حتي أنّه لم يذكر رواية ولده الإمام علي بن موسي الرّضا عليه السلام وأخذه عنه.

وأمّا عدم رواية المؤلّفين في الحديث من أهل السنّة عنه- عدا الترمذي وابن ماجة- فذاك من سوء حظّهم وعدم توفيقهم، لانحرافهم عن أهل البيت والعترة الطاهرة.

(قال ابن الجوزي- من الحنابلة- عن شقيق البلخي قال: خرجت حاجّاً … )

أقول: وابن الجوزي هو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي الفقيه الحنبلي الحافظ الواعظ، قال ابن خلّكان: «كان

__________________________________________________

(1) خلاصة تهذيب الكمال: 334.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 89

علّامة عصره وامام وقته» «1» وقال الذهبي: «الإمام العلّامة الحافظ عالم العراق وواعظ الآفاق» «2» له مؤلّفات كثيرة، توفّي سنة: 597. له ترجمة في الوافي بالوفيات 2/ 321، تذكرة الحفّاظ 4/ 131، النجوم الزاهرة 6/ 174 وغيرها.

رواه عن شقيق البلخي- قال أبو نعيم: «شقيق بن إبراهيم البلخي، أحد الزهّاد في

المشرق» «3» وقال ابن حجر: «مناقب شقيق كثيرة جداً» «4» - في كتابه صفة الصفوة 2/ 125 ورواه غيره أيضاً، أُنظر: أخبار الدول: 112، جامع كرامات الأولياء 2/ 229، مطالب السئول: 84، نور الأبصار: 135، وغيرها.

لكنّ ابن تيميّة الذي لا يطيق سماع منقبة من مناقب أئمة العترة، وإن كان راويها من غير الشيعة يقول:

«وأمّا الحكاية المشهورة عن شقيق البلخي فكذب» ثمّ يعلّل هذا التكذيب المنبعث من الحقد والعناد بقوله: «فإنّ هذه الحكاية تخالف المعروف من حال موسي بن جعفر، وموسي كان مقيماً بالمدينة بعد

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 4/ 393.

(2) تذكرة الحفاظ 2/ 1342.

(3) حلية الأولياء 8/ 58.

(4) لسان الميزان 3/ 153.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 90

موت أبيه جعفر، وجعفر مات سنة ثمان وأربعين، ولم يكن قد جاء إذ ذاك إلي العراق، حتي يكون بالقادسية … ».

عجيب!! إنّه يتكلّم وكأنّه محيط بجميع أيام الإمام وحالاته، وعارف بزمانه عليه السلام وخصوصياته … أكثر من غيره … إنّ هذه الحكاية رواها شيعته الذين هم أعرف الناس به وبما يتعلّق به، مضافاً إلي الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي الذي هو عراقي بغدادي، وله كتاب (المنتظم في تاريخ الأُمم) من الكتب التاريخيّة المعتمدة، ومضافاً إلي غيره من الأعلام.

لكنّه البغض والحقد والعناد، فلو كانت هذه القضيّة لزيد أو لعمرو ممّن يتولّاهم، الرّجل لتكلّم في اطرائها وتقريظ صاحبها صحائف عديدة …

هذه حال هذا الرجل في هذه الحكاية، وعلي هذه فقس ما سواها.

(وعلي يده تاب بشر الحافي، لأنّه عليه السلام اجتاز علي داره في بغداد … )

أقول: قال الخطيب البغدادي بترجمة بشر: «بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد اللَّه، أبو نصر، المعروف

سلسلة اعرف الحق

تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 91

بالحافي، مروزي سكن بغداد، وهو ابن عم علي بن خشرم، وكان ممّن فاق أهل عصره في الورع والزهد، وتفرّد بوفور العقل وأنواع الفضل، وحسن الطريقة واستقامة المذهب وعزوف النفس وإسقاط الفضول …

وكان كثير الحديث … » وأطال بذكر مناقبه وفضائله جدّاً «1». وعنه ابن الجوزي وذكر أنّ له كتاباً في فضائله «2».

هذا، وقد كذّب ابن تيميّة هذه الحكاية كسابقتها، وعلّل تكذيبه للعلّامة هذه المرّة بقوله المضحك المبكي: «وأمّا قوله: تاب علي يده بشر الحافي، فمن أكاذيب من لا يعرف حاله ولا حال بشر، فإنّ موسي بن جعفر لما قدم به الرشيد إلي العراق حبسه، فلم يكن ممّن يجتاز علي دار بشر وأمثاله من العامّة».

فإذا كان العلّامة لا يعرف حال الإمام فمن العارف؟ إنّه ليس لهذا الرّجل أن يدّعي المعرفة بأحوال أئمّة أهل البيت بقدر ما يعرفه أفراد العوامّ من شيعتهم … وأصدق شاهد علي جهله بأحوالهم نفس هذا الكلام- إن سلّمنا صدوره عن الجهل لا العناد للأئمّة عليهم السلام- لأنّ الإمام عليه السلام قد أطلق سراحه من السجن بأمر من هارون وكان في بغداد

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 7/ 67- 80.

(2) المنتظم 11/ 122- 125.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 92

مدّةً من الزمن، ثمّ عاد هارون فسجنه حتّي لحق بآبائه مسموماً، وهذا ممّا اتّفق عليه المؤرخّون، وفيه كرامة من كرامات الإمام عليه السلام، فقد قال ابن خلّكان بترجمته: «قال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي في كتاب مروج الذهب في أخبار هارون الرشيد:

إنّ عبد اللَّه بن مالك الخزاعي كان علي دار هارون الرشيد وشرطته، فقال: أتاني رسول الرشيد وقتاً ما جاءني فيه قط، فاستنزعني من موضعي، ومنعني من تغيير ثيابي،

فراعني بذلك. فلمّا صرت إلي الدار سبقني الخادم فعرّف الرشيد خبري، فأذن لي في الدخول عليه، فوجدته قاعداً في فراشه، فسلّمت عليه، فسكت ساعة، فطار عقلي، وتضاعف الجزع عليَّ ثمّ قال: يا عبد اللَّه أتدري لم طلبتك في هذا الوقت؟ قلت: لا واللَّه يا أمير المؤمنين.

قال: إنّي رأيت الساعة في منامي كأنّ حبشيّاً قد أتاني ومعه حربة فقال: إن خلّيت عن موسي بن جعفر الساعة وإلّا نحرتك في هذه الساعة بهذه الحربة، فاذهب فخلّ عنه.

قال: فقلت: يا أمير المؤمنين أطلق موسي بن جعفر- ثلاثاً-؟

قال: نعم، إمض الساعة حتّي تطلق موسي بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم وقل له: إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحبّ،

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 93

وإن أحببت المضي إلي المدينة فالإذن في ذلك لك.

قال: فمضيت إلي الحبس … وخلّيت سبيله وقلت له: لقد رأيت من أمرك عجباً. قال: فإنّي أخبرك، بينما أنا نائم إذ أتاني رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم فقال: يا موسي، حبست مظلوماً فقل هذه الكلمات، فإنّك لا تبيت هذه الليلة في الحبس. فقلت: بأبي وأُمّي ما قال؟ قال: قل: يا سامع كلّ صوت ويا سابق كلّ فوت ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسني وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطّلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا أناة لا يقوي علي أناته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يحصي عدداً، فرّج عنّي.

فكان ما تري» «1».

ولقد كانت هذه الفترة فرصة لاستفادة المستفيدين منه، وهداية المسترشدين علي يده، ومنهم بشر الحافي، الذي تاب حتّي عُدّ من خيرة الصّالحين، وإذ سمعت هذا فاحكم علي هذا المعترض علي

العلّامة بما شئت.

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 4/ 394.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 95

(8)

الإمام علي بن موسي الرضا عليه السلام … ص: 95

اشارة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 97

(وكان ولده علي بن موسي الرضا عليه السلام أزهد أهل زمانه وأعلمهم)

قال ابن تيميّة: «من المصائب التي ابتلي بها ولد الحسين انتساب الرّافضة إليهم وتعظيمهم ومدحهم لهم، فإنّهم يمدحونهم بما ليس بمدح، ويدّعون لهم دعاوي لا حجّة لها، ويذكرون من الكلام ما لو لم يعرف فضلهم من غير كلام الرافضة، لكان ما تذكره الرّافضة بالقدح أشبه منه بالمدح!!».

أقول:

من المصائب التي ابتلي بها رسول اللَّه وبضعته وأهل بيته عليهم السلام، وجود النواصب لهم في كلّ زمان، ودعواهم الإسلام، وانتسابهم إلي العلم، واستناد آخرين مثلهم إلي كلامهم … هؤلاء الذين بلغ بهم العداء حدّاً يجعلون الوصف بالزهد والعلم ونحو ذلك مدحاً بما ليس بمدح، وأنّه أشبه بالقدح!!

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 98

قال: «وأمّا قوله: إنّه كان أزهد الناس وأعلمهم، فدعوي مجرَّدة بلا دليل».

أقول:

نعم، لا دليل علي ذلك عند هذا الرّجل وأمثاله!! لكن هناك في كلمات المحدّثين والمؤرّخين من غير شيعة أهل البيت عليهم السلام ما يدلّ علي ما تذهب إليه الشيعة وتعتقد في أئمّتها، وإليك بعض تلك الكلمات:

قال الحافظ السّمهودي «1»: «علي الرضا ابن موسي الكاظم كان أوحد أهل زمانه، جليل القدر، أسلم علي يده أبو محفوظ معروف الكرخي … وقال له المأمون: بأيّ وجه صار جدّك علي بن أبي طالب قسيم الجنّة والنار؟ فقال: ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبد اللَّه بن عباس قال: سمعت رسول اللَّه عليه السلام يقول: حبّ علي ايمان وبغضه كفر؟

قال: بلي. قال الرضا: فقسم الجنة والنار إذاً كان علي حبّه وبغضه. فقال المأمون: لا أبقاني اللَّه

بعدك يا أبا الحسن. أشهد أنّك وارث علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم» «2».

__________________________________________________

(1)

هو: علي بن عبد اللَّه، المتوفّي سنة: 911.

(2) جواهر العقدين ق 2 ج 2 ص 427.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 99

وقال كمال الدين محمّد بن طلحة «1»: «أبو الحسن علي بن موسي الكاظم ابن جعفر الصّادق.

قد تقدم القول في أمير المؤمنين علي، وفي زين العابدين علي.

وجاء هذا علي الرضا ثالثهما، ومن أمعن نظره وفكره وجده في الحقيقة وارثهما، فيحكم بكونه ثالث العليّين، نمي إيمانه وعلا شأنه، وارتفع مكانه واتّسع إمكانه وكثر أعوانه وظهر برهانه، حتي أحلّه الخليفة المأمون محلّ مهجته وأشركه في مملكته، وفوّض إليه أمر خلافته وعقد له علي رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته.

وكانت مناقبه عليّة وصفاته الشريفة سنيّةً، ومكارمه حاتميّة وشنشنته أخزمية، وأخلاقه عربيّة، ونفسه الشريفة هاشمية، وأُرومته الكريمة نبوّية، فمهما عدّ من مزاياه كان أعظم منه، ومهما فصّل من مناقبه كان أعلي مرتبة عنه» «2».

وقال الشبلنجي «3»: «قال إبراهيم بن العبّاس: ما رأيت الرضا سئل عن شي ء إلّاعلمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلي وقت

__________________________________________________

(1) هو المحدّث الفقيه الشّافعي المتوفي سنة: 652.

(2) مطالب السئول: 84.

(3) هو: الشيخ مؤمن بن حسن المتوفي بعد سنة: 1308.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 100

عصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال من كلّ شي ء فيجيبه الجواب الشافي، وكان قليل النوم كثير الصوم، لا يفوته صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر ويقول: ذلك صيام الدهر. وكان كثير المعروف والصّدقة، وأكثر ما يكون ذلك منه في الليالي المظلمة. وكان جلوسه في الصيف علي حصير وفي الشتاء علي مسح» «1».

وقال الجويني «2»: «الإمام الثامن: مظهر خفيّات الأسرار ومبرز خبيّات الأُمور

الكوامن، منبع المكارم والميامن، ومنبع الأعالي الحضارم والأيامن، منيع الجناب رفيع القباب وسيع الرحاب هموم السحاب، غزير الألطاف، عزيز الأكناف، أمير الأشراف، قرة عين آل ياسين وآل عبد مناف، السيد الطاهر المعصوم، والعارف بحقائق العلوم والواقف علي غوامض السرّ المكتوم، والمخبر بما هو آت وعمّا غبر ومضي، المرضي عند اللَّه سبحانه برضاه عنه في جميع الأحوال، ولذا لقب بالرضا، علي بن موسي … » «3».

وقال ابن حجر المكي «4»: «وكان أولاد موسي بن جعفر حين

__________________________________________________

(1) نور الأبصار: 312.

(2) هو: الشيخ إبراهيم بن محمّد، من مشايخ الذهبي، توفي سنة: 730.

(3) فرائد السمطين 2/ 187.

(4) المتوفي سنة: 972.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 101

وفاته سبعة وثلاثين ذكراً وانثي، منهم علي الرضا، وهو أنبههم ذكراً وأجلّهم قدراً، ومن ثمّ أحلّه المأمون محلّ مهجته وأنكحه ابنته وأشركه في مملكته، وفوّض إليه أمر خلافته … » «1».

فهذه طائفة ممّا قيل في مدحه علماً وزهداً وجلالةً …

وأخذ عنه فقهاء الجمهور كثيراً

قال ابن تيميّة: «ولم يأخذ عنه أحد من أهل العلم بالحديث شيئاً، ولا روي له حديث في الكتب الستّة، وإنّما يروي له أبو الصّلت الهروي وأمثاله نسخاً عن آبائه فيها من الأكاذيب ما قد نزّه اللَّه عنه الصّادقين من غير أهل البيت فكيف بالصّادقين منهم».

أما قوله: «إنه أخذ عنه فقهاء الجمهور كثيراً فهذا من أظهر الكذب … وما يذكره بعض الناس من أنّ معروفاً الكرخي كان خادماً له، وأنّه أسلم علي يديه، أو أنّ الخرقة متّصلة منه إليه، فكلّه كذب باتّفاق من يعرف هذا الشأن».

أقول:

هنا أُمور:

الأوّل: في أخذ فقهاء الجمهور عن الإمام الرّضا عليه السلام، ويكفي في

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة: 122.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 102

هذا المقام الكلمات التالية.

قال

الواقدي: «سمع علي الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم، وكان ثقةً، يفتي بمسجد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو ابن نيف وعشرين سنة، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة» «1».

وقال الحاكم النيسابوري: «علي بن موسي، أبو الحسن، ورد نيسابور سنة مائتين، وكان يفتي في مسجد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو ابن نيف وعشرين سنة. روي عنه من أئمة الحديث:

المعلي بن منصور الرازي، وآدم بن أبي أياس العسقلاني، ومحمّد بن أبي رافع القصري القشيري، ونصر بن علي الجهضمي، وغيرهم.

واستشهد ب «سناباد» من طوس في رمضان سنة 203 وهو ابن تسع وأربعين سنة وستة أشهر» «2».

وقال ابن الجوزي: «كان يفتي في مسجد رسول اللَّه وهو ابن نيف وعشرين سنة» «3».

وقال ابن كثير: «علي بن موسي بن جعفر بن محمّد بن علي بن

__________________________________________________

(1) تذكرة خواص الأُمّة: 351.

(2) تهذيب التهذيب 7/ 338، فرائد السمطين 2/ 199، عن تاريخ نيسابور.

(3) المنتظم 10/ 120.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 103

الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي الهاشمي العلوي، الملقّب بالرضا. كان المأمون قد همَّ أن ينزل عن الخلافة فأبي عليه ذلك، فجعله وليّ العهد من بعده. كما قدمنا ذلك. توفّي في صفر من هذه السنة بطوس. وقد روي الحديث عن أبيه وغيره، وعنه جماعة منهم: المأمون، وأبو الصّلت الهروي، وأبو عثمان المازني النحوي … » «1».

وقال المزّي: «ق: علي بن موسي … روي عنه: أبو بكر أحمد بن الحباب بن حمزة الحميري النسّابة، وأيوب بن منصور النيسابوري، ودارم بن قبيصة بن نهشل الصنعاني، وأبو أحمد داود بن سليمان بن يوسف الغازي القزويني- له عنه نسخة- وسليمان بن جعفر، وعامر بن سليمان الطائي والد أحمد بن

عامر أحد الضعفاء- له عنه نسخة كبيرة- وعبد اللَّه بن علي العلوي، وأمير المؤمنين أبو العباس عبد اللَّه المأمون بن هارون الرشيد، وأبو الصّلت عبد السلام بن صالح الهروي (ق)، وعلي بن صدقة الشطّي الرقي، وعلي بن علي الخزاعي الدعبلي، وعلي بن مهدي بن صدقة بن هشام القاضي- له عنه نسخة- ومحمّد بن سهل بن عامر البجلي، وابنه أبو جعفر محمّد بن علي بن موسي، وأبو جعفر محمّد بن محمّد بن حيّان التّمار البصري، وموسي بن علي

__________________________________________________

(1) البداية والنهاية، حوادث 203.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 104

القرشي، وأبو عثمان المازني النحوي» «1».

وقال الذهبي: «وروي عنه فيما قيل: آدم بن أبي أياس- وهو أكبر منه- وأحمد بن حنبل، ومحمّد بن رافع، ونصر بن علي الجهضمي، وخالد بن أحمد الذهلي الأمير» «2».

وقال الذهبي: «علي بن موسي الرضا. ق، د، ت- أحد الأعلام. هو الإمام أبو الحسن بن موسي الكاظم ابن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي، العلوي، الحسيني. روي عن أبيه وعبد اللَّه بن أرطاة. وعنه: ابنه أبو جعفر محمّد، وأبو عثمان المازني، والمأمون، وعبد السلام بن صالح، ودارم بن قبيصة، وطائفة … وكان سيّد بني هاشم في زمانه وأجلّهم وأنبلهم. وكان المأمون يعظّمه ويخضع له ويتغالي فيه، حتّي أنّه جعله وليّ عهده من بعده، وكتب بذلك إلي الآفاق … » «3».

وقال ابن حجر قال الحاكم: «سمعت أبا بكر محمّد بن المؤمّل بن الحسن بن عيسي يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر ابن خزيمة

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 21/ 148.

(2) سير أعلام النبلاء 9/ 387.

(3) تاريخ الإسلام: 269 حوادث 201- 210.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله،

ألأئمةالإثناءعشر، ص: 105

وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا- وهم إذ ذاك متوافرون- إلي زيارة قبر علي بن موسي الرضا بطوس، فرأيت من تعظيمه- يعني ابن خزيمة- لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا» «1».

وجاء في غير واحدٍ من الكتب: «انّه لما دخل الإمام نيسابور راكباً خرج إليه علماء البلد، وبأيديهم المحابر والدوي، وتعلّقوا بلجام دابّته وحلّفوه أن يحدّثهم بحديث عن آبائه فقال: «حدّثني أبي موسي الكاظم عن أبيه … علي بن أبي طالب قال: حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: حدّثني جبريل قال: سمعت ربّ العزّة يقول:

لا إله إلّااللَّه حصني فمن قالها دخل حصني وأمن من عذابي» وفي رواية: «انه روي عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «سألت رسول اللَّه: ما الإيمان؟ قال: معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان». وعن أحمد: «ان قرأت هذا الإسناد علي مجنون بري ء من جنونه».

هذا، وقد كان علي رأس العلماء الذين طلبوا من الإمام أن يحدّثهم: أبو زرعة الرازي، ومحمّد بن أسلم الطوسي، وياسين بن النضر، وأحمد بن حرب، ويحيي بن يحيي … وقد عدّ أهل المحابر والدوي

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 7/ 339.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 106

الذين كانوا يكتبون فأنافوا علي عشرين ألفاً» «1».

أقول: فمن الكاذب إذن!!

الثاني: في رواية أرباب الكتب الستّة عنه:

وقد عرفت من الكلمات السابقة رواية ثلاثة منهم عن الإمام الرضا عليه السلام، فإنّ «ق» رمز لابن ماجة القزويني، و «د» رمز لأبي داود السجستاني، و «ت» رمز للترمذي.

فقول الرجل: «ولا روي له حديث في الكتب الستّة»، كذب آخر.

هذا، ولا يخفي أنّه قد حقّق في محلّه أن ليس كلّ من روي له حديث في هذه الكتب

بثقة، وليس كلّ من لم يروَ عنه فيها غير ثقة. أمّا أئمة أهل البيت عليهم السلام فهم أعلا وأجل وأشرف من أن توزن أحاديثهم الصحيحة الثابتة عنهم بهذه الموازين، بل السعيد من أخذ عنهم واتّبعهم والشّقي من أعرض عنهم وخالفهم.

الثالث: في بيان حال أبي الصّلت الهروي.

لقد كان أبو الصّلت عبد السّلام بن صالح الهروي من أصحاب

__________________________________________________

(1) أخبار اصبهان 1/ 138، المنتظم في أخبار الأُمم 10/ 120، الصواعق المحرقة: 122 عن تاريخ نيسابور، الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 253، جواهر العقدين.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 107

الإمام الرضا والملازمين له، والرّواة لأحاديثه وأخباره، بل في (تهذيب الكمال): «وهو خادم علي بن موسي الرّضا»، وقد ذكروا بترجمته أنّه كان عالماً فقيهاً أديباً، يردّ علي أهل الأهواء من المرجئة والجهميّة والزنادقة والقدرية ويناظرهم وفي كلّ ذلك كان الظفر له. وذكروا أيضاً:

أنّه كان يقدّم أبا بكر وعمر ولا يذكر أصحاب النبي صلي الله عليه و آله و سلم إلّابالجميل.

ولهذه الأُمور وغيرها، فقد وثّقه غير واحد من الأئمة، وعلي رأسهم إمام الجرح والتعديل يحيي بن معين «1».

لكنّهم مع ذلك رموه بالتشيّع، لروايته عن الإمام الرضا وغيره بعض المناقب والفضائل لأمير المؤمنين عليه السلام، الدالّة علي أفضليّته وإمامته بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، كحديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها، ثمّ أفرط بعض المتعصّبين وجعل يتكلّم في الرجل ويقع فيه، حتي قال الجوزجاني- المعروف بالنصب «2» -: «كان أبو الصّلت الهروي زائغاً عن الحق مائلًا عن القصد» وقال ابن عدي: «له أحاديث مناكير في فضل أهل البيت وهو متّهم فيها» وقال الدارقطني: «كان رافضيّاً خبيثاً» «3».

__________________________________________________

(1) كذا وصفوه، انظر مثلًا: تقريب التهذيب 2/ 358.

(2) انظر: لسان

الميزان 1/ 16.

(3) لاحظ الكلمات بترجمته من الكتب الرّجالية، كتهذيب الكمال 18/ 73.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 108

وكلّ ذلك- كما توحي به كلماتهم- لروايته فضائل أهل البيت …

وإلّا فالرجل ثقة صدوق … وهذا ما نصّ عليه الحافظ ابن حجر حيث قال: «صدوق، له مناكير، وكان يتشيّع، وأفرط العقيلي فقال: كذّاب» «1».

الرابع: في إسلام معروف الكرخي علي يد الإمام.

وكذّب ابن تيميّة خبر اسلام معروف علي يد الإمام الرضا عليه السلام، كما كذّب من قبل خبر توبة بشر الحافي علي يد الإمام موسي بن جعفر الكاظم … وقد جاء الخبر في أكثر من كتاب ومصدر، من ذلك قول ابن خلّكان: «هو من موالي علي بن موسي الرضا وقد تقدم ذكره، وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلي مؤدّبهم وهو صبي، وكان المؤدّب يقول له:

قل ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فيضربه المعلم علي ذلك ضرباً مبرّحاً، فهرب منه، وكان أبواه يقولان: ليته يرجع إلينا علي أيّ دين شاء فنوافقه عليه. ثمّ انّه أسلم علي يد علي بن موسي الرضا ورجع إلي أبويه، فدقّ الباب فقيل له: من بالباب؟ فقال: معروف. فقيل له: علي أي دين؟ فقال: علي الإسلام. فأسلم أبواه» «2».

أقول:

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1/ 506.

(2) وفيات الأعيان 5/ 231.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 109

لقد ذكروا بتراجمه كرامات عجيبة له، فحاولوا التكتّم علي كونه من موالي الإمام وعلي إسلامه علي يده عليه السلام لئلّا يكون ذلك فضيلة له!! … فمنهم من لم يذكر كونه من مواليه ولا حكي إسلامه علي يده، ولا روي عنه شيئاً ممّا سمعه من الإمام، كالحافظ أبي نعيم «1» والحافظ ابن الجوزي «2»، ومنهم من اعترف بكونه من مواليه ولم يذكر

عن إسلامه شيئاً كالشعراني «3»، ومنهم من حكي قصّته مع المؤدّب ثمّ رجوعه إلي أبويه بعد هربه وأنّهما أسلما، ولم يزد علي ذلك شيئاً كالذهبي «4» … ومنهم من حكي أنّه كان حاجباً للإمام فكسروا ضلعه فمات «5» وهذا ما كذّبه الذهبي فقال: «فلعلّ الرضا كان له حاجب اسمه معروف، فوافق اسمه اسم زاهد العراق» «6».

أقول:

لكنّ مقامات أئمّة أهل البيت عليهم السلام لا تزيد ولا تنقص بإثبات شي ءٍ

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 8/ 360.

(2) المنتظم 10/ 88.

(3) لواقح الأنوار 1/ 72.

(4) سير أعلام النبلاء 9/ 339.

(5) طبقات الصّوفية: 83.

(6) سير أعلام النبلاء 9/ 343.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 110

من هذا القبيل أو انكاره، بل الغرض المهم بيان مدي عناد ابن تيميّة وعدائه لأهل البيت الطاهرين.

(وولّاه المأمون، لعلمه بما هو عليه من الحال والكمال والفضل)

وهذا من الأُمور الثابتة والقضايا الضرورية في التاريخ، ولو أمكن ابن تيميّة إنكاره كذلك لفعل، ولكنّه سكت عنه ولم يتكلّم عليه بشي ء، وقد جاء بعض ذلك في غير واحدٍ ممّا تقدّم من العبارات، وأُلّف في الموضوع العديد من المؤلَّفات، فراجع.

(ووعظ أخاه زيداً فقال: يا زيد، ما أنت قائل لرسول اللَّه … )

أقول: زيد هذا هو المعروف بزيد النار، كان يري وجوب الخروج علي السّلطة الحاكمة، فكان ممّن خرج مع أبي السّرايا ضد المأمون، وانّما قيل له «زيد النار» لإحراقه الدور وغيرها، ولمّا ظفر به المأمون عفا عنه وأرسله إلي الإمام الرضا عليه السلام. لكن الإمام حلف أن لا يكلّمه أبداً. راجع أخباره في: مقاتل الطالبيّين: وغيره «1»، وقد روي كلام الإمام مع أخيه هذا المناوي عن أهل السير «2».

وأمّا الحديث المذكور، فقد كذّبه ابن تيميّة، بل ادّعي الإتّفاق

__________________________________________________

(1) مقاتل الطالبيين: 436.

(2) فيض

القدير- شرح الجامع الصغير 2/ 462.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 111

علي أنه كذب! وهذا نصُّ عبارته:

«والحديث الذي ذكره عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم عن فاطمة، وهو كذب باتّفاق أهل المعرفة بالحديث.

ويظهر كذبه لغير أهل الحديث أيضاً؛ فإنّ قوله: إن فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها اللَّه وذرّيتها علي النار، باطل قطعاً؛ فإنّ سارة أحصنت فرجها ولم يحرم اللَّه جميع ذرّيتها علي النار. قال تعالي: «وَبَشَّرْنَاهُ بِإسْحقَ نَبِيِّاً مِنَ الصَّالِحِينَ» … وأيضاً: فصفيّة عمّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أحصنت فرجها، ومن ذريتها محسن وظالم. وفي الجملة:

اللواتي أحصنّ فروجهن لا يحصي عددهنّ إلّااللَّه عزّ وجلّ، ومن ذرّيتهن البر والفاجر والمؤمن والكافر.

وأيضاً: ففضيلة فاطمة ومزيّتها ليست بمجرّد احصان الفرج؛ فإن هذا تشارك فيه فاطمة وجمهور نساء المؤمنين، وفاطمة لم تكن سيّدة نساء العالمين بهذا الوصف بل بما هو أخصّ منه. بل هذا من جنس حجج الرافضة، فإنّهم لجهلهم لا يحسنون أن يحتجّوا ولا يحسنون أن يكذبوا.

وأيضاً: فليست ذريّة فاطمة كلّهم محرّمين علي النار … فإنّ الرافضة رفضوا زيد ين علي بن الحسين ومن والاه وشهدوا عليه بالكفر

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 112

والفسق، بل الرافضة أشدّ الناس عداوة- إمّا بالجهل وإمّا بالعناد- لأولاد فاطمة رضي اللَّه عنها» «1».

أقول:

كيف يكون هذا الحديث كذباً باتّفاق أهل المعرفة بالحديث وقد رواه: الحاكم، والخطيب البغدادي، وأبو بكر البزار، وأبو يعلي الموصلي، والطبراني، وأبو نعيم، وابن حجر، والسيوطي، والمتّقي الهندي … وغيرهم؟ وقال الحاكم: «صحيح» «2»؟

وهذه فضيلة اختصّت بها سيدة نساء العالمين، وإن شاركتها في الوصف المذكور غيرها من فضليات النّساء. قال المناوي: «فحرّمها. أي بسبب ذلك الاحصان حرّمها اللَّه وذرّيتها علي النار. أي حرّم دخول النار عليهم. فأمّا هي

وأبناؤها فالمراد في حقّهم التحريم المطلق. وأمّا من عداهم فالمحرّم عليهم نار الخلود، وأمّا الدخول فلا مانع من وقوعه للبعض للتطهير. هكذا فافهم. وقد ذكر أهل السّير أن زيد بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق- رضي اللَّه عنهم- خرج علي المأمون … » «3».

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2/ 126.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3/ 152.

(3) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 2/ 462.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 113

وقال الزرقاني بشرح (المواهب اللدنيّة): «وروي عن ابن مسعود- رفعه-: انّما سمّيت فاطمة بإلهام من اللَّه لرسوله- إن كانت ولادتها قبل النبوة، وإن كانت بعدها فيحتمل بالوحي- لأنّ اللَّه قد فطمها، من الفطم وهو المنع، ومنه فطم الصبي، وذرّيتها عن النار يوم القيامة. أي: منعهم منها، فأمّا هي وابناها فالمنع مطلق، وأمّا من عداهم فالممنوع عنهم نار الخلود، فلا يمتنع دخول بعضهم للتطهير. ففيه بشري لآله صلّي اللَّه عليه وسلّم بالموت علي الإسلام، وأنّه لا يختم لأحد منهم بالكفر. نظيره ما قاله الشريف السمهودي في خبر الشفاعة لمن مات بالمدينة، مع أنّه يشفع لكلّ من مات مسلماً. أو: إنّ اللَّه يشاء المغفرة لمن واقع الذنوب منهم إكراماً لفاطمة وأبيها صلّي اللَّه عليه وسلّم. أو: يوفّقهم للتوبة النصوح ولو عند الموت ويقبلها منهم. أخرجه الحافظ الدمشقي. هو ابن عساكر.

وروي الغسّاني والخطيب- وقال: فيه مجاهيل- مرفوعاً: انّما سمّيت فاطمة لأنّ اللَّه فطمها ومحبّيها عن النار. ففيه بشري عميمة لكلّ مسلم أحبّها. وفيه التأويلات المذكورة.

وأمّا ما رواه أبو نعيم والخطيب: أنّ علياّ الرضا ابن موسي الكاظم ابن جعفر الصادق سئل عن حديث: إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها اللَّه وذرّيتها علي النار. فقال: خاص بالحسن والحسين. وما نقله

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر،

ص: 114

الأخباريّون عنه من توبيخه لأخيه زيد حين خرج علي المأمون … فهذا من باب التواضع والحثّ علي الطّاعات وعدم الاغترار بالمناقب وإن كثرت … وإلّا فلفظ ذريّة لا يخصّ بمن خرج من بطنها في لسان العرب «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمانَ» الآية. وبينهم وبينه قرون كثيرة، فلا يريد بذلك مثل علي الرضا مع فصاحته ومعرفته لغة العرب، علي أنّ التقييد بالطائع يبطل خصوصيّة ذريّتها ومحبّيها. إلّاأن يقال: للَّه تعذيب الطائع، فالخصوصيّة أن لا يعذّبه إكراماً لها، واللَّه أعلم.

والحديث الذي سئل عنه أخرجه أبو يعلي والطبراني والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود، وله شواهد، وترتيب التحريم علي الإحصان من باب إظهار مزيّة شأنها في ذلك الوصف، مع الإلماح ببنت عمران، ولمدح وصف الإحصان، وإلّا فهي محرّمة علي النار بنص الروايات آخر» «1».

وأمّا «أنّ الرافضة رفضوا زيد بن علي بن الحسين» ففرية شنيعة كرّرها الرجل في كتابه علي الإماميّة … فإنّ الشيعة الإماميّة تعظّم زيداً وتحترمه وتروي عن النبي والأئمة المدح والثناء عليه، كالحديث الذي رواه رئيس محدّثيهم الشيخ الصدوق عن النبي صلّي اللَّه عليه

__________________________________________________

(1) شرح المواهب اللدنيّة 3/ 203.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 115

وآله وسلّم أنّه قال للحسين عليه السلام: «يخرج من صلبك رجل يقال له زيد، يتخطّي هو وأصحابه رقاب الناس يدخلون الجنّة بغير حساب» «1». وعن الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلي نفسه وانّما دعاكم إلي الرّضا من آل محمّد، ولو ظفر لو في بما دعاكم إليه» «2». وعن الرضا عليه السلام:

«كان من علماء آل محمّد، غضب للَّه فجاهد أعداءه حتّي قتل» «3».

وأمّا كلمات المدح والثناء والتعظيم من كبار علماء الطائفة فكثيرة جداً، قال المفيد:

«كان زيد بن علي بن الحسين عين أُخوته بعد أبي جعفر عليه السلام. وكان ورعاً عابداً فقيهاً سخيّاً شجاعاً، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويطلب بثارات الحسين عليه السلام» ثمّ روي بأسانيده أخباراً في فضله وقال: «لما قتل بلغ ذلك أبا عبد اللَّه عليه السلام كلّ مبلغ وحزن له حزناً شديداً عظيماً حتّي بان عليه، وفرّق من ماله علي عيال من أصيب مع زيد من أصحابه ألف دينار» «4».

__________________________________________________

(1) عيون أخبار الرضا 1/ 249.

(2) رجال الكشي: 184.

(3) عيون أخبار الرضا 1/ 250.

(4) الإرشاد 2/ 171- 173.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 116

(وضرب المأمون اسمه علي الدراهم والدنانير، وكتب إلي الآفاق ببيعته … )

قال ابن تيميّة: «وأمّا ما ذكره من تولية المأمون له الخلافة فهذا صحيح، لكن ذلك لم يتم … ولم يجعله وليَّ عهده».

أقول:

جاء هذا في كافّة كتب التاريخ والسّير، وقد تقدّم النقل عن بعضها. وقال ابن الجوزي: «وفي هذه السنة جعل المأمون علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسمّاه الرضيّ من آل محمّد، وأمر جنده أن يطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلي الآفاق، وذلك يوم الإثنين لليلتين خلتا من رمضان هذه السنة. فكتب الحسن بن سهل إلي عيسي بن محمّد يخبره أنّ أمير المؤمنين قد جعل علي بن موسي الرضا ولي عهده، وذلك أنّه نظر في بني العبّاس وبني علي فلم يجد أحداً أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنّه سمّاه الرضي من آل محمّد، وأمر أن يأمر من قبله من الجند والقوّاد وبني هاشم بالبيعة له … » ثمّ ذكر نصّ العهد الذي كتبه المأمون بخطّه للإمام

عليه السلام، وما كتبه الإمام، والشهادات علي ذلك «1».

__________________________________________________

(1) المنتظم 10/ 93- 99.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 117

وقد جاء الخبر كذلك قبله في تاريخ الطبري «1» وعنه في الكامل في التاريخ «2»، وكذا هو في تاريخ ابن خلّكان قال: «وجعله ولي عهده، وضرب اسمه علي الدينار والدرهم، وكان السبب في ذلك … أنّه نظر في أولاد العبّاس وأولاد علي بن أبي طالب فلم يجد في وقته أحداً أفضل ولا أحق بالأمر من علي الرضا، فبايعه … » «3».

واختصر السيوطي الخبر فقال: «وجعل ولي العهد من بعده علي الرضا ابن موسي الكاظم ابن جعفر الصادق، حمله علي ذلك إفراطه في التشيع، حتي قيل: انّه همّ أن يخلع نفسه ويفوّض الأمر إليه، وهو الذي لقّبه الرضا، وضرب الدراهم باسمه، وزوّجه ابنته، وكتب إلي الآفاق بذلك، وأمر بترك السواد ولبس الخضرة» «4».

أقول:

فانظر كيف ينكر ابن تيميّة الحقائق التاريخية، واحكم عليه بما يوجبه الحق!!

(وقيل لأبي نؤاس: لم لا تمدح الرضا؟ فقال: … )

__________________________________________________

(1) تاريخ الطبري 8/ 554.

(2) الكامل لابن الأثير 6/ 326.

(3) وفيات الأعيان 2/ 432.

(4) تاريخ الخلفاء: 307.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 118

قال ابن تيميّة: «القوم جهال بحقيقة المناقب والمثالب والطرق التي يعلم بها ذلك، ولهذا يستشهدون بأبيات أبي نواس، وهي لو كانت صدقاً لم تصلح أن تثبت فضائل شخص بشهادة شاعر معروف بالكذب والفجور الزائد الذي لا يخفي علي من له أدني خبرة بأيّام الناس، فكيف والكلام الذي ذكره فاسد، فإنّه قال:

قلت لا أستطيع مدح إمام كان جبريل خادماً لأبيه

ومن المعلوم أنّ هذا وصف مشترك بين جميع من كان من ذريّة الرسل … فإنّ الناس كلّهم من ذريّة نوح ومن ذريّة آدم …

».

أقول:

أوّلًا: هل جميع الذين يستند ابن تيميّة إلي أقوالهم من شعر وغير شعر في هذا الكتاب وغيره، وكذا غيره من علماء طائفته، عدولٌ مبرّءون من كلّ ذنبٍ وعيب؟! لماذا يتناسي الرجل استشهاده بكلام أبي سفيان الكافر، وبقول حذّاق المنافقين؟!

ثانياً: إنّ الإماميّة لا يثبتون مناقب أئمّتهم وفضائلهم بالإستناد إلي شعر هذا وذاك، بل هم في غني عن ذلك، بالأدلّة القويمة من الكتاب الكريم والسنّة الصحيحة المتّفق عليها.

وثالثاً: إنّ المعاني التي يتضمّنها هذا الشعر وأمثاله إنّما هي أخبار

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 119

وآثار واردة، وليست بقضايا قد أنشأها الشاعر من عند نفسه، فالإستشهاد في الحقيقة إنّما هو بالحديث الذي تضمّنه الشعر، ولاسيّما إذا كان قائله من رواة الحديث أيضاً.

ورابعاً: إنّ هذا الشعر وغيره ممّا قاله أبو نؤاس في مدح الإمام الرضا عليه السلام مذكور بترجمة الإمام ولغرض المدح له، من قبل كبار العلماء الأجلّاء المتقدّمين علي العلّامة رحمه الله والمعاصرين له والمتأخّرين عنه كما سنري، فلولا صحّة الاستشهاد به عندهم- قولًا وقائلًا- لما كان ذلك منهم يقيناً.

وخامساً: إنّ السبب الحقيقي لكلام الرجل هذا- ومع الإلتفات إلي الوجوه التي ذكرناها- هو: إنّ أبا نؤاس من الشعراء المحبّين لأهل البيت عليهم السلام، وأشعاره في الإمام الرضا وآبائه تدلّ علي مدح عظيم لهم، وابن تيميّة يكره المحبّ لأهل البيت المتجاهر بالمدح لهم … وأمّا ما اشتهر عن أبي نؤاس من المجون والخلاعة، فقد ذكروا أنّه في الأغلب ممّا لا أصل له، علي أنّ ذلك لو كان فقد كان في أوّل العمر، وقد ثبت عنه التوبة في آخره كما نصّ عليه ابن الجوزي.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 120

ترجمة أبي نؤاس: … ص: 120

وهذا موجز ترجمة أبي نؤاس: هو: الحسن بن هاني،

ولد بالأهواز أو البصرة في سنة 136، أو 145 وتأدّب علي أبي زيد وأبي عبيدة، وقرأ كتاب سيبويه ولزم خلف الأحمر، وصحب يونس بن حبيب الجرمي النحوي، وتلا القرآن علي يعقوب، وروي الحديث عن:

أزهر بن سعد، وحمّاد بن زيد، وحمّاد بن سلمة، وعبد الواحد بن زياد، ومعتمر بن سليمان، ويحيي القطّان، وحدّث عنه جماعة من الأئمة ومشاهير العلماء، منهم: الشافعي، وأحمد بن حنبل، وغندر.

وكان يقال: الشافعي شاعر غلب عليه الفقه، وأبو نؤاس فقيه غلب عليه الشعر، وقد أثني عليه غير واحد من كبار الأُدباء والمتكلّمين كالأصمعي والجاحظ والنظام، ونظمه في الذروة، ولابن منظور الإفريقي صاحب لسان العرب جزء في أخبار أبي نؤاس، وهو الثالث من مختار الأغاني المطبوع في دمشق، وقد صدّر بمقدّمة جيّدة بُيّن فيها أنّ أغلب ما ينسب إلي أبي نؤاس من المجون والخلاعة كذب ملفّق لا تصح نسبته إليه، بحجج ناصعة وأدلّة واضحة، وممّا يشهد بذلك استماع كبار الأئمّة لأشعاره المختلفة.

وتوفي ببغداد سنة خمس أو ست أو ثمانية وتسعين ومائة.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 121

هذه ترجمة أبي نؤاس بإيجاز، وهي تفيد في مجملها: أنّ الرّجل كان فقيهاً محدّثاً عالماً أديباً، وقد كانت تصدر منه أشياء ولكن لم يكن بحيث يهجره الأئمّة والفقهاء وأهل العلم والدين ويقاطعونه، ثمّ إنّه قد تاب من ذلك حتّي قال ابن الجوزي: «لا أُوثر أن أذكر أفعاله المذمومة، لأني قد ذكرت عنه التوبة في آخر عمره، وإنّما كان لعبة في أوّل العمر» «1».

أشعار أبي نؤاس في مدح الإمام الرّضا: … ص: 121

ثمّ إنّهم ذكروا بترجمة الإمام الرضا عليه السلام أشعاراً لأبي نؤاس:

منها: ما أورده العلّامة رحمه اللَّه. قال ابن الجوزي: فقال الصّولي:

ومدحه أبو نؤاس فقال:

قيل لي أنت واحد النّاس في كلّ كلامٍ من المقال

بديه

لك في جوهر الكلام بديع يثمر الدرّ في يدي مجتنيه

فعلي مَ تركت مدح ابن موسي والخصال التي تجمّعن فيه

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 7/ 436، المنتظم 10/ 16، وفيات الأعيان 1/ 373، تاريخ ابن كثير 10/ 227، سير أعلام النبلاء 9/ 279- ولاحظ الهامش- الوافي بالوفيات 12/ 283 وغيرها.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 122

قلت: لا اهتدي لمدح امامٍ كان جبريل خادماً لأبيه «1»

وقال الذهبي: ولأبي نؤاس في علي رحمة اللَّه عليه:

قيل لي أنت أحسن الناس طرّاً في فنون من المقال النبيه

لك من جيّد القريض مديح يثمر الدرّ في يدي مجتنيه

فعلي مَ تركت مدح ابن موسي والخصال التي تجمّعن فيه

قلت: لا أستطيع مدح إمامٍ كان جبريل خادماً لأبيه «2»

وقال الذهبي: «قال الصولي: حدّثنا أحمد بن يحيي أنّ الشعبي قال:

أفخر بيت قيل قول الأنصار في بدر:

وببئر بدر إذ يردُّ وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمّد

ثمّ قال الصولي: افخر منه قول الحسن بن هاني في علي بن موسي الرضا:

قيل لي أنت واحد الناس في كلّ كلامٍ … » إلي آخر الأبيات «3».

وأوردها أيضاً الصفدي في الوافي «4»، وابن طولون «5».

__________________________________________________

(1) المنتظم 10/ 120.

(2) تاريخ الإسلام، حوادث 201- 210/ 271.

(3) سير أعلام النبلاء 9/ 388.

(4) الوافي بالوفيات 22/ 249.

(5) الأئمّة الاثنا عشر: 99.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 123

وقال ابن خلّكان «1» وكذا ابن طولون: وكان سبب قوله هذه الأبيات أنّ بعض أصحاب قال له: ما رأيت أوقح منك: ما تركت خمراً ولا طرداً ولا معني إلّاقلت فيه شيئاً، وهذا علي بن موسي الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئاً. فقال: واللَّه ما تركت ذلك إلّاإعظاماً له، وليس يقدر مثلي أن يقول في مثله، ثمّ أنشد بعد ساعة هذه

الأبيات.

ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري في تاريخ نيسابور، وعنه الحافظ الحمويني الجويني بإسناده قال:

«أنبأني الشيخ عبد الرحيم بن محمّد بن أحمد بن فارس بن الزجّاج، أنبأنا القاضي جمال الدين عبد الصمد بن محمّد بن أبي الفضل، أنبأنا محمّد بن الفضل أبو عبد اللَّه وأبو القاسم زاهر بن طاهر إجازة قالًا:

أنبأنا الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين قال: أنبأنا الإمام الحاكم البيّع قال:

حدّثني علي بن محمّد المذكّر قال: حدّثنا محمّد بن علي الفقيه قال:

حدّثنا الحسين بن إبراهيم، قال: أنبأنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه قال: حدّثنا أبو الحسين محمّد بن يحيي الفارسي قال: نظر أبو نؤاس إلي أبي الحسن علي بن موسي الرضا ذات يوم- وقد خرج من عند الخليفة- علي بغلةٍ له، فدنا منه أبو نؤاس وسلّم عليه وقال: يا ابن رسول اللَّه،

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 2/ 433.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 124

قد قلت أبياتاً فأُحبّ أن تسمعها منّي. قال: هات. فأنشأ أبو نؤاس يقول:

مطهّرون نقيّات ثيابهم تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

من لم يكن علوياً حين تنسبه فماله في قديم الدهر مفتخر

واللَّه لما بدا خلقاً فأتقنه صفاكم واصطفاكم أيّها البشر

وأنتم الملأ الأعلي وعندكم علم الكتاب وما جاءت به السّور

فقال الرضا: قد جئت بأبيات ما سبقك إليها أحد. ثمّ قال: يا غلام هل معك من نفقتنا شي ء؟ فقال: ثلاثمائة دينار. فقال: أعطها ايّاه. ثمّ قال:

لعلّه استقلّها. يا غلام سق إليه البغلة» «1».

وقد ذكر هذا الشعر أيضاً في: ابن خلّكان «2» وابن طولون «3» قالا:

وله ذكر في شذور العقود.

وقال الصفدي: «وفيه يقول أيضاً:

مطهّرون نقيّات جيوبهم … » إلي آخرها «4».

ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري- وعنه الحمويني الجويني-

__________________________________________________

(1) فرائد السمطين 2/ 200.

(2) وفيات الأعيان 2/

433.

(3) الأئمّة الاثنا عشر: 99.

(4) الوافي بالوفيات 22/ 250.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 125

باسناده عن الصولي عن المبرد قال:

«خرج أبو نؤاس ذات يوم من داره، فبصر براكبٍ قد حاذاه فسأل عنه- ولم يروجه- فقيل: انّه علي بن موسي الرضا، فأنشأ يقول:

إذا أبصرتك العين من بعد غاية وعارض فيك الشك أثبتك القلب

ولو أنّ قوماً أمّموك لقادهم نسيمك حتي يستدل به الركبُ» «1»

ثمّ قال الصولي: أفخر منه قول الحسن بن هاني في علي بن موسي الرضا:

قيل لي أنت واحد الناس في كلّ كلامٍ … » إلي آخر الأبيات «2».

وأوردها أيضاً الصفدي في الوافي، وابن طولون «3».

__________________________________________________

(1) فرائد السمطين 2/ 202.

(2) سير أعلام النبلاء 9/ 3878.

(3) الوافي بالوفيات 22/ 249. الأئمة الاثنا عشر: 99.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 127

(9)

الإمام محمّد بن علي الجواد عليه السلام … ص: 127

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 129

(وكان ولده محمّد الجواد عليه السلام علي منهاج أبيه في العلم والتقي والجود)

قال الحافظ سبط ابن الجوزي: «فصل- في ذكر ولده محمد الجواد … وكان علي منهاج أبيه في العلم والتقي والجود» «1». وقال الصّفدي: «كان من سروات آل بيت النبوّة، زوّجه المأمون بابنته، وقدم علي المعتصم فأكرمه وأجلّه، وكان من الموصوفين بالسخاء، ولذلك لقّب بالجواد، وهو أحد الأئمّة الاثني عشر» «2». وقال الذهبي: «كان يلقّب بالجواد وبالقانع وبالمرتضي. وكان من سروات آل بيت النبي صلّي اللَّه

__________________________________________________

(1) تذكرة خواص الأُمّة: 358، وسبط ابن الجوزي فقيهٌ حافظ مفسّر واعظ مؤرّخ، توجدترجمته في: وفيات الأعيان 2/ 153، 142، المختصر في أخبار البشر، وتتمة المختصر، والعبر حوادث: 654، طبقات المفسرين 2/ 382 وغيرها.

(2) الوافي بالوفيات 4/ 100.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 130

عليه وسلّم، وكان أحد الموصوفين بالسّخاء، ولذلك لقّب

بالجواد» «1».

وكان عليه السلام يروي الحديث عن أبيه عن آبائه عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، وكان يُرجع إليه في معاني الأخبار وحقائق الأحكام، وقد روي الخطيب وغيره بترجمته عدّةً من ذلك «2»، وحكي الشيخ محمود الشيخاني القادري أنّه قد وقع لبعض الخلفاء أنّه لمّا مرض نذر علي نفسه إن وهب اللَّه له العافية أن يتصدّق بمال كثير، مبهماً، فعوفي، فأحضر الفقهاء واستفتاهم عن مقدار مال كثير، فكلٌّ قال شيئاً. فقال محمّد الجواد: إن كنت نويت الدنانير فتصدّق بثمانين ديناراً، أو الدراهم بثمانين درهماً. فقال الفقهاء: ما نعرف هذا في الكتاب ولا السنّة. فقال محمّد الجواد: بلي قال اللَّه تعالي: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ» والنصر من أقسام العافية، فعدّوا وقائع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فإذا هي ثمانون» «3».

هذا، وأخباره وقضاياه الدالة علي تفوّقه في العلم والتقي والجود كثيرة، إلّاأنّ القوم لا يذكرون ذلك في كتبهم لئلّا يعرف أئمّة أهل البيت عليهم السلام وتشتهر أحوالهم ومنازلهم … غير أنّهم يصرّحون: «وله

__________________________________________________

(1) تاريخ الإسلام، حوادث 220، ص 385.

(2) تاريخ بغداد 3/ 54، الوافي بالوفيات 4/ 106، الأئمّة الاثنا عشر: 103.

(3) الصراط السوي في مناقب آل بيت النبي- مخطوط.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 131

حكايات وأخبار كثيرة» «1». بل إنّ كثيراً منهم لم يعنونوه في تواريخهم أصلًا!!

(ولمّا مات أبوه الرضا عليه السلام شغف به المأمون لكثرة علمه ودينه … )

أقول: أمّا يحيي بن أكثم المروزي، قاضي القضاة، فقد ترجموا له ووصفوه بالإمامة في الفقه والحديث، وذكروا أنّه كان من أهل الشرب واللواطة وغير ذلك من القبائح. وأمّا في الحديث فعن يحيي بن معين:

كان يكذب، وعن ابن راهويه: ذاك

الدجّال، وعن ابن الجنيد: يسرق الحديث، وعن أبي حاتم: فيه نظر. وذكروا أنّه تولّي ديوان الصدقات علي الأضرّاء ولم يعطهم شيئاً «2» فهذا قاضي قضاتهم حسب تصريحاتهم!!

وأمّا القضيّة المذكورة فهي من جملة القضايا الثابتة التي لم ينقلها القوم- كما هي عادتهم- غير أنّ سبط ابن الجوزي أشار إليها وأسندها إلي الإماميّة حيث قال: «والإماميّة تروي خبراً طويلًا فيه أنّ المأمون لمّا زوّجه كان عمر محمّد الجواد سبع سنين وأشهر وأنّه هو الذي خطب

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 3/ 315.

(2) راجع: الجرح والتعديل 9/ 129، سير أعلام النبلاء 12/ 5، ميزان الاعتدال 4/ 361 وغيرها.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 132

خطبة النكاح، وأنّ العباسيّين شغبوا علي المأمون ورشوا القاضي يحيي بن أكثم حتي وضع مسائل ليخطئ بها محمّد الجواد ويمتحنه، وإن الجواد خرج عن الجميع، وهو حديث طويل ذكره المفيد في كتاب الإرشاد، واللَّه أعلم» «1».

وهنا قال ابن تيميّة: «وأمّا ما ذكره فإنّه من نمط ما قبله، فإنّ الرافضة ليس لهم عقل صريح ولا نقل صحيح، ولا يقيمون حقاً ولا يهدمون باطلًا، لا بحجّةٍ وبيان ولا بيد وسنان. فإنّه ليس فيما ذكره ما يثبت فضيلة محمّد بن علي فضلًا عن ثبوت إمامته، فإنّ هذه الحكاية التي حكاها عن يحيي بن أكثم من الأكاذيب التي لا يفرح بها إلّاالجهال، ويحيي بن أكثم كان أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن محرم قتل صيداً، فإنّ صغار الفقهاء يعلمون حكم هذه المسألة، فليست من دقائق العلم ولا غرائبه، ولا ممّا يختص به المبرّزون في العلم. ثمّ مجرّد ما ذكره ليس إلّافي تقسيم أحوال القاتل، ليس فيه بيان حكم هذه الأقسام، ومجرّد التقسيم لا يقتضي العلم بأحكام

الأقسام».

أقول:

__________________________________________________

(1) تذكرة الخواص: 359.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 133

ما أكثر المطالب التي كذّبها الرجل بصراحة وأثبتناها والحمد للَّه.

ودلالة هذه القضية علي كونه عليه السلام أعلم وأفقه من قاضي قضاتهم واضحة لا ينكرها إلّامكابر … والأعلميّة المطلقة تقتضي الإمامة المطلقة كما لا يخفي.

ثمّ إنّ العلّامة رحمه الله قد اختصر الخبر، ولو راجع ابن تيميّة كتاب (الإرشاد) للمفيد البغدادي أو غيره من الكتب لوجد فيه بيان حكم الأقسام بطلب من المأمون، وأنّه سأل بعد ذلك- بطلب منه كذلك- يحيي بن أكثم عن مسألةٍ، فاعترف يحيي بجهله بها وطلب من الإمام عليه السلام بيانها … ونحن نحيل القارئ إلي كتاب (الإرشاد) لئلّا يطول بنا المقام «1».

__________________________________________________

(1) الإرشاد في معرفة حجج اللَّه علي العباد 2/ 281- 288.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 135

(10)

الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام … ص: 135

اشارة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 137

(وكان ولده الهادي عليه السلام ويقال له العسكري، لأنّ المتوكّل أشخصه … )

قال الخطيب البغدادي: «أشخصه جعفر المتوكل علي اللَّه من مدينة رسول اللَّه إلي بغداد، ثمّ إلي سرّ من رأي، فقدمها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر» «1».

وقال سبط ابن الجوزي: «وانّما نسب إلي العسكري، لأنّ جعفر المتوكّل أشخصه من المدينة إلي بغداد، إلي سرّ من رأي، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر، ويلقب بالمتوكّل والنقي» «2».

وقال ابن خلّكان: «ولما كثرت السّعاية في حقّه عند المتوكل أحضره من المدينة. وكان مولده بها، وأقرّه بسرّ من رأي، وهي تدعي

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 12/ 56.

(2) تذكرة خواص الأُمّة: 359.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 138

العسكر، لأنّ المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره فقيل لها العسكر، ولهذا قيل لأبي الحسن المذكور العسكري، لأنّه منسوب إليها، وأقام بها عشرين

سنة وتسعة أشهر» «1».

وقال ابن حجر المكي: «سمّي العسكري، لأنّه أشخص من المدينة النبويّة إلي سرّ من رأي، وأسكن بها وكانت تسمّي العسكر، فعرف بالعسكري» «2».

(وإنّما أشخصه المتوكّل من المدينة لأنّه كان يبغض علياً عليه السلام … )

أقول: بغض المتوكّل عليّاً عليه السلام مشهور لا ينازع فيه أحد، وهو الذي هدم قبر الحسين وما حوله من الدّور، وأمر أن يزرع ومنع الناس من إتيانه وزيارته «3». فقال البسّامي أبياتاً منها:

أسفوا علي أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبّعوه رميما

وقال الذهبي: «وكان المتوكّل فيه نصب وانحراف» «4».

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 2/ 435.

(2) الصواعق المحرقة: 124.

(3) الطبري 9/ 185، ابن الأثير 7/ 55، ابن كثير 10/ 315، تاريخ الخلفاء: 347، النجوم الزاهرة 2/ 235 وغيرها.

(4) سير أعلام النبلاء 12/ 35.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 139

وقال ابن الأثير- في حوادث 236-: «في السنة أمر المتوكّل بهدم قبر الحسين بن علي عليه السلام وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقي موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فنادي عامل صاحب الشرطة بالناس في تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام حبسناه في المطبق. فهرب الناس وتركوا زيارته، وحرث وزرع.

وكان المتوكّل شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام، ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أنّه يتولّي عليّاً وأهله بأخذ المال والدم، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث، وكان يشدّ علي بطنه تحت ثيابه مخدّةً ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكّل والمغنّون يغنّون: قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين. يحكي بذلك علياً عليه السلام والمتوكّل يشرب ويضحك … » «1».

والعجب أنّه مع ذلك يصفه بعضهم قائلًا: «استخلف المتوكّل فأظهر السنّة وتكلّم بها

في مجلسه، وكتب إلي الآفاق برفع المحنة وبسط السنّة ونصر أهلها» «2» ولعلّهم يريدون من «السنّة» القول بقدم القرآن، وقال السّيوطي بعد خبرٍ: «استفدنا من هذا أنّ المتوكّل كان متمذهباً

__________________________________________________

(1) الكامل في التاريخ 7/ 55.

(2) سير أعلام النبلاء 12/ 31 عن بعضهم.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 140

بمذهب الشافعي، وهو أوّل من تمذهب من الخلفاء» «1» ثمّ الأعجب ما جاء فيه- بعد حكاية ما فعل بابن السكيّت وقصته مشهورة: «وكان المتوكّل رافضياً» «2» لكنّي لا أستبعد أن يكون التحريف من النّساخ أو الناشرين للكتاب.

هذا، وقد شهد كثير ممّن ذكر الإمام الهادي عليه السلام بفقهه وورعه وعبادته، قال اليافعي: «كان الإمام علي الهادي متعبّداً فقيهاً إماماً» «3» وبمثله قال ابن العماد الحنبلي «4» وقال ابن كثير: «كان عابداً زاهداً» «5».

وذكر كثيرون منهم إشخاص المتوكّل إيّاه من المدينة المنورة إلي العراق، إلّاأنّهم- مع تصريحهم بنصب المتوكّل- يحاولون التغطية علي قبائحه وستر مظالمه، فلا يذكرون تفصيل القضايا، ففي تاريخ اليعقوبي: «وكتب المتوكّل إلي علي بن محمّد بن علي الرضا بن موسي بن جعفر ابن محمّد في الشخوص من المدينة، وكان عبد اللَّه بن محمّد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أنّ قوماً يقولون إنّه

__________________________________________________

(1) تاريخ الخلفاء: 352.

(2) تاريخ الخلفاء: 349.

(3) مرآة الجنان 2/ 160.

(4) شذرات الذهب 2/ 128.

(5) البداية والنهاية 11/ 15.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 141

الإمام، فشخص عن المدينة، وشخص يحيي بن هرثمة معه، حتّي صار إلي بغداد، فلمّا كان بموضع يقال له الياسريّة نزل هناك. وركب اسحاق بن إبراهيم لتلقيّه فرأي تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلي الليل، ودخل به الليل فأقام ببغداد بعض تلك الليلة، ثمّ نفذ إلي سرّ من رأي»

«1»، وقد وجدت الخبر كما شرحه العلّامة رحمه الله، في كتاب (تذكرة خواص الأُمّة) وصاحبه حنفي المذهب ومن المتقدّمين عليه، فإنّه قال: «قال علماء السير: وانّما أشخصه المتوكّل من مدينة رسول اللَّه إلي بغداد، لأنّ المتوكّل كان يبغض عليّاً وذريّته، فبلغه مقام علي بالمدينة وميل الناس إليه، فخاف منه، فدعي يحيي بن هرثمة وقال:

إذهب إلي المدينة، وانظر في حاله وأشخصه إلينا. قال يحيي: فذهبت إلي المدينة، فلمّا دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، خوفاً علي علي، وقامت الدنيا علي ساق، لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلي الدنيا. قال يحيي: فجعلت أسكنّهم وأحلف لهم أنّي لم أُؤمر فيه بمكروه وأنّه لا بأس عليه. ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلّامصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته.

__________________________________________________

(1)

تاريخ اليعقوبي 2/ 484.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 142

فلمّا قدمت به بغداد بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري- وكان والياً علي بغداد- فقال لي: يا يحيي إنّ هذا الرجل قد ولّده رسول اللَّه، والمتوكّل من تعلم، فإن حرّضته عليه قتله، وكان رسول اللَّه خصمك يوم القيامة، فقلت له: واللَّه ما وقفت منه إلّاعلي كلّ أمر جميل.

ثمّ صرت به إلي سرّ من رأي فبدأت بوصيف التركي، فأخبرته بوصوله، فقال: واللَّه لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك. فعجبت كيف وافق قوله قول اسحاق. فلمّا دخلت علي المتوكّل سألني عنه، فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقته وورعه وزهادته، وأنّي فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه. فأكرمه المتوكّل وأحسن جائزته وأجزل برّه وأنزله معه سرّ من رأي» «1».

(ثمّ مرض المتوكّل فنذر إن

عوفي تصدّق بدراهم كثيرة، فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جواباً، فبعث إلي علي الهادي عليه السلام … )

قال الخطيب البغدادي الحافظ: «أخبرني الأزهري، حدّثنا أبو أحمد عبيد اللَّه بن محمّد المقرئ، حدّثنا محمّد بن يحيي النديم،

__________________________________________________

(1) تذكرة خواص الأُمّة 359- 360.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 143

حدّثنا الحسين بن يحيي قال: اعتلّ المتوكّل في أوّل خلافته فقال: لئن برئت لاتصدّقنّ بدنانير كثيرة، فلمّا برئ جمع الفقهاء فسألهم عن ذلك، فاختلفوا، فبعث إلي علي بن محمّد بن علي بن موسي بن جعفر فسأله.

فقال: يتصدّق بثلاث وثمانين ديناراً. فعجب قوم من ذلك وتعصّب قوم عليه، وقالوا: تسأله- يا أمير المؤمنين- من أين له هذا؟ فردّ الرسول إليه فقال له: قل لأمير المؤمنين: في هذا الوفاء بالنذر، لأنّ اللَّه تعالي قال «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ». فروي أهلنا جميعاً أنّ المواطن في الوقائع والسّرايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطناً، وأنّ يوم حنين كان الرابع والثمانين. وكلّما زاد أمير المؤمنين من فضل الخير كان أنفع له، وأُجر عليه في الدنيا والآخرة» «1».

ورواه الحافظ ابن الجوزي عن أبي منصور القزاز عن الخطيب بإسناده كذلك «2».

ورواه الصفدي بترجمته عليه السلام كذلك «3».

(قال المسعودي: نُمي إلي المتوكّل بعليّ بن محمّد عليه

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 12/ 56.

(2) المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم 12/ 74.

(3) الوافي بالوفيات 22/ 73.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 144

السلام … فبكي المتوكّل حتّي بلت دموعه لحيته)

هذا الخبر مذكور في كثير من الكتب: كمروج الذهب، وعنه الحافظ سبط ابن الجوزي في التذكرة، ووفيات الأعيان، وقد أرسله إرسال المسلَّم. وكذلك هو في الوافي بالوفيات 22/ 72 والأئمّة الإثنا عشر لابن طولون 107، والبداية والنهاية لابن كثير

16/ 15، والمختصر في أخبار البشر 4/ 44، ورواه المتأخّرون كصاحب الإتحاف بحب الأشراف 200 قال: قال بعض الثقات …

كلام ابن تيميّة في هذا المقام: … ص: 144

وبعد الوقوف علي كلام العلّامة وشرحه، نتعرّض لما قاله ابن تيميّة، فإنّه بعد أن أورد كلام العلّامة ذكر ما يتلخّص في نقاط:

الأولي: الإعتراض علي العلّامة في وصفه (إسحاق بن إبراهيم) ب (الطائي)، مع أنّه (خزاعي).

الثانية: إنّ الفتيا المذكورة تحكي عن علي بن موسي الرضا مع المأمون، وهي إمّا كاذبة وإمّا جهل، لأنّ العدد المذكور فيها ليس مطابقاً للواقع.

الثالثة: الحكاية المذكورة عن تاريخ المسعودي كذب.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 145

والجواب:

أمّا عن الأولي: فإنّه يبتني علي وجود كلمة (الطّائي) في كتاب (منهاج الكرامة) لكن الكلمة في نسختنا (الظاهري) وفي تذكرة خواص الأُمّة (الطاهري) وقد ذكر في هامش (منهاج السنّة) أنّ في بعض نسخ (منهاج الكرامة) هو الإسم «اسحاق بن إبراهيم» فقط، فلا هذا ولا ذاك ولا الطّائي … فما الحامل لأن يتشبّث هذا الرجل بتلك الكلمة إلّاالعناد؟

وأمّا عن الثانية: فإنّ هذه الفتيا- سواء كانت من الإمام الهادي كما عرفت، أو الرضا كما يدّعي الرّجل، أو غيرهما من الأئمّة عليهم السلام كما تقدّم عن بعض الكتب- قد صدرت من «أهل البيت» الذين هم «أدري بما في البيت» حكماً أو واقعةً، فيجب القبول والتسليم، كما حصل من فقهاء ذلك العصر، وحينئذ لا يسمع مكابرة فيه أو تشكيك من زيد أو عمرو!!

وقوله: «فإنّ النبي لم يغز سبعاً وعشرين غزاة باتّفاق أهل العلم بالسّير» كذب وباطل. قال الحافظ ابن سيّد الناس: «ذكر الخبر عن عدد مغازي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وبعوثه: روينا عن ابن سعد قال:

أنا محمّد بن عمر بن واقد الأسلمي، ثنا عمر بن عثمان بن

عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي، وموسي بن محمّد بن

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 146

إبراهيم بن الحارث التيمي، ومحمّد بن عبد اللَّه بن مسلم ابن أخي الزهري، وموسي بن يعقوب بن عبد اللَّه بن وهب بن زمعة بن الأسود، وعبد اللَّه بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري، ويحيي بن عبد اللَّه بن أبي قتادة الأنصاري، وربيعة بن عثمان بن عبد اللَّه بن الهدير التيمي، وإسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيشة الأشهلي، وعبد الحميد بن جعفر ا لحكمي، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، ومحمّد بن صالح التمار.

قال ابن سعد: وأنا رويم بن يزيد المقرئ، ثنا هارون بن أبي عيسي، عن محمّد بن إسحاق.

قال: وأنا حسين بن محمّد، عن أبي معشر.

قال: وأنا إسماعيل بن عبد اللَّه بن أبي أويس المدني، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمّه موسي بن عقبة، دخل حديث بعضهم في بعض.

قالوا: كان عدد مغازي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم التي غزا بنفسه سبعاً وعشرين» «1».

وقال الحلبي: «باب ذكر مغازيه صلّي اللَّه عليه وسلّم. ذكر أنّ

__________________________________________________

(1) عيون الأثر في المغازي والسير 1/ 223.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 147

مغازيه، أي: وهي التي غزا فيها بنفسه كانت سبعاً وعشرين» ثمّ عدّدها «1».

وقال القسطلاني: «فجمع سراياه وبعوثه نحو ستّين ومغازيه سبع وعشرون» «2».

هذا، ولا يخفي أنّ الإمام عليه السلام قال بعد ذلك: «وكلّما زاد أمير المؤمنين من فعل الخير كان أنفع له وآجر عليه في الدنيا والآخرة».

وأمّا عن الثالثة فوجوه:

1- هذا الخبر رواه غير المسعودي من العلماء والمؤرّخين، ممّن لا يتّهمهم هذا الرجل.

2- وفي (مروج الذهب) أكاذيب، كغيره من كتب التاريخ والحديث، حتي الموصوفة بالصحّة والمشهورة

بالإعتماد، لكنّ هذا الخبر رواه غير المسعودي أيضاً، مضافاً إلي القرائن الدالّة علي صحّته، وقد وجدت الأبيات في كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة، المتوفي سنة 276، أي قبل المسعودي بعشرات السنين، قال: «بلغني أنّه قرئ

__________________________________________________

(1) السيرة الحلبية 2/ 342.

(2) المواهب اللدنية 3/ 112.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 148

علي قبرٍ بالشام» «1».

3- وقد ترجم الأكابر المسعودي وأثنوا عليه:

ياقوت: «علي بن الحسين بن علي المسعودي المؤرّخ، أبو الحسن، من ولد عبد اللَّه بن مسعود صاحب النبي … بغدادي الأصل … وله من الكتب: كتاب مروج الذهب ومعادن الجواهر … » «2».

الذهبي: «المسعودي، صاحب مروج الذهب وغيره من التواريخ … وكان أخبارياً صاحب ملح وغرائب وعجائب وفنون، وكان معتزلياً. أخذ عن أبي خليفة الجمحي ونفطويه وعدّة. مات في جمادي الآخرة سنة 345» «3».

وذكر في وفيات السنة المذكورة في (تذكرة الحفاظ) و (العبر) كذلك «4».

الكتبي: «المسعودي صاحب التاريخ … وكان أخبارياً علّامةً

__________________________________________________

(1) عيون الأخبار 4/ 303 كتاب الزهد.

(2) معجم الأُدباء 13/ 90.

(3) سير أعلام النبلاء 15/ 569.

(4) تذكرة الحفاظ 3/ 857، العبر 2/ 71.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 149

صاحب غرائب وملح ونوادر … مات سنة 346» «1».

4- بل كان الرجل فقيهاً مفتياً، عداده في فقهاء الشافعيّة، فقد أورده السبكي في (طبقاته) قائلًا: «علي بن الحسين بن علي المسعودي صاحب التواريخ: كتاب (مروج الذهب) في أخبار الدنيا. وكتاب …

وكان أخبارياً مفتياً علّامةً صاحب ملح وغرائب، سمع من … وقيل: انّه كان معتزلي العقيدة مات سنة 45 أو 346. وهو الذي علّق عن أبي العبّاس ابن سريج (رسالة البيان عن أُصول الأحكام) وهذه الرسالة عندي نحو 15 ورقة، ذكر المسعودي في أوّلها أنّه حضر مجلس أبي العبّاس ببغداد،

في علّته التي مات بها سنة 306، وقد حضر المجلس لعيادة أبي العبّاس جماعة من حذّاق الشافعيين والمالكيين والكوفيين والداوديين وغيرهم من أصناف المخالفين، فبينما أبو العبّاس يكلّم رجلًا من المالكيين، إذ دخل عليه رجل معه كتاب مختوم، فدفعه إلي القاضي أبي العبّاس فقرأه علي الجماعة، فإذا هو من جماعة الفقهاء المقيمين ببلاد الشاش يعلمونه أنّ الناس في ناحيتهم أرض الشاش وفرغانة مختلفون في أُصول فقهاء الأمصار ممّن لهم الكتب المصنّفة والفتيا، ويسألونه رسالةً يذكر فيها أُصول الشافعي ومالك وسفيان

__________________________________________________

(1) فوات الوفيات 3/ 12.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 150

الثوري وأبي حنيفة وصاحبيه وداود بن علي الاصبهاني، وأن يكون ذلك بكلام واضح يفهمه العامي. فكتب القاضي هذه الرسالة، ثمّ أملي فيما ذكر المسعودي عليهم بعضها وعجز لضعفه عن إملاء الباقي، فقرئ عليه والمسعودي يسمع» «1».

5- فهذه ترجمة المسعودي … وذكر كتابه (مروج الذهب) …

علي لسان هؤلاء الأكابر، وأنت لا تجد فيها مطعناً فيه ولا في كتابه …

بل انّه فقيه شافعي، غلب عليه التاريخ وذكر أخبار الناس …

ومع كلّ هذا … فقد أورده الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان) لا لعيب فيه، وإنّما لاشتمال كتبه علي فضائل لعلي وأهل البيت!! قال:

«وكتبه طافحة بأنّه كان شيعيّاً معتزليّاً، حتي أنّه قال في حقّ ابن عمر أنّه امتنع من بيعة علي بن أبي طالب ثمّ بايع بعد ذلك يزيد بن معاوية والحجاج لعبد الملك بن مروان. وله من ذلك أشياء كثيرة. ومن كلامه في حقّ علي ما نصّه: الأشياء التي استحق بها الصحابة التفضيل: السبق إلي الإيمان، والهجرة مع النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، والنصر له، والقرابة منه، وبذل النفس دونه، والعلم، والقناعة، والجهاد، والورع، والزهد، والقضاء،

والفتيا. وانّ لعلي من ذلك الحظ الأوفر والنصيب

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية الكبري 3/ 456.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 151

الأكبر، إلي ما ينضم إلي ذلك من خصائصه بآخرته، وبأنّه أحبّ الخلق، إلي غير ذلك»، انتهي «1».

أقول:

فلم يذكره بكذب ولا ضعف ولا تدليس … ونحو ذلك … بل غاية الأمر أن يكون من القائلين بتقدّم علي عليه السلام علي الصّحابة، وهذا قول كثير من الصحابة والتابعين وسائر المسلمين.

6- وبما ذكرنا ظهر الوجه والسّبب في تكلّم ابن تيميّة في كتاب (مروج الذهب) … فيظهر أنّ فيه وفي غيره من كتب المسعودي ما ليس علي هوي هذا الرّجل … وقد عرفناه بالتسرّع في الطّعن في الشخص إذا أحسّ منه أقلَّ ميلٍ إلي أهل البيت!!

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 4/ 224.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 153

(11)

الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام … ص: 153

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 155

(وكان ولده الحسن العسكري عليه السلام عالماً فاضلًا زاهداً أفضل أهل زمانه. روت عنه العامّة كثيراً)

قال ابن تيميّة: «فهذه من نمط ما قبله من الدعاوي المجرّدة والأكاذيب البيّنة، فإنّ العلماء المعروفين بالرواية الذين كانوا في زمن الحسن بن علي العسكري ليس لهم عنه رواية مشهورة في كتب أهل العلم، وشيوخ أهل الكتب الستّه: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة كانوا موجودين في ذلك الزمان وقريباً منه قبله وبعده. وقد جمع الحافظ أبو القاسم ابن عساكر أخبار شيوخ النبل- يعني شيوخ هؤلاء الأئمّة- فليس في هؤلاء الأئمّة من روي عن الحسن بن علي العسكري مع روايتهم عن أُلوف مؤلَّفة من أهل الحديث، فكيف قال: «روت عنه العامّة كثيراً»؟ وأين هذه الروايات؟ وقوله: «انّه كان أفضل أهل زمانه هو من هذا النمط».

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله،

ألأئمةالإثناءعشر، ص: 156

أقول:

هو: مولانا الإمام الزكي الحسن ابن الإمام عليّ الهادي ابن الإمام محمّد الجواد ابن الإمام علي الرّضا … عليهم الصّلاة والسلام.

ولقّب ب «العسكري» لكونه سكن «العسكر» مع والده، وكان الإمام من بعد والده الذي اغتاله المعتمد العبّاسي بالسّم.

وقد لاقي الإمام عليه السلام منذ نشأته في حكومة المتوكّل إلي آخر أيّامه ما لاقاه والده عليه السلام، من صنوف الظّلم وألوان الجور، بل كان زمانه أشدّ وأظلم، فقد كان المستعين مبغضاً لأهل البيت عليهم السلام، حتّي أنّه أودعه السجن مدّةً من الزمن، بعد أن كانت داره تحت الضغط والمراقبة الشّديدة، بل قيل إنّه كان عازماً علي قتله، بأن أمر بعض خدّامه بحمل الامام عليه السلام إلي الكوفة واغتياله في الطريق كيلا يعلم أحد بواقع الأمر، لكنّ اللَّه شاء أن يكون قتل المستعين علي يد ذاك الخادم … ثمّ تولّي المعتز ابن المتوكّل، وقد ورث من آبائه العداء والنصب لعترة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، فعاد وأودع الإمام عليه السلام السّجن، وما مضت إلّابرهة من الزمن حتّي قتل علي يد الأتراك وخلص الإمام من السجن. ثمّ تسلّم المهتدي زمام الأمر وهو- كآبائه- علي أشدّ البغض والنصب لآل النبي، فأمر باعتقال الإمام، وقصد قتله في السجن، لكنّ اللَّه لم يمهله، إذ هجم عليه الأتراك بالخناجر وقتلوه وسفكوا دمه،

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 157

وأراح اللَّه منه. فجاء المعتمد، وهو أيضاً علي سيرة المتقدّمين عليه، فأمر باعتقال الإمام، حتي إذا اطمأنَّ من أن لا قصد للإمام بالقيام ضدّه أمر باطلاق سراحه من السجن، لكنّه بقي في الدار تحت المراقبة الشديدة، إلي أن انتقل إلي الرفيق الأعلي وجنّة المأوي سنة 260 وله من العمر ثمان

وعشرون سنة، ودفن إلي جنب والده في الدار، حيث المشهد العظيم الذي ينتابه المؤمنون إلي هذا اليوم.

وهكذا عاش الإمام العسكري هذا العمر القصير …

فالإنصاف، أنّ هذا القدر الذي وصل إلينا من أحاديث الإمام العسكري عليه السلام وأخباره مع قصر عمره الشريف، الذي قضاه في السجون، وتحت المراقبة، مع منع الناس من الدخول عليه ونشر حديثه، ومطاردة أصحابه وأقربائه، لكثير كثير … !!

وإنّ من الواضح أن لا يقصد أتباع أُولئك الطواغيت الإمام عليه السلام للأخذ منه والرّواية عنه، مع ما في ذلك من تعريض النّفس للخطر …

ثمّ جاء الذين ساروا علي منهاج الملوك في العداء والنصب لأهل البيت- هؤلاء الذين لا تلتام جراحات ألسنتهم وأقلامهم- وجعلوا يتطاولون علي شأن الإمام ومقامه العظيم، وينكرون كلّ شي ء، حتّي هذا القدر المنقول الموجود في كتب الفريقين من أخباره وأحاديثه … الدالّ علي علمه وجلالته وكونه أفضل أهل زمانه.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 158

يريد النواصب ليطفئوا نور اللَّه … قوم بالمحاربة والقتل والتعذيب، وقوم بعدم الرواية والنقل، وقوم بالإنكار والتكذيب …

ويأبي اللَّه الّا أن يتمّ نوره …

فالملوك لم يفسحوا المجال للامام عليه السلام لأنّ يتّصل به العلماء والنّاس، ويستفيدوا من علومه ويستضيئوا بنوره، فقد كانت أيّامه قليلة ومضي أكثرها في السّجون … وعجيبٌ أمر هؤلاء … فإنّهم عندما يسئلون عن السّبب في قلّة الرواية عن كبار الصحابة- لاسيما الثلاثة- في تفسير القرآن وبيان الأحكام، قالوا: إنّ السّبب تقدم وفاتهم. قال السيوطي: «أمّا الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة نزرة جداً، وكأنّ السبب في ذلك تقدّم وفاتهم، كما أنّ ذلك هو السبب في قلة رواية أبي بكر للحديث، ولا أحفظ عن أبي

بكر في التفسير إلّاآثاراً قليلةً لاتكاد تتجاوز العشرة، وأمّا علي فروي عنه الكثير … » «1».

فهكذا يعتذرون لأوليائهم، وهو عذر باطل غير مقبول، أمّا بالنسبة إلي مثل الإمام العسكري فلا يعتذرون بما هو الثابت الحق، بل لسانهم يطول …

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4/ 233.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 159

ويقول الرجل: إن أحداً من مشايخ الحديث البخاري وغيره لم يرو عن الإمام العسكري عليه السلام، إلّاأنّه لا يذكر السّبب في ذلك …

وهو ما أشرنا إليه … فعدم روايتهم عنه كان لسوء حظّهم وعدم توفيقهم، ولا دلالة فيه علي ضعف في الإمام عليه السلام- والعياذ باللَّه- بشي ء من الدلالات … مع أنّهم يقولون بإمامة البخاري بل يجعلونه إمام أئمّتهم، والحال أنّ أئمّة عصره وفي بلده حرّموا السّماع منه والرواية عنه وأخرجوه من البلد وطردوه:

فقد حكي الذهبي عن الحاكم قال: «سمعت محمّد بن يعقوب الحافظ يقول: لمّا استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجّاج الإختلاف إليه، فلما وقع بين الذهلي وبين البخاري ما وقع في مسألة اللفظ ونادي عليه ومنع الناس عنه، انقطع عنه أكثر الناس غير مسلم، فقال الذهلي يوماً: ألا من قال باللفظ فلا يحلّ له يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم ردائه فوق عامته وقام علي رؤوس الناس، وبعث إلي الذهلي ما كتب عنه علي ظهر حمّال، وكان مسلم يظهر القول باللفظ ولا يكتمه.

قال: وسمعت محمّد بن يوسف المؤذّن، سمعت أبا حامد ابن الشرفي يقول: حضرت مجلس محمّد بن يحيي فقال: ألا من قال لفظي بالقرآن مخلوق فلا يحضر مجلسنا، فقام مسلم بن الحجاج عن المجلس. رواها أحمد بن منصور الشيرازي عن محمّد بن يعقوب فزاد:

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 160

وتبعه أحمد

بن سلمة.

قال أحمد بن منصور الشيرازي: سمعت محمّد بن يعقوب الأخرم:

سمعت أصحابنا يقولون: لمّا قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي قال: لا يساكنني هذا الرجل في البلد، فخشي البخاري وسافر» «1».

ثمّ إنّ العلامة رحمه الله من كبار العلماء في معرفة الرجال وأصحاب الأئمّة، وله في ذلك كتب، وقوله: «روت عنه العامّة كثيراً» ليس جزافاً، وقد ذكر أسماء جماعةٍ كبيرة من أصحاب الإمام العسكري في كتابه (الخلاصة في علم الرجال) وكثيرون منهم من العامّة.

وبعد، فهذه أخبار وروايات وأقوال في كتب غير الشيعة تؤكّد قول العلّامة: «كان عالماً فاضلًا زاهداً أفضل أهل زمانه، روت عنه العامة كثيراً»:

قال الحافظ أبو نعيم: «أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني القاضي أبو الحسن علي بن محمّد بن علي بن محمّد القزويني ببغداد، قال: أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني محمّد بن أحمد بن عبد اللَّه بن قضاعة قال:

أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني القاسم بن العلاء الهمداني، قال: أشهد

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 12/ 456.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 161

باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني الحسن بن علي بن محمّد بن الرضا، قال:

أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني أبي علي بن محمّد، أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني أبي محمّد بن علي قال: أشهد باللَّه وأشهد للَّه لقد حدّثني أبي علي بن موسي قال: أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني أبي موسي بن جعفر قال: أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني أبي جعفر ابن محمّد قال:

أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني أبي محمّد بن علي قال: أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني أبي علي بن الحسين قال: أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني أبي الحسين بن علي قال: أشهد

باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني أبي علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تعالي عنهم- قال: أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد حدّثني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: أشهد باللَّه وأشهد للَّه، لقد قال لي جبريل عليه السلام يا محمّد، ان مدمن الخمر كعابد الأوثان.

هذا حديث صحيح ثابت، روته العترة الطيبة، ولم نكتبه علي هذا الشرط بالشهادة باللَّه وللَّه إلّاعن هذا الشيخ» «1».

وقال الحافظ سبط ابن الجوزي: «وكان عالماً ثقةً. روي الحديث عن أبيه عن جدّه. ومن جملة مسانيده حديثٌ في الخمر عزيز، ذكره

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 3/ 203.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 162

جدّي أبو الفرج في كتابه المسمّي ب (تحريم الخمر) ونقلته من خطّه وسمعته يقول:

أشهد باللَّه لقد سمعت أبا عبد اللَّه الحسين بن علي يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت عبد اللَّه بن عطا الهروي يقول أشهد باللَّه لقد سمعت عبد الرحمن بن أبي عبيد البيهقي يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت أبا عبد اللَّه الحسين بن محمّد الدينوري يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت محمّد بن علي بن الحسين العلوي يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت أحمد بن عبيد اللَّه السبيعي [الشيعي ] يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت الحسن بن علي العسكري يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت أبي علي بن محمّد يقول:

أشهد باللَّه، لقد سمعت أبي محمّد بن علي بن موسي الرضا يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت أبي علي بن موسي يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت أبي موسي يقول: أشهد باللَّه لقد سمعت أبي جعفر بن محمّد يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت أبي محمّد بن علي يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت أبي علي بن الحسين يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت أبي الحسين بن علي يقول: أشهد

باللَّه، لقد سمعت أبي الحسين بن علي يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت جبرائيل يقول: أشهد باللَّه لقد سمعت ميكائيل يقول: أشهد باللَّه، لقد سمعت إسرافيل يقول: أشهد باللَّه علي اللّوح المحفوظ أنّه قال: سمعت اللَّه

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 163

يقول: شارب الخمر كعابد وثن.

ولما روي جدّي هذا الحديث في كتاب (تحريم الخمر) قال، قال أبو نعيم الفضل بن دكين: هذا حديث صحيح ثابت، روته العترة الطبة الطاهرة، ورواه جماعة عن رسول اللَّه … » «1».

وقال الحافظ ابن حجر: «ذ- أحمد بن عبد اللَّه الشيعي- حدّث عن الحسن بن علي العسكري. ثمّ ذكر بسند له مسلسل ب «أشهد باللَّه» إلي أن وصل إلي محمّد بن علي بن الحسين بن علي قال: أشهد باللَّه، لقد حدّثني أحمد بن عبد اللَّه الشيعي البغدادي قال: أشهد باللَّه، لقد حدّثني الحسن بن علي العسكري قال: أشهد باللَّه، لقد حدّثني أبي علي بن محمّد، أشهد باللَّه، لقد حدّثني أبي محمّد بن علي بن موسي الرضا.

فذكره مسلسلًا بآباء علي بن موسي إلي علي قال: أشهد باللَّه … » «2».

وقال الحافظ عبد العزيز الجنابذي عن رجاله، عن الحافظ البلاذري: «حدّثنا الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسي إمام عصره عند الإمامية، بمكة، قال: حدّثني أبي علي بن محمّد المفتي، قال:

__________________________________________________

(1) مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي- مخطوط، تذكرة خواص الأُمّة: 362.

(2) لسان الميزان 1/ 209. ولا يخفي أنّ «ذ» رمز لذيل ميزان الاعتدال للشيخ حافظ الوقت أبي الفضل ابن الحسين، كما صرح ابن حجر في لسان الميزان 1/ 4. فيكون الراوي الأوّل للمسلسل هو هذا الحافظ.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله،

ألأئمةالإثناءعشر، ص: 164

حدّثني أبي محمّد بن علي السيد المحجوب، قال حدّثني أبي علي بن موسي الرضا قال: حدّثني أبي موسي ابن جعفر المرتضي، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمّد الصادق، قال: حدّثني أبي محمّد بن علي بن الباقر قال: حدّثني أبي علي بن الحسين السجاد زين العابدين قال: حدّثني أبي الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب سيد الأوصياء قال: حدّثني محمّد بن عبد اللَّه سيّد الأنبياء قال:

حدّثني جبرئيل سيد الملائكة قال قال اللَّه عزّ وجلّ سيد السادات: إنّي أنا اللَّه لا إله إلّاأنا، فمن أقرَّ لي بالتوحيد دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي» «1».

وروي غير واحدٍ أنّه وقع في سرّ من رأي في زمن المعتمد قحط شديد والإمام في السجن، فأمر المعتمد بخروج الناس إلي الإستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيام يستسقون فلم يسقوا، فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلي الصحراء وخرج معه النصاري والرهبان، وكان فيهم راهب

__________________________________________________

(1) معالم العترة النبويّة للحافظ عبد العزيز بن محمود المعروف بابن الأخضر الجنابذي المتوفّي سنة: 611 وصفه الذهبي بالإمام العالم المحدّث الحافظ المعمر مفيد العراق، كان ثقة فهماً خيّراً ديّناً عفيفاً، وكذا عن غيره. سير أعلام النبلاء 22/ 31. نقله عنه: العلّامة الوزير علي بن عيسي الاربلي المتوفّي سنة 693 والمترجم له في الشذرات والوافي بالوفيات وغيرهما، في كتاب: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 2/ 403.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 165

كلّما مدّ يده إلي السماء هطلت بالمطر، ثمّ خرجوا في الثاني وفعلوا كفعلهم أوّل يوم، فهطلت السماء بالمطر. فعجب الناس من ذلك، وداخل بعضهم الشك، وصبا بعضهم إلي دين النصرانية، فشقَّ ذلك علي المعتمد، فأنفذ صالح بن يوسف

أن أخرج أبا محمّد الحسن من الحبس وائتني به. فلما حضر أبو محمّد الحسن عند المعتمد قال له:

أدرك أُمّة محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم فيما لحقهم من هذه النازلة العظيمة، فقال أبو محمّد: مرهم يخرجون غداً اليوم الثالث، فقال له:

قد استغني الناس عن المطر واستكفوا فما فائدة خروجهم؟ قال:

لأُزيل الشك عن الناس وما وقعوا فيه. فأمر الخليفة الجاثليق والرهبان أن يخرجوا أيضاً في اليوم الثالث علي جاري عادتهم وأن يخرج الناس. فخرج النصاري وخرج معهم أبو محمّد الحسن ومعه خلق من المسلمين، فوقف النصاري علي جاري عادتهم يستسقون، وخرج راهب معهم ومدّ يده إلي السماء ورفعت النصاري والرهبان أيديهم أيضاً كعادتهم، فغمّيت السماء في الوقت ونزل المطر. فأمر أبو محمّد الحسن بالقبض علي يد الراهب وأخذ ما فيها، فإذا بين أصابعه عظم آدمي. فأخذه أبو محمّد الحسن ولفّه في خرقة وقال لهم: استسقوا.

فانقشع الغيم وطلعت الشمس، فتعجّب الناس من ذلك.

وقال الخليفة: ما هذا يا أبا محمّد؟ فقال: هذا عظم نبي من

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 166

الأنبياء، ظفر به هؤلاء من قبور الأنبياء، وما كشف عن عظم نبي من الأنبياء ظفر به هؤلاء من قبور الأنبياء، وما كشف عن عظم نبي من الأنبياء تحت السماء إلّاهطلت بالمطر. فاستحسنوا ذلك وامتحنوه فوجدوه كما قال.

فرجع أبو محمّد إلي داره بسرّ من رأي، وقد أزال عن الناس هذه الشبهة، وسرّ الخليفة والمسلمون بذلك.

وكلّم أبو محمّد الحسن الخليفة في إخراج أصحابه الذين كانوا معه في السجن، فأخرجهم وأطلقهم من أجله» «1».

وقال الإمام عبد اللَّه بن أسعد اليافعي عن بهلول قال: «بينما أنا ذات يوم في بعض شوارع المدينة وإذا بالصبيان يلعبون بالجوز واللوز، وإذا بصبي ينظر إليهم ويبكي.

فقلت: هذا صبي يتحسّر علي ما في أيدي الصبيان ولا شي ء معه. فقلت: أي بني ما يبكيك؟ اشتر لك ما تلعب به؟

فرفع بصره إليَّ وقال: يا قليل العقل، ما للّعب خلقنا. قلت: فلم إذاً خلقنا؟

قال: للعلم والعبادة. قلت: من أين لك ذاك بارك اللَّه فيك؟ قال من قول اللَّه تعالي «أفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأنَّكُمْ إلَيْنَا تُرْجَعُون». فقلت: يا بني، أراك حكيماً، فعظني وأوجز، فأنشأ يقول:

__________________________________________________

(1) الفصول المهمة: 286، ونور الأبصار: 339، الصواعق: 124، أخبار الدول: 117.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 167

أري الدنيا تجهّز بانطلاق مشمّرةً علي قدم وساق (الأبيات)

ثمّ رمق إلي السماء بعينيه وأشار بكفّيه ودموعه تتحدر علي خدّيه وأشار بقوله … فلما أتمّ كلامه خرّ مغشيّاً عليه، فرفعت رأسه إلي حجري ونفضت التراب عن وجهه، فلما أفاق … فقلت له: أي بني أراك حكيماً فعظني، فأنشأ يقول:

غفلت وحادي الموت في أثري يحدو وإن لم أرح يوماً فلا بدّ أن أغدو (الأبيات)

قال بهلول: فلما فرغ من كلامه وقعت مغشيّاً علي وانصرف الصبي. فلما أفقت ونظرت إلي الصبيان فلم أره معهم فقلت لهم: من يكون ذلك الغلام؟ قالوا: وما عرفته؟ قلت: لا قالوا: ذاك من أولاد الحسين بن علي بن أبي طالب. قال: فقلت: قد عجبت من أمره، وما تكون هذه الثمرة إلّامن تلك الشجرة» «1».

__________________________________________________

(1) روض الرياحين في حكايات الصالحين، جمع فيه خمسمائة حكاية. كشف الظنون 1/ 918، وهو للشيخ عبد اللَّه بن أسعد اليافعي اليمني الشافعي المتوفي سنة: 768 صاحب مرآة الجنان وغيره من الكتب، توجد ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 247، طبقات السبكي 6/ 103، البدر الطالع 1/ 378 وغيرها. وقد نقلنا القصة باختصار في الأشعار وغيرها، وهي مذكورة بترجمة الإمام

الحسن العسكري من: جواهر العقدين- ق 2 ج 2/ 431، الصواعق المحرقة: 124، وسيلة المآل- مخطوط، نور الأبصار: 338 عن درر الأصداف، جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام: 155، دائرة المعارف للبستاني 7/ 45.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 168

وقال الحافظ سبط ابن الجوزي: «روي الحسن النصيبي قال: خطر في قلبي عرق الجنب هل هو طاهر؟ فأتيت إلي باب أبي محمّد الحسن لأسأله وكان ليلًا، فنمت، فلما طلع الفجر خرج من داره فرآني نائماً فأيقظني وقال: إن كان حلالًا فنعم، وإن كان من حرام فلا» «1».

وروي ابن الصبّاغ المالكي بسنده عن عيسي بن الفتح قال: «لمّا دخل علينا أبو محمّد السجن قال لي: يا عيسي لك من العمر خمس وستّون سنة وشهر ويومان، قال: وكان معي كتاب فيه تاريخ ولادتي، فنظرت فيه، فكان كما قال. ثمّ قال لي: هل رزقت ولداً؟ فقلت:

لا قال: اللهم ارزقه ولداً يكون له عضداً فنعم العضد الولد. ثمّ أنشد:

من كان ذا عضد يدرك ظلامته إنّ الذليل الذي ليست له عضد

فقلت له: يا سيدي، وأنت لك ولد؟ فقال: واللَّه سيكون لي ولد

__________________________________________________

(1) مرآة الزمان 6/ الورقة 192. و «الحسن النصيبي» ترجم له ابن حجر قال: من ذريّة إسحاق بن جعفر الصادق، ذكره أبو المفضل الشيباني في وجوه الشيعة وقال: سمعت عليه حديثاً كثيراً، وله تصنيف في طرق حديث الغدير، وروي عن محمّد بن علي بن حمزة وغيره» انتهي كلامه في كتاب لسان الميزان 2/ 191.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 169

يملأ الأرض قسطاً وعدلًا، وأمّا الآن فلا. ثمّ أنشد متمثّلًا:

لعلك يوماً أن تراني كأنّما بني حواليّ الأُسود اللوابد

فإنّ تميماً قبل أن يلد الحصي أقام زماناً وهو في الناس واحد»

«1»

وروي ابن الصبّاغ المالكي عن إسماعيل بن محمّد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد اللَّه بن العباس قال: «قعدت لأبي محمّد الحسن علي باب داره حتي خرج، فقمت في وجهه وشكوت إليه الحاجة والضرورة، وأقسمت أنّي لا أملك الدرهم فما فوقه، فقال: تقسم وقد دفنت مائتي دينار! وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيّة، أعطه يا غلام ما معك. فأعطاني مائة دينار، شكرت له تعالي وولّيت فقال: ما أخوفني أن تفقد المائتي دينار أحوج ما تكون إليها.

فذهبت إليها فافتقدتها فإذا هي في مكانها، فنقلتها إلي موضع آخر ودفنتها من حيث لا يطّلع أحد، ثمّ قعدت مدّة طويلة، فاضطررت إليها، فجئت أطلبها في مكانها فلم أجدها، فجئت وشقّ ذلك عليَّ، فوجدت إبناً لي قد عرف مكانها وأخذها وأبعدها. ولم يحصل لي شي ء. فكان كما قال» «2».

__________________________________________________

(1)

الفصول المهمة في معرفة الأئمّة: 288.

(2) الفصول المهمة في معرفة الأئمّة: 286 وإسماعيل ذكره الشيخ الطوسي في أصحاب الامام العسكري.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 170

وروي ابن الصّباغ المالكي عن محمّد بن حمزة الدوري قال:

«كتبت علي يدي أبي هاشم داود بن القاسم- كان لي مؤاخياً- إلي أبي محمّد الحسن أسأله أن يدعو اللَّه لي بالغني، وكنت قد بلغت وقلّت ذات يدي وخفت الفضيحة. فخرج الجواب علي يده: أبشر، فقد أتاك الغني عن اللَّه تعالي، مات ابن عمّك يحيي بن حمزة وخلّف مائة ألف درهم ولم يترك وارثاً سواك وهي واردة عليك. عليك بالإقتصاد وإيّاك والإسراف. فورد عليّ المال والخبر بموت ابن عمي كما قال عن أيام قلائل وزال عني الفقر … » «1».

وقال ابن الصبّاغ: «مناقب سيّدنا أبي محمّد الحسن العسكري دالّة علي أنّه السري ابن السري، فلا

يشك في إمامته أحد ولا يمتري، واعلم أنّه لو بيعت مكرمة فسواه بايعها وهو المشتري، واحد زمانه من غير مدافع ونسيج وحده من غير منازع، وسيّد أهل عصره وإمام أهل دهره، أقواله سديدة وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وإن انتظموا عقداً كان مكان الواسطة الفريدة، فارس العلوم الذي لا يجاري ، ومبيّن غوامضها فلا يحاول ولا يماري ، كاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر الدقائق بفكره الثاقب، المحدّث في سرّه

__________________________________________________

(1) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 285.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 171

بالأُمور الخفيّات، الكريم الأصل والنفس والذات» «1».

وقال الحضرمي الشافعي: «كان عظيم الشأن، جليل المقدار، وقد زعمت الشيعة الرافضة أنّه والد المهدي المنتظر … » «2».

وقال أبو سالم محمّد بن طلحة الشافعي: «إنّ المنقبة العليا والمزية الكبري التي خصّه اللَّه جلّ وعلا بها فقلّدها فريدها ومنح تقليدها، وجعلها صفة دائمةً لا يبلي الدهر جديدها، ولا تنسي الألسن تلاوتها وترديدها: أنّ المهدي محمّداً نسله المخلوق منه وولده المنتسب إليه والبضعة المنفصلة عنه … وحسب ذلك منقبةً وكفاه» «3».

وقال النبهاني: «الحسن العسكري أحد أئمّة ساداتنا آل البيت العظام وساداتهم الكرام، رضي اللَّه عنهم أجمعين، ذكره الشبراوي في

__________________________________________________

(1) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 290.

(2) وسيلة المآل في عد مناقب الآل- مخطوط.

(3) مطالب السئول في مناقب آل الرسول: 244 وأبو سالم محمّد بن طلحة فقيهٌ كبيرٌ ومحدّث جليل، له مصنّفات، توجد ترجمته والثناء عليه والشهادة ببراعته في المذهب الشافعي وثقته وزهده وجلالته في ذيل الروضتين: 188، سير أعلام النبلاء 23/ 293، الوافي بالوفيات 3/ 176، طبقات السبكي 8/ 63، ابن كثير 13/ 186، النجوم الزاهرة 7/ 33، شذرات الذهب 5/ 259 … توفي سنة 652،

وقد ذكر الكتاب في كشف الظنون وهدية العارفين وإيضاح المكنون وغيرها، واعتمد عليه المتأخرون عنه في كتبهم ومؤلّفاتهم.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 172

(الإتحاف بحب الأشراف) ولكنّه اختصر ترجمته، ولم يذكر له كرامات، وقد رأيت له كرامة بنفسي، وهو أنّي في سنة 1296 سافرت إلي بغداد من بلدة كوي سنجق إحدي قواعد بلاد الأتراك وكنت قاضياً فيها، ففارقتها قبل أن أكمل المدة المعيّنة، لشدّة ما وقع فيها من الغلاء والقحط، الذين عمّا بلاد العراق في تلك السنة، فسافرنا علي الكلك قبالة مدينة سامراء وكانت مقرّ الخلفاء العبّاسيين، فأحببنا أن نزور الإمام الحسن العسكري، وخرجنا لزيارته، فحينما دخلت علي قبره الشريف حصلت لي روحانيّة لم يحصل لي مثلها قط … وهذه كرامة له. ثمّ قرأت ما تيسّر من القرآن، ودعوت بما تيسّر من الدعوات وخرجت» «1».

أقول:

وقد سبق الشبراوي في اختصار ترجمته وعدم ذكر كرامات له قوم كالخطيب البغدادي وابن الجوزي، بل لم يذكروا شيئاً من أخباره، بل منهم من لم يذكره في كتابه أصلًا!! مع ذكرهم كلّ من دبّ ودَرَج وإيرادهم بتراجمهم الأكاذيب والأباطيل الأعاجيب!! إنّ تواريخهم طافحة بأخبار الأتراك والزّنج وغيرهم من المفسدين، ولا يذكرون شيئاً

__________________________________________________

(1) جامع كرامات الأولياء 1/ 389 ويوسف بن إسماعيل النبهاني، عالم في الفقه والحديث وأديب شاعر، ومصنّف مكثر، توفي سنة 1350 توجد ترجمته في معجم المؤلفين 13/ 275.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 173

أو يذكرون سطوراً معدودة فقط من أخبار آل الرسول والأئمّة الهداة المهديّين … ! فإنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 175

(12)

الإمام المهدي عليه السلام … ص: 175

اشارة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 177

(و ولده الإمام المهدي عليه السلام

محمّد … )

قال ابن تيميّة: «قد ذكر محمّد بن جرير الطبري وعبد الباقي ابن قانع وغيرهما من أهل العلم بالأنساب والتواريخ: إنّ الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب. والإماميّة الذين يزعمون أنّه كان له ولد يدّعون أنّه دخل السّرداب بسامراء وهو صغير، منهم من قال: عمره سنتان، ومنهم من قال: ثلاث، ومنهم من قال: خمس سنين.

وهذا لو كان موجوداً معلوماً لكان الواجب في حكم اللَّه الثابت بنص القرآن والسنّة والاجماع أن يكون محضوناً عند من يحضنه في بدنه، كأُمّه وامّ امّه ونحوهما من أهل الحضانة، وأن يكون ماله عند من يحفظ …

ثمّ إنّ هذا باتّفاق منهم، سواء قدّر وجوده أو عدمه لا ينتفعون به …

هذا المنتظر لم يحصل لطائفة إلّاالإنتظار لمن لا يأتي ودوام الحسرة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 178

والألم ومعاداة العالَم …

ثمّ إنّ عمر واحدٍ من المسلمين هذه المدّة أمر يعرف كذبه بالعادة المطّردة في أُمة محمّد، فلا يعرف أحد ولد في دين الإسلام وعاش مائة وعشرين سنة، فضلًا عن هذا العمر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال في آخر عمره: أرأيتكم ليلتكم هذه فإنّه علي رأس مائة سنة منها لا يبقي علي وجه الأرض ممّن هو اليوم عليها أحد …

ثمّ أعمار هذه الأُمّة ما بين الستين إلي السبعين، وأقلّهم من يجوز ذلك، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح.

واحتجاجهم بحياة الخضر احتجاج باطل علي باطل، فمن الذي يسلّم لهم بقاء الخضر، والذي عليه سائر العلماء المحقّقون أنّه مات، وبتقدير بقائه فليس هو من هذه الأُمّة …

وقوله: روي ابن الجوزي … فيقال: الجواب من وجوه:

أحدها: إنّكم لا تحتجّون بأحاديث أهل السنّة، فمثل هذا

الحديث لا يفيدكم فائدة. وإن قلتم: هو حجة علي أهل السنّة. فنذكر كلامهم فيه.

الثاني: إنّ هذا من أخبار الآحاد، فكيف يثبت به الأصل الذي لا يصح الإيمان إلّا به.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 179

الثالث: إنّ لفظ الحديث حجّة عليكم لا لكم، فإنّ لفظه: يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي. فالمهدي الذي أخبر به النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم اسمه: محمّد بن عبد اللَّه. لا محمّد بن الحسن. وقد روي عن علي أنّه قال: هو من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين.

وأحاديث المهدي معروفة، رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، كحديث عبد اللَّه بن مسعود عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال: لو لم يبق من الدنيا إلّايوم لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتي يبعث فيه رجلًا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً.

الوجه الرابع: إنّ الحديث الذي ذكره وقوله: اسمه كاسمي وكنيته كنيتي. ولم يقل: يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي. فلم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتب الحديث المعروفة بهذا اللفظ. فهذا الرافضي لم يذكر الحديث بلفظه المعروف في كتب الحديث، مثل مسند أحمد، وسنن أبي داود، والترمذي، وغير ذلك من الكتب، وإنّما ذكره بلفظٍ مكذوب لم يروه أحد منهم.

وقوله: إنّ ابن الجوزي رواه بإسناده. إن أراد العالم المشهور صاحب المصنفات الكثيرة أبا الفرج، فهو كذبٌ عليه، وإن أراد سبطه

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 180

يوسف بن قزأوغلي، صاحب التاريخ المسمّي بمرآة الزمان، وصاحب الكتاب المصنف في الاثني عشر الذي سمّاه إعلام الخواص، فهذا الرجل يذكر في مصنّفاته أنواعاً من الغثّ والسّمين، ويحتجُّ

في أغراضه بأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة، وكان يصنّف بحسب مقاصد الناس، يصنّف للشيعة ما يناسبهم ليعوّضوه بذلك، ويصنّف علي مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه، فكانت طريقته طريقة الواعظ الذي قيل له: ما مذهبك؟ قال: في أيّ مدينة؟ ولهذا يوجد في بعض كتبه ثلب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة- رضوان اللَّه عليهم- لأجل مداهنة من قصد بذلك من الشيعة، ويوجد في بعضها تعظيم الخلفاء الراشدين وغيرهم.

ولهذا لما كان الحديث المعروف عند السلف والخلف أن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال في المهدي: يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، صار يطمع كثير من الناس في أن يكون هو المهدي، حتي سمّي المنصور ابنه محمّداً ولقّبه بالمهدي مواطاةً لاسمه باسمه واسم أبيه باسم أبيه، ولكن لم يكن هو الموعود به. وأبو عبد اللَّه محمّد بن التومرت … وهذا الملقب بالمهدي ظهر سنة بضع وخمسمائة، وتوفّي سنة أربع وعشرين وخمسمائة … وقد ادّعي قبله أنّه المهدي:

عبيد اللَّه بن ميمون القدّاح … هو وأهل بيته كانوا ملاحدة، وهم أئمّة

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 181

الإسماعيليّة … وقد ظهر سنة تسع وتسعين ومائتين، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. وانتقل الأمر إلي ولده … وانقرض ملك هؤلاء في الدّيار المصرية سنة ثمان وستين وخمسمائة، فملكوها أكثر من مائتي سنة، وأخبارهم عند العلماء مشهورة بالإلحاد والمحادّة للَّه ورسوله والردّة والنفاق.

والحديث الذي فيه: لا مهدي إلّاعيسي بن مريم. رواه ابن ماجة، وهو حديث ضعيف … ».

أقول:

هذا كلام الرجل في هذا المقام، وما صدر منه- في كتابه، حول الإمام المهدي- ممّا يخالف أدب أهل الدين ودأب المحصّلين والمناظرين كثير … كقوله:

«ومن حماقتهم أيضاً أنّهم يجعلون للمنتظر عدّة مشاهد ينتظرونه فيها

كالسّرداب الذي بسامرّاء الذي يزعمون أنّه غاب فيه، ومشاهد أُخر، وقد يقيمون هناك دابّةً- إمّا بغلةً وإمّا فرساً وإمّا غير ذلك- ليركبها إذا خرج، ويقيمون هناك إمّا في طرفي النهار وإمّا في أوقات أُخر من يناداي عليه بالخروج: يا مولانا أُخرج، يا مولانا أُخرج، ويشهرون السلاح ولا أحد هناك يقاتلهم، وفيهم من يقوم في أوقات الصلاة دائماً لا يصلّي

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 182

خشية أن يخرج وهو في الصلاة فيشتغل بها عن خروجه وخدمته، وهم في أماكن بعيدة عن مشهده، كمدينة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، إمّا في العشر الأواخر من رمضان وإمّا في غير ذلك، يتوجّهون إلي المشرق وينادونه بأصوات عالية يطلبون خروجه.

ومن المعلوم أنّه لو كان موجوداً وقد أمره اللَّه بالخروج، فإنّه يخرج سواء نادوه أو لم ينادوه، وإن لم يأذن له فهو لا يقبل منهم، وأنّه إذا خرج فإنّ اللَّه يؤيّده ويأتيه بما يركبه وبمن يعينه وينصره، لا يحتاج إلي أن يوقف له دائماً من الآدميين من ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.

واللَّه سبحانه قد عاب في كتابه من يدعو من لا يستجيب له دعاءه فقال تعالي: «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ* إن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ».

هذا، مع أنّ الأصنام موجودة وكان يوم فيها أحياناً شياطين تتراءي لهم وتخاطبهم. ومن خاطب معدوماً كانت حالته أسوأ من حال من خاطب موجوداً وإن كان جماداً.

فمن دعا المنتظر الذي لم يخلقه اللَّه كان ضلاله أعظم من ضلال

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 183

هؤلاء … » «1».

أقول:

وما تكلّم

به حول الإمام المهدي المنتظر عليه السلام من هذا النّسق، وما نسبه إلي الإماميّة من هذا القبيل … كثير، وإنّما أوردنا هذه الفقرة من كلماته في الباب ليظهر طرف من أكاذيبه وافتراءاته علي هذه الطائفة وإمامها، وليعلم أنّ الرّجل لا يزعه عن الكذب والبهتان دين ولا عقل.

إلّا أنّ من الضّروري البحث بإيجاز عن العقيدة الصحيحة حول الإمام المهدي، المستندة إلي الأدلّة المقبولة لدي المسلمين، ليحيي من حيّ عن بيّنةٍ، ويهلك من هلك عن بيّنة، واللَّه هو المستعان.

وهذا البحث يكون في فصول:

الإعتقاد بالمهدي من ضروريّات الدين: … ص: 183

لقد كان الإخبار عن المهدي وأخباره من جملة المغيّبات التي أخبر عنها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم بالقطع واليقين ودعا الأُمّة إلي التصديق والإذعان بها، فكان الإعتقاد بالمهدي من ضروريّات الدين الإسلامي، وأنّ من أنكره فقد كذّب النبي فيما أخبره، وذلك كفر.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 1/ 44- 49.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 184

قال ابن تيميّة: «وأحاديث المهدي معروفة، رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم».

قلت: سنذكر طرفاً من تلك الأحاديث في الفصول الآتية.

والمقصود هنا أنّ الاعتقاد بالمهدي يعدّ من ضروريات الإسلام، للأحاديث الكثيرة الواردة عن النبي فيه، عند جميع الفرق الإسلاميّة … والتي أفردها جمع غفير من علماء الشّيعة والسنّة بالتأليف، وكان من أشهر من ألّف في ذلك من أهل السنّة، من السّابقين واللّاحقين:

من أشهر المؤلّفين من أهل السنّة في المهدي: … ص: 184

أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب المعروف بابن أبي خيثمة، المتوفي سنة 279. أبو عبد اللَّه نعيم بن حماد المروزي، المتوفي سنة 288. أبو حسين ابن المنادي، المتوفي سنة 336. أبو نعيم الإصفهاني، المتوفي سنة 430. أبو العلاء العطّار الهمداني، المتوفي سنة 569. عبد الغني المقدسي، المتوفي سنة 600. محيي الدين ابن عربي الأندلسي، المتوفي سنة 638. سعد الدين محمّد بن مؤيد الحموي الجويني، المتوفي سنة 650. أبو عبد اللَّه محمّد بن يوسف الكنجي، المتوفي سنة 658. يوسف بن يحيي المقدسي، المتوفي

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 185

سنة 685. ابن قيّم الجوزيّة، المتوفي سنة 685. بدر الدين النابلسي، المتوفي سنة 772. أبو الفداء ابن كثير الدمشقي، المتوفي سنة 774.

ولي الدين أبو زرعة الدمشقي، المتوفي سنة 826. جلال الدين السيوطي، المتوفي سنة 911. شهاب الدين ابن حجر المكي، المتوفي سنة 974. علي بن حسام المتقي

الهندي، المتوفي سنة 975.

نور الدين علي القاري، المتوفي سنة 1014. مرعي بن يوسف المقدسي، المتوفي سنة 1033. محمّد رسول البرزنجي، المتوفي سنة 1103. محمّد بن إسماعيل الصنعاني، المتوفي سنة 1182.

علي بن محمّد الجمالي المغربي، المتوفي سنة 1248. محمّد بن علي الشوكاني، المتوفي سنة 1250. شهاب الدين أحمد الحلواني، المتوفي سنة 1308. محمّد حبيب اللَّه الشنقيطي، المتوفي سنة 1363. أحمد بن صديق الغماري، المتوفي سنة 1380.

من أشهر القائلين بصحّة أخبار المهدي أو تواترها: … ص: 185

بل إنّ كثيراً من أئمّة القوم يصرّحون بتواتر أخبار المهدي أو صحّتها من طرقهم ومنهم: محمّد بن عيسي الترمذي، المتوفي سنة 297. محمّد بن الحسين الآبري، المتوفي سنة 363. أبو عبد اللَّه الحاكم النيسابوري، المتوفي سنة 405. أبو بكر البيهقي، المتوفي

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 186

سنة 458. أبو محمّد الفرّاء البغوي، المتوفي سنة 510، 516.

ابن الأثير الجزري صاحب النهاية، المتوفي سنة 606. جمال الدين المزّي، المتوفي سنة 742. شمس الدين الذهبي، المتوفي سنة 748.

نور الدين الهيثمي، المتوفي سنة 807. شهاب الدين ابن حجر العسقلاني، المتوفي سنة 852. جلال الدين السيوطي، المتوفي سنة 911.

المهدي من هذه الأُمّة: … ص: 186

وتفيد الأحاديث المتواترة: أنّ المهدي من هذه الأُمّة، وعليه اعتقاد المسلمين قاطبةً، من السّلف والخلف، وأمّا حديث: «لا مهدي إلّا عيسي بن مريم» في سنن ابن ماجة، فقد نصّ أئمّة الحديث والرّجال علي ضعفه، قال ابن ماجة: «حدّثنا يونس بن عبد الأعلي، ثنا محمّد بن إدريس الشافعي، حدّثني محمّد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس بن مالك: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

لا يزداد الأمر إلّاشدّة ولا الدنيا إلّاإدباراً ولا الناس إلّاشحّاً، ولا تقوم الساعة إلّاعلي شرار الناس، ولا مهدي إلّاعيسي بن مريم» «1».

قلت: هذا الحديث تكذّبه أخبار المهدي عند أهل البيت عليهم السلام

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 2/ 1340.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 187

وأحاديثه الواردة بالتواتر من طرق غيرهم، ولذا فقد ضعّفه الأئمّة كالحاكم والبيهقي وغيرهما «1»، وقد تكلّم علماء القوم في رجاله، قالوا في سنده: «محمّد بن خالد الجَندي» وهو المنفرد بروايته، ولذا أوردوه بترجمته:

فقال المزّي: «محمّد بن خالد الجندي الصنعاني المؤذّن، روي عن أبان بن صالح عن الحسن عن

أنس حديث: لا مهدي إلّاعيسي بن مريم … روي له ابن ماجة حديث المهدي … قال أبو بكر بن زياد: وهذا حديث غريب … وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: هذا حديث تفرّد به محمّد بن خالد الجندي. قال أبو عبد اللَّه الحافظ: ومحمّد بن خالد رجل مجهول، واختلفوا في إسناده … » «2».

وقال الذهبي: «محمّد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح. روي عنه الشافعي. قال الأزدي: منكر الحديث، وقال أبو عبد اللَّه الحاكم:

مجهول. قلت: حديثه لا مهدي إلّاعيسي بن مريم. وهو خبر منكر، أخرجه ابن ماجة … » «3».

وقال ابن حجر: «محمّد بن خالد الجندي، بفتح الجيم والنون،

__________________________________________________

(1) التاج الجامع للأُصول 5/ 341.

(2) تهذيب الكمال 25/ 151.

(3) ميزان الاعتدال 3/ 535.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 188

المؤذّن. مجهول. من السابعة- ق» «1».

قلت:

و «أبان بن صالح» وإن وثّقه الأئمّة- كما قالوا- لكن عن الحافظين ابن عبد البر وابن حزم أنّهما ضعّفاه «2»، وقال الذهبي: «لكن قيل: إنّه لم يسمع من الحسن، ذكره ابن الصّلاح في أماليه» «3».

و «الحسن» هو: الحسن البصري المعروف المشهور، وعداده في بعض الكتب في مبغضي علي عليه السلام، ولذا ورد الذم فيه عن أهل البيت، بل قيل بتواتر ذلك عنهم «4»، وأمّا أهل السنّة فإنّهم وإن رووا عنه في الصحاح الستّة وعدّوه من الزُّهاد الثمانية، فقد نصوا علي أنّه كان كثير الارسال والتدليس «5».

قلت:

و «يونس بن عبد الأعلي» وإن وثّقوه إلّاأنّه متّهم بالكذب في هذا الخبر، فقد قال الحافظ المزّي: «وروي الحافظ أبو القاسم في تاريخ

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 2/ 157.

(2) تهذيب التهذيب 1/ 82.

(3) ميزان الإعتدال 13/ 535.

(4) تنقيح المقال 1/ 269.

(5) تقريب التهذيب 1/ 165.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله،

ألأئمةالإثناءعشر، ص: 189

دمشق بإسناده عن أحمد بن محمّد بن رشدين قال: حدّثني أبو الحسن علي بن عبيد اللَّه الواسطي قال: رأيت محمّد بن إدريس الشافعي في المنام فسمعته يقول: كذب عليَّ يونس في حديث الجندي حديث الحسن عن أنس عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في المهدي. قال الشافعي: ما هذا من حديثي ولا حدّثت به، كذب عليَّ يونس» «1».

هذا كلّه بالإضافة إلي أنّ الذّهبي قال: وللحديث علة أُخري …

فذكرها «2».

هذا، وقد جاء في النّصوص الصحيحة المتكاثرة أنّ عيسي بن مريم ينزل ويصلّي خلف المهدي، ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم بسندهما عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» «3».

وما أخرجه أحمد بسنده عنه انّه قال في حديث فيه ذكر الدجّال: «فإذا هم بعيسي بن مريم، فتقام الصلاة، فيقال له: تقدّم يا

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 25/ 149.

(2) ميزان الإعتدال 3/ 535.

(3) صحيح البخاري، باب نزول عيسي من كتاب بدء الخلق، صحيح مسلم الباب من كتاب الإيمان.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 190

روح اللَّه، فيقول: ليتقدّم إمامكم فليصلّ بكم» «1».

قال المنّاوي: «فإنّه ينزل عند صلاة الصبح علي المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيجد الإمام المهدي يريد الصلاة فيحسُّ به فيتأخّر ليتقدّم، فيقدّمه عيسي عليه السلام ويصلّي خلفه. فأعظم به فضلًا وشرفاً لهذه الأُمّة» «2».

قال أبو الحسن الآبري: «قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفي- يعني في المهدي- وأنّه من أهل بيته، وأنّه يملك سبع سنين، ويملأ الأرض عدلًا، وأنّه يخرج عيسي بن مريم فيساعده علي قتل الدجّال بباب لد بأرض فلسطين. وأنّه يؤمّ هذه الأُمّة وعيسي- صلوات اللَّه عليه- يصلّي خلفه. في

طول من قصّته وأمره» «3».

وقال السيوطي ردّاً علي من أنكر هذا «هذا من أعجب العجب، فإنّ صلاة عيسي خلف المهدي ثابتة في عدّة أخبار صحيحة، بإخبار رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وهو الصادق المصدّق الذي لا يخلف خبره» «4».

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 3/ 367.

(2) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 6/ 17.

(3) تهذيب الكمال 25/ 149.

(4) الحاوي للفتاوي 2/ 167.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 191

أقول:

فظهر سقوط قول السعد التفتازاني: «فما يقال: إنّ عيسي يقتدي بالمهدي أو بالعكس، شي ء لا مستند له، فلا ينبغي أن يعوّل عليه» «1».

المهدي من عترة النبي أهل بيته: … ص: 191

وهذا أيضاً ممّا تواتر عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم في أحاديث المسلمين، كما عرفت التصريح بذلك في بعض الكلمات … ومن ذلك:

ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم- واللفظ للأول- قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم: «لا تقوم السّاعة حتي يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» «2».

وما أخرجه ابن ماجة في باب خروج المهدي عن علي قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم: «المهدي منّا أهل البيت يصلحه اللَّه في ليلة» «3».

وما أخرجه أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدري: قال قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم: «لا تقوم الساعة حتي تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً قال: ثمّ

__________________________________________________

(1) شرح المقاصد 5/ 313.

(2) مسند أحمد 1/ 376، سنن الترمذي 3/ 343، سنن أبي داود 4/ 151.

(3) سنن ابن ماجة 2/ 1367.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 192

يخرج رجل من عترتي- أو من أهل بيتي- يملؤها قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وعدواناً» «1» وأخرجه الحاكم بالسّند بلفظ «أهل بيتي» وقال: «هذا

حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه».

ووافقه الذهبي في تلخيصه «2».

وأخرجه عن أبي سعيد الخدري بلفظ «من عترتي» قال: «هذا حديث صحيح علي شرط مسلم. ووافقه الذهبي» «3».

المهدي من ولد فاطمة: … ص: 192

وهو من ولد فاطمة بضعة النبيّ وسيدة نساء العالمين … ومن الأحاديث في ذلك:

ما أخرجه أبو داود وابن ماجة وغيرهما عن أُمّ سلمة عن النبي عليه وآله السلام: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة» «4».

وأخرجه الحاكم والذهبي عن سعيد بن المسيّب عن أُم سلمة

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 3/ 36.

(2) المستدرك علي الصحيحين 4/ 557.

(3) المستدرك علي الصحيحين 4/ 558.

(4) سنن أبي داود، المستدرك، سنن ابن ماجة، التاج 5/ 343.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 193

انّها سمعت رسول اللَّه يذكر المهدي فقال: «نعم هو حق وهو من بني فاطمة» «1».

وصحّح في التاج سندي أبي داود والحاكم «2».

المهدي من ولد الحسين: … ص: 193

وتعتقد الشيعة الإثنا عشريّة بأنّ المهدي من ولد الإمام الشهيد السّبط أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام، وأخبارهم بذلك متواترة، وتوافقت معها روايات أهل السنّة- في قسمٍ منها- فكان هذا القول هو المتّفق عليه بين الفريقين، كما سيأتي ذكر أسماء جماعة من مشاهير أهل السنّة في الحديث والتاريخ وغيرهما القائلين بأنّ المهدي ابن الإمام الحسن الزكي العسكري عليه السلام، من ولد الحسين.

وانفردت كتب أُولئك القوم بروايات تفيد أنّه من ولد الإمام الحسن السبط الأكبر عليه السلام، وبه قال جماعة منهم:

قال الشيخ علي القاري: «واختلف في أنّه من بني الحسن أو من بني الحسين. ويمكن أن يكون جامعاً بين النسبتين الحسنين، والأظهر أنّه من جهة الأب حسني، ومن جانب الأُم حسيني، قياساً علي ما وقع في

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 4/ 557.

(2) التاج الجامع للأُصول 5/ 343.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 194

ولدي إبراهيم وهما إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، حيث كان أنبياء بني إسرائيل كلّهم من بني إسحاق وانّما نبيّ من ذريّة إسماعيل نبيّنا صلّي اللَّه عليه وسلّم وقام مقام

الكلّ ونعم العوض وصار خاتم الأنبياء، فكذلك لمّا ظهرت أكثر الأئمّة وأكابر الأُمّة من ولد الحسين، فناسب أن ينجبر الحسن بأن أعطي له ولد يكون خاتم الأولياء ويقوم مقام سائر الأصفياء، علي أنّه قد قيل: لما نزل الحسن رضي اللَّه تعالي عنه عن الخلافة الصوريّة- كما ورد في منقبته في الأحاديث النبوية- أعطي له لواء ولاية المرتبة القطبية، فالمناسب أن يكون من جملتها النسبة المهدويّة المقارنة للنبوة العيسويّة، واتّفاقها علي إعلاء كلمة الملّة النبويّة علي صاحبها أُلوف السلام وآلاف التحيّة. وسيأتي في حديث أبي إسحاق عن علي كرم اللَّه تعالي وجهه ما هو صريح في هذا المعني.

واللَّه تعالي أعلم» «1».

أقول:

أوّلا: إنّ قصّة «المهدي» من الأُمور الغيبيّة التي أخبر عنها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم- كما أخبر عن القبر والقيامة وأحوالها، وعن الفتن والملاحم وعن أشراط السّاعة وقضايا الدّجال وغير ذلك- ولا يجوز الإعتماد في

__________________________________________________

(1) المرقاة في شرح المشكاة 5/ 179.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 195

مثل هذه الأُمور الاعتقاديّة إلّاعلي الأخبار الصحيحة المتقنة الواردة عنه، فكيف بمثل ما ذكره القاري من الإستحسانات والتخيّلات التي صنعتها الأفكار الفاسدة والأوهام الكاسدة.

وعلي الجملة، فإنّه لا يجوز الإعتقاد بشي ء استناداً إلي «القيل» و «المناسب أن يكون … » وما هو من هذا القبيل.

وثانياً: انّ هذا الوجه الذي ذكره لأن يكون «المهدي» من ولد «الحسن» وهو «تنازل الحسن عن الخلافة» إن هو إلّاوجه اصطنعه القوم في مقابل ما ورد في أخبار أهل البيت عليهم السلام من أنّ اللَّه سبحانه جعل «المهدي» من ولد «الحسين» لاستشهاده في سبيل اللَّه وحفظاً لدينه من كيد المنافقين من بني أُميّة وغيرهم.

وثالثاً: قوله: «وسيأتي في حديث أبي إسحاق … »

يفيد أنّ الحديث المشار إليه هو عمدة القائلين بأنّ «المهدي» من ولد «الحسن» لا «الحسين» وهذا هو الكلام عليه بالتفصيل:

أخرج صاحب المشكاة عن أبي إسحاق قال: «قال علي- ونظر إلي ابنه الحسن- قال: إنّ ابني هذا سيّد كما سمّاه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وسيخرج من صلب رجل يسمّي باسم نبيّكم، يشبهه في الخُلق ولا يشبهه في الخَلق. ثمّ ذكر قصّة: يملأ الأرض عدلًا. رواه

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 196

أبو داود ولم يذكر القصة» «1».

قال القاري بشرحه: «فهذا الحديث دليل صريح علي ما قدّمناه من أنّ المهدي من أولاد الحسن ويكون له انتساب من جهة الأُم إلي الحسين، جمعاً بين الأدلّة. وبه يبطل قول الشيعة: انّ المهدي هو محمّد ابن الحسن العسكري القائم المنتظر، فإنّه حسيني بالإتّفاق. لا يقال: لعلَّ علياً رضي اللَّه تعالي عنه أراد به غير المهدي. فإنّا نقول: يبطله قصّة يملأ الأرض عدلًا، إذ لا يعرف في السادات الحسينية ولا الحسنية من ملأ الأرض عدلًا إلّاما ثبت في حق المهدي الموعود» «2».

أقول:

إنّه لا دليل في الأُصول الستّة المسمّاة بالصحاح عند القوم علي أنّ «المهدي» من ولد «الحسن» إلّاهذا الحديث، وهو ليس إلّافي (سنن أبي داود). قال ابن الأثير: «[د- أبو إسحاق، عمرو بن عبد اللَّه السبيعي، قال قال علي- ونظر إلي ابنه الحسن- فقال … ثمّ ذكر قصّة يملأ الأرض عدلًا] أخرجه أبو داود ولم يذكر القصّة» «3».

__________________________________________________

(1) مشكاة المصابيح 3/ 1503.

(2) المرقاة في شرح المشكاة 5/ 168.

(3) جامع الأُصول 11/ 49.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 197

وقال الشيخ منصور: «عن علي رضي اللَّه عنه قال- وقد نظر إلي ابنه الحسن-: ان ابني هذا سيّد كما سمّاه النبي،

وسيخرج من صلبه رجل يسمي باسم نبيّكم يشبهه في الخُلق ولا يشبهه في الخلق. وعنه عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: يخرج رجل من وراء النهر … رواهما أبو داود» «1».

أقول:

إذا كان هذا هو الدليل الوحيد للقول بأنّ «المهدي» من ولد «الحسن» فلا بدّ من التأمّل فيه سنداً ولفظاً ومدلولًا:

أمّا سند الحديث، فقد جاء في سنن أبي داود: «قال أبو داود:

حدّثت عن هارون بن المغيرة قال: ناعمرو بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي إسحاق، قال قال علي … ثمّ ذكر قصّة يملأ الأرض عدلًا» «2».

ويكفي لوهنه ما في أوّل السّند وآخره. أمّا أوّله فأبو داود يقول:

«حدّثت عن هارون بن المغيرة» فمن الذي حدثه به؟ وأمّا في آخره فأبو إسحاق السبيعي إنّما رأي علياً عليه السلام رؤيةً فقط، فلا بدّ وأنّه حُدّث

__________________________________________________

(1) التاج 5/ 343- 344.

(2) صحيح أبي داود 2/ 208.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 198

بذلك، فمن الذي حدّثه به؟

هذا، وقد جاء في حاشية جامع الأُصول عن الحافظ المنذري:

«قال المنذري: هذا منقطع، أبو إسحاق رأي علياً رؤية فقط. وقال فيه أبو داود: حدّثت عن هارون بن المغيرة» كما جاء في حاشية المشكاة:

«إسناد الحديث ضعيف».

وأمّا لفظه فمختلف صدراً وذيلًا، أمّا صدره ففي أنّه «الحسن» أو «الحسين»، فقد قال القندوزي الحنفي «وعن أبي اسحاق قال: قال علي- ونظر إلي ابنه الحسين- قال: إنّ ابني هذا سيد … ثمّ ذكر قصّة يملأ الأرض عدلًا.

رواه أبو داود ولم يذكر القصّة» «1» وهذا نفس ما جاء في (جامع الأصول) و (المشكاة) نقلًا عن (أبي داود) إلّاأنّه بلفظ «الحسين» لا «الحسن».

هذا بالنسبة إلي حديث أبي داود، وكذلك الأمر بالنسبة إلي حديث غيره من أحاديث الباب، الواردة

في بعض الكتب، فهذا السّلمي الشافعي يروي في كتاب (عقد الدرر في أخبار المنتظر) عن الأعمش عن أبي وائل مثل حديث أبي إسحاق السبيعي، لكن النسخ

__________________________________________________

(1) ينابيع المودة: 518.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 199

مختلفة، فعن النسخة الأصليّة، وكذا المستنسخة عن خطّ المؤلّف:

«نظر إلي الحسين» وفي بعض النسخ الأُخري منه: «نظر إلي الحسن».

وروي عن الحافظ أبي نعيم في (صفة المهدي) حديث حذيفة الآتي عن (ذخائر العقبي)، فكان في النسخة الأصليّة والمكتوبة عن خطّه أيضاً: «وضرب بيده علي الحسين»، لكن في بعض النسخ الأُخري: «الحسن» «1».

فهل وقع هذا الاختلاف عندهم من جهة الشبه بين لفظي «الحسن» و «الحسين» كتابةً، أو كان هناك قصد وعمد من بعض المغرضين، كيلا تصل الحقائق إلي الأُمّة كما هي وكما تروي عن أهل البيت الذين هم أدري بما في البيت؟ إنّه وإن لم نستبعد الاحتمال الأوّل، لكنّ الذي يقوي في النظر هو الثاني، لقرائن كثيرة عندنا تؤيّده، لا سيّما فيما يتعلّق بأهل البيت، وحتّي في هذا المورد عثرنا علي قرينة قويّة علي أنّ القوم كانوا يحاولون كتم الحقيقة- وهي كون «المهدي» من ولد «الحسين» - أو كانوا يمتنعون من التصريح بها، واللَّه العالم بسبب ذلك!! وذلك:

ما رواه الإمامان الحافظان أبو الحسين أحمد بن جعفر بن

__________________________________________________

(1) عقد الدرر: 23- 24.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 200

المنادي، وأبو عبد اللَّه نعيم بن حماد، عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيّب: أحق المهدي؟ قال: نعم، هو حق. قلت: ممّن هو؟ قال: من قريش. قال: قلت من أي قريش؟ قال: من بني هاشم. قلت: من أي بني هاشم؟ قال من ولد عبد المطلب. قلت: من أيّ ولد عبد المطلب؟

قال: من أولاد فاطمة. قلت: من

أي ولد فاطمة؟ قال: حسبك الآن» «1».

قلت: فلماذا «حسبك الآن»؟ اللَّه أعلم!!

هذا فيما يتعلّق بصدر حديث أبي داود.

وأمّا ذيله، فقد عرفت أنّ أبا داود يقول: «وذكر قصّة يملأ الأرض عدلًا» فمن الذي «ذكر»؟ ولماذا لم يذكر أبو داود القصّة، كما نبّه عليه ابن الأثير وصاحب المشكاة وغيرهما؟ ثمّ جاء صاحب (التاج) فلم يذكر قوله: «وذكر قصّة يملأ الأرض عدلًا» أصلًا، ممّا يؤكّد أنّ هذه القطعة لم تكن من الحديث، ويزيده تأكيداً أنّ الحافظ البيهقي رواه في كتاب (البعث والنشور) عن أبي إسحاق كذلك، أي إلي قوله: «يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق» «2».

وأمّا مفاد الحديث ومدلوله، فإنّه بعد ما عرفت الإضطراب في

__________________________________________________

(1) عقد الدرر: 23.

(2) عقد الدرر: 31.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 201

لفظه ومتنه لا يدلّ علي شي ء، فلا يبقي مجال لما ذكره القاري، ويسقط ما ادّعاه من أنّ الحديث يبطل ما تذهب إليه الشيعة الإماميّة! وأيضاً:

يبقي الإشكال الذي أورده بقوله: «لا يقال: لعلّ عليّاً … » علي حاله، إذ قصّة «يملأ الأرض عدلًا» لم يظهر كونها من الحديث عن علي عليه السلام لو كان بلفظ «الحسن».

وتلخّص:

أن لا دلالة لحديث أبي داود علي ما ذهب إليه بعض أهل السنّة من أنّ «المهدي» من ولد «الحسن» إن صحّ سنده … وقد ثبت عندنا أن لا مستمسك لهذا القول في الكتب المعتبرة المشتهرة عندهم إلّاهذا الحديث الذي عرفت حاله سنداً ومتناً ودلالةً.

فما ذهب إليه أصحابنا- ووافقهم عليه من غيرهم كثيرون- من أنّه من ولد «الحسين» هو الحق، وبه تواترت الأخبار عندهم، ومن أخبار أهل السنّة في ذلك:

* قوله صلي الله عليه و آله و سلم: «لو لم يبق من الدّنيا إلّايوم واحد لطوّل اللَّه عزّ وجلّ

ذلك اليوم حتي يبعث فيه رجلًا من ولدي، اسمه اسمي. فقام سلمان الفارسي- رضي اللَّه عنه- فقال: يا رسول اللَّه، من أيّ ولدك؟

قال: من ولدي هذا. وضرب بيده علي الحسين».

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 202

أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الأربعين حديثاً في المهدي، وغيرهما، وراجع: المنار المنيف لابن القيّم 148، عقد الدرر: 24، فرائد السمطين 2/ 325، القول المختصر: 7.

* وقوله صلي الله عليه و آله و سلم لفاطمة بضعته في مرض وفاته: «ما يبكيك يا فاطمة؟ أما علمت أنّ اللَّه تعالي اطّلع إلي الأرض إطلاعة فاختار منها أباك فبعثه نبيّاً، ثمّ اطّلع ثانيةً فاختار بعلك، فأوحي إليّ فأنكحته واتّخذته وصيّاً. أمّا علمت أنّك بكرامة اللَّه تعالي أباك زوّجك أعلمهم علماً وأكثرهم حلماً وأقدمهم سلماً؟ فضحكت واستبشرت. فأراد رسول اللَّه- صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- أن يزيدها مزيد الخير كلّه الذي قسمه اللَّه لمحمّد وآل محمّد، فقال لها: يا فاطمة، ولعليّ ثمانية أضراس- يعني مناقب-: إيمان باللَّه ورسوله، وحكمته، وزوجته، وسبطاه الحسن والحسين، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. يا فاطمة: إنّا أهل بيت أعطينا ست خصال لم يعطها أحد من الأوّلين ولا يدركها أحد من الآخرين غيرنا أهل البيت: نبيّنا خير الأنبياء وهو أبوك، ووصيّنا خير الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا خير الشهداء وهو حمزة عمّ أبيك. ومنّا سبطا هذه الأُمّة وهما ابناك، ومنّا مهدي الأُمّة الذي يصلّي عيسي خلفه.

ثمّ ضرب علي منكب الحسين فقال: من هذا مهدي الأُمّة».

أخرجه الدارقطني وأبو المظفّر السمعاني، وانظر: البيان

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 203

لأبي عبد اللَّه الكنجي الشافعي- مع كفاية الطالب-: 501، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 295.

* وعن عبد اللَّه بن عمرو: «يخرج

المهدي من ولد الحسين من قبل المشرق، لو استقبلته الجبال لهدمها واتّخذ فيها طرقاً».

أخرجه الحافظ نعيم بن حماد، والحافظ الطبراني، والحافظ أبو نعيم الإصفهاني. راجع: عقد الدرر للسلمي الشافعي: 223.

ذكر بعض من قال بأنّ المهدي ابن الحسن العسكري: … ص: 203

ولقد صرّح جماعة كبيرة من أعلام أهل السنّة- بما فيهم المحدّثون والمؤرّخون والعرفاء والصّوفيّة- بأنّ «المهدي» هو ابن «الحسن بن علي العسكري» ونصّوا علي ولادته، ومنهم:

أحمد بن محمّد بن هاشم البلاذري، المتوفي سنة 279. أبو بكر البيهقي، المتوفي سنة 458. أبو محمّد عبد اللَّه بن الخشّاب، المتوفي سنة 567. إبن الأزرق المؤرّخ، المتوفي سنة 590. ابن عربي الأندلسي، المتوفي سنة 638. كمال الدين ابن طلحة، المتوفي سنة 652. سبط ابن الجوزي، المتوفي سنة 654. أبو عبد اللَّه الكنجي الشافعي، المتوفي سنة 658. صدر الدين القونوي، المتوفي سنة 672. صدر الدين الحموئي، المتوفي سنة 723. عمر بن الوردي،

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 204

المتوفي سنة 749. صلاح الدين الصفدي، المتوفي سنة 764.

شمس الدين ابن الجزري، المتوفي سنة 833. ابن الصبّاغ المالكي، المتوفي سنة 855. جلال الدين السيوطي، المتوفي سنة 911. الشيخ عبد الوهاب الشعراني، المتوفي سنة 973. ابن حجر المكّي، المتوفي سنة 973. الشيخ علي القاري، المتوفي سنة 1013. الشيخ عبد الحق الدهلوي، المتوفي سنة 1052. شاه ولي اللَّه الدهلوي، المتوفي سنة 1176. الشيخ القندوزي الحنفي، المتوفي سنة 1294.

النّظر في كلام ابن تيميّة والردُّ عليه: … ص: 204

إذا عرفت ما ذكرناه في الفصول المتقدّمة، ظهر لك ما في كلمات ابن تيميّة في المقام، من المزاعم الباطلة والدعاوي العاطلة:

أمّا قوله: «ذكر محمّد بن جرير الطبري وعبد الباقي ابن قانع وغيرهما من أهل العلم بالأنساب والتواريخ: إنّ الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب» ففيه:

نسبة القول بأنّ الإمام العسكري لم يعقب إلي الطبري … ص: 204

أوّلًا: إنّ المرجع المعتمد عليه في مثل هذه الأُمور هم «أهل البيت» ومن كان منهم ومن شيعتهم العارفين بأحوالهم، لا الأباعد

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 205

الذين لا يمتّون إليهم بصلة، فكيف بالمقاطعين والمناوئين لهم!

وثانياً: قد عرفت أنّ القائلين بولادة الإمام المهدي ابن الحسن العسكري عليهما السلام من غير شيعتهم كثيرون.

وثالثاً: لقد سبق وأن نسب هذا القول إلي الطبري وعبد الباقي وغيرهما من أهل العلم بالنسب، فقال محمّد رشاد سالم في ذيله هناك ما هذا نصّه: «قد أشار الأستاذ محبّ الدين الخطيب في تعليقه علي المنتقي من منهاج الإعتدال، تعليق (2) ص (3) إلي واقعةٍ حدثت سنة 302، وهي مذكورة في تاريخ الطبري، تبيّن أنّ الحسن العسكري لم يعقب. وقد ذكر الواقعة عريب بن سعد القرطبي في صلة تاريخ الطبري 8/ 34- 35 القاهرة 1358/ 1939» «1».

فاكتفي هناك ب «الإشارة» إلي «الإشارة». ثمّ أوضح ذلك هنا قائلًا:

«أشرت هناك إلي أنّ عريب بن سعد القرطبي قد ذكر في (صلة تاريخ الطبري) أنّ الحسن بن علي العسكري لم يعقب، وخلاصة هذه الواقعة في (تاريخ الطبري 11/ 49- 50 كتاب الصلة: إنّ رجلًا زعم أنّه محمّد بن الحسين المهدي فأمر المقتدر بإحضار ابن طومار نقيب الطّالبيين ومشايخ آل أبي طالب، فسأله عن نسبته، فزعم أنّه محمّد بن الحسن بن

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 1/ 122 هامش الطبعة الجديدة.

سلسلة اعرف الحق

تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 206

موسي بن جعفر الرضا، وأنّه قدم من البادية. فقال له ابن طومار: لم يعقب الحسن- وكان قوم يقولون: إنّه أعقب وقوم قالوا: لم يعقب … الخ» «1» ثمّ نقل كلام بعض المعاصرين وهو الدكتور أحمد صبحي …

هذا غاية ما أمكن الرجل أن يذكره تشييداً وتأييداً لنسبة نفي الإعقاب إلي الطبري وغيره من علماء التواريخ والأنساب!

فابن تيميّة لم يذكر لا موضع كلام الطبري وابن قانع، ولا واحداً من أسماء غيرهما من أهل التاريخ والنّسب!! وهذا الرجل الناشر لكتابه والمعلِّق عليه، لم يأت بموضع كلام الطبري ولا غيره مطلقاً، وانّما أشار إلي وجود «واقعة» كما قال، أوردها عريب بن سعد القرطبي في كتاب (صلة تاريخ الطبري)!!

وهو تارةً يكتفي ب «إشارة الأستاذ محبّ الدين … » إلي تلك «الواقعة» الحادثة في «سنة 302» ويدّعي كونها مذكورة في تاريخ الطبري «لا بدّ أن تكون في حوادث السنة المذكورة!! وهو يزعم أنّ الواقعة «تبين» أنّ الحسن العسكري لم يعقب. ثمّ يضيف أنّه «قد ذكر الواقعة عريب … » فكأنّها مذكورة في (تاريخ الطبري) و (صلة تاريخ الطبري) معاً، في «سنة 302»!!

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4/ 87 هامش الطبعة الجديدة.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 207

وتارة أُخري: لا ينسب الخبر إلي «الطبري» وانّما ينسبه إلي «عريب» ويقول من قبل: «أنّ عريب بن سعد القرطبي قد ذكر في صلة تاريخ الطبري أنّ الحسن بن علي العسكري لم يعقب»!! ثمّ إنّه لم يذكر «الواقعة» بتمامها، وإنّما ذكر «خلاصة هذه الواقعة … ».

فنقول:

1- الطّبري- بغض النظر عن تكلّمهم فيه وفي كتابه- غير قائل في (تاريخه) بأنّ الحسن بن علي العسكري لم يعقب، فنسبة القول بذلك إليه كذب.

2- إنّ (تاريخ الطبري)

ينتهي بحوادث «سنة 302» وليس فيها الواقعة. فالقول بوجودها فيه كذب.

3- وعبد الباقي ابن قانع الأُموي البغدادي- لو فرض كونه قائلًا بذلك، وفرض أيضاً كونه من أهل التاريخ والنسب- مجروحٌ مقدوح فيه، أورده الحافظان الذهبي وابن حجر في (الميزان) «1» و (لسان الميزان) «2» وترجم له الذهبي في (سير أعلام النبلاء) فلم ينقل إلّا كلمات الذم والتضعيف «3» … لكنّ الظاهر أنّه غير قائل بذلك، وإلّا

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2/ 532.

(2) لسان الميزان 3/ 338.

(3) سير أعلام النبلاء 15/ 526.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 208

لذكر كلامه المقلّدون لابن تيميّة. فالنسبة كاذبة.

4- ولم يذكر ابن تيميّة اسم أحد من أهل التاريخ والنسب غير الرّجلين … ولو كان لأبان ذلك مقلِّدوه. فالنّسبة كاذبة.

5- وعريب بن سعد (أو سعيد) صاحب (صلة تاريخ الطبري) مجهول، لا ذكر له في كتب الرّجال ولا نقل عنه في كتب الحديث أصلًا، فالإعتماد علي نقل هكذا شخص ل «واقعةٍ» لنفي مطلب مثل ما نحن فيه، باطل.

6- وعريب القرطبي- هذا- لم يذكر ولم يقل «أنّ الحسن بن علي العسكري لم يعقب» فالنسبة كاذبة.

7- و «الواقعة» المحكيّة في (صلة تاريخ الطبري) لا سند لها، والإستناد إلي واقعةٍ هذا حالها لنفي أمر اعتقادي وللردّ علي قول الاماميّة، لا يصدر إلّامن جاهل لا يعرف طريقة الإستدلال، أو من متعصّب مبغض للنبيّ والآل.

8- علي أنّ «الواقعة» لا علاقة لها ب «المهدي» ولا «الحسن بن علي العسكري» … ولعلّه لذا لم يورد الدكتور المحقّق القصّة ومحلّ الشاهد منها … بل أضاف قبل ذكر خلاصتها جملة: «إنّ رجلًا زعم أنّه محمّد بن الحسن المهدي» وستري أنّ كلتا الجملتين كذب.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 209

9- «الواقعة» كما في

(صلة تاريخ الطبري) في حوادث «سنة 302» هي: «وفيها جاء رجل حسن البزّة، طيب الرائحة، إلي باب غريب خال المقتدر، وعليه درّاعة وخفّ أحمر وسيف جديد بحمائل، وهو راكب فرساً ومعه غلام، فاستأذن للدخول، فمنعه البوّاب، فانتهره وأغلظ عليه ونزل فدخل، ثمّ قعد إلي جانب الخال وسلّم عليه بغير الإمرة. فقال له غريب- وقد استبشع أمره-: ما تقول أعزّك اللَّه؟ قال: أنا رجل من ولد علي بن أبي طالب، وعندي نصيحة للخليفة لا يسعني أن يسمعها غيره … فاجتهد الوزير والحاجب نصر والخال أن يعلمهم النصيحة ما هي، فأبي حتي أُدخل إلي الخليفة …

وأمر المقتدر أن يحضر ابن طومار نقيب الطالبيين ومشايخ آل أبي طالب … فسأل ابن طومار عن نسبته، فزعم أنّه محمّد بن الحسن بن علي بن موسي بن جعفر الرضا، وأنّه قدم من البادية. فقال له ابن طومار: لم يعقب الحسن- وكان قوم يقولون: انّه أعقب وقوم قالوا:

لم يعقب- فبقي الناس في حيثرة من أمره، حتي قال ابن طومار: هذا يزعم أنّه قدم من البادية وسيفه جديد الحلية والصنعة، فابعثوا بالسيف إلي دار الطاق وسلوا عن صانعه وعن نصله فبعث به إلي أصحاب السيوف بباب الطاق، فعرفوه وأحضروا رجلًا ابتاعه من صيقل هناك، فقيل له: لمن ابتعت هذا السيف؟ فقال: لرجل يعرف

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 210

بابن الضبعي، كان أبوه من أصحاب ابن الفرات، وتقلّد له المظالم بحلب، فأُحضر الضبعي الشيخ، وجمع بينه وبين هذا المدّعي إلي بني أبي طالب، فأقرّ بأنّه ابنه، فاضطرب الدعي وتلجلج في قوله، فبكي الشيخ بين يدي الوزير حتي رحمه ووعده بأن يستوهب عقوبته ويحبسه أو ينفيه. فضجَّ بنو هاشم وقالوا: يجب أن يُشهر هذا

بين الناس ويعاقب أشدُّ عقوبة. ثمّ حبس الدعي وحمل بعد ذلك علي جمل وشهر في الجانبين، يوم التروية ويوم عرفة، ثمّ حبس في حبس المصريين بالجانب الغربي» «1».

أقول:

فهذه هي «الحكاية» الواردة في «صلة تاريخ الطبري»، وهل هي «واقعة» أو لا؟ اللَّه العالم … ولكنّها- كما تري- لا ذكر فيها ل «المهدي» بل الرجل ادّعي كونه «محمّد بن الحسن بن علي بن موسي بن جعفر الرضا» وهذا غير «المهدي» الذي تقول به الشيعة ويعترف به من غيرهم جماعة، فإنّه «محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسي بن جعفر الصادق» والذي أنكر ابن طومار- وغيره ممّن أنكر، بناءً علي صحّة الخبر واعتبار ما صدر عنهم من الإنكار- هو إعقاب

__________________________________________________

(1) صلة تاريخ الطبري، المطبوع معه. انظر ج 11/ 49- 50.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 211

«الحسن بن علي بن موسي بن جعفر»، وأيّ ربط لهذا بما نحن فيه، أيّها «الدكتور» الأريب! وأيّها «الأُستاذ الخطيب»؟!

وأمّا قوله: «والإماميّة الذين يزعمون أنّه كان له ولد يدّعون أنّه دخل السّرداب بسامراء وهو صغير … فكيف يكون من يستحقُّ الحجر عليه في بدنه وماله إماماً لجميع المسلمين معصوماً، لا يكون أحد مؤمناً إلّا بالإيمان به».

أقول:

فهذا واضح البطلان، فإنّ «الإمامة» مثل «النبوّة» لا يعتبر فيها البلوغ. قال اللَّه تعالي في عيسي عليه السلام «فَأشَارَتْ إلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً* قَالَ إنّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً* وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أيْنَ مَا كُنْتُ وَأوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً» «1».

وأمّا قوله: «ثمّ إنّ هذا باتّفاق منهم- سواء قدّر وجوده أو عدمه- لا ينتفعون به لا في دين ولا في دنيا … ».

أقول:

هذا كتاب، بل المتّفق عليهم

بينهم هو الإنتفاع منه في الدين والدنيا، بل الإنتفاع واقع مستمر، ولكنّ المنافقين لا يعلمون!!

__________________________________________________

(1) سورة مريم: 29- 31.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 212

وعلي الجملة، فقد أثبت الأصحاب وقرّروا في محلّه من كتب الإمامة: أنّ الإمامة واجبة علي اللَّه من باب اللطف، وأنّ الأرض لا تخلو من إمام، وأنّ وجود الإمام لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا، كما أنّ الرسالة واجبة علي اللَّه كذلك، وأنّه يرسل الرّسل مبشّرين ومنذرين لئلّا يكون للناس علي اللَّه حجّة، وليهلك من هلك عن بيّنة ويحيي من حيّ عن بيّنة، فكانت الأُمم كلّما جاءهم رسولٌ من عند اللَّه وقتلوه بغير حق، أرسل إليهم غيره، فكان منهم من يقتل في اليوم الأول من دعوته، حتي جاء نبيّنا صلي الله عليه و آله و سلم فحاربه قومه وآذوه حتي قال: ما أُوذي نبيّ بمثل ما أُوذيت … وكان من ذلك أنّهم حبسوه في الشعب … لكن لم تبطل نبوّته مدّة كونه فيه … وكذلك الأئمّة من بعده صلي الله عليه و آله و سلم أُوذوا وقتلوا، فلم يكن إعراض الأُمّة عنهم- واتّباعهم لأهل الفسق والفجور بعنوان الخلفاء عن الرسول- بمبطل لإمامتهم، كما ليس غيبة الثاني عشر منهم بمبطل لإمامته.

هذا موجز الكلام في هذا المقام، وللتفصيل مجال آخر.

مسألة طول العمر … ص: 212

وأمّا قوله: «ثمّ إنّ عمر واحدٍ من المسلمين هذه المدّة أمر يعرف كذبه بالعادة المطّردة في أُمّة محمّد، فلا يعرف أحد ولد في دين الاسلام

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 213

وعاش مائة وعشرين سنة، فضلًا عن هذا العمر … ».

أقول:

إنّ اللَّه عزّ وجلّ قادر علي أن يبقي الإنسان- أي انسان شاء- بأيّ مقدار شاء، وخوارق العادات في العالم بإذنه وارادته كثيرة لا تحصي

… وهذا لا يختص بأُمّة دون أُمّة، ومن الذي يمكنه أن يستقرئ أحوال من ولد في الإسلام من الأولين والآخرين حتي يدّعي أن لا يعرف أحد ولد في دين الإسلام وعاش مائة وعشرين سنة، حتّي يحكم بخروجه عن هذا الدين إذا وجده، وهل هذا معني ما رووه عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم- وصحّحوه- أنّه قال: «عمر امّتي من ستّين إلي سبعين»؟

وعلي الجملة، فإنّ العمر بيد اللَّه، فإن كانت المصلحة في بقاء الانسان مدّة مديدةً أبقاه وإلّا أماته متي اقتضت، ولا فرق بين هذه الأُمّة وغيرها، نعم كان الغالب في الأُمم السالفة طول العمر- ومنهم يموت في شبابه- والغالب في هذه الأُمّة عدم البلوغ إلي المائة، ومنهم من يبقي ويعمّر أكثر من المائة بكثير، وتلك أخبار المعمّرين في الكتب مسطورة، حتي أفردها بعضهم فألّف كتاب (المعمّرون والوصايا).

هذا، وقد تكلّم غير واحدٍ من أعلام أهل السنة في مسألة طول عمر المهدي واعترض علي الإمامية، ومنهم من نفي وجود الإمام

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 214

المهدي من هذا الطريق، وانبري أصحابنا للجواب عن هذه الشبهة بوجوه كافية وأدلّة وافية، فلاحظ الكتب المفصلة.

وأمّا قوله: «واحتجاجهم بحياة الخضر احتجاج باطل علي باطل، فمن الذي يسلّم لهم بقاء الخضر، والذي عليه سائر العلماء المحقّقون أنّه مات، وبتقدير بقائه فليس هو من هذه الأُمّة».

أقول:

الإحتجاج ببقاء الخضر ان هو إلّااحتجاج بموردٍ من الموارد التي اقتضت الحكمة الالهية بقاء شخص من الأشخاص في هذا العالم، وقد قدّمنا أنّ هذا لا يختص بأُمّة دون أُمّة، إذ المناط القدرة الإلهية والحكمة المقتضية لذلك، أمّا القدرة فلا ينكرها مسلم مؤمن، وأمّا الحكمة فاللَّه العالم بها … والخضر واحدٌ من بني آدم شاء

اللَّه عزّ وجلّ أن يبقي القرون الكثيرة حتي زمن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، حيث روي غير واحد من الأئمّة حديث وروده دار النبي صلي الله عليه و آله و سلم بعد وفاته للتعزية، فإنّه ممّا يفيد أنّه حيّ موجود كما صرّح بعض الحفاظ «1».

بل لقد عنونه الحافظ ابن حجر في (الإصابة في معرفة الصحابة) قال: «ولم أر من ذكره فيهم من القدماء مع ذهاب الأكثر إلي الأخذ بما

__________________________________________________

(1) المرقاة في شرح المشكاة 5/ 504.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 215

ورد من أخباره من تعميره وبقائه» فتكلّم عن نسبه ونبوّته وبقائه علي نحو التّفصيل جدّاً، وعبارته المذكورة صريحة في ذهاب الأكثر إلي بقائه، وبهذا نصّ كثيرون من الأئمّة- كما نقل عنهم- كالحسن البصري والثعلبي والنووي وأبي عمرو ابن الصّلاح وأبي عبد الرحمن السلمي واليافعي وغيرهم، ولهم في ذلك أخبار وحكايات أفردها بعضهم- كعبد المغيث بن زهير الحنبلي- بالتأليف، قال النووي في (تهذيبه):

«قال الأكثرون من العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا وذلك متّفق عليه عند الصّوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكايتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير، أكثر من أن تحصي وأشهر من أن تذكر». وقال أبو عمرو ابن الصّلاح في (فتاويه): «هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة منهم. قال: وإنّما شذّ بإنكاره بعض المحدّثين». وقال الحافظ ابن حجر- في آخر البحث-: «قلت: وذكر لي الحافظ أبو الفضل العراقي شيخنا: أنّ الشيخ عبد اللَّه بن أسعد اليافعي كان يعتقد أن الخضرحي.

قال: فذكرت له ما نقل عن البخاري والحربي وغيرهما من إنكار ذلك، فغضب وقال: من يدّعي أنّه مات غضبت عليه. قال: فقلنا: رجعنا

من اعتقاد موته. انتهي. وأدركنا بعض من كان يدّعي أنّه يجتمع بالخضر، منهم القاضي علم الدين البساطي الذي ولي قضاء المالكية في زمن

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 216

الظاهر برقوق، واللَّه تعالي أعلم وبغيبه أحكم».

هذا، ومثل الخضر في البقاء في هذا العالم: إلياس، فعن محمّد بن جرير الطبري: إنّ الخضر وإلياس باقيان يسيران في الأرض «1». أمّا بقاء عيسي عليه السلام فمن الضروريّات.

كما تواتر الخبر في بقاء الدّجال.

وأمّا قوله: ردّاً علي العلّامة طاب ثراه في استدلاله بما رواه ابن الجوزي: «فيقال: الجواب عن وجوه: … ».

حديث: إسم أبيه إسم أبي … ص: 216

فأقول:

لنا هنا بحثان، أحدهما: في أنّ الحديث بلفظ «اسمه اسمي» بدون «واسم أبيه اسم أبي» رواه أحد من أهل العلم بالحديث، أو لا؟

والثاني: في أنّ الحديث بلفظ «إسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» من رواه؟ وما إسناده؟

__________________________________________________

(1) البيان في أخبار صاحب الزمان ط مع كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب: 522- ولا يخفي أنّ ابن جرير الطبري ممّن يعتمد عليه ابن تيميّة في التواريخ والأنساب وفي التفسير.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 217

البحث الأوّل:

نقول- كما قال ابن تيميّة- أحاديث المهدي معروفة، رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، كحديث عبد اللَّه بن مسعود، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد … » لكنّ الحديث عن ابن مسعود ليس كما ذكره ابن تيميّة.

وفي رواية أحمد في مسند عبد اللَّه بن مسعود عن عمر بن عبيد عن عاصم ابن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبد اللَّه قال: «قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا تنقضي الأيام ولا يذهب الدهر حتي يملك رجل من أهل بيتي اسمه

يواطئ اسمي» «1».

وعن يحيي بن سعيد عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبد اللَّه عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: «لا تذهب الدنيا أو قال: لا تنقضي الدنيا حتي يملك العرب رجل من أهل بيتي ويواطئ اسمه اسمي» «2».

ورواه بنفس السند واللفظ مرة أُخري «3».

وعن عمر بن عبيد الطنافسي، عن عاصم عن زر عن عبد اللَّه

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 1/ 376.

(2) مسند أحمد 1/ 377.

(3) مسند أحمد 1/ 430.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 218

باللّفظ «1».

وفي رواية التّرمذي «حدّثنا عبيد بن أسباط بن محمّد القرشي الكوفي قال: حدّثني أبي، حدّثنا سفيان الثوري عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد اللَّه قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا تذهب الدنيا حتي يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي. قال أبو عيسي: وفي الباب عن: علي وأبي سعيد وأُمّ سلمة وأبي هريرة. وهذا حديث حسن صحيح» «2».

البحث الثاني: والحديث في رواية أبي داود كذلك، غير أنّه رواه في أحد الأسانيد بزيادة لفظ «واسم أبيه اسم أبي» وهذا نصّ ما ذكره:

«حدّثنا مسدد: إن عمر بن عبيد حدّثهم. وثنا محمّد بن العلاء ثنا أبو بكر- يعني ابن عيّاش- حدثنا مسدّد ثنا يحيي، عن سفيان، وثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبيد اللَّه بن موسي، أخبرنا زائدة. حدثنا أحمد بن إبراهيم حدّثني فطر- المعني واحد- كلّهم عن عاصم، عن زر، عن عبد اللَّه، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لو لم يبق من الدنيا إلّايوم، قال زائدة: لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتي يبعث فيه رجل منّي أو من أهل

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 1/ 448.

(2) صحيح الترمذي 4/ 438.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص:

219

بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي: زاد في حديث فطر: يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً. وقال في حديث سفيان:

لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتي يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي.

قال أبو داود: لفظ عمر وأبي بكر بمعني سفيان» «1».

فظهر التطابق في الرواية لحديث عبد اللَّه بن مسعود بين رواية أحمد والترمذي وأبي داود، وهو المطابق لما تذهب إليه الإماميّة، ووافقهم عليه من غيرهم كثيرون من أنّه «محمّد بن الحسن العسكري» فاسمه يواطئ اسم جدّه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم.

وانفرد أبو داود برواية الحديث بسند فيه «زائدة» بزيادة لفظ «واسم أبيه اسم أبي».

وقد تكلّم علماء الفريقين علي هذا اللفظ سنداً ومعني وأجابوا عنه بوجوه عديدة، لا حاجة بنا إلي التطويل بإيرادها بعد ما تقرّر لزوم طرح الشاذ النادر من الأخبار، والأخذ بالمجمع عليه، لكون المجمع عليه لا ريب فيه.

وقد كرّر ابن تيميّة دعواه في لفظ حديث عبد اللَّه بن مسعود،

__________________________________________________

(1) سنن أبي داود 2/ 207.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 220

ولم يعز روايته بلفظ «واسم أبيه اسم أبي» إلي أحد غير أنّه بعد أن أورده كذلك قال: «ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أُمّ سلمة» وظاهره إخراجهما الحديث عنها بذاك اللفظ، وهو كذب في كذب. ولننقل عين عبارته:

«إنّ الأحاديث التي يحتج بها عن خروج المهدي أحاديث صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، من حديث ابن مسعود وغيره، كقوله صلّي اللَّه عليه وسلّم في الحديث الذي رواه ابن مسعود: لو لم يبق من الدنيا إلّايوم لطوّل اللَّه ذلك اليوم، حتي يخرج فيه رجل منّي أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي واسم

أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت جوراً وظلماً. ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أُمّ سلمة …

وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف، طائفة أنكروها واحتجّوا بحديث ابن ماجة أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا مهدي إلّا عيسي بن مريم. وهذا الحديث ضعيف … ».

أقول:

قد عرفت أنّ «اللفظ المتّفق عليه بين الأئمّة» هو الحديث الخالي عن «واسم أبيه اسم أبي» وأنّ هذا اللفظ ما رواه إلّاأبو داود في أحد

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 221

أسانيده، وفيه «زائدة» وقد نصّ علي أنّ هذه الزيادة من رواية هذا الرجل فحسب وما وافقه عليها أحد.

لكنّ ابن تيميّة يحاول أن يوهم أنّ الزيادة هي المتّفق عليه، وأنّ اللفظ الخالي عنها من صنع الإماميّة وتحريفٌ للحديث!! بل يريد في هذا الكلام أن يوهم أنّ اللفظ مع الزيادة مروي عن أُمّ سلمة كذلك.

ثمّ انّ ابن تيميّة تعرّض لبعض ما قيل في الجواب عن الزّيادة، إذ حملوها علي وجوه لغرض الجمع بينها وبين اللفظ المتّفق عليه، فأورد كلام العلّامة ابن طلحة الشافعي، وجعل يشنّع عليه ويرميه بالتحريف … وهذا عين عبارته:

«إنّ الإثني عشرية الذين ادّعوا أنّ هذا هو مهديّهم، مهديّهم اسمه محمّد ابن الحسن، والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم محمّد بن عبد اللَّه، ولهذا حذفت طائفة ذكر الأب من لفظ الرسول حتي لا يناقض ما كذبت.

وطائفة حرّفته فقالت: جدّه الحسين وكنيته أبو عبد اللَّه، فمعناه:

محمّد بن أبي عبد اللَّه، وجعلت الكنية اسماً، وممّن سلك هذا ابن طلحة في كتابه الذي سمّاه (غاية السئول في مناقب الرسول). ومن له أدني نظر يعرف أن هذا تحريف صريح كذب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه

سلسلة اعرف الحق

تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 222

وسلّم، فهل يفهم أحد من قوله: يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي إلّا أنّ اسم أبيه عبد اللَّه؟ وهل يدل هذا اللفظ علي أنّ جدّه كنيته أبو عبد اللَّه؟ … وأيضاً: فانّ المهدي المنعوت من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين، كما تقدّم لفظ حديث علي» «1».

أقول:

ان المنعوت الذي وصفه النبي صلي الله عليه و آله و سلم هو «محمّد بن الحسن» فإنّه مفاد الحديث الصحيح المتّفق عليه الذي لا كلام فيه، وأمّا الذي فيه ذكر الأب فليس من لفظ الرّسول حتي يناقض ما ذهب إليه الإثنا عشريّة، وإنّما هو رواية واحد من الرّواة وقد خالفه غيره فيه …

ولكنّ العلماء- كما ذكرنا من قبل- أرادوا الجمع بينه وبين اللفظ الصحيح المتّفق عليه فحملوه علي بعض الوجوه، وهي سواء صحّت أو لم تصح محامل ولا يجوّز التعبير عن تلك الوجوه ب «التحريف» إلّا جاهل غبيّ أو متعصّب عنيد.

وقد كان من تلك الوجوه ما ذكره العلّامة الشيخ كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعي المتوفي سنة (652) في كتاب (مطالب

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 8/ 254- 258، الطبعة الجديدة.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 223

السئول في مناقب آل الرسول) «1» فإنّه قال بعد ذكر الإشكال:

«فالجواب: لابدّ قبل الشروع في تفصيل الجواب من بيان أمرين يبتني عليهما الغرض:

الأوّل: انّه سايغ شائع في لسان العرب إطلاق لفظة «الأب» علي «الجد الأعلي» وقد نطق القرآن الكريم بذلك فقال «مِلَّةَ أبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ» وقال تعالي حكاية عن يوسف «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةِ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإسْحَقَ» ونطق به النبي وحكاه عن جبرئيل في حديث الإسراء أنّه قال: قلت: من هذا؟ قال: أبوك إبراهيم. فعلم أنّ لفظة الأب تطلق علي الجد

وإن علا، فهذا أحد الأمرين.

والأمر الثاني: إنّ لفظة «الاسم» تطلق علي «الكنية» وعلي «الصفة» وقد استعملها الفصحاء ودارت بها ألسنتهم ووردت في الأحاديث، حتي ذكرها الإمامان البخاري ومسلم، كلّ واحد منهما يرفع ذلك بسنده إلي سهل بن سعد الساعدي أنّه قال عن علي: واللَّه إن رسول اللَّه سمّاه بأبي تراب ولم يكن له اسم أحبّ إليه منه. فأطلق لفظة الاسم علي الكنية.

__________________________________________________

(1) هكذا اسمه لا ما ذكره ابن تيميّة، وهو مطبوع. وقد ترجم لابن طلحة وأثني عليه كبار العلماء، وعدّ من فقهاء الشافعيّة المشاهير، توجد ترجمته في: العبر 5/ 213 والنجوم الزاهرة 7/ 33 وطبقات الشافعية للسبكي وابن قاضي شهبة وغيرها.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 224

ومثل ذلك قال الشاعر:

أجلّ قدرك أن تسمّي مؤنته ومن كنّاك قد سمّاك للعرب

ويروي: ومن يصفك.

فأطلق التسمية علي الكناية، وهذا شائع ذائع في كلام العرب.

فإذا وضح ما ذكرناه من الأمرين فاعلم أيّدك اللَّه بتوفيقه: إنّ النبي كان له سبطان: أبو محمّد الحسن وأبو عبد اللَّه الحسين، ولمّا كان الخلف الصالح الحجة من ولد أبي عبد اللَّه الحسين ولم يكن من ولد أبي محمّد الحسن، وكانت كنية الحسين أبا عبد اللَّه، فأطلق النبي علي الكنية لفظة الاسم لأجل المقابلة بالاسم في حق أبيه، وأطلق علي الجد لفظة الأب.

فكأنّه قال: يواطئ اسمه اسمي، فهو محمّد وأنا محمّد وكنية جدّه اسم أبي، إذ هو أبو عبد اللَّه وأبي عبد اللَّه. لتكون تلك الألفاظ المختصرة جامعةً لتعريف صفاته وإعلاماً أنّه من ولد أبي عبد اللَّه الحسين بطريق جامع موجز.

وحينئذٍ تنتظم الصفات وتوجد بأسرها مجتمعة للحجة الخلف الصالح محمّد.

وهذا بيان شاف كاف لإزالة ذلك الإشكال، فافهمه».

أقول:

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 225

هذا ما

ذكره ابن طلحة الفقيه المحدّث الشافعي في معني اللّفظ الذي شذّ به «زائدة» كي يخرجه عن الطّرح، وهذا لا يسمّي ب «التحريف» كما قال ابن تيميّة، مع أنّه- أعني ابن تيميّة- قد حرّف الكلام ولم ينقله بكامله.

فإن قُبل ما ذكره هذا الشيخ أو غيره، فهو، وإلّا سقط حديث «زائدة».

وقوله: وأيضاً فإنّ المهدي المنعوت من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين، كما تقدّم في لفظ حديث علي.

فيه: إنّه قد تقدّم الكلام علي الحديث الذي روي عن علي، فلا نعيد.

قال العلّامة الحلي:

«فهؤلاء الأئمّة الفضلاء المعصومون الذين بلغوا الغاية في الكمال، ولم يتّخذوا ما اتّخذ غيرهم من الأئمّة المشتغلين بالملك وأنواع المعاصي والملاهي وشرب الخمور والفجور، حتي فعلوا بأقاربهم ما هو المتواتر بين النّاس.

قالت الإماميّة: فاللَّه يحكم بيننا وبين هؤلاء وهو خير الحاكمين.

سلسلة اعرف الحق تعرف اهله، ألأئمةالإثناءعشر، ص: 226

وما أحسن قول بعض الناس شعراً:

إذا شئت أن ترضي لنفسك مذهباً وتعلم أنّ الناس في نقل أخبارِ

فدع عنك قول الشافعي ومالكٍ وأحمد والمرويَّ عن كعب أحبارِ

ووال أُناساً قولهم وحديثهم روي جدّنا عن جبرئيل عن الباري»

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.