مصباح المنهاج - كتاب الطهارة

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : 9ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

كتاب الطهارة

اشارة

كتاب الطهارة و فيه مباحث:

المبحث الأول في أقسام المياه و أحكامها

اشارة

المبحث الأول في أقسام المياه و أحكامها و فيه فصول:

الفصل الأول: في تقسيم الماء إلي مطلق و مضاف

الفصل الأول ينقسم ما يستعمل فيه لفظ الماء (1) إلي قسمين.

______________________________

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري و أحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

اللهم اهدني فيمن هديت، و عافني فيمن عافيت، و تولني فيمن توليت.

اللهم كن في عوني في جميع أموري، أنت حسبي و نعم الوكيل، نعم المولي و نعم النصير، و لا حول و لا قوة إلا بك، عليك توكلت و إليك أنيب.

(1) مقتضي ما ذكره قدّس سرّه عدم كون التقسيم بلحاظ المعني الحقيقي للماء، و لعل ذلك هو المشهور. خلافا لشيخنا الأستاذ دامت بركاته «1»، فقد استظهر أن التقسيم بلحاظ المعني الحقيقي، و أن الماء بما له من المعني شامل للمضاف.

لصحة استعماله فيه و في المقسم و الأولي كونه حقيقة. و لعدم التكلف و العناية في

______________________________

(1) الشيخ حسين الحلي (دامت بركاته) (منه).

ص: 7

______________________________

التقسيم المذكور بحسب الذوق السليم.

نعم، المنصرف من إطلاقه خصوص المطلق، لا مطلق الماء و لا المضاف منه، بل إرادة كل منهما محتاجة إلي قرينة خاصة.

و فيه: أن الاستعمال أعم من الحقيقة.

و دعوي: عدم العناية في التقسيم مردودة عليه، و لا سيما بعد عدم معروفية التقسيم المذكور بين أهل اللغة، و إنما عهد من الفقهاء لأجل تعلق غرضهم به، و أعمالهم العناية لأجل ذلك غير عزيز.

بل ما اعترف به من انصراف خصوص المطلق كالمنافي لما ذكره أولا من عموم المعني، إذ الانصراف مع عموم المعني إنما يكون لطوارئ خاصة توجب القرينة العامة الارتكازية علي التقييد، و لذا يختص غالبا بعرف خاص أو مقام خاص يناسب الطارئ المذكور، و لا يكون عاما إلا مع عموم الطارئ، و هو يوجب النقل غالبا مع طول المدة، و لا مجال لدعوي ذلك في المقام، إذ لا إشكال في عموم الانصراف و سبق أمده، لعدم معهودية إطلاق الماء مجردا عن الإضافة علي غير الماء المطلق من أحد، و عدم الموجب لانصرافهم المذكور لو لا الوضع.

و إن شئت قلت: لا طريق لإثبات الوضع في أمثال المقام إلا من استعمالات أهل اللغة و تبادرهم، و هي مختصة بالمطلق و لا تناسب التعميم.

نعم، لا يبعد كون إطلاق الماء مع الإضافة علي أقسام الماء المضاف بنحو الحقيقة، كما سيأتي.

هذا، و ظاهر سيدنا المصنف قدّس سرّه: أن التقسيم بلحاظ ما يستعمل فيه لفظ الماء بحيث يكون الاستعمال مأخوذا في الجامع الملحوظ مقسما في المقام.

و ربما يقال: إن التقسيم بلحاظ جامع ارتكازي معنوي، و هو الواجد للعنصر الخاص، الذي يدرك العرف تحققه في المطلق و المضاف معا و إن لم يطلق عليه الماء حقيقة، فإن ما يصح إطلاق الماء عليه و لو مضافا خصوص السائل المشارك

ص: 8

الأول: ماء مطلق، و هو ما يصح استعمال لفظ الماء فيه بلا مضاف إليه، كالماء الذي يكون في البحر أو النهر أو البئر أو غير ذلك، فإنه يصح أن يقال له: ماء، و إضافته إلي البحر مثلا للتعيين، لا لتصحيح الاستعمال.

الثاني: ماء مضاف (1)، و هو ما لا يصح استعمال لفظ الماء فيه بلا مضاف إليه، كماء الرمان و ماء الورد، فإنه لا يقال له ماء إلا مجازا، و لذا يصح سلب الماء عنه.

______________________________

مع الماء المطلق في الماهية الحقيقية و إن خالفه في الحقيقة العرفية، دون بقية السوائل، كالزيت و نحوه مما لا يدرك العرف واجديته لعنصر الماء.

و فيه: أنه إنما يقتضي كون إطلاق الماء مع الإضافة في الموارد المتفرقة بلحاظ الجهة المذكورة، و لا يقتضي كون الجهة المذكورة هي الملحوظة في المقسم في مقام التقسيم.

كيف و لو كان كذلك لزم عموم المقسم لجميع ما يدرك العرف اشتماله علي عنصر الماء كالريق و البول و الدمع و نحوها مما يكون له اسم يخصه و لا يطلق عليه الماء عند العرف حتي مضافا، مع وضوح قصوره عنها إلا بعناية أخري غير العناية الملحوظة للفقهاء في مقام التقسيم، و هو شاهد بكون التقسيم بلحاظ المسمي، لا بلحاظ تلك الجهة.

(1) أشرنا إلي قرب كون إطلاق الماء عليه بلحاظ مشاركته مع الماء في العنصر، و لذا لا يطلق علي مثل الزيت و إن كان معتصرا من الجسم.

كما أنه لا يبعد كون المنشأ في الإطلاق ضيق التعبير، لعدم اختصاص أنواعه غالبا بأسماء تخصها، فاضطروا لإطلاق اسم الماء مضافا لما يميّزه، و لذا لا يجري ذلك غالبا فيما له اسم ظاهر يخصه كاللبن و البول و الريق و العرق و نحوهما و إن كانت مشاركة له في الجهة المذكورة و أمكن تخيل الاعتصار فيها من الأجسام.

ص: 9

______________________________

هذا، و لا يبعد كون إطلاق الماء مع الإضافة في مثل ذلك حقيقة، كما صرح به سيدنا المصنف قدّس سرّه فتكون الإضافة تتمة للاسم الموضوع، لا قرينة علي المجاز في إطلاق لفظ الماء.

و مجرد الاستغناء بالمجاز عن الوضع المذكور لوفائه بغرض التفهيم مع فرض لزوم القرينة له و هي الإضافة، لا ينافي تحقق الوضع لتخفيف مئونة الاستعمال باستغنائه عن ملاحظة العلاقة اللازمة في المجاز.

و لا سيما بناء علي ما هو الظاهر من عدم كون الوضع في أغلب اللغة تعيينيا مستندا لواضع خاص قد لاحظ الآثار و الفوائد المترتبة عليه، و إنما هو تعيني مستند للعرف العام اللغوي بسبب حاجتهم و ارتكازياتهم التي أودعها اللّٰه تعالي فيهم من الاهتمام بالبيان و التفاهم، فإنه حيث كانت الجهة المصححة للاستعمال و الحاجة اللتان أشرنا إليهما ارتكازيتين في جميع ما يكون من هذا النوع فمن القريب جدا تحقق الوضع النوعي بجميع ما يكون من هذا السنخ، و لو بسبب كثرة الاستعمال بحيث تكون الجهة المصححة للاستعمال معيارا في الوضع نوعا، لا علاقة مصححة للمجاز ملحوظة عند الاستعمال، فان الالتفات للعلاقة المذكورة عند كل استعمال محتاج إلي عناية خاصة يبعد التزامها في مثل هذه الاستعمالات الكثيرة المطردة.

بل التأمل في حال الاستعمالات المذكورة عند العرف شاهد بعدم ابتنائها علي ملاحظة العلاقة، و ليست كاستعمال الماء من دون إضافة في الموارد المذكورة لقرينة حالية. بل لا فرق عند العرف بين إطلاق قشر الرمان و ماء الرمان مثلا في عدم الابتناء علي العلاقة، و إن افترقا في كون الإضافة في الأول للتعيين، و في الثاني لتتميم الاسم، كما ذكرنا.

و الأمر سهل، لعدم ترتب الأثر العملي علي ذلك بعد فرض لزوم الإضافة و حصول التفهيم بها، إما لكونها قرينة علي المجاز، أو لكونها متممة للاسم.

ثمَّ إنه ظهر من جميع ما ذكرنا أن الجسم المائع علي قسمين.

الأول: ما لا يدرك العرف واجديته لعنصر الماء، كالزيت. و لا إشكال ظاهرا

ص: 10

______________________________

في عدم مطهريته، و لا يعرف القول بها من أحد.

الثاني: ما يدرك العرف واجديته له، و هو.

تارة: يختص باسم عرفا، و لا يعرف بإطلاق اسم الماء عليه حتي مع الإضافة، كالبول، و اللبن، و الريق و غيرها.

و اخري: لا يطلق عليه الماء الا مع الإضافة، كماء الرمان و ماء الورد.

و ثالثة: يطلق الماء عليه من دون إضافة، كماء النهر و البئر.

و لا إشكال في مطهرية الثالث، كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي. كما أن الكلام وقع بينهم في مطهرية الثاني.

و أما الأول فظاهر بعض مشايخنا عدم القائل بمطهريته، و هو في محله لو كان وجه البناء علي المطهرية في الماء المضاف التمسك بإطلاق الماء.

لكنه غير ظاهر منهم، بل يظهر منهم التمسك بأدلة خاصة، و هي قد تعم القسم المذكور، لورود بعضها في البصاق و النبيذ، و الظاهر أنهما منه.

و يأتي تمام الكلام في ذلك في المسألة الحادية و العشرين من هذا المبحث إن شاء اللّٰه تعالي.

تتميم: قد أهمل سيدنا المصنف قدّس سرّه طهارة الماء و مطهريته، فلم يتعرض لهما هنا، و لعله لوضوحهما في مقام الفتوي و العمل، و ينبغي لنا التعرض لهما هنا، مع النظر في أدلتهما، لأهمية تشخيص حالهما من حيثية العموم و الخصوص.

فيقع الكلام في أمور.

الأول: لا ريب في طهارة الماء المطلق في نفسه.

و يستدل عليه- بعد الإجماع، و ما دل علي طهوريته، بناء علي أن الطهور هو الطاهر، أو مبالغة فيه، أو هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، علي ما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي- بأمور.

الأول: ما دل علي مطهريته- لو تمَّ- لدلالته علي طهارته في نفسه بالملازمة العرفية، خصوصا في مثل الماء من المائعات، التي يلزم عرفا من نجاستها التنجيس لا التطهير.

ص: 11

______________________________

و دعوي: ان ما دل علي عموم مطهرية الماء- لو تمَّ- مخصص أو مقيد بما دل علي عدم حصول التطهير بالماء النجس، فيكون التمسك به في الماء المشكوك الطهارة من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فلا مجال في الماء المذكور للبناء علي مطهريته، فضلا عن إثبات طهارته بذلك.

مدفوعة: بأن وضوح توقف مطهرية الماء علي طهارته و الملازمة بينهما ارتكازا موجب لكون عموم مطهريته بيانا لعموم طهارته، فيجب الرجوع للعموم المذكور في الماء المشكوك لإثبات طهارته المستتبعة لمطهريته. و لو فرض ثبوت نجاسة بعض أقسام الماء كان مخصصا للعموم المذكور المستفاد من عموم المطهرية مع فرض الملازمة المذكورة، فيقتصر في التخصيص علي مورد اليقين.

فالمقام نظير ما دل علي جواز لعن بني أمية قاطبة الذي يكون- بضميمة وضوح التنافي بين اللعن و الإيمان- بيانا عرفا لعدم إيمانهم، حيث لا مجال لرفع اليد عن العموم المذكور في من يشك في إيمانه بتوهم تخصيص عموم جواز لعنهم بعدم جواز لعن المؤمن الموجب لكون التمسك بالعموم في من يشك في إيمانه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.

و إنما يتم ذلك لو استفيد اعتبار طهارة الماء في التطهير به من دليل خاص تعبدي، لولاه لكان مقتضي العموم جواز التطهير بالنجس، كما هو الحال في عموم وجوب إكرام العلماء مع ما يدل علي عدم جواز إكرام العالم الفاسق، لعدم كون عدم جواز إكرام الفاسق من الوضوح و المفروغية بنحو ينهض عموم وجوب إكرام العلماء ببيان عدم فسقهم كي يرجع إليه عند الشك في فسق أحدهم. و تمام الكلام في مبحث العموم و الخصوص من الأصول.

هذا، و يأتي في آخر المقام الثاني عند الكلام في مطهرية الماء ما له دخل في المقام.

الثاني: ما دل علي جريان أصالة الطهارة في الماء، كرواية حماد عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: الماء كله طاهر حتي يعلم أنه قذر» «1» و غيرها، حيث استدل بها

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 12

______________________________

بعض مشايخنا.

بدعوي: أنه و إن قيل بسوقها لبيان قاعدة الطهارة الظاهرية فقط، إلا أنها دالة حينئذ علي طهارة الماء واقعا في نفسه بالالتزام، و يكون الشك في الطهارة حينئذ لاحتمال عروض النجاسة، لا لثبوتها بالأصل.

و لا يخفي أنه بناء علي سوقها لبيان الطهارة الظاهرية فقط فموضوع الطهارة الظاهرية ليس هو ذات الماء، بل الماء بقيد الشك، و من الظاهر أن ثبوت الطهارة الظاهرية للماء المشكوك الحكم لا يستلزم عموم الظاهرية لذات الماء، بل فرض العلم بكونه قذرا في الغاية شاهد بوجود النجس الواقعي فيه. و حمله علي خصوص النجس بالعرض مبني علي الملازمة التي عرفت إنكارها.

و منه يظهر أنه لا مجال لتوهم أنه لو فرض كون قسم من الماء نجسا بالذات لم يكن مجري لقاعدة الطهارة، إذ لا أقل من استصحاب النجاسة حينئذ.

لاندفاعه: بأن الماء المذكور إن فرض العلم بنجاسته خرج عن موضوع الحكم لفرض تقييده بالشك، و إن فرض الشك في تطهيره بعد فرض نجاسته بالأصل كان مقتضي العموم المذكور طهارته ظاهرا، لو لا حكومة الاستصحاب علي قاعدة الطهارة في سائر الموارد، و إن فرض الشك في أصل نجاسته امتنع الرجوع لاستصحاب النجاسة فيه، و تعين البناء علي طهارته ظاهرا بمقتضي هذه الروايات.

و دعوي: أن وظيفة الإمام عليه السّلام التنبيه في مثل ذلك علي الحكم الواقعي و عدم الاكتفاء ببيان الوظيفة الظاهرية.

مدفوعة: بأن ذلك مختص بما إذا كان عليه السّلام بصدد التعرض لحكم ذلك الماء بعنوانه الاولي كماء البئر- كما لو سئل عن ذلك- لا في مثل المقام، حيث أنه عليه السّلام بصدد بيان الوظيفة الظاهرية في مطلق الماء المشكوك، و ليس بصدد التعرض للحكم الواقعي، كما هو الحال في سائر موارد بيان الوظيفة الظاهرية.

و إلا ففي موثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كل شي ء نظيف حتي تعلم أنه

ص: 13

______________________________

قذر، فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك» «1»، و في موثق مسعدة بن صدقة عنه عليه السّلام: «كل شي ء هو لك حلال حتي تعلم أنه حرام بعينه فتدعه.» «2»،

و قد تضمن الأول عموم الطهارة الظاهرية في الأشياء، و تضمن الثاني عموم الحل الظاهري لها، فهل يمكن دعوي دلالتهما بالالتزام علي عموم الحل و الطهارة الواقعيين للأشياء في أنفسها؟! فالإنصاف أن الاستدلال بالنصوص المذكورة بناء علي سوقها لبيان الطهارة الظاهرية فقط للماء في غاية الإشكال.

نعم، قد يدعي سوقها لبيان الطهارة الواقعية و الظاهرية معا للماء، فإن الغاية و إن كانت غاية للطهارة الظاهرية، و هي قرينة علي سوق الصدر لبيان الطهارة الظاهرية أيضا لا الواقعية، إلا أنه لما كان موقوفا علي تقييد الماء بالمشكوك الحال، و هو مما لا يناسب التعميم جدا، و علي إلغاء خصوصية الماء في الحكم، لوضوح ثبوت الطهارة الظاهرية في كل مشكوك، و هو خلاف ظاهر أخذ العنوان الذاتي في موضوع الحكم، و لا سيما في مثل الماء الذي ارتكز في أذهان العرف طهارته، حيث ينسبق مع ذلك سوق القضية علي طبق الارتكاز المذكور، كان ذلك مانعا من التصرف في الصدر و تحكيم ظهور الغاية عليه، بل يلزم التفكيك بينه و بين الغاية بجعلها غاية لما يستفاد منه تبعا، من الحث علي الجري العملي علي الطهارة و ترتيب آثارها، فإن الحكم بطهارة الماء واقعا ليس واردا لمحض بيان حاله، بل للحث علي ترتيب الآثار المناسبة له، فكأنه قيل: الماء كله طاهر، و اعمل علي مقتضي الطهارة حتي تعلم أنه قذر، فيكون نظير الاستثناء المنقطع.

و هذا بخلاف موثقي عمار و مسعدة، فإن الموضوع فيهما هو الشي ء، و هو عنوان عرضي لا ينتزع عن الشي ء بلحاظ ذاته فقط، بل بلحاظ الجهات العرضية أيضا، فكما يكون الماء و التراب و القطن و الحديد و غيرها أفرادا له، كذلك يكون المتغير و الميت و ملاقي الدم و غيرها أفرادا له.

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث 4.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث 4.

ص: 14

______________________________

و من الظاهر أن جعل الطهارة و الحل الواقعيين لكل شي ء بهذا العموم الواسع مناف لفرض العلم بالنجاسة و الحرمة في الغاية.

و دعوي: حمل الشي ء في الصدر علي خصوص ما ينتزع بلحاظ الذات، ليكون مرجعه إلي ثبوت الطهارة للأشياء بذواتها، فلا ينافي فرض الشك في النجاسة بلحاظ الطوارئ الخارجية كالملاقاة و الموت و غيرهما.

مدفوعة: بأن الحمل علي ذلك ليس بأولي من حمله علي خصوص المشكوك، بل الثاني أولي، لما فيه من المحافظة علي السنخية بين الغاية و المغيي.

و بعبارة أخري: التفكيك بين الغاية و المغيي بالوجه الذي ذكرنا مخالف للظاهر في نفسه، و إنما يلتجأ إليه في روايات الماء محافظة علي خصوصية الماء و عمومه الارتكازي المصرح به في الصدر، و حيث لا مجال لذلك في الموثقين، إذ لا بد من التصرف في عمومهما علي كل حال، فلا موجب للتفكيك المذكور.

علي أنه لا مجال لحمل الصدر فيهما علي الحكم الواقعي مع ما هو المفروغ عنه من وجود النجس و الحرام ذاتا في الأشياء، فلا بد من حمله علي الحكم الظاهري، فيطابق الغاية. فتأمل جيدا.

ثمَّ إن نصوص قاعدة الطهارة في الماء لو دلت علي عموم طهارته واقعا فهي إنما تقتضي طهارته ذاتا، كما هو المنسبق من أخذ العنوان الذاتي في موضوع الحكم، و ليس لها إطلاق أحوالي يقتضي طهارته الواقعية، ليكون مرجعا في دفع احتمال تنجسه لطارئ، و ليس العموم الأحوالي المستفاد من الغاية إلا لبيان الطهارة الظاهرية.

و منه يظهر الوجه في حمل القذر المفروض في الغاية علي خصوص القذر الطارئ، فإنه هو المناسب لعموم الطهارة الواقعية للماء بذاته.

هذا، و ما ذكرناه من الوجه في استفادة عموم الطهارة الواقعية في الماء من هذه النصوص و إن كان قابلا للإنكار، إلا أنه قريب جدا، مناسب لما ينسبق من النصوص بدوا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

الثالث: ما دل من الروايات الكثيرة علي تنجس الماء القليل بالملاقاة،

ص: 15

______________________________

و الكثير بالتغير، و اعتصامه بدونه «1»، فإنه قد يستدل بذلك.

بدعوي: أن الحكم بالتنجس و الاعتصام ظاهر في المفروغية عن الطهارة الذاتية، إذ لا معني الحكم بهما علي النجس، و حيث كان في الروايات ما هو مطلق أو عام لجميع أقسام الماء كان دالا علي عموم طهارته.

و فيه: أن الروايات المذكورة مسوقة لبيان سببية الملاقاة و التغير للنجاسة و سببية الكرية للاعتصام، و إطلاقه لا يقتضي إلا عموم قابلية السبب للتأثير لا فعلية التأثير، ليستلزم قابلية الموضوع، فلا ينافي عدم تأثيره في بعض الموارد، لقصور الموضوع، لكونه نجسا بالذات.

و إن شئت قلت: الإطلاق مسوق لبيان السببية بعد الفراغ عن قابلية الموضوع، فلا ينهض بإثبات قابلية الموضوع.

و لذا لا يظن من أحد الالتزام بأنه لو ورد عموم حاكم بأن الجلل محرم لأكل الحيوان مثلا كان دالا علي عموم حلية الحيوانات بالأصل، بحيث ينافيه ما دل علي تحريم بعض الحيوانات ذاتا.

غاية الأمر في المقام أن بيان سببية السبب ظاهر في فعلية تأثيره في بعض الموارد، لقابلية الموضوع، و إلا كان بيانه لغوا عرفا، لعدم ترتب العمل عليه، إلا أنه ليس موردا للشك و لا محلا للكلام في المقام.

الرابع: ما دل علي اعتصام الماء في نفسه مطلقا، كالنبوي: «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» «2»، فإن الحكم بعدم تنجيسه ظاهر في طهارته عرفا، و ليس عدم تنجيسه لكونه نجسا، و ليس هو في مقام البيان من جهة أخري كي يمنع من الإطلاق، كما تقدم في الوجه السابق، كما أن مقتضي إطلاقه الأحوالي بقاء الماء علي الطهارة، لا مجرد طهارته ذاتا.

لكن العموم المذكور لم يثبت بوجه معتد به إذ لم أعثر علي دليل له غير

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 8، 9 من أبواب الماء المطلق و غيرهما.

(2) رواه عن المعتبر و السرائر في الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

ص: 16

______________________________

النبوي المتقدم و النبوي الآتي، و الأول قد روي مرسلا في المعتبر «1»، و عن عوالي اللئالي «2»، و عن محكي السرائر أنه متفق علي روايته «3». و حجيته بمثل ذلك لا يخلو عن إشكال، بل منع، لقرب أخذه من العامة، لرواية المضمون المذكور من طرقهم، و عدم روايته من طرقنا.

مع أنه مناف لما دل علي اعتبار الكرية في الاعتصام، لصعوبة الجمع بينهما عرفا، لظهوره في أن الاعتصام مقتضي طبيعة الماء التي خلق عليها، و ظهور الأدلة المذكورة في أنه من لواحق الكرية التي هي من سنخ العرض الزائد علي الذات.

فتأمل.

و منه يظهر حال ما عن ابن أبي جمهور الأحسائي: «روي متواترا عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام أن الماء طاهر لا ينجسه إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته» «4»، فإنه- مع ضعف سنده- ظاهر في أن عدم التنجيس كالطهارة من أحكام الماء بحسب طبعه.

و أما ما في غير واحد من النصوص من عدم انفعال الماء بالنجاسة ما لم يتغير، كصحيح حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «5»، و غيره.

فهو وارد في مقام بيان دوران التنجيس مدار التغير و عدمه، بعد الفراغ عن قابلية الموضوع، فلا ينهض إطلاقه بإثبات قابلية كل ماء للتنجيس و أنه طاهر، كما تقدم نظيره. مع أنه لا بد من رفع اليد عن الإطلاق المذكور- لو تمَّ- بما دل علي اعتبار الكرية في الاعتصام، فلا ينهض بإثبات طهارة القليل إلا بفرض فهم عدم

______________________________

(1) راجع ص: 16.

(2) مستدرك الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المطلق حديث 4.

(3) حكاه عنه في الوسائل عند روايته للحديث.

(4) مستدرك الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 17

______________________________

الخصوصية. فتأمل.

الأمر الثاني: الماء المطلق كما يكون طاهرا في نفسه كذلك هو مطهر لغيره من الحدث و الخبث إجماعا مستفيضا كما في مفتاح الكرامة، و كتابا و سنة كادت تكون متواترة، و إجماعا محصلا و منقولا نقلا مستفيضا، بل متواترا، كما في الجواهر. و في المعتبر: «و هو مذهب أهل العلم سوي [عدا، خ. ل] سعيد بن المسيب، فإنه قال: لا يجوز الوضوء بماء البحر مع وجود الماء، و ما حكي عن عبد اللّٰه بن عمر أنه قال: التيمم أحب [أعجب، خ. ل] إلي منه». و لم يستبعد في الجواهر كون تحريم الوضوء بماء البحر مخالفا لضروري الدين.

و كيف كان، فقد يستدل عليه- بعد الإجماع المذكور- بأمور.

الأول: إطلاق الطهور عليه في الكتاب و السنة، و هو مبني علي اقتضاء الطهور للمطهرية، و حيث كان ذلك محل الكلام كان المناسب تحقيق الحال فيه.

و لا يخفي أن ذلك إنما يحتاج إليه في ما خلا عن القرينة المعينة لإرادة المطهر، دون مثل صحيح جميل بن دراج و محمد بن حمران عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام الوارد في التيمم: «ان اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «1»، و نحوه غيره، و صحيح داود بن فرقد عنه عليه السّلام: «قال: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، و قد وسع اللّٰه عليكم بأوسع ما بين السماء و الأرض و جعل لكم الماء طهورا، فانظروا كيف تكونون» «2».

و حينئذ نقول: المحتمل بدوا في الطهور أحد أمور.

الأول: أنه مصدر طهر و تطهر، كالطّهور بالضم.

الثاني: أنه الطاهر في نفسه.

الثالث: أنه يفيد المبالغة في الطهارة.

الرابع: أنه ما يتطهر به كالفطور لما يفطر به، فهو اسم جامد نظير اسم الآلة.

______________________________

(1) الوسائل باب 1، من أبواب الماء المطلق، حديث: 1.

(2) الوسائل باب 1، من أبواب الماء المطلق، حديث: 4.

ص: 18

______________________________

الخامس: أنه المطهر بنحو يكون من أسماء الصفات المتضمنة للحدوث.

السادس: أنه الطاهر المطهر بأن يكون من الصفات أيضا.

أما الأول فهو المحكي عن سيبويه، حيث ذكر أن المصدر يأتي بالضم و الفتح معا، كما ذكر ذلك في الوضوء أيضا، و فرّق بينهما غيره و جعل المصدر بالضم لا غير.

و هو- لو تمَّ- لا مجال لاحتماله في المقام، لأن حمل المصدر علي الأعيان- كالماء و التراب- مبني علي تكلف لا مجال لحمل الكلام عليه.

مع أنه لو سلم التكلف المذكور بلحاظ المبالغة فظاهر المصدر إرادة المعني الحدوثي، و هو في المقام المطهرية، لا الطهارة لأنها في الماء أمر تابع لذاته غير حادث له، فيرجع إلي المعني الخامس.

و أما الثاني فقد يتراءي من غير واحد، و إن أمكن حمل كلامهم علي الثالث أيضا، بل هو ظاهر بعضهم.

و كيف كان، فهو خلاف الظاهر جدا، لما صرح به بعض اللغويين- بل هو المقطوع به- من أنه لا يوصف به كل طاهر كالثوب و البدن و غيرهما، فان ذلك كاشف عن تضمنه معني غير الطهارة.

و احتمال ابتناء الإطلاق علي ملاحظة بعض الخصوصيات الزائدة علي الطهارة و هي من شؤونها غير المطهرية، كصعوبة زوالها عنه و نحوه مما يختص بالماء و لا يطرد في غيره من الأمور الطاهرة.

مدفوع: بأن ذلك لو تمَّ في نفسه فإنما يتجه في الاستعمالات الشخصية التي قد تبتني علي النكات الخفية، أما في الاستعمالات الشائعة عند العرف فلا بد من كون الجهة الملحوظة ارتكازية يطّرد الاستعمال بلحاظها، بحيث يكون الخروج عنها محتاجا إلي عناية و قرينة، و الظاهر عدم ملاحظة مثل هذه الجهات في إطلاق الطهور في سائر الموارد التي سنشير إلي بعضها.

و منه يظهر حال الوجه الثالث، فإنه و إن صرح به الزمخشري في أساس

ص: 19

______________________________

البلاغة، و حكي عن أبي حنيفة، بدعوي: أن صيغة «فعول» تفيد المبالغة، كما في الحسود و الحقود و الصبور و الوقور و غيرها.

و لأنهم قد يستعملون (فعولا) فيما لا يفيد التطهير كما في قوله تعالي:

وَ سَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ شَرٰاباً طَهُوراً «1» و قول الشاعر:

عذاب الثنايا ريقهن طهور

إلا أنه مندفع: بأن المبالغة في الطهارة لا تختص بالماء عرفا، و لذا صحت المفاضلة فيها، فيقال مثلا: زيد أطهر من عمرو نفسا أو أصلا أو ثوبا، و من الظاهر عدم اطراد استعمال الطهور بلحاظ شدة الطهارة و المبالغة فيها.

و احتمال لحاظ خصوصية زائدة مختصة بالماء قد عرفت ما فيه، و لا سيما مع أن الخصوصية المفروضة لا تطرد في سائر موارد استعمال صيغة المبالغة، بل ليس الملحوظ فيها إلا شدة التلبس بالمادة، ففرض ابتناء المقام علي المبالغة من جهة الصيغة لا يناسب ذلك.

و أما الآية فربما يحمل الطهور فيها علي المطهر، كما عن بعض المفسرين، بل هو المروي، إما من حيث كون الشراب موجبا لازالة آثار الأكل من أجوافهم، فيطهرهم منها، أو لأنه يطهرهم عن التدنس بما سوي اللّٰه تعالي. كما أشار إليهما في مجمع البيان.

و كذا البيت، لا مكان إرادة أن ريقهن يشفي سقم الصب الواله أو نحوه.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من الإشكال في ذلك بأن الطهارة الشرعية لما كانت أمرا اعتباريا متقوما بالحكم الشرعي فهي لا تتصف بالشدة و الضعف، بل بالوجود و العدم لا غير.

فيندفع: بأن الاعتبار و إن لم يقبل الشدة و الضعف إلا أن الأمر المعتبر قد يقبله، كما هو الحال في الطهارة ارتكازا، بل قد يشهد به استحباب تجنب بعض المياه، كماء البئر قبل النزح بناء علي طهارته، و الغسل من بعض الأمور، كفضلات

______________________________

(1) سورة الإنسان: 21.

ص: 20

______________________________

الفرس و الحمار و البغل، كما هو الحال في الطهارة الحدثية، لارتكاز أن الأغسال المستحبة موجبة لمرتبة زائدة من الطهارة، و كذا الوضوءات، بل هو كالصريح مما ورد في الوضوء التجديدي من أنه نور علي نور «1».

نعم، قد يدعي أن المبالغة في الطهارة ملحوظة جهة مصححة لإطلاق الطهور علي ما يحدث التطهير، لأن إفاضة الطاهر للطهارة علي الغير يناسب شدة طهارته، فالمبالغة ليست ملحوظة في المعني المستعمل فيه، لتكون معيارا مصححا للاستعمال- كما في سائر موارد صيغ المبالغة- بل هي جهة ملحوظة للواضع موجبة لمناسبة اللفظ للمعني و سببا لاستعماله فيه و إطلاقه عليه.

و بعبارة أخري: الطهور ليس هو شديد الطهارة و كثيرها- كما هو مفاد صيغة المبالغة قياسا- بل هو المطهر، لا لوضعه لذلك ابتداء، بل لمناسبته للمبالغة في الطهارة.

و كأنه إلي ذلك يرجع ما ذكره غير واحد، فعن الشيخ قدّس سرّه في محكي التهذيب: «لا خلاف بين أحد من أهل النحو أن «فعولا» موضوع للمبالغة و تكرر الصفة، و عدم حصول المبالغة علي ذلك الوجه لا يستلزم عدم حصولها بوجه آخر، و هو هنا باعتبار كونه مطهرا» و قريب منه في محكي الخلاف. و قال ابن الأثير في النهاية: «و الماء الطهور في الفقه هو الذي يرفع الحدث و يزيل النجس، لأن «فعولا» من أبنية المبالغة، فكأنه تناهي في الطهارة».

بل هو الظاهر من بعض من أنكر مجي ء طهور بمعني مطهر، كالزمخشري، قال في الكشاف: «طهورا: بليغا في طهارته. و عن أحمد بن يحيي: هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. فان كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا.

و يعضده قوله تعالي وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ و إلا فليس فعول من التفعيل في شي ء.» و نحوه عن محكي المغرب، و الطراز.

فإن كلامهم- كما تري- راجع إلي ما ذكرنا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 21

______________________________

و إن كان قد يتراءي منه أن الصيغة محافظة علي المبالغة و ان إفادتها للمطهرية لأنها من مظاهرها و مصاديقها الا دعائية بعد تعذر المصداق الحقيقي لها و هو التكثر، لعدم قابلية الطهارة له.

لكن لا مجال له بعد ما عرفت من إمكان المبالغة الحقيقية بلحاظ شدة الطهارة و استحكامها و عدم اطراد الاستعمال معها، فلو تمَّ ما ذكروه تعين إرجاعه لما ذكرنا.

و الحاصل: أنه لا مجال لحمل الطهور في المقام علي أحد المعاني الثلاثة الأول، بل يتعين جمله علي أحد المعاني الثلاثة الأخيرة، فيتضمن التطهير، كما صرح به غير واحد من الفقهاء و اللغويين، بل هو المعروف بينهم. و يناسبه إطلاق الطهور في كثير من الموارد علي الماء مع القرينة المعينة لذلك- كما أشرنا إليه آنفا- و علي غير الماء كالأرض و التراب في أحاديث التيمم و علي النورة و غير ذلك.

بل لا ينبغي التأمل فيه بعد ملاحظة ذلك، لبعد الاشتراك في مثل ذلك جدا كبعد المجاز في الإطلاقات المذكورة.

ثمَّ إن المعني الرابع هو المناسب لمقتضي الهيئة، حيث استعملت في نظيره في مثل السحور و الفطور و الوقود و النشوق و السعوط و الحنوط و اللطوخ و الغسول و الوضوء. بل يظهر من كثير التسالم علي استعمال الطهور بالمعني المذكور، و أن الكلام إنما هو في أن المعني الآخر الوصفي هل يتضمن المطهرية أو لا.

و منه يظهر أن هيئة «فعول» لا تختص بالمبالغة، فلا حاجة إلي ما تقدم من غير واحد في إفادة الطهور للمطهرية من تكلف إرجاعها للمبالغة.

كما لا وجه لما يظهر من المعتبر، و عن كنز العرفان من أن ذلك توقيفي ليس علي مقتضي القياس.

نعم، لو أريد إثبات المطهرية بما هي معني حدوثي وصفي- كما تضمنه المعنيان الأخيران- لم يبعد خروجه عن القياس و توقفه علي تكلف المبالغة

ص: 22

______________________________

بالوجه المتقدم.

إلا أنه لا طريق لإثبات المعني المذكور، لأنه و إن كان قد يشهد به وقوع الطهور وصفا للماء،- كما في الآيتين الشريفتين- و لذا ذكر كثير من اللغويين أن الطهور يرد اسما و وصفا، لكن من القريب رجوعه للمعني الرابع لما بينهما من التناسب، بنحو قد يتوسع و يستعمل أحدهما مكان الآخر بل احتمل في الجواهر كونه بدلا في مثل ذلك.

و إلا فمن البعيد وضعه بوضعين للمعني الجامد و الوصفي، و لعله لذا أنكر في المعتبر وقوعه بمعني مطهر وصفا متعديا، و لذا لا يقال: الماء طهور من الحدث و إن صح أنه مطهر من الحدث.

و الأمر سهل، لعدم الفرق بين المعنيين عملا.

ثمَّ إن أخذ الطهارة في الطهور- كما تضمنه المعني السادس، و صرح به غير واحد- قد يتجه بناء علي لحاظ المبالغة في المقام بالوجه المتقدم.

أما بناء علي المعني الرابع فلا وجه له، و لا يبعد كون ذكرهم له لما تقدم آنفا من أن التطهير بالماء ملازم لطهارته ارتكازا، فهي من لوازم المعني من دون أن تؤخذ فيه، و قد يشهد بذلك وصف النورة بأنها طهور، مع وضوح أن سنخ مطهريتها لا يتوقف علي طهارتها.

و قد تحصل مما ذكرنا أمور.

الأول: أن صيغة فعول لا تختص بالمبالغة، بل تأتي لما تحصل به المادة كالغسول و الوضوء، و هي حينئذ نظير اسم الآلة اسم جامد لا يكون وصفا مفيدا للحدوث، و عليه فمجي ء «طهور» بمعني ما يتطهر به ليس مخالفا للقياس.

الثاني: أن مجي ء «طهور» بمعني مطهر وصفا ليس قياسيا، لما أشار إليه غير واحد من أن «فعولا» لا يصاغ من التفعيل، بل من الفعل، فلو ورد كان سماعيا شاذا، و لا يبعد حينئذ رجوعه للمبالغة.

الثالث: أن مجي ء «طهور» وصفا غير ثابت، و إن صرح به غير واحد، و مجرد

ص: 23

______________________________

التوصيف به- لو ثبت- لا ينافي كونه بمعني ما يتطهر به توسعا، لما بين المعنيين من التناسب.

الرابع: أن حمل «طهور» علي الطاهر في نفسه أو البليغ الطهارة من دون أن يفيد التطهير به لا مجال له بعد ملاحظة الاستعمالات المختلفة، حيث يطرد بمعني المطهر دون الطاهر.

الخامس: أن حمل «طهور» علي المصدر في الآية لا مجال له إلا بتأويل، و هو- لو تمَّ- كان مفيدا للتطهير به.

السادس: أن وصف الماء بالطهور يقتضي كونه طاهرا في نفسه، إما بالملازمة العرفية، لتوقف التطهير به علي طهارته ارتكازا، أو لابتنائه علي المبالغة، و الأول أظهر.

السابع: أن الأقرب في المقام هو الحمل علي المعني الرابع، ثمَّ السادس، ثمَّ الأول، ثمَّ الخامس. و علي الجميع فهو يقتضي التطهير به. و أما الحمل علي الثاني و الثالث فلا مجال له.

و حيث انتهي الكلام في معني الطهور، فاعلم: أن ثبوت الطهورية للماء في الجملة لا إشكال فيه، لتظافر الأدلة به، و إنما الكلام في ثبوت عموم يرجع إليه عند الشك، إما من حيث أفراد الماء، أو من حيث أنحاء الطهارة من الحدث و الخبث.

و ربما استدل أو يستدل علي ذلك بأمور.

الأول: قوله تعالي وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّٰا خَلَقْنٰا أَنْعٰاماً وَ أَنٰاسِيَّ كَثِيراً «1». و يشكل الاستدلال به بوجهين.

أحدهما: أنه مختص بماء السماء الظاهر في خصوص المطر.

و لا مجال لما في الجواهر من تتميمه بالإجماع المركب، لعدم ثبوت الإجماع علي الملازمة بين أفراد الماء المحققة و المقدرة في الحكم غير الإجماع

______________________________

(1) سورة الفرقان: 48، 49.

ص: 24

______________________________

المتقدم علي مطهرية الماء، و هو إجماع بسيط لا مجال للاستدلال به في مورد الشك و الخلاف، كما لو فرض في ماء البحر أو الماء المصنع كيميائيا في المختبرات الحديثة.

بل لو فرض من أحد الشك في مطهرية مثل ذلك فلا يظن منه الشك في مطهرية الماء في الجملة، و هو شاهد بعدم الإجماع علي الملازمة المذكورة.

و مثله ما ذكره من أن جميع المياه أصلها من السماء، مستدلا عليه بقوله تعالي وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَليٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ فَأَنْشَأْنٰا لَكُمْ بِهِ جَنّٰاتٍ. «1».

و زاد بعض مشايخنا فاستدل بقوله تعالي أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَسَلَكَهُ يَنٰابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ. «2»

و قوله سبحانه وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلّٰا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «3».

إذ فيه. أولا: أن الآيتين الأوليين ليستا مسوقتين لبيان أن كل ماء نازل من السماء، بل هما في مقام الإشارة إلي أن الماء النازل من السماء من نعم اللّٰه تعالي الجليلة الخاضعة لقدرته، و المنوطة بإرادته، و هو يناسب الإشارة لمثل ماء المطر الذي يقر في الأرض و يجري في مسالكها و يخرج من منابعها، مكونا الأنهار و العيون ذات الأثر البالغ في حياة الإنسان، و لا يشمل ماء البحر، فضلا عن مثل الماء المصنع كيميائيا.

و لا أقل من اختصاصهما بقرينة الغاية بالماء الصالح للزراعة، كماء الأنهار و العيون و الآبار- كما هو المحكي عن تفسير علي بن إبراهيم في الآية الاولي- و لا يشمل مثل ماء البحر.

و دعوي: أنه متجمع منها فلا يكون قسما آخر في مقابلها.

______________________________

(1) سورة المؤمنون: 18، 19.

(2) سورة الزمر: 21.

(3) سورة الحجر: 21.

ص: 25

______________________________

كما تري! لأن صب الأنهار و نبع بعض العيون فيه لا يستلزم كون جميعه منها، و لا سيما مع كثرته بنحو يناسب استغناءه عنها، بل ظاهر بعض الآيات و الروايات أن الماء أسبق خلقا من الأرض و السماء، و المتيقن منه ماء البحار.

فراجع أوائل كتاب السماء و العالم من البحار.

و أما الآية الثالثة فهي ظاهرة في نزول أمر كل شي ء من السماء بمعني تقديره فيها، نظير قوله تعالي وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ «1»، و ظاهر آية الطهورية النزول الحقيقي، كماء المطر.

و ثانيا: أنه لا عموم لآية الطهورية في طهورية كل ماء نازل من السماء، بل هي مختصة بقرينة الغاية بالماء الصالح للزراعة و الشرب، و هو مختص بماء المطر و ما يتفرع منه من مياه الآبار و العيون و الأنهار.

و ثالثا: أنه ليس لآية الطهورية إطلاق أحوالي يقتضي عدم انفكاك الطهورية عن الماء النازل من السماء، بل ليس مدلولها المطابقي إلا طهوريته حين نزوله.

نعم، لا إشكال في التعدي عنه في الجملة، لفهم عدم الخصوصية، أو بقرينة غلبة الانتفاع بماء المطر و استعماله بعد استقراره في الأرض و تجمعه فيها، و المتيقن من ذلك ما إذا لم يغفل العرف عن كونه ماء المطر النازل من السماء، كالماء المتجمع منه و ماء السيل، دون مثل ماء العيون و الآبار و الأنهار مما لا ينسب عرفا للمطر و إن كان أصله منه، فضلا عن مثل ماء البحر ما لم يعلم بكون أصله منه.

فتأمل.

و ما ذكره بعض مشايخنا من وضوح أن حكم ماء المطر المتجمع في الأرض حكم سائر مياهها.

راجع إلي دعوي الملازمة بين أفراد الماء المستقر في الأرض. و هي غير واضحة المأخذ، كما أشرنا إليه في نظيره قريبا. و لو تمت لم نحتج إلي النظر في

______________________________

(1) سورة الحديد: 25.

ص: 26

______________________________

دليل العموم إذ لا إشكال في مطهرية بعض أفراد الماء المستقر في الأرض فيلزم عموم مطهريتها بضميمة الملازمة المدعاة.

ثانيهما: أنه لا عموم له و لا إطلاق يقتضي طهورية جميع أفراد الماء، لما قيل من ان النكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم.

و قد أجاب عن ذلك في الجواهر.

تارة: بتتميم دلالتها بالإجماع المركب، و يظهر حاله مما تقدم.

و اخري: بأن النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم إذا وقعت في معرض الامتنان، كما في قوله تعالي فِيهِمٰا فٰاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّٰانٌ «1».

و زاد بعض مشايخنا أن طهورية فرد من أفراد الماء من دون بيانه و تعريفه مما لا يتعقل فيه الامتنان أصلا.

و يندفع: بأن الامتنان لا يتوقف علي عموم الطهورية، بل يكفي فيه طهورية قدر يعتد به يقع موردا للابتلاء العام، كماء المطر المعلوم طهوريته و لو من الخارج.

و لا سيما مع عدم سوق الآية الشريفة للامتنان إلا عرضا، و ليس المقصود بالأصل إلا الامتنان بلحاظ ما يترتب علي إنزال الماء من إحياء البلدة الميتة و سقي الحيوانات و الناس به.

و أما الآية التي نظّر بها في الجواهر فدلالتها علي العموم لجميع أنواع الفواكه ممنوعة، و لو ثبت إرادته منها فهو من دليل خارج.

بقي في المقام شي ء: و هو أنه حيث كانت الطهارة لغة ضد الدنس و النجاسة و الخبث و القذر، كما يستفاد من اللغويين و استعمالات العرف، فهي من الأمور الإضافية الاعتبارية تبعا لاعتبار الدنس و الخبث في شي ء، فكلما اعتبر الخبث و الدنس و النجاسة من جهة كان الخلوص منها طهارة منها، كما أن ما يخلص منها طهور و مطهر.

______________________________

(1) سورة الرحمن: 68.

ص: 27

______________________________

و عليه فلا وجه لما في الجواهر من أن حمل الطهور علي المطهرية الشرعية لا يبتني علي المعني اللغوي، بل علي النقل الشرعي.

و أشكل من ذلك ما حكاه عنهم من أن استعمال لفظ الطهارة في الطهارة الخبثية مجاز حتي بلحاظ النقل الشرعي.

و من ثمَّ استشكل في عموم الطهور لذلك، لاستلزامه استعمال اللفظ في المعني الحقيقي و المجازي معا، ثمَّ قال: «و حمله علي عموم المجاز لا قرينة عليه».

إذ بناء علي ما عرفت لا تصرف من الشارع في مفهوم الطهارة و الطهور ليلزم المجاز أو النقل الشرعي، بل في المصداق، من حيث اعتبار الخبث و الدنس و النجاسة فيما لا يعتبره العرف كذلك.

و أما ما حكاه عنهم من أن الطهارة مجاز في الطهارة من الخبث فلعله بلحاظ خصوص مصطلح الفقهاء، حيث عرفوا الطهارة بأنها استعمال طهور مشروط بالنية، أو أنها اسم للوضوء و الغسل و التيمم إلي غير ذلك مما لا يشمل الطهارة من الخبث، بل هو صريح الشهيد قدّس سرّه في محكي نكت الإرشاد، حيث قال: «إن إدخال إزالة الخبث ليس من اصطلاحنا».

و ما في الجواهر من أن المعني المصطلح هو المعني المتشرعي الذي هو ضابطة الحقيقة الشرعية.

لا وجه له، لعدم ثبوت النقل الشرعي في المقام، بل الظاهر جري الشارع علي المعني اللغوي في استعمالاته، كما تقدم، و لا سيما وقت نزول الآية. بل لا يظن من أحد الالتزام بمجازية الاستعمالات الشرعية الكثيرة الواردة في الطهارة الخبثية. و عليه فلا مانع من عموم الطهور بلحاظ الطهارة العرفية و الشرعية الحدثية و الخبثية.

نعم، لا بد من ثبوت إطلاق معتد به في ذلك في الآية، و هو غير ظاهر، لعدم سوق الآية للحكم بطهورية الماء و تشريع ذلك، لتكون ظاهرة في الطهورية من

ص: 28

______________________________

الأخباث و القذارات الشرعية، و يمكن فيها فرض الإطلاق المقتضي لعموم المطهرية، بل لبيان الامتنان و الأنعام بإنزال الماء الطهور، حيث ذكرت الطهورية وصفا للماء النازل، و يكفي في ذلك طهوريته في الجملة، و لو من الأخباث و القذارات العرفية. فتأمل جيدا.

و قد تحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا عموم في الآية الكريمة، لا بلحاظ أفراد الماء، و لا بلحاظ جهات التطهير و أنواع الأخباث و الاحداث.

الثاني: ما تضمن أن الماء خلق طهورا، و هو النبوي المتقدم عند الكلام في طهارة الماء.

لكنه لا ينهض إلا بإثبات طهوريته ذاتا بحسب أصل الخلقة، و لا إطلاق له أحوالي ينفي احتمال عروض المانع من التطهير به.

و أما استثناء التغير فحيث كان من الحكم بعدم التنجيس لا من الحكم بالطهورية فهو إنما يقتضي عموم عدم التنجيس لجميع الحالات، لا عموم الطهورية.

و دعوي: أن الحكم بعدم التنجيس ليس في قبال الحكم بالطهورية، و إلا كان المناسب عطفه عليه بالواو، بل هو متفرع علي الحكم بالطهورية من حيث منافاة النجاسة للطهورية، فيرجع الاستثناء إليهما معا، و هو كما يقتضي عموم عدم التنجيس يقتضي عموم الطهورية.

ممنوعة: فإن مجرد عدم العطف لا يوجب الظهور المعتد به، و غايته الاشعار غير الصالح للاستدلال.

مع أن ذلك- لو تمَّ- كان عموم الطهورية بالوجه المذكور كعموم الاعتصام منافيا لأدلة عاصمية الكر، كما تقدم نظيره، هذا مضافا إلي ما تقدم من ضعف سنده بنحو لا يصلح للاستدلال.

الثالث: النصوص الكثيرة الواردة في التيمم المتضمنة أن اللّٰه جعل التراب طهورا كالماء، كصحيح جميل و محمد بن حمران المتقدم في أول الكلام في أدلة

ص: 29

______________________________

الطهورية و غيره.

و فيه: أن كثيرا من هذه النصوص وارد لبيان طهورية التراب بعد الفراغ عن طهورية الماء، و ليس واردا لبيان طهورية الماء، ليكون له إطلاق يقتضي عموم طهوريته، فيرجع إليه في مورد الشك.

و كذا الحال في مثل خبر سماعة: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته. قال: يتيمم بالصعيد و يستبقي الماء، فان اللّٰه عز و جل جعلهما طهورا الماء و الصعيد» «1».

لأنه وارد لتشريع التيمم مع قلة الماء بعد الفراغ عن كون ذلك الماء طهورا في نفسه، لا لبيان طهوريته، ليكون له إطلاق يعم جميع أفراده. فتأمل. و لم أعثر في النصوص المذكورة علي ما هو ظاهر في الإطلاق.

هذا، مع أن النصوص المذكورة لا تنهض بإثبات طهورية الماء من الخبث، لسوقها مساق طهورية التراب التي لا يراد بها إلا طهوريته من الحدث.

إن قلت: التراب قد يكون مطهرا من الخبث، كما في تطهيره باطن القدم و النعل، فلا مانع من التزام كون المراد من هذه النصوص بيان الطهورية من الحدث و الخبث معا، و إن اختص موردها بالأول، لأن المورد لا يخصص الوارد.

قلت: هذا موقوف علي ظهور الكلام في نفسه في العموم، و لا مجال له في المقام، لأن الطهور يصدق علي المطهر من جهة واحدة، و إنما يكون حذف المتعلق ظاهرا في العموم إذا وردت القضية لأجل العمل و لزم من عدم حملها علي العموم الإهمال المانع من ترتب العمل عليها، لا في مثل المقام مما كان المورد صالحا لصرف الطهورية إلي جهة خاصة يترتب العمل عليها، أو لم تكن القضية مسوقة لأجل العمل، بل لمحض الإعلام، فإن الاعلام بالطهورية في الجملة قد يتعلق به الغرض.

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 30

______________________________

مضافا إلي أن مطهرية التراب من الخبث لما لم تكن عامة، بل في خصوص مورد خاص، فلو حملت هذه النصوص علي عموم المطهرية من الحدث و الخبث معا لزم كثرة التخصيص المستهجن فيها.

و أما حملها علي المطهرية في الجملة، ليمكن فرض شمولها لهما معا.

فهو- مع أنه لا ينفع في المقام- لا يناسب مقام التعليل، لوضوح أن التعليل إنما يحسن بالقضايا الكلية، لتكون من سنخ الكبريات الصالحة للاستدلال. فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في أدلة الطهورية، و لم يتضح لنا ما يكون منها صالحا لإثبات عموم يرجع إليه في مورد الشك لو فرض، لا من حيث أفراد الماء، و لا من حيث أنحاء التطهير.

الثاني: مما يستدل به علي مطهرية الماء قوله تعالي وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1».

لكنه لا ينهض بالعموم لا من حيث أفراد الماء، و لا من حيث أنحاء التطهير الحدثي و الخبثي، لوروده في قصّة خارجية خاصة لا عموم لها من الجهتين.

و غاية ما قيل في تفسيره مما ينفع في المقام أنه ورد في غزوة بدر حين أصيب بعض المسلمين بالجنابة فنزل عليهم المطر ليتطهروا به منها. و هو- لو تمَّ- مختص بحدث الجنابة و بماء المطر.

و ما ذكره بعض مشايخنا من أن الانتفاع بماء المطر غالبا يكون بعد نزوله في الأرض و تجمعه فيها، و من الظاهر أن حكمه حينئذ حكم سائر مياه الأرض. قد عرفت الجواب عنه في الآية السابقة.

و أما ما عن الحدائق من اختصاصه بالمجاهدين في وقعة بدر فلا مجال لتعميمه لغيرهم.

فقد يندفع بفهم عدم الخصوصية عرفا لذلك. و هذا هو العمدة في دفعة، لا

______________________________

(1) سورة الأنفال: 11.

ص: 31

______________________________

ما ذكره بعض مشايخنا من دلالة الروايات علي أن نزول الآية في قوم لا يوجب اختصاصها بهم و موتها بموتهم، لأن القرآن يجري أوله علي آخره ما دامت السماوات و الأرض، و هو يجري مجري الشمس و القمر.

لاندفاعه: بأن ذلك إنما ينفي احتمال دخل الخصوصيات الشخصية مع فرض عموم الموضوع المأخوذ في الآية، و لا ينفي احتمال دخل عنوان عام- كالجهاد و الاضطرار- يختص بمن نزلت فيهم الآية، فلا بد من إحراز عدم دخل الخصوصيات المذكورة، و لا تنهض بذلك الآية بعد ورودها في واقعة شخصية إلا بضميمة ما ذكرنا من فهم عدم الخصوصية. فلاحظ.

الثالث: النصوص المتضمنة أن الماء يطهر و لا يطهر، كموثق السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّٰه صلي اللّٰه عليه و آله و سلّم: الماء يطهر و لا يطهر» «1» و غيره.

لكن الظاهر أن الصدر فيها مسوق لبيان الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي الذي تضمنه الذيل، و لا يفيد عموم التطهير به، لا من حيث أفراد الماء، و لا من حيث أنحاء التطهير من أنواع الاحداث و الأخباث.

هذا عمدة ما استدلوا به في المقام، و قد عرفت عدم نهوض شي ء منه بإثبات المطلوب.

و لعل الأولي أن يقال:

أما الطهارة من الحدث، فيكفي في الدليل عليها آيتا التيمم، قال تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ.

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. «2» و قال سبحانه:

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(2) سورة المائدة: 8.

ص: 32

______________________________

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ حَتّٰي تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «1» فإن إطلاق الغسل في صدرهما ظاهر في مقام شرح الطهارة و ظاهر في تحققها بمسماه، و من الظاهر اشتراك جميع أفراد الماء في تحقق الغسل بها.

كما أن عموم الماء في ذيلهما المستفاد من تنكيره في سياق النفي ظاهر في مانعية كل فرد من الماء من مشروعية التيمم و وجوب الوضوء أو الغسل به، فيؤكد إطلاق الصدر.

و كذا الحال فيما عن أبي أمامة: «قال رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم: فضلت بأربع: جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و أيما رجل من أمتي أراد الصلاة فلم يجد ماء و وجد الأرض فقد جعلت له مسجدا و طهورا» «2»، و خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

«في الرجل يكون معه اللبن أ يتوضأ منها للصلاة؟ قال: لا، إنما هو الماء و الصعيد» «3»، و نحوه ما عن عبد اللّٰه بن المغيرة عن بعض الصادقين «4»، لوضوح أن ورودها في شرح ما يتطهر به موجب لظهورها في الإطلاق، بل هو كالصريح فيما عن تفسير النعماني عن علي عليه السّلام: «قال: و أما الرخصة التي هي الإطلاق بعد النهي فإن اللّٰه فرض الوضوء علي عباده بالماء الطاهر، و كذلك الغسل من الجنابة، فقال تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ. «5»، فإن الاقتصار علي تقييد الماء بالطاهر مع الاستشهاد بالآية كالصريح في عدم التقييد فيها بغير الطاهر.

بل لا ينبغي الإشكال في ذلك بعد ملاحظة النصوص الكثيرة الواردة في

______________________________

(1) سورة النساء: 43.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب التيمم حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المضاف حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 51 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 33

______________________________

كيفية الوضوء و الغسل «1»، و بيان بعض المستحبات «2» فيهما، و تقدير مائهما «3»، و النهي عن الإفراط في الوضوء «4»، و إجزاء المطر فيه «5»، و أحكام الجبائر «6»، و وجوب الغسل بالإيلاج من دون إنزال «7»، و كراهة نوم الجنب «8»، و غسل الشعر في الغسل «9»، و نصوص التيمم الواردة في طلب الماء «10»، و عدم إعادة الصلاة لمن وجده بعدها «11»، و انتقاض التيمم بوجدانه «12»، و جوازه مع خوف قلته «13»، و تأخير التيمم إلي آخر الوقت «14»، و التيمم بالطين «15»، و الطهارة بالثلج «16» و غيرها، لأن النصوص المذكورة و إن كانت واردة لبيان أحكام خاصة بعد الفراغ عن مشروعية الغسل و الوضوء بالماء و مشروعية التيمم مع عدمه، و لا ظهور لها في شرح ما يتطهر به، ليتم إطلاق الغسل و الماء فيها من هذه الجهة.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء، و باب: 26 من أبواب الجنابة. و باب 6 من أبواب غسل الميت.

(2) راجع الوسائل باب: 16، 26 من أبواب الوضوء. و باب: 24، 40 من أبواب الجنابة. و باب: 6 من أبواب غسل الميت.

(3) راجع الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء و باب: 21 من أبواب الجنابة.

(4) راجع الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء.

(5) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الوضوء.

(6) راجع الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء.

(7) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة.

(8) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة.

(9) راجع الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة.

(10) راجع الوسائل باب: 1، 2 من أبواب التيمم.

(11) راجع الوسائل باب: 14 من أبواب التيمم.

(12) راجع الوسائل باب: 19، 20، 21 من أبواب التيمم.

(13) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب التيمم.

(14) راجع الوسائل باب: 12 من أبواب التيمم.

(15) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب التيمم.

(16) راجع الوسائل باب: 10 من أبواب التيمم.

ص: 34

______________________________

إلا أن إغفال التقييد فيها- علي كثرتها- مع ارتكاز مناسبة الماء بجميع أفراده للمطهرية ظاهر في الجري علي الارتكاز المذكور، و لا سيما مع تنكير الماء في كثير منها الظاهر في الاجتزاء بأي ماء فرض.

بل ما ورد في حديث وضوء رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم في السماء «1»، الظاهر في كون ذلك أصل التشريع كالصريح في العموم، لوضوح أنه لا جامع ارتكازي بين ماء السماء و ماء الأرض الذي يشرع التطهر به إلا عنوان الماء.

مع أنه لا يبعد تحصيل الإطلاق لبعض هذه النصوص، خصوصا نصوص تغسيل الميت «2»، و إن كان محتاجا الي سبر و تأمل لا يسعه الوقت. و لا يهم ذلك بعد ما عرفت من وضوح الحكم. فلاحظ.

و أما المطهرية من الخبث فيكفي فيها ما تقدم بناء علي ملازمة المطهرية من الحدث للمطهرية من الخبث، و إن لم يتم العكس، بناء علي عدم ارتفاع الحدث بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

و إن استشكل في الملازمة المذكورة أمكن التمسك بإطلاق النصوص الواردة في كيفية التطهير، المتضمنة للأمر بالغسل، أو الغسل بالماء، مثل ما ورد في البول «3»، و الكلب و الجرذ الميت «4»، و الأواني «5»، و الجلود المدبوغة بالنجس «6»، و فيما يستعمله الكفار «7».

فإن بعض هذه النصوص و إن تضمن بيان العدد أو الكيفية، إلا أن مقتضي إطلاقه تحقق التطهير مع الكيفية أو العدد المذكورين بأي فرض. بل هو كالصريح

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(2) راجع الوسائل باب: 2، 6، 31 من أبواب غسل الميت.

(3) راجع الوسائل باب: 1، 2، 3، 5 من أبواب النجاسات.

(4) راجع الوسائل باب: 12، 26، 53، 70 من أبواب النجاسات.

(5) راجع الوسائل باب: 14، 51، 53 من أبواب النجاسات.

(6) راجع الوسائل باب: 71 من أبواب النجاسات.

(7) راجع الوسائل باب: 73 من أبواب النجاسات.

ص: 35

______________________________

من مثل خبر مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عليه السّلام: «قال: قال جابر بن عبد اللّٰه:

ان دباغة الصوف و الشعر غسله بالماء، و أي شي ء يكون أطهر من الماء؟!» «1» فان التعليل المذكور ظاهر في عموم المطهرية جدا. فتأمل.

بل التأمل في النصوص الكثيرة الواردة في النجاسات يوجب القطع بعموم مطهرية الماء، لأنها و إن لم ترد في بيان كيفية التطهير، إلا أنها ظاهرة في المفروغية عن عموم مطهرية الماء، خصوصا بملاحظة ما تقدم في نصوص الطهارة من الحدث.

نعم، لا عموم في هذه النصوص من حيث أنواع النجاسات و المتنجسات، إلا أنه يتم بعدم الفصل بين أنواع النجاسات و المتنجسات القابلة للتطهير بالغسل.

بل لعل النصوص المذكورة بمجموعها ظاهرة في المفروغية عن العموم من الجهتين المذكورتين. بل لعله مقتضي عموم التعليل في خبر مسعدة المتقدم.

بقي في المقام شي ء: و هو أن الأدلة المتقدمة كما تقتضي مطهرية الماء بحسب طبعه و أصل خلقته كذلك تقتضي مطهريته بعد طروء الطوارئ عليه و تبدل حالاته، لأن اختلاف أحواله لا يمنع من صدق الغسل، أو الغسل بالماء، أو وجدان الماء، و نحو ذلك مما أخذ في هذه الأدلة، و حيث لا ريب في عروض النجاسة علي الماء و في مانعيتها من التطهير به تعين تخصيص عموم الأدلة المذكورة بالماء الطاهر، فلا مجال للرجوع إليه مع الشك في طهارة الماء، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف المخصص علي التحقيق.

بل لعله من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي لا يجوز بلا كلام، لأن ارتكاز توقف التطهير بالماء علي طهارته من سنخ القرينة المتصلة المانعة من ظهور هذه الأدلة في العموم، كما قد يومئ إليه ما تقدم عن تفسير النعماني.

و منه يظهر أنه لا مجال للاستدلال بهذه الأدلة علي طهارة الماء عند الشك

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 36

______________________________

فيها، و ما تقدم من أن أدلة مطهرية الماء دالة علي طهارته، إنما يتم في مثل النبوي المتقدم الدال علي عموم طهارة الماء في نفسه مع قطع النظر عن الأحوال الطارية عليه، لأن العموم المذكور حيث لم يثبت تخصيصه كان حجة في إثبات عموم المطهرية المستلزم لعموم الطهارة، بقرينة ارتكاز توقف المطهرية علي الطهارة.

و بعبارة أخري: ارتكاز توقف المطهرية علي الطهارة موجب لكون دليل المطهرية دليلا علي الطهارة، فيما لو أمكن إبقاؤه علي عمومه، كما هو الحال فيما دل علي طهارة الماء في نفسه مع قطع النظر عن الحالات الطارئة عليه، بخلاف ما دل علي مطهريته مطلقا حتي بلحاظ الحالات الطارئة- كالأدلة المتقدمة- لأنه حيث لا إشكال في عروض النجاسة علي الماء في الجملة، يكون الارتكاز المذكور قرينة علي تخصيص العموم المذكور بغير النجس فهو وارد لبيان التطهير بالماء بعد الفراغ عن طهارته، لا لبيان طهارته، فكما لا ينهض بإثبات المطهرية مع الشك في الطهارة لا ينهض بإثبات الطهارة نفسها، سواء شك في طهارة الماء بحسب الأصل، أم في عروض النجاسة عليه، إذ ليس له عمومان أفرادي و أحوالي، قد علم بتخصيص الثاني منهما دون الأول، ليمكن التمسك بالأول لو فرض الشك في طهارة بعض أفراد الماء بحسب أصله، بل له عموم واحد واسع يقتضي مطهرية جميع أفراد الماء في جميع الأحوال، و قد علم بتخصيص العموم المذكور بغير الماء النجس، فلو فرض نجاسة بعض المياه بحسب أصله لم يكن ذلك تخصيصا زائدا، بل فردا للمخصص الواحد.

و قد تحصل من جميع ما ذكرناه في هذا المقام و ما قبله أمور.

الأول: أن دليل عموم طهارة الماء بحسب أصله ينحصر بنصوص قاعدة الطهارة في الماء لو تمَّ ما سبق منا في تقريبها.

و أما أدلة مطهرية الماء فما تضمّن منها طهارة الماء بحسب أصله- كالآية و النبوي المتقدمين- قاصر عن مقام الاستدلال دلالة أو سندا. و ما تضمن منها طهارته مطلقا و لو بلحاظ الطوارئ- كالأدلة المتقدمة منا- مخصص بالطاهر، فلا

ص: 37

______________________________

ينهض بإثبات المطهرية مع الشك في الطهارة، فضلا عن الطهارة.

الثاني: أنه لا دليل ينهض بإثبات طهارة الماء حتي بلحاظ الطوارئ و الأحوال.

الثالث: أنه لا دليل ينهض بإثبات مطهرية الماء، لا من حيث الأفراد، و لا من حيث الأحوال، لأن ما دل علي مطهريته في نفسه قاصر عن إثبات العموم، و ما دل علي مطهريته مطلقا- كالأدلة المتقدمة منا- مخصص بالطاهر، فليس لنا إلا عموم مطهرية الماء الطاهر. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

الأمر الثالث: الماء المضاف.

تارة: يؤخذ من طاهر.

و اخري: يؤخذ من نجس أو متنجس.

أما الأول فهو طاهر سواء حصل بالخلط- كماء الزبيب- أم الاعتصار- كماء الرمان- أم التصعيد- كماء الورد- إذ لا يحتمل تنجسه بأخذه بأحد الوجوه المذكورة.

و لو فرض حصول الشك في ذلك أمكن الرجوع لاستصحاب الطهارة مع الخلط و الاعتصار، بناء علي ما هو الظاهر من جريان الاستصحاب الحكمي في الشبهات الحكمية في مثل المقام، مما كان موضوع الحكم المتيقن- كالجسم- باقيا حقيقة بنظر العرف، بحيث يكون ثبوت الحكم معه بقاء و استمرارا، لأن الخلط و الاعتصار من سنخ الحالات التي لا يتبدل بها الموضوع و إن اختلف الاسم، و ليسا بحيث يغفل العرف معهما عن بقاء الموضوع، بحيث يعدون ما يحصل بعدهما مباينا لما كان قبلهما كالمتولد منه.

و منه يظهر الحكم فيما لو حصل الماء المضاف بالخلط و الامتزاج مع ما هو مستصحب الطهارة، لا مسلوبها، فإنه حيث فرض بقاء الموضوع بعد الامتزاج أو الخلط فكما يجري الاستصحاب قبلهما يجري بعدهما.

هذا، و لو فرض الشك في بقاء الموضوع معهما كفت أصالة الطهارة التي لا

ص: 38

______________________________

خلاف فيها ظاهرا. و يدل عليها موثق عمار المتقدم في أدلة طهارة الماء الشامل للشبهة الحكمية و الموضوعية معا، المطابق لمرتكزات المتشرعة الحاكمة بأن الطهارة مقتضي الأصل الذي عليه العمل ما لم تثبت النجاسة. و يأتي الكلام فيها في أول الفصل الرابع من مباحث المياه. و هي المرجع أيضا فيما لو حصل الماء المضاف بالخلط و الامتزاج مع ما هو مجري لأصالة الطهارة، كما لعله ظاهر.

و أما التصعيد فلو فرض الشك في بقاء الطهارة معه فالمرجع أصالة الطهارة.

و أما الاستصحاب فربما يمنع عنه بدعوي: أن الموضوع معه و إن كان باقيا حقيقة إلا أنه مما يغفل العرف عن بقائه، و لا يجري مع ذلك الاستصحاب علي التحقيق.

و فيه: أن هذا إنما يتم في الماء و البخار، لغفلة العرف عن اتحاد الثاني مع الأول بل يرونه متولدا منه، أما بعد رجوع البخار ماء فهو بنظر العرف متحد مع الماء الذي تحول إلي البخار غير مباين له و إن مرّ بدور البخار الذي يغفل عن اتحاده معه، فتحول البخار إلي الماء رجوع له إلي ما كان، لا تحول آخر لما يباينه، بحيث يكون كتحول البيضة المتولدة من الحيوان إلي حيوان آخر.

فالأولي في المنع عن الاستصحاب أن الماء الحاصل من البخار و إن فرض اتحاده مع الماء الموجود قبله، إلا أن الاستصحاب لما كان هو إبقاء الحكم السابق فانقطاعه في دور بسبب تبدل الموضوع عرفا مانع من جريانه بعد رجوع البخار ماء، لابتناء الاستصحاب علي الاستمرار لا علي الطفرة، فالمانع من الاستصحاب ليس هو تعدد الموضوع، و لا انقطاع الحكم الواقعي المستصحب [1]، بل انقطاع الحكم الاستصحابي بالإبقاء.

______________________________

[1] لإمكان بقاء النجاسة في دور البخار، كما سيأتي. نعم، لو تمت الأدلة الاجتهادية المستدل بها علي طهارة البخار كان المانع من الاستصحاب هو انقطاع الحكم المستصحب. و تمام الكلام في مبحث المطهرات. منه عفي عنه.

ص: 39

______________________________

بل ربما يدعي أن البخار لا يقبل الحكم بالنجاسة و الطهارة، لأنهما يختصان بالأجسام ذات الكثافة المستقرة في الوجود، دون مثل الدخان و البخار و الهواء و إن كانت أجساما حقيقة، و لذا لا ريب في عدم تنجسها بملاقاة النجاسة مع الرطوبة، فيمتنع استصحاب الحكم السابق للعلم بانقطاعه، بل ينبغي استصحاب عدمه و لو بنحو استصحاب العدم الأزلي.

و لا ينبغي أن يقاس بالغبار الذي لا ريب في قبوله الحكم بالطهارة و النجاسة، كما لا ريب في بقاء النجاسة بتحول التراب النجس إليه و عوده ترابا بالتجمع.

للفرق بينهما عرفا، فإن صيرورة الماء بخارا و رجوع البخار ماء من سنخ التحول عرفا، فالبخار مباين عرفا للماء و له نحو وجود لا يقبل الطهارة و النجاسة، بخلاف الغبار، فإنه لا يبتني علي التحول، بل علي محض تفرق الأجزاء الترابية بعد اجتماعها، الذي لا إشكال في عدم دخله في القابلية للنجاسة و الطهارة.

فالذي ينبغي أن يقاس بالغبار هو تفرق الأجزاء المائية بدفع الهواء و نحوه، الذي لا إشكال في بقاء الحكم معه أيضا.

لكن الإنصاف أن البخار و إن لم يكن من سنخ الغبار، إلا أنه لا مجال للجزم بخروجه عن قابلية الحكم بالنجاسة، و لذا لو حكم الشارع بذلك بنحو يتنجس ملاقيه لم يكن الحكم المذكور مستنكرا، و لا مؤوّلا بما يخرجه عن ظاهره.

و أما عدم تنجسه بالملاقاة للنجس فإن أريد به عدم تنجس خصوص محل الاتصال فهو لانصراف أدلة التنجيس عنه، لا لعدم قابليته للتنجس. و إن أريد به عدم تنجس تمامه بملاقاة بعض سطوحه للنجس، فهو لا يرجع إلي عدم قابليته للتنجس، بل إلي عدم سراية النجاسة فيه، نظير عدم اعتصامه بالاتصال بالمادة، و هو أجنبي عن محل الكلام. فلاحظ.

و أما الثاني- و هو المأخوذ من نجس أو متنجس- فلا ينبغي الإشكال في نجاسته مع الخلط و الاعتصار، لليقين ببقاء الحكم معهما أو استصحابه، كما تقدم نظيره.

ص: 40

______________________________

و يزيد هنا بملاقاة النجس لبعض أجزائه الموجب لتنجسه، لغلبة حصول الامتزاج و الاعتصار تدريجا، بحيث يبقي الجسم النجس حافظا لصورته مدة قليلة كافية للتنجيس للماء المخلوط به أو المعتصر منه.

و أما مع التصعيد، فالظاهر البناء علي طهارته، لأصالة الطهارة بعد عدم جريان استصحاب النجاسة لما تقدم، إلا أن ينطبق عليه عنوان نجس نظير الخمر الحاصل بالتصعيد من طاهر أو نجس.

ثمَّ إنه تقدم في أوائل هذا الفصل أنه يلحق بالماء المضاف في الكلام في الطهورية و عدمها ما كان من المائعات واجدا لعنصر الماء، و لا يطلق عليه الماء حتي مع الإضافة، كالنبيذ و البصاق و البول. و أما في الطهارة و النجاسة فالمتبع فيه الدليل الخاص. و لا ضابط له.

هذا تمام الكلام في طهارة الماء المضاف، و أما مطهريته فيأتي الكلام فيها إن شاء اللّٰه تعالي تبعا لسيدنا المصنف قدّس سرّه في المسألة الحادية و العشرون من مباحث المياه. و اللّٰه سبحانه و تعالي ولي التوفيق و التسديد، و هو خير معين.

ص: 41

الفصل الثاني: في أحكام الماء المطلق
اشارة

الفصل الثاني الماء المطلق إما لا مادة له، أو له مادة (1)، و الأول إما قليل لا يبلغ مقداره الكر، أو كثير يبلغ مقداره الكر (2). و القليل ينفعل بملاقاة النجس (3)،

______________________________

(1) و هو الذي يتصل بغيره و يتقوي به، سواء كان ذلك الغير ظاهرا، كمياه الحياض الكبيرة التي هي مادة لما في الحياض الصغيرة المتصلة بها، أم في بطن الأرض، كمادة الجاري أو البئر. بل يشمل المادة المتقطعة التي اعتبرها الشارع الأقدس عاصمة، كماء المطر علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

ثمَّ إن المعروف منهم تقسيم الماء إلي جار، و بئر، و محقون. و هو مستدرك بماء المطر، و بالنابع علي وجه الأرض من دون جريان، كما أن المعيار عندهم في ترتب أحكام الجاري و البئر علي وجود المادة لهما، و من هنا كان التقسيم المذكور في المتن أولي. و الأمر سهل.

(2) لأن الكرية هي المعيار في الكثرة التي هي موضوع الأحكام الخاصة.

و عليها ينزل الكثير في كلماتهم و في النصوص «1» جمعا بين الأدلة، كما يأتي في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

(3) علي المعروف بين الأصحاب. ففي الجواهر: «للإجماع محصلا و منقولا، نصا و ظاهرا، مطلقا في لسان بعض و مستثني منه ابن أبي عقيل فقط في

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

ص: 42

______________________________

لسان آخرين. و قد وقعت حكاية الإجماع للأساطين من علمائنا، كما عن المرتضي رحمه اللّٰه في الناصريات، و الشيخ في الخلاف و الاستبصار، و ابن زهرة في الغنية، و في المختلف مستثنيا ابن أبي عقيل، و مثله في المدارك.».

و يقتضيه بعد ذلك النصوص الكثيرة قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و عن صاحب المعالم، و العلامة المجلسي، و المحقق البهبهاني أن الأخبار بذلك متواترة.

و في الرياض جمع منها بعض الأصحاب مائتي حديث. و عن العلامة الطباطبائي قدّس سرّه في أثناء تدريسه في الوافي إنها تزيد علي ثلاثمائة رواية». و كيف كان فالنصوص المذكورة علي طوائف.

منها: المستفيضة المتضمنة أن الماء إذا بلغ الكر لم ينجس، إما ابتداء، أو بعد السؤال عن ملاقاة الماء للنجاسة، كصحيح معاوية بن عمار: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «1»، و صحيح محمد بن مسلم عنه عليه السّلام: «و سئل عن الماء تبول فيه الدواب، و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «2»، و صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام: «سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العذرة ثمَّ تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا إلا أن يكون الماء كثيرا قدر كر» «3».

و غيرها مما هو صريح أو ظاهر في الفرق بين الكر و غيره بالانفعال و عدمه.

بل بعضها ظاهر في معروفية الحكم المذكور و المفروغية عنه، كصحيح إسماعيل بن جابر: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الماء الذي لا ينجسه شي ء قال:

كر.» «4»، و نحوه صحيحه الآخر «5».

فإن النصوص المذكورة تدل علي انفعال ما دون الكر صريحا أو ظاهرا

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(5) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 43

______________________________

بمقتضي المفهوم، بل بمقتضي ذكر عنوان الكر، حيث يدل علي دخله في الاعتصام، و عدم كون الاعتصام من لوازم ذات الماء، و إلا كان ذكر الكر موهما لخلاف المراد، لمناسبة الكثرة للاعتصام، فالتعرض لها ظاهر في دخلها جدا.

و مثلها في ذلك ما تضمن السؤال عن قدر الماء و إن لم يصرح فيها بالكريه، كصحيح صفوان الوارد في الحياض تردها السباع و تلغ فيها الكلاب و يغتسل فيها الجنب، حيث قال عليه السّلام: «و كم قدر الماء؟ قال: إلي نصف الساق و إلي الركبة. فقال:

توضأ منه» «1».

و منه يظهر الوجه في الاستدلال بما دل علي اعتصام غير الكر من العناوين الخاصة، كالجاري، و ماء البئر، و الحمام، أو الذي له مادة، بل تعليل اعتصام البئر و ماء الحمام بأن له مادة كالصريح في أن الماء غير معتصم بنفسه لو لا المادة و نحوها، كما ذكر في الجواهر و غيرها.

و منها: ما ورد في سؤر النجس و فضله «2»، من الأمر بصب الماء، و النهي عن الوضوء به و شربه، و الأمر بغسل الإناء، و نحو ذلك مما ورد في الكلب و الخنزير و الطائر إذا وجد في منقاره دما، و الكفار- بناء علي نجاستهم- و غير ذلك مما لا وجه له إلا تنجس الماء القليل.

بل ما ورد في الأسآر المكروهة، كسؤر الحائض المتهمة، و غيرها ظاهر في المفروغية عن التنجس بالملاقاة، و إن لم يجب الاجتناب ظاهرا لعدم العلم به.

بل حتي ما ورد في السؤر الطاهر ظاهر في ذلك أيضا، إذ لو لا المفروغية عن تنجس الماء لم يكن وجه للسؤال و الجواب عن حال ذي السؤر، و أنه ينجس سورة أو لا.

و منها: ما ورد في إدخال اليد الماء و فيها القذر، كموثق سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: إذا أصاب الرجل جنابة، فأدخل يده في الإناء فلا بأس، إذا لم

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

(2) ذكر النصوص المذكورة في الوسائل في أبواب الأسئار و غيرها.

ص: 44

______________________________

يكن أصاب يده شي ء من المني» «1»، و غيره من النصوص الكثيرة.

و مثله ما ورد في الماء الذي تقع فيه النجاسة، كالدم و الميتة و المسكر، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسي بن جعفر عليهما السّلام: «و سألته عن رجل رعف و هو يتوضأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا.» «2»،

و موثق عمار في من يجد في إنائه فأرة «3»، و خبر أبي بصير في حديث النبيذ عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: ما يبل الميل ينجس حبا من ماء.» «4»، و خبر حفص بن غياث: «لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة» «5»، و غيرها من النصوص الكثيرة المتضمنة لانفعال الماء بملاقاة النجاسات.

بل ما تضمن عدم تنجس الماء بملاقاته لبعض الأمور- كالفأرة الحية، و بعض ما لا نفس له سائلة- ظاهر في المفروغية عن تنجسه بالملاقاة في الجملة، و أن عدم تنجسه حينئذ لطهارة الملاقي.

و منها: ما ورد في الإنائين المشتبهين، كموثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيهما هو، و ليس يقدر علي ماء غيره؟ قال: يهريقهما جميعا و يتيمم» «6». و قريب منه موثق عمار «7».

فإن الأمر بإهراق الماء مع فرض الاشتباه و الانحصار كالصريح في تنجسه، بل ظاهر السؤال المفروغية عن ذلك، و أن منشأه خصوصية الاشتباه و الانحصار، إذ

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 9 و في الباب المذكور أحاديث كثيرة تدل علي ذلك.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(7) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

ص: 45

______________________________

قد يكونان سببا في تشريع استعمال أحدهما و لو بعد مثل القرعة.

و منها: نصوص نجاسة ماء الغسالة، فإنه لا يحتمل خصوصيته عن بقية أفراد الماء في التنجس، بل ربما احتمل خصوصيتها في عدمه، لأن القول باستثنائها من أدلة التنجس مشهور.

إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة الواردة في الموارد المتفرقة الصريحة أو الظاهرة في انفعال الماء بالملاقاة، بل بعضها ظاهر في المفروغية عنه، و أن الحديث وارد لبيان بعض الجهات الخاصة المتعلقة به، كما أشار إلي كثير منها في الجواهر، و أشرنا لبعضها.

هذا، و قد تقدم الخلاف في ذلك عن ابن أبي عقيل، و عن جماعة من المتأخرين- منهم الكاشاني و الفتوني- موافقته.

و استدل لهم بأمور.

الأول: عموم طهارة الماء، فإن المتيقن في الخروج عنه هو المتغير، و يبقي غيره علي العموم.

و يظهر الجواب عنه مما تقدم منّا في الفصل السابق، فإن العموم المذكور مسوق لبيان طهارة الماء في نفسه بحسب أصله، فلا ينافي انفعاله بالملاقاة أو التغير، و ليس فيهما تخصيص له.

و أما عموم مطهريته الملازمة لطهارته، فهو مختص بالماء الطاهر، و قد خرج منه الماء النجس، فلا ينهض بإثبات مطهرية الماء عند الشك فيها، فضلا عن طهارته.

إن قلت: المتيقن تقييده بالمتغير، فيرجع في غيره إلي عموم المطهرية، المستلزم للطهارة.

قلت: هذا إنما يتم لو فرض أن المتغير بعنوانه مأخوذ في عنوان المخصص، لا بما أنه نجس، بحيث لو فرض كون غيره نجسا أيضا لبقي تحت عموم المطهرية، و احتاج في الخروج عنه إلي مخصص آخر، و من الظاهر أنه لا مجال لذلك، بل الخارج عنوان النجس، و نجاسة غير المتغير موجبة لسعة أفراد التخصيص الواحد، لا لسعة التخصيص نفسه.

ص: 46

______________________________

لوضوح أن الارتكاز الموجب لتخصيص الأدلة قائم بعنوان النجس، لا بعنوان المتغير، و من ثمَّ كان ما تضمن مانعية التغير من المطهرية و من الانتفاع دليلا علي نجاسة المتغير من باب بيان الموضوع- و هو النجاسة- بلسان بيان الحكم- و هو المانعية المذكورة- و لو استفيد منها خصوصية التغير في المانعية المذكورة لم تنهض تلك الأدلة ببيان النجاسة.

كما أنه لو لا ذلك لزم عدم نهوض دليل النجاسة في بعض المياه بإثبات امتناع التطهير به، بل احتاج إلي دليل آخر.

نعم، لو فرض سوق عموم المطهرية لبيان الطهارة لأجل ملازمتها لها فلا بد من الالتزام بأن التخصيص وارد علي العناوين المأخوذة في أسباب النجاسة- كالتغير و الملاقاة و نحوهما- إذ لا معني لتقييد دليل الطهارة بعنوان النجس، لاستحالة أخذ أحد الضدين في موضوع الآخر.

لكن لا مجال لذلك في المقام، لوضوح أن الأدلة المتقدمة مسوقة لبيان المطهرية، و لا إشعار لها في سوقها لبيان الطهارة. و مجرد ملازمتها لها ارتكازا لا يقتضيه، إذ قد لا يتعلق الغرض ببيان الملزوم.

غاية ما في المقام أنه لو تمت المطهرية لاستفيدت الطهارة بضميمة الارتكاز المذكور و إن لم يكن المتكلم بصدد بيانها، كما تقدم في عموم مطهرية الماء بحسب أصله، و لا مجال له في الأدلة المتقدمة الدالة علي مطهريته مطلقا، لما تقدم من تخصيصها بغير النجس، فلا تنهض بإثبات المطهرية مع الشك في الطهارة، فضلا عن الطهارة نفسها.

مع أنه لو فرض اعتماد المتكلم علي الارتكاز المذكور في بيان الطهارة تبعا للمطهرية كان متسامحا في إهمال التقييد بالتغير الذي هو تقييد تعبدي يحتاج إلي تنبيه عليه بالخصوص، أما لو فرض اعتماده علي الارتكاز المذكور في إهمال التقييد بالطاهر و سوق الكلام لبيان المطهرية بعد فرض الطهارة فلا يلزم منه التسامح في شي ء.

ص: 47

______________________________

هذا، و بملاحظة ما تقدم منا في العمومات المذكورة يتضح حال كثير من الجهات المتعلقة بالاستدلال التي أشار إليها في الجواهر. فراجع.

علي أنه لو تمَّ العموم المذكور كفت الأدلة المتقدمة في الخروج عنه في القليل الملاقي للنجاسة، كما كانت أدلة التغير مخرجة عنه فيه.

الثاني: النصوص الكثيرة الظاهرة في إناطة نجاسة الماء بالتغير وجودا و عدما، كصحيح حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء فلا توضأ منه و لا تشرب» «1»، و نحوه خبر أبي بصير الوارد في النقيع الذي تبول فيه الدواب و يقع فيه الدم و أشباهه «2»، و خبر القماط في الماء يمر به الرجل و هو نقيع فيه الميتة و الجيفة «3»، و موثق سماعة في من يمر بالماء فيه دابة ميتة قد أنتنت «4»، و صحيح شهاب بن عبد ربه في الغدير الذي فيه جيفة «5»، و خبر العلاء ابن الفضيل في الحياض التي يبال فيها «6»، و غيرها.

و فيه: - مع قرب انصراف أكثر هذه النصوص أو اختصاصها بما زاد علي الكر، كما هو الغالب في المياه الباقية في الصحاري و القفار و الموجودة في الغدران و الحياض المعدة لها، و لا سيما مع ما فرض فيها من عدم تغيرها بالجيفة و الميتة النتنة- أنه لا بد من الجمع بينها و بين أدلة النجاسة المتقدمة بحملها علي ما زاد علي الكر، إذ لا مجال لحمل تلك الأدلة علي المتنجس بخصوص التغير، لوضوح اشتراك التنجس معه بين الكر و غيره. مع صراحة بعضها في التنجس بالملاقاة التي لا توجب التغير، كما يظهر بملاحظة بعض نصوص الكر- كصحيحي ابن جعفر

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(6) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 48

______________________________

و صفوان المتقدمين- و غيرها مما تقدم، بل لا يبعد ظهور بعض نصوص التغير في تنجس القليل بغيره، كصحيح عبد اللّٰه بن سنان: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا حاضر عن غدير أتوه و فيه جيفة. فقال: إن كان الماء قاهرا و لا توجد منه الريح فتوضأ منه» «1»، لظهوره في توقف عدم التنجيس مع عدم تغير ريح الماء علي كونه قاهرا، الظاهر في لزوم كثرته، و أنه لو كان قليلا لتنجس و إن لم يحمل ريح الجيفة.

و أما حمل كونه قاهرا علي التمهيد لعدم تغيره من دون أن يكون قيدا آخر في قباله. فلعله خلاف الظاهر. فتأمل جيدا.

نعم، قد يشكل ما ذكرنا في صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام: «سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه هل يصلح الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئا بينا فلا تتوضأ منه» «2»، بناء علي أن المراد باستبانة الدم في الإناء تغير مائه به، فيدل علي أن انحصار سبب الانفعال بالتغير لا يختص بالكر، لامتناع حمل الإناء عليه، و لو لأنه الفرد النادر.

لكنه يندفع بالمنع من ظهور الاستبانة في التغير، بل هي ظاهرة في كون الدم بمقدار يري في الإناء حين وقوعه و إن لم يوجب تغيره بعد تحلله فيه لقلته، أو لعدم تحلله. و يأتي تمام الكلام في الصحيح عند الكلام في عموم الانفعال إن شاء اللّٰه تعالي.

الثالث: النصوص الظاهرة في عدم تنجس الماء بملاقاة النجاسة. و لا يخفي أن النصوص المذكورة بين ما هو مطلق، و ما هو ظاهر في خصوص القليل.

أما الأول فكموثق سماعة: «سألته عن الرجل يمر بالميتة في الماء. قال:

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 49

______________________________

يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «1»، و غيره «2».

و اللازم تخصيصه بالكر نظير ما تقدم في نصوص التغير، بل هو أولي بذلك بعد ورود التخصيص عليه بنصوص التغير.

و أما الثاني فهو جملة من النصوص ذكرت في المقام ينبغي النظر فيها.

أحدها: خبر زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: رواية من ماء سقطت فيها فأرة، أو جرذ، أو صعوة ميتة. قال: إن تفسخ فيها فلا تشرب من مائها و لا تتوضأ و صبّها، و إن كان غير متفسخ فاشرب منه و توضأ و اطرح الميتة إذا أخرجتها طرية.

و كذلك الجرة و حب الماء و القربة و أشباه ذلك من أوعية الماء. و قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجسه شي ء، تفسخ فيه أو لم يتفسخ، إلا أن يجي ء له ريح تغلب علي ريح الماء» «3».

و فيه: - مع ضعف سنده- أنه لا ينفع الخصم، لاشتماله علي التفصيل بوجه لا يقول به هو و لا غيره من الأصحاب.

لظهوره. أولا: في التفصيل بين التفسخ و عدمه.

و دعوي: أن ذكر التفسخ للتلازم بينه و بين التغير في الأوعية المذكورة.

ممنوعة، لمخالفتها لظاهر أخذ العنوان، بل المقابلة في الذيل بينه و بين التغير ظاهرة في كونه سببا آخر في مقابله. فتأمل.

بل الظاهر أنه لا تلازم بينهما خارجا و لا سيما مع اختلاف الأوعية و أقسام الميتة في الصغر و الكبر.

و ثانيا: في اختصاص الحكم المذكور بالرواية و الجرة و ما بينهما من الأواني، و لا يعم ما دونهما كالقلة و نحوها من المياه القليلة، بل هو مشعر بالانفعال فيها مطلقا، و يكون المحصّل من الخبر أن ما زاد علي الرواية لا ينفعل إلا بالتغير، و ما

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(2) راجع بعضها في باب: 9 من أبواب الماء المطلق من الوسائل.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 8، 9.

ص: 50

______________________________

بين الجرة و الرواية ينفعل به و بالتفسخ، و ما دون ذلك ينفعل بالملاقاة مطلقا، و لا قائل بذلك.

و ثالثا: في اختصاصه بالميتة القابلة للتفسخ و عدمه، و التعميم في هذا و ما قبله لجميع أفراد الماء القليل و في جميع أنواع النجاسات بعدم الفصل، لا مجال له بعد ظهور الخبر في خصوصية المورد.

مع أن الخبر في نفسه لا يخلو عن اضطراب، لظهوره تارة في أن المدار علي تفسخ الميتة و عدمه، و اخري في أن المدار علي إخراجها طرية و عدمه.

و الحاصل: أن الخبر- مع ضعفه و اضطرابه في نفسه- مخالف للأحكام المعروفة بين الأصحاب. المأخوذة من الأدلة المعتبرة، المعول عليها عندهم، فلا بد من تأويله أو رد علمه إلي قائله (عليه الصلاة و السّلام).

نعم، عن المختلف مرسلا عنه عليه السّلام: «أنه سئل عن القربة و الجرة من الماء يسقط فيها فأرة أو جرذ أو غيره فيموتون فيها. فقال: إذا غلب رائحته علي طعم الماء أو لونه فارقه، و إن لم يغلب عليه فاشرب منه و توضأ و اطرح الميتة إذا أخرجتها طرية» «1».

إلا أنه- مع اختصاصه بالميتة- لا مجال للتعويل عليه مع إرساله، و لا سيما مع قرب كونه مأخوذا بالمعني من الخبر المتقدم، علي أن التفصيل فيه بين إخراج الميتة طرية و عدمه مما لا قائل به. فلاحظ.

و أما مضمر زرارة المروي بطريق صحيح عنه المشتمل علي الذيل فقط فهو إنما يكون دليلا علي اعتصام ما زاد علي الرواية، و تنجس ما دونها في الجملة، فلا يكون دليلا للخصم بل عليه، بالإضافة لمنافاته لروايات الكر، لأن حمل الرواية علي الكر بعيد جدا.

ثانيها: خبر محمد بن ميسر الذي لا يبعد كونه موثقا بل صحيحا: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل الجنب ينتهي إلي الماء القليل في الطريق و يريد أن يغتسل

______________________________

(1) المختلف ص: 3.

ص: 51

______________________________

منه، و ليس معه إناء يغرف به و يداه قذرتان. قال: يضع يده ثمَّ [و خ ل] يتوضأ ثمَّ يغتسل. هذا مما قال اللّٰه عز و جل مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «1».

بدعوي: أنه نص في الماء القليل.

لكنه- كما تري- وارد في المتنجس، و غاية ما يدعي أن إطلاقه يشمل ما لو كانت اليد حاملة لعين النجاسة، و رفع اليد عن الإطلاق المذكور بالأدلة المتقدمة المتضمنة للانفعال بعين النجاسة غير عزيز. و يأتي عند الكلام في الانفعال بالمتنجس تمام الكلام في هذا الخبر إن شاء اللّٰه تعالي.

ثالثها: خبر أبي مريم: «كنت مع أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حائط له، فحضرت الصلاة، فنزح دلوا للوضوء من ركي له، فخرج عليه قطعة عذرة يابسة، فأكفأ رأسه و توضأ بالباقي» «2». و لا يخفي قوة ظهوره في عدم الانفعال، بل هو كالصريح فيه.

و حمله علي عذرة مأكول اللحم- كما عن الشيخ قدّس سرّه- بعيد جيدا. و ما في الجواهر من إطلاقها عليها كما في صحيح ابن بزيع «3» الوارد في البئر من قوله:

«فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شي ء من عذرة [4] كالبعرة و نحوها».

غير ظاهر، لقرب كونه للتشبيه لبيان مقدار العذرة، لا للتمثيل لبيان فرد منها.

و أشكل من ذلك ما فيها أيضا من عدم نصوصيته في كون العذرة في الماء، و ما في الوسائل من احتمال كون المراد بالباقي ما بقي من ماء البئر، لا ماء الدلو، أو أن الدلو كان كرا.

إلا أن يراد بالوجوه المذكورة محض توجيه الرواية في مقابل طرحها، لا التوجيه الذي هو مقتضي الجمع العرفي بين الأدلة.

______________________________

[4] انما يتجه الاستشهاد به بناء علي هذه النسخة التي رواها الكليني، أما علي ما رواه الشيخ من قوله:

«أو يسقط فيها شي ء من غيره» فيكون أجنبيا عما نحن فيه. منه عفي عنه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

(3) الوسائل باب 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 21.

ص: 52

______________________________

نعم، قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «ان أحدا لا يرضي بتوضؤ الامام عليه السّلام من هذا الماء مع ما علم من اهتمام الشارع في ماء الطهارة بما لا يهتم في غيره».

بل ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أن أحدا لا يرضي باستعمال هذا الماء في مطلق الانتفاع، فضلا عن الوضوء. ثمَّ قال: «فلا بد من توجيه الرواية قلنا بالنجاسة أو الطهارة. فلا يبعد إذا حمل العذرة فيه علي الروث الطاهر، أو الحمل علي خطأ الراوي في اعتقاده أنها عذرة. و ليس ذلك بأبعد من حمل الفعل علي إرادة بيان الجواز علي تقدير القول بالطهارة».

لكن استبشاع ذلك علي تقدير القول بالطهارة ليس بحد يلزم بالتأويل، بل لا منشأ ظاهرا للاستبشاع المذكور إلا المفروغية عندنا عن النجاسة. فالعمدة في الإشكال في الخبر ضعف السند و الهجر عند الأصحاب.

رابعها: صحيح زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقي به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس» «1».

بدعوي: أن نجاسة الحبل تستلزم نجاسة الماء المستقي به بناء علي انفعال الماء القليل.

لكن الاستدلال به إن كان باعتبار ملاقاة الحبل بنفسه لماء الدلو فهو قد يتم في حال نزول الدلو في البئر، المستلزم لاتحاد مائه مع مائها، لا عند إخراجه منها و انفصاله عنها، فهو يدل علي عدم انفعال ماء البئر بالحبل المذكور- كما يظهر من الوسائل- و هو أجنبي عن محل الكلام.

و إن كان باعتبار تقاطر الماء من الحبل علي الدلو عند إخراجه من البئر.

فهو- لو تمَّ- لا ينهض بإثبات عدم انفعال الماء القليل بالنجس، بل عدم انفعاله بالمتنجس الذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي.

خامسها: خبر زرارة: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 54

ص: 53

______________________________

يستقي به الماء. قال: لا بأس» «1».

و يشكل: بأنه لا ظهور له معتد به في طهارة الماء المستقي بالجلد، بل في جواز استعمال الجلد في الاستقاء و لو لسقي الزرع و الدواب، كما عن الشيخ قدّس سرّه حمله عليه. و غايته الإشعار بالطهارة أو الظهور الضعيف الذي يسهل رفع اليد عنه بأدلة الانفعال المتقدمة.

سادسها: خبر الأحول أو غيره عنه عليه السّلام قال: «فقلت: جعلت فداك الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجي به. فقال: لا بأس. فسكت فقال: أو تدري لم صار لا بأس؟ قال: قلت: لا و اللّٰه. فقال: إن الماء أكثر من القذر» «2»، فإن مقتضي عموم التعليل التعدي إلي غير ماء الاستنجاء من المياه الملاقية للقذر.

و فيه: - مع ضعف سنده، و عدم وضوح عموم التعليل لغير ماء الغسالة، لا مكان وروده لدفع توهم كونه حاملا للقذر بمقتضي ارتكاز كون ماء الغسالة حاملا للقذر المغسول به، لا من جهة سببية الملاقاة للتنجس. فتأمل- أنه لا مجال للأخذ بعموم التعليل، لوضوح عدم دوران الاعتصام و الانفعال مدار كون الماء أكثر من القذر و عدمه حتي عند الخصم، بل مدار التغير و عدمه، و قد يحصل التغير مع كون الماء أكثر، و قد لا يحصل مع كون القذر أكثر. و ليس التصرف في التعليل بحمله علي التغير بأولي من البناء علي إجماله و قصره علي مورده. فلاحظ.

و هناك أخبار أخري واردة في ملاقي المتنجس، أو ماء الغسالة، أو الاستنجاء أو غير ذلك مما لا ينفع في المقام، لأن الكلام في انفعال الماء بالنجس في الجملة في مقابل اعتصامه. و كذا ما ورد في ملاقي الكافر و نحوه مما يمكن إرادة طهارة ملاقي الماء منه، و يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 16.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

ص: 54

______________________________

هذا تمام ما عثرنا عليه من الأخبار الخاصة بالقليل التي قد يستدل بها لاعتصامه، و قد عرفت قصورها دلالة أو سندا، و لو تمت فهي لا تنهض بمعارضة أخبار الانفعال المتقدمة بعد كثرتها و وضوح دلالتها و تصافق الأصحاب علي العمل بها، بنحو ينبغي أن يكون مضمونها من الواضحات، بل الضرورات الفقهية التي لا يلتفت إلي ما يوهم خلافها، فيلزم تأول نصوص الطهارة ببعض الوجوه المتقدمة أو غيرها و إن بعدت، أو ردّ علمها إلي أهلها عليهم السّلام.

و أما دعوي: صلوحها لصرف نصوص الانفعال عن ظاهرها بحملها علي كراهة استعمال الماء و إن كان طاهرا، لطروء مرتبة من القذر عليه لا تبلغ التنجيس.

فموهونة باباء النصوص المذكورة عن ذلك مع كثرة التعبير فيها بالنجاسة بنحو يصعب حملها علي المبالغة، و لا سيما ما ورد في الإنائين المشتبهين، كما أشرنا إليه آنفا، و ما ورد في الأسآر من التشديد فيه و الأمر بغسل الإناء، الصريح في انفعاله، بنحو يصعب حمله علي استحباب الغسل إلي غير ذلك مما يظهر بالتأمل.

و من جميع ما ذكرنا يظهر حال كثير من المؤيدات أو الأدلة التي سيقت في كلماتهم للقول بعدم الانفعال مما أشار إليه في الجواهر و غيرها، و لا مجال لإطالة الكلام فيها مع وضوح ضعفها، كما يظهر بمراجعتها و التأمل في ما ذكرنا و ذكروه في ردها.

نعم، ينبغي التعرض لأهمها في المقام، و هو ان الانفعال مستلزم للهرج و المرج و الوقوع في الوسواس، بسبب سريان النجاسة في الأشياء، مع ما هو المعلوم من تسامح الناس في ذلك، بنحو يحصل العلم العادي بنجاسة أكثر الأمور، بل أكثر المياه القليلة الموجودة في الأماكن التي لا تتعرض للاعتصام بالمطر و نحوه، و خصوصا في الأماكن التي تقل فيها المياه الكثيرة العاصمة، و يكثر فيها اختلاط الناس و تسامحهم، خصوصا الحرمين الشريفين قديما، حيث يكثر فيهما الابتلاء بالعامة و البدو و نحوهم ممن تكثر منهم المخالفة في أحكام النجاسة،

ص: 55

______________________________

اعتقادا أو عملا، فلو كان البناء علي التنجيس بمجرد الملاقاة لزم نجاسة المياه الموجودة في البلدتين المعظمتين، و لكان اللازم من الناس التقيد في ذلك، و الاهتمام بحفظ المياه من التعرض للنجاسة، بإبعادها عن موارد الاحتمال التي يوجب تكررها العلم بها، و لكثر التنبيه عليه من الشارع الأقدس، فعدم وجود شي ء من ذلك شاهد بالبناء علي عدم الانفعال.

و قد سلّم بعض مشايخنا بلزوم ذلك بناء علي عموم الانفعال و لو بالمتنجس مطلقا، و أطال في تقريبه و توضيحه، و نقل عن الفقيه الهمداني قدّس سرّه الإصرار عليه و الإغراق فيه، و من ثمَّ ذكر أن التخلص عن ذلك منحصر بالتفصيل بالنحو الآتي إن شاء اللّٰه تعالي.

لكن الإنصاف أن الأمر ليس بذلك الوضوح، بل هو مبني علي نحو من المبالغة و الإغراق في البيان، لابتنائه علي إغفال احتمال حصول الطهارة بوجوه غير مقصودة، أو غير محتسبة و لا مألوفة، فإن ذلك و إن كان مغفولا عنه، إلا أنه كثيرا ما يقع، كما يتضح بملاحظة ما يبتلي به الإنسان في وقائعه الشخصية.

و بعد ذلك إن أريد حصول العلم التفصيلي للمكلف بنجاسة جميع المياه، أو أكثر ما يبتلي به منها بحيث يلزم الهرج و المرج. فهو ممنوع جدا.

و إن أريد حصول العلم الإجمالي بنجاسة أكثر المياه الموجودة و إن لم يبتل بجميعها، فلا أثر له في عمل المكلف، و لا يمنع من الرجوع للأصول الترخيصية في محل الابتلاء، كما هو ظاهر.

و لا ملزم مع ذلك بالحذر من تعريض المياه لما قد يوجب الانفعال، كما لا ملزم بتنبيه الشارع علي ما يمنع من حصوله و إن كان كثيرا، إذ لا يجب علي الشارع الاهتمام بتطبيق الأحكام الواقعية خارجا، بل له التساهل في ذلك تيسيرا علي المكلفين في مقام العمل، و عليه يبتني جعل الأحكام الظاهرية. بل هو المقطوع به منه في خصوص باب الطهارة، كما يظهر من النصوص الكثيرة المتضمنة للتنبيه علي الاحتمالات البعيدة المقتضية للسعة و غيرها.

ص: 56

______________________________

و ليس حال المياه إلا كحال غيرها مما يبتلي به المكلف، كالنقود التي تمر بكثير من الناس المتسامحين في طرق اكتسابها، التي لو حرمت علي أحدهم حرمت علي من بعده ممن يتفرع تملكه لها علي تملكه، و الثمار التي يكثر التسامح في اكتسابها أو اكتساب أصولها- من البذور أو الأشجار- حيث يعلم إجمالا بحرمة أكثرها و لو من جهة طروء الحرمة علي بعض أصولها البعيدة، و كذا الحيوانات المتناسلة، و نحو ذلك مما يكثر فيه العلم الإجمالي بالحرمة لو لا ابتلاؤه غالبا بما يسقطه عن التأثير من عدم الابتلاء ببعض الأطراف، بنحو يجوز معه الرجوع للطرق و الأصول الترخيصية، و لعل المياه أهون من كثير منها.

فالإنصاف أنه لا مجال للتعويل علي الوجه المذكور في الخروج عما تقتضيه الأدلة و القواعد التي تقدم و يأتي الكلام فيها إن شاء اللّٰه تعالي. و منه سبحانه و تعالي نستمد العون و التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

بقي شي ء: و هو أن المراد بالكلام في ما تقدم هو تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة في الجملة في مقابل عدم تنجسه مطلقا الذي هو المحكي عن ابن أبي عقيل و الكاشاني و غيرهما.

أما عموم الانفعال بجميع النجاسات و في جميع الأحوال فهو محتاج إلي النظر في الأدلة المتقدمة، حيث إن أكثرها وارد في موارد خاصة لا عموم فيها.

إلا أن الظاهر أن المستفاد منها بعد ضم بعضها إلي بعض و ضمها إلي عدم الفصل هو العموم المذكور، و لو لفهم عدم الخصوصية، بضميمة ما يرتكز في أذهان العرف و المتشرعة من عموم سريان النجاسة في الماء، لأن المنسبق من النصوص المتقدمة الجري علي ذلك.

كما يظهر أيضا من إهمال التعرض للضابط بنحو العموم من حيثية أنواع النجاسات و المياه و الأحوال، مع مزيد الحاجة إليه لو لم يكن العموم مفروغا عنه تبعا للارتكاز العرفي المذكور.

نعم، ذلك مختص بما يوجب الانفعال ارتكازا، دون ما لا يوجب ذلك من

ص: 57

______________________________

صور ملاقاة النجاسة، كما لا يخفي.

هذا، مع أن النصوص وافية بالعموم في الجملة، أما من حيث أنواع الماء فظاهر، لإطلاق الماء في بعضها، و ترك الاستفصال في آخر.

و أما من حيث أنواع النجاسات فيكفي فيه صحيح البزنطي: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة؟ قال: يكفئ الإناء» «1»، و نحوه صحيح أبي بصير «2»، و غيره، فإنها ظاهرة في تنجس الماء مع تنجس اليد مطلقا بأي نجاسة كانت، و حيث إن ذلك يقتضي تنجّسه بما ينجسها بالأولوية العرفية كان مقتضاه تنجس الماء بكل نجاسة قابلة لتنجيس اليد، كما لا يخفي.

و أما من حيثية الأحوال فتحصيل العموم لا يخلو عن إشكال، لعدم أخذ عنوان الملاقاة في شي ء من النصوص التي بين أيدينا، و إنما أخذ فيها عناوين خاصة لها إطلاق من بعض الجهات، فمثل موثق عمار «3» تضمّن وجدان الفأرة في الإناء الشامل لصورتي ورودها علي الماء و وروده عليها، غير الشامل للملاقاة غير المستقرة مثلا، و غير ذلك مما قد يتضح حاله عند الحاجة له في موارد الخلاف.

نعم، قد يستدل علي العموم من حيثية النجاسات و الأحوال معا بإطلاق نصوص الكر الدالة بمفهومها علي الانفعال، لأن مقتضي التركيب فيها و إن كان هو الانفعال في الجملة في مقابل السلب الكلي الذي هو مفاد المنطوق، إلا أن ورود القضية في جواب السؤال عن حال إصابة النجاسة للماء، كما في صحيح محمد بن مسلم المتقدم ظاهر في العموم بلحاظ الأحوال و النجاسات- كما نبه له في الجملة سيدنا المصنف قدّس سرّه- لوضوح أن الجواب فيه مسوق لبيان كلا حالي الكرية و عدمها، فلو كان مفاد المفهوم هو الانفعال في الجملة لم يكن وافيا ببيان حكم

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 58

______________________________

عدم الكرية بنحو يترتب عليه العمل.

إلا أنه لا يبعد اختصاصه بما يكون موجبا للانفعال عرفا، لعدم اقتضاء القرينة المذكورة ما زاد علي ذلك. و كأن العموم المذكور ارتكازي مفروغ عنه عند الكل، كما يظهر من استدلالات بعض من خرج عنه في بعض الموارد، حيث لم يذكر العموم المذكور، بل ذكر ما يلزم بالخروج عنه، مثل ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في وجه عدم انفعال الماء بما لا يدركه الطرف من الدم، و ما ذكره المرتضي قدّس سرّه في وجه اعتبار ورود النجاسة علي الماء، و ما ذكره القائلون بطهارة الغسالة من أن نجاستها تستلزم تعذر التطهير بالماء و غير ذلك مما يظهر من مطاوي كلماتهم.

و كيف كان، فلا ينبغي الإشكال في العموم المذكور في الجملة. و إنما الإشكال فيما يظهر من بعض الأصحاب من البناء علي عدم الانفعال في بعض الموارد، و هي بين ما يأتي من سيدنا المصنف قدّس سرّه التعرض له- كالغسالة و ماء الاستنجاء- و ما لم يتعرض له.

و المناسب هنا الكلام في الثاني، و هو أمور.

الأول: ذكر الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار أن ما لا يدركه الطرف من الدم كرؤوس الإبر إذا وقع في الماء القليل لم ينجسه. و عن غاية المراد نسبته إلي كثير من الناس، و عن المدارك ترجيحه. و عمم الحكم في المبسوط لغير الدم من النجاسات، مستدلا عليه بأنه لا يمكن التحرز عنه.

و هو بظاهره ضعيف، لأن التعذر لا يرفع الأحكام الوضعية، التي هي من سنخ المسببات التابعة لأسبابها. إلا أن يريد بأنه لو كان منجسا مع تعذر التحرز عنه للزم الهرج و المرج، و لكثر السؤال عن طريق التخلص، و حيث لم يقع شي ء من ذلك كشف عن عدم كونه منجسا، بل عن وضوح ذلك.

لكن الشأن حينئذ في تمامية ما ذكره من تعذر التحرز، لقلة الابتلاء بأجزاء النجاسات الدقيقة مع العلم بها، و التحرز منها ممكن غالبا، و تعذره لو فرض ليس

ص: 59

______________________________

من الكثرة بالنحو المستلزم للهرج و المرج، فالمتعين البناء علي الانفعال بها، بل لا يظن من أحد البناء علي عدم الانفعال بتراب النجاسات- كالدم و المني و الميتة و نحوها- مهما دقت أجزاؤه.

اللهم إلا أن يريد بذلك الإشارة إلي أن الغبار المنبث في الجو الذي يكثر الابتلاء به ليس متمحضا في الذرات الترابية، بل يشتمل علي ذرات أمور أخر،- و منها النجاسات المتحللة- فلو بني علي انفعال الماء أو غيره بها لزم الهرج و المرج، لتعذر التحرز عنها.

لكن لا يخفي ندرة الابتلاء بالغبار المعلوم اشتماله علي ذرات النجاسات بنحو يعلم بملاقاتها للماء أو غيره من الأمور الطاهرة، فلا يلزم المحذور المذكور.

مع أن ذلك إنما يكون غالبا مع تحلل النجاسات بتأثير الأرض و الهواء و الشمس، بحيث تعد تالفة عرفا، و يغفل عن بقائها حقيقة، فهو نظير استهلاك النجاسة في الماء مانع من الحكم بنجاستها حتي بالاستصحاب. فلاحظ.

هذا، و قد أشير في كلام جماعة إلي الاستدلال علي الحكم المذكور بصحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا، فأصاب إناءه، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئا بيّنا فلا يتوضأ منه» «1».

بدعوي: دلالته علي عدم انفعال الماء بما لا يستبين فيه من أجزاء الدم الصغار.

و استشكل فيه في جامع المقاصد و غيره بإنكار دلالته، و كأنه لما في كشف اللثام و غيره من احتمال كون السؤال عن صورة الشك في إصابة الدم للماء، إما للعلم إجمالا بإصابته لأحد الأمرين منه و من الإناء- كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه- أو للعلم تفصيلا بإصابته للإناء مع الشك في إصابته للماء، فيكون المراد في

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 60

______________________________

الجواب الطهارة الظاهرية، للشك في تحقق رافعها، أو لعدم الأثر للعلم الإجمالي المذكور بعد خروج أحد طرفيه- و هو الإناء- عن الابتلاء.

بل استظهر في الوسائل الثاني من الرواية، و تبعه غير واحد، لأصالة الحقيقة في إسناد الإصابة للإناء في السؤال.

و يندفع: بأنه لا إشعار في السؤال في فرض الشك الذي هو موضوع الحكم الظاهري، بل ظاهره السؤال عن الحكم الواقعي لاحتمال مانعية إصابة الدم للإناء من الوضوء منه واقعا، و هو كاف في القرينة علي حمل إصابة الإناء المفروضة في السؤال علي إصابة الماء.

كما أنه المناسب للتفصيل في الجواب في الدم المفروض الإصابة بين الاستبانة في الماء و عدمها، إذ لو كان المراد صورة الشك في إصابة الماء كان عدم الاستبانة في الماء هو المفروض، فلا يحتاج للترديد بينه و بين الاستبانة في الجواب.

و منه يظهر عدم الفرق بين النسخة المعروفة و النسخة الأخري المتضمنة لرفع «شي ء» التي أشار إليها شيخنا الأعظم قدّس سرّه و شيخنا الأستاذ (دامت بركاته)، و إن لم أعثر علي ما يشير إليها في الاستبصار و الوسائل.

علي أن السؤال قد فرض فيه إصابة الدم للإناء، ففرض التردد بينه و بين الماء- كما هو مقتضي العلم الإجمالي المفروض في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه- لا يتم إلا بفرض التسامح في التعبير عن إصابة الماء الذي في الإناء بإصابة الإناء، و مع فرض ذلك فحمل إصابة الإناء علي إصابة مائه هو الأنسب بمقام السؤال و الجواب من تكلف العلم الإجمالي المذكور.

كما أن فرض احتمال إصابة الماء زائدا علي إصابة الإناء- في كلام صاحب الوسائل و غيره- مستلزم لكون التفصيل في الجواب بين الاستبانة و عدمها في دم آخر غير ما فرض في السؤال إصابته للإناء، و هو بعيد جدا، بل لا يناسب نسخة النصب المفروضة.

ص: 61

______________________________

و بالجملة: التأمل في الصحيح سؤالا و جوابا قاض بظهور ما فهمه الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار من تضمنه التفصيل في الدم الذي يصيب الماء بين الاستبانة و عدمها، و هو الوجه في استدلالهم به في المقام.

و قد اعترف شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأن الصحيح أظهر في ذلك من الاحتمال الذي ذكره.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال المذكور أن الصحيح أعم من المدعي، لأن ما لا يستبين في الماء من الدم الطري ليس خصوص ما لا يدركه الطرف، بل ما هو أكبر حجما بكثير من ذلك، لأن الدم الطري يتحلل و يضمحل في أكثر السوائل و خصوصا الماء بسرعة، فلا يستبين فيه إلا أن يكون بحجم كبير، حيث قد يبقي زمنا قليلا متميزا و يستبين فيه.

و قد أعرض عنه الأصحاب في مضمونه، بحيث يظهر منهم هجره المسقط له عن الحجية، و الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار و إن وجهه بالدم الذي لا يدركه الطرف، إلا أنه ليس لدعوي ظهوره فيه، و لا لاستدلاله به عليه، ليشهد باعتماده عليه، بل لمحض التأويل الرافع للتعارض بين الأخبار- مع مخالفته للظاهر- الذي سلكه في الكتاب المذكور، و ليس من سنخ التأويل العرفي.

و أما العفو عن الدم المذكور فظاهر كلامه فيه أنه أمر مفروغ عنه لا من جهة الصحيح، كما يشهد بذلك تعميمه في المبسوط العفو لغير الدم، و استدلاله عليه بما تقدم، من دون تعرض للصحيح المذكور.

و بالجملة: الأصحاب و إن اختلفوا في العفو عن الدم المذكور، إلا أنه يظهر منهم التسالم علي ترك الصحيح و الإعراض عنه، فلا مجال للاعتماد عليه في الخروج عن عموم الانفعال المتقدم. بل لا بد من حمله علي ما لا ينافيه، و إن كان مخالفا للظاهر، أو ردّ علمه لأهله عليهم السّلام.

نعم، لا بد من فرض ثبوت نجاسة الدم المذكور. و هو ظاهر فيما لو كان تفرق أجزائه بنحو لا يمنع من رؤيته- علي ما يأتي الكلام فيه في محله- و كذا لو كان بعد

ص: 62

______________________________

خروجه من الباطن و الحكم بنجاسته، لظهور أن تفرق الأجزاء لا يوجب الطهارة، إلا أن يرجع إلي الاستهلاك، كما تقدمت الإشارة إليه.

أما لو كان تفرق الأجزاء بنحو يمنع من رؤيته عند خروجه من الباطن، فحيث لا عموم لأدلة النجاسة يشمل الدم المذكور، لاختصاصها بالدم المرئي المتعارف تعين البناء علي طهارته و عدم انفعال الماء و لا غيره به، لأصالة الطهارة.

إلا أنه لا يتضح الابتلاء بالدم المذكور ليكون الحكم بطهارته موردا للأثر.

و ما يقال: من اكتشاف وجود الدم في الحليب عند خروجه من الضرع ببعض الآلات الحديثة، فيبتني الحكم بعدم تنجيسه للحليب علي ذلك.

غير ظاهر، لأنه يكفي في ذلك استهلاكه في الحليب، كاستهلاكه بعد الحكم بنجاسته في الماء أو غيره، و إن كان الفرق بينهما أن الاستهلاك بعد الحكم بالنجاسة إنما يكون غالبا بعد ملاقاته لما يستهلك فيه، فعدم تنجيسه له موقوف علي اعتصامه، كالماء الكثير، دون مثل الحليب، بخلاف الاستهلاك قبل ذلك، كما في الفرض المذكور. فتأمل جيدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

الثاني: مقتضي إطلاق كثير من الأصحاب و تصريح بعضهم عدم الفرق بين ورود النجاسة علي الماء و وروده عليها، خلافا لما عن السيد المرتضي و ابن إدريس قدّس سرّهما في الناصريات و السرائر، من تقريب عدم الانفعال مع ورود الماء علي النجاسة.

ففي محكي الناصريات: «و الوجه فيه: أنا لو حكمنا بنجاسة القليل الوارد علي النجاسة لأدي ذلك إلي أن الثوب لا يطهر إلا بإيراد كر من الماء عليه، و ذلك يشق، فدل علي أن الماء الوارد علي النجاسة لا يعتبر فيه القلة و الكثرة كما يعتبر فيما يرد عليه النجاسة».

و في محكي السرائر: «ما قوي في نفس السيد صحيح مستمر علي أصل المذهب و فتاوي الأصحاب به».

و لا يخفي ضعف الاستدلال المذكور، لأن وقوع التطهير بالماء القليل لا

ص: 63

______________________________

ينافي انفعال الماء بورود النجاسة عليه، غاية الأمر أنه يستلزم استثناء الغسالة من عموم الانفعال، أو من عموم مانعية نجاسة الماء من التطهير به، علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

علي أن اعتبار ورود الماء في التطهير به أول الكلام، بل قد يدعي تحقق التطهير مع ورود النجاسة علي الماء، و حينئذ كما لا يكون التطهير بالمورود منافيا لانفعاله لا يكون التطهير بالوارد منافيا لانفعاله.

و منه يظهر الإشكال فيما تقدم من السرائر، فإنه إن كان مراده بالأصول و الفتاوي ما تضمن التطهير بالماء القليل توجه الإشكال عليه بما ذكرنا، و إن كان غير ذلك فلا يتضح حتي ننظر فيه.

و مثله الاستدلال بما في خبر عمر بن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: اغتسل في مغتسل يبال فيه و يغتسل من الجنابة، فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض. فقال:

لا بأس» «1».

بدعوي: أنه ظاهر في عدم انفعال الماء الواقع علي الأرض النجسة الذي ينزو منها في الإناء، و لا وجه له إلا كون الماء المذكور واردا علي الأرض النجسة، لا مورودا لها.

لاندفاعه: باختصاص ذلك لو تمَّ بالملاقاة غير المستقرة، فلا يدل علي عدم انفعال الوارد مطلقا.

هذا، و قد يوجه التفصيل المذكور بقصور أدلة الانفعال عما لو كان الماء واردا، لظهور ما عدا مفهوم روايات الكر في غير الوارد علي النجاسة، مثل من يدخل يده القذرة في الإناء، و الماء الذي تدخل فيه الدجاجة و قد وطأت العذرة، و الماء الذي يشرب منه الطائر و في منقاره دم، و نحوها.

و أما المفهوم فلا عموم له، بل يقتضي الانفعال في الجملة، كما تقدمت الإشارة إليه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف حديث: 7.

ص: 64

______________________________

و يظهر اندفاعه بما تقدم من أن المستفاد من المفهوم و غيره عموم الانفعال بالملاقاة بالوجه الموجب للانفعال عرفا، و لا فرق عرفا بين الوارد و المورود في ذلك، و من ثمَّ كان المفهوم عرفا عدم الخصوصية لورود النجاسة في سائر موارد التنجيس بالملاقاة.

مضافا إلي ثبوت العموم في بعض النصوص، كما في موثق عمار- المتقدمة إليه الإشارة- الوارد فيمن يجد في إنائه فأرة من قوله عليه السّلام: «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثمَّ يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه و يغسل كل ما أصابه ذلك الماء» «1»، لعدم الاستفصال فيه بين ورود الماء علي الفارة و ورودها عليه، بل لو فرض ورودها عليه فالغالب سقوطها حية طاهرة ثمَّ تموت فيه، فلا يتحقق ورودها عليه و هي نجسة، و إن لم يرد هو عليها أيضا.

كما أنه لو فرض الجهل بالحال فاللازم الحكم بالطهارة ظاهرا لا النجاسة، فكان المناسب التنبيه عليه، لأنه أقرب احتمالا من وقوعها بعد الوضوء في الساعة التي رآها، الذي قد تضمنه ذيل الحديث.

و قد يشهد بذلك أيضا ما ورد في الأسآر النجسة، مثل ما ورد في الكلب الذي يشرب في الإناء، من الأمر بصب الماء و النهي عن شربه «2»، مع أنه قد يفرض ورود الماء علي الإناء حين شربه منه، كما لو فرض عدم اكتفائه بماء الإناء فصب له ماء آخر قبل رفع رأسه.

و أظهر منه ما ورد في سؤر اليهودي و النصراني «3»، لوضوح أنه كثيرا ما يكون الماء هو الوارد علي فيهما بإمالة الإناء إليه.

لكنه موقوف علي العمل بظاهره من نجاستهما، و إلا تعين حمله علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب الأسئار.

(3) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب الأسئار.

ص: 65

______________________________

الكراهة، كما ورد في سؤر الحائض غير المأمونة، فلا ينفع في المقام.

إلا أن يستشعر منه المفروغية عن الانفعال مع ورود الماء علي النجاسة، و أن عدم الاجتناب في المورد لعدم اليقين بنجاسة الملاقي أو خفة قذرة.

بل قد يومئ لعدم الفرق بين الوارد و المورود خبر عمر بن حنظلة: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: ما تري في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتي تذهب عاديته و يذهب سكره؟ فقال: لا و اللّٰه، و لا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب» «1» لظهوره في أن الانفعال في المثال الذي تضمنه الجواب يقتضي الانفعال في مورد السؤال بالأولوية، و لو لا المفروغية عن عدم الفرق بين الوارد و المورود لم يكن للأولوية المذكورة مجال.

و أظهر من الكل ما ورد في أواني الخمر من عدم جواز جعل الماء فيها قبل غسلها، كموثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خل، أو ماء، أو كامخ، أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس. و عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر، أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس.» «2»، و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الشرب في الإناء يشرب فيه الخمر قدحا عيدان أو باطية. قال: إذا غسله فلا بأس» «3».

لوضوح أن الماء هو الذي يرد علي الإناء المتنجس، خصوصا الإبريق، فلو لا انفعاله به لم يكن ملزم بغسله.

و لا يبعد العثور بالفحص علي نصوص أخر، و فيما ذكرناه كفاية.

هذا، و أما الاستدلال عليه- كما في الجواهر- بإطلاق خبر حفص عن جعفر عن أبيه عليه السّلام: «قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة» «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 66

______________________________

فهو كما تري! لوروده في بيان ما يوجب انفعال الماء من أنواع الميتة، لا لبيان كيفية الانفعال به، فلا إطلاق له من هذه الجهة.

بل مقتضي المقابلة بين المستثني و المستثني منه هو انفعال الماء بما له نفس سائلة بنحو القضية المهملة في قبال عدم انفصاله بما لا نفس له بنحو السالبة الكلية، نظير ما تقدم في روايات الكر.

و مثله ما ذكره بعض مشايخنا من الاستدلال بإطلاق ما في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث النبيذ: «ما يبل الميل ينجس حبا من ماء» «1».

لوضوح أنه كسابقه وارد لبيان الانفعال بالنبيذ و لو مع قلته، لا لبيان كيفية الانفعال به.

و أشكل منه ما ذكره من الاستئناس بما في صحيح البقباق: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن فضل الهرة و الشاة. فقال: لا بأس به، حتي انتهيت إلي الكلب، فقال: رجس نجس، لا تتوضأ بفضله و اصبب ذلك الماء» «2»، و بما في خبر الأحول المتقدم من تعليل طهارة ماء الاستنجاء بأن الماء أكثر من القذر.

بدعوي: أنه لو كان لورود النجاسة خصوصية في الانفعال لذكره عليه السّلام في الأول، لأنه في مقام البيان، و لكان المناسب التعليل بعدمه في الثاني.

لظهور اندفاعه: بأن التعليل في الأول إنما كان لبيان تحقق مقتضي الانفعال في الكلب، فرقا بينه و بين غيره من الحيوانات المذكورة في السؤال، و هو أولي من التعليل بالشرط المعلوم حصوله في الكل.

و التعليل في الثاني مجمل في نفسه- كما تقدم- فلا ظهور لعدم ذكر شي ء آخر في عدم دخله. فتأمل.

و بالجملة: الظاهر وفاء ما ذكرنا في الاستدلال علي النجاسة مع ورود الماء، و الاستغناء عن هذه الوجوه و نحوها مما لا يخلو عن الضعف و الإشكال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 4.

ص: 67

______________________________

هذا، و قد احتمل في الجواهر حمل كلام المرتضي علي وجهين آخرين:

الأول: أن يريد بالوارد ما يرد علي النجاسة و لا يستقر معها.

الثاني: عدم نجاسة العالي بالسافل.

و الظاهر بعد كلا الوجهين عن كلام المرتضي قدّس سرّه، كما اعترف به في الجملة في الجواهر. و يأتي التعرض منا للأول قريبا.

و أما الثاني فإن أريد به صورة التدافع، فسيأتي من سيدنا المصنف قدّس سرّه التعرض له.

و إن أريد به ما يكون مع سكون الماء فلا يظن من أحد الالتزام به علي إطلاقه، كيف و لازمه عدم نجاسة ما في أعلي الجرة بملاقاة أسفلها للنجاسة؟! و هو لا يناسب إطلاق بعض النصوص كموثق عمار المتقدم الوارد في الفأرة، و تخصيصه بضعف الاتصال كالأنبوب لا ضابط له، و العموم هو الأوفق بالعموم المشار إليه آنفا. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي أعلم.

الثالث: مقتضي إطلاق الأصحاب و صريح الجواهر عدم الفرق في الانفعال بين الملاقاة المستقرة و غيرها. و نسب لبعض المشايخ ممن أدركناهم «1» في بعض فتاواه عدم الانفعال مع عدم استقرار الملاقاة و انفصال الماء عن النجاسة بمجردها. مستدلا برواية عمر بن يزيد المتقدمة في الأمر السابق.

بدعوي: دلالتها علي طهارة ما يقع علي الأرض النجسة و ينزو منها في الإناء، و لذا لا ينفعل ما في الإناء به.

نعم، لو قلنا بأن المتنجس لا ينجس الماء مطلقا، أو مع الواسطة لم يكن الحكم بعدم انفعال الماء دالا علي عدم الانفعال بالملاقاة غير المستقرة، لوضوح أن ما ينزو لم يلاق عين النجس، بل الأرض المتنجسة، فيمكن أن يكون طاهرا لعدم انفعاله بالمتنجس، لا لعدم استقرار الملاقاة، كما يمكن أن يكون نجسا غير

______________________________

(1) المرحوم الشيخ محمد رضا آل يس قدّس سرّه.

ص: 68

______________________________

منجس لما في الإناء، لعدم انفعال ماء الإناء بالمتنجس مع الواسطة، فالاستدلال مبني علي انفعال الماء بالمتنجس مطلقا.

و لا مجال للإشكال في سند الرواية بأن فيه معلي بن محمد الذي لم ينصّ أحد علي توثيقه، بل قال فيه النجاشي: «مضطرب الحديث و المذهب، و كتبه قريبة»، و عن ابن الغضائري: «يعرف حديثه و ينكر، يروي عن الضعفاء، و يجوز أن يخرج شاهدا».

لاندفاعه: بأن رواية ابن قولويه عنه في كامل الزيارات شاهد بتوثيقه بعد نصه فيه أنه لا يثبت فيه إلا ما رواه الثقات، مؤيدا بإكثار المشايخ- خصوصا الكليني قدّس سرّه- الرواية عنه مع قلة الوسائط بينهم و بينه، فمن البعيد جدا تعمد الرواية عنه مع جهل حاله، أو مع الوثوق به أو برواياته لمقدمات حدسية بعيدة عن الحس، كما يؤيد أيضا بتصريح النجاشي و ابن الغضائري فيما تقدم بأن كتبه قريبة، و أنه يجوز أن يخرج شاهدا، المشعر بوثاقته في نفسه و بنحو يترتب العمل عليه.

و لا ينافيه ما ذكره النجاشي من اضطراب حديثه الراجع ظاهرا إلي ما ذكره ابن الغضائري من اشتمال حديثه علي المناكير، لأنه لا ينافي وثاقته في نفسه.

و مثله ما في الجواهر من عدم صراحتها في وقوع ما ينزو من الأرض في الماء.

لاندفاعه بأنه بعد التصريح فيها بأنه يقع في الإناء فلا بد من ملاقاته للماء الموجود فيه، إلا أن يفرض خلو الإناء من الماء، و هو- مع بعده جدا- موجب لكون السؤال عن حال الإناء، فيدل علي عدم تنجسه بما ينزو، فينفع في المطلوب أيضا.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال المذكور ما أشار إليه في الجواهر أيضا من عدم القطع بكون ما ينزو واقعا علي مكان البول.

و توضيح ذلك: أن السؤال لم يتضمن ملاقاة ما ينزو للبول، و لا للمكان المتنجس به من أرض المغتسل، بل تضمن ملاقاته لأرض المغتسل الذي يبال فيه و يغتسل من الجنابة، و من الظاهر أن ذلك بنفسه ليس موجبا للانفعال، و لا موهما

ص: 69

______________________________

له، ليكون موردا للسؤال، فلا يظن احتمال السائل انفعال ما ينزو من أرض المغتسل المذكور و لو مع فرض طهارة موضع الملاقاة، بل لا بد من حمل ذكره في كلام السائل علي كونه كناية عما يوهم الانفعال و يوجب السؤال، و هو أحد أمرين:

الأول: وقوعه علي الموضع المتنجس و ملاقاته له بالوجه المذكور، فيكون السؤال عن الحكم الواقعي، و ينفع الجواب في إثبات المطلوب.

الثاني: احتمال ملاقاته للموضع المتنجس من دون يقين بذلك، لاحتمال وقوعه علي غير موضع البول، أو علي موضعه مع احتمال سبق تطهيره بماء الغسل للعلم بتوارد الحالتين عليه أو نحو ذلك، فيكون السؤال عن الحكم الظاهري، فلا ينفع الجواب في المطلوب.

و الأقرب عرفا الثاني، لكون المغتسل المذكور مثارا للشك و ملازما له غالبا، و مثل ذلك كاف في حصول العلاقة الذهنية بين الأمرين، الموجبة للانتقال من أحدهما للآخر، بخلاف الأول، لعدم تحقق العلاقة المذكورة بعد عدم كون الاغتسال في المكان المذكور ملازما غالبا لكون ما ينزو ملاقيا للمتنجس حال نجاسته، لوضوح أن تعرض المغتسل لأن يبال فيه لا يقتضي غالبا تنجس جميع أرضه، و لا بقاء نجاسة ما يتنجس منه بعد تعرضه لجريان ماء الغسل و غيره فيه.

و مما ذكرنا يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من أن فرض الشك محتاج إلي مئونة زائدة يدفعها إطلاق السؤال و الجواب.

لما عرفت من أنه لا مجال للجمود علي العنوان المذكور في السؤال، بل لا بد من التزام العناية بجعله كناية عن أحد الأمرين المذكورين، و لا ينبغي التأمل في أن الثاني هو الأقرب عرفا.

علي أنه لو تمَّ الاستدلال المذكور فهو مختص بملاقاة المتنجس، و لا وجه للتعدي منه لملاقاة النجس، و مجرد البناء علي الانفعال بالمتنجس لا يوجب فهم عدم الخصوصية له في المقام، لأن إلحاق المتنجس بالنجس في الانفعال في

ص: 70

______________________________

الجملة لا يستلزم إلحاق النجس بالمتنجس في عدمه، و ربما يكون منشأ العفو هو كثرة الابتلاء بالمتنجس بالوجه المذكور الموجب لمشقة الاجتناب، بخلاف النجس.

نعم، لو لم يكن البناء علي عدم الانفعال في الملاقاة غير المستقرة ناشئا من الرواية المتقدمة، بل لدعوي قصور أدلة الانفعال عن شمولها و اختصاصها بالملاقاة المستقرة- كإصابة اليد القذرة للإناء و سقوط الفأرة أو الدم فيه و ولوغ الكلب منه و نحو ذلك- اتجه عموم عدم الانفعال بها للنجس و المتنجس معا.

لكن لا مجال للدعوي المذكورة بعد ما تقدم من ظهور أدلة الانفعال بمجموعها في الإيكال في كيفية التنجيس إلي الارتكاز العرفي الذي لا يفرق فيه بين الملاقاة المستقرة و غيرها، و لذا لا ريب ظاهرا في عدم الفرق بينهما في غير الماء.

و من ثمَّ كان الظاهر من حال المخالف الاعتماد علي الرواية المتقدمة، لا علي الدعوي المذكورة.

هذا، و قد يستدل أو يستأنس للانفعال في الملاقاة غير المستقرة بخبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الكنيف يصب فيه الماء فينضح علي الثياب ما حاله؟ قال: إذا كان جافا فلا بأس» «1» بناء علي أن الجفاف كناية عن عدم رطوبة الموضع بعين النجاسة من البول و نحوه، فيدل علي انفعال ما ينضح إذا وقع علي الموضع النجس.

و إلا فالجمود علي الجفاف يوجب إجمال الرواية المانع من الاستدلال بها.

إلا بدعوي إشعارها أو ظهورها في المفروغية عن الانفعال بالملاقاة غير المستقرة، و إن كان الحكم فيها بعدم الانفعال لأجل جفاف الموضع مما لا يمكن الالتزام به.

فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في الأقوال المفصلة في انفعال الماء بملاقاة النجاسة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 60 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 71

أو المتنجس (1)

______________________________

و لعله يأتي في الانفعال بملاقاة المتنجس ما ينفع في المقام. و اللّٰه سبحانه و تعالي ولي العون و التوفيق و هو حسبنا و نعم الوكيل.

(1) كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب. و لا يعرف الخلاف فيه قبل المحقق الخراساني قدّس سرّه، فقد خالف هو في ذلك، كما حكي أيضا عن بعض المحققين من تلامذته قدّس سرّه لدعوي قصور أدلة الانفعال عنه، لعدم الإجماع عليه، كما لا خبر يدل عليه خصوصا أو عموما منطوقا أو مفهوما، لانصراف الشي ء في الأخبار العامة- و هي أخبار الكر- إلي عين النجاسة، كما ادعي انصرافه في أخبار التغير إلي ما يكون بأوصاف النجاسة دون المتنجس.

و لو سلم عمومه للمتنجس لم ينفع المفهوم المقتضي للانفعال في إثبات العموم له، لما تقدم من دلالته بمقتضي التركيب علي انفعال القليل في الجملة.

و أما الأخبار الخاصة فهي مختصة بعين النجاسة كالميتة و الدم و المني و نحوها، و لا تشمل المتنجس.

و الكل كما تري! فإن التأمل في كلمات الأصحاب (رضي اللّٰه عنهم) شاهد بعموم معاقد الإجماعات المدعاة في المقام، فإنهم و إن عبروا بملاقاة النجاسة، إلا أن عموم بعض أدلتهم للمتنجس و عدم تنبيههم علي عدم الانفعال به مع إطلاقهم القول بأن المتنجس ينجس من دون استثناء للماء من عموم التنجس به، شاهد بما ذكرنا.

كما أنه لا وجه لانصراف «الشي ء» إلي خصوص النجاسات العينية، بل الظاهر عمومه لكل ما من شأنه أن ينجس.

و الفرق بينه و بين أخبار التغير- لو تمَّ فيها الانصراف- هو ارتكاز أن منشأ الانفعال مع التغير هو قهر النجاسة للماء المانع من اعتصامه بالكثرة، و هو مختص

ص: 72

______________________________

بالتغير بأوصافها، بخلاف المقام، فإن منشأ الانفعال فيه ليس إلا ضعف الماء لفرض قلته المقتضي لانفعاله كغيره من الأجسام بكل ما من شأنه التنجيس، و لا موجب للانصراف عن المتنجس.

و بعبارة أخري: المدعي هنا عموم الشي ء للمتنجس، و هناك اختصاص التغير بأوصاف النجاسة، و لذا لو أوجبت ملاقاة المتنجس التغير بأوصاف النجاسة لم يبعد البناء علي الانفعال، فلا سنخية بين المقامين.

نعم، هذا إنما ينفع لو ثبت تنجيس المتنجس لغير الماء، كما لعله ظاهر.

و أما دلالة المفهوم علي الانفعال بنحو القضية المهملة، فقد تقدم في آخر الكلام في انفعال القليل بالنجاسة أنه و إن كان كذلك بمقتضي التركيب في نفسه، إلا أن بعض القرائن تشهد بإرادة العموم منه.

و أما اختصاص النصوص الخاصة بعين النجاسة فلا مجال له بعد ظهور جملة من النصوص في المتنجس أو فيما يعمه، كصحيحي البزنطي و أبي بصير المتقدمين في آخر الكلام في انفعال الماء القليل، المتضمنين لإراقة الإناء بإدخال اليد القذرة فيه.

و دعوي: انصرافها للقذر الحقيقي الذي يكون مع حملها للقذر، دون القذر التنزيلي الذي يكون بتنجسها و لو مع ذهاب عين النجاسة.

مدفوعة: بأن التنجس موجب للقذارة حقيقة و لو مع زوال عين النجاسة، لا تنزيلا، غايته أنه قد لا يوجب قذارتها عرفا، بل شرعا.

و حينئذ فإن أريد الحمل علي القذارة العرفية، فهو- مع عدم مناسبته لمقام الشارع- يستلزم قادحية القذارة العرفية، و إن لم تكن موجبة للتنجيس شرعا، كملاقاة مثل النخامة، و حيث لا ريب في عدم إرادته يتعين الحمل علي القذارة الشرعية الحاصلة بملاقاة القذر من دون تطهير و إن زالت عين النجاسة.

مع أن زوال عين النجاسة قد يكون بوجه يصدق معه أن اليد قذرة حتي عرفا، و إذا ثبت في مثله التنجيس ثبت في غيره بعدم الفصل.

ص: 73

______________________________

و يدل علي الانفعال- أيضا- صحيح شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها: أنه لا بأس به إذا لم يكن أصاب يده شي ء» «1»، و موثق سماعة عنه عليه السّلام: «قال: إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي ء من المني» «2»، و موثقه الآخر عنه عليه السّلام: في حديث قال عليه السّلام: «و إن كانت أصابته جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به إن لم يكن أصاب يده شي ء من المني، و إن كان أصاب يده فادخل يده في الماء قبل أن يفرغ علي كفيه فليهرق الماء كله» «3»، فإن أصابه الشي ء لليد لا يراد به إلا تنجسها به و لو مع زوال عينه، بل هو كالصريح من موثق سماعة الثاني المتضمنة لإهراق الماء بإدخال اليد قبل الإفراغ عليها الذي لا يراد به إلا تطهيرها، لا مجرد زوال عين النجاسة عنها.

و أظهر من الكل من هذه الجهة صحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم؟ فقلنا: بلي. فدعا بقعب فيه شي ء من ماء، فوضعه بين يديه ثمَّ حسر عن ذراعيه، ثمَّ غمس فيه كفه اليمني، ثمَّ قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة، ثمَّ غرف ملأها ماء، فوضعها علي جبهته.» «4»، لما هو المعلوم من عدم طهارة الكف بزوال عين النجاسة، كما لا ريب في ظهوره في اعتبار طهارة اليد في نفس الغمس، لا في نفس الوضوء بلحاظ اعتبار طهارة الأعضاء عنده، أو باعتبار تنجيسها للأعضاء عند غسلها بها، فإن ذلك يقتضي اعتبار طهارتها عند غسلها أو الغسل بها، لا حين غمسها، كما تضمنه الحديث.

و إليه يشير ما في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن الرجل يبول، و لا يمس يده اليمني شيئا، أ يغمسها في الماء؟ قال: نعم،

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 74

______________________________

و إن كان جنبا» «1».

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من احتمال وروده بلحاظ عدم صحة الوضوء بالماء المستعمل في رفع الخبث، حيث إن غمس الكف النجسة في الماء موجب لتطهيرها به، فيكون مستعملا في رفع الخبث و إن لم يقصد به ذلك.

ففيه: أنه- مع ابتنائه علي عدم اعتبار ورود الماء علي النجاسة في تطهيره لها. و علي المنع من الوضوء بالماء المستعمل حتي علي القول بطهارته، و لا يظهر منه الالتزام بذلك- لا ملازمة بين غمس اليد النجسة في الماء و تطهيرها به ليكون مستعملا في رفع الخبث، لإمكان أن يصيبها حين تنجسها أو بعده ما له جرم خفيف يمنع من استيلاء الماء عليها و تطهيرها به بمجرد الغمس و إن لم يمنع من وصول الماء إليها و تنجسه بها، فإطلاق الحديث يناسب إرادة الانفعال.

بل لا ينبغي التأمل فيه بعد النظر في النصوص المتقدمة المتضمنة لإهراق الماء بإدخال اليد القذرة فيه الظاهرة في انفعاله، لتفسير بعض النصوص لبعض، حيث تصلح تلك النصوص لبيان أن الجهة الموجبة للمنع من الغمس في هذا الصحيح هو انفعال الماء، و صلوح هذا الصحيح لبيان أن منشأ الحكم بالانفعال في تلك النصوص مع إدخال اليد القذرة هو نجاستها لا حملها للقذر. فلاحظ.

و يشهد بالانفعال أيضا ما تضمّن النهي عن وضع الماء في إناء الخمر قبل غسله، كموثق عمار و خبر علي بن جعفر المتقدمين في مسألة انفعال الماء الوارد علي النجاسة، بناء علي ما هو الظاهر من كون المراد من الغسل فيهما هو الغسل المطهّر للإناء، لا الكناية عن زوال عين النجاسة.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في وفاء الأدلة بأن المتنجس كالنجس موجب لانفعال الماء.

نعم، قد يستدل علي عدم انفعال الماء بالمتنجس بجملة من النصوص.

الأول: صحيح زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الحبل يكون من شعر

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 75

______________________________

الخنزير يستقي به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس» «1»، بدعوي غلبة تقاطر الماء من الحبل إلي الدلو و غلبة مباشرة المستقي للماء مع مماسته للحبل، فلو لا عدم انفعال ماء الدلو بما يتقاطر و باليد المتنجسين بالحبل لامتنع الوضوء به.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من احتمال كون السؤال من جهة الشك في التقاطر، أو من جهة انفعال ماء البئر، أو من جهة استعمال شعر الخنزير في الوضوء العبادي، فلا مجال له.

لاندفاع الأول: بأن فرض الشك و السؤال عن الحكم الظاهري محتاج إلي عناية لا مجال للحمل عليها من دون قرينة، و لا سيما مع بعد الشك في التقاطر و في مباشرة المستقي للماء نوعا.

و الثاني: بأن المناسب عليه السؤال عن ماء البئر، لا عن الماء المستقي كما تضمنه الحديث.

نعم، يدل الجواب بالملازمة علي عدم انفعال ماء البئر.

و الثالث: بأنه لا منشأ له ظاهرا إلا ما ذكره بعض مشايخنا من ذهاب جمع إلي حرمة استعمال نجس العين حتي فيما لا يعتبر فيه الطهارة، بنحو قد يتوهم امتناع ترتب العبادة علي الاستعمال المذكور.

و هو- مع بعده في نفسه لخفاء الملازمة المذكورة- لا يناسب السؤال جدا، بل الأولي حينئذ السؤال عن حكم الاستقاء نفسه.

و احتمال وضوح حرمته عند السائل بعيد جدا لا يناسب النصوص الصريحة و الظاهرة في جواز الاستعمال «2»، التي لا يبعد كون هذا الصحيح منها.

علي أن هذا الوجه و ما قبله لا يمنع من دلالة الصحيح ضمنا علي عدم الانفعال بالقطرات و بمساورة المستقي، لغلبة الابتلاء بهما، فلو فرض الانفعال بهما

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(2) راجع الوسائل باب: 33، 65 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 76

______________________________

لزم كون الحكم الذي تضمنه الصحيح اقتضائيا غير فعلي غالبا، و هو خلاف الظاهر.

و بالجملة: الاحتمالات المذكورة ليست بنحو تصلح لمنع ظهور الصحيح في عدم البأس بما يلزم غالبا من الاستقاء بالحبل من تقاطر الماء في الدلو و مباشرة المستقي له.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال بالصحيح: أنه كما يمكن أن يكون واردا لبيان طهارة ملاقي المتنجس لشعر الخنزير بعد الفراغ عن نجاسة الشعر نفسه، كذلك يمكن أن يكون واردا لبيان طهارة الخنزير بعد الفراغ عن الانفعال لو كان نجسا.

بل لعل الأظهر الثاني، لما فيه من المحافظة علي خصوصية شعر الخنزير في السؤال و الجواب، و أن ذكره ليس بلحاظ الانفعال بملاقيه بعد فرض نجاسته الذي هو من شؤون كل نجس، من دون خصوصية له، لما هو الظاهر من أن خصوصية الخنزير مما يصعب إلغاؤها جدا، بحيث تكون عبرة للجهة العامة المذكورة، بل الجهة المذكورة مما يحتاج التنبيه عليها و صرف السؤال إليها إلي عناية خاصة لا يشعر بها الكلام.

و يظهر ما ذكرنا بملاحظة موثق الحسين بن زرارة: «كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السّلام و أبي يسأله عن السن من الميتة، و البيضة من الميتة، و إنفحة الميتة.

فقال: كل هذا ذكي. قلت: فشعر الخنزير يجعل حبلا يستقي به من البئر التي يشرب منها أو يتوضأ منها؟ فقال: لا بأس به. قال الكليني: و زاد فيه علي بن عقبة و علي بن الحسن بن رباط. قال: و الشعر و الصوف كله ذكي» «1».

و دعوي: أنه بعد ثبوت نجاسة شعر الخنزير لا بد من صرف الصحيح إلي حيثية الانفعال بالمتنجس.

مدفوعة: بأنه موقوف علي كون دليل نجاسته من القرائن العرفية الموجبة

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

ص: 77

______________________________

لظهوره الثانوي فيما نحن فيه، ليكون الاستدلال به من صغريات حجية الظهور، و هو غير ظاهر في المقام، بل كما يمكن حمله علي ذلك يمكن حمله علي فرض الشك في الملاقاة و نحوه مما هو مخالف لظاهر الصحيح، و الأولي من الكل إبقاؤه علي ظاهره و استحكام التعارض.

الثاني: خبر محمد بن ميسر الذي لا يبعد كونه موثقا، بل صحيحا: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل الجنب ينتهي إلي الماء القليل في الطريق و يريد أن يغتسل منه، و ليس معه إناء يغرف به و يداه قذرتان؟ قال: يضع يده ثمَّ [و. خ ل] يتوضأ ثمَّ يغتسل. هذا مما قال اللّٰه عز و جل مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «1».

بدعوي: أنه نص في مساورة اليد القذرة للماء القليل.

و قد أجيب عن ذلك- كما في الجواهر و غيرها- بحمله علي القليل العرفي، لا ما يقابل الكر، لغلبة كثرة الماء الموجود في الصحاري، المتجمع من المطر و نحوه، بنحو يزيد علي الكر كثيرا، فيصدق القليل علي ما يكون بقدر الكر.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن فرض القلة في السؤال منبه لعدم فرض كريته، و لا سيما مع ظهوره في دخل القلة في احتمال مانعية إدخال اليد القذرة في الماء من الاغتسال به، فلو كان اعتصامه موقوفا علي كريته لكان المناسب التنبيه عليها في الجواب، فإطلاق الجواب مع ذلك ظاهر في عدم دخلها بنحو يصعب جدا حمله علي خصوص الكر.

و منه يظهر وهن احتمال أن يكون منشأ السؤال جهل السائل باعتصام الكر، فإنه لا يناسب تنبيه علي القلة، بل قد لا يناسب التعرض للحرج في الجواب، حيث إن التنبيه علي اعتصام الكر أولي بذلك.

و مثله احتمال كون منشأ السؤال احتمال مانعية إدخال اليد القذرة من الاغتسال بالماء و لو مع اعتصامه، لأنه أيضا لا يناسب فرض القلة الظاهر في كونها

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 78

______________________________

هي المنشأ له.

كما ظهر أيضا أنه لا مجال لحمله علي القذر العرفي، إذ لا منشأ لتوهم مانعيته، فإن المنع من إدخال الجنب يده في الماء و إن حكي عن بعض العامة، إلا أنه لأجل كونه جنبا و لو لم تكن يده قذرة قذارة عرفية. فتأمل.

فالإنصاف أن ظهور الخبر في عدم مانعية إدخال اليد النجسة في الماء القليل من الاغتسال به المستلزم لعدم انفعاله قوي جدا.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر حال السائل المفروغية عن انفعال الماء بملاقاة اليد، و أن السؤال لمكان الضرورة المفروضة في كلامه، و ظاهر الجواب تقريره علي ذلك، إذ لو كان المراد عدم انفعال الماء في نفسه لكان الأولي الجواب بذلك، و الاستشهاد بما يدل علي طهارة الماء أو طهوريته عموما ردعا عن التوهم المذكور، لا التنبيه علي رفع الحرج المناسب لاختصاص الحكم بحال الضرورة، تقريرا لما يظهر من السائل.

و دعوي: أن الحرج حكمة لعدم الانفعال، لا علة يدور الحكم مدارها وجودا و عدما.

مخالفة لظاهر حال السؤال و الجواب جدا، لما ذكرنا من ظهور السؤال في أن منشأه الضرورة المفروضة، و ظهور الجواب في تقرير ذلك، و إنما يتجه ذلك في مثل صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الجنب يحمل [يجعل خ. ل] الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه؟ قال: إن كانت يده قذرة فأهرقه، و إن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه. هذا مما قال اللّٰه تعالي مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «1»، لعدم القرينة المانعة منه.

و بالجملة: ظاهر الحديث المفروغية عن انفعال الماء في نفسه و امتناع الغسل به لو لا الحرج.

و تعذر الالتزام بظاهره، لما هو المعلوم من عدم ارتفاع الحكم المذكور

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 79

______________________________

بطروء الحرج، يوجب إجماله، لا حمله علي عدم انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس، ليكون دليلا للخصم، و ينهض بمعارضة أدلة الانفعال. فتأمل جيدا.

الثالث: خبر علي بن جعفر: «عن جنب أصابت يده جنابة، فمسحها بخرقة، ثمَّ أدخل يده في غسله، هل يجزؤه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال عليه السّلام: إن وجد ماء غيره فلا يجزؤه أن يغتسل، و إن لم يجده غيره أجزأه» «1».

و فيه: - مع ضعف سنده- أن التفصيل المذكور فيه مما يناسب ما تقدم في خبر محمد بن ميسر، الذي عرفت تعذر الالتزام به، و لا سيما مع أن مسح المني بخرقة كثيرا ما يبقي معه بعض الأجزاء الدقيقة منه، فينافي الأدلة الكثيرة الواردة في الانفعال بعين النجاسة.

و لعله لذا قد يحمل علي الكر، لعدم التصريح فيه بالقلة- كما نبّه له في الجواهر- فيكون نظير صحيح ابن بزيع: «كتبت إلي من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء و يستقي فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب، ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب: لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» «2».

و إن كان الإنصاف أنه بعيد جدا.

الرابع: موثق أبي بصير عنهم عليهم السّلام: «قال: إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس، إلا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة، فإن أدخلت يدك في الماء و فيها شي ء من ذلك فأهرق ذلك الماء» «3».

بدعوي: ظهور ذيله بمقتضي المفهوم في أن إدخال اليد في الماء مع عدم حملها لشي ء من البول و الجنابة لا يوجب إهراقه.

و لا مجال للإشكال في سندها- كما عن بعض مشايخنا- لاشتماله علي عبد اللّٰه بن المغيرة المشترك بين البجلي الثقة و الخزاز المهمل.

______________________________

(1) عن قرب الاسناد طبعة إيران ص: 84.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 80

______________________________

لاندفاعه: بان اشتهار البجلي الثقة- الذي هو من الأعيان، و الذي قال فيه النجاشي: «ثقة، ثقة، لا يعدل به أحد من جلالته و دينه و ورعه»، و نسب رواية كتبه إلي كثير من أصحابنا- هو الموجب لانصرافه عند الإطلاق [1]، خصوصا من مثل إبراهيم بن هاشم الذي هو من الرواة عن البجلي الثقة، و لم تنقل روايته عن الخزاز.

بل إهمال النجاشي للخزاز و انفراد الشيخ في كتابه و إهماله للتصريح بالبجلي مما يقرب اتحادهما، و ان الاختلاف بين الشيخ و النجاشي قدّس سرّهما في نسبة الرجل.

فلاحظ.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال المذكور أن حمل القذر علي عين النجاسة موقوف علي كون «بول أو جنابة» بدلا من «قذر»، أو مضافا إليه إضافة بيانية، و لا قرينة علي ذلك، بل من الممكن كونه مضافا إضافة اختصاص، بلحاظ نشوية منهما، فيحمل علي المعني الاسم المصدري، و هو النجاسة، و يكون المراد: إلا أن يكون أصابها نجاسة بول أو جنابة، و لعل الثاني هو الأظهر.

فلا يكون مفاد المفهوم إلا توقف الإهراق علي بقاء النجاسة الناشئة من البول و الجنابة، لا علي بقاء العين، فيطابق أدلة الانفعال السابقة.

و يناسبه ظهور ورود الذيل لشرح الاستثناء الوارد في قوله عليه السّلام: «إلا أن يكون أصابها.» الشامل لصورة زوال عين النجاسة، لا تقييدا له مع إرجاع الصورة المذكورة لحكم المستثني منه.

إن قلت: الظاهر من قوله عليه السّلام: «و فيها شي ء من ذلك» كون المشار إليه مما يقبل التبعيض، و هو أعيان النجاسات، دون أثرها الحاصل في اليد، و هو النجاسة الشرعية.

قلت: التبعيض كما يكون بلحاظ الأجزاء الخارجية للمركب، فيختص بالأعيان، يكون بلحاظ الأفراد من الجنس، فلا يختص بها، بل يجري في الأثر،

______________________________

[1] و من ثمَّ فهم غير واحد البجلي من إطلاق الكشي حيث عد عبد اللّٰه بن المغيرة من أصحاب الإجماع.

(منه، عفي عنه).

ص: 81

______________________________

فتختلف أفراده و لو من جنس واحد، و الظاهر إرادة الثاني في المقام حتي علي فرض الحمل علي أعيان النجاسة، فلا يراد بقاء بعض مما أصاب اليد عليها، بل حملها لشي ء من البول و الجنابة و إن كان تمام ما أصابها أولا.

نعم، قد يكون التعبير بالإصابة ظاهرا في كون القذر من سنخ الجسم الملاقي لليد. لا العرض القائم بها. إلا أن في كفاية ذلك في الاستدلال إشكالا.

و عليه لا ينهض الموثق بالخروج عن إطلاق النصوص السابقة الظاهرة في تنجيس المتنجس التي يصعب حملها علي خصوص ما لو كان حاملا لعين النجاسة، لقوة ظهورها في موضوعية المتنجس من حيثية كونه متنجسا في الانفعال، و اعتبار طهارة الملاقي في عدم الانفعال، و حملها علي ذلك ليس من التقييد في الحقيقة، بل من إلغاء عنوان الحكم و صرفه إلي ما قد يقارنه، و هو أبعد من التقييد.

و من ثمَّ لا يبعد تقديم الأدلة المذكورة علي الموثق حتي لو فرض تمامية دلالته بدوا بتنزيله علي ما لا ينافي أدلة الانفعال، و لو بإلغاء خصوصية المفهوم فيه. و لعله لذا يغفل عن منافاته لها عند النظر إلي جميعها، و يحتاج ذلك إلي تنبيه.

علي أنه يصعب جدا التفكيك بين النجس و المتنجس بعد ظهور حال الأصحاب في المفروغية عن عدمه مع اختصاص أكثر أدلة الانفعال بالنجس، و ما ذلك إلا لارتكاز عدم الخصوصية عندهم، فإن فهمهم و إن لم يكن حجة، إلا أن تسالمهم علي ذلك مع كثرة الابتلاء بالمتنجس و شيوعه في جميع العصور حتي عصور الأئمة عليهم السّلام يشرف بالفقيه علي القطع بعدم الفرق.

و بعبارة أخري: لا ريب في أن مسألة الانفعال بالنجس و المتنجس مما يكثر الابتلاء به، و تشتد الحاجة لبيان الحكم فيه، كما أن كثرة الأدلة الواردة في الانفعال بالنجس تقتضي وضوح الحكم به في عصور الأئمة عليهم السّلام.

ص: 82

______________________________

أما المتنجس فلو كان البناء فيه علي خلاف ذلك أو علي الإشكال فيه لظهر و شاع بنحو يمنع الأصحاب عن إلحاقه بالنجس، و لا تكفي فيه الأدلة المتقدمة- لو فرض تماميتها- التي لم تلفت نظر الأصحاب و لم تنبههم للخصوصية، بل لم تلفت نظر المخالف حيث لم يستند إليها، بل لدعوي قصور أدلة الانفعال.

فالإنصاف أن التأمل في أدلة الانفعال بالنجس و المتنجس بعد ملاحظة عموم الحكم عند الأصحاب و غفلتهم عن الفرق بينهما مانع من الركون لأدلة التفصيل حتي لو فرض تماميتها بدوا، لأن ذلك يوجب قوة ارتكاز فهم عدم الخصوصية في المقام بنحو يري أن الأدلة المذكورة كبعض ما ورد في النجس معارضة لأدلة أصل الانفعال، المعول عليها في المقام.

و مما ذكرنا يظهر حال ما ذكره بعض مشايخنا من التفصيل بين المتنجس بعين النجاسة، و المتنجس بالمتنجس بالميل للانفعال بالأول دون الثاني، مدعيا قصور أدلة الانفعال عنه، لأن ما تضمن انفعال الماء بإدخال اليد القذرة مختص بما إذا كانت ملاقية لعين النجس، إذ لم ير إطلاق القذر علي المتنجس غير الملاقي لعين النجس، فإن المتنجس بالمتنجس و إن كان نجسا لكنه ليس قذرا.

إذ فيه. أولا: أن التفكيك المذكور أبعد من التفكيك بين النجس و المتنجس عن المرتكزات، لوضوح أن نجاسة المتنجس بالنجس ليست إلا حكمية شرعية، فاقتضاؤها انفعال الملاقي له ليست ارتكازا إلا من جهة حكم الشارع بسراية النجاسة الحكمية بالملاقاة، و ذلك يقتضي السراية في كل ما هو نجس حكما و إن كانت نجاسته بملاقاة المتنجس مع تكثر الوسائط.

و إذا كان التفكيك بين النجس و المتنجس منافيا لتسالم الأصحاب بالتقريب المتقدم، فالتفكيك بين أقسام المتنجس مناف لارتكازيات العرف في فهم الكلام و تلقي الأحكام.

و لو بني علي ذلك لأمكن التفكيك بين النجاسات، بل بين أقسام النجاسة

ص: 83

______________________________

و أحوالها، بالاقتصار علي الخصوصيات المأخوذة في النصوص، و ليس عدم الفصل بينها عندهم إلا كعدم الفصل بين النجس و المتنجس، أو بين أقسام المتنجس، فإن احتمال التفصيل بالوجهين المذكورين أو القول به من حوادث العصور المتأخرة التي لا أثر لها في الكشف عن رأي المعصومين عليهم السّلام، و لا عن القرائن المحيطة بكلامهم الصالحة للتعميم و إلغاء الخصوصية.

و ثانيا: أنه لا مجال لإنكار عموم بعض أدلة الانفعال المتقدمة للمقام. و ما ذكره من إنكار عموم اليد القذرة للمتنجسة بالمتنجس غير ظاهر الوجه، فإن القذارة مقابلة للطهارة و النظافة، فالقذر العرفي ما لا يكون نظيفا عرفا، و القذر الشرعي ما لا يكون نظيفا و لا طاهرا شرعا، كما يشهد به نصوص قاعدة الطهارة في الماء، و في كل شي ء، و قوله في موثق عمار: «سئل عن الكوز و الإناء يكون قذرا كيف يغسل» «1».

و حينئذ إن أريد حمل النصوص المتقدمة علي القذارة العرفية، أشكل إثبات عموم الانفعال بالمتنجس بالنجاسة بها، مع أنه استدل بها علي ذلك.

و إن أريد حملها علي القذارة الشرعية- كما تقدم أنه الظاهر- فهي تشمل كل نجس.

هذا، مع أنه يكفي إطلاق صحيح زرارة الوارد في غمس اليد في ماء الوضوء، المتضمن اعتبار كونها طاهرة بناء علي ما تقدم في تقريب الاستدلال به علي انفعال الماء بالمتنجس.

هذا، و قد يستدل علي التفصيل المذكور بموثق أبي بصير المتقدم:

بدعوي: أن عدم تنجيس المتنجس بالمتنجس للماء متيقنا منه حتي لو حمل القذر فيه علي الأثر المسبب عن البول و الجنابة، لأن نجاسة المتنجس المذكور لا تستند إلي البول و الجنابة و نحوهما من أعيان النجاسات.

و يندفع. أولا: بأنه لا يبعد نسبة نجاسة المتنجس بالمتنجس عرفا لعين

______________________________

(1) الوسائل باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 84

علي الأقوي، إلا إذا كان متدافعا (1)

______________________________

النجاسة بمعني أنها ناشئة منها، لما هو المرتكز من أن المتنجس واسطة في نقل النجاسة من الأعيان المنجسة له إلي الأعيان المتنجسة، و ليس الانفعال به لملاك قائم به مباين لملاك النجاسة المنجسة له. و لا أقل من الشك المانع من الاستدلال.

و ثانيا: بأنه لا مجال للجمود علي خصوصية البول و الجنابة المذكورين في الموثق، فلا بد من حمل ذكرهما علي مجرد التمثيل و الإشارة لمطلق ما يوجب التنجس، و لو لكونهما مورد الابتلاء للجنب غالبا، الذي قد يتوهم عدم جواز إدخاله اليد في الماء مطلقا و إن كانت طاهرة، فلا يصلح الموثق لشرح ما يوجب التنجيس، بل يرجع في ذلك للأدلة الأخر، التي تقدم دلالتها علي الانفعال بكل ما يصدق عليه أنه نجس، و لو كان متنجسا من غير فرق بين أقسامه.

و عليه لا مجال للتفصيل المذكور، خصوصا بعد ما عرفت من صعوبة التفكيك المذكور، فإنه يوجب ارتفاع الوثوق بأصالة الظهور في الموثق لو تمَّ ظهوره في نفسه، فيسقط عن الحجية. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) فقد ادعي في الجواهر الإجماع علي عدم سراية النجاسة من الأسفل إلي الأعلي، و في المقابس: «فإنهم حكوا الإجماع علي عدم سراية النجاسة من الأسفل مطلقا»، و حكي شيخنا الأعظم قدّس سرّه دعواه عن روض الجنان و العلامة الطباطبائي قدّس سرّه في مصابيحه، ثمَّ قال قدّس سرّه: «و هو في الجملة مما لا ريب فيه».

و قد يوجه بما ذكره بعض مشايخنا و أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الماء و إن كان متحدا حقيقة إلا أنه متعدد عرفا، فلا تشمله أدلة الانفعال، لاختصاصها بالماء الواحد.

و فيه: أنه لو تمَّ التعدد العرفي بين ما يكون التدافع منه و ما يكون التدافع

ص: 85

______________________________

إليه، كماء السطح و الأرض في المثال المذكور في المتن، فلا يتم في الخط الواصل بينهما كالخط المتصل بالميزاب و الأرض لو فرض تنجس أسفله.

علي أن التعدد إنما يمنع من انفعال أحد المائين بالنجاسة الواقعة في الآخر، و لا يمنع من انفعال أحدهما بالاتصال بالآخر، نظير الحوضين المتصلين بأنبوب ضعيف، إلا بناء علي عدم تنجيس المتنجس.

فالعمدة في وجه عدم الانفعال قصور أدلته عن شمول المقام، إذ الأدلة الخاصة واردة في الإناء و النور و الركوة و نحوها مما ينصرف أو يختص بصورة استقرار الماء و عدم تدافعه.

و أما الأدلة العامة فالعمدة فيها روايات الكر، و قد تقدم في آخر مبحث انفعال الماء القليل أنها محمولة علي الانفعال بالطرق العرفية الارتكازية، و هي الموجبة للاستقذار عندهم، و من الظاهر عدم كون الملاقاة مع التدافع موجبة للانفعال بنظرهم، بل هي قاصرة عن التأثير في المتدافع منه، كما هو الحال في قذاراتهم.

و أما الاستدلال عليه- كما في المقابس- بأنه لولاه لامتنع التطهير بالماء القليل.

ففيه: أنه لا إشكال في إمكان التطهير به حتي مع عدم التدافع، كما في غسل الثياب في المركن.

و بما ذكرنا يظهر وجه تعميم الحكم في المتن لصور التدافع الثلاث، و عدم الاقتصار علي صورة التدافع من الأعلي إلي الأسفل التي هي معقد إجماعاتهم.

لعموم الارتكاز المشار إليه لجميع الصور المذكورة.

بل لا يبعد كونه قرينة علي إلغاء خصوصية العنوان المذكور حتي في كلماتهم، فبقية الصور داخلة في الإجماع لبا، و إن لم تدخل فيه لفظا، و إلا فمن البعيد جدا التزامهم بالانفعال فيها مع منافاته للارتكاز المذكور و كثرة الابتلاء بها.

ص: 86

بقوة (1)، فالنجاسة تختص حينئذ بموضوع الملاقاة (2)،

______________________________

(1) ظاهره اعتبار قوة الدفع، كما صرح به بعض مشايخنا، بل ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن المتيقن من الإجماع صورة التسنيم و ما يشبهه من التسريح، و أن المرجع في غيرهما عموم الانفعال، لصدق وحدة الماء.

بل شكك في الجواهر عموم كلماتهم لمثل انكفاء الإناء علي الأرض النجسة، الذي هو يستلزم غالبا مرتبة معتدا بها من التدافع.

لكن الظاهر كفاية التدافع بالمقدار الذي يصدق معه الجريان عرفا، بحيث يري العرف عدم استقرار الماء، لما أشرنا إليه من الارتكاز، و التشكيك فيه هنا- كما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه- في غير محله.

و لا أقل من الشك في عموم أدلة الانفعال، فيرجع لأصالة الطهارة، كما نبه له صاحب الجواهر و سيدنا المصنف قدّس سرّهما. و لا يهم مع ذلك قصور الإجماع.

علي أن عمومه قريب جدا، بقرينة الارتكاز المذكور، الموجب للغفلة عن الانفعال في مثل ذلك.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه فيظهر الإشكال فيه مما تقدم من عدم كون وحدة الماء عرفا معيارا في المقام.

نعم، إذا كان التدافع و الجريان ضعيفا جدا بحيث يصدق الاستقرار عرفا لم يبعد عن الارتكاز البناء علي الانفعال. فلاحظ.

(2) يعني: و لا تسري إلي الجهة التي يتدافع منها إليه، و إن كانت تسري في مجموع ما لا تدافع فيه من موضع الملاقاة بلا إشكال، كالماء المتجمع من الميزاب في الحفر.

ثمَّ إن ما ذكر لا يختص بالماء، بل يجري في غيره من المائعات من أقسام الماء المضاف و غيره كاللبن و الزيت و غيرهما، لعين ما ذكرنا من الوجه.

ص: 87

و لا تسري إلي غيره، سواء كان جاريا من الأعلي إلي الأسفل (1)، كالماء المنصب من الميزاب إلي الموضع النجس، فإنه لا تسري النجاسة إلي أجزاء العمود المنصب، فضلا عن المقدار الجاري علي السطح، أم كان متدافعا من الأسفل إلي الأعلي (2)، كالماء الخارج من الفوارة الملاقي للسقف النجس، فإنه لا تسري النجاسة إلي العمود و لا إلي ما في داخل الفوارة، و كذا إذا كان متدافعا من أحد الجانبين إلي الآخر.

و أما الكثير الذي يبلغ الكر فلا ينفعل بملاقاة النجس فضلا عن المتنجس (3)،

______________________________

(1) تقدم أن هذا هو معقد إجماعاتهم المدعاة في المقام.

(2) تقدم أن هذه الصورة و ما بعدها و إن خرجتا عن معقد إجماعاتهم لفظا، إلا أنه لا يبعد دخولهما في مرادهم بقرينة الارتكاز الذي هو الدليل في جميع الصور.

(3) الظاهر أنه في الجملة لا خلاف فيه، بل صرح في الجواهر بأن عليه الإجماع المحصّل و المنقول، و في مفتاح الكرامة: «و قد نقل الإجماع جماعة كثيرون علي عدم نجاسته».

و يقتضيه النصوص الكثيرة «1» التي تقدم بعضها في مبحث انفعال القليل، و يظهر من بعضها المفروغية عن الحكم «2». و يظهر من غيرها من النصوص دخل الكثرة في انفعال الماء و إن لم يصرح فيها بالكريه، فتحمل عليها جمعا، كصحيح صفوان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «عن الحياض التي بين مكة و المدينة، تردها السباع، و تلغ فيها الكلاب، و تشرب منها الحمير، و يغتسل فيها الجنب، و يتوضأ منها. قال:

______________________________

(1) راجع النصوص المذكورة في الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 88

______________________________

و كم قدر الماء؟ قال: إلي نصف الساق و إلي الركبة. قال: توضأ منه» «1»، و موثق أبي بصير عنه عليه السّلام: «و لا تشرب من سؤر الكلب إلا أن يكون حوضا كبيرا يستقي منه» «2». و كذا الحال في المطلقات الواردة في الغدران، و الحياض، و الماء النقيع، و ماء الطريق و نحوها مما تضمن عدم انفعاله إلا بالتغير، كما تقدم التعرض لبعضها.

و أما موثق سماعة عن أبي بصير: «سألته عن كر من ماء مررت به و أنا في سفر قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان؟ قال: لا توضأ منه و لا تشرب منه» «3».

فلا بد من حمله علي التغير- كما عن الشيخ قدّس سرّه- أو علي الكراهة، لاشتماله علي ما ليس بنجس، كما احتمله في الوسائل.

هذا، و المعروف المشهور عدم الفرق بين جميع المياه في ذلك، و عن ظاهر المفيد في المقنعة و سلار في المراسم استثناء ما في الأواني و الحياض و الحكم بنجاسته حتي مع الكثرة، و عن ظاهر النهاية ذلك في الأواني.

و لم يتضح وجهه بعد عموم كثير من نصوص الكر، و ظهورها في أن المدار علي كمية الماء من دون دخل لمحله، و خصوص ما ورد في الحياض، كصحيح صفوان المتقدم و غيره، و مرسل عبد اللّٰه بن المغيرة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: الكر من الماء نحو حبي هذا، و أشار إلي حب من تلك الحباب التي تكون بالمدينة» «4».

فتأمل.

و لعله لأجل ذلك رمي القول المذكور بالشذوذ- كما قيل- و حمل- كما عن المنتهي- علي الكثرة العرفية، لا ما يكون بقدر الكر.

تنبيه: الظاهر توقف سريان النجاسة مع القلة و الاعتصام مع الكرية علي سيلان الماء، فلو كان جامدا لحقه حكم سائر الأمور الجامدة من انفعال موضع

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 89

إلا إذا تغير (1)

______________________________

الملاقاة فقط و عدم اعتصامه بالكريه، كما لا يكون متمما للكر، كما صرح به غير واحد.

كل ذلك لاختصاص أدلة الأحكام المذكورة بالماء، و السيلان مأخوذ في مفهومه و إن لم يكن دخيلا في حقيقته، و هو المطابق لارتكاز دخله في الأحكام المذكورة.

و لا وجه للإشكال في اعتبار السيلان في العاصمية- كما في القواعد و عن التحرير- فضلا عن الجزم بعدم اعتبارها فيه- كما عن المنتهي و الحواشي المنسوبة للشهيد- و لا سيما مع الحكم بعدم السريان مع القلة، بل يلحقه حكم الجامد من إلقاء ما يكتنفه.

إذ مع فرض اختصاص الماء بالسائل لا وجه للأول، و مع فرض عمومه للجامد لا وجه للثاني.

اللهم إلا أن يكون الوجه فيه ما ورد في الدهن و نحوه «1» إذا كان جامدا بدعوي: أن عدم سريان النجاسة فيها مع الجمود يقتضي عدم سريانها في الماء معه، لأولويته في الطهارة. فتأمل.

(1) فإنه ينجس بلا خلاف ظاهر، بل في الجواهر: «عليه الإجماع محصلا و منقولا كاد يكون متواترا، بل في المعتبر أنه مذهب أهل العلم كافة، و في المنتهي أنه قول كل من يحفظ عنه العلم».

و تقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «2»، و صحيح عبد اللّٰه بن سنان: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المضاف و المستعمل، و باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة و غيرهما.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 90

بلون النجاسة أو طعمها أو ريحها (1)

______________________________

حاضر عن غدير أتوه و فيه جيفة؟ فقال: إن كان الماء قاهرا و لا توجد منه الريح فتوضأ» «1» و غيرهما.

فيتعين رفع اليد بها عن عموم نصوص الكر و إن كان بين الطائفتين عموم من وجه، إذ لا مجال لحمل نصوص التغير علي ما دون الكر بعد ظهور كثير منها في كثرة الماء بنحو يمتنع حمله علي ما دون الكر، و لو لأنه الفرد النادر، خصوصا مثل صحيح عبد اللّٰه بن سنان المتقدم الظاهر في اعتبار كون الماء قاهرا، علي ما يتضح بمراجعة ما تقدم عند الكلام في أدلة الانفعال.

بل لما كان بعض نصوص انفعال القليل صريحا في انفعاله بمجرد الملاقاة من دون تغير، فحمل نصوص التغير علي القليل موجب للغويتها، لوضوح تأخر التغير عن الملاقاة، فلا يستند الانفعال له.

و بالجملة: لا ريب في لزوم حمل نصوص اعتصام الكر علي غير صورة التغير بأن تحمل علي الاعتصام من الانفعال بمحض الملاقاة الثابت فيما دون الكر.

هذا، و يأتي إن شاء اللّٰه تعالي أن انفعال الماء بالتغير يعم جميع أقسام الماء، و لا يختص بالراكد، و هو مورد إجماع الجواهر المتقدم.

(1) ظاهرهم عدم الفصل بين الصفات الثلاث في الانفعال، إلا ما حكاه في الجواهر عن بعض المتأخرين من التشكيك في الانفعال بالتغير اللوني، لكن ذكر أنه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، بل هو من قبيل التشكيك في الضروري.

و كيف كان، فالأمر في الريح ظاهر، لتظافر النصوص به، و كذا في الطعم، لاشتمال كثير من النصوص عليه، كصحيح ابن بزيع عن الرضا عليه السّلام: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فينزح حتي يذهب الريح و يطيب

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 91

______________________________

طعمه، لأن له مادة» «1» و غيره، و بها ترفع اليد عن ظهور بعض النصوص في الحصر بالريح، كصحيح ابن سنان المتقدم و غيره. و لا سيما مع ورود تلك النصوص في الميتة و الجيفة التي تغير الريح قبل غيره من الصفات.

و أما اللون فقد يستدل عليه.

تارة: بما ذكره بعض مشايخنا من ملازمة التغير به للتغير بالريح و الطعم.

و اخري: بإطلاق التغير في مثل صحيح ابن بزيع عن الرضا عليه السّلام: «قال: ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلا أن يتغير» «2»، قال في الجواهر: «فإنه لا ريب في شمولها للتغير اللوني، بل قد يدعي أنه أظهر الأفراد». و لا سيما مع اشتمال بعضها- كخبر أبي بصير «3» - علي الدم الذي يكون لونه أظهر صفاته.

و ثالثة: بالنصوص المتضمنة له بالخصوص كالنبوي: «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» «4»، و خبر العلاء بن الفضيل:

«سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الحياض يبال فيها؟ قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول» «5»، و ما في صحيح شهاب بن عبد ربه عنه عليه السّلام: «قلت: فما التغير؟ قال:

الصفرة» «6»، و غيرها.

لكن الأول: إن تمَّ رجع إلي عدم الانفعال بالتغير اللوني، لسبق الانفعال بغيره. علي أنه غير ظاهر في مثل الدم مما يشتد لونه، إذ لا يبعد كون تغيره به أسبق.

و الثاني: إنما ينفع في قبال أصل الطهارة، لا في قبال ظهور بعض النصوص في الاختصاص بالريح و الطعم- كصحيح ابن بزيع المتقدم- لصلوحها لتفسير التغير

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(6) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 92

______________________________

و حمله عليهما. فتأمل.

و أما الثالث: فهو موقوف علي حجية النصوص المذكورة لتنهض برفع اليد عن مثل صحيح ابن بزيع المتقدم.

و قد تقدم في مبحث عموم مطهرية الماء الإشكال في حجية النبوي.

كما أن خبر العلاء بن الفضيل ضعيف بمحمد بن سنان، و كذا بقية النصوص المشار إليها.

إلا صحيح شهاب حيث لا غمز فيه ظاهرا، لروايته في بصائر الدرجات بسند صحيح.

و طريق الوسائل إلي كتاب البصائر صحيح بناء علي وثاقة أحمد بن محمد ابن يحيي العطار، كما تقدم في مسألة عدم قدح الصغائر في العدالة «1».

علي أن كتاب بصائر الدرجات من الكتب المعروفة التي لا تحتاج إلي إسناد، و إنما يذكر السند لها لمحض التعبد، أو التبرك باتصال السند بالمعصومين عليهم السّلام.

و لا سيما مع تأيد الصحيح ببقية الأخبار خصوصا خبر علاء بن الفضيل الذي لا يخلو عن اعتبار، لأن ابن سنان و إن ضعّف إلا أنه لا يبعد وثاقته في نفسه [2]، و أن منشأ الطعن فيه روايته لمضامين توهم الغلو، و لا سيما مع وقوعه في أسانيد كثير من روايات الأعيان الطاعنين عليه و غيرهم، إذ لا أقل من وثوقهم بالروايات المذكورة لقرائن خاصة.

هذا، مع أن تسالم الأصحاب علي عدم الفرق بين الصفات الثلاث كاف في جبر هذه النصوص لو فرض فيها شي ء من الضعف. فلاحظ.

______________________________

[2] يأتي في المسألة السابعة عشرة عند الكلام في تحديد الكر بالمساحة تفصيل الكلام في محمد بن سنان و تقريب توثيقه. منه عفي عنه.

______________________________

(1) مصباح المنهاج- الاجتهاد و التقليد: 242.

ص: 93

تغيرا فعليا (1).

______________________________

(1) يعني: و لا يكفي التغير التقديري، كما هو المصرح به في كلام جمع، و عن الذكري و الروض أنه ظاهر المذهب، و في كشف اللثام أنه ظاهر الأكثر، خلافا للقواعد و محكي المنتهي و المختلف و الإيضاح من الاكتفاء بالتغير التقديري، مع احتمال العدم في الأخيرين، و في جامع المقاصد و عن مجمع الفائدة و محكي المهذب أنه أرجح و أقرب للاحتياط.

هذا، و من الظاهر أن التغير المذكور في النصوص و كلمات الأصحاب لإيراد به ما يعم التغير الواقعي الدقي الذي ليس من شأنه الظهور للحس لضعفه، لظهور كون المراد بالنصوص في المقام و غيره- مما يتضمن أخذ عنوان خاص في موضوع حكم عملي- الإشارة إلي أمر يتعارف الاطلاع عليه، ليترتب عليه العمل.

بل لا ينفك عن التغير بالنحو المذكور وقوع كثير من النجاسات في الماء، كالبول و الدم و العذرة و الجيفة مع صراحة النصوص في التفصيل بين التغيير و عدمه، فلو أريد بالتغيير ما يعم ذلك لم يكن للتفصيل المذكور مجال.

و بعد أن كان ظاهر الأدلة هو التغير القابل للإدراك بالحس يقع الكلام في أن المدار في التغير المذكور علي وجوده الفعلي، أو علي تقدير وجوده و إن لم يوجد فعلا لجهات خاصة.

و توضيح ذلك أن عدم ظهور التغير في الماء لأحد أمور:

الأول: قصور النجاسة عن التأثير.

تارة: لقصور في نوعها بحيث لو وقعت نجاسة من نوع آخر لأوجبت التغير، كالبول الذي لا يوجب مقدار خاص منه تغيير لون الماء و إن أوجبه ذلك المقادر من الدم.

و اخري: لقصور في شخصها لفقده الوصف، أو لضعف الوصف فيه، إما بحسب أصله، أو لطارئ عليه بعد وجوده.

ص: 94

______________________________

الثاني: قصور الماء عن أن يتأثر بالنجاسة، و هو:

تارة: يكون لاشتماله علي ما يمنع من التأثر كالأملاح و نحوها، إما بحسب أصله عرفا كمياه الآبار، أو بإضافته إليه بوجه لا يخرجه عن الإطلاق.

و اخري: يكون لحمله قبل ملاقاة النجاسة نفس الوصف الذي تحدثه النجاسة، إما بحسب طبعه عرفا- كالمياه الكبريتية الصفراء و المياه الطينية الحمراء- أو بطروء ما يوجب ذلك فيه من الأصباغ و نحوها.

الثالث: عدم تحقق شرط التأثير، كما لو توقف تأثير النجاسة في الماء علي تعرضه للحر و نحوه مما لم يتحقق.

هذا، و لم يعرف من أحد احتمال الاكتفاء بالتقدير في الوجه الثالث، و الصورتين الأوليين من الوجهين الأولين، بل لا ينبغي الريب في ذلك في الجملة بعد النظر في النصوص، حيث لم ينبه فيها إليه مع شدة الحاجة إليه، لكثرة الابتلاء به و الغفلة عنه. فاحتمال الاكتفاء بالتغيير التقديري إنما هو في الصورة الثانية من كل من الوجهين الأولين.

أما الصورة الثانية من الوجه الأول فهي الظاهرة من العلامة قدّس سرّه و من تبعه ممن سبقت الإشارة إليه، قال في القواعد: «لو وافقت النجاسة الجاري في الصفات فالوجه عندي الحكم بنجاسته إن كان يتغير بمثلها علي تقدير المخالفة، و إلا فلا».

و أما ما في الجواهر من إمكان حمله علي الصورة الثانية من الوجه الثاني، فهو خلاف ظاهره، حيث كان المناسب أن يقول: إذا وافق الجاري النجاسة. إلخ.

فاختصاصه بالصورة التي ذكرناها أو عمومه لها مما لا ينبغي أن ينكر.

نعم، لا يشمل تمام أقسامها، بل يختص بصورة فقد الوصف، بل يظهر من الجواهر اختصاصه بصورة فقد الوصف بعد وجوده، لا فقده بحسب الأصل، حيث يظهر منه المفروغية عن عدم التقدير فيه و في صورتي ضعف الوصف، بل نقل عن المصابيح الإجماع علي ذلك.

و كيف كان، فقد يستدل للتقدير في ذلك بوجوه عمدتها: ان أخذ التغيير

ص: 95

______________________________

ليس لدخله بنفسه في التنجيس، بل لكشفه عن غلبة النجاسة علي الماء، و ذلك يقتضي الاكتفاء بكون النجاسة بالمقدار الموجب للتغيير و إن لم يتحقق فعلا لفقدها للوصف.

و ربما يشير لذلك ما عن المنتهي، حيث قال: «بلوغ الكرية حد لعدم قبول التأثير عن الملاقي إلا مع التغير، من حيث أن التغير قاهر للماء عن قوته المؤثرة في التطهير. و هل التغير علامة علي ذلك و الحكم يتبع الغلبة أم هو المعتبر؟ الأولي الأول. فلو زال التغير من قبل نفسه لم يزل عنه حكم التنجيس».

و فيه: أنه إن أريد بالغلبة استيلاء النجاسة علي الماء بسبب تأثيرها فيه- كما قد يظهر من عبارة المنتهي المتقدمة بقرينة التفريع- فهو مساوق لاعتبار التغير و لا ينفع في إثبات الانفعال مع عدم فعليته.

و إن أريد بها ما ينتزع من صلوح النجاسة للتأثير، لا من فعلية التأثير فهو عين المدعي. مع أنه لا ينفع في إثبات الانفعال في مورد الكلام، لعدم شأنية النجاسة الملاقية للماء للتأثير فيه.

و إن أريد بها كون النجاسة بكمّ خاص يقتضي التغيير و لو مع عدم فعلية التأثير، فهو- مع مخالفته لظهور الأدلة في دخل التغير بنفسه واقعا لا بلحاظ كشفه عما هو الدخيل- مما يقطع ببطلانه، ضرورة اختلاف كمية النجاسة المغيرة باختلاف أنواع النجاسات و أفرادها و أنواع المياه و أفرادها، و اختلاف الظروف من الحر و البرد و غير ذلك مما لا مجال معه لحمل نصوص التغير علي اعتباركم خاص.

مع أن الغلبة بالنحو المذكور تقتضي الانفعال في أكثر الصور المتقدمة أو جميعها، و لم يظهر منهم البناء علي ذلك، بل عرفت دعوي الإجماع علي عدم الانفعال في بعضها، و هو المقطوع به من النصوص في بعض آخر.

و هناك بعض الوجوه ظاهرة الوهن. مثل ما عن المختلف من أن النجاسة تدور مدار الأوصاف، فإذا فقدت وجب تقديرها.

ص: 96

______________________________

و أن ظاهر النصوص استناد التنجيس للنجاسة، و ليس التغير إلا علامة لها، و أنه لو لم يبن علي التقدير لزم عدم الانفعال و لو زادت النجاسة علي الماء أضعافا مضاعفة.

لاندفاع الأول: بأنه بظاهره عين الدعوي، بل مقتضي دوران النجاسة مدار الأوصاف عدمها عند عدمها.

و الثاني: بأن التنجيس لا يستند لمطلق النجاسة، بل لخصوص المغيّر منها، فلا يحصل مع عدم فعلية التغيير. إلا أن يرجع هو و ما قبله للوجه الأول، الذي عرفت الجواب عنه.

و يندفع الثالث: بأنه استبعاد في فرض لا واقع له، لأن ذلك يخرج الماء عن الإطلاق، فيخرج عن محل الكلام.

و كأن هذا الوجه هو الذي دعا إلي القول بالتقدير، و لعله لذا قال في محكي حاشية المدارك: «و لعل القائل بالتقدير مطمح نظره مثل البول الممزوج بالماء، و إلا فاعتبار التقدير في مثل الميتة في ماء البئر و ما ماثل الميتة فاسد قطعا.».

و بالجملة: لا مجال للبناء علي التقدير في ذلك بعد مخالفته لظاهر الأدلة، بل هي آبية عنه جدا بعد ملاحظة شدة الاختلاف بين أفراد النجاسات في الأوصاف بنحو ليس هناك ضابط عرفي يمكن دعوي إشارة النصوص إليه غير التغير الفعلي.

و أما الصورة الثانية من الوجه الثاني، فالظاهر شيوع القول فيها بالانفعال بين المتأخرين، و في الجواهر أنه نقل أنه أفتي به كل من تعرض له، و عن الحدائق أنه قطع به متأخرو الأصحاب من غير خلاف معروف في الباب، و ظاهر جامع المقاصد أنه لا تردد فيه حتي ممّن تردد في الاكتفاء بالتقدير فيما سبق.

و قد أشار غير واحد إلي وجهه، ففي محكي المدارك: «لو خالفت النجاسة الجاري في الصفات لكن منع من ظهورها مانع- كما لو وقع في الماء المتغير بطاهر أحمر دم مثلا- فينبغي القطع بنجاسته، لتحقق التغير حقيقة، غاية الأمر أنه مستور

ص: 97

______________________________

عن الحس»، و نحوه في جامع المقاصد و عن المعالم، و حكي نحو ذلك في الجواهر عن المصابيح، و زاد: «بل قد يقال: إنه لا بد أن تؤثر النجاسة فيه اشتدادا، فيتحقق التغير فيه حسا».

و مع هذا فقد أنكر ذلك في الرياض مدعيا عدم الفرق بينه و بين ما إذا كان عدم التغير لقصور في النجاسة، و وافقه غير واحد منهم شيخنا الأعظم قدّس سرّه و سيدنا المصنف قدّس سرّه.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعد أن تعرض لكلام مدعي حصول التغير: «لا خفاء في امتناع تلون محل واحد شخصي بلونين، و قد عرفت أن تلون الماء بالنجاسة لا يكون إلا مع تأثيرها فيه فعلا، و أنه لو فرض ممازجة جسمين متساويين في اللون لم يصر أحدهما منفعلا بلون الآخر، بل كل جزء من المجموع مركب من جزئين، لون كل منهما قائم بنفسه غير مؤثر في الآخر، لامتناع الترجيح بلا مرجح. فلا أجد معني لظهور وصف النجاسة، و تحقق التغير، و الاستيلاء، و دعوي استتاره عن الحس، و لا لما ذكر من أنه لا بد من تأثير النجاسة اشتدادا في لون الماء الموافق، و قد مثلنا لك أن زيادة اللبن علي اللبن لا تؤثر في بياضه».

و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لامتناع اجتماع المثلين كالضدين، فإذا كان الماء متلونا بمثل لون النجاسة كيف يتلون بلونها؟».

و الظاهر أن كلا طرفي النزاع قد نقل في مقام الاستدلال إلي ما لم ينظر إليه الآخر.

و توضيح ذلك: أن حمل الماء الصفة من النجاسة و تغيره.

تارة: يكون بسبب تفاعلها معه و إن لم تختلط به، كالميتة المغيرة لرائحة الماء و إن لم تختلط به.

و اخري: يكون بتوسط انبثاثها فيه من دون تفاعل، كالبول الأصفر الموجب لاصفرار الماء باختلاطه به.

أما في القسم الأول فحمل الماء للوصف سابقا لا يمنع من تغيره بالنجاسة،

ص: 98

______________________________

ضرورة أن اجتماع العلل علي معلول واحد فيما يقبل التأكد- كالأوصاف المذكورة- يوجب التأكد، و هو نحو من التغير.

و أما في الثاني فإن كان الوصف في النجاسة أشد منه في الماء أوجبت الزيادة المذكورة شدة الوصف في الماء.

و إن كان وصف النجاسة أخف من وصف الماء أثرت النجاسة في الماء تخفيف الوصف، لاشتراكها معه فيما كان يمتاز به من الزيادة.

و إن كانا متساويين في الوصف بحسب المرتبة تعين عدم تغير الماء بالنجاسة، لانشغال كل منهما بوصفه من دون زيادة له لينقلها إلي ما يختلط به.

نعم، لو فرض خلو الماء عن الوصف لتأثر بوصف النجاسة و أخذ منه بسبب انبثاثها فيه، و خف الوصف فيهما، إلا أن هذا محض تقدير.

و كأن من ادعي تحقق التغير نظر إلي القسم الأول و الوجه الأول من القسم الثاني، و من أنكره نظر إلي الوجه الثالث من القسم الثاني، كما يشهد به ما سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و كيف كان، فاللازم التفصيل بين الوجهين- كما قد يظهر من الجواهر- فما يكون موجبا لشدة الوصف يحكم بانفعال الماء به، لأنه نحو من التغير الفعلي، فيدخل في إطلاق الأدلة، من دون فرق بين ظهوره للحس لقوة أثر النجاسة، و خفائه عليه بسبب شدة الوصف الأول في الماء و ضعف أثر النجاسة، فإن ذلك قد يوجب صعوبة التمييز بين حالي الماء قبل تأثير النجاسة و بعده، إلا أنه من باب التباس الأمر علي الحس لتشبعه بالوصف السابق، لا لعدم صدق التغير عرفا.

نعم، يتعين البناء علي عدم الانفعال لو كانت الشدة بمرتبة ضعيفة، بأن يكون عدم إدراك العرف لها لعدم اعتدادهم بها، بحيث لا تكون بنظرهم موجبة لصدق التغير بالإضافة لذلك الماء- و إن فرض صدقه بالإضافة إلي الماء الصافي، إذ لا يبعد اختلاف حالات الماء في مقدار الوصف الذي يصدق معه التغير عرفا- لما تقدم في أول الكلام من قصور النصوص عن التغير الدقي و اختصاصها بالعرفي.

ص: 99

______________________________

و الفرق بينه و بين ما ذكرنا أن عدم ظهور التغير للحس فيه لقصور في نفس التغير، و عدم ظهوره فيما ذكرنا لقصور في الحس عن إدراكه للمانع من ظهوره مع صلوحه للظهور، نظير الظلام، و لا دليل علي قادحية ذلك بعد شمول إطلاقات التغير.

و بالجملة: المعتبر فعلية التغير، كما هو مقتضي الأدلة، لا فعلية الظهور للحس، لعدم الدليل عليه، و إنما اعتبرت شأنية الظهور للحس لتحديد التغير المستفاد من الأدلة اعتباره.

و لعل هذا هو مراد الشهيد قدّس سرّه، حيث قال في محكي البيان: «و المعتبر في التغيير المحسوس به لا التقدير، إلا أن يكون الماء مشتملا علي صفة تمنع من ظهور التغيير، فيكفي التقدير».

بل لا يبعد كونه مرادا لجميع من علّل بتحقق التغير و عدم ظهوره، و إن كانت أمثلتهم قد تعم غير ذلك. بل من البعيد جدا أن يكون مراد المانع من الاكتفاء بالتغيير التقديري ما يعم هذه الصورة.

و أما ما لا يوجب شدة الوصف- و هو الوجه الثالث من القسم الثاني- فاللازم البناء علي عدم الانفعال به، لقصور النصوص عنه و ظهورها في التغير الفعلي المفروض عدم تحققه.

و ربما يوجه القول بالانفعال بوجوه كثيرة، عمدتها وجهان.

الأول: ما أشار إليه غير واحد من مشايخنا [1] من أن التغير موجود حقيقة، لأن انتقال اللون للماء ليس إلا بسبب انبثاث أجزاء الجسم المتلون في الماء، فيري معه، و ذلك موجود في المقام، لأن المفروض انبثاث أجزاء النجاسة في الماء و إن لم يمكن تمييزها بسبب تلونه قبلها، فالمقام من باب وجود المانع عن ظهور التغير للحس، لا من باب عدم فعليه التغير.

و فيه: أن ذلك إنما يتم بحسب النظر الدقي، لا العرفي، و إلا فالعرف يري أن

______________________________

[1] الشيخ حسين الحلي، و السيد أبي القاسم الخوئي دامت بركاتهما. منه عفي عنه.

ص: 100

______________________________

انبثاث الجسم المتلون في الماء سبب لاتصاف الماء باللون، و لا يرونه في المقام موجبا لذلك بنحو يصدق معه تغير الماء الذي هو المأخوذ في الأدلة.

الثاني: ما أشار إليه المحقق التستري في المقابس من أنه لو فرض في محل الكلام تخليص الماء من اللون الأول لظهر لون النجاسة، و لا بد معه من الحكم بنجاسته، مع ظهور أن الأثر المذكور الموجب للنجاسة إنما حدث قبل التصفية، فلا بد أن يؤثر النجاسة من حين حدوثه و إن منع المانع من ظهوره.

و فيه: أن حدوث الأثر المذكور و إن كان سابقا علي تخليص الماء من اللون الأول، إلا أنه لا يصحح عرفا نسبة التغيير للنجاسة إلا بعد التخليص من اللون الأول، فيترتب حكمه- و هو التنجيس- حينئذ.

نعم، ما مثّل به قدّس سرّه من فرض اللون الأول بطين أحمر قد يكون خارجا عما نحن فيه، لأن اختلاط الماء بالطين- كاختلاطه بالرمل- لا يصحح عرفا نسبة لونه بالماء و إن أوهمه، بل هو بنظرهم محض خلط، نظير خلط مسحوق الفحم بالنورة، لا يوجب تلون النورة و إن أوهمه بسبب صعوبة التمييز بينهما، و حينئذ لا يمنع عرفا من نسبة التغيير للنجاسة و إن لم يظهر، نظير ما سبق في القسم الأول.

إلا أن يكون احمرار الطين بنحو يجعله صبغا لتأثيره في الماء و إن صفي بركوده كما لا يبعد ذلك في مثل الطين الأرمني، و إن كان تشخيص ذلك لا يخلو عن صعوبة، و الأمر سهل بعد رجوعه إلي تنقيح الصغري الذي لا يهم في محل الكلام.

و هناك بعض الوجوه الأخر تعرض لها في المقابس، و أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في نقلها و ردّها بما لا مجال لاستقصائه، و هي بين ما يبتني علي استبعادات محضة، أو قضايا غير مسلّمة، أو فهم الأدلة بوجه غير ظاهر. فراجع.

و الحاصل: أنه لا مجال في مثل ذلك للبناء علي التقدير بعد خروجه عن ظاهر الأدلة، بل لا ينبغي الريب فيه في الجملة بلحاظ ما هو المعلوم من اختلاف

ص: 101

______________________________

أنواع المياه في الطعوم و الألوان، بل الروائح، كمياه الآبار المالحة، و مياه الكبريت الصفراء و غيرها.

و من الظاهر دخل ذلك في تغير الماء بالنجاسة عرفا، فالاكتفاء في النصوص بالتغير الظاهر في الفعلي العرفي و عدم التنبيه علي التقدير مع الابتلاء بالمياه المذكورة موجب لقوة ظهور النصوص في عدم الاكتفاء بالتقدير.

و لعل هذا هو الذي دعا المحقق الخونساري قدّس سرّه علي ما حكي عنه إلي عدم اعتبار التقدير فيما لو كان وصف الماء أصليا، كما في المياه الكبريتية، و اعتباره فيما لو كان الوصف عارضا بصبغ و نحوه.

و إن كان هو أيضا في غير محله، بل يتعين عدم الاعتبار بالتقدير مطلقا في الفرض، عملا بظاهر الأدلة.

نعم، الظاهر عدم الأثر لذلك أو ندرته، لملازمته غالبا لكون الماء مضافا، لأن الكلام في النجاسة التي من شأنها أن تغير الماء لو لا اتصافه بمثل وصفها.

و من الظاهر أن تغير الماء بمحض الخلط بالنجاسة موقوف إما علي كثرتها أو علي شدة وصفها، و الأول ملازم غالبا لصيرورة الماء مضافا بالخلط.

و أما الثاني فحيث كان المفروض مساواة الماء للنجاسة في مرتبة الوصف فهو ملازم غالبا لكون الماء مضافا قبل الخلط. فتأمل.

بقي الكلام في الصورة الثانية من القسم الثاني، و هي التي تكون النجاسة فيها موجبة لتخفيف الوصف، و ربما تكون خارجة عن كلام الكل.

و لا يبعد البناء فيها علي الانفعال، لصدق التغير الكاشف عن استيلاء النجاسة علي الماء و غلبتها له، إذ لا فرق فيه بين نقل النجاسة للماء من وصفه الأصلي إلي وصف طارئ، و نقلها له من وصفه الطارئ إلي وصفه الأصلي، حتي لو قيل باعتبار التغير بخصوص وصف النجاسة- علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة الخامسة- لأن المراد من تغيره بوصفها مفارقته لصفته و أخذه لصفتها، و إن كان

ص: 102

مسألة 1 إذا كانت النجاسة لا وصف لها

مسألة 1: إذا كانت النجاسة لا وصف لها (1)، أو كان وصفها يوافق وصف الماء (2) لم ينجس الماء بوقوعها فيه (3)، و إن كان بمقدار بحيث لو كان علي خلاف وصف الماء لغيّره.

مسألة 2 إذا تغيّر الماء بغير اللون و الطعم و الريح

مسألة 2: إذا تغيّر الماء بغير اللون و الطعم و الريح، بل بالثقل أو الثخانة أو نحوهما لم ينجس أيضا (4).

______________________________

بنحو أخف، ففي ظرف حمرة النجاسة و صفاء الماء يكون تغيره بصفتها بتلونه بالحمرة ببعض مراتبها، و في ظرف شدة حمرته و خفة حمرتها يكون تغيره بصفتها بتغيره من الحمرة الشديدة إلي الحمرة الخفيفة، و مثلها في ذلك النجاسة الفاقدة للصفة.

نعم، لا بد من كون التغير بالنحو المعتد به عرفا مع ظهوره للحس أو التباسه عليه، و لا يكفي مجرد التغير الدقي، علي ما تقدم في نظيره. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

(1) تقدم أن هذه الصورة هي مورد كلام العلامة و من تبعه، و أن عدم الاعتبار بالتقدير فيها في محله.

(2) بأن يكون الماء حاملا لوصف مشترك بينه و بين النجاسة، و تقدم أن هذه الصورة هي مورد كلام جماعة من المتأخرين. و أن اللازم البناء فيها علي الانفعال مع حصول التغير بشدة الوصف في الماء أو خفته، و إن التبس علي الحس. إلا أن يكون عدم الظهور للحس لعدم التغير أصلا، أو لكونه دقيا غير عرفي.

(3) يعني: و مضي المدة التي يتوقف عليها التغير مع اختلاف الوصف.

(4) كما هو المصرح به في القواعد و غيرها، و هو الظاهر من كل من اقتصر علي ذكر الصفات الثلاث، و في كشف اللثام: «و أما عدم اعتبار سائر الأوصاف فكأنه لا خلاف فيه» و في المقابس: «و هو موضع وفاق، كما يظهر منهم، و قد حكي الإجماع عليه صريحا في الدلائل و شرح المفاتيح، و ظاهرا في الناصريات و الغنية و التنقيح و الذخيرة و غيرها».

ص: 103

______________________________

و قد يستدل عليه بما تضمن حصر سبب الانفعال بالتغير في الريح و الطعم، كصحيحي ابن بزيع «1» المتقدم أحدهما و غيرهما، و الخروج عن الحصر المذكور باللون لأدلته المتقدمة لا يقتضي الخروج عنه في غيره، فيرفع اليد بذلك عن إطلاق التغير في صحيح ابن بزيع الثالث المتقدم، و خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «أنه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب. فقال: إن تغير الماء فلا تتوضأ منه، و إن لم تغير أبوالها فتوضأ منه. و كذلك الدم و أشباهه» «2».

لكن كما يمكن ذلك يمكن الجمع بإلغاء الحصر في نصوص التغير بالصفات، بقرينة اختلافها في تعدادها بنحو يناسب إلغاء خصوصية كل منها و حملها علي الحصر بلحاظ أصل التغير، فلا تنافي الإطلاق المذكور.

نعم، لو كان النبوي حجة كان ظهوره في الحصر بالصفات المذكورة محكما علي الإطلاق بلا إشكال. إلا أنه عرفت الإشكال في حجيته.

كما لا مجال لدعوي انجباره في المقام بعمل الأصحاب، لعدم ظهور اعتمادهم عليه، بل علي النصوص الأخري. بل مفروغيتهم عن عدم اعتصام غير الكر قرينة إعراضهم عنه.

هذا، و لكن إثبات الإطلاق لا يخلو عن إشكال، لقرب احتمال كون صحيح ابن بزيع مختصرا من صحيحيه الآخرين المشتملين علي التقييد بالريح و الطعم، لاشتراكهما معه في المتن، و في الإمام الذي روي عنه، و في من يروي عن ابن بزيع، و هو أحمد بن محمد، و لا سيما مع صراحة أحد الصحيحين في عدم سؤال ابن بزيع للإمام عليه السّلام و أنه كتب إلي من يسأله، لبعد تعدد السؤال مع ذلك جدا. بل من القريب كون حذف التتمة في الصحيح المذكور لنقله بالمعني، لأجل انصراف التغير إلي الأوصاف المعهودة، و كما فهمه الأصحاب، و لا يبقي مع ذلك وثوق بالإطلاق.

و أما خبر أبي بصير فهو- مع عدم خلو سنده عن الإشكال، و اشتماله علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

ص: 104

مسألة 3 إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالمجاورة للنجاسة

مسألة 3: إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالمجاورة للنجاسة لم ينجس أيضا (1).

______________________________

بول الدواب الذي لا يوجب التنجيس- لا ظهور له في الإطلاق، لوضوح أنه و إن لم يتضمن التخصيص بصفة، إلا أنه مختص بالتغير بالدم الذي يكون التغير الظاهر فيه هو التغير بالصفات الثلاث أو بعضها.

بل لا يبعد انصراف إطلاق التغير عرفا إلي الصفات المذكورة، لأنها الصفات الظاهرة عندهم، كما قد يشهد به ظهور تسالم الأصحاب علي ذلك. مع أن تعين الجمع الذي ذكرناه بين الإطلاق و نصوص الصفات لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح أقربيته من الوجه الأول بنحو يمكن الاعتماد عليه في الاستدلال، خصوصا مع قرب كون نصوص الصفات مفسرة له، لا مقيدة، لقرب انصرافه بدوا إليها. فإنه لا أقل مع جميع ذلك من الاجمال الموجب للرجوع إلي عموم الاعتصام.

ثمَّ إن الكلام إنما هو في التغير بالصفة التي لها نحو ثبوت، كالتي ذكرت في المتن، و أما الحرارة و البرودة، فلا ينبغي الإشكال في انصراف إطلاق التغير عنها، لاختصاصه عرفا بما يكون له نحو استحكام، و لذا ينصرف تغيير النار أو الشمس أو الهواء عن ذلك.

(1) كما في المبسوط و المعتبر و كشف اللثام، و عن المنتهي و التذكرة و نهاية الأحكام و الروض و المدارك، و هو منصرف إطلاق غيرهم، بل في الجواهر: «لعله لا خلاف فيه، بل مجمع عليه». و في مفتاح الكرامة: «و الأستاذ نقل الإجماع عليه في شرحه، و أن الأصحاب فهموا مباشرة النجاسة لا مجاورتها، و في الذخيرة أنه لا خلاف فيه».

و يكفي فيه قصور أدلة التغير عن شموله المقتضي للرجوع إلي عموم الاعتصام، لأنها بين ما هو مختص بملاقاة النجاسة- كما ورد في الغدير الذي فيه

ص: 105

______________________________

الجيفة و الحياض التي يبال فيها و الماء الذي يقع فيه الدم و غيرها- و ما هو مجمل من هذه الجهة، لوروده في مقام بيان شرطية التغير في الانفعال بعد الفراغ عن تمامية المقتضي له، كالنبوي «1» لوضوح أن المراد به «لا ينجسه شي ء مما يوجب التنجيس لغيره» و لا يعم ما ليس من شأنه التنجيس، كالمجاور و الطاهر، لظهور أن ذلك هو المناسب لاعتصام الماء المفروض فيه. و مثله في ذلك صحيح ابن بزيع «2» المختصر الذي تقدمت الإشارة إليه في المسألة السابقة.

و أظهر منهما في ذلك صحيحاه الآخران «3» المتضمنان تعليل اعتصام البئر بأن له مادة، لظهورهما في الاختصاص بما يوجب الانفعال لو لا المادة.

و هذا هو الظاهر أيضا في صحيح حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «4»، فان بيان عدم الانفعال مع غلبة الماء إنما هو لبيان مانعية غلبة الماء من انفعاله في فرض وجود مقتضية، لما هو المعلوم من أن التغير ليس هو المقتضي للانفعال، بل هو شرط في تأثير مقتضية، و هو الملاقي دون المجاور.

نعم، في خبر محمد بن القاسم عن أبي الحسن عليه السّلام: «في البئر يكون بينها و بين الكنيف خمس أذرع أو أقل أو أكثر يتوضأ منها؟ قال: ليس يكره من قرب و لا بعد، يتوضأ منها و يغتسل ما لم يتغير» «5».

لكنه- مع ضعف سنده، و عدم ظهوره في التغيير بمحض المجاورة، بل بسريان النجاسة في الأرض و لو بنحو الرطوبة غير المسرية- مختص بالبئر المختصة بأحكام كثيرة.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 106

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 106

مسألة 4 إذا تغير الماء بوقوع المتنجس لم ينجس

مسألة 4: إذا تغير الماء بوقوع المتنجس لم ينجس (1)،

______________________________

(1) كما في القواعد و جامع المقاصد و كشف اللثام، و عن الروض و المدارك و الذخيرة، و نسبه في كشف اللثام للأكثر، و في مفتاح الكرامة عن شرح أستاذه دعوي الإجماع عليه ممن عدا الشيخ، و في الجواهر في رد احتمال العموم قال: «و يمكن استنباط الإجماع عند التأمل علي خلافه».

خلافا للسيد في محكي الجمل، و الشيخ في المبسوط، فعن الأول: «كل ماء علي أصل الطهارة إلا أن تخالطه- و هو قليل- نجاسة، أو يتغير- و هو كثير- أحد أوصافه من لون أو طعم أو رائحة»، فإن عدم تفريقه بين ما ينجس القليل بالملاقاة و الكثير بالتغير ظاهر في عموم الثاني للمتنجس، لعموم الأول له عندهم.

و في الثاني عند الكلام في المضاف النجس: «و لا طريق إلي تطهيرها بحال إلا أن يختلط بما زاد علي الكر من المياه الطاهرة المطلقة، ثمَّ ينظر فيه فإن سلبه إطلاق اسم الماء لم يجز أيضا استعماله بحال، و إن لم يسلبه إطلاق اسم الماء و غيّر أحد أوصافه إما لونه أو طعمه أو رائحته فلا يجوز أيضا استعماله بحال، و إن لم يتغير أحد أوصافه و لم يسلبه إطلاق اسم الماء جاز استعماله في جميع ما يجوز استعمال المياه المطلقة فيه»، فإنه و إن كان في مقام بيان عدم تطهير المضاف مع تغييره للكر، إلا أنه لو لا تنجيسه للكر لم يكن وجه لحرمة الاستعمال مع فرض عدم خروج الكر عن الإطلاق. و من ثمَّ لا يبعد ظهور ميل المحقق قدّس سرّه في المعتبر إلي ذلك أيضا، لأنه نقل عن الشيخ قدّس سرّه ذلك مستشهدا به، و لم ينبه علي خلاف له في ذلك، كما أنه حكي عن التحرير التصريح بذلك أيضا.

بل لا يبعد كون ظاهر من لم ينبه علي الفرق بين النجس و المتنجس عدم الفرق بينهما، نظير ما تقدم في انفعال القليل بالمتنجس، و لا سيما مع عدم تنبيههم لخلاف السيد و الشيخ قدّس سرّهما و من تبعهما.

و من ثمَّ لا مجال لدعوي الشهرة علي التفصيل، فضلا عن الإجماع.

ص: 107

______________________________

و كيف كان، فعمدة ما يستدل به علي الانفعال مع التغير بالمتنجس أدلة التغير العامة، و إلا فالأدلة الخاصة كلها واردة في أعيان النجاسات، كالميتة و الدم و البول، فاللازم النظر في العمومات المذكورة، و هي النبوي «1»، و صحاح ابن بزيع «2» الواردة في البئر.

أما النبوي فهو- كما تقدم في المسألة السابقة- وارد لبيان شرطية التغير في الانفعال في ظرف تحقق المقتضي له، و حيث كان المتنجس من شأنه التنجيس لغير الماء كان مقتضي إطلاقه كونه موجبا لانفعال الماء مع تغيره به.

و قد استشكل فيه.

تارة: بانصراف لفظ «شي ء» إلي خصوص أعيان النجاسات، نظير ما تقدم من المحقق الخراساني في التفصيل في انفعال القليل بين النجس و المتنجس.

و اخري: بانصراف التغير إلي خصوص وصف النجس. قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «إذ هو الذي يساعده الارتكاز العرفي من اختصاص النفرة بذلك لا غير عندهم، للفرق بين ظهور أثر النجس بالذات في الماء و بين ظهور أثر الطاهر بالذات فيه و إن كان نجسا بالعرض، فإن الأول يناسب البناء علي نجاسة الماء دون الثاني، لأن النفرة الذاتية في الأول تستوجب النفرة عن الأثر، بخلاف الثاني، لعدم النفرة الذاتية فيه، و النفرة العرضية زائلة بزوال موضوعها، لفرض الاستهلاك».

و يشكل الأول: بأنه لا وجه للانصراف المذكور بعد ما ذكرنا من ظهور النبوي في بيان شرطية التغير في فرض تحقق المقتضي، و المفروض تحققه في المتنجس.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في وجه الاختصاص من أن المتنجس إنما ينجس ما يلاقيه بواسطة نجس العين. فإن رجع إلي دعوي: أن مقتضي التنجيس قائم بالنجس لا بالمتنجس، فلا يدخل المتنجس في الإطلاق.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 6، 7.

ص: 108

______________________________

ففيه: أن النجس سبب في صيرورة المتنجس مقتضيا للتنجيس، فالمتنجس يكون بسبب النجس مقتضيا مثله، و لا وجه لحمل الإطلاق علي خصوص ما يكون اقتضاؤه لذاته.

و إن رجع إلي دعوي: أن ترتب اقتضاء المتنجس علي اقتضاء النجس مانع من إرادتهما معا من الإطلاق، لاختلاف الرتبة، بل يختص بالنجس، لأنه أسبق رتبة.

فيدفعه: أن ترتبهما في الاقتضاء خارجا لا يمنع من عموم الإطلاق لهما بلحاظ صدق مفهومه عليهما معا.

و إن رجع إلي دعوي: أن النجس بسبب ذلك يكون أقرب إلي الذهن، فيختص به الإطلاق.

ففيه: أن ذلك لا يكفي في انصراف الإطلاق إليه، فضلا عن اختصاصه به.

و أما الثاني فهو موقوف علي استفادة أن منشأ الانفعال بالتغير هو الاستقذار و النفرة للأثر الحاصل، ليختص بأثر النجاسة دون أثر المتنجس، و لا طريق لإحراز ذلك من النبوي و نحوه.

بل لعل منشأه مقهورية الماء و مغلوبيته مع ظهور الأثر فيه و إن لم يكن مستقذرا بنحو لا يكون مقتضي الاعتصام- من الكثرة و المادة- صالحا لعصمته و دفع النجاسة عنه.

نعم، قد يستفاد ذلك من بعض النصوص الأخري، كما سيأتي.

فالإنصاف أنه لا مجال للخروج بمثل هذه الوجوه عن الإطلاق.

نعم، تقدم غير مرة أن النبوي قاصر عن مقام الاستدلال، لضعف سنده، و منافاته لأدلة اعتبار الكرية و المادة في الاعتصام، بنحو يصعب الجمع بينها و بينه جدا.

فاللازم النظر في صحاح ابن بزيع، و قد تقدم في المسألة الثانية الإشكال في الاستدلال بصحيحه المختصر، لقرب اختصاره من الصحيحين الآخرين، فلم يبق إلا الصحيحان المذكوران، و استفادة الإطلاق منهما في غاية الإشكال بعد

ص: 109

______________________________

قوله عليه السّلام: «فينزح حتي يذهب الريح و يطيب طعمه» كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و توضيحه: أن طيب الطعم إنما هو في مقابل خبثه، فيدل علي أن خباثة الحاصل مع التغيير أمر مفروغ منه في المقام، و لا يراد بالخباثة العرفية الراجعة إلي نفرة الطعم، لعدم اختصاصه بما يوجب الانفعال، و عدم اطراده فيه، بل ما ينتزع من الخباثة الشرعية.

و من الظاهر أن انتزاع الخباثة للطعم لا تصح عرفا إلا بلحاظ خباثة منشئه، فيختص بطعم نجس العين، أما المتنجس فهو و إن كان خبيثا، إلا أن الخبث فيه لما كان عارضا فهو لا يصحح عرفا نسبة الخبث لما هو من شؤون ذاته و هو الطعم.

بل لعل الصحيح المذكور قرينة علي كون معيار الحكم بالانفعال مع التغير هو نفرة الأثر الذي يحمله الماء، لا غلبة النجاسة بلحاظ أصل تأثيرها في الماء، فالمراد بغلبة النجاسة مع التغير تأثيرها في الماء أثرها المناسب لخبثها المنافي لطهارته و المانع من اعتصامه، كما قد يرجع إليه ما تقدم من سيدنا المصنف قدّس سرّه فلو تمَّ هذا كان صارفا لإطلاق النبوي و صحيح ابن بزيع المختصر- لو غض النظر عما تقدم فيهما- كما أنه لا مجال للعموم أيضا لو أريد بطيب الطعم ما يقابل نفرة الذوق منه، و غض النظر عما تقدم، لوضوح أن مصحح ذكره ليس الا غلبة تحققه مع التغير، أو لفرض نجاسة خاصة موجبة لذلك، كالميتة، و الأول مختص بنجس العين، إذ لا يغلب في المتنجس نفرة الطعم، و الثاني موجب لإجمال الصحيحين، المسقط لاطلاقهما عن الحجية.

نعم، لو أريد من طيب الطعم محض زوال أثر الملاقي، لا ما يقابل الخبث لم يكن قرينة علي تقييد الصحيحين و لا غيرهما.

لكنه خلاف الظاهر، و لا أقل من إجماله المانع من إطلاق الصحيحين اللذين عرفت أنهما العمدة في المقام، فيرجع إلي عموم دليل الاعتصام.

ص: 110

إلا أن يتغير بوصف النجاسة التي تكون للمتنجس، كالماء المتغير بالدم يقع في الكر فيغير لونه و يكون أصفر، فإنه ينجس (1).

______________________________

هذا، و أما الاستدلال- كما في المقابس- علي الاختصاص بأثر نفس العين بما تضمن حصر التغير بما كان بالجيفة، بدعوي: أن المتيقن في الخروج عنه هو التعدي إلي مطلق نجس العين دون المتنجس.

فيدفعه أن الحصر المذكور- لو فرض ثبوته- فحمله علي الحصر الإضافي بلحاظ خصوص فرض وجود الميتة- فلا ينافي الانفعال بالتغير بغيرها في فرض وجوده، لخروجه عن موضوع الحصر- أقرب عرفا من إبقاء الحصر علي حقيقته، ثمَّ الخروج عنه بالنحو المذكور.

مع أنه لا دليل علي الحصر المذكور، لأن النصوص الخاصة بالميتة بين ما هو صريح في أن حصر الانفعال بالتغير بها في فرض وجودها في الماء، لا مطلقا، فلا يدل علي عدم الانفعال في فرض التغير بغيرها، بل هو خارج عن موضوع الحصر، و ما هو ظاهر في ذلك، كصحيح حريز المتقدم في المسألة السابقة، فإن فرض غلبة الماء علي ريح الجيفة في صدره ظاهر في فرض وجود الميتة، فلا إطلاق فيه لصورة وجود غيرها.

نعم، قد يستدل عليه بصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

«سمعته يقول: لا يغسل الثوب و لا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا أن ينتن، فإن أنتن غسل الثوب و أعاد الصلاة و نزحت البئر» «1».

لكن النتن لا يختص بالميتة، بل يكون من غيرها من النجس و المتنجس، بل الطاهر كاللحم المذكي.

(1) كما صرح به شيخنا الأعظم و المحقق التستري قدّس سرّهما و غيرهما، و هو الظاهر مما حكي عن السيد الطباطبائي قدّس سرّه من النجاسة إذا كان التغير بواسطة

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

ص: 111

______________________________

المتنجس، بخلاف ما إذا كان بصفاته.

و يقتضيه ما تقدم من عموم الشي ء في الروايات العامة للمتنجس، و اختصاص التغير فيها بوصف النجاسة، فإن الجمع بين الأمرين يقتضي التفصيل بالوجه المذكور، خلافا لما في الجواهر من عدم التنجيس مع اضمحلال النجاسة و استهلاكها. و قد يستظهر من كل من أطلق عدم الانفعال مع التغير بالمتنجس.

و استدل عليه في الجواهر بأن انتقال صفات النجاسة من دون ملاقاة لها كانتقالها بالمجاورة لا يوجب التنجيس.

و فيه: أن ملاقاة المتنجس مقتضية للتنجيس بمقتضي الإطلاق المتقدم و ليست كالمجاورة، و الشرط- و هو التغير بصفات النجاسة- حاصل بالفرض.

نعم، قد يتجه ورود ذلك علي شيخنا الأعظم و المحقق التستري و غيرهما ممن صرح باختصاص الإطلاق بعين النجاسة.

ثمَّ إن المدار في ذلك علي كون الوصف مما من شأن النجاسة إن تحدثه، بحيث يصح نسبة الأثر لها و إن كان نقله بواسطة المتنجس، فلو لم يصح نسبة الأثر للنجاسة، بل للمتنجس، و لو لكونه مشاركا للنجاسة في الوصف، لا مجال للبناء علي الانفعال، لقصور الوجه المتقدم عنه.

كما أنه لو كان الوصف مما من شأن النجاسة إن تحدثه في الماء و إن لم يكن وصفا لها قبل ملاقاته تعين البناء علي الانفعال، لما يأتي إن شاء اللّٰه تعالي في المسألة الخامسة. فلاحظ.

هذا، و قد يستدل علي الانفعال في المقام بوجهين.

الأول: أنه لا يعتبر في التغيير بالنجاسة ملاقاتها لكل جزء من أجزاء الماء، بل يكفي ملاقاتها لبعض أجزائه و سريان أثرها منه إلي غيره، كما لو غيّرت الميتة جانب الماء و سري التغيّر إلي الباقي- من دون ملاقاته للميتة، فالمنفصل عن النجاسة لم يتغير بملاقاتها، بل بملاقاة المتنجس المتغير بها و الناقل لأثرها، فلا بد أن يراد من التغير بالنجاسة ما يعم مثل ذلك، لأن التغير حقيقة بها و إن كان بتوسط

ص: 112

______________________________

ملاقاة المتنجس، كما ذكره المحقق التستري قدّس سرّه.

و فيه: أنه مع ملاقاة النجاسة لبعض الماء الواحد و تغييرها لجميعه تدريجا يصدق عرفا تغيير الجميع بملاقاة النجاسة التي هي موضوع الانفعال بالفرض. أما اتصال التغير بعد انفصال النجاسة عنه أو استهلاكها فيه بماء آخر فلا يوجب صدق تغير الماء الآخر بملاقاة النجاسة بل بملاقاة المتنجس المفروض عدم كونها موجبة للانفعال.

و دعوي: أن التغير في الحقيقة بالنجاسة، إن أريد بها أنه بملاقاتها، فهو ممنوع، لفرض استهلاكها في المتنجس أو انفصالها عنه، فلا يصدق عرفا ملاقاتها له.

و إن أريد بها أنه بسببها في الجملة، فهو لا ينفع، إذ لا يكفي سببية النجاسة للتغير مع عدم الملاقاة، كما في المجاورة.

نعم، قد يكون استبعاد الفرق بين الأمرين مؤيدا لما ذكرنا من عموم الانفعال للمتغير بالمتنجس مع اختصاص التغير بصفات النجاسة، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

الثاني: ما ذكره المحقق التستري من أن الماء المتغير بالنجاسة إذا اتصل بغيره فغيّره فلا مجال للبناء علي طهارة الجميع، للإجماع و النصوص علي أن المتغير لا يطهر مع بقاء تغيره، و لا علي التفصيل بين المتغير بالنجاسة و المتصل به، للإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد، فيتعين البناء علي نجاسة الجميع.

و قد أجاب عن ذلك بعض مشايخنا بأنه مع فرض عدم استهلاك أحد المائين بالآخر يتعين البناء علي طهارتهما لتعارض ما دل علي انفعال المتغير بالنجاسة مع ما دل علي اعتصام الكر بعد فرض اتحاد المائين في الحكم، فيتساقطان و يرجع إلي أصالة الطهارة فيهما معا.

و هو راجع إلي التشكيك فيما ذكره المستدل من الإجماع علي نجاسة المتغير مع بقاء تغيره، و إلا كان الإجماع المذكور دليلا قطعيا لا يعارض بعموم

ص: 113

______________________________

اعتصام الكر، بل يخصصه، و من الصعب جدا التشكيك في ذلك، إذ كيف يمكن الالتزام بأن المتغير بالنجاسة مع عدم تغييره للمتصل به يبقي علي النجاسة، فإذا غيّره طهر معه، بل ما تضمنه صحيحا ابن بزيع من لزوم النزح حتي يذهب الريح و يطيب الطعم كالصريح في أن المتغير بالنجاسة لا يطهر بمجرد اختلاطه مع ما يرشح من البئر بعد النزح حتي يذهب التغير، فان ذلك ملزم في المقام بتقديم دليل نجاسة المتغير. علي دليل اعتصام الكر، و لا وجه معه للتوقف و الرجوع لأصالة الطهارة. هذا مع أن تشخيص مفاد الأصل في المقام يبتني علي مباني لا مجال لاطالة الكلام فيها. فلاحظ.

فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور: أن الإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد مختص بغير صورة تغير بعضه تغيرا منجسا، إذ مع ذلك لا ريب في اختصاص الانفعال بالمتغير و طهارة غيره إذا كان كثيرا، فإذا فرض اختصاص التغير المنجس بالتغير بالنجاسة لزم التفصيل في الماء الواحد المتغير بعضه بالنجاسة و بعضه بالمتنجس بالتزام نجاسة الأول دون الثاني، نظير ما لو اتصل الماءان المتغير أحدهما بملاقاة النجاسة و الآخر بمجاورتها، فإنه يتعين البناء علي نجاسة الأول و طهارة الثاني إذا كان كرا. و ليس في ذلك مخالفة للإجماع، و تخيل مخالفته له ناشئ من استيضاح عموم التغير المنجس، لمحل الكلام.

نعم، تغيير المتغير بالنجاسة لغيره.

تارة: يكون بمحض اتصاله به من دون امتزاج.

و اخري: يكون بامتزاجه به.

و في الأول لا محذور في التفكيك بين المائين، لما ذكرنا.

أما في الثاني فحيث كان الامتزاج مانعا غالبا من اعتصام المتغير بالمتنجس و إن كان كثيرا لتفرق أجزائه و انفصال بعضها عن بعض بالمتغير بالنجاسة لزم انفعاله بالملاقاة للمتغير بالنجاسة لا بتغيره به.

إلا أن يفرض استهلاك المتغير بالنجاسة في الماء الآخر، لكثرته، و إن تغير به،

ص: 114

مسألة 5 يكفي في حصول النجاسة التغير بوصف النجس في الجملة

مسألة 5: يكفي في حصول النجاسة التغير بوصف النجس في الجملة و لو لم يكن متحدا معه (1)، فإذا أصفر الماء بملاقاة الدم تنجس.

______________________________

بنحو لا يمنع عرفا من اتصاله و اعتصامه.

أو يفرض امتزاج المتغير بالنجاسة ببعض الماء الآخر مع بقاء الباقي علي اتصاله و اعتصامه و إن تغير. و كلام المحقق التستري و إن كان مختصا بالامتزاج، إلا أن كلام غيره يعم صورة عدمه.

و قد تحصل من جميع ذلك: أنه بناء علي ما ذكرنا من عموم المقتضي للتنجيس للمتنجس و اختصاص التغير بوصف النجاسة يكون المعيار في الانفعال هو تغير الماء بواسطة المتنجس و لو مع عدم الامتزاج، و بناء علي اختصاص المقتضي بعين النجاسة فالوجه المذكور إنما يقتضي الانفعال في صورة الامتزاج المانع من اعتصام الماء لتفرق أجزائه في المتنجس بملاك الملاقاة لا بملاك التغير، و لذا ينجس أيضا حتي لو فرض عدم تغيير المتنجس للماء، كما في امتزاج الدهن بالماء في حال غليانه معه.

و منه يظهر عدم إمكان التعدي بعدم الفصل عن غير الماء من المتنجسات الموجبة لتغيير الماء بوصف النجاسة، لأن عدم الفصل إنما يتم لو كان ملاك التنجيس التغير، أما حيث كان هو الملاقاة المانعة من الاعتصام فعدم الفصل فيما لا يوجب ذلك غير ثابت فتأمل جيدا.

(1) فإن اعتبار اتحاد الوصف حتي في المرتبة مما لا مجال له جدا، لغلبة خفة الوصف في الماء عما هو عليه في النجاسة عينها، خصوصا فيما يوجب التغير بامتزاجه و انبثاثه في الماء، كالدم، فلا مجال لحمل أدلة التغير عليه. و من ثمَّ لا مجال لحمل كلام الجواهر عليه و إن كان قد يوهمه.

هذا، و ظاهر المتن لزوم كون الوصف الحادث من سنخ وصف النجاسة،

ص: 115

______________________________

و في الجواهر: لعله الأقوي، اقتصارا علي المتيقن في الخروج عن استصحاب الطهارة.

و فيه: أنه لا مجال للاقتصار علي المتيقن مع إطلاق التغير في غير واحد من النصوص كصحاح ابن بزيع «1» المشار إليها في المسألة السابقة، و صحيح معاوية بن عمار «2» المتقدم فيها أيضا، و صحيح حريز «3» المتقدم في المسألة الثالثة، و خبر أبي بصير «4» المتقدم في المسألة الثانية، و خبر أبي خالد القماط: «انه سمع أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول في الماء يمر به الرجل و هو نقيع فيه الميتة و الجيفة. فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: إن كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب و لا تتوضأ منه، و إن لم يتغير ريحه و طعمه فاشرب و توضأ» «5» و ما في صحيح شهاب بن عبد ربه عنه عليه السّلام:

«و جئت تسأل عن الماء الراكد من الكر [البئر خ. ل] مما لم يكن فيه تغير أو ريح غالبة. قلت: فما التغير؟ قال: الصفرة. فتوضأ منه، و كلما غلب كثرة الماء فهو طاهر» «6»، فإن النصوص المذكورة ظاهرة في كفاية التغير بالنجاسة في قهرها للماء و تنجيسها له.

و حملها علي خصوص ما كان بوصف النجاسة الثابت لها بلا قرينة، خصوصا مع كثرة كون التغير ليس بمحض امتزاج النجاسة بالماء و انبثاثها فيه المستلزم غالبا لحمله لصفتها، بل بتفاعلها معه الذي قد يسبب حدوث وصف في الماء غير موجود في النجاسة، و حمل الإطلاقات المتقدمة علي ما عدا ذلك صعب جدا.

و لا سيما مع كون لازمه البناء علي الطهارة لو شك في وجود الوصف في

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 6، 7.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 116

______________________________

النجاسة، كما هو الغالب في تغيير الميتة للطعم مع عدم امتزاجها بالماء الذي هو مورد بعض النصوص.

هذا، مع أن الإطلاق المذكور لما كان مناسبا جدا للمتركزات العرفية في مقهورية الماء بمجرد تغيير النجاسة له، كما قد يشير إليه ذيل صحيح شهاب المتقدم، فمن الصعب جدا حمله علي خصوص التغير بوصف النجاسة.

نعم، قد استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه علي الاختصاص.

تارة: باختصاص الاستقذار العرفي بذلك.

و اخري: بظهور جملة من النصوص فيه، ففي صدر صحيح شهاب المتقدم الوارد في الجيفة تكون في الغدير: «قال: توضأ من الجانب الآخر، إلا أن يغلب الماء الريح فينتن» «1» و موثق سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يمر بالماء و فيه دابة ميتة قد أنتنت. قال: إذا كان النتن الغالب علي الماء فلا تتوضأ و لا تشرب» «2» و في خبر العلاء عنه عليه السّلام في الحياض التي يبال فيها: «قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول» «3» و في صحيح ابن بزيع: «حتي يذهب الريح و يطيب الطعم» «4».

و يشكل الأول: - بعد تسليم عدم الاستقذار العرفي في المقام- بما تقدم من عدم الدليل علي كون ملاك الحكم هو نفرة الأثر إلا صحيح ابن بزيع المشار إليه في آخر كلامه، و هو لا يقتضي إلا قادحية خبث الطعم الذي لا يبعد أن يكفي فيه استناده لما هو خبيث بالذات، بحيث يكون من شؤونه و آثاره و إن لم يكن موجودا فيه قبل ذلك.

و يشكل الثاني: بعدم صلوح شي ء من النصوص المذكورة لإثبات ذلك، فإن

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 117

______________________________

ذكر الجيفة في صحيح شهاب منبه للريح و ظاهر في فرض وجوده، فاعتبار غلبته في التنجيس غير ظاهر في الحصر الحقيقي، بل الإضافي، لبيان الطهارة من حيثيته، فلا ينافي الانفعال مع التغير من غير جهته، كالريح الذي لم يكن موجودا في النجاسة و غير الريح من بقية الصفات وجدت أم لم توجد فيها، و لذا لم يذكر الطعم و لا اللون مع فرضه في الذيل.

و لا أقل من كون الجمع بذلك بينه و بين نصوص التغير بغير الريح أقرب عرفا من حمله علي الحصر الحقيقي ثمَّ تخصيصه بها، و لا سيما مع قوله عليه السّلام في ذيله: «و كلما غلب كثرة الماء فهو طاهر»، فإنه كالصريح في إعطاء الضابط العام لبيان اختصاص عدم الانفعال بما إذا كانت الكثرة بنحو تقتضي عدم تغير الماء بالنجاسة.

و منه يظهر الحال في موثق سماعة، لصراحته في فرض نتن الميتة. و كذا الحال في خبر الفضيل، إذ لا مجال لحمله علي الحصر الحقيقي مع ما هو المعلوم من الانفعال بغير اللون، و لا سيما مع قرب أن يكون تغير الماء برائحة البول و طعمه أسبق غالبا من تغيره بلونه، لتقارب لونيهما.

فالإنصاف أن النصوص المتقدمة لا تنهض بالخروج عن الإطلاق المتقدم المناسب للارتكاز جدا.

هذا، و يلحق بهذه المسألة أمران.

الأول: لو كان في الماء وصف أصلي أو عرضي- كالصفرة في ماء الكبريت، أو بسبب صبغ طارئ- و أوجبت النجاسة تخفيفه أو زواله فالظاهر- تبعا لغير واحد- الانفعال، لصدق التغير بالنجاسة، سواء كان التغير بسبب امتزاج النجاسة و انبثاثها في الماء أم بسبب تفاعلها معه.

بل تقدم في آخر الكلام في التغيير التقديري أن الصورة الأولي داخلة في التغيير بوصف النجاسة، فما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه بناء علي اعتبار التغيير بوصف النجاسة يتعين البناء علي عدم الانفعال لو كانت النجاسة مزيلة

ص: 118

______________________________

لوصف الماء مطلقا، لعله في غير محله. فتأمل.

الثاني: أنه و إن لم يعتبر في التغير أن يكون بوصف النجاسة إلا أنه لا بد أن يكون مستندا إليها عرفا، بحيث يكون من شأنها تأثيره و لو لخصوصية صنفها أو شخصها، فلو لم يستند إليها عرفا، بل إلي أمر آخر طارئ عليها و إن استهلك فيها فلا مجال للبناء علي الانفعال.

لانصراف الإطلاق عنه بعين الوجه المتقدم في انصراف الإطلاق عن وصف المتنجس، كما لو أضيف للبول مقدار من الزعفران أوجب طيب رائحته فطيب رائحة الماء الملاقي له، أو أضيف للدم مقدار من الصبر أوجب مرارته فصار الماء الملاقي له مرّا.

فكما يكون التغير بوصف النجاسة بواسطة المتنجس موجبا للانفعال، كذلك لا يكون التغير بوصف المتنجس بواسطة النجاسة موجبا له. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

بقي في المقام فروع متعلقة بالتغير و باعتصام الكر، أهمل سيدنا المصنف قدّس سرّه ذكرها، فينبغي التعرض لها تتميما للفائدة، مستمدا منه تعالي العون و التوفيق.

الأول: لو استند التغير للنجس و الطاهر معا، فقد أطلق في العروة الوثقي عدم الانفعال، و قطع في المقابس بالنجاسة إذا كان النجس صالحا للتغير. و يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه الاشكال حتي مع ذلك، لظهور الأدلة في استناد التغير إلي نفس النجاسة.

و الذي ينبغي أن يقال: الوصف الحادث في الماء.

تارة: يكون قابلا للتأكد بحيث يستند ببعض مراتبه للنجس و ببعضها للطاهر.

و اخري: يكون متركبا عرفا من وصفين كالحلاوة و الحموضة و إن أطلق عليه اسم واحد عرفا.

و ثالثة: لا يكون قابلا لكلا الأمرين، إما لكون أثر كل من الأمرين منفردا

ص: 119

______________________________

متحدا سنخا مع أثر الآخر من دون أن يقبل التأكد- لو فرض إمكان ذلك- أو لاختلاف سنخ أثر كل منهما منفردا، إلا أن اجتماعهما يوجب وجود وصف ثالث مباين لهما بسيط عرفا، كما قد يدعي في بعض الألوان.

و لا ينبغي الإشكال في عدم الانفعال في الجميع لو فرض كون النجس وحده لا يصلح للتأثير بنحو معتد به صالح للظهور للحس و إن كان له نحو من التأثير الدقي، كما تقدم في أول الكلام في التغير التقديري.

و أما لو كان أثره معتدا به عرفا بحيث يمكن تمييزه حسا لو كان وحده فالظاهر الانفعال في الصورة الأولي- كما صرح به سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره- و في الثانية- كما هو مقتضي إطلاق المحقق التستري- لإطلاق أدلة التغير إذ لا يستفاد منها إلا اعتبار استناد التغير لملاقاة النجس المفروض حصوله هنا.

و مجرد عدم تمييز الأثر بحده في الصورة الاولي و تركبه مع غيره في الثانية لا يخرجه عن الإطلاق المذكور.

و أما في الصورة الثالثة فالأمر لا يخلو عن إشكال، لعدم صحة التغيير الفعلي للنجس وحده، و مجرد دخله في التأثير غير كاف في الدخول في إطلاقات التغير بالنجس، لظهورها في استقلاله به. كما أن مجرد استقلاله بالتأثير لو فرض كونه وحده لا يكفي في ذلك، لظهور الأدلة في الاستقلال الفعلي لا التقديري، فالمقام نظير التغيير التقديري الذي تقدم عدم الاعتداد به.

اللهم الا أن يستفاد من قوله عليه السّلام في ذيل صحيح شهاب المتقدم: «و كلما غلب كثرة الماء فهو طاهر» أن المعيار في الطهارة في فرض وجود مقتضي التغيير كثرة الماء بنحو تمنع من التغيير بالنجس، و ليس الأمر كذلك في المقام، لفرض عدم مانعية كثرة الماء من التغير بالنجاسة، و أن عدم استقلال النجاسة بالتأثير لوجود العلة الأخري لا لكثرة الماء و مانعيته. فتأمل جيدا.

الثاني: لا إشكال ظاهرا في أن الانفعال مشروط بظهور التغير، و لا يكفي فيه ملاقاة ما يوجب التغير قبل ظهور أثره، كما صرح به في المقابس. لظهور الأدلة في

ص: 120

______________________________

إناطته بالتغير بنحو الشرط المقارن، لا المتأخر.

نعم، قد يتوهم دلالة النبوي «1» علي الانفعال بمجرد ملاقاة ما يوجب التغير.

بدعوي: ظهور قوله صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم: «إلا ما غير» في أن المنجس نفس الأمر المغير.

لكنه يندفع: بأنه ظاهر في أن المنجس هو المغير بما هو مغير، لا بذاته، و العنوان المذكور لا ينطبق عليه إلا بعد فعلية التغير بسببه.

كما لا ريب في عدم اعتبار بقاء النجاسة متميزة في الماء حين ظهور التغير، بل يكفي استهلاكها فيه بسبب انبثاثها، لإطلاق ما دل علي الانفعال بوقوع النجاسات في الماء و تغييرها له، كخبر أبي بصير «2» الوارد في الدم، و خبر العلاء «3» الوارد في البول و صحيح معاوية بن عمار «4» الوارد فيما يقع في البئر. خصوصا مع كثرة استهلاك مثل ذلك قبل استيعاب التغيير للماء.

علي أن وقوع ما ينبث في الماء لا ينفك عن تغييره لبعض الماء قبل استهلاكه، فينجس الماء المتغير به، كما ينجس بقية الماء بناء علي ما تقدم في المسألة الرابعة من الانفعال بالمتنجس الحامل لوصف النجاسة. و كيف كان فالانفعال في مثل ذلك ليس محلا للإشكال.

و إنما الإشكال فيما لا ينبث من النجاسات في الماء- كالميتة- لو فرض ملاقاته للماء و ظهور أثره فيه بعد انفصاله، فقد صرح غير واحد من المعاصرين بالانفعال فيه، لإطلاق الأخبار و عدم التفصيل فيها بين الملاقاة المؤثرة بالفعل و الملاقاة المؤثرة بعد مدة.

لكن تحصيل الإطلاق بالنحو الذي ينفع فيما نحن فيه لا يخلو عن إشكال، لأن النصوص علي أقسام ثلاثة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

ص: 121

______________________________

الأول: ما ورد فيما ينبث في الماء كالدم و البول. و هو أجنبي عما نحن فيه، لعدم قابليته عادة للانفصال عن الماء بعد وقوعه فيه، و غايته أنه يستهلك فيه، و قد عرفت أنه لا يمنع من الانفعال.

الثاني: ما ورد فيما لا ينبث فيه كالميتة، و هو مختص بما إذا كان التغير حين وجوده في الماء.

نعم، قد يتوهم الإطلاق من صحيح حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «1».

لكن تقدم في مسألة التغيير بالمجاورة عدم تمامية الإطلاق فيه من هذه الجهة، لوروده لبيان شرطية التغير في الانفعال بعد الفراغ عن وجود المقتضي له، و ليس واردا لبيان المقتضي ليتم إطلاقه من هذه الجهة و يكشف عن كفاية الملاقاة و لو قبل التغير في تحقق المقتضي.

الثالث: الأخبار العامة، و هي النبوي «2» و صحاح ابن بزيع و معاوية بن عمار «3» الواردة في البئر.

و ما عدا الأخير منها كصحيح حريز وارد لبيان شرطية التغير في الانفعال بعد الفراغ عن ثبوت مقتضية، فلا إطلاق لها يقتضي كفاية الملاقاة قبل التغير.

و أما الأخير- و هو صحيح معاوية- فقد يوهم الإطلاق المذكور، لقوله عليه السّلام:

«لا يغسل الثوب و لا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا أن ينتن.» فان مقتضي إطلاقه تنجيس ما يقع في البئر لها مع النتن سواء بقي إلي حين النتن، أم أخرج قبل حصوله.

لكن من القريب جدا انصرافه إلي خصوص صورة بقائه إلي حين النتن، لما

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 6، 7، 10.

ص: 122

______________________________

هو المرتكز من كون المقتضي للتنجيس ليس إلا ملاقاة النجس الملازمة لوقوعه و أن النتن من سنخ الشرط الذي لا يؤثر إلا في ظرف وجود المقتضي، و ليست الملاقاة من سنخ المعد، و المقتضي هو التغيير، ليكون التأثير مقارنا له و لو مع عدم الملاقاة حينه. فتأمل.

هذا، مضافا إلي أن الصحيح لم يتضمن اعتبار نتن الماء، بل نتن نفس ما يقع، و حيث لا إشكال في عدم كفاية نتن النجس في انفعال الماء فلا بد من كون ذكره كناية عن نتن الماء لفرض الملازمة بينهما غالبا في مثل البئر التي لا يتخللها الهواء، بل ينحبس النتن في جوها و يسرع انتقاله للماء، و من الظاهر أن نتن النجاسة إنما يلازم نتن الماء في ظرف بقائها فيه حينه، و ذلك مانع من إطلاقه بنحو يقتضي كفاية التغير المنفصل عن الملاقاة.

هذا، و أما الاستدلال بتنقيح المناط، بدعوي: أن التغير في الحقيقة لا يكون إلا بتأثير النجاسة و لو لوجود بعض أجزائها الدقيقة في الماء.

فيندفع: بأن ذلك لا يكفي في التنجيس، و الا لجري في التغيير بالمجاورة إذ التأثير فيها أيضا يستند إلي بعض الأجزاء الدقيقة المنبثة من النجس في الهواء و المنتقلة بواسطته في الماء.

و مثلها دعوي: أن التغير مع استمرار الملاقاة لا يستند إلي بقاء الملاقاة، بل إلي حدوثها السابق عليه، فلا أثر لبقائها.

لاندفاعها: بأن عدم دخل بقاء الملاقاة في التغير لا ينافي دخله في الانفعال.

و بالجملة: لا يتضح المخرج عن عموم أدلة الاعتصام في المقام.

الثالث: لا ريب في أن مقتضي إطلاق الأدلة كفاية التغير و لو بعد مدة طويلة من ملاقاة النجس للماء، كما صرح به في العروة الوثقي، و أمضاه كثير من شراحها و محشيها.

نعم، اعتبروا العلم باستناد التغير للنجس مستدلين عليه بالأصل علي اختلاف منهم في تقريبه بما لا مجال لاطالة الكلام فيه.

ص: 123

______________________________

و الظاهر أن الأولي الرجوع لاستصحاب عدم تغيير ما وقع للماء، أو عدم تغير الماء به، بمفاد ليس الناقصة، الراجع إلي عدم تغييره للماء أو عدم تغير الماء به، فان المستفاد من الأدلة اعتبار ملاقاة ما هو نجس للماء، و تغييره له أو تغيره به، و الأصل عدم تحقق الثاني، لكونه مسبوقا بالعدم في ظرف وجود الماء و وجود الملاقي، و هو لا ينافي العلم بوجود التغير في الجملة.

و لا مجال للرجوع لاستصحاب عدم استناد التغير للنجس، لا لكونه من استصحاب العدم الأزلي، بل لعدم أخذ الاستناد- بمعناه الاسمي أو الحرفي- وصفا للتغير المعتبر زائدا عليه.

هذا، و لكن الرجوع للأصل في الفرض علي إطلاقه في غاية الإشكال، لورود غير واحد من النصوص في اجتناب الماء بتغيره بالميتة الموجودة فيه، مع أنه كثيرا ما لا يتيسر العلم باستناد التغير للنجاسة الموجودة في الماء، لاحتمال تغيّره قبلها بغيرها مما لا يوجب الانفعال، أو بمجاورتها أولا ثمَّ وقعت فيه بعد حصول التغير، أو احتمال مشاركة غيرها في التغير، فعدم التنبيه في النصوص المذكورة- خصوصا ما ورد منها في الماء الذي يمر به الرجل، حيث يغلب الجهل بحالته السابقة- ظاهر في أن الأصل في التغير الحاصل حين وجود النجاسة في الماء أن يكون ناشئا من ملاقاة النجاسة فيوجب الانفعال، و الا لزم عدم ترتب العمل علي النصوص المذكورة غالبا، مع ظهورها في البيان الذي يترتب عليه العمل، لا محض بيان كبري الانفعال بالتغير مع عدم ترتب العمل إلا بعد انسداد باب الاحتمالات المذكورة و نحوها.

نعم، المتيقن من ذلك ما إذا لم تكن هناك جهات خاصة مثيرة لاحتمال عدم استناد التغير للنجاسة، كوجود أمر آخر يحتمل دخله أو استقلاله في التغير، أو طول المدة في حدوث التغير بالنحو الذي لا يتعارف، فالرجوع للأصل حينئذ في محله.

و مثله ما لو لم يعلم بأن الوصف الحادث مما من شأن النجس أن يحدثه،

ص: 124

______________________________

لخروجه عن المتيقن أيضا.

كما لا بأس بالرجوع للأصل في غير صورة وجود التغير حين وجود النجاسة من صور الشك، كما لو شك في أصل التغير بنحو الشبهة الموضوعية مع احتمال ارتفاعه أو بقائه و خفائه بسبب ظلمة و نحوها. أو علم بوجوده و احتمل استناده للطاهر أو للمجاورة للنجاسة من دون أن يعلم ملاقاة النجاسة للماء، كما لو كانت النجاسة قريبة من الماء، و احتمل انحساره عنها بعد تغيره بها.

و كذا لو شك في نجاسة الملاقي الموجب للتغيير، كما لو احتمل كون الدم مما لا نفس له. لعدم المخرج في مثل ذلك عن عموم أدلة الأصول.

الرابع: تقدم أنه لا بد من ملاقاة الماء المتغير للنجس، و لا يكفي مجاورته للنجاسة. و حينئذ يقع الكلام فيما لو استند التغير إلي مجموع الداخل في الماء و الخارج عنه.

و لا ينبغي الإشكال في الانفعال لو كان الأثر المستند للمقدار الملاقي مضرا به عرفا، و كان الخارج دخيلا في زيادة التغير، نظير ما تقدم في الفرع الأول.

كما لا ينبغي الإشكال في عدم الانفعال لو لم يكن كذلك، و كان النجس الملاقي مباينا للنجس الخارج، كميتتين استند التغير إلي مجاورة إحداهما و ملاقاة الأخري.

أما لو كان النجس أمرا واحدا كالميتة الخارج بعضها من الماء و استند التغير بالمقدار المعتد به لتمامها فقد استظهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه الانفعال، لصدق تغيره بما وقع فيه، و وافقه غير واحد منهم سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و ظاهر بعض الأعاظم قدّس سرّه و غيره الإشكال فيه. بل جزم غير واحد من مشايخنا و غيرهم بعدم الانفعال. بدعوي: عدم تحقق موضوعه، و هو ملاقاة النجس الذي يوجب التغير.

أقول: إن استفيد من الأدلة الاكتفاء في الانفعال بالنجس بملاقاته في الجملة و تغييره للماء تمَّ ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه، لفرض تحققهما في المقام.

ص: 125

______________________________

و إن استفيد منها لزوم كون التغير مسببا عن الملاقاة بحيث يكون مستندا لخصوص المقدار الملاقي من النجس اتجه البناء علي الطهارة، لفرض عدم تحقق ذلك في المقام.

و قد يدعي أن مقتضي الأدلة العامة- كالنبوي «1» و صحاح ابن بزيع «2» - الأول، لأن المراد بالشي ء فيها ما يقتضي التنجيس، و هو في المقام صادق علي الميتة، إذ لا إشكال في أنه يكفي في اقتضائها للتنجيس ملاقاتها و لو ببعض أجزائها، فمع فرض تحقق التغير بها مع ذلك فقد تمَّ المقتضي و الشرط و لزم البناء علي الانفعال.

بل قد يتعين لأجل ذلك البناء علي الانفعال لو فرض العلم باستناد الملاقاة لخصوص الخارج، كما احتمله سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و لا مجال لما ذكره بعض المشايخ المعاصرين قدّس سرّه [3] من أن ذلك يشبه القول بالانفعال مع التغير بالمجاورة.

للفرق بينهما بعدم تحقق المقتضي- و هو الملاقاة- في المجاورة و تحققه هنا.

نعم، لو كانت الملاقاة لا تقتضي الانفعال- كالملاقاة بما لا تحله الحياة من أجزاء الميتة- كان نظير المجاورة.

اللهم إلا أن يقال: المستفاد من الأدلة المذكورة لزوم استناد التغير لما هو المقتضي للتنجيس، لا للنجس كيف اتفق، كما هو صريح النبوي، و صحيح ابن بزيع المختصر، و ظاهر صحيحيه المفصّلين، و لو بضميمة المفروغية عن عدم كفاية التغير بالنجس الذي لا يلاقي الماء مع ملاقاة الماء لنجس لا يصلح لتغييره، و من الظاهر ان المقتضي للتنجيس في ظرف ملاقاة النجس ببعض أجزائه ليس هو

______________________________

[3] المرحوم الشيخ محمد تقي الآملي قدّس سرّه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 6، 7.

ص: 126

______________________________

النجس بتمامه، بل خصوص الجزء الملاقي منه، فلا بد من استناد التغير إليه استقلالا، و لا يكفي غيره من أجزاء النجس في التغيير، فضلا عن استقلالها به دونه.

نعم، مقتضي الإطلاق كفاية استناد التغيير لملاقاة الملاقي و لو بسبب اتصاله بالأجزاء الخارجة عن الماء، في مقابل ما إذا استند التغيير للاجزاء الخارجة بالمجاورة من دون دخل لاتصالها بالجزء الملاقي، و لا يعتبر استناده لخصوص الملاقي بحيث لو فرض انفصاله عن بقية الأجزاء لأوجب التغير، عملا بالإطلاق.

بل من المقطوع عدم اعتبار ذلك، لما هو المعلوم من أن الملاقاة إنما تكون للجزء الظاهر، و من الغالب عدم اقتضائه للتغيير لو لا اتصاله بالاجزاء الباطنة التي يكون النتن بسبب تفسخها. فلاحظ.

هذا، و قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه الاستدلال بإطلاق نصوص الماء المتغير بالجيفة التي تكون فيه، مع غلبة بروز بعض الجيفة، و التفكيك بينه و بين غيره من فروض المسألة بعيد عن المرتكز العرفي، و لا مجال للالتزام في الجميع بالطهارة في صورة استناد التغير لمجموع الداخل و الخارج.

أقول: الاستدلال إن كان باعتبار إطلاق النصوص المذكورة لفظا.

ففيه: أن الإطلاق المذكور مقيد بما أشرنا إليه من أن المستفاد من النصوص الأول لزوم استناد التغير لما هو المقتضي للتنجيس، و هو خصوص الجزء الداخل.

و إن كان باعتبار غلبة خروج بعض الجيفة عن الماء بنحو يمنع عن التقييد المذكور.

ففيه: أن غلبة خروج بعض الجيفة لا يستلزم غلبة دخل الخارج في المقدار المعتبر من التغير، بل يغلب كفاية المقدار الداخل في التغيير، لكثرته أو سرعة تفسخه و نتنه، كالبطن.

و منه يظهر الوجه في التفكيك بين الفرض الغالب في موارد الروايات و غيره من صور خروج بعض النجاسة مما يعلم معه بدخل الخارج في التغيير، فضلا عن استقلاله به.

ص: 127

______________________________

و إن كان باعتبار غلبة عدم العلم باستقلال الداخل في التغيير مع أنه لو كان معتبرا في الانفعال ثبوتا كان مقتضي الأصل الطهارة ظاهرا، فعدم التنبيه لذلك في الروايات المذكورة مع ورودها مورد العمل لا لمحض بيان كبري الانفعال مع التغير ظاهر في عدم اعتبار ذلك في الانفعال.

ففيه: - مع عدم وضوح الغلبة المذكورة، خصوصا مع بعد التغيير بالمجاورة في المياه المكشوفة التي هي مورد الروايات المشار إليها-: أن ذلك إنما يمنع من الرجوع للأصل المقتضي للطهارة في ظرف الشك، لا البناء علي الطهارة واقعا حتي مع العلم بعدم استقلال الداخل في التغيير، نظير ما تقدم في الفرع السابق.

و المتحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا دليل علي الانفعال في الفرض المذكور، فضلا عما لو علم باستناد التغيير للخارج فقط.

الخامس: لو تغير بعض الماء تنجس بالتغير، فإن كان الباقي كرا أو معتصما بالمادة بقي علي اعتصامه بلا خلاف ظاهر، بل مقتضي ما في مفتاح الكرامة من أن المخالف في ذلك بعض الشافعية الاتفاق عليه.

و يقتضيه عموم أدلة الاعتصام، و اختصاص أدلة المتغير بخصوص التغير دون تمام الماء. و قد يحمل عليه موثق سماعة: «سألته عن الرجل يمر بالميتة في الماء قال: يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «1».

و إن لم يكن كرا تنجس بالملاقاة للمتغير، كما يظهر منهم المفروغية عنه.

و وجهه ظاهر.

السادس: لو زال تغير الماء من قبل نفسه أو بتصفيق الرياح أو باتصاله ببعض الأمور الطاهرة غير المطهرة لم يطهر، كما صرح به في المعتبر و الشرائع و غيرهما، بل ظاهر كثير من كلماتهم الواردة في كيفية تطهير الماء بعد زوال تغيره المفروغية عنه. بل ادعي شيخنا الأعظم قدّس سرّه الإجماع عليه في القليل. و أما في الكثير فقد ادعيت الشهرة علي ذلك، بل عن المنتهي عدم نسبة الخلاف فيه الا للشافعي

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 128

______________________________

و أحمد. خلافا لما عن المحكي عن يحيي بن سعيد من القول بالطهارة، و عن العلامة قدّس سرّه في نهاية الأحكام التردد فيه.

و كيف كان فاللازم النظر في الدليل علي النجاسة ثمَّ في المخرج عنه.

و قد يظهر من بعض مشايخنا أنه مقتضي إطلاق أدلة التغير، نظير إطلاق ما دل علي نجاسة ملاقي النجس المقتضي لنجاسته سواء أشرقت الشمس عليه أم لم تشرق، و سواء كانت الملاقاة باقية أم لا؟

لكن استفادة الإطلاق من الأدلة المذكورة في غاية الإشكال. أما ما كان منها بلسان النبوي و نحوه فهو لا يدل إلا علي حدوث التنجيس من دون نظر إلي أمد النجاسة، كما لعله ظاهر. و أما ما كان منها بلسان آخر، مثل ما في خبر أبي خالد القماط: «إن كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب و لا تتوضأ منه» «1»، فهو و إن كان قد يظهر منه بدوا الإطلاق، لإطلاق النهي فيه عن الشرب و الوضوء من الماء الذي تغير، الشامل لما بعد تغيره، إلا أن تعليق الجزاء علي شرط له نحو استمرار كثيرا ما يراد منه دورانه مدار بقاء الشرط، لا ثبوته مطلقا و لو بعد ارتفاعه، فكما قد يراد بقولنا: إن سافر زيد حسنت حاله، كون السفر علة لحسن حاله مطلقا و لو بعد رجوعه، كذلك قد يراد به كونه علة لحسن حاله ما دام مسافرا، و كما قد يراد بقولهم: إذا سخن الماء بالشمس كره استعماله، كراهة الاستعمال مطلقا و لو بعد برودة الماء، كذلك قد يراد به كراهة الاستعمال ما دام الماء ساخنا، و مع كثرة الاستعمال المذكور يشكل ظهوره في الإطلاق، و لا سيما مع مناسبة الوصف للحكم، كما في المقام.

هذا، مع معارضة الإطلاق- لو تمَّ- بما في موثق سماعة: «إذا كان النتن الغالب علي الماء فلا تتوضأ و لا تشرب» «2»، و ما في صحيح عبد اللّٰه بن سنان: «إن

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

ص: 129

______________________________

كان الماء قاهرا و لا توجد منه الريح فتوضأ» «1»، لوضوح أنه مع زوال التغير بعد حدوثه لا يصدق أن النتن غالب علي الماء، كما أنه يصدق أنه لا توجد منه الريح، فيتعين سقوط الإطلاقين، أو الجمع بينهما بحملهما علي بيان سببية التغير لحدوث التنجيس من دون نظر إلي بقائه.

و بالجملة: تحصيل الإطلاق المعتد به المقتضي لبقاء النجاسة بعد ارتفاع التغير لا يخلو عن إشكال، بل الظاهر ورودها لبيان سببية التغير لحدوث النجاسة من دون نظر لأمدها. و من ثمَّ لا يري العرف منافاة الأدلة المذكورة لما دل علي تطهير الماء المذكور بملاقاته للمادة و نحوها.

و أما أدلة انفعال الملاقي فظهورها في بقاء النجاسة بعد الملاقاة لقرائن خاصة بها، مثل الأمر بإهراق الماء و الزيت و نحوهما الظاهر في عدم الانتفاع بها و الأمر بغسل الثوب الظاهر في احتياجه للتطهير و عدم طهارته بمجرد زوال الملاقاة، و نحو ذلك مما لا يناسب الطهارة بمجرد ارتفاع الملاقاة.

و الا فهي أيضا لا إطلاق لها في بيان أمد النجاسة بالملاقاة، و لذا لا تكون الأدلة الشارحة للتطهير منافية لإطلاقها عرفا، بل هي نظير أدلة بطلان النكاح بالرضاع و الطلاق مع أدلة تحققه بأسبابه، حيث لا نظر في الثانية إلا لأصل حدوث النكاح، و ليس بقاؤه إلا لأن من شأنه البقاء لو لا الرافع، لا من جهة ظهور الأدلة المذكورة في استمراره، لتنافي أدلة البطلان.

نعم، قد يستدل علي بقاء النجاسة مع قلة الماء بأن التنجس فيه ليس بالتغير حقيقة، بل بالملاقاة، لأنها أسبق منه رتبة و زمانا، و ليس التغير إلا مؤكدا للتنجيس، و حيث لا إشكال في بقاء نجاسة القليل غير المتغير، و عدم ارتفاعها إلا باتصاله بالعاصم، فالمتغير أولي بذلك، و لا وجه لزوال نجاسته بزوال التغير. و لعله لأجل ذلك سبق نقل الإجماع علي بقاء النجاسة في القليل.

و عمدة الإشكال إنما هو في الكثير الذي يكون التغير هو الموجب لنجاسته

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 130

______________________________

لا مجرد الملاقاة، فكما يمكن أن يكون التغير علة لها بنحو يكفي حدوثه في بقائها بعده يمكن أن يكون بنحو تدور مداره وجودا و عدما.

إن قلت: التغير ليس هو المنجس للكثير، بل هو شرط في تنجسه بما يلاقيه من النجس و المتنجس، و حينئذ كما يكون تنجيس الملاقي للقليل من دون تغيير مقتضيا لبقاء نجاسته ما لم يطهر باتصاله بالمعتصم، كذلك يكون تنجيس الملاقي للكثير مع التغير مقتضيا لبقاء نجاسته ما لم يطهر بذلك.

و لعله إلي هذا يشير ما تقدم في الاستدلال علي الاكتفاء بالتغيير التقديري من أن ظاهر النصوص استناد التنجيس للنجاسة و ليس التغير إلا علامة لها، و ما تقدم عن المنتهي من قوله: «بلوغ الكرية حد لعدم قبول التأثير عن الملاقي إلا مع التغيير، من حيث أن التغيير قاهر للماء عن قوته المؤثرة في التطهير، و هل التغير علامة علي ذلك و الحكم يتبع الغلبة، أم هو المعتبر؟ الأولي الأول، فلو زال التغير من قبل نفسه لم يزل عنه حكم التنجيس».

قلت: التنجس و إن استند للملاقاة، إلا أنه تقدم عدم الإطلاق في أدلة الانفعال بالملاقاة يقتضي استمرار النجاسة، و إنما استفيد في القليل بقاء النجاسة بعد الملاقاة بقرائن خاصة لا تجري في الكثير، و لا سيما مع قلة ذهاب التغير بنفسه أو بالهواء و نحوه بالنحو الذي لا يستكشف معه من عدم التنبيه عليه عدم الطهارة به.

هذا، و قد استدل شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره علي عدم كفاية زوال التغير في الطهارة بما في صحيحي ابن بزيع «1» من الأمر بالنزح حتي يذهب الريح و يطيب الطعم، بناء علي ما هو الظاهر من كون «حتي» غائية لا تعليلية و كأنه لدعوي: أنه ظاهر في انحصار المطهر بذلك، و عدم كفاية زوال التغير بنفسه.

و فيه: أنه لو تمَّ ظهور (حتي) في الغائية بنحو يصلح للاستدلال فهو كما قد يكون لأخذ النزح المغيّي قيدا في التطهير زائدا علي زوال التغير، كذلك قد يكون

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 131

______________________________

لأجل كونه علة خارجية له، حيث لا يزول التغير غالبا بدون نزح.

و لعل هذا هو المتعين في مورد الرواية، إذ الظاهر أنه لو زال التغير بتكاثر الماء في البئر من دون نزح كفي في طهارة الماء اتصاله بالمادة و تدافعها عليه.

مع أنه لو تمَّ البناء علي عدم كفاية ذلك في البئر فلا مجال للتعدي منها لغيرها من موارد اتصال الماء بالمادة أو الكثير، و هو كاشف عن خصوصية في البئر، و حينئذ لا يدل ذكر النزح فيها علي عدم كفاية ذهاب التغير في غيرها، إذ لا مجال لدعوي عدم الفصل بين البئر و غيرها من المياه غير المعتصمة بعاصم، بعد ثبوت الفصل بينها و بين غيرها من المياه المعتصمة العاصمة. فلاحظ.

فالعمدة في المقام: أن الظاهر من حال الشارع الأقدس في الأحكام الوضعية- كالطهارة و النجاسة و الحرية و الرقية و الملكية و الزوجية و غيرها- جعلها بنحو يكون من شأنها البقاء، بحيث يبني علي بقائها ما لم يثبت الرافع، و لم يخرج عن ذلك إلا النكاح المنقطع، الذي كان التحديد فيه محتاجا إلي عناية في أصل جعله، بحيث لو لا العناية المذكورة لكان نكاحا دائما من شأنه البقاء.

و يشهد بما ذكرنا عدم تعرض أدلة جعل الأحكام الوضعية لبيان أمدها مع مسيس الحاجة لذلك لو لم يكن البناء علي استمرارها و احتياج ارتفاعها إلي دليل، و لكثر السؤال عن ذلك فيها. و لذا جري الفقهاء علي ذلك في مقام الاستدلال، حيث صار ديدنهم البحث عما يقتضي الرفع، الظاهر في مفروغيتهم عما ذكرنا من الأصل.

و هذا الأصل و إن كان من سنخ الاستصحاب، إلا أنه مستغن عن أدلته، و عن النظر في مبانيه، بل هو أصل متشرعي خاص. بل لا يبعد كونه أصلا عقلائيا، لبناء العقلاء علي ذلك في أحكامهم الوضعية فيكون نظير أصالة عدم النسخ.

و لو غض النظر عن ذلك كفي عموم أدلة الاستصحاب، بناء علي ما هو الظاهر من أن المعيار فيه علي اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة فيما هو الموضوع و المعروض الحقيقي للمستصحب بنظر العرف، لما هو المعلوم من ان النجاسة

ص: 132

______________________________

بنظرهم عارضة و محمولة علي الماء الشخصي بذاته، الموجود في حالتي التغير و عدمه، و ليس التغير إلا من عوارضه غير المقومة له في مقام معروضيته لها، و ليس هذا مبنيا علي التسامح العرفي، بل علي اعمال نظر العرف في المعروض الحقيقي للمستصحب.

من دون فرق فيما ذكرنا بين أن يكون دليل نجاسة المتغير بلسان: إن تغير الماء تنجس، و أن يكون بلسان: الماء المتغير نجس، إذ الاختلاف في ذلك لا يوجب اختلاف سنخ المعروض عندهم، بل يتعين عندهم حمل «المتغير» في الثاني علي كونه عنوانا تعليليا لثبوت النجاسة لذات الماء.

فلا مجال لتوهم امتناع جريان الاستصحاب لدعوي تعدد الموضوع.

هذا، و قد استشكل بعض مشايخنا- تبعا للفاضل النراقي قدّس سرّه- في الاستصحاب في المقام و غيره من الاستصحابات الحكمية بمعارضتها باستصحاب العدم الثابت قبل التشريع، فإن الحكم في الزمان الثاني حادث تابع للجعل الشرعي مسبوق بالعدم الأزلي السابق علي التشريع، فيستصحب و يعارض الاستصحاب الوجودي.

فاستصحاب نجاسة الماء من حين التغير إلي حين ارتفاعه و إن جري ذاتا في المقام، إلا أنه معارض باستصحاب عدم النجاسة للماء بعد تغيره، إذ قبل التشريع لم يكن الماء نجسا لا حال التغير و لا بعده، و المتيقن بعد التشريع انتقاض العدم بالإضافة إلي حال التغير، و يشك في انتقاضه بالإضافة إلي ما بعده، فيستصحب.

و يندفع: بأن كلّا من الاستصحابين يبتني علي ما ينافي مبني الآخر، فلا يجتمعان معا حتي يتعارضا، فالاستصحاب الوجودي يبتني علي كون وجود الحكم المشكوك في زمان الشك استمرارا لوجوده في زمان اليقين، لاتحادهما موضوعا، و الاستصحاب العدمي يبتني علي كونه موجودا آخر مباينا له، لاختلافهما في الموضوع، و لا يعقل اجتماع ذلك في الحكم الواحد، بل إن استفيد

ص: 133

______________________________

من دليل الحكم- و لو بضميمة الرجوع للعرف- الأول جري الاستصحاب الوجودي، و امتنع الاستصحاب العدمي، لانتقاض العدم بالوجود المتيقن، و إن استفيد الثاني جري الاستصحاب العدمي، و امتنع الاستصحاب الوجودي، لتعدد الأمر المتيقن و المشكوك، كما أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذلك، و حيث كان المفروض في كلامهم هو الأول فلا مجال لتوهم المعارضة.

و توضيح ذلك: أنه لو فرض وجوب الجلوس قبل الزوال و شك في وجوبه بعده، فان احتمل كون الزوال قيدا في الجلوس الواجب كان الجلوس بعد الزوال مباينا للجلوس المتيقن الوجوب، و امتنع استصحاب وجوب الجلوس، و لزم الرجوع لاستصحاب عدم وجوب الجلوس بعد الزوال الثابت قبل التشريع، أو لأصالة البراءة منه.

و إن علم بعدم أخذ الزوال قيدا في الجلوس الواجب، بل ليس الواجب إلا ذات الجلوس المنطبق علي ما يكون بعد الزوال قهرا، و إنما احتمل كون الزوال قيدا لوجوب الجلوس المذكور، تعين الرجوع لاستصحاب وجوب الجلوس الي ما بعد الزوال.

و أما استصحاب عدم وجوب الجلوس بعد الزوال بلحاظ ما قبل التشريع مع ذلك، فإن أريد به استصحاب عدم وجوب ذات الجلوس إلي ما بعد الزوال بنحو يكون الزوال ظرفا للعدم المستصحب مع كون العدم مضافا لماهية الجلوس المطلقة، فلا مجال له، للعلم بانتقاضه بوجوب ذات الجلوس قبل الزوال.

و إن أريد به استصحاب عدم وجوب الجلوس الواقع بعد الزوال، بنحو تكون الخصوصية قيدا للجلوس الواجب، فهو يجري بلا إشكال لو فرض ثبوت الأثر لعدم الوجوب بالنحو المذكور، لأن انتقاض العدم المطلق لا يستلزم انتقاض العدم الخاص.

لكنه لا يعارض الاستصحاب الوجودي المذكور و لا ينافيه، لأن عدم ثبوت الوجوب للجلوس الخاص بخصوصيته لا ينافي ثبوته لمطلق الجلوس المنطبق

ص: 134

______________________________

عليه بعد الزوال قهرا. و يجب العمل علي الاستصحاب الوجودي، فيؤتي بالجلوس بعد الزوال، إذ يكفي فيه وجوب الماهية و الذات المنطبقة عليه قهرا، و هو لا ينافي عدم وجوبه بخصوصيته، لأن اللامقتضي لا يزاحم المقتضي، بل العمل علي الثاني، كما لعله ظاهر.

و منه يظهر الحال في المقام، فإن النجاسة لما كانت محمولة و معروضة علي الماء الخارجي الجزئي، فهو غير قابل للتقييد بزمان دون زمان، و ليس هو كالجلوس الذي هو أمر كلي قابل للتقييد بذلك، فلا بد من كون الزمان فيما نحن فيه ظرفا للمستصحب، لا قيدا في موضوعه، و حينئذ لا يجري استصحاب العدم، للعلم بانتقاضه بثبوت النجاسة للذات في الزمان الأول، بل يجري الاستصحاب الوجودي لا غير.

نعم، يظهر من بعض مشايخنا التمسك في المقام باستصحاب عدم الجعل للحكم في الزمان الثاني و معارضته بالاستصحاب الوجودي المفروض.

بدعوي: أن الجعل بالإضافة إلي زمان الشك حادث مسبوق بالعدم قبل التشريع، فيستصحب عدمه بعده، فيقال: لم يكن وجوب الجلوس بالإضافة إلي ما بعد الزوال مجعولا قبل التشريع فهو غير مجعول بعده، و لم تكن نجاسة الماء بالإضافة إلي ما بعد زوال تغيره مجعولة قبل التشريع، فهي غير مجعولة بعده، فيعارض بذلك الاستصحاب الوجودي.

و فيه: أن الأثر العملي إنما يترتب علي المجعولات الشرعية- كالتكليف و النجاسة و نحوهما- دون جعلها، لوضوح أن المجعولات لما كانت أمورا اعتبارية فلا مصحح لاعتبارها إلا ترتب الآثار العقلية- كوجوب الإطاعة- و الشرعية- كالمانعية من الوضوء و حرمة الشرب- عليها، فليس موضوع الآثار إلا المجعولات، كما هو ظاهر أدلة الآثار أيضا، و حينئذ لا يجري استصحاب عدم الجعل و لا يعارض الاستصحاب الوجودي إلا بناء علي الأصل المثبت.

و دعوي: أن الجعل متحد مع المجعول حقيقة أو عرفا.

ص: 135

______________________________

ممنوعة جدا، بل هما مختلفان كاختلاف الإيجاد مع الموجود، فإن الجعل أمر حقيقي قائم بالجاعل قيام العرض بمعروضه، و المجعول أمر اعتباري قائم بموضوعه، كما أن الإيجاد أمر حقيقي من سنخ العرض أيضا قائم بالموجد، و الموجود قد يكون جوهرا قائما بنفسه، كما قد يكون عرضا قائما بموضوعه.

و مثلها دعوي: أن توقف فعلية الحكم المجعول علي الجعل كتوقفه علي موضوعه، فكما يصح استصحاب الموضوع لإحراز الحكم المترتب عليه، أو عدم الموضوع لإحراز عدم الحكم المترتب عليه، كذلك يصح استصحاب عدم الجعل لإحراز عدم الحكم المجعول.

لاندفاعها: بأن التلازم بين الموضوع و حكمه شرعي، و التلازم بين الجعل و المجعول خارجي عرفي، فالأصل في الأول سببي، و في الثاني مثبت.

مع أنه لو تمَّ لزم حكومة استصحاب عدم الجعل علي استصحاب المجعول كحكومة استصحاب عدم الموضوع علي استصحاب حكمه، لا المعارضة بينهما و التساقط، كما هو المدعي.

ثمَّ إن في المقام جهات أخر للكلام استقصاؤها في علم الأصول أنسب. و ما ذكرناه كان في إثبات صحة الاستصحاب الحكمي الوجودي بنحو يترتب عليه الأثر، الذي هو المهم في المقام.

هذا، و حيث عرفت الدليل علي النجاسة يقع الكلام فيما يخرج عنه مما استدل به علي الطهارة، و هو أمور.

الأول: النبوي المرسل، كما عن المبسوط و الخلاف و السرائر و عوالي اللئالي و محكي المسائل الرسية للسيد المرتضي: «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» «1»، و في جواهر القاضي نسبه إلي قولهم عليهم السّلام.

بدعوي: أن مقتضي إطلاقه الأحوالي عدم حمل الكر للخبث مطلقا لا قبل التغير و لا حينه، و لا بعد زواله، خرج منه حال التغير و بقي الباقي تحت

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

ص: 136

______________________________

العموم، بناء علي ما هو الظاهر من أن المرجع في مثل ذلك عموم العام لا استصحاب حكم المخصص.

لكن ضعف الخبر مانع من العمل به. و إرساله ممن عرفت لا يكفي في حجيته، و ما عن السرائر من رواية المؤالف و المخالف له ان أريد به الاتفاق علي روايته في الجملة و لو مرسلا فهو لا يكفي في حجيته، و إن أريد به التسالم منهم علي صدوره بألفاظه، فهو غير ثابت، و لا سيما مع خلو أمهات كتب الحديث لأصحابنا عن ذكره، بل قد يكون مراد بعضهم الإشارة به إلي مضمون الحديث المشهور من طرقنا: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» الذي هو أجنبي عما نحن فيه بلا كلام، كما لعله ظاهر كلام القاضي في جواهره، و لا سيما مع ظهور كلامه في نسبته لأهل البيت عليهم السّلام.

كما يمكن كونه من روايات العامة، و ذكره أصحابنا في كتبهم مجاراة في مقام الاستدلال، كما هو ظاهر السيدين في الناصريات و الانتصار و الغنية.

و لا مجال لدعوي انجباره بعمل بعض من ذكره في مسألة الماء النجس المتمم كرا بطاهر. لعدم كونه بمرتبة تكفي في الحجية، كما يأتي في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

هذا، و ظاهر المستدل به و بعض المانعين المفروغية عن تمامية دلالته، لدلالته علي ما يعم الدفع و الرفع، فهو كما يدل علي أن بلوغ الكرية مانع من حدوث النجاسة في الماء كذلك يدل علي أنه مانع من بقائها فيه، لأن عدم الحمل أعم من ذلك.

بل هو الذي أصرّ عليه بعض مشايخنا في مسألة المتمم كرا بطاهر، بدعوي:

أن المراد بعدم حمل الخبث عدم الاتصاف بالنجاسة.

لكنه غير ظاهر، كما ذكره غير واحد، لأن هيئة الفعل إنما تدل علي الحدث، لا علي محض الاتصاف بالمادة، بخلاف اسم الفاعل، فالفرق بين قولنا:

زيد غدا مريض، و قولنا: يمرض زيد غدا، ان الأول يدل علي محض اتصاف

ص: 137

______________________________

زيد بالمرض و لو من جهة استمراره فيه، و الثاني يدل علي حدوث المرض له، و لا يكفي فيه استمراره.

نعم، ربما يصح إطلاق الفعل بلحاظ الاستمرار، إما لتقوم المادة به، كما في مثل البقاء و الاستمرار و نحوهما، أو لابتناء المادة علي التجدد، بحيث يكون كل جزء فعلا مباينا للآخر و إن كان متصلا به، بحيث يعتبر امرا واحدا كما في الكلام و الأكل و الشرب أو لإعمال عناية في الفعل الواحد المستمر بتحليله و فرضه أفعالا متعددة، أو لكون المراد بالمادة ما هو نتيجة المصدر المبني علي الاستمرار. كما ربما يستفاد إلحاق البقاء بالحدوث بقرائن خاصة خارجة عن الكلام.

و لا ملزم بشي ء من ذلك في المقام، لوضوح عدم تقوم الحمل بالاستمرار، و عدم كونه من سنخ الكلام مما تتصل أجزاؤه و تعددت حقيقة.

كما لا قرينة علي إعمال العناية فيه بتحليله، و لا علي حمله علي نتيجة المصدر و لا علي إلحاق بقائه بحدوثه، بل المتيقن من الحديث كون الكرية مانعة من حدوث حمل الخبث بالمعني المصدري، فيكون مطابقا لقولهم عليهم السّلام: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «1» الذي لا ريب في اختصاصه بالدفع، و لعله لذا نسبه في السرائر إلي رواية المؤالف و المخالف. و لذا فسر الشيخ قدّس سرّه محكي التهذيب و الاستبصار قوله عليه السّلام «إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجسه شي ء» بقوله:

«لم يحمل خبثا». بل ذلك هو الظاهر مما حكي عن غير واحد من كتب اللغة، كتاج العروس و المصباح و النهاية.

و بالجملة: المتيقن من الحديث الاختصاص بالدفع، و لا يعم الرفع، و حيث لا إشكال في عدم دفع الكرية للنجاسة مع التغير، فلا يدل الحديث علي ارتفاعها بعده. فتأمل جيدا.

الثاني: قوله عليه السّلام في صحيح ابن بزيع: «فينزح حتي يذهب الريح و يطيب

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

ص: 138

______________________________

طعمه» «1».

بدعوي: أن «حتي» تعليلية نظيرها في قولنا: أسلم حتي تسلم، أو غائية مع كون ما بعدها علة غائية لما قبلها نظيرها في قولنا: تأمل حتي تفهم المراد، فتدل علي أن علة طهارة البئر ذهاب الريح و طيب الطعم، فيتعدي من البئر لغيرها بعموم العلة المنصوصة.

و فيه: أنه لا قرينة علي الأمرين، بل قد تكون لمحض الغاية نظيرها في قوله تعالي لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عٰاكِفِينَ حَتّٰي يَرْجِعَ إِلَيْنٰا مُوسيٰ «2».

بل لا ريب في عدم كونها لمحض التعليل، لما هو المعلوم من عدم إرادة نزح تمام البئر لأجل ذهاب الريح و طيب الطعم، بل خصوص النزح بمقدار يترتب عليه ذلك، و هو راجع إلي كونها غائية. نعم، يمكن أن يكون ما بعدها علة غائية، و إن لم يكن عليه قرينة.

مع أنه لو فرض إفادتها التعليل فعموم التعليل انما يقتضي التعدي عن النزح إلي غيره من أسباب زوال التغير في البئر، لا التعدي إلي غير البئر مما يزول عنه التغير، لأن الحكم المعلل هو مطهرية النزح للبئر، المستفادة من قوله: «فينزح.»،

لا أصل ثبوت الطهارة للبئر، ليتعدي لغيرها.

مثلا لو قيل: تحرم الخمر لأنها مسكرة، كان ظاهره حرمة كل مسكر، أما لو قيل يحرم ماء الشعير بالغليان لأنه يوجب إسكاره، فهو لا يدل إلا علي أن كل ما يوجب إسكار ماء الشعير محرم له، لا أن كل مسكر حرام.

و حينئذ لعل طهارة البئر بزوال التغير لكون التغير مانعا من الاعتصام بالمادة المفروضة في البئر، فيكون ارتفاعه موجبا لتأثير المقتضي للاعتصام، و هو المادة، لا لكونه تمام المقتضي لتطهير البئر، ليتعدي لغير البئر مما لا مقتضي فيه للتطهير.

بل يتعين ذلك بلحاظ التعليل بقوله عليه السّلام: «لأن له مادة» بناء علي رجوعه

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(2) سورة طه: 91.

ص: 139

______________________________

للحكم المذكور وحده أو مع الحكم الأول المذكور في الصدر، لا لخصوص الحكم الأول.

الثالث: دعوي ظهور بعض نصوص التغير في دوران الحكم مداره وجودا و عدما، كصحيح عبد اللّٰه ابن سنان و موثق سماعة «1» المتقدمين في أول المسألة.

ففي الأول: «إذا كان الماء قاهرا و لا توجد منه الريح فتوضأ».

و في الثاني: «إذا كان النتن الغالب علي الماء فلا تتوضأ و لا تشرب».

لكن قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «الظاهر من الأخبار إناطة الحكم بغلبة الماء علي أوصاف النجاسة أو غلبتها عليه في أول الأمر، فلا يشمل ما كان غالبا بعد أن كان مغلوبا».

و ما ذكره قدّس سرّه قريب جدا. و لا أقل من انصراف الخبرين لذلك بقرينة التعبير بقاهرية الماء في الأول، و غلبة النتن في الثاني، لقرب كون القاهرية في الأول إشارة إلي الكثرة المانعة من التغير في مقابل المقهورية، كما أن غلبة النتن في الثاني ليس عبارة عن محض ظهوره، بل قهر الماء به، و من الظاهر أن المعيار في القاهرية و المقهورية بين الوصف و الماء هو حدوث التغير في مقابل عدمه، و لا دخل لبقائه، بل ارتفاعه بعد حدوثه ينشأ من أسبابه الخاصة من هواء و نحوه، لا من قاهرية الماء له بعد مقهوريته به.

بل لا أقل من كون ما ذكرنا هو مقتضي الجمع بين نصوص التغير علي اختلاف ألسنتها، فان التأمل في مجموعها شاهد بأنها مسوقة لبيان حدوث النجاسة بسبب حدوث التغير، و لا نظر لها إلي بقائها، كما تقدم في أول الكلام في أدلة النجاسة، فلا مخرج عما عرفت من الاستصحاب المقتضي للنجاسة. و اللّٰه العالم.

هذا، و أما الكلام في كيفية تطهير المتغير بعد زوال تغيره فهو الكلام في تطهير كل ماء نجس قليلا كانت أو كثيرا، و يأتي التعرض لذلك في المسألة العشرين

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 11، 6.

ص: 140

______________________________

من هذا الفصل إن شاء اللّٰه تعالي.

السابع: الماء النجس لا يطهر بتتميمه كرا، سواء تمم بطاهر أم بنجس، كما في المعتبر و الشرائع و القواعد و كشف اللثام، و عن الخلاف و المنتهي و التحرير و المختلف و النهاية و التذكرة و الذكري و الدروس و البيان و محكي ابن الجنيد.

و نسبه في جامع المقاصد إلي المتأخرين، و هو قول الأكثر، كما عن الذخيرة، و أكثر المتأخرين، كما عن المدارك، و الأشهر، كما عن التذكرة.

خلافا لما عن الوسيلة من طهارته بتتميمه بطاهر. و لما في جواهر القاضي من إطلاق طهارته بالتتميم الشامل لما لو تمم بنجس، و هو المحكي عن المسائل الرسية للسيد المرتضي، و المراسم و السرائر و المهذب و الإصباح و الجامع و الإيضاح، و مال إليه في جامع المقاصد، و نسبه إلي أكثر المحققين و عن السرائر الإجماع عليه.

و العمدة فيما ذكرنا أن التتميم إن كان بطاهر فمقتضي عموم قولهم عليهم السّلام:

«إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «1» نجاسة الماء الطاهر بملاقاة النجس، لأنه دون الكر.

و دعوي: أن الملاقاة في المقام لما كانت موجبة للكرية المانعة من الانفعال كانت خارجة عن العموم، لاستحالة كون الشي ء علة لأمر و لما يمنع عنه.

مدفوعة: بأن المستفاد من العموم هو عاصمية الكرية من الانفعال بملاقاة النجس المباين للكر لا المقوم له، فلا تكون الكرية في المقام عاصمة كي يمتنع كون الملاقاة الموجبة لها منجسة. و ليس المنشأ في ذلك ظهور الحديث في لزوم سبق الكرية علي الملاقاة كي يمنع ذلك، بل ظهوره في كون المنجس المفروض مباينا للماء الكر، و لا يظن بأحد منعه.

و إن شئت قلت: المفروض في الحديث أمران.

الأول: ما يوجب الانفعال.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

ص: 141

______________________________

الثاني: الماء المعروض له، الذي إن كان كرا لم ينفعل، و إلا ينفعل. و حيث ينطبق الأول في المقام علي الماء النجس ينطبق الثاني علي الماء الطاهر، لا علي مجموع الماء، و حيث فرض كون الطاهر دون الكر كان مقتضي إطلاق الحديث انفعاله.

و أما توهم: أن الانفعال بملاقاة النجس المتمم لكرية الطاهر موقوف علي ثبوت عموم انفعال ما دون الكر بكل نجس، و لا مجال لإثباته بالرواية المتقدمة، لأن مفهومها الدال علي انفعال القليل قضية مهملة في قوة الجزئية لا تقتضي إلا انفعال القليل ببعض النجاسات، لا بكل نجس.

فمدفوع: بما تقدم في آخر الكلام في أدلة انفعال الماء القليل من تقريب العموم المذكور من الرواية المتقدمة و غيرها، و أن المستفاد منها انفعال الماء بكل ما من شأنه التنجيس لغير الماء، و منه الماء النجس في المقام. فراجع.

و أما لو كان التتميم بالنجس فهو و إن كان خارجا عن العموم المذكور، إذ لا معني لتنجيس النجس، إلا أنه يدل علي بقاء النجاسة فيه بالأولوية، كما لا يخفي.

هذا، و لو غض النظر عن الاستدلال المذكور أمكن الرجوع للاستصحاب، بناء علي ما تقدم في الفرع السابق من التعويل علي الاستصحاب الحكمي في أمثال المقام.

أما فيما لو تمم بنجس فظاهر. و أما فيما لو تمم بطاهر فمقتضي الاستصحاب بدوا و إن كان هو بقاء الطهارة فيما كان طاهرا و النجاسة فيما كان نجسا، إلا أن استصحاب النجاسة في النجس حاكم علي استصحاب الطهارة في الطاهر لأن الطاهر في نفسه إذا كان أقل من كر و لاقي نجسا ينجس.

لكن شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) أنكر الحكومة في المقام بدعوي: أن منشأ الشك في كلا المائين هو الملاقاة المفروضة في المقام، حيث يحتمل طهارة النجس بملاقاة الطاهر، كما يحتمل تنجس الطاهر بملاقاة النجس، و لا وجه لتقدم أحدهما علي الآخر رتبة، ليكون الأصل فيه حاكما علي الأصل في الآخر و سببيا

ص: 142

______________________________

بالإضافة إليه.

نعم، لو كان الشك في بقاء طهارة الطاهر مسببا عن الشك في بقاء نجاسة النجس مع العلم بحال الملاقاة و أنها تقتضي الانفعال علي تقدير النجاسة كان استصحاب نجاسة النجس حاكما علي استصحاب طهارة الطاهر، كما لو لاقت اليد الطاهرة الماء المستصحب النجاسة.

و فيه: أن احتمال الطهارة بسبب الملاقاة ناشئ من احتمال ارتفاع نجاسة النجس، لاحتمال اعتصام أحد المائين بالآخر بسبب اتصالهما و حصول الكرية لهما، و بعد فرض إجمال أدلة الاعتصام من هذه الجهة و استصحاب نجاسة النجس يتعين جريان حكم ملاقاة النجس مترتبا في المقام، فيكون استصحاب نجاسة النجس حاكما علي استصحاب طهارة الطاهر، كما ذكرنا.

و بعبارة أخري: الشك في ترتب حكم ملاقاة النجس علي الطاهر ناشئ من احتمال حدوث ما يرفع نجاسته أما لو فرض العلم ببقاء نجاسة النجس فيعلم بانفعال الطاهر به، كما ينفعل بغيره، و كما ينفعل غيره به، و ذلك لعموم أدلة انفعال الماء القليل بملاقاة النجس، فمع فرض حكم الاستصحاب ببقاء نجاسة النجس يتعين الحكم بنجاسة الطاهر، و يكون حاكما علي استصحاب طهارته.

اللهم إلا أن يرجع ذلك إلي التشكيك في عموم انفعال القليل بملاقاة النجس لمثل المقام، فلا ينفع العلم ببقاء نجاسة الماء فضلا عن استصحابها في انفعال الطاهر به.

لكن أشرنا إلي ثبوت العموم آنفا فليس الشك ناشئا من احتمال استثناء الملاقاة في المقام من عموم الانفعال بملاقاة النجس، بل من احتمال طهارة النجس بسبب حدوث الكرية له، بنحو يرتفع موضوع الانفعال به، فمع فرض استصحاب نجاسته لا ريب في ترتب الحكم المذكور عليه. فتأمل جيدا.

هذا، و قد يقرّب الاستصحاب بوجه آخر في كثير من صور المسألة، فإن الملاقاة الموجبة للانفعال كثيرا ما تكون أسبق من الاتحاد الموجب للكرية

ص: 143

______________________________

العاصمة، إذ يكفي في الانفعال أدني ملاقاة بين المائين، و لا بد في الكرية من الاتصال بنحو معتد به مع تساوي السطوح في الجملة و نحو ذلك مما هو متأخر عن الملاقاة الموجبة للانفعال.

و حينئذ مقتضي عموم دليل الانفعال نجاسة كلا المائين في الآن الأول، و يرفع اليد به عن استصحاب طهارة الطاهر. غاية الأمر أنه يشك بعد تحقق الاتحاد و صدق الكر علي المجموع في طهارته، و مقتضي الاستصحاب بقاء نجاسته، كما لو كان متمما بنجس.

و مما ذكرنا يظهر ضعف القول بالطهارة في خصوص ما تمم بطاهر، لانحصار الوجه فيه بدعوي: معارضة استصحاب الطهارة في الطاهر لاستصحاب النجاسة في النجس للإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد، و بعد تساقطهما يكون المرجع قاعدة الطهارة فيهما معا.

وجه الضعف: أنه لا مجال لاستصحاب طهارة الطاهر مع عموم انفعال القليل بالملاقاة. و لو غض النظر عنه كان استصحاب نجاسة النجس حاكما علي استصحاب طهارة الطاهر، كما تقدم.

هذا مضافا إلي أن الإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد إنما يوجب سقوط الاستصحابين إذا رجع إلي اتحاد حكمه حتي ظاهرا، لرجوعه إلي العلم بعدم دخول كلا القسمين في عموم الاستصحاب، فيسقط فيهما معا، لعدم المرجح لأحدهما، و عدم الدليل علي التخيير بينهما، كما هو المقرر في سائر موارد العلم بعدم دخول كلا الفردين في عموم دليل التعبد.

لكنه غير ظاهر، بل غاية ما يدعي هو اتحاد حكم الماء الواحد واقعا و هو لا يمنع من العمل بالأصل الظاهري الجاري في كل من قسميه و إن اختلف مؤداه فيهما، و العلم الإجمالي بكذب أحد الاستصحابين واقعا لا يمنع من العمل بهما بعد عدم لزوم مخالفة عملية منه.

علي أن اتحاد حكم الماء الواحد- حتي واقعا- مما لم يتضح منشؤه بعد

ص: 144

______________________________

ثبوت اختلاف قسمي الماء الواحد في مثل الماء الكثير المتغير بعضه دون بعض.

نعم، ربما يدعي ذلك في خصوص صورة الامتزاج.

لكنه- مع عدم اختصاص محل الكلام به- غير ظاهر أيضا، كما لعله يأتي الكلام فيه عند الكلام في تطهير الماء النجس في المسألة العشرين من هذا الفصل.

و أما ما يظهر من بعض مشايخنا من أنه مع امتزاج المائين يكونان موضوعا واحدا عرفا.

فإن أراد به ارتفاع موضوع كل من الأصلين و تبدله بموضوع واحد ليس له حالة سابقة. فمن المقطوع به عدم زوال كل من الموضوعين لا حقيقة و لا عرفا، و أن الماء الواحد مركب منهما لا أنه بدل في الوجود عنهما.

و إن أراد به اتحاد كل من المائين الموجودين سابقا مع الماء الواحد الحاصل بعد امتزاجهما بحيث يكون بقاء له، حتي يكون مقتضي الاستصحاب في كل منهما جريان حكمه علي تمام الماء المذكور، فيتعارض الاستصحابان فيه و يتساقطان.

ففيه: أن الماء المذكور متحد مع المائين بمجموعهما لا مع كل منهما بمفرده فاستصحاب حكم كل منهما لا يقتضي إلا ثبوت حكمه لبعض الماء المذكور لا لتمامه. و مجرد عدم تميز كل من الجزئين لا يمنع من استصحاب حكمه مع امتيازه واقعا، نظير امتزاج النورة النجسة و الملح الطاهر مع جفافهما.

نعم، قد يتم أحد الوجهين لو كان أحد المائين قليلا مستهلكا في الآخر.

و لعله خارج عن محل الكلام.

و إن أراد تحقق الوحدة العرفية في الماء بمجرد امتزاج بعضه ببعض.

فهو لا ينافي بقاء كل من الموضوعين الذي هو المعيار في جريان الاستصحاب فيه، إذ لا دخل للوحدة المذكورة في بقائه قطعا، بل هي من سنخ الحالات الطارئة علي الموجود الواحد.

و كأن مرادهم من اتحاد الماء الواحد حكما في المقام هو اتحاد المائين

ص: 145

______________________________

القليلين المتصلين.

و هو إنما يتم مع تحقق شرط الانفعال فيهما، حيث يكون كلاهما نجسا، و لذا لو قلنا بعدم انفعال الماء القليل اتجه البناء علي بقاء الطاهر علي طهارته، كما أنه لو قلنا بعدم انفعال الماء الوارد علي النجاسة اتجه البناء علي بقاء الوارد علي طهارته لو كان النجس هو المورود، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و عليه يكون مرجع الإجماع المذكور إلي ما ذكرنا من انفعال الطاهر بالنجس علي تقدير بقاء نجاسته، المستلزم لما تقدم من حكومة استصحاب نجاسة النجس علي استصحاب طهارة الطاهر، لا تساقطهما بالمعارضة.

و بالجملة: لا يتضح منشأ تساقط الأصلين في المقام، بل لا بد من البناء إما علي حكومة استصحاب النجاسة- كما ذكرنا- أو علي العمل بكل من الأصلين في مورده، المستلزم لعدم الفائدة في استصحاب طهارة الطاهر مع الامتزاج، لعدم تيسر الانتفاع به خالصا عن الماء النجس، كما لعله ظاهر.

هذا و قد استدل للطهارة مطلقا بوجوه.

الأول: ما عن السيد المرتضي قدّس سرّه: من الإجماع علي طهارة الكر الملاقي للنجاسة إذا شك في سبق كريته علي الملاقاة أو تأخرها عنه، فلو لا بناؤهم علي طهارة المتنجس بصيرورته كرا لم يكن وجه لذلك.

و فيه: أنه لا ملازمة بين الأمرين، إذ المرجع في تلك المسألة إما أصالة الطهارة أو الاستصحاب المقتضي للطهارة تارة و النجاسة أخري علي ما يأتي تفصيله إن شاء اللّٰه تعالي، أما في المقام فالمرجع عموم الانفعال أو استصحاب النجاسة علي ما تقدم.

بل فرض الشك في تلك المسألة ظاهر في أنه مع العلم بلحوق الكرية للملاقاة يتعين البناء علي النجاسة. فلاحظ.

الثاني: ما عنه أيضا من أن بلوغ الكرية يستهلك النجاسة، فلا فرق بين وقوعها قبل البلوغ و بعده.

ص: 146

______________________________

و فيه: أنه لا ظهور لقولهم عليهم السّلام: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» في كون الكرية موجبة لاستهلاك الماء للنجاسة بعد ظهورها فيه، بل في مانعيتها من ظهور النجاسة فيه، و تعميمه لرفع النجاسة الحادثة سابقا في غير محله، و إلحاقه به قياس لا مجال له.

الثالث: النبوي المتقدم في الفرع السابق: «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» بناء علي ظهوره فيما يعم الرفع و الدفع.

و أما الإشكال في الإطلاق المذكور بمعارضته بإطلاق ما دل علي انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة الشامل للمقام.

فمدفوع: بأن من القريب جدا الجمع بينهما بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من حمل الثاني علي الاقتضاء دون الفعلية، فالملاقاة من حيث هي تقتضي النجاسة لعموم دليل الانفعال، لو لا عروض الكرية التي هي من سنخ الرافع لها و المانع منها، كما هو الحال في سائر موارد اجتماع العنوان الاولي و الثانوي.

و مثله الإشكال فيه بمعارضته بالنهي عن غسالة الحمام في مثل موثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث قال: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام ففيها تجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت، فهو شرهم، فان اللّٰه تبارك و تعالي لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و إن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» «1». لعموم النصوص المذكورة لما إذا بلغت الغسالة كرا، بل هو الغالب في مجمع الغسالة، كما هو المفروض فيها.

فإنه يندفع: بظهور نصوص غسالة الحمام في أن منشأ النهي ليس هو النجاسة بالمعني المصطلح، لتنافي النبوي بل الخباثة المعنوية الحاصلة من الاغتسال بالماء خصوصا من المذكورين فيها، كما يشهد به ذكر غسالة ولد الزنا، و الغسالة من الزنا في بعضها، مع عدم نجاسة الماء بذلك بلا إشكال.

و مجرد التنبيه في الموثق المتقدم إلي أن الناصب أنجس من الكلب لا

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 5.

ص: 147

______________________________

يكفي الدلالة علي كون العلة هي نجاسة الماء، إذ هو لا ينافي الخباثة بالمعني الذي ذكرنا، نظير ما تضمنته بعض هذه النصوص «1» من أن ولد الزنا لا يطهر إلي سبعة آباء.

و لا سيما مع ظهور بعض هذه النصوص في الكراهة، كخبر محمد بن علي بن جعفر عن الرضا عليه السّلام: «قال: من اغتسل في الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومن إلا نفسه. فقلت لأبي الحسن: إن أهل المدينة يقولون: إن فيه شفاء من العين. فقال: كذبوا. يغتسل فيه الجنب من الحرام و الزاني و الناصب الذي هو شرهما و كل من خلق اللّٰه ثمَّ يكون فيه شفاء من العين!» «2».

فالعمدة في الاشكال في الاستدلال بالنبوي المذكور ما تقدم في الفرع السابق من ان المتيقن منه الدفع. مضافا إلي ضعف سنده، كما تقدم أيضا.

و دعوي: انجباره في المقام بعمل من عرفت، خصوصا مع ما عن السرائر من دعوي الإجماع عليه.

مدفوعة: بعدم وضوح الاعتماد منهم عليه بنحو يكفي في جبره، إذ ما ادعاه في السرائر أنكره عليه في المعتبر، و ظاهر ما نقله في المعتبر عن المرتضي اعتماده علي الوجهين الأولين، لا علي النبويّ.

و القاضي في الجواهر و إن ذكر النبوي، إلا أنه ذكر أيضا أن الطاهر لا ينجس لصيرورته كرا، و النجس يطهر للإجماع علي عدم اختلاف الماء الواحد، و ظاهره عدم تطبيق الكر علي مجموع الماء، و إلا لكان النبوي دالا علي ارتفاع نجاسة النجس بلا حاجة إلي الإجماع، و من ثمَّ لا يبعد كون مراده بالخبر الذي نقله مضمون الرواية المشهورة المختصة بالدفع، خصوصا مع ظهور كلامه في نسبة الخبر لهم عليهم السّلام لا للنبي صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم، كما تقدم التنبيه له في الفرع السابق.

و أما بقية من ذهب إلي هذا القول فلا يتيسر لنا الاطلاع علي كلامهم، حتي

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

ص: 148

______________________________

نعلم اعتمادهم علي النبوي.

علي أن اعتماد هذا المقدار لا يكفي في جبره. و لا سيما مع ما تقدم في الفرع السابق من احتمال كون منشأ ذكرهم للخبر ذهابهم إلي اتحاد مضمونه مع مضمون الرواية المشهورة، كما احتمله في المعتبر أيضا.

و بالجملة: لا طريق لتحصيل الاعتماد بالمقدار الجابر لضعف سند النبوي بنحو ينهض بالاستدلال به في المقام.

هذا، مضافا إلي بعد القول المذكور بلحاظ ما تستلزمه أدلته من طهارة النجس المتمم كرا بالماء المضاف الطاهر أو النجس إذا لم يسلبه إطلاق اسم الماء.

بل لازمه كفاية التتميم بعين النجاسة كالبول مع ذلك، و إن لم يظهر منهم الالتزام بذلك. و اللّٰه سبحانه ولي التوفيق و التسديد.

الثامن: إذا حدثت الكرية و الملاقاة في آن واحد فهل يحكم بطهارة الماء و اعتصامه أو بانفعاله؟ وجهان، بل قولان.

الأقوي الأول، كما صرح به السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي، و وافقه جمع من شراحها و محشيها، منهم سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و قوي بعض الأعاظم قدّس سرّه الثاني، و وافقه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) و بعض المعاصرين قدّس سرّه. و توقف آخرون.

و قد استدل للقول بالطهارة و الاعتصام بإطلاق أدلة اعتصام الكر الشامل للملاقاة المقارنة و اللاحقة.

و ما قيل من لزوم تقدم الموضوع علي الحكم.

مدفوع: بأن اللازم تقدم الموضوع رتبة لا زمانا، بل يستحيل تقدمه زمانا لاستلزامه تخلف الحكم عن موضوعه الذي هو محال، كتخلف المعلول عن علته.

هذا، مضافا إلي ما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه من ارتكاز كون الكرية من سنخ المانع عن الانفعال، و يكفي في تأثير المانع مقارنته للمقتضي حدوثا، و لا أثر لسبقه عليه.

ص: 149

______________________________

ثمَّ إنه لو فرض لزوم تقدم الموضوع زمانا، فكما تكون الكرية موضوعا للاعتصام بمقتضي المنطوق أو غيره من نصوص الكر، كذلك يكون عدمها موضوعا للانفعال بمقتضي المفهوم أو غيره من أدلة انفعال القليل، فلا بد من وجوده حينه، و لا يكفي سبقه عليه مع ارتفاعه حينه، فتكون صورة التقارن خارجة عن عموم الحكمين، و المرجع فيها استصحاب الطهارة.

و لا مجال لتوهم الرجوع فيها لعموم انفعال الماء بملاقاة النجاسة، فإن العموم المذكور- لو فرض تحصيله من غير أدلة الكر- مخصص بنصوص اعتصام الكر، فيكون موضوع الانفعال مقيدا بما لا يكون كرا، فيجري فيه ما تقدم.

نعم، لو كان المستفاد من أدلة الاعتصام أن موضوعه سبق الكرية، بأن يكون اعتبار السبق لأخذه في الموضوع زائدا علي الكرية، لا لكونه من لوازم موضوعية الكر، اتجه كون موضوع الانفعال هو عدم سبق الكرية، فيشمل صورة التقارن، و يتعين البناء فيها علي النجاسة.

لكن لا مجال لذلك، بل هو خلاف إطلاق النصوص الظاهرة في موضوعية الكرية لا غيرها. و ربما يرجع ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه في المقام إلي ذلك، و إن كانت عبارته لا تساعد عليه. فراجع و تأمل جيدا.

هذا، و قد يستدل علي النجاسة.

تارة: بانصراف نصوص الاعتصام إلي سبق الكرية، فمع عدم سبقها يتعين الانفعال.

و اخري: بما عن شيخنا الأستاذ من أن كلّا من الكرية و النجاسة قد وقعا علي الماء القليل، و مقتضي عموم انفعال القليل انفعاله في المقام و إن حصلت معه الكرية.

و يندفع الأول: بأنه لا منشأ للانصراف المذكور إلا الترتب بين الكرية و الاعتصام في الأدلة، و هو كسائر موارد الترتب بين الموضوع و حكمه لا يقتضي التقدم الزماني، بل الرتبي، و لو اقتضي التقدم الزماني لم ينفع، كما تقدم.

ص: 150

______________________________

أما استفادة أخذ التقدم زائدا علي الكرية في موضوع الاعتصام فمما لا مجال له، كما تقدم.

و غاية ما يدعي هو إجمال نصوص اعتصام الكر بالإضافة إلي هذه الصورة و عدم وضوح شمولها لها، و هو يقتضي إجمال عموم الانفعال أيضا بالإضافة إليه، لانحصار الدليل علي العموم المذكور بالنصوص المذكورة، الدالة بمنطوقها علي الاعتصام و بمفهومها علي الانفعال، و إجمال المنطوق مستلزم لإجمال المفهوم.

نعم، لو كان لأدلة الانفعال الأخري إطلاق حجة يشمل الكثير اتجه لزوم الاقتصار في الخروج عنه علي المتيقن من أدلة الاعتصام، المفروض خروج محل الكلام عنه.

لكن لا وجود للإطلاق المذكور، لاختصاص نصوص الانفعال الأخري بما هو ظاهر في القلة، كالإناء و نحوه، و لو فرض وجوده كان معارضا ببعض إطلاقات عدم الانفعال المشار إليها في أدلة القول بطهارة القليل، فالمرجع في المقام بعد فرض إجمال نصوص الكر إما إطلاقات عدم الانفعال المشار إليها، أو استصحاب الطهارة. و يأتي في أواخر الفرع اللاحق و في أوائل المسألة السابعة عشرة ما له نفع في المقام.

و يندفع الثاني: بأن الملاقاة في المقام ليست للقليل بما هو قليل، لفرض مقارنتها للكرية الحاصلة بعد القلة، بل لذات الماء المسبوق بالقلة، و معني ورود الكرية علي القليل ذلك، لا كون القليل بما هو قليل معروضا للكرية، لاستحالة كون أحد الضدين معروضا للآخر، و المعتبر في الانفعال هو ملاقاة القليل بما هو قليل، إذ لا بد في الموضوع من تحققه حين الحكم، و لا يكفي سبقه عليه و إن كان متصلا به، كما تقدم.

التاسع: إذا شك في كرية الماء بنحو الشبهة الموضوعية، فقد صرح في المعتبر، و القواعد، و جامع المقاصد، و كشف اللثام بانفعاله بملاقاة النجاسة، و هو المحكي عن التذكرة، و النهاية، و التحرير، و الدلائل، و مجمع الفوائد، و عن محكي

ص: 151

______________________________

الذخيرة: «و لم أر تصريحا بخلافه».

و عن الذخيرة الإشكال فيه، و الميل إلي الرجوع لأصالة الطهارة في الماء، و عن المنتهي احتمال الرجوع لاستصحابها.

و الكلام. تارة: مع عدم العلم بسبق الكرية أو القلة في الماء، إما لفرض العلم بوجوده دفعة أو للجهل بحالته السابقة.

و اخري: مع العلم بذلك.

أما مع عدم العلم بسبق الكرية أو عدمها في الماء فقد يستدل عليه بما في كشف اللثام من أن الأصل عند ملاقاة النجس التنجيس.

لكن لا يخفي أن المراد بالأصل المذكور.

تارة: هو عموم الانفعال بملاقاة الماء.

و اخري: الأصل الظاهري في ظرف الشك و عدم الدليل.

أما الأول فهو مخصص بأدلة الكر فلا يجوز الرجوع إليه مع الشك في الكرية بناء علي التحقيق من عدم حجية العام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص.

و أما ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من اختصاصه بما إذا دار الخاص بين المتباينين، كما لو خصص عموم وجوب إكرام العلماء بدليل حرمة إكرام زيد، و تردد زيد بين شخصين، أما لو دار بين الأقل و الأكثر- كما في المقام، حيث يكون هناك أفراد متيقنة الكرية غير المشكوك- فالعام حجة في الافراد المشكوكة، لأنه يكفي في ثبوت حكم العام عدم العلم بثبوت حكم الخاص.

فلا مجال له، لأن العام قد خرج منه عنوان الخاص الواقعي، فحكمه مشروط بعدم ثبوت حكم الخاص واقعا، و لا يكفي فيه الشك في ثبوت حكمه، بل اللازم الرجوع فيه للأصول التي يختلف مؤداها. علي أن الأمر في المقام قد يدور بين المتباينين، كما لو علم بكرية أحد المائين و قلة الآخر. فتأمل.

هذا، و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من الإشكال في ذلك بعدم ثبوت كون الانفعال هو مقتضي العموم، بل قد يدعي أن الاعتصام هو مقتضي العموم، كما

ص: 152

______________________________

يشهد به النبوي المشهور و بعض النصوص المتقدمة إليها الإشارة في أدلة القول بطهارة الماء القليل، بل هو الذي أصر عليه شيخنا الأستاذ.

فلا يخلو عن تأمل، لعدم حجية النبوي، كما تقدم عند الكلام في أدلة عموم طهارة الماء.

و أما النصوص المذكورة فهي لا تتضمن الحكم بعموم الاعتصام للماء، بل اعتصام بعض المياه الخاصة، كالماء الذي يمر به الرجل في الطريق و نحوه، و استفادة العموم منها إنما هي بعدم الاستفصال، فتكون محكومة لمثل صحيح ابن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العذرة ثمَّ تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء» «1»، لظهوره في التحديد العنواني، و أن حكم الكر من سنخ المستثني من عموم الانفعال، بنحو يلزم بحمل تلك النصوص علي أن الحكم بالطهارة فيها لفرض تحقق عنوان الخاص فيها و هو الكرية، لا لعموم الاعتصام، بل هو المناسب لجميع نصوص الكر، لمناسبة إناطة الطهارة بالعنوان الوجودي لكونه هو الخاص، و التنجيس هو مقتضي العموم في الماء، كما هو مقتضاه في غيره.

نعم، التخصيص في العموم المذكور لما كان متصلا فالقول بحجية العام معه في الشبهة المصداقية أضعف منه مع التخصيص المنفصل، كما حقق في محله.

فلاحظ.

و أما الثاني فقد يقرب بوجوه.

الأول: ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الملاقاة من سنخ المقتضي للانفعال، و الكرية مانع منه، و مع تحقق المقتضي لا يرفع اليد عن مقتضاه إلا مع العلم بالمانع و إن لم يحرز عدم المانع بالاستصحاب.

و لعل ذلك هو المراد بما في جامع المقاصد من أصالة عدم المانع في ظرف تحقق المقتضي، و هو الذي نقل عنهم في محكي الذخيرة تعليل البناء علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 153

______________________________

الانفعال به، فإنه لا يبعد كون مرادهم عدم الاعتناء باحتمال المانع، لا استصحاب عدمه، ليعتبر فيه شروط الاستصحاب.

و قد استشكل فيه بعض المعاصرين رحمه اللّٰه بعدم وضوح كون الكرية من سنخ المانع من الانفعال، بل لعلها موجبة لقصور اقتضاء الملاقاة عنه، نظير قصور قليل الدم عن تغيير الماء الكثير.

و فيه: أن الظاهر قابلية الكر لأن يتأثر بالنجاسة، و قابلية النجاسة للتأثير فيه، و لذا يتحقق ذلك فعلا مع تفرق أجزاء الماء مهما كان كثيرا، و ليس اجتماع أجزاء الكثير ارتكازا موجبا لتبدل الخاصية الذاتية في الماء أو النجاسة، بل ليس هو إلا أمرا خارجا عن الذات من سنخ المانع ارتكازا عن فعلية التأثير مع تحقق القابلية، فتحقق موضوع قاعدة المقتضي في المقام قريب جدا للمرتكزات.

و العمدة في الاشكال ما ذكره غير واحد من عدم ثبوت قاعدة المقتضي بنحو مطلق، فإنه و إن بني العرف علي مقتضاها في كثير من الموارد- كالشك في القرينة الصارفة عن مقتضي الظهور الاولي، و الشك في التعذر و الحرج المسقطين للتكليف و غير ذلك- إلا أنه لا طريق لإحراز عموم البناء عليها شرعا و عرفا بنحو يمكن الاعتماد عليها في المقام.

إلا أن ترجع إلي استصحاب عدم المانع، فيلزم النظر في تمامية شروط الاستصحاب في المقام علي ما يأتي إن شاء اللّٰه تعالي.

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه، و وافقه فيه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في ظاهر كلامه من أن تعليق الحكم الترخيصي تكليفيا كان- كالحل- أو وضعيا- كالطهارة- علي عنوان وجودي- كالكرية- ملازم عرفا لعدمه ظاهرا عند عدم إحرازه، فإن لم تحرز الكرية في المقام لا مجال للبناء علي الطهارة و الاعتصام.

و فيه: أنه لا منشأ ظاهرا لما ذكره، سواء أراد به دلالة الجعل المذكور عرفا علي إيجاب الاحتياط شرعا تخصيصا لأدلة البراءة و قاعدة الطهارة و نحوهما، أو علي التعبد شرعا بعدم الحكم أو بعدم الموضوع عند عدم إحرازه، أم أراد به بناء

ص: 154

______________________________

العرف علي الاحتياط أو أصالة عدم الحكم أو الموضوع فيكون ذلك أصلا ثانويا عقلائيا، نظير أصالة عدم القرينة، فإنه علي جميع التقادير لا دليل علي ما ذكره، خصوصا مع التفريق بين الحكم الترخيصي و الإلزامي، كما أوضحنا، في مبحث الشبهة الموضوعية التكليفية. فراجع.

و أشكل من ذلك ما نسبه إليه بعض المعاصرين رحمه اللّٰه من دعوي ظهور تعليق الحكم مطلقا و إن كان إلزاميا علي العنوان الوجودي في كونه معلقا واقعا علي إحرازه، لا علي وجوده الواقعي، فمع فرض عدم إحرازه لا يتحقق الموضوع واقعا.

إذ فيه: أن ذلك خلاف ظاهر أخذ العنوان، فلا بد عليه من قرينة خاصة مفقودة في المقام و في أكثر الموارد. علي أنه مخالف لما في تقرير درسه قدّس سرّه و نسبه إليه غير واحد، من اختصاص ذلك بالحكم الترخيصي أولا، و من كونه حكما ظاهريا ثانيا. فراجع.

الثالث: أن مقتضي الاستصحاب عدم الكرية، و عمدة تقريبه وجهان.

الأول: ما ذكره بعض مشايخنا من ظهور جملة من الآيات في أن المياه كلها نازلة من السماء، و قد ذكر في علم الطبيعة الحديث أن أصل مياه الأرض هو المطر، و عليه يقطع بأن المياه الموجودة كلها مسبوقة بالقلة، لأنها نزلت علي شكل قطرات و لم تكن كرا، فيستصحب عدم الكرية لكل ماء مشكوك الكرية، للعلم بعدم كريته سابقا حين وجوده.

نعم، لا يتم ذلك فيما لو علم بطروء الكرية و القلة علي الماء، و شك في السابق منهما.

و فيه: - بعد الغض عما تقدم في أدلة عموم مطهرية الماء من التشكيك في أن المطر أصل لجميع مياه الأرض- أنه لا ريب في كون الكرية من المقادير التي لا يفرق فيها بين اتصال الأجزاء و تفرقها.

نعم، لا إشكال في عدم كفاية ذلك في الاعتصام، بل لا بد من اتصال الأجزاء المقومة لوحدة الماء عرفا، فالكرية شرط في اعتصام الماء الواحد المتصل

ص: 155

______________________________

بعضه ببعض.

و لا يخفي أن المتيقن سابقا للماء الواحد المشكوك حاله ليس هو القلة، بل تفرق الأجزاء، و المفروض العلم بعروض الواحدة عليه، و انتقاض حاله السابق، و أما كميتة فهي لم تتغير قطعا، بل يشك فيها من أول الأمر، فلا يعلم بسبق عدم الكرية له حتي يستصحب.

الثاني: استصحاب عدم الكرية في الماء، بلحاظ حال ما قبل وجوده، بناء علي ما هو الظاهر من جواز الرجوع لاستصحاب العدم الأزلي، لأن الكرية أمر زائد علي وجود الماء و إن كانت مقارنة له، فيستصحب عدمها، لليقين به قبل وجود الماء.

و قد يشكل: بأن الكرية لما كانت من سنخ المقادير المنتزعة من نفس الأجزاء المجتمعة في الوجود لم يكن لها حالة سابقة حتي بلحاظ حال ما قبل وجود الماء، لانتزاعها من مقام ذات الموجود الخارجي التي لا يعقل انفكاكه عنها و لا سلبها عنه حتي قبل وجوده، و ليست منتزعة من أمر زائد علي ذات الماء الموجود عارض لوجوده، كالبرودة و الحرارة، ليصح سلبها عنه بلحاظ حال ما قبل وجوده، فكما لا يصح سلب العشرة عن العشرة بلحاظ حال ما قبل وجودها، لأن عنوان العشرة منتزع من واقع ذواتها مع قطع النظر عن وجودها، كذلك لا يصلح سلب الكرية عن الكر بلحاظ ما قبل وجوده، و كذا الحال في جميع العناوين المنتزعة من المقادير و الكميات.

و بعبارة أخري: المقصود سلب الكرية أزلا عن الماء الخارجي، فلا بد من كون موضوع النسبة السلبية نفس ذلك الماء لا بقيد وجوده، و من الظاهر أن الماء المذكور متقوم بأجزائه المقومة لكميته، فإن كانت أجزاؤه بقدر تنتزع منه الكرية لم يصح سلب الكرية عنه أزلا، لأن تقومه بأجزائه لا يناط بوجوده، بل هو تابع لذاته.

و إلي هذا يرجع ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه، و حكي عن بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

ص: 156

______________________________

و ليس المراد بذلك أنها من عوارض ماهية الماء، ليدفع- كما عن بعض مشايخنا- بأنه لم يؤخذ في ماهية الماء كمّ خاص، بل هي تصدق علي القليل بعين صدقها علي الكثير.

فإن الكمّ و إن لم ينتزع من مقام ماهية الماء الكلية، إلا أنه منتزع من واقع الفرد الموجود بلحاظ سعته، و ليس المقصود إلا سلب الكرية عنه، لا عن الماهية المذكورة.

كما لا مجال للإشكال عليه بما يرجع إلي ما سبق من بعض مشايخنا من أن الكرية منتزعة من اتصال الأجزاء و اتحادها التابع لوجودها لا لذاتها.

لما تقدم من اندفاعه: بأن اتصال الأجزاء لا دخل له في الكرية، بل هو مقوم لوحدة الماء عرفا، و المفروض حصوله، بل هي منتزعة من الكمّ و المقدار المتقوم بالأجزاء لا بقيد الاتصال.

نعم، لو كانت الكرية منتزعة من نفس الوزن و المساحة كان استصحاب عدمها الأزلي متجها، لوضوح أنهما نحو نسبة قائمة بوجود الماء.

لكن الظاهر أن التحديد بهما لمحض التقدير و بيان الكمّ، فهما معرفان للكر، لا مقومان له، و ليس المقوم له إلا الكمّ المنتزع من واقع الفرد الموجود من الماء المتقوم بأجزائه.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال لحمل الوزن و المساحة علي محض التقدير و التعريف بلحاظ كمية الماء المتقومة بأجزائه، بل الظاهر دخلهما في موضوع الكرية الموضوعة للأحكام بنفسهما، و لذا لو طرأ علي الكر ما يوجب نقص مساحته، كالبرودة الموجبة لتقلصه خرج عن الاعتصام، كما أنه لو طرأ علي القليل ما يوجب سعة مساحته، كالحرارة الموجبة لتمدده، حصل له الاعتصام، مع عدم تبدل كمية أجزائه و عدم تغير واقعها [1].

______________________________

[1] من هنا يتضح أن الكرية و جميع الأوزان و المكاييل إما أن لا تكون من الكميات، أو يراد بالكمية ما لا ينتزع من خصوص ذات الموجود، بل مما زاد عليها من حيثيات و إضافات. منه عفي عنه.

ص: 157

______________________________

بل لعل مثل ذلك ما لو اختلط بالماء ما يوجب تبدل وزنه أو مساحته مع استهلاكه فيه و عدم خروجه عن إطلاق الماء عرفا، فان الوزن و المساحة و إن كانا قائمين بالأمر المختلط بالماء حقيقة كقيامهما بالأجزاء المائية، إلا أنهما منسوبان عرفا للماء، بحيث يكون الأمر المختلط موجبا عرفا لتبدل وزن الماء أو مساحته مع عدم محافظة الماء علي أجزائه و عدم تبدلها.

و عليه ليست الكرية منتزعة من واقع الأجزاء المائية، ليمتنع استصحاب عدمها عند الشك، بل من الوزن و المساحة المتقومين بنحو من النسبة المتقومة بوجود الماء، لا بذات الماء الموجود، فعنوان الكر لا يحكي عن واقع الأجزاء نحو حكاية عنوان العشرة، بل عن نحو من نسبة قائمة بوجود الأجزاء ينتزع منها المساحة و الوزن لا واقع لها قبل وجود الماء الخاص، فيصح أن يستصحب عدمها الأزلي بلحاظ حال ما قبل وجود الماء، فان الماء قبل وجوده و إن لم ينسلخ عن إجزائه، إلا أنه منسلخ عن الوزن و المساحة، فيصح سلبهما عنه، كما يصح سلب سائر العوارض القائمة بالوجود، كالبرودة و الحرارة.

هذا حاصل ما يوجه به استصحاب العدم الأزلي في المقام، فإن تمَّ لزم البناء علي عدم الاعتصام، و إن كان اللازم التأمل، لاحتمال كون ذلك مبنيا علي النظر الدقي الذي لا يعول عليه في الاستصحاب، بل المعوّل فيه علي الموضوع الحقيقي بنظر العرف الذي قد يساعد في المقام علي كون الكرية من سنخ الكم المنتزع من واقع الأجزاء بذواتها. و منه سبحانه و تعالي نستمد العون و التوفيق.

هذا كله مع عدم العلم بالحالة السابقة، و أما معه فقد صرح غير واحد باستصحابها، سواء كانت هي الكرية أم عدمها، بل يظهر من بعضهم أنه من المسلمات.

و هو في محله بناء علي ما اشتهر في العصور المتأخرة من أن المعيار في موضوع الاستصحاب علي التسامح العرفي، لأن موضوع القضية المشكوكة و إن اختلف عن موضوع القضية المتيقنة حقيقة، لتقومه بأجزائه، و المفروض أن الشك

ص: 158

______________________________

في الكرية و عدمها بعد اليقين بأحدهما إنما يكون غالبا لزيادة الأجزاء أو نقصها، إلا أن العرف بنظره المسامحي قاض باتحاد الماء و أن القلة و الكثرة حالتان طارئتان علي الموضوع الواحد، كالحرارة و البرودة.

نعم، لا بد من كون الزيادة أو النقيصة بمقدار يتسامح فيه عرفا لقلته بالإضافة إلي الماء المتيقن الحال، بحيث يصدق عرفا: كان هذا الماء كذا، أما لو كان بمقدار يعتد به عرفا، بحيث لا يصح نسبة الحال المتيقنة سابقا لنفس الماء المشكوك عرفا، فلا مجال للاستصحاب، لتعدد الموضوع.

لكن أشرنا في الفرع السادس و غيره إلي عدم العبرة بالتسامح العرفي، بل لا بد من البقاء الحقيقي لما هو الموضوع عرفا، و من الظاهر قيام الكثرة و القلة بنظر العرف بالماء بحسب حدوده الخارجية المتقومة بأجزائه بمجموعها بشرط عدم لحاظ غيرها معها، بحيث يكون ذلك مقوما للمعروض، و لا يتبدل الحال إلا بتبدل المعروض، و ليستا كالحرارة و البرودة موضوعهما الذات الخارجية بنفسها لا بمجموعها، بنحو لا يوجب معه نقصها أو زيادتها تبدلا في المعروض.

و إطلاق البقاء فيما نحن فيه مع الزيادة أو النقصان مبني علي التسامح، نظير تسامحهم في إطلاق الرطل علي ما نقص عنه أو زاد عليه قليلا، و لا عبرة به في جميع الموارد، و منها الاستصحاب.

نعم، لو احتمل تبدل الحالة السابقة لبعض الطوارئ من دون تبدل في أجزاء الماء، كالحرارة الموجبة لسعته، و البرودة الموجبة لتقلصه، أمكن الاستصحاب بلا إشكال، لبقاء الموضوع حقيقة.

بل لا يبعد ذلك فيما لو كان التبدل المحتمل لإضافة أمر آخر غير الماء- كالملح- مستهلك فيه عرفا أو لاستخراجه منه بتصفية دقيقة و نحوها مما لا يوجب تبدل الموضوع العرفي للقلة و الكثرة عرفا، و هو الماء، و إن أوجب تبدل الموضوع الدقي، لقيام الوزن أو المساحة بذلك كقيامه بالماء حقيقة، لكن العرف يغفل عن دخل ذلك، بحيث لا يكون إطلاق الوصف علي الماء و الحكم

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 160

ص: 159

______________________________

باستمراره فيه تسامحيا مجازيا، بل يكون حقيقيا، نظير إطلاقهم الحنطة علي ما يكون منها مختلطا بقليل من التراب، فان مثل ذلك مغتفر في موضوع الاستصحاب، علي ما حقق في محله.

و هذا بخلاف ما إذا أضيف له أو أخذ منه شي ء من الماء، لعدم الفرق بين المضاف و المضاف إليه، و المأخوذ و المأخوذ منه في قيام الكرية و القلة بهما عرفا، بحيث يكون صدق البقاء معهما تسامحيا لا حقيقيا.

فلا يجري الاستصحاب بلحاظ الحال السابق، بل يتعين الرجوع لاستصحاب العدم الأزلي بالتقريب المتقدم الذي لا يفرق فيه بين العلم بسبق الكرية و العلم بعدمها و تعاقب الحالتين- لزيادة الماء و نقصه- و عدم العلم بالحالة السابقة أصلا كما قد يظهر بالتأمل.

ثمَّ إنه لو فرض عدم استصحاب الكرية و لا عدمها، لعدم جريان استصحاب العدم الأزلي، المشار إليه فيقع الكلام في مقتضي الأصل في الماء حينئذ، و أنه هل يلزم ترتيب أحكام القلة أو الكرية؟

الظاهر أنه يختلف باختلاف الأحكام المذكورة.

توضيح ذلك: أن ما قيل بامتياز الكر فيه عن غيره من الأحكام خمسة.

الأول: عدم الانفعال بملاقاة النجاسة.

الثاني: تطهير الماء النجس باتصاله أو امتزاجه به.

الثالث: تحقق التطهير به مع ورود المتنجس عليه، بناء علي اختصاص ذلك بالكر، و أنه لا بد في القليل من وروده علي النجاسة.

الرابع: كفاية استيلاء الماء علي المتنجس في تطهيره به، حتي في مثل الفراش و الثوب، و لا يحتاج معه للعصر و نحوه، حيث قيل بذلك في الكر، بخلاف القليل.

الخامس: عدم اعتبار التعدد فيه، حتي في مثل النجاسة بالبول، و في الإناء، و نحوهما مما يحتاج إلي التعدد في القليل.

ص: 160

______________________________

أما الأول: فاللازم البناء عليه في المقام، لاستصحاب الطهارة أو أصالتها، بعد فرض عدم أصل حاكم عليها يقتضي الانفعال.

و لا مجال لتخيل الرجوع فيه لاستصحاب الاعتصام أو الانفعال لو فرض العلم بحال الماء سابقا. بدعوي: ان امتناع استصحاب الكرية أو عدمها لتبدل الموضوع لا ينافي صحة استصحاب الحكم لأنه قائم بذات الماء لا بمجموع الأجزاء و هي لا تتبدل بزيادة الماء و نقصه.

لاندفاعه: بأن الاعتصام و الانفعال ليسا من الأحكام الفعلية الثابتة للماء، بل هما منتزعان من تنجسه بالملاقاة و عدمه، فمرجع الاستصحاب في الحقيقة إلي استصحاب النجاسة علي تقدير الملاقاة أو عدمها علي تقديره، الذي هو من الاستصحاب التعليقي الذي لا يجري علي التحقيق، و لا سيما في مثل المقام مما لم تكن القضية التعليقية مصرحا بها في الأدلة و انما استفيدت ضمنا. فلاحظ.

و أما الثاني: فلا مجال للبناء عليه في المقام، بل يلزم البناء علي استصحاب نجاسة الماء النجس مع استصحاب طهارة مشكوك الكرية، و إن لزم منه اختلاف الماء الواحد في الحكم الظاهري مع الامتزاج، فضلا عن عدمه، لعدم ثبوت الإجماع علي اتحاد الماء الواحد في الحكم الواقعي، فضلا عن الظاهري، كما تقدم في مسألة تتميم النجس كرا.

نعم، تقدم هناك حكومة استصحاب النجاسة لفرض عدم كرية الطاهر، و لا مجال له هنا بعد فرض عدم إحراز ذلك.

لكن لا يبعد حكومته بعد الامتزاج لاستلزامه تقطع الماء الطاهر بالنجس المستلزم لتنجسه به، لعدم عاصمية بعضه لبعض حتي لو كان كرا.

و لا أقل من لغوية الحكم بطهارته، لعدم الانتفاع به مع امتزاجه بالنجس، كما تقدم نظير ذلك في مسألة المتمم و في أواخر المسألة الرابعة.

نعم، لو فرض قلة النجس بنحو يستهلك في مشكوك الكرية قبل أن يوجب تقطعه لم يبعد البناء علي طهارته بالاستهلاك المذكور، كما ذكره بعض مشايخنا.

ص: 161

______________________________

و لا أقل من عدم كونه مانعا من استصحاب مشكوك الكرية حينئذ.

و أما الثالث: فقد ذكر غير واحد لزوم البناء علي عدمه، للشك في تحقق سبب التطهير، فتستصحب نجاسة المتنجس و إن لم يحكم بانفعال الماء به. و العلم بكذب أحد الاستصحابين غير ضائر بعد عدم لزوم مخالفة عملية منه.

لكن يظهر من صاحب الجواهر قدّس سرّه تقريب حصول التطهير بذلك، قال في نظير المقام بعد أن أشار إلي المنع من التطهير عملا بالأصل المتقدم: «علي أنه يمكن القول به أيضا، لأنه ليس لنا ماء لا ينجس بملاقاة المتنجس، و مع ذلك لا يطهر المتنجس بالغسل فيه، بل الحكم بطهارته مع وضع المتنجس فيه، و تحقق الغسل كاف في الحكم بالتطهير به. فتأمل جيدا».

و كأنه أشار بذلك إلي أن عدم التطهير مع ورود الماء المتنجس علي الماء القليل ليس لمجرد عدم كونه كرا، بل لانفعال الماء بالمتنجس المانع من تطهيره له، فهو من أحكام الانفعال الذي هو من أحكام عدم الكرية، لا من أحكام عدم الكرية ابتداء، فإذا فرض عدم إحراز موضوع الانفعال- و هو عدم الكرية- في الماء و استصحاب طهارة الماء بعد وقوع المتنجس فيه، كان الاستصحاب المذكور حاكما علي استصحاب نجاسة المتنجس، لأنه محرز لشرط تطهير الماء له، فيقتضي ارتفاع نجاسته بغسله فيه.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) من امتناع الحكومة في المقام، لأن جريان استصحاب طهارة الماء مسبب عن الشك الناشئ من وقوع المتنجس في الماء، فلا يعقل حكومة تلك الطهارة علي بقاء نجاسة المتنجس.

فلم يتضح المراد به، إذ لو أراد امتناع حكومة المسبب علي السبب، ففيه: - مع أن لازمه حكومة استصحاب نجاسة الثوب علي استصحاب طهارة الماء، عكس ما ذكرنا، لا العمل بكل من الاستصحابين في مورده، كما ادعاه هو و غيره- أن طهارة الماء المستصحبة ليست مسببة عن بقاء نجاسة المتنجس، التي ندعي حكومتها عليها، بل عن وقوعه في الماء.

ص: 162

______________________________

مع أن تسببها عن وقوعه في الماء ليس شرعيا، بل خارجي، لأن الحكم بها مسبب عن الشك، المسبب خارجا عن الوقوع المذكور، و المعيار في تحاكم الأصول التسبب بين مؤدياتها شرعا.

اللهم إلا أن يريد أن الشك في طهارة الماء كما ينشأ عن الشك في كريته كذلك ينشأ عن نجاسة ملاقية، فلا يعقل حكومة استصحابها علي استصحاب نجاسته.

لكن يدفعه: أن الشك في طهارة الماء إنما ينشأ من نجاسة الملاقي في رتبة الملاقاة، و هي متيقنة لا معني لحكومة استصحاب طهارة الماء عليها، و المدعي إنما هو حكومته علي استصحاب نجاسته بعد الملاقاة التي هي مشكوكة، و لا دخل لها في الشك في طهارة الماء.

و إن أراد أن الشك في بقاء طهارة الماء و الشك في بقاء نجاسة المتنجس مسببان عن أمر واحد، و هو وقوع المتنجس في الماء، فلا مجال لحكومة الأصل في أحدهما علي الأصل في الآخر، نظير ما تقدم منه في مسألة تتميم النجس كرا.

ففيه: أن تسبب الشك في تطهير المتنجس عن وقوعه في الماء في طول تسببه عن الشك في بقاء طهارة الماء، فمع فرض إحراز طهارة الماء بالاستصحاب يتعين حكومة الاستصحاب المذكور علي استصحاب نجاسة المتنجس، للسببية بينهما، كما ذكرنا.

نعم، لو كان عدم تطهير الثوب بوقوعه في غير الكر من أحكام غير الكر في عرض الحكم بنجاسته امتنعت الحكومة في المقام، لعدم السببية بين المؤديين.

لكنه خلاف الظاهر، علي ما يتضح في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

و أما الرابع: فيظهر الكلام فيه مما تقدم في الثالث، و لا يبعد أن يكون منشأ التفصيل فيه بين الكر و غيره هو تنجس الملاقي مع عدم الكرية و طهارته معها، فمع فرض استصحاب طهارة الماء في المقام يتعين الاكتفاء باستيلائه، كما في الكثير.

و تمام الكلام في محله، إذ اللازم إعمال النظر في أدلة تلك المسألة، و لا

ص: 163

______________________________

يسعه المقام.

و أما الخامس: فالظاهر عدم ترتبه في المقام، لعدم وضوح كون الاكتفاء بالمرة في الكر من أحكام طهارته و عدم انفعاله، بل هو لو تمَّ من أحكام كريته في عرض الحكم بعدم انفعاله، فاستصحاب طهارة الماء في المقام مع عدم إحراز كريته لا ينفع في إحراز الاكتفاء في التطهير به بالمرة، ليكون حاكما علي استصحاب نجاسة المتنجس، إلا بناء علي الأصل المثبت.

هذا، و لو فرض في مثل ذلك غسل المتنجس بالماء المشكوك في المرة الأولي بالغمس فلا مجال لغسله في المرة الأخري بذلك الماء، للعلم بعدم دخول تلك الغسلة في أدلة التطهير، إما لطهارة المتنجس بالغسلة الأولي، لكون الماء كرا، أو لنجاسة الماء بملاقاته له، لعدم كريته.

و دعوي: أن مقتضي استصحاب طهارة الماء تحقق التطهير به بالغسل مرتين و لو بالوجه المذكور.

مدفوعة: بأن التطهير بالغسل مرتين إنما يكون مطهرا مع طهارة الماء في المرة الثانية و بقاء نجاسة المتنجس قبلها، و الاستصحاب و إن أحرز كلا الأمرين، إلا أنه يعلم تفصيلا بكذب الاستصحاب في إحراز الأثر المشترك، و هو المطهر، بنحو لا مجال للتعبد به ظاهرا، و ليس هو كالعلم الإجمالي بكذب أحد الأصلين في مقتضاه غير المانع من العمل بهما مع عدم لزوم مخالفة قطعية لتكليف منجز.

و عليه لا يحرز تطهير المتنجس، لانحصار مطهرة بالغسل مرة في الكر، و مرتين بالماء الطاهر، و كلا الأمرين لا مجال لإحرازه في المقام، لفرض عدم إحراز الكرية، العلم بعدم الغسل مرتين بالماء الطاهر المشمول لأدلة التطهير، فيتعين غسله بغيره.

بل الظاهر لزوم غسله مرتين أيضا لا مرة واحدة، و عدم احتساب الغسلة الأولي غمسا [1] في الماء المشكوك، للعلم بعدم دخول تلك الغسلة و الغسلة

______________________________

[1] بناء علي أن الغمس في الماء القليل منجس له بنحو يمنع من التطهير به. و كذا الحال فيما بعده.

منه عفي عنه.

ص: 164

______________________________

الثانية معا في أدلة التطهير، لأن الماء المشكوك إن كان كرا خرجت الغسلة الثانية عن أدلة التطهير، و إلا خرجت الاولي عنه.

و منه يظهر أنه لو لم يكتف باستيلاء الماء في مشكوك الكرية، بأن التزم فيه بالعصر مثلا، امتنع الغسل به حتي فيما لا يحتاج إلي التعدد، للعلم بعدم دخول تلك الغسلة في أدلة التطهير، لانحصار المطهر بالغسل بالكر، و الغسل بغيره مع العصر، بنحو تبقي النجاسة بدونه، و الأول غير محرز، و الثاني معلوم العدم، للعلم بعدم دخل العصر في رفع النجاسة إما لكرية الماء [1]، أو لنجاسته بمجرد ملاقاة المتنجس، فلا ينفع الغسل به مع العصر في تطهيره. فتأمل جيدا.

و قد يظهر من جميع ما ذكرنا أنه كما يجري الأصل مع العلم بكذبه تفصيلا كذلك لا مجال لترتيب الأثر الواحد إذا استند إلي مجموع أصلين يعلم بكذب أحدهما إجمالا، لاستلزامه العلم بعدم ترتب الأثر المذكور واقعا المانع من التعبد به ظاهرا.

و كذا لا يعمل بالأصلين مع لزوم مخالفة عملية منهما و إن اختص كل منهما بالأثر و لم يشتركا في أثر واحد. و إنما يجوز العمل بالأصلين المعلوم كذب أحدهما إجمالا إذا اختص كل منهما بأثر، و لم يلزم منهما مخالفة عملية.

تذييل: ما تقدم إنما هو لو شك في الاعتصام بنحو الشبهة الموضوعية، للشك في الكرية و يناسب هنا التعرض للوظيفة العملية في الشبهة الحكمية في الاعتصام إما للشك في تحديد الكر، أو للشك في بعض الشروط المعتبرة فيه، كتساوي السطوح و نحوه، مع فرض إجمال أدلة الكر. و تظهر كثير من جهات الكلام فيه مما تقدم.

و محصله: أنه لا مجال للتمسك فيه بعموم انفعال الماء، إذ لا دليل علي العموم المذكور، إلا الحصر المستفاد من نصوص الكر، و هو مجمل بعد فرض

______________________________

[1] بناء علي أن الكر لا يحتاج فيه للعصر. منه عفي عنه.

ص: 165

______________________________

إجمال الكر و عدم تمامية الإطلاق لأدلته، فلا ينفع في مورد الشك.

بل ربما يدعي حينئذ الرجوع إلي إطلاق بعض النصوص الظاهرة في عدم الانفعال حتي في القليل، فينبغي الاقتصار في الخروج عنها علي المتيقن.

و ليست معارضة بإطلاق يقتضي الانفعال، لما أشرنا إليه في آخر الكلام في الملاقاة المقارنة للكرية من عدم ثبوت الإطلاق المذكور، لاختصاص نصوص الانفعال- غير روايات الكر- بما هو ظاهر في القلة، كالإناء و الركوة و الحب و نحوها.

اللهم إلا أن يقال: إطلاق عدم الانفعال لمّا لم يكن عنوانيا، و إنما استفيد من عدم الاستفصال فنصوص الكر مع كثرتها و وضوح مضمونها تكشف عن احتفافها بالقرينة الصارفة للكرية المغنية عن الاستفصال، كما لا يبعد كونه منصرف أكثرها، لورودها في الغدير و نحوه، فإجمال الكر يوجب إجمالها، لرجوعه إلي إجمال القرينة المحتفة بها. فالاستدلال بعمومها في مورد الإجمال في غاية الإشكال.

مع أنه إن أريد من الرجوع لعموم الاعتصام إثبات طهارة الماء، فهو غير مهم بعد وفاء الاستصحاب أو أصالة الطهارة به.

و إن أريد به إثبات جميع أحكام الكر حتي ما كان منها علي خلاف مقتضي الأصل، بدعوي: أنه لما كان الاعتصام ملازما لبقية أحكام الكر بل لنفس الكرية كان العموم الذي هو دليله دليلا عليها.

فلا مجال له، لعدم حجية العموم في اللازم المذكور عنها، لأن ملاك حجية العموم مع إجمال المخصص إنما هو عدم جواز رفع اليد عن الحجة بغير الحجة، لا كونه رافعا لإجمال المخصص، لعدم تعرضه لذلك بوجه. فتأمل جيدا.

و أما قاعدة المقتضي فقد سبق إنكارها. مع أنه لا يبعد اختصاصها- لو تمت- بما إذا شك في وجود المانع بنحو الشبهة الموضوعية، و لا تنفع في مثل المقام مما شك فيه في مانعية الموجود بنحو الشبهة الحكمية.

و مثلها ما سبق عن بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن تعليق الترخيص أو مطلق الحكم علي عنوان وجودي ملازم عرفا لعدمه ظاهرا أو واقعا عند عدم إحرازه.

ص: 166

______________________________

كما أنه لا مجال لاستصحاب الكرية أو عدمها حتي لو تمَّ في الشبهة الموضوعية، لعدم جريان الاستصحاب في المفهوم المردد، فان مرجع الشك في المقام إلي إجمال الكر العاصم، و تردده بين ما يعلم حصوله في مورد الشك و ما يعلم بعد حصوله.

و عليه يتعين الرجوع في أحكام الكر إلي مقتضي الأصول المتقدمة، كما هو ظاهر الجواهر، خلافا لما أصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من لزوم البناء علي الانفعال.

تارة: لعموم أدلته المقتصر في الخروج عنها علي المتيقن.

و اخري: لأصالة عدم السبب العاصم، فيحرز الانفعال. لاندفاعه بما أشرنا إليه من منع التمسك بعموم الانفعال في المقام. و بأنه لا مجال للرجوع لأصالة عدم السبب، لعدم أخذ عنوان السبب في أدلة الاعتصام، بل هو عنوان انتزاعي، و إنما أخذ فيها عنوان الكرية، فمع فرض إجمالها يمتنع الاستصحاب، لكونه من استصحاب المفهوم المردد. و لو فرض جواز استصحاب المفهوم المردد فهو قد يقتضي الاعتصام، كما لو كان الماء مسبوقا بما يقطع معه بالكريه.

و إن رجع كلامه إلي التمسك بقاعدة المقتضي، فقد تقدم منعه.

هذا، و يأتي في أوائل المسألة السابعة عشرة ما له نفع في المقام.

العاشر: لو كان الماء قليلا طاهرا ثمَّ علم بطروء الكرية عليه و ملاقاته للنجاسة و لم يعلم السابق منهما فظاهر المعتبر و القواعد و جامع المقاصد و كشف اللثام و غيرها طهارته مطلقا، بل ظاهر مفتاح الكرامة حيث لم يعقب كلام العلامة في ذلك المفروغية عنه، بل تقدم عن المرتضي في مسألة تتميم النجس كرا الإجماع علي ذلك.

و ينبغي الكلام تبعا لذلك في عكسه، و هو ما لو كان الماء كرا ثمَّ علم بطروء القلة و ملاقاة النجاسة عليه و لم يعلم السابق منهما. و عليه يقع الكلام في مقامين.

الأول: فيما لو كان الماء قليلا طاهرا ثمَّ علم بطروء الكرية عليه و ملاقاته

ص: 167

______________________________

للنجاسة و لم يعلم السابق منهما. و صوره ثلاث.

الاولي: أن يعلم تاريخ الكرية دون الملاقاة. و يتجه البناء فيها علي الطهارة، كما ذكره في العروة الوثقي و غير واحد من شروحها و حواشيها. لاستصحاب عدم الملاقاة إلي زمان الكرية المقتضي لاعتصام الماء.

و قد يستشكل فيه بوجوه.

الأول: ما يظهر من الآشتياني قدّس سرّه في حاشية الرسائل و غيره ممن عاصرناهم و قاربنا عصورهم من منع الاستصحاب المذكور، لأنه لا يحرز كون الملاقاة بعد الكرية إلا بالملازمة.

و فيه: أنه لا حاجة إلي إحراز كون الملاقاة بعد الكرية، بل يكفي إحراز عدم الملاقاة إلي حين الكرية، إذ لا يعتبر في عاصمية الكرية إلا طهارة الماء حينها و عدم انفعاله قبلها، كما تقدم في مسألة المتمم كرا، و الاستصحاب المذكور ينهض بإحراز ذلك. و مجرد العلم بتحقق الملاقاة لا يلزم بإحراز حالها بعد إحراز حال الماء.

و بالجملة: موضوع الاعتصام هو الكرية مع طهارة الماء و عدم نجاسته قبلها، و الأول محرز بالوجدان، و الثاني محرز بالاستصحاب المذكور.

الثاني: ما ذكره بعض مشايخنا من أن موضوع النجاسة مركب من الملاقاة و عدم الكرية، و ليس هو عبارة عن أمر منتزع من اجتماعهما، كالملاقاة المقيدة بمقارنة عدم الكرية، ليكون عدمه موردا للأثر و يجدي استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية، فالاستصحاب المذكور لا أثر له، لعدم إحرازه ارتفاع موضوع النجاسة.

و فيه: أنه إنما يتم لو أريد بالاستصحاب نفي الملاقاة الخاصة بمفاد ليس التامة، بحيث يكون عدم الكرية قيدا للملاقاة المنفية بالاستصحاب، لما ذكره من أن موضوع النجاسة ليس أمرا بسيطا و هو الملاقاة الخاصة، بل هو مركب من الملاقاة و عدم الكرية، فنفي الملاقاة الخاصة لا يجدي في نفي موضوع النجاسة.

ص: 168

______________________________

أما لو أريد بالاستصحاب نفي الملاقاة بنفسها في زمان عدم الكرية، بنحو يكون الزمان المذكور ظرفا للعدم المستصحب، فلا إشكال، لوضوح أنه لما كان موضوع النجاسة مركبا من أمرين الملاقاة و عدم الكرية، و كان الاستصحاب المذكور محرزا لعدم الأول، فهو يكفي في إحراز عدم النجاسة، كما أن إحرازه بالأصل يكفي في إحراز النجاسة.

الثالث: دعوي تبدل الموضوع، لأن الماء الذي يعلم بعدم ملاقاته للنجاسة سابقا ليس هو الماء المشكوك بتمامه، بل بعضه و هو ما عدا الزيادة التي أوجبت كريته، فلا مجال للاستصحاب بناء علي ما تقدم في الفرع السابق من عدم الاعتبار في موضوع الاستصحاب بالتسامح العرفي، و لذا تقدم المنع من التمسك باستصحاب الكرية أو عدمها في مثل ذلك.

و فيه: أن قيام الملاقاة و عدمها بالماء ليس كقيام الكرية و عدمها به، فان البعض المسبوق بالقلة يكون بنفسه معروضا للملاقاة و عدمها لا بقيد اجتماعه بغيره، و يراد استصحاب عدم الملاقاة له لا للمجموع.

نعم، الزيادة قبل الملاقاة توجب اعتصام المجموع و عدم تنجسه بالملاقاة الطارئة، كما أن الزيادة بعد الملاقاة توجب تنجس الزائد بملاقاة الماء المتنجس لا بملاقاة نفس النجاسة، و ذلك لا يستلزم تبدل الموضوع.

و هذا بخلاف الكرية و عدمها، فإنهما من الكم القائم بالماء الواحد بحده الخارجي المتقوم بالأجزاء المجتمعة بنفسها، و لا يراد بالاستصحاب إلا إثبات صفة البعض المتيقنة للكل المشكوك أو العكس، و هو مستلزم لتبدل الموضوع.

ثمَّ إن الوجوه المذكورة لو تمت فهي إنما تمنع من جريان استصحاب عدم الملاقاة في الماء، لا من جريان استصحاب الطهارة أو أصالتها فيه، بناء علي ما سبق من أن ملاقاة ما لم تحرز كريته و لا عدمها لا تقتضي الحكم بانفعاله ظاهرا، و بعد الحكم بطهارة الماء ظاهرا و العلم بصيرورته كرا يحكم باعتصامه.

نعم، بناء علي ما سبق من غير واحد من لزوم البناء في مثل ذلك علي

ص: 169

______________________________

انفعال الماء لقاعدة المقتضي أو نحوها يتعين البناء علي نجاسته في المقام حينئذ.

لكن تقدم ضعف المبني المذكور.

و منه يظهر حال دعوي معارضة استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية- لو فرض جريانه في نفسه- باستصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة- بناء علي ما ذهب اليه بعضهم من معارضة الاستصحاب في معلوم التاريخ للاستصحاب في مجهوله- فان المعارضة المذكورة- لو تمت- انما تمنع من البناء علي طهارة الماء بناء علي الحكم ظاهرا بانفعال ما لم يحرز كريته و لا عدمها، و لا تمنع منه بناء علي المختار في المسألة من الرجوع للاستصحاب أو أصالة الطهارة في الماء.

نعم، بناء علي عدم جريان استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية لأحد الوجهين الأولين و جريان استصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة يكون الاستصحاب المذكور محرزا للنجاسة و حاكما علي استصحاب الطهارة المذكور.

و هذا بخلاف ما لو كان المانع هو الوجه الثالث، فإنه- لو تمَّ- يمنع من كلا الاستصحابين، كما لو سقطا بالمعارضة.

علي أن المحقق في محله عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ بالإضافة إلي مجهول التاريخ، فلا يجري حينئذ استصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة، كي يعارض استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية، أو يحكم علي استصحاب الطهارة.

و الذي تحصل: أنه ليس لنا في المقام إلا استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية، و استصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة.

و أن القول بالطهارة يبتني علي انفراد الأول بالجريان، أو علي عدم جريانهما معا ذاتا أو من جهة المعارضة مع البناء علي أن الأصل في الماء غير المحرز الكرية و لا عدمها عدم الانفعال.

كما أن القول بالنجاسة يبتني علي انفراد الثاني بالجريان- كما ذهب إليه بعض مشايخنا- أو علي عدم جريانهما معا مع البناء علي أن الأصل في الماء غير

ص: 170

______________________________

المحرز الكرية و لا عدمها هو الانفعال.

الصورة الثانية: أن يعلم بتاريخ الملاقاة و يجهل تاريخ الكرية.

و اللازم البناء علي النجاسة- كما في العروة الوثقي و غير واحد من شروحها و حواشيها- لاستصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة غير المعارض باستصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية، بناء علي ما تقدم من عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ.

فان ظاهر أدلة الكر انفعال الماء بالملاقاة مع عدم الكرية، فمع إحراز الملاقاة بالوجدان و عدم الكرية بالاستصحاب يحرز موضوع الانفعال، و يكون حاكما علي استصحاب طهارة الماء.

و ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مبحث الأصل المثبت من الفرائد من عدم جريان الاستصحاب المذكور، لأن اللازم إحراز وقوع الملاقاة حال القلة و تقدمها علي الكرية.

لا يتضح وجهه، إذ لو رجع إلي دعوي تركب موضوع الانفعال من القلة و الملاقاة، فظاهر أدلة الكر خلافه، لظهورها في أخذ الكرية في موضوع الاعتصام، المستلزم لكون موضوع الانفعال عدمها، لا عنوان القلة، مع أنه كما يمكن استصحاب عدم الكرية الملازم للقلة يمكن استصحاب القلة بنفسها، فيخرج عن الأصل المثبت.

و إن رجع إلي دعوي: أخذ عنوان التقدم في موضوع الانفعال، بحيث لا يكون الموضوع مركبا من الملاقاة و عدم الكرية، بل هو عبارة عن الملاقاة المتقدمة علي الكرية، و الاستصحاب المذكور لا يحرز عنوان التقدم. فلا شاهد عليه من الأدلة، بل ظاهرها أخذ عدم الكرية لا غير، كما ذكرنا.

إن قلت: تقدم في الفرع السابق المنع من استصحاب عدم الكرية، لابتنائه علي التسامح العرفي في موضوع الاستصحاب، و هو غير معتد به.

قلت: إنما لا يجري استصحاب عدم الكرية لو أريد به إثبات حال تمام الماء

ص: 171

______________________________

الموجود، لإحراز انفعاله، حيث تقدم أن ما يعلم بعدم كريته حقيقة هو بعضه لإتمامه.

أما لو أريد إثبات حال خصوص البعض المتيقن عدم كريته سابقا، فلا إشكال فيه، لاتحاد الموضوع فيه حقيقة لا تسامحا، و ذلك هو المراد في المقام، حيث إن الماء الملاقي للنجاسة يعلم بعدم كريته سابقا، و يشك في اتصاله بما يوجب كريته قبل الملاقاة، فيستصحب حاله السابق المتيقن لإثبات انفعاله بالملاقاة، لا لإثبات انفعال تمام الماء، و إنما يحكم بانفعال بقية الماء لملاقاته للماء القليل المتنجس، لا لملاقاته لنفس النجاسة.

و منه يظهر أن المستصحب في الحقيقة ليس هو عدم الكرية، للعلم بعدم انقلاب الماء الملاقي للنجاسة عن حاله، بل هو عدم صيرورة الملاقي جزءا من الكر، فإن ذلك حال طارئ علي الماء قابل للشك و الاستصحاب.

و هذا بخلاف ما تقدم في الفرع السابق، فإنه بعد فرض اتحاد الماء بعضه مع بعض لا بد في انفعاله من عدم كريته بمجموعه، و لا طريق لإحراز ذلك إلا باستصحاب عدم كريته، المبني علي التسامح العرفي. فتأمل جيدا.

الصورة الثالثة: أن يجهل تاريخ الملاقاة و الكرية معا.

و اللازم البناء علي الطهارة- كما في العروة الوثقي و غيرها- لاستصحاب طهارة الماء، و لا يجري كل من استصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة، و لا استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية.

إما لعدم جريان الأصل ذاتا في كل من مجهولي التاريخ بالإضافة إلي الآخر، و إن جري في عمود الزمان- كما هو الظاهر- أو لسقوطه في كل منهما بالمعارضة للآخر- كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه- فيكون بحكم الماء المشكوك الكرية الذي تقدم في الفرع السابق أن المرجع فيه استصحاب الطهارة، و هو يقتضي في المقام الاعتصام بعد فرض تحقق الكرية.

و مما تقدم يظهر الوجه فيما ذكره غير واحد من البناء علي النجاسة في هذه

ص: 172

______________________________

الصورة، و أنه إما أن يبتني علي عدم جريان استصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية ذاتا، و جريان استصحاب عدم الكرية إلي حين الملاقاة، بناء علي جريان الأصل في مجهول التاريخ بالإضافة إلي الآخر- كما جري عليه بعض مشايخنا- أو علي أن الأصل في الماء الذي لم تحرز كريته و لا عدمها هو الانفعال لقاعدة المقتضي و نحوها. و قد تقدم ضعف كلا المبنيين.

المقام الثاني: فيما لو كان الماء سابقا كرا معتصما، ثمَّ علم بطروء القلة عليه و ملاقاته للنجاسة، و لم يعلم السابق منهما.

و صوره أيضا ثلاث.

الاولي: أن يعلم تاريخ الملاقاة و يجهل تاريخ الكرية. و قد ذكر في العروة الوثقي و غير واحد من شروحها و حواشيها أن الحكم فيه الطهارة.

و يكفي فيه استصحاب الطهارة، بل الظاهر جواز الرجوع فيه لما هو سابق عليه رتبة، و هو استصحاب الكرية إلي حين الملاقاة، الذي هو في الحقيقة عبارة عن بقاء الملاقي علي حاله السابق كرا مجتمع الأجزاء أو جزءا من كر مجتمع الأجزاء، لما أشرنا إليه في الصورة الثانية من المقام السابق، فان الشك في الحقيقة في ذلك، لا في خروج الكر عن كونه كرا.

هذا، و لا مجال لدعوي: معارضة الاستصحاب المذكور باستصحاب عدم الملاقاة إلي حين ارتفاع الكرية و حدوث القلة. لما تقدم من عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ. مضافا إلي ما يأتي في الصورة الثانية من عدم جريان الاستصحاب المذكور ذاتا.

مع أن فرض المعارضة إنما يقتضي البناء علي النجاسة بناء علي أصالة الانفعال في مشكوك الكرية، و قد تقدم المنع منه و أن المرجع فيه استصحاب طهارة الماء.

الصورة الثانية: أن يعلم تاريخ القلة و يجهل تاريخ الملاقاة. و قد حكم في العروة الوثقي بالنجاسة حينئذ، و أمضاه بعض المحشين عليها و منهم بعض

ص: 173

______________________________

الأعاظم قدّس سرّه.

و كأنه لاستصحاب عدم الملاقاة إلي حين ارتفاع الكرية و حدوث القلة، غير المعارض باستصحاب الكرية إلي حين الملاقاة، لما تقدم من عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ بالإضافة إلي مجهولة.

لكن الظاهر- تبعا لما ذكره غير واحد من شراح العروة و محشيها- هو الطهارة، لعدم الأثر لاستصحاب عدم الملاقاة المذكور، فان موضوع الانفعال هو حدوث الملاقاة حين عدم الكرية، و هو لازم مؤدي الاستصحاب المذكور لا عينه.

نعم، لو ثبت التعبد بأصالة تأخر الحادث بنحو يحرز بها وجوده المتأخر، لا مجرد عدمه في الزمان السابق- الذي هو مفاد الاستصحاب المذكور- كانت حجة في إثبات حدوث الملاقاة بعد ارتفاع الكرية الذي هو موضوع الانفعال.

لكنه غير ثابت. فلا مخرج عن استصحاب الطهارة في المقام بناء علي ما تقدم من أنه المرجع في الماء الذي لا تحرز كريته و لا عدمها.

و لعل ما صدر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من إمضاء الحكم بالانفعال مبني علي أنه الأصل في الماء المذكور، كما تقدم منه في الفرع السابق.

الصورة الثالثة: أن يجهل التاريخان. و الحكم فيها الطهارة- كما صرح به في العروة الوثقي و غير واحد من شروحها و حواشيها- و الوجه فيه استصحاب طهارة الماء، لما أشرنا إليه في نظير هذه الصورة من المقام الأول من عدم جريان الأصل في كل من مجهولي التاريخ بالإضافة إلي الآخر، فلا مجال لاستصحاب الكرية إلي حين الملاقاة، بل تصل النوبة إلي استصحاب الطهارة في الماء، كما ذكرنا.

نعم، بناء علي جريان الاستصحاب ذاتا في كل من مجهولي التاريخ بالإضافة إلي الآخر، فالمرجع هو استصحاب الكرية إلي حين الملاقاة، غير المعارض باستصحاب عدم الملاقاة إلي حين الكرية، لأنه مثبت، كما ذكرناه في الصورة الثانية.

ص: 174

و الثاني: - و هو ماله مادة- لا ينجس بملاقاة النجاسة (1).

______________________________

و مما ذكرنا في هذه الصور و ما قبلها يظهر الكلام فيما لو فرض العلم بحدوث الملاقاة حين الكرية و احتمل استمرارها إلي ما بعد ارتفاعها، فان استصحاب الملاقاة إلي ما بعد زمان الكرية يقتضي النجاسة، و استصحاب الكرية في تمام أزمنة الملاقاة يقتضي الطهارة.

فإن جري الأول وحده- كما في صورة العلم بتاريخ ارتفاع الكرية- كان حاكما علي استصحاب طهارة الماء، و لزم البناء علي نجاسته. و إن جري الثاني وحده- كما في صورة العلم بتاريخ ارتفاع الملاقاة- أو لم يجريا معا- كما في صورة الجهل بالتاريخين- لزم البناء علي الطهارة.

و ما تقدم من المباني الأخر في جريان الأصل في مجهول التاريخ و معلومه و تعارض الأصلين جار هنا. و تفصيل ذلك يعلم مما تقدم. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

هذا تمام ما أردنا التعرض له من الفروع التي أهملها سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و بقيت فروع اخري أشار إليها في العروة الوثقي أهملناها، لعدم أهميتها، أو لظهور الكلام فيها مما تقدم. و الحمد للّٰه رب العالمين. و هو ولي العصمة و السداد.

(1) يعني: و إن لم يكن كرا، كما نسبه في الجواهر إلي المشهور، بل ربما ادعي الإجماع عليه في بعض الأقسام كالجاري، و إن وقع الخلاف في بعضها، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي.

و يقتضيه عموم التعليل في صحيح ابن بزيع عن الرضا عليه السّلام: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء، إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فينزح حتي يذهب الريح و يطيب طعمه، لأن له مادة»، و نحوه صحيحه الآخر «1»، فإنه قد تضمن في صدره الحكم بعدم الانفعال، و في ذيله الحكم بالطهارة بمجرد زوال التغير، و التعليل إما أن يرجع

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 175

______________________________

للأول، لأنه الذي سيق له الكلام بالأصل، أو للثاني، لأنه الأقرب، أو لهما معا، لمناسبته لهما معا ارتكازا، و احتياجهما معا للتعليل، حيث وقعا موردا للكلام، بل أطبق العامة- كما قيل- علي خلافهما، و استفاضت به النصوص.

أما علي الأول و الثالث فالاستدلال بعموم التعليل واضح.

و أما علي الثاني فلأن رافعية المادة للنجاسة تستلزم دافعيتها لها عرفا. بل ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه أنها تقتضيه بالأولوية. علي أنه لو غض النظر عن التلازم بينهما فمقتضي الإطلاق ارتفاعهما بمجرد حدوثها مع فرض عدم التغير، فلا يكون وجودها إلا رتبيا، و لا استقرار لها في الزمان، و مثل ذلك لا أثر له عملا، ليقبل الجعل شرعا.

نعم، هو موقوف علي التعدي عن النجاسة الموجبة للتغير التي هي مورد الحديث و التعليل، و لا ينبغي الريب فيه، لفهم عدم الخصوصية، بل القطع به بعد معلومية أن التنجس مع التغير أولي بالبقاء و أقوي من التنجس بدونه. فتأمل جيدا.

هذا، مع أن التردد بين الوجوه المذكورة إنما يتجه لو كان كل من الحكمين مستقلا عن الآخر و مجعولا في قباله، و هو خلاف ظاهر الحديث الشريف، فان مقتضي تفريع قوله عليه السّلام: «فينزح» علي ما قبله كون الحكم الثاني من شؤون الحكم الأول و مرتبطا به و مترتبا عليه، و يتعين رجوع التعليل للأول لا غير، و لا معني لرجوعه إلي الثاني فقط و إن كان أقرب، لأن الأقربية إنما تقتضي ترجيحه لو كان مستقلا عن الأول، بحيث يكون رجوع التعليل للأبعد مستلزما لخلو الأقرب عنه مع افتقاره إليه، لا في مثل المقام مما كان تعليل الحكم الأول موجبا لاستغناء الثاني عن التعليل، لأنه من شؤونه و توابعه.

بل إرجاع التعليل للثاني حينئذ مخالف للظاهر جدا، لأن مقتضي تفريعه علي الأول كون الأول هو العلة له، فيستغني عن التعليل، و لا يحتاج إليه إلا منشؤه الذي سيق الكلام له بالأصل، كما لعله يظهر بالتأمل.

و وجه ترتبه عليه أن المستفاد من الحكم الأول بضميمة التعليل ان عدم

ص: 176

______________________________

الانفعال مسبب عن أن المادة مقتضية للاعتصام و الطهارة، و حينئذ فمانعية التغير من الطهارة إنما تقتضي النجاسة ما دام التغير موجودا، لاختصاص تأثير المانع في فرض وجود المقتضي بحال وجوده، و لا معني لتأثيره مع ارتفاعه، بل يتعين تأثير المقتضي و ارتفاع أثر المانع مع عدم سقوط المقتضي عن الاقتضاء، كما في المقام، لوضوح عدم تغير المادة و عدم تنجسها.

و منه يظهر الفرق بين المقام و ما إذا ارتفع تغير الكر من قبل نفسه، فإن الكرية و إن كانت مقتضية للاعتصام، إلا أنها لما كانت قائمة بالماء و كان تغيره موجبا لانفعاله كان ذلك مسقطا للمقتضي عن الاقتضاء ارتكازا، فلا يؤثر بعد ارتفاع المانع.

نعم، لو اتصل المتغير بكر لم يتغير اتجه كونه نظير المقام في كونه عاصما للماء بعد ارتفاع تغيره و مطهرا له، لاشتراكه معه في الجهة الارتكازية التي أشار إليها التعليل.

هذا، و قد يقال: ان التعبير عن ماء البئر بالسعة لا يراد به السعة الحكمية بلحاظ اعتصامه، ليكون قوله عليه السّلام: «لا يفسده شي ء» تأكيدا و تفسيرا له، و يستدل بعموم تعليله، بل المراد به كثرته وسعة وجوده فلا يعم القليل.

و فيه: - مضافا إلي ما قيل من عدم مناسبة التعبير عن الكثرة بالسعة- أن حمل السعة علي الكثرة يقتضي سوقها لتمهيد الحكم بعدم التنجس و تعليله، فلا موقع لتعليل الحكم المذكور بعد ذلك بأن له مادة، بل لا بد من جعل ذلك تعليلا للسعة، لبيان أن الكثرة الموجبة للاعتصام نعم الكثرة الحاصلة من الاتصال بالمادة، و لا يعتبر فيها وحدة الماء عرفا و اجتماعه، فينفع في إثبات المطلوب.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم و حكاه عن البهائي قدّس سرّهما من إجمال التعليل، لاحتمال رجوعه إلي ترتب ذهاب الريح و طيب الطعم علي النزح، نظير قولك:

لازم غريمك حتي يوفيك حقك، فإنه يكره ملازمتك.

ففيه: ما أشار إليه غير واحد من ان الكلام غير مسوق لبيان ترتب ذهاب

ص: 177

______________________________

التغير علي النزح، بل لبيان توقف الطهارة علي النزح الرافع للتغير، و ليس ترتب ذهاب التغير علي النزح في الجملة إلا متصيدا من ذلك، و صرف التعليل إلي القضية المتصيدة التي لم يتصد المتكلم لبيانها بعيد جدا.

نعم، لو كانت «حتي» للتعليل كان الكلام مسوقا لبيان ترتب ذهاب التغير علي النزح و أمكن صرف التعليل إليه.

لكنه خلاف الظاهر، إذ لا إشكال في عدم إرادة مسمي النزح بنزح البعض، لعدم ترتب ذهاب التغير عليه، و لا نزح الكل، لارتفاع موضوع طيب الطعم معه، بل المراد النزح الخاص المناسب لحملها علي الغائية، و هو النزح منه إلي أن يذهب تغيره، فيكون ذهاب التغير قيدا في النزح، كما يكون ترتبه عليه في الجملة متصيدا لا يمكن صرف التعليل إليه.

هذا، مضافا إلي أن ترتب ذهاب التغير علي النزح في الجملة- مع كونه أمرا خارجيا لا يناسب اهتمام الشارع بتعليله- مستغن عن التعليل لوضوحه.

و منه يظهر الفرق بين الحديث الشريف و المثال الذي ذكره، إذ ليس في المثال المذكور ما يصلح لصرف التعليل إليه إلا ترتب الوفاء علي ملازمة الغريم، و هو كاف في تعيين «حتي» للتعليل، و ليس هو من الوضوح بحد يستغني عن التعليل، كما أن التعرض له ليس خارجا عن وظيفة المتكلم.

فالإنصاف أنه لا مجال للتشكيك في رجوع التعليل للحكم بالاعتصام و قوة ظهوره في عاصمية المادة مطلقا، كما ذكرنا.

نعم، الرجوع إليه موقوف علي العمل بالحديث في البئر، أما لو فرض إهماله فيها أشكل الاعتماد عليه في غيرها، إذ كما يمكن أن يكون إهماله فيها لخصوصية مخرجة عن عموم عاصمية المادة، يمكن أن يكون لعدم تمامية العموم المذكور، و لا قرينة علي أحد الأمرين، و خروج المورد عن عموم العام يوهنه، لصعوبة التفكيك بين المورد و الوارد في إعمال أصالة الظهور عرفا، و ليسا مفادين متباينين ليسهل التفكيك بينهما في الحجية.

ص: 178

______________________________

إلا أن الظاهر هو العمل بالعموم في مورده- كما يأتي إن شاء اللّٰه تعالي- فيتجه الاستدلال به في المقام.

هذا، و يمكن الاستدلال أيضا بما دل علي اعتصام ماء الحمام، الذي يأتي الكلام فيه في المسألة التاسعة عشرة إن شاء اللّٰه تعالي، بناء علي ما هو الظاهر من عدم كون عنوان الحمام دخيلا في موضوع الحكم، و أن المراد به الإشارة إلي المياه الخارجية الموجودة في الحمامات. و هي مياه الحياض الصغيرة، بلحاظ فرض المادة لها، فيتعدي منها إلي جميع ما له مادة.

نعم، يلزم الاقتصار فيها علي المتيقن من الخصوصيات المحتمل دخلها في الحكم و تحققها في مياه الحمامات الموجودة في عصر صدور الروايات، لعدم الإطلاق فيها بعد فرض عدم دخل عنوانها في موضوع الحكم و عدم تحديد موضوعه فيها، بل هي نظير القضايا الخارجية يجب الاقتصار فيها علي المتيقن.

فلاحظ.

ثمَّ إنه لو تمَّ الدليل علي اعتصام ذي المادة فلا مجال لمعارضته بأدلة انفعال القليل، لانحصار تلك الأدلة بالنصوص الواردة في الإناء و الكوز و الدلو و نحوها، و نصوص الكر الدالة بمفهوم الحصر علي انفعال ما دونه، و الأولي مختصة بما لا مادة له، و الثانية و إن كان بينها و بين أدلة اعتصام ذي المادة عموم من وجه، إلا أنه يلزم تقديم أدلة الاعتصام بحمل تلك النصوص علي غير ذي المادة، لئلا يلزم إلغاء خصوصية المادة في أدلتها، إذ لو حملت نصوص المادة علي ما بلغ الكر كفي في الاعتصام الكرية و لا أثر للمادة.

و كذا الحال في غير نصوص الكر من أدلة الانفعال لو فرض لها إطلاق أو عموم يشمل ماله مادة.

هذا، و لو فرض استحكام التعارض بين أدلة الاعتصام و الانفعال فقد ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أن المرجع عموم النبوي «1» الدال علي اعتصام الماء مطلقا و لو

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

ص: 179

______________________________

كان قليلا، أو أصالة الطهارة.

لكن تقدم غيره مرة الإشكال في الاستدلال بالنبوي.

نعم، قد يستدل بالعموم المستفاد من ترك الاستفصال في بعض النصوص التي أشرنا إليها في أدلة القول بعدم انفعال القليل.

لكن النصوص المذكورة بين ما هو مختص بما لا مادة له، و لا بد من حمله علي الكر، و ما لا عموم فيه للماء القليل بنفسه لقرينة فيه.

فالأول: كصحيح ابن بزيع: «كتبت إلي من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء و يستقي فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب، ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب: لا يتوضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» «1»، و نحوه موثق أبي بصير «2» و غيره «3».

و الثاني: كموثق سماعة: «سألته عن الرجل يمر بالميتة في الماء. قال:

يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «4»، فإن الأمر فيه بالوضوء من الناحية التي ليس فيها الميتة موجب لقرب احتمال فرض الماء قد تغير بعضه بالميتة دون بعض، و هو لا يكون إلا في الكثير.

و قريب منه في ذلك كثير من النصوص «5» المفصلة بين تغيره و عدمه، فإن فرض عدم التغير مناسب لكثرة الماء جدا. علي أنه لا يبعد عدم الإطلاق لبعضها، لورودها في مقام بيان كون التغير موجبا للانفعال، و ليست في مقام البيان من جميع الجهات. فتأمل.

و أما ما ذكره من أن عدم الانفعال مقتضي أصالة الطهارة لو فرض سقوط

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 13، 16. و باب: 9 منها حديث: 13 و 16.

(4) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(5) راجع الوسائل باب: 3.

ص: 180

إلا إذا تغير (1) علي النهج السابق فيما لا مادة له (2).

______________________________

العمومين بالمعارضة.

فهو كما ذكره، بل الأولي الرجوع فيه لاستصحابها.

هذا، مع أن من الظاهر أن العموم و الأصل لا يقتضي الحكم الثاني الذي تضمنه الصحيحان، و هو طهارة الماء النجس بالاتصال بالمادة، بل مقتضي الاستصحاب نجاسته، و إن كان ذلك خارجا عن محل الكلام. اللهم إلا أن يتمسك فيه بالصحيحين المتقدمين، لعدم المعارض لهما في ذلك. فتأمل جيدا.

(1) لما تقدم في أدلة تغير الكر من الإجماع و النصوص، فان بعض الأصحاب و إن نقل الإجماع علي النجاسة في الموارد الخاصة كالجاري و المحقون، إلا أن المستفاد من ملاحظة كلامهم في الموارد المذكورة أن التغير منجس لجميع أقسام الماء، و هو الذي نسبه في المعتبر إلي أهل العلم كافة، و قال في الجواهر: «أما نجاسة الجاري بذلك، بل جميع المياه، فلا أعلم فيه خلافا، بل عليه الإجماع محصلا و منقولا كاد يكون متواترا. و في المنتهي أنه قول كل من يحفظ عنه العلم».

كما أن عموم النصوص للمقام مما لا ينبغي التأمل فيه، و كفي دليلا علي انفعال ذي المادة مع التغير إطلاق صحيح حريز: «كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «1» و خصوص نصوص البئر، و منها صحيحا ابن بزيع المتضمنان للتعليل بالمادة.

(2) من اعتبار التغير بصفات النجاسة و عدم كفاية التغير التقديري و غير ذلك، فإن بعض أدلة تلك الخصوصيات لو اختصت بما لا مادة له فخصوصية موردها ملغية بعد ما علم من عدم اختصاص حكم التغير به، و عدم احتمال اختلاف التغير المنجس بحسب الموارد. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 181

من دون فرق بين ماء الأنهار (1)، و ماء البئر (2)،

______________________________

(1) الكلام فيه هو الكلام في الماء الجاري، الذي يأتي الكلام فيه في المسألة السادسة إن شاء اللّٰه تعالي.

(2) كما في القواعد و عن أكثر كتب العلامة، و نسب إلي المشهور بين المتأخرين، و عن الشهيد في نهاية المراد أنه مذهب العماني، و حكي نسبته إلي أبي عبد اللّٰه الحسين الغضائري و محمد بن جهم، و عن الهداية: «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء» [1] ثمَّ ذكر مقادير النزح من دون تصريح بالنجاسة.

و نسب القول المذكور للشيخ قدّس سرّه في التهذيبين. لكن كلامه فيهما ظاهر في النجاسة مع العفو عن الاستعمال جهلا، و قد يظهر من غيره- علي ما حكي.

و كيف كان، فالقول بالطهارة مطابق لنصوص كثيرة.

منها: صحيح ابن بزيع المتقدم، و نحوه صحيحه الآخر، و صحيحه الثالث المختصر «2».

و منها: صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سمعته يقول: لا يغسل الثوب، و لا تعاد الصلاة مما وقع في البئر، إلا أن ينتن، فإن أنتن غسل الثوب و أعاد الصلاة و نزحت البئر» «3»، لظهوره في عدم وجوب النزح مع عدم النتن.

و مثله في ذلك صحيح محمد بن مسلم: «أنه سأل أبا جعفر عليه السّلام عن البئر يقع فيها الميتة. فقال: إن كان لها ريح نزح منها عشرين دلوا» «4»، بناء علي أن ذكر العشرين لغلبة زوال الريح بها، و إلا كان مجملا.

______________________________

[1] نقله عنها في مفتاح الكرامة و هو الموجود في نسختين مخطوطتين منها، و يناسبه ما في صحيح ابن بزيع. لكن في النسخ المطبوعة: «و ماء النهر واسع». منه عفي عنه.

______________________________

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 22 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 182

______________________________

و منها: صحيح زرارة «1» و موثق ابنه الحسين «2» الواردان في الاستقاء من البئر بحبل من شعر الخنزير المتقدمان في أدلة القول بعدم انفعال القليل بالمتنجس، بناء علي المفروغية فيها عن نجاسة شعر الخنزير، حيث يدلان حينئذ علي عدم انفعال البئر بمماسة الحبل و جواز الوضوء منها.

لكن تقدم الإشكال في ذلك. فراجع.

نعم، قد يستدل بخبر زرارة الوارد في الاستقاء بجلد الخنزير «3»، المتقدم في أدلة القول بعدم انفعال الماء القليل بالنجس، إذ من البعيد عدم المفروغية فيه عن نجاسته، فعدم التنبيه فيه علي انفعال البئر ظاهر في عدمه.

اللهم إلا أن يقال: إنما يدل عدم التنبيه علي ذلك لو كان الانفعال مما يخفي علي السائل، و ربما يدعي وضوحه بمقتضي الأدلة الكثيرة الآتية بنحو يستغني عن التنبيه و يلزم بصرف السؤال لخصوص حكم الاستقاء تكليفا. و لعله لذا لم ينبه فيه علي انفعال ما يخرج بالدلو مع أنه قليل منفصل عن المادة.

و منها: صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن بئر ماء وقع فيها زبيل [زنبيل خ. ل] من عذرة رطبة أو يابسة، أو زبيل من سرقين، أ يصلح الوضوء منها؟ قال عليه السّلام: لا بأس» «4»، و نحوه موثق عمار، إلا أنه قال: «لا بأس إذا كان فيها ماء كثير» «5»، بناء علي أن التقييد فيه بالكثرة لملازمة وقوع ذلك لتغير البئر مع عدمها، لا لاعتبار الكرية في اعتصام البئر، و إلا كان من أدلة القول بذلك، الذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي.

و الإشكال في الاستدلال بهما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 3. و أورده مع تتمة له في باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 16.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 8.

(5) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

ص: 183

______________________________

تارة: بأن العذرة و السرقين أعم من النجس.

و اخري: بأن وقوع الزبيل المذكور في البئر لا يستلزم إصابة ما فيه لمائها.

كما تري لاندفاع الأول: بأن العذرة ظاهرة في عذرة الإنسان عرفا، بل لغة، علي ما صرح به غير واحد من اللغويين، كما يشهد به ما ذكروه من أن منشأ تسميتها بذلك أنهم كانوا يلقونها في أفنية الدور التي هي عذراتها. و لا أقل من كونه المتيقن منها. و لا سيما مع مقابلتها بالسرقين في الرواية، بل لا أقل من شمولها لها، المصحح للاستدلال بعدم الاستفصال.

و اندفاع الثاني: بأن الظاهر كون ذكر الزبيل لبيان مقدار الواقع في البئر من العذرة و السرقين، لا لبيان وقوعه فيها معه. مع أن غلبة ملازمة وقوع الزبيل لملاقاة ما فيه مانع من الحمل علي عدم الملاقاة لو فرض إمكانه خارجا.

و أضعف من ذلك الإشكال في الاستدلال بغير واحد من نصوص المقام.

تارة: بحملها علي المصنع الذي يزيد ما فيه علي الكر أو الغدير.

و اخري: بإمكان أن يراد جواز استعمال الماء بعد النزح في مقابل التعطيل المطلق.

لوضوح مخالفة الأول للظاهر جدا، خصوصا بملاحظة اشتمال بعض النصوص علي التعبير بالنزح الظاهر في النزح المعهود.

و أما الثاني فيوهن بأن منصرف السؤال الاستعمال قبل النزح لشيوع مشروعيته، و بعد احتمال مانعية وقوع الزبيل المذكور من استعمال الماء مطلقا ليمكن صرف السؤال و الجواب إليه.

و كأن ارتكابهم لهذه المحامل و نحوها للفرار من الطرح بعد المفروغية عن تقديم نصوص النجاسة عملا، لا لكونها هي الظاهرة منها بدوا أو بعد الجمع العرفي بينها و بين نصوص النجاسة، و إلا فمخالفتها للظاهر لا تخفي عليهم.

و منها: مرسل علي بن حديد عن بعض أصحابنا: «كنت مع أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في طريق مكة، فصرنا إلي بئر فاستقي غلام أبي عبد اللّٰه عليه السّلام دلوا فخرج

ص: 184

______________________________

فيه فأرتان، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: أرقه، فاستقي آخر فخرج فيه فأرة، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: أرقه. قال: فاستقي الثالث فلم يخرج فيه شي ء. فقال: صبه في الإناء، فصبه في الإناء» «1»، و في المعتبر: «فقال: صبه في الإناء، فتوضأ و شرب» «2».

و كذا مرسل الصدوق عنه عليه السّلام: «كانت في المدينة بئر وسط مزبلة، فكانت الريح تهب و تلقي فيها القذر، و كان النبي صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم يتوضأ منها» «3».

و منها: النصوص الكثيرة المتضمنة لعدم إعادة الوضوء و الصلاة و عدم غسل الثوب لمن استعمل ماء البئر جاهلا بوقوع النجاسة فيها، كصحيح معاوية بن عمار المتقدم، و صحيحه الآخر عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «عن الفأرة تقع في البئر، فيتوضأ الرجل منها، و يصلي، و هو لا يعلم، أ يعيد الصلاة و يغسل ثوبه؟ فقال: لا يعيد الصلاة و لا يغسل ثوبه» «4». و قريب منه موثقا أبي بصير و أبان بن عثمان، و موثق أبي أسامة و أبي يوسف، و خبر أبي عيينة عنه عليه السّلام، و موثق يعقوب بن عيثم عنه عليه السّلام الوارد في البئر التي يقع فيها سام أبرص «5»، و نحوها ما تضمن جواز أكل الخبز الذي يعجن بماء البئر التي فيها الميتة إذا أصابته النار «6»، بناء علي ما هو المعروف من عدم كون النار من المطهرات الشرعية للنجاسات المتعارفة، بل لا يبعد شمول إطلاق بعضها لما إذا استعمل الماء جهلا بالحكم مع العلم بالموضوع.

فإن هذه النصوص و إن ظهر منها المفروغية عن تأثير النجاسة شيئا في البئر يقتضي تركها و نزحها، لأن السؤال عن وجوب التدارك ظاهر في المفروغية عن أن الاستعمال لا ينبغي وقوعه و لا يقدم عليه لو لا الجهل، بل صرح في بعضها بالنزح، إلا أنها لا تناسب الانفعال جدا، لما هو المعلوم من أن الطهارة شرط واقعي

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

(2) المعتبر ص: 11.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 20.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(5) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 5، 11، 12، 13، 19.

(6) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 17.

ص: 185

______________________________

للاستعمال، كما يومئ إليه صحيح معاوية بن عمار الأول الظاهر في أن وجوب النزح لا ينفك عن وجوب الإعادة و أنهما معا من لوازم النجاسة.

علي أنه لو فرض تصحيح الوضوء بالماء النجس لمطابقته للأمر الظاهري، و لو في خصوص المورد، إلا أن عدم تنجس الثوب مع نجاسة الماء مما تأباه المرتكزات جدا.

و كيف يمكن التفكيك بين الثوب و الماء الذي أصابه خصوصا مع العلم بالحال قبل جفاف الثوب، بل و هو في الماء؟!.

و قد فصل الشيخ قدّس سرّه في التهذيب بين التغير و عدمه، فحكم بالعفو في الثاني دون الأول مع أنهما بملاك واحد بناء علي النجاسة بالملاقاة، بل إطلاق نصوص النزح شامل لما إذا أوجبت النجاسة التغير، فلو فرض كون النزح بمجرد الملاقاة ناشئا عن نجاسة الماء كان مقتضي إطلاق هذه النصوص العفو عن استعمال الماء النجس المذكور و لو مع التغير، و لا يظن من أحد التزامه، و ما ذلك إلا لقوة ارتكاز أن النجاسة تستلزم عدم العفو، بنحو توجب انصراف نصوص العفو عن صورة التغير التي لا إشكال في النجاسة معها.

و دعوي: أن العفو مع التغير و إن كان مقتضي إطلاق النصوص، إلا أنه يجب تقييدها بصحيح معاوية بن عمار المتقدم الصريح في عدم العفو منه.

مدفوعة: بأن ظاهر الصحيح المذكور ملازمة النجاسة لعدم العفو، و أن عدم التدارك في غير صورة التغير لعدم النجاسة، فهو لا ينفع القائل بالنجاسة فيها.

هذا، و قد استدل في الجواهر علي الطهارة بخبر محمد بن القاسم أو صحيحه عن أبي الحسن عليه السّلام: «في البئر يكون بينها و بين الكنيف خمس أذرع أو أقل أو أكثر يتوضأ منها؟ قال: ليس يكره من قرب و لا بعد يتوضأ منها و يغتسل ما لم يتغير الماء» «1».

و فيه: أنه إنما يدل علي أن قرب البئر من النجاسة مع عدم التغير لا ينجسها،

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 186

______________________________

و هو أجنبي عن محل الكلام، لعدم الملاقاة بوجه عرفي، و إن أمكن فرض ملاقاة الماء المتصل بماء البئر بمسام الأرض و مجاريها، و عدم الانفعال معه خارج عن محل كلامهم.

و كفي بالنصوص الأخري دليلا علي عدم الانفعال مع اعتبار أسانيد كثير منها و وضوح دلالتها.

و مع هذا كله فقد ذهب إلي القول بالنجاسة جماعة من أعيان الأصحاب و أكابرهم، كالصدوق في الفقيه و الأمالي، و المفيد، و السيد، و الشيخ، و أبي الصلاح، و المحقق، و كثير غيرهم علي ما حكي عن بعضهم، بل عن غير واحد نسبته للأكثر أو المشهور، و في المعتبر أنه الأظهر بين الأصحاب، بل عن غير واحد نفي الخلاف فيه، و عن آخرين دعوي الإجماع عليه، و في الانتصار أنه من متفردات الإمامية، و عن غاية المراد أن عليه عملهم في سائر الأعصار و الأمصار، و عن ظاهر الأمالي أنه من دينهم. إلي غير ذلك مما يظهر منه معروفية القول المذكور و اشتهاره، خصوصا بين القدماء.

و يقتضيه منصرف الأمر بالنزح في النصوص الكثيرة الواردة في تحديد المقادير المنزوحة المختلفة باختلاف النجاسات الواقعة في البئر.

لوضوح أن الأمر المذكور ليس نفسيا، إذ لا إشكال في جواز ترك النزح و هجر البئر، بل هو شرط للانتفاع بالماء، و المرتكز أن مانعية وقوع النجاسة من الانتفاع بالماء ليست إلا لانفعاله بها، كما ينفعل في كثير من موارد ملاقاتها.

و فيه: أن الأمر بالنزح و إن كان ظاهرا في ذلك بدوا، إلا أن نصوص العفو عن الاستعمال المتقدمة مع التنبيه فيها للنزح ظاهرة في أن النزح ليس من جهة النجاسة المانعة من الاستعمال المقتضية للتدارك، فهي من سنخ الحاكم علي نصوص النزح المفسر لها، لا من سنخ المعارض، لينظر في الترجيح بينها.

و لا سيما مع قرب عدم ورود نصوص النزح في مقام تشريعه، بل لبيان مقداره حسب اختلاف النجاسات مع المفروغية عن أصل تشريعه من دون

ص: 187

______________________________

تعرض لمنشئه.

هذا مضافا إلي كثير من القرائن في نصوص النزح لا تناسب كونه لأجل تطهير الماء بعد انفعاله بملاقاة النجاسة.

منها: شدة الاختلاف بينها في مقدار المنزوح، فإن القاعدة في ذلك و إن اقتضت الاقتصار علي الأقل و استحباب الأكثر، إلا أن كثرة ذلك موهنة لظهور النصوص في الانفعال جدا، إذ حمل الأكثر علي عدم كونه مطهرا يقرب حمل الأقل عليه مع كونهما من سنخ واحد، و لا سيما مع اتحاد السياق في بعضها، مثل ما اشتمل علي نزح الكل لبول الصبي و مطلق البول و الخمر «1»، مع أنه مختص عندهم بالأخير، و غير ذلك مما هو كثير جدا.

و من ثمَّ وقع الأصحاب في كثير من المفارقات في مقام الاستدلال علي التحديدات المذكورة تظهر للمتأمل في كلامهم.

و منها: التخيير في كثير منها بين الأقل و الأكثر، فإنه لا يناسب بيان المطهر الرافع للنجاسة جدا. و لا سيما مع شدة الاختلاف بين أطراف التخيير كمية، كالتخيير بين العشرين و الثلاثين و الأربعين، أو بين الأخيرين، لموت السنور «2»، و غير ذلك.

و منها: ما في غير واحد منها من الأمر بنزح دلاء «3»، أو دلاء يسيرة «4»، فان هذا بدوا ليس من سنخ المجمل، بل من سنخ المطلق الذي يكفي فيه الأقل، و هو ثلاثة، و لو كان هو المراد لكان الأولي ذكره، لأنه الأنسب بالتحديد، فإهمال التحديد به موجب لنحو من الاجمال، و لا سيما مع عدم كفاية ذلك إجماعا في كثير من موارد تلك النصوص أو كلها، فالاكتفاء به من قبل السائل لا يناسب الحمل

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 3، 4.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 21، و باب: 15 منها حديث: 6. باب: 17 منها حديث: 2، 5، 6.

(4) الوسائل باب: 21 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 188

______________________________

علي التطهير، لأهمية الحكم عملا المقتضية لشدة الحاجة للبيان الواضح.

و منها: التسامح في بعض التحديدات للنجاسة الملاقية، كقولهم عليهم السّلام:

«الكلب و شبهه» «1» و: «الفأرة و أشباهها» «2» و: «شاة أو ما أشبهها» «3».

و أشدها في ذلك موثق عمار: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر، فقال: ينزح منها دلاء. هذا إذا كان ذكيا فهو هكذا، و ما سوي ذلك مما يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا، و أقله العصفور ينزح منها دلو واحد، و ما سوي ذلك فيما بين هذين» «4» فان التسامح في التحديد بهذا النحو من الامام عليه السّلام في مقام البيان و اكتفاء السائل به لا يناسب أهمية الحكم.

و منها: الأمر في كثير منها بالنزح في غير مورد ملاقاة النجاسة، كاغتسال الجنب و موت الوزغ و العقرب، فإن الالتزام بالانفعال فيها بعيد عن المرتكزات جدا، و الحمل علي عدمه يناسب ذلك في بقية النصوص، خصوصا مع وحدة السياق في بعضها. إلي غير ذلك من الجهات التي تظهر بالتأمل في النصوص، و النظر إلي ما وقع فيه الأصحاب من الاضطراب في جهات مهمة و فروع كثيرة، فإن ذلك بمجموعه لا يناسب مثل هذا الحكم ذي الآثار المهمة، و لا سيما مع كثرة الابتلاء بالآبار، خصوصا في تلك العصور، و هو مما يقرب عدم أهمية الحكم جدا.

نعم، قد يستدل علي الانفعال ببعض النصوص التي قد تصلح لبيان وجه الأمر بالنزح في النصوص.

منها: صحيح ابن بزيع: «كتبت إلي رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 18 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 21 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 189

______________________________

يسقط فيها شي ء من عذرة [غيره خ ل] كالبعرة و نحوها ما الذي يطهرها حتي يحل الوضوء منها للصلاة؟ فوقع عليه السّلام بخطه في كتابي: ينزح منها دلاء» «1» و صحيح علي ابن يقطين عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام: «سألته عن البئر تقع فيها الحمامة و الدجاجة أو الكلب أو الهرة. فقال: يجزيك أن تنزح منها دلاء، فان ذلك يطهرها إن شاء اللّٰه تعالي» «2» و موثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث طويل: «و سئل عن بئر يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير. قال: تنزف كلها، فان غلب عليه الماء فلينزف يوما إلي الليل يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين، فينزفون يوما إلي الليل و قد طهرت» «3». فان مقتضي تصريح الامام عليه السّلام في الأخيرين و تقريره في الأول أن النزح لتطهير البئر المناسب لانفعالها و تنجسها بما وقع فيها.

و فيه: أن الاكتفاء في التطهير علي تقدير النجاسة بمسمي الدلاء في الأولين- كما هو مقتضي الإطلاق فيهما خصوصا الثاني- خلاف إجماعهم- كما قيل- لاختلاف الأمور المذكورة فيهما اختلافا فاحشا، حسب الفتوي و النصوص الأخري، فهما متروكا الظاهر، فلا بد إما من التزام الإهمال و ورود الجواب لبيان مطهرية النزح في الجملة مع إيكال التفصيل لبيان آخر، أو التزام نصب القرينة لإرادة العدد الخاص من لفظ الدلاء بالنسبة إلي كل من النجاسات المسؤول عنها، و الأول لا يناسب ورود السؤال و الجواب لأجل العمل، و الثاني مقطوع البطلان، كما أشار لذلك في الجملة شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

فالأقرب الحمل علي الاستحباب، و يكون إطلاق التطهير بلحاظ نحو من القذارة تحصل من الملاقاة يكره معها الاستعمال، و هي غير النجاسة التي هي محل الكلام و مورد الأحكام، علي ما يأتي إن شاء اللّٰه تعالي.

فإن ذلك هو المناسب لهذا النحو من التسامح في التحديد، كما أشرنا إليه

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 21.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 23 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 190

______________________________

آنفا. و إلا تعين الالتزام بإجمال الخبرين و عدم صلوحهما للاستدلال.

و منه يظهر حال الثالث، فان ترك مضمونه إجماعا موهن للاستدلال به و مقرب لحمله علي ما ذكرنا.

كما ظهر حال الاستدلال بما تضمن ترتب الوضوء و الشرب علي النزح، حيث قد يظهر منه بطلان الأول و حرمة الثاني بدونه، كصحيح علي بن جعفر المتضمن نزح ما بين الثلاثين و الأربعين لسقوط الشاة المذبوحة و هي تشخب دما، و نزح دلاء يسيرة لسقوط الدجاجة أو الحمامة المذبوحة «1» و للرعاف. و خبره المتضمن لنزح سبع دلاء لموت الفارة من دون تقطع و نزح عشرين لموتها مع التقطع «2». و صحيح الفضلاء المتضمن نزح دلاء لموت الدابة و الفارة و الكلب و الخنزير و الطير «3»، و مثله خبر البقباق «4» إلا أنه لم يذكر فيه الخنزير.

فإنه بملاحظة ما تقدم يتعين حملها علي ما ذكرنا.

و منها: صحيح عبد اللّٰه بن أبي يعفور و عنبسة بن مصعب عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: إذا أتيت البئر و أنت جنب فلم تجد دلوا و لا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد، فإن رب الماء رب الصعيد، و لا تقع في البئر و لا تفسد علي القوم ماءهم» «5».

فإن تشريع التيمم إنما يكون مع تعذر الماء الطاهر، و هو إنما يتم بناء علي الانفعال. كما أن التعبير بالإفساد ظاهر في الانفعال و امتناع استعمال الماء، نظير ظهور التعبير بعدمه في صحاح ابن بزيع المتقدمة في عدم الانفعال.

و فيه: ما أشار إليه غير واحد من أن انفعال البئر موقوف علي نجاسة بدن الجنب، و هو غير مفروض في السؤال، بل لازمه امتناع الغسل، لنجاسة البدن

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 22.

ص: 191

______________________________

و الماء، لا فساد الماء علي أهله بعده، كما كان المناسب عليه التعرض للعفو عن الصلاة بالخبث من جهة التعذر كما تعرض عليه السّلام لتهوين ترك الطهارة المائية و الاكتفاء بالترابية.

و دعوي: أن الاغتسال مع طهارة البدن و إن لم يوجب انفعال الماء إلا أنه يمنع من استعماله بمقتضي ما دلت عليه نصوص النزح، و هو كاف في صدق الإفساد، فيكشف عن عدم اعتصام ماء البئر، و أنه كالماء القليل الذي يمتنع استعماله إذا اغتسل به من الحدث الأكبر، فينفعل بملاقاة النجاسة مثله.

مدفوعة: بأن ذلك لا يكفي في مشروعية التيمم حينئذ، بل يجب الاغتسال به ثمَّ تطهيره بالنزح، فلا بد من كون منشأ النهي عدم إحراز رضا أهل الماء بذلك، أو التسهيل بلحاظ صعوبة تطهير البئر، فيرجع إلي بيان جواز ترك الغسل لا إلي وجوبه، و هو كما يمكن أن يكون للجهة المذكورة يمكن أن يكون من جهة لزوم استقذار الماء عرفا أو تعرضه للتعفن، أو تعكره بما يختلط به من طين و نحوه، أو نحو ذلك مما يوجب الرغبة عن استعماله.

و دعوي: ظهور إفساد الماء في خصوص امتناع استعماله شرعا لنجاسة أو نحوها.

ممنوعة، و الفرق بين هذا الصحيح و صحاح ابن بزيع أنها قد تضمنت الحكم بعدم الفساد، و ظاهر حكم الشارع بشي ء أنه من شؤونه و مجعولاته، أما هذا الصحيح فلم يتضمن الحكم بالفساد، بل النهي عنه، و لا ظهور للمنهي عنه في كونه أمرا شرعيا، كما لا يخفي.

و منها: صحيح زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير: «قلنا له: بئر يتوضأ منها يجري البول قريبا منها أ ينجسها؟ فقال: إن كانت البئر في أعلي الوادي، و الوادي يجري فيه البول من تحتها فكان بينهما قدر ثلاث أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس ذلك شي ء، [و إن كان أقل من ذلك نجسها. خ ل] قال: و إن كانت البئر في أسفل

ص: 192

______________________________

الوادي و يمر الماء عليها، و كان بين البئر و بينه تسعة أذرع لم ينجسها. و ما كان أقل من ذلك فلا يتوضأ منه. قال زرارة: فقلت له: فان كان مجري البول يلصقها و كان لا يثبت علي الأرض. فقال: ما لم يكن له قرار فليس به بأس و إن استقر منه قليل، فإنه لا يثقب الأرض و لا قعر له حتي يبلغ البئر، و ليس علي البئر منه بأس، فيتوضأ منه، إنما ذلك إذا استنقع كله» «1». وجه الاستدلال دعوي ظهوره في تنجس البئر بوصول البول إليها.

لكن قال في محكي المنتهي: «ان القائلين بانفعال البئر بالملاقاة متفقون علي عدم حصول التنجيس بمجرد التقارب، فلا بد من تأويله عندهم لمخالفته لإجماعهم».

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بقوله: «و الانصاف أن هذه الحسنة و إن لم تحمل علي ظاهرها من حيث عدم انفعال البئر بمجرد قرب المبال فيها [منها. ظ] إلا أنها ظاهرة في الانفعال عند العلم بوصول البول إليها».

أقول: إن كان الظهور المذكور بملاحظة أن تنجس البئر بقرب المبال المستلزم لوصول رطوبة البول لها يقتضي تنجسها مع وقوع البول نفسه فيها بالأولوية العرفية.

ففيه: أنه مع فرض سقوطه عن الحجية بمدلوله المطابقي لا مجال لحجيته في المدلول الالتزامي، و فرض حمله في المدلول المطابقي علي الكراهة أو التغير يقتضي حمله عليهما في المدلول الالتزامي المذكور.

و إن كان بملاحظة قوله عليه السّلام في ذيل الصحيح: «فإنه لا يثقب الأرض و لا قعر له حتي يبلغ البئر.» لظهوره في التنجيس لو ثقب البول الأرض و بلغ البئر، الذي هو عين المدعي.

ففيه: أن الظاهر أن الذيل المذكور تفصيل في مورد السؤال، و هو تقارب محل البول و البئر، لا بيان لأمر آخر خارج عنه، فلا بد من أن يراد ببلوغ البول للبئر

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 193

______________________________

هو البلوغ الملازم للتقارب، لا وصوله لها رأسا الذي هو محل الكلام. فالظاهر عدم تمامية الاستدلال بالصحيح المذكور.

و منها: صحيح أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عما يقع في الآبار. فقال:

أما الفارة و أشباهها فينزح منها سبع دلاء. و كل شي ء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس به» «1».

و قد جعلها شيخنا الأعظم قدّس سرّه ظاهرة في الانفعال. و ضعفه ظاهر، فان ثبوت البأس فيما له نفس أعم من الانفعال، بل ليس هذا الصحيح إلا كسائر نصوص النزح الظاهرة في ثبوت البأس في الجملة، بالاستعمال مع الملاقاة.

هذا تمام ما يستدل به للقول بالانفعال، و قد عرفت عدم تمامية شي ء منه.

و لو فرض تمامية ظهوره و غض النظر عما تقدم لم ينهض بمعارضة نصوص الطهارة التي هي أظهر دلالة، خصوصا صحاح ابن بزيع. و لا سيما صحيحيه المشتملين علي التعليل بالمادة، فإن ظهورهما في بيان الحكم بالطهارة و دفع ما يختلج في النفوس من شبهة الانفعال، و تأكيد ذلك بالتعليل، ملزم بتقديمهما علي جميع ما يوهم الانفعال من الأدلة.

نعم، قد يستشكل في نصوص الاعتصام بأن إعراض القدماء عنها يكشف عن اطلاعهم علي خلل فيها مانع من العمل بها مهما قوي ظهورها و سندها، بل قوتهما مما يزيدها و هنا، حيث لا يحتمل معه كون الاعراض بسبب تخيل قصورها، كي لا يمنع من الاعتماد عليها في حق من يري تماميتها و فساد منشأ الاعراض.

و لا مجال لتوهم: أن اهتمامهم بتوجيهها و حملها علي ما لا ينافي أخبار الانفعال ظاهر في اهتمامهم بها و عدم إعراضهم عنها.

لأن التوجيهات المذكورة لما كانت ظاهرة الوهن فهم لم يذكروها إلا فرارا من الطرح بعد المفروغية عن عدم العمل بها، كما أشرنا إليه عند الكلام في صحيح

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

ص: 194

______________________________

ابن جعفر.

نعم، لو كان المدعي كشف إعراضهم عن اطلاعهم علي كذبها و عدم اهتمامهم بصدورها، لكان التوجيه مانعا من ذلك، و لذا لم يهتموا بتوجيه روايات العامة.

إلا أن الإعراض المسقط للحجية لا ينحصر وجهه باطلاعهم علي خلل في الصدور، بل يكون غالبا لجهات أخر لا تنافي التوجيه فرارا عن الطرح.

لكنه يندفع بعدم ظهور الإعراض منهم بالنحو المسقط للحجية، لما عرفت من ذهاب بعضهم للطهارة، بل يظهر من بعض من يعمل بنصوص النجاسة الاعتداد بنصوص الطهارة في مقام العمل.

فقد تقدم عن الصدوق في الهداية التعبير بمضمون صدر صحيح ابن بزيع.

و في المقنع بعد أن ذكر مقادير النزح للنجاسات و منها العذرة قال: «و إن وقع فيها زنبيل من عذرة رطبة أو يابسة أو زنبيل من سرقين فلا بأس بالوضوء منها، و ليس عليك عن أن تنزح منها شيئا. و روي عبد الكريم.» ثمَّ ذكر موثق أبي بصير المتضمن العفو عن استعمال الماء جهلا في الوضوء و غسل الثياب و العجن، و قد أشرنا إليه آنفا.

و تقدم من الشيخ قدّس سرّه العفو أيضا عملا بنصوصه التي عرفت ظهورها في الطهارة.

و عن الكليني قدّس سرّه أنه بعد أن ذكر صحيح ابن بزيع المتقدم في أدلة الانفعال قال: «و بهذا الاسناد قال: ماء البئر واسع لا يفسده شي ء.» و مقتضي ما يظهر من ديباجة الكافي- من أنه ألفه ليكون مرجعا في أخذ الأحكام لا لمجرد جمع الروايات و أنه عند التعارض يتعين التخيير- جواز الأخذ برواية الاعتصام إما لعدم منافاتها للرواية الأولي، للجمع بينهما عرفا بما ذكرنا، أو للتخيير بينهما بما ذكرنا.

بل هو المظنون من حال أكثر القدماء الذين كان شأنهم ذكر الروايات في كتبهم لعملهم بها لا لمحض الحفظ، و إن لم يصل إلينا كلامهم. و إلا فلو كان طرح

ص: 195

______________________________

الروايات المذكورة، مسلما بينهم لم يخف علي أعيان المتأخرين و أكابرهم، و لم يذهبوا للقول بالاعتصام لأجلها مهما قويت دلالتها.

نعم، الظاهر تحقق الشهرة من القدماء الذين التزموا بتحرير الفتاوي و حفظت كلماتهم علي ما هو ظاهر كلامهم، و مثل ذلك لا يكفي في سقوط نصوص الاعتصام عن الحجية، و لا سيما مع قرب كون منشئه خفاء وجه الجمع بين النصوص عليهم، و ترجيحهم نصوص الانفعال لكثرتها و موافقتها للاحتياط، لا ظهور خلل في نصوص الطهارة لهم مانع من العمل بها في نفسها، و مع ذلك كيف يحصل الوثوق بخلل في النصوص المذكورة مسقط لها عن الحجية، بل الظاهر حجية النصوص المذكورة و رفع اليد بها عن ظاهر نصوص الانفعال لو فرض غض النظر عن المناقشات المتقدمة فيها.

هذا، و لو فرض استحكام التعارض بين النصوص المذكورة و أن اللازم منه التساقط فالمرجع بعد تساقطها نصوص الكر المقتضية للتفصيل بين القليل و الكثير.

اللهم إلا أن يقال: نصوص الكر و إن كانت بدوا شاملة للماء الذي له مادة إلا أن ورود الأدلة باعتصام ذي المادة في الجملة كأدلة ماء الحمام كاشف عرفا عن اختصاصها بالماء الراكد الذي لا مادة له، إذ لو فرض عمومها لما له مادة لزم رفع اليد عن ظهورها في حصر الاعتصام بالكر، و حيث كان ظهورها في ذلك أقوي من ظهور إطلاق الماء فيها في عموم ذي المادة لزم رفع اليد عن عمومها المذكور محافظة علي ظهورها في الحصر المذكور.

بل قد يدّعي انصراف نصوص الكر في نفسها عن ذي المادة، و أنها ناظرة لاعتصام الماء الراكد بعضه ببعض، و لا نظر فيها للاعتصام بأمر خارج عنه.

و كيف كان، فلا مجال للرجوع في البئر لنصوص الكر، بعد فرض تعارض نصوصها، بل المرجع استصحاب الطهارة، أو أصالتها المقتضية لاعتصامها مطلقا.

و ربما يدعي ترجح نصوص اعتصام البئر.

ص: 196

______________________________

تارة: بموافقتها للكتاب و السنة الدالين علي عموم طهارة الماء.

و اخري: بمخالفتها للعامة، لما قيل من إطباقهم علي النجاسة.

و يندفع الأول: بما تقدم في الفصل السابق من أنه لا دليل علي عموم طهارة الماء بلحاظ الأحوال لينفي به احتمال انفعال الماء بالملاقاة و يحرز به الاعتصام، و أن غاية ما يمكن إثباته هو عموم طهارة الماء بلحاظ الأفراد بحسب أصله، و هو لا ينفع في المقام.

و يندفع الثاني: بعدم وضوح موافقة نصوص الانفعال للعامة و مخالفة نصوص الاعتصام لهم، لظهور شدة الاختلاف بينهم في ذلك، فالمحكي عن المالكية اعتصام البئر مطلقا مع استحباب النزح، و هو المحكي عن محمد بن الحسن الشيباني و أبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة في ظاهر كلامهما، و عن بشر انفعال البئر و عدم طهارتها بالنزح، لعدم المطهر لأرضها و حيطانها، و عن الشافعية و الحنابلة التفصيل بين بلوغها قلتين و عدمه كالماء الراكد.

و من الظاهر مخالفة نصوص الانفعال لجميع الأقوال حتي القول بالتفصيل، لأن المتيقن من كثير من نصوص النزح الشمول للكثير، لتضمنها نزح الدلاء الكثيرة و التراوح مع غلبة الماء.

نعم، حكي عن الحنفية و بعض علماء العامة من غير أئمة المذاهب انفعال البئر و طهارتها بالنزح مطلقا، كما هو مفاد النصوص المذكورة، و من الظاهر أن ذلك- لو تمَّ- لا يكفي في الترجيح، إذ لا يراد بموافقة العامة إلا موافقة القول الشائع المعروف بينهم، لا موافقة قول بعضهم مع مخالفة الآخرين.

علي أنه كيف يمكن خفاء موافقة نصوص الانفعال للعامة علي أعيان الأصحاب و قدمائهم حتي أفتوا بمضمونها و أهملوا نصوص الطهارة لأجلها، مع شيوع الابتلاء بالمسألة المناسب لظهور الخلاف بيننا و بين العامة فيها لو فرض، كما ظهر خلافنا معهم في الأوقات و نحوها.

و ما أبعد ذلك عما ذكره السيد المرتضي قدّس سرّه في الانتصار من أن القول

ص: 197

______________________________

المذكور من متفردات الإمامية.

و بالجملة: اضطراب كلام العامة و اختلاف النقل عنهم و إهمال أعيان الأصحاب لذلك مانع من الرجوع للمرجح المذكور.

هذا، و عن البصروي التفصيل في انفعال ماء البئر بين بلوغه كرا و عدمه.

و لعله إليه يرجع ما عن الجعفي من اعتبار بلوغها ذراعين في الأبعاد الثلاثة في اعتصامها. إذ لا يبعد ابتناؤه علي تحديده الكر بذلك.

و قد يدعي أنه لازم للعلامة و غيره ممن اعتبر الكرية في اعتصام الجاري، لأن البئر لا تزيد عليه. و إن كان لا يخلو عن إشكال.

و كيف كان فقد يستدل له.

تارة: بالنصوص الخاصة، كموثق عمار المتقدم المتضمن لعدم البأس بالوضوء في البئر التي يقع فيها زنبيل من عذرة إذا كان فيها ماء كثير، و خبر الحسن بن صالح عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «إذا كان الماء في الركي كرا لم ينجسه شي ء» «1»، و الرضوي: «كل بئر عمق مائها ثلاثة أشبار و نصف في مثلها فسبيلها سبيل الجاري، إلا أن يتغير لونها و طعمها و رائحتها» «2»، فيخصص بها نصوص الاعتصام بعد تقديمها علي نصوص الانفعال، أو تكون شاهد جمع بين الطائفتين.

و اخري: بما أشرنا إليه آنفا من أنه بعد تساقط نصوص البئر بالمعارضة فالمرجع نصوص الكر المقتضية للتفصيل المذكور.

و ثالثة: بغلبة كثرة ماء البئر الموجب لانصراف نصوص الطهارة إليها و قصورها عن صورة القلة، بل هو مقتضي فرض السعة في صحيح ابن بزيع بناء علي أنها بمعني الكثرة، فيرجع مع القلة إلي عموم انفعال القليل.

و رابعة: بأن الترجيح في المقام لنصوص الانفعال، إلا أنه لا بد من تقييدها بالقليل، إذ لو شملت الكثير لزم كون المادة سببا للانفعال، فإن الكثرة عاصمة لماء

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 8.

(2) مستدرك الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

ص: 198

______________________________

البئر لو انقطعت عنه المادة و صار من الراكد.

و يشكل الأول: بقصور النصوص المذكورة عن إفادة التفصيل المذكور، إذ لا وجه لحمل الكثرة في الموثق علي الكرية، إذ لم يثبت كونها حقيقة فيها شرعا، بل الظاهر منها الكثرة العرفية بالنحو الذي يزيد علي الكر، و لعله دفعا لمحذور التغير اللازم من وقوع المقدار المذكور مع عدمها، و إلا فالظاهر أن الكرية لا تكفي في منع التغير بالمقدار المذكور، المستلزم لكون الحكم بالطهارة اقتضائيا.

و أما الخبر و الرضوي فضعفهما مانع من الاعتماد عليهما، مع موافقتهما لمذهب بعض العامة، و مخالفتهما لظاهر نصوص الاعتصام و الانفعال معا، لظهور الاولي في خصوصية المادة المناسب لعدم اعتبار الكرية، و كون المتيقن من أكثر الثانية ما زاد علي الكر.

و لعله لذا حمل الشيخ قدّس سرّه خبر الحسن علي التقية، لمخالفة حكم البئر لحكم الغدير عندنا.

و يندفع الثاني: - مضافا إلي ما سبق من ترجيح نصوص الاعتصام- بما تقدم آنفا من قصور نصوص الكر عن شمول ذي المادة، جمعا بين ما دل علي اعتصامه في الجملة و ظهورها في الحصر.

و منه يظهر اندفاع الثالث، لانحصار عموم انفعال القليل بنصوص الكر.

و بقية أدلته مختصة بمواردها كالإناء و الركوة و التور و غيرها مما لا يشمل البئر. علي أن الغلبة لو كفت في انصراف الإطلاق فلا مجال لها في المقام مع اشتمال بعض نصوص الاعتصام علي التعليل بالمادة. و فرض السعة في صحيح ابن بزيع لا ينهض بذلك، كما تقدم عند الكلام في عموم عاصمية المادة.

كما ظهر اندفاع الرابع، إذ لا وجه لترجيح نصوص الانفعال بعد ما سبق، مع أن المذكور في تقييدها استبعاد محض لا ينهض دليلا علي التخصيص، خصوصا بعد ما عرفت من أن المتيقن من كثير منها ما زاد علي الكر، و أن القول المذكور مما يظهر من الشيخ خروجه عما عليه الأصحاب.

ص: 199

______________________________

نعم، يصلح الوجه المذكور لتأييد القول بالاعتصام مطلقا تقديما لنصوصه علي النصوص الأخري.

بقي الكلام في النزح، فقد اختلف القائلون بالطهارة في حكمه، فعن المنتهي و الموجز وجوبه تعبدا، و نسب في كلام غير واحد إلي الشيخ قدّس سرّه في التهذيب، لكن تقدم أن كلامه ظاهر في النجاسة مع العفو عن الاستعمال جهلا.

و كيف كان، فعمدة الدليل علي ذلك ظهور أوامر النزح في الوجوب المولوي، إما بدوا، أو بعد تعذر حمله علي الإرشاد للنجاسة بسبب نصوص الطهارة.

و فيه: أن بعض أدلة الطهارة و إن لم يناف ذلك، مثل ما دل علي العفو عن الاستعمال، إلا بعضها ينافيه، لظهور صحيحي معاوية بن عمار و محمد بن مسلم في انحصار وجوب النزح بالتغير.

بل لما لم يمكن الالتزام بوجوب النزح نفسيا، إذ لا إشكال في جواز هجر البئر، بل المراد به توقف الاستعمال عليه- كما هو ظاهر صحيح ابن جعفر، و خبره، و صحيح الفضلاء، و خبر البقباق المتقدم إليها الإشارة في أدلة الانفعال- كان راجعا إلي أن ملاقاة النجاسة تقتضي نحوا من الفساد في الماء، فيدفعه صحاح ابن بزيع الحاكمة بسعة ماء البئر و عدم فساده بما يقع فيه، كما يدفعه صحيح ابن جعفر و موثق عمار المتضمنان جواز الوضوء بماء البئر التي يقع فيها زنبيل من عذرة، لقوة ظهورها في عدم توقفه علي النزح.

بل أكثر ما تقدم من القرائن المنافية لحمل نصوص النزح علي مطهريته للماء بعد انفعاله مانع من حملها علي وجوبه تعبدا، كما يظهر بالتأمل فيها.

كما أن ما تقدم في أدلة الانفعال من التعبير بالتطهير- كصحيحي ابني بزيع و يقطين- آب عن حمل أوامر النزح علي الوجوب التعبدي جدا.

ص: 200

______________________________

و بالجملة: الحمل المذكور مناف لأكثر أدلة الاعتصام و الانفعال، فلا مجال لحمل أوامر النزح عليه، و لا سيما مع ما أشرنا إليه من عدم قوة ظهور نصوص النزح في الوجوب، لقرب ورودها لبيان مقدار النزح بعد الفراغ عن مشروعيته، لا لتشريعه.

فالأقرب حمل نصوص النزح علي ثبوت مرتبة من القذارة تحصل بالملاقاة يكره معها الاستعمال، و هي غير النجاسة التي هي محل الكلام و مورد الأحكام، علي ما أشرنا إليه آنفا، كما هو الحال في كثير من المياه التي ورد النهي عن استعمالها مع ثبوت طهارتها. و مثله كثير من موارد الأمر بالغسل مع ثبوت عدم وجوبه.

و مثل هذه القذارة يصح التعبير عنها بالنجاسة، كما ورد نظيره في صحيح الفضلاء الآخر المتقدم المتضمن لحكم مقاربة البئر للبالوعة، و يصح التعبير عن رفعها بالتطهير، كما تقدم في بعض النصوص.

لكن بعض مشايخنا منع ذلك.

أولا: لعدم كونه جمعا عرفيا.

و ثانيا: لاستحالة اجتماع الطهارة مع النجاسة و لو بمرتبة ضعيفة منها، لأنهما ضدان، كالسواد الذي يمتنع اجتماعه مع مرتبة ضعيفة من البياض.

و قد رتب علي ذلك استحكام التعارض بين النصوص و ترجيح نصوص الطهارة بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة، و بعد إهمال نصوص النجاسة لا يبقي دليل علي استحباب النزح.

و فيه: أن النجاسة و الطهارة و إن كانتا صفتين متضادتين، إلا أنهما من الأمور الإضافية، فكل قذارة و خبث نحو من النجاسة يكون عدمها طهارة بالإضافة إليها و رفعها تطهيرا منها. و من هنا صح إطلاق الطهارة تارة في مقابل النجاسة الخبثية، و اخري في مقابل الحدث، كما صح نفيها عن ولد الزنا، و أنه لا يطهر إلي سبعة آباء، إلي غير ذلك من موارد إطلاقها المتفرقة.

ص: 201

______________________________

و ليس المراد من ثبوت مرتبة من القذارة في المقام أنها مرتبة من النجاسة التي هي محل الكلام و مورد الأحكام، بحيث تكون فردا منها، لوضوح استحالة اجتماعها مع الطهارة، كما ذكره، بل هي سنخ آخر يكره معه الاستعمال و يستحب التطهير منه قبله، أو أنها من سنخ النجاسة المذكورة إلا أنها لا تبلغ أدني مراتبها لتكون من أفرادها و يستحيل اجتماعها مع الطهارة منها.

نعم، لما كان موضوع الأحكام المهمة هو النجاسة بالنحو الخاص ذي المرتبة الخاصة انصرف إطلاق الأدلة إليها، كما انصرف إطلاق الطهارة و التطهير إلي ما يقابلها، حتي صارت حقيقة فيها، و هو لا يمنع من الحمل علي غيرها بقرائن خاصة، نظير ما تقدم في صحيح الفضلاء من إطلاق النجاسة علي البئر بمقاربة البالوعة، مع الإجماع علي طهارتها، كما تقدم.

و نظير ما اعترف به هو من أنه لو عمل بنصوص النجاسة لزم الجمع بين نصوص النزح المختلفة في المقدار المنزوح بالاقتصار علي الأقل و حمل الأكثر علي الاستحباب، فكما أمكن حمل نصوص الأكثر علي الاستحباب مع ظهورها في الإرشاد إلي التطهير بقرينة نصوص الأقل أمكن حمل جميع نصوص النزح عليه بقرينة أخبار الطهارة.

و مع ذلك لا مجال لإنكار كون الجمع المذكور عرفيا، و لا سيما مع معروفية هذا النحو من الجمع بين الأصحاب في المقام و غيره.

و قد أشرنا آنفا إلي أن ذلك هو المناسب للتسامح في التحديد في بعض النصوص و تعبيرهم عليهم السّلام بمثل: «دلاء» و معه لا موجب لما ذكره من حمله علي عدم كونهم عليهم السّلام في مقام بيان الحكم الواقعي.

كما أن ما ذكره من ترجيح نصوص الطهارة بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة قد تقدم ما فيه.

و أما ما ذكره في توجيه احتمال الاستحباب من حمل الأخبار علي التحفظ علي نظافة المياه و دفع الاستقذار العرفي.

ص: 202

______________________________

فهو أبعد مما ذكرناه، لأن استحباب النظافة العرفية و إن لم يكن بعيدا عن الأدلة، إلا أنه لا يناسب نصوص المقام الظاهرة في بيان طريق التطهير بتحديد مقادير النزح، لوضوح أن بيان طريق التطهير من الاستقذار العرفي ليس من وظيفة الشارع، فتأمل جيدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

تنبيهات:

الأول: إذا تغيرت البئر بالنجاسة فقد اختلفت أقوالهم في مقدار النزح المطهر لها، فبين قائل بكفاية زوال التغير، و ملزم بنزح الجميع إلا مع التعذر، فيتراوح عليه يوما إلي الليل، أو يكتفي بزوال التغير، و ملزم بأكثر الأمرين من زوال التغير و نزح المقدر مطلقا أو مع تعذر نزح الجميع. إلي غير ذلك من الأقوال التي بلغ بها في مفتاح الكرامة إلي ثمانية، مما لا مجال لإطالة الكلام فيه و في أدلته.

و الظاهر الاكتفاء بذهاب التغير، كما في القواعد، و جامع المقاصد، و كشف اللثام، و عن المهذب، و المقنعة، و الإصباح، و بقية كتب العلامة، و الموجز، و البيان، و المدارك و غيرها، و عن الدلائل أنه المشهور بين المتأخرين.

و تقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيحي ابن بزيع المتقدمين المشتملين علي التعليل بالمادة، و غير واحد من نصوص النزح المتضمنة لحكم التغير، كقوله عليه السّلام في موثق سماعة: «و إن أنتن حتي يوجد النتن في الماء نزحت البئر حتي يذهب النتن من الماء» «1» و قوله عليه السّلام في صحيح الشحام: «فإن تغير فخذ منه حتي يذهب الريح» «2» و غيرهما.

و بها يرفع اليد عن إطلاق نزح البئر في صحيح معاوية بن عمار، فيحمل علي نزحها في الجملة و لو بنزح بعضها في مقابل عدم نزحها مع عدم التغير الذي

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 203

______________________________

يستفاد من الصدر، بل لا يبعد كون ذلك هو الظاهر منه بدوا بمقتضي المقابلة بين صدره و ذيله.

نعم، لا مجال لذلك في بعض نصوص النزح المتضمنة لنزح الكل أو لنزح مقدار معين، كخبر منهال: «فان كانت جيفة قد أجيفت فاستق منها مائة دلو، فان غلب عليها الريح بعد مائة فانزحها كلها» «1» و صحيح محمد بن مسلم المتقدم المتضمن لقوله عليه السّلام: «إن كان لها ريح نزح منها عشرون دلوا» «2» بناء علي عدم كون ذلك لملازمة القدر المذكور لذهاب التغير، و لا سيما في نزح الكل لغلبة ذهاب التغير قبله، بل يتعين في مثل ذلك الحمل علي الاستحباب، كما حمل النزح في بقية الموارد عليه بناء علي عدم الانفعال.

نعم، بناء علي الانفعال بالملاقاة لا يبعد لزوم الجمع بين أكثر الأمرين من ذهاب التغير و نزح ما تقتضيه النجاسة الواقعة مع عدمه، جمعا بين دليليهما، لظهور نصوص الاكتفاء بالنزح المذهب للتغير في النظر لحيثية التغير، فلا ينافي وجوب ما زاد عليه لحيثية الملاقاة، و إن اختلفت في ذلك كلماتهم بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

هذا، و الظاهر كفاية زوال التغير و لو بغير النزح، كما في جامع المقاصد، لظهور التعليل في صحيح ابن بزيع في أن المادة مقتضية للاعتصام و التغير مانع منه، فكما تقتضي دفع النجاسة عند عدمه تقتضي رفعها عند ارتفاعه، للزوم الاقتصار في تأثير المانع علي حال وجوده، كما سبق، فذكر النزح فيه ليس الا لكونه مقدمة لارتفاع التغير، لا لموضوعيته، و ذلك هو الحال في سائر موارد ارتفاع التغير عن الماء مع اتصاله بالعاصم.

نعم، يشكل الأمر بناء علي الانفعال و إهمال صحيحي ابن بزيع، لان المتيقن من بقية النصوص الظاهرة في كفاية زوال التغير هو زواله بالنزح، و حملها

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 204

______________________________

علي محض مقدميته يحتاج إلي لطف قريحة، و لعله لذا قال في القواعد: «و لو زال تغيرها بغير النزح و الاتصال فالأقرب نزح الجميع و إن زال بعضه لو كان علي إشكال» فإن الظاهر ابتناؤه علي القول بالانفعال، لأنه ذكره في ضمن فروعه.

الثاني: بناء علي انفعال البئر بالملاقاة فهل يقوم الاتصال بالعاصم- كالكر أو الجاري- مقام النزح في التطهير لها، أو لا؟ صرح بالثاني في الجملة في القواعد، و هو المحكي عن جماعة، بل في الجواهر أنه نسب للأكثر. لكن الظاهر الأول، كما صرح به في المعتبر، لظهور بعض نصوص النزح في الانحصار به، كقوله في صحيح ابن بزيع المتقدم: «ما الذي يطهرها حتي يحل الوضوء منها؟».

و دعوي: أنه وارد لبيان الطريق المتعارف الميسور الذي تختص به البئر.

لا دليل عليها، بل هي مخالفة للظاهر. مضافا إلي أن عمدة أدلة التطهير بالأمور المذكورة هو الإجماع و صحيح ابن بزيع المشتمل علي التعليل بالمادة بالتقريب المتقدم في الكلام علي ذي المادة. و لا إجماع في المقام، و صحيح ابن بزيع لا بد من إهماله علي القول بالانفعال.

لكن في مرسل الكاهلي: «كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1»، و إطلاقه شامل للبئر. إلا أنه لو كان حجة في نفسه و شاملا لتطهير الماء معارض لمفهوم الحصر في صحيح ابن بزيع المتقدم بالعموم من وجه، و بعد تساقطهما فالمرجع استصحاب النجاسة.

و دعوي: لزوم تقديمه لكونه أقوي دلالة من الحصر و يتعدي لغير المطر من الأمور العاصمة بعدم الفصل. غير ظاهرة.

و مما ذكرنا يظهر عدم قيام غير النزح مقامه في رفع الكراهة بناء علي الاعتصام.

نعم، لو فرض خروج الماء عن كونه ماء بئر بالاتصال بالجاري أو غيره و الخروج عن البئر فلا يبعد اتفاقهم علي كونه بحكم الجاري الذي يطهر بعضه

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 205

______________________________

بعضا، كما أشار إليه في الجواهر، فهو كسائر المياه المتنجسة، و منها ما يخرج بالنزح لو اتصل بالكر أو نحوه، و إنما النزاع فيما يبقي في البئر و يصدق عليه أنه ماؤها، فان للبئر أحكاما خاصة، و لا طريق لإثبات ذلك فيها. فتأمل جيدا.

الثالث: الظاهر عدم الإشكال بينهم في عدم انفعال البئر بمجرد القرب من البالوعة التي فيها القذر، بل في الرياض و عن الدلائل: أنه بلا خلاف، و في الجواهر: أن عليه الإجماع محصلا و منقولا، و تقدم عن المنتهي عند الكلام في صحيحة الفضلاء دعوي الإجماع عليه من القائلين بانفعال البئر بالملاقاة، فضلا عن غيرهم.

و لعل ما عن الذخيرة من أنه المشهور في قبال ما عن بعضهم من البناء علي النجاسة مع ظن وصول الماء، في قبال ما صرحوا به من اعتبار العلم بالوصول، إذ في مفتاح الكرامة لم يجد مخالفا إلا من يقول بذلك. و عليه فلا يكون خلافا فيما نحن فيه من الطهارة في فرض عدم الوصول.

و يقتضيه- بعد ذلك- نصوص الطهارة مع الملاقاة لعين النجاسة، فإنها تقتضي الطهارة مع مقاربة النجاسة المستلزمة لاحتمال وصول رطوبتها بالأولوية العرفية.

مضافا إلي خبر محمد بن القاسم المتقدم في ذيل الكلام في نصوص الطهارة بالملاقاة، الذي لا يبعد صحة سنده، كما جزم به بعض مشايخنا. إذ ليس في سنده من يستشكل فيه إلا محمد بن القاسم المذكور، لأنه مشترك بين جماعة ليس بعضهم موثقا، و عباد بن سليمان الذي لم ينص أحد علي توثيقه.

لكن الظاهر أن الأول هو ابن الفضيل ابن يسار النهدي الثقة، بقرينة رواية سعد بن سعد عنه الذي يميز به، لأنه ممن يختص به، كما عن جامع الرواة.

كما أنه لا يبعد وثاقة الثاني، لأنه من رجال كامل الزيارة. مضافا إلي ما عن الوحيد قدّس سرّه من أنه روي عنه محمد بن أحمد بن يحيي و لم يستثن روايته القميون، و يروي عنه الأجلة مثل محمد بن الحسين بن أبي الخطاب و الصفار و أحمد بن

ص: 206

______________________________

محمد بن عيسي و غيرهم.

هذا، مع ظهور اعتماد القائلين بعدم انفعال البئر بمقاربة البالوعة علي هذا الخبر، لانحصار دليلهم به في قبال بعض النصوص الظاهرة في النجاسة، و منها صحيح الفضلاء المتقدم.

و لا يهم مع ذلك تحديد مقدار البعد المستحب، حيث اختلفت فيه كلمات الأصحاب تبعا لاختلاف الروايات المحمول علي اختلاف مراتب الفضل أو الصور، بما لا مجال لاطالة الكلام فيه في هذه العجالة.

هذا، و أما لو تغيرت البئر بمقاربة البالوعة من دون وصول النجاسة فظاهر المحقق قدّس سرّه في المعتبر المفروغية عن نجاستها، حيث تعرض لحكم الشك في استناده للبالوعة و قال: «و الأحوط التطهير، لأن سبب النجاسة قد حصل، فلا يحال علي غيره. لكن هذا ظاهر لا قاطع، و الطهارة في الأصل متيقنة، فلا تزول بالظن» و هو الظاهر مما عن المنتهي و في جامع المقاصد و الجواهر و غيرها.

و يقتضيه ما تقدم في خبر محمد بن القاسم. و إن كان قد يستشكل فيه بأنه لم يتضمن الحكم بالنجاسة، بل بالكراهة.

إذ لا بد من حمل الكراهة علي النجاسة بقرينة النصوص الأخري الآمرة بالتباعد الظاهرة في كراهة الاستعمال بدونه، فيخرج به عما تقدم في غير البئر من عدم الانفعال بالتغير بمجاورة النجاسة، كما أشرنا إليه هناك. فتأمل.

نعم، لا بد من استناد التغير للبالوعة، لانصراف الخبر المتقدم إليه، كما لا بد من العلم به، و لا يكفي الظن، فضلا عن الشك، لما تقدم من المعتبر.

الرابع: حيث تضمن صحيح ابن بزيع تعليل اعتصام البئر بالمادة فلا بد من الاقتصار فيه علي صورة بقاء المادة و اتصالها، فلو فرض انقطاعها حكم بالانفعال.

و به يخرج عن إطلاق بقية نصوص اعتصام البئر، لأقوائية التعليل بلا إشكال. بل الظاهر أن ذلك إجماعي لا يحتاج إلي استدلال.

نعم، يقتصر في ذلك علي ما إذا كان دون الكر، عملا بعموم الكر غير

ص: 207

______________________________

المعارض بالتعليل، إذ ليس مفاد التعليل إلا الانفعال في الجملة، لأن مفهوم السالبة الكلية موجبة جزئية. و هو ظاهر.

الخامس: يظهر من كلماتهم نحو اضطراب في تعريف البئر و تحديدها في مقابل العيون و الثمد و نحوهما، فإن البئر و إن كانت من المفاهيم المعروفة- كما في القاموس- إلا أن معروفيتها باعتبار مصاديقها، لا بنحو يسهل تحديد مفهومها بتعريف و نحوه.

نعم، لا ريب في كونها في قبال الجاري، إلا أن هذا يكون في الثمد بالمعني الآتي، كما يكون في العيون، إذ لا ريب في عدم توقف صدق العين علي الجريان، بل قد تقف عنه، لضعف نبعها و حصر الماء بحوض و نحوه، فتحديد البئر عنهما ببعض القيود مشكل جدا، و إن كان لا يبعد أخذ نحو من العمق في مفهومها، كما قد يناسبه بعض الاستعمالات للمادة، حيث تدل علي نحو من الخفاء و الاستتار قال في القاموس: «و بأر. الشي ء خبأه أو ادخره، و الخير قدّمه أو عمله مستورا».

إلا أن هذا- مع عدم وضوحه- من المشكك الذي يصعب تحديده أيضا، و المتيسر في المقام هو الرجوع للعرف في التطبيق، لأنه يكشف عن تحديد المفهوم في الجملة.

نعم، قد يدعي عموم حكمها لكل ماء نابع راكد، كما يأتي عن الوحيد قدّس سرّه نسبته للفقهاء. لكنه غير ظاهر الوجه بعد قصور عمومات البئر عنه.

و دعوي: عدم خصوصية الإطلاق العرفي، و أن المدار علي الركود في مقابل الجريان، الذي هو عاصم للماء في الجملة بلا إشكال.

مصادرة، و لا سيما مع اختصاص البئر بأحكام تعبدية غير عرفية. و ليس مرجع ذلك إلي دوران أحكام البئر مدار الصدق العرفي، بحيث لو فرض تبدل المفهوم العرفي تبعه الحكم، لوضوح أن الإطلاق العرفي محض طريق لاستكشاف مراد الشارع، من دون أن يكون له دخل في الموضوع، كما هو الحال في سائر موارد الرجوع للعرف.

ص: 208

و ماء العيون (1)،

______________________________

و منه يظهر أنه لو فرض كون الإطلاق العرفي في بعض الموارد حادثا لم ينفع في إحراز الحكم إلا بضميمة أصالة عدم النقل. فتأمل. و الأمر سهل، بناء علي ما عرفت من اعتصام البئر كسائر أفراد ذي المادة.

و مما تقدم يظهر عدم شمول أحكام البئر للماء الجاري في بطن الأرض من منابعه المتصلة بطرق بينها و قنوات كالأنهر، إذ لا ريب في صدق الجاري عليها و خروجها عن المتيقن من مدلول النصوص، لعدم معهودية هذا النحو في العصور السابقة، بل المنصرف من الأمر في النصوص بنزح البئر إخراج الماء الملاقي للنجاسة أو المتغير بها من البئر، لا إخراج غيره مع خروجه هو بالجريان، بل نسبة التغير للبئر في بعض النصوص ظاهر في مكث الماء فيها، كما أن فرض نزح الكل في كثير منها ظاهر في خروج محل الكلام عنها، و فرض تعذر نزح البئر في بعضها إنما هو لغلبتها و غزارتها- كما فهمه الفقهاء- لا لجريان الماء إليها من غيرها.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم شمول أحكام البئر لذلك بعد أدني تأمل في حال الآبار في العصور السابقة و في النصوص.

و مجرد إطلاق البئر علي ذلك في أعراف بعض البلاد التي يشيع فيها هذا النوع كالنجف الأشرف لا يكفي في تسرية الحكم، لما تقدم من عدم موضوعية الإطلاق العرفي.

فما عن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه من احتمال إجراء الأحكام فيما يطلق عليه البئر عرفا مطلقا من غير تقييد بنبع و عدم جري، غريب جدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم و هو ولي التوفيق.

(1) مفرد العين، و هي ينبوع الماء، كما في القاموس.

و لا إشكال، بل لا خلاف في اعتصامه مع جريان الماء، لدخوله في الجاري

ص: 209

______________________________

الذي لا إشكال في اعتصامه في الجملة.

و أما مع عدمه، لضعف النبع و حصر الماء بحوض و نحوه فقد يقال بدخوله في الجاري أيضا، كما في المسالك و ظاهر الرياض و عن الروض و الذخيرة و الدلائل، و عن الروضة: «الجاري هو النابع من الأرض مطلقا غير البئر علي المشهور».

لكن إن أريد به دخوله فيه لغة أو عرفا، بحيث تكون أدلة الجاري شاملة له، فهو خلاف الظاهر، كما صرح به غير واحد، بل السيلان مأخوذ في الجاري لغة قطعا و عرفا علي الظاهر.

و إن أريد به دخوله فيه في مصطلح الفقهاء (رضوان اللّٰه عليهم) بقرينة تقسيمهم الماء إلي الجاري و المحقون و البئر، فحيث خرج عن البئر و المحقون تعين دخوله في الجاري، فيكون عندهم بحكمه و إن لم تشمله أدلته.

فليس هو بأولي من إدخاله عندهم في البئر، كما عن الوحيد قدّس سرّه، حيث قال: «ان النابع الراكد عند الفقهاء في حكم البئر»، و يناسبه ما في المعتبر في وجه عدم تطهير القليل المتنجس بالنبع من تحته، من أن النابع ينجس بملاقاة النجاسة.

بل مقتضي ما عن المقنعة و التهذيب من انفعال القليل من الغدير النابع و تطهيره بالنزح، و عدم انفعال الكثير منه، خروج النابع الواقف عن الأقسام الثلاثة، إذ المحقون مع القلة لا يطهر بالنزح، و البئر عندهم تنفعل مطلقا و لو مع الكثرة، و عند المتأخرين لا تنفعل مطلقا، و الجاري لا ينفعل مطلقا عند المشهور.

و بالجملة: لا مجال لاستفادة عموم الجاري في الأدلة أو الفتاوي للنابع الراكد.

نعم، صرح غير واحد باعتصامه. و العمدة فيه عموم عاصمية المادة، المستفاد من عموم التعليل في صحيح ابن بزيع، كما تقدم.

ص: 210

و الثمد (1)، و غيرها مما كان له مادة.

______________________________

(1) اختلفت كلمات اللغويين في تعريف الثمد، فعرفه غير واحد بأنه الماء القليل الذي لا مادة له، كما في جمهرة اللغة، و عن محكي المصباح و شمس العلوم. و جعله أول المعاني في لسان العرب و القاموس، و به عرف الثماد في مجمع البحرين.

و يناسبه ما عن الخليل من أنه الماء القليل يبقي في الأرض الجلد، و ما عن ابن الأعرابي من أنه القلت يجتمع فيه ماء السماء فيشرب به الناس شهرين في الصيف، فإن الأرض الجلد هي الأرض الشديدة، و القلت النقرة في الجبل و نحوه من الأرض الصلبة تمسك الماء.

فكأن الثمد علي هذا هو الماء المجتمع في الحفر الطبيعية في الأراضي الصلبة من السيول و نحوها مما لا مادة له، فيخرج عما نحن فيه.

نعم، عن الأصمعي: «هو ماء المطر يبقي محقونا تحت رمل، فإذا كشف عنه أدته الأرض». و لعله إليه يرجع ما قيل- كما في لسان العرب و القاموس- من أنه الذي يظهر في الشتاء و يذهب في الصيف. و ظاهر ذلك أن له مادة، إلا أن مادته بالرشح الحاصل من الرمل، لا بالنبع الحاصل من شقوق الأرض الصلبة. و يشابهه في ذلك ماء النزيز، و ما يخرج عند الحفر قرب شطوط الأنهار و نحوها. و كأن هذا هو مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و الاعتصام فيه مبني علي عموم المادة للرشح- كما هو الظاهر- عملا بمقتضي الإطلاق الارتكازي الوارد في التعليل. و لا سيما بقرينة المورد، لأن مادة البئر قد تكون بالرشح، بل في الجواهر أنه قيل إن ذلك هو الغالب فيها. و كأن من أخذ النبع في تعريفها أراد منه ما يعم ذلك.

هذا، و لو فرض الشك في شمول عموم المادة لمثل ذلك فالظاهر أن المرجع هو استصحاب الطهارة المقتضي للاعتصام، لا عموم طهورية الماء، لما

ص: 211

______________________________

أشرنا إليه غير مرة من عدم ثبوت العموم المذكور، و لا عموم انفعال القليل، لما أشرنا إليه عند الكلام في البئر من اختصاصه بغير ذي المادة، و أنه راجع إلي عدم اعتصام القليل في نفسه في مقابل الكر الذي يعصم بعضه بعضا، فلا ينافي اعتصامه بأمر خارج عنه كالمادة، كما هو المحتمل في المقام.

نعم، لو كانت المادة ضعيفة جدا بحيث يحتاج تجمع الماء منها إلي زمان طويل لم تصلح عرفا للعاصمية و خرجت عن عموم المادة بمقتضي ظهور كون التعليل بها ارتكازيا، فلا بد من البناء علي انفعال الماء لما يظهر من نصوص الكر و المادة من أن الماء لا يعتصم بنفسه، بل لا بد له من عاصم. فتأمل جيدا.

ثمَّ إن الشهيد قدّس سرّه اعتبر في محكي الدروس دوام النبع في اعتصام الجاري، و عن محكي الموجز لابن فهد موافقته. و عن المدارك أن دوام النبع لا يزيد علي اعتبار أصل النبع.

و ربما حمل مراد الشهيد قدّس سرّه.

تارة: علي الاحتراز عن العيون التي لا يتصل نبعها لضعف الاستعداد فيه، فتنبع آنا و تقف آنا، نظير الدفق.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 212

و اخري: علي الاحتراز عن انقطاع النبع بسد و نحوه.

و ثالثة: علي الاحتراز عما إذا انقطع الاتصال بمحل النبع.

و رابعة: علي الاحتراز عن العيون التي يضعف نبعها، فيقف ببلوغ الماء حدا معينا، و لا يتجدد النبع إلا إذا أخذ منها فيرجع إلي الحد.

و خامسة: علي الاحتراز عن العيون التي تنبع في وقت دون آخر، كالعيون التي تنبع في الشتاء و تقف في الصيف. إلي غير ذلك.

أما الأول فهو الذي احتمله الكركي فيما حكي عنه. و اللازم البناء فيه علي عدم الاعتصام في آن النبع فضلا عن غيره، لأن المدار في الاعتصام علي المادة لا علي النبع و النبع المذكور لا يتصل غالبا بالمادة، بل كل دفعة منه لا تتصل بما وراءها.

ص: 212

و لا بد في المادة من أن تبلغ الكر (1).

______________________________

نعم، لو أحرز الاتصال بسبب طول زمان النبع أو غيره اتجه الاعتصام حال النبع إذا كانت المادة بقدر الكر أو كان المجموع كرا، كما سيأتي.

و منه يظهر الوجه في عدم الاعتصام في الثاني و الثالث حين الانقطاع. و إن كان من البعيد حمل كلام الشهيد عليهما، لوضوح حكمهما.

و أما الرابع فهو يشمل القسم الثاني من العيون الذي سبق الكلام فيه، و من ثمَّ احتمل في مفتاح الكرامة حمل كلامه عليه، كما يشمل الثمد.

لكن لا وجه لعدم الاعتصام فيه، لما أشرنا إليه من عدم أخذ النبع في أدلة الاعتصام، بل ليس المأخوذ فيها إلا المادة الصادقة في المقام، و لا سيما مع ان مادة البئر التي هي مورد التعليل كثيرا ما تكون من هذا القبيل.

و أما الخامس فعن الكركي ان أكثر المتأخرين عن الشهيد قدّس سرّه ممن لا تحصيل له فهموا هذا المعني من كلامه، و أنه لا شاهد له من الأخبار، و لا يساعد عليه الاعتبار، و أنه تخصيص لعموم الدليل بمجرد التشهي و الشهيد منزه عن مثله.

و ما ذكره قدّس سرّه متين جدا.

هذا، و قد اعتبر السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي دوام المادة. و كأنه أراد الاحتراز عن خصوص الثمد و نحوه، حيث قال: «يعتبر في المادة الدوام، فلو اجتمع الماء من المطر أو غيره تحت الأرض، و يترشح إذا حفرت لا يلحقه حكم الجاري».

مع أنه صرح بعدم اعتبار استمرار النبع من المادة، بل يكفي الاتصال بها و إن لم تخرج، كما صرح بأن العيون التي تنبع في الشتاء و تنقطع في الصيف تكون عاصمة حال نبعها. و أقره علي جميع ذلك بعض الأعاظم قدّس سرّه في حاشيته.

و يظهر الاشكال فيه مما تقدم.

(1) كما صرح به في القواعد و جامع المقاصد و المسالك في مادة الحمام،

ص: 213

______________________________

و نسبه في مفتاح الكرامة إلي المشهور، و في المسالك و عن الروض و مجمع الفوائد و الدلائل و الذخيرة أنه مذهب الأكثر، و عن المدارك أنه مذهب أكثر المتأخرين.

و عن الشهيد الثاني في فوائد القواعد و الروض و صاحب الكفاية الاكتفاء بكرية المجموع من المادة و ما اتصل بها، و عن بعضهم نقل الإجماع عليه.

و عن الحدائق عدم اعتبار ذلك أيضا، و إليه مال في الجواهر، بل استقرب عدم الفرق في ذلك بين الدفع و الرفع، فكما تكون المادة عاصمة للماء مطلقا تكون مطهرة له بعد نجاسته مطلقا.

و ظاهر المعتبر التفصيل بينهما، حيث قال: «و لا اعتبار بكثرة المادة و قلتها.

لكن لو تحقق نجاستها لم تطهر بالجريان». فتأمل.

و في مفتاح الكرامة عن أستاذه الشريف: «يشترط بلوغ المجموع كرا في عدم قبول النجاسة، و كون المادة كرا في التطهير إذا تنجس ما في الحياض» قال:

«و علي هذا يحمل كلام الأصحاب، لأنهم أطلقوا كرية المادة، فيحمل ذلك علي التطهير. و من اكتفي ببلوغ المجموع كرا يحمل علي الطهارة و عدم قبول النجاسة، و تصح دعوي الإجماع علي ذلك».

و كيف كان فالكلام.

تارة: في الدفع.

و اخري: في الرفع.

أما الأول: فقد يستدل لعدم اعتبار كرية المادة فيه بإطلاق أدلة عاصميتها.

لكن الأدلة المذكورة منحصرة- كما تقدم- بالتعليل في صحيحي ابن بزيع و بنصوص الحمام. أما التعليل فسيأتي الكلام فيه في المقام الثاني.

و أما نصوص الحمام فقد أشرنا آنفا إلي عدم تمامية الإطلاق فيها، لما هو الظاهر من أن عنوان الحمام ليس دخيلا في الحكم، و لذا لو فرض العلم بتغير حال الحمامات عما كانت عليه في عهد صدور الروايات لم يكن مجال للرجوع لتلك النصوص فيها، كما أنه لو فرض خروج الحمام عن كونه حماما بانهدام و نحوه لم

ص: 214

______________________________

يتبدل حكم مائه.

كما لا يظن بأحد توهم أن مقتضي إطلاق ما دل علي اعتصام ماء الحمام إذا كانت له مادة انفعال مائة إذا لم تكن له مادة و إن بلغت كرا، و اعتصامه مع المادة و إن كانت مثل الإبريق، أو أن مقتضي إطلاق ما دل علي أن ماء الحمام لا ينجسه شي ء اعتصام جميع ما يكون في الحمام و إن لم يكن في الحياض الصغيرة المتصلة بالحياض الكبيرة، بل في الأواني الصغيرة إلي غير ذلك مما يظهر للمتأمل، فليست خصوصية الحمام ارتكازا إلا كخصوصية الدار و الطريق و نحوهما لا يراد بها إلا الإشارة إلي الفرد المعهود، و هو ماء الحياض الصغيرة المتصلة بالحياض الكبيرة، و الذي يكون اعتصامه أو عدمه لجهة خاصة غير كونه ماء حمام.

و حينئذ لا مجال للتمسك بإطلاقها لإثبات عدم اعتبار الكرية في المادة فضلا عن عدم اعتبارها في المجموع، إلا إذا ثبت وجود هذا النحو من الحمامات في عهد صدور النصوص، و لا طريق لإثبات ذلك، بل من القريب جدا كون مادة الحمامات كثيرة جدا لا تنقص عن الكر مهما كثر الاستعمال عليها، كما هو المشاهد في عصورنا القريبة.

و ليس هذا من تقييد الإطلاق بالغلبة، ليمنع كبري و صغري، بل من سقوط الإطلاق عن الحجية بسبب كون عنوانه غير دخيل في الحكم الذي هو الشرط في حجية الإطلاق، لظهور اقتصار المتكلم عليه في كونه تمام الدخيل في الفرض، فمع عدم دخله يكون الدخيل في الغرض أمرا آخر متحققا في أفراد المطلق الخارجية لا بد في تعيينه من دليل آخر غير الإطلاق.

و مما ذكرنا يظهر حال ما في الجواهر من أن القول باشتراط الكرية ينافي ما هو كالصريح من الأخبار من أن لماء الحمام خصوصية علي غيره من المياه، و أن حملها علي بيان ما هو كائن في غير الحمام، فالمراد أن ماء الحمام كالجاري، لأن له مادة كثيرة و كل ما كان له مادة كثيرة فهو معتصم. بعيد جدا.

إذ فيه: أن خصوصية الحمام غير دخيلة في الحكم ارتكازا، بل لا يمكن

ص: 215

______________________________

البناء علي دخلها بعد ما عرفت.

إن قلت: هذا إنما يتم في النصوص المطلقة المتضمنة لاعتصام ماء الحمام، مثل ما دل علي أنه بمنزلة الجاري، و أنه كماء النهر يطهر بعضه بعضا «1»، بخلاف ما تضمن التقييد بالمادة، و هو خبر بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة» «2» المنجبر ضعف سنده- لجهالة بكر بن حبيب- بظهور عمل الأصحاب به، و لا سيما مع وقوع صفوان الذي هو من أصحاب الإجماع في طريقه، و رواية منصور بن حازم الذي هو من الأعيان غير مرة عن بكر المذكور. فتأمل.

فإن خصوصية الحمام و إن لم تكن دخيلة في الحكم ارتكازا، إلا أن خصوصية المادة مما لا مجال لإهمالها، و حينئذ مقتضي إطلاقها عدم اعتبار الكرية في المجموع، فضلا عن خصوص المادة.

قلت: لا مجال للبناء علي الإطلاق المذكور و الاكتفاء بمسمي المادة، كيف و لازمه اعتصام ما في الحياض الصغيرة بأخذ شي ء قليل منها و صبه عليها.

فلا بد إما من الالتزام بورود الخبر لبيان اعتصام ماء الحمام باتصاله بالمادة التي من شأنها أن تعصم بقية المياه، لا في مقام بيان المادة العاصمة لماء الحمام، فهو لبيان صغري اعتصام ماء الحمام بالمادة بعد الفراغ عن كبري عاصمية المادة للماء، لا لبيان كبري اعتصام ماء الحمام بالمادة، ليتمسك بإطلاقه.

أو الالتزام بأن المراد بالمادة هي المادة المعهودة في الحمامات، و هي الحياض الكبيرة التي تمد الحياض الصغيرة، كما فهمه الأصحاب، و حينئذ لا مجال للتمسك بإطلاقها، إلا أن يثبت كون عدم الكرية من حالات تلك المادة في عهد صدور الخبر، و لا طريق لإثباته، كما تقدم.

و من هنا يظهر أنه لا مجال للاستدلال بإطلاق نصوص الحمام علي كفاية

______________________________

(1) راجع النصوص المذكورة في باب 7 من أبواب الماء المطلق من الوسائل.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 216

______________________________

كرية المجموع من المادة و ما يتصل بها في الاعتصام.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من أن نصوص الحمام واردة لبيان أن مادة الحمام و إن كانت أعلي سطحا من حياضه، إلا أنها شرعا كالمادة المساوية له سطحا صالحة لتقويته، فهي واردة لبيان أن المادة المذكورة تصلح شرعا لتتميمه كرا و إن لم تصلح لذلك عرفا.

فلا قرينة في النصوص المذكورة عليه، بل كما يمكن أن تكون كذلك يمكن أن تكون واردة لبيان أن المادة عاصمة له في مقابل الكرية، و حينئذ قد يدعي أنه لا بد في عاصميتها لغيرها من قوتها و اعتصامها في نفسها، كما أشار إليه في جامع المقاصد بقوله: «اشتراط الكرية في المادة هو أصح القولين للأصحاب، لانفعال ما دون الكر بالملاقاة فلا يدفع النجاسة عن غيره». فالإنصاف أن نصوص الحمام غير صالحة للاستدلال في المقام.

و حينئذ يلزم الرجوع في ذلك إلي الأدلة الأخري.

و الظاهر أنه يبتني علي أنه هل لأدلة انفعال القليل عموم يشمل ذا المادة ليقتصر في الخروج عنه علي المتيقن، و هو الذي تبلغ مادته الكر، أو لا بل المرجع فيه الأصل المقتضي لعدم انفعاله مع بلوغ المجموع كرا؟ و قد تقدم في البئر أن الظاهر الثاني. و إن كان ربما يخرج عنه بما يأتي في المقام الثاني عند الكلام في مفاد التعليل في صحيح ابن بزيع.

هذا كله مع كون أحد المائين مادة للآخر عرفا، و أما لو كان المجموع ماء واحدا فاللازم البناء علي عاصمية بعضه لبعض مع بلوغ المجموع كرا، لعموم أدلة الكر، و يأتي الكلام في ضابط ذلك في المسألة الثامنة عشرة إن شاء اللّٰه تعالي.

ثمَّ انه لا ينبغي الإشكال في اعتبار كرية المجموع من المادة و ذيها، خلافا لما تقدم من الحدائق و الجواهر، إذ لا مجال لاحتمال تبدل حكم الماء القليل و اعتصامه بمجرد إجراء بعضه علي بعض و صيرورة بعضه مادة لبعض، بل المادة

ص: 217

______________________________

إما أن تكون بنفسها عاصمة فيلزم اعتصامها في نفسها ارتكازا، كما تقدم من جامع المقاصد، أو تكون عاصميتها باعتبارها محققة لكرية ذيها شرعا، فيعتبر كرية المجموع، كما تقدم من بعض مشايخنا.

بل ما دل علي انفعال القليل و عدم عاصمية بعضه لبعض يقتضي الانفعال في المقام، لصدق القليل علي المجموع، و إن كان منصرفا عن خصوص ذي المادة بناء علي ما سبق منا. فتأمل.

بل الظاهر مفروغيتهم عن عدم الاعتصام في ذلك، و أن احتمال ذلك في الحمام إنما هو من جهة إطلاق نصوصه، الذي عرفت الاشكال فيه.

و أما الثاني: - و هو الرفع- فلا مجال فيه للاستدلال علي عدم اعتبار الكرية في المادة بإطلاق نصوص الحمام، لما تقدم.

و لا سيما مع عدم وضوح ورودها في هذا المقام، إذ ليس ما يوهم الدلالة فيه إلا خبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قلت له: أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب و الصبي و اليهودي و النصراني و المجوسي. فقال: إن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» «1».

لكن الظاهر أنه ليس المراد به تطهير بعضه لبعض بعد تنجسه- كما هو مقتضي مدلوله المطابقي- بل الكناية عن عاصمية بعضه لبعض، فيكون واردا في مقام الدفع، كما هو المناسب للسؤال، لظهور أن السؤال عن انفعال الماء بسبب اغتسال هؤلاء لا عن كيفية تطهيره بعد الفراغ عن انفعاله، و هو المناسب أيضا لتشبيهه بماء النهر.

نعم، لا يبعد شمول إطلاق خبر بكر بن حبيب المتقدم لمقام الرفع.

و أما التعليل في صحيحي ابن بزيع فاللازم حمله علي خصوص ما إذا بلغت المادة كرا، لأنه المناسب لكونه ارتكازيا، لما هو المرتكز من أن ما لا يعتصم في نفسه لا يصلح لتطهير غيره، بل يتنجس به.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 218

مسألة 6 يعتبر في عدم تنجس الجاري

مسألة 6: يعتبر في عدم تنجس الجاري (1)

______________________________

و لا سيما مع ما هو المعلوم من عدم مطهرية مسمي المادة و إن كانت قليلة جدا، إذ مع ذلك يصلح الوجه الارتكازي المذكور لتعيين المراد بالإطلاق، بنحو يصح الاتكال عليه في مقام البيان.

بل لعل ذلك صالح لبيان المراد من المادة الموجبة للاعتصام و المانعة من الانفعال، إذ من البعيد جدا أن يراد من إطلاق المادة هناك أمر آخر من دون قرينة، و يكتفي بذلك في مقام البيان، بل تقدم في أوائل الكلام في عاصمية المادة تقريب رجوع التعليل المذكور في الصحيحين للحكم بالاعتصام و مقام الدفع، دون تطهير ماء البئر بعد ارتفاع تغيره في مقام الرفع، بل هو تابع للحكم الأول و متفرع عليه بنحو يستغني عن التعليل.

و مقتضي ذلك دوران الاعتصام مدار المادة المذكورة في التعليل وجودا و عدما، و لا بد من حمل المادة المذكورة فيه علي خصوص ما تبلغ الكر، بقرينة تفريع مقام الرفع عليه، لما أشرنا إليه قريبا من أن ما لا يعتصم في نفسه لا يصلح لتطهير غيره ارتكازا. و بذلك يتعين الخروج عن الأصل المتقدم في المقام الأول، المقتضي للاكتفاء بكرية المجموع.

(1) لا ريب أن الجاري لغة متقوم بالجريان، لا بالمادة، فلا يشمل الراكد الذي له مادة، و قد تقدم عند الكلام في ماء العيون أنه لا مجال لدعوي شموله له عرفا أو اصطلاحا، و إن كان مثله في الاعتصام، كما أنه يشمل الجاري لا عن مادة.

إلا أن الظاهر المفروغية عن قصور نصوص المقام و فتاوي الأصحاب عنه في الجملة، ففي جامع المقاصد: «المراد به النابع، لأن الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد يعتبر فيه الكرية- اتفاقا ممن عدا ابن أبي عقيل [1]- بخلاف النابع».

______________________________

[1] الظاهر أن المراد به الإشارة إلي خلاف ابن أبي عقيل في اعتبار الكرية في الراكد، لما تقدم منه من عدم انفعال الماء القليل، لا أنه مخالف في أخذ النبع في الجاري. (منه عفي عنه).

ص: 219

______________________________

و لعل منشأ ذلك ما ارتكز في أذهان المتشرعة من أن الجريان بنفسه ليس عاصما للماء، و لا موضوعية له في الأحكام، و لذا لا ريب في عدم ترتبها علي ما يجري في الأرض بإراقة الإناء و نحوها، بل اعتصام الجاري إنما هو باعتبار مادته، فان استحكام الانصراف المذكور أوجب انصراف الجاري عندهم لما له مادة، و حيث كان المعهود من ذلك الأنهار و نحوها مما يكون جريانه مستندا للنبع أخذوا النبع فيه، كما تقدم من جامع المقاصد.

لكن الإنصاف أن المعهود من الجاري لا يختص بما يكون عن نبع، بل قد يستند إلي مثل ذوبان الثلوج، كبعض الأنهار، كما قد يستند إلي الدوالي و النواعير و نحوها مما يكون وروده متقطعا بنحو التوالي المستلزم للجريان، فالمناسب لوجه الانصراف جعل المعيار في الجاري مطلق الاعتصام مع الجريان، سواء استند إلي كثرة الماء- كالأنهار المستندة لذوبان الثلج- أم للمادة التي هي من سنخ النبع أو الرشح، أو التي هي عبارة عن الماء الراكد المتدافع، كماء الأنابيب المتعارفة في زماننا.

و بالجملة: مقتضي الجمود علي لفظ الجاري الاكتفاء بفعلية الجريان، و الارتكاز المتقدم لا يقتضي إلا التقييد بالاعتصام.

اللهم إلا أن يقال: لو تمَّ هذا في إطلاق الجاري في عرف المتشرعة فلا مجال له في إطلاقه في النصوص و فتاوي الأصحاب الواردة في مقام بيان اعتصام الجاري، لامتناع أخذ خصوصية الحكم في موضوعه، و حيث كان حمله علي إطلاقه متعذرا، للقطع بعدم عاصمية الجريان بنفسه- و لو مع القلة و عدم النبع- كان عنوان الجاري غير خال عن الاجمال، و لزم الاقتصار فيه علي المتيقن المعروف في عصر صدور النصوص، و الظاهر عدم اختصاصه بما يكون عن نبع، بل يشمل مثل الأنهار الكبيرة المستندة لذوبان الثلوج من الجبال، لصدق الجاري عليها قطعا.

و التزام المجاز فيها لمشابهتها للشطوط النابعة صعب جدا، و إن أصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه مستدلّا بعدم اطراده في كل ما يتلبس بالجريان و لو كان قليلا.

ص: 220

______________________________

إذ فيه: أن المشابهة كما تكون مع الكثرة تكون مع القلة، لأن الجاري عن نبع قد يكون قليلا أيضا، مع ظهور عدم صحة الاستعمال و لو مجازا مع القلة بدون النبع، فعدم صحة الاستعمال مع القلة و صحته مع الكثرة شاهد بالفرق بينهما، لا بمجازية الاستعمال مع الكثرة.

و دعوي: أن إطلاق الجاري علي الأنهار المذكورة لتخيل نبعها، و أن المعيار هو النبع، كما ذكره في جامع المقاصد.

ليست بأولي من دعوي: أن ذكر الجريان من حيث ملازمته عرفا لكثرة الماء بنفسه أو بمادته، بحيث يكون قاهرا غير محدود عرفا.

و أشكل من ذلك ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن الاستعداد للجريان مقوم لمفهوم الجاري، و ما لا يكون له نبع فاقد لذلك الاستعداد.

إذ فيه: أن ظاهر اسم الفاعل ارادة فعلية الحدث لا بقيد الاستعداد، و ان كان قد يستعمل بنحو الملكة، فيتمحض في الاستعداد، و هو لو تمَّ اقتضي كفاية النبع و لو مع عدم فعلية الجريان لمانع- كما تقدم من بعضهم- و قد منع قدّس سرّه منه.

علي أن اختصاص الاستعداد بالنبع لا وجه له، بل قد يكون بالكثرة المقتضية للتدافع، و بكثرة المادة غير العاصمة كالثلج. فالإنصاف أن منع صدق الجاري علي مياه الأنهار الكبيرة غير المستندة للنبع في غاية الاشكال.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا في توجيه العموم من حمل الجاري علي ما يكون له جريان بنحو الدوام أو الغلبة، لأنه لا ماء إلا و له جريان سابقا أو فعلا، فتخصيص بعض أنواعه بوصف الجريان لا بد أن يكون بلحاظ استمرار جريانه أو غلبته، و منه الأنهار المذكورة و نحوها.

ففيه: - مع عدم اشتراك جميع المياه في عروض وصف الجريان و لو سابقا، كماء البئر و الثمد- أن ظاهر إطلاق الجاري لحاظ فعلية الجريان لا ما يعم سبقه ليشترك فيه جميع المياه و يتعين حمله علي الاستمرار أو الغلبة نظير الملكة.

مع أن لازم ذلك عدم صدق الجاري علي ما يكون فعلي الجريان عن نبع

ص: 221

______________________________

ينقطع كثيرا و لو لسد محل النبع، و صدقه علي ما توقف جريانه لعارض طارئ، و لا يظن من أحد الالتزام بالأول، كما اعترف هو بعدم صحة الثاني.

فالعمدة ما ذكرنا من أن عنوان الجاري في نصوص الاعتصام لا يخلو عن إجمال، للقطع بعدم ارادة المعني اللغوي علي إطلاقه، و عدم وضوح القيد الذي أخذ فيه، و من القريب الاعتماد علي بعض القرائن في الاختصاص ببعض الأفراد المعهودة التي يصعب تحديدها.

بل ذلك قد يوجب إجماله في غيرها من النصوص، كصحيح محمد بن مسلم الآتي الوارد في تطهير الثوب، لصعوبة التفكيك في إطلاقات الجاري في كلام الشارع الأقدس.

فاللازم الاقتصار في الأدلة المتضمنة لعنوان الجاري علي المتيقن و إلحاق غيره به لا يكون إلا لفهم عدم الخصوصية، أو لتنقيح المناط، أو لدليل خارج، كعموم المادة و نحوه. فلاحظ.

هذا كله في مفهوم الجاري، و أما حكمه فاعلم أنه لا إشكال بينهم في اعتصام الجاري، و في المعتبر أنه مذهب فقهائنا أجمع، و عن المنتهي أنه بإجماع أهل العلم، و عن شرح الموجز دعوي الإجماع عليه، و عن الغنية نفي الخلاف فيه.

و الأدلة به متظافرة، كما سيأتي.

هذا، و ظاهر بعضهم و صريح آخرين عدم اعتبار الكرية فيه، و عن الحاشية الميسية و الروض و الدلائل و الذخيرة أنه المشهور، بل عن الذكري نفي الخلاف فيه ممن سلف علي العلامة، و في جامع المقاصد و عن مجمع الفوائد أن العلامة قد تفرد باعتبار الكرية و خالف فيه مذهب الأصحاب، و عن الغنية و جمل القاضي و محكي حواشي التحرير للكركي نفي الخلاف فيه صريحا، و هو كالصريح من المعتبر، و الخلاف، و الظاهر مما عن مصابيح السيد الطباطبائي قدّس سرّه. و في الجواهر:

«و يمكن للمتأمل المتروي في كلمات الأصحاب تحصيل الإجماع علي عدم اشتراط الكرية».

ص: 222

______________________________

و مع هذا فقد صرح العلامة قدّس سرّه في القواعد باعتبار الكرية، و هو المحكي عن سائر كتبه عدا ظاهر الإرشاد. و عن ظاهر جمل السيد، و في المسالك أنه الأصح، و في الروضة و عن الروض الميل إليه، و عن التنقيح أنه الأولي، و في الروضة نسبته إلي جماعة، و عن الروض نسبته إلي جماعة من المتأخرين.

و لا يخفي أن النزاع في الكرية إنما هو في النابع، و قد يلحق به غيره مما يجري عن مادة- بناء علي دخوله في الجاري- و أما ما لا مادة له فلا يظن من أحد الإشكال في اعتبار الكرية فيه، لما أشرنا إليه آنفا من عدم عاصمية الجريان.

إذا عرفت هذا، فقد يستدل للعلامة قدّس سرّه بما أشار إليه في محكي التنقيح من عموم نصوص الكر الظاهرة في انفعال القليل مطلقا و إن كان جاريا.

و فيه: - مع ما سبق في البئر من الإشكال في شمول العموم المذكور لذي المادة الذي هو محل الكلام هنا- أنه لا بد من رفع اليد عن العموم المذكور بما دل علي اعتصام ذي المادة، و عمدته التعليل في صحيحي ابن بزيع المتقدمين، كما تقدم في المسألة السابقة.

مضافا إلي إطلاق بعض النصوص- التي لا تصلح إلا لتأييد الحكم، لضعفها سندا- عن أمير المؤمنين و الرضا عليهما السّلام، المتضمنة علي اختلاف ألسنتها: أن الجاري لا ينجسه شي ء «1».

و احتمال عدم شمول الجاري للقليل النابع، لما تقدم من إجماله و لزوم الاقتصار فيه علي المتيقن. بعيد، لقرب معهودية ذلك سابقا. فلاحظ.

و ربما استدل بنصوص اخري مختصة بالجاري لا بأس بالكلام فيها تبعا لغير واحد.

منها: صحيح داود بن سرحان: «قلت لأبي عبد اللّٰه ع: ما تقول في ماء الحمام؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري» «2»، حيث يدل علي اعتصام الجاري، بل

______________________________

(1) تراجع النصوص المذكورة في مستدرك الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 223

______________________________

علي معروفية الحكم المذكور، بحيث يتكل في بيان الاعتصام علي التشبيه بالجاري.

و قد استشكل فيه.

تارة: بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنه بناء علي اختصاص ماء الحمام بما إذا بلغت مادته و لو بضميمة ما في الحياض كرا تكون الصحيحة علي خلاف المطلوب أدل، لأن مقتضي التنزيل تساوي الشيئين في الحكم.

و اخري: بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من إجمال الحكم الملحوظ في التنزيل، إذ يحتمل أن لا يكون هو الاعتصام.

و ثالثة: بما ذكره بعض مشايخنا من أن المشبه به هو الجاري الكثير، لأنه الموجود في أراضي العرب و الحجاز، و أن المنظور في التشبيه هو تنزيل كثرة ماء الحمام الجعلية الناشئة من اتصاله بالمادة منزلة كثرة الماء الجاري الحقيقية.

و يندفع الأول.

تارة: بأن ذلك إنما يقتضي اعتبار الكرية في مادة الجاري، أو في المجموع منها و من الخارج عنها- و لا بأس به- لا في خصوص الجاري الخارج كما هو مذهب العلامة قدّس سرّه و من تبعه.

نعم، لو كان المراد بماء الحمام مجموع ما في الحياض مع المادة فقد يتجه ما ذكره قدّس سرّه. إلا أنه خلاف الظاهر جدا، بل الظاهر ارادة خصوص ما في الحياض، لأنه الذي هو محل الابتلاء و يتوهم انفعاله دون المادة.

و منه يظهر أنه لا مجال لما ذكره قدّس سرّه من أنه بناء علي اعتبار الكرية في ماء الحمام فالمراد تنزيله منزلة الجاري في رفع القذارة المتوهمة بسبب تدافعه كالجاري، لا في عدم التنجس، و إلا فمن البعيد إرادة اعتصام الكر بهذه النصوص، لوضوحه.

فإن ذلك- مع كونه خلاف ظاهر النصوص جدا- إنما يحتاج إليه لو كان المعتبر كرية ما في الحياض، أما حيث كان المعتبر كرية المادة دون ما في الحياض

ص: 224

______________________________

فلا مانع من بيان اعتصام ما في الحياض بهذه النصوص دفعا لتوهم كون قلته مقتضية لانفعاله، و تنبيها علي عاصمية المادة له، كما هو ظاهر النصوص في أنفسها.

و اخري: بأن ارتكاز اعتصام الجاري و معروفيته بذلك عند المتشرعة بل العرف- بل هو الظاهر من مجموع النصوص- موجب لظهور الحديث في تنزيل ماء الحمام في خصوص الاعتصام منزلته، لا تنزيله منزلته في التفصيل بين الاعتصام و عدمه، فإن التفصيل المذكور ليس من الوضوح بحيث يتكل عليه في مقام البيان و يكتفي به في الجواب.

و لذا كان ما دل علي تقييد اعتصام ماء الحمام بالمادة أو بكرّيتها من سنخ المقيد الشارح لموضوع التنزيل في الحديث و هو ماء الحمام، و ليسا من سنخ المجمل و المفصل.

و منه يظهر اندفاع الثاني، إذ لا مجال لدعوي إجمال جهة التنزيل مع معروفية الجاري بالاعتصام و عدم ظهور حكم آخر صالح لحمل التنزيل عليه بحيث يكون مسوقا له دون الاعتصام، و لا سيما مع كثرة السؤال عن اعتصام ماء الحمام الموجب لانصراف السؤال و الجواب في الصحيح إليه، و لذا استدل قدّس سرّه به علي اعتصام ماء الحمام.

و دعوي: أن الاستدلال به علي اعتصام ماء الحمام بعد المفروغية عن اعتصام الجاري لا يصحح الاستدلال به في المقام لإثبات اعتصامه.

مدفوعة: بأن الاستدلال به في المقام ليس لإثبات أصل اعتصامه، بل لإثبات عمومه لحال القلة بعد الفراغ عن ثبوته في الجملة، فإنه ليس موردا للإشكال. فلاحظ.

و يشكل الثالث: - مع عدم وضوح انحصار الجاري في أرض العرب بالكثير، و عدم الموجب للانصراف إلي خصوص ما في أرض العرب، خصوصا في كلام الصادق عليه السّلام مع مثل داود الذي هو مولي كوفي- بأن ظاهر الصحيح السؤال

ص: 225

______________________________

و الجواب عن حكم ماء الحمام من حيث الاعتصام و عدمه، و ما ذكره إنما يناسب بيان علة الاعتصام بعد المفروغية عنه.

و مثله ما يقال من أن المقصود بالتشبيه ليس هو بيان الاعتصام بل تنزيل جريان المادة علي الحياض منزلة جريان الجاري في عدم إخلاله بالوحدة و إن لم يكن معتصما لقلته.

فالعمدة في وهن الاستدلال بالصحيح أنه ليس واردا لبيان اعتصام الجاري، لينعقد له ظهور في الإطلاق صالح للاستدلال علي عموم اعتصامه، بل لبيان اعتصام الحمام بعد الفراغ عن اعتصام الجاري فلا ينافي اختصاص الاعتصام بالجاري الكثير، لاختصاص المفروغية به، فهو نظير ما ورد من أن أكل الطين حرام كالميتة و الدم «1»، حيث لا إطلاق له في حرمة كل ميتة و دم و إن كانا مما لا نفس له، مثلا.

و دعوي: أن ذلك يستلزم إلغاء خصوصية الجاري في التنزيل، لوضوح أن كل ماء كثير معتصم و إن كان راكدا.

مدفوعة: بأنه يكفي في الخصوصية المصححة لذكره في التنزيل غلبة كريته و اعتصامه. و لا سيما مع كون اعتصامه ارتكازيا، لا تعبديا كالكر الراكد، فهو أظهر أفراد المعتصم.

و منها: خبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قلت: أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب، و الصبي، و اليهودي، و النصراني، و المجوسي. فقال: إن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» «2».

فإن المراد فيه بالتطهير الاعتصام الذي هو حفظ الطهارة، لا إحداثها بعد ارتفاعها- كما تقدم- فيدل علي اعتصام ماء النهر الشامل بإطلاقه لما إذا كان قليلا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 58 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 11 و باب: 59 من الأبواب المذكورة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 226

______________________________

و يظهر الجواب عنه مما تقدم في صحيح ابن سرحان. و لا سيما مع ظهوره في اعتصام النهر بعضه ببعض، لا بالمادة الخارجة عنه، فيناسب كثرته- كما نبه لذلك غير واحد- و إن كان هو لا يناسب حال ماء الحمام. إلا أن يراد منه ما يعم المادة.

علي أن عموم النهر للقليل غير ظاهر، كيف و عن المصباح: انه الماء الجاري المتسع، و في مفردات الراغب: أنه مجري الماء الفائض، و في الجمهرة: أن أصل النهر السعة و الفسحة، و في كلام بعضهم أنه فوق الساقية.

و منها: صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله في المركن مرتين، فإن غسلته في ماء جار فمرة واحدة» «1»، فإنه بناء علي أنه يشترط في التطهير بالماء غير المعتصم وروده علي النجاسة- كما هو مذهب العلامة قدّس سرّه- يكون الصحيح دليلا علي اعتصام الجاري، لظهور أن الغسل به إنما يكون بوضع الثوب فيه، لا بوروده علي الثوب، لعدم تعارف ذلك.

و فيه: أن الصحيح لما لم يكن واردا لبيان اعتصام الجاري، بل لبيان كفاية المرة فيه، أمكن أن يكون جواز ورود الثوب عليه مشروطا ببلوغه الكر، فإن ذلك ليس تقييدا فيه، بل خروج عن المتعارف في كيفية التطهير في قليل من أفراده لأمر خارج عن جهة الإطلاق.

و دعوي: أن المناسب حينئذ التنبيه علي ذلك للغفلة عنه.

مدفوعة: بأن عدم التنبيه إنما يدل علي الاعتصام لو كان الغالب هو قلة الجاري، لانصراف الذهن إليه بسبب ذلك، فيكون عدم التنبيه ظاهرا في إقرار مورد الانصراف، أما حيث لم تكن القلة بهذا النحو لم يكن لعدم التنبيه ظهور في ذلك، و لزم الرجوع إلي مقتضي الأدلة الأخري.

و منه يظهر اندفاع ما ذكره المحقق الهمداني قدّس سرّه من أنه حتي علي القول بعدم اعتبار ورود الماء في التطهير لو كان ملاقاة الثوب للماء الجاري القليل سببا

______________________________

(1) الوسائل ج: باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 227

______________________________

لتنجسه لكان علي الامام عليه السّلام التنبيه علي ذلك في الصحيح و لو لم يكن مقصودا بالسؤال.

وجه الاندفاع: أن عدم التنبيه مع عدم غلبة القلة لا ظهور له في عدم الانفعال مع عدم كونه مقصودا بالسؤال و لا موردا للإطلاق.

نعم، لو تمَّ ملازمة الاكتفاء بالمرة في البول لاعتصام الماء كان مقتضي الإطلاق المذكور اعتصام الجاري مطلقا و إن كان قليلا.

اللهم إلا أن يقال: الملازمة المذكورة لو تمت فالدليل عليها منحصر بهذا الصحيح و نحوه، لدعوي فهم عدم الخصوصية للجاري، و أن المناط علي اعتصامه، و ذلك موقوف علي المفروغية عن اعتصام الجاري، فلا بد من ثبوته في مرتبة سابقة، و لا يكفي الصحيح و نحوه في الدلالة عليه. فتأمل جيدا.

و منها: النصوص النافية للبأس عن البول في الماء الجاري، كصحيح الفضيل عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري، و كره أن يبول في الماء الراكد» «1» و غيره، فقد استدل بها في الوسائل تبعا لما في الخلاف و عن التهذيب.

و فيه: أن نفي الكراهة في الماء الجاري كثبوتها في الراكد لا ينافي الانفعال مع القلة. إلا أن يكون مرادهم الاستدلال علي اعتصام الجاري في الجملة من جهة أن الاهتمام بطهارة الجاري يمنع من البول فيه لو كان ينفعل به، فعدم التنبيه ظاهر في المفروغية عن عدم انفعاله.

نعم، قد يستدل بموثق سماعة: «سألته عن الجاري يبال فيه؟ قال: لا بأس به» «2»، بدعوي ظهوره في السؤال عن حكم الماء الذي يبال فيه، لا عن حكم البول فيه.

اللهم إلا أن يقال: كما يمكن أن يكون قوله: «يبال فيه» حالا من الماء

______________________________

(1) الوسائل ج: باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(2) الوسائل ج: باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 228

اتصاله بالمادة (1)، فلو كانت المادة من فوق تترشح و تتقاطر فإن كان دون الكر ينجس (2).

نعم، إذا لاقي محل الرشح للنجاسة لا ينجس (3).

مسألة 7 الراكد المتصل بالجاري كالجاري

مسألة 7: الراكد المتصل بالجاري كالجاري (4)،

______________________________

المسؤول عنه، فيكون المراد به السؤال عن حكمه في فرض البول فيه، كذلك يمكن أن يكون بدلا من الماء لكونه هو الجهة المسؤول عنها.

بل لعل الثاني أظهر بعد النظر في الأخبار الواردة في حكم نفس البول في الماء، لصلوحها لتفسيره.

بل يشكل الأول: بأن المفروغية عن اعتصام الكثير الجاري، و شيوع استعماله بعد البول فيه تقتضي صرف السؤال إلي خصوص القليل منه، و هو مما يأباه الكلام جدا، بعد غلبة الكثرة فيه.

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا: أن العمدة في المقام عموم عاصمية المادة المستفاد من التعليل في صحيحي ابن بزيع.

(1) بلا إشكال ظاهر، لاختصاص عاصمية المادة بذلك، لمناسبته لكون التعليل ارتكازيا. بل لو فرض التمسك في المقام بنصوص الجاري لزم اعتبار ذلك أيضا، فإنه بعد فرض اعتبار المادة فيه لا بد من اعتبار الاتصال بها لعين الوجه المقتضي لاعتبارها. فتأمل.

(2) و أما إذا كان بقدر الكر فلا ينجس لعموم نصوص الكر، علي ما يأتي في المسألة الثامنة عشرة إن شاء اللّٰه تعالي.

(3) لاتصاله بالمادة العاصمة. إلا أن تكون المادة ضعيفة بحيث لا تكون متصلة به عرفا، بل كان شبه النضح لا يتجمع إلا بطول المدة. و الظاهر خروجه عن مفروض المتن.

(4) كما صرح به في القواعد، و ظاهر شروحها وضوح الحكم. و يقتضيه

ص: 229

فالحوض المتصل بالنهر بساقية يلحقه حكمه، و كذا أطراف النهر، و ان كان ماؤها واقفا (1).

مسألة 8 إذا تغير بعض الجاري دون بعضه الآخر فالطرف المتصل بالمادة لا ينجس بالملاقاة

مسألة 8: إذا تغير بعض الجاري دون بعضه الآخر فالطرف المتصل بالمادة لا ينجس بالملاقاة و إن كان قليلا (2).

______________________________

عموم عاصمية المادة، لأن المادة مادة له كما هي مادة للجاري.

و كذا لو فرض عدم كون الجاري ذا مادة- بناء علي عدم أخذها فيه- إما لما هو الظاهر من اتحاده مع الجاري عرفا، بحيث يكونان ماء واحدا و إن لم يكن بعضه جاريا، فيكفي في اعتصامه كرية المجموع من الجاري و الواقف المتصل به، فضلا عن كرية الجاري وحده.

أو لكون الجاري عاصما له كالمادة، لأن المستفاد من التعليل بالمادة بعد كونه ارتكازيا الاكتفاء في اعتصام الماء بما يقتضي الاعتصام، و إن كان لا يستمد منه فعلا، و لذا كانت المادة عاصمة للبئر و إن لم تجر عليها فعلا، لصعود مائها، كما تقدم نظيره في ماء العيون، عند الكلام فيما ذكره الشهيد قدّس سرّه من اعتبار دوام النبع.

هذا، و لو فرض كون الجاري من سنخ المادة ففي اعتبار كريته وحده أو الاكتفاء بكرية المجموع ما تقدم عند الكلام في ذي المادة.

(1) لا ريب في دخول ذلك في إطلاق الجاري تبعا، بل في المتيقن منه، لكثرة تحققه فيه و شيوع الابتلاء به و الغفلة عن اختلاف حكمهما، بنحو يتعذر حمل النصوص و الفتاوي علي خصوص ما يجري منه بالفعل.

و منه يظهر أنه لا مجال لما ذكره بعض مشايخنا من عدم جريان أحكام الجاري عليه- لو فرض اختصاصه ببعض الأحكام- و إن كان معتصما من جهة المادة.

نعم، قد يتجه ذلك في مثل الحوض المنفصل عن الجاري عرفا، لخروجه عن المتيقن الذي ذكرناه.

(2) بل و إن انقطع عما وراء التغير لاستيعاب المتغير لتمام قطر الماء.

ص: 230

و الطرف الآخر حكمه حكم الراكد، إن تغير تمام قطر ذلك البعض (1) تنجس (2)،

______________________________

لعموم عاصمية المادة للماء و إن كان قليلا، فلا ينجس في المقام بملاقاة المتغير النجس.

بل علي القول باعتبار كرية الجاري في اعتصامه قد يقال في المقام بعدم انفعال ما قبل المتغير المتصل بالمادة بالتغير، لأنه متدافع إليه.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن العلو الموجب للجريان لا يمنع من سراية النجاسة إلي العالي.

مبني علي ما تقدم منه في غير ذي المادة من اعتبار قوة الدفع في عدم الانفعال. و قد تقدم الاشكال فيه و الاكتفاء بقوة الجريان المعتد به عرفا، فلو فرض تحققه في المقام لم يبعد البناء علي الطهارة و لو للأصل.

نعم، كثيرا ما يستوجب الجريان اختلاط المتغير بغيره من غير تدافع بين الأجزاء، و في مثله يتعين الانفعال.

كما أنه لو فرض تنجس الأرض الملاقية للمتغير تعين تنجس غير المتغير بالمرور عليها و ملاقاتها بلا إشكال. إلا أن يخص ذلك بالمقدار الذي يصدق غسلها و تطهيرها به، دون ما بعده مما يمر عليها بعد التطهير.

و مما ذكرنا يظهر الحال في الجاري لا عن مادة بناء علي شمول الجاري له، فان انفعال ما بعد المتغير المتدافع إلي جهته موقوف علي قلته و ضعف جريانه جدا. فلاحظ.

(1) بحيث لا يتصل ما بعده بالمادة إلا بواسطته.

(2) يعني: إن كان قليلا، لأن المتغير النجس لا يكون واسطة في اعتصام الماء بالمادة، بحيث يصدق أن له مادة، لقصور الاتصال بالمادة المعتبر ارتكازا في عاصميتها- كما تقدم- عن مثله.

ص: 231

و إلا (1) فالمتنجس هو المقدار المتغير فقط، لاتصال ما عداه بالمادة (2).

______________________________

و أما ما ذكره بعض مشايخنا في وجه عدم صدق أن له مادة بأنه لا يستمد من المادة.

ففيه: - مع ما عرفت من عدم اعتبار الاستمداد، بل مجرد الاتصال- أن المراد بالاستمداد هو استمداد المجموع لا كل جزء جزء، و من الواضح أن الجاري بمجموعة يستمد من المادة، و هو يقتضي طهارة جميعه الا المتغير الذي دل الدليل علي نجاسته و استثنائه.

فالعمدة ما ذكرنا من قصور الاتصال عن مثل ذلك، بقرينة كون التعليل بالمادة ارتكازيا.

بل لو فرض عدم استفادة عموم عاصمية المادة من التعليل، كان قصوره عن الاتصال المذكور متعينا بقرينة مناسبة الحكم للموضوع الارتكازية. و من الغريب ما في الجواهر من إمكان الاكتفاء بذلك في الدخول تحت الإطلاقات بعد جزمه أوّلا بعدمه.

نعم، لو فرض إجمال الأدلة و الشك في ذلك لم يبعد الرجوع لأصالة الطهارة أو استصحابها، كما ذكر، و لا مجال للرجوع لعموم انفعال القليل، لما تقدم غير مرة من قرب انصرافه إلي بيان عدم اعتصام الماء في نفسه، فلا ينافي اعتصامه بغيره كالمادة التي فرض احتمال عاصميتها في المقام، فالمرجع استصحاب الطهارة، لا العموم.

(1) يعني: و إن لم يتغير تمام ما في القطر، بل بقي منه ما يصلح لوصل ما قبل المتغير بما بعده.

(2) الموجب لاعتصامه و إن كان قليلا، كما تقدم.

هذا، و لو لم يكن للجاري مادة فالكلام فيه يظهر مما ذكرناه هنا و ما تقدم في

ص: 232

مسألة 9 إذا شك في أن للجاري مادة أم لا و كان قليلا ينجس بالملاقاة

مسألة 9: إذا شك في أن للجاري مادة أم لا، و كان قليلا، ينجس بالملاقاة (1).

______________________________

الفرع الخامس من الفروع التي استدركناها في الماء الذي لا مادة له.

(1) كما صرح به السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي و تابعه عليه جملة من الشراح و المحشين.

و كأن محل كلامهم لا يشمل ما لو شك في انقطاع المادة بعد العلم بوجودها. و إلا فالمتعين البناء علي الاعتصام،- كما صرح به سيدنا المصنف قدّس سرّه- لأنها من الحالات الزائدة علي ذات الماء التي لا يكون الشك فيها مستلزما للشك في الموضوع، بخلاف الكرية، فإن الشك فيها إنما يكون للشك أو العلم بنقص الماء و لا يحرز معه الموضوع المعتبر في الاستصحاب، كما تقدم في الفرع التاسع من الفروع التي استدركناها في الماء الذي لا مادة له. فراجع.

و منه يظهر عدم الاشكال فيما ذكروه لو كان الشك في ثبوت المادة للماء راجعا إلي الشك في حدوثها له بعد العلم بعدمها سابقا، فان استصحاب عدمها حاكم بانفعاله، كما صرح به سيدنا المصنف قدّس سرّه أيضا.

و إنما الإشكال فيما لو لم يعلم بحالته السابقة أو كان موردا لتعاقب الحالتين مع الجهل بالتاريخ.

و قد يوجه البناء علي الانفعال حينئذ.

تارة: بأنه مقتضي عموم انفعال الماء القليل.

و اخري: بقاعدة المقتضي، لإحراز مقتضي الانفعال و هو الملاقاة للنجاسة، و الشك في وجود المانع و هو المادة.

و ثالثة: بأن تعليق الطهارة و نحوها من الأحكام الترخيصية علي عنوان وجودي- كالمادة- يقتضي البناء علي عدمها عند عدم إحراز العنوان المذكور.

ص: 233

______________________________

و رابعة: بأصالة عدم المادة الراجع إلي استصحاب العدم الأزلي.

لكن الأول من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص الذي لا مجال له علي التحقيق. مضافا إلي ما تقدم في البئر و غيرها من أن العموم المذكور وارد لبيان عدم اعتصام الماء في نفسه، و أنه لا يشمل ماله مادة، فلا عموم يقتضي انفعال ذي المادة، ليرجع إليه عند الشك فيها.

كما أنه تقدم في مشكوك الكرية أنه لا مجال للرجوع للثاني و الثالث.

فالعمدة هو الرابع، لما تقدم من أن التحقيق جريان استصحاب العدم الأزلي. بل هو هنا أبعد عن الاشكال منه هناك، إذ لا ريب في أن المادة أمر زائد علي الماء غير منتزع من مقام الذات، و إنما هي من لواحق الوجود، فيصح سلبها عنه بلحاظ ما قبله أزلا، بخلاف الكرية، حيث تقدم الإشكال في جريان الاستصحاب المذكور فيها بأنها منتزعة من مقام الذات، فلا يصح سلبها عنه حتي أزلا، علي ما تقدم الكلام فيه.

لكن هذا مختص بما إذا لم تعلم الحالة السابقة، أما مع توارد الحالتين، فلا مجال لاستصحاب عدم المادة الأزلي، للعلم بانتقاض العدم المذكور، بل يتعين معه البناء علي مقتضي الأصل الحكمي في الشك المذكور في الأحكام الخمسة التي تقدم الكلام فيها في مبحث الشك في الكرية.

و قد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن الشك في المادة يكون.

تارة: بعد إحرازها.

و اخري: بعد إحراز عدمها.

و ثالثة: مع تعاقب الحالتين.

و رابعة: مع الجهل بالحالة السابقة، و أن البناء علي عدم المادة مختص بالصورة الثانية، لاستصحاب العدم المحمولي، و الرابعة لاستصحاب العدم الأزلي.

أما في الصورة الأولي فيتعين البناء علي وجود المادة.

كما أنه في الصورة الثالثة لا يحرز كل منها، و يرجع للأصل في الأحكام.

ص: 234

مسألة 10 ماء المطر بحكم ذي المادة لا ينجس بملاقاة النجاسة في حال نزوله

مسألة 10: ماء المطر بحكم ذي المادة لا ينجس بملاقاة النجاسة في حال نزوله (1).

______________________________

(1) كما صرح به في الشرائع و المعتبر و القواعد و غيرها، و هو في الجملة مما لا إشكال بل لا خلاف فيه نصا و فتوي.

ففي صحيح هشام بن سالم: «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن السطح يبال عليه، فتصيبه السماء، فيكف، فيصيب الثوب فقال: لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه» «1»، و صحيح هشام بن الحكم عنه عليه السّلام: «في ميزابين سالا، أحدهما بول و الآخر ماء المطر، فاختلطا فأصاب ثوب رجل لم يضره ذلك» «2»، و صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي عليه السّلام: «سألته عن البيت يبال علي ظهره و يغتسل من الجنابة، ثمَّ يصيبه المطر أ يؤخذ من مائه، فيتوضأ به للصلاة؟ فقال: إذا جري فلا بأس به. قال: و سأله عن الرجل يمر في ماء المطر قد صب فيه خمر فأصاب ثوبه، هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه و لا رجله، و يصلي فيه و لا بأس [به خ ل]» «3»، و نحوه خبره، و زاد فيه: «و سألته عن الكنيف يكون فوق البيت، فيصيبه المطر، فيكف فيصيب الثياب أ يصلي [و يصلي خ ل] فيها قبل أن تغسل؟

قال: إذا جري من ماء المطر فلا بأس» «4»، و خبره الآخر: «سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب أ يصلي فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا جري به [فيه خ ل] المطر فلا بأس» «5»، و غيرها.

هذا، و عن المبسوط، و التهذيب، و الوسيلة، و الجامع، و الموجز اعتبار

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

ص: 235

______________________________

الجريان من ميزاب.

لكن ما في التهذيب لا يدل عليه، حيث إنه بعد أن ذكر صحيح هشام بن الحكم المتقدم و غيره قال: «الوجه في هذين الخبرين هو أن ماء المطر إذا جري من الميزاب فحكمه حكم الماء الجاري لا ينجسه شي ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته، يدل علي ذلك ما رواه علي بن جعفر.» «1» ثمَّ ذكر صحيح ابن جعفر المتقدم.

و من الظاهر أن التقييد بالجريان من الميزاب كما يمكن أن يكون لاعتباره في الاعتصام كذلك يمكن أن يكون لذكره في الخبرين.

و كذا ما حكي عن المبسوط، حيث قال: «و مياه المرازيب الجارية من المطر حكمها حكم الجاري» «2»، فإنه غير ظاهر في التقييد، بل لعل ذكر الجاري من الميزاب لدفع توهم اختصاص الطهارة بالمطر في حال نزوله من السماء و أنه لا يعتصم حين وصوله إلي الأرض و جريه عليها، لعدم الكرية و لا المادة، كما هو الظاهر أيضا مما عن الموجز، حيث قال: «و كذا ماء الغيث نازلا و لو من ميزاب».

و مثله ما في الوسيلة، حيث أنه بعد أن ذكر الماء الجاري، قال: «و ما يكون في حكم الجاري هو ماء الحمام ما دامت له مادة من المجري، فإذا انقطعت المادة ارتفع عنه هذا الحكم. و حكم الماء الجاري من الشعب [المشعب خ ل] [3] من ماء المطر كذلك» «4»، فكأنه شبه المطر بالمادة، و الماء الجاري منه بالماء الذي له مادة في الاعتصام.

و بالجملة: نسبة القول المذكور إلي من عرفت في غاية الإشكال، و لا سيما مع تصريح الشيخ في النهاية بطهارة طين المطر مع عدم توقفه علي الجريان من

______________________________

[3] قال في القاموس: «الشعب. بالكسر الطريق في الجبل و مسيل الماء في بطن أرض أو ما انفرج بين الجبلين»، و قال: «و المشعب الطريق، و كمنبر المثقب».

______________________________

(1) التهذيب: 1- 411.

(2) المبسوط: 1- 6.

(4) الوسيلة: 72.

ص: 236

______________________________

الميزاب، بل و لا علي مطلق الجريان.

و أشكل منه الاستدلال له بصحيح هشام بن الحكم المتقدم، لعدم ظهوره في التقييد، بل ظاهر ذكر الميزاب فيه التمهيد لفرض الاختلاط، الذي هو مثار احتمال الانفعال، للتنبيه علي دفعه و اعتصام الماء. بل قد يشعر بأن الاعتصام لخصوصية كون الماء ماء مطر، و أن عدم انفعاله مع السيلان لذلك لا لدخله في الاعتصام، فإنه مما لا دخل له بحسب الارتكازات العرفية البدوية.

نعم، لا يبلغ ذلك مرتبة الظهور الصالح للاستدلال.

هذا، و ربما نسب لغير واحد ممن تقدم اعتبار مطلق الجريان في اعتصام ماء المطر، و لا ظهور لكلماتهم المتقدمة في ذلك.

نعم، في كشف اللثام: «و الظاهر أنه لا بد من اعتباره» و عن المدارك و الكفاية نفي البعد عنه.

و قد يستدل له.

تارة: بعموم انفعال القليل بعد قصور النصوص المتقدمة عن شمول غير صورة الجريان لتضمنها السيلان و الوكف الذي قيل إنه ملازم للجريان غالبا، و لا إطلاق له يشمل صورة عدمه.

و اخري: بصحيح ابن جعفر و خبرية التي تقدمت آنفا، لأن مقتضي المفهوم فيها ثبوت البأس مع عدم الجريان، فيخرج بها عن عموم النصوص الأخري- لو تمَّ.

و يندفع الأول: بأن الوكف إما أن يكون هو التقطير- كما في القاموس، و ذكره في لسان العرب، و لعله الظاهر- و هو لا يلازم الجريان، بل قد يكون لفساد السطح و عدم تماسكه، كما يناسبه ما في جمهرة اللغة و غيرها من أن الوكف الفساد و الضعف. أو السيلان الذي هو غير الجريان ظاهرا، لصدقه مع ضعف الجري جدا.

علي أن صحيح هشام بن سالم و إن تضمن الوكف إلا أن التعليل فيه بأن ما أصابه من الماء أكثر منه ظاهر في أن الوجه في الطهارة ليس هو الوكف أو الجريان،

ص: 237

______________________________

بل كثرة ماء المطر علي البول الذي أصاب السطح، و لا يبعد أن يكون ذلك كناية عن قاهريته له و عدم تغيره به أو بأثره.

مع أن مقتضي إطلاق ما في ذيل صحيح ابن جعفر المتقدم من طهارة ماء المطر الذي صب فيه الخمر عدم اعتبار الجريان.

و دعوي: أنه ربما يكون المراد به عدم نجاسة الخمر، كما تضمنته كثير من النصوص، و إن كان اللازم الخروج عنها تقديما لأدلة النجاسة، فلا يكون دالا علي اعتصام المطر. و مجرد البناء علي نجاسة الخمر تقديما لنصوصها لا يوجب ظهوره عرفا في اعتصام ماء المطر.

مدفوعة: بأن ظاهر حال السؤال المفروغية عن نجاسة الخمر، و أن منشأ السؤال خصوصية المطر، إذ لا وجه لتخصيصه بالذكر لو لا ذلك.

علي أنه لو فرض الاجمال فثبوت نجاسة الخمر قرينة عرفا علي صرف الكلام إلي ذلك، و إنما لا يصلح للقرينية لو كان الحمل علي ذلك مخالفا للظاهر، حيث إن ارتكاب خلاف الظاهر فيه ليس أولي من حمله علي ظاهره مع حمله علي التقية و نحوها مما تحمل عليه النصوص الأخري الدالة علي طهارة الخمر، نظير ما تقدم منا في صحيح محمد بن مسلم الوارد في الحبل من شعر الخنزير المستدل به علي عدم انفعال الماء القليل بالمتنجس. فراجع.

هذا، مضافا إلي تأيد ذلك ببعض النصوص، كمرسل محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن عليه السّلام: «في طين المطر أنه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام، إلا أن يعلم أنه قد نجسه شي ء بعد المطر» «1» فإن إطلاقه شامل لما إذا لم يجر ماء المطر، و مقتضي الحصر فيه أنه لا يضر في طهارة الطين تنجسه قبل المطر، فيدل علي طهارته بالمطر و طهارة ماء المطر المختلط به.

و مثله مرسل الكاهلي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قلت: يسيل عليّ من ماء المطر أري فيه التغير و أري فيه آثار القذر، فتقطر القطرات عليّ و ينتضح عليّ منه، و البيت

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

ص: 238

______________________________

يتوضأ علي سطحه فيكف علي ثيابنا. قال: ما بذا بأس لا تغسله، كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1»، فإن الظاهر سوق التعليل لبيان طهارة الأثر المصاحب لماء المطر، لدفع توهم بقائه علي النجاسة مع المفروغية عن طهارة نفس ماء المطر و عدم تنجسه، و لذا صح الاكتفاء في الجواب بذلك مع أن السؤال عن حكم نفس الماء الواقع عليه بمجموعه.

و دعوي: أن المفروض سيلان ماء المطر الذي هو نحو من الجريان، فلا تدل علي عدم الاعتصام بدونه.

مدفوعة: بأن الاقتصار في التعليل علي بيان عدم نجاسة الأثر ظاهر في المفروغية عن عدم نجاسة الماء بمجرد إصابته للقذر، و إلا كان ارتفاع نجاسته بالجريان بعد حدوثها بالملاقاة أولي بالتنبيه و التعليل، و لذا لا يظن من أحد الإشكال في ظهور الرواية بمقتضي التعليل في عدم البأس بإصابة الماء في السطح قبل سيلانه.

علي أن السؤال و إن تضمن السيلان، إلا أنه قد تضمن أيضا القطرات و النّضح، بل ظاهره تفسير السيلان بما يعمهما، و من الظاهر مباينتهما للجريان و عدم ملازمتهما له. فتأمل.

و مثله في ذلك خبر أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الكنيف يكون خارجا، فتمطر السماء، فتقطر علي القطرة. قال: ليس به بأس» «2» فإن إطلاقه من حيثية الجريان و عدمه ظاهر.

و هذه النصوص و إن كانت ضعيفة السند، إلا أنه قد يهون الأمر فيها بعد إرسال الأول من محمد بن إسماعيل بن بزيع الثقة الجليل، و إرسال الثاني من الكاهلي الذي ذكر النجاشي أنه كان وجيها عند الكاظم عليه السّلام و وصي به علي بن يقطين فقال له: اضمن لي الكاهلي و عياله أضمن لك الجنة. انتهي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 8.

ص: 239

______________________________

و وقوع عمر بن الوليد المجهول الذي هو سبب ضعف الثالث بين أبي بصير و جعفر بن بشير الذي ذكر في الفهرست أنه ثقة جليل القدر، و ذكر النجاشي أنه من زهاد أصحابنا و عبادهم و نساكهم، ثقة له مسجد بالكوفة، و أنا و كثير من أصحابنا إذا وردنا الكوفة نصلي فيه مع المساجد التي يرغب في الصلاة فيها، و كان ابن نوح يقول: كان يلقب فتحة العلم، روي عن الثقات و رووا عنه. انتهي.

فان ذلك كله مما يوجب قوة هذه النصوص بمجموعها بنحو تصلح للاستدلال علي الحكم، فضلا عن تأييد الصحيحين المتقدمين فيه.

هذا مضافا إلي أن خصوصية الجريان و السيلان و نحوهما ملغية عرفا، كما تلغي في سائر الموارد، لعدم دخلها ارتكازا في الاعتصام.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في صلوح ما ذكرنا لتخصيص عموم الانفعال، و الخروج عنه.

و أما ما ذكره في الجواهر من قصور العموم المذكور رأسا عن شمول المطر فلم يتضح وجهه، بل لا ريب في أن المطر كغيره من الماء المتقاطر لا تقتضي القواعد اعتصامه، و لا مجال للبناء عليه لو لا الأدلة الخاصة.

اللهم إلا أن يقال: عموم انفعال القليل منحصر بالأدلة الخاصة، و نصوص الكر الدالة بمقتضي الحصر علي انفعال ما دونه.

أما الاولي فلا ريب في انصرافها عن المطر، بل قصورها عنه، لاختصاصها بالإناء و الركوة و النور و نحوها من الظروف التي يستقر الماء فيها.

و دعوي: أن مقتضي إطلاق عاصمية المطر عدم انفعال الماء الموجود في هذه الأواني عند نزول المطر عليه، و هو مناف لإطلاق هذه النصوص.

مدفوعة: بظهور هذه النصوص، و لو بضميمة نصوص المادة و نحوها في انفعال الماء و عدم اعتصامه في نفسه، و لا تنافي اعتصامه بأمر خارج عنه، كالمادة و المطر.

و أما الثانية فهي و إن كانت شاملة للمطر، لوضوح أنه عبارة عن قطرات

ص: 240

______________________________

متفرقة لا يبلغ شي ء منها الكر، إلا أن وضوح اعتصام المطر في الجملة و لو مع الجريان قرينة علي اختصاص تلك النصوص بغيره من الماء الراكد المستقر في الأرض، لأن ظهورها في حصر الاعتصام بالكريه أقوي من ظهورها في شمول ماء المطر، نظير ما تقدم في البئر من تقريب قصور عمومات الانفعال عن ذي المادة.

فراجع و تأمل جيدا.

و كيف كان، فلا ريب في عدم صحة الاستدلال علي اعتبار الجريان بعموم انفعال القليل، إما لقصوره عن شمول المطر، أو لصلوح النصوص المتقدمة لتخصيصه.

و أما الثاني فيشكل: بأن الخبرين كما يحتملان تقييد المطر بالجريان يحتملان تقييد الجاري بكونه مطرا، بل لعل الثاني أظهر، خصوصا في الثاني، لظهوره في تأكيد اعتبار ما احتمل السائل دخله في الاعتصام، و ظاهر حال السائل أن فرض الجريان في كلامه تمهيد لفرض الإصابة، لا لاحتمال دخله في الاعتصام، و أن ما يحتمل دخله فيه هو فرض المطر.

فالعمدة الصحيح، لتضمنه اعتبار الجريان في المطر المفروض في السؤال.

و قد حاول غير واحد الجواب عنه بوجوه.

الأول: ما عن المنتهي من حمل الجريان علي نزول المطر و تقاطره، لا جريانه في الأرض الذي هو محل الكلام.

و فيه- مع مخالفته للظاهر جدا- أن المراد به إن كان هو تحقق التقاطر في مقابل عدمه، فهو ملازم لفرض المطر فلا معني لاعتباره، و حمله حينئذ علي التعليل لا الاشتراط كما احتمله في الجواهر بعيد جدا.

و إن كان هو استمراره حين أخذ الماء في مقابل انقطاعه، فلا مجال لاعتباره، إذ مع تغير الماء بالنجاسة لا ينفع الجريان، و مع عدمه يكون الماء طاهرا، لعدم تنجسه بناء علي عموم اعتصام المطر حين نزوله، كما أشار إلي ذلك في كشف اللثام.

ص: 241

______________________________

الثاني: أنه مختص بمورده، و هو السطح الذي يبال فيه، لظهور السؤال في كونه معدا لقضاء الحاجة المستلزم لقوة أثر البول فيه، بل وجود عين العذرة و غيرها من النجاسات فيه، بنحو يستلزم تغير الماء مع عدم جريانه.

و فيه: أن التعبير عن السطح بأنه يبال فيه إنما يدل علي تعرض السطح للبول، لا كونه معدا لقضاء الحاجة علي نحو يكثر البول فيه، فضلا عن غيره من النجاسات، و لذا عبّر بذلك في صحيح هشام بن سالم أيضا.

علي أن المناسب لذلك تقييد المطر بالكثرة لا بالجريان، لإمكان تغير الجاري في أول أمره، بل هو الغالب، لحمله للقذر و غسله له.

و أما احتمال خصوصية السطح المفروض لا من جهة التغير فهي ملغية عرفا، و لا سيما مع تضمن صحيح هشام لذلك أيضا.

الثالث: أنه مناف للنصوص الأخري، كصحيح هشام بن سالم الظاهر في أن المدار علي غلبة الماء علي النجاسة، لا الجريان.

و فيه: أن اللازم تقديم الصحيح علي أدلة المقام، لأنه أخص من صحيح هشام، فضلا عن غيره من النصوص لأن الجريان و فرض تجمع الماء بنحو يؤخذ منه للوضوء ملازم لأكثرية الماء من القذر، و لا عكس.

الرابع: أن لازمه عدم اعتصام المطر الواقع علي الأرض الرملية، و في البحر، و هو مما يقطع بفساده.

و أما حملها علي الجريان التقديري، لكثرة المطر و إن لم يجر بالفعل- كما عن المحقق الأردبيلي و الحدائق- فهو مخالف للظاهر، و ليس هو بأولي من تأويلها أو رد علمها إلي أهلها.

و فيه: أنه لا يتضح وجه النقض بذلك لوضوح أن اعتصام المطر ليس عرفيا، بل تعبّدي، فلا وجه لاستبشاع تقييده بالجريان.

نعم، ذلك لا ينافي مطهريته مع عدم الجريان، فيلتزم في الأرض الرملية التي يفرض عدم جريان المطر فيها، بأنها تطهر بالمطر النازل في أعماقها، و إن تنجس

ص: 242

______________________________

بها، كماء الغسالة القليل، فإذا اجتمع الماء بعد ذلك علي ظاهرها فهو و إن لم يعتصم من جهة المطرية، إلا أنه يعتصم بالكريه بعد عدم ملاقاته للماء المتنجس، لفرض نزوله في أعماق الأرض، و عدم اتصاله به إلا برطوبة غير مسرية. إلا أن يفرض صلابة الأرض و عدم غوص الماء فيها أو اشتمالها علي مثل العذرة مما لا يغوص في الرمل، فيتعين البناء علي الانفعال، كما يلتزم بذلك في غير المطر من الماء القليل لو فرض تواليه علي الأرض.

و ليس ذلك محذورا يصح لأجله طرح النص الصحيح الذي لم يتضح هجره عند الأصحاب.

و مما ذكرنا يظهر حال ما تقدم عن الأردبيلي و الحدائق، فإنه إن رجع إلي لزوم حمل الصحيح علي الجريان التقديري لأجل القرينة المذكورة فهي لا تنهض بذلك، كما ذكرنا و ذكره المستشكل.

و إن رجع إلي ظهوره في نفسه فيما يعم الجريان التقديري، فهو مردود عليهما. و لا سيما مع كون المفروض فيه كثرة الماء بحيث يمكن أخذ شي ء منه للوضوء، و هو ملازم للجريان التقديري، فاعتبار الجريان مع ذلك كالصريح في إرادة الفعلي و عدم كفاية التقديري.

و منه يظهر الاشكال فيما يظهر من شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن الحمل علي الجريان التقديري مقتضي الجمع بين الصحيح المذكور و صحيح هشام بن سالم، لأن غلبة الماء علي النجاسة إنما تستلزم الجريان التقديري دون الفعلي.

فإنه لا مجال للجمع بذلك بعد ما ذكرنا، بل اللازم تقديم الصحيح المذكور الذي هو كالصريح في الجريان الفعلي، لأنه أخص، كما سبق.

و بالجملة: الوجوه المذكورة في دفع الاستدلال بالصحيح لا تنهض بالجواب عنه، و كأن ذكرهم لها لمفروغيتهم عن عدم الالتزام بظاهره- كما قد يظهر من بعضهم- فهي من سنخ التأويل الذي هو أولي من الطرح.

إلا أنه لم يتضح الوجه في ذلك، بعد عدم وضوح هجر الأصحاب للصحيح

ص: 243

______________________________

المذكور.

فالعمدة في الجواب عن الصحيح ما أشار إليه في الجواهر من أنه لا ظهور له في انفعال الماء مع عدم جريانه، بل مجرد ثبوت البأس في الوضوء به، و لا مانع من خصوصية في الوضوء تقتضي رجحان نقاء مائه بنحو لا يستعمل فيه ماء المطر الملاقي للنجاسة و الغاسل لها و إن كان طاهرا في نفسه إلا بعد جريانه، لما يستلزمه الجريان عادة من ذهاب الماء الذي انغسل به القذر أو قلته بالإضافة إلي الماء النازل من المطر بنحو يضعف أثره و تذهب النفرة عنه، فهو نظير ما في صحيح إسماعيل بن بزيع: «كتبت إلي من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء و يستقي فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب، ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب: لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» «1».

بل تعبير السائل بالوضوء للصلاة كالمشعر بفرض أهمية الوضوء و خصوصيته من بين سائر الاستعمالات، فلا مجال لتعميم الحكم لغير الوضوء من الاستعمالات، فضلا عن حمله علي الانفعال و الخروج به عن إطلاق أو عموم النصوص الكثيرة الظاهرة في طهارة ماء المطر و عدم انفعاله.

غايته أنه لو تمت المفروغية عن جواز الوضوء بالماء لو فرضت طهارته فظهور هذه النصوص في طهارة ماء المطر يكون قرينة عرفية علي حمل البأس فيه علي الكراهة، كما يحمل عليه في كثير من موارد النهي عن الوضوء بالمياه المكروهة أو غيره من الاستعمالات.

بل البأس في نفسه أعم من الكراهة. و حمله علي الحرمة أو النجاسة أو نحوهما مما يقتضي الإلزام إنما يكون بقرائن خاصة، كمفروغية الأصحاب عن إرادتها أو نحو ذلك مما لا مجال له في المقام. لما عرفت من عدم ظهور قدماء الأصحاب في العمل بالصحيح بعد تفسيره بالحرمة و النجاسة.

و أما المتأخرون ممن فهموا منه ذلك و حاولوا توجيهه أو أعرضوا عنه فلا

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

ص: 244

______________________________

يكشف فهمهم عن المراد به، لقرب أن يكون ذكره في جملة أدلة الاعتصام هو الذي أوجب غفلتهم عن ذلك، و لا سيما مع ما عرفت من الجواهر من التنبّه لما ذكرنا.

و بالجملة: لا مجال للخروج عن نصوص اعتصام المطر بالصحيح المذكور.

و لا سيما بملاحظة أن اعتبار الجريان راجع إلي طهارته به بعد انفعاله بالنجاسة، أو كشفه عن عدم انفعاله من أول الأمر، و كلاهما من الأمور الغريبة البعيدة عن المرتكزات المتشرعية علي طهارة المطر و اعتصامه، فيحتاج في مثله إلي التنبيه و البيانات الكثيرة الواضحة بنحو يمنع من ارتكاز عموم اعتصام المطر، و لا يكتفي بمثل هذا الصحيح الذي لم يتضح التنبه لمضمونه إلا من آحاد المتأخرين.

فالإنصاف أن التأمل في ذلك و نحوه شاهد بعموم اعتصام المطر تبعا للارتكازات المتشرعية. بل قد يلزم لأجله تأويل الصحيح و عدم العمل بظاهره لو فرض ظهوره في نفسه في التقييد، فضلا عما لو كان قاصرا، كما ذكرنا.

هذا، و لا يبعد ظهور الصحيح في كون السؤال عن الماء الموجود في السطح بعد المطر، و أن المراد بالجريان هو جريان الماء من السطح إلي الأرض المستلزم لكون الباقي في السطح هو الماء النازل بعد الانغسال، بحيث لا يبقي معه شي ء من الغسالة أو يبقي شي ء لا يعتد به و لا يوجب النفرة من الماء المجتمع.

و أما احتمال حمل الجريان علي مجرد انتقال الماء و لو مع تجمعه بتمامه في مكان آخر، فيؤخذ منه بعد تجمعه في ذلك المكان و إن كان ماء الغسالة بتمامه فيه، و لا تكون فائدة الجريان إلّا كثرة الماء و غلبته علي الغسالة، فقد يبعد بلحاظ كون المنصرف من الصحيح هو السؤال عن الأخذ من ماء السطح، و لا يكون جريانه غالبا إلا بنزول بعض مائه إلي الأرض من الميزاب و نحوه.

اللهم إلا أن يراد به الأخذ من الماء النازل من السطح لا الماء الباقي فيه.

فتأمل.

و عليه يبتني ما يظهر منهم من اعتبار جريان نفس الماء في اعتصامه، لا أن المعتبر جريان بعض الماء في اعتصام باقيه. بل صريح كشف اللثام الاكتفاء بمجرد انتقال أجزاء الماء في أجزاء الأرض و إن كان قليلا. إلا أن الظاهر منه أن اعتبار ذلك

ص: 245

أما لو وقع علي شي ء- كورق الشجر أو ظهر الخيمة أو نحوهما- ثمَّ وقع علي النجس تنجس (1).

______________________________

ليس من جهة الصحيح.

و هو كما تري لا موجب له بعد انصراف الصحيح عن مثله، لعدم صدق الجريان عليه عرفا.

و دعوي: لزوم اعتباره بمقتضي التعليل في صحيح هشام بن سالم لملازمة أكثرية الماء من البول لجريانه.

كما تري، إذ قد تمنع رخاوة الأرض من جريانه و ان كان كثيرا.

و الأمر في تحقيق معني الجريان سهل بعد ما عرفت من حمل الصحيح علي الكراهة و عدم دليل معتدّ به غيره. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

(1) كما صرح به السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي، و تبعه عليه جمع من محشيها.

و ربما يكون هو المراد مما عن مصابيح السيد الطباطبائي قدّس سرّه فإنه بعد أن ذكر أن انقطاع التقاطر رافع لاعتصام الماء قال: «و يحصل الانقطاع في القطرات النازلة بملاقاتها لجسم و لو قبل الاستقرار علي الأرض، فلو لاقت في الجو شيئا ثمَّ سقطت علي نجس تنجست بالملاقاة ما لم تتقوّ باتصالها بالنازل بعدها».

خلافا لما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه و بعض من تأخر عنه من الاعتصام في الفرض.

و ما في المتن مبني علي ما يأتي من عدم صدق المطر أو ماء المطر إلا علي الماء المتقاطر من السماء، و أن الماء بعد نزوله منها يخرج عن كونه ماء مطر، و اعتصامه حين التقاطر للنصوص الخاصة الدالة علي عاصمية المطر، و كونه كالمادة لما يجري علي الأرض، و لا مجال لذلك في المقام، لفرض التقاطر و عدم اتصال الماء النازل علي الأرض بالماء الذي علي ورق الشجر.

ص: 246

مسألة 11 إذا اجتمع ماء المطر في مكان و كان قليلا فإن كان يتقاطر عليه المطر فهو معتصم كالكر

مسألة 11: إذا اجتمع ماء المطر في مكان و كان قليلا، فإن كان يتقاطر عليه المطر فهو معتصم كالكر (1)، و إن انقطع عنه التقاطر كان بحكم القليل (2).

______________________________

و ما ذكره بعض مشايخنا من صدق المطر عليه حقيقة لا يناسب المبني المذكور، الذي يظهر منه الاعتراف به.

نعم، قد يتم ذلك فيما إذا كان نزوله علي الأرض استمرارا لحركة نزوله من السماء، بأن يكون عابرا علي الورق من دون توقف فيه أصلا.

و لعل ذلك خارج عن مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره، و يختص مرادهم بما إذا كان نزوله إلي الأرض بحركة اخري.

أما لو قيل بصدق المطر علي الجميع و أن عدم اعتصام ما يجري بعد انقطاع التقاطر للإجماع أو نحوه فالمتعين البناء علي الاعتصام، عملا بعموم نصوص المطر بعد عدم وضوح تخصيصها فيه.

و منه يظهر الحال لو جرت القطرة و سالت من محل وقوعها في منحدر، فإنه بناء علي الأول يتجه البناء علي انفعالها ما لم يتقاطر المطر علي موضعها، بحيث يكون مادة للجاري، و علي الثاني يتعين البناء علي الاعتصام. فلاحظ.

(1) فكما لا ينفعل بحدوث الملاقاة حين نزوله علي النجاسة لا ينفعل باستمرارها بعد نزوله، و لا بالملاقاة الحادثة بعده، سواء كان واردا علي النجاسة أم كانت واردة عليه، كما هو مقتضي صحيح هشام بن الحكم في الميزابين، و صحيح علي بن جعفر فيما يصب فيه الخمر، و إطلاق بعض النصوص الأخري. فلا وجه لما حكاه في الرياض عن بعض المتأخرين من التردد في اعتصامه مع ورود النجاسة عليه.

(2) كما صرح به غير واحد و يظهر منهم أنه من المسلمات، بل صرح في الرياض بالإجماع عليه، و صرح في كشف اللثام بالاتفاق علي أن ماء المطر بعد

ص: 247

______________________________

انقطاع التقاطر كالواقف، و عن الذخيرة: الظاهر أنه لا خلاف فيه.

و كأنه لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه لا يراد بماء المطر الماء الذي أصله المطر، إذ لا ريب في كون كثير من مياه الغدران و الطرق و الأواني و نحوها أصلها المطر، مع وضوح عدم جريان أحكام المطر فيها، و لذا لا يتوهم التعارض بين أدلة انفعالها و أدلة المطر بالعموم من وجه، بل المراد من ماء المطر الماء النازل من السماء الذي تكون إضافته للمطر بيانية، كما يراد بماء النهر و ماء البئر الذي هو فعلا فيهما، لا ما يكون أصله منهما و إن اخرج عنهما، لما هو المناسب من دخل الخصوصية المذكورة في الاعتصام.

غاية الأمر أن ما تقدم و يأتي من اعتصام الماء المستقر في الأرض بتقاطر المطر عليه يقتضي كون المطر عاصما كالمادة.

نعم، قد يشكل ذلك بأن ظاهر كثير من النصوص و كلمات الأصحاب إرادة ما يعم الماء المستقر في الأرض من ماء المطر، لأنه الذي يسيل من الميزاب، أو علي الإنسان، و يجري في المكان الذي فيه العذرة، و يمر به الإنسان و قد صب فيه خمر و غير ذلك مما تضمنته النصوص و كلماتهم.

و مقتضي الإطلاق الأحوالي بل العموم المستفاد من ترك الاستفصال من بعضها- خصوصا صحيح ابن جعفر الوارد في ماء المطر الذي يصب فيه الخمر- هو اعتصام ماء المطر بعد انقطاع التقاطر، فلا بد في الخروج عنه من دليل مخصص، من إجماع أو نحوه.

اللهم إلا أن يقال: لما كان ظاهر المطر خصوص الماء النازل حال نزوله، فالاستعمال في الموارد المذكورة كما يمكن أن يبتني علي كون إضافة الماء للمطر بلحاظ أن أصله منه ليعم الماء بعد انقطاع التقاطر، كذلك يمكن أن يبتني علي التوسع في إطلاق ماء المطر علي الماء النازل منه المتصل به المستمد منه، بلحاظ كون المطر النازل مادة عاصمة له، لا لكونه معتصما بنفسه، و حيث لا قرينة علي الأول، فالمتيقن هو الثاني.

ص: 248

______________________________

بل هو المناسب لإهمال النصوص للتنبيه علي التقييد بالتقاطر مع مفروغية الأصحاب عن عدم اعتصام ما انقطع عنه التقاطر من دون تعرض إلي وجه التقييد، إذ لو كان عموم النصوص شاملا له لكان التعرض في النصوص للتقييد و في كلمات الأصحاب لوجهه متعينا، و الاعتماد علي الإجماع مع فرض العموم بعيد جدا.

هذا، و أما ما قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن اتصال الجاري بالمطر يوجب الوحدة العرفية بحيث يكون إطلاق المطر عليه كإطلاقه علي النازل حال نزوله بمعني واحد. فهو غير ظاهر الوجه، لعدم الجامع بينهما ارتكازا، إلا أن يرجع إلي ما ذكرناه من التوسع.

علي أنه لو فرض كون إطلاق ماء المطر بلحاظ كون أصله منه بنحو يشمل حال ما بعد التقاطر، إلا أن ظهور المفروغية عن عدم اعتصام الماء بعد الانقطاع حتي في عصر صدور الروايات مانع من انعقاد الظهور في العموم، بل يلزم الاقتصار فيه علي المتيقن.

و لا مجال لتوهم لزوم الأخذ بالعموم و عدم الخروج عنه إلا في مورد القطع بالتخصيص.

لأنه موقوف علي احتمال انعقاد ظهور الكلام حين صدوره في العموم للغفلة عن التخصيص، و لا مجال له في مثل المقام مما يعلم بعدم فهمه بسبب المفروغية المذكورة. فتأمل.

و كيف كان، فلا مجال لإثبات العموم لحال انقطاع التقاطر، و غاية ما يستفاد من النصوص هو اعتصام ماء المطر في الجملة بعد نزوله في الأرض، و هو أعم من ذلك، لإمكان ابتنائه علي عاصمية النازل عليه له كالمادة- كما يظهر من غير واحد- لا لاعتصامه بنفسه، لأن أصله المطر. فالرجوع إلي عموم انفعال القليل متعين.

ثمَّ إن المعروف في كلماتهم اعتبار التقاطر علي الماء في اعتصامه. و الظاهر الاكتفاء بالتقاطر علي بعضه المتصل به، كما يناسبه تشبيههم المطر بالجاري.

و يقتضيه- بعد ظهور تسالمهم علي ذلك- إطلاق بعض النصوص، كصحيح

ص: 249

______________________________

علي بن جعفر في ماء المطر الذي يصب فيه خمر، و صحيح هشام بن الحكم في الميزابين، حيث قد يكون الميزاب مستور الظاهر فلا يقع ما يتقاطر من المطر عليه.

بل لما لم يكن التقاطر مصرحا به في النصوص، و ليس اعتباره إلا لكونه المتيقن في نسبة الماء للمطر بسبب استمداده منه فالمرتكز عدم الفرق في الجهة المذكورة بين استيعاب سطوح الماء بالتقاطر و عدمه، إذ السطح الذي لا يشمله التقاطر كقعر الماء المستور بالسطح الذي يقع عليه التقاطر يتقوي بما يقع عليه التقاطر بسبب الاتصال.

هذا، و قد قرّب في الجواهر الاكتفاء بتقاطر المطر علي غير الماء إذا كان الماء معرضا لوقوع المطر عليه، بأن لم يكن في مكان يصدق عليه اسم الانقطاع عن المطر عرفا- كما لو وضع في خابية و ترك في بيت، حيث لا يجري عليه حكم المطر ضرورة.

بدعوي: أن ماء المطر معتصم في نفسه كالجاري، لا أن اعتصامه بالتقاطر عليه، لينقطع بانقطاع التقاطر عنه، لظهور النصوص في أن اعتصام الماء الجاري من الميزاب و الذي يمر به الإنسان في الطريق و نحوه مما تضمنته النصوص، لأنه ماء مطر، لا لأنه متصل بالمطر. مضافا إلي استصحاب حكم الجاري عليه.

و يظهر الإشكال فيه مما تقدم من عدم القرينة علي أن إطلاق ماء المطر بلحاظ كون أصله منه، بل المتيقن كون الإضافة بيانية، و أن إطلاق ماء المطر علي المتصل به توسع بلحاظ استمداده منه، فلا عموم له يشمل حال عدم الاتصال، و هذا هو المنشأ في الضرورة التي اعترف بها علي أن عدم تعرض الماء للتقاطر رافع لاعتصامه، فضلا عما لو انقطع التقاطر من السماء رأسا، كما تقدم.

علي أن ما ذكره من جعل المعيار علي صدق الانقطاع عرفا إن أريد به صدق انقطاع التقاطر عن الماء عرفا فمن الظاهر صدقه حتي مع تعرضه للتقاطر، لوضوح عدم صدق تقاطر المطر علي الماء حينئذ إلا بنحو من التوسع و المجاز الذي لو صحّ لصحّ مع انقطاع التقاطر من السماء كلية مع كونها في معرض التقاطر

ص: 250

______________________________

لشدة الغيوم و قرب فترة الانقطاع.

و إن أريد به صدق انقطاع التقاطر من السماء كلية فمن الظاهر عدم صدقه حتي مع عدم تعرض الماء للتقاطر لوضعه في خابية و نحوها. فالفرق بين الوجهين غير ظاهر.

هذا، و أما استصحاب حكم الجاري، الراجع إلي استصحاب الاعتصام، فهو- مع أنه تعليقي، و ليس في البين إلا استصحاب الطهارة- محكوم لعموم انفعال القليل.

تنبيه: لا إشكال ظاهرا في أن ماء المطر كسائر المياه ينجس مع التغير، كما صرح به في الشرائع، و ظاهر الجواهر المفروغية عنه.

و يقتضيه تشبيههم المطر بالجاري، و عموم معاقد الإجماعات المدعاة علي نجاسة الماء مع التغير، التي تقدم نقلها عند الكلام في ذي المادة. مضافا إلي إطلاق بعض نصوص المتغير، كصحيح حريز المتقدم عند الكلام في ذي المادة.

و النسبة بينه و بين نصوص اعتصام المطر و إن كانت هي العموم من وجه، إلا أن الظاهر بعد التأمل في مجموع الأدلة تقديم أدلة التغير، لأن المستفاد منها قصور الجهات المانعة من الانفعال و العاصمة من النجاسة عن صورة التغير، و عدم قابلية الماء معه للطهارة، كما قد يشهد به صحيحا ابن بزيع «1» الواردان في البئر، حيث أهمل فيهما تعليل انفعالهما مع التغير و اقتصر علي تعليل الاعتصام، فلو لا المفروغية عن قصور مقتضي الاعتصام عن حال التغير لكان محتاجا للتعليل أيضا.

و عليه يكون المقام من موارد تقديم أقوي المقتضيين، لا تقديم أقوي الدليلين، ليتوقف علي ملاحظة النسبة و نحوها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 251

مسألة 12 الماء النجس إذا وقع عليه ماء المطر طهر

مسألة 12: الماء النجس إذا وقع عليه ماء المطر طهر (1)،

______________________________

و لعل هذا هو منشأ التسالم الذي عرفته من الأصحاب علي الحكم.

هذا، مضافا إلي قرب كون المراد من التعليل في صحيح هشام بن سالم المتقدم بأن ما أصابه من الماء أكثر منه، الكناية عن عدم تغير الماء بأثر البول، كما تقدم، و إلا فأكثرية الماء لا دخل لها في الحكم قطعا. فتأمل.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في الحكم بعد ما عرفت من تسالم الأصحاب عليه و مفروغيتهم عنه.

و منه يظهر لزوم تنزيل صحيح هشام بن الحكم علي ما هو الغالب من عدم تغير الماء من البول، لما هو الغالب من كون ماء المطر النازل من الميزاب أضعاف البول النازل منه.

كما أن التغير و القذر في مرسل الكاهلي منزّلان علي التغير بغير عين النجاسة، و علي القذر المتنجس، لا النجس، ليناسب ما تقدم في تقريب الاستدلال بالمرسل و توجيه التعليل فيه. و لا أقل من لزوم تنزيلهما علي ذلك لما ذكرناه هنا. فلاحظ.

(1) كما صرح به في جامع المقاصد و الروضة و كشف اللثام و الجواهر، بل ظاهر الأول كونه من المسلمات، و صريح الثاني و عن محكي المفاتيح الإجماع عليه.

و استدل عليه في الجواهر بمرسل الكاهلي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «. قلت:

يسيل عليّ من ماء المطر أري فيه التغير و أري فيه آثار القذر فتقطر القطرات علي و ينتضح علي منه و البيت يتوضأ علي سطحه فيكف علي ثيابنا. قال: ما بذا بأس، لا تغسله، كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1». قال: «و القول بعدم صدق رؤية ماء المطر له إلا باستيعابه تماما المتعذر ذلك بالنسبة للتقاطر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 252

______________________________

مما لا ينبغي أن يصغي إليه».

لكنه غير ظاهر، لوضوح أنه لا يكتفي في طهارة غير الماء من المتنجسات بالتقاطر علي بعض أجزائه، بل لا بد من استيعابه، فلا وجه للاكتفاء بذلك في الماء.

و إن شئت قلت: المنصرف من المرسل التطهير باستيلاء الماء المطهر علي المتنجس، الذي لا يتحقق في الماء و غيره من السوائل المتنجسة، و أما تطهير الماء بالإيصال بالعاصم فهو غير مبني علي ذلك، بل علي غلبة حكم الطاهر علي حكم النجس، و لا ينهض بذلك المرسل و نحوه مما ورد في التطهير بالماء.

و أما الاستدلال به بلحاظ ما عن بعض نسخه، حيث ادعي أن الصحيح:

«يسيل علي الماء المطر».

فيشكل بعدم ظهوره حينئذ في مطهرية المطر للماء الذي يسيل عليه، إذ لم يفرض فيه نجاسته قبل سيلان المطر عليه، بل لعله كان طاهرا، و منشأ السؤال هو ماء المطر نفسه الذي فرض فيه التغير و حمله لأثر القذر، حيث يحتمل نجاسته و تنجيسه للماء الذي يسيل عليه.

و دعوي: أن التغير و القذر حينئذ مفروض في الماء الذي يسيل عليه المطر، لا في ماء المطر نفسه. بعيدة عن ظاهر الرواية جدا.

هذا، مضافا إلي ضعف سند الحديث و عدم وضوح انجباره بعمل الأصحاب، لاحتمال اعتمادهم علي غيره، و غاية ما تقدم منا قرب الاستدلال به بلحاظ اعتضاده بغيره مما يشاركه في الضعف، لا الاستدلال به استقلالا، فتأمل جيدا.

و قد استدل بعض مشايخنا علي الحكم بصحيح هشام بن الحكم «1»، بتقريب: ان اختلاط البول بالمطر إنما يكون تدريجيا يستلزم تغير بعض ماء المطر و تنجسه بالبول، ثمَّ يذهب التغير تدريجيا بتكاثر المطر، فلو لا مطهرية المطر للماء المتنجس بالتغير لزم بقاء المتغير منه علي نجاسته كما أشار

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 253

و كذا ظرفه (1)، كالإناء و الكوز و نحوهما.

______________________________

إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و الظاهر أن ما ذكراه لا يخلو عن وجه، و هو لا ينافي ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من لزوم حمل الصحيح علي استهلاك البول، إذ استهلاك البول لا يستلزم استهلاك الماء المتنجس به.

هذا، و ربما يستدل بعموم التعليل بالمادة في صحيحي ابن بزيع الواردين في البئر، لظهوره في أن المادة لما كانت مانعة من حدوث النجاسة فهي رافعة لها بعد حدوثها، و مقتضي ظهور كون التعليل ارتكازيا التعدي من المادة إلي كل عاصم، كالكرية و المطر و نحوها، كما أشرنا إليه عند الكلام في عاصمية المادة.

نعم، الاستدلال بذلك موقوف علي ثبوت عاصمية المطر لكل ماء و إن لم يكن متجمعا منه، و ليس تسالم الأصحاب علي ذلك بأظهر من تسالمهم علي تطهير المطر للماء المتنجس، الذي لا يحتاج معه للاستدلال المذكور.

و هو العمدة في المقام، و لا سيما مع شيوع الابتلاء بذلك، خصوصا مع كثرة تقطع المطر، فلا يتجمع ماؤه إلا في دفعات، و كثيرا ما يتخلل بينها ملاقاة الماء للنجاسة، فلو لا طهارة المتنجس منه بنزول المطر عليه لأشكل الأمر كثيرا و لم يخف الحكم في ذلك، فتسالمهم مع ذلك علي إلحاق المطر بالجاري، و تسالم من عرفت علي تطهيره للماء المتنجس، و تصريح بعضهم بالإجماع عليه، كاشف عن وضوح عاصمية المطر مطلقا لمائه و غيره دفعا و رفعا. فتأمل جيدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) الكلام. تارة: في طهارة الإناء و نحوه مما يحتاج إلي تعدد بمجرد إصابة المطر.

و اخري: في طهارته بتقاطر المطر علي الماء الذي فيه و نحوه مما يتصل به،

ص: 254

______________________________

كما لو فرض كون الإناء المتنجس فيه ماء و تقاطر المطر علي الماء.

أما الأول فالوجه فيه بناء علي ثبوت عموم الاكتفاء بالمرة في مطلق الماء المعتصم ظاهر. و أما مع عدم ثبوت العموم المذكور، فقد يستدل علي ذلك ببعض النصوص الخاصة.

الأول: مرسل الكاهلي، لظهوره في خصوصية المطر، بنحو لو قدم عليه إطلاق دليل التعدد لزم إلغاء خصوصيته.

و منه يظهر أنه لا مجال لما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن دليل التعدد أيضا ظاهر في خصوصية مورده.

لاندفاعه: بأن تقديم المرسل عليه لا يوجب إلغاء خصوصيته، لأعماله في غير المطر من أقسام الماء.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا في توجيه تقديم المرسل من أن دلالته بالعموم، و هي أقوي من إطلاق دليل التعدد.

فقد يشكل: - بعد تسليم أقوائية العموم من الإطلاق مطلقا، أو في خصوص المقام- بأن العموم فيه بلحاظ أفراد المتنجس، لا بلحاظ كيفية التطهير، بل هي ليست مستفادة إلا من إطلاق الرؤية أيضا، لا من العموم، و إنما يتجه ذلك لو قيل:

كلما رأي المطر شيئا طهره. اللهم إلا أن يقال: الرؤية لما أخذت صفة للشي ء المتنجس كان العموم واردا عليها بتبعه.

نعم، لو قيل: كل شي ء يطهر برؤية المطر اتجه ذلك، لورود الرؤية في بيان سبب التطهير، لا في بيان المتنجس الذي هو موضوع العموم. فلاحظ.

لكن هذا كله مبني علي حجية المرسل في نفسه، و قد تقدم الكلام فيه.

الثاني: صحيح هشام بن سالم، حيث استدل به بعض مشايخنا، بتقريب أن الوكوف هو التقاطر من سقف أو إناء أو نحوهما، و وكوف السطح يكون غالبا بعد انقطاع المطر، لرسوب الماء فيه، فلو بقي السطح مع ذلك علي نجاسته لزم نجاسة الماء بعد الانقطاع، لملاقاته للسطح المتنجس، فالحكم بطهارته معللا بأن ما أصابه

ص: 255

______________________________

من الماء أكثر، ظاهر في خصوصية ماء المطر و في مطهريته بمجرد قاهريته بلا حاجة إلي عصر أو تعدد.

و فيه. أولا: أن وكوف السطح بعد انقطاع المطر لا يستلزم اتصال الماء المتقاطر بالأرض المتنجسة بالنحو المعتبر في سريان النجاسة، لإمكان انفصالهما بالسطح بنحو لا يكون بينهما إلا رطوبة أو نحوها مما لا يقتضي الانفعال. و مع الشك فالمرجع استصحاب طهارة الماء الثابتة له حين انقطاع التقاطر.

نعم، لو فرض العلم بكون المتقاطر هو الماء المتخلف في ظاهر السطح لزم انفعاله لو كان السطح نجسا.

لكن شمول الإطلاق لذلك لا يخلو عن إشكال، لما هو الظاهر من عدم شيوع الصورة المذكورة و غلبة احتياج التقاطر مع ذلك إلي أمد طويل لا يناسب التعقيب بالفاء الذي تضمنه الصحيح. و حملها علي مجرد التفريع محتاج إلي قرينة. فتأمل.

و ثانيا: أن حمل التعليل علي ما ذكره راجع إلي كونه تعليلا لطهارة السطح بإصابة المطر له، و من الظاهر أن التعليل المذكور إنما يحتاج إليه في خصوص صورة انقطاع المطر، و حمل السؤال علي خصوص ذلك بعيد، إذ الظاهر عموم السؤال لحال التقاطر، المناسب لحمل التعليل علي بيان عدم التغير- كما سبق- لأنه الذي يحتاج اليه حتي مع التقاطر، و لا سيما مع كون التعليل حينئذ ارتكازيا، بخلافه علي المعني الذي ذكره.

نعم، مقتضي شمول إطلاقه حينئذ لحال انقطاع التقاطر طهارة السطح بالتقريب المتقدم منه- لو تمَّ. لكنه ليس مقتضي عموم التعليل، لينفع في غير السطح الذي يبال فيه مما يحتاج إلي التعدد.

و ثالثا: أن ما ذكره من عموم التعليل لو تمَّ فليس هو مما يأبي عن التخصيص، ليتعين رفع اليد به عن عمومات التعدد، بل يتعين بعد تعارضها معه

ص: 256

______________________________

التساقط و الرجوع إلي استصحاب النجاسة.

بل التعليل المذكور إن أريد منه مطلق الماء من دون خصوصية المطر فهو أعم من أدلة التعدد مطلقا، فيلزم تخصيصه بها، و إن أريد منه خصوص المطر فليس ارتكازيا ليتعدي منه عن مورده، بل يتعين الاقتصار علي مورده و هو السطح المتنجس بالبول.

و من الظاهر أن الدليل في المورد المذكور ليس مختصا به، بل يدل عليه أيضا صحيح علي بن جعفر «1» المتضمن لجواز الأخذ من ماء السطح الذي يبال فيه الشامل للأخذ منه بعد انقطاع التقاطر عنه، و مرسل ابن بزيع الظاهر في طهارة طين المطر إذا علم بتنجيس البول له قبل المطر.

بل الظاهر أنه لا إشكال فيه الجملة، لأنه المتيقن من السيرة علي طهارة الأرض بوقوع المطر عليها، و إنما الإشكال في مثل الأواني مما يحتاج إلي التعدد، فلا بد فيه إما من فهم عدم الخصوصية للأرض التي يصيبها البول مؤيدا بمرسل الكاهلي، أو البناء علي كفاية المرة في مطلق المعتصم الذي يأتي الكلام فيه في مبحث المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

و أما الثاني- و هو الاكتفاء بالمرة في الماء المعتصم بالمطر، الذي هو محل الكلام هنا- فالوجه فيه منحصر بالعموم المذكور، و إلا فمن الظاهر قصور النصوص المتقدمة عنه، لاختصاصها بماء المطر، و لا تشمل الماء المعتصم به، و التعدي منه إليه كالتعدي منه إلي مطلق المعتصم.

و دعوي: صدق رؤية ماء المطر بالإضافة إلي المتنجس باتصاله بالماء الذي يتقاطر عليه المطر. ممنوعة جدا.

هذا كله في التعدد، و أما التعفير المعتبر في التطهير من الولوغ، فقد استشكل في سقوطه السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي، و تابعه علي ذلك جماعة من محشيها و شراحها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 257

مسألة 13 يعتبر في جريان حكم ماء المطر أن يصدق عرفا أن النازل من السماء ماء مطر

مسألة 13: يعتبر في جريان حكم ماء المطر أن يصدق عرفا أن النازل من السماء ماء مطر (1)،

______________________________

و قد استدل عليه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن مرسل الكاهلي ليس أقوي مما دل علي اعتبار التعفير، لقرب دعوي ظهوره في تميز ماء المطر عن سائر أفراد الماء، فلا يعتبر في مطهريته ما يعتبر في مطهرية غيره، لا جعله مطهرا لما لا يطهره غيره كالتراب.

و يشكل: بأن ظاهر المرسل خصوصية المطر عن غيره من أفراد الماء بأنه يطهر الشي ء بمجرد إصابته المستلزم لعدم الحاجة للتعفير كغيره مما يعتبر في مطهريتها، و ليس لدليل التعفير خصوصية عن غيره من أدلة الشروط الأخري.

و رجوع اعتبار التعفير إلي مطهرية التراب لا دخل له بما نحن فيه. بل هو إنما ينفع لو كان لسان دليل المطر تنزيل رؤيته منزلة الغسل المطهر بالماء، لقصوره حينئذ عن الدلالة علي قيامه مقام غيره من التراب و نحوه، و من الظاهر عدم ظهور المرسل في ذلك، بل فيما ذكرنا. و كذا الحال في صحيح هشام بن سالم لو فرض الاستدلال به بالوجه المتقدم.

نعم، لو كان الدليل علي سقوط التعدد عموم عدم اعتباره في كل ماء معتصم اتجه لزوم التعفير، عملا بعموم دليله، لعدم المعارض له.

و أما العصر فيأتي الكلام فيه في المسألة الرابعة عشرة إن شاء اللّٰه تعالي.

(1) كما صرح به غير واحد، لدعوي عدم صدق المطر إلا بأن يكون للنازل نحو كثرة معتد بها.

لكنه غير ظاهر، إذ لا إشكال في عدم صحة سلب المطر عن القطرات النازلة و إن قلّت، و ليس عدم صدقه عليها إلا لانصرافه عنها لعدم الاعتداد بها عرفا الموجب للتسامح بتنزيلها منزلة العدم، لا لخروجها عنه حقيقة.

و حينئذ يتعين النظر في ترتب أحكامه المتقدمة عليه و عدمه، فنقول.

ص: 258

______________________________

بناء علي عموم اعتصام المطر يتجه البناء علي اعتصام القطرات النازلة، بمعني عدم انفعالها بمماستها للمحل النجس، فلا يكون النضح منها نجسا لانفصاله عنها بمجرد مماستها للمحل قبل استقرارها عليه الرافع لحكم المطر عنها.

و حينئذ فإن وقعت علي عين النجاسة تعين نجاستها بعد استقرارها، لارتفاع حكم المطر عنها، و المفروض عدم اعتصامها بالتقاطر بعدها.

و إن وقعت علي المتنجس طهر بها بناء علي الاكتفاء في المطر بمجرد وصول الماء للمحل النجس و لو مع عدم الدلك و الجريان و نحوهما، كما يأتي الكلام فيه في المسألة الآتية.

نعم، ذلك يختص بالموضع الذي يلاقي القطرة بمجرد سقوطها، لا ما يلاقيها بعد استقرارها بسبب تفشيها أو سيلانها، الرافع لحكم المطر عنها.

بل قد يسري الانفعال لتمامها لو فرض كون التفشي في حال بقائها ماء ينفعل بعضه ببعض، لا من سنخ الرطوبة التي لا تسري النجاسة معها.

و هذا بخلاف ما إذا تتابع التقاطر، فان اللازم البناء علي عدم الانفعال حتي مع التفشي و إن لم يتصل الماء بعضه ببعض، لغلبة التفشي في المطر بنحو لا مجال لحمل الأدلة علي غير صورته.

هذا في غير الماء من المتنجسات، و أما الماء فيتضح الكلام فيه مما يأتي.

لكن هذا كله مبني علي ثبوت عموم اعتصام المطر بنحو يشمل مثل ذلك، و إثباته مشكل، لاختصاص النصوص السابقة بغيره، كالماء الذي يكف، أو الذي يصب فيه الخمر و نحوهما مما يقصر عن محل الكلام، و ورود بعضها في مقام البيان من جهات أخر بعد الفراغ عن الاعتصام، مثل مرسل الكاهلي، بناء علي ما تقدم في توجيه التعليل فيه.

و حينئذ يتعين الاقتصار في الخروج عن عموم الانفعال بخصوص ماله نحو من الكثرة المعتد بها، كما ذكره في المتن أخذا بالمتيقن من الأدلة. إلا أن يناقش في

ص: 259

و إن كان الواقع علي النجس قطرات منه (1). و أما إذا كان مجموع ما نزل من السماء قطرات قليلة فلا يجري عليه هذا الحكم.

______________________________

العموم المذكور بما تقدم عند الكلام في اعتبار الجريان. فتأمل.

(1) و إن لم يتحقق الدلك و الجريان و نحوهما بناء علي عدم اعتبار ذلك في مطهرية المطر، علي ما يأتي الكلام فيه. هذا كله في غير الماء المتنجس.

و أما الماء فقد يدعي الاكتفاء بذلك في تطهيره، بل عن الشهيد الثاني قدّس سرّه في روض الجنان: «كان بعض من عاصرناه من السادة الفضلاء يكتفي في تطهير الماء النجس بوقوع قطرة واحدة عليه. و ليس ببعيد، و إن كان العمل علي خلافه».

فإن أراد به الاكتفاء بالقطرة الواحدة في صدق المطر المعتصم و العاصم كان راجعا إلي ما سبق منا.

و إن أراد به الاكتفاء بها في تطهير الماء مع فرض كثرة النازل من السماء كان مما نحن فيه.

و كيف كان، فذلك هو الذي أصر عليه في الجواهر، و وافقه فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه أخذا بإطلاق دليل عاصمية المطر و مطهريته بعد فرض صدقه علي المقدار النازل من السماء، و دخوله في الأدلة أو في المتيقن منها، علي ما سبق الكلام فيه.

و عن المعالم الحكم بغلطه، لأن الاعتصام مبني علي تقوي النجس بالملاقاة للكثير و ما بحكمه، و لا مجال لذلك هنا، إذ أقصاه تطهير القطرة لما تلاقيه، ثمَّ يجري عليها حكم الانقطاع بعد ذلك، فتنجس بالماء، و المفروض عدم استمرار التقاطر العاصم لها، و هذا بخلاف الجاري الذي يعتصم بعضه ببعض، و لا ينجس بالملاقاة.

و فيه: أن القطرة- بناء علي اعتصامها و عاصميتها لما يتصل بها قبل استقرارها الرافع لحكم المطر عنها- تطهر الكل دفعة من دون حاجة إلي ترتب

ص: 260

______________________________

زماني- كما في الجواهر- بل و لا ذاتي- كما عن الذخيرة- لأن تطهير الماء المتنجس مبني علي اتحاده بالعاصم، و هو حاصل بالإضافة إلي جميع الأجزاء دفعة واحدة.

قال في الجواهر: «علي أنه يجري مثل الاشكال المذكور أيضا فيما لو تواتر القطرات علي الماء النجس، لحصول الانقطاع بالنسبة إلي كل قطرة لاقت ذلك الماء، فتنجس به حينئذ، و هو واضح الفساد عند القائلين بكونه كالجاري حال تقاطره».

و منه يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من اعتبار إصابة ماء المطر لتمام السطح الظاهر من الحوض أو معظمه علي وجه يكون ماء المطر موجودا عرفا علي سطحه، لأنه يوجب طهارة السطح الظاهر بمقتضي كونه ماء مطر، و طهارة ما تحته من ماء الحوض الأصلي، لأن له مادة، لأن المراد بالمادة مطلق الماء العاصم، و منه ماء المطر، و أما مجرد وقوع قطرة أو قطرات فلا يكفي، لاستهلاكها في ماء الحوض عرفا.

إذ فيه: أن استهلاك القطرة أو القطرات إنما يكون بعد استقرارها في الحوض، لا بمجرد اتصالها به، و حينئذ ان التزم بانفعالها بملاقاة الحوض قبل الاستهلاك كان خروجا عن عموم اعتصام المطر. و إن التزم ببقائها علي الاعتصام كانت مادة للحوض- لو تمَّ ما ذكره مع عدم الاستهلاك- فتطهره، إذ عليه يكون المراد بالمادة هو الماء المعتصم لا العاصم، و إلا استحال الحكم بعاصميتها، لرجوعه إلي أخذ الحكم في موضوعه، كما لا طريق لإحراز عاصمية المطر مع عدم الاستهلاك، ليحرز كونه مادة للحوض.

علي أن ماء المطر حين تقاطره لا يتميز عن الماء الواقع عليه، بل يختلط به و ينفصل بعضه عن بعض، فلا يكون التقاطر تقاطرا علي الماء المتجمع من المطر كي يعتصم به.

و لذا لو فرض كون ما في الحوض ماء مضافا متنجسا لا يتصور طهارة سطحه

ص: 261

______________________________

بالتقاطر، لعدم تمحضه في ماء المطر، بحيث لو كان عليه شي ء طافيا كالخشب يطهر به.

و حينئذ لو فرض بقاء ماء الحوض علي نجاسته قبل صيرورة المطر مادة له لزم انفعاله به مهما كثر، لأن تكثره تدريجي نظير ما تقدم من الجواهر في رد ما سبق عن المعالم، فلو لا البناء علي طهارة الماء بالتقاطر عليه لم تنفع الكثرة في طهارته.

مع أن صدق المادة علي الماء المجتمع من المطر المتصل بالماء النجس غير ظاهر، لاختصاصها عرفا بما يكون مباينا للماء مما يمده و يجري عليه و لو شأنا بنحو يكون له نحو من الاستمرار، لا ما يتحد معه عرفا، و لذا لا يكون اعتصام الكر بعضه ببعض من باب المادة.

فالعمدة في وجه عدم الاكتفاء بالقطرات القليلة فضلا عن القطرة الواحدة عدم وضوح العموم المعتد به لعاصمية المطر بنحو يشمل ذلك.

فإن ما يستدل به علي ذلك، إن كان صحيح هشام بن الحكم الوارد في الميزابين بالتقريب المتقدم فهو مختص بالمطر الكثير الذي يسيل من الميزاب.

و إن كان هو مرسل الكاهلي فقد عرفت الإشكال فيه سندا و دلالة.

و إن كان هو عموم التعليل بالمادة في صحيح ابن بزيع الوارد في البئر، فهو و إن كان يعم كل ماء عاصم، إلا أن عموم عاصمية المطر لمثل الفرض غير ظاهر، و المتيقن منه ما إذا كان التقاطر بنحو معتد به.

و إن كان هو دعوي صدق المادة، لأنها كل ماء معتصم، فقد عرفت الإشكال فيه.

نعم، لو تمَّ ما قيل من الإجماع علي اتحاد الماء الواحد في الحكم اتجه البناء علي طهارة المتنجس بالقطرة الواحدة من المطر. لكنه- و إن كان قريبا- غير ظاهر بنحو يخرج به عن استصحاب النجاسة.

فليس في المقام إلا ما سبق من التسالم علي طهارة الماء المتنجس بالتقاطر عليه المعتضد بصحيح هشام بن الحكم، و المتيقن منه ما إذا كان التقاطر بنحو معتد

ص: 262

مسألة 14 الثوب و الفراش النجس إذا تقاطر عليه المطر و نفذ في جميعه طهر الجميع

مسألة 14: الثوب و الفراش النجس إذا تقاطر عليه المطر و نفذ (1) في جميعه طهر الجميع، و لا يحتاج إلي العصر (2) أو التعدد (3)، و إذا وصل إلي بعضه دون بعض طهر ما وصل إليه دون غيره. هذا إذا لم يكن فيه عين النجاسة، و إلا فلا يطهر (4) إلا إذا تقاطر عليه بعد زوال عينها (5).

______________________________

به عرفا. فالاقتصار عليه متعين. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

(1) إذا كان النفوذ قبل انقطاع التقاطر، و إلا لم ينفع لانقطاع حكم المطر.

بل لا يبعد اعتبار كون النفوذ مستندا عرفا للتقاطر، لقوة التقاطر و نفوذ الماء بصورة عمودية أو ما يشبهها، فلو كان بحركة أخري جانبية لا دخل لها بالتقاطر لم يبعد خروجه عن حكم المطر إلا مع اعتصام الماء النافذ بالتقاطر عليه أو علي ما يتصل به. فلاحظ.

(2) إما لعموم مرسل الكاهلي، أو لعموم التعليل في صحيح هشام بن سالم، أو لعموم عدم الاحتياج لذلك في التطهير بالماء المعتصم، و منه ماء المطر.

و الكلام في الأولين يظهر مما تقدم في المسألة الثانية عشرة، و في الثالث يأتي في مبحث المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

(3) يعني: فيما إذا كانت النجاسة مما يعتبر فيه التعدد. و تقدم الوجه في عدم اعتباره في المسألة الثانية عشرة.

(4) لاعتبار زوالها في التطهير مطلقا، كما هو ظاهر، و يأتي في مبحث المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 263

(5) بل يكفي زوال عينها بالتقاطر، بناء علي الاكتفاء بذلك في مطلق الغسل المطهر، علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة الرابعة من فصل المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

ص: 263

مسألة 15 الأرض النجسة تطهر بوصول المطر إليها

مسألة 15: الأرض النجسة تطهر بوصول المطر إليها (1) بشرط أن يكون من السماء و لو بإعانة الريح (2).

و أما لو وصل إليها بعد الوقوع علي محل آخر (3)، كما لو ترشح بعد الوقوع علي مكان فوصل مكانا نجسا لا يطهر (4).

نعم، لو جري علي وجه الأرض فوصل إلي مكان مسقف (5) طهر (6).

______________________________

(1) كما يقتضيه صحيح ابن جعفر المتضمن لجواز الأخذ من ماء السطح الذي يبال عليه الشامل للأخذ منه بعد انقطاع التقاطر، و مرسل ابن بزيع الظاهر في طهارة طين المطر إذا علم بتنجيس البول له قبل المطر، و غيرهما مما تقدم الكلام فيه في المسألة الثانية عشرة، و تقدم فيها أنه المتيقن من السيرة علي طهارة الأرض بوقوع المطر عليها، فلا بد أن يكون الكلام في اعتبار التعدد و غيره في غير الأرض.

(2) لعدم منافاته لصدق المطر الذي هو عبارة عن الماء النازل من السماء حال نزوله.

(3) تقدم في المسألة العاشرة أن المعتبر في اعتصام المطر نزوله علي الموضع النجس بحركة نزوله من السماء، لا بحركة أخري، فإن كانت الملاقاة للمحل الآخر موجبة لتعدد الحركة كانت مانعة من الاعتصام.

(4) يعني: بالنحو الذي يكتفي به في المطر، بل يكون كسائر أفراد الماء القليل في اعتبار الشروط الخاصة في التطهير به.

(5) يعني: مع بقاء التقاطر علي المحل الذي يكون منه الجريان.

(6) يعني: و لا ينقطع عنه حكم المطر بذلك، لاعتصامه بالماء المعتصم بالتقاطر، كما تقدم التعرض له في المسألة الحادية عشرة.

ص: 264

مسألة 16 إذا تقاطر علي عين النجس فترشح منها علي شي ء آخر لم ينجس

مسألة 16: إذا تقاطر علي عين النجس فترشح منها علي شي ء آخر لم ينجس ما دام متصلا بماء السماء بتوالي تقاطره عليه (1).

مسألة 17 مقدار الكر وزنا بحقة الاسلامبول و هي مائتان و ثمانون مثقالا صيرفيا

مسألة 17: مقدار الكر وزنا (2) بحقة الاسلامبول- و هي مائتان و ثمانون مثقالا صيرفيا-

______________________________

(1) لاعتصامه بذلك، كما تقدم.

و يشهد به خصوص خبري ابن جعفر الواردين في المطر يصيب الكنيف و المكان الذي فيه العذرة «1». بل صحيح هشام بن الحكم الوارد في الميزابين اللذين أحدهما بول و الآخر ماء مطر «2»، لعدم خصوصية البول ارتكازا.

و استهلاكه لا يصلح للفرق، لأنه متأخر عن الملاقاة زمانا. فلاحظ.

(2) المشهور المعروف بين الأصحاب أن الكر ألف و مائتا رطل، بل هو المنسوب إلي الأصحاب فيما عن التنقيح، و في المعتبر و عن كشف الرموز و المهذب البارع و المقتصر أن عليه عمل الأصحاب، و عن كشف الرموز نسبته إلي فتواهم أيضا، و عن ظاهر المنتهي و صريح غيره عدم الخلاف فيه، و في الانتصار و الجواهر و عن الناصريات و الغنية و المفاتيح و ظاهر المدارك دعوي الإجماع عليه، و عن الصدوق أنه من دين الإمامية.

ثمَّ إن المصرح به في كلمات غير واحد أن الرطل مردد بين العراقي و المدني، و أن الأول ثلثا الثاني، كما أن المصرح به في الاستبصار و الوسائل و كشف اللثام و الرياض و الجواهر و عن محكي الحدائق نسبته إلي الأصحاب: أن الرطل المكي ضعف العراقي.

و الظاهر عدم الإشكال في أن نصوص المقام مرددة بين هذه الاصطلاحات، و لا مجال لحملها علي غيرها، كالرطل المصري الذي هو ألف

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 3 و 5.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 265

______________________________

درهم، و غيره مما تعرض له بعض اللغويين و ستأتي الإشارة إليه إن شاء اللّٰه تعالي.

و سيتضح الوجه في ذلك بعونه تعالي.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه ذهب الشيخان و الفاضلان في الشرائع و القواعد و الشهيدان في اللمعتين إلي أن الرطل المعتبر هو العراقي، و هو المحكي عن القاضي و عماد الدين بن حمزة و جمع من المتأخرين، و نسب إلي المشهور تارة، و إلي الأكثر أخري.

و عن الصدوقين و المرتضي أنه الرطل المدني، بل عن الصدوق أنه من دين الإمامية، و في الانتصار دعوي الإجماع عليه و أنه الذي دلت عليه الآثار المعروفة المروية.

و الظاهر الأول. و ينبغي قبل الاستدلال عليه التعرض لنصوص المقام التي يستفاد منها التحديد بالأرطال، و هي مرسل بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: الكر من الماء [الذي لا ينجسه شي ء] ألف و مائتا رطل» «1» و صحيح محمد بن مسلم عنه عليه السّلام: «و الكر ستمائة رطل» «2» و نحوه مرفوع عبد اللّٰه ابن المغيرة عنه عليه السّلام «3».

و يمكن الاستدلال بهذه النصوص من وجوه.

الأول: حمل مرسل بن أبي عمير علي العراقي، اقتصارا في الخروج عن استصحاب طهارة الماء علي المتيقن، و هو خصوص ما لم يبلغ المقدار المذكور.

بناء علي ما تقدم عند الكلام في الملاقاة المقارنة للكرية من عدم ثبوت عموم يقتضي الانفعال غير نصوص الكر المفروض إجمالها، لاختصاص النصوص الأخري بما دون الكر كالركوة و الإناء و نحوهما.

نعم، استدل بعض مشايخنا علي العموم المذكور بموثق عمار بن موسي

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 266

______________________________

عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كل شي ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن تري في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما فلا توضأ منه و لا تشرب». و زاد الشيخ: «و سئل عن ماء شربت منه الدجاجة. قال: إن كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه و لم يشرب، و إن لم يعلم.» «1»، و صحيح شهاب بن عبد ربه عنه عليه السّلام: «جئت تسألني عن الجنب يسهو فيغمر [فيغمس خ ل] يده في الماء قبل أن يغسلها. قلت: نعم.

قال: إذا لم يكن أصاب يده شي ء فلا بأس.) «2»، فإن مقتضي إطلاق المنطوق في الأول و المفهوم في الثاني انفعال الماء و لو كان كثيرا إذا كان في منقار الطائر دم، أو أصاب اليد شي ء، و كذا حال غيرهما من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة.

و فيه: أن الظاهر ورود الخبرين في مقام بيان طهارة الطائر و بدن الجنب بعد الفراغ عن قابلية الماء للانفعال، و ليسا واردين لبيان قابلية الماء للانفعال، ليكون لهما إطلاق يشمل كثرته، و كذا الحال في بقية النصوص الواردة في الأسآر، و في الشك في الملاقاة و غيرهما مما يتضح بالنظر فيها، فإنها واردة لبيان أحكام أخري غير قابلية الماء للانفعال، فلا يتم إطلاقها من هذه الجهة.

علي أنه لو فرض تمامية عموم الانفعال بمثل ذلك فهو معارض بما يستفاد منه عموم الاعتصام، كموثق سماعة: «سألته عن الرجل يمر بالميتة في الماء. قال:

يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «3». و بعد تساقطهما يكون المرجع استصحاب الطهارة. فراجع كلامه، ليتضح عدم توجه التخلص الذي ذكره علي ما ذكرنا.

و كيف كان، فالظاهر أنه لا مخرج عن استصحاب الطهارة مع الشك في تحديد الكر، كما تقدم في ذيل الكلام في الشك في الكرية في الفرع التاسع من

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الأسآر حديث: 2، 3.

(2) الوسائل باب: 45 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 267

______________________________

الفروع التي استدركناها فيما ليس له مادة.

نعم، الوجه المذكور لا ينهض بإثبات كرية الماء بنحو تترتب عليه أحكامها المخالفة للأصل، و إنما ينهض بإثبات اعتصامه و ما يترتب علي الاعتصام من الأحكام، علي ما تقدم توضيحه في الفرع التاسع المذكور.

و أما دعوي: أن إطلاق الرطل علي العراقي هو الأشيع، فيكون هو الظاهر عند عدم القرينة، كما يناسبه ما في رواية الكلبي النسابة عن الصادق عليه السّلام الواردة في النبيذ، حيث قال: «فقلت له: و كم كان يسع الشن ماء؟ فقال: ما بين الأربعين إلي الثمانين إلي ما فوق ذلك. فقلت: بأي الأرطال. قال: أرطال مكيال العراق» «1» فان مقتضي اكتفاء الامام عليه السّلام بإطلاق الرطل في إرادة العراقي منه كونه هو المنصرف منه بلا قرينة. مؤيدا بما يأتي من الجوهري من أن الرطل مائة و ثمانية و عشرون درهما و أربعة أسباع الدرهم، حيث يقارب ما ذكروه في مقدار الرطل العراقي.

فهي ممنوعة، لأن رواية الكلبي- مع عدم خلوها عن ضعف السند- لا تدل علي ظهور الرطل مع عدم القرينة في العراقي، لإمكان احتفافها بقرينة حالية تقتضي ذلك، و أصالة عدم القرينة لا مجال لها مع تشخيص المراد.

و ما ذكره الجوهري معارض بما عن ابن الأعرابي و الحربي من أن الرطل اثنتا عشرة أوقية بأواقي العرب، و الأوقية أربعون درهما، و ما عن أبي منصور، حيث قال بعد أن تعرض لحديث مهر السنة: «و كانت الأوقية قديما عبارة عن أربعين درهما، و هي في غير الحديث نصف سدس الرطل، و هو جزء من اثني عشر جزءا.

و تختلف باختلاف، اصطلاح البلاد».

بل ظاهر ما حكي عن الجوهري أنه يريد اصطلاح عصره. فراجع ما ذكره في لسان العرب في مادة: «وقي».

علي أن الاعتماد علي اللغويين في مثل هذه التحديدات التي كثر الكلام

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

ص: 268

______________________________

فيها لا يخلو عن إشكال.

و بالجملة: لا طريق لإحراز ظهور إطلاق الرطل في خصوص العراقي، بنحو يحمل عليه المرسل مع قطع النظر عن القرائن الخارجية.

الثاني: ما أشار إليه في الاستبصار من أنه مقتضي الجمع بين المرسل و الصحيح، إذ لا مجال للجمع بينهما بحمل الصحيح علي الوجوب و المرسل علي الاستحباب، لإباء لسان التحديد فيهما عن ذلك جدا، بل المتعين عرفا بعد الاطلاع علي اختلاف إطلاقات الرطل الجمع بينهما بحمل المرسل علي العراقي، و الصحيح علي المكي، فيكون كل منهما مفسرا للآخر و رافعا لإجماله، و ذلك أولي عرفا من طرح أحدهما أو كليهما.

و أما تقريب ذلك بأن ابن أبي عمير و مشايخه من أهل العراق، و محمد بن مسلم ثقفي من أهل الطائف القريب من مكة.

فلا ينهض للتأييد فضلا عن الاستدلال، لعدم وضوح ترجيح عرف السامع علي عرف المتكلم، و عدم المثبت لاختصاص مشايخ ابن أبي عمير بالكوفيين، كما أن محمد بن مسلم من أهل الكوفة، كما يظهر من ترجمته.

علي أن كون أصل كل من المعاني مأخوذا من بلد لا يستلزم اختصاص شيوعه فيه عند الإطلاق في عصر صدور النصوص بذلك البلد، لإمكان انتشار الاصطلاح في سائر البلدان حينئذ، كما هو الحال في الحقة الاسلامبولية المشهورة في بلادنا مثلا.

فالعمدة في استفادة المطلوب من الصحيح و المرسل صلوح كل منهما عرفا لتفسير الآخر و رفع إجماله.

و دعوي: سقوط الصحيح عن الحجية، لإعراض الأصحاب عنه، فعن التهذيب: «لم يعمل علي هذه الرواية أحد من الأصحاب». بل الظاهر منهم العمل بالمرسل لا غير، كما سيأتي.

مدفوعة: بعدم ظهور إعراضهم عن الصحيح بالنحو المسقط له عن الحجية،

ص: 269

______________________________

لاحتمال كونه ناشئا من خفاء وجه الجمع بينه و بين المرسل، أو من اكتفائهم عنه به.

فالمتيقن منهم العمل بالمرسل، لا هجر الصحيح بنحو يكشف عن خلل فيه مانع من العمل به و الاعتماد عليه في تفسير المرسل. كما أن مقتضي ما ذكره الشيخ في الاستبصار من جعل الصحيح قرينة علي تفسير المرسل كون مراده من عدم عمل الأصحاب به عدم عملهم به بالنحو المنافي للمرسل، لا هجره مطلقا، لعدم صلوحه بنظرهم للاستدلال.

ثمَّ إن هذا الوجه و ما قبله مبنيان علي ما هو الظاهر من حجية المرسل المذكور، و عدم وهنه بالإرسال. و يقتضيه.

أولا: ظهور تسالم الأصحاب علي العمل به، كما صرح به في المعتبر و عن التنقيح. و يشهد به اتفاقهم علي التحديد بالعدد الذي تضمنه، و إن اختلفوا بين من أطلق الرطل، و من حدده بالعراقي و من حدده بالمدني، مع إهمالهم التحديد بالستمائة الذي تضمنه صحيح محمد بن مسلم، فإن ذلك كاف في جبر الصحيح المذكور لو كان ضعيفا في نفسه.

بل يكفي في الجبر عمل جماعة معتد بهم يوجب الوثوق بصدق الخبر، فضلا عن مثل هذا العمل الذي يظهر التسالم عليه.

و ثانيا: ما صرح به الشيخ و النجاشي و المحقق في المعتبر و غيرهم من عمل الأصحاب بمراسيل ابن أبي عمير قال الشيخ في العدة: «و إذا كان أحد الراويين مسندا و الآخر مرسلا نظر في حال المرسل، فان كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره علي خبره. و لأجل ذلك سوت [ميزت خ. ل] بين ما يرويه محمد بن أبي عمير، و صفوان بن يحيي، و أحمد بن محمد بن أبي نصر و غيرهم من الثقات، الذين عرفوا بأنهم لا يروون و لا يرسلون إلا عمن يوثق به، و بين ما أسنده غيرهم. و لذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم.»

و عنه أنه قال فيها أيضا: «أجمعت الطائفة علي أن محمد بن أبي عمير و يونس بن

ص: 270

______________________________

عبد الرحمن و صفوان بن يحيي و أضرابهم لا يروون و لا يرسلون إلا عن ثقة».

و قال النجاشي في ترجمة ابن أبي عمير: «و قيل: إن أخته دفنت كتبه في حالة استتاره و كونه في الحبس أربع سنين فهلكت الكتب. و قيل: تركها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت، فحدّث من حفظه و مما كان سلف له في أيدي الناس. فلهذا أصحابنا يسكون إلي مراسيله». و قريب من ذلك ما عن غيرهما.

فإن تمييز الأصحاب لهؤلاء في عملهم بمراسيلهم شاهد باطلاعهم علي خصوصية في رواياتهم تقتضي الاعتماد عليها من دون اهتمام بتحقيق حال رجالها، و مثل هذا كاف في الوثوق المعتبر في حجية الرواية.

إن قلت: لازم ذلك البناء علي تصحيح رجال ابن أبي عمير و أضرابه و مشايخهم، بنحو تكون جميع رواياتهم صحاحا أو موثقة، لكشف روايتهم عنهم عن وثاقتهم، مع عدم بناء الأصحاب علي ذلك، كما قيل، فلا بد من حمل كلامهم علي وثاقة من يروون عنه في خصوص الخبر الذي رواه و لو لقرائن خارجية حدسية تكفي في اعتماد الراوي علي الرواية و وثوقه بها.

و هذا لا يختص بابن أبي عمير و أضرابه، بل يجري في أكثر الرواة، لما هو المعلوم من حالهم من أن نقلهم للرواية ليس لمجرد الحفظ و التدوين، نظير نقل الحوادث التاريخية، بل للعمل، فما لم تكن الرواية مورد الوثوق لا يروونها، و لذا تجنبوا الرواية عن كثير ممن اطلعوا علي ضعفه، كما يظهر بملاحظة كتب الرجال.

و حينئذ لا مجال للاعتماد علي التوثيق المذكور، إذ لا بد من استناده إلي الحس أو الحدس القريب منه.

علي أنه لو فرض ظهور رواية هؤلاء عن شخص في توثيقه عن حس أو حدس قريب منه، بنحو يكون حجة في نفسه فحيث ثبت طعن الأصحاب في غير واحد ممن يروون عنه- كيونس بن ظبيان و غيره- امتنع الاعتماد علي مراسيلهم، لاحتمال كون الواسطة ممن تعارض فيه الجرح و التعديل.

ص: 271

______________________________

قلت: تسالم الأصحاب المدعي علي العمل بروايات هؤلاء و مراسيلهم و تمييزهم لهم عن غيرهم كاشف عن اطلاعهم علي وثاقة من يروون عنه بطريق الحس أو الحدس القريب منه بالنحو المصحح للعمل، و ليس المراد من ذلك وثاقة من يروون عنه مطلقا، ليكون توثيقا له في سائر رواياته و ينافي الجرح المدعي، لعدم توقف العمل بالرواية علي ذلك، بل يكفي وثاقته حين تحمل الرواية عنه، و هو لا يقتضي صحة سائر رواياته، كما لا ينافي جرحهم له، إذ ليس المراد بالجرح إلا صدور ما ينافي الاعتماد علي رواياته في الجملة المقتضي للتوقف في رواياته مع جهل وقت تحملها عنه، لا في تمام ما يرويه، كما لعله ظاهر.

و بعبارة أخري: الأمر المتفق عليه بين الشيخ و النجاشي و المحقق في المعتبر و غيرهم اعتماد الأصحاب علي مراسيل ابن أبي عمير، و المناسب لذلك حمل التعليل الذي ذكره الشيخ قدّس سرّه من أنه لا يروي إلا عن ثقة علي الثقة حين تحمل الرواية عنه، لا مطلقا، و لم يثبت ما يقتضي الخروج عن ذلك، فالبناء عليه متعين.

علي أن ذلك إنما يوجب الإشكال في التعليل، لا في الإجماع المدعي من الشيخ و النجاشي و غيرهما علي العمل بمراسيل ابن أبي عمير، فإن العمل المذكور ليس من الأمور الحدسية التي يحتمل الاشتباه فيها علي مثل هؤلاء الناقلين له، كما أنه لا يحتمل خطأ الأصحاب في عملهم بالمراسيل المذكورة، و يكفي في الاعتماد عليها الإجماع المذكور و إن لم يتم التعليل.

و مما ذكرنا يظهر الإشكال فيما في مسألة سنن الوضوء من المعتبر فإنه بعد أن طعن في سند مرسلة لابن أبي عمير قال: «و لو قال قائل مراسيل بن أبي عمير يعمل بها الأصحاب، منعنا ذلك، لأن في رجاله من طعن الأصحاب فيه، و إذا أرسل احتمل أن يكون الراوي أحدهم».

فإنه إن أراد منع عمل الأصحاب بمراسيل ابن أبي عمير، فهو مخالف لما صرح به هو و أعاظم الأصحاب. مع أن عملهم برواياته لا ينافي طعنهم

ص: 272

______________________________

في بعض رجاله.

و إن أراد أن التوثيق معارض بالجرح- كما هو ظاهر ذيل كلامه- اتجه الجواب عنه بما سبق.

بقي في المقام أمور.

الأول: أن مقتضي تعليل الشيخ قدّس سرّه عدم اختصاص الحجية بمراسيل ابن أبي عمير، بل تعم مسانيده، فلا ينظر في حال رجال السند بعده.

و الاعتماد علي ما ذكره قدّس سرّه قريب جدا، لظهوره في نقل أمر حسي شائع، و ليس هو كنقل الإجماع علي الفتوي الذي ثبت تسامحهم فيه و ابتناء بعضه علي مقدمات حدسية بعيدة. بل مقتضي ذلك البناء علي وثاقة من ثبت روايته عنه ما لم يثبت طعنه و جرحه. فتأمل.

الثاني: تقدم من الشيخ قدّس سرّه تعميم الأمر المذكور ليونس بن عبد الرحمن و صفوان بن يحيي و أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، و هو المحكي عن الشهيد في الذكري، فاللازم البناء علي ذلك، و لا وجه لقصر ذلك علي ابن أبي عمير، كما عن الفقهاء.

الثالث: ربما يدعي أن مراد الشيخ قدّس سرّه من قوله: «و غيرهم من الثقات» و قوله:

«و أضرابهم» الإشارة للجماعة الذين ادعي الكشي إجماع الأصحاب علي تصحيح ما يصح عنهم. لكنه ليس من الظهور بنحو يصلح للحجية بنفسه، أو لتفسير مراد الكشي من الإجماع المذكور، فاللازم الاقتصار علي خصوص الجماعة الذين سماهم الشيخ قدّس سرّه.

كما أنه لا مجال لدعوي: ظهور كلام الكشي بنفسه في ذلك، لوضوح أن ما صح عنهم هو ما حدّثوا به من حديث الواسطة لهم، لا حديث الامام عليه السّلام مع من بعدهم من رجال السند، بل ظاهر عطفه قدّس سرّه التصديق علي التصحيح كونه تفسيريا، حيث قال: «أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم.».

ص: 273

______________________________

بل لا ينبغي التأمل في ذلك بعد الالتفات إلي اختصاص التعبير بالتصحيح بالطبقتين الأخيرتين مع ظهور كلامه في أنهما من سنخ الطبقة الاولي، بل دونها، و لم يذكر في الطبقة الأولي إلا التصديق: قال: «اجتمعت العصابة علي تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر و أصحاب أبي عبد اللّٰه عليهما السّلام، و انقادوا لهم بالفقه فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة.» «1»، ثمَّ قال بعد ذلك: «أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم لما يقولون و أقروا لهم بالفقه من دون أولئك الستة الذين عددناهم و سميناهم ستة نفر جميل بن دراج. و هم أحداث أصحاب أبي عبد اللّٰه عليه السّلام» «2» ثمَّ قال بعد ذلك: «أجمع أصحابنا علي تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم و أقروا لهم بالفقه و العلم، و هم ستة نفر آخر دون الستة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، منهم يونس بن عبد الرحمن.» «3».

و دعوي: أن حمل كلامه علي ذلك لا يناسب تخصيصهم، لعدم الريب في وثاقه غيرهم.

مدفوعة: بأن كلامه لم يقتصر علي التوثيق، بل اشتمل علي الفقه و العلم، مع إقرار الكل لهم بذلك و انقيادهم لهم فيه، و ذلك لا يتهيأ إلا للأوحدي، و يحق لمثل الكشي الرجالي الناقد أن يهتم بذلك و يؤكد عليه.

نعم، لو ثبت أن نقل هؤلاء الجماعة للرواية و لو بواسطة مبني علي التعهد بصدورها كان مقتضي تصديق الأصحاب لهم قبولهم لها و تصحيحها.

لكن ذلك و إن كان قريبا جدا، بل هو المعلوم به إجمالا في كثير من رواياتهم، بل أكثرها، إلا أنه لا حجة عليه عموما، ليرجع إليه مع الشك، فلا يصلح إلا للتأييد.

______________________________

(1) رجال الكشي ص: 206.

(2) رجال الكشي ص: 322.

(3) رجال الكشي ص: 466.

ص: 274

______________________________

كما أنه بالتأمل في حق هؤلاء، و أمثالهم يتضح كون روايتهم عن شخص من جملة المؤيدات لوثاقته و إن لم تكن دليلا عليها. فلاحظ.

الوجه الثالث للاستدلال بنصوص المقام علي المختار: أنه مقتضي صحيح ابن مسلم، بحمله علي المكي، للإجماع علي عدم الاكتفاء بستمائة مدني أو عراقي، كما أشار إليه في الاستبصار.

و يقتضيه أيضا ما في صحيح ابن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن جرة ماء فيه ألف رطل وقع فيه أوقية بول، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟ قال: لا يصلح» «1»، إذ لا بد من حمله علي العراقي و حمل صحيح محمد بن مسلم علي المكي، جمعا، نظير ما تقدم في الوجه الثاني. بل لو تمَّ ما ذكره بعض مشايخنا من عموم انفعال الماء كان اللازم حمل صحيح ابن مسلم علي المكي اقتصارا في تخصيص العموم المذكور علي المتيقن.

لكن تقدم الإشكال في العموم المذكور. و العمدة ما عرفت، مؤيدا بما تضمن تقدير الكر بالحب، و ما تضمن اعتصام الماء الذي يكون قدر قلتين، أو أكثر من راوية «2» فإن تنزيلها علي المطلوب أقرب من تنزيلها علي القول الآخر.

و مما ذكرنا يظهر ضعف القول باعتبار المدني، و إن ادعي المرتضي و الصدوق قدّس سرّهما في الانتصار و الناصريات و المجالس عليه الإجماع، كما تقدم عنهما.

و كأن الإجماع علي عدد الأرطال قد اشتبه عليهما بالإجماع علي تحديدها أيضا. بل لا يبعد كون مراد الانتصار ذلك، و إن أوهمت عبارته خلافه، فقد ادعي أن تحديد الكر بألف و مائتي رطل مدني محصل من الإجماع، و قد دلت عليه الآثار

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 16.

(2) راجع في ذلك باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 8، 9. و باب: 10 من الأبواب المذكورة حديث: 7، 8.

ص: 275

______________________________

المعروفة المروية، مع وضوح أن الآثار المروية إنما تعرضت لإعداد الأرطال، لا لنوعها.

كما لا يبعد كون مراد الصدوق الإجماع علي اعتصام الكر لا تحديده، فقد قال في المجالس: «دين الإمامية هو الإقرار بتوحيد اللّٰه تعالي ذكره.» و ذكر جملة من أصول الدين و فروعه و أحكامه المشهورة إلي أن قال: «و الماء إذا كان قدر كر لم ينجسه شي ء. و الكر ألف و مائتا رطل بالمدني.» «1».

و كيف كان، فلا ينهض ذلك بإثبات القول المذكور. و مثله الاستدلال له.

تارة: بأن ذلك هو الظاهر من الرطل في مرسل ابن أبي عمير، بقرينة كون المتكلم مدنيا.

و اخري: بأنه مقتضي الاحتياط.

لاندفاع الأول: بعدم وضوح كون عرف المتكلم هو الأظهر في قبال عرف السامع. مضافا إلي بعض ما تقدم في الوجه الثاني من وجوه الاستدلال للقول المختار.

و الإشكال في الثاني: بأن الاحتياط- مع عدم اطراده- لا ينهض بالاستدلال.

بقي في المقام أمور يتوقف عليها تحديد الكر.

الأول: أن شيخنا الأستاذ قدّس سرّه استشكل في نصوص الأرطال، بعدم وضوح كون الرطل من الأوزان، بل لعله مكيال مجهول المقدار، لاختلاف اللغويين في ذلك. فبعضهم اقتصر علي جعله كيلا، مثل ما عن الليث من أن الرطل مقدار منّ، بضميمة ما عن أبي الحسن من أن المن من الأكيال. و بعضهم اقتصر علي الوزن، مثل ما تقدم عن ابن الأعرابي، و القاموس، من أنه اثنتا عشرة أوقية، بضميمة ما يظهر منهم التسالم عليه من أن الأوقية من الأوزان.

و بعضهم جمع بينهما، قال ابن دريد: «الرطل الذي يكال به و يوزن (بكسر الراء) معروف قال الشاعر:

______________________________

(1) المجالس ص 577 طبع النجف الأشرف.

ص: 276

… ______________________________

لها رطل تكيل الزيت فيه و فلاح يسوق لها حمارا

» و نحوه ما في الصحاح و عن المصباح. إلي غير ذلك من كلماتهم الموجبة لإجماله و تردده بين الأمرين.

كما أن النصوص في المقام لا تصلح لتعيين كونه وزنا، بل ظاهر غير واحد من النصوص كونه كيلا، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن الرجل يدفع إلي الطحان الطعام، فيقاطعه علي أن يعطي لكل عشرة أرطال اثني عشر دقيقا. قال: لا» «1» إذ لو كان الرطل وزنا لم يكن للطحان داع لأن يدفع اثني عشر رطلا دقيقا في قبال عشرة أرطال حنطة، فلا بد أن يكون كيلا، لأن الكيل من الدقيق أقل وزنا من كيل الحنطة، بسبب انحلاله و تماسكها.

و مثله صحيح عمر بن يزيد: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: تعطي الفطرة دقيقا مكان الحنطة؟ قال: لا بأس يكون أجر طحنه بقدر ما بين الحنطة و الدقيق» «2»، فإنه كالصريح في أن صاع الحنطة أكثر من صاع الدقيق، و لا يكون ذلك إلا في الكيل.

و كذا رواية الكلبي النسابة المتقدمة.

هذا، و لكن صحيح محمد بن مسلم روي عن محكي الفقيه: «لكل عشرة أمنان عشرة أمنان»، و من البعيد جدا تعدد الرواية. و صحيح عمر بن يزيد أجنبي عما نحن فيه و ليست الزكاة فيه إلا صاعا.

نعم، رواية الكلبي ظاهرة فيما ذكره قدّس سرّه. لكن لا يبعد في دفع ذلك أحد أمرين.

الأول: أن يكون الرطل بحسب أصل جعله كيلا، إلا أنه قد حدد بالوزن شرعا و عرفا بلحاظ بعض الأمور المكيلة، حتي اشتهر في الوزن، و هجر الكيل، كما قد يناسبه اختلاف وزنه حسب اختلاف البلاد، إذ قد يكون ناشئا من اختلاف أوزان الأمور المكيلة التي جعلت معيارا في ضبط وزنه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الربا حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 5.

ص: 277

______________________________

الثاني: أن يكون وزنا لا غير، و إطلاقه علي الكيل بلحاظ ابتنائه علي الوزن الخاص في بعض الأمور التي يكثر احتياج الناس إلي وزنها و لا يتهيأ لهم الميزان، نظير كيل الجص و الحليب في عصرنا، و ربما يحمل عليه قول الشاعر المتقدم، و ما في صحيح محمد بن مسلم.

و لعل هذا هو الأقرب، فإن اللغويين مع تعرضهم لكونه كيلا لم يحددوه إلا بالوزن، و كذا النصوص، و كلمات الأصحاب لا إشارة فيها لتحديده بغير الوزن.

و كيف كان، فالظاهر إرادة الوزن في المقادير الشرعية، لاشتهارها مطلقا، أو في استعمالات الشارع. و لو لأجل تنزل الشارع عن خصوصية الكيل، و الاكتفاء بالوزن، لتيسر ضبطه، كما يناسبه إطلاق الرطل في كثير من النصوص و الاقتصار في نصوص اخري علي تحديده بالوزن، خصوصا مع اختلاف وزن الأمور المعتبر فيها الرطل كالأعيان الزكوية، فلو وجبت المحافظة علي الكيل لامتنع التحديد بالوزن في الأمور المذكورة.

علي أنه لو فرض إجمال الرطل في نفسه كفي في حمله في المقام علي الوزن تسالم الأصحاب عليه و أخذهم له طبقة عن طبقة متصلا بعصور المعصومين عليهم السّلام، حيث ينحصر الخلاف بينهم في حمله علي المدني أو العراقي المحددين بالوزن- كما يأتي- و لا أثر لاحتمال كونه كيلا في كلماتهم.

بل لا أقل من كون ذلك مقتضي، الجمع بين نصوص المقام، لما أشرنا إليه من لزوم حمل بعضها علي العراقي، و الآخر علي المكي اللذين حددا بالوزن.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل بعد ملاحظة النصوص بمجموعها و كلمات الأصحاب في أن المدار علي الرطل المحدد بالوزن، إما لاختصاص إطلاق الرطل به، أو شيوعه فيه، أو لإرادته منه في خصوص المقام بالقرينة، أو لتنزل الشارع للتحديد بالوزن، لإمكان ضبطه، كما هو الحال في الصاع الذي لا إشكال في كونه

ص: 278

______________________________

في الأصل كيلا. فلاحظ.

الثاني: انه حيث ذكرنا أن المعتبر هو الرطل العراقي، و أنه من الأوزان، فاعلم أن المعروف أنه مائة و ثلاثون درهما، و لا ينقل الخلاف في ذلك إلا عن العلامة قدّس سرّه في موضع من التحرير و المنتهي، فجعل وزنه مائة و ثمانية و عشرين درهما و أربعة أسباع درهم مع موافقته للأصحاب في مبحث الكر من المنتهي، و زكاة الفطرة من التحرير، و في كتاب الزكاة من مفتاح الكرامة: «قد اعترف جماعة بعدم معرفة مستنده. و قال بعضهم: الظاهر أنه سهو من قلمه الشريف، و أنه تبع فيه بعض العامة، كما احتمله بعض أصحابنا» و قريب منه في الجواهر.

و كيف كان، فيدل علي المشهور ما تضمن من النصوص تقدير الرطل المدني بمائة و خمسة و تسعين درهما، بضميمة ما دل علي أن الرطل العراقي ثلثا الرطل المدني، كخبر جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني الذي لا يخلو عن اعتبار يلحقه بالحسان [1]: «كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام علي يد أبي: جعلت فداك إن أصحابنا اختلفوا في الصاع، بعضهم يقول الفطرة بصاع المدني، و بعضهم يقول:

بصاع العراقي. قال: فكتب إلي: الصاع ستة أرطال بالمدني، و تسعة أرطال بالعراقي.

قال: و أخبرني أنه يكون بالوزن ألفا و مائة و سبعين وزنة [درهما خ ل]» «2». و مكاتبة إبراهيم أبيه التي لا تخلو عن اعتبار أيضا [3]: «الفطرة عليك و علي الناس كلهم،

______________________________

[1] إذ ليس في سنده من لم يصرح بتوثيقه إلا جعفر المذكور، و تستفاد وثاقته مما حكي من رواية الصدوق بإسناده إليه مترحما و مترضيا عليه، و عدم استثناء القميين له من رجال نوادر الحكمة. و يؤيد ذلك كون أبيه من وكلاء الهادي عليه السّلام و قد اعتمد عليه في حمله كتابه إليه عليه السّلام: كما أنه يظهر من الخبر المتقدم كونه من رفقاء محمد بن أحمد بن يحيي في طريق الحج، حيث أنه حدثه به في الطريق المذكور، فإن مجموع ذلك كاف في وثاقته أو حسنه.

[3] فقد رواها الشيخ قدّس سرّه عن المفيد و ابن عبدون عن الحسين بن علي بن شيبان القزويني- الذي هو من مشايخ الإجازة- عن علي بن حاتم القزويني- الذي وثقه النجاشي- عن محمد بن عمر- الذي لا يبعد كونه ابن سعيد الزيات الثقة العين لتمييزه برواية علي بن حاتم عنه- عن الحسين بن الحسن الحسيني- الذي ترحم عليه الكليني، و قال الشيخ فيه: «فاضل» - فلاحظ.

______________________________

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 1.

ص: 279

______________________________

و من تعول ذكرا كان أو أنثي، صغيرا أو كبيرا، حرا أو عبدا، فطيما أو رضيعا، تدفعه وزنا ستة أرطال برطل المدينة، و الرطل مائة و خمسة و تسعون درهما، يكون الفطرة ألفا و مائة و سبعين درهما» «1». و خبر علي بن بلال: «كتبت إلي الرجل عليه السّلام أسأله عن الفطرة و كم تدفع؟ فكتب ستة أرطال من تمر بالمدني، و ذلك تسعة أرطال بالبغدادي» «2» و نحوه مرسل الحسن بن علي بن شعبة «3»، و في خبره عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلي المأمون: «و الصاع تسعة أرطال، و هو أربعة أمداد، و المد رطلان و ربع بالرطل العراقي» «4» و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال:

كان رسول صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم يتوضأ بمد و يغتسل بصاع، و المد رطل و نصف، و الصاع ستة أرطال» «5» و زاد فيه في المعتبر: «بأرطال المدينة يكون تسعة أرطال بالعراقي» «6»، و عن الفقه الرضوي في تحديد الصاع، و هو: «تسعة أرطال بالعراقي» «7»، و عن كتاب الاستغاثة: «و قال أهل البيت عليهم السّلام: صاع رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم تسعة أرطال بالعراقي، و ستة أرطال بالمدني» «8»، فإن التأمل في ذلك و غيره من كلمات الأصحاب يوجب وضوح المطلوب و ظهور عدم المستند لما تقدم نقله عن العلامة قدّس سرّه.

نعم، قد يستأنس له بما في الصحاح: «و الرطل اثنتي عشرة أوقية، و الأوقية أستار و ثلثا أستار، و الأستار أربعة مثاقيل و نصف، و المثقال درهم و ثلاثة أسباع الدرهم» و تبعه في القاموس، فإن حاصل كسره يبلغ المقدار المذكور، و هما و إن لم يقيداه بالعراقي، إلا أن مقاربته لوزنه المذكور في كلمات الأصحاب يقرب

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب زكاة الغلات حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 5 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(6) ص: 268.

(7) مستدرك الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 1.

(8) مستدرك الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 2.

ص: 280

______________________________

إرادتهما له.

لكن من الظاهر عدم نهوض ذلك بالحجية في نفسه، فضلا عن الخروج به عما تقدم من النصوص المعتضدة بعمل الأصحاب. و لا سيما مع ما أشرنا إليه آنفا من ظهور بعض الكلمات المنقولة عن الجوهري في أنه في مقام تحديد مصطلح عصره، و لعله يريد الرطل المصري الذي حدده بذلك في لسان العرب.

الثالث: أنه حيث حدد الرطل بالدرهم فالظاهر أنه لا يراد به الدرهم المسكوك، لاختلاف ما يمكن معرفة وزنه من الدراهم القديمة اختلافا فاحشا، لا يمكن أن تكون معه موضوعا في التحديد، و هو المصرح به في كلام بعضهم، كالعلامة قدّس سرّه في القواعد، بل هو المقطوع به بعد ملاحظة ما ذكره المؤرخون و نحوهم، فلا بد أن يحمل التحديد به علي إرادة وزن خاص مصطلح عليه هو الأصل في وزن الدرهم، نظير ما اصطلح عليه في عصورنا من كون الأوقية ستة و تسعين درهما. فلا بد من ضبط الوزن المذكور.

و لم تتعرض النصوص لذلك عدا ما في خبر سليمان بن حفص المروزي عن الكاظم عليه السّلام: «و الدرهم ستة دوانيق، و الدانق وزن ستة حبات، و الحبة وزن حبتي الشعير من أوسط الحب لا من صغائره و لا من كبائره» «1».

لكنه مهجور عند الأصحاب، و لا يعرف القائل به، في مفتاح الكرامة: «و قد اشتمل علي مخالفات عديدة لما عليه الأصحاب» و قريب منه في الحدائق، و رماه في الجواهر بالشذوذ، و حكاه عن غير واحد، فلا بد من التعويل في تحديد الدرهم علي ما ذكره الأصحاب (رضي اللّٰه تعالي عنهم).

و قد ذكروا في تحديده طريقين.

الأول: أنه ستة دوانيق، و الدانق ثمان حبات من أوسط حب الشعير، كما في الشرائع و القواعد و غيرهما، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك»، و ادعي عليه الإجماع في كلام جماعة ذكرهم في مفتاح الكرامة و الجواهر، بنحو

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 281

______________________________

يظهر منهم التسالم عليه عندنا، بل عند العامة أيضا.

لكن الموجود في بعض كلمات العامة، بل المدعي عليه إجماعهم أنه خمسون و خمسا حبة شعير، لأن المثقال عندهم اثنتان و سبعون حبة، بل عن شذاذ منهم انه أكثر من ذلك.

و إجماع أصحابنا المدعي و إن كان مهما إلا أن المقام لا يرجع إلي تشخيص الحكم الشرعي الذي هو مختص بهم، بل إلي تحديد أمر خارجي، و وقوع الخطأ فيه غير عزيز، و لا سيما مع عدم وضوح التسالم فقد قال في مجمع البحرين. بعد أن ضبط المثقال بستين حبة شعير: «و منه يعرف ضبط الدرهم الشرعي، فإن المشهور ان كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم. و هو بحساب حب الشعير يكون عبارة عن اثنين و أربعين حبة شعير»، بل ذكر في الحدائق أنه بعد الاختبار به ظهر نقصه كثيرا عن الوزن الذي ذكره الأصحاب نقصانا فاحشا، و من ثمَّ استظهر كون حب الشعير سابقا أكبر منه لاحقا، و لعل ما ذكره مبني علي التحديد الثاني.

و كيف كان، فلا مجال مع ذلك للاعتماد علي الضبط المذكور، لوضوح اختلاف وزن الحب المتوسط بنحو يكون الفرق شاسعا في مثل الكر، بل الصاع، حيث يكثر عدد الحبات جدا، مع وضوح امتناع تحديد الشي ء الواحد بالأمور المختلفة، فلو كان التحديد مستفادا من النصوص أمكن دعوي كون المراد بها الاكتفاء بالمسمي، الراجع إلي التحديد بأصغر الحب المتوسط بنحو القضية الحقيقية، كما هو الحال في سائر العناوين المأخوذة في الأدلة الشرعية نظير ما يذكر في التحديد بالشبر.

أما حيث كان مستفادا من الأصحاب فلا مجال لحملها علي ذلك، لأنه يختص بالشارع الذي له جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية، و لا دليل علي كون تحديد الأصحاب بالعنوان مستفادا من الشارع، نظير تحديدهم الكر بالرطل، بل من القريب جدا أن يكون منشأ التحديد في كلماتهم بذلك ضبطه بلحاظ بعض

ص: 282

______________________________

أفراد الحب مع الغفلة أو التسامح في الاختلاف الذي أشرنا إليه، فمع الجهل بوزن ذلك الحب يمتنع قياس غيره عليه و الوزن به.

و قد أشار إلي بعض ما ذكرنا المجلسي في محكي رسالته في الأوزان. قال:

«كون الدرهم علي وزن ثمانية و أربعين شعيرة لم يرد في نص، و إنما هو عيار أخذه الأصحاب من بعض شعيرات بلادهم، و قد ذكرنا اختلاف الشعيرات بحد لا ينضبط التقدير بالنسبة إليه، فقدرنا بعض الشعيرات بالمثقال الصيرفي، فكان مائة و اثنتين شعيرة، و بعضها كان مائة و إحدي عشرة شعيرة و بعضها تسعين، و مع هذا الاختلاف الفاحش كيف يمكن بناء الحكم عليه.» و مما ذكرنا يظهر حال ما عن بعضهم من التحديد بحب الأرز و الخردل.

الثاني: أن الدرهم سبعة أعشار المثقال الشرعي، فيكون المثقال درهما و ثلاثة أسباع الدرهم، و كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، فقد صرح بذلك المحقق في الشرائع و المختصر النافع و المعتبر، و العلامة في القواعد و عن جملة من كتبه، و الشهيد الثاني في الروضة و المسالك، و ظاهر حال غير واحد أنه من المسلمات، بل عن ظاهر الخلاف إجماع الأمة عليه، و قال المجلسي في محكي رسالته في الأوزان: «و هذه النسب مما لا شك فيها، و اتفقت عليها العامة و الخاصة» و هو المصرح به في كلمات بعض اللغويين و المؤرخين، و قد شهد به ذوو الاختصاص بالآثار، حيث ذكروا النسبة المذكورة بين الدرهم و الدينار، الذي هو المثقال، كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي. فلا ينبغي التوقف في ذلك.

و عليه يكون الرطل العراقي واحدا و تسعين مثقالا- كما صرح به في مفتاح الكرامة و الجواهر- و الكر مائة و تسعة آلاف مثقال و مائتي مثقال.

الرابع: المذكور في كلماتهم تحديد المثقال الشرعي بأنه ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي، ففي مجمع البحرين: «فالمثقال الشرعي يكون علي هذا الحساب عبارة عن الذهب الصنمي. و الذهب الصنمي عبارة عن ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي، عرف بذلك بالاعتبار الصحيح»، و ظاهر الجواهر المفروغية عن ذلك، بل عن

ص: 283

______________________________

المجلسي في رسالة الأوزان: «و هذه النسب مما لا شك فيها، و اتفقت عليها الخاصة و العامة».

و علي هذا جري غير واحد من المتأخرين، بل لا يعرف غيره بينهم، فقاسوه بالمثقال الشائع في النجف الأشرف، و جعلوه المعيار في جميع الأوزان الشرعية.

و حيث ذكرنا أن الرطل واحد و تسعون مثقالا شرعيا فهو ثمان و ستون مثقالا صيرفيا و ربع. كما أنه حيث كان الكر مائة و تسعة آلاف مثقال و مائتي مثقال شرعي فهو واحد و ثمانون ألف و تسعمائة مثقال صيرفي. و عليه جري الحساب في المتن.

لكن في ثبوت النسبة بين المثقالين بذلك إشكال، بعد عدم كونه حكما شرعيا، بل أمر خارجي مستند إلي التجارب، و الخطأ فيها غير عزيز.

فتأمل.

مع أن ضبط المثقال الصيرفي الذي وقع التحديد به غير متيسر لنا، إذ لا يبعد اختلاف المثاقيل الصيرفية- باختلاف الأزمنة و الأمكنة- حيث صرح غير واحد بعدم اختلاف المثقال في جاهلية و لا إسلام، فلا بد أن يكون حدوث المثقال الصيرفي متأخرا بعد تعدد دول المسلمين و انحلالها، الذي لا يناسب الاتفاق علي تحديد المثقال و لا ضبطه بنحو لا يعتوره الزيادة و النقصان بمرور الزمان.

بل عن الشبري [1] في رسالته في الأوزان أنه قال بعد التعرض للمثقال الشرعي: «و لم يزل الأمر علي ذلك حتي نبعت الدولة الشاهية و العثمانية، فوضعت الفارسية مثقالا جديدا زنته مثقال و ثلث من المثاقيل المتقدمة».

كما أن المحكي عن المحقق الثاني أنه قال: «و الظاهر أن المثقال المستعمل بين الناس درهم و نصف» و هو شاهد باختلاف المثقال الذي ذكره مع المثقال الذي ذكره المجلسي قدّس سرّه، إذ الثاني درهم و ستة أسباع الدرهم و ثلث سبعة.

______________________________

[1] السيد عدنان السيد موسي شبر.

ص: 284

______________________________

بل المشاهد فعلا في عصورنا اختلاف المثقال المستعمل في النجف الأشرف مع المثقال الشائع في كربلاء و بغداد، بل جميع مدن العراق- كما قيل- مع قرب المسافة و كثرة الاختلاط، فالأول أربعة و عشرون حبة، و الثاني يزيد حبتين بمقدار نصف السدس عنه، و الكيلو غرام مائتان و سبعة عشر مثقالا و عشر حبات من الأول، و مائتان و مثقالان من الثاني، حسبما ذكره لي بعض الصاغة في النجف الأشرف، و قد سألت بعض الصاغة عن المثقال الذي عندهم، فذكر أنه ينقص عن المثقال العربي، و أن مثقال بغداد هو الأقرب، و أن مسألة المثقال غير منظمة.

كما أنهم يعترفون بعدم الطريق لضبط المثقال الذي عندهم لو فرض الشك في بعض موازينه بسبب كثرة الاستعمال أو نحوه، حيث يتعارف ذلك بطول الزمان.

بل وقع ما يشهد باختلاف مثاقيل بعض الصاغة عن بعض في النجف الأشرف، فقد اشتري بعضهم سبيكة علي قدر معلوم، و لما باعها متفرقا علي حسب وزنه زاد عنده عدة مثاقيل، و لم يعلم أن ذلك ناشئ من نقص مثقاله أو زيادة مثقال من باعه. و مع هذا كيف يمكن الاعتماد في التحديد علي المثقال الصيرفي، فضلا عن خصوص مثقال النجف الأشرف؟

بل مقتضي ظاهر ما ذكره المجلسي عن والده، من أنه وزن الدينار القديم المضروب باسم الرضا عليه السّلام فكان ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي، اختلاف المثقال الصيرفي الذي عندنا عما عندهم بكثير، كما سيظهر. فلا بد من سلوك طريق آخر لضبط المثقال، الذي عليه يبتني وزن الدرهم و الدينار.

و لا طريق أقرب من الرجوع إلي ما بقي من الدراهم و الدنانير الأثرية المحفوظة في المتاحف أو عند بعض الهواة التي تيسر الاطلاع عليها أو علي موازينها المسجلة في الجداول المعدة لها، و عمدتها الدنانير، لقلة الاختلاف بينها بنحو يسهل معرفة الميزان التقريبي لها، بخلاف الدراهم، كما شهد به بعض أهل الاختصاص في الآثار و غيرهم ممن تيسر له الفحص.

ص: 285

______________________________

فإن من المتسالم عليه أن وزن الدينار المسكوك قديما مثقال شرعي و أنه لم يتغير عن ذلك، و أن النسبة بين الدرهم و الدينار هي النسبة بين الدرهم و المثقال، كما صرح به كثير من الفقهاء و المؤرخين و اللغويين و المختصين بالآثار القديمة من الخاصة و العامة.

فعن الوافي: «و المثقال قدر دينار، و الدينار لم يتغير في جاهلية و لا إسلام، و إن اختلفت الدراهم»، و في مجمع البحرين: «تكرر في الحديث ذكر الدينار بالكسر، و هو واحد الدنانير الذي هو مثقال من الذهب. و عن ابن الأثير: أن المثقال في العرف يطلق علي الدينار خاصة».

و عن المجلسي أنه اتفق علماء العامة و الخاصة علي عدم تغير الدينار عما كان عليه. و عن الحدائق: «لا خلاف بين الأصحاب أن الدنانير لم يتغير وزنها عما هي عليه الآن في جاهلية و لا إسلام، صرح بذلك جملة من علماء الطرفين. قال شيخنا العلامة أجزل اللّٰه إكرامه في النهاية: و الدنانير لم يختلف المثقال منها في جاهلية و لا إسلام. كذا نقل عن الرافعي في شرح الوجيز أنه قال: المثاقيل لم تختلف في جاهلية و لا إسلام. و الدينار مثقال شرعي، فهما متحدان وزنا، فلذا يعبر في أخبار الزكاة تارة بالدينار، و اخري بالمثقال».

و عن كاشف الغطاء في رسالة التحقيق و التنقير: «الدينار هو المثقال الشرعي، فالشرعي هو الذهب العتيق الصنمي الذي يسمي اليوم: أبو لعيبة، و هو درهم و ثلاثة أسباع الدرهم، يعبرون عنه بالدينار مرة، و بالمثقال الشرعي أخري».

و يشهد به أيضا ما أشار إليه من التعبير في النصوص و كلمات الأصحاب بالمثقال تارة، و بالدينار أخري، ففي الموثق عن علي بن عقبة و عدة من أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السّلام: «قالا: ليس فيما دون العشرين مثقالا من الذهب شي ء، فإذا كملت عشرين مثقالا ففيها نصف مثقال إلي أربعة و عشرين، فإذا أكملت أربعة و عشرين ففيها ثلاثة أخماس دينار إلي ثمانية و عشرين، فعلي هذا

ص: 286

______________________________

الحساب كلما زاد أربعة» «1»، و قريب منه غيره من النصوص الواردة في الزكاة و الديات، و عبارات الفقهاء، كالشيخ في الخلاف و العلامة، قال في القواعد:

«للذهب نصابان عشرون مثقالا ففيه نصف دينار. و المثاقيل لم تختلف في جاهلية و لا إسلام. أما الدراهم فإنها مختلفة الأوزان، و استقر الأمر في الإسلام علي أن وزن الدرهم ستة دوانيق، كل عشرة منها سبعة مثاقيل من الذهب»، إلي غير ذلك مما يكشف عن تسالم المسلمين علي أن الدينار السائد كان مثقالا شرعيا، فلو فرض نقص بعض الدنانير عنه فهو ناشئ عن سرقة أو مسح بسبب كثرة الاستعمال أو نحو ذلك من دون أن يكون دينارا رسميا.

و الأمر الذي اتفق عليه ذوو الاختصاص بالآثار القديمة من المتأخرين المعاصرين من مسلمين و غيرهم- حسبما اطلعت عليه من كلامهم أو نقل لي عنهم- أن الوزن المفروض للدينار يقارب أربعة غرامات و ربعا، و أن الوزن المفروض للدرهم سبعة أعشار ذلك، علي النسبة الشرعية المتقدمة بينهما، و يناسبه ما اطلع عليه سيدي الوالد (دامت بركاته) في المتحف العراقي قبل مدة من دنانير عبد الملك بن مروان أو ما قاربها التي هي أوائل الدنانير الإسلامية، فكان وزن الدينار المضروب سنة ثلاث و ثمانين أربعة غرامات و مائتين و ستة و خمسين ملغرام، أي ما يزيد علي ربع الغرام بستة ملغرامات- و هي ستة أجزاء من ألف جزء من الغرام- و كان وزن الدينار المضروب سنة أربع و ثمانين أربعة غرامات و مائتين و واحدا و خمسين ملغرام، و وزن الدينار المضروب سنة ست و ثمانين- و هي سنة وفاة عبد الملك- أربعة غرامات و مائتين و ثلاثة و خمسين ملغرام.

و وزن دنانير اخري مضروبة بعد هذا التاريخ تقارب هذه المقادير تزيد عليها أو تنقص عنها ملغرامات قليلة يتعذر ضبطها في تلك العصور لقلة الامكانيات، فان أثقل دينار وصل إليه هو دينار المتوكل المضروب سنة مائتين و سبعة و ثلاثين، حيث كان وزنه أربعة غرامات و مائتين و سبعة و ثمانين ملغرام. كما أن أخف دينار

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب زكاة الذهب و الفضة حديث: 5.

ص: 287

______________________________

وصل إليه دينار المهدي المضروب سنة مائة و خمس و ستين، حيث كان وزنه أربعة غرامات و مائة و ثلاثين مليغرام، و هو شاذ لا مجال للتعويل عليه مقابل الكثرة الكاثرة، و ربما نقص وزنه بسبب كثرة الاستعمال.

كما أني قد رأيت في كثير من فهارس المسكوكات ما يناسب المقادير المذكورة في دنانير مضروبة من سنة سبع و سبعين إلي نهاية الدولة الأموية و كثير من الدنانير العباسية، و كذا بعض فهارس الصنجات الأثرية التي هي مقياس وزن الدينار، و كذا كثير من أوزان الدراهم و صنجاتها حيث يناسب نسبة الدرهم للدينار الشرعية. و عليها ابتني كلام الأثريين المتقدم.

و الذي ينبغي التنبيه إليه أن الكثرة الكاثرة من هذه الدنانير، خصوصا دنانير الأمويين التي هي أول الدنانير الإسلامية تتردد بين أربع غرامات و مائتين و عشرين ملغرام و أربعة غرامات و مائتين و خمسين ملغرام أي أنها تتردد بين الأربعة غرامات و ربع و ما دون ذلك بثلاثين ملغرام، و من الظاهر عدم أهمية هذا الفرق.

و من ثمَّ يصلح شاهدا لما ذكره الأثريون من التحديد.

و أما ما نقص عن ذلك فهو قليل نسبيا، و من البعيد جدا أن يكون ذلك هو وزن الدينار الرسمي، بل من القريب أن يكون النقص ناشئا من قرض بعض أجزاء الدينار أو مسحه بكثرة الاستعمال.

أما ما زاد علي ذلك فهو قليل جدا، و لا يزيد إلا ملغرامات قليلة، بل لم أجد عاجلا في دنانير الأمويين ما يبلغ أربعة غرامات و مائتين و ثمانين ملغراما إلا دينارا واحدا. و لذا يبعد كون ذلك هو الوزن الرسمي للدينار، و من القريب جدا كونه قد زيد فيه لتعذر الضبط بهذا المقدار.

نعم، بعض الفهارس قد تضمن أن وزن دينار الرضا عليه السّلام أربعة غرامات و أربع أعشار الغرام أي أربعمائة ملغرام، و هو زيادة معتد بها ربما يمكن ضبطها في ذلك الزمان. إلا أن الفهرست لا يبدو عليه الدقة. مع أن المقدار المذكور خارج عن متعارف الدنانير، و الدينار المذكور متأخر العهد لم يقصد منه التعامل، بل التشريف

ص: 288

______________________________

لصاحبه صلوات اللّٰه عليه و التبرك به، فلا يكون المعيار عليه.

و بالجملة: الفحص المتقدم من سيدي الوالد، و النظر في الفهارس المنشورة للدنانير و الدراهم و صنجاتها مؤيد، بل شاهد، لما صرح به المختصون من أن وزن الدينار الرسمي الذي هو المثقال الشرعي أربعة غرامات و ربع، و أن الدرهم سبعة أعشار هذا المقدار، فيكون المعيار علي ذلك، بل لا يبعد كونه أحوط، لأن متوسط الغالب ما دون ذلك بملغرامات قليلة.

مع أنه لا يبعد حجية قولهم بملاك كونهم من أهل الخبرة في مثل هذا الأمر الاجتهادي المحتاج إلي الفحص الطويل و المقارنات غير المتيسرة لنا. فلاحظ.

علي أن تحديد ذلك يسهل لنا طريق الاحتياط المجزي، إذ لا يرتاب الإنسان بعد النظر في جميع ذلك في أن الدينار لا يزيد علي أربعة غرامات و ثلاثمائة ملغرام الذي يكون فرقه في كل عشرين دينارا غراما واحدا، و لا يزيد في العشرين ألف دينار عن الكيلو الواحد، و الاحتياط بذلك سهل جدا.

و عليه فحيث كان الرطل واحدا و تسعين مثقالا فهو ثلاثمائة و ستة و ثمانين غراما و ثلاثة أرباع الغرام. و حيث كان الكر مائة و تسعة آلاف مثقال و مائتي مثقال فهو أربعمائة و أربعة و ستون ألف غرام و مائة غرام. أي أربعمائة و أربعة و ستون كيلو و مائة غرام.

و حيث سبق أن الكيلو مائتان و سبعة عشر مثقالا صيرفيا و عشر حبات، حسب وزن النجف الذي جري عليه في المتن، يكون الكر مائة ألف مثقال صيرفي و تسعمائة و ثمانية و تسعين و ربعا تقريبا، فيزيد عما ذكره في المتن بما دون الربع قليلا. و الاحتياط قد عرفت أمره و ضابطه.

هذا ما تيسر لنا في هذه العجالة، و الظاهر أنه واف بالمقصود، و إن كان مزيد الفحص و التتبع حسنا لمن تيسر له، و لا يشغله عما هو الأهم. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم، و منه نستمد العون و التوفيق و التسديد. إنه أرحم الراحمين، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

ص: 289

مائتان و اثنتان و تسعون حقة و نصف حقة (1). و بحسب وزنة النجف (2)- التي هي ثمانون حقة اسلامبول- ثلاث وزنات و نصف، و ثلاث حقق، و ثلاث أواق (3). و بالكيلو ثلاثمائة و خمسة و سبعون كيلو و ستمائة و أربع و عشرون غراما تقريبا (4).

______________________________

(1) لأن ذلك يبلغ واحدا و ثمانين ألف و تسعمائة مثقال صيرفي الذي عرفت منهم تحديد الكر به في أول الكلام في تحديد المثقال الشرعي.

هذا، و حيث تقدم منا أن الكر مائة ألف مثقال صيرفي و تسعمائة و ثمانية و تسعون و ربع فهو يكون ثلاثمائة و ستين حقة و نصفا و ثلاثة أرباع الأوقية و خمسة مثاقيل و نصفا التي هي أقل من ثلث الربع.

(2) المقسمة إلي أربع و عشرين حقة، كل حقة أربع أواق.

(3) لأن ثلاث وزنات و نصفا تساوي مائتين و ثمانين حقة اسلامبول، و ثلاث حقق تساوي عشر حقق اسلامبول، و ثلاث أواق تساوي حقتين و نصفا اسلامبول، فيكون المجموع مائتين و اثنتين و تسعين و نصف حقة اسلامبول، كما تقدم منه.

أما بناء علي ما ذكرنا في تقدير الكر حسب حقة إسلامبول فهو يكون أربع وزنات و نصفا و ثلاثة أرباع الأوقية و ثلث ربع الأوقية، الذي هو ثمانية دراهم باصطلاح النجف الأشرف.

(4) بناء علي ما تقدم من أن الكيلو مائتان و سبعة عشر مثقالا و عشر حبات يكون الكر علي مسلكه قدّس سرّه ثلاثمائة و ستة و سبعين كيلو و أربعمائة و سبعين غراما تقريبا. و لعل حسابه مبني علي فرض مثاقيل الكر أكثر مما فرضناه نحن حسبما رجعنا إلي بعض الصاغة المعتمدين.

و كيف كان، فقد عرفت لزوم ما زاد علي ذلك من الكيلوات كثيرا.

ص: 290

و مقداره في المساحة ما بلغ مكسرة سبعة و عشرون شبرا (1).

______________________________

(1) كما في الفقيه و عن المقنع و الهداية- علي بعض النسخ- و المختلف و الروض و مجمع البرهان و المصابيح، و قواه في الروضة، و عن النهاية الميل إليه، و عن السرائر و غيرها نسبته للقميين، و عن الذخيرة نسبته إلي الشيخ علي ما في بعض كتبه.

و لعله الظاهر منه في الاستبصار و التهذيب، حيث ذكر في الاستبصار في ضمن نصوص التحديد صحيحي إسماعيل بن جابر الآتيين و لم يتعرض لمخالفتهما لبقية نصوص الأشبار، بنحو يظهر منه العمل بجميع النصوص، حيث جمع بينها و بين خبر الأرطال بجعل كل من الأمرين طريقا لتحديد الكر. كما أنه في التهذيب بعد أن ذكر حديث الأرطال قال: «فأما الأخبار التي رويت مما يتضمن التحديد بثلاثة أشبار و الذراعين و ما أشبه ذلك فليس بينها و بين ما رويناه تناقض، لأنه لا يمتنع أن يكون ما قدره هذه الاقدار وزنه ألف و مائتا رطل. و أنا أورد طرفا من الأخبار التي تتضمن ذكر ذلك.» ثمَّ ذكر نصوص الأشبار مقدما للصحيحين المذكورين.

و كأنه يريد العمل بجميع النصوص بحمل الأكثر علي الفضل- كما هو ظاهر الوسائل ناسبا له إلي جماعة من علمائنا- أو مجرد بيان تحقق الكر به لا تحديده أو غير ذلك.

و ذهب جمع من الأصحاب إلي أنه ثلاثة و أربعون شبرا إلا ثمن شبر، و في الخلاف نسبته إلي جميع القميين و أصحاب الحديث، و عن المدارك أنه الأشهر، بل نسب في كلام جمع إلي المشهور، و عن الغنية الإجماع عليه. لكن في المعتبر:

«و لا تصغ إلي من يدعي الإجماع في محل الخلاف»، و عن البهائي: «لا تفاوت في الشهرة بين القولين».

و هذان القولان هما عمدة أقوال المسألة. و هناك أقوال أخري يظهر حالها

ص: 291

______________________________

عند الكلام في مفاد النصوص.

و يستدل للأول بصحيح إسماعيل بن جابر: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الماء الذي لا ينجسه شي ء فقال: كر. قلت: و ما الكر؟ قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار» «1».

و الكلام فيه في مقامين.

الأول: في السند. فقد ذكر غير واحد أنه وصف في كلام جماعة بالصحة، بل عن البهائي أنه يوصف بالصحة من زمان العلامة إلي زماننا.

لكن قد يستشكل في ذلك: - حسبما يستفاد من كلماتهم- بأن الشيخ قدّس سرّه و إن رواها عن عبد اللّٰه بن سنان الثقة بلا كلام، إلا أنه معارض بروايته لها في موضع من التهذيب عن محمد بن سنان، الذي اشتهر ضعفه، لبعد رواية كل منهما لها مع اتحاد من روي عن ابن سنان- و هو البرقي- و روي ابن سنان عنه، و هو إسماعيل بن جابر.

فلم يبق إلا رواية الكليني قدّس سرّه لها عن ابن سنان المردد بين الرجلين، بل الظاهر أنه محمد، لأنه قد ثبت رواية البرقي عنه كثيرا، و لم يثبت روايته عن عبد اللّٰه، بل استبعدها غير واحد، حتي جزم بعضهم بسهو الشيخ في ذكر عبد اللّٰه، لتأخر البرقي طبقة فلا يروي بلا واسطة عن عبد اللّٰه الذي هو من أصحاب الصادق عليه السّلام.

بل يبعد لأجل ذلك رواية عبد اللّٰه عن الصادق عليه السّلام بتوسط إسماعيل، بخلاف محمد، لتأخره عن أصحابه عليه السّلام طبقة.

و يندفع. أولا: بأن سهو الشيخ قدّس سرّه في ذكر عبد اللّٰه بعيد جدا، لتكرر ذلك منه في التهذيب «2» و الاستبصار «3»، و القريب جدا أن يكون السهو في ذكر محمد في

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(2) ج: 1 ص: 41.

(3) ج: 1 ص: 10.

ص: 292

______________________________

الموضع الآخر من التهذيب «1».

و يؤيد ذلك إطلاق ابن سنان في كلام الكليني قدّس سرّه، لما عن مشتركات الكاظمي من انصرافه إلي عبد اللّٰه، كما يناسبه كونه أقدم طبقة بنحو تستحكم الكنية له مع شهرته قبل معروفية محمد.

و لا سيما مع تعارف النسبة إلي الأب في العبادلة، كابن عباس و ابن الزبير، بنحو يقرب جدا اعتماد المتكلم علي ذلك في الإطلاق مع شهرة جميع أطراف الترديد، كما في المقام، لبعد غفلته عن أحدهما عند الإطلاق مع ذلك، كبعد تعمده الاجمال.

و أما ما تقدم في وجه استبعاد ذلك فهو ظاهر الوهن، إذ لا بعد في رواية البرقي الذي هو من أصحاب الكاظم عليه السّلام عن أصحاب الصادق عليه السّلام [2]، و لا سيما مثل عبد اللّٰه بن سنان الذي نص النجاشي علي أنه كان خازنا للرشيد، و قيل: انه روي عن الكاظم عليه السّلام- و إن لم يثبت- كما لا بعد في رواية أصحاب الصادق عليه السّلام بعضهم عن بعض، عنه عليه السّلام، بل هو كثير جدا.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يتم لو علم سهو الشيخ قدّس سرّه في أحد الأمرين، و هو خلاف الأصل، بل من القريب أن يكون قد تعمد في كلا الأمرين، لاختلاف ما وصل إليه باختلاف طرق الحديث التي عنده، فيكون المقام من تعارض الروايتين الموجب لتساقطهما.

و أما إطلاق ابن سنان فهو و إن كان ظاهرا بدوا في عبد اللّٰه، إلا أنه بعد ملاحظة تعدد روايات البرقي عن محمد- كما يظهر بمراجعة جامع الرواة- فمن القريب أن يكون ذلك قرينة علي إرادة البرقي له عند الإطلاق، لمعهوديته له.

و يؤيده كثرة روايات محمد عن إسماعيل. و ندرة روايات عبد اللّٰه عنه.

______________________________

[2] بل قد روي عن غير واحد منهم. فراجع تنقيح المقال في ترجمة عبد اللّٰه بن سنان.

______________________________

(1) ج: 1 ص: 37.

ص: 293

______________________________

نعم، لو ثبت كون الإطلاق من غير البرقي لم يصلح ذلك للتوقف عن مقتضي الإطلاق الأولي، لعدم كونه قرينة عامة يصح الاتكال عليها. فتأمل جيدا.

و ثانيا: بأنه لا ينبغي الاهتمام بسند مثل هذه الرواية بعد رواية الشيخ و الكليني لها و ظهور قبولهما لها، و اعتماد الصدوق عليها، حيث أفتي بمضمونها و بما يقارب لسانها.

و لا سيما مع تعدد أسانيد الكليني و الشيخ [1]، و اشتمال تلك الأسانيد علي الأعيان، الظاهر في معروفية الرواية عندهم و اشتهارها بينهم و قبولهم لها، إما لوثاقة راويها، أو لقرائن خاصة مصححة للعمل بها، فان ذلك كاف في الوثوق المعتبر في حجية الرواية.

و ثالثا: بأن الظاهر وثاقة محمد بن سنان [2]، بل هو من الأعيان، وفاقا

______________________________

[1] فقد رواها الكليني عن محمد بن يحيي عن أحمد بن محمد عن البرقي، و رواها الشيخ عن أحمد بن محمد عن البرقي بثلاثة طرق.

[2] اضطراب الأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم) في محمد بن سنان يلزمنا بتحقيق حاله، و عدم الاكتفاء بالإجمال، و إن كان خارجا عن وضع الكتاب. فنقول.

قد طعن فيه غير واحد من الأصحاب بطعون شديدة، فعن المفيد قدّس سرّه في موضع من رسالته التي هي في كمال شهر رمضان و نقصانه- بعد نقل رواية دالة علي أنه لا ينقص- قال: «و هذا حديث شاذ نادر غير معتمد عليه، في طريقه محمد بن سنان، و هو مطعون فيه لا تختلف العصابة في تهمته و ضعفه، و من كان هذا سبيله لا يعتمد عليه في الدين». و عنه أنه قال: في جواب من سأله عن روايات الاشباح: «ان الأخبار بذكر الاشباح يختلف ألفاظها و تتباين معانيها، و قد بنت الغلاة عليها أباطيل كثيرة، و صنفوا كتبا لغوا فيها، و أضافوا ما حوته الكتب إلي جماعة من شيوخ أهل الحق، و تخوضوا في الباطل بإضافتها إليهم، من جملتها كتاب سموه كتاب الاشباح و الأظلة نسبوه في تأليفه إلي محمد ابن سنان، و لسنا نعلم صحة ما ذكر في هذا الباب عنه، فان كان صحيحا فان ابن سنان قد طعن عليه، و هو متهم بالغلو، فان صدقوا في إضافة هذا الكتاب إليه فهو ضلال، لضلاله عن الحق، و إن كذبوا فقد تحملوا أوزار ذلك».

و قد عدّه الشيخ قدّس سرّه من أصحاب الرضا عليه السّلام و قال: «ضعيف» و قال في الفهرست: «قد طعن عليه و ضعف»، ثمَّ ذكر طريقه إلي رواياته و كتبه إلا ما كان فيها من تخليط أو غلو. و عن الاستبصار أنه قال في رد خبر في مبحث المهور: «فأول ما في هذا الخبر أنه لم يروه غير محمد بن سنان عن مفضل بن

ص: 294

______________________________

عمر، و محمد بن سنان مطعون عليه ضعيف جدا، و ما يختص بروايته و لا يشركه فيه غيره لا يعمل عليه»، و نحوه عن التهذيب في رد الخبر المذكور.

و قال الكشي: «قال حمدويه: كتبت أحاديث محمد بن سنان عن أيوب بن نوح، و قال: لا أستحل أن أروي أحاديث محمد بن سنان.» «1» إلي أن قال: «قال محمد بن مسعود: قال عبد اللّٰه بن حمدويه:

سمعت الفضل بن شاذان يقول: لا أستحل أن أروي أحاديث محمد بن سنان. و ذكر الفضل في بعض كتبه: أن من الكاذبين المشهورين ابن سنان، و ليس بعبد اللّٰه» «2» و في محكي كلام ابن داود: «و روي عنه أنه قال عند موته: لا ترووا عني مما حدثت شيئا، فإنما هي كتب اشتريتها في السوق. و الغالب علي حديثه الفساد».

و عن ابن الغضائري أنه قال: «ضعيف غال يضع لا يلتفت إليه». و ذكره النجاشي و نقل عن ابن عقدة أنه رجل ضعيف جدا لا يعول عليه و لا يلتفت إلي ما تفرد به. و روي عن الكشي عن ابن قتيبة عن ابن شاذان أنه قال: «لا أحل لكم أن ترووا أحاديث محمد بن سنان» ثمَّ روي عن صفوان أنه قال عن ابن سنان: «لقد همّ أن يطير غير مرة فقصصناه حتي ثبت معنا». ثمَّ قال النجاشي: «و هذا يدل علي اضطراب كان و زال» و قال أيضا في ترجمة مياح المدائني: «ضعيف جدا، له كتاب يعرف برسالة مياح، و طريقها أضعف منها، و هو محمد بن سنان».

لكن لا مجال للاعتماد علي شي ء مما تقدم، فان ما تقدم من المفيد لا يناسب ما ذكره في الإرشاد في بيان من روي النص علي الرضا عليه السّلام حيث قال: «و ممن روي النص علي الرضا عليه السّلام بالإمامة من أبيه عليه السّلام و الإشارة إليه منه عليه السّلام بذلك من خاصته و ثقاته و أهل الورع و العلم و الفقه من شيعته داود بن كثير. و محمد بن سنان».

كما أن ما تقدم من الشيخ قدّس سرّه لا يناسب ما ذكره في كتاب الغيبة في فصل السفراء حال الغيبة، حيث قال: «و قبل ذكر من كان سفيرا حال الغيبة نذكر طرفا من أخبار من كان يختص بكل إمام و يتولي له الأمر علي وجه من الإيجاز، و نذكر من كان ممدوحا منهم حسن الطريقة، و من كان مذموما سيّئ المذهب. فمن المحمودين حمران بن أعين. و منهم ما رواه أبو طالب القمي، قال: دخلت علي أبي جعفر الثاني في آخر عمره، فسمعته يقول: جزي اللّٰه صفوان بن يحيي و محمد بن سنان، و زكريا بن آدم و سعد بن سعد عني خيرا، فقد وفوا لي. و كان زكريا بن آدم ممن تولاهم. و أما محمد بن سنان فإنه روي عن علي بن الحسين بن داود قال: سمعت أبا جعفر الثاني عليه السّلام يذكر محمد بن سنان بخير،

______________________________

(1) «رجال الكشي ص: 332»

(2) «رجال الكشي ص: 427».

ص: 295

______________________________

و يقول: رضي اللّٰه عنه برضائي عنه، فما خالفني و ما خالف أبي قط»، فإن حكمه بمدحه و حسن طريقته لا يناسب كلماته السابقة في حقه، لظهوره في عدالته، بل جلالته- كما هو المناسب للخبرين الذين يظهر منه الاعتماد عليهما- لا مجرد حسن مذهبه في أصول الدين.

و لا سيما و قد ذكر في جملة المذمومين صالح بن محمد الهمداني الذي كان يتولي الوقف للجواد عليه السّلام بقم، و لم يذكر في وجه ذمه إلا أنه استحل الامام عليه السّلام من عشرة آلاف درهم، فأحله الإمام عليه السّلام و بعد خروجه أظهر عليه السّلام تذمره من ذلك و أن اللّٰه تعالي سوف يسأله عنها.

و أما ما تقدم عن حمدويه عن أيوب بن نوح فلا يخلو عن اضطراب، إذ عدم استحلاله الرواية عنه لا يناسب ما تضمنه كلامه من كتابة حمدويه عنه أحاديثه، و لا ما يأتي من الكشي من رواية ابن نوح عنه.

فالظاهر تصحيفه و أن الصحيح ما تضمنه كلامه الآخر الذي رواه الكشي أيضا قال: «ذكر حمدويه ابن نصير أن أيوب بن نوح دفع إليه دفترا فيه أحاديث محمد بن سنان، فقال لنا: إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا، فإني كتبت عن محمد بن سنان و لكن لا أروي لكم أنا عنه شيئا، فإنه قال له محمد قبل موته: كلما أحدثكم به لم يكن لي سماعا و لا رواية، إنما وجدته» «1» و من الظاهر أن هذا لا يقتضي طعنا في محمد بن سنان نفسه بنحو ينافي وثاقته، بل ظاهره الوثوق به في نفسه، كما أنه قد يدل علي كمال احتياط محمد بن سنان في الرواية.

نعم، قد يخدش ذلك في رواياته بأنها بالوجادة. و يأتي الكلام في ذلك. و لعل ما نقله ابن داود عن محمد بن سنان يشير إلي ذلك، حيث لم نعثر عليه في المصادر المعدة لمثله.

و كذا الحال فيما روي عن الفضل بن شاذان، فإن عبد اللّٰه بن حمدويه و إن نقل عنه ما سبق، إلا أن الكشي أيضا روي عن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري أنه قال: «قال أبو محمد الفضل بن شاذان:

ارووا [ردوا خ ل] أحاديث محمد بن سنان عني. و قال: لا أحب لكم أن ترووا أحاديث محمد بن سنان عني ما دمت حيا. و أذن في الرواية بعد موته». فإنه كالصريح في أن منعه من رواية أحاديث محمد بن سنان عنه لمحذور مختص بحال حياته لا ينافي وثاقته، و لذا أذن في روايتها بعد موته. بل لا يبعد ظهور ذلك في كون الفضل من الموثقين له.

و كأن ما نقله النجاشي عن الكشي عن ابن شاذان عبارة عن ذلك بعد إسقاط ذيله، و إلا فلم أجد غيره في كلام الكشي.

______________________________

(1) «رجال الكشي ص: 427»،

ص: 296

______________________________

و أما ما نقله الكشي عن الفضل من أنه من الكاذبين المشهورين فكأنه يشير به إلي ما ذكره في ترجمة أبي سمينة، قال: «و ذكر الفضل في بعض كتبه: من الكذابين المشهورين أبو الخطاب و يونس ابن ظبيان و يزيد الصائغ و محمد بن سنان، و أبو سمينة أشهرهم» «1» و هو مما يقطع بعدمه، فإن اشتهار روايات الرجل و رواية الأجلاء لها- كما يأتي- لا يناسب اشتهاره بالكذب، بحيث يكون نظيرا لأبي الخطاب.

بل لا يناسب ما تقدم و ما يأتي عن الفضل من روايته عنه. و ربما حمل علي شخص آخر غير الزاهري المبحوث عنه، لأن الاسم المذكور لا يختص به، كما يظهر بمراجعة كتب الرجال.

علي أن ابن داود- علي ما حكي عنه- نقل كلام الفضل خاليا عن ذكر محمد، قال في ترجمة أبي سمينة: «و ذكر الفضل بن شاذان في بعض كتبه أن الكذابين المشهورين أربعة: أبو الخطاب، و يونس بن ظبيان، و يزيد الصائغ، و أبو سمينة أشهرهم».

و أما ابن الغضائري فلا مجال للاعتماد علي تضعيفه و رميه بالغلو، لما هو المعروف من شدته في ذلك.

و مثله ابن عقدة فيما نقله عنه النجاشي في كلامه المتقدم، لأنه زيدي لم يتجل له من مقام الأئمة المتأخرين عليهم السّلام ما يناسب روايات ابن سنان الذي رماه الخاصة بالغلو لأجلها، فمن القريب جدا أن يكون تضعيفه له لأجل ذلك، لا لعثوره علي وضعه للحديث بنحو ينافي الوثوق به، ليصح الاعتماد علي شهادته أو اجتهاده.

فلم يبق إلا النجاشي الذي صرح بضعفة في ترجمة مياح و إن لم يصرح بها في ترجمة محمد نفسه، بل ظاهره التوقف فيه.

لكن من القريب جدا اعتماده في القدح فيه علي ما ذكره في ترجمته له مما تقدم عن ابن عقدة و الفضل مما عرفت وهنه، فلا وثوق بطعنه، خصوصا بلحاظ القرائن الآتية.

و عليه يكفي في توثيق الرجل ظهور حال ابن قولويه في توثيقه، لأنه من رجال كامل الزيارة، و قد أكثر فيه الرواية عنه.

مضافا إلي ظهور ذلك أيضا من الكشي، فإنه و إن ذكر الكلمات المتقدمة عن الفضل و أيوب بن نوح، و لكنه قال: «قد روي عنه الفضل و أبوه و يونس و محمد بن عيسي العبيدي و محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب و الحسن و الحسين ابنا سعيد الأهوازيان ابنا دندان و أيوب بن نوح و غيرهم من

______________________________

(1) «رجال الكشي ص: 428»

ص: 297

______________________________

العدول و الثقات من أهل العلم» «1» كما أنه ذكر الأخبار الكثيرة المادحة له، و لم يذكر شيئا من الأخبار الذامة في ترجمته، و إنما ذكر خبر أحمد بن محمد بن عيسي الآتي في ترجمة زكريا بن آدم. و لعله لما يأتي من عدم نهوضه بالطعن في محمد.

فإن التأمل في جميع ذلك قاض بظهور حال الكشي في توثيق الرجل و إجلاله، بل هو ظاهر ما تقدم عن الفضل و أيوب بن نوح، بل كلام الكشي مشعر أو ظاهر بأنّ رواية الأجلاء الذين ذكرهم عنه تكشف عن وثاقته عندهم.

و قد تحصل من جميع ما ذكرنا: عدم التعويل علي القدح المتقدم من الأصحاب في حق الرجل، إما لتنافي كلامي الشخص الواحد فيه- كما في الشيخين- أو لعدم الاعتداد بتضعيف الشخص- كما هو حال ابني الغضائري و عقدة- أو لعدم ظهور ما نقل عن الشخص في الجرح- كما عرفته عن الفضل ابن شاذان و أيوب بن نوح- أو لقرب ضعف مستند الجرح، كما أشرنا إليه في تعقيب ما ذكره النجاشي، فلا ينهض شي ء من ذلك لمعارضة التوثيق المشار إليه.

هذا، و لو فرض سقوطهما معا بالمعارضة لزم النظر في حال الرجل بغض النظر عما ذكروه.

و لا بد من النظر أولا فيما يساق لقدحه، حيث قد يقدح.

تارة: بالغلو، كما يشير إليه ما ذكره المفيد في كلامه المتقدم حول روايات الاشباح، و الشيخ في الفهرست و ابن الغضائري.

و اخري: بما تقدم عن أيوب بن نوح و ابن داود من أن رواياته بالوجادة، لا بالسماع أو الإجازة، فإنه و إن لم يدل علي كذبه، إلا أنه موهن لرواياته. بل تأخير أخباره بذلك إلي موته قد يدل علي تدليسه في السكوت عن ذلك حين روايته.

و ثالثة: بما رواه الكشي في ترجمة زكريا بن آدم عن أحمد بن محمد بن عيسي القمي قال: «بعث إلي أبو جعفر عليه السّلام غلامه و معه كتاب فأمرني أن أصير إليه و هو بالمدينة نازل في دار بزيع، فدخلت و سلمت عليه، فذكر في صفوان و محمد بن سنان و غيرهما مما قد سمعه غير واحد، فقلت في نفسي:

استعطفه علي زكريا بن آدم لعله أن يسلم مما قال في هؤلاء.».

و يندفع الأول: بما ذكرناه آنفا من عدم التعويل علي تضعيف ابن الغضائري، و تنافي كلام الشيخين علي أنهما لم يقطعا بنسبة الغلو إليه، بل ذكر المفيد أنه متهم به، و ذكر الشيخ اشتمال رواياته عليه، و هما أعم من غلوه.

______________________________

(1) «رجال الكشي ص: 428.».

ص: 298

______________________________

مضافا إلي أن تحديد الغلو في كلام القدماء لا يخلو عن غموض، كما تعرض له غير واحد. بل ما روي عن صفوان صريح في عدم غلوه.

و مثله ما في تنقيح المقال عن ابن طاوس بسنده إلي الحسين بن أحمد المالكي. قال: «قلت لأحمد بن مليك: أخبرني عما يقال في محمد بن سنان من أمر الغلو. قال: معاذ اللّٰه هو و اللّٰه علمني الطهور و حبس العيال و كان متقشفا متعبدا».

علي أن غلوة في عقيدته لا ينافي وثاقته في خبره الذي هو المهم في المقام.

كما يندفع الثاني: بأنه لا مانع من التعويل علي الرواية بالوجادة إذا تعهد الراوي بالمضمون، لوصوله إليه بطريق الحس أو الحدس الملحق بالحس، كما هو الأصل في الاخبار بالأمور الحسية، علي أنه لم يظهر من ابن سنان أن جميع رواياته بالوجادة، بل لعله أراد خصوص ما حدث به أيوب بن نوح، بل من البعيد من مثله عدم الرواية بالسماع مع كونه من أصحاب الأئمة عليهم السّلام.

بل لعله أراد قسما معينا مما حدث به أيوب لا تمامه، كيف و قد تقدم من الكشي أن أيوب بن نوح نفسه روي عن ابن سنان! و لزوم التدليس منه في تأخير الاخبار عن ذلك موقوف علي كونه يري حرمة الرواية بالوجادة، لعدم التعويل عليها، و هو غير ثابت، بل لعله كان يري جواز ذلك، و إنما أخبر به تورعا، أو لتبدل نظره.

مع أنه لا أثر للتدليس- لو تمَّ- لظهور حال الاعتراف في التوبة الموجبة لرجوع العدالة، فيستكشف من سكوته عن بقية أخباره صحتها. فلاحظ.

و أما الثالث: فيكفي في وهنه انضمام صفوان بن يحيي المعلوم الجلالة إلي محمد بن سنان، لكشف ذلك عن عدم صدور الذم لبيان الواقع، بل لمصالح أخر، كحفظهما أو التخلص من تبعة انتسابهما إليه أو نحو ذلك مما قد يناسب رفعة مقامهما.

فهو من مؤيدات الوثاقة، كبقية الروايات الدالة علي الطعن فيهما و الرجوع عنه منهم عليهم السّلام إلي المدح لهما.

و حيث ظهر و هن أدلة الجرح فالمتعين البناء علي وثاقة الرجل، بل رفعة مقامه، إذ لا ريب في أن له نحو اختصاص بالأئمة الثلاثة الكاظم و الرضا و الجواد (عليهم و علي آبائهم و أبنائهم أفضل الصلاة و السلام)، كما تقدم من الغيبة، بل الظاهر أنه من ذوي أسرارهم، نظير صفوان، كما يشهد به جمعهما في كثير من أخبار المدح و غيرها مما ذكره الكشي في ترجمة الرجل.

بل هو المناسب لنسبة الغلو له ممن عرفت، فإن ذلك يستلزم شدة عقيدة الرجل بالأئمة عليهم السّلام و إغراقه فيهم، و إظهار بعض كراماتهم الخفية التي يصعب تحملها علي بعض العقول، فيتسارعون إلي نسبة ناقلها للغلو و الكذب، كما قد يقارن ضعف ملكة الرجل وهمه بالغلو، كما يشير

ص: 299

______________________________

إليه ما نقله النجاشي عن صفوان في حقه، و نقله الكشي أيضا عنه بطريقين. بل قد يستلزم انتساب الغلاة إليه و تكثرهم به، كما أشار إليه المفيد في كلامه السابق، فتقوي الشبهة عليه.

هذا، و لا ريب في أن الاختصاص بهم عليهم السّلام ملازم للوثاقة و العدالة، بل الجلالة، و الخروج عنها يحتاج إلي انقلاب و سوء عاقبة، و الأصل عدمه.

مضافا إلي كثير من الروايات التي ذكرها الكشي المتضمنة لمدحه بمدائح جليلة، فإنها و إن لم تخل عن ضعف السند، إلا أنها صالحة لتأييد ما ذكرناه.

بل قد تصلح بمجموعها للاستدلال. خصوصا بعد ظهور غير واحد في قبولها في الجملة، لظهور اقتصار الكشي علي تلك النصوص و إكثاره منها في اعتماده عليها، و كذا الشيخ في كتاب الغيبة في كلامه المتقدم، و النجاشي في ذكره لما عن صفوان من نفي الغلو عنه.

مع أن الأصحاب قد أكثروا من الرواية عنه، فقد ذكر في تنقيح المقال في تمييزه سبعين رجلا، و فيهم من الأعاظم و الأجلاء و الأكابر العدد الكثير، و منهم أحمد بن محمد بن عيسي الذي أخرج البرقي عن قم لروايته عن الضعفاء و اعتماده المراسيل، و الحسن بن محبوب صاحب كتاب المشيخة، و محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، و الحسن و الحسين ابنا سعيد، و الفضل بن شاذان و غيرهم ممن يضيق المقام بذكرهم.

أضف إلي ذلك اشتهار رواياته و كثرتها في كتب الأصحاب علي اختلاف طبقاتهم و فتواهم بمضامين كثير منها، كما تعرض لذلك الأردبيلي و المجلسي و الوحيد و غيرهم. فإن التأمل في جميع ذلك يوجب الوثوق بالرجل و الركون إلي رواياته.

بل الإنصاف أن ذلك يوجب الخدش في طعون من تقدم، للاطمئنان معه بخطإ مستندها، بنحو لا تصلح لمعارضة التوثيق ممن عرفت، كما أشرنا إليه آنفا.

و كأن منشأ الطعن إظهاره لبعض أسرار الأئمة عليهم السّلام الثقيلة و كراماتهم الخفية المناسبة لاختصاصه بهم عليهم السّلام، فقد روي الكشي عنه أنه كان يقول: «من كان يريد المعضلات فإليّ، و من أراد الحلال و الحرام فعليه بالشيخ. يعني: صفوان بن يحيي» «1» و قد أوجب ذلك الطعن فيه، إما لضعف بعض العقول عن تحمل ذلك، أو تقية- كما يظهر مما تقدم عن الفضل بن شاذان من المنع عن الرواية عنه في حياته و الاذن فيها بعد موته- أو لإبطال تدبير الغلاة في تشبثهم به، دفعا للأفسد بالفاسد، أو لنحو ذلك مما أوجب اشتباه الأمر و خفاء الحال، و اضطرابهم في ذلك.

و من الظاهر أن شيئا من ذلك لا مجال لاحتماله في التوثيق المستفاد ممن عرفت، و كفي به مرجحا علي الجرح. فلاحظ. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

______________________________

(1) «رجال الكشي ص: 428.»،

ص: 300

______________________________

لجماعة من المتأخرين، فإنه و إن طعن من بعض الأصحاب بطعون شديدة، إلا أنه لا مجال للتعويل عليها بسبب اضطراب كلماتهم، فلا تصلح لمعارضة ظهور توثيقه من غير واحد، أو لرفع اليد بها عن القرائن الدالة علي وثاقته. و عليه يتعين الاعتماد علي روايته، و عدّها صحيحة.

المقام الثاني: في الدلالة.

ففي المعتبر بعد أن نسب القول المذكور للصدوق و ذكر في دليله هذه الصحيحة قال: «فان كان معوله علي هذه فهي ناقصة عن اعتباره».

و كأنه يشير إلي عدم ذكر البعد الثالث فيها. لكن ذلك لا يختص بهذه الصحيحة، لاشتراك جميع روايات الباب معها في ذلك، ما يشهد بمألوفية الاقتصار علي بعدين. فلا بد إما من حملها علي ما ليس له إلا بعدان- و هو المدوّر- أو علي الاكتفاء بذكر بعدين عن ذكر البعد الثالث.

إذ لا مجال لاحتمال الإجمال أو النقص في جميع روايات الباب.

و حيث إن الأول يستلزم نقص الكر عن سبعة و عشرين شبرا، و لا قائل بذلك تعين الثاني.

بل هو الظاهر في نفسه من هذه الصحيحة، لمناسبته لارتكاز كون الماء كسائر الأجسام ذات الأبعاد الثلاثة، فيستحيل تحديده ببعدين إلا بقياس البعد الثالث عليهما، اتكالا علي مشابهته لهما، فإنها جهة مصححة للحذف ارتكازا.

و أما المدوّر فليس هو ذا بعدين فقط، بل له أبعاد ثلاثة ارتكازا، كالكروي، إلا أن عدم التمايز الخارجي بين بعدين منه يصحح بيانهما ببيان بعد واحد.

و هو موقوف علي تعين البعد الواحد المذكور لبيانهما- كما يأتي الكلام فيه في بعض روايات الباب- و لا مجال لذلك في هذا الصحيح، لعدم اشتماله علي ما يلزم بصرف أحد البعدين للعمق، ليتعين الآخر للطول و العرض، بل أطلق فيه ذكر بعدين يصلحان لبيان الطول و العرض، كما يصلحان لبيان العمق و أحد البعدين

ص: 301

______________________________

الآخرين، و ليست هناك جهة ارتكازية ترجح الثاني، فلا مجال للحمل عليه و ترك الوجه الأول المستند لجهة ارتكازية بيانية.

بل الإنصاف أنه لا ينبغي إطالة الكلام في إثبات الظهور فيما ذكرنا، لانصراف الذهن إليه من الكلام بطبعه و الغفلة عن فرض المدوّر، و إنما أطلنا الكلام في ذلك لتقريب منشأ الظهور المدعي.

و أما الإشكال فيه بمنافاته لرواية أبي بصير المتضمنة لثلاثة أشبار و نصف، فيتعين العمل بتلك، لاحتمال سقوط النصف من هذه، و لا يحتمل زيادته في تلك، لاحتياج الزيادة إلي مئونة.

ففيه: أن بعد احتمال النقص خصوصا مع التكرار يخرج ذلك عن الجمع العرفي بين الروايتين، فلا بد من الجمع بينهما بوجه آخر لعله يأتي الكلام فيه.

فلا ينبغي الإشكال في الاستدلال للقول المذكور بالصحيح المذكور، و لا سيما مع تأيده بالمرسل في المقنع قال: «روي أن الكر هو ما يكون ثلاثة أشبار طولا في ثلاثة أشبار عرضا في ثلاثة أشبار عمقا» «1»، فإنه و إن كان من القريب جدا أن يكون منقولا بالمعني من صحيح إسماعيل المتقدم، إلا أنه يكشف عما ذكرنا من ارتكاز حذف أحد الأبعاد في صحيح إسماعيل، بحيث يصح نسبة ذلك للرواية منه قدّس سرّه. فتأمل.

الثاني: صحيح إسماعيل بن جابر الآخر- الذي قيل: إنه أصح أخبار الباب-:

«قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام الماء الذي لا ينجسه شي ء؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع و شبر وسعة [سعته خ ل]» «2».

فقد استدل به بعض مشايخنا للقول المذكور. و هو مبني علي أمور.

الأول: أن الذراع عبارة عن شبرين، كما هو المشاهد بالوجدان في كثير من

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 302

______________________________

الناس. لكن ذكر الفقيه الهمداني قدّس سرّه أنه أكثر من ذلك بمقدار يسير، كما أن القدمين أيضا كذلك. قال: «و هذا ظاهر بالعيان، فلا يحتاج إلي البرهان».

كما ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن الذي يظهر من أخبار المواقيت أن الذراع قدمان. و كأنه يشير إلي مثل صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن وقت الظهر. فقال: ذراع من زوال الشمس، و وقت العصر ذراعان [ذراع خ ل] من وقت الظهر، فذلك أربعة أقدام من زوال الشمس» «1». و يقتضيه الجمع بين نصوص الذراع و نصوص القدمين الواردة في المواقيت «2».

لكن زيادة الذراع عن الشبرين غير مطردة، بل لا مجال لدعوي الغلبة فيها، بنحو يكون الذراع البالغ شبرين شاذا ينصرف عنه الإطلاق في مقام التحديد، بل الظاهر عموم الإطلاق للذراع المذكور المقتضي للاجتزاء به، بل أشرنا عند الكلام في تحديد الدرهم بحب الشعير إلي أن الأقل هو الحد الواقعي، و ما زاد عليه خارج عن الحد، قد وقع التسامح فيه لصعوبة الضبط.

و أما نصوص المواقيت فهي غير واردة مورد التحديد الشرعي للذراع، ليخرج به عن حقيقته العرفية في جميع الموارد، بل لعلها واردة لتحديد ذراع الظل أو مبنية علي نحو من التسامح في التقدير بلحاظ بعض أفراد الذراع، أو نحو ذلك.

و لا سيما مع ظهور بعضها في أن الذراع شبران، و هو موثق يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن صلاة الظهر. فقال: إذا كان الفي ء ذراعا.

قلت: ذراعا من أي شي ء؟ قال: ذراعا من فيئك. قلت: فالعصر؟ قال: الشطر من ذلك. قلت: هذا شبر. قال: و ليس شبر كثيرا». «3»

و بالجملة: لا مجال للخروج عن معني الذراع العرفي، الذي لا إشكال في

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب المواقيت حديث: 3.

(2) راجع باب: 8 من أبواب المواقيت من الوسائل.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب المواقيت حديث: 18.

ص: 303

______________________________

شموله لما يكون بقدر شبرين، و الموجب للاكتفاء به في العمل بالإطلاق.

بل ذلك يقتضي الاكتفاء بما يكون دون الشبرين، لو فرض عدم شذوذه، كما هو غير بعيد.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من إجمال الذراع بسبب الاختلاف، فلا يصلح الحديث للاستدلال. فلا مجال له، فإن اختلاف الذراع كاختلاف الشبر موجب للاكتفاء بالأقل. كما ذكرنا.

الثاني: أنه لا بد من حمل الصحيح علي المدوّر. و قد قرب ذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن تساوي الخطوط في المدوّر من جميع النقاط، مع كونه عرفا له بعد واحد، يستوجبان حمل الكلام عليه، بخلاف غيره من المضلعات، حيث لا تستوي الخطوط فيها، بل هي بين الزوايا أطول منها بين الأضلاع.

و إلي ما ذكره أوّلا يرجع ما ذكره بعض مشايخنا من أن المدوّر هو الذي يصح أن يقال: ان سعته ذراع و شبر مطلقا من جميع الجهات المفروضة، لا من خصوص بعضها.

و ظاهرهما أن الحمل علي المدوّر هو مقتضي إطلاق تقدير السعة الذي تضمنه الحديث، و الحمل علي غيره مبني علي التقييد فيه.

لكن لا ظهور للكلام في الإطلاق المشار إليه، لأن تقوم السطح ارتكازا ببعدين يوجب انصراف السعة إليهما، بحيث لا يكون الاقتصار عليهما تقييدا منافيا لظهور الكلام لو خلي و طبعه، بل هذه النكتة في الفرق بين المدوّر و غيره مغفول عنها بدوا، و يحتاج إلي التنبيه عليها.

و لذا لا يلتفت إلي ذلك حتي عند تحديد المدوّر، فإذا قيل: احفر بئرا سعتها متر، لا يستفاد عموم سعة المتر بلحاظ الجهات من إطلاق تحديد السعة به، بل من تعارف التدوير في البئر.

و لذا لو قيل: رأيت حفرة سعتها متر، لا يستفاد ذلك، بل قد ينطبق علي المربع، كما لعله يظهر بالتأمل في المرتكزات الاستعمالية.

ص: 304

______________________________

علي أنه لو فرض الإطلاق المذكور فهو معارض بما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من ظهور بيان السعة في ثبوتها في تمام سطح الماء- كما في المربع- لا في خط منه- كما في المدوّر- و لذا لا إشكال في أن ظهور تحديد المربع بالمساحة لا يتناول الصليب، و إن كان واجدا للمساحة المذكورة في بعض خطوط جهتيه.

و كأن هذا هو مراد الفقيه الهمداني قدّس سرّه حيث ادعي أن نسبة السعة إلي الشكل علي الإطلاق تقتضي الحمل علي المربع.

و حيث كان الظهور المذكور من سنخ الظهور في الكل المقابل للتبعيض الذي هو مقتضي الوضع، فهو أقوي من الظهور المدعي في الإطلاق المقابل للتقييد، و يكون مانعا منه.

و أما ما عن شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن الدائرة التي يكون قطرها ثلاثة أشبار و نصفا مثلا أولي بمصداقية كون تمام السطح ثلاثة و نصفا في جميع الخطوط، بخلاف المربع فإنه لا يكون كذلك إلا في خطين.

فهو لا يخلو عن غموض، و كأنه يريد بخطوط الدائرة المتساوية في مساحتها هي الخطوط المتراكبة المارة بالمركز في تمام جهاتها المختلفة، لا الخطوط المتوازية المستوعبة لتمام السطح من جهة واحدة، و بخطي المربع جهتيه المتقاطعتين، فيرجع إلي ما تقدم من سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و من الظاهر أن مراد شيخنا الأعظم قدّس سرّه الخطوط المتوازية، لا المتراكبة.

و كيف كان فما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه متين جدا.

إلا أنه إنما يتم لو أخذت الجهة قيدا في السعة المفروضة للشكل، كما هو الحال في تحديد المربع أو المستطيل أو نحوهما.

و عليه يبتني الإطلاق المتقدم من سيدنا المصنف قدّس سرّه، فان فرض الإطلاق يبتني علي انحلال نسبة السعة للسطح إلي نسب متعددة بعدد الجهات المفروضة، و لذا تقدم أن ما ذكره صالح لإبطال الإطلاق المدعي.

ص: 305

______________________________

لكن من الظاهر أن الصحيح لم يتضمن فرض جهة خاصة في نسبة السعة للماء، كما أنه تقدم أنه لا إطلاق في النسبة المذكورة بلحاظ الجهات، بل لم يتضمن إلا نسبة السعة للماء بلحاظ سطحه من دون فرض جهة خاصة، و السعة المذكورة تنطبق علي المدوّر عرفا، و إن كان منشأ تحديد سعته مباينا لمنشإ تحديد سعة بقية الاشكال.

و من ثمَّ لا يكون تحديد مساحته بمساحة قطره مبنيا علي مزيد تكلف و لا مستهجنا، بخلاف تحديد سعة خشبة الصليب بمسافة أبعد خطوطها من دون تنبيه علي حالها، فإنه مستهجن جدا.

و بالجملة: ما ذكره قدّس سرّه إنما ينهض بدفع الإطلاق المدعي- كما ذكرنا- لا بإبطال عموم الكلام للمدور، أو اختصاصه به، كما هو مراده.

و مثله ما في الجواهر من أن الحمل علي المدوّر مبني علي ما لا يعرفه إلا الخواص من علماء الهيئة في استخراج مساحة الدائرة.

لاندفاعه بعدم سوق الحديث لبيان نتيجة ضرب الابعاد، و إلا كان المناسب بيانها رأسا، بل لبيان الشكل الذي يحصل به الكر و إن لم يعرف نتيجة أبعاده، و من الظاهر أن المدوّر ليس بعيدا عن أذهان العرف.

و نظير ذلك ما عن الوحيد قدّس سرّه في تأييد إرادة المدوّر من أن الكر بحسب أصله مكيال مدور لأهل العراق.

فإنه لو تمَّ ذلك فلا قرينة علي كون تحديده في الصحيح واردا لبيان مساحة بعدية بعد الفراغ عن شكله فإن السؤال ليس عن شكل كيلة الكر، بل عن مقدار الكر من الماء و تحديده بالمساحة، كيف و قد اعترف قدّس سرّه بحمل الصحيح السابق علي المكعب.

و الحاصل: أنه كما لا ينهض الإطلاق الذي أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه و صرح به بعض مشايخنا، و لا ما ذكره الوحيد قدّس سرّه بإثبات المدوّر، كذلك لا ينهض ما ذكره شيخنا الأعظم و صاحب الجواهر قدّس سرّهما بمنع ذلك.

ص: 306

______________________________

فالعمدة في تعيين أحد الأمرين أن الاقتصار علي بعد واحد في الحديث هل يكون قرينة علي الحمل علي المدوّر، لأنه يمتاز من بين الإشكال بأن له بعدا واحدا عرفا- كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه ثانيا و ذكره غيره- أو علي المربع، لان ارتكاز تقوم السطح ببعدين يوجب انصراف الذهن إلي إرادة البعدين ببيان بعد واحد، نظير ما تقدم في الصحيح الأول؟

لا يبعد الثاني، و ذلك لأن امتياز المدوّر بذلك ليس لعدم تقوم شكله بالبعدين، بنحو يقتضي قصور الارتكاز المتقدم عنه، بل لأن عدم التمايز بين بعدية أوجب تسامح العرف في الاكتفاء بتحديده ببيان بعد واحد، و ابتناء الكلام علي التسامح المذكور إنما يحسن بنحو ينسبق الذهن له في فرض الالتفات إلي المدوّر، كما لو أريد تحديد سعة البئر مثلا المفروض فيها التدوير، و لا يحسن في مقام تحديد مطلق الشكل، بنحو ينسبق الذهن إلي خصوص المدوّر، لعدم الالتفات للتسامح المذكور إلا بعد الالتفات للمدور و الفراغ عن إرادته، و إلا فالسطح بطبيعته متقوم ارتكازا ببعدين، لا بد في تحديده من تحديدهما، فينسبق الذهن إلي إرادة بعدين ببيان بعد واحد من جهة التماثل بينهما، لأن تلك جهة ارتكازية يصح الاتكال عليها في مقام البيان، كما ذكرنا في الصحيح السابق.

و لعله لنظير ما ذكرنا كان المنسبق من تحديد الجسم بالمساحة حمله علي المكعب لا الكروي، فلو قيل متر من ماء لم يحمل إلا علي مقدار المتر المكعب، لا مقدار الكرة التي قطرها متر.

و يكفي فيما ذكرنا ظهور حال الأصحاب في فهم المكعب و عدم التنبه للمدور إلا من المجلسي و الوحيد في مقام توجيه الأخبار، حيث منع منه الأول، و قربه الثاني، و ظهر القول به بعد ذلك، فان فهم الأصحاب و إن لم يكن حجة، إلا أن جريهم علي ذلك بطبعهم شاهد بفهم ذلك من طبع الكلام للمناسبات الارتكازية التي أشرنا إليها و نحوها.

ص: 307

______________________________

نعم، لو فرض توقف ارتفاع التعارض بين النصوص علي حمل هذا الصحيح علي المدوّر لم يبعد ارتكابه و لو لكشف ذلك عن قرائن مقامية تقتضي انصراف الكلام له، لأنه لا يخلو عن وجه عرفي يقربه في مقام الجمع، و إن لم يكن ظاهرا من الكلام بنفسه بنحو يصح بناء الاستدلال عليه. فلاحظ.

الثالث: أنه بعد فرض ظهور الصحيح في إرادة المدوّر، الذي قطره ثلاثة أشبار و عمقه أربعة، فالمراد به ما يكون نتيجته سبعة و عشرين شبرا و إن لم يكن ذلك نتيجة تحقيقية للبعدين المذكورين، و توضيح ذلك: إن الأقرب للتحقيق أن يكون الكر نتيجة لذلك ثمانية و عشرين شبرا و سبعين حاصلة من ضرب نصف القطر في نصف المحيط ثمَّ ضربها في العمق- كما هو أحد الطرق في استخراج مساحة الدائرة- لأن المحيط ثلاثة أمثال القطر و سبع تقريبا، فإذا كان نصف القطر شبرا و نصفا كان نصف المحيط أربعة أشبار و خمسة أسباع الشبر، و ناتج ضرب أحدهما في الآخر سبعة أشبار و نصف سبع، و ناتج ضرب ذلك في العمق الذي هو أربعة أشبار ثمانية و عشرون شبرا و سبعان.

إلا أنه يتعين الاكتفاء بسبعة و عشرين، لأن بيان المساحة في النصوص من طريق الدائرة لا بد أن يبتني علي التقريب، لعدم ضبط النسبة بين المحيط و القطر لمهرة الفن، و حيث كان الأقرب لفهم العرف المبني علي التسامح كون المحيط ثلاثة أمثال القطر- كما جري عليه البناؤون و غيرهم- كان ناتج ضرب نصف القطر في نصف المحيط المذكور سبعة أشبار إلا ربعا، و ناتج ضرب ذلك في العمق المذكور سبعة و عشرون شبرا، و هو المطلوب.

و فيه. أولا: ما أشرنا إليه آنفا من سوق الحديث الشريف لبيان الشكل الذي يحصل به الكر، لا لبيان نتيجة ضرب الأبعاد، ليتعين ابتناؤه علي ما يجري عليه العرف في استخراج مساحة الدائرة، كيف و استخراج مساحة الدائرة لا يتيسر إلا للخواص من علماء الهيئة، فلا يمكن ابتناء الخطاب في الصحيح

ص: 308

______________________________

عليه، كما تقدم من الجواهر.

و ثانيا: أنه لم يتضح تسالم العرف علي استخراج مساحة الدائرة بالوجه المذكور بنحو يكون قرينة علي صرف الكلام إليه مع مخالفته للتحقيق بمقدار معتد به، و لا سيما مع ما هو المعروف من ابتناء التقدير الشرعي علي التحقيق لا التقريب.

و مجرد تسامح البنائين في عصورنا لو تمَّ لا يصلح شاهدا علي ذلك. و عدم ضبط نسبة المحيط للقطر علي نحو التحقيق لمهرة الفن، لا يقتضي التسامح بالقدر المذكور، إذ لا إشكال في زيادة المحيط علي ثلاثة أمثال القطر بمقدار معتد به هو أقرب إلي السبع منه إلي الثمن، و التقدير بالسبع لا يزيد علي المقدار التحقيقي لو أمكن ضبطه إلا بنسبة الواحد إلي الثمانمائة تقريبا، فكيف يمكن التسامح في تمام المقدار المذكور بالغاية و الاكتفاء بالثلاثة أمثال؟! و بالجملة: لا مجال لابتناء الاستدلال علي مثل هذا التسامح، بل اللازم البناء علي المقدار التحقيقي، فما يعلم بلوغه المقدار المذكور يبني علي اعتصامه، و ما يعلم بنقصه عنه يبني علي انفعاله، و ما يشك في بلوغه له يرجع فيه إلي مقتضي الأصل الذي هو الانفعال، بناء علي ما تقدم من الرجوع إلي أصالة عدم الكرية في الشبهة الموضوعية.

نعم، لو فرض توقف رفع التعارض بين الصحيح و دليل السبعة و العشرين علي حمل الصحيح علي التسامح المذكور لم يبعد البناء عليه، فيحمل علي أن ذكر بعدي العمق و القطر مبني علي التسامح، لصعوبة التدقيق فيهما بنحو يساوي حاصله السبعة و العشرين تحقيقا، لا لأن الزائد معتبر في حصول الكر، فان ذلك وجه عرفي في الجمع بين الدليلين، و إن لم يكن ظاهرا في نفسه من هذا الصحيح، بنحو يصح بناء الاستدلال به عليه. فلاحظ.

فالعمدة في دليل القول المذكور هو صحيح إسماعيل بن جابر الأول، الذي عرفت تمامية سنده و دلالته، كما عرفت إمكان تنزيل صحيحة الثاني

ص: 309

______________________________

عليه، بحمله علي المدوّر، مع التسامح في الزيادة التي تضمنها، جمعا بينهما.

و يأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّٰه تعالي.

و يؤيده ما تقدم من النصوص لتأييد حمل الرطل علي العراقي، فإنها تناسب التقدير بالأقل في المساحة أيضا، بل يؤيد بما دل علي حمل الرطل علي العراقي، كما لا يخفي.

و أما القول الثاني فقد استدل له ببعض النصوص.

منها: موثق أبي بصير أو صحيحه «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ قال: إذا كان الماء ثلاثة أشابر و نصف [و نصفا خ ل] في مثله ثلاثة أشبار و نصف في عمقه في الأرض فذلك الكر من الماء» «1».

و الكلام فيه. تارة: من جهة السند.

و اخري: من جهة الدلالة.

أما السند فقد استشكل فيه.

تارة: برواية الشيخ قدّس سرّه له في التهذيب «2» عن أحمد بن محمد بن يحيي، و هو مجهول، لأن المعروف بهذا الاسم هو أحمد بن محمد بن يحيي العطار- و هو مع الكلام في وثاقته- يبعد جدا إرادته في هذا السند، لأن الراوي فيه عن أحمد بن محمد هو محمد بن يحيي العطار أبوه. و مثله أحمد بن محمد بن يحيي الفارسي، لاتحادهما طبقة.

و الكليني قدّس سرّه و إن أطلق أحمد بن محمد، فينصرف إلي ابن عيسي الثقة، إلا أنه لا مجال للاعتماد عليه بعد معارضته بما ذكره الشيخ قدّس سرّه، لبعد تعدد السند جدا.

و اخري: باشتماله علي عثمان بن عيسي الذي قيل إنه من شيوخ الواقفة

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

(2) التهذيب طبع النجف الأشرف ج: 1 ص: 42.

ص: 310

______________________________

و عمدها، و من المستعدين بمال الامام الرضا عليه السّلام.

و ثالثة: باشتماله علي أبي بصير المشترك بين الثقة و الضعيف.

و يندفع الأول: بأنه لا تعويل علي ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في التهذيب، لمعارضته بما ذكره في الاستبصار، حيث أطلق فيه أحمد بن محمد الموجب لانصرافه إلي ابن عيسي، فيسقط كلامه عن الحجية، و لا ينهض بمعارضة ما ذكره الكليني قدّس سرّه.

و ليس جعل ما في التهذيب قرينة علي تعيين ما في الاستبصار و صرفه عن مقتضي الإطلاق بأولي من جعل ما في الاستبصار قرينة علي سهوه في التهذيب، لعدم احتمال اعتماده علي ما في التهذيب في القرينية علي ما في الاستبصار، ليتعين عملا بأصالة عدم الخطأ، فلو كان مراده في الاستبصار ابن يحيي لكان إطلاقه فيه مبنيا علي الغفلة عن ذكر القيد له أو عن انصرافه إلي ابن عيسي، و هو كالغفلة في زيادة ابن يحيي في التهذيب.

و لا يقاس ذلك بالجمع بين الأخبار بحمل الظاهر فيها علي الأظهر، لعدم احتمال الغفلة في الأخبار، و العلم بها هنا إجمالا.

بل لا ينبغي التأمل في كون السهو هو زيادة ابن يحيي في التهذيب بعد ملاحظة عدم تعرض الرجاليين لمن هو بهذا الاسم في هذه الطبقة، و عدم اشتمال شي ء من الأسانيد علي ذلك.

و لا سيما بعد كون رواية الشيخ للحديث بسنده عن الكليني الذي لم يتعرض لهذه الزيادة، مع ما هو المعروف من ضبط الكافي فالتأمل في ذلك إن لم يوجب القطع بسهو الشيخ قدّس سرّه في التهذيب فلا أقل من كونه موجبا للوثوق بذلك، الموجب لقصوره عن الحجية ملاكا، بنحو لا ينهض بمعارضة ما في الاستبصار، فضلا عما ذكره الكليني قدّس سرّه:

و يندفع الثاني: بأنه لا إشكال في وثاقه عثمان بن عيسي بعد كونه من رجال كامل الزيارة، و تصريح الشيخ قدّس سرّه في العدة بعمل الأصحاب برواياته، لأنه متحرج

ص: 311

______________________________

في روايته موثوق به في أمانته، مؤيدا بما نقله الكشي عن بعضهم من أنه من أصحاب الإجماع، المشعر بالمفروغية عن وثاقته، و ببعض القرائن الأخر. بل لا يبعد رجوعه عن الوقف و توبته منه، كما نقله النجاشي عن بعضهم، و يناسبه عدهم له من أصحاب الرضا عليه السّلام، فهو بين الموثق و الصحيح.

و أما الثالث فيندفع: بأن أبا بصير مشترك بين ليث بن البختري، و يحيي بن أبي القاسم الضرير الأسدي، و عبد اللّٰه بن محمد الأسدي.

و لا إشكال في وثاقه الأولين.

و أما الأخير فهو- مع تصريح بعضهم بوثاقته- لا يظهر شهرته في الأصحاب و لا شهرة الكنية له بنحو يراد من إطلاقها.

و لا سيما مع كون الراوي عنه في سند هذا الحديث ابن مسكان الذي تكررت منه الرواية عن الأول، فيقرب إرادته منه عند الإطلاق، و ربما ادعي روايته عن الثاني أيضا، و هو غير مهم بعد وثاقته. و لا مجال لإطالة الكلام في ذلك في هذه العجالة.

هذا مضافا إلي أن ظهور قبول الأصحاب للرواية كاف في جبر سندها، خصوصا مثل هذا الوهن، لقرب اطلاعهم علي قرائن تناسب حمل أبي بصير علي الثقة.

و أما الدلالة فحاصل القول فيها: أن الاستدلال بالحديث للقول المذكور موقوف علي حمله علي المكعب، لأن المكعب الذي يكون طول كل ضلع من أضلاعه ثلاثة أشبار و نصفا هو الذي يكون مجموع مساحته ثلاثة و أربعين شبرا إلا ثمن شبر.

و العمدة في توجيه ذلك: أن قوله: «إذا كان الماء ثلاثة أشبار.» ظاهر في بيان أحد بعدي السطح، و ظاهر قوله: «في مثله ثلاثة أشبار.» بيان البعد الآخر للسطح، بجعل: «ثلاثة.» بدلا من: «مثله» و قوله عليه السّلام: «في عمقه.» ظاهر في ضرب بعدي السطح في العمق، و حيث لم يتعرض لتحديد العمق، و هو مما

ص: 312

______________________________

يتوقف عليه الإفادة لزم حمله علي مقدار البعدين المذكورين، و أن حذفه للاختصار و تجنب التكرار.

و منه يظهر أنه لا مجال لحمله علي المدوّر، لأنه موقوف علي بيان بعد واحد للسطح، نظير ما تقدم في صحيح إسماعيل، و المفروض التصريح ببعدية الملزم بحمله علي المربع.

و أما حمل قوله: «في مثله.» علي بيان بعد العمق، ليكون المبين في الصدر بعد واحد للسطح، و يلزم حمله علي المدوّر.

فهو بعيد جدا، لما فيه من التطويل في بيان بعد العمق، و لظهور «في» الثانية في كونها للضرب، كسابقتها، لا لبيان ظرفية العمق للثلاثة أشبار و نصف.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من ظهورها في الاتصال بما تقدمها، فجعلها منقطعة عما سبقها ربما لا ينطبق علي القواعد العربية. فهو غريب جدا.

علي أنه لا يلزم بالحمل علي المدوّر، لإمكان الاكتفاء في بيان بعدي السطح ببيان بعد واحد، اعتمادا علي القرينة الارتكازية المشار إليها في صحيحي إسماعيل بن جابر.

و من ثمَّ كان هذا أحد توجيهات الاستدلال بالحديث للقول المنسوب للمشهور. و إن كان الظاهر عدم الحاجة إليه بعد ما ذكرنا، بل لا ينبغي الحمل عليه بعد كونه خلاف الظاهر.

و مثله جعل الضمير في: «عمقه»، راجعا إلي المقدار و هو ثلاثة أشبار و نصف نظير ضمير: «مثله»، فيكون بيانا لبعد العمق.

أو جعل قوله: «في مثله» تحديدا للبعد الثاني للسطح، و جعل قوله: «ثلاثة أشبار.» الثانية تحديدا للعمق.

للإشكال في الأول: بأن الظاهر من الضمير هو الماء، لأن من شؤونه العمق فتكون الإضافة للاختصاص، لا المقدار، لتكون الإضافة بيانية.

و في الثاني: بأنه لا يناسب تركيب الكلام، لأن بيان البعد الآخر لا بد أن يبدأ

ص: 313

______________________________

بمثل «في» و التزام حذفه مستبشع، كالتزام أن قوله: «ثلاثة أشبار.» جملة اسمية اخري أريد بها بيان البعد المعتبر في العمق. مضافا إلي ما تقدم من ظهور «في» الثانية في كونها للضرب.

مع أن إجمال البعد الثاني بكلمة «مثله» لا يناسب تفصيل البعد الثالث.

و ما في الجواهر من الاستشهاد له بنسخة اطلع عليها مقروءة علي المجلسي الكبير تتضمن زيادة «في» بين «مثله» و «ثلاثة أشبار».

لا مجال للتعويل عليه في قبال النسخ المشهورة. و لا سيما مع أن تصدي المجلسي الكبير لتوجيه دلالة الرواية- كما حكاه عنه ولده في محكي مرآة العقول- شاهد بعدم تعويله علي النسخة المذكورة، بل عدم اطلاعه عليها.

فتأمل.

و بالجملة: لا حاجة- بعد ما ذكرنا- لاتعاب النفس في توجيه دلالة الرواية علي ارادة المكعب بعد كونه هو الظاهر منها بدوا من دون تكلف، كما يشهد به فهم المشهور له بحسب انصرافاتهم الأولية من طبيعة الكلام من دون عناية.

و لا مجال مع ذلك لحملها علي المدوّر الذي لم يلتفت إليه إلا المتأخرون، كما تقدم في صحيحي إسماعيل.

بل الإنصاف أن هذه قرينة قطعية علي ظهور النصوص في المكعب، لأن الأمر يدور بين ذلك و ظهورها في المدوّر مع غفلة المخاطبين عنه، أو التفاتهم إليه و غفلة المتأخرين عنهم من قدماء الأصحاب عنه.

و لا ريب في بطلان الثاني و أن أعلم الناس بالكلام من خوطب به.

كما لا ينبغي الإشكال في بطلان الثالث، إذ يمتنع عادة ذهول الطبقة المتأخرة عن المعني الواضح عند الطبقة السابقة الذين أخذوا الأحكام و الأخبار منهم، خصوصا في مثل هذا الحكم العملي، إذ لا أقل من تنبيههم إلي رده لو خالفوهم في فهمه، فتعين الأول المطلوب.

و منها: خبر الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: إذا كان الماء

ص: 314

______________________________

في الركي كرا لم ينجسه شي ء. قلت: و كم الكر؟ قال: ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاثة أشبار و نصف عرضها» «1».

و لا طعن في سنده إلا بالحسن بن صالح الذي عده غير واحد في البترية من الزيدية، و زاد الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار «2» و التهذيب «3» أنه متروك الحديث فيما يختص به.

و إن كان قد يهون ذلك في هذا الحديث بملاحظة كون الراوي له أحمد بن محمد بن عيسي عن الحسن بن محبوب عنه، و هما من أعيان الأصحاب، بل عدّ بعضهم الثاني من أصحاب الإجماع.

و لا سيما مع قرب أخذ الشيخ قدّس سرّه له من أصله الذي أشار إليه في الفهرست، حيث رواه عن أحمد بن محمد بن عيسي عن ابن محبوب أيضا، فإنه قد يظهر منه في مقدمة الفهرست الاعتماد علي الأصول التي أشار إليها فيه، حيث قال: «فإذا ذكرت كل واحد من المصنفين و أصحاب الأصول فلا بد أن أشير إلي ما فيه من التعديل و التجريح، و هل يعول علي روايته أو لا، و أبين عن اعتقاده، و هل هو مخالف للحق أو هو مخالف له، لأن كثيرا من مصنفي أصحابنا و أصحاب الأصول ينتحلون المذاهب الفاسدة و إن كانت كتبهم معتمدة»، و يؤيده التزامه برواية تلك الأصول و الكتب بطرقه إليها مع ظهور حاله في عدم روايته لما لا يعتمد عليه، كما يظهر مما تقدم منه في محمد بن سنان.

مضافا إلي ظهور حال الأصحاب في الاعتماد علي الحديث المذكور في تحديد الكر.

و ما تقدم من الشيخ قدّس سرّه في حق الرجل إنما هو بلحاظ ما تضمنه الحديث من دخل الكرية في اعتصام البئر، لا في تحديد الكر. علي أنه ذكره في مقام التخلص

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 8. و باب: 10 من الأبواب المذكورة حديث: 5.

(2) الاستبصار، طبع النجف الأشرف، ص: 33 ج: 1.

(3) التهذيب، طبع النجف الأشرف، ص: 408 ج: 1.

ص: 315

______________________________

من الرواية، بعد الفراغ عن عدم العمل بها و قد يتسامحون في ذلك. و إن كان في بلوغ الحديث بذلك حد الحجية إشكال. فلاحظ.

هذا، و أما الدلالة فلا ريب فيها بناء علي ما في المطبوع من الاستبصار من زيادة بعد الطول في صدره، حيث رواه هكذا: «قال: ثلاثة أشبار و نصف طولها في ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاثة أشبار و نصف عرضها» «1».

لكن لا مجال للتعويل علي ذلك بعد اختلاف نسخ الاستبصار [2] المسقط لها عن الحجية. بل لو فرض اتفاقها في هذه الزيادة كفي في وهنها رواية الكليني و الشيخ قدّس سرّهما للحديث في الكافي «3» و التهذيب «4» بنفس السند خاليا عنها، لتعارض روايتي الشيخ في الكتابين الموجب لتساقطهما و الرجوع إلي ما في الكافي، بل يكفي اختلاف الكليني و الشيخ قدّس سرّهما في عدم التعويل علي الزيادة المذكورة.

فتأمل.

و دعوي: ترجيح نقل الزيادة عند التعارض، لأنها أبعد عن السهو من النقيصة.

ممنوعة، لعدم وضوح بناء العقلاء علي الترجيح بالأبعدية المذكورة. مع عدم وضوح الأبعدية في مثل هذه الزيادة، التي يقرب السهو فيها بلحاظ سنخيتها مع الأصل، المناسب للانتقال إليها بمقتضي تداعي المعاني بل قد يبعد الزيادة المذكورة استبعاد الفصل بين بعدي الطول و العرض ببعد العمق في كلام الامام عليه السّلام، كما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه.

و علي هذا فقد يقرّب حمل الحديث علي المكعب بأن ذكر العرض فيها

______________________________

[2] فقد جعلت هذه الزيادة بين قوسين في الاستبصار المطبوع في النجف الأشرف ج: 1 ص: 33.

و قال المصحح في الهامش: «لم يرد ما بين القوسين في النسخة المخطوطة بيد والد الشيخ محمد بن المشهدي المصححة علي نسخة المصنف».

______________________________

(1) الاستبصار ج: 1 ص: 33 طبع النجف الأشرف.

(3) الكافي، ج: 2 ص: 3.

(4) التهذيب ج: 1 ص: 408 طبع النجف الأشرف.

ص: 316

______________________________

يغني عن ذكر الطول، لأنه إما مساو له أو أكثر، و الزيادة منتفية بالإجماع، كما في الجواهر.

و فيه: أن الطول حقيقة لا بد أن يزيد علي العرض، و استعماله فيها يساويه مبني علي التسامح، و ليس هو بأولي من صرف العرض عما يقابل الطول، و حمله علي السعة، نظير ما في قوله تعالي وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ «1» و قوله تعالي فَذُو دُعٰاءٍ عَرِيضٍ «2» فلا يستلزم فرض الطول.

و دعوي: حمله حينئذ علي المربع بالقرينة العامة المشار إليها في صحيح إسماعيل الثاني المتقدم.

مدفوعة: بأن ورود الحديث في الركي الذي هو البئر التي يغلب فيها التدوير- كما قيل- مانع من الحمل المذكور.

و دعوي: أن السؤال فيها عن تحديد مطلق الكر، لا عن كيفية صيرورة البئر كرا.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 317

مدفوعة بأن مقتضي تأنيث الضمير ورود الجواب لبيان كرية خصوص البئر، لا مطلق الماء، كما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه. و من ثمَّ حمل غير واحد الحديث علي المدوّر. لكن في بلوغ ذلك حدا يوجب ظهوره فيه إشكال، لعدم وضوح غلبة التدوير في البئر في عصر صدور الحديث، بنحو تصلح للقرينية.

و لا سيما مع مخالفة الحديث لما هو المعروف و ظاهر النصوص من عدم دخل الكرية في اعتصام البئر، حيث قد يتجه ما احتمله الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار من حمل الركي علي المصنع الذي ليس له مادة، و الذي لا يغلب فيه التدوير قطعا، فالجزم مع ذلك بظهور الحديث في المدوّر مشكل.

و أشكل منه ما حاوله بعض مشايخنا من تنزيله مع ذلك علي القول بالسبعة و العشرين، بدعوي: أن نتيجة البعدين المذكورين في المدوّر و إن كانت هي ثلاثة

______________________________

(1) آل عمران: 133.

(2) فصلت: 51.

ص: 317

______________________________

و ثلاثين شبرا و خمسة أثمان الشبر و نصف ثمن شبر، إلا أنه لما لم يقل أحد بذلك في تحديد الكر لزم حمله علي السبعة و العشرين، و أن الزيادة للاحتياط، بذكر ما هو كر قطعا، أو لأن البئر بسبب الاستقاء بالدلو فيها يكون وسطها أعمق من أطرافها، فالزيادة في عمق الوسط في مقابل النقص في عمق الأطراف. و مثلها في ذلك رواية أبي بصير المتقدمة لأن الماء في الصحاري لا يتمركز في الأرض المسطحة، بل في الأرض التي يكون وسطها أخفض من أطرافها.

لاندفاعه: بأن عدم القول بذلك ليس محذورا بعد معرفة المستند لجميع الأقوال، و عدم حصول إجماع تعبدي منهم علي نفي غيرها مع قطع النظر عن مفاد النصوص، خصوصا مع حدوث بعضها كالقول بالستة و ثلاثين شبرا. و الاحتياط ليس من وظيفة الإمام عليه السّلام. و زيادة عمق الوسط- مع عدم اطرادها- لا أهمية لها بعد ظهور الحديث في أن المعتبر بلوغ عمق المجموع ثلاثة و نصفا الملزم بملاحظة المعدل مع الاختلاف.

و لو سلم فحمل العمق المذكور في الحديث علي خصوص عمق الوسط مع فرض نقص عمق الأطراف عنه ليقارب السبعة و العشرين، ليس بأولي من حمله علي خصوص عمق الأطراف مع زيادة عمق الوسط عنه، ليقارب قول المشهور.

و بالجملة: يشكل الاستدلال بالحديث علي أحد الأقوال، لقرب إجماله و تردده بين المدوّر و المكعب، مع ضعف سنده.

هذا تمام الكلام فيما يهم من نصوص المقام.

و قد تحصل منه أمران.

الأول: أن العمدة في دليل القول بالسبعة و العشرين صحيح إسماعيل بن جابر الأول، المؤيد بما سبق، و الذي يمكن تنزيل صحيحة الثاني عليه بحمله علي المدوّر، فيقاربه. و العمدة في دليل ما نسب للمشهور حديث أبي بصير بحمله علي المكعب.

الثاني: أن صحيح إسماعيل بن جابر الثاني إن نزل علي المكعب كان دليلا

ص: 318

______________________________

للقول بالستة و الثلاثين شبرا، الذي نسب إلي المعتبر و المدارك.

و إن نزل علي المدوّر كان دليلا لاعتبار ثمانية و عشرين و سبعين و لم يعرف القول به من أحد.

كما أن حديثي أبي بصير و الحسن بن صالح إن نزلا علي المدوّر كانا دليلا للقول باعتبار ثلاثة و ثلاثين شبرا و خمسة أثمان الشبر و نصف ثمنه. و هو الذي قربه شيخنا الأستاذ قدّس سرّه. و إن حكي عنه التوقف عنه في مجلس المذاكرة، لما أشرنا إليه من الإشكال في خبر الحسن دلالة و سندا، مع إغفال الكلام في حديث أبي بصير.

و بقي في المقام قولان آخران.

الأول: ما عن الإسكافي من أنه نحو من مائة شبر، و لا يعرف مستنده، كما صرح به غير واحد.

الثاني: ما عن محكي القطب الراوندي من أنه ما بلغت أبعاده عشرة أشبار و نصفا. و مقتضي إطلاقه الاكتفاء بذلك و لو مع اختلاف الأبعاد، فيشمل ما لو كان طول الماء تسعة أشبار و عرضه شبرا و عمقه نصف شبر بل دونه.

و هو- مع مخالفته للإجماع، بل بعض النصوص الظاهرة في انفعال ما هو أكثر من ذلك، كصحيح ابن جعفر الظاهر في انفعال الحب الذي يسع ألف رطل- خال عن الشاهد، لظهور النصوص في اعتبار بلوغ كل بعد قدرا خاصا. غاية الأمر الاكتفاء بما إذا نقص بعضها عن ذلك الحد للانجبار بباقيها مع حفظ المساحة الحاصلة مع التساوي، لظهور كون الكرية من سنخ الكم، لا الكيف، و أن اعتبارها في الاعتصام من أجل كثرة الماء، كما هو ظاهر بعض النصوص، و هذا لا يقتضي الاكتفاء بنقص بعض الأبعاد مع عدم حفظ المساحة المذكورة، كما لا يخفي.

و لأجل ذلك لا يبعد حمل كلامه علي صورة تساوي الأبعاد، فيطابق فتوي المشهور و دليلهم.

ص: 319

______________________________

إذا عرفت هذا يقع الكلام في أمور تنفع في الاستدلال.

الأول: أنه و إن أشرنا قريبا إلي أنه لا مانع من إحداث قول جديد، لعدم ثبوت الإجماع المركب تعبدا، إلا أنه لا مجال لاحتمال زيادة الكر عما عليه المشهور، كما لا مجال لاحتمال نقصه عن السبعة و العشرين، فان كشف الإجماع عن ذلك قريب جدا، بعد كون الموضوع مما يترتب عليه العمل و يهتم بآثاره جدا، إذ يبعد مع ذلك خفاؤه علي جميع الطائفة و خطئهم فيه في مقام العمل و ترتيب الأثر، و إن أمكن خطأ المفتين لخفاء مدلول النصوص عليهم.

علي أنه يكفي في ذلك العلم الإجمالي بصدور بعض النصوص المتقدمة في مقام بيان المراد الجدي، لعدم الريب في أن الكر مما تصدي الشارع لشرحه بنحو يترتب عليه العمل.

كما أن احتمال ضياع ذلك و مباينته لمفاد النصوص الواصلة إلينا لو كان عقليا فهو غير عقلائي. و ذلك يقتضي عدم الخروج في طرفي القلة و الكثرة عن مفاد هذه النصوص و إن لم يتيسر تشخيص ما هو الحجة من بينها، لاتفاقها في تعيين الطرفين المذكورين. و ليس هذا من باب حجية الدليلين المتعارضين في نفي الثالث، الذي هو خلاف التحقيق. فإنه مختص بما إذا احتمل بوجه عقلائي مباينتهما معا للواقع، لا في مثل المقام مما هو في الحقيقة من موارد اشتباه الحجة باللاحجة.

بل لا يبعد الاكتفاء في مثل ذلك بالوثوق الإجمالي بصدور واحد من المتعارضين بالوجه المذكور، لرجوعه إلي العلم بحجية أحدهما إجمالا.

فلاحظ.

و عليه لو فرض تعذر الجمع بين النصوص، فان كان المرجع عموم انفعال الماء كان المتعين قول المشهور في الماء الذي لا ينفعل، و إن كان المرجع عموم الاعتصام أو الأصل المقتضي له- كما تقدم غير مرة- كان المتعين قول القميين في تعيين الماء الذي لا ينفعل و إن لم يثبت كونه كرا، نظير ما تقدم

ص: 320

______________________________

في أول الكلام في وزن الكر.

الثاني: أن نصوص المساحة المعتبرة بناء علي ما تقدم متعارضة في أنفسها، لظهور صحيح إسماعيل بن جابر في التحديد بسبعة و عشرين، و ظهور صحيحه الثاني في التحديد بما يقرب من ستة و ثلاثين، و ظهور صحيح أبي بصير في التحديد بما يقرب من ثلاثة و أربعين، مع وضوح امتناع تحديد الشي ء الواحد بأكثر من حد واحد، فلا بد من الجمع بينها.

و ربما يجمع بينها برفع اليد عن ظهور المشتمل علي الأكثر في التحديد، و حمله علي بيان تحقق الكر في الشكل المفروض فيها و إن كان أكثر منه.

و قد يؤيد بتضمنها التحديد بالشكل ذي الأبعاد الخاصة، الذي لا إشكال في عدم دخله في الكرية، لتقومها- كما تقدم- بالكم بأي شكل فرض.

لكن يندفع التأييد: بأنه إنما يقتضي حملها علي تطبيق الكر علي الشكل، لا تحديده به، و هو يقتضي مساواته له، لا زيادته عليه، فلا يبقي وجه لحمله علي زيادته عليه إلا رفع التعارض بين النصوص.

كما أن أصل الجمع و إن أمكن بين صحيحي إسماعيل، لاختلاف سنخ الأبعاد فيهما لأخذ الذراع في الثاني دون الأول، خصوصا مع قلة الفرق بينهما بناء علي تنزيل ثانيهما علي المدوّر جمعا بينهما، كما أشرنا إليه آنفا، إلا أنه يصعب في صحيح أبي بصير، لاتحاد سنخ أبعاده مع أبعاد صحيح إسماعيل الأول، و لا كلفة في إسقاط الانصاف فيه عن الأشبار، فإن من تيسر له تشخيص الثلاثة أشبار و نصفا في المكعب يتيسر له تشخيص الثلاثة وحدها، فلو لم يكن النصف دخيلا في المقصود فقد يكون ذكره لغوا مستهجنا.

بل ربما احتمل سقوط النصف من صحيح إسماعيل لأجل ذلك، كما تقدم و تقدم ضعفه.

و منه يظهر أنه لا مجال للجمع بينهما بحمل صحيح أبي بصير علي بيان علامة الكر، لا تحديده لينافي صحيح إسماعيل، فإن الانتقال إلي بيان العلامة مع

ص: 321

______________________________

تيسر التحديد بإسقاط الانصاف مما يأباه العرف.

و من ثمَّ كان الجمع بين صحيح إسماعيل الأول و صحيح أبي بصير صعبا جدا. لكنه لا يوجب التوقف عن العمل بصحيح إسماعيل الذي هو كالنص في الاكتفاء بسبعة و عشرين، إذ لا ريب في أن ظهوره أقوي من ظهور صحيح أبي بصير في عدم كفاية المقدار المذكور.

فلا بد من رفع اليد عنه في قباله، و حمله علي ما لا ينافيه، و إن كان بعيدا في نفسه، و لو بحمله علي ما تقدم، أو علي المدوّر بجعل البعد الثاني راجعا إلي العمق.

و إن كان الأقرب من ذلك حمله علي الاستحباب بصرف التحديد عن الكرية التي لا تقبل الشدة و الضعف و اختلاف الفضل إلي الاعتصام القابل لهما، بنحو يمكن فرض الاستحباب في بعض مراتبه، لأن الاعتصام هو المقصود من الكرية.

بل لعل الأقرب من ذلك حمله علي الاحتياط، لا بمعني الاحتياط في الشبهة الحكمية، لعدم كونه وظيفة الإمام عليه السّلام، بل الاحتياط في تحقيق البعد الذي يحصل به الكر، فان النصوص لم تتضمن بيان حد الكر مفهوما، و لذا لم تتعرض إلي نتيجة الأبعاد، بل للشكل الواجد لمقداره، لأنه الأيسر علي العامة في مقام العمل و التطبيق، و حيث كان تطبيق ذلك في الخارج وظيفة عامة المكلفين الذين يكثر منهم التسامح و عدم التدقيق في ضبط الأشبار كان إضافة الانصاف للأبعاد مقتضي الاحتياط في تحصيل الأشبار المعتبرة فيها، لضمان حصولها و عدم إخلال التسامح المتوقع منهم بها.

و هذا و إن كان قد يخالف الاحتياط في بعض الموارد، إلا أنها غير مهمة بالإضافة إلي موارد الاحتياط في الزيادة.

و لعله إلي ذلك يرجع ما ذكره في الوسائل و نسبه لجماعة من علمائنا من أن الأقل كاف و اعتبار الأكثر علي وجه الاستحباب أو الاحتياط.

ص: 322

______________________________

بل يمكن جعل الوجهين معا من وجوه الاستحباب الذي اشتهر حمل الزائد عليه في سائر الموارد، غايته أن الاستحباب في الأول واقعي، و في الثاني ظاهري لإحراز الواقع.

و لعل ما ذكرنا هو الوجه عدم اهتمام الشيخ قدّس سرّه بالجمع بين نصوص المساحة، بل اهتم بالجمع بينها و بين نصوص الوزن، كما اهتم بالجمع بين نصوص الوزن نفسها، لعدم مجي ء الوجه الأخير فيها.

و بالجملة: قوة ظهور صحيح إسماعيل في الاكتفاء بالسبعة و العشرين ملزمة بالعمل به و تنزيل غيره عليه بحمله علي بعض ما تقدم، و إن كان هو خلاف الظاهر منه في نفسه. فلاحظ.

الثالث: لا ريب في اختلاف الأشبار و استحالة كون كلها حدا للكر، لما أشرنا إليه من استحالة كون الأمور المختلفة حدا للشي ء الواحد.

و لا مجال لحمل التحديد بالشبر علي شبر خاص لا يقبل الزيادة و النقيصة، لعدم القرينة علي تعيينه، ليخرج بها عن الإطلاق.

كما لا مجال لحمل التحديد به علي كونه إضافيا، بنحو يكون الحد لكل شخص شبر نفسه، لأن الكر من الأمور الحقيقية ذات الأحكام الخاصة التي لا تختلف باختلاف الأشخاص، و ليس الشبر إلا من سنخ العرف له.

فلا بد من حمل إطلاق التحديد بالشبر علي المتوسط عرفا من الافراد المتعارفة، لانصراف التحديد عن الشاذ الخارج عن المعتاد، كانصرافه عن مثل شبر الطفل و إن كان متعارفا له.

كما أن مقام التحديد بما تختلف أفراده يناسب الحمل علي المتوسط منه، لأنه الذي ينسب إليه المقدار عرفا.

نعم، لا إشكال في عدم إرادة المتوسط دقة، لأنه و إن كان مناسبا لمقام التحديد، إلا أن تعذر الاطلاع عليه و تشخيصه، خصوصا لعامة الناس، مانع من حمل الخطاب عليه، فيتعين الاكتفاء بالمتوسط العرفي، الذي تختلف أفراده

ص: 323

______________________________

اختلافا يتسامح فيه العرف، فيرجع إلي الاكتفاء بأقلها و كون الزائد خارجا عن الحد و إن دخل في إطلاقه، لعدم تيسر تشخيصه بنحو يصحح التسامح في البيان بالنحو المذكور، لاشتماله علي الحد المعتبر.

هذا، و لا يبعد كون الشبر البالغ أربعة و عشرين سنتيمترا من المتوسط المذكور.

الرابع: الأظهر أن التحديد بالمساحة بناء علي السبعة و العشرين لا يطابق التحديد بالوزن، بناء علي ما تقدم في تحديد المثقال، فان الماء المقطر الذي يسع سبعة و عشرين شبرا بالشبر البالغ أربعة و عشرين سنتيمترا- الذي تقدم شمول دليل التحديد له- يزن ثلاثمائة و ثلاثة و سبعين كيلو و ربعا تقريبا، و قد تقدم أن الوزن المعتبر أربعمائة و أربعة و ستين كيلو و مائة غرام، و الماء المتعارف و إن كان أثقل من الماء المقطر، إلا أنه يشكل بلوغه الفرق المذكور.

نعم، لو فرض اختصاص التحديد بالشبر البالغ خمسة و عشرين سنتيمترا كان الوزن مقاربا للمساحة، لأن وزن الماء المقطر الذي يبلغ المساحة المذكورة أربعمائة و اثنين و عشرين كيلو تقريبا، و حيث كان الماء المتعارف أثقل من ذلك فلا يبعد وصوله إلي الوزن المذكور.

لكن الظاهر خروجه عن المتوسط أو كونه أكبر أفراده، الذي عرفت عدم اعتباره.

هذا، و لا مجال لجعل هذا شاهدا للقول المنسوب للمشهور في المساحة، لأن الماء المقطر الذي مساحته ذلك يبلغ وزنه خمسمائة و ثلاثة و تسعين كيلو تقريبا، و الماء المعتاد أكثر من ذلك.

نعم، لو فرض شمول التحديد للشبر البالغ اثنين و عشرين سنتيمترا كانت المساحة عندهم مقاربة للوزن، لأن وزن الماء المقطر ذي المساحة المذكورة يزيد قليلا علي أربعمائة و واحدا و أربعين كيلو، و هو أقل من الوزن المتقدم بقليل، لعله يكون هو الفرق بين الماء المقطر و المتعارف.

ص: 324

______________________________

لكن الظاهر أن الشبر المذكور دون المتوسط، فلا يكفي في المقام.

و كيف كان، فلا مجال لطرح دليل السبعة و العشرين لذلك، بل يتعين الجمع بين الوزن و المساحة بجعل كل منهما حدا بنفسه، و لا مانع من اختلاف الحدين إذا كانا من سنخين، إذ لا يراد بهما الحد المنطقي. خصوصا بناء علي ما ربما يظهر من بعض كلماتهم من خروج الشارع الأقدس في الكر عن المقدار العرفي، بجعل تقدير آخر له بلحاظ ترتب الحكم الخاص، إذ لا مانع من إناطة الحكم بأحد أمرين متباينين مفهوما، نظير الكفارة المخيرة، لتقومه بالاعتبار الذي لا حرج فيه.

و كذا بناء علي أن الكر بحسب الأصل كيل، و أن تحديده بالوزن لأجل ضبطه، فإن المناسب لذلك ملاحظة ما قد يطرأ علي الماء من المواد المختلطة به أو البرودة الموجبة لثقله، فيقدر بأثقل وزن يكون للماء الذي يبلغ الكيل المذكور، و إن كان قد يتسامح في بعض الأفراد اكتفاء بالوزن عن المساحة.

نعم، لو تمت زيادة الوزن في جميع المياه مهما كانت ثقيلة علي المساحة المذكورة تعين جعله علامة لا حدا، للغوية التحديد بالأكثر في ظرف التحديد بالأقل. أو حمله علي بعض ما حملت عليه نصوص المساحة المتضمنة للتحديد بالأكثر، و لا مجال لطرح الأدلة.

و الحاصل: أن التحديد بالوزن معرض لاختلاف كمية الماء من حيثية الاختلاط بالمواد الغريبة و شدة البرودة. كما أن التحديد بالمساحة معرض لاختلاف كميته من جهة اختلاف الأشبار، و حيث كان هذان الطريقان هما المتيسران في عصر صدور الروايات للتحديد و الضبط، فلا بد من غض الشارع الأقدس النظر عن هذه الجهات، كما لا بد لنا من العمل بظواهر الأدلة بعد الجمع بينها بما يرتفع به التنافي. فلاحظ و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم. و منه نستمد العون و التسديد و هو حسبنا و نعم الوكيل.

ص: 325

مسألة 18: لا فرق في اعتصام الكر بين تساوي سطوحه و اختلافها

مسألة 18: لا فرق في اعتصام الكر (1)

______________________________

(1) أطلق كثير من الأصحاب (رضوان اللّٰه تعالي عليهم) عاصمية الكرية للماء- تبعا للنصوص- من دون تعرض لهذه الجهات.

و لعل أول من تعرض لها العلامة قدّس سرّه و تبعه من تأخر عنه، و قد أطالوا في ذلك و اضطربت كلماتهم، بل ربما أوهمت ما ليس بمراد و هي ترجع إلي الكلام في ضابط الوحدة في الماء التي لا إشكال في اعتبارها في عاصمية الكرية له.

و ينبغي التعرض أولا لما لم يتعرض له في المتن، ثمَّ نتابعه فيما تعرض له، فنقول:

اعلم أنه مع تساوي سطوح الماء و عدم تدافعه فالظاهر أنه يكفي في وحدته المعتبرة في اعتصامه بالكريه الاتصال بين أجزائه بوجه عرفي كالأنبوب و الساقية الضعيفة، و لا يعتبر تقارب أضلاع سطوحه. و قد يستفاد ما ذكرنا مما عن التذكرة، حيث قال: «لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا إن اعتدل الماء.» إذ المرتكز أن ذكر الساقية لأجل الاتصال، لا لأجل كميته، ليدعي انصراف الساقية إلي الساقية العريضة، و إلا كان المناسب منه التنبيه إلي اعتبار الكمية بوجه أوضح.

و أوضح منه ما في جامع المقاصد، حيث قال: «و اشتراط الكرية في المادة إنما هو مع عدم استواء السطوح. أما مع استواء السطوح فيكفي بلوغ المجموع كرا كالغديرين إذا وصل بينهما بساقية»، لظهوره في كفاية الاتصال بين الماء بمقدار الاتصال المعتبر في عاصمية المادة، الذي يكفي فيه مثل الانبوب لدخوله في المتيقن من أدلتها، كنصوص الحمام و غيرها.

و كيف كان، فيقتضيه إطلاق نصوص الكر، لوحدة الماء حقيقة و عرفا بذلك.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من الإشكال في ذلك. و فيما لو كان الماء في أنبوب ضيق طويل يبلغ الكر، لمخالفته للارتكاز العرفي.

ص: 326

______________________________

فغير ظاهر، إذ لو كان راجعا إلي التشكيك في عموم نصوص الكر للإشكال في وحدة الماء.

ففيه: أنه لا يعتبر في الوحدة إلا اتصال أجزاء الماء، لا تشابه أضلاع سطحه، كما يظهر بملاحظة النظائر. و تعدد الماء عرفا إما أن يكون مبنيا علي التسامح في تنزيل الوصل المذكور منزلة العدم، نظير تسامحهم في إطلاق الكر علي ما ينقص عنه قليلا، لا علي نحو الحقيقة بما للتعدد عندهم من المعني، أو علي أخذ حد كل قسم مقوما له، نظير ما لو اتصل العذب بالمالح من دون اختلاط و قسم المجموع إلي القسمين، و لا ريب في عدم قادحية مثل هذا التعدد.

علي أنه لا يظن منه قدّس سرّه إنكار الاتحاد العرفي في ماء الانبوب الطويل.

و إن كان راجعا إلي دعوي انصراف عموم الكر عن مثل هذه الوحدة بسبب الارتكاز العرفي المدعي.

ففيه: أن المرتكز عرفا أن اعتصام الكر بلحاظ كثرته الموجبة لتقوّي بعضه ببعض و لا دخل لهيئته في ذلك، بل يكفي الاتصال الموجب لاتحاد حكم أجزاء الماء، فإذا فرض قصور الملاقاة عن تنجيس تمام الكر لم تؤثر فيها شيئا. بل الالتزام حينئذ بنجاسة الماء بتمامه صعب جدا، لاستلزامه تنجيس الملاقاة لتمام الكر، و قصر النجاسة علي خصوص موضع الملاقاة أصعب بعد فرض اتصال المائين.

و أضعف منه الاستدلال بظهور نصوص الكر في اجتماع الماء، كما هو مقتضي بيان أبعاد الكر الظاهرة في تقاربها أو تساويها.

لاندفاعه: بأن ذكر الشكل لمحض بيان مقدار الكر، لا لدخله في الاعتصام، كما تقدم في مناقشة قول الراوندي. علي أن بعض نصوص اعتصام الكر لم تتعرض لشكله، بل ظاهرها كون المعيار علي مقادره، كما أشار إليه في الجواهر.

إن قلت: هذا ينافي ما تقدم في حكم ذي المادة من أن المتيقن من

ص: 327

______________________________

دليل عاصمية المادة بلوغها كرا و عدم وضوح كفاية كرية المجموع من المادة و ذيها.

قلت: فرق بين المقامين، إذ المفروض هناك كون أحد المائين مادة للآخر و عاصما له، و المفروض هنا اتحاد المائين، بحيث يكون المجموع معتصما، بلا ترجيح لأحدهما في العاصمية، و لا بد في صدق المادة من جريان أحد المائين علي الآخر و إمداده له، و لا يكفي فيه مجرد الاتصال بينهما، المفروض في المقام، و إلا كان كل منهما مادة للآخر، لعدم المرجح، و مع فرض التدافع لا يكون انفعال ذي المادة مع عدم بلوغها كرا مستلزما لانفعالها، ليلزم من عدم الاعتصام انفعال الكر بالملاقاة، كما هو اللازم في المقام.

و بعبارة أخري: ليس الوجه في اعتبار كرية المادة و عدم الاكتفاء بكرية المجموع، إلا أنه المتيقن من دليل عاصميتها، و هو مختص بالمادة المتدافعة، لقصور دليل الكرية حينئذ- كما سيأتي- أما مع اتصال المائين من دون تدافع فيكفي عموم دليل الكرية، و لا يهم قصور دليل المادة لو فرض صدقها حينئذ.

و لعل ذلك هو الوجه فيما تقدم من جامع المقاصد من التفصيل في اعتبار كرية المادة بين تساوي السطوح و عدمه، و إلا فدليل المادة خال عن التفصيل المذكور.

هذا، و قد استدل سيدي الوالد (دامت بركاته) علي كفاية الاتصال الضعيف بعموم التعليل في المادة في صحيحي ابن بزيع «1» الواردين في البئر، لوضوح أن مادة البئر متفرقة في بطن الأرض و اتصالها إنما يكون بمسارب ضعيفة، و مقتضي عموم التعليل و ارتكازيته كفاية الكثرة مع التفرق بالنحو المذكور، بل مع كون الاتصال بمثل الماء المتفشي في الرمل، لما تقدم من عموم البئر لما كانت مادتها بالرشح. بضميمة ما تقدم في مبحث اعتبار اعتصام المادة من أن ما لا يعتصم في

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 328

بين تساوي سطوحه و اختلافها (1)،

______________________________

نفسه لا يعصم غيره.

و ما ذكره لا يخلو عن وجه. و لا أقل من منافاة ذلك للارتكاز المدعي تقييد النصوص به.

نعم، لو كان الاتصال ضعيفا و قليلا لا يعتد به عرفا، كمقدار الإبرة كان الانصراف عنه في نصوص الكر قريبا. و إن كان المتيقن من ذلك ما لو كان من سنخ الرطوبات التي لا يصدق معها الماء، و لا تكفي في سراية الانفعال و اتحاد حكم المائين. فلاحظ.

(1) لا يخفي أن اختلاف سطوح الماء.

تارة: يكون مع تدافع بعضه علي بعض.

و اخري: يكون مع جريانه بتمامه من دون أن يتميز بعضه عن بعض، كالنهر الجاري علي وجه الأرض.

و ثالثة: يكون مع ركوده، كما لو وضع الماء في مخزن متدرج.

و الصورتان الأوليان و إن أمكن تصورهما مع تساوي سطوح الماء، فيجري حكمهما أيضا، إلا أن غلبتهما مع اختلاف السطوح هو الذي أوجب ذكرهما هنا تنبيها علي أن كلامهم في اختلاف السطوح ناظر إليهما، أو إلي الثانية منهما. هذا و يأتي الكلام في الأوليين.

و أما الثالثة فالظاهر اعتصام الماء بعضه ببعض فيها. بل لا يبعد عدم الخلاف في ذلك، و أن ما ذكروه من الكلام في اعتبار السطوح مختص بالصورتين الأوليين، بل بالثانية منهما، كما سيأتي.

و كيف كان، فيقتضيه عموم نصوص اعتصام الكر. و التشكيك فيه في غير محله، كما يظهر مما تقدم في صورة ضعف الاتصال، بل الاتحاد هنا أظهر منه هناك، و التقوي و الاعتصام أقرب إلي الارتكاز.

ص: 329

و لا بين وقوف الماء و ركوده و جريانه (1).

______________________________

(1) فعن الشهيد قدّس سرّه أن الكرية تعصم الجاري لا عن مادة، و يستفاد أيضا مما صرح به غير واحد- و في الجواهر أنه لا إشكال فيه- من أنه إذا تغير بعض الجاري و كان التغير قاطعا لعمود الماء لم ينجس الطرف الذي لا يتصل بالمادة إذا كان كرا.

و أما ما ذكروه من الكلام في اعتبار تساوي السطوح فلا يبعد اختصاصه بصورة التدافع، كما يشهد له تمثيل بعضهم له بالغديرين الذين بينهما ساقية، بل في الجواهر: «ما اعتبر من تساوي السطوح في الراكد بالنسبة إلي عدم نجاسته بالملاقاة لا يعتبر هنا بالنسبة للجاري فلا ينجس بالملاقاة و إن اختلفت سطوحه علي ما هو الظاهر من كلام الأصحاب».

اللهم إلا أن يختص بالجاري عن مادة، الذي لا يكون الدليل علي اعتصامه نصوص الكر، بل نصوص الجاري، التي لا مجال لحملها علي خصوص صورة تقارب السطوح أو تساويها.

و من هنا فقد يدعي عموم ما ذكروه من الكلام في تساوي السطوح لمحا الكلام الذي هو الجاري لا عن مادة.

و كيف كان، فيقتضيه عموم نصوص الكر، و عدم دخل الركود ارتكازا في الاعتصام، و لذا يعتصم الجاري عن مادة، و التفكيك بين عاصمية الكرية و المادة بعيد. فتأمل.

بل لا ينبغي الإشكال فيما ذكرنا بعد ملاحظة أنه لولاه يلزم تنجس موضع الملاقاة من الأنهار العظيمة التي لا مادة لها بملاقاة النجاسة، بل تنجس تمام الماء لو فرض كون الجريان بالنحو الذي لا يمنع من سريان النجاسة، و قد تقدم الضابط له في المسألة الثامنة.

ص: 330

نعم، إذا كان الماء متدافعا لا تكفي كرية المجموع في اعتصامه (1)،

______________________________

(1) أما عدم كفايته في اعتصام المتدافع منه فهو الظاهر مما تقدم عن التذكرة من عدم اتحاد المائين في حق العالي، و عن الذكري: «و لو كان الملاقاة بعد الاتصال و لو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير» فإنه ظاهر في عدم تقوي العالي بالسافل الكثير فضلا عن القليل. و مثله ما عن الدروس: «لو اتصل الواقف بالجاري اتحاد مع مساواة سطحيهما أو كون الجاري أعلي، لا العكس. و يكفي في العلو فوران الجاري من تحت الواقف» و في جامع المقاصد في شرح ما ذكره العلامة من اعتصام القليل باتصاله بالجاري قال: «يشترط في هذا الحكم علو الجاري، أو مساواة السطوح، أو فوران الجاري من تحت القليل إذا كان الجاري أسفل، لانتفاء تقويته بدون ذلك».

و أما عدم كفايته في اعتصام المتدافع إليه فهو مقتضي ما تقدم من جامع المقاصد من اعتبار كرية المادة مع اختلاف السطوح. بل هو المتيقن من كل من اعتبر كرية المادة في اعتصام ذيها، علي ما سبق الكلام فيه عند الكلام في مقدار المادة العاصمة.

خلافا لظاهر ما تقدم عن التذكرة من اتحاد المائين في حق السافل، و كذا كل من اكتفي في عاصمية المادة بكرية المجموع.

بل ربما قيل بالاتحاد في حق العالي أيضا، كما نسبه سيدنا المصنف قدّس سرّه إلي صريح جماعة من المتأخرين، و في الجواهر: «و يظهر من الشهيد الثاني و بعض من تأخر عنه عدم اشتراط شي ء من استواء السطوح، فيتقوي السافل بالعالي و العالي بالسافل. و يؤيده إطلاق النص و الفتوي».

و كيف كان، فالعمدة في عدم التقوي من الجانبين تعدد الماء عرفا، فان الاتصال بين المائين بتدافع أحدهما علي الآخر لا يصحح دخولهما معا تحت أدلة

ص: 331

و لا كرية المتدافع إليه في اعتصام المتدافع منه (1).

______________________________

الكر عرفا و تطبيقها عليهما بتطبيق واحد، بل هما بنظر العرف ماءان أحدهما يمد الآخر، و لذا كان المرتكز عرفا تباين مفاد أدلة الكر مع أدلة المادة، و أن المادة عاصم آخر في قبال الكرية أو متمم لها.

و ليس هذا مبنيا علي التسامح في التطبيق و الغفلة عن الجهة الموجبة لاتحاد المائين، كي لا يعتد به مع الوحدة الحقيقية، كما تقدم في الاتصال الضعيف، بل هو مبني علي ملاحظة المناسبات الارتكازية في فهم العرف معيارا آخر في الوحدة غير الاتصال يخل به التدافع، فيتعين تنزيل أدلة الكر عليه، و مقتضاها انفعال المائين معا، لعدم بلوغ كل منهما الكر.

و أما التفصيل في الوحدة بين السافل و العالي- كما تقدم من التذكرة- فلا نتعقله، لأن الوحدة أمر إضافي لا يقوم بأحد طرفيه دون الآخر.

نعم، يمكن التفصيل بينهما في الحكم بلحاظ أدلة أخري غير أدلة الكر المبنية علي الوحدة.

إلا أن يدعي ثبوت الوحدة في الطرفين الموجب لشمول أدلته لهما لفظا مع دعوي خروج العالي للانصراف. لكن الوحدة ممنوعة، كما عرفت. و علي تقديرها فلا منشأ يعتد به للانصراف المذكور.

و أما أدلة المادة فهي لا تقتضي اعتصام المتدافع منه بالمتدافع إليه إذا كان كرا، فضلا عما إذا كان قليلا. لورودها في حال ذي المادة بعد الفراغ عن طهارة المادة نفسها.

فلا مخرج فيه عن عموم انفعال القليل و أما بالإضافة إلي المتدافع إليه فهي تقتضي اعتصامه بالمتدافع منه في الجملة، و المتيقن منه صورة كريته، علي ما تقدم عند الكلام في مقدار المادة. فراجع.

(1) لما عرفت من قصور نصوص المادة عن المتدافع منه، و مقتضي

ص: 332

نعم، تكفي كرية المتدافع منه في اعتصام المتدافع إليه (1).

مسألة 19 لا فرق بين ماء الحمام و غيره في الأحكام

مسألة 19: لا فرق بين ماء الحمام و غيره في الأحكام، فما في الحياض الصغيرة إذا كان متصلا بالمادة، و كانت وحدها كرا اعتصم (2)، و إن لم يكن متصلا بالمادة، أو لم تكن وحدها كرا لم يعتصم (3) و إن كان المجموع كرا.

______________________________

نصوص الكر انفعاله، لقلته.

(1) لما عرفت من عموم نصوص المادة الذي كان المتيقن منه كريتها.

(2) عملا بعموم المادة المستفاد من التعليل في صحيحي ابن بزيع «1» الواردين في البئر. و لأنه المتيقن من نصوص الحمام «2».

(3) فقد ادعي في الجواهر الإجماع و استظهر في كشف اللثام الاتفاق علي عدم اعتصام ماء الحمام مع عدم اتصاله بالمادة.

و العمدة فيه: قصور إطلاق نصوص الحمام عن شمول ما لا مادة له، بناء علي ما تقدم عند الكلام في مقدار المادة من عدم خصوصية الحمام في الحكم الذي تضمنته، بل ذكره لأجل كون الافراد الوجودة منه مشتملة علي ما يقتضي الاعتصام، حيث يلزم حينئذ الاقتصار علي المتيقن في الحمامات السابقة، و هو خصوص ذي المادة.

مضافا إلي خبر بكر بن حبيب المتقدم هناك، كما تقدم الكلام في وجه اعتبار كرية المادة، بنحو يظهر منه عدم خصوصية ماء الحمام.

و عليه لا وجه لما قد يظهر من بعضهم من عدم اعتبار الكرية في مادته

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

(2) راجع الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق.

ص: 333

مسألة 20 الماء الموجود في الأنابيب المتعارفة في زماننا بمنزلة المادة

مسألة 20: الماء الموجود في الأنابيب المتعارفة في زماننا بمنزلة المادة (1)، فإذا كان الماء الموضوع في إجانة و نحوها من الظروف نجسا و جري عليه ماء الأنبوب طهر (2)، بل يكون ذلك الماء أيضا معتصما (3) ما دام ماء الانبوب جاريا عليه، و يجري عليه حكم ماء الكر في التطهير به، فلا يحتاج إلي التعدد و لا إلي العصر (4).

و هكذا الحال في كل ماء نجس، فإنه إذا اتصل بالمادة طهر (5)،

______________________________

حتي لو قيل باعتبارها في غيره من أقسام المادة، لتوهم ظهور أدلته في خصوصيته. فراجع.

(1) بل هي من أفراد المادة حقيقة، فتدخل في عموم دليلها، بل هي من سنخ مادة الحمام، و إن لم تسانخ مادة البئر.

(2) بناء علي ما يأتي في كل ماء متنجس من الاكتفاء في تطهيره بالاتصال بالمادة.

(3) لعموم ما دل علي عاصمية المادة، و قد تقدم.

(4) بناء علي عموم عدم الاحتياج إليهما في التطهير بالماء المعتصم، علي ما أشرنا إليه في المسألة الرابعة عشرة، و يأتي في المسألة العاشرة من فصل المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

(5) كلام الأصحاب (رضي اللّٰه عنهم) في كيفية تطهير الماء المتنجس في غاية الاضطراب و الاختلاف، لاختلافهم في ذلك عموما و خصوصا.

بل عن بعض المتأخرين عدم تطهير الماء المتنجس إلا باستهلاكه و اضمحلاله في الماء الطاهر المعتصم، مستدلا بما تضمن من النصوص أن الماء

ص: 334

______________________________

يطهر و لا يطهر «1».

و هذا القول و إن كان مقتضي استصحاب النجاسة أيضا، إلا أن الظاهر مخالفته لما تسالم عليه الأصحاب و ادعي عليه الإجماع، و تقتضيه بعض النصوص الآتية من طهارة الماء المتنجس باتصاله بالماء المعتصم في الجملة، حيث لا مجال معه للأصل، و يلزم لأجله رفع اليد عن النصوص المشار إليها، لهجرها المسقط لها عن الحجية، و لذا لم أعثر عاجلا علي من تكلم فيها و اهتم بالجواب عنها.

و إن كان من القريب حملها علي إرادة التطهير باستيلاء المطهر علي المتنجس و إزالته لنجاسته و قذرة الذي هو المراد من تطهير الماء للمتنجسات المتكثفة، و الذي لا مجال له في تطهير الماء و لا غيره من السوائل، لعدم استيلاء المطهر عليها و إن امتزج بها، و إنما ذهبوا إلي طهارة الماء باتصاله بالماء المعتصم من باب السراية و غلبة حكم الطاهر علي حكمه لا لإزالة شي ء لقذرها و نجاسته ارتكازا، كما أشرنا إلي نظيره في المسألة الثانية عشرة.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في بطلان القول المذكور، و لزوم رفع اليد عما يوهمه، و يلزم النظر في بقية أقوال المسألة.

فاعلم أنّهم بعد الفراغ عن طهارة الماء المتنجس باتصاله بالمعتصم في الجملة اختلفوا.

تارة: من حيثية اعتبار الامتزاج و عدمه، فقد صرح باعتباره في محكي التذكرة و الذكري، و أنكره في جامع المقاصد و كشف اللثام و الروضة، و هو مقتضي ما في اللمعة من الاكتفاء بالملاقاة، و ما عن المنتهي و التحرير من الاكتفاء بالاتصال، بل ما في الخلاف من التعبير بالورود، و ما في المعتبر من التعبير بالإلقاء، لظهورهما

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 6، 7.

ص: 335

______________________________

في حصول الطهارة بمجرد ذلك قبل حصول الامتزاج، و إن كان لازما عادة بعده بزمان قصير.

اللهم إلا أن يستفاد اعتبارهما للامتزاج مما في الخلاف من تشبيه الماء المتنجس بالنجس في الطهارة بالوقوع في الكثير، و ما في المعتبر من توجيه طهارة المتنجس باستهلاكه. و لذا نسب شيخنا الأعظم قدّس سرّه القول بذلك إليهما. فتأمل.

و اخري: من حيثية اعتبار الدفعة في إلقاء الكر و عدمه، فقد صرح باعتبارها في الشرائع و القواعد و جامع المقاصد، و هو المحكي عن المنتهي و التذكرة و التحرير و الإرشاد و الدروس و غيرها، بل نسبه في جامع المقاصد إلي تصريح الأصحاب، و في المسالك إلي المشهور، و في الروضة إلي المشهور بين المتأخرين، مع تفسيرهما لها بالدفعة العرفية التي هي عبارة عن الإلقاء في زمان قصير. و أنكره في الروضة و هو المحكي عن الروض و المدارك.

و ظاهر ما عن الذكري أن المعتبر هو اتصال الكر بعضه ببعض حين إلقائه في مقابل ما لو ألقي متفرقا في دفعات قسما بعد قسم. و بذلك فسر الدفعة في كشف اللثام، ثمَّ قال: «و أما الدفعة بالمعني الذي اعتبره جمع من المتأخرين فلا دليل عليها».

و ثالثة: من حيثية اختصاص المطهر بإلقاء الكر أو التعدي منه إلي المادة النابعة أو الجارية، فقد صرح في الخلاف و القواعد بعدم كفاية النبع، و قربه في المعتبر.

و ربما يستفاد من كل من اقتصر علي ذكر الكر. و إن كان لا يبعد وروده في مقابل احتمال كفاية التتميم كرا في القليل أو لعدم تيسر المادة في الراكد. و عن المبسوط التصريح بالاكتفاء بالنبع من تحته و بجريان الكر عليه، و في جامع المقاصد: «يطهر بوصول الجاري و ماء المطر إليه، و كذا القول في المادة المشتملة علي الكر، لأنها لا تختص بالحمام.»، ثمَّ تعرض للنبع فقال: «فلو نبع ذو المادة من

ص: 336

______________________________

تحته مع قوة و فوران فلا شبهة في حصول الطهارة».

نعم، قد يستظهر منه اعتبار قوة النبع، بل صرح في كشف اللثام باعتبار علو النبع علي الماء المتنجس، لدعوي: أنه لا بد من تسلط المطهر. بل قد يستظهر ذلك في الكر من كل من عبر بالإلقاء الظاهر في الاستعلاء، بحيث لا يكفي الاتصال مع تساوي السطوح و لو مع الامتزاج، و إن أنكر بعضهم إرادتهم لذلك.

هذه جملة الأقوال في المقام، و الظاهر خلوها عن الدليل، لضعف الوجوه المذكورة في كلماتهم لها بما لا مجال لاطالة الكلام فيه بعد ظهور وهنه، خصوصا بعد ما نبهنا إليه آنفا من أن طهارة الماء باتصاله بالمعتصم ليس من باب استيلاء المطهر علي المتنجس، ليتخيل اعتبار قاهرية المطهر بعلوه، و استيلائه علي تمام أجزاء المتنجس بامتزاجه، بل من باب السراية و غلبة حكم الطاهر.

فالعمدة في وجه اعتبار كل ما يحتمل اعتباره هو استصحاب النجاسة، الذي يلزم الاقتصار في الخروج عنه علي المتيقن.

نعم، لو ثبت الإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد مع عدم التغير اتجه البناء علي عدم اعتبار أمر زائد علي الاتصال بالمعتصم.

لكنه لم يثبت بنحو معتد به مع الخلاف الذي أشرنا إليه في اعتبار الأمور المتقدمة، و غاية ما يمكن تحصيله هو الإجماع علي اتحاد حكم المائين في الجملة الذي يلزم معه الاقتصار علي المتيقن أيضا.

هذا، و قد يستدل علي عموم الاكتفاء بالاتصال بالمعتصم ببعض نصوص ماء الحمام، كخبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قلت له: أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب و الصبي و اليهودي و النصراني و المجوسي.

ص: 337

______________________________

فقال: إن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» «1»، و موثق حنان: «سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إني أدخل الحمام في السحر و فيه الجنب و غير ذلك فأقوم فاغتسل فينتضح علي بعد ما أفرغ من مائهم. قال: أ ليس هو جار؟ قلت:

بلي. قال: لا بأس» «2» و خبر بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة» «3».

لظهور الأول في مطهرية بعض ماء الحمام- و هو المادة- لبعض بعد نجاسته من دون أخذ الامتزاج فيه.

كما أن الثاني لا بد أن يحمل علي كون الانتضاح من الماء الذي يغتسلون منه، كماء الحياض، لأنه الذي يتصور فيه الجريان، لا الذي يغتسلون به و يصيب أبدانهم، لعدم تعقل فرض الجريان فيه. كما أن نسبة الجريان له ليس لجريانه بنفسه، لعدم كون ماء الحمام من سنخ الجاري، بل لجريان المادة عليه. فيدل حينئذ علي طهارة الماء بجريان المادة عليه مطلقا و إن كان نجسا قبل الجريان. كما أن مقتضي إطلاقه عدم اعتبار الامتزاج.

و هو مقتضي إطلاق الثالث أيضا.

و حيث تقدم غير مرة إلغاء خصوصية الحمام أمكن الاستدلال بهذه النصوص في المقام.

لكن لا ظهور للأول في طهارة ماء الحمام بعد نجاسته و إن كان هو المدلول المطابقي له، بل في اعتصام بعضه ببعض، كما هو المناسب للسؤال، و للتشبيه بماء النهر، علي ما تقدم في تحقيق مقدار المادة.

مضافا إلي عدم وضوح إطلاقه بنحو ينفي اعتبار الامتزاج، فان الجمود عليه يقتضي عدم اعتبار الاتصال أيضا، و ليس اعتباره مستفادا من قرينة

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 338

______________________________

منفصلة، ليقتصر فيها علي المتيقن، بل هو من الوضوح بحد يمنع من انعقاد الظهور في الإطلاق، و يكشف عن ابتنائه علي المفروغية عن اعتباره، لمعهوديته في الحمام، فينقلب مجملا، لاحتمال كون الامتزاج مفروغا عنه و معهودا كالاتصال.

فتأمل.

علي أن ضعف سند الخبر مانع من الاستدلال به.

كما أن الثاني- بعد تسليم أن حمله علي ما تقدم لتوجيه مفاده يبلغ مرتبة الظهور الحجة. و أن السؤال فيه من حيثية الانفعال، لفرض نجاسة أبدانهم، لا من حيثية كون الماء مستعملا في رفع الحدث الأكبر- يشكل إطلاقه من حيثية سبق نجاسة الماء، ليدل علي مطهرية المادة له، لظهوره في فرض استمرار الجريان، فيدل علي عاصميته للماء من أن ينفعل باغتسالهم منه لا غير، لا في اعتبار جريانه حين الانتضاح منه فقط، ليشمل ما لو حدث له الجريان بعد انفعاله باستعمالهم.

و لا أقل من كون ذلك هو المتيقن المانع من انعقاد الظهور في الإطلاق.

فلم يبق الا الثالث الذي هو لا يخلو عن ضعف في السند لجهالة بكر بن حبيب.

و لا مجال لدعوي انجباره بوقوع صفوان بن يحيي في طريقه، الذي هو من أصحاب الإجماع، كما يظهر مما تقدم في أول الكلام في وزن الكر.

و مثلها دعوي انجباره بعمل الأصحاب، لانحصار الدليل علي اعتبار المادة في الحمام به.

لما تقدم من ورود نصوص الحمام للإشارة إلي المياه المعهودة فيه التي لا يبعد اختصاصها بما له مادة، و لا إطلاق لها يشمل ما لا مادة له، ليحتاج في الخروج عنه إلي دليل، و يستكشف من بناء الأصحاب عليه اعتمادهم علي الخبر المذكور.

نعم، لا يبعد اتفاقهم علي أن اتصال ماء الحمام بالمادة و لو مع

ص: 339

______________________________

عدم الامتزاج، كما يعصمه عن النجاسة يطهره منها، إما لاعتمادهم علي خبر بكر بن حبيب المذكور، أو لاستفادته من مطلقات نصوص الحمام و إن حملت علي ما هو المعهود، لمعهوديتهم الابتلاء بالماء المتنجس قبل اتصاله بالمادة في الحمامات، و إنما الكلام في اختصاص ذلك بماء الحمام أو عمومه لغيره من المياه، و حيث عرفت عدم خصوصيته تعين الاكتفاء بذلك في كل ماء نجس.

لكنه لو تمَّ لا ينفع في المادة النابعة، و لا في غير جريان المادة من أقسام الاتصال بالمعتصم.

فلعل الأولي الاستدلال علي عموم كفاية الاتصال بالمعتصم بالتعليل في صحيحي ابن بزيع الواردين في البئر، كما نبه لذلك غير واحد، لظهورهما في رجوع التعليل للحكم بسعة ماء البئر، الذي يراد به ما يعم الدفع و الرفع، فيدل علي أن المادة كما تعصم ماء البئر عن النجاسة تطهره منها، و حيث يكفي في صدق المادة الاتصال من دون حاجة إلي الاستعلاء أو الامتزاج كان اللازم البناء علي عدم اعتبارهما، بل لا يعتبر فعلية المد، و يكفي كون المادة بنحو لو أخذ من الماء لأمدّته، لشيوع ذلك في البئر.

و بعموم التعليل يتعدي إلي جميع ما له مادة، و إن لم يكن بئرا.

كما أن مقتضي ظهور كون التعليل ارتكازيا التعدي لجميع أقسام الماء المعتصم، لعدم خصوصية المادة ارتكازا في ذلك.

و قد تقدم نظيره في الاستدلال علي مطهرية ماء المطر للماء المتنجس، كما تقدم تفصيل الكلام في مفاد التعليل عند الكلام في عاصمية المادة.

إن قلت: لما كان التعليل واردا لبيان مطهرية النزح، فهو لا يدل علي عدم اعتبار الامتزاج، لوضوح أن النزح بالدلو ملازم لتحريك الماء الباقي في البئر و امتزاجه مع الماء الخارج من المادة، بل ارتفاع التغير بالنزح إنما يكون بسبب امتزاج الماء المادة بالماء الباقي و حمله لوصفه فيخف الوصف تدريجا

ص: 340

______________________________

حتي ينعدم.

قلت: خصوصية المورد ملغية بسبب كون التعليل ارتكازيا، إذ لا دخل للامتزاج في التطهير ارتكازا، بل المعيار علي الاتصال بالمادة، و إلا فالامتزاج كثيرا ما يستلزم انقطاع الخارج منها عن المنبع بالماء المتنجس، فينفعل به لو لم يطهر قبل الامتزاج، و لا يناسب تطهيره له ارتكازا، فلو لم يكن نفس الاتصال بالمادة مطهرا و توقف علي الامتزاج كان ذلك حكما تعبديا لا ارتكازيا، فلا مجال لحمل التعليل عليه.

علي أن التعليل و إن كان مسوقا لمطهرية النزح، إلا أنه بلحاظ ما يترتب عليه من ارتفاع التغير، فما هو الشرط في الطهارة ليس إلا ارتفاع التغير، لمانعيته ارتكازا منها، و لذا لا ريب ظاهرا في أنه لو ارتفع التغير عن الماء بنفسه، أو بتكاثر ماء المادة عليه، أو بوضع بعض المواد الغريبة، من دون نزح، كانت المادة مطهرة له، فمع إلغاء خصوصية النزح لا معني للمحافظة علي لازمه، و هو الامتزاج.

مضافا إلي أن الامتزاج الذي هو محل الكلام ليس هو الامتزاج الرافع للتغير، إذ لا بد منه إجماعا، بل الامتزاج بعد ارتفاع التغير و قبول الماء للتطهير، و مقتضي التعليل طهارة البئر بمجرد ارتفاع التغير لأجل اتصاله بالمادة، بلا حاجة إلي خروج الماء منها و امتزاجه بالماء بعده.

و كأن ما تقدم من الإجماع علي اتحاد حكم الماء الواحد مع عدم التغير مبني علي ملاحظة الارتكاز المذكور، المستفاد إمضاؤه من التعليل و بعض نصوص الحمام.

و عليه يبتني الإجماع علي طهارة الماء بتقاطر المطر عليه و غير ذلك مما يظهر منهم المفروغية عنه.

بل التأمل في حال التفصيلات المتقدمة يوهنها جدا، إذ بعد أن لم

ص: 341

______________________________

تكن ارتكازية فلو كانت معتبرة لكان المناسب تنبيه النصوص عليها أو مفروغية الأصحاب عنها، لكثرة الابتلاء بالمسألة و أهميتها في مقام العمل جدا.

و قد عرفت إغفال النصوص لها، و اضطراب كلمات الأصحاب فيها، فلم يصرح بالمزج قبل العلامة، و إن كان قد يستفاد من مطاوي كلمات من تقدمه.

علي أنه لم يتضح المراد به، إذ هل يعتبر امتزاج تمام الطاهر و لو ببعض النجس، أو العكس، أو تمام كل منهما بالآخر؟

كما أنه لم يصرح بالدفعة قبل المحقق. و لعل مراد كثير ممن صرح بها ما يقابل الدفعات، كما تقدم من كشف اللثام.

و كذا الاستعلاء لم يصرح باعتباره إلا بعض المتأخرين، ككشف اللثام.

و عدم الاكتفاء بالمادة النابعة أو الجارية من بعضهم لعله لعدم وضوح عموم عاصميتها عندهم، لاختصاص الدليل عليها بنصوص الحمام، التي قد يظهر من بعضهم لزوم الاقتصار علي موردها، و التعليل الذي لم يعمل كثير منهم به في مورده، و هو البئر.

فإن التأمل في ذلك و غيره موهن للتفصيلات المذكورة و موجب لاستيضاح العموم الارتكازي المذكور.

و كأنها مبنية علي تخيل كون تطهير الماء كتطهير الأجسام المتكثفة مبنيا علي استيلاء المطهّر عليه و إزالته لأثره، و هو موهون جدا، لتعذره في الماء و نحوه من السوائل، و لذا لا يطهر الماء المضاف بغير الاستهلاك. فلاحظ.

نعم، لا بد في الاتصال المطهر من أن يكون بالنحو العاصم، فلا يكفي صب المتنجس علي الكر أو تدافعه بفوارة و نحوها، لعدم كون الطاهر مادة له و لا صالحا لعاصميته، فيقصر عنه التعليل، كما لعله ظاهر.

ص: 342

و يكون معتصما بها ما دام متصلا بها، إذا كانت وحدها كرا (1).

______________________________

(1) لا ينبغي التأمل في اعتبار كرية المادة في مطهريتها للماء المتنجس، و إن أمكن التأمل في اعتباره في عاصميتها، للفرق بينهما في مقتضي الأصل.

مضافا إلي ما تقدم عند الكلام في مقدار المادة العاصمة. فراجع. و تأمل جيدا.

و الحمد للّٰه رب العالمين، و هو حسبنا و نعم الوكيل (19 ربيع الأول 1395 ه).

ص: 343

ص: 344

الفصل الثالث: في الماء المستعمل

الفصل الثالث الماء القليل (1) المستعمل في رفع الحدث الأصغر (2) طاهر (3) و مطهر من الحدث (4)

______________________________

(1) و أما الكثير فهو أولي بجواز الاستعمال في موارد جواز استعمال القليل، و في مورد عدم جوازه يأتي الكلام فيه.

(2) و مثله ماء الوضوء التجديدي.

(3) إجماعا محصلا، و منقولا نصا و ظاهرا، و سنة عموما و خصوصا. كذا في الجواهر. و دعوي الإجماع عليه مستفيضة في كلامهم، و لم ينقل الخلاف فيه إلا عن بعض العامة.

و يقتضيه- مضافا إلي الأصل، و النصوص الآتية المتضمنة لجواز الوضوء به- خبر العيص بن القاسم المروي في الخلاف: «سألته عن رجل أصابته قطرة من طست فيه وضوء؟ فقال: إن كان الوضوء من بول أو قذر فليغسل ما أصابه، و إن كان وضوؤه للصلاة فلا يضره» «1».

و أما عموم طهارة الماء فقد تقدم في الفصل الأول المنع من ثبوته بلحاظ الطوارئ و الأحوال.

(4) هذا في الإجماع كسابقه. و يقتضيه- مضافا إلي عموم طهورية الماء الطاهر، الذي تقدم تنقيحه في الفصل الأول- غير واحد من النصوص، كخبر عبد اللّٰه

______________________________

(1) كتاب الطهارة من الخلاف المسألة: 135 ذكر صدره في الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 14.

ص: 345

و الخبث (1)، و المستعمل في رفع الحدث الأكبر طاهر (2)

______________________________

بن سنان الآتي، و خبر زرارة عن أحدهما عليهما السّلام: «قال: كان النبي صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم إذا توضأ أخذ ما يسقط من وضوئه، فيتوضؤون به» «1».

هذا، و قد قال المفيد في المقنعة بعد أن ذكر ذلك: «و الأفضل تحرّي المياه الطاهرة التي لم تستعمل في أداء فريضة و لا سنة، علي ما شرحناه»، و عن الذكري بعد أن نقل ذلك: «و لا فرق بين الرجل و المرأة، و النهي عن فضل وضوئها لم يثبت».

و لم يظهر وجه ما ذكراه، فلا مجال للبناء عليه إلا من باب التسامح في أدلة السنن، بناء علي ما هو الظاهر من عمومه لفتوي الفقيه.

و أما ما أشار إليه الشهيد من النهي عن فضل وضوء المرأة فلعل مراد القائل به الكراهة الظاهرية فيما إذا لم تكن مأمونة، حيث يشير إليه حينئذ صحيح ابن أبي يعفور: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: أ يتوضأ الرجل من فضل المرأة؟ قال: إذا كانت تعرف الوضوء. و لا تتوض من سؤر الحائض» «2»، و يأتي في الأسآر المكروهة تمام الكلام في ذلك.

(1) هذا في الإجماع و العموم كسابقه.

(2) إجماعا، كما في المعتبر و القواعد، و عن كشف الرموز و نهاية الأحكام و المختلف و الإيضاح و الذكري و الروض و غيرها، و في الجواهر: «إجماعا بقسميه، و سنة عموما و خصوصا». و كأن مراده من العموم عموم طهارة الماء، الذي عرفت المناقشة فيه.

و أما الخصوص، فلعل مراده به ما تضمن عدم البأس في القطرات التي تقع من ماء الغسل في الإناء- بناء علي صدق ماء الغسل عليها قبل إتمامه، علي ما يأتي الكلام

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الأسئار حديث: 3.

ص: 346

______________________________

فيه إن شاء اللّٰه تعالي- و موثق عمار الساباطي: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يغتسل من الجنابة و ثوبه قريب منه، فيصيب الثوب من الماء الذي يغتسل منه؟ قال:

نعم، لا بأس به» «1». بناء علي أن السؤال عن الماء الذي اغتسل به، لا الماء الذي يغتسل منه، إذ لا منشأ لتوهم نجاسته.

اللهم إلا أن يكون واردا لدفع توهم نجاسة فضل الغسل، حيث قد يظهر من بعض النصوص توهم نجاسته أو عدم جواز استعماله.

و كيف كان، فيكفي فيه الإجماع المدعي ممّن عرفت، الذي لا مجال لاحتمال خطئه في مثل هذه المسألة التي يكثر الابتلاء بها. مضافا إلي الأصل.

و منه يظهر ضعف ما قد يستظهر من ابن حمزة في كلامه الآتي من القول بالنجاسة. و من ثمَّ قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و هو غريب».

نعم، قد يستدلّ له بصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «و سئل عن الماء تبول فيه الدواب، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب؟ قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «2»، و نحوه صحيحه الآخر «3»، بدعوي ظهورهما في نجاسته بمقتضي تقرير السائل.

و يندفع: بأن ظاهر السؤال بيان حال الماء و تعرضه للنجاسة، لا بيان خصوص النجاسات التي يتعرض لها، إذ لا فائدة في تكثير النجاسات، و لذا لا مجال لتوهم ظهوره في نجاسة بول الدواب.

فهو نظير صحيح صفوان الجمال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الحياض التي ما بين مكة إلي المدينة تردها السباع، و تلغ فيها الكلاب و تشرب منها الحمير و يغتسل فيها الجنب، و يتوضأ منها؟ قال: و كم قدر الماء؟ قال: إلي نصف

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 347

و مطهر من الخبث (1). و الأحوط استحبابا عدم استعماله في رفع الحدث (2)،

______________________________

الساق و إلي الركبة. فقال: توضأ منه» «1».

علي أن ذكر اغتسال الجنب قد يكون بلحاظ غلبة تعرض جسده لنجاسة المني و نحوه، فإنه لم يرد للسؤال عن نجاسة ماء الغسل ليتمسك بإطلاقه الشامل لصورة طهارة بدن الجنب، بل غاية ما يقتضيه مفروغية السائل عن وجود المقتضي للتنجيس مع الاغتسال في الجملة بالنحو المصحح للسؤال عن انفعال الماء و تقبله للنجاسة، كما لعله يظهر بالتأمل.

فلا مجال للخروج به عما عرفت من الإجماع و الأصل.

(1) كما صرح به جماعة، و ظاهر آخرين فيما حكي عنهم، و ظاهر بعضهم أنه لا نزاع فيه، و عن المنتهي و الإيضاح و ظاهر التذكرة دعوي الإجماع عليه.

و العمدة فيه عموم مطهرية الماء المشار إليه آنفا.

لكن قال ابن حمزة في الوسيلة: «و أما الماء المستعمل فثلاثة أضرب:

مستعمل في الطهارة الصغري، و مستعمل في الطهارة الكبري. و مستعمل في إزالة النجاسة. فالأول يجوز استعماله ثانيا في رفع الحدث و في إزالة النجاسة، و الثاني و الثالث لا يجوز ذلك فيهما إلا بعد أن يبلغ كرا فصاعدا بالماء الطاهر». و ظاهره عدم إزالته للخبث، و ربما حكي عن غيره.

و وجهه غير ظاهر، إلا بناء علي نجاسته التي عرفت المنع منها.

(2) فقد منع منه في المقنعة و التهذيب و الخلاف و الفقيه و الوسيلة، كما حكي ذلك عن المبسوط و الصدوق الأول و ابن البراج و اليوسفي و الوحيد في حاشية المدارك، بل نسبه الشيخ في الخلاف إلي أكثر أصحابنا، و عن الوحيد في حاشية المدارك أنه المشهور بين قدماء الأصحاب، بل مطلقا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

ص: 348

______________________________

و ذهب العلامة إلي الجواز، و وافقه في جامع المقاصد و كشف اللثام، و هو المحكي عن المرتضي و سلار و بني زهرة و إدريس و سعيد و الشهيدين و غيرهم، و عن المدارك و الدلائل نسبته إلي أكثر المتأخرين، و عن الروض نسبته للمشهور، و تردد المحقق في الشرائع و ظاهر المعتبر.

و قد استدل له ببعض النصوص:

الأول: خبر عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: لا بأس بأن يتوضأ بالماء المستعمل، فقال: الماء الذي يغسل به الثوب، أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضأ منه و أشباهه، و أما الذي يتوضأ الرجل به فيغتسل به وجهه و يده في شي ء نظيف فلا بأس أن يأخذه غيره و يتوضأ به» «1».

و الكلام فيه. تارة: من جهة السند.

و اخري: من جهة الدلالة.

أما السند فقد رواه الشيخ عن المفيد، عن ابن قولويه، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللّٰه، عن الحسن بن علي، عن أحمد بن هلال العبرتائي، عن الحسن بن محبوب، عن ابن سنان.

و قد استشكل فيه غير واحد بضعف أحمد بن هلال جدا، فقد ذكر الشيخ في الفهرست أنه كان غاليا متهما في دينه، و في التهذيب في باب الوصية لأهل الضلال: أنه مشهور باللعنة و الغلو و ما يختص بروايته لا نعمل عليه، و عدّه في كتاب الغيبة من السفراء المذمومين الذين ظهر التوقيع بلعنهم و البراءة منهم، و روي الكشي توقيعا مهولا في ذلك، و أشار إلي نظيره النجاشي، و عن سعد بن عبد اللّٰه: «ما سمعنا و لا رأينا بمتشيع رجع من تشيعه إلي النصب إلا أحمد بن هلال»، و قال الصدوق في إكمال الدين بعد نقل ذلك عنه: «و كانوا يقولون إن ما انفرد بروايته أحمد بن هلال فلا يجوز استعماله» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 13.

(2) إكمال الدين ص: 74 طبع النجف الأشرف.

ص: 349

______________________________

لكن الإنصاف أن هذا كله لا يصلح للتوقف في حديث الرجل بعد ظهور عدم كون الطعون في حديثه، بل في دينه بسبب توقفه في وكالة محمد بن عثمان- كما ذكره الشيخ قدّس سرّه في كتاب الغيبة- و كان ذلك في أواخر عمرة، مع كونه في أول الأمر من السفراء، و من الذين أكثر الأصحاب في السماع منهم و وثقوا بهم، حتي أكثروا المراجعة في أمره لما ورد التوقيع بلعنه، كما ذكره الكشي.

و يناسبه ما في الفهرست من أنه روي أكثر أصول أصحابنا، لظهوره في اشتهار حديثه بين الأصحاب، و لذا كان ظاهر النجاشي توثيقه و أن ذمه لا ينافي ذلك، حيث قال فيه: «صالح الرواية يعرف منها و ينكر. و قد روي فيه ذموم من سيدنا أبي محمد العسكري عليه السّلام»، و ليس المراد بإنكار حديثه عدم وثاقته، بل اشتمال حديثه علي المناكير التي يصعب علي العقول تحملها.

مضافا إلي كونه من رجال كامل الزيارة، و قد روي عنه جماعة من الأجلاء كعبد اللّٰه بن جعفر الحميري، و الحسن بن علي بن عبد اللّٰه بن المغيرة، و محمد ابن عيسي العبيدي، و محمد بن علي بن محبوب، و سعد بن عبد اللّٰه الذي هو من جملة الطاعنين عليه.

و ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في التهذيب من عدم قبول ما ينفرد بروايته، لا يبعد ابتناؤه علي التسامح في توجيه الطعن علي الرواية التي يراد العمل بغيرها مما هو أصح و أظهر [1]. كيف و قد عمل هو و غيره من أجلاء الأصحاب في المقام بروايته؟! كما أن ما حكاه الصدوق قدّس سرّه عنهم من عدم استعمال ما ينفرد بروايته لا يبعد اختصاصه بما يرويه بعد انقلابه، الذي حكاه عن سعد بن عبد اللّٰه، كما يناسبه تفريعه عليه.

______________________________

[1] كما قد يشهد به وهن الطعن المذكور جدا، لأن الرواية التي طعنها بذلك لم يروها أحمد بن هلال، و انما تضمنت مكاتبته للإمام الهادي عليه السّلام و جوابه عليه السّلام له، و الراوي لها شخص آخر. فراجع.

منه عفي عنه.

ص: 350

______________________________

و لا إشكال في ذلك، كما لا إشكال في عدم حضور أجلاء الأصحاب للرواية عنه بعد ذلك و بعد اشتهار لعنه و البراءة منه و التشنيع منهم عليهم السّلام عليه، بنحو لا يناسب معاشرتهم له، فضلا عن روايتهم عنه أو عملهم بالرواية.

و قد أشار إلي ذلك الشيخ في العدة، حيث قال في بيان موقف الأصحاب من الغلاة: «فإن عرف لهم حال استقامة و حال غلو عملوا بما رووه في حال الاستقامة و ترك ما رووه في حال خطئهم [خلطهم خ. ل]، و لأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد بن أبي زينب في حال استقامته و تركوا ما رواه في حال تخليطه، و كذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي و ابن أبي عذافر».

هذا، و لو فرض روايتهم عنه بعد انقلابه قبل ظهور حاله أو بعده، فهل يمكن من أحد منهم العمل بالرواية، أو تدوينها و الاهتمام بحفظها و إفادتها بعد إظهارهم عليهم السّلام حاله بالوجه المذكور إلا بعد كمال التثبت و شدة الاحتياط في صدور الرواية.

و لعله لذا حكي عن ابن الغضائري علي تشدده أنه لم يتوقف فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة و محمد بن أبي عمير من نوادره، و قد سمع هذين الكتابين جل أصحاب الحديث.

و بالجملة: المستفاد من النجاشي و الشيخ في العدة و ابن قولويه توثيق الرجل، و يؤيده ما تقدم من القرائن، و الطعون المذكورة لا تنافي ذلك، بل غاية ما تقتضيه عدم قبول ما يرويه بعد انقلابه، و من المعلوم من حال الأصحاب في الروايات التي بأيديهم عنه أخذها منه في حال الاستقامة- كما يظهر من الشيخ في العدة- أو التثبت من صحتها بعد ظهور حاله لو فرض تحملهم لها بعد انقلابه و لو لعدم الاطلاع علي حاله بعد.

و منه يظهر حال مثل هذا الخبر الذي رواه الشيخ قدّس سرّه بالسند المتقدم المشتمل علي جماعة من الأعيان، و صرح بالفتوي بمضمونه مثل الشيخين و الصدوق و غيرهم، بل نسبه في الخلاف إلي أكثر أصحابنا، و لم ينقل الخلاف فيه من القدماء إلا

ص: 351

______________________________

من المرتضي الذي له في أخبار الآحاد مذهب مشهور، مع كون جماعة ممن رواه و عمل به ممن صرح بالطعن في الرجل المذكور و شدد في أمره.

حيث لا ينبغي الريب مع ذلك في تثبتهم في الخبر بأحد الوجهين المذكورين لتيسر القرائن لهم، و لو لأخذهم له من كتاب المشيخة و نحوه من الكتب المشهورة، لامتناع فتواهم بمضمونه بدون ذلك مع مخالفته لعموم الطهورية- الذي استدلوا به في نظير المقام- و مقاربته لكثير من العامة القائلين بعموم نجاسة الماء المستعمل أو عدم مطهريته.

و لذا لم تظهر المناقشة في سنده إلا من المتأخرين الذين توجهوا إلي هذه النواحي، فتشبثوا بضعف الرجل و لعنه و أغفلوا بقية الجهات. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم. و هو ولي التوفيق و التسديد.

هذا، و ربما يناقش في السند أيضا بأن الحسن بن علي الذي وقع بين سعد ابن عبد اللّٰه و ابن هلال مردد بين جماعة بعضهم مجهول كالحسن بن علي بن إبراهيم بن محمد الهمداني، لرواية سعد بن عبد اللّٰه عنه صريحا في جملة المسمين بهذا الاسم.

و أما ما في المعتبر و طهارة شيخنا الأعظم و عن التنقيح من أنه ابن فضال الموثق أو الصحيح، فبعيد جدا لا يناسب طبقات الرواة، لأن سعد بن عبد اللّٰه يروي عن ابن فضال بواسطتين، كما أنه لم تعهد رواية ابن فضال عن أحمد بن هلال.

و يندفع: بأن إرادة الهمداني بعيد جدا بعد إهماله في كتب الرجال و قلة رواية سعد بن عبد اللّٰه عنه بنحو لا يناسبه إرادته له عند الإطلاق، و لا سيما مع عدم ثبوت روايته عن ابن هلال، بل قد لا يناسب ذلك رواية جده إبراهيم عنه، بل الأقرب كونه أحد رجلين الحسن بن علي بن المغيرة الثقة، و الحسن بن علي الزيتوني المستفاد توثيقه من كونه من رجال كامل الزيارة مؤيدا برواية غير واحد من الأجلاء عنه، لرواية سعد بن عبد اللّٰه عنهما جميعا، و روايتهما معا عن ابن هلال.

ص: 352

______________________________

و لعل الثاني أقرب بلحاظ تكرر ذلك فيه، بل تكرر رواية سعد بن عبد اللّٰه عن ابن هلال بواسطته، و لا سيما مع كونه أشعريا كسعد بن عبد اللّٰه، المناسب لإرادته له عند إطلاقه.

علي أن عمل الأصحاب كاف في انجبار الحديث لو فرض ضعف سنده من هذه الجهة.

و أما الدلالة فلا إشكال في ظهور الحديث في مانعية غسل الجنابة من استعمال الماء.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا- و سبقه إليه في الجملة الفقيه الهمداني قدّس سرّه- و غيره- من ظهوره في خصوص صورة نجاسة بدن الجنب، كما هو الحال في غسل الثوب، بقرينة قوله عليه السّلام في ذيله: «و أما الذي يتوضأ به الرجل فيغسل به وجهه و يده في شي ء نظيف فلا بأس.»، لظهوره في أن المدار في جواز الاستعمال علي طهارة الماء لا غير.

فهو- مع مخالفته للإطلاق- خروج عن ظاهر العنوان في كلام الإمام عليه السّلام، خصوصا مع إضافة الاغتسال للجنابة لا للجنب.

و ما في الذيل إنما يدل علي اعتبار الطهارة في خصوص ماء الوضوء، لا علي كونها معيارا في مطلق الماء المستعمل.

و حمل غسل الثوب علي خصوص فرض نجاسته ليس لذلك، بل للمفروغية عن عدم مانعية مجرد الغسل، بل لحمله للخبث، الموجبة لانصرافه إلي الغسل المطهر و لو مع عدم الذيل، و لذا يتعدي منه إلي كل تطهير و لو مع عدم صدق الغسل، و إلا فالذيل لا يصلح للتقييد، لما ذكرنا.

و لا وجه لقياسه علي النصوص المفصلة في نجاسة الماء باغتسال الجنب فيه بين الكرية و عدمها، و هي صحاح محمد بن مسلم و صفوان المتقدمة، لأن الاغتسال فيها لم يقع في كلام الإمام عليه السّلام، بل في كلام السائل.

مضافا إلي ما تقدم من عدم الإطلاق فيها، بل عدم ظهورها في أصل

ص: 353

______________________________

تنجيس الاغتسال.

و مثله قياسه علي نصوص كيفية غسل الجنابة، حيث تضمنت غسل الفرج الكاشف عن فرض نجاسته لأجل الغلبة. فإنه- مع خلو بعضها عنه «1»، و قرب ظهور بعضها في فرض النجاسة للأمر فيها بالبول قبله «2»، و ظهور بعضها «3» في الاستحباب، و احتمال كثير منها له [4]- وارد للإرشاد إلي شرطية طهارة البدن في الغسل بسبب كثرة الابتلاء بنجاسته.

و أين هذا مما نحن فيه، حيث يراد جعل الكثرة المذكورة صارفة لظهور الكلام في مانعية الغسل إلي مانعية مقارنة المذكور.

علي أن غلبة نجاسة ماء الغسل المجتمع- الذي هو مورد الحديث- ممنوعة، لأن من يغتسل في محل يجتمع فيه الماء كالطست لا يطهر بدنه فيه، بل في محل آخر لصعوبة الغسل وسط الماء المتنجس، و إنما يطهر الجنب في محل الغسل إذا كان الماء كثيرا لا ينفعل، أو جاريا في الأرض، أو سائخا فيها غير مجتمع عليها، ليسهل تطهيرها بعده و يسهل الغسل عليها.

و مثله ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن التتبع في أخبار الماء الذي يغتسل به الجنب يشهد بأن النظر فيها إلي نجاسة الماء و طهارته، و أن الرخصة في التوضؤ منه أو المنع لبيانهما.

فإنه لو تمَّ أجنبي عن مطلوبه، إذ ليس مدعاه كون المنع من الوضوء بماء الغسل لبيان نجاسته، بل لبيان مانعيته في فرض نجاسته لا مطلقا، فالنجاسة مفروغ عنها لا مقصودة بالبيان، كما هو الحال في الأخبار التي أشار إليها.

هذا، و قد استشكل في الجواهر في الحديث بموافقته للعامة، و باشتمال

______________________________

[4] لعدم الملزم بحملها علي الوجوب لأجل التطهير، و لا سيما مع الأمر في بعضها بغسله بثلاث غرف، فراجع النصوص المذكورة في باب: 26 من أبواب الجنابة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 354

______________________________

صدره علي إطلاق جواز الوضوء بالماء المستعمل.

و يندفع الأول: بأن العامة بين من أطلق طهارة الماء المستعمل مع مطهريته أو بدونها، و من أطلق نجاسته، كما في الخلاف و لم ينقل عنهم التفصيل الذي تضمنه الحديث، مع أن موافقتهم لا تقدح في الحديث مع عدم وجود المعارض له، كما لا يخفي.

و يندفع الثاني: بأن الصدر إما أن يكون حديثا واحدا مع ما بعده بحيث يكونان كلاما واحدا، فيكون إجمالا متعقبا بالتفصيل، أو مجملا لا يرفع به اليد عما بعده التام الظهور، أو يكون حديثا آخر في مجلس آخر، فيكون مطلقا مفسرا أو مقيدا بما بعده، أو يكون من كلام غير الإمام عليه السّلام واردا مورد السؤال، و ما بعده جواب له.

و لعل أبعدها الأول، لعدم مناسبته لتكرار فعل القول. و المناسب للتفريع بالفاء الثالث، إلا أنه خلاف ظاهر الضمير المستتر في فعل القول الأول الثابت في النسخ المعروفة بل هو المناسب للثاني، كما يناسبه ما في المطبوع في النجف الأشرف من الاستبصار و التهذيب من عطف فعل القول الثاني بالواو لا بالفاء، و علي جميعها يتم الاستدلال.

و أما ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن المراد بالصدر بيان حكم الماء المستعمل في نفسه إبطالا لقول العامة، و أن قوله عليه السّلام بعده: «الماء الذي يغسل به الثوب أو.» لبيان أن ثبوت المانعية فيه إنما هو لأمر خارج، و هو ابتلاؤه بالنجاسة.

و قوله عليه السّلام في الذيل: «و أما الذي يتوضأ.» رجوع لما في الصدر، و مبين لما في إطلاقه من إجمال في ضمن مثال.

فهو تكلف يهون دونه طرح الحديث. علي أن نجاسة الماء المستعمل في تطهير الثوب ليس لأمر خارج، بل هو و من شؤون استعماله.

فالإنصاف أنه لا مجال للتأمل في ظهور الحديث الشريف في مانعية الغسل من الجنابة من الوضوء بالماء، كما فهمه الأصحاب منه.

ص: 355

______________________________

الثاني: صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن ماء الحمام؟

فقال: ادخله بإزار، و لا تغتسل من ماء آخر إلا أن يكون فيهم [فيه خ ل] جنب، أو يكثر أهله فلا يدري فيهم جنب أم لا» «1».

فقد يستدل به في المقام بدعوي: أن النهي عن الاغتسال بماء آخر ليس للتحريم و لا للكراهة، لعدم المنشأ لهما، بل للتخفيف عن السائل لدفع توهم الحظر من الاغتسال به، فاستثناء صورة وجود الجنب من ذلك يدل علي حرمة الاغتسال مع اغتسال الجنب الملازم عرفا للمانعية.

و قد استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه بمعارضته بصحيحة الآخر: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الحمام يغتسل فيه الجنب و غيره اغتسل من مائه؟ قال: نعم، لا بأس أن يغتسل منه الجنب، لقد اغتسلت فيه ثمَّ جئت فغسلت رجلي و ما غسلتهما إلا مما لزق بهما من التراب» «2».

و يندفع: بأنه لا ظهور لهذا الصحيح في الاغتسال في نفس الماء، ليكون الماء مستعملا في رفع الجنابة، لأن المفروض فيه اغتسال الجنب منه، لا فيه، فالمنظور فيه عدم نجاسته بمساورة الناس له، فليحمل علي الحياض الصغار المتصلة بالمادة التي يتعارف الاغتسال منها، و يتخيل انفعالها لقلتها، نظير المرسل: «سأل عن الرجال يقومون علي الحوض في الحمام، لا أعرف اليهودي من النصراني، و لا الجنب من غير الجنب؟ قال: تغتسل منه، و لا تغتسل من ماء آخر، فإنه طهور» «3».

و هذا بخلاف الصحيح المستدل به، لظهوره في فرض الدخول في الماء الظاهر في اغتسال الجنب فيه، فيكون مما نحن فيه من دون معارض.

و أشكل من ذلك ما ذكره بعض مشايخنا من لزوم حمله- كبعض نصوص

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 6.

ص: 356

______________________________

الحمام الأخر- علي الاغتسال بغسالة الحمام [1]، التي يظهر تعارف الاغتسال فيها من كثير من النصوص «2»، و ورد النهي عنها معللا بأن فيها غسالة الجنب، و ولد الزنا، و الناصب، و غيرهم، فيلزم حملها علي الكراهة احتياطا في دفع احتمال النجاسة، دون الحرمة- و إن كان وجود النجاسة مقتضي الظاهر- لغير واحد من النصوص الظاهرة في طهارتها، كصحيح محمد بن مسلم الآخر المتقدم لبعد عدم ملاقاة رجليه عليه السّلام للغسالة، فعدم غسله لهما إلا من التراب ظاهر في طهارتهما و طهارة الغسالة الملاقية لهما تقديما للأصل علي الظاهر المذكور.

و لا مجال لتوهم كون المنع في الصحيح المستدل به من جهة كون الماء مستعملا في غسل الجنابة، لاستهلاك غسالة الجنب في بقية الغسالات فلا تصلح للمانعية.

لاندفاعه. أولا: بأن الأمر بالاغتسال بماء الحمام المستفاد من النهي عن الاغتسال بماء آخر يأبي عن الحمل علي الغسالة جدا مع استقذارها و تنفر الطباع منها، و عدم إطلاق ماء الحمام عليها، لعدم إعدادها للاغتسال منها، و إن كان قد يغتسل بها لبعض الأغراض- كما قد يستفاد من النصوص المشار إليها- و لذا أطلق عليها في تلك النصوص الغسالة تارة، و بئر الغسالة أخري، و لم يطلق عليها ماء الحمام، بل ظاهر خبر ابن أبي يعفور «3»، التباين و التقابل بينهما.

هذا، مضافا إلي ما هو المعلوم- و يستفاد من تلك النصوص- من عدم خلوها عن غسالة الجنب، و عدم تعارف الدخول فيها، بل يؤخذ من مائها و يغتسل به،

______________________________

[1] حمل كلامه علي ذلك هو المناسب لنظم كلامه و يشهد به ما في تقرير درسه «دروس في فقه الشيعة»، و أما ما في تقرير درسه الآخر «التنقيح» من تفسير الماء الآخر بالغسالة فهو لا يناسب نظم المطلب جدا و لا يصلح لدفع الاستدلال، و أبعد عن مدلول الرواية، بل لا ينبغي التأمل في عدم وفاء التقرير المذكور بالمقصود و اضطرابه في بيانه. فراجع و تأمل جيدا. منه عفي عنه.

______________________________

(2) راجع الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل.

(3) فروع الكافي ج 1 ص 14. و قد روي صدره و ذيله في الوسائل في باب: 3 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4، و باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 7.

ص: 357

______________________________

فكيف يحمل عليها الصحيح المستدل به مع اشتماله علي فرض الدخول في ماء الحمام و خلوه عن الجنب؟! و مما ذكرنا يظهر عدم صحة الاستدلال علي جواز الاغتسال بها بصحيح محمد بن مسلم الآخر، إذ لا مجال لاحتمال اغتسال الإمام عليه السّلام من الغسالة المذكورة، بل عرفت كونه أجنبيا عن مورد الصحيح المستدل به.

و ثانيا: بأن تعليق الحكم في الصحيح علي الجنب ظاهر في كفايته في المانعية و لو مع عدم نجاسة بدنه و عدم وجود غيره من النجاسات، و هو لا ينافي النهي من الجهات الأخر التي تعرضت لها نصوص الغسالة.

و فرض الاستهلاك غير ظاهر مع كثر الجنب في الحمام الموجبة لكثرة غسالتهم.

و أما ما ذكره من أن الصحيح لم يتضمن إلا ذكر الجنب من دون أن يتضمن اغتساله، فيكشف عن كفاية تنظيفه لبدنه عن النجاسة.

فيندفع: بأنه بعد تعذر الحمل علي مانعية وجود الجنب بنفسه و لو مع عدم اغتساله و لا تطهير بدنه لا بد من جعله كناية عن أحد الأمرين، و لا ريب في كون الظاهر هو الاغتسال، لمناسبته للجنابة.

و ثالثا: بأنه لا مجال للاستدلال علي طهارة الغسالة بالصحيح المذكور، لعدم العلم بكيفية جريان الغسالة في الحمام، و لعلها تصل إلي البئر بمجاري خاصة لا يمر عليها من يخرج من الحمام، خصوصا مع حملها غالبا لكثير من الأوساخ الموجب لاستقذارها، و لكونها أولي بغسل الرجلين منها من التراب الذي تضمن الصحيح غسلهما منه، و لو فرض مرورها بأرض الحمام فلعله يمر بعدها غيرها من المياه الطاهرة المطهرة لها، فتكون موردا لتعاقب الحالتين مع الجهل بالتاريخ الذي يكون المرجع فيه أصل الطهارة.

و رابعا: بأنه لو كان الوجه في النهي عن الغسالة التنزيه عن احتمال النجاسة لم يكن وجه لاختصاصه بما إذا كان هناك جنب أو احتمل وجوده، فان غالب من يدخل

ص: 358

______________________________

الحمام يبتلي بالنجاسة، كما لا يخفي.

و بالجملة: ما ذكره مخالف لظاهر الصحيح جدا، غير تام في نفسه، و لا ناهض بالجواب عن الاستدلال المتقدم.

و كيف كان، فلا ريب في ظهور الصحيح في النهي عن الاغتسال بماء الحمام الذي اغتسل فيه الجنب.

نعم، ما تضمنه من فرض دخول ماء الحمام و فرض تعرضه لكثرة الداخلين فيه، موجب لظهوره في فرض كثرة الماء و عدم شموله للماء القليل، و حيث يأتي اختصاص المانعية لو تمت بالماء القليل تعين حمله علي الكراهة، بل لا يبعد عدم ظهوره في نفسه في المانعية، إذ هو لا يدل إلا علي كون اغتسال الجنب بالماء مصححا لتجنبه و الاغتسال من ماء آخر، و يكفي في ذلك الكراهة.

بل من البعيد جدا المانعية في مورد الصحيح و هو خزانة الحمام الكبيرة، و إلا كان المناسب منه عليه السّلام الردع عن الاغتسال فيها و لو مع عدم اغتسال الجنب فيها سابقا، لما يستلزمه من إفساد الماء الكثير من دون ملزم، بل قد يحرم للسرف، أو لعدم رضا صاحب الحمام به في مقابل اجرة الحمام القليلة، فإن ذلك كله مناسب الكراهة جدا، و لا سيما مع عموم الحكم فيه لصورة احتمال وجود الجنب مع وضوح كون مقتضي الأصل فيه العدم.

و دعوي: عدم تعارف الدخول في الخزانة الكبيرة سابقا- لو تمت- لا تنافي ما ذكرناه، لظهور الصحيح في تعارف قلة الداخلين فيها بنحو لا يحتمل أن فيهم جنب، و إلا فلو كان الدخول فيها شائعا- كما كان في عصورنا القريبة- لم يخل عن احتمال الجنب، بل العلم به، إلا أن ترجع إلي القطع بعدم الدخول سابقا فيها.

لكن، لا شاهد حينئذ عليها، بل ربما يستشعر من بعض النصوص خلافه.

فلاحظ.

ص: 359

______________________________

و مثلها دعوي: أن الأمر بالائتزار حفظا للعورة عن النظر المحرم، و هو لا يتم في الخزانة لسترها فيها بالماء.

لاندفاعها: بأن الماء قد لا يسترها لصفائه. مع أنه يظهر من كثير من النصوص كراهة الدخول في الماء بغير مئزر «1»، فليكن الصحيح منها.

و بالجملة: بعد أن كان ظاهر الصحيح إرادة الخزانة الكبيرة خرج عما نحن فيه و لزم حمله علي الكراهة إن أمكن، و إلا كان مجملا و سقط عن الاستدلال. و يأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّٰه تعالي.

هذا، و لو فرض حمله علي ما في الحياض، بتنزيل الدخول فيه علي الدخول في الحمام لا في الماء، اتجه ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه من معارضته بالصحيح الآخر، و ما تقدم منا من كونه أجنبيا عن محل الكلام، فلا بد أن يحمل علي الكراهة أو غيرها. فلاحظ.

الثالث: خبر حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأول عليه السّلام: «سألته أو سأله غيري عن الحمام؟ قال: ادخله بمئزر و غض بصرك، و لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب و ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم» «2»، بناء علي ما هو الظاهر من أن التعليل ليس بمجموع هذه الأمور، بل بكل منها- كما يناسبه قوله عليه السّلام: «و هو شرهم» و اختلاف نصوص الغسالة في عدد الأمور المعلل بها- فيتعدي منها إلي كل ما يغتسل به الجنب.

و فيه: - مع ضعف سنده، و اشتماله علي غسالة ولد الزنا الذي لا إشكال في عدم مانعية غسالته، بناء علي ما هو الظاهر من طهارته- أن الغسالة لما كانت مستقذرة، غير معدة لأن يغتسل بها في الحمام بحسب طبعه، فالاغتسال فيها لا بد أن يكون لبعض الدواعي الخاصة المشار إليها في بعض النصوص- كدفع العين- فمن القريب جدا ورود الخبر للردع عن ذلك و بيان مرجوحية

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 10 من أبواب آداب الحمام.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

ص: 360

______________________________

الاغتسال، لا المانعية. فلاحظ.

الرابع: صحيح ابن مسكان: «حدثني صاحب لي ثقة أنه: سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل ينتهي إلي الماء القليل في الطريق، فيريد أن يغتسل و ليس معه إناء، و الماء في وهدة، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء، كيف يصنع؟ قال:

ينضح بكف بين يديه، و كفّا من خلفه، و كفّا عن يمينه، و كفّا عن شماله، ثمَّ يغتسل» «1».

فإن الظاهر اعتبار سنده، و لا مجال للإشكال فيه بالإرسال بعد توثيق ابن مسكان للمرسل عنه.

و احتمال كونه مطعونا من غيره بنحو يعارض توثيقه لا يعتد به، لأصالة عدم المعارض، و لأن ابن مسكان أخبر بمعاصره و صاحبه من علماء الرجال به، فلا يصلح جرحهم لمعارضة توثيقه، خصوصا مع قرب الجمع بينهما بحمل توثيقه علي خصوص حال صحبته له و تلقي الحديث عنه، فلا ينافي جرحهم الذي يراد به ثبوت الطعن في الرجل في بعض عمره، كما سبق عند الكلام في أصحاب الإجماع.

مضافا إلي قرب كون المرسل عنه محمد بن ميسر- المردد بين ابن عبد العزيز الثقة، و ابن عبد اللّٰه الذي لم ينص أحد علي جرح فيه ليعارض التوثيق المذكور- لرواية الحديث المذكور في محكي المعتبر و السرائر [2] عن كتاب البزنطي عن عبد الكريم عن محمد بن ميسر.

و لا سيما مع اشتمال ما في السرائر علي صدر له رواه الكليني عن عبد اللّٰه ابن مسكان، عن محمد بن ميسر، و رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن الكليني

______________________________

[2] حكاه في الوسائل عنهما، لكن الموجود في المطبوع من المعتبر: «محمد بن عيسي» و الظاهر أنه تصحيف و لو فرض فهو مردد بين ابن أبي منصور و الطلحي كلاهما لا معارض لتوثيق ابن مسكان فيه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

ص: 361

______________________________

بالسند المذكور، و قد تقدم في أدلة القول بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس.

و أما الدلالة، فتقريبها أن ظاهر السؤال المفروغية عن مانعية رجوع ماء الغسل في الماء من الاغتسال منه، و ظاهر الجواب تقرير ذلك بتعليم طريق للتخلص منه، و هو النضح في الجهات الأربع، سواء أريد به النضح علي البدن، أم علي الأرض- كما لعله الأظهر- لأن تندية البدن أو الأرض موجبة لتقبلهما للماء الواقع عليهما و عدم رفضهما له حتي يجري إلي الوهدة.

و ما عن السرائر من أنه إذا تندت الأرض كان نزول الماء أسرع. خلاف الظاهر، و إنما يتم فيما إذا كثر عليها الماء حتي تروت.

و مثله ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن التندية و إن منعت من عود الماء في بعض الفروض، إلا أن هذا لا يصحح إطلاق الجواب لو كان رجوعه إلي الماء موجبا لفساد الغسل، بل كان اللازم علي الإمام عليه السّلام الأمر بوضع حائل من تراب و نحوه إن أمكن، أو يأمره باقتصار غسله علي الادهان و عدم إكثار الماء علي وجه تجري غسالته في الوهدة بمقدار يصير ماؤها مستعملا.

لاندفاعه: بأن مقتضي تحير السائل تعذر وضع الحاجز، و إلا لم يحتج إلي تنبيه من الإمام عليه السّلام، لأنه أمر يلتفت إليه كل أحد بطبعه، و لعله لفرض الماء في وهدة و لزوم القرب منه لعدم الإناء الذي يغترف به.

كما أن مقتضي ارتكاز السائل تحفظه من الإكثار الموجب لجريان الماء، و ليس هو إلا في مقام التخلص من رجوع ما لا بد من رجوعه، و يكفي في ذلك النضح، إذ لا أقل معه من الشك بسبب تندي الأرض قبل الغسل المانع من الجزم برجوع الماء لو استوعبها، و المصحح للرجوع للأصل.

و منه يظهر وهن دعوي أن الحديث وارد للردع عما ارتكز في ذهن السائل من المحذور في رجوع الماء، كما صرح به في كلام غير واحد، و قد يظهر من الاستبصار. إذ لا طريق لإثبات ذلك، بل من البعيد جدا بيان الردع بالوجه المذكور

ص: 362

______________________________

و العدول عن التصريح به مع كونه أخصر و أفيد.

و قد يستشكل فيه أيضا: بأنه لا يختص بالغسل الرافع للحدث، بل يشمل الأغسال المستحبة، فيتعين حمله علي الاستحباب.

و يندفع: بأن عدم مانعية الأغسال المستحبة إنما هو لعدم الدليل عليها، فلو فرض عمومه لها كان اللازم البناء علي مانعيتها، إلا أن يفرض الإجماع علي عدم مانعيتها، فيتعين حمل الحديث علي الغسل المزيل فإنه أولي من حمله علي الاستحباب لو فرض ظهوره في المانعية، لأن الغسل المذكور هو أظهر أفراد الغسل، و هو المناسب لفرض التحير في الحديث، و لا سيما مع كون المذكور في محكي السرائر و المعتبر: «الجنب» بدل: «الرجل»، بل صرح بالجنب في صدر الحديث الذي رواه في الكافي و التهذيب و الاستبصار بنحو يوجب انصراف الرجل في الذيل إليه.

نعم، قد يتجه ما نبّه له الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن الظاهر من السؤال إنما هو المفروغية عن تجنب الرجوع، و لعله لكراهته، و ليس هو واردا مورد التشريع، ليكون ظاهرا في الإلزام و المانعية.

علي أنه قد ورد الأمر بالنضح للوضوء من الماء القليل في صحيح الكاهلي:

«سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: إذا أتيت الماء و فيه قلة فانضح عن يمينك و عن يسارك و بين يديك و توضأ» «1»، مع وضوح عدم مانعية رجوع ماء الوضوء، بل لم يفرض الرجوع في الحديث، كما لم يفرض في صحيح ابن جعفر الآتي، فلا بد أن يكون الأمر بالنضح تعبدا أو دفعا لاحتمال نجاسة الأرض أو نحو ذلك مما يجري في المقام أيضا، و يقرب لأجله عدم كون الأمر بالنضح من جهة المانعية حذرا من الرجوع.

و لعله لذا كان ظاهر الوسائل استحباب النضح تعبدا للوضوء و الغسل معا مع خوف رجوع الماء. و ربما احتمل كون استحباب النضح من أحكام قلة الماء و لو مع

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 3.

ص: 363

______________________________

عدم الرجوع، كما يناسبه صحيحا الكاهلي و ابن جعفر.

و قد يستدل بما تضمن إناطة الوضوء من الماء الذي اغتسل فيه الجنب أو استعماله بكونه كرا، كصحاح صفوان و محمد بن مسلم المتقدمة في طهارة ماء الغسل.

لكن، مما تقدم يظهر عدم وروده لبيان مانعية الاغتسال، بل لشرح حال الماء.

كما أنه بقرينة تضمّنه إناطة اعتصامه بالكريه يدل علي النجاسة لا علي المانعية في فرض الطهارة.

كما ربما يستدل بنصوص أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها، لظهور قصور دلالتها.

فالعمدة في المقام خبر ابن سنان.

هذا، و ربما يستدل للجواز. تارة: بأن الطهور ما يتكرر منه الطهارة.

و اخري: بنصوص الحمام المتقدمة إلي بعضها الإشارة، المتضمنة لجواز الاغتسال من مائه مع اغتسال الجنب فيه.

و ثالثة: بما تضمن عدم البأس بانتضاح ماء الغسل في الإناء من النصوص الآتية إن شاء اللّٰه تعالي.

لكن تفسير الطهور بما سبق لا منشأ له إلا توهم أن الصيغة للمبالغة- و قد تقدم منعه- و أن المراد به ما يتطهر به كالسحور و الفطور. مع أن المبالغة إنما هي في طهارته، و المصحح لها كونه مطهرا، لا أنها في المطهرية، ليكون المصحح لها تكرر التطهير به، علي أنه يكفي في ذلك تكرار التطهير به في الجملة و لو مع مانعية بعض أقسام التطهير به من بعضها، و لذا لا ينافي طهوريته امتناع التطهير بما يزال به الخبث.

كما أن النصوص الاولي بين ما هو وارد في فرض اغتسال الجنب من الماء، فلا يدل علي حكم غسالته، بل علي عدم تنجس الماء بملاقاته- كصحيح محمد بن مسلم المتقدم- إما لبيان طهارة بدنه، كما هو مفاد كثير من النصوص، أو لبيان اعتصام الماء و عدم انفعاله بملاقاة النجاسة، كما هو مفاد نصوص أخر. و ما هو ظاهر في

ص: 364

______________________________

اعتصام الماء لكثرته أو اتصاله بالمادة.

نعم، أرسل في عوالي اللئالي عن ابن عباس قال: «اغتسل بعض أزواج النبي صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم في جفنة فأراد رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم أن يتوضأ منها، فقالت: يا رسول اللّٰه إني كنت جنبة، فقال صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم: الماء لا يجنب» «1»، لظهوره في الاغتسال في نفس الجفنة المستلزم لكون الماء مستعملا في غسل الجنابة، لا فضلة منه.

لكن، ضعف سنده مانع من الاستدلال به. مع أن بعد مضمونه في نفسه مقرب كون المراد به الاغتسال من الجفنة، كما تضمنه ما أسند عن ابن عباس عن ميمونة زوجة النبي صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم «2».

غايته أن ما في ذيل المرسل من قوله صلّي اللّٰه عليه و آله و سلّم: «الماء لا يجنب»، و ما في ذيل المسند من قوله صلّي اللّٰه عليه و آله: «ليس الماء جنابة»، قد يشعر بعدم حمل الماء حدث الجنابة بنحو يمنع من استعماله مطلقا. و لا يبلغ حد الظهور الحجة.

و أما النصوص الأخيرة فهي لا تنافي مانعية اغتسال الجنب من استعمال الماء، لاستهلاك القطرات في ماء الإناء، بنحو لا يصدق علي مائه أنه ماء مستعمل.

بل التعليل فيها بالحرج ظاهر في مانعيتها لو لا كثرة الابتلاء بها نوعا.

نعم، استدل غير واحد بصحيح علي بن جعفر عن أبي الحسن الأول عليه السّلام:

«سألته عن الرجل يصيب الماء في جارية أو مستنقع، أ يغتسل منه للجنابة [به من الجنابة. ص، فيه للجنابة. يب] أو يتوضأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره؟ و الماء لا يبلغ صاعا للجنابة و لا مدا للوضوء، و هو متفرق فكيف يصنع؟ و هو يتخوف أن يكون السباع قد شربت منه. فقال: إن كانت يده نظيفة فليأخذ كفا من الماء بيد واحدة، فلينضحه خلفه و كفا أمامه و كفا عن يمينه و كفا عن شماله، فإن خشي أن لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات، ثمَّ مسح جلده بيده، فإن ذلك يجيزيه، و إن كان الوضوء غسل وجهه و مسح يده علي ذراعيه و رأسه و رجليه، و إن كان الماء متفرقا فقدر أن

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 7 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الأسآر حديث: 6.

ص: 365

______________________________

يجمعه و إلا اغتسل من هذا و من هذا. و إن [فان. يب. ص] كان في مكان واحد و هو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل و يرجع الماء فيه، فان ذلك يجزيه» «1».

للتصريح فيه بالإجزاء مع رجوع الماء.

و ظاهر الشيخ في الاستبصار و عن الصدوق حمله علي صورة الاضطرار، و كأنه لاشتماله علي فرض عدم الكفاية.

و استشكل فيه غير واحد: بأن المراد منه عدم الكفاية علي نحو الصب بالوجه المتعارف، و إلا ففرض رجوع الماء ملازم لكثرته بنحو يتحقق به مسمي الغسل.

لكن الصحيح لا يخلو عن اضطراب في المتن، لظهور السؤال في أن منشأ تحيّر السائل عدم بلوغ الماء الصاع أو المد، و تفرقه، و احتمال أن تكون السباع قد شربت منه، و خفاء الحال في هذه الأمور لا يناسب علي بن جعفر، كما لا يناسبه تطويل الجواب مع ما فيه من التكرار الذي يكاد يكون مستهجنا، و من الاكتفاء بالمسح في الغسل و الوضوء، الظاهر في المسح ببلة اليد الحاصلة من غسل الرأس في الغسل و غسل الوجه في الوضوء، لإبله جديدة يصدق معها مسمي الغسل، إذ هو لا يناسب المقابلة بين الغسل و المسح، و لا عطف الرأس و الرجلين علي اليدين في الوضوء.

علي أن تثليث غسل الرأس لا يناسب القلة المفروضة الملزمة بذلك، كما لا يناسبها نضح الأكف الأربعة الذي لا إشكال ظاهرا في عدم وجوبه.

كما أن التنبيه علي عدم قدح رجوع الماء إن كان المراد به الحث علي الصب المتعارف بالاستعانة بالماء الراجع، فهو- مع عدم مناسبته للتعبير بالإجزاء- بعيد في نفسه، إذ من البعيد جدا أن يكون للصب من الأهمية شرعا ما يقتضي المحافظة عليه في مثل هذا الحال، بل هو لا يناسب ما في الصدر من كيفية الاغتسال في فرض القلة.

و إن كان المراد به التنبيه علي عدم قدح رجوع الماء، فليس في السؤال ما

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

ص: 366

______________________________

يقتضي فرض الرجوع أو احتماله ليناسب بيان ذلك، و ليس هو كصحيح ابن مسكان المفروض فيه استلزام الاغتسال رجوع الماء.

علي أن الغسل مع فرض قلة الماء لا يناسب رجوع مقدار معتد به من الغسالة، بل غاية ما يرجع مقدار قليل قد يكون مستهلكا في الماء، كما احتمله بعض المعاصرين قدّس سرّه، فيكون مساوقا لما تضمن عدم قدح ما ينتضح من ماء الغسل في الإناء، و لا أقل من حمله علي ذلك بقرينة تلك النصوص، و تكون شاهد جمع بينه و بين خبر ابن سنان.

علي أن تكرار ذكر القلة في موضوع الحكم بجواز الرجوع موجب لقوة ظهوره في خصوصيتها فيه، ففرض عدم دخلها يزيد الصحيح اضطرابا.

و لعله لما ذكرنا و نحوه، لم يظهر من متقدمي الأصحاب الاهتمام بالصحيح في مقام العمل، فضلا عن معارضته لخبر عبد اللّٰه بن سنان، غايته أنه ذكره الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار شاهدا لاحتمال حمل صحيح ابن مسكان علي الاضطرار، و لا يبعد عدم قوله بذلك، و إنما ذكر لمجرد الجمع بين النصوص الذي هو همه في الكتاب المذكور.

بل في المعتبر لم يشر إلي الفقرة المذكورة من الحديث مع اهتمامه بمناقشة أدلة المانعية، و إنما ذكر صدره في الاستدلال علي ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في كيفية الاغتسال من الغدير أو القليب، و ذكر قصوره عن مطلوبه، ثمَّ قال: «و أما الرواية فمعناها أن يبل جسده للغسل لا غير، و إن كان منافيا للمذهب في مراعاة الترتيب في الاجتزاء بمسح البدن. و الرواية شاذة فلا نتشاغل بتفسيرها».

و مع هذا كله، يشكل صلوح الحديث في نفسه للاستدلال، فضلا عن رفع اليد به عن خبر عبد اللّٰه بن سنان.

ثمَّ إنه لو فرض نهوض الصحيح في نفسه للاستدلال علي جواز استعمال الماء المستعمل، فالظاهر لزوم الاقتصار علي مورده، و هو صورة الاختلاط في ماء الغسل الواحد، و الرجوع في غيرها إلي إطلاق خبر ابن سنان.

ص: 367

______________________________

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من إلغاء خصوصية مورده عرفا غير ظاهر بعد كون الحكم المذكور تعبديا، و لا سيما مع ما عرفت من اضطراب الصحيح و اشتماله علي أحكام شاذة.

و منه يظهر أنه لا مجال للجمع بينهما بحمل الخبر.

تارة: علي نجاسة بدن الجنب، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و اخري: علي الكراهة، كما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه.

و ثالثة: علي اغتسال غير المغتسل بالماء.

مضافا إلي الإشكال في الأول بقوة ظهور الخبر في خصوصية الغسل، لإضافته إلي الجنابة، لا إلي الجنب، و لقلة تلوث بدن الجنب بالنجاسة عند الغسل في مكان يجتمع فيه الماء الذي هو مورد الخبر، كما تقدم.

و في الثاني بأنه قد لا يناسب جعله في الخبر في سياق غسالة الثوب، الذي لا إشكال في مانعيته.

و أما الاستدلال له بخبر محمد بن علي بن جعفر، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام:

«قال- في حديث: من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومن إلا نفسه. فقلت لأبي الحسن عليه السّلام: إن أهل المدينة يقولون: إن فيه شفاء من العين. فقال: كذبوا، يغتسل فيه الجنب من الحرام و الزاني و الناصب الذي هو شرهما و كل من خلق اللّٰه، ثمَّ يكون فيه شفاء من العين!» «1».

فيدفعه ظهور ذيله في فرض كون الماء كثيرا معدا لاغتسال كل أحد فيه، نظير الخزانة الكبيرة في الحمامات في عهودنا القريبة، فلا ينفع فيما نحن فيه.

و أما الثالث، فيندفع بأنه: إن بني علي الاقتصار علي مورد الصحيح لزم ما ذكرنا، و إن بني علي التعدي عنه لزم عمومه لصورة تعدد المغتسل. فالمتعين ما ذكرنا.

و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم، و منه نستمد العون و التسديد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

ص: 368

______________________________

بقي في المقام أمران.

الأول: أن المصرح به في خبر ابن سنان مانعية غسل الجنابة من استعمال الماء في الوضوء، و المذكور في كلمات الأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم) مانعية الاستعمال في رفع الحدث الأكبر من مطهرية الماء من الحدث، و هو مبني علي إلغاء خصوصية الجنابة في المانع، و التعميم لكل حدث أكبر، و علي إلغاء خصوصية الوضوء في الممنوع و تعميمه للغسل.

و قد استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه علي التعميم من الجهة الأولي بقوله عليه السّلام:

«و أشباهه» بدعوي ظهوره في كونه معطوفا علي الضمير المجرور في: «منه».

لكن، يبعدها أن العطف علي الضمير المجرور من دون إعادة الجار لا يخلو عن ضعف.

و مثلها دعوي عطفه علي «الماء» فيكون مرفوعا، للبعد بين العاطف و المعطوف.

مضافا فيهما إلي استبعاد التشبيه للماء المذكور، لاختلاف سنخ المانع فيه، لعدم الجامع بين رافعية الخبث و الجنابة، ليكون وجها للشبه، و إن كان الجامع ارتكازيا بين رفع الخبث و مطلق رفع الحدث.

و أبعد من ذلك تحليله إلي التشبيه في الجهتين، فيراد ما يشبه الماء الذي يغسل به الثوب من كل مزيل للخبث، و ما يشبه الماء الذي يغتسل به من الجنابة من كل مزيل للحدث الأكبر.

فالإنصاف أن الأنسب بتركيب الكلام جعله معطوفا علي المصدر المستفاد من قوله: «أن يتوضأ»، ليراد به التعميم من الجهة الثانية، لو لا ارتكاز أولوية الغسل من الوضوء المانعة من تشبيهه به، و الملزمة بالحمل علي الأول.

مضافا إلي فهم عدم الخصوصية لغسل الجنابة، بسبب ظهور الكلام في استيفاء أقسام الماء المستعمل، بقرينة التفصيل بين الوضوء و غيره، و حيث لا جهة ارتكازية تقتضي إلحاق بقية الأغسال الرافعة للحدث بالوضوء تعين

ص: 369

______________________________

إلحاقها بغسل الجنابة.

و أما التعميم من الجهة الثانية، فهو ظاهر بناء علي تمامية الاستدلال بصحيحي محمد بن مسلم و ابن مسكان، و أما بناء علي عدمها- كما تقدم- فلا وجه له إلا ارتكاز أولوية الطهارة الكبري في ذلك من الطهارة الصغري، بلحاظ أقوائية أثرها، كما يناسبه تعليل إجزاء الغسل عن الوضوء بقوله عليه السّلام: «و أي وضوء أطهر من الغسل؟!» «1» و نحوه.

و لعله لذا و نحوه كان ظاهر الأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم) المفروغية عن العموم المذكور من الجهتين، بنحو يكشف عن القرائن الارتكازية أو الخاصة، الموجبة لفهم عدم الخصوصية.

نعم، عبر في الفقيه بلسان خبر ابن سنان. و لعله للاهتمام بالفتوي بلسان الخبر، لا للجمود علي مورده. فلاحظ.

هذا، و مقتضي إطلاق خبر ابن سنان عموم المانعية للوضوء المشروع و إن لم يكن رافعا للحدث، و لا مبيحا للصلاة، حتي مثل وضوء الحائض، و مقتضي التعدي منه للغسل ذلك فيه أيضا.

و ما في الجواهر من استظهار عدم المانعية منها، بل نسبته لظاهر الأصحاب، و ان كلامهم مختص برفع الحدث. لا مجال له، و لا سيما مع اعترافه بعموم بعض الأدلة لها، بل لا يبعد لأجل ذلك تنزيل كلام من عبر برفع الحدث علي ذلك.

كما أن مقتضي ما تقدم كون المانع من طهورية الماء خصوص الغسل الرافع للحدث، دون المستحب، كغسل الجمعة، لخروجه عن المتيقن من المشابهة.

و من الجهة الارتكازية المقتضية للتعميم بفهم عدم الخصوصية و هو المدعي عليه الإجماع في الخلاف، و في الحدائق أنه نفي عنه الخلاف جملة من المتأخرين.

و مثله ما لا يرفع الحدث من الغسل الواجب لو قيل به.

نعم، لو نوي المحدث بالأكبر الغسل المستحب بناء علي صحته منه و رافعيته

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 370

______________________________

للحدث لم يبعد البناء علي مانعيته، لأن المناسبات الارتكازية تقتضي إرادة الغسل الرافع من حيثية كونه حاملا للقذر، لا الغسل المنوي به الرافعية، نظير غسالة الخبث.

و إن كان ذلك ربما لا يناسب الجمود علي المتيقن من الخبر.

و لعله لذا قال في الحدائق بعد ما تقدم: «و الظاهر أنه بناء منهم علي عدم رفعه الحدث، كما هو المشهور من عدم التداخل بين الأغسال المستحبة و الواجبة و عدم رفع المستحب للحدث، و إلا فإنه يأتي الكلام فيه أيضا، كما لا يخفي». فلاحظ.

و أولي من ذلك ما لو كان الغسل فاسدا لا أثر له في الطهارة شرعا، فإن مجرد قصد الغسل الصحيح لا يدخله في الغسل المشروع الذي هو منصرف النص.

نعم، لو فرض كون البطلان لعروض المبطل في الأثناء من حدث أو نحوه لم يبعد البناء علي المانعية فيه، لارتكاز حمل الماء للقذر حينئذ. فتأمل.

الثاني: قال في محكي الحدائق: «يظهر الاختصاص بالقليل من كلمات جمع»، و نفي الإشكال فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و في الجواهر: «الظاهر أن النزاع مخصوص في المستعمل إذا كان قليلا»، بل قال الفقيه الهمداني قدّس سرّه: «لا إشكال، بل لا خلاف، في أنه يرفع الحدث ثانيا لو كان كثيرا بالغا حد الكر أو جاريا و ما بحكمه، بل غير واحد نقل الإجماع عليه».

و قد استدل عليه. تارة: بما في المعتبر من أنه لو منع في الكثير لمنع حتي لو اغتسل في البحر.

و اخري: بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من اختصاص دليل المنع بما يغتسل به، لا فيه.

و يندفع الأول: بإمكان الفرق بالاستهلاك علي ما يأتي الكلام فيه في فروع المسألة إن شاء اللّٰه تعالي.

و يندفع الثاني: بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن الباء للاستعانة، و هي تصدق في القليل و الكثير.

و لو بني علي انصرافها إلي ما يصب علي المحل لزم دخول الكثير إذا كان

ص: 371

______________________________

الاغتسال به بنحو الصب، و خروج القليل الذي يرتمس فيه الجنب، و لم يقل به أحد.

فالعمدة في وجه الاختصاص أنه لا إشكال في اختصاص مانعية الغسل من الخبث بما إذا لم يكن الماء معتصما، لعدم الريب في أن الغسل من الخبث لا يزيد علي ملاقاته التي لا توجب المنع مع الكثرة، و لنصوص جواز الاغتسال بماء الحمام التي لا ريب في عمومها لصورة تطهير مثل اليدين بماء الحياض الصغار، إلي غير ذلك مما يتضح معه اختصاص إطلاق الماء في خبر ابن سنان بغير المعتصم.

و دعوي: أن التقييد في غسالة الثوب لا ينافي الإطلاق في غسالة الجنب.

مدفوعة: باتحاد الموضوع في الخبر، حيث لم يكن موضوعه ماء الغسالة و ماء غسل الجنابة، بل الماء الواجد لأحد الوصفين، فوضوح الاختصاص في أحدهما مانع من الإطلاق في الثاني. فتأمل جيدا.

هذا كله مضافا إلي صحيح صفوان المتقدم عند الكلام في طهارة الماء المستعمل، المتضمن لجواز الوضوء من الماء الذي يغتسل فيه الجنب إذا كان كثيرا.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 372

و صحيح ابن بزيع: «كتبت إلي من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء و يستقي فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب، ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب: لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» «1»، للإجماع ظاهرا علي عدم الفرق بين الضرورة و غيرها مع المانعية، الملزم بحمله علي الكراهة، بل هي الظاهرة منه بعد ظهوره في كون المنهي عنه ليس خصوص الماء المذكور في السؤال، بل مطلق ما يشبهه، و الظاهر منه إرادة الماء المكشوف المعرض لكل طارئ يوجب استقذاره، حيث لا إشكال في عدم حرمة استعمال الماء بمجرد ذلك.

مضافا إلي ما قد يستفاد من صحيحي محمد بن مسلم المتقدمين المتضمنين لعدم نجاسة الغدير الذي تبول فيه الدواب، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب إذا بلغ كرا، فإنهما و إن وردا لبيان الطهارة غير المستلزمة للطهورية من الحدث، إلا أن عدم التنبيه فيهما علي عدم المطهرية منه- مع كونها من أهم الأغراض المقصودة

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

ص: 372

إذا تمكن من ماء آخر، و إلا جمع بين الغسل أو الوضوء به و التيمم (1).

______________________________

للسائل- ظاهر في المفروغية عن المطهرية منه، و هو المناسب لسيرة المتشرعة في المقام، و تسالم الأصحاب عليه المبني علي ارتكاز أن أثر الاغتسال من سنخ الانفصال بالنجاسة لا يتم مع الاعتصام، بل هو أخف ارتكازا، فيكون أولي منه بالعدم معه.

و منه يظهر عدم الفرق بين الكر و غيره من أقسام الماء المعتصم.

مضافا إلي ما عرفت من قصور خبر ابن سنان عنه، و إلي ما ورد في ماء الحمام من أنه بمنزلة الجاري، فإن مقتضي عموم التنزيل فيه الشمول لما نحن فيه.

هذا، و ربما يستدل علي كراهة استعمال الماء الكثير الذي اغتسل فيه الجنب بصحيح ابن بزيع، و خبر محمد بن علي بن جعفر المتقدمين.

لكن، الصحيح ظاهر في الماء المكشوف المعرض لكل طارئ- كما تقدم- و كذا الخبر علي ما تقدم عند الكلام في وجه الجمع بين خبر ابن سنان و صحيح علي ابن جعفر.

فالعمدة فيها صحيح محمد بن مسلم بعد فرض ظهوره في الماء الكثير، و لا محذور ظاهرا من البناء عليها. و مجرد السيرة علي استعمال الماء المذكور لا ينافيها.

و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم. و منه نستمد العون و التوفيق.

(1) مما تقدم يظهر وجوب التيمم، و أن الأحوط استحبابا هو إضافة الغسل أو الوضوء من الماء المذكور.

و إن كان الاحتياط المذكور مما لا ينبغي تركه، خصوصا بملاحظة صحيح ابن جعفر الظاهر في دخل الضرورة في جواز الاستعمال، و إن عرفت اضطرابه في نفسه.

بقي في المقام فروع ينبغي التعرض لها، و إن اتجه إهمالها من سيدنا المصنف قدّس سرّه بعد اختياره عدم المانعية.

ص: 373

______________________________

الأول: المعيار في كون الماء مستعملا علي الاستعانة به في رفع الحدث و كونه آلة له، كما هو مفاد الباء في قوله عليه السّلام في الخبر: «يغتسل به الرجل من الجنابة»، إلا أن الظاهر توقف المانعية علي مباينة الغسل الممنوع للغسل المانع عرفا، بحيث يكون ماء الثاني غسالة من الأول، إما لتعدد المغتسل أو لتعدد الغسل، أو لتعدد أجزاء الغسل الواحد، لانفصال الماء، بحيث يصدق عليه غسالته، و يكون الغسل به غسلا آخر، أما مع وحدة الغسل عرفا بالماء الواحد و سعته بجريانه بنفسه أو بالاستعانة باليد فلا بأس به، لانصراف النص عنه بعد تعارفه، بل امتناع الغسل عادة بدونه.

بل لا ينبغي التأمل فيه بعد النظر في النصوص المتضمنة لتعليم كيفية الاغتسال «1».

و ليس ذلك لأخذ الانفصال في صدق الاستعمال، بل لانصراف دليل المانعية عن شمول مثل ذلك مما كان مبنيا علي وحدة الغسل و الاستعمال و لو مع سعته.

بل الظاهر عدم قدح الانفصال إذا كان بالنحو المتعارف في الغسل الواحد كتقاطر الماء من الرأس علي الجسد في حال استعماله، لما ذكرنا أيضا.

كما لا يقدح استعمال بلة البدن الباقية عليه بعد غسله، لعدم صدق الغسالة و لا المستعمل عليه عرفا، فينصرف عنها الخبر، كما هو الحال في غسالة الخبث.

و يشهد به أيضا نصوص اللّمعة، الظاهرة في الأخذ من بلة البدن الباقية بعد الغسل، و التي مقتضي إطلاق بعضها عدم الفرق بين نقل البلة بالمسح من دون انفصال أو معه، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث: «قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة. فقال: إذا شك و كانت به بلة و هو في صلاته مسح بها عليه، و إن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلة.» «2».

و ليس المعيار فيما ذكرنا من وحدة الغسل علي المقدار الذي يقصد المغتسل

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة.

ص: 374

______________________________

غسله به، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه، بل لو قصد بصب الماء علي رأسه غسله، ثمَّ بدا له غسل غيره معه بإمرار يده صح.

كما أنه ليس المنشأ لذلك اعتبار إتمام الغسل في صدق الاستعمال فيه، ليكون لازمه جواز أخذ غير المغتسل من الغسالة قبل إتمامه، فضلا عن أخذ المغتسل نفسه لإتمامه.

لوضوح أن كل جزء من الغسل يترتب عليه ارتفاع الحدث، فيصدق علي الماء المستعمل فيه أنه مستعمل في غسل الجنابة مثلا، سواء قيل بطهارة كل عضو بغسله، أم بعدم طهارة شي ء من الأعضاء إلا بعد غسل الكل.

و مما ذكرنا يظهر الحال في الارتماس في الماء، فإنه إن كان للغسل الترتيبي صح في الجزء الأول و بطل فيما بعده، لصدق الماء المستعمل بالإضافة إليه، لتعدد الغسل عرفا، إلا أن يفرض استهلاك المستعمل لقلته بالإضافة للماء، علي ما يأتي في آخر الكلام في الفرع الثاني.

و إن كان للغسل الارتماسي صح، سواء نوي برمس أول جزء و استمر إلي آخره، أم برمس الجزء الأخير، أم بعد رمس تمام البدن بتحريكه- بناء علي جواز ذلك- لوحدة الغسل و الاستعمال عرفا، فلا يصدق الاستعمال من بعض أجزائه بالإضافة إلي البعض الآخر، بل هو نظير الغسل بإمرار الماء علي البدن.

و لعله إلي هذا يرجع ما في المقنعة، حيث قال بعد ذكر إجزاء الارتماس للجنب: «و لا ينبغي له أن يرتمس في الماء الراكد، فإنه إن كان قليلا أفسده»، لظهوره في أن الارتماس مفسد للماء و مانع من الاغتسال به بعده و بعد تحقق الغسل به، لا أن الشروع في الارتماس يمنع من الاغتسال بإتمامه.

نعم، قد يستفاد ذلك مما ذكره في التهذيب في تعليله، حيث قال: «فالوجه فيه: أن الجنب حكمه حكم النجس إلي أن يغتسل، فمتي لاقي الماء الذي يصح فيه قبول النجاسة فسد»، بل قد يظهر منه امتناع الغسل بالماء بمجرد إصابة الجنب له و إن لم ينو الاغتسال به.

ص: 375

______________________________

و هو غريب بعد قصور دليل المنع عنه، و شهادة غير واحد من النصوص «1» بنفي البأس عن إدخال الجنب يده في الإناء.

اللهم إلا أن يحمل علي ما ذكرنا بقرينة توجيهه لما في المقنعة، و استدلاله بصحيح ابن أبي يعفور و عنبسة «2» المتقدم في حكم البئر، و المتضمن لقوله عليه السّلام:

«و لا تقع في البئر، و لا تفسد علي القوم ماءهم».

هذا، و قد يتخيل أن لازم ما ذكرنا جواز ارتماس أكثر من شخص واحد دفعة.

و فيه: أن تعدد الغسل لتباين غسلهما موجب لصدق استعمال الماء من كل منهما بالإضافة إلي الآخر و مانعيته منه.

نعم، لازم ذلك عدم وقوع الغسل منهما معا، و عدم صدق المستعمل علي الماء، فيجوز استعماله لأحدهما أو لغيرهما. إلا أن يفرض سبق أحدهما حدوثا، فيصح غسله و يمنع من غسل الآخر و إن حصل قبل إكماله.

لكن، قد يتجه وقوع الغسل منهما مع عدم اختلاط الماء الذي يتحقق به غسل كل منهما بالآخر، كما يأتي في آخر الكلام في الفرع الآتي. فتأمل جيدا.

الثاني: لا ينبغي الإشكال في القطرات المنتضحة في الإناء من الغسل، للنصوص الكثيرة، كصحيح الفضيل: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عن الجنب يغتسل، فينتضح من الأرض في الإناء؟ فقال: لا بأس. هذا مما قال اللّٰه تعالي مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «3»، و نحوه صحيحه الآخر «4»، و قريب منه صحيحا شهاب بن عبد ربه و عمر بن يزيد و موثق سماعة «5».

هذا، مضافا إلي استهلاك القطرات في ماء الإناء بنحو لا يصدق عليه عرفا الماء المستعمل أو المختلط به. و من ثمَّ لا يكون لازم إطلاق من منع من استعمال

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 45 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 22.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 6، 7، 4.

ص: 376

______________________________

الماء المستعمل المنع منه في المقام، خصوصا مثل الشيخ الذي تعرض للنصوص المذكورة في بعض المقامات و لم ينبه لتوجيهها.

فلا وجه لما عن العلامة و غيره من أن لازم إطلاق الشيخ قدّس سرّه المنع في المقام، كما نبّه له في مفتاح الكرامة.

و أما ما يظهر من غير واحد من عدم الاستهلاك مع اتحاد الجنس.

فغير ظاهر، إذ ليس المنشأ لارتفاع أحكام أحد الجسمين باستهلاكه في الآخر إلا أن تفرق أجزائه فيه و غلبته عليه يلحقه بالمنعدم عرفا، فلا تترتب أحكامه، لعدم الموضوع لها عرفا بنحو ينصرف عنه عموم أدلتها و يمتنع استصحابها، و هذا جار في المقام، لعدم وجود الماء المستعمل عرفا.

و دعوي: أن لازم استهلاك القليل في الكثير عرفا مع وحدة الجنس استهلاك الكل، لانحلاله إلي أجزاء كل منها قليل بالإضافة إلي الباقي.

مدفوعة: بأن المراد بالاستهلاك إنما هو انعدام المستهلك بحده و خصوصيته المميزة له عن غيره، فلا بد من فرض تميّزه بجنس، أو وصف، أو حكم، أو نحوها، و إلا فلا موضوع للاستهلاك، إذ لا يراد به استهلاك الشي ء بذاته، كيف، و لا ريب في زيادة الكثير بالقليل وجدانا بنحو تحفظ معه ذاته عرفا. فالماء المستعمل بما هو مستعمل منعدم في المقام عرفا، و إن لم ينعدم بما هو ماء معري عن خصوصية الاستعمال، كما هو الحال مع اختلاف الجنس أيضا، إذ لو فرض اجتماع كمية بول من قطرات مختلفة لأبوال حيوانات مختلفة، فإن كلا منها مستهلك في الباقي بحيثية خصوصية حيوانه، و إن كان باقيا بذاته من حيث هو بول، لعدم المرجح بينها في ذلك.

هذا، مع أن الأمر في المقام لا يحتاج إلي ذلك- كما نبّه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه- إذ ليس المدعي عدم مانعية الماء المستعمل، ليتوقف علي استهلاكه، بل عدم صحة نسبة الاغتسال إليه، و لو ضمنا مع الاغتسال بالماء المستهلك فيه.

و من الظاهر أن المرجع في النسبة المذكورة التي هي موضوع البطلان هو

ص: 377

______________________________

العرف، فمع عدم صدقها لا مجال للبناء عليه. فتأمل.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن تمسك الإمام عليه السّلام في الصحيح السابق و غيره بآية نفي الحرج ظاهر في وجود مقتضي المنع في القطرات كغيرها.

ففيه: أنه لا ظهور له في تعليل نفي البأس في نفس القطرات بعد امتزاجها، بل في تعليل نفي البأس في نفس الماء الذي تقع فيه، لبيان عدم كونها سببا في امتناع استعماله لسراية الأثر منها إليه، نظير سراية النجاسة من القطرات النجسة، فهو يدل علي وجود مقتضي السراية فيها. و من الظاهر أن السراية المذكورة لو حصلت فهي قبل الامتزاج و الاستهلاك.

و مما ذكرنا يظهر لزوم التعدي إلي جميع موارد الاستهلاك و لو بغير القطرات، بل لا يبعد كون ذلك هو المدار حتي في القطرات التي هي مورد النصوص المتقدمة، لانصراف إطلاقها إليه، و قصوره عما لو لم تستهلك القطرات، لكثرتها أو قلة ماء الإناء.

و لا أقل من كون المتيقن من النصوص ورودها لبيان نفي البأس عن استعمال الماء الذي تقع فيه القطرات، لا عن استعمال نفس القطرات، إذا صحت نسبة الاستعمال إليها للاعتداد بها، و لذا لا ريب في قصوره عما لو لم يكن في الإناء ماء أصلا.

هذا، و ربما يدعي قصور دليل المنع عن هذه الصورة، فلا يهم معه قصور النصوص المتقدمة في جواز استعمال الماء المذكور.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «بل يمكن التزام الجواز مع تساويهما في المقدار، حيث أن ظاهر دليل المنع كون الاغتسال به، و ظاهره انحصار الغسل به. إلا أن يقال:

إن المراد استعماله في الغسل و إن كان بضميمة غيره، فيختص الجواز بصورة الاضمحلال».

و المتعين ما ذكره أخيرا، لظهور خبر ابن سنان في عدم صلوح الماء المذكور لرفع الحدث و لو منضما لغيره، و لذا لا ريب في عدم جواز استعمال الخالص منه في

ص: 378

______________________________

بعض الوضوء، فلو صح الوضوء أو الغسل به مع امتزاجه بغيره لكان رافعا للحدث.

و ليس الماء المركب مباينا للمستعمل، كي لا يكون رفع الحدث به منافيا للخبر.

نعم، لو استفيد من الخبر عدم استقلال الماء المستعمل برفع الحدث لا غير اتجه جواز رفع الحدث بالماء المذكور، كما يتجه جواز إيقاع بعض الوضوء بالمستعمل وحده. و لكنه بعيد جدا في المقام و نحوه، كالمياه المكروهة.

و منه يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من قصور الخبر عن المنع من استعمال الماء في الفرض، لعدم صدق المستعمل عليه.

علي أن ذلك لا يناسب استدلاله علي رافعية الماء المستعمل في غسل الجنابة للحدث بصحيح علي بن جعفر المتقدم، لوضوح تعذر حمله علي صورة استهلاك الباقي في الراجع.

نعم، لو فرض قلة الماء المستعمل الذي امتزج بالماء الذي يغتسل به، و تكثير صب الماء عند الغسل بنحو يعلم بتحقق غسل تمام البدن بالماء غير المستعمل، و إن غسل بالماء المستعمل أيضا اتجه صحة الغسل، إذ لا منشأ لقادحية مجرد المزج بالمستعمل في استعمال غيره، كما لا يقدح الغسل بالمستعمل في استعمال غيره.

فلاحظ.

كما أنه لو كان تركب الماء من المستعمل و غيره من دون امتزاج، أمكن استعمال القسم غير المستعمل منه، لخروجه عن دليل المنع، و عدم الدليل علي مانعية الاتصال بالمستعمل، لعدم الانفعال و السراية.

و مثله ما لو فرض وقوع الاستعمال في بعض الماء الواحد، كما لو كان هناك حوضان بينهما اتصال لا يقتضي الامتزاج، فاغتسل الجنب بأحدهما.

فإنه لا مانع من استعمال الآخر، لعدم صدق المستعمل عليه، بخلاف أجزاء الحوض الواحد، حيث يصح عرفا نسبة الاستعمال إلي تمام مائه، و إن كان الملاقي لبدن الجنب الذي تحقق الغسل به حقيقة قسما منه، لوضوح ابتناء نسبة الاستعمال للماء علي التوسع بلحاظ وحدته العرفية، لا علي الدقة بالإضافة إلي خصوص

ص: 379

______________________________

السطح الملاقي.

بل قد يقال: نسبة الاستعمال للماء و إن كانت مبنية علي التوسع، إلا أن مبني التوسع علي إلحاق قسم قليل مما يجاوز الملاقي لبدن الجنب بالملاقي بالنحو الذي تقتضيه طبيعة الغسل، و عدم الاقتصار علي خصوص السطح الملاقي، من دون أن يصح نسبة الغسل لتمام الماء مع كثرته و إن لم يبلغ كرا، بل ليس الغسل إلا ببعضه، فيكون حكم المجموع بعد الغسل حكم الممتزج بالمستعمل و غيره في جواز استعماله مع استهلاك المستعمل أو وقوع غسل تمام البدن بغيره لتكثير الماء حين الغسل.

و منه يتجه جواز اغتسال شخصين دفعة واحدة بالماء الواحد إذا لم يكن الغسل مبنيا علي امتزاج ماء كل منهما بماء الآخر حينه، كما أشرنا إليه في آخر الكلام في الفرع الأول. فتأمل جيدا.

الثالث: قال في مفتاح الكرامة: «و ليعلم أن مرادهم بالحدث الأكبر هنا ما عدا غسل الأموات، لنجاسة الماء القليل بملاقاة الميت. كذا قال في المهذب البارع.

و الفاضل العجلي لم يستثن و قال بطهارة الجميع. و رماه بالضعف أبو العباس».

و لا يخفي أن الحكم بطهارة بدن الميت بالغسل إن كان مبنيا علي مطهرية الغسل، فالوجه لنجاسة الغسالة من الخبث جار فيه.

و إن كان تعبديا مع كون الغسل متمحضا في رفع حدث الموت فالأمر أظهر، حيث يكون الماء ملاقيا لبدن الميت النجس من دون غسل به، و نجاسة الملاقي أظهر من نجاسة الغسالة.

اللهم إلا أن يلحق بالغسالة بلحاظ شمول بعض الأدلة المسوقة لطهارتها له، كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي.

الرابع: الظاهر قصور دليل المنع في طرف المانعية و الممنوعية عن استعمال الماء فيما هو من توابع الوضوء أو الغسل من المستحبات، كغسل اليدين و المضمضة و غيرهما، لخروجها عن الوضوء و الغسل، و إن فرض أن لها دخلا في

ص: 380

______________________________

بعض مراتب الطهارة الحاصلة بهما، و لا دليل علي تبعيتها لها في الحكم المذكور مع ذلك.

الخامس: لا بد في المانعية بالاغتسال من إحراز الحدث الأكبر بالوجدان أو الأمارة أو الأصل، و لا يكفي فيها الغسل احتياطا و إن كان الاحتياط لازما لمنجزية احتمال الحدث، كما في تعاقب الحدث و الطهارة مع الجهل بالتاريخ، و في الشبهة الحكمية مع التقصير في الفحص، لعدم إحراز موضوع المانعية في ذلك.

بل اللازم الرجوع في الماء المذكور للأصل الخاص به، ففي المثال الأول يتجه الرجوع لاستصحاب عدم الاغتسال به من الحدث، و في المثال الثاني يتعين الاحتياط في الماء بالجمع بين المحتملات، كما في الاغتسال الأول به، لاشتراكهما في الجهة الموجبة له، و هي التقصير في الفحص عن الحكم الشرعي.

السادس: الظاهر منهم التسالم علي أن اتصال المستعمل بالمعتصم بالنحو الذي يطهّر الماء من النجاسة رافع للمانعية عنه، كما يمنع من حدوثها فيه، علي ما تقدم.

و العمدة فيه- مع التسالم المذكور- ما أشرنا إليه آنفا من الأولوية الارتكازية، لأن المانعية- ارتكازا- ناشئة من نحو من القذر يحمله الماء بالاغتسال به أخف من النجاسة، فلا بد أن يرتفع بما ترتفع به، كما يندفع بما تندفع به.

و لو لم يتم ذلك لزم البناء علي بقاء المانعية لإطلاق دليلها، لاختصاص أدلة التطهير بالاتصال بالمعتصم بالنجاسة، فلا تنهض برفع اليد عنه، بل يتعين رفع اليد به عن عموم طهورية الماء.

هذا، و قد صرح في محكي المبسوط بأنه لو جمع الماء الذي يغتسل به حتي بلغ كرا ارتفعت عنه المانعية، و هو المحكي عن المنتهي و المقتصر.

خلافا لما في المعتبر و عن الدلائل و الذخيرة من بقاء المانعية، و تردد فيه في الخلاف، بل ربما يظهر منه الميل إلي ارتفاعها، و بناه في محكي الذكري علي الخلاف في مسألة الطهارة بالتتميم كرا.

ص: 381

و المستعمل في رفع الخبث نجس (1)،

______________________________

و لعله عليه يبتني ما تقدم من ابن حمزة في الوسيلة، حيث ذكر مانعية الاستعمال في الطهارة الكبري، ثمَّ قال: «إلا بعد أن يبلغ كرا فصاعدا بالماء الطاهر»، لأنه يعتبر في مطهرية التتميم أن يكون بالماء الطاهر.

و كيف كان، فالظاهر عدم ارتفاع المانعية عنه بتتميمه من الماء غير المستعمل، فضلا عن تتميمه بالماء المستعمل، عملا بإطلاق خبر ابن سنان المتقدم، لعدم المخرج عنه هنا من ارتكاز أو غيره بعد ما تقدم من عدم رافعية التتميم للنجاسة.

و مجرد مانعيته منها لا يقتضي رافعيته للمانعية في المقام.

و ما عن المنتهي من أن عدم زوال النجاسة لارتفاع قوة الطهارة، بخلاف ما نحن فيه- كما تري- لارتفاع قوة الطهورية في المقام أيضا.

علي أن مثل ذلك لا يصلح للخروج عن الإطلاق.

هذا تمام الكلام في فروع هذه المسألة، و يظهر حال بعض فروعها مما تقدم في مطاوي الاستدلال. و اللّٰه سبحانه ولي التوفيق.

(1) كما ذهب إليه المحقق قدّس سرّه في الشرائع و النافع و المعتبر، و العلامة في القواعد و عن جملة من كتبه، و الشهيدين في اللمعتين و ظاهر المسالك، و عن الدروس، و الألفية و شرحها، و المحقق الثاني في جامع المقاصد، و الفاضل الهندي في ظاهر كشف اللثام، و حكي أيضا عن الشيخ قدّس سرّه في موضع من الخلاف و موضعين من المبسوط، و مجمع الفوائد و التنقيح، و ظاهر المقنع و المجمع.

و في جامع المقاصد أنه الأشهر بين متأخري الأصحاب، و عن الروض أنه أشهر الأقوال.

و العمدة فيه عموم انفعال الماء القليل الذي تقدم في أوائل الفصل الثاني تنقيحه، و أن المستفاد من الأدلة هو انفعال الماء بكل نجاسة تنجس غيره، و أن سبب النجاسة هو الملاقاة بالوجه المقتضي للانفعال عرفا.

ص: 382

______________________________

بل ذكرنا أن العموم بالوجه المذكور ارتكازي مفروغ عنه عند الكل ظاهرا، كما يظهر من حال كثير ممّن خرج عنه في بعض الموارد، حيث لم يناقش في العموم المذكور، بل ادّعي الملزم بالخروج عنه، و منه المقام، فإن غير واحد من القائلين بالطهارة علي اختلافهم من حيثية الإطلاق و التفصيل اهتموا ببيان المخرج عن العموم المذكور.

و من الظاهر أن خصوصية الغسل بالماء لا دخل لها ارتكازا في عدم انفعاله.

بل التفكيك بين الغسل الذي يقصد به تليين المتنجس الحامل لعين النجاسة لتسهيل قلع النجاسة عنه من دون أن يكون دخيلا في تطهيره، و الغسل الدخيل في التطهير مما تأباه المرتكزات العرفية جدا.

بل المرتكز عرفا أن غسالة النجاسة الشرعية كغسالة القذارات العرفية تحمل القذر الرافعة له عن المغسول بنحو تستقذر بسببه، فلو لم يكن انفعال الماء بها أولي من انفعاله بالملاقاة فلا أقل من كونه من أفراده.

و يؤيد ما ذكرنا من ارتكازية العموم للغسالة خبر الأحول أو غيره المتضمن لعدم البأس بإصابة الثوب لماء الاستنجاء- كما نبّه له الفقيه الهمداني- حيث قال عليه السّلام:

«أو تدري لم صار لا بأس به؟ قال: قلت: لا و اللّٰه، فقال: إن الماء أكثر من القذر» «1»، فإن جهل السائل بعلة الحكم و اهتمام الإمام عليه السّلام ببيانها شاهد بعدم ارتكازية الحكم المذكور، بل حلف السائل ظاهر في استنكاره له، و لا وجه لهما إلا ارتكاز عموم الانفعال للغسالة.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في شمول العموم المذكور للمقام، و لا حاجة إلي إتعاب النفس في ذلك، كما لا ينبغي إنكاره و إن صدر من غير واحد من المتأخرين.

و قد تقدم في مبحث انفعال القليل ما ينفع في المقام. فراجع.

هذا، و قد يستدل علي النجاسة ببعض النصوص الخاصة.

منها: موثق سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: إذا أصاب الرجل جنابة فأراد

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

ص: 383

______________________________

الغسل فليفرغ علي كفيه، فليغسلهما دون المرفق، ثمَّ يدخل يده في إنائه ثمَّ يغسل فرجه، ثمَّ ليصب علي رأسه ثلاث مرات ملأ كفيه، ثمَّ يضرب بكف من ماء علي صدره و كف بين كتفيه، ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله، فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع و ما وصفت لك فلا بأس» «1»، لظهوره في دخل الكيفية المذكورة في عدم البأس بالانتضاح من ماء الغسل في الإناء.

و بعد المفروغية عن عدم البأس بانتضاح ماء الغسل في نفسه لا بد أن يكون ثبوت البأس بمخالفة الكيفية المذكورة من جهة الإخلال بتطهير الفرج، لكون غسله في أثناء الغسل موجبا لاختلاط غسالته بالغسالة و انفعاله بها، الموجب لانفعال الماء بانتضاحه فيه.

و كما قد يشير إلي ذلك ما في صحيح عمر بن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

اغتسل في مغتسل يبال فيه و يغتسل من الجنابة، فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض.

فقال: لا بأس به» «2»، لظهور السؤال فيه في المفروغية عن تنجس المغتسل بالاغتسال من الجنابة كتنجسه بالبول فيه، حيث لا يبعد حمله علي ما يتعارف من تطهير الجنب مواضع المني في المغتسل.

و منها: خبر العيص بن القاسم المروي في الخلاف: «سألته عن رجل أصابه قطرة من طست فيه وضوء؟ فقال: إن كان الوضوء من بول أو قذر فليغسل ما أصابه، و إن كان وضوؤه للصلاة فلا يضره» «3»، و روي صدره في المعتبر و محكي المنتهي و الذكري.

لكن، قد يشكل الاستدلال به، لإرساله في الخلاف و غيره عن العيص خاليا عن ذكر السند.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 7.

(3) الخلاف كتاب الطهارة المسألة: 135، و روي صدره في الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 14.

ص: 384

______________________________

و إن كان من القريب جدا أخذ الشيخ قدّس سرّه له من كتابه الذي ذكر في الفهرست طريقه إليه، و هو حسن أو صحيح، و ذلك إن لم ينهض بكونه حجة ينهض بكونه مؤيدا.

و منها: موثق عمار الوارد في تطهير الإناء و الكوز، و فيه: «قال: يغسل ثلاث مرات يصب فيه الماء فيحرك فيه ثمَّ يفرغ منه، ثمَّ يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثمَّ يفرغ ذلك الماء، ثمَّ يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثمَّ يفرغ منه و قد طهر» «1»، فإن تفريغ الماء ظاهر في عدم الانتفاع به الظاهر في نجاسته، إذ لا يراد به التفريغ في محل ينتفع به، لإمكان الانتفاع به في الإناء المغسول نفسه، بل المراد به ما يساوق الإهراق الراجع إلي عدم الانتفاع بالماء، فيكون ظاهرا في نجاسته، خصوصا في الغسلة الأخيرة، لحصول التطهير، و عدم استقذار الماء بعد الغسلة الاولي.

بل هو صريح في عدم الاكتفاء في الغسلات الثلاث بالماء الواحد، فيدل علي عدم مطهرية ماء الغسلتين الأوليين من الخبث، فيؤيد القول بالانفعال جدا.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن إفراغه قد يكون لاعتبار انفصال ماء الغسالة في التطهير في جميع الغسلات.

فيدفعه: أنه لا مجال لاحتمال اعتبار انفصال الماء عن تمام الإناء في طهارة كل جزء منه، و غاية ما يمكن اعتباره هو توقف طهارة كل جزء علي انفصال الماء عنه، و ذلك يحصل بتحريك الماء في الإناء و نقله من جزء لآخر المفروض في الموثق.

و أشكل منه ما ذكره بعض مشايخنا من توقف صدق الغسل علي التفريغ، لوضوح كفاية التحريك المفروض في صدقه، و لا أثر للتفريغ إلا أن يتوقف عليه التحريك، كما لو فرض استيعاب الماء للإناء، و هو خلاف مفروض الرواية.

و منه: يظهر إمكان تعدد الغسلات مع وحدة الماء من دون تفريغ، بتكرار التحريك المستوعب لأجزاء الإناء فالأمر بالتفريغ يدل علي نجاسة الغسالة.

نعم، هو موقوف علي صلوح ماء الغسالة علي القول بطهارته لرفع الخبث.

______________________________

(1) الوسائل باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 385

______________________________

و منها: ما تضمن الأمر بإراقة الماء بإدخال الجنب يده النجسة في الإناء من النصوص المتقدمة في مبحث انفعال الماء بملاقاة المتنجس، لشمولها لما إذا لم تكن اليد حاملة لعين النجاسة، فتطهر بمجرد إدخال اليد في الإناء، و يكون ما في الإناء غسالة لها و إن لم يقصد به ذلك.

و احتمال كون الأمر بالإراقة بلحاظ عدم مطهريته مطلقا أو من الحدث، لا نجاسته.

خلاف الظاهر جدا، لظهوره في عدم صلوح الماء للانتفاع المعتد به، المناسب ارتكازا لاستقذاره شرعا و نجاسته، بنحو يكون لازما عرفيا له، و إن لم يكن لازما عقليا.

خصوصا مع أن سقوط المستعمل عن الطهورية مع طهارته في نفسه ليس أمرا واضحا، ليمكن اتكال المتكلم علي وضوحه في إرادته، بل هو تعبدي خفي لقلة الأدلة عليه.

نعم، الاستدلال المذكور موقوف علي عدم اعتبار الورود في التطهير، و هو غير بعيد، و تمام الكلام فيه في مبحث المطهرات.

و منها: بعض النصوص الظاهرة في خصوصية المعتصم في طهارة الغسالة، كموثق حنان: «سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إني أدخل الحمام في السحر و فيه الجنب و غير ذلك، فأقوم فاغتسل، فينتضح عليّ بعد ما أفرغ من مائهم. قال:

أ ليس هو جار؟ قلت: بلي. قال: لا بأس» «1»، لظهوره في أن منشأ عدم البأس اعتصام الماء بالجريان، لا عدم انفعال الماء بنفسه.

بل هو الظاهر من أكثر نصوص الحمام، لظهورها في خصوصيته.

و خبر علي بن جعفر عن أخيه موسي عليه السّلام: «و سألته عن الكنيف يكون فوق البيت. فيصيبه المطر. فيكف فيصيب الثياب، أ يصلي فيها قبل أن تغسل؟ قال: إذا

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 8.

ص: 386

______________________________

جري من ماء المطر فلا بأس» «1».

فإن الذي يقع عليه الماء من الكنيف قد لا يكون فيه عين النجاسة، فيطهره الماء الجاري عليه، و يكون ماء غسالة، فلو كان ماء الغسالة طاهرا لزم إلغاء خصوصية المطر.

اللهم إلا أن يستشكل في الأول باحتمال كون منشأ السؤال احتمال نجاسة الماء بملاقاتهم له، لا لكونه غسالة لهم، لأنه لا يخلو عن إجمال في نفسه، كما يظهر مما تقدم في المسألة العشرين من الفصل السابق. و كذا الحال في بقية نصوص الحمام.

نعم، بناء علي عدم اعتبار الورود في التطهير لا يبعد ظهورها في نجاسة الغسالة، لصعوبة حملها حينئذ علي خصوص الملاقاة غير المطهرة.

و يشكل الثاني بضعف السند، و إن كان وجوده في كتاب علي بن جعفر و قرب الإسناد معا مؤيد قوي لصحته، فلا أقل من كونه مؤيدا.

و منها: نصوص النهي عن غسالة الحمام «2»، فإنها و إن كانت معارضة بما دل علي طهارة غسالته، إلا أنها عللت طهارتها بالاتصال بالمادة، فتدل علي نجاستها لو لا المادة، كذا ذكر بعض مشايخنا.

لكن، ليس في نصوص الغسالة ما يظهر منه التقييد بالمادة، و إنما ورد في نصوص ماء الحمام، و هو غير الغسالة، كما تقدم عند الكلام في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

بل تقدم منه هناك حمل نصوص الغسالة علي الكراهة، بلحاظ احتمال اشتمالها علي النجاسة جمعا بين النصوص، و إن كان الجمع المذكور غير ظاهر أيضا، كما تقدم.

و كيف كان، فيشكل في الاستدلال المذكور بأن التعليل في النصوص

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

(2) راجع الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل.

ص: 387

______________________________

المذكورة بغسالة اليهودي، و النصراني، و الناصب، و ولد الزنا، مانع من الاستدلال بها للمقام، إذ بناء علي نجاستهم لا يكون الغسل مطهرا لهم، فتخرج غسالتهم عن محل الكلام، و بناء علي طهارتهم ينحصر الوجه في الخباثة المعنوية الموجبة للكراهة، و تكون أجنبية عما نحن فيه أيضا.

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا: أن العمدة في المقام هو العموم المؤيد بالنصوص المتقدمة، بل بعضها صالح للاستدلال في نفسه، لظهوره في المفروغية عن الحكم المذكور، و إن لم يكن مسوقا لبيانه، فتكشف عن شمول العموم، إذ لا موجب للمفروغية لولاه.

و منه يظهر أن النجاسة مشروطة بنجاسة المغسول، فالغسالة الحاصلة بعد تطهيره من استمرار الصب أو تعدد الغسلات طاهرة، كغسالة ما هو طاهر في نفسه، لقصور العموم و النصوص الخاصة عنها، كما لا يخفي، و الظاهر أنه لا قائل بنجاستها، و إن نسب للفاضلين نجاسة الغسالة و لو مع ترامي الغسلات، لخطأ النسبة، كما أشار إليه غير واحد.

هذا، و قد ذهب في المدارك و الجواهر إلي طهارة الغسالة مطلقا، و حكي ذلك عن ظاهر الذكري و شرح الإرشاد. و في مفتاح الكرامة أنه نسب للبصروي و الكركي في بعض فوائده، بل فيه أنه نسب إلي جماعة من متقدمي الأصحاب، بل عن مجمع الفوائد نسبته إلي أكثر المتقدمين، و عن كشف الالتباس أن عليه فتوي شيوخ المذهب كالسيد و الشيخ و ابن أبي عقيل و ابني حمزة و إدريس.

لكن الظاهر أن منشأ نسبته لابن أبي عقيل و المرتضي و ابن إدريس ذهابهم إلي عدم انفعال الماء القليل مطلقا أو بوروده علي النجاسة من دون خصوصية للغسالة، و هو أجنبي عن محل الكلام.

كما لا يبعد أن يكون نسبته لابن حمزة و البصروي و كثير من المتقدمين لمساواتهم بينه و بين المستعمل في رفع الحدث الأكبر في عدم المطهرية، و هو

ص: 388

______________________________

أجنبي أيضا، بل قد يستظهر من بعضهم نجاسة المستعمل في رفع الحدث الأكبر بسبب مساواته بينه و بين الغسالة.

و كيف كان، فعمدة ما يظهر منهم في وجه ذلك المناقشة في العموم المذكور.

تارة: بإنكار الدليل عليه، لانحصاره بمفهوم نصوص الكر، و هو يقتضي تنجس القليل بالملاقاة في الجملة في مقابل الحكم بعدم تنجس الكر مطلقا في المنطوق، و لا ينفع في إثبات العموم.

و اخري: بمنافاته- لو تمَّ في نفسه- لعموم عدم مطهرية المتنجس، بل ما دل علي نجاسة القليل في نفسه، لأن معناها: لا يرفع حدثا و لا يزيل خبثا، كما في الجواهر.

و الالتزام بنجاسته بعد الانفصال- كما عن العلامة قدّس سرّه- لا يقتضيه عموم الانفعال، لظهوره في النجاسة بالملاقاة حينها، لا بعدها، و لا دليل عليها غيره.

و قد اهتم في الجواهر بتقريب الوجوه المرجحة للعموم الثاني- بما سوف نشير إلي المهم منه إن شاء اللّٰه تعالي- و ذكر أنه لا أقل من تساقطهما و الرجوع للأصل، المقتضي للطهارة.

و يندفع الأول: بما تقدم في مبحث انفعال القليل و في الاستدلال للنجاسة هنا من تمامية الدليل علي العموم المعتضد بالنصوص الخاصة.

و الثاني: بأن عموم عدم مطهرية المتنجس و إن كان ارتكازيا أيضا، إلا أن المرتكز هو اعتبار الطهارة في المطهر مع قطع النظر عن التطهير به، فلا ينافي تنجسه بالتطهير به، كما هو الحال في التنظيف من القذارات العرفية، بل هو الحال في سائر العناوين المأخوذة في الأسباب، فإذا قيل: لا يكسر الحجر إلا حجر أصلب منه، و لا يغسل الرمل إلا ماء أكثر منه، لم يعتبر إلا الصلابة و الكثرة مع قطع النظر عن الكسر و التطهير، فلا ينافي انحلال الكاسر بالكسر و قلة الماء بغسل الرمل به.

ص: 389

______________________________

و نظير ذلك تراب التطهير من الولوغ، و كذا حجر الاستنجاء المعتبر فيه الطهارة، و لا يضر نجاسته بنفس الاستنجاء به لو فرض سريان رطوبة المحل إليه قبل إكمال المسح به.

و ما في الجواهر من أن التطهير به إنما هو بمعني مطهرية زوال العين به، نظير زوالها في الحيوان، و ليس هو نظير التطهير بالماء.

مخالف لظاهر الأدلة، بل لا يناسب اعتبار طهارته، خصوصا مع عدم الرطوبة المسرية، بل لا يناسب لزوم المسح به و لو مع زوال العين عند بعضهم.

بل ما ذكرنا من حمل العموم المذكور علي لزوم الطهارة من غير جهة التطهير هو مقتضي ما تقدم من ارتكاز شمول عموم الانفعال للمقام، حيث يتعين الجمع بين العمومين بالوجه المذكور، و ليس هو من سنخ الجمع العرفي المخالف لظهور الدليل بدوا، لامتناع التنافي بين الارتكازين، غاية الأمر أنه قد يعبر عن الأمر الارتكازي بما يوهم العموم و المنافاة للارتكاز الآخر.

مضافا إلي أنه لو فرض التنافي بين العمومين فلا مجال لتقديم عموم اعتبار الطهارة في المطهر، للعلم بعدم حجيته في المقام، لخروجه عنه تخصصا أو تخصيصا، و ليس العام حجة في نفي التخصيص و تعيين التخصص عند الدوران بينهما، ليكون العموم بذلك معارضا لعموم انفعال القليل في المقام.

و منه يظهر أنه لا مجال للإشكال في عموم تنجيس المتنجس بأنه كما يقتضي تنجس الماء بالثوب المغسول به مثلا، يقتضي تنجس الثوب بالماء بعد فرض تنجسه، و حيث يعلم بقصوره في المقام عن أحد الأمرين فلا طريق لإثبات الأول به.

لاندفاعه: بأنه بعد عدم شمول العموم للثاني تخصيصا أو تخصصا يتعين حجيته في الأول بعد فرض شموله له.

ص: 390

______________________________

و قد ظهر بذلك أنه لا مجال لدعوي تساقط العمومين و الرجوع للأصل، فضلا عن دعوي ترجيح العموم الثاني.

نعم، ما ذكره في الجواهر من المرجحات قد يدعي صلوحه بنفسه للخروج عن عموم الانفعال لو تمَّ في نفسه، فالمناسب التعرض لما ذكره و نحوه مما قد يستدل به علي الطهارة، و هي أمور.

الأول: بعض النصوص التي قد يستفاد منها الطهارة تصريحا أو تلويحا، كعموم تعليل طهارة ماء الاستنجاء بأن الماء أكثر من القذر في الخبر المتقدم عند الكلام في تنقيح عموم الانفعال، المؤيد بجميع نصوص الاستنجاء، لعدم ظهورها في خصوصيته.

و موثق الأحول و صحيحه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قلت: له: استنجي ثمَّ يقع ثوبي فيه و أنا جنب. فقال: لا بأس به» «1». لقرب حمله علي إرادة غسل المني مع الاستنجاء بقرينة ذكر الجنابة، لبعد احتمال دخل حدثها في حكم ماء الاستنجاء كي يحتاج لذكرها في السؤال.

و صحيح عمر بن يزيد «2» المتقدم في أخبار النجاسة المتضمن عدم البأس بما يقطر في الإناء من الأرض المتنجسة مع أنه غسالة لها.

و صحيح ابن مسلم الوارد في غسل الثوب في المركن مرتين «3»، فلو كان ماء الغسالة نجسا لنجّس الثوب بعد خروجه منه بالغمز و نحوه و اجتماعه معه في الإناء، بل لنجّس الإناء، فتنجّس الثوب بمباشرته و امتنع غسله به مرة أخري إلا بعد تطهيره، و ليس بناؤهم عليه، و ما ورد من الاكتفاء بصب الماء علي الثوب من بول الرضيع الذي لم يتغذ بالطعام «4» مع استلزامه نفوذ الغسالة في الثوب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 391

______________________________

و صحيح موسي بن القاسم، عن إبراهيم بن عبد الحميد: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الثوب يصيبه البول، فينفذ إلي الجانب الآخر، و عن الفرو و ما فيه من الحشو، قال: اغسل ما أصاب منه و مس الجانب الآخر، فإن أحببت مس شي ء منه فاغسله و إلا فانضحه بالماء» «1»، لظهوره في عدم البأس بنفوذ الغسالة في الحشو.

و ما تضمن تطهير النبي صلّي اللّٰه عليه و آله المسجد من بول الأعرابي بإلقاء ذنوب من الماء عليه «2»، المستلزم لغوص ماء الغسالة في باطن أرض المسجد الذي لا يجوز تنجيسه كظاهره.

لكن، الظاهر عدم صلوح النصوص المذكورة للتأييد المعتد به، فضلا عن الاستدلال. لظهور التعليل في أن المدار في عدم الانفعال علي كون الماء أكثر من القذر، و لا إشكال في عدم البناء علي ذلك، سواء أريد الجمود علي ظاهره أم تنزيله علي عدم تغير الماء، لفرض انفعال القليل و إن لم يتغير.

و تنزيله علي إرادة غلبة الماء للقذر لإزالته له، ليعم جميع أنواع الغسالة، بعيد عن ظاهره جدا، إذ لا يترتب ذلك علي الكثرة، بحيث يكون لازما ذهنيا لها، ليراد منها.

و بقية نصوص الاستنجاء و إن لم تظهر في اختصاص الطهارة به، إلا أنه لا مجال لإلغاء خصوصيته مع ما هو المعلوم من خصوصية الاستنجاء بنحو من التسهيل، كالاكتفاء فيه بالأحجار، لمناسبة ذلك لكثرة الابتلاء به و صعوبة التوقي عنه، بل أخذ عنوانه في الأسئلة قد يشعر بخصوصية المخرجة له عن القاعدة حتي يحتاج فيه للسؤال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل باب: 52 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 392

______________________________

و موثق الأحول- مع عدم وضوح بلوغه مرتبة الظهور الحجة- معارض بموثق سماعة المتقدم في أدلة النجاسة، كما نبّه له الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

علي أن غاية ما يدل عليه عموم حكم الاستنجاء لصورة غسل المني تبعا للبول، و لا ينفع في إثبات طهارة غسالة المني مطلقا، فضلا عن غسالة غيره، و الإجماع علي عدم الفصل في مثل ذلك غير ظاهر.

و صحيح عمر بن يزيد- مع عدم وضوح كونه فيما نحن فيه، لعدم وضوح مطهرية القطرة للموضع النجس، لتكون غسالة له- من القريب حمله علي الطهارة الظاهرية، لعدم العلم بإصابة القطرة للموضع النجس، كما تقدم في مبحث انفعال الماء القليل عند الكلام في الملاقاة غير المستقرة، بل تقدم في الاستدلال لنجاسة الغسالة أن السؤال فيه مشعر بالمفروغية عن نجاستها.

و صحيح ابن مسلم إنما يقتضي عدم تنجيس الغسالة و الإناء حين تطهيره بهما، و قد عرفت أن مثل ذلك لا ينافي نجاستها.

و العفو عن نجاسة المركن أو طهارته بالتبع غير عزيز، بل هو نظير طهارة يد الغاسل للميت، و آلات الخمر التي تنقلب خلا، و آلات النزح بناء علي نجاسة البئر، و غير ذلك مما لا ينافي الانفعال عندهم.

علي أن ذلك لا يختص بالغسالة، بل يجري في نفس الثوب، حيث يمس الإناء برطوبة.

و ما ورد من الاكتفاء بالصب في بول الصبي المذكور مختص بمورده المبني علي نحو من التخفيف، فلا يتعدي لغيره مما وجب فيه الغسل و العصر من أقسام البول، فضلا عن غيره.

و صحيح موسي بن القاسم- مع عدم خلوه عن الاضطراب- لا يختص الإشكال فيه بنفوذ الغسالة، بل يجري في نفوذ البول، فأما أن يحمل علي غسل تمام ما أصابه البول، المستلزم لخروج القسم المعتد به من الغسالة بالغمز و نحوه، أو علي غسل الظاهر وحده، للتخلص من محذور مسه مع بقاء الحشو علي نجاسته، كما لعله

ص: 393

______________________________

ظاهر الجواب.

و أما حديث تطهير النبي صلّي اللّٰه عليه و آله للمسجد بالذنوب فهو- مع ضعف سنده جدا بإرساله عن أبي هريرة في غوالي اللئالي، و معارضته بما روي من أمره صلّي اللّٰه عليه و آله بإخراج التراب الذي بال عليه الأعرابي و إلقاء الماء بعده «1» - لا يدل علي طهارة الغسالة، لإجمال الواقعة فيه، لإمكان صلابة المحل و تدافع الماء منه إلي خارج المسجد، كما قد يناسبه كثرة ماء الذنوب، أو كون إهراق الماء مقدمة لتطهيره بالشمس.

مع قرب ابتنائه علي العفو عن مثل هذه النجاسة الباطنة في المسجد، نظير ما ورد في غير واحد من النصوص «2» من جواز اتخاذ الحش مسجدا إذا ألقي عليه من التراب ما يواريه، بل في بعضها أن ذلك يطهره.

الثاني: عسر التحرز عنها في كثير من المقامات بالنسبة إلي جريانها إلي غير محل النجاسة، و مقدار التقاطر و مقدار المختلف و نحوها، و الرجوع للعرف لا أثر له في الأدلة الشرعية، بل عمل القائلين بالنجاسة مخالف لفتواهم، لعدم تحرزهم عما يتخلف و يتقاطر، و ربما كان أكثر مما انفصل، خصوصا في مواضع الشعر و نحوه.

هذا ما ذكره في الجواهر. و كأن مراده العسر النوعي، المستلزم للهرج و المرج، و الكاشف عن عدم جعل الحكم رأسا.

لكن لا يخفي أن منشأ لزوم العسر في كلامه هو ملاحظة اللوازم المذكورة و التدقيق فيها، و فرض عدم الرجوع فيها للعرف، لعدم الدليل علي مرجعيته.

و من الظاهر أن ذلك بنفسه دليل علي الاكتفاء بالمتعارف في تحديد هذه الأمور و حملها علي غسالة القذارات العرفية، إذ عدم لزوم الهرج و المرج خارجا كاشف عن سيرة المتشرعة علي الاكتفاء بالوجه المذكور في التحرز المطلوب.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 52 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) راجع الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام المساجد.

ص: 394

______________________________

و عليه يحمل فتوي القائلين بالنجاسة، فلا تخالف عملهم. و لا طريق مع ذلك لاستكشاف طهارة الغسالة مطلقا حتي في مورد تعارف الاجتناب عنها.

علي أن كثرة المتخلف بعد الصب لا أهمية لها مع انفصال المقدار المتعارف في أول الصب، لأن المتخلف إنما يكون من استمرار الصب بعد تمامية التطهير، و ليس هو ما يجري في أول الصب و يكون به التطهير لينجس. فتأمل.

هذا، و لو أريد الاستدلال بالحرج الشخصي، الذي هو موضوع قاعدة الرفع كان أشكل، إذ هو- مع عدم صلوحه لرفع النجاسة و نحوها من الأحكام الوضعية، بل لا يقتضي إلا جواز الارتكاب- غير لازم في المقام بالإضافة إلي ما هو محل الكلام، و لا سيما مع تعارف الاجتناب لغلبة الاستقذار.

نعم، قد يلزم من بعض المقارنات الناشئة من التدقيقات و الاحتياطات و الوساوس التي قد تستلزم الحرج في كثير من الموارد المقطوعة النجاسة.

الثالث: خلو الأخبار و كلمات القدماء عن التعرض لنجاسة الغسالة، مع عموم الابتلاء بها و بفروعها الدقيقة، كالقطرات و يد المباشر و نحوهما.

و فيه: ان هذا لا يكشف عن طهارتها، بل عن وضوح حكمها و الاستغناء عن التعرض لها بالخصوص اكتفاء بالأصل، أو العموم، أو السيرة، أو الارتكاز، أو نحوها.

و حيث صرحوا بعموم انفعال الماء القليل و دلت عليه النصوص كان السكوت المذكور في المقام شاهدا بالنجاسة لا بالطهارة، و لا سيما مع ما تقدم من دلالة بعض النصوص علي المفروغية عن ذلك، و استحكام ارتكاز نجاستها، قياسا علي غسالة القذرات العرفية، بل تعارف الاجتناب عنها لاستقذارها، فان بناءهم مع ذلك علي طهارتها و الاعتماد في بيانها علي الأصل بعيد جدا.

و ليست الوجوه التي ساقوها للطهارة من الوضوح و الارتكاز بحد يعتمد عليه في مقام البيان و يستغني بها عن التنبيه علي استثنائها من عموم الانفعال- كما يظهر بالتأمل فيها- و لذا احتاجوا إلي استثناء ماء الاستنجاء، بل ظاهر ذكرهم له

ص: 395

______________________________

خصوصية، نظير ما تقدم عند الكلام في نصوصه.

و أما الفروع المشار إليها- كالقطرات، و يد المباشر، و نحوهما- فإهمالها اعتمادا علي التعارف غير عزيز، كما هو الحال في جميع موارد الطهارة بالتبعية، كيد غاسل الميت، و آلات النزح، و انقلاب الخمر خلا، و غيرها.

فالإنصاف أن الوجه المذكور من أقوي أدلة النجاسة.

هذه عمدة المؤيدات أو الأدلة المذكورة في كلماتهم للقول بالطهارة، و ربما يظهر منهم التأييد بوجوه أخر ظاهرة الوهن لا مجال لإطالة الكلام فيها.

هذا، و في الخلاف، و عن المبسوط التفصيل في غسالة الثوب بين الغسلة الأولي، فتنجس، و الثانية، فلا تنجس.

و استدل في الخلاف لكل منهما بما يعم الغسلتين، بل صرح فيه- كما عن المبسوط أيضا- بطهارة غسالة الولوغ في جميع الغسلات، و عن السرائر النجاسة في الغسلة الاولي لا غير. و ربما نزل هذا التفصيل علي أحد تفصيلين قال بكل منهما جماعة.

الأول: اختصاص الطهارة بغير الغسلة المزيلة لعين النجاسة، أما فيها فالغسالة نجسة، بل ربما قيل بعدم الخلاف في نجاستها، و أن القائل بالطهارة إنما يقول بها في غيرها، و إن كان هو خلاف صريح الجواهر.

و كيف كان، فقد يوجّه بأنه لا بد من البناء علي نجاسة الماء حينئذ لملاقاة عين النجاسة و حمله لها.

و علي ذلك يحمل الإجماع المدعي في المنتهي و التحرير علي نجاسة الماء المستعمل في غسل الحيض و الجنابة إذا كان علي البدن نجاسة عينية.

و كذا خبر العيص المتقدم الظاهر في نجاسة الغسالة إذا كانت من بول أو قذر، إذ البول و القذر من الأعيان النجسة، و جفاف البول لا يخرجه عن ذلك و لا يوجب انعدامه، كما ذكره بعض مشايخنا.

و مثله نصوص غسالة الحمام، حيث كان المتيقن منها مجمع الغسالات التي

ص: 396

______________________________

يشتمل بعضها علي ما يزال به عين النجاسة، فيختلط به الباقي، و لا إطلاق لها يشمل الغسالة غير المشتملة علي عين النجاسة.

و الكل كما تري! إذ المراد بملاقاة الماء لعين النجاسة، إن كان هو الملاقاة حين الغسل، فلا فرق بينها و بين ملاقاة المتنجس غير الحامل لعين النجاسة حين غسله و تطهيره بعد فرض عموم التنجيس للمتنجس، و إن كان هو الملاقاة بعد انفصال الماء عن العين المغسولة و حمله لعين النجاسة بعد تطهيره للمتنجس بها و خروجه عن كونه غسالة، فلا مجال له مع استهلاك النجاسة في الماء، و إنما يتجه مع تميزها و عدم استهلاكها، و هو خارج عن محل الكلام، كما هو الحال في ماء الاستنجاء.

و منه يظهر حال الإجماع و الخبر المتقدمين، فإن حملهما علي خصوص صورة تميّز النجاسة بعيد جدا، بل ممتنع، فيتعين كون منشأ الانفعال فيهما الملاقاة حين الغسل قبل الاستهلاك، فيتعدي منهما للمتنجس الخالي عن عين النجاسة بعد فرض كونه منجسا كالنجس. فتأمل.

علي أن الظاهر من النجاسة العينية في معقد الإجماع ما يقابل الحدث القائم بالنفس [1]، فيعم صورة زوال عين النجاسة، و لذا جزم بالطهارة، مع عدم النجاسة العينية، مع أنه ممّن يري نجاسة الغسالة مطلقا.

كما أن الخبر ظاهر في إرادة التطهير من نجاسة البول و القذر، و لو مع زوال عينهما، لا خصوص الغسل منهما مع وجود عينهما، خصوصا بملاحظة مقابلته بوضوء الصلاة، لظهوره حينئذ في استيعاب الأقسام.

______________________________

[1] قال في المنتهي: 1- 23: «الثاني: متي كان علي جسد المجنب و المغتسل من حيض و شبهه نجاسة عينية، فالمستعمل إذا قل عن الكر نجس إجماعا، بل الحكم بالطهارة إنما يكون مع الخلو من النجاسة المعينة».

و قال في التحرير ص 6: «إذا كان علي جسد الجنب أو الحائض نجاسة عينية كان المستعمل نجسا إجماعا، أما لو خليا عنها فهو طاهر أيضا، و في التطهير به خلاف سبق».

ص: 397

______________________________

و نصوص غسالة الحمام قد عرفت أنها أجنبية عن محل الكلام.

علي أن بعض النصوص المتقدمة المستدل بها علي النجاسة يشمل غسالة المتنجس غير المشتمل علي عين النجاسة، بل هو صريح موثق عمار.

نعم، موثق سماعة مختص بوجود عين النجاسة، لأنه المتعارف في غسل الفرج من الجنابة، و لا أهمية له مع عموم غيره.

كما أن بعض ما استدل به للطهارة من عموم عدم تطهير المتنجس يشمل الغسلة المزيلة لعين النجاسة، بناء علي استناد التطهير لها، كما هو الظاهر، بل لا ينبغي الإشكال فيه في مثل غسل الثوب في المركن من البول.

بل النصوص الخاصة كالصريحة فيه و كذا غيرها من الوجوه.

و بالجملة: لا فرق بين وجود عين النجاسة و عدمه بالنظر إلي ما تقدم من أدلة الطهارة و أكثر أدلة النجاسة، فلا مجال للتفصيل المذكور، فضلا عن تنزيل كلام القائلين بالطهارة عليه.

نعم، بناء علي عدم انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس قد يتجه التفصيل المذكور، و إن كان هو منافيا لبعض النصوص المتقدمة، و لا سيما موثق عمار، إلا أن يناقش في الاستدلال بها بما تقدم الكلام فيه.

الثاني: طهارة خصوص ماء الغسلة المتعقبة بطهارة المحل. و إليه يرجع ما قيل من أن الغسالة كالمحل بعدها، كما ذهب إليه غير واحد من المعاصرين، و حكي عن السيد بحر العلوم قدّس سرّه و عن العلامة في النهاية احتماله، بل قد يستظهر مما عن المنتهي اختصاص النزاع بها، و أنه لا خلاف في نجاسة غيرها، و إن كان هو مما يأباه ظاهر كلام بعضهم و صريح كلام آخر، مثل ما تقدم من الشيخ قدّس سرّه من طهارة غسالة الولوغ في الغسلات الثلاث.

و كيف كان، فقد يستدل عليه:

تارة: بانصراف العموم عن مثل هذه الملاقاة المقتضية للطهارة، لعدم اجتماع

ص: 398

______________________________

النجاسة مع الملاقاة إلا رتبة.

و اخري: بلزوم الخروج فيها بعد فرض طهارة المتخلف، إذ انفعال تمام الماء حين الملاقاة مستلزم لكون طهارة المتخلف من دون مطهر، و انفعال بعضه- و هو خصوص ما ينفصل بعد ذلك- راجع إلي اختلاف حكم الماء الواحد، و كل منهما و إن كان ممكنا عقلا، إلا أنه بعيد عرفا، بنحو يصلح لأن يكون قرينة علي الخروج عن العموم المذكور.

و يندفع الأول: بكفاية الاجتماع الرتبي في مثل ذلك ارتكازا، و لا موجب معه لانصراف العموم. مع أن طهارة المحل بوقوفه علي استيلاء الماء عليه، و هو متأخر زمانا عن الملاقاة الموجبة للانفعال.

و يندفع الثاني: بأنه لا بعد في طهارة المتخلف بعد نجاسته تبعا لطهارة المحل، لبناء الشارع و العرف علي نظيره في الأثر الباقي بعد الاستنجاء بالأحجار، و في غسالة القذارات العرفية، بل الطهارة بالتبعية كثيرة جدا.

بل غفلة العرف عن المتخلف و تبعيته للمحل، مانعة من كون طهارته قرينة عرفية مخرجة عن العموم، فالبناء علي العموم متعين بعد الاعتراف بعدم استحالة ذلك عقلا.

و أما ما ذكره بعض المعاصرين قدّس سرّه من أنه إذا توقف شمول العام لمورد علي إعمال عناية زائدة علي مقتضي العام لم يكن العام حجة في ذلك المورد، لعدم تكفله بالعناية المذكورة، بخلاف الدليل الخاص، حيث يكشف عن العناية المذكورة دفعا لمحذور لغويته، و حيث كان شمول عموم الانفعال للمقام موقوفا علي طهارة المتخلف بعد نجاسته، فلا طريق لإثبات شموله له.

فهو مدفوع: بأن ذلك مختص بما إذا كانت العناية دخيلة في حجية العام في المورد، إما لتوقف تحقق عنوان العام عليها، أو لتوقف دفع المعارض عليها، أو نحو ذلك مما لا ينهض العام بإثباته، كما في مورد الأصل المثبت،

ص: 399

______________________________

فإن الأصل حيث كان عمليا كان شمول عمومه للمورد المذكور موقوفا علي التعبد بلازم مجراه بعناية زائدة، إذ بدونه لا يكون المورد محلا للعمل، ليدخل في عموم الأصل.

أما إذا لم تكن العناية دخيلة في ذلك، بل كانت لازمة لحكم العام، فحيث كان العام متكفلا لإثبات حكمه تعين البناء عليه، عملا بأصالة العموم، و إن لزمت العناية المذكورة، إما لتوقف ثبوت الحكم عليها، كما لو فرض دلالة الدليل علي أن من نكل بعبد عتق عليه، و فرض عدم عتق العبد علي شخص إلا بعد ملكه له، فإن اللازم العمل بعموم حكم التنكيل في حق من نكل بعبد غيره، و يلتزم بملكه له في رتبة سابقة علي عتقه عليه، و إن كان ذلك أمرا خارجا عن مقتضي العموم.

و إما لاستلزام الحكم للعناية المذكورة و تفرعها عليه، كما هو الحال في عموم دليل الإرث لإرث من ينعتق علي الوارث، مع أن إرثه مستلزم لانعتاقه، و هو أمر زائد علي مقتضي عموم الإرث.

و منه المقام، لأن طهارة المتخلف من دون مطهر متفرعة علي انفعال الغسالة حين الملاقاة قبل الانفصال، الذي هو مقتضي عموم انفعال القليل، و لا مجال لدعوي قصور العموم عن الغسالة لأجل ذلك.

علي أن ذلك لو تمَّ فهو إنما يقتضي عدم حجية العموم في المتخلف، فلا يحكم بانفعاله قبل انفصال الغسالة ثمَّ طهارته بالتبعية، لا عدم حجيته في المنفصل، بل يحكم بانفعاله حين الملاقاة و بقاء نجاسته بعد ذلك، لعدم كونه موردا للعناية المذكورة، إذ لزوم العناية إنما يمنع من حجية العموم في موردها لا غير.

هذا كله مضافا إلي بعض النصوص الخاصة المتقدمة الشاملة للغسلة المتعقبة بطهارة المحل، بل هو صريح موثق عمار المتقدم، المؤيدة بما تقدم من سكوت قدماء الأصحاب، فإن التفصيل بالوجه المذكور محتاج إلي عناية يغفل عنها، فعدم التنبيه عليه ظاهر في عدمه، و في الإرجاع إلي عموم الانفعال الارتكازي

ص: 400

______________________________

الشامل للمقام.

هذا تمام الكلام فيما هو المهم في المقام.

و قد تحصل منه: أن عمدة الأقوال في المقام أربعة:

النجاسة مطلقا، عملا بعموم انفعال القليل، المعتضد أو المؤيد بالنصوص الخاصة المتقدمة و غيرها.

و الطهارة مطلقا، لدعوي قصور العموم المذكور، أو معارضته بعموم عدم مطهرية النجس، المعتضد أو المؤيد بما تقدم من الوجوه.

و الطهارة فيما عدا الغسلة المزيلة لعين النجاسة، لدعوي أن الملاقاة لعين النجاسة موجبة لانفعال الماء مع قطع النظر عن كونه غسالة.

و الطهارة في خصوص الغسلة المتعقبة بطهارة المغسول، لدعوي قصور عموم الانفعال عنها، أو لزوم الخروج عنه فرارا من محذور اختلاف حكم الماء الواحد، أو طهارة المتخلف من دون مطهر.

و قد أشرنا إلي احتمال وجود قول خامس، و هو نجاسة الغسالة و لو مع ترامي الغسلات و طهارة المحل.

و ربما كانت هناك تفصيلات أخر، كالتفصيل بين الولوغ و الثوب، فتطهر في الأول في جميع الغسلات، و في الثاني في الغسلة الثانية، كما تقدم من الخلاف و عن المبسوط.

أو تطهر في الأول فيما عدا الغسلة الاولي، و في الثاني في جميع الغسلات، كما عن السرائر، إلي غير ذلك مما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما تقدم من أن المتعين هو القول الأول. فلاحظ.

و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

بقي في المقام أمور.

الأول: أنه إذا كان الدليل علي النجاسة هو عموم الانفعال كان متفرعا علي القول بانفعال الماء القليل، فمع القول بعدم انفعاله مطلقا، أو بالمتنجس، أو مع ورود

ص: 401

______________________________

الماء علي النجاسة يتعين البناء علي ذلك في المقام.

و من ثمَّ اختار الفقيه الهمداني قدّس سرّه طهارة غسالة المتنجس، بل يتعين معه البناء علي اختصاص النجاسة بالغسلة المزيلة لعين النجاسة، كما تقدم.

و ربما يبني عليه التفصيل في نجاسة الغسالة بين ورود الماء علي المغسول و ورود المغسول علي الماء.

و إن كان من القريب رجوعه إلي اعتبار ورود الماء في مطهريته، فمع عدم وروده لا يكون مطهرا، فينجس، لعدم كونه غسالة، لا أنه غسالة نجسة. و الأمر غير مهم.

و أما إذا كان الدليل هو النصوص الخاصة الدالة علي نجاسة الغسالة، فلا بد من ملاحظة حالها من حيثية العموم و الخصوص، كما لا بد من ملاحظة نسبتها لدليل القول بعدم انفعال القليل، و لا مجال لإطالة الكلام فيه، لعدم ترتب الأثر عليه بعد ما عرفت من المختار.

و مما ذكرنا يظهر الوجه في اختصاص النجاسة بما إذا كان الغسل بالماء القليل، لقصور العموم عن الماء المعتصم، كالنصوص الخاصة، و لو فرض العموم فيها كفي عموم دليل الاعتصام في الخروج عنه، بل لا إشكال في ذلك.

الثاني: يلزم بناء علي ما تقدم من نجاسة الغسالة انفصالها عن المغسول، إما لتوقف التطهير عليه، أو لعدم إمكان الانتفاع بالمغسول بدونه بسبب نجاسة الغسالة، علي ما يأتي الكلام فيه في مبحث المطهرات إن شاء اللّٰه تعالي.

و قد أشرنا إلي طهارة المتخلف بالوجه المتعارف، كما هو المعروف بينهم، كما في مفتاح الكرامة.

و تقتضيه إطلاقات أدلة التطهير المقامية، كما هو الحال في سائر موارد الطهارة بالتبعية.

بل هو مقتضي الملازمة العرفية بين طهارة المغسول و طهارة المتخلف فيه بعد كونه أمرا تابعا له و من شؤونه المغفول عنها، بل لا فائدة في طهارة المغسول مع

ص: 402

______________________________

نجاسة المتخلف.

و منه يظهر ضعف القول بنجاسته مع عدم العفو عنه، كما ذكره في مفتاح الكرامة احتمالا.

و أما نجاسته مع العفو عنه، فهي و إن ذكرت في مفتاح الكرامة احتمالا، إلا أن عدم الأثر المصحح لاعتبارها مانع من البناء عليها، بل الملازمة العرفية المتقدمة شاهدة بالطهارة. فلاحظ.

هذا، و الظاهر أن المعيار فيه علي انفصال الماء عن المحل المغسول لا عن تمام العضو، فلو تنجست الكف فصب الماء علي أعلاها و جري منه إلي أسفلها طهر الأعلي و ما يتخلف فيه و إن لم تنفصل الغسالة عن الأسفل، لصدق الغسل المطهر عليه فيتبعه المتخلف للوجه المتقدم، خلافا لما قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن أعلي الكف و إن طهر بذلك إلا أن المتخلف فيه لا يطهر إلا بعد الانفصال من تمام الكف.

ثمَّ إن المتخلف لو انفصل بعد ذلك بقي علي طهارته و لو من جهة الاستصحاب، بل لا ينبغي التأمل في ذلك بعد النظر في السيرة، بل فيما تقدم في دليل الطهارة بالتبعية. و الظاهر طهوريته من الحدث و الخبث، لعموم طهورية الماء الطاهر.

و أما ما في الجواهر من أن القاعدة تقتضي تنجيسه، و البناء علي طهارته إنما هو لمكان الحرج و للأدلة الحاكمة بطهارة المغسول، و ذلك يقتضي الاقتصار علي ما تندفع به الضرورة، و هو الطهارة دون المطهرية.

فهو مدفوع: بأن الحرج و نحوه بعد أن كشف عن الطهارة ترتبت أحكامها و منها المطهرية، و إن لم يتوقف عليها دفع الحرج و نحوه.

و أما ما يقتضي عدم مطهرية الغسالة حتي بناء علي طهارتها- كما يأتي- فهو مختص بما ينفصل حين الغسل بوجه متعارف و يصدق عليه الماء المستعمل، و لا يعم المتخلف الذي هو من توابع المغسول و إن انفصل بعد ذلك.

ص: 403

______________________________

هذا، و ربما يدعي التسامح في النضح الحاصل حين الغسل بالوجه المتعارف، لكثرة الابتلاء به، و صعوبة التحرز عنه بنحو يغفل عنه العامة، فعدم التنبيه إلي نجاسته ظاهر في طهارته و العفو عنه.

لكن، في بلوغ ذلك حدا يصلح به للاستدلال و الخروج عن عموم الانفعال أو استصحابه إشكال، لإمكان الاعتماد في البيان علي العموم المذكور بعد كونه ارتكازيا، و عدم وضوح بلوغ صعوبة التحرز عنه حدا يعلم معه بعدم جعل الحكم المذكور.

نعم، لا ينبغي التأمل في ذلك بالإضافة إلي أجزاء المغسول لو انتضح من بعضها علي بعض، كانتضاح الماء من بعض الأصابع علي بعض عند تطهير اليد، أو انتضاح الماء من الرأس علي الصدر عند تطهير الجسد، لصعوبة التحرز عن ذلك و الغفلة عنه بالنحو الكاشف عن تعارف التسامح في ذلك، بحيث لو لم يكن في محله لاحتاج إلي الردع الظاهر، فعدمه يكشف عن كون التسامح المذكور في محله.

و مثله انفصال ماء الغسالة عن المغسول بما هو من توابعه، كمروره بالخاتم و السوار عند تطهير اليد.

هذا، و أما الكلام فيما يطهر بالتبعية كيد الغاسل، و الظرف الذي يغسل به، فهو موكول إلي الكلام في الطهارة بالتبعية من فصل المطهرات.

الثالث: بعد أن أشرنا إلي لزوم انفصال ماء الغسالة في طهارة المحل، فلو فرض جريانه إلي محل طاهر، فإن انفصل عنه بالوجه المتعارف باستمرار الجريان فلا إشكال، لتعارف ذلك في التطهير، بنحو يكشف عدم التنبيه عليه علي عدم انفعاله، و لعسر الاقتصار علي غسل المحل المتنجس بنحو يستلزم الهرج و المرج لو بني علي الانفعال.

و إن لم ينفصل عنه، بل جف عليه لقلته، فالظاهر أنه ينجسه بناء علي تنجيس المتنجس.

ص: 404

______________________________

نعم، لا بأس بمثل تفشي الماء من المحل المغسول من الثوب إلي ما يجاوره بالنحو المتعارف، و الذي لا يمكن التحرز عنه.

كما أنه لو جري ماء الغسالة إلي المحل الطاهر و تجمع فيه تعين تنجيسه له، كما لو طهّر الإنسان صدره فتجمع الماء في حجره، بل لا يبعد عدم كفاية انفصاله بعد ذلك في طهارة الجسم، لعدم تعارف مثل ذلك في التطهير حتي يستكشف العفو عنه تبعا، بل يتعين العمل فيه بالقاعدة المقتضية للنجاسة.

الرابع: اختلف القائلون بنجاسة الغسالة في أنه هل يعتبر في التطهير منها التعدد أو لا؟

فعن الشهيد في جميع كتبه و بعض من تأخر عنه أن حالها حال المغسول قبلها، فيلزم التعدد إن كانت من الغسلة الاولي، و إن كانت من الثانية نقصت واحدة، و هكذا.

و لا يبعد كون مرادهم ما يحتاج إلي التعدد من حيثية النجاسة، كالبول لا من حيثية المتنجس كالإناء. و عن المعالم الاجتزاء بالمرة مطلقا.

و الذي ينبغي أن يقال: يتعين الاكتفاء فيها بالمرة بناء علي ثبوت عموم، أو إطلاق يقتضي الاكتفاء بها في غير النجاسات المنصوص فيها التعدد، لخروجها عن النجاسات المذكورة و إن كانت غسالة منها، فالغسالة من البول ليست بولا، و تبعيتها له في أصل النجاسة لا يقتضي تبعيتها له في حكمها.

و مجرد حملها لأجزائه لا يلحقها به بعد فرض استهلاك الأجزاء المذكورة فيها، بل حتي مع فرض عدم الاستهلاك، لاختصاص دليل التعدد بإصابة البول مثلا، و لا يشمل الماء المختلط به، بل يتعين الرجوع فيه للإطلاق المفروض القاضي بالاكتفاء بالمرة.

و أما بناء علي عدم ثبوت ذلك- و أن اللازم في غير المنصوص فيه المرة هو التعدد لاستصحاب النجاسة- فاللازم البناء علي ذلك في الغسالة أيضا.

ص: 405

______________________________

و دعوي: أن المغسول الذي يجب فيه التعدد تضعف نجاسته بعد كل غسلة، و لذا يكفي فيه من العدد ما لا يكفي فيه قبل ذلك، فيكون حكم غسالته كذلك، لأن نجاستها مسببة عنه فلا يزيد حكمها عليه.

لا ترجع إلي محصل ظاهر، ليخرج به عن مقتضي الاستصحاب، لعدم القطع بتخفيف النجاسة بعد كل غسلة، بل يمكن زوالها دفعة بعد الأخيرة. مع عدم وضوح كون المعيار في التعدد علي شدة النجاسة، بل لعله أمر آخر تعبدي، فلا يخرج ذلك عن الأولوية الظنية.

و منه يظهر لزوم التعدد في غسالة ما ورد النص بعدم الحاجة فيه للتعدد، و إن لم يظهر منهم وجود قائل بذلك.

و لعله للأولوية المشار إليها، التي تقدم عدم الركون إليها، و لذا لم يتعدوا من الدم المعفو عنه في الصلاة إلي المتنجس به. فتأمل.

نعم، مقتضي إطلاق خبر العيص اللفظي أو المقامي، الاكتفاء بالمرة في الغسالة مطلقا و لو من الغسلة الأولي.

لكن الإشكال في سنده مانع من الاعتماد عليه.

و مما ذكرنا يظهر حال غير الغسالة مما يلاقي المحل النجس و يتنجس به.

فلاحظ.

الخامس: الظاهر أنه لو قيل بطهارة ماء الغسالة، فلا مجال لرفع الحدث و لا الخبث به، كما صرح به في الجواهر.

أما عدم رفع الحدث به فالظاهر أنه المعروف بينهم، بل في مفتاح الكرامة: أن القول برفع الحدث به نادر لم نعرف قائلا به. و في المعتبر و عن المنتهي دعوي الإجماع علي عدم رفعه به.

و يقتضيه خبر عبد اللّٰه بن سنان المتقدم في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

مضافا إلي ما دل علي عدم جواز الغسل و الوضوء بالماء الذي يدخل الرجل

ص: 406

حتي في الغسلة الثانية (1)،

______________________________

يده فيه و هي قذرة غير طاهرة، بناء علي عدم اعتبار ورود الماء علي المتنجس في مطهريته، كما تقدم في أدلة القول بالنجاسة، فإن النصوص المذكورة لو كانت قاصرة عن إثبات نجاسة الماء المذكور، فلا قصور في ظهورها في عدم صحة الوضوء و الغسل به.

و أما عدم رفع الخبث به، فقد يظهر من الجواهر الإجماع عليه، كعدم رفع الحدث، حيث قال: «قد يقال: إن القول برفع الخبث به دون الحدث خرق للإجماع المركب»، و يؤيده ما في محكي المبسوط، حيث قال: «و لا يجوز إزالة النجاسة إلا بما يرفع به الحدث».

لكن، قال في مفتاح الكرامة: «و أما بالنسبة إلي الخبث فغير مسلّم، بل الظاهر من كل من قال: إنه طاهر، أنه مزيل للخبث، كما يأتي في ماء الاستنجاء»، و هو مقتضي عموم مطهرية الماء الطاهر، و الخروج عنه في رفع الحدث لا يقتضي الخروج عنه في رفع الخبث.

و ما تقدم من المبسوط غير ظاهر، و لذا تقدم رفع الخبث بالمستعمل في رفع الحدث الأكبر و إن لم يرفع الحدث.

نعم، يلزم الخروج عن العموم المذكور في الخبث أيضا بما تقدم في موثق عمار، الوارد في غسل الإناء من لزوم غسله في كل غسلة بماء آخر غير ما غسل به في الغسلة السابقة.

و ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من وروده علي النحو المتعارف من عدم جمع الغسالة ثمَّ استعمالها، خلاف ظاهر التقييد فيه، كما لا يخفي.

لكنه مختص بالغسلتين الأوليين، فإلحاق الغسلة الأخيرة بهما موقوف علي فهم عدم الخصوصية، أو علي الإجماع علي عدم الفصل.

و هو مشكل، بل لا مجال له بناء علي اختصاص الطهارة بالغسلة الأخيرة.

(1) خلافا لما تقدم من الخلاف، و عن المبسوط من التفصيل في غسالة

ص: 407

عدا ماء الاستنجاء، و سيأتي حكمه (1).

______________________________

الثوب بين الغسلة الاولي و الثانية، و تقدم احتمال رجوعه إلي أحد تفصيلين- التفصيل بين الغسلة المزيلة للعين و غيرها، و التفصيل بين الغسلة التي يتعقبها طهارة المحل و غيرها.

(1) في المسألة العاشرة من مبحث أحكام الخلوة.

ص: 408

الفصل الرابع: في الماء المشكوك

الفصل الرابع إذا علم إجمالا (1) بنجاسة أحد الإنائين و طهارة الآخر لم يجز

______________________________

(1) لما كان الكلام في العلم الإجمالي متفرعا علي الكلام في مقتضي الشك في النجاسة من حيث هو، كان المناسب الكلام في ذلك هنا، لعدم تعرض سيدنا المصنف قدّس سرّه له و لمناسبته للمقام.

فاعلم أن الأصل الطهارة في كل ما شك في نجاسته، سواء كانت الشبهة موضوعية أم حكمية، كما صرح به في الجملة في المعتبر و غيره، بل يظهر منهم المفروغية عنه، كما يشهد به سيرتهم في الفقه، حيث اهتموا بالكلام في طرق ثبوت النجاسة في الشبهة الموضوعية، و بالاستدلال عليها في الشبهة الحكمية.

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك، و إلي ارتكازيات المتشرعة في المقامين- ما رواه عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «كل شي ء نظيف حتي تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك» «1».

و الظاهر تمامية سنده لرواية الشيخ له في التهذيب «2» بسنده عن محمد بن أحمد بن يحيي، عن أحمد بن يحيي، عن أحمد بن الحسن بن فضال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار، و طريقه إلي محمد بن أحمد بن يحيي صحيح، و محمد نفسه من الأجلاء، و أحمد بن الحسن و من بعده ثقات، و إن كان بعضهم أو كلهم فطحية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) ج: 1 ص: 284 طبع النجف الأشرف.

ص: 409

______________________________

و أما أحمد بن يحيي، فالظاهر أنه الأودي الثقة دون غيره، لعدم تناسب الطبقة، و إن كان بعضهم ثقة أيضا.

و أما احتمال زيادته في السند بقرينة رواية بعض فقرات الحديث في الكافي و الاستبصار بسند خال عنه، بل يظهر من موضعين من التهذيب «1» رواية نفس الحديث خال عن الواسطة المذكورة، و لا سيما مع عدم معهودية توسطه بين محمد ابن أحمد و أحمد بن الحسن في غير هذا الموضع، و لعله لذا أسقطه في الوسائل، أو لاطلاعه علي نسخة من التهذيب خالية عنه.

فهو و إن كان قريبا جدا إلا أن في صلوحه لرفع اليد عن أصالة عدم الخطأ إشكال، و الظاهر أن ما في الوسائل من إسقاطه في هذا الموضع و غيره غفلة لا يبتني علي ما تقدم، لذكره له في باب كيفية تطهير الإناء «2». فتأمل.

و أشكل منه: تضعيف السند لذكر الحديث في كتاب جامع الأحاديث، مشتملا علي نسخة تتضمن إبدال أحمد بن يحيي بمحمد بن يحيي الذي يتعين حمله علي المعاذي، بقرينة رواية محمد بن أحمد بن يحيي عنه، حيث لا مجال لإثبات توثيقه بمجرد كونه من رجال كامل الزيارة بعد تصريح الشيخ قدّس سرّه في كتابه بتضعيفه مؤيدا باستثناء القميين له من رجال نوادر الحكمة.

لاندفاعه: بأنه لا مجال لرفع اليد عن النسخة المعروفة من التهذيب، التي جري عليها في الوسائل مع اتصال سنده برواية التهذيب، بمثل هذه النسخة المجهولة الأصل.

و بالجملة: ينبغي عد الحديث موثقا، كما صدر من سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره.

و لا ينبغي التوقف في سنده بعد ذلك، و بعد وضوح انجباره بعمل الأصحاب به في هذا الحكم و غيره من الأحكام التي انفرد بها، كتطهير الإناء، و التراوح في نزح البئر.

______________________________

(1) ص: 242، و ص: 248 طبع النجف الأشرف.

(2) الوسائل باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 410

______________________________

و ربما يستدل أيضا ببعض النصوص المتضمنة لعدم الاعتناء باحتمال المتنجس، أو التنبيه علي احتمال عدمه، مثل ما في خبر حفص أو موثقه: «ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم» «1»، و ما في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «يغسل ما استبان أنه أصابه، و ينضح ما يشك فيه.» «2»، و ما في صحيح ابن جعفر: «إن كان استبان من أثره شي ء فاغسله، و إلا فلا بأس» «3»، و ما في موثق عمار الوارد فيمن يجد في إنائه فأرة متسلخة: «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه، ثمَّ يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه. و إن كان إنما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله، فلا يمس من ذلك الماء شيئا، و ليس عليه شي ء، لأنه لا يعلم متي سقطت فيه. ثمَّ قال: لعله أن يكون إنما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها» «4».

و فيه: أنها ظاهرة في نفي احتمال طروء النجاسة المشكوكة، و هو مقتضي الاستصحاب، و لا إطلاق لها يقتضي نفي احتمال النجاسة في غير مورد الاستصحاب. و مجرد ظهورها في أن منشأ عدم الاعتناء هو الشك لا يكفي في التعميم بعد اختصاصها بالشك في التنجيس لا النجاسة.

نعم، يدل علي قاعدة الطهارة في خصوص الماء حديث حماد المروي بطرق متعددة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: الماء كله طاهر حتي تعلم أنه قذر» «5»، فإن ذيله ظاهر في قاعدة الطهارة الظاهرية.

لكن، تقدم في أدلة طهارة الماء ظهور صدره في عموم طهارة الماء بحسب أصله، فيختص ذيله بالشك في نجاسة الماء الطارئة، سواء كانت بنحو الشبهة الحكمية أم الموضوعية.

بخلاف موثق عمار، فإنه ظاهر في الطهارة الظاهرية بمجرد الشك، و لو مع

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

ص: 411

______________________________

احتمال النجاسة بحسب الأصل، و لا يختص باحتمال النجاسة الطارئة، كما يعم إطلاقه صورة الجهل بالحالة السابقة، و يعم الشبهة الحكمية و الموضوعية معا.

و من ثمَّ كان الدليل علي عموم القاعدة منحصرا به.

هذا، و قد يستشكل- كما يستفاد من كلام بعضهم- في إطلاقه من وجهين.

الأول: أن المتيقن منه إرادة الشك في طروء التنجيس و عروضه، و لا يحرز شموله للشك في نجاسته بالأصل، لأن ذلك هو المتيقن من الغاية فيه، و هي قوله عليه السّلام: «حتي تعلم أنه قذر»، لأن: «قذر» بتثليث الذال فعل، و بتثليثها و تسكينها أيضا اسم وصفي. قال في القاموس: «قذر كفرح و نصر و كرم فهو قذر بالفتح، و ككتف و رجل و جمل»، و قريب منه في لسان العرب. و علي الفعلية فهو ظاهر في التجدد، و يراد به التقذر بعد الطهارة، و لا يشمل احتمال قذارة الشي ء بالأصل.

و فيه. أولا: أن احتمال الفعلية بعيد جدا. بل المنساق بمقتضي المقابلة في الصدر للنظيف كونه وصفا مثله، نظير قوله عليه السّلام في موثق مسعدة بن صدقة: «كل شي ء هو لك حلال حتي تعلم أنه حرام بعينه فتدعه.» «1»، و لو كان فعلا لكان مبنيا علي نحو من العناية المحتاجة إلي تنبيه خاص من الرواة و المحدثين.

و ثانيا: أن الفعل في المقام ليس ظاهرا في التجدد، لأنه فعل القذارة لا التقذر، فيصح أن يقال: طهر المؤمن و قذر الكافر، و طهرت الشاة و قذر الكلب، و نحو ذلك مما يراد به ثبوت الطهارة و القذارة و لو من أول الأمر، لا تجددهما للموضوع بعد العدم.

و لا ملزم مع ذلك بحمله علي التجدد، و لا سيما مع إطلاق الشي ء، فإن الحمل علي التجدد موقوف علي تقييده بخصوص ما يكون طاهرا في نفسه، و لا مجال لإبقائه علي إطلاقه، لاستلزامه الحكم بطهارة ما يعلم بقذره بحسب الأصل، و حيث كان التقييد المذكور محتاجا إلي عناية بعد استحكام إطلاق الصدر،

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 412

______________________________

كان الحمل علي التجدد بعيدا في المقام لو فرض صلوح الفعل له في نفسه أو ظهوره فيه بدوا في الجملة.

اللهم إلا أن يقال: العدول من التعبير بالاسم مع كونه الأنسب بتركيب الكلام إلي التعبير بالفعل لا بد أن يكون لنكتة، و ليست هي إلا صلوح الفعل لبيان الحدوث و التجدد، فيلزم الحمل علي ذلك.

لكن، هذا مؤكد لما تقدم من أن ذكر الفعل محتاج إلي عناية خاصة تقتضي التنبيه، فإغفال ذلك معين للحمل علي الاسم الذي تقتضيه طبيعة الاستعمال.

و بالجملة: لا مجال للتشكيك في العموم من هذه الجهة، و لا سيما بعد كون العموم المذكور ارتكازيا، فإن المرتكز عرفا و شرعا أن القذارة علي خلاف الأصل و هي المحتاجة إلي إثبات، و أن الأصل هو الطهارة، فورود الحديث علي طبق الارتكاز المذكور قريب جدا، و هو المنسبق من إطلاقه، كما فهمه الأصحاب منه بدوا و بلا كلفة.

الثاني: أنه معارض بظهور بعض نصوص استصحاب الطهارة في عدم الاكتفاء بالشك في الحكم بها، و أنه لا بد معه من فرض الطهارة سابقا، كصحيح عبد اللّٰه بن سنان: «سأل أبي أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا حاضر: اني أعير للذمي ثوبي و أنا أعلم أنه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ فاغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: صل فيه و لا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتي تستيقن أنه نجّسه» «1»، و ما في صحيح زرارة من تعليل عدم الإعادة مع الصلاة بالثوب المظنون النجاسة بقوله: «لأنك كنت علي يقين من طهارتك، ثمَّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا» «2»، فإن اشتمالهما علي تعليل جواز الدخول في الصلاة و عدم وجوب إعادتها، بمجموع الأمرين من الشك و سبق الطهارة أو سبق اليقين بها، ظاهر في عدم كفاية

______________________________

(1) الوسائل باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 41 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 413

______________________________

الشك بنفسه في الحكمين المذكورين الذين هما من آثار إحراز الطهارة، فيدلان علي عدم إحراز الطهارة بمجرد الشك، و يعارضان موثق عمار.

و منه يظهر: أنه لا مجال للتخلص عن محذور المعارضة بأن أخذ اليقين السابق في الحكم الاستصحابي لا ينافي عدم أخذه في حكم قاعدة الطهارة، لاختلاف الحكمين سنخا.

لاندفاعه: بأن المعلل في الصحيحين ليس هو الحكم الاستصحابي، بل جواز الدخول في الصلاة و عدم إعادتها، و هما من آثار إحراز الطهارة، المشترك بين قاعدة الطهارة و استصحابها، فظهورهما في عدم إحراز الطهارة بمجرد الشك مناف لقاعدة الطهارة التي هي مفاد الموثق.

و فيه- مع اختصاص الصحيحين بالثوب، فيكفي في رفع التعارض بينهما و بين الموثق تخصيصه بهما- أن الاستصحاب لما كان أقوي إحرازا من قاعدة الطهارة، لابتنائه علي وجود مقتضي إحراز الشي ء، زائدا علي عدم إحراز ما ينافيه، الذي هو مفاد القاعدة، فالمتعين في الجمع بين الصحيحين و الموثق حمل التعليل فيهما باليقين السابق علي أن منشأه أقوائيته في الإحراز، لا توقف الإحراز عليه، لينافي الموثق، فهو نظير التعليل بالبينة في موردها، حيث لا ينافي الاستغناء عنها بالأصل من استصحاب و نحوه، و إنما علل بها لأنها أقوي إحرازا من الأصل.

هذا هو المهم من الكلام في أصل الطهارة، و بقيت بعض الجهات العامة المشتركة بينه و بين سائر الأصول، كنسبته مع الأدلة و الأصول الأخر، لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد استقصاء الكلام فيها في مباحث الأصول.

و أما الكلام في طرق ثبوت النجاسة، فهو موكول إلي المسألة الخامسة و العشرين من مبحث الطهارة من الخبث، حيث تعرض له سيدنا المصنف قدّس سرّه هناك.

و لعل اللّٰه سبحانه و تعالي يعيننا في بلوغ ذلك الموضع و الكلام فيه تبعا لما ذكره، إنه ولي التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

ص: 414

رفع الخبث بأحدهما و لا رفع الحدث (1).

______________________________

(1) بلا إشكال ظاهر، و استفاضت تصريحاتهم به، علي اختلاف عباراتهم، و ادعي عليه الإجماع في الخلاف و المعتبر و الجواهر، و عن الغنية و التذكرة و ظاهر السرائر و غيرها.

و العمدة فيه ما تقرر في الأصول من منجزية العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي الذي يترتب عليه العمل، بنحو يمنع من المخالفة القطعية و يلزم بالموافقة القطعية، فلا تجري معه الأصول الترخيصية، لا في تمام الأطراف و لا في بعضها، و حيث كان رفع الحدث و الخبث بالماء نحوا من العمل المقتضي للسعة في مقام امتثال التكليف بما يتوقف علي الرفع كان العلم الإجمالي في المقام منجزا و مانعا منه و من جريان أصل الطهارة في كلا المائين.

هذا، و لا يفرّق في ذلك بين إمكان رفع الحدث و الخبث بكلا المائين علي تقدير طهارته و امتناع رفعه بأحدهما، كما لو كان مستعملا في رفع الحدث الأكبر، و امتناع رفع كل من الحدث و الخبث به- كالمستعمل في رفع الخبث بناء علي طهارته و عدم مطهريته حتي من الخبث.

فإنه لا مجال فيه لتوهم اختصاص التنجز بحرمة الشرب، للعلم بترتبه علي تقدير نجاسة كل من المائين، دون ارتفاع المطهرية من الخبث أو مطلقا، لعدم العلم بترتبه علي كل حال بعد احتمال نجاسة المستعمل الذي لا يترتب علي نجاسته إلا حرمة شربه.

لما ذكرناه في الأصول من عموم المنجزية لجميع الآثار العملية المترتبة علي الأطراف، و إن امتاز بعضها بأثر.

نعم، لو فرض عدم الأثر لنجاسة أحد المائين، أو عدم الابتلاء به تعيّن عدم منجزية العلم الإجمالي في المقام، و جري أصل الطهارة في الآخر، علي ما يذكر مفصلا في الأصول.

ص: 415

______________________________

ثمَّ إن ما ذكرنا إنما يقتضي عدم الاكتفاء باستعمال أحد المائين في رفع الحدث أو الخبث، و لا يمنع من استعمالهما معا بنحو يحرز معه الصلاة بالطهارة، كما لو تطهّر من الخبث بأحدهما و صلّي، ثمَّ تطهّر بالآخر و صلّي، أو تطهّر من الحدث بأحدهما و صلّي، ثمَّ طهّر أعضاءه بالآخر و تطهر به من الحدث و صلّي بل مقتضي القاعدة جواز ذلك مع وجود ماء غيرهما و وجوبه مع الانحصار بهما.

لكن، قد يمنع عنه في الجملة، كما حكي عن غير واحد، بل ربما نسب إلي قول الأصحاب أو عملهم، و ظاهر المعتبر المنع عنه في صورتي الانحصار و عدمه.

و قد يوجه. تارة: بما في المعتبر من أنه ماء محكوم بالمنع عنه، فيجري استعماله مجري النجس، و في المدارك أن هذين المائين قد صار محكوما بنجاستهما شرعا عند الأصحاب.

و اخري: بعدم الجزم بالامتثال في كل من الطهورين و الصلاتين، فتتعذر العبادية فيهما معا و إن كان أحدهما واجدا للشرط.

و ثالثة: بأن حرمة استعمال الماء النجس في الطهارة يقتضي اجتنابهما معا خروجا عن العلم الإجمالي المذكور، فيبطل الوضوء أو الغسل بهما بكل منهما، لتعذر التقرب به، بل حرمة الصلاة بالنجس و الفاقدة للطهور تمنع من التقرب بكل من الصلاتين.

و الكل كما تري! إذ لا دليل علي المنع عنهما، و لا علي كونهما بحكم النجس حتي النص الآتي، و غاية ما ثبت لزوم الاحتياط فيهما، فلا وجه للمنع عما لا ينافي الاحتياط المذكور، خصوصا مع انحصار الماء بهما الملزم بذلك.

و الجزم بالنية غير معتبر في العبادة، و لا سيما مع تعذره، كما في فرض الانحصار، و التنزل للتيمم لا وجه له مع فرض وجدان الماء بسببهما.

و حرمة استعمال النجس في العبادة تشريعية لا ذاتية، كحرمة الصلاة بالنجس و الفاقدة للطهور، فلا حرمة في الإتيان بكل منهما احتياطا، لاحتمال مشروعيته في نفسه.

ص: 416

______________________________

علي أن ذلك لا يقتضي المنع مع انحصار الماء بهما، بل التخيير، للتزاحم بين الموافقتين القطعيتين، و تقديم جانب الحرمة غير ظاهر، و لا سيما في مثل الصلاة و الطهارة لها المعلومتي الأهمية.

إلا أن يكون موضوع التيمم مطلق تعذر الماء، و لو بلحاظ لزوم المحذور العقلي، فتكون حرمة المخالفة الاحتمالية للتحريم عقلا محققة لموضوع التيمم، و رافعة لموضوع وجوب الطهارة المائية و إن كانت مهمة في نفسها.

نعم، قد يستدل علي ذلك بموثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيهما هو، و حضرت الصلاة، و ليس يقدر علي ماء غيرهما؟ قال: يهريقهما جميعا و يتيمم» «1»، و نحوه موثق سماعة «2» المعمول بهما عند الأصحاب، كما في المعتبر، و المقبولان عندهم، كما عن محكي المنتهي.

و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «لا إشكال في وجوب التيمم مع انحصار الماء في المشتبهين، لأجل النص و الإجماع المتقدمين».

لكن، الخروج بهما عن القاعدة المقتضية لجواز الجمع بينهما بالوجه المذكور و نحوه. لا يخلو عن إشكال، لقرب ورودهما للترخيص في التيمم، لدفع توهم عدم مشروعيته، بسبب القدرة علي الماء الطاهر واقعا تسهيلا علي المكلّف، لما في الجمع بالوجه المذكور من الحرج النوعي، و من الابتلاء بالنجاسة ظاهرا أو احتمالا علي ما يأتي الكلام فيه، و إلا فيصعب جدا البناء علي عدم مشروعية الطهارة بما هو الطاهر منهما بمجرد الاشتباه، بحيث لو توضأ بأحدهما برجاء كونه الطاهر لكان وضوءه باطلا واقعا و إن صادف الواقع، كما نبه لذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه.

فالمتيقن منهما عدم وجوب الجمع بالوجه المذكور، لا عدم مشروعيته.

و هو المتيقن من الإجماع أيضا، لما يظهر من الخلاف من أن الإجماع

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 417

______________________________

المذكور في قبال أقوال العامة، التي هي بين ملزم بالصلاة بعد كل من الوضوئين مع غسل الأعضاء بالثاني و عدمه، و ملزم بالتحري و اختيار مظنون الطهارة.

و لو فرض انعقاد الإجماع علي عدم جواز الجمع بالوجه المذكور أشكل الاعتماد عليه، بعد قرب استناده للنص أو الوجوه الأخر التي عرفت الكلام فيها.

هذا، و قد يظهر من شيخنا الأستاذ قدّس سرّه تنزيل الموثقين علي صورة تعذر الوجه المذكور، لقلة الماء، أو لزوم الحرج منه، و أنه مع عدمهما يجب الوجه المذكور مع انحصار الماء عملا بالقاعدة المذكورة، و سبقه لذلك في الجملة الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

لكنه خروج عن إطلاق النص الذي يلزم تخصيص القاعدة به، و تنزيله علي الحرج النوعي لا الشخصي.

غاية الأمر أنه يحمل علي الترخيص في التيمم دون الإلزام. و اللّٰه سبحانه و تعالي أعلم.

بقي في المقام أمور.

الأول: أن الوجه المذكور و إن أحرز معه الصلاة مع الطهارة إجمالا، إلا أن المكلف يبتلي معه باحتمال نجاسة أعضائه، لاحتمال كون النجس هو المستعمل ثانيا.

و قد وقع الكلام في مطابقة الاحتمال المذكور للأصل و عدمها.

و لا يخفي أنه بلحاظ حال ما بعد كل من الاستعمالين يكون المقام من تعاقب الحالتين المتضادتين مع الجهل بالتاريخ فيهما، و التحقيق فيه جريان الاستصحابين ذاتا و سقوطهما بالمعارضة.

و من هنا فقد يوجه بوجهين آخرين.

أولهما: أنه حين ملاقاة الماء الثاني للبدن قبل انفصاله و صدق عنوان الغسل المطهر يعلم بنجاسة البدن، و حيث كانت معلومة التاريخ أمكن استصحابها.

إن قلت: الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب طهارة البدن المجهولة

ص: 418

______________________________

التاريخ المعلومة الحصول، إما بعد استعمال الأول أو بعد الاستعمال الثاني الذي تقدم آنفا أنه يجري ذاتا، فإنه كما يعارض استصحاب النجاسة المجهولة التاريخ- علي ما تقدم- يعارض استصحاب النجاسة المعلومة التاريخ المدعي هنا، و لا وجه لفرض المعارضة أولا بين مجهولي التاريخ و تساقطهما، ثمَّ الرجوع لاستصحاب النجاسة المعلومة التاريخ وحده، بعد عدم تأخره رتبة عنهما.

قلت: استصحاب مجهول التاريخ في أحد الضدين إنما يجري ذاتا مع الجهل بتاريخ الضد الآخر، فيتساقطان بالمعارضة، و أما مع العلم بتاريخ الضد فلا يجري ذاتا، كي يصلح للمعارضة.

و ما سبق من فرض التعارض بين مجهولي التاريخ في المقام بعد فرض جريانهما ذاتا مبني علي إغفال النجاسة المعلومة التاريخ المشار إليها هنا.

و تمام الكلام في ذلك في الأصول.

ثانيهما: أنه في حال غسل الأعضاء بالماء الثاني حيث يكون الغسل تدريجيا يعلم المكلف بنجاسة بعض أعضائه إجمالا، فتستصحب.

و استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه: بأنه يتوقف علي كون المانعية من آثار الكلي، ليجري استصحابه، أما لو كانت من آثار الفرد كان من استصحاب الفرد المردد، الذي هو محل الإشكال.

و يندفع: بأن المانعية و إن كانت من آثار الفرد ظاهرا- كالتنجيس- إلا أن الظاهر اختصاص المانع من استصحاب الفرد المردد بما إذا كان بعض أطراف الترديد معلوما بالتفصيل، حيث يمتنع تنجيز الاستصحاب للحكم فيه، بخلاف المقام، حيث كانت جميع الأطراف مشكوكة قابلة لتنجيز الحكم الاستصحابي بالإضافة إليها، فإنه لا مانع من استصحاب المعلوم بالإجمال و تنجيزه علي ما هو عليه من الترديد المقتضي للاحتياط في تمام الأطراف. فالمقام نظير ما لو علم إجمالا بنجاسة إحدي اليدين، ثمَّ غمسا معا في كرّ مردّد بين الماء

ص: 419

______________________________

المطلق و المضاف.

و منه يظهر: أنه لو فرض ملاقاة جسم واحد لكلا العضوين برطوبة لزم البناء علي نجاسته، لملاقاته لمستصحب النجاسة، و إن كان مرددا بين العضوين. كما أنه علي الوجه الأول يتعين البناء علي نجاسة الملاقي لأحد العضوين.

نعم، بناء علي معارضة الاستصحاب في معلوم التاريخ بالاستصحاب في مجهول التاريخ، يكون استصحاب النجاسة بالوجهين المذكورين معارضا باستصحاب الطهارة، للعلم بأن ما هو النجس من العضوين حين الشروع في التطهير قد طرأته الطهارة إما قبل الشروع فيه أو بعد الفراغ منه.

و من ثمَّ لم يتمسك بعض مشايخنا بالاستصحاب في المقام، و إنما ادعي تنجز احتمال النجاسة بمقتضي العلم الإجمالي، حيث يجب إحراز الفراغ عنه بتطهير تمام الأعضاء، و هو غير محرز بإكمال غسلها بالماء الثاني، لاحتمال نجاسته.

فتأمل جيدا.

و لازم ذلك عدم الحكم بنجاسة الملاقي لهما معا، فضلا عن الملاقي لأحدهما، لعدم إحراز نجاسة الملاقي لا وجدانا، و لا بالأصل، و وجوب الاحتياط فيهما من جهة العلم الإجمالي لا يستلزمه. لكن أشرنا إلي عدم تمامية المبني المذكور.

و مما ذكرنا ظهر عدم جواز سلوك الطريق المذكور لمن يعلم من نفسه الابتلاء بتكليف يعتبر في امتثاله طهارة الأعضاء، و لا يتيسر له تطهيرها حينه، لما في سلوك هذا الطريق من التعجيز عن امتثال التكليف المفروض، و هو قبيح موجب لاستحقاق العقاب.

كما ظهر بذلك أنه لا يجوز الاكتفاء بصلاة واحدة بعد الوضوء أو الغسل من الإنائين بالوجه المتقدم، لأن الطهارة الحدثية و إن أحرزت بذلك، إلا أن إحراز النجاسة بالأصل مانع من الاكتفاء بالصلاة المذكورة، خلافا لما قد يظهر من السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي.

ص: 420

______________________________

نعم، لو أقدم المكلف علي ذلك، و تعذر عليه تطهير بدنه صحت صلاته و ما بعد ذلك، و إن كان مفرطا في ترك الصلاة بين الاستعمالين، لسقوط مانعية النجاسة عند الاضطرار و إن كان بسوء الاختيار.

الثاني: الظاهر عدم وجوب إهراق الإنائين مع إرادة التيمم للانحصار بهما- فضلا عن صورة عدم الانحصار- كما في المعتبر، و القواعد، و جامع المقاصد، و المسالك، و عن السرائر و الذكري و غيرها، و عن الدلائل: أنه مذهب أكثر المتأخرين.

خلافا لما في الفقيه من وجوب الإهراق، و هو المحكي عن النهاية، و ظاهر الصدوق الأول. و قد يستدل عليه بالموثقين المتقدمين.

لكن، تقدم عدم ظهورهما في الوجوب، لقرب ورودهما لدفع توهم الحظر، حيث قد يتوهم كون الإهراق تعجيزا معاقبا عليه.

مضافا إلي قرب كون الأمر بالإراقة فيهما كناية عن عدم صلوح الماء للانتفاع المعتد به، و لذا ورد لبيان انفعال الماء في كثير من الموارد من دون أن يحمل فيها علي الوجوب.

و دعوي: أن الإراقة مقدمة لمشروعية التيمم، لتوقفها علي عدم الماء الطاهر المفروض العلم بوجوده في أحد الإنائين.

مدفوعة: بأن وجود الماء المذكور إن اقتضي وجوب الطهارة المائية و عدم مشروعية التيمم، لم يجز الإهراق، لأن فيه تعجيزا عن الواجب.

و أشكل من ذلك ما في المقنعة، و عن علم الهدي من وجوب الإهراق مع وجود الماء الآخر، لقصور النص و الوجه المذكور عنه.

و من ثمَّ لا يبعد حمل كلامهما علي الكناية عن عدم الانتفاع، كما تقدم في الموثقين.

كما لا يبعد حمل كلام غيرهما علي ذلك، أو علي المحافظة علي عبارة النص، كما هو ديدنهم.

ص: 421

______________________________

الثالث: الظاهر اختصاص الموثقين بالماء القليل، لقرب انصراف الإنائين عن الكر، و لا سيما بملاحظة ظهورهما في فرض انفعال أحدهما بوقوع القذر فيه، الذي لا يتأتي في الكر، بل لا يكون نجسا إلا بالتغيّر أو بتجمّعه من الماء النجس.

لكن لا بد من إلغاء خصوصية موردهما و تعميمهما للكر، بعد اشتراكه مع القليل في الجهات الارتكازية المناسبة للتوقف عن المائين من لزوم العسر النوعي و الابتلاء بالنجاسة الظاهرية، لجريان الوجه الثاني لاستصحاب النجاسة فيه، بل لا يبعد جريان الوجه الأول، فإن التطهير بالكر و إن لم يحتج إلي انفصال ماء الغسالة و التعدد علي قول، إلا أنه موقوف علي استيلاء الماء علي الموضع النجس، و الظاهر أنه متأخر عن الملاقاة المقتضية للنجاسة و لو بزمان قليل جدا، فيعلم بنجاسة الجسم في ذلك الزمان تفصيلا و يجري بلحاظه الاستصحاب. فتأمل.

و منه يظهر الوجه في إلغاء خصوصية الإناء و العدد، و نحوهما مما هو ملغي ارتكازا.

الرابع: إذا لم ينحصر الماء في المشتبهين، فحيث لا إشكال في وجوب الطهارة المائية، فالظاهر جواز الجمع بين المائين بالوجه المتقدم، عملا بالقاعدة حتي لو لم نقل بجواز ذلك مع الانحصار، لأجل الموثقين المتقدمين، لاختصاصهما بصورة الانحصار، و لا مجال لإلغاء خصوصية موردهما.

و دعوي: أولوية الصورة المذكورة في البطلان.

ممنوعة، إذ بعد كون ذلك علي خلاف القاعدة فمن الممكن كون تشريع التيمم في موردهما بنحو العزيمة، و يكون ذلك هو المانع من استعمالهما، و لا دليل علي مانعية الاشتباه من الامتثال بالوجه المذكور، مع الانحصار ليثبت مع عدمه بالأولوية. فلاحظ.

الخامس: لما كان الموثقان مختصين بالطهارة الحدثية، فاللازم في الطهارة الخبثية الرجوع للقاعدة المقتضية للاحتياط بالتطهير بكل منهما و الصلاة بعد كل تطهير، بعد ما أشرنا إليه غير مرة من عدم المحذور في

ص: 422

______________________________

الامتثال بالتكرار.

و محذور النجاسة الظاهرية المستصحبة بعد استعمال المائين بالإضافة إلي الصلوات اللاحقة لو فرض تعذر التطهير، غير مهم بعد استلزام تركهما للقطع بالنجاسة.

إلا أن يفرض توقف التطهير بالوجه المذكور علي إصابة مقدار معتدّ به من الموضع الطاهر، فيقع التزاحم بين وجوب إحراز الطهارة في الصلاة الحاضرة و وجوب تقليل النجاسة في الصلاة اللاحقة.

و كذا لو فرض عدم إحراز النجاسة قبل الاستعمالين، بل تنجز احتمالها بعلم إجمالي و نحوه، حيث يقع التزاحم حينئذ بين الموافقة القطعية في الصلاة الفعلية و الموافقة الاحتمالية في الصلوات اللاحقة، و اللازم حينئذ الترجيح بالأهمية أو التخيير، علي تفصيل و كلام يذكر في مباحث التزاحم.

كما أنه لو فرض لزوم العسر من الجمع بالوجه المذكور تعين الاقتصار علي الموافقة الاحتمالية، بناء علي ما هو التحقيق من تبعيض الاحتياط في مثل ذلك لا سقوطه رأسا.

السادس: ما تقدم من الكلام لا يختص بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من فرض العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين و طهارة الآخر، بل يكفي في ذلك احتمال طهارة الآخر إذا لم يكونا مستصحبي النجاسة، فإن أصالة الطهارة و استصحابها في غير متيقن النجاسة إجمالا يقتضي الاجتزاء به، فيكتفي بتحصيله بالجمع بينهما بالوجه المتقدم، بل قد يجب علي ما سبق.

السابع: لما كان الاجتناب عن الإنائين في المقام عقليا من جهة العلم الإجمالي تعين توقفه علي ما يعتبر في منجزية العلم الإجمالي من الابتلاء و ترتب الأثر العملي علي تمام الأطراف و غير ذلك، كما يجري فيه ما يجري فيه من عروض موانع التنجيز علي بعض الأطراف و الانحلال و غير ذلك مما فصل الكلام فيه في الأصول، و لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.

ص: 423

و كذا لا يحكم بنجاسة الملاقي لأحدهما (1)،

______________________________

(1) بل يحكم بطهارته، كما هو ظاهر المدارك- حاكيا عن المحقق الثاني في حاشية الشرائع- القطع به، و عن الشهيد الثاني في روض الجنان الميل إليه، و مال إليه الوحيد في حاشيتها، و قوّاه في الجواهر ناسبا له للمشهور بين الأصحاب، و نسبه في الحدائق إلي تصريح جملة من المتأخرين و متأخريهم.

عملا منهم باستصحاب الطهارة في الملاقي، كما صرح به في المدارك.

بل لا يبعد جريان استصحاب الطهارة في الملاقي نفسه لإثبات طهارة الملاقي، فيغني عن استصحاب طهارة الملاقي، لأنه سببي بالإضافة إليه.

و عدم جريان الاستصحاب المذكور لإثبات جواز ارتكاب الملاقي نفسه من جهة العلم الإجمالي، لا ينافي جريانه لإثبات طهارة الملاقي، لتحقق موضوع الأصل فيه ذاتا، فيقتصر في عدم ترتب الأثر عليه علي مورد المانع، و هو العلم الإجمالي، الذي لا يصلح لتنجيز احتمال التكليف في الملاقي، كما سيأتي.

و التفكيك في الآثار غير عزيز، و لا سيما بناء علي ما هو المختار في وجه عدم العمل بالأصل الترخيصي في الأطراف، من أن العلم الإجمالي لا يقتضي خروج الطرف عن دليل الأصل تخصيصا، بل اجتماع الحيثيتين فيه و تزاحمهما المقتضي للعمل علي طبق الحيثية الاقتضائية، و هي حيثية التنجز المسببة عن العلم الإجمالي، إذ بناء علي ذلك لا مجال للمنع من العمل بحيثية الأصل في الملاقي بعد فرض عدم تحقق الحيثية المزاحمة فيه. فتأمل جيدا.

هذا، و عن العلامة قدّس سرّه في المنتهي وجوب الاجتناب عن الملاقي حتي يطهر، و وافقه في الحدائق. و استدل له العلامة في محكي المنتهي بأن المشتبه بحكم النجس.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 1، ص: 424

و فيه: أنه لا وجه للتنزيل المذكور، كما ذكره غير واحد. و وجوب الاجتناب عنه عقلا خروجا عن العلم الإجمالي لا يقتضيه.

ص: 424

______________________________

و مثله ما في الحدائق من أنه و إن لم يكن بحكم النجس من تمام الجهات- و لذا تصح الصلاة في الثوبين المشتبهين مع التكرار- إلا أنه بحكمه في حكم الملاقي، قال: «للمشتبه في هذه المسألة و أمثالها حالة متوسطة، فمن بعض الجهات- كالأكل و الشرب و الملاقاة برطوبة- حكمه حكم النجس، و من بعض الجهات- كالصلاة في الثوبين المشتبهين باعتبار تكرارها فيهما- له حالة ثالثة».

لاندفاعه: بعدم الوجه في التنزيل المذكور لو أريد منه الواقعي، و إن أريد منه الظاهري الراجع إلي لزوم الاجتناب احتياطا فلا وجه لتعميمه للملاقاة، بعد كون منشأ الاجتناب عن المشتبه هو تنجز احتمال التكليف المترتب علي نجاسته بسبب العلم الإجمالي، فإن ذلك يختص بالتكليف الفعلي المترتب علي النجس، دون مثل وجوب الاجتناب عن الملاقي، الذي هو تكليف تعليقي موقوف علي تحقق الملاقاة، فمع فرض عدم تحققها حين العلم الإجمالي لا مجال لتنجزه به، و بعد تحققها و إن احتمل فعلية التكليف المذكور، إلا أنه لا يتنجز بالعلم الإجمالي الحاصل حين الاشتباه، لخروجه عن أطرافه، فلا مانع من الرجوع فيه للأصل الترخيصي من استصحاب أو غيره.

و نحوه ما عن الأسترابادي في الفوائد المدنية في مشكوك الكرية من أن الملاقي بحكم الملاقي في الطهارة و النجاسة و التوقف.

لعدم الدليل علي عموم التبعية المذكورة، و مجرد ثبوتها في الطهارة لعدم المقتضي للنجاسة، و في النجاسة لدليل الانفعال، لا يقتضي ثبوتها في التوقف، و لا سيما إذا كان عقليا، كما في المقام.

إلا أن يشتركا في منشأ التوقف، كما لو شك في نجاسة الملاقي من باب الشبهة الحكمية قبل الفحص، و قد عرفت أن منشأ التوقف في المقام مختص بالملاقي، لأنه الطرف للعلم الإجمالي دون الملاقي.

إن قلت: الملاقي و إن خرج عن العلم الإجمالي في الملاقي و صاحبه، إلا أنه

ص: 425

إلا إذا كانت الحالة السابقة فيهما النجاسة (1).

______________________________

طرف لعلم إجمالي آخر، للعلم الإجمالي أيضا بنجاسة الملاقي و صاحب الملاقي، فيجب الاحتياط فيه.

قلت: لا مجال لمنجزية العلم الإجمالي المذكور إذا كانت الملاقاة بعد نجاسة أحد الطرفين، لمانعية العلم الإجمالي الأول من منجزيته بعد كونه أسبق منه معلوما.

إلا أن يفرض ابتلاء الملاقي بما يمنع من منجزية العلم الإجمالي الأول- كالخروج عن الابتلاء- فيتعين منجزية العلم المذكور، و وجوب الاجتناب عن الملاقي.

كما أنه لو كانت الملاقاة حين نجاسة أحد الطرفين، فالمتعين منجزية العلمين معا و وجوب الاجتناب عن الملاقي أيضا، لعدم المرجح لأحدهما و لا يبعد خروجه عن مفروض كلام الأصحاب.

نعم، لما كان اجتناب الملاقي في هاتين الصورتين من جهة العلم الإجمالي القائم به و بصاحب الملاقي، اعتبر فيه ما يعتبر في منجزية العلم الإجمالي من الابتلاء بتمام الأطراف و غيره مما يذكر في مباحث العلم الإجمالي. و تمام الكلام في هذه المسألة في الأصول، إذ لا مجال لاستقصائه هنا بعد تشعبه بسبب اختلاف المباني و كثرة الصور. و اللّٰه سبحانه و تعالي ولي العصمة و السداد.

(1) أما لو لم يعلم بطهارة أحدهما، بل بنجاسة أحدهما لا غير، فظاهر لعموم دليل الاستصحاب. بلا إشكال.

و أما مع العلم بطهارة أحدهما فلأن العلم المذكور لا أثر له في مقام العمل بعد فرض اقترانه- بالعلم الإجمالي- بالنجاسة المقتضي للاحتياط بالاجتناب عنهما معا، فلا يصلح للمنع من جريان استصحاب النجاسة في الملاقي، بنحو يترتب عليه نجاسة ملاقية، بناء علي ما هو التحقيق من تحقق موضوع الأصول في أطراف العلم الإجمالي و شمول أدلتها له ذاتا.

ص: 426

و إذا اشتبه المطلق بالمضاف (1).

______________________________

نعم، لا مجال لجريان الاستصحاب فيهما معا بلحاظ ترتب الأثر فيهما أو في ملاقييهما، لو كان لكل منهما ملاق بعد ثبوت قيام العلم الإجمالي المنجز، إذ لو أريد بالاستصحاب محض لزوم الاجتناب، فهو يترتب عقلا بسبب العلم بحرمة أحدهما، فيلغو جعل الأصل بلحاظه، و إن أريد به إحراز النجاسة و التكليف فيهما معا، بحيث يكون اجتناب كل منهما بملاك الإطاعة لتكليفه المحرز بالاستصحاب، لا لمحض الاحتياط في التكليف الواحد المعلوم بالإجمال بحيث يكون ارتكابهما معا معصيتين، و اجتنابهما طاعتين، فهو مناف للعلم الإجمالي بإباحة أحدهما الراجع إلي عدم العقاب إلا علي واحد منهما.

و بالجملة: لا بد في جريان الأصل من ترتب أثر لا يترتب علي العلم الإجمالي، و لا ينافيه، علي ما فصّل الكلام فيه في الأصول بما لا مجال لاستقصائه هنا.

و مما ذكرنا يظهر جريان استصحاب النجاسة في الملاقي، و إثبات نجاسة الملاقي له، حتي لو لم يعلم ببقاء أحدهما علي النجاسة، لاحتمال تطهيرهما معا.

لكن، لا يجري الاستصحاب فيهما معا لإثبات نجاستهما أو نجاسة ملاقييهما لو كان لكل منهما ملاق، لما سبق من منافاتهما للعلم بالطهارة، بل يجري حينئذ استصحاب نجاسة أحدهما إجمالا لا غير، فيكونان كما لو علم إجمالا بنجاسة أحدهما. فلاحظ.

(1) حيث لم يتعرض سيدنا المصنف قدّس سرّه لحكم الشك في إطلاق الماء مع قطع النظر عن العلم الإجمالي، فالمناسب التعرض لذلك هنا قبل الكلام في مقتضي العلم الإجمالي.

فنقول: الكلام. تارة: مع العلم بالحالة السابقة من الإطلاق أو الإضافة.

و اخري: بدونه.

ص: 427

______________________________

أما في الأول: فالذي ذكره غير واحد الرجوع لاستصحاب الحالة السابقة عملا بإطلاق دليل الاستصحاب.

نعم، نبّه سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره، إلي اختصاص ذلك بما إذا كان الشك للشبهة الموضوعية، دون الشبهة المفهومية، لعدم جريان استصحاب المفهوم المردد علي التحقيق.

كما لا ينبغي الإشكال في عدم جريانه مع تعدد الموضوع، بأن استند احتمال تبدل حال الماء إلي إضافة ما لا يستهلك فيه عرفا، فلا يصح نسبة الحال السابق من الإطلاق أو الإضافة للماء المشكوك، كي يتحد موضوع اليقين و الشك، و الكلام في جريان الاستصحاب لا بد أن يكون في فرض وحدة الموضوع.

و مع ذلك لا يخلو جريان الاستصحاب عن إشكال، لأن مفاده إثبات المائية للموجود الخارجي أو سلبها عنه بمفاد كان و ليس الناقصتين، الراجع إلي مفاد النسبة التركيبية، و هو موقوف علي أخذ ذلك في موضوع الأثر، بأن تؤخذ المائية بحسب الأدلة شرطا في موضوع الأحكام- من الطهورية و غيرها- زائدا علي ذاته، كالطهارة، بأن يكون الموضوع مركبا، قد أحرز بعضه بالوجدان و بعضه بالأصل، فالوضوء بشي ء محرز بالوجدان، و كون ذلك الشي ء ماء محرز بالأصل.

لكنه خلاف ظاهر الأدلة المذكورة جدا، لظهورها في أخذ عنوان الماء في موضوع الأحكام بما هو عنوان وجداني بسيط من دون أن ينحل إلي ذات و خصوصية، بينهما نحو نسبة حملية، لاختصاص ذلك بالعناوين الاشتقاقية و ما ألحق بها من العناوين التركيبية عرفا، كالزوج و العالم، دون العناوين الجامدة كالماء و الأرض و الحجر، مما لا يدرك العرف انحلاله، و إن كان منحلا حقيقة، لإمكان التبدل فيه مع حفظ الذات.

و أخذ الفقهاء قيد الإطلاق زائدا علي الماء إنما هو للتوضيح و التمييز بينه و بين المضاف في مقام التقسيم إليهما، لا لأخذه شرعا، بل هو وصف تأكيدي لا يزيد علي اعتبار المائية.

ص: 428

______________________________

و بالجملة: المائية المقوّمة للإطلاق المقابل للإضافة و إن لم تكن مقومة للذات حقيقة- كالمائية المقوّمة للعنصر التي تعم المضاف، بل مثل البول و الريق مما لا يطلق عليه الماء حتي مع الإضافة- بل هي أمر زائد عليها منفك عنها، إلا أن العرف يغفل عن التحليل المذكور، و يري الماء عنوانا بسيطا لا تركيب فيه، فأخذه في موضوع المطهرية شرعا ظاهر في الجري علي المفهوم العرفي و عدم لحاظ التحليل فيه، فيشكل استصحاب مائيته أو عدمها بمفاد كان و ليس الناقصتين، لعدم كونها بالوجه المذكور دخيلة في موضوع الأثر، ليكون إحرازها بالأصل بضميمة إحراز بقية الموضوع بالوجدان متمما لموضوع الأثر.

و بعبارة أخري: موضوع الحكم هو الوضوء بالماء مثلا، و هو غير محرز بنفسه، لا بالوجدان، و لا بالأصل، فلا بد في إحرازه من فرض تركّبه و انحلاله إلي أجزاء يحرز بعضها بالوجدان، و بعضها بالأصل، و ليس المحرز بالوجدان في المقام إلا الوضوء بما في الإناء المردد بين المطلق و المضاف، فإن فرض انحلال موضوع الحكم إلي الوضوء بشي ء هو ماء كان استصحاب المائية لما في الإناء محرزا لبقية أجزاء الحكم و متمما لموضوعه، و إلا كان إحراز موضوع الحكم به مبنيا علي الأصل المثبت، و حيث كان التحليل خلاف الظاهر امتنع الرجوع للأصل. و عليه يتعين الرجوع للأصول الأخر التي يأتي الكلام فيها إن شاء اللّٰه تعالي.

فتأمل جيدا.

و أما في الثاني: - و هو عدم العلم بالحالة السابقة- فربما يتمسك باستصحاب عدم كون المائع المردد ماء من باب استصحاب العدم الأزلي، غير المعارض باستصحاب عدم كونه مضافا، لعدم الأثر له في نفسه بعد عدم كون الإضافة مانعة شرعا من أحكام الماء المطلق من الطهورية و غيرها، بل عدم ترتبها معها لعدم الموضوع و هو الماء.

و دعوي: أن مائية الماء من شؤون ذاته غير المنفكة عنه حتي أزلا، لا من لواحق وجوده ليمكن نفيها عنه بلحاظ العدم الأزلي.

ص: 429

______________________________

مدفوعة: بأن ما هو من شؤون الذات هو المائية المقومة للعنصر، التي تعم المطلق و المضاف و غيرهما، لا المائية التي هي موضوع الأحكام المقابلة للإضافة و المصححة لإطلاق الماء، فإنها من لواحق الوجود الزائدة علي الذات، كالإضافة، و لذا يمكن تبادلهما علي الماء الواحد مع حفظ ذاته- كما أشرنا إليه آنفا- فيصح استصحاب عدمها أزلا.

لكن، الاستصحاب المذكور- مع عدم جريانه في الشبهة المفهومية، و لا مع تعاقب الحالتين- مبني علي فرض انحلال موضوع الأحكام و تركبه بنحو يطابق مفاد الاستصحاب، و قد عرفت الإشكال في ذلك.

هذا، و حيث لا أصل يحرز الإطلاق أو الإضافة بمجرد الشك، كما كان الأصل الطهارة مع الشك فيها، تعين مع عدم جريان الاستصحاب الرجوع للأصل الجاري في أحكام الماء المطلق، التي يمتاز بها عن المضاف.

و ليس له إلا أحكام ثلاثة.

الأول: المطهرية من الحدث و الخبث. و قد يدعي الرجوع فيها إلي استصحاب الطهورية أو عدمها مع العلم بسبق أحدهما في الماء المشكوك، سواء كان الشك في إطلاق الماء للشبهة الموضوعية أم المفهومية، لعدم إجمال المستصحب- و هو الطهورية- علي الثاني.

و دعوي: عدم إحراز الموضوع و هو الماء في الموردين.

مدفوعة: بأن موضوع الطهورية هو ذات الماء المحفوظة عرفا، و إن لم تحرز مائيته. و فرض تعدد الموضوع للاختلاط بما لا يستهلك خارج عن محل الكلام.

لكن يشكل الاستصحاب المذكور، بأن طهورية الماء منتزعة من ترتب الطهارة علي استعماله، كما هو الحال في سائر العناوين الاشتقاقية، حيث تكون متقومة بنحو نسبة منتزعة من المادة، و ليس الأمر الحقيقي التكويني أو الاعتباري إلا تلك المادة، فكما تكون قاتلية السيف منتزعة من ترتب القتل عليه، و عالمية الرجل منتزعة من ثبوت العلم له، كذلك طهورية الماء و الأرض منتزعة من ترتب الطهارة

ص: 430

______________________________

عليهما، فالاستصحاب إنما يجري في منشأ انتزاعها، و من الظاهر أن الحكم علي الماء بترتب الطهارة علي استعماله، عبارة عن حكم تعليقي لا مجال لاستصحابه علي التحقيق.

و دعوي: أن الطهورية أمر اعتباري متحقق بالفعل في الماء يترتب عليه حصول الطهارة شرعا، ترتب الحكم علي موضوعه، كما يترتب نفوذ التصرف من الولي علي ولايته، و نفوذ القضاء من القاضي علي قضاوته.

مدفوعة: بأن اتحاد الطهورية و الطهارة في المبدأ المصحح لصدقهما و عدم انفكاك أحدهما عن الآخر، لكونهما كالمتضايفين مانع من كون أحدهما حكما للآخر مستقلا عنه بالجعل، للغوية أحد الجعلين.

نعم، لو كان المراد بالطهورية الخاصية الموجودة في الماء التي اقتضت جعل الطهارة باستعماله، لم يكن استصحابها تعليقيا، و أمكن جعل الطهارة حكما لها.

لكن الخاصية المذكورة لو فرض وجودها، ليست أمرا اعتباريا مجعولا، و لا هي عين الطهورية، بل هي أمر تكويني في الماء، كالملاك لطهوريته و لترتب الطهارة عليه، نظير انصقال السيف الذي هو الشرط في قاتليته و ترتب القتل عليه.

و أضعف من ذلك دعوي: أن المجعول هو الطهورية لا غير و هي أمر فعلي في الماء، و أن الطهارة من شؤونها اللاحقة لها من دون حاجة إلي جعل شرعي آخر بينهما.

إذ لو أريد بذلك أن ترتب الطهارة علي الطهورية خارجي من دون حاجة إلي جعل و ترتب شرعي بينهما.

فيدفعه امتناع ترتب مثل الطهارة من الأمور الاعتبارية بدون توسط جعل و اعتبار.

مع أن استصحاب الطهورية لا ينهض بإحراز آثارها الخارجية غير الجعلية.

و إن أريد به أن الطهارة منتزعة من الطهورية من دون أن تكون مجعولة أصلا

ص: 431

______________________________

و لا موردا للأثر، و ليس الأثر إلا لاستعمال الطهور، عكس ما ذكرنا، فليست طهارة الثوب في الحقيقة إلا غسله بالطهور، و ذلك هو موضوع الآثار.

فيدفعه ما تقدم من أن العنوان الاشتقاقي هو المنتزع من المادة. مضافا إلي وضوح كون الطهارة مجعولة بنفسها، و هي مورد الآثار الشرعية بحسب الأدلة، بل الضرورة.

و بالجملة: ليس مفاد جعل الطهورية للماء أو الأرض إلا جعل الطهارة معلقة علي استعمالها، فيبتني استصحابها علي الاستصحاب التعليقي، الذي لا يجري علي التحقيق.

و علي هذا، فليس المرجع إلا استصحاب الحدث أو الخبث و عدم الطهارة، باستعمال الماء المذكور.

بل لا يبعد جريان استصحاب عدم الغسل بالماء الذي هو سبب الطهارة، فإن العلم بتحقق أصل الغسل لا ينافي الشك في تحقق الغسل بالماء، و بعد اليقين بعدمه سابقا يستصحب، و إن لم يحرز كون المستعمل ماء مطلقا أو مضافا.

نعم، لا يجري الأصل المذكور لو كان التردد في الماء من جهة الشبهة المفهومية، لكونه من استصحاب المفهوم المردد حينئذ، بل يختص جريانه بالشبهة الموضوعية.

و قد يدعي ابتناء جريان الأصل المذكور علي ما تقدم منا من بساطة الماء المأخوذ في موضوع الحكم، إذ لو كان مركبا و منحلا فمع فرض إحراز أحد جزئية بالوجدان، و هو: الغسل بشي ء، لا معني لنفيهما معا بالأصل، كما لا مجال لنفي الغسل بالماء بما أنه أمر بسيط، لعدم كونه ببساطته موضوعا للأثر.

و يشكل: بأن تركب الماء في موضوعيته لا ينافي بساطة الغسل في موضوعيته، لوضوح أن الماء بما هو أمر بسيط أو مركب قد أخذ قيدا في الغسل، فليس المطهر إلا الغسل الخاص، و هو مشكوك بسبب الشك في تحقق كلا قيدية و إن أحرز أحدهما، فلا بأس بنفيه بالأصل.

ص: 432

______________________________

نعم، يتجه ذلك لو لم يؤخذ الماء قيدا في الغسل، بل جزءا في قباله، كما لو كانت الطهارة مسببه عن الغسل و وجود الماء، فإنه لا مجال لاستصحاب عدم الغسل بعد اليقين بوجوده، سواء كان الماء مركبا أم بسيطا، نظير ما لو كان الموضوع مركبا من مجي ء زيد و مجي ء عمرو، و علم مجي ء زيد، و لم يحرز مجي ء عمرو و لا عدمه، فإنه لا مجال لاستصحاب عدم المجيئين بعد فرض انحلال الموضوع و تركبه من جزئين، أحدهما معلوم الحصول، فتأمل جيدا.

نعم، هذا كله إنما يقتضي عدم الاجتزاء باستعمال الماء المذكور مع تيسّر غيره، أما مع تعذر غيره و انحصار الأمر به فيشكل تركه، لعدم إحراز مشروعية العمل بدونه.

و يأتي الكلام في ذلك بعد الفراغ من الكلام في أحكام شخص الماء المشكوك إن شاء اللّٰه تعالي.

الثاني: الاعتصام مع الكرية. و اللازم التفصيل في المقام بين الشبهة المفهومية و الموضوعية. فيرجع في الاولي إلي عموم الانفعال- الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الخامس إن شاء اللّٰه تعالي- لإجمال المخصص، و هو دليل اعتصام الماء الكر، و الشك في شموله للفرد المذكور، فيتعين الرجوع للعموم.

و في الثانية إلي أصل الطهارة، بل استصحابها، لعدم حجية العام في الشبهة المصداقية.

نعم، قد يدعي لزوم البناء فيها علي الانفعال إما لقاعدة المقتضي، بدعوي: أن الملاقاة مقتضية للنجاسة، و كرية الماء مانعة منها.

و إما لأن تعليق الحكم الترخيصي علي عنوان وجودي- كالماء في المقام- يقتضي البناء علي عدمه عند عدم إحرازه، نظير ما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه عند الشك في الكرية.

و تقدم منا منع كلا الوجهين في الفرع التاسع من الفروع التي ألحقناها بمباحث الماء الذي لا مادة له.

ص: 433

______________________________

علي أنه قد يشكل جريان الأول: بأن المائية ليست من سنخ المانع، بل هي موضوع للمانعية، مع كون المانع هو الكرية المفروض تحققها في المقام، فالشك في المقام ليس في وجود المانع، بل في تحقق موضوع المانعية الذي يتوقف عليه تأثير المانع، و ليس من المعلوم عموم القاعدة لذلك عند القائلين بها.

و الثاني: باختصاصه بما إذا كان دليل اختصاص الحكم بالعنوان الوجودي بلسان الحصر و التعليق، كتعليق الاعتصام علي الكرية في الماء، و تعليق جواز الاستمتاع علي عنوان الزوجية و ملك اليمين، و ليس دليل اختصاص الاعتصام بالماء باللسان المذكور، بل ليس هو إلا من جهة اختصاص عنوان الخاص به و عموم الانفعال لغيره، فلا يبقي في المقام إلا التمسك بعموم الانفعال في الشبهة المصداقية الذي أشرنا إلي منعه.

و لعله لذا التزم بعض الأعاظم قدّس سرّه هنا بالطهارة مع اختياره في الشك في الكرية الانفعال، كما نبّه لذلك شيخنا الأستاذ قدّس سرّه و تابعه فيه.

الثالث: الطهارة بالاتصال بالمادة. و من الظاهر لزوم البناء علي عدمها في المقام عملا بالاستصحاب، من دون فرق بين الشبهة الموضوعية و المفهومية، بناء علي أنه المرجع في أمثال ذلك.

و قد تقدم نظيره في مسألة تتميم النجس كرا. فراجع.

بقي الكلام فيما أشرنا إليه من أنه مع عدم إحراز إطلاق الماء و إن لم يسغ الاكتفاء به في تحصيل الطهارة، إلا أنه يشكل تركه مع انحصار الأمر به، لعدم إحراز مشروعية العمل بدونه. و ينبغي الكلام في ذلك موردين.

الأول: الطهارة الحدثية. فقد ذهب في القواعد و جامع المقاصد و كشف اللثام، إلي أنه لو أريق أحد الإنائين المشتبهين بالمضاف وجب الجمع بين التطهر بالآخر و التيمم، و هو المحكي عن الإيضاح و الروض و كاشف الغطاء، و ظاهر الدلائل. بل نسبه في المدارك إلي قطع الأصحاب، و إن لم يستوضحه، لما سيأتي.

ص: 434

______________________________

و عن نهاية الأحكام احتمال الاكتفاء بالتيمم في ذلك، و جزم به بعض مشايخنا، و قد يظهر من شيخنا الأستاذ قدّس سرّه، مع اتفاقهما- تبعا للسيد الطباطبائي في العروة الوثقي- علي الاكتفاء به في المشتبه الذي لم يكن طرف لعلم إجمالي سابق الذي هو محل الكلام- و وافقهم فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه مع عدم سبق القدرة علي الماء. و قوي بعض الأعاظم فيه وجوب الجمع.

هذا، و قد علل وجوب الجمع بين الأمرين بالعلم الإجمالي بوجوب أحدهما. بل قد لا يحتاج للعلم الإجمالي في مثل المقام مما يجب الاحتياط فيه بمجرد الشك لقاعدة الاشتغال بالطهارة، بل استصحاب عدمها، حيث لا يعلم حصولها بواحد منهما، لاحتمال عدم مشروعيته. بل يأتي في التنبيه الثاني أنه لا أثر للعلم الإجمالي المذكور.

و أما ما في المدارك من أن الماء الذي يجب استعماله في الطهارة إن كان هو ما علم كونه مطلقا تعيّن الاجتزاء بالتيمم، و إن كان هو ما لم يعلم إضافته تعيّن الاجتزاء بالوضوء، و الجمع بين الطهارتين غير واضح.

فهو ظاهر الوهن، فإن الماء الذي يجب استعماله هو المطلق الواقعي الذي لا يعلم انطباقه علي المشكوك ليحرز مشروعية استعماله، و لا يعلم معه بتعذره، ليحرز مشروعية التيمم.

فلا بد في الخروج عن الاحتياط المذكور من إحراز أحد الأمرين بنحو يعيّن مقتضاه و يحرز حصول الطهارة به، و يمنع من منجزية العلم الإجمالي للآخر.

و منه يظهر أنه لا مجال للاكتفاء بالوضوء مع سبق القدرة علي الماء، إما لكون المشكوك مسبوقا بالإطلاق- كما هو أحد الفروض في محل الكلام- أو لإراقة أحد الإنائين المشتبهين- كما هو مفروض كلام الأصحاب- أو لسبق القدرة علي ماء آخر ثمَّ تعذر.

بدعوي: أن مقتضي استصحاب القدرة علي الماء وجوب الوضوء.

إذ فيه: أنه لو سلم جريان الاستصحاب المذكور فهو لا يحرز إطلاق

ص: 435

______________________________

المشكوك و حصول الطهارة به، بنحو يخرج به عن العلم الإجمالي و قاعدة الاشتغال بالطهارة و استصحاب عدمها.

ثمَّ إنه قد يقرب الاكتفاء بالتيمم بأحد وجوه.

الأول: ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن موضوع التيمم لما كان هو عدم وجدان الماء فهو يصدق مع عدم التمكن من استعماله، لتعذره عقلا أو شرعا أو عدم العلم به، كما في المقام.

و فيه: أن موضوع التيمم ليس هو عدم وجدان الماء- كما يأتي قريبا- غاية الأمر أن يكون عدم وجدانه مصححا شرعا للبناء علي مشروعية التيمم، علي ما يأتي عند الكلام في وجوب الفحص عن الماء في مبحث التيمم. لكن المراد به حينئذ ليس مطلق عدم العلم بالماء، بل عدم العثور عليه، و هو لا يعم عدم العلم بحال الشي ء الموجود تحت اليد- كما في المقام- فمن وجد ناقة و شك في أنها ضالته أو غيرها، لا يقطع بعدم العثور علي ناقته و عدم وجدان ضالته، كما لعله ظاهر.

الثاني: ما ذكره بعض مشايخنا من أنه بناء علي ما هو التحقيق من جريان الاستصحاب في الأمور المستقبلة، فمقتضي الاستصحاب عدم ارتفاع الحدث باستعمال الماء المشكوك، و بذلك يحرز ارتفاع موضوع الوضوء و تحقق موضوع التيمم، و هو عدم وجدان الماء، الذي هو بمعني عدم القدرة علي استعماله، إذ لو كان واجدا بتمكّنه من استعمال المشكوك لم يحكم الشارع ببطلان غسله أو وضوئه و بقاء حدثه بعدهما.

و فيه. أولا: أن الاستصحاب المذكور ليس من استصحاب الأمور المستقبلة، لأن مفاد استصحاب الأمور المستقبلة هو الحكم الظاهري الفعلي ببقاء المتيقن في الزمان اللاحق المعلوم الحصول، نظير الحكم حين رؤية المرأة للدم باستمراره ثلاثة أيام.

أما الاستصحاب المدعي هنا فمفاده الحكم ببقاء الحدث علي تقدير استعمال الماء و إن لم يستعمل، فهو يتضمن التعليق في نفس الحكم

ص: 436

______________________________

الاستصحابي، عكس الاستصحاب التعليقي المتضمن للتعليق في نفس الأمر المستصحب فعلا.

و ثانيا: أن الاستصحاب المذكور لا يحرز عدم القدرة علي استعمال الماء الذي هو موضوع التيمم إلا بضميمة ملازمتين.

الاولي: ملازمة عدم ارتفاع الحدث خارجا، لتعذر رفعه و عدم القدرة عليه، لوضوح أن عدم وقوع الشي ء لا يتحد مفهوما و لا مصداقا مع تعذره، و لا مجال لاستصحاب نفس التعذر، لعدم اليقين به.

الثانية: ملازمة تعذر رفعه بخصوص الماء المشكوك، لتعذر رفعه بكلي الماء الذي هو موضوع التيمم، لفرض انحصار الماء المقدور عليه به.

الثالث: ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من استصحاب عدم وجدان الماء، الذي هو بمعني القدرة عليه، و لو بنحو استصحاب العدم الأزلي، فيحرز بذلك ارتفاع موضوع الوضوء و تحقق موضوع التيمم.

نعم، يختص ذلك بما إذا لم تسبق القدرة علي الماء، إذ لا مجال معه للاستصحاب المذكور، و إن لم ينفع ذلك في الاكتفاء بالوضوء، لما سبق، فيجب فيه الجمع بين الأمرين.

و بهذا يفترق هذا الوجه عن الوجهين السابقين.

كما يفترق هذا الوجه و سابقة عن الوجه الأول، بأن مفادهما مشروعية التيمم ظاهرا بالاستصحاب، و مفاد الأول مشروعيته واقعا، لتحقق موضوعه- و هو عدم العلم بالماء- وجدانا.

و من ثمَّ كان لازمه صحة التيمم واقعا، كما التزم به شيخنا الأستاذ قدّس سرّه، بل بناء علي أن مشروعية التيمم تستلزم عدم مشروعية الوضوء، يلزم البناء علي بطلان الوضوء برجاء كون الماء مطلقا و إن أصاب الواقع، و هو غريب. فلاحظ.

ثمَّ إن سيدنا المصنف قدّس سرّه أشار إلي الإشكال في هذا الوجه بما يرد علي الوجهين الأولين أيضا.

ص: 437

______________________________

و حاصله: أنها مبنية علي أن موضوع وجوب الوضوء هو وجدان الماء، كما كان موضوع التيمم هو عدمه، حيث يكون إحراز عدم الوجدان بالوجدان علي الوجه الأول، و بالأصل علي الوجهين الأخيرين، رافعا لموضوع وجوب الوضوء و مؤمنا عنه، كما يقتضي التعبد بموضوع التيمم و الإلزام به.

أما بناء علي ما هو التحقيق من إطلاق موضوع وجوب الوضوء، و أن مشروعية التيمم مع عدم الوجدان لا ينافي مشروعية الوضوء و تحقق موضوعه و ملاكه، و إن سقط عقلا بالتعذر، أو شرعا بالحرج، فإحراز عدم الوجدان و مشروعية التيمم بالوجدان أو الأصل لا يكون رافعا لوجوب الوضوء و لا مؤمنا عنه، بل يجب الاحتياط فيه باستعمال الماء المشكوك، بناء علي ما هو التحقيق من وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة الحاصل في المقام.

و قد أجاب قدّس سرّه عن الوجه المذكور: بأن إحراز مشروعية التيمم رافع لموضوع الاحتياط في الوضوء، لأن تشريعه لما كان بعنوان البدلية عن الوضوء فهذه البدلية توجب المعذورية عند العقل، فلا خوف كي يجب الاحتياط من جهة الشك في القدرة.

و يشكل ما ذكره قدّس سرّه من الجواب: بأن بدلية التيمم عن الوضوء لما كانت واقعية اضطرارية فإحراز مشروعيته لا يصلح للمعذرية، و لا يكون مؤمنا عن الواجب الأولي المفروض حصول ملاكه و عدم استيفاء تمامه بالبدل الاضطراري- مع احتمال فعلية التكليف به- لاحتمال القدرة عليه.

و إنما يتجه ذلك في البدلية الواقعية الاختيارية، لابتناء البدل الاختياري علي استيفاء تمام الملاك.

و كذا في البدلية الظاهرية الراجعة عندهم إلي التعبد ظاهرا بالامتثال، بدلا عن الامتثال الواقعي، كما لو احتمل القدرة علي الماء الطاهر الواقعي و كان عنده ماء مشكوك الطهارة، فإن أصالة الطهارة فيه تحرز حصول الامتثال به ظاهرا بدلا عن الواقع و تؤمن منه، فلا يبقي معها موضوع لوجوب الاحتياط بالطاهر الواقعي الذي

ص: 438

______________________________

يعلم بالقدرة عليه، فضلا عما يحتمل القدرة عليه.

نعم، يندفع أصل الإشكال، بأن وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة إنما هو مع الشك في سعة القدرة، بأن احتمل القدرة علي ما يعلم بتحقق الامتثال به، كما لو احتمل العثور علي الماء بالفحص عنه و طلبه، لا مع الشك في حال المقدور بأن لم يقدر إلا علي ما يحتمل تحقق الامتثال به- كما في المقام- و لذا لا يظن من أحد التزام الاحتياط بدفع الكفارة لمشكوك الفقر إذا انحصر الأمر به.

و عليه ابتني ما اتفق عليه المتأخرون في الأصول من كون تعذر امتثال بعض الأطراف معينا مانعا من منجزية العلم الإجمالي في الآخر، فإذا لم يجب الاحتياط في المقام باستعمال الماء من هذه الجهة، و فرض إحراز مشروعية التيمم و حصول الطهارة به، كان ذلك رافعا لموضوع قاعدة الاشتغال بالطهارة، و مانعا من منجزية العلم الإجمالي، فلا يجب الاحتياط من جهتهما بالوضوء.

فالعمدة في الإشكال في استصحاب عدم الوجدان: أن عدم الوجدان ليس موضوعا لمشروعية التيمم، و إن أوهمته بعض الأدلة و اشتهر في كلماتهم.

كيف، و قد جعل المرض في الآية الكريمة مقابلا لعدم الوجدان، و لا يراد به إلا لزوم الضرر من استعمال الماء و إن لم يجب دفعه، كما تضمنت النصوص مشروعية التيمم مع خوف العطش و نحوه، بل مع الخوف من نفس الفحص عن الماء و طلبه و إن لم يحرز الضرر من استعماله، كما أفتوا بمشروعيته مع الحرج في استعمال الماء، بل في الفحص عنه و إن لم يحرز الحرج من استعماله، و مع مزاحمة التكليف بالطهارة المائية بتكليف آخر يسقطه، فإن الظاهر- بعد ملاحظة جميع ذلك- كون مشروعية التيمم مترتبة علي سقوط التكليف بالطهارة المائية مع بقاء ملاكها و عدم فعلية التكليف بها، بنحو يصلح للدفع و الداعوية، فإن ذلك هو الجهة المشتركة بين الموارد المذكورة، و ليس ذكر عدم الوجدان أو المرض و نحوهما في الأدلة إلا لملازمتها لذلك، لا لكونها بنفسها و بعنوانها الأولي موضوعا لمشروعية التيمم.

ص: 439

______________________________

و ذلك هو المطابق للارتكاز في جميع الأبدال الاضطرارية المبتنية علي التنزل عن بعض مراتب ملاك الواجب الأولي، فإن الموجب لمشروعية البدل الاضطراري ارتكازا هو تعذر البعث للواجب الأولي، لا خصوصية ما يمنع من البعث إليه من تعذر الواجب أو لزوم الحرج منه أو غيرهما.

و يناسبه بعض النصوص، ففي حديث داود الرقي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «لا تطلب الماء و لكن تيمم، فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك، فتضل و يأكلك السبع» «1»، و في صحيح ابن أبي يعفور و عنبسة عنه عليه السّلام: «إذا أتيت البئر و أنت جنب، فلم تجد دلوا و لا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد، فان رب الماء هو رب الصعيد، و لا تقع في البئر و لا تفسد علي القوم ماءهم» «2»، و في صحيح ابن أبي نجران الوارد في اجتماع ميت و جنب و محدث بالأصغر المتضمن اغتسال الجنب و دفن الميت بتيمم، قال: «لأن غسل الجنابة فريضة و غسل الميت سنة.» «3»، و في صحيح يعقوب بن سالم: «لا آمره أن يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع» «4».

فإن التعليل في الثلاثة الأول إنما يقتضي سقوط الطهارة المائية، و لا يقتضي وجوب التيمم إلا بضميمة الملازمة الارتكازية المذكورة. كما أن الاقتصار في الأخير علي النهي عن الطلب إنما يقتضي مشروعية التيمم بناء عليها، كما أشار إلي ذلك في الجملة سيدنا المصنف قدّس سرّه في المسوغ السادس من مسوغات التيمم.

بل ذلك هو الظاهر من بعض نصوص الإبدال الاضطرارية الأخر، كخبر عبد الأعلي مولي آل سام الوارد فيمن عثر فانقطع ظفره، فجعل عليه مرارة المتضمن، لقوله عليه السّلام: «يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّٰه عز و جل، قال تعالي مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ امسح عليه» «5»، فإن معرفة وجوب المسح علي المرارة

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب التيمم حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 18 من أبواب التيمم حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب التيمم حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 440

______________________________

من الآية الكريمة بعد كونها نافية لا مثبتة إنما يتم بضميمة الملازمة المذكورة.

و بالجملة: التأمل في النصوص المتقدمة، و في الارتكازيات العقلائية نافي الابدال الاضطرارية، مع ملاحظة اختلاف العناوين التي تضمنت الأدلة و الفتاوي تشريع التيمم معها مع عدم جامع عرفي بينها، شاهد بأن العناوين المذكورة ليست بخصوصياتها، و لا بقدر مشترك بينها موضوعا لمشروعية التيمم، بل أخذها في الأدلة بلحاظ ما يترتب عليها من سقوط التكليف بالطهارة المائية و عدم صلوحه للبعث، فلا ينفع مثل استصحاب عدم الوجدان في إحراز موضوع التيمم و الخروج عن مقتضي القاعدة المتقدمة المقتضية للجمع بينه و بين استعمال الماء المشكوك.

إن قلت: استصحاب عدم الوجدان و نحوه من المسقطات للطهارة المائية و إن لم يحرز وجوب التيمم بنفسه بالمباشرة، إلا أنه يحرزه بضميمة إحرازه لموضوعه، و هو سقوط الطهارة المائية، لأنه من أحكامه، فلا أثر للفرق المذكور.

قلت: ترتب سقوط الطهارة المائية علي مثل عدم الوجدان- مما يستلزم تعذرها- عقلي، لا شرعي راجع إلي أخذه في حدود التكليف و موضوعه، و هو مما يكون عقلا مسقطا للتكليف بواقعة و مصداقه الفعلي، فما هو العذر و المسقط في كل آن هو التعذر فيه، و هو غير قابل للاستصحاب، و ليس عنوان التعذر بما هو أمر من شؤون المكلف أو المكلف به و من عناوينهما المضافة إليهما القابلة للاستمرار مأخوذا في موضوع المسقطية، ليمكن استصحابه و إحراز سقوط التكليف تبعا له.

و بعبارة أخري: الاستصحاب إنما يجري في العناوين التقييدية المأخوذة في موضوعات الأحكام، لأنها القابلة للاستمرار، دون العناوين التعليلية، كعنوان المزاحمة و المقدمية و نحوهما، مما يكون له الدخل بواقعة الفعلي الذي يكون المؤثر منه في كل آن مباينا للمؤثر منه في الآن الآخر، من دون أخذ جهة مشتركة

ص: 441

______________________________

قابلة للاستمرار.

و لذا لا يظن من أحد استحباب عدم القدرة عند الشك في تجددها، بنحو يكون واردا علي قاعدة الاحتياط، التي هي المرجع مع الشك في القدرة.

و أما ترتبها علي مثل الحرج و المرض فهو و إن كان شرعيا، إلا أنه لا يبعد كون مسقطية الأمور المذكورة شرعا علي نحو مسقطية التعذر عقلا، لارتكاز كونها مثله من سنخ العذر المسقط، لا لكونها بمفهومها العام من حدود التكليف و قيوده، بل هي مبنية ارتكازا علي سعة القدرة المعتبرة، و لذا كان استصحابها بعيدا عن المرتكزات جدا.

و عليه، فحيث لا طريق لإحراز سقوط الطهارة المائية كان المتعين الجمع بينها و بين الطهارة الترابية، عملا بالقاعدة المتقدمة.

إن قلت: بعد ما تقدم من عدم وجوب الاحتياط في الطهارة المائية من حيثية الشك في القدرة، لكون الشك في حال المقدور لا في سعة القدرة، فمقتضي أصالة البراءة منها وجوب التيمم بعد فرض الملازمة بينه و بين سقوط الطهارة الترابية، فينحل بذلك العلم الإجمالي، و يرتفع موضوع قاعدة الاشتغال.

قلت: ليس مفاد أصل البراءة إلا محض التأمين و المعذرية، لا إحراز سقوط التكليف واقعا، ليكون محرزا لموضوع الملازمة.

إن قلت: يكفي في ذلك استصحاب عدم وجوب الطهارة المائية، و لو بلحاظ ما قبل الوقت، لإحراز لازمه الشرعي، و هو وجوب التيمم.

قلت: موضوع مشروعية التيمم ليس مجرد عدم وجوب الطهارة المائية، بل عدمها في ظرف مشروعيتها و فعلية ملاكها، المقتضي للتكليف بها لو لا التعذر، و من الظاهر أنه لا مجال لاستصحاب ذلك بلحاظ ما قبل الوقت، إذ ليس الثابت حينئذ إلا محض عدم التكليف بالطهارة المائية.

و ليس هو مركبا من الأمرين و منحلا إليهما شرعا، ليحرز أحدهما بالاستصحاب و الآخر بالوجدان بعد دخول الوقت، بل لعله ببساطته صار موضوعا

ص: 442

______________________________

في الملازمة، فلا يحرز لا بالوجدان و لا بالأصل.

نعم، قد يستصحب الموضوع المذكور لو فرض احتمال تجدد القدرة بعد الوقت، لليقين في أول الوقت بتحقق الأمر البسيط المذكور، المتحصل من فعلية الملاك و سقوط أمر الوضوء.

اللهم إلا أن يقال: وجوب التيمم و إن كان لازما لسقوط الطهارة المائية- كما تقدم- إلا أن الملازمة ليست عنوانية راجعة إلي جعل سقوط الطهارة المائية بعنوانه موضوعا لوجوب التيمم شرعا، لينفع استصحاب الأمر المذكور بعنوانه القابل للاستمرار في إحراز وجوب التيمم، بل هي ملازمة واقعية راجعة إلي أن سقوط الطهارة المائية في كل آن علة بواقعة لمشروعية التيمم، نظير ما تقدم في مسقطية التعذر للتكليف، فلا ينفع استصحاب سقوط التكليف، فضلا عن أصل البراءة منه، كما لا ينفع استصحاب عدم الوجدان لإحرازه علي ما تقدم.

و علي هذا لا مخرج عما تقدم من القاعدة المقتضية للجمع بين استعمال الماء المشكوك و التيمم، و لا مجال للاكتفاء بالتيمم، لعدم إحراز مشروعيته و حصول الطهارة به في جميع فروض المسألة. فتأمل جيدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

تنبيهان.

أولهما: قال في جامع المقاصد بعد الحكم بوجوب الجمع: «و لا يخفي أنه يجب تقديم الوضوء علي التيمم»، و في مفتاح الكرامة: «و لعله ظاهر الأكثر، و هو ظاهر الأستاذ الشريف أدام اللّٰه حراسته»، و ظاهر المدارك نسبته إلي قطع الأصحاب.

و استدل له في مفتاح الكرامة بأنه إذا توضأ بالأول صار فاقدا للماء بيقين.

و فيه- مع اختصاصه بما إذ كان استعمال الماء مستوعبا له بحيث لا يبقي منه شي ء-: أنه لا ملزم باليقين بفقد الماء عند التيمم، بل لا بد من اليقين بالطهارة، و هو حاصل بالجمع بين الأمرين كيفما اتفق.

ص: 443

______________________________

و دعوي: توقف الجزم بالنية في التيمم علي فقد الماء بتقديم استعماله.

مدفوعة: - مضافا إلي عدم اعتبار الجزم بالنية في العبادة- بتعذر الجزم بها فيه حتي مع تأخيره، لاحتمال تحقق الطهارة المائية قبله، فلا يكون مشروعا. و لا يتحقق الجزم بالنية إلا بإراقة الماء المشكوك، ليعلم بمشروعية التيمم. و لا يظن من أحد الالتزام بوجوبه، و إن كان قد يناسب ما عن ابن إدريس من لزوم الصلاة عاريا مع انحصار الساتر بالثوبين المشتبهين.

لكنه بالإعراض عنه حقيق.

هذا، و قد احتمل الوحيد قدّس سرّه في حاشية المدارك كون منشأ الحكم بتأخير التيمم اعتبار ضيق الوقت فيه.

و يشكل: بأنه لو سلم اعتباره فيه فالمراد به الضيق العرفي الذي لا يخل به تقديمه علي الوضوء. فالبناء علي جواز تقديمه- كما في المدارك- متعين.

ثانيهما: ما ذكرناه كما يقتضي وجوب الجمع بين التيمم و استعمال الماء المشكوك مع وجوده كذلك يقتضي لزوم المحافظة عليه و عدم جواز إراقته، للعلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين، المنجز لكل منهما و المقتضي للمحافظة عليهما.

اللهم إلا أن يقال: لمّا كان وجوب كل من الأمرين لكونه محصلا للطهارة، و كانت الطهارة الحاصلة من التيمم أقل مرتبة من الطهارة المائية- كما هو مقتضي كون البدلية اضطرارية. و يشهد به التعبير في كثير من النصوص عن التيمم بأنه نصف الطهور- فمثل هذا العلم الإجمالي لا يصلح إلا لتنجيز المرتبة الضعيفة من الطهارة التي تحصل بالتيمم، دون الرتبة التامة المتوقفة علي استعمال الماء، بل المرجع فيها أصل البراءة، بناء علي ما تقدم من عدم وجوب الاحتياط مع الشك في حال المقدور.

فالعمدة في لزوم الجمع بين الأمرين هو قاعدة الاشتغال بالطهارة، لعدم إحرازها مع الاقتصار علي أحدهما، و هي لا تقتضي لزوم حفظ الماء،

ص: 444

______________________________

لوضوح أن إراقته تستلزم العلم بحصول الطهارة بالتيمم الذي هو مقتضي القاعدة المذكورة.

نعم، لو علم إجمالا بإطلاق أحد المائين ثمَّ أريق أحدهما، اتجه تنجز احتمال وجوب الطهارة المائية بالثاني الملزم بحفظه، بناء علي ما هو الظاهر المعروف من أن تعذر بعض الأطراف بعد حصول العلم الإجمالي لا يرفع منجزيته للباقي.

و منه يظهر أن الوجه الثاني- الذي ذكره بعض مشايخنا- المقتضي للاكتفاء بالتيمم ظاهرا لو تمَّ لا ينهض بجواز الاقتصار عليه في الفرض المذكور، لأنه إنما يصلح للخروج عن مقتضي العلم الإجمالي بوجوب الطهارة المائية أو الترابية و عن قاعدة الاشتغال، و لا يصلح للخروج عن مقتضي العلم الإجمالي بوجوب استعمال أحد المائين المنجز للباقي منهما و إن لم يعلم بحصول الطهارة به، فيجب ضم التيمم إليه لقاعدة الاشتغال.

و أما الوجه الأول الذي ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه فمقتضاه العلم بمشروعية التيمم بإراقة أحد المائين، و الجهل بحال الباقي منهما، و بناء علي أن مشروعيته تستلزم عدم مشروعية الوضوء، لا يبقي مجال للاحتياط باستعمال الباقي من جهة العلم الإجمالي، بل يكون كما لو أريق الاناءان معا. فلاحظ.

هذا ما وسعنا التعرض له في هذا المقام، و قد أطلنا الكلام في هذه المسألة لاختلاف المباني فيها و دقتها و تشعبها، و نسأله تعالي أن نكون قد وفقنا فيها للجري علي ما ينبغي الجري عليه. و منه سبحانه نستمد العون و التسديد، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

الثاني: الطهارة الخبثية الواجبة بنفسها، كما في تطهير المسجد، أو المعتبرة في بعض المركبات الواجبة نفسيا أو غيريا، كتطهير البدن و الثياب للصلاة، و تطهير أعضاء التيمم أو الأرض التي به يتيمم بها.

و لا ينبغي التوقف في لزوم حفظ الماء المشكوك و الاحتياط باستعماله، لو سبق العلم الإجمالي بإطلاق أحد المائين ثمَّ أريق أحدهما، كما أشرنا إلي نظيره قريبا

ص: 445

______________________________

في التنبيه الثاني.

و أما مع الشك البدوي، فقد يدعي وجوب الاحتياط باستعمال الماء، لأن الشك في المقام في القدرة الذي يجب فيه الاحتياط.

و يندفع بما تقدم من اختصاصه بما إذا شك في سعة القدرة، لا في حال المقدور، كما في المقام.

فالذي ينبغي أن يقال: الشك في حال الماء.

إن رجع إلي الشك في أصل التكليف فالمرجع البراءة، كما لو كان المسجد نجسا، إذ تعذر تطهيره لإضافة الماء، موجب لسقوط التكليف به.

و كذا لو رجع للشك في اعتبار الخصوصية في المكلف به، كما لو كان تعذر الطهارة موجبا للتنزل للعمل الفاقد لها، كما في الصلاة مع نجاسة البدن، بناء علي ما هو التحقيق من الرجوع للبراءة في الدوران بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و إن رجع إلي الشك في امتثال التكليف فالمرجع الاشتغال، كما لو كانت أعضاء التيمم نجسة، حيث يعلم بوجوب التيمم، إما مع نجاسة الأعضاء لكون المشكوك مضافا، أو مع طهارتها لكونه مطلقا، فلا يحرز حصول الطهارة الحدثية به إلا مع غسل الأعضاء بالشكوك، نظير ما تقدم من لزوم الجمع بين الطهارة المائية و الترابية.

كما أنه لو كان استعمال الماء طرفا لعلم إجمالي منجز تعين الاحتياط بموافقته، كما لو كانت الأرض الصالحة للتيمم نجسة، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب تطهيرها بالماء المشكوك ثمَّ التيمم بها و الصلاة في الوقت، أو بوجوب القضاء لفقد الطهورين، بناء علي ما هو الظاهر من عدم مشروعية الأداء معه، فيجب الجمع بين الأمرين.

و بملاحظة ما تقدم في الطهارة الحدثية يتضح كثير من جهات الكلام هنا.

فتأمل جيدا. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم.

ص: 446

جاز (1) رفع الخبث بالغسل بأحدهما، ثمَّ الغسل بالآخر (2). و كذلك رفع الحدث (3). و إذا اشتبه المباح بالمغصوب (4).

______________________________

(1) بل وجب مع الانحصار، و توقف إحراز الامتثال علي ذلك.

(2) بلا ريب، لأنه توصلي لا يعتبر فيه الجزم بالنية، و لا يقدح فيه التكرار بلا إشكال.

(3) كما في الخلاف و القواعد و جامع المقاصد و كشف اللثام، و عن المبسوط و جواهر القاضي و غيرها، بل نسبه في المدارك و محكي الذخيرة إلي قطع الأصحاب.

نعم، صرح في جامع المقاصد باعتبار فقد ما ليس بمشتبه، و عن المبسوط و الروض و المنتهي أنه إذا تمكن من الطهارة الواحدة بمزج أحدهما بالآخر بحيث يكون الممزوج مطلقا، فالأحوط اختياره علي تكرار الطهارة بكل منهما، إذ مع إمكان الجزم بالنية لا يجوز الترديد، و عن كاشف الغطاء: «و المسألة مبنية علي أن الاحتياط طريق في الاختبار، أو أنه إنما يسوغ عند الاضطرار».

و من المعلوم أن الأقوي الأول، كما تقدم تقريبه في المسألة الثالثة من مسائل التقليد.

و منه يظهر ضعف احتمال وجوب التيمم مع الانحصار، كما لعله لازم ما عن ابن إدريس من وجوب الصلاة عاريا مع الانحصار بالثوبين المشتبهين.

(4) أما الشك في إباحة الماء مع عدم العلم الإجمالي فربما ينسب للمشهور أن الأصل فيه الاحتياط تخصيصا لعموم أدلة البراءة و الإباحة. و إليه يرجع ما قيل من انقلاب الأصل في الدماء و الفروج و الأموال.

و ربما يستدل عليه برواية محمد بن زيد الطبري: «كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السّلام يسأله الإذن في الخمس، فكتب إليه: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، إن اللّٰه واسع كريم، ضمن علي العمل الثواب، و علي الضيق الهمّ. لا

ص: 447

______________________________

يحل مال إلا من وجه أحله اللّٰه. إن الخمس عوننا علي ديننا و عيالنا و علي موالينا [أموالنا. خ ل] و ما نبذ له و نشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته فلا تزووه عنا.» «1».

بدعوي: ظهوره في كون الحلية منوطة بالسبب المحلل، فمع الشك في تحققه يرجع إلي أصالة عدمه، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و فيه- بعد الغض عن سنده- أنه ظاهر في التحليل الوضعي المسؤول عنه الراجع إلي تملك المال، و الذي لا إشكال في كونه خلاف الأصل، لا التحليل التكليفي، الراجع إلي جواز التصرف الذي هو محل الكلام.

مع أن العنوان المذكور ليس موضوعا للحلية شرعا، كي ينفع فيما نحن فيه بلحاظ كونه عنوانا وجوديا منفيا بالأصل، بل هو منتزع من كون العنوان موضوعا للحلية، و متأخر عن ذلك رتبة، فهو حاك عن الأسباب الشرعية بعناوينها الخاصة، كالإذن من المالك و عدم ملكية أحد للمال و نحوهما، فاللازم إجراء الأصل في تلك العناوين التي قد تكون علي طبق الأصل، و قد تكون علي خلافه، و لا دلالة فيه علي كون جميع العناوين المحكية به وجودية مخالفة للأصل، لينفع فيما نحن فيه.

بل المرتكز أن جواز التصرف في المباحات الأصلية ليس لكونها واجدة لعنوان وجودي يقتضي التحليل، بل لعدم وجود ما يمنع من التصرف فيها، و هو يناسب كون حرمة التصرف هي المنوطة بالأمر الوجودي.

بل هو الظاهر من بعض النصوص الظاهرة في حقن الإسلام للمال.

نعم، مال المسلم لا يحل إلا بطيب نفسه، و منه مورد الحديث الشريف.

و منه يظهر أنه لا مجال لدعوي ظهور الحديث في تعليق الحل في الأموال بعنوان وجودي، فيدخل في كبري ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن تعليق الحكم الترخيصي علي عنوان وجودي يقتضي البناء علي عدمه عند عدم إحراز ذلك العنوان و إن لم يحرز عدمه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس حديث: 2.

ص: 448

حرم التصرف بكل منهما (1)، و لكن لو غسل نجس بأحدهما طهر (2)، و لا يرفع بأحدهما الحدث (3).

______________________________

مضافا إلي منع الكبري المذكورة، كما تقدم عند الكلام في الشك في الكرية في الفرع السادس من الفروع التي استدركناها في الماء الذي لا مادة له.

و الحاصل: أنه لا مجال للخروج عن عموم أصالة الحل و البراءة، و لا سيما مع ورود بعضها في الأموال، كموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سمعته يقول: كل شي ء هو لك حلال حتي تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة و المملوك عندك لعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا.» [1].

إلا أن يكون هناك أصل موضوعي يقتضي حرمة التصرف، كما لو فرض سبق ملكية الغير و شك المكلف في إذنه له أو انتقال المال منه إليه، فإن مقتضي الاستصحاب عدم الأمرين، بخلاف ما لو شك المكلّف في سبق ملكية الغير للماء من أول الأمر، كما لو تردد في كونه ماء بئره أو بئر الغير.

و قد أطلنا الكلام في تفصيل ذلك في التنبيه الأول من تنبيهات أصل البراءة من الأصول بما لا مجال لاطالة الكلام فيه هنا. فراجع.

(1) لمنجزية العلم الإجمالي بنحو تمنع من المخالفة الاحتمالية. و يتعين حينئذ اختيار ماء آخر غير المشتبهين، أو التنزل للتيمم لو انحصر الأمر بهما، لسقوط الطهارة المائية بالتعذر.

(2) لعموم دليل طهورية الماء الطاهر، و لا دليل علي مانعية الغصبية، أو الحرمة التكليفية المتفرعة عليها من ذلك بعد كونه توصليا لا يعتبر فيه التقرب.

(3) بمعني أنه لا يتحقق رفعه، لمانعية تنجز الحرمة من التقرب المعتبر في

______________________________

[1] الوسائل باب: 4 من أبواب ما يكتسب به من كتاب البيع حديث: 4. و قد ذكرنا في أدلة البراءة من الأصول بعض الكلام في الموثقة فراجع. منه عفي عنه.

ص: 449

و إذا كانت أطراف الشبهة غير محصورة جاز الاستعمال مطلقا (1).

______________________________

الطهارة الحدثية و إن لم يسقط الماء بذلك عن الطهورية، و لذا تقع الطهارة بالمغصوب لو فرض حصول التقرب للغفلة عن حاله، علي ما حقق في مبحث اجتماع الأمر و النهي.

(1) لعدم منجزية العلم الإجمالي حينئذ علي ما ذكر في الأصول مفصلا.

لكن ذلك إنما يقتضي الرجوع للأصل في كل طرف بنفسه، و هو يقتضي جواز الاستعمال مع الشك في الطهارة و الحلية، لأنهما علي طبق الأصل، كما تقدم، لا مع الشك في الإطلاق، لعدم أصل محرز له، كما تقدم أيضا.

بل مقتضي استصحاب الحدث و قاعدة الاشتغال بالطهارة عدم الاجتزاء باستعمال الماء المذكور، كما اعترف به قدّس سرّه في مستمسك العروة الوثقي و جري عليه في حاشيتها، و من البعيد جدا عدوله عن ذلك هنا.

فالظاهر ابتناء الإطلاق المذكور هنا علي الغفلة عن شموله لاحتمال إضافة الماء. بل قد يحمل الجواز في كلامه علي التكليفي، فيختص باحتمال الغصبية، و لا يشمل احتمال الإضافة، ليكون خروجا عما عرفت.

و إن كان ذلك بعيدا جدا، بلحاظ استلزامه عدم تصدّيه قدّس سرّه لبيان حكم الشبهة غير المحصورة في النجاسة التي هي من أظهر مواردها، بل لا يبقي معه مورد للإطلاق. إلا أن يحمل علي الإطلاق بلحاظ جواز الارتكاب و لو استوعب الأطراف في وقائع متعددة في قبال القول بلزوم ترك مقدار المعلوم بالإجمال. لكنه قد يبعد بلحاظ عدم إشارته قدّس سرّه لهذه الجهة في صدر كلامه.

هذا، و أما احتمال إلغاء الشك في أطراف الشبهة غير المحصورة، فلا يبقي معها موضوع للأصل الإلزامي، فلا مجال له، خصوصا بناء علي الضابط الآتي لغير المحصور، الذي لا يستلزم ضعف الاحتمال.

إلا أن يفرض ضعف الاحتمال بنحو ملحق له بالوسواس الذي لا يعتني به

ص: 450

و ضابط غير المحصورة أن تبلغ كثرة الأطراف (1) حدا يوجب خروج بعضها عن محل الابتلاء (2). و لو شك في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة فالأحوط وجوبا إجراء حكم المحصورة (3).

______________________________

العقلاء في مقام العمل، كما ذكرناه في محله. لكنه لا يختص بالشبهة غير المحصورة.

(1) لا دخل لكثرة الأطراف في سقوط منجزية العلم الإجمالي، و إنما هي دخيلة في صدق عنوان غير المحصور الذي وقع في كلماتهم.

(2) أو ابتلائه بغير ذلك مما يمنع من منجزية العلم الإجمالي، كتعذر المخالفة فيه، و تعذر الموافقة أو تعسرها، و غير ذلك مما ذكر في الأصول مفصلا، بل قد يراد بعدم الابتلاء ما يعم ذلك.

هذا، و قد ذكر في كلماتهم ضوابط أخر لغير المحصورة- غير تامة- لا مجال لإطالة الكلام فيها هنا، بل تذكر في الأصول.

(3) حيث أشرنا إلي عدم دخل الكثرة في حكم غير المحصورة، فلا بد من كون مفروض الكلام الشك في الابتلاء.

و قد ذكرنا في الأصول أن اللازم معه البناء علي عدم منجزية العلم الإجمالي، سواء كان الشك في تحديده بنحو الشبهة المفهومية، أم في تحققه مع العلم بحده بنحو الشبهة المصداقية.

و أما بقية الموانع التي أشرنا إلي الاكتفاء بها في جريان حكم الشبهة غير المحصورة فيختلف الحال فيها، فتعذر الموافقة و لزوم الحرج منها لا يكتفي فيهما بالشك، لأنهما من سنخ الأعذار التي لا بد من إحرازها عند العقلاء، و لذا تقدم وجوب الاحتياط مع الشك في سعة القدرة، و تعذر المخالفة يكتفي فيه بالشك، كعدم الابتلاء، لأنه من سنخه، و قد أطلنا الكلام في ذلك في الأصول بما لا يسع المقام تفصيله.

ص: 451

______________________________

كما لا مجال للكلام في فروع الماء المشكوك التي تعرض لها في العروة الوثقي و استدل لها في شروحها، لضيق الوقت عن ذلك و عدم انشراح الصدر له، و لا سيما مع اضطرارنا لإطالة الكلام فيما تقدم و عدم أهمية كثير من تلك الفروع، لقلة الابتلاء بها، و إنما هي مجرد فروض لها أمثال كثيرة قد يسهل معرفة حكمها بعد الرجوع للضوابط المتقدمة، و إتقان المباني الأصولية التي أشرنا لبعضها في هذا الشرح.

و منه سبحانه و تعالي نستمد العون و التوفيق، و التأييد و التسديد. و له الحمد علي كل حال في المبدأ و المآل، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

ص: 452

الفصل الخامس: في الماء المضاف و الآسار
اشارة

الفصل الخامس الماء المضاف (1)- كماء الورد و نحوه- و كذا سائر المائعات (2)

______________________________

(1) تقدم منا في نهاية الفصل الأول الكلام في طهارة الماء المضاف مع أخذه من طاهر، و في تطهيره بالتصعيد مع أخذه من نجس. فراجع.

(2) مما يكون ذا رطوبة بحيث تنتقل أجزاؤه بالملاقاة و يتأثر به الملاقي- كالزيت و العسل- أما الفلزات المائعة بالأصل- كالزئبق- أو بالحرارة، فميعانها لا يوجب انفعالها، كما صرح به في العروة الوثقي، و أمضاه جملة من شراحها و محشيها، منهم سيدنا المصنف قدّس سرّه، و إن توقف فيه شيخنا الأستاذ و بعض السادة المعاصرين قدّس سرّهما «1».

و يكفي في عدم سريان النجاسة فيه بتمامه قصور أدلة السريان عن مثله، لاختصاصها بالماء و نحوه مما يشتمل علي الرطوبة، كالعسل و الزيت و السمن و المرق.

و التعدي عنها لأمثالها كالنفط و الحليب بقرينة الارتكاز العرفي، لا يقتضي التعدي عنها لمثل المقام بعد عدم مساعدة الارتكاز العرفي، و جعل المدار في سريان النجاسة فيها علي ذوبانها لا يقتضي كون المدار في السريان مطلق الذوبان، و لو في مثل محل الكلام.

بل لو فرض جعل المدار في النصوص علي مطلق الذوبان أمكن دعوي

______________________________

(1) راجع النصوص الدالة علي ذلك في باب: 5 من أبواب الماء المضاف، و باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 453

ينجس القليل و الكثير فيها بمجرد الملاقاة للنجاسة (1)

______________________________

انصرافه عن محل الكلام بقرينة الارتكاز العرفي.

كما يكفي في عدم انفعال ظاهره بمجرد الملاقاة من دون رطوبة خارجية ما دل علي عدم الانفعال مع الجفاف- مثل ما في موثق ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

«كل شي ء يابس ذكي» «1»، و غيره مما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي في المسألة التاسعة عشرة من الفصل الأول من مباحث الطهارة الخبثية- لوضوح أن ميعان ما نحن فيه لا يوجب رطوبته و لا ينافي يبسه عرفا.

و منه يظهر اندفاع ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أنه إن كان المدار علي الذوبان لزم الانفعال فيما نحن فيه، و إن كان المدار علي الرطوبة المائية لزم التوقف في انفعال مثل النفط و الدهن مما لا يشتمل علي الماء.

ثمَّ إنه لا إشكال في أنه يلحق بالفلزات مثل الزجاج و الحجر الذائبين بالحرارة، بل لا يبعد إلحاق مثل المطاط و النايلون، بل و الشمع، مما لا يتأثر به الملاقي و إن جمد عليه، فإنه ليس المعيار علي مطلق العلوق، إذ الفلزات قد تعلق أيضا، بل علي تأثر الملاقي بالمائع، و هو غير حاصل في الأمور المذكورة.

و لا أقل من الشك في إلحاقها بمثل الزيت، المسوغ للرجوع لأصالة الطهارة.

(1) هذا مذهب الأصحاب لا أعلم فيه خلافا. كذا في المعتبر. و إجماعا، كما في الروضة و بعض نسخ الشرائع، و عن التذكرة و المنتهي و كشف الالتباس و الدلائل. و عن السرائر نفي الخلاف فيه. و في الجواهر: «إجماعا منقولا نقلا يستفاد منه التحصيل».

و كلامهم و إن كان في الماء المضاف إلا أن الظاهر عمومه للمايعات الأخر، لأولويتها في الحكم عرفا، و بقرينة استدلال بعضهم- كالمحقق في المعتبر-

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب أحكام الخلوة و الموجود في الوسائل طبع إيران: «زكي» بالزاء. و الذي أثبتناه من التهذيب طبع النجف الأشرف ج: 1 ص: 49.

ص: 454

______________________________

بنصوص الزيت، و بأن المائع قابل للنجاسة.

و كيف كان، فيدل علي ذلك في الماء المضاف بعض النصوص، كخبر زكريا ابن آدم: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير؟ قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله» «1».

و موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عليه السّلام: «أن عليا عليه السّلام سئل عن قدر طبخت و إذا في القدر فارة؟ قال: يهرق مرقها و يغسل اللحم و يؤكل» «2».

و موثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الدن يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس» «3».

لوضوح أن المرق في الأولين هو ماء اللحم الذي هو من سنخ الماء المضاف، كما أنه لو لا انفعال ماء الكامخ لم يكن وجه لاعتبار غسل الدن في الثالث.

كما يدل عليه في غيره من المائعات ما ورد في السمن و الزيت و العسل من النصوص الكثيرة، كصحيح الحلبي: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الفارة و الدابة تقع في الطعام و الشراب فتموت فيه؟ فقال: إن كان سمنا أو عسلا أو زيتا- فإنه ربما يكون بعض هذا- فإن كان الشتاء فانزع ما حوله و كله، و إن كان الصيف فارفعه حتي تسرج به، و إن كان ثردا فاطرح الذي كان عليه، و لا تترك طعامك من أجل دابة ماتت فيه» «4»، و غيره.

و بعض هذه النصوص يشمل بإطلاقه الكثير، فإن القدر في الأولين قد تكون كبيرة تسع كرا، و لا سيما مع التنبيه في خبر زكريا إلي الكثرة. و فرض اجتماع الزيت و نحوه بمقدار الكر غير بعيد في الرابع و نظائره.

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8 و باب: 26 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4.

ص: 455

______________________________

نعم، لا مجال لدعوي الإطلاق في الثالث، لأن الدن و إن كان هو الراقود العظيم الذي قد يشمل ما يسع الكر، إلا أنه وارد لبيان قابلية دنّ الخمر لتنجيس ما فيه بعد الفراغ عن قابلية ما فيه للانفعال، فلا ينافي اعتصام ما فيه بالكريه.

فتأمل جيدا.

و يستفاد عموم الانفعال من بعض نصوص الأسآر، فإنه لو تمت المناقشة في الاستدلال بكثير منها:

تارة: باختصاصها بالماء المطلق، إما لاختصاص السؤر بالماء الذي يشرب منه، أو للتعرض فيها للوضوء.

و اخري: باختصاصها بالقليل، لأن السؤر هو البقية من الطعام و الشراب، و هي تنصرف للقليل.

إلا أنه لا مجال لها في مثل صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات» «1»، و صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال: اغسل الإناء» «2»، فإن الشرب يعم الماء المضاف و غيره من المائعات كالحليب، كما أن الإناء يعم الكبير الذي يسع الكر.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في الحكم بعد النظر في هذه النصوص و نحوها، مما يظهر منه المفروغية عن قابلية الماء المضاف و شبهه للانفعال و سريان النجاسة تبعا للارتكاز العرفي، فتسالم الأصحاب علي عموم الحكم مع ذلك كاشف عن ثبوته تبعا للارتكاز المذكور. و لا سيما مع كونه موردا للابتلاء و العمل، الذي يبعد معه اختفاء الحال.

و بهذا يسهل إلغاء خصوصية موارد النصوص بلحاظ كثير من الجهات، لكشف تسالمهم عن بلوغ الارتكاز المذكور حد القرينة علي إلغاء الخصوصية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 3.

ص: 456

______________________________

بل قد يقال: إن المستفاد من نصوص الكر أن الانفعال هو مقتضي طبع الماء، فضلا عن غيره من المائعات كما هو مقتضي الارتكاز العرفي، و أن الكرية عاصم تعبدي، فسكوت النصوص عن بيان عاصم لغيره مع تسالم الأصحاب علي عدم اعتصامه و كثرة الابتلاء بذلك كاشف عن جري الشارع فيه علي مقتضي الارتكاز المذكور.

و من ثمَّ لم تتطرق أكثر النصوص لبيان الانفعال رأسا، و إنما تعرضت لبعض الخصوصيات فيه بنحو يكشف عن المفروغية عنه، كما يظهر بملاحظتها. فتأمل جيدا.

هذا، و قد تأمل سيدنا المصنف قدّس سرّه في الانفعال مع الكثرة المفرطة، كألف كر، قال: «لعدم السراية عرفا في مثله، نظير ما يأتي من عدم السراية إلي العالي الجاري إلي السافل، و النصوص الواردة في السمن و المرق و نحوهما غير شاملة لمثله. و ثبوت الإجماع علي السراية في الكثرة المفرطة غير ظاهر».

لكن عدم السراية عرفا غير ظاهر، و لذا لا يتوهم مع كثرة النجاسة الملاقية للمايع. و قياسه علي الجاري في غير محله مع اختلاف سنخ الحكمين، لأن الجريان موجب لقصور مقتضي الانفعال عن التأثير في المتدافع منه.

أما الكثرة فهي من سنخ المانع عن تأثير المقتضي، كما هو المرتكز في كرية الماء، و ثبوتها في المقام غير ظاهر. و لا سيما مع اختلافهما بعدم تحديد الكثرة المفرطة و تحديد الجريان عرفا.

كما لا مجال للتشكيك في الإجماع بعد تنصيصهم علي الكثرة و إغفالهم لتحديدها.

علي أن الالتزام في الكثير بالنحو المذكور بعدم الانفعال أصلا حتي في موضع الملاقاة صعب جدا، و كذا الالتزام بانفعال موضع الملاقاة من دون استيعاب تمام الماء، لعدم تحديد الموضع المذكور ارتكازا.

و الظاهر أن التأمل في ذلك موجب لوضوح السريان في الجميع عملا بالعموم

ص: 457

إلا إذا كان متدافعا علي النجاسة (1)

______________________________

المتقدم المستفاد من مجموع الأمور المتقدمة.

و ليس ما ذكره قدّس سرّه إلا من سنخ الاستبعاد بلحاظ كثرة المتأثر و قلة المؤثر بحسب النظر الحسي، أو بلحاظ ترتب المشاكل أو نحو ذلك مما يبتني علي التغافل عن الانفعال بالنجاسة شرعا.

و قد أشير إلي الردع عنه في خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام: «أتاه رجل فقال:

وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما تري في أكله؟ فقال له أبو جعفر عليه السّلام: لا تأكله. فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها. فقال له أبو جعفر عليه السّلام: إنك لم تستخف بالفارة، و إنما استخفت بدينك. إن اللّٰه حرم الميتة من كل شي ء» «1».

(1) قال في المدارك: «و لا تسري النجاسة مع اختلاف السطوح إلي الأعلي قطعا، تمسكا بمقتضي الأصل السالم عن المعارض»، و عن الدلائل استحسانه، و عن السيد الطباطبائي قدّس سرّه في مصابيحه و ظاهر منظومته دعوي الإجماع عليه. بل عن الروض أنه لا يعقل سريان النجاسة إلي العالي، فإن ذلك و إن كان ممنوعا، إلا أنه منه كاشف عن وضوح عدم السراية.

و يظهر الوجه فيه مما تقدم في أحكام الماء القليل من قصور أدلة الانفعال عنه بعد قصور مقتضي النجاسة عن التأثير فيه ارتكازا، كما أشرنا إليه هناك.

بل لا ينبغي التأمل فيه بعد ملاحظة سيرة المتشرعة و ارتكازياتهم، إذ لا يتوهم من أحد البناء علي نجاسة تمام المائع بإراقة بعضه علي الموضع النجس، مع شيوع الابتلاء بذلك.

و من هنا اتجه من صاحب المدارك دعوي القطع، المغني عن التمسك بالأصل، بل لا موضوع له معه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

ص: 458

بقوة (1)- كالجاري من العالي، و الخارج من الفوارة- فتختص النجاسة حينئذ بالجزء الملاقي للنجاسة، و لا تسري إلي العمود. و إذا تنجس المضاف لا يطهر أصلا (2)

______________________________

كما لا مجال معه لما عن كاشف الغطاء من بناء المسألة علي أن الأصل سراية النجاسة لغير موضع الملاقاة، أو عدمها.

و ما في الجواهر من عدم تحقق القطع له غريب. و أغرب منه ما عن المناهل من الحكم بسريان النجاسة للعالي، لدعوي دخوله في معقد إجماعاتهم علي انفعال المضاف.

فإن ما ذكرناه من الوجه موجب لانصراف إطلاق معاقد الإجماعات المتقدمة علي الانفعال عنه.

هذا، و مما تقدم أيضا يتضح الوجه في جعل المعيار علي التدافع و عدم الاقتصار علي خصوص عدم سريان النجاسة من الأسفل إلي الأعلي، كما يتضح الوجه في بعض الجهات الأخر مما تقدم التعرض له هناك، فان المقامين من باب واحد. فراجع.

(1) تقدم الإشكال في اعتبار قوة الدفع في مبحث الماء القليل.

(2) يعني: ما دام باقيا علي الإضافة، و لا يصح إطلاق اسم الماء عليه، أما لو خرج عن الإضافة و صار مطلقا فيلحقه حكم الماء المطلق المتنجس، لإطلاق أدلته.

و أما احتمال طهارته بخروجه عن الإضافة- نظير طهارة الخمر بالانقلاب- فلا مجال له مع استصحاب نجاسته، لأن الانقلاب المذكور لا يوجب تبدل الذات، التي هي موضوع النجاسة عرفا بنحو يمنع من الاستصحاب.

و طهارة الخمر بالانقلاب علي خلاف القاعدة، فلا يقاس عليها، و لا سيما بعد اختصاصها بالنجاسة الخمرية، و عدم جريانها في النجاسة الخارجية بالملاقاة- كما هو الغالب في محل الكلام- حيث لا يطهر الخمر معها بالانقلاب كما يذكر في محله.

ص: 459

و إن اتصل بالماء المعتصم (1)، كماء المطر أو الكر.

______________________________

(1) كما هو المعروف، لاختصاص مطهرية الاتصال بالمعتصم بالماء المطلق.

فإن العمدة فيه التعليل في صحيح ابن بزيع الوارد في ماء البئر، و التعدي منه لبقية أقسام المطلق لمناسبته لكونه ارتكازيا لا يقتضي التعدي للمضاف بعد قصور الارتكاز عنه.

بل ظاهر الأمر في النصوص المتقدمة بإهراق المائع أو إطعامه أهل الذمة أو الكلب تعذر أكله و سقوطه عن الانتفاع المعتد به، و هو لا يناسب طهره بالاتصال بالمعتصم لتيسر ذلك، و الاهتمام بقيمة المتنجس تقتضي الاهتمام بتحصيله، و ليس هو كالماء المطلق المتنجس ليس له قيمة مهمة تقتضي تكلف ذلك فيه.

و أما الاستدلال بعموم قوله عليه السّلام في مرسلة الكاهلي: «كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1».

فلا مجال له في الماء المطلق المتنجس فضلا عن المضاف، لانصرافه إلي التطهير باستيلاء ماء المطر علي المتنجس، و هو لا يتحقق في السوائل، كما أشرنا إليه في المسألتين الثانية عشرة و العشرين.

و مثله في ذلك مرسلة ابن أبي عقيل في الماء المجتمع في الطريق: «إن هذا لا يصيب شيئا إلا طهره» «2».

و أضعف من ذلك الاستدلال بعمومات مطهرية الماء، لعدم التعرض فيها لكيفية التطهير به، فلا بد من تنزيلها علي الوجه العرفي، و هو التطهير باستيلاء الماء علي الموضع النجس، الذي لا مجال له في السوائل.

و منه يظهر ضعف ما في القواعد و محكي التحرير من الاكتفاء في طهر

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(2) مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 8.

ص: 460

نعم، إذا استهلك في الماء المعتصم فقد ذهبت عينه (1)

______________________________

المضاف بإلقاء كر عليه إذا لم يسلبه الإطلاق، بناء علي شموله لما إذا بقي المضاف علي إضافته، كما قد يشهد به ما في القواعد من أنه لو صار المطلق مضافا خرج عن الطهورية دون الطهارة، لظهوره في عدم خروج المضاف عن الإضافة و طهره بالاتصال بالكر المطلق، و لذا لا ينفعل به الكر بعد صيرورته مضافا.

و قد أطال في الجواهر في توجيهه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

و الأمر سهل بعد وضوح ضعفه بظاهره.

(1) يعني: فلا يبقي معه موضوع صالح للحكم بالنجاسة عرفا. و هو الوجه في عدم جريان استصحاب النجاسة فيه، فلا تترتب آثارها من انفعال الماء به لو فرض خروجه عن الاعتصام بعد ذلك.

و يقتضيه النصوص الدالة علي عدم نجاسة الماء الكثير بوقوع البول فيه أو الدم أو غيرهما، و نصوص البئر المتضمنة لعدم انفعالها أو نزحها بوقوع شي ء من ذلك فيها [1]، فإنه لم ينبّه في النصوص المذكورة إلي لزوم التوقي عما يؤخذ من الماء المذكور مما يشتمل علي الأجزاء المستهلكة من النجاسة، لقلته و انفعاله بالأجزاء المذكورة مع وضوح غفلة العرف عن ذلك و سيرتهم علي عدم التوقي عنه.

نعم، لا بد من عدم خروج الماء عن الاعتصام إلي حين تحقق الاستهلاك، و إلا تعين انفعال الماء بالمضاف، كما لو فرض خروج بعض الكر عن الإطلاق بحيث ينقص الباقي منه عن الكرية، أو فرض فصل المضاف بين المادة و ذيها، حيث يتعين حينئذ انفعال الباقي من المطلق باتصاله بالمضاف المتنجس، و لا ينفع استهلاك المضاف بعد ذلك في طهر الماء، بل يلحق الجميع حكم الماء المتنجس من الاحتياج إلي الاتصال بالمعتصم في تطهيره.

______________________________

[1] إما بلحاظ أنها في أول زمان امتزاجها بالماء المطلق قد تجعل قسما منه مضافا، أو لأن طهارة عين النجاسة بالاستهلاك تستلزم طهارة المتنجس بالأولوية منه عفي عنه.

ص: 461

و مثل المضاف في الحكم المذكور (1) سائر المائعات (2).

مسألة 21: الماء المضاف لا يرفع الخبث (3)،

______________________________

هذا، و قد اعتبر في محكي المبسوط عدم تغير المطلق بصفات المضاف.

و هو متجه بناء علي الاكتفاء في انفعال المعتصم بالتغير بصفات المتنجس- الذي تقدم أنه خلاف الظاهر- أو يكون مراده بذلك الكناية عن بقائه علي الإطلاق في مقابل غلبة المضاف عليه.

و أما حمله علي التغير بصفات النجاسة التي قد يحملها المضاف- حيث تقدم كفايته في انفعال المعتصم- فبعيد. و الأمر سهل.

(1) يعني: من عدم طهره بالاتصال بالمعتصم و طهره بالاستهلاك.

(2) لاشتراكها مع الماء المضاف في الوجه المتقدم.

(3) عند أكثر أصحابنا، كما في الخلاف و عن الغنية و التذكرة. و هو المشهور، كما عن المختلف، بل عن الروض الإجماع عليه، و إن لم يتضح وجهه بعد معروفية الخلاف من السيد و المفيد، بل عن السرائر نسبته إلي السيد و جماعة من أصحابنا.

إلا أن يريد به الإجماع الحجة، كما هو ظاهر الجواهر، حيث قال: «و هو المشهور نقلا و تحصيلا شهرة كادت تبلغ الإجماع، بل هي إجماع، لمعلومية نسب المخالف إن اعتبرناه، و انقراض خلافهما».

لكنه مبني علي حجية الإجماع بدخول المعصوم حسا إجمالا، أو حدسا بقاعدة اللطف. و الأول ممنوع صغري، و الثاني ممنوع كبري.

و كيف كان، فيدل علي المشهور النصوص الكثيرة الظاهرة في انحصار المطهر بالماء.

إما للأمر به في بيان كيفية التطهير الظاهر في التعيين، مثل ما في حسن الحسين بن أبي العلاء و صحيح البزنطي في البول يصيب الجسد من قوله عليه السّلام: «صب عليه

ص: 462

______________________________

الماء مرتين» «1»، و غيره مما هو كثير جدا.

أو لظهوره في الحصر بمفهوم الشرط أو نحوه، كقوله عليه السّلام في موثق أبي بصير:

«أ ليس يغسل بالماء؟ قلت: بلي. قال: لا بأس» «2»، و قوله عليه السّلام في خبر بريد ابن معاوية:

«يجزي من الغائط المسح بالأحجار، و لا يجزي من البول إلا الماء» «3»، و قوله عليه السّلام في خبر ابن جعفر في الصلاة في الأكسية التي تنقع في البول: «إذا غسلت بالماء فلا بأس» «4»، و قوله عليه السّلام في صحيحه فيمن ليس عنده إلا ثوب نصفه دم: «إن وجد ماء غسله، و إن لم يجد ماء صلي فيه» «5»، و قريب منه صحيح الحلبي و موثق عمار «6».

فإن هذه النصوص ظاهرة في انحصار التطهير بالماء، و بعدم الفصل- بل فهم عدم الخصوصية في كثير منها لظهوره في كون الاحتياج إلي الماء مقتضي طبع النجاسة- يتم عموم عدم مطهرية غير الماء.

مضافا إلي استصحاب النجاسة، بناء علي ما يأتي من انفعال الطاهر بملاقاة النجس.

و أما دعوي: أن ذلك مقتضي أصالة الاشتغال بالطهارة بالإضافة إلي ما اشترطت فيه لو فرض عدم جريان استصحاب النجاسة.

فهي مندفعة: بأن قاعدة الاشتغال انما يرجع إليها مع الشك في الطهارة الحدثية، لا الخبثية، بل المرجع فيها قاعدة الطهارة. مع ان ذلك قد يتم لو كان المانع من الاستصحاب خللا في المقام فيه.

أما لو كان المانع منه دعوي عدم انفعال الطاهر بالنجاسة، و أن الغسل واجب تعبدي، فلا مجال لقاعدة الاشتغال، لأن الشرط علي ذلك هو الغسل، فمع الشك في

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 4، 7.

(2) الوسائل باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 71 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(6) الوسائل باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 1، 8.

ص: 463

______________________________

وجوب كونه بالماء يكون المرجع البراءة منه. فلاحظ.

هذا، و قد أشير في جامع المقاصد و غيره إلي الاستدلال بما تضمن الامتنان بطهورية الماء كقوله تعالي وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّٰا خَلَقْنٰا أَنْعٰاماً وَ أَنٰاسِيَّ كَثِيراً «1»، و قوله عليه السّلام في صحيح داود بن فرقد:

«كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، و قد وسع اللّٰه عليكم بأوسع ما بين السماء و الأرض و جعل لكم الماء طهورا، فانظروا كيف تكونون؟» «2».

بدعوي: أن الاقتصار عليه في بيان المنة ظاهر في الانحصار به، و إلا كان المناسب التنبيه لغيره لبيان سعة المنة.

و فيه: - مع أن ظاهر الآية الشريفة الامتنان بإنزال الماء الطهور، لا بطهوريته- أنه يكفي في تخصيصه بالذكر في مقام الامتنان سهولة تحصيله و عدم الكلفة باستعماله، لكونه منظفا عرفيا لا يحتاج بعده إلي الغسل، بخلاف غيره من أقسام المائع.

هذا، و قد نسب غير واحد مطهرية المائع الطاهر للمفيد و السيد، كما أشرنا إليه آنفا، و ظاهر الكاشاني في المفاتيح موافقتهما في الجملة، و حيث كان في كلامه إشارة إلي ما يصلح أن يكون مبني للمسألة فالمناسب نقله. قال: «يشترط في الإزالة إطلاق الماء علي المشهور، خلافا للسيد و للمفيد، فجوزا بالمضاف، بل جوز السيد تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح بحيث تزول العين لزوال العلة، و لا يخلو من قوة، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات، أما وجوب غسلها بالماء عن كل جسم فلا، فكل ما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهيره، إلا ما خرج بالدليل، حيث اقتضي فيه اشتراط الماء، كالثوب و البدن. و من هنا تظهر طهارة البواطن كلها بزوال العين. و كذا أعضاء الحيوان المتنجسة.».

______________________________

(1) الفرقان: 48، 49.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 4.

ص: 464

______________________________

و مراده لا يخلو عن إجمال، إذ.

تارة: يريد بذلك أن ملاقاة الطاهر للنجاسة لا توجب تنجسه بها، و إنما يجب اجتنابه بلحاظ حمله لها، فإذا فرض زوال عينها منه زال المانع من استعماله و إن لم يغسل بالماء، إلا أن يدل الدليل علي لزوم ذلك، فيقتصر علي مورده.

و اخري: يريد أن الطاهر و إن تنجس بملاقاة النجس إلا أنه يطهر بزوال عين النجاسة عنه، إلا أن يدل الدليل علي اعتبار الغسل بالماء في طهارته، فيقتصر علي مورده.

أما الأول فيشكل.

أولا: بأن ظاهر كثير من النصوص هو انفعال الملاقي للنجاسة و تنجسه بها مع قطع النظر عن حمله لها، كما يظهر من التعبير بالتنجيس و التقذر و الفساد في الماء في النصوص الكثيرة الواردة في قاعدة الطهارة في الماء و غيره «1» و الكر و الحمام و البئر و غيرها، و منها قوله عليه السّلام في النبيذ: «ما يبل الميل ينجس حبا من ماء» «2»، و في الثوب في قوله عليه السّلام في صحيح ابن مهزيار: «من قبل أن الرجل إذا كان ثوبه نجسا.» «3»، و قوله في حديث أبي العلاء: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي ء ينجسه.» «4»، و قوله عليه السّلام في صحيح ابن سنان: «فإنك أعرته إياه و هو طاهر و لم تستيقن أنه نجسه» «5»، و ما في خبر الحسين بن علوان: «يعني: الثياب التي تكون في أيديهم فينجسونها» «6»، و ما ورد في الخمر أو النبيذ أو الدم يقطر في العجين من قوله عليه السّلام: «فسد» «7»، و ما في طين المطر من قوله عليه السّلام في مرسلة ابن بزيع: «إلا أن

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 5 و باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(6) الوسائل باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(7) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8.

ص: 465

______________________________

يعلم أنه قد نجسه شي ء بعد المطر» «1».

و يظهر أيضا من التعبير بالتطهير و الطهر و نحوهما مما يتفرع علي فرض النجاسة، كنصوص طهورية الماء «2» الظاهرة في خصوصيته في أحداث الطهارة شرعا، لا من حيث كونه مزيلا للعين الذي يشاركه فيه غيره، و نصوص قاعدة الطهارة في الماء «3»، و غيره و استصحابها «4» و نصوص الاستنجاء بالماء «5» المتضمنة لتفسير قوله تعالي إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «6»، و ما ورد في اعتبار طهارة ماء الوضوء «7»، و كيفية تطهير الإناء «8»، حيث قال عليه السّلام بعد بيان كيفيته: «و قد طهر»، إلي غير ذلك مما يستفاد منه انفعال الملاقي بالنجاسة شرعا، لا مجرد حمله لها.

و الاقتصار علي موارد النصوص المذكورة في الانفعال دون بقية ما أمر فيه بالغسل أو الصب، فضلا عما استفيد منه الانفعال بطريق آخر، كالنهي عن الصلاة، مما تأباه المرتكزات في فهم الكلام جدا.

كيف، و قد اختلفت في كثير من الخصوصيات حتي في الثوب و البدن، و لم يتيسر تحصيل قاعدة عامة فيهما، و ليس التعدي عن المورد في النجاسات بأولي من التعدي عنه في المتنجسات.

قال في الجواهر: «و إلا فسائر النجاسات ما سئل عنها جميعها في ملاقاته للثوب، و لا عنها جميعها بالنسبة للبدن، بل بعضها في الثوب و بعضها في البدن،

______________________________

(1) الوسائل باب: 75 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 5 و باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 1 و باب: 74 حديث: 1.

(5) راجع الوسائل باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة.

(6) البقرة: 222.

(7) راجع الوسائل باب: 51 من أبواب الوضوء.

(8) الوسائل باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 466

______________________________

و بعضها في غيرهما، لكن لمكان القطع بعدم إرادة الخصوصية قلنا في الجميع».

بل ما ذكرنا هو المناسب ارتكازا لاعتبار الرطوبة في الانفعال، و لورود الأمر بالغسل في كثير من موارد ملاقاة النجاسة التي لا ينتقل شي ء منها للملاقي، كالميتة و الكلب و المتنجس، فان المرتكز كون الغسل لأجل الانفعال بالنجاسة و مقدمة للتطهير منها المعتبر في بعض الأمور، كالصلاة، لا تعبديا محضا.

و إلا أشكل إثبات مقدمية الغسل لمثل الصلاة، إلا بدليل خاص في كل مورد مورد، و هو يوجب اضطراب نظم الفقه، و لا يظن بأحد توهمه.

و ثانيا: بأنه يصعب إقامة الدليل علي عموم وجوب رفع عين النجاسة لو فرض عدم انفعال الملاقي لها، إذ لا دليل علي قادحية حمل عين النجاسة في الصلاة إلا في مثل الميتة، و لا علي قادحية ملاقاتها للماء في الوضوء به، و لذا لا يقدح في مثل الكر مما لا ينجس، و لا علي حرمة ملاقاتها للمسجد، و لذا لا تحرم مع الجفاف إلي غير ذلك مما ينحصر الوجه فيه بفرض انفعال الملاقي.

و ثالثا: بأن المستفاد من موثق عمار الوارد فيمن يجد في إنائه فأرة عموم عدم الاكتفاء بزوال عين النجاسة عن الملاقي، بل لا بد من الغسل، كما أشار إليه بعض مشايخنا، لقوله عليه السّلام: «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه. فعليه أن يغسل ثيابه و يغسل كل ما أصابه ذلك الماء.».

و الاقتصار علي مورده و هو الماء الملاقي للفأرة لا يلتزم به هو نفسه، لأنه فصل بين المتنجسات، لا النجاسات.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل بعد النظر في النصوص و مرتكزات العرف و المتشرعة في بطلان الوجه المذكور، و لذا أطبق الفقهاء علي ذلك علي اختلاف مشاربهم، و جروا عليه في فهم الأدلة و العمل بها، بل جري عليه هو حيث عبر بالنجاسة كثيرا.

و أما الثاني فيكفي في رده استصحاب النجاسة، لعدم الدليل علي كفاية زوال العين في التطهير في غير مورد الدليل علي عدمه.

ص: 467

______________________________

بل قال في الجواهر: «و دعوي: أن الطهارة الشرعية عبارة عن النظافة العرفية فرية بينة، إذ المستفاد من تعفير الإناء و الصب مرتين و غير ذلك خلافه». فان المنصرف من الأمر بالغسل كونه هو المطهر، لا أنه واجب تعبدا مع كون المطهر هو زوال العين كما أنه الظاهر من أدلة مطهرية الماء و غيرها، بل هو كالصريح من مثل موثق عمار الوارد في غسل الإناء الذي تقدمت الإشارة إليه في أدلة المشهور.

مضافا إلي أن ما ذكره من الجمود علي موارد الأمر بالغسل من الثوب و البدن و غيرهما، و عدم التعدي عنها مما تأباه المرتكزات العرفية في فهم الكلام جدا بعد كون الغسل من المطهرات عرفا.

كيف، و لم يستفد نجاسة بعض الأمور إلا من الأمر بغسل الثوب أو البدن بملاقاتها لها، فإن بني علي الاقتصار في تنجيسها علي مورد الأمر لزم عدم وجوب إزالة عينها عن غيره، و إن بني علي التعدي في تنجيسها عن المورد المذكور لزم البناء علي وجوب الغسل منها، و التعدي في التنجيس دون الغسل تحكم، كما أشرنا إليه في الجواهر.

علي أنه يكفي في عموم وجوب الغسل للمتنجسات موثق عمار المتقدم، كما أشرنا إليه آنفا.

و أما الاستدلال علي الاكتفاء بزوال العين بصحيح حكم بن حكيم الصيرفي:

«قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أبول فلا أصيب الماء، و قد أصاب يدي شي ء من البول، فأمسحه بالحائط و بالتراب ثمَّ تعرق يدي فامسح [فأمس] به وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي. قال عليه السّلام: لا بأس به» «1».

فيدفعه النصوص الكثيرة الصريحة في لزوم الغسل من البول. مع أنه إنما يتضمن عدم البأس بملاقاة اليد للثوب و البدن مع عرقها، لا في نفس اليد، فهو ظاهر في عدم تنجيس اليد و لو لعدم تنجيس المتنجس، و لا ظهور له في مطهرية زوال عين النجاسة أو المسح بالأرض لليد، لينفع فيما نحن فيه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 468

______________________________

و بالجملة: لا ينبغي التأمل بعد ما ذكرنا في انفعال الجسم الطاهر بالملاقاة و في عدم كفاية زوال عين النجاسة في تطهيره، فلا بد من النظر في أدلة القول بالاكتفاء بالمضاف بعد ما ظهر من أنه علي خلاف الأصل.

و قد استدل عليه في كلماتهم بأمور:

الأول: إطلاق التطهير في الأدلة الشامل للتطهير بالمضاف.

و فيه: أن الشك إنما هو في حصول التطهير بالمضاف، و الإطلاق لا يحرز عنوانه، و لا يتضح بناء العرف علي حصوله به ليرجع إليه بمقتضي الإطلاق المقامي للأدلة المذكورة. بل من القريب اختصاصه بالمطلق عندهم، كما قد يتضح بملاحظة ما يأتي.

علي أن مقتضي ما تقدم من النصوص الظاهرة في اعتبار الماء الخروج عن الإطلاق المذكور لو فرض تماميته.

الثاني: إطلاق الغسل في النصوص الكثيرة الشامل للغسل بالمضاف.

و فيه: أنه لا يبعد انصرافه للغسل بالمطلق- كما ذكره غير واحد- لا لأنه الأكثر شيوعا، بل لوروده في مقام التطهير مع ما هو المركوز في أذهان العرف و المتشرعة من خصوصية الماء في المطهرية من بين سائر المائعات و إن شاركته في إزالة عين النجاسة، لتمحضه في التنظيف بخلافها، حيث يحتاج إلي التنظيف منها، فلا ترفع الاستقذار الحاصل من عين النجاسة و إن إزالتها.

و قد يشهد بانصراف الغسل و التطهير إلي خصوص ما يكون بالماء المطلق آيتا التيمم، حيث اشتمل صدرهما علي إطلاق الغسل و التطهير، و تضمن ذيلهما تشريع التيمم مع فقد الماء، فلو لا المفروغية عن اختصاص الغسل بالماء لم ينسجم الذيل مع الصدر.

و قريب من ذلك خبر علي بن جعفر الوارد في غسل الفراش المبطن بالصوف، حيث قال عليه السّلام: «يغسل الظاهر، ثمَّ يصب عليه الماء في المكان الذي أصابه

ص: 469

______________________________

البول» «1»، و ما في صحيح البقباق من قوله عليه السّلام: «إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و إن مسه جافا فاصبب عليه الماء» «2»، و نحوه ما في حديث الأربعمائة «3»، و ما في صحيح الحلبي: «فإن ظن أنه أصابه مني و لم يستيقن و لم ير مكانه فلينضحه بالماء، و إن استيقن أنه أصابه و لم ير مكانه فليغسل ثوبه كله» «4».

فإن إطلاق الغسل مع تقييد الصب و النضح بالماء مشعر بالمفروغية عن اختصاص الغسل به، إذ يبعد إرادة الإطلاق منه، كما يبعد كون ذلك من سنخ القرينة الخارجية علي التقييد. و لا أقل من إجمال الغسل من هذه الجهة بنحو لا ينعقد له ظهور في الإطلاق بالإضافة إلي المضاف. علي أنه لو تمَّ إطلاقه تعين رفع اليد عنه بالنصوص المتقدمة في دليل المشهور الظاهرة في لزوم الماء.

الثالث: ما عن المفيد من نسبة ذلك إلي الرواية، و لا يعلم مراده بذلك، فلا تخرج عن كونها رواية مرسلة قد بني نقلها علي الاجتهاد، فلا تصلح للاستدلال.

نعم، قد يكون مراده بها موثق غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عن أبيه عن علي عليهم السّلام: «قال: لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق» «5».

لكنه يشكل: بأن ذكر الدم في كلام الإمام عليه السّلام مشعر بخصوصيته، فلا مجال للتعدي عنه لغيره من النجاسات بفهم عدم الخصوصية، و ليس هو كالتقييد في كلام السائل.

مضافا إلي أن ذلك هو مقتضي الحصر في موثقة الآخر- الذي لا يبعد اتحاده معه- عنه عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام: «قال: لا يغسل بالبصاق غير الدم» «6»، و نحوه مرسل

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 11.

(4) الوسائل باب: 16 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

ص: 470

______________________________

الكليني «1»، فلا مجال مع ذلك للاستدلال علي مدعي الخصم من عموم المطهرية بالحديث المذكور.

بل إن أمكن البناء علي مؤدي هذه النصوص- كما قد يناسبه اختصاص الدم بنحو من التسهيل في الأحكام، كالعفو عن قليله في الصلاة، و ما في بعض النصوص «2» من مطهرية النار له- فهو المتعين و يقتصر فيه علي مورده، و هو الريق، و إن كان إعراض الأصحاب عنها في موردها موهنا لها. فالأمر أظهر.

هذا، و لا يبعد عدم صلوح الإعراض لتوهين هذه النصوص، لقرب استناده إلي تخيل استحكام التعارض بينها و بين أدلة اعتبار الماء أو قوة عموم اعتباره لارتكازيته بنحو يصعب رفع اليد عنه بها، نظير ما يذكره في بعض الموارد من ندرة الرواية و شذوذها لمخالفتها للأصول.

و من الظاهر عدم تمامية كلا الأمرين، لقوة ظهور هذه النصوص الملزم بتخصيصها لأدلة اعتبار الماء، و إمكان كون الريق مطهرا تعبديا للدم علي خلاف مقتضي الارتكاز، فلا يكشف إعراضهم عن وهن هذه النصوص بنحو يخرجها عن عموم دليل الحجية، و لا سيما مع ظهور ذكر الكليني و الشيخ قدّس سرّهما «3» لها في نحو اعتماد منهما عليها.

و أما حملها علي إرادة الغسل لإزالة العين مع الاحتياج في التطهير للماء- كما يظهر من المعتبر- فهو تأويل بعيد عن الظاهر جدا، إذ هو- مع عدم اختصاصه بالدم- من الأمور التكوينية التي لا منشأ لتوهم المنع عنها شرعا، ليحتاج لدفعه، بل الظاهر إرادة الغسل الشرعي المطهر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8 و باب: 44 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2، 3.

(3) الكافي 3: ص 6 طبعة إيران الحديثة، و التهذيب: ج 1: ص 423- 425 طبع النجف الأشرف.

ص: 471

و كذا الحدث (1).

______________________________

نعم، كثرة الابتلاء بالدم الذي يصلح الريق لغسله تستلزم وضوح هذا الحكم لو فرض ثبوته و كثرة السؤال عنه، لكونه تعبديا محضا، و لا يناسب الاقتصار فيه علي هذه الروايات التي قد ترجع لشخص واحد، كما لا يناسب تسالم الأصحاب علي إهمال هذه الروايات و غض النظر عن الحكم المذكور و ضياعه، بل ذلك موجب للريب فيها بنحو تخرج عن عموم الحجية، لاختصاص بناء العقلاء علي حجية السند و الدلالة و الجهة بما إذا لم يحتف الخبر بما يوجب الريب فيه، نظير ما يذكر في و هن الخبر بإعراض الأصحاب عنه. فلاحظ.

هذا، و عن ابن أبي عقيل التفصيل في استعمال المضاف بين حالي الانحصار به و عدمه، فيجوز في الأول مع الضرورة دون الثاني، و في مفتاح الكرامة أن المعروف عنه خصوص إزالة الخبث، و نقل عنه في محكي الذكري أنه عمم الاستعمال له و للحدث.

و لا يتضح وجهه علي التقديرين.

نعم، يأتي في صحيح عبد اللّٰه بن المغيرة ما يناسب ذلك. لكنه- مع اختصاصه بالنبيذ- وارد في الوضوء، فلا مجال للتعدي منه للطهارة الخبثية، فضلا عن تخصيص الحكم بها.

(1) إجماعا، كما في الشرائع و عن الغنية و التذكرة و المنتهي و التحرير و نهاية الأحكام، و نفي عنه الخلاف في محكي المبسوط و السرائر.

و كأنه مبني علي تنزيل المخالف لندرته منزلة العدم، و لذا اعترف به في محكي المختلف و نسبه للشذوذ، و عبر في المدارك و محكي المقتصر و الذخيرة عما عليه الأصحاب بالمشهور.

و يقتضيه- مضافا إلي قاعدة الاشتغال بالطهارة، بل استصحاب الحدث- آيتا

ص: 472

______________________________

التيمم «1» الظاهرتان في مشروعيته مع عدم الماء و إن تيسر المضاف، و كثير من نصوص التيمم الواردة في طلب الماء، و في بطلان التيمم بوجدانه و غير ذلك مما يظهر منه انحصار الغسل و الوضوء به، بل المفروغية عن ذلك.

مضافا الي خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «في الرجل يكون معه اللبن أ يتوضأ منها للصلاة؟ قال: لا، إنما هو الماء و الصعيد» «2». و قريب منه خبر عبد اللّٰه بن المغيرة «3»، علي الكلام الآتي فيه.

بل لعل النظر في النصوص البيانية الواردة في الوضوء و التيمم يوجب وضوح الحكم المذكور، لأنها و إن لم تتصد لبيان ذلك، إلا أنها بمجموعها ظاهرة في المفروغية عنه. فلاحظ.

و أما الاستدلال له بما ورد لبيان مطهرية الماء في معرض الامتنان فقد تقدم في الطهارة الخبثية منعه.

هذا، و في الخلاف: «و ذهب قوم من أصحاب الحديث و أصحابنا إلي أن الوضوء بماء الورد جائز»، و صرح الصدوق قدّس سرّه بجواز الوضوء و الغسل بماء الورد في الأمالي و محكي الفقيه و الهداية، و يستدل له بخير يونس عن أبي الحسن عليه السّلام:

«قلت له: الرجل يغتسل بماء الورد و يتوضأ به للصلاة. قال: لا بأس بذلك» «4».

و قد استشكل فيه. تارة: بضعف السند.

و اخري: بعدم الدلالة.

أما السند فلروايته عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسي العبيدي عن يونس.

و عن الصدوق عن شيخه ابن الوليد أن ما تفرد به محمد بن عيسي من كتب يونس و حديثه لا يعتمد عليه، كما أن سهلا لم تثبت وثاقته، بل طعن من غير واحد.

______________________________

(1) النساء: 43، المائدة: 6.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

ص: 473

______________________________

و الجواب: أنه لا مجال للتعويل علي ما ذكره ابن الوليد بعد ثبوت وثاقة محمد بن عيسي، بل جلالته، و لا سيما مع قول النجاشي في رده: «و رأيت أصحابنا ينكرون هذا القول و يقولون: من مثل أبي جعفر محمد بن عيسي؟!. و قال القتيبي: كان الفضل بن شاذان رحمه اللّٰه يحب العبيدي و يثني عليه و يمدحه و يميل إليه، و يقول: ليس في أقرانه مثله. و بحسبك هذا الثناء من الفضل رحمه اللّٰه».

و أما سهل بن زياد فهو و إن طعنه النجاشي بأنه كان ضعيفا في الحديث غير معتمد فيه، و نقل عن أحمد بن محمد بن عيسي أنه كان يشهد عليه بالغلو و الكذب و أخرجه من قم، و ضعفه ابن الغضائري فيما حكي عنه، حيث قال: «كان ضعيفا جدا فاسد الرواية و الدين، و كان أحمد بن محمد بن عيسي الأشعري أخرجه من قم و أظهر البراءة منه، و نهي الناس عن السماع منه، و يروي المراسيل و يعتمد المجاهيل»، كما ضعفه الشيخ في الفهرست.

إلا أن طعن النجاشي غير صريح في تضعيفه، لأن ضعف الحديث باصطلاح القدماء لا يراد به ضعف نقل الشخص للرواية الراجع إلي عدم وثاقته، بل ضعف الحديث الذي يرويه، لعدم التزامه بالاقتصار علي رواية الأحاديث المعتمدة، فهو نظير الطعن بالرواية عن الضعفاء أو اعتماد المجاهيل الذي أشار إليه ابن الغضائري.

نعم، نقله عن أحمد بن محمد بن عيسي أنه كان يشهد عليه بالكذب و عدم رده له ظاهر في توقفه في وثاقته. لكنه لا يعارض ما يأتي.

كما أن طعن ابن الغضائري لا اعتماد عليه مع ما هو المعروف عنه من تسرعه في الطعن و تشبثه فيه بأدني شبهة.

و كذا أحمد بن محمد بن عيسي، فإن إخراجه للبرقي من قم لروايته عن الضعفاء و اعتماده للمراسيل، مما يرفع الوثوق بمثل هذه التصرفات المبنية علي العنف و القسوة، الناشئة عن ما له من قوة و نفوذ في البلد، فإنه و إن أمكن حمله علي الصحة في نفسه، إلا أنه لا طريق لاستكشاف وهن من يتصدي لمقاومته بنحو تقبل شهادته المذكورة.

ص: 474

______________________________

و لا سيما مع ظهور حال الأصحاب في الاعتماد علي روايات سهل، خصوصا شيخ المحدثين الكليني الذي أكثر في الكافي الرواية عنه مباشرة أو بالواسطة، مع تصريحه في ديباجته بأنه يتوخي فيه الآثار الصحيحة و السنن القائمة التي عليها العمل و بها يؤدي فرض اللّٰه عز و جل و سنة نبيه صلّي اللّٰه عليه و آله، فان هذا مما يوجب الريب في الشهادة المذكورة و بغيرها من الطعون و يمنع من الركون إليها.

و أما تضعيف الشيخ قدّس سرّه له في الفهرست فهو معارض بتوثيقه له في كتابه- في أصحاب الهادي عليه السّلام- الذي قيل: أنه متأخر عن الفهرست تأليفا، لإشارته إليه فيه، فيكون مقدما عليه.

و لا أقل من تساقطهما، و الرجوع في توثيق الرجل إلي ظهور حال علي بن إبراهيم و ابن قولويه في توثيقه، لأنه من رجال كتابيهما، المؤيد أو المعتضد بما أشرنا إليه من إكثار الكليني و غيره من الأصحاب من الرواية عنه، و بكونه كثير الرواية و رواياته سديدة مفتي بها منتشرة في كتب الفقه إلي غير ذلك من الأمور العملية الكاشفة عن وثاقة الرجل في نفسه، و أن الطعون الصادرة فيه ناشئة عن أمور لا تنافيها، و أهمها شبهة الغلو التي يظهر من قدماء الأصحاب، و لا سيما القميين، شدة الاهتمام بها و التشبث فيها بأدني سبب، بنحو يسيئون الظن لأجلها بصدق الشخص و يستسيغون مقاومته بل قتله. و نسأله تعالي العصمة و السداد.

هذا كله، مضافا إلي أن ظاهر ما يأتي من الشيخ قدّس سرّه اشتهار الحديث المذكور و تكرره في الكتب و الأصول، و لذا طعنه بانفراد يونس به، لا سهل و لا محمد بن عيسي مما يشهد بكون ذكرهما لمحض المحافظة علي اتصال سلسلة السند بالإمام عليه السّلام.

و أما الدلالة فقد استشكل فيها باحتمال كون «الورد» بالكسر بمعني ما تورد منه الدواب، و هو مظنة للسؤال، كما في الجواهر.

لكنه كما تري، احتمال لا يعتد به بعد استدلال الأصحاب قديما و حديثا بالحديث علي الحكم المذكور، مما يظهر منه المفروغية عن كونه واردا في محل

ص: 475

______________________________

الكلام، مع ما هو المعلوم من قرائتهم للحديث في مقام الرواية و التحمل و المذاكرة، فلا يحتمل خفاء مثل هذا الاختلاف عليهم.

و لا سيما بعد عدم معهودية مثل هذه الإضافة و إن أمكن تصحيحها، بل يعبر عن الماء المذكور بأنه الماء الذي ترده أو تشرب منه الدواب أو السباع، كما يشهد به غير واحد من النصوص الواردة في الماء المطلق «1».

و مثل ذلك حملها علي الغسل للتحسين الذي قد يطلق عليه الوضوء، كما ذكره الشيخ في التهذيب «2» و الاستبصار «3».

إذ- مع كونه خلاف المنصرف من الغسل و الوضوء للصلاة- لا منشأ لتوهم المنع عنه، ليسأل عنه. و كأن ذكره له للفرار من الطرح و إن كان مخالفا للظاهر.

فالعمدة ما نبّه له غير واحد، أولهم- فيما أعلم- الشيخ قدّس سرّه في كتابيه.

و الأولي في تقريبه أن يقال: إنه لم يعلم حال ماء الورد الذي كان مستعملا و معروفا في عهد صدور الرواية، لإمكان عدم خروجه عن الإطلاق، بل كان عبارة عما يختلط بالورد بنحو يوجب اكتسابه رائحته التي هي الغرض المهم منه.

و دعوي: ظهوره في خصوص المعتصر و المصعد، لظهور الإضافة في إضافة الشي ء إلي مصدره و منبعه.

ممنوعة، إذ ليس مفاد الإضافة إلا اختصاص أحد الشيئين بالآخر، و كما يصح انتزاع ذلك بلحاظ كونه منبعا له، يصححه اختلاطه به بنحو يتميز به لتأثره به.

و كذا غير ذلك من أنحاء الملابسات، فاختلاف الملابسات و الأسباب الموجبة للاختصاص عرفا و المصححة للإضافة لا توجب اختلاف معناها، ليدعي

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

(2) ص: 219 ج: 1 طبع النجف الأشرف.

(3) ج: 1 ص: 14 طبع النجف الأشرف.

ص: 476

______________________________

ظهورها في أحد المعاني بالخصوص.

و مثلها دعوي: عموم الإضافة المذكورة للمعتصر و المصعد الخارج عن الإطلاق.

لاندفاعها: بأن الإضافة ليست مأخوذة بمعناها الاسمي، ليتمسك بإطلاقها لسائر موارد صحتها، بل بمعناها الحرفي بلحاظ وجود المصحح لها الذي هو الموضوع في الحقيقة، فمع فرض عدم وضوح الجهة المصححة لها فيه يتعين البناء علي الإجمال، و لا ينهض الحديث للخروج عما دل علي عدم صحة الوضوء بالمضاف.

و منه يظهر عدم صحة التمسك بأصالة تشابه الأزمان و عدم النقل، حيث لا إشكال في عموم ماء الورد أو اختصاصه في عصورنا بالمعتصر أو المصعد.

فإنه إنما يتم مع احتمال تبدل مفهوم اللفظ و لا يتجه مع احتمال تبدل مصحح انتزاع المصداق و السبب المصحح لإطلاق اللفظ.

هذا، و لو فرض ثبوت الإطلاق المذكور كان بينه و بين النصوص الواردة في التيمم- الظاهرة في اعتبار الماء المطلق- عموم من وجه، و لا إشكال في ترجح تلك النصوص عليه بالشهرة و موافقة عموم الكتاب المستفاد من آيتي التيمم.

هذا كله مضافا إلي قرب و هن الحديث بإعراض الأصحاب الذي أشار إليه الشيخ قدّس سرّه في كتابيه، قال في التهذيب: «فهذا الخبر شاذ شديد الشذوذ، و إن تكرر في الكتب و الأصول، فإنما أصله يونس عن أبي الحسن عليه السّلام و لم يروه غيره، و قد أجمعت العصابة علي ترك العمل بظاهره، و ما يكون هذا حكمه لا يعمل به».

و قد يشير إلي ذلك ذكر الكليني قدّس سرّه له في باب النوادر من كتاب الطهارة «1».

و الاكتفاء مع ذلك بعمل الصدوق به في غاية الإشكال. و اللّٰه سبحانه و تعالي ولي العصمة و السداد.

______________________________

(1) الكافي ج: 3 ص: 73 طبع إيران الحديث.

ص: 477

______________________________

ثمَّ إنه ربما ينسب لابن أبي عقيل وجوب استعمال المضاف عند عدم غيره، كما تقدم في آخر الكلام في الطهارة من الخبث.

و قد يستدل له بوجهين:

الأول: صحيح عبد اللّٰه بن المغيرة عن بعض الصادقين، قال: «إذا كان الرجل لا يقدر علي الماء و هو يقدر علي اللبن فلا يتوضأ باللبن، إنما هو الماء أو التيمم. فإن لم يقدر علي الماء و كان نبيذ فإني سمعت حريزا يذكر في حديث: أن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله قد توضأ بنبيذ و لم يقدر علي الماء» «1».

و هو مبني علي أمور:

الأول: أن المراد ببعض الصادقين أحد الأئمة عليهم السّلام كما يناسبه مقام عبد اللّٰه بن المغيرة، و اهتمام الأصحاب بروايته كما يروون أحاديثهم عليهم السّلام.

الثاني: أن قوله: «فإن لم يقدر علي.» تتمة لكلام الإمام عليه السّلام، كما هو مقتضي سياق الحديث، لا كلاما مستأنفا لابن المغيرة.

الثالث: أن المراد بالنبيذ ما يخرج الماء به عن الإطلاق، لا الماء الذي ينبذ فيه قليل من التمر، و هو من أفراد المطلق، الذي ذكر في رواية الكلبي النسابة.

الرابع: أن اكتفاء الإمام عليه السّلام في مقام بيان الحكم بذكر مرسلة حريز عن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله ظاهر في فتواه بمضمونها.

و يشكل الأول: بعدم معهودية التعبير من الرواة عن الأئمة عليهم السّلام بالصادقين بصيغة الجمع بنحو ينصرف إليهم عند الإطلاق و يخرج به عن الظهور الأولي في الجنس، و إنما عهد متأخرا التعبير بصيغة التثنية عن الباقرين عليهما السّلام، و مجرد مناسبته لمقام ابن المغيرة لا يوجب الظهور الحجة.

و مثله اهتمام الأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم) برواية الحديث. علي أنه قد يكون لأجل اشتماله علي مرسل حريز عن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله.

و الثاني: بعدم مناسبة مقام الإمام عليه السّلام للتحويل علي رواية حريز، فلا بد من

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الماء المضاف حديث: 1.

ص: 478

______________________________

رفع اليد عن ظهور «بعض الصادقين» في إرادة الإمام- لو تمَّ في نفسه- أو عن ظهور سياق الحديث في كون الذيل من كلامه عليه السّلام، لمنافاتهما لذلك.

و حمل ذلك علي التقية أو نحوها و إن كان ممكنا، إلا أنه لا ينافي سقوط أحد الظهورين لاحتفافه بما يصلح للقرينية. و لعل الأقرب رفع اليد عن الثاني منهما.

و منه يظهر الإشكال في الثالث، لتوقفه علي كون المستدل هو الإمام عليه السّلام و إلا فاستدلال ابن المغيرة بالمرسل علي جواز الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء لا ينافي كون المرسل واردا في النبيذ الذي لا يخرج الماء فيه عن الإطلاق، لإمكان الخطأ في الاستدلال المذكور، لضعف المرسل و إجماله في نفسه، لوروده في قضية شخصية، بل مقتضي عموم انحصار الطهور بالماء حمله علي النبيذ المذكور. فتأمل.

و أما الإشكال في هذا الوجه: بأن النبيذ الذي يخرج الماء به عن الإطلاق مسكر نجس لا يمكن الوضوء به.

فلا مجال له بعد ظهور بعض النصوص «1» في إطلاق النبيذ علي الشديد الذي لا يسكر.

و أما الرابع فيشكل: بأن تحويل الإمام عليه السّلام علي المرسلة المذكورة بعد أن لم يكن مناسبا لمقامه لا ظهور له في الفتوي بمضمونه، بل هو بالتهرب عن الفتوي أنسب بعد وجود قول به من العامة.

و دعوي: أن حمل الاستدلال علي التقية أو نحوها لا يلزم بحمل ظهوره في الفتوي عليها. قد تتجه مع التصريح بالفتوي ثمَّ الاستدلال عليها بالخبر، لا مع الاقتصار علي التحويل علي الخبر المفروض حمله علي التقية أو نحوها.

و بالجملة: لا مجال للاستدلال بالحديث المذكور و الخروج به عما تقدم من الأدلة. و لا سيما مع ما ذكره الشيخ قدّس سرّه من إجماع الطائفة علي عدم جواز الوضوء بالنبيذ، إذ لا مجال للتعدي عن الخبر بعد طرحه في مورده.

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5 و باب: 24 من الأبواب المذكورة حديث: 3.

ص: 479

مسألة 22 الأسآر كلها طاهرة

مسألة 22: الأسآر (1) كلها طاهرة،

______________________________

علي أنه لو فرض تماميته في نفسه لزم الاقتصار علي مورده، و هو النبيذ، و لا مجال للتعدي منه لغيره من أنواع المضاف بعد ظهوره في كون المرسل مخصصا لعموم الانحصار بالماء و التيمم، كما لا يخفي.

الثاني: قاعدة الميسور، بدعوي: أن مقتضاها التنزل إلي أصل الغسل و الوضوء و لو بالمضاف بعد تعذر خصوصية كونه بالماء المطلق، لأنه ميسور منه عرفا.

و يشكل: - مضافا إلي عدم تمامية القاعدة في نفسها، و أنه لا مجال لها في مثل المقام مما كان الواجب فيه هو الأمر البسيط المسبب عن المركب، و هو الطهارة، و ثبوت الاكتفاء بالميسور، في بعض فروع الوضوء و الغسل للدليل الخاص- بأن مفاد قاعدة الميسور شرح حال المركبات، و أنها انحلالية في حال تعذر القيد، و مقتضي أدلة التيمم أن التقييد بالماء ليس انحلاليا، فتكون أخص من القاعدة.

اللهم إلا أن يقال: استفادة ذلك من أدلة التيمم إنما هو بإطلاقها الشامل لحال وجود الماء المضاف، و إلا فالانتقال للتيمم مع عدم الماء المضاف أيضا لا ينافي قاعدة الميسور، لعدم الموضوع لها، فالنسبة بين القاعدة و أدلة التيمم هي العموم من وجه، و إن كان الترجيح لأدلة التيمم، لما تقدم في آخر الكلام في حديث يونس.

نعم، خبر أبي بصير و صحيح ابن المغيرة المتقدمان الواردان في فرض التمكن من اللبن أخص من القاعدة مطلقا.

لكن ضعف سند الأول، و عدم وضوح نسبة الكلام في الثاني للمعصوم- كما تقدم- مانع من الاستدلال بهما. فتأمل. و اللّٰه سبحانه و تعالي العالم و هو حسبنا و نعم الوكيل.

(1) جمع سؤر بالضم فالسكون. و حيث أخذ في نصوص كثيرة موضوعا لأحكام إلزامية و غيرها فالمناسب تحقيق مفهومه، ليكون هو المرجع في تشخيص

ص: 480

______________________________

موضوع تلك الأحكام، و لا يخرج عنه إلا بقرينة خاصة.

قال ابن دريد في الجمهرة: «و السؤر مهموز، و الجمع أسآر: ما أبقيت في الإناء». و قال أيضا: «و تقول: أسأرت في الإناء أسير إسئارا، إذا تركت فيه سؤرا أي بقية من الطعام و الشراب و غيرهما».

و في الصحاح: «سؤر الفارة و غيرها، و الجمع الأسآر. و قد أسأر. و يقال: إذا شربت فاسئر، أي أبق شيئا من الشراب في قعر الإناء».

و في النهاية: «إذا شربتم فأسئروا، أي أبقوا منه بقية، و الاسم السؤر.

و يستعمل في الطعام و الشراب و غيرهما.».

و في أساس البلاغة للزمخشري: «أسأر الشارب في الإناء سؤرا و سؤرة: بقية.

و أسأرت الإبل في الحوض و سأرت بقية سؤورا. و من المجاز أسأر من الطعام سؤرة، و هذه سؤرة الصقر، لما يبقي من لحمته، و أسأر الحاسب من حسابه أفضل و لم يستقص.».

و في لسان العرب: «السؤر بقية الشي ء، و جمعه أسآر. و يستعمل في الطعام و الشراب و غيرهما. الليث: يقال: أسأر فلان من طعامه و شرابه سؤرا، و ذلك إذا أبقي منه بقية. قال: و بقية كل شي ء سؤره».

و في القاموس: «السؤر بالضم البقية و الفضلة. و أسأر أبقاه كسأر».

و في مجمع البحرين: «في الحديث تكرر ذكر الأسآر جمع سؤر بالضم فالسكون، و هو بقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض، ثمَّ أستعير لبقية الطعام. قاله في المغرب و غيره. و عن الأزهري: اتفق أهل اللغة أن سائر الشي ء باقية قليلا كان أو كثيرا.».

و قال في النهاية أيضا: «و السائر مهموز الباقي، و الناس يستعملونه في معني الجميع، و ليس بصحيح، و قد تكررت هذه اللفظة في الحديث، و كلها بمعني باقي الشي ء»، و قريب منه ما نقله في لسان العرب عن الأزهري في التهذيب.

ص: 481

______________________________

و كلماتهم- كما تري- متفقة إجمالا علي أن السؤر البقية.

و إنما يقع الكلام في أمور:

الأول: صريح ما تقدم من الجمهرة و النهاية و لسان العرب و الليث و ظاهر إطلاق القاموس عموم السؤر للطعام، بل لغيره، خلافا لما صرح به الزمخشري من أن استعماله في الطعام فضلا عن غيره مجاز.

و ربما يحمل عليه ما تقدم عن المغرب، بل قد يحمل كلام الجميع عليه، لعدم وضوح تقيدهم بالاستعمال الحقيقي، كما قد يشهد به تعميمهم للبقية من غير الطعام، كالشباب و الحساب و غيرهما مما لا يطلق عليه السؤر عرفا.

و لا أقل من كون الشراب هو المتيقن من المعني الحقيقي الذي يلزم الاقتصار عليه في ترتيب الأحكام المستفادة من النصوص، إلا بقرينة مخرجة عنه قاضية بإرادة ما يعم الطعام، مثل ما في صحيح زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: في كتاب علي عليه السّلام: ان الهر سبع و لا بأس بسؤره، و إني لأستحي من اللّٰه أن أدع طعاما لأن الهر أكل منه» «1»، و ما في حديث المناهي: «أن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله نهي عن أكل سؤر الفار» «2».

و كذا ما ورد في سؤر المؤمن «3»، فإن المناسبات الارتكازية تقتضي بإلغاء خصوصية الشراب فيه. بل لا يبعد لأجل ذلك حمل كراهة سؤر ما لا يؤكل لحمه علي ذلك أيضا. و لا سيما مع قرب كون الاستعمال في الطعام حقيقيا و أن منشأ توهم التخصيص بالشراب كونه أظهر الأفراد لما يباشره الفم، لعدم الخصوصية له عرفا.

كما قد يؤيده الخبران المتقدمان، لبعد حملهما علي المجاز المحتاج للقرينة.

بل قد يؤيده ما عن المصباح المنير من أن السؤر من الفأرة و غيرها كالريق من الإنسان، بناء علي أن مراده أنه الأصل في معناه، و أن استعماله في الباقي من الشراب

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 7.

(3) راجع الوسائل باب: 18 من أبواب الأشربة المباحة.

ص: 482

______________________________

باعتبار ممازجته له- كما احتمله في الجواهر- و إلا كان مخالفا للجميع. إذ من الظاهر أن الجهة المذكورة لا تختص بالشراب.

كما أنه لا يبعد حمل ما تقدم عن المغرب من استعارته للطعام علي الاستعارة في الأصل و إن صار فيه حقيقة أو مجازا مشهورا مستغنيا عن القرينة بسبب كثرة الاستعمال، بل قد يحمل علي الثاني ما تقدم عن الزمخشري.

و من ثمَّ لا يخلو ما في المعتبر و المسالك و عن المهذب و المقتصر و غاية المرام و كشف الالتباس من تخصيصه ببقية المشروب عن إشكال.

و أشكل منه ما في المدارك و احتمله في كشف اللثام من اختصاصه بالماء من المشروب، لعدم وضوح منشئه بعد عموم معناه عرفا.

الثاني: صرح في المدارك باختصاص السؤر بما يباشر بالفم.

و هو المناسب لإطلاقات العرف، حيث لا يستعملونه في المباشر لغير الفم إلا بلحاظ مطلق المباشرة و إن لم يترتب عليها الأكل و الشرب، الذي لا إشكال في خروجه عن المعني اللغوي، و إن اشتهر إرادته متأخرا.

و يناسبه أيضا ما تقدم عن المصباح المنير، بناء علي ما سبق في توجيهه.

و من ثمَّ كان المنصرف من كلمات اللغويين المتقدمة خصوص المباشرة بالفم، دون مطلق الفضلة، و لو مع التناول بمثل اليد. و لا أقل من كون ذلك هو المتيقن منها، الذي يلزم الاقتصار عليه في ترتيب الأحكام بعد فرض الإجمال.

نعم، لا يبعد إلحاق المباشرة المشتملة علي اللعاب و لو بالواسطة، كاليد و الملعقة، بالسؤر مفهوما أو حكما. فلاحظ.

الثالث: من البعيد جدا أخذ الإناء في مفهوم السؤر و إن أوهمته بعض كلماتهم السابقة، لقرب حملها علي بيان الفرد الشائع، لإلغاء خصوصيته عرفا.

كما يناسبه إطلاقه علي فضلة الحيوان، و ما تقدم من المصباح، و قول ذي الرمة:

ص: 483

… ______________________________

صدرن بما أسارت من ماء مقفر صري ليس في أعطانه غير حائل

حيث يظهر منهم تفسيره بالقطا الذي يشرب الماء الماكث في الأرض.

و مثله إطلاقهم له و لو مجازا علي غير الطعام و الشراب مما لا يكون في الإناء، فان المناسبات الارتكازية بعد ملاحظة الاستعمالات المذكورة تقضي بعدم خصوصية الإناء.

الرابع: ظاهر المدارك و صريح كشف اللثام اعتبار القلة في السؤر، و هو غير ظاهر المنشأ، عدا انصراف البقية للقليل الذي هو بدوي لا يعتد به. و قد تقدم عن الأزهري التنصيص علي صدقه مع الكثرة، و لا سيما مع الالتفات إلي توسعهم في استعمال «سائر» حتي احتمل كونه بمعني جميع، بل هو كالصريح مما في موثق أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «و لا يشرب سؤر الكلب، إلا أن يكون حوضا كبيرا يستقي منه» «1». و كأن منشأ تخصيصهم بالقلة لزوم حمل نصوص الأسآر النجسة- التي هي أهم ما يبحث عنه هنا- عليه إلا أنه لقرينة خارجية تقتضي الحمل علي قلة خاصة لا القلة العرفية، و لا تكشف عن اختصاص مفهوم السؤر أو التصرف فيه.

نعم، لا يبعد قصوره عما يكون له مادة حين استعمال ذي السؤر له، لعدم صدق الفضلة عليه مع استمداده.

كما لا إشكال في عدم صدقه علي المجموع من الفضلة و المختلط بها لو أضيف عليها غيرها، و إنما يصدق علي خصوص الفضلة، فإن فرض ظهور دليل حكمه في كون الموضوع ما يعم السؤر المختلط بغيره عمه الحكم. فلاحظ.

ثمَّ إنه قد عرف في الروضة السؤر بأنه الماء القليل الذي باشره جسم حيوان، و نسبه في المدارك إلي الشهيد و من تأخر عنه.

و من البعيد جدا إرادتهم المعني اللغوي بعد ما عرفت من اطباق اللغويين تقريبا علي أنه الفضلة، بل صريح المسالك عدم إرادته، لأنه جعله في قباله.

و حينئذ فإن أريد به المعني الشرعي- كما جعله كذلك في المسالك، و حكي

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 7.

ص: 484

______________________________

عن كاشف الغطاء الميل إليه- فلا وجه له إلا ما يستفاد من صحيح العيص بن القاسم:

«سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن سؤر الحائض؟ فقال: لا توضأ منه، و توضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ثمَّ تغسل يديها قبل أن تدخلها الإناء، و قد كان رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله يغتسل هو و عائشة في إناء واحد و يغتسلان جميعا» «1».

لكن في ثبوت النقل الشرعي بذلك إشكال بعد كونه استعمالا واحدا لعله يبتني علي المجاز و التوسع في المعني بلحاظ سعة الحكم، لعدم خصوصية المعني اللغوي فيه و ظهور القرينة عليه، فلا مجال للخروج عن المعني اللغوي للسؤر في غير مورده.

و إن أريد به المعني الاصطلاحي للمؤلفين- كما هو مقتضي ما عن الوحيد و السيد بحر العلوم من أنه ظاهر الفقهاء، و ما في الجواهر من أنه ظاهر أصحابنا- فهو غير ظاهر، لأن إرادتهم من السؤر ذلك في مورد الكلام في النجاسة- لما هو المعلوم من أنه المعيار فيها- لا يكشف عن تصرفهم في مفهوم السؤر في سائر أحكامه، و لا سيما مع استدلالهم بالنصوص التي يلزم حملها علي المعني اللغوي.

مع أنه لا أهمية لتشخيص ذلك بعد عدم كونه مصطلحا للشارع ليحمل عليه كلامه في سائر الموارد.

و أما ما في الجواهر من جعل عموم كلماتهم في باب الطهارة و النجاسة لمطلق المباشرة قرينة علي إرادة العموم من روايات الطهارة و النجاسة، و إن لزم حمل روايات سائر الأحكام علي المعني اللغوي بعد استبعاد الحقيقة الشرعية.

فهو غير ظاهر، لعدم صلوح ذلك للقرينية لو فرض ظهور النصوص في نفسها في المعني اللغوي.

هذا، و أما ما عن السرائر من أن السؤر ما شرب منه الحيوان أو باشره بجسمه

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الأسآر حديث: 1.

ص: 485

إلا سؤر الكلب، و الخنزير، و الكافر (1)،

______________________________

من المياه و سائر اللعاب.

فهو مبني علي الجمع بين المعني اللغوي المشهور، و المعني الذي تقدم عن المصباح، و المعني الذي تقدم من الفقهاء، و الخلط بينها، من دون وجه ظاهر.

(1) المذكور في بعض كلماتهم و المستفاد من بعضها أمران:

الأول: نجاسة سؤر نجس العين. و قد ادعي عليه في كشف اللثام الإجماع، كما ادعي في الجواهر الإجماع المحصل و المنقول عليه، و في مفتاح الكرامة أنه حكاه جماعة.

و يقتضيه- مضافا إلي النصوص الواردة في السؤر التي يأتي بعضها- ما دل علي انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة، إذ لا يحتمل استثناء ملاقاة السؤر عن العموم المذكور.

نعم، قد يناقش في نجاسة سؤر بعض الأمور أو طهارته للمناقشة في نجاستها أو طهارتها، و يأتي الكلام في ذلك في بيان اعداد النجاسات إن شاء اللّٰه تعالي.

و منه يظهر أن الحكم لا يختص بالسؤر بالمعني اللغوي المتقدم، و لا بالمعني الآخر المذكور في كلمات الفقهاء، بل يجري في كل ما يقبل الانفعال من المائع أو الجامد الرطب الملاقي لجسد الحيوان النجس العين، بل المتنجس.

و أن تخصيص الحكم بسؤر المذكورات لاختصاص بعض النصوص به الموجب لعنوانه في كلمات قدماء الفقهاء الذين كان تبويبهم لأبواب الفقه كثيرا ما يتبع العناوين المذكورة في النصوص، و جري علي ذلك المتأخرون في بعض الموارد و إن خالفوهم في بعضها.

كما ظهر الوجه في قصور الحكم عن الماء البالغ قدر الكر، فإنه لو فرض عموم نصوص نجاسة السؤر للكثير، إلا أنه يجب الخروج عنه بنصوص الكر الوارد بعضها في خصوص الماء الذي يشرب منه الحيوان النجس العين، كموثق أبي بصير

ص: 486

______________________________

المتقدم عند الكلام في أخذ الكثرة في مفهوم السؤر، و صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «و سئل عن الماء تبول فيه الدواب و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب؟ قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي ء» «1»، و نحوه صحيحه الآخر «2»، و قريب منهما صحيح صفوان «3».

الثاني: طهارة سؤر طاهر العين، و عن الغنية دعوي الإجماع عليه، و عن كشف الالتباس أن عليه المتأخرين و أكثر المتقدمين، و نسبه في المدارك إلي عامة المتأخرين، و ادعي في الخلاف الإجماع علي طهارة سؤر ما عدا الكلب و الخنزير من الحيوان، و في محكي السرائر في باب الأطعمة و الأشربة دعوي انعقاد إجماع أصحابنا علي جواز شرب سؤر ذلك و الوضوء به.

و يقتضيه الأصل، بل لا يحتمل عادة انفعال الماء بملاقاة الطاهر، كي يحتاج للأصل.

و قد يستدل عليه بصحيح البقباق: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن فضل الهرة و الشاة و البقرة و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع، فلم أترك شيئا إلا سألته عنه؟ فقال: لا بأس به، حتي انتهيت إلي الكلب. فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله و اصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أول مرة ثمَّ بالماء» «4».

و صحيح صفوان و موثق ابن بكير عن معاوية قال: «سأل عذافر أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا عنده عن سؤر السنور و الشاة و البقرة و البعير و الحمار و الفرس و البغل و السباع يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال: نعم، اشرب منه و توضأ منه. قلت له: الكلب. قال: لا.

قلت: أ ليس هو سبع؟ قال: لا و اللّٰه إنه نجس، لا و اللّٰه إنه نجس» «5»، بلحاظ ظهور ذكر نجاسة الكلب فيهما في كونها علة لحرمة السؤر تدور مدارها وجودا و عدما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 12.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الأسآر حديث: 6.

ص: 487

______________________________

و فيه: أنه لو سلم ظهورهما في بيان العلة المنحصرة فمقتضي التعليل عموم الحكم تبعا لعموم العلة و قصوره عن غير موردها في موضوعه، لا مطلقا، فإذا قيل: لا تأكل الرمان لأنه حامض، كان مقتضاه حرمة كل حامض و إن لم يكن رمانا و حلية غير الحامض من الرمان لا من كل شي ء، فلو فرض وجود غير النجس من الكلب لكان ظاهر التعليل طهارة سؤره، و لا ظهور له في طهارة كل طاهر العين.

و مثله الاستدلال بالأول بلحاظ قوله: «فلم أترك شيئا إلا سألته عنه» بدعوي ظهوره في عموم طهارة السؤر.

لاندفاعه: بظهوره في استيعاب السؤال لكل نوع نوع، علي نحو استقصاء الأفراد لا العموم، فلو تمَّ كان نصا في العموم لا ظاهرا فيه، لكنه لا مجال لحمله علي حقيقته، لتعذر الاستقصاء الحقيقي عادة، فلا بد من حمله علي الاستقصاء التسامحي، فلا ينفع في إثبات العموم.

نعم، هو ينفع في كثير من الموارد.

هذا، و في المقام أقوال مخالفة لما تقدم:

الأول: ما قد يستفاد من التهذيب من المنع عن سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان غير الهر و الطيور، و نحوه في الاستبصار، إلا أنه ذكر الفارة و لم يذكرا لهر، و لعله لتحويله علي ما في التهذيب. و إن كان قد ينافي ذهابه لذلك فيهما ذكره للنصوص الدالة علي جواز استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه دون أن يتصدي لتأويلها.

و كيف كان، فقد استدل فيهما علي عدم جواز استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه بموثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سئل عما تشرب منه الحمامة؟ فقال: كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره و اشرب. و عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب. فقال: كل شي ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلا أن تري في منقاره دما.» «1».

و يشكل: بابتنائه علي مفهوم الوصف الذي ليس بحجة علي التحقيق،

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الأسآر حديث: 2.

ص: 488

______________________________

خصوصا ما لم يعتمد علي موصوف، كما في المقام، لأن الموصول و إن كان يحكي عن الذات، إلا أنه يحكي عنها حكاية هيئة اسم الفاعل و المفعول بما أنه معني حرفي، و ليست حكاية الاسم الجامد الذي يعتمد عليه الوصف.

و ما ذكره بعض مشايخنا من وروده في مقام التحديد الموجب لظهوره في المفهوم و إن لم يكن مفهوم الوصف حجة.

غير ظاهر الوجه، فان انتقال الإمام عليه السّلام عن مورد السؤال و هو الحمامة إلي مطلق ما لا يؤكل لحمه ظاهر في كونه في مقام ضرب القاعدة لا التحديد.

و دعوي: أن اشتمال الخبر في الجملة الخبرية علي الفاء ملحق لها بالجملة الشرطية في الدلالة علي المفهوم.

مدفوعة: - مع خلو موضع استدلال الشيخ عن الفاء في رواية كتابيه- بأن تشبيههم الجملة الخبرية بالشرطية في دخول الفاء لا يقتضي باشتراكهما في الدلالة علي المفهوم، بل المتيقن من دلالة الفاء تأكيد إشعار الجملة بعلية المبتدأ للخبر من دون أن تدل علي الانحصار الذي يتوقف علي المفهوم، و لم أعثر عاجلا علي تصريح منهم بما زاد علي ذلك.

نعم، لا إشكال في ظهوره في خصوصية مأكول اللحم في الجملة، كما هو مقتضي العلية، و الظاهر بقرينة ذكر «كل» أن خصوصيته بلحاظ عموم عدم المنهي عن سؤره، بخلاف غيره، فان بعض أفراده منهي عنه، فتكون العلية في الحقيقة بلحاظ مقام الإثبات، لأن موضوع القاعدة علة في حصول العلم بالحكم و إن لم يكن علة له ثبوتا.

و أما الإشكال في ظهوره في المفهوم بأنه لا يناسب عدم اكتفاء السائل بالصدر في معرفة حكم ما لا يؤكل لحمه من الطير و تكراره السؤال عن حكم الباز و الصقر و العقاب- كما أشار إليه الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

فمدفوع بما أشرنا إليه غير مرة من قرب حمل هذا النحو من التقطيع في الأسئلة علي كون كل سؤال كلاما مستقلا عن غيره، لا متصلا به ليكشف عن حاله.

ص: 489

______________________________

و مما تقدم يظهر ضعف الاستدلال بصحيح عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: لا بأس أن تتوضأ مما شرب منه ما يؤكل لحمه» «1» إذ لا مفهوم له.

مضافا إلي أن مقتضاه ثبوت البأس فيما لا يؤكل لحمه، و هو أعم من الحرمة.

و مثله في الأمرين موثق سماعة: «سألته هل يشرب سؤر شي ء من الدواب و يتوضأ منه؟ قال: أما الإبل و البقر و الغنم فلا بأس» «2»، فإن «أما» لا تفيد الحصر، بل التفصيل، فهو متضمن لبيان حكم هذه الثلاثة، من دون أن يظهر في عموم الحرمة في غيرها.

نعم، قد يشعر الاقتصار عليها علي الاختصاص بها دون أن يبلغ مرتبة الظهور الحجة. كما أن ثبوت البأس أعم من الحرمة. بل من القريب أن يراد من الدواب المعني العرفي المختص بالمذكورات و بالخيل و البغال و الحمير، لا المعني اللغوي الذي هو بمعني ما يدب علي الأرض، و حينئذ يتعين حمل البأس علي الكراهة.

و بالجملة: لا تنهض هذه النصوص بإثبات عموم حرمة سؤر ما لا يؤكل لحمه. علي أنها لو تمت دلالتها لم تنهض بمعارضة مثل صحيح البقباق الصريح في حلية سؤر الوحش و السباع و غيرها مما أشير إليه إجمالا في السؤال.

و قريب منه حديث معاوية المتقدم في السباع، و كذا صحيح محمد بن مسلم في السنور: «قال: لا بأس أن تتوضأ من فضلها إنما هي من السباع» «3»، و نحوه حديث أبي الصباح «4».

و الجمع بينها بالتخصيص صعب جدا بعد كون ما تضمنته هذه النصوص من أظهر أفراد ما لا يؤكل لحمه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب الأسآر حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 4.

ص: 490

______________________________

فالأولي الجمع بينها بالحمل علي الكراهة، كما قد يشهد به مرسل الوشاء عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «انه كان يكره سؤر كل شي ء لا يؤكل لحمه» «1».

الثاني: ما عن السرائر من نجاسة سؤر ما أمكن التحرز عنه من غير مأكول اللحم من حيوان الحضر غير الطيور، و قال: «و لا بأس بأسآر الفأر و الحيات و جميع حشرات الأرض».

و هو بظاهره غريب، لبعد كون سهولة التحرز معيارا في النجاسة. مع أنه إن أراد بذلك نجاسة ذي السؤر أو نجاسة لعابه فهو موكول إلي مبحث تعداد النجاسات.

و إن أراد بذلك طهارته مع نجاسة سؤره فهو- مع غرابته جدا- لا شاهد له، إذ النصوص الناهية عن بعض الأسآر لم تتضمن الحكم بنجاستها، فان فرض فهم النجاسة منها بجعل النهي كناية عنها تعين حملها علي نجاسة ذي السؤر لعدم التفكيك بينهما عرفا، و إلا تعين الجمود علي النهي بالبناء علي حرمة السؤر دون نجاسته، لأن التفكيك بينهما أهون بمراتب من التفكيك بين نجاسة السؤر و نجاسة ذي السؤر.

و من ثمَّ لا يبعد التصرف في كلامه بحمل نجاسة السؤر فيه علي مجرد حرمته، فيكون مساوقا لما عن المبسوط و المهذب من المنع عن سؤر ما لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الآدمي و الطيور، إلا ما لا يمكن التحرز عنه كالهر و الفارة.

و علي كل فالجميع خال عن الدليل، لأن النصوص المتقدمة فيما لا يؤكل لحمه لو تمت دلالتها لا تصلح للاستدلال عليه، لأنه أخص منها كثيرا، فحملها عليه- مع خلوه عن الدليل- تخصيص كثير مستهجن بل هو يرجع إلي عدم سوقها للمفهوم و عدم صلوحها للاستدلال.

الثالث: ما عن الشيخ في المبسوط و المرتضي و ابن الجنيد من المنع من سؤر

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الأسآر حديث: 2.

ص: 491

غير الكتابي (1).

نعم، يكره سؤر غير مأكول اللحم (2)،

______________________________

الجلال، و ما عن النهاية من المنع من سؤر آكل الجيف، بل في كشف اللثام: «و كلام القاضي في المهذب يعطي نجاسة السؤرين و نجّس أبو علي سؤر الجلال، و في الإصباح نجاسة سؤر جلال الطيور»، و نسب في الحدائق إلي الشيخ في النهاية نجاسة سؤر آكل الجيف من الطير. و لا وجه للجميع بناء علي طهارة ذي السؤر. بل هو خلاف عموم موثق عمار المتقدم في الطير، و إطلاق صحيح البقباق و حديث معاوية المتقدمين و غيرهما الشامل لبعض أنواع الجلال و آكل الجيف من السباع و غيرها.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و استدل لهم بعدم خلو لعابه عن النجاسة. و هو كما تري ممنوع. مع أنه يختص بملاقي الفم، و لا يطرد فيما يلاقي بقية أجزاء الجسم».

بل مقتضاه تعميم المنع لكل ما يأكل النجس أو المتنجس.

و دعوي نجاسة لعابه ممنوعة، مع ما هو المعلوم من طهارة الحيوان مع زوال عين النجاسة، علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّٰه تعالي.

و مثله الاستدلال في الجلال بما دل علي نجاسة عرقه بدعوي عدم الفرق بين اللعاب و العرق. فإنه تحكم.

(1) بناء علي اختصاص النجاسة به، و يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّٰه تعالي، كما يأتي الكلام في نجاسة بعض الحيوانات أو نجاسة لعابها، حيث يلزم القائل بالنجاسة القول بنجاسة السؤر، كالمسوخ مطلقا، أو بعض أنواعها، و ولد الزنا، و غير ذلك.

(2) كما في الروضة و عن الاقتصاد و الوسيلة و المنتهي و نهاية الأحكام و الذكري و الدروس. و نسبه في الحدائق إلي الأصحاب، و كأن مراده بعضهم، كيف و قد أهمله غير واحد، بل قد يظهر من اقتصارهم علي العناوين الآتية عدمه.

و كيف كان، فالدليل عليه منحصر بمرسلة الوشاء المتقدمة، و مفهوم النصوص السابقة بناء علي تماميته في نفسه و حمله علي الكراهة.

ص: 492

______________________________

هذا، و قد ذكر غير واحد كراهة أسآر بعض الحيوانات الخاصة فالمناسب التعرض لها تبعا لهم.

الأول: الجلال، كما في الشرائع و المعتبر و القواعد و اللمعتين، و عن جمل السيد و التذكرة و التحرير و الدروس و غيرها، بل نسبه في الحدائق إلي جمهور الأصحاب. و لا وجه له إلا دخوله فيما لا يؤكل لحمه، بناء علي ما هو الظاهر من عمومه لما يحرم بالعارض من حيث كونه لحما، دون مثل المغصوب.

و قد يتمسك له بما تقدم وجها للنجاسة و الحرمة بعد حمله علي الكراهة.

الثاني: آكل الجيف من الطير، كما في المقنعة و المعتبر و عن النهاية و التذكرة، بل مطلقا، كما في الشرائع و القواعد و اللمعتين، و عن المراسم و التحرير. و لا يتضح وجهه، إلا أن يكون مختصا بما لا يؤكل لحمه، فيلحقه ما تقدم فيه، أو يستند إلي بعض ما تقدم وجها للنجاسة و الحرمة بعد حمله علي الكراهة.

الثالث: الدجاج، كما في القواعد و عن سلار و ابني سعيد، و حكاه في المعتبر عن المبسوط، ثمَّ قال: «و هو حسن إن قصد المهملة، لأنها لا تنفك من الاغتذاء بالنجاسة». و هو يرجع إلي ما تقدم في آكل الجيف دليلا علي النجاسة بعد حمله علي الكراهة للاستظهار. فلاحظ.

و أما الاستدلال بما تضمن أن الدجاج خنزير الطير «1»، بدعوي: أن مقتضي التنزيل بعد حمله علي الكراهة كراهة سؤره ككراهة لحمه.

ففيه: أن اللسان المذكور لا يتضمن تنزيل الدجاج منزلة الخنزير، و إلا كان مقتضاه الحرمة، بل تشبيهه به للتنفير عنه و بيان كراهة لحمه لا غير.

نعم، يتجه الاستدلال به- مع الغض عن سنده- بناء علي تبعية السؤر للحم في الكراهة، علي ما يأتي الكلام فيه في الأمر الثامن.

الرابع: الفأرة، كما في الشرائع و القواعد و اللمعتين، و عن الوسيلة و المهذب و الجامع و التحرير و الذكري. و يقتضيه- مضافا إلي دخوله فيما لا يؤكل لحمه- الجمع بين النصوص المجوزة و النهاية.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 16 من أبواب الأطعمة المباحة.

ص: 493

______________________________

فمن الاولي: خبر إسحاق بن عمار- الذي لا يخلو سنده عن اعتبار- عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «ان أبا جعفر عليه السّلام كان يقول: لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء، أن تشرب منه و تتوضأ منه» «1»، و صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «و سألته عن فأرة وقعت في حب دهن و أخرجت قبل أن تموت، أبيعه من مسلم؟ قال: نعم، و يدهن منه» «2» و غيره، فإنها و إن لم ترد في السؤر إلا أنه يستفاد حكمه منها بفهم عدم الخصوصية عرفا و لا سيما مع غلبة كون وقوع الفارة مسببا عن إرادتها الأكل منه، بل هو ملازم لفتح فمها فيه غالبا.

و من الثانية: ما في حديث المناهي: «ان النبي صلّي اللّٰه عليه و آله نهي عن أكل سؤر الفار» «3»، و موثق عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «أنه سئل عن الكلب و الفأرة أكلا عن [من ظ] الخبز و شبهه؟ قال: يطرح منه و يؤكل الباقي» «4»، و صحيح ابن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء علي الثياب أ يصلي فيها؟ قال:

اغسل ما رأيت من أثرها، و ما لم تره انضحه بالماء» «5» و غيرها، و هو المناسب لما في وصية النبي صلّي اللّٰه عليه و آله لعلي عليه السّلام من أن سؤر الفأرة مما يورث النسيان «6».

فما يظهر من المعتبر و عن المنتهي من عدم الكراهة في غير محله.

و مثله ما يظهر من بعضهم من نجاسة سؤرها تبعا لنجاستها، كما هو مقتضي ما في المقنعة و ظاهر التهذيب من وجوب غسل أثرها من الثوب، و مثله ما عن النهاية و المبسوط من وجوب غسل ما تلاقيه برطوبة.

هذا، و يظهر من خبر الغنوي الآتي في الوزغ ارتفاع الكراهة أو تخفيفها بالسكب ثلاث مرات من الماء.

الخامس: الحية، كما في الشرائع و القواعد و اللمعتين و عن التحرير و الإرشاد

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 36 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 33 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 91 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 1.

ص: 494

______________________________

و نهاية الأحكام و الدروس و غيرها، و عن الشيخ في النهاية أن الأفضل الترك للسم.

و يقتضيه: - مضافا إلي دخوله فيما لا يؤكل لحمه- خبر أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن حية دخلت حبا فيه ماء و خرجت منه؟ قال: إذا وجد ماء غيره فليهرقه» «1».

هذا، و ظاهر المعتبر و عن المنتهي و صريح المدارك عدم الكراهة، مستدلا عليه في الأخير بصحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن العظاية و الحية و الوزغ يقع في الماء فلا يموت، أ يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به» «2». و هو كما تري لا يمنع من الكراهة.

السادس: الوزغ، كما في المعتبر و عن الدروس و عن التذكرة: هو مكروه من حيث الطب.

و يقتضيه خبر الغنوي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «سألته عن الفأرة و العقرب و أشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيا، هل يشرب من ذلك الماء و يتوضأ به [منه خ ل]؟ قال:

يسكب منه ثلاث مرات و قليله و كثيره بمنزلة واحدة ثمَّ يشرب منه [و يتوضأ منه خ] غير الوزغ، فإنه لا ينتفع بما يقع فيه» «3»، و موثق عمار في حديث: «انه سئل عن العظاية يقع في اللبن. قال: يحرم اللبن؟ و قال: إن فيها السم» «4»، بناء علي أن العظاية هي الوزغ، أو أعم منه و إن لم يخل عن إشكال، بل هو خلاف ظاهر صحيح ابن جعفر المتقدم.

هذا، و في المقنعة و عن النهاية الأمر بغسل الثوب الذي يلاقيه برطوبة، و في الفقيه: «فان وقع وزغ في إناء فيه ماء أهريق ذلك الماء»، و عن المقنع الفتوي بذلك في العظاية.

و الجميع مدفوع بصحيح علي بن جعفر المتقدم، حيث يلزم لأجله حمل

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 46 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

ص: 495

______________________________

النصوص الدالة علي ذلك علي الكراهة.

السابع: العقرب، كما عن الدروس. و يقتضيه موثق أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن الخنفساء تقع في الماء، أ يتوضأ به؟ قال: نعم. قلت: فالعقرب؟

قال: أرقه» «1»، المحمول علي الكراهة لخبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن العقرب و الخنفساء و أشباههن تموت في الجرة أو الدن يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به» «2»، و صحيح ابن مسكان: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: كل شي ء يسقط في البئر ليس له دم، مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك، فلا بأس به» «3»، فإن التقييد فيه بما ليس له دم ظاهر في أن عدم الانفعال لعدم المقتضي لا لاعتصام البئر، فهو يشير إلي عموم عدم نجاسة ميتة ما لا نفس له، كموثق عمار: «سئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه؟ قال: كل ما ليس له دم فلا بأس به» «4» و غيره.

فالعموم المذكور و إن كان قابلا للتخصيص في العقرب إلا أن صحيح ابن مسكان ظاهر في عدم تخصيصه فيه و أن ميتته طاهرة، فيدل علي طهارة سؤره بالأولوية العرفية، و يكون قرينة علي حمل موثق أبي بصير علي الكراهة.

كما أنه يستفاد من خبر الغنوي المتقدم تخفيف الكراهة أو ارتفاعها بالسكب من الماء ثلاثا.

هذا، و قد ذكر في الشرائع كراهة ما مات فيه العقرب و الوزغ.

و الوجه فيه في العقرب- مضافا إلي ما تقدم الشامل لحال الموت، بل هو الأولي من حال الحياة عرفا- موثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن جرة وجد فيه خنفساء قد مات؟ قال: القه و توضأ منه، و إن كان عقربا فأرق الماء و توضأ من ماء غيره» «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الأسآر حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب الأسآر حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 10 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 9 من أبواب الأسآر حديث: 6.

ص: 496

______________________________

و في الوزغ خبر الغنوي المتقدم الدال علي حكم الميت بالأولوية العرفية المؤيد بما ورد من النزح لوقوعه و موته في البئر «1».

و لا بد من رفع اليد عن ظهور الجميع في الحرمة و حمله علي الكراهة بما تقدم.

و منه يظهر ضعف ما عن الشيخ في النهاية، حيث أوجب إراقة الماء و غسل الإناء بموت العقرب و الوزغ. فلاحظ.

الثامن: البغال و الحمير، كما في الشرائع و القواعد و اللمعتين، و في الجواهر:

«كما هو المشهور نقلا و تحصيلا، كالخيل أيضا. و ربما زيد الدواب، بل كل ما يكره لحمه، كما صرح به بعضهم، و يظهر من آخرين، لتعليلهم الكراهة في المقام بكراهة اللحم، بل يستفاد منه أن ذلك من المسلمات».

و العمدة فيه موثق سماعة المتقدم عند الكلام في حرمة سؤر ما لا يؤكل لحمه، بناء علي ظهوره في المفهوم و حمله علي الكراهة و لو لأنها المتيقن أو للجمع بين الأدلة.

و قد يستدل له بصحيح ابن مسكان عن الصادق عليه السّلام: «سألته عن الوضوء مما ولغ فيه الكلب و السنور، أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك، أ يتوضأ منه أو يغتسل؟ قال: نعم، إلا أن تجد غيره فتنزه عنه» «2» بضميمة ما في الجواهر من عدم القائل بالفصل هنا بين الوضوء و غيره.

لكن قد يشكل باشتماله علي ما لا يكره أكل لحمه- و هو الجمل- و علي السنور الذي يأتي عدم الكراهة فيه، بل علي غير ذلك الذي يعم كل حيوان، كما أن اشتماله علي الكلب قد يلزم بحمله علي الكر.

و من ثمَّ لا يبعد حمله علي إرادة الإخبار بتنزه السائل للاستقذار النفسي، لا الأمر بالتنزه عنه لاستقذاره شرعا، كما هو المدعي، فيكون قوله: «فتنزه» فعلا مضارعا قد حذقت إحدي تائيه تخفيفا، لا فعل أمر، فإن احتمال ذلك إن

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 19 من أبواب الماء المطلق.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الأسآر حديث: 6.

ص: 497

______________________________

لم يكن معتدا به في نفسه بنحو يوجب الإجمال، فلا أقل من الحمل عليه لما ذكرنا.

فلاحظ.

التاسع: ولد الزنا، كما في المعتبر و القواعد و اللمعتين و عن الدروس و غيره.

و يقتضيه مرسل الوشاء عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «أنه كره سؤر ولد الزنا و سؤر اليهودي و النصراني و المشرك و كل من خالف الإسلام. و كان أشد ذلك عنده سؤر الناصب» «1».

و قد يستفاد من النهي عن الاغتسال بغسالة الحمام معللا بأنه يغتسل بها ولد الزنا، و في بعضها: «و هو لا يطهر إلي سبعة آباء» «2».

و منه يظهر كراهة سؤر من يفرض حلية سؤره من الكفار و النواصب، لاشتمال مرسلة الوشاء و نصوص الحمام علي الجميع.

بل هو مقتضي كثير من النصوص لو فرض عدم العمل بظاهرها من النجاسة و الحرمة.

العاشر: الحائض مطلقا، كما عن المبسوط و المصباح و أبي علي.

أو خصوص غير المأمونة، كما في الشرائع و عن المراسم و الجامع و المهذب و الذكري. و كأنه إليه يرجع كلام من قيدها بالمتهمة، كالمعتبر و القواعد و عن النهاية و الوسيلة و السرائر و التذكرة و اللمعتين. و إلا فلا وجه له، لخلو النصوص عنه.

فإن النصوص بين ما هو مطلق، كصحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الحائض يشرب من سؤرها؟ قال: نعم، و لا تتوضأ منه» «3»، و غيره.

و مقيد للرخصة بالمأمونة، كموثق علي بن يقطين عن أبي الحسن عليه السّلام: «في الرجل يتوضأ بفضل الحائض. قال: إذا كانت مأمونة فلا بأس» «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الأسآر حديث: 2، و في الباب المذكور أحاديث كثيرة تتضمن ذلك.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب الأسآر حديث: 5.

ص: 498

______________________________

و من ثمَّ كان مقتضي الجمع بين النصوص هو التقييد. لو لا ما رواه في الكافي في الصحيح عن العيص بن القاسم: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن سؤر الحائض؟ فقال:

لا تتوضأ منه و توضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ثمَّ تغسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء. و قد كان رسول اللّٰه صلّي اللّٰه عليه و آله يغتسل هو و عائشة في إناء واحد و يغتسلان جميعا» «1»، فإنه ظاهر في اختصاص ارتفاع الكراهة بالأمانة بالجنب، و عدم ارتفاعها بذلك في الحائض.

نعم، استشكل فيه برواية الشيخ له في كتابيه بإسقاط «لا» من الجواب.

لكنه قد يدفع بما اشتهر من أضبطية الكافي، و بأصحية سنده. قال في مفتاح الكرامة: «و يؤيده ما نقل من أن الشيخ رواها مرة أخري في التهذيب كالكليني»، و نحوه ذكر الوحيد في حاشية المدارك بل ظاهر الوسائل موافقة الشيخ للكافي في إثبات «لا».

مضافا إلي استفادة ذلك من صحيح ابن أبي يعفور: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام:

أ يتوضأ الرجل من فضل المرأة؟ قال: إذا كانت تعرف الوضوء، و لا تتوض من سؤر الحائض» «2»، فإن الظاهر أن اعتبار معرفة الوضوء في المرأة راجع إلي اعتبار أمانتها في رفع الكراهة، فإطلاق النهي مع ذلك في سؤر الحائض ظاهر في عموم كراهته.

و قد يؤيده صحيح أبي بصير عنه عليه السّلام: «سألته هل يتوضأ من فضل وضوء الحائض؟ قال: لا» «3»، فإن فرض وضوئها مثير لاحتمال أمانتها، فاغفال التقييد بها مشعر بعموم الكراهة. فتأمل جيدا.

و أما ما في الجواهر من أن ذلك ينافي النصوص المقيدة بعدم الأمانة. فلا مجال له بعد إمكان الحمل علي اختلاف جهات الكراهة و مراتبها، حيث يكون المتحصل من مجموع النصوص أن في الحائض كراهتين: ذاتية لا تزول بالأمانة، و عرضية تزول بها، و تشاركها فيها الجنب، بل مطلق المرأة، كما هو مقتضي صحيح

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الأسآر حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الأسآر حديث: 7.

ص: 499

______________________________

ابن أبي يعفور.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن صريح غير واحد من النصوص اختصاص الكراهة بالوضوء و عدم كراهة الشرب، فإطلاق كراهة السؤر غير ظاهر.

و مجرد اشتهار الإطلاق بين الأصحاب، حتي قد يدعي عليه الإجماع، لا مجال للاعتماد عليه في رد النصوص مع ما هو الظاهر للممارس من تسامحهم في المكروهات و المستحبات.

كما لا وجه لردها بدعوي مناسبة الإطلاق للتقييد بالأمانة المقصود بها الاحتراز عن النجاسة، حيث لا فرق في رجحانه بين الوضوء و الشرب و غيرهما مما يتوقف علي الطهارة، فإنه اجتهاد في مقابلة النص.

نعم، بناء علي ما ذكرنا من ثبوت كراهتين قد يتجه ذلك بحمل النصوص المفصلة بين الوضوء و الشرب علي الكراهة الذاتية التي لا ترتفع بالأمانة، و النصوص المقيدة بالأمانة علي الكراهة العرضية الطريقية الشاملة لمطلق الاستعمال، حذرا من النجاسة بإلغاء خصوصية موردها و هو الوضوء بعد عدم تصريحها بالاختصاص به.

الثاني: الظاهر عدم الإشكال في حمل النهي علي الكراهة. و يكفي فيه اشتهار ذلك بين الأصحاب مع ما هو المعلوم من كثرة الابتلاء بالحكم المذكور، فلو كان النهي تحريميا لم يخف عليهم.

و من ثمَّ لا يبعد حمل إطلاق النهي المحكي عن المقنع علي الكراهة.

الثالث: عن الشهيد في البيان أنه عمم الحكم إلي كل من لا يؤمن، و استحسنه في الروضة، و استظهره في كشف اللثام، و في مفتاح الكرامة: «و هو الظاهر من الشيخين و العجلي و المحقق في الأطعمة، و الأستاذ انه في غاية القوة».

هذا، و لو أريد بذلك تعميم الكراهة الشرعية بفهم عدم الخصوصية فهو ممنوع.

و إن أريد حسن الاحتياط عقلا فهو يجري في كل احتمال، و لا يختص بغير المأمون.

ص: 500

عدا الهرة (1) و أما المؤمن فإن سؤره شفاء (2)،

______________________________

و قد يظهر من بعض النصوص الردع عن الاحتياط فيه و لو من جهة مزاحمته ببعض الجهات الراجحة.

(1) كما في الوسائل، بل هو ظاهر كل من لم يتعرض لعنوان غير مأكول اللحم و اقتصر علي عناوين خاصة، حيث لم يعدوها بخصوصها، بل ربما ينساق من تخصيص بعضهم الكراهة في آكل الجيف بالطير إرادة عدم كراهة سؤر السنور، كما في مفتاح الكرامة.

و كيف كان، فيقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح زرارة المتقدم عند الكلام في مفهوم السؤر، و صحيح محمد بن مسلم المتقدم عند الكلام في نجاسة سؤر ما لا يؤكل لحمه، و نحوه خبر أبي الصباح، و صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

«في الهرة أنها من أهل البيت، و يتوضأ من سؤرها» «1»، و في موثق سماعة عنه عليه السّلام:

«أن عليا عليه السّلام قال: إنما هي من أهل البيت» «2».

نعم، ذكر السنور في صحيح ابن مسكان المتقدم عند الكلام في سؤر البغل و الحمار.

و تقدم الإشكال في الاستدلال به، بل لا مجال للخروج به عن هذه النصوص و لو بحمله علي الكراهة الخفيفة، لإباء صحيح زرارة عنها جدا.

(2) ففي حديث الأربعمائة عن علي عليه السّلام قال: «سؤر المؤمن شفاء» «3»، و في مرفوع محمد بن إسماعيل: «من شرب سؤر المؤمن تبركا به خلق اللّٰه بينهما ملكا يستغفر لهما حتي تقوم الساعة» «4»، و مثله مرسل الاختصاص عن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله «5»، و ما

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب الأسآر حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 18 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 18 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 2.

(5) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 1.

ص: 501

بل في بعض الروايات أنه شفاء من سبعين داء (1).

______________________________

عن المستغفري في طب النبي صلّي اللّٰه عليه و آله عنه صلّي اللّٰه عليه و آله: «قال: و من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه المؤمن» «1».

(1) ففي صحيح عبد اللّٰه بن سنان: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: في سؤر المؤمن شفاء من سبعين داء» «2»، و مثله مرسل الاختصاص عن النبي صلّي اللّٰه عليه و آله «3».

هذا تمام الكلام في الأسآر، و به ينتهي الكلام في مباحث المياه.

و الحمد للّٰه رب العالمين و له الشكر علي ما منحنا من التوفيق و العون في إنجاز ذلك، و نسأله أن يتقبله بقبول حسن، و أن يتداركنا بلطف منه و رحمة، و يعصمنا من الزلل في القول و العمل.

و هو حسبنا و نعم الوكيل.

و كان الفراغ من ذلك صباح الأربعاء الخامس و العشرين من شهر شعبان سنة ألف و ثلاثمائة و خمس و تسعين لهجرة سيد المرسلين صلي اللّٰه عليه و آله و سلم تسليما كثيرا، في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف علي مشرفه أفضل الصلوات و أزكي التحيّات.

و نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من بركات مشهده و يوفقنا للقيام بحق مجاورته، و يصلح نياتنا، و يزكي أعمالنا، إنه أرحم الراحمين و ولي المؤمنين.

و كان ذلك بقلم العبد الفقير «محمد سعيد» عفي عنه نجل العلامة الجليل حجة الإسلام السيد «محمد علي» الطباطبائي الحكيم دامت بركاته. و الحمد للّٰه في البدء و الختام، و به الاعتصام.

و قد انتهي تبييضه سحر الثلاثاء العاشر من شهر رمضان المبارك من السنة المذكورة، في النجف الأشرف، بقلم مؤلفه الفقير حامدا مصليا مسلما.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 18 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب الأشربة المباحة حديث: 2.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق

ص: 502

المجلد 2

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

تتمة كتاب الطهارة

المبحث الثاني: في أحكام الخلوة

اشارة

المبحث الثاني في أحكام الخلوة و فيه فصول:

الفصل الأول: في واجبات حال التخلي و محرماته
اشارة

الفصل الأول يجب حال التخلي، بل في سائر الأحوال ستر (1)

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام علي سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

(1) الكلام في مقامين.

الأول: في وجوب ستر العورة، و هو المدعي عليه الإجماع في كشف اللثام و الرياض، و عليه علماء الإسلام كما في المعتبر، و بإجماع علماء الإسلام كما عن المنتهي و التحرير و روض الجنان [1]، و بإجماع العلماء كما في جامع المقاصد، بل في الرياض: «بإجماع العلماء كافة، كما حكاه جماعة حد الاستفاضة»، و في الجواهر: «الإجماع محصلا و منقولا، بل ضرورة الدين في الجملة».

______________________________

[1] الموجود في المنتهي الإجماع علي وجوب ستر العورة في الصلاة، و لعل نسبة الإطلاق إليه لما هو المعلوم من عدم خصوصية الصلاة في الوجوب التكليفي، أما في الروض فقد قال: «يجب ستر العورة في الصلاة بإجماع علماء الإسلام كما نقله في المعتبر»، و الموجود في المعتبر الإطلاق.

ص: 7

______________________________

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك، و إلي مرتكزات المتشرعة القطعية، بل الضرورية- النصوص الكثيرة الآمرة بالمئزر لدخول الحمام، كصحيح محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن الحمام؟ فقال: ادخله بإزار.»، و صحيح رفاعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر» «1» و غيرهما، لما هو المعلوم من أن الأمر بالمئزر لأجل ستر العورة، كما يومئ إليه صحيح الحلبي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يغتسل بغير إزار حيث لا يراه أحد؟ قال: لا بأس» «2».

و مثلها حديث أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: يغتسل الرجل بارزا.

فقال: إذا لم يره أحد فلا بأس» «3»، فإنّه بقرينة ظهور بعض النصوص «4» في كراهة الاغتسال تحت السماء بغير مئزر يتعين حمل البأس فيه علي الحرمة. و في موثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يحتبي بثوب واحد؟ فقال: إن كان يغطي عورته فلا بأس» «5». فتأمل.

و في حديث المناهي: «إذا اغتسل أحدكم في فضاء من الأرض، فليحاذر علي عورته. و قال: لا يدخل أحدكم الحمام إلا بمئزر» «6»، إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة التي لا يضر ضعف سند بعضها بعد كثرتها، و اعتبار سند غير واحد منها، و تسالم الأصحاب علي العمل بها.

و ربما يستدل عليه بما دل علي حرمة النظر، بضميمة حرمة الإعانة علي الإثم.

و يشكل: بعدم ثبوت عموم حرمة الإعانة عليه، و إنما الثابت حرمة التعاون عليه، الذي هو بمعني حرمة الاشتراك فيه، و هو غير متحقق بمجرد التكشف،

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب آداب الحمام حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب آداب الحمام حديث: 1، 2.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب آداب الحمام حديث: 1، 2.

(4) الوسائل باب: 10 من أبواب آداب الحمام حديث: 3، 4.

(5) الوسائل باب: 79 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 1 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 8

______________________________

الذي لا يحقق إلا تمكين الغير من النظر.

هذا، و قد أشار شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلي الاستدلال بقوله تعالي:

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ. وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ «1»، بدعوي: أن أحد أنحاء حفظه حفظه من أن يطلع عليه.

و فيه: أنه لا مجال للأخذ بإطلاق الحفظ، لما هو المعلوم من عدم وجوب الحفظ عن كثير من الأمور، فلا بد من كونه كناية عن جهة خاصة، و المنصرف عرفا منه خصوص النكاح.

و مثله ما ذكره بعض مشايخنا من حمل ذلك و نحوه علي وجوب حفظ الفرج، عن كل ما يترقب منه من الاستلذاذات، كاللمس و النظر و النكاح، علي ما تقتضيه القوة الشهوية و الطبع البشري، لعدم تقييد الحفظ بجهة دون جهة.

لاندفاعه. أولا: بأن التقييد بما يترقب منه الاستلذاذ ليس بأولي من الحمل علي خصوص النكاح، بل الثاني أولي، كما ذكرنا.

و ثانيا: بأن ترقب الاستلذاذ غير دخيل في الحرمة، لا في النظر و لا في النكاح و لا في غيرهما، لما هو المعلوم من عموم الحرمة لما لو علم بعدم ترتبه.

و حمله علي ما يترقب منه نوعا نظير الحكمة التي لا يضر تخلفها في بعض الموارد. لا شاهد عليه، بل قد لا يلتزم هو به، حيث صرح بجواز النظر إلي الحجم مع أنه قد يثير الشهوة، بل لا ريب في عدم وجوب حفظ الفرج عن أن يوصف، أو يذكر- مثلا- مع ترقب إثارة الشهوة في مثل ذلك، فظهر أنه لا مجال للاستدلال بالآية الكريمة بنفسها.

نعم، في خبر أبي عمرو الزبيري، عن الصادق عليه السّلام في بيان فروض الجوارح:

«و فرض علي البصر أن لا ينظر إلي ما حرم اللّه عليه. فقال قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، أن ينظروا إلي عوراتهم و أن ينظر الرجل إلي

______________________________

(1) سورة النور: 30، 31.

ص: 9

______________________________

فرج أخيه، و يحفظ فرجه أن ينظر إليه. و قال: كل شي ء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فإنها من النظر» «1»، و في مرسل الصدوق عنه عليه السّلام: «كل ما كان في كتاب اللّه من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا، إلا في هذا الموضع، فإنه للحفظ من أن ينظر إليه» «2»، و في مجمع البيان و عن دعائم الإسلام «3» أرسل نحوه عنه عليه السّلام، و عن تفسير النعماني بإسناده عن علي عليه السّلام: «معناه: لا ينظر أحدكم إلي فرج أخيه المؤمن، أو يمكّنه من النظر إلي فرجه» «4».

و قد يؤيده ذكر الغض في الآية المناسب لإرادة التستر من الحفظ، و إن كان لا يخلو عن إشكال، لكن روي علي بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: كل آية في القرآن في ذكر الفرج فهي من الزنا إلا هذه الآية فإنها من النظر، فلا يحل لرجل مؤمن أن ينظر إلي فرج أخته، و لا يحل للمرأة أن تنظر إلي فرج أخيها» «5»، فإن ذيله قد يشعر باختصاص التحريم بغير المماثل، إلا أنه لا بد من حمله علي محض التطبيق، فيتم الاستدلال بصدره.

هذا، و في صحيح ابن أبي يعفور: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: أ يتجرد الرجل عند صب الماء تري عورته، أو يصب عليه الماء، أو يري هو عورة الناس؟

قال: كان أبي يكره ذلك من كل أحد» «6»، و في حديث وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام في ذكر جملة مما كرهه اللّه تعالي لهذه الأمة: «و كره دخول الحمام إلا بمئزر» «7».

و لا بد من حمل الكراهة فيهما علي ما يعم التحريم جمعا بين النصوص،

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب جهاد النفس حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(3) مستدرك الوسائل باب: 1 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(5) تفسير القمي ج 2 ص: 101.

(6) الوسائل باب: 3 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

(7) الوسائل باب: 9 من أبواب آداب الحمام حديث: 8

ص: 10

______________________________

و لا سيما بعد عدم ثبوت اختصاص لفظ الكراهة في لسان الشارع بالمعني المصطلح، فلا مجال للخروج بهما عن ظاهر النصوص المتقدمة، و لا سيما بعد إطباق الأصحاب علي فهم الحرمة منها.

الثاني: في حرمة النظر إلي العورة.

و التأمل في كلماتهم شاهد بإطباقهم علي ذلك- و إن لم تكن تصريحاتهم به كالأول- بل ادعي عليه في الجواهر الإجماع، بل الضرورة، كوجوب الستر.

بل ذكر شيخنا الأستاذ قدّس سرّه أن بينهما ملازمة عرفية، فيكفي في الدليل علي أحدهما إطلاقا و تقييدا الدليل علي الآخر.

و إن كان لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح منشأ الملازمة المذكورة، و لا سيما مع افتراقهما في نظير المقام، حيث يجب علي المرأة ستر بدنها، و لا يحرم علي الرجل النظر إليه إذا كانت ممن إذا نهين لا ينتهين، كما يحرم علي المرأة النظر إلي بدن الرجل في الجملة، و لا يجب عليه التستر منها.

نعم، قد يستفاد في بعض الموارد اختصاص موضوع الحرمة في أحدهما بموضوع الحرمة في الآخر، فيصح الاستدلال بالتقييد في أحدهما علي التقييد في الآخر، إلا أنه لقرينة خارجية لا للملازمة العرفية بوجه مطلق.

و كيف كان، فيكفي فيه غير واحد من النصوص، كصحيح حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا ينظر الرجل إلي عورة أخيه» «1»، و في حديث المناهي عنه صلّي اللّه عليه و آله: «و نهي أن ينظر الرجل إلي عورة أخيه المسلم، و قال: من تأمل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك. و نهي المرأة أن تنظر إلي عورة المرأة، و قال: من نظر إلي عورة أخيه المسلم، أو عورة غير أهله متعمدا أدخله اللّه مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس، و لم يخرج من الدنيا حتي يفضحه اللّه إلا أن يتوب» «2». و نحوه ما تضمن الأمر بغض النظر في الحمام «3»، إلي غير ذلك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب آداب الحمام حديث: 2. و باب: 9 من الأبواب المذكورة حديث: 7.

ص: 11

______________________________

و أما الاستدلال بقوله تعالي قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ. «1»،

فهو موقوف علي عموم من يجب الغض عنه للمماثل، بحيث يكون جواز النظر لما عدا العورة منه لتخصيص العموم المذكور، لا لقصوره عنه بسبب اختصاصه بالمخالف، و هو لا يخلو عن إشكال.

نعم، ما تقدم في خبر الزبيري، و عن تفسير النعماني ظاهر في اختصاصه بالنظر للعورة و عمومه لغير المماثل، و مثلهما في ذلك ما في وصية أمير المؤمنين عليه السّلام لولده محمد: «و فرض علي البصر أن لا ينظر إلي ما حرم اللّه عليه، فقال قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، فحرم أن ينظر أحد إلي فرج غيره» «2».

لكن، يشكل الخروج بها- مع ضعف سندها- عن ظاهر الآية في إطلاق حرمة النظر لما عدا الفرج المستلزم لاختصاصه بغير المماثل، بل هو مخالف لمورد نزول الآية الذي تضمنه موثق سعد الإسكاف «3»، حيث تضمن نزولها في شاب نظر امرأة فأعجبته، بل هو المناسب لذكر حرمة إبداء الزينة علي النساء في السياق. فتأمل.

هذا، و في صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن عورة المؤمن علي المؤمن حرام؟ فقال: نعم. قلت: أعني: سفليه [سفلته. خ. ل]؟ فقال:

ليس حيث تذهب، إنما هو إذاعة سره» «4»، و هو ظاهر في عدم حرمة النظر إلي العورة، لظهوره في السؤال عن حرمة العورة، فالردع عن تفسير السائل ظاهر في عدم حرمة المعني الذي عناه.

لكن، لا بد من الخروج عن ظاهره بعد ما تقدم، و حمله علي السؤال عن ورود الحديث بالمضمون المذكور، فلا يدل إلا علي عدم كون المراد بذلك

______________________________

(1) سورة النور: 30، 31.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب جهاد النفس حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 104 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

ص: 12

______________________________

الحديث حرمة النظر للعورة، و لا ينافي حرمته بدليل آخر، كما قد يناسبه ما في الكافي من قوله: «تعني: سفليه» بصيغة الخطاب.

بل هو صريح صحيح زيد أو موثقه، عنه عليه السّلام: «فيما جاء في الحديث: عورة المؤمن علي المؤمن حرام. قال: ما هو أن ينكشف فتري منه شيئا، إنما هو أن تروي عليه أو تعيبه» «1»، و مثله في ذلك صحيح حذيفة بن منصور «2».

بل في موثق سدير: «دخلت أنا و أبي و جدي و عمي حماما بالمدينة، فإذا رجل في البيت المسلخ، فقال لنا: من القوم؟. (إلي أن قال) ما يمنعكم من الأزر، فإن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: عورة المؤمن علي المؤمن حرام. (إلي أن قال)، فسألنا عن الرجل فإذا هو علي بن الحسين» «3»، و مقتضاه أن الحديث المذكور شامل لما نحن فيه، فلا بد أن يكون الردع في النصوص المتقدمة بلحاظ كون المعني المذكور فيها هو أهم الإفراد الأولي بالمراعاة، لا للاختصاص به، كما أشار إليه غير واحد.

اللهم إلا أن يحمل علي الاستدلال علي الشي ء بنظيره، لتحقق الملاك فيه بنظره عليه السّلام، أو لمحض الإقناع بسبب كون المعني المذكور هو الذي يفهمه المخاطب، و إن لم يكن هو المراد الواقعي. فتأمل.

هذا، و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «و عن بعض متأخري المتأخرين، أنه لو لم يكن مخافة خلاف الإجماع لأمكن القول بكراهة النظر، دون التحريم جمعا، كما يشير إليه ما رواه في الفقيه، عن الصادق عليه السّلام انه قال: (أنا أكره النظر إلي عورة المسلم، فأما النظر إلي عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلي عورة الحمار) «4».

فيسهل الجمع بين الروايات. انتهي. و لا يخفي أن الجمع بحمل الكراهة في هذا الخبر علي التحريم أولي من وجوه».

و قد أشرنا آخر الكلام في وجوب التستر إلي وجه الجمع الذي ذكره قدّس سرّه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 157 من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب آداب الحمام حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب آداب الحمام حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 6 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

ص: 13

بشرة العورة (1)،

______________________________

(1) الساتر. تارة: يستر اللون دون البشرة، كالزجاج الملون.

و اخري: يستر البشرة ببعض مراتب الستر لرقته، نظير الظلمة الخفيفة.

و ثالثة: يستر البشرة بتمامها، بحيث لا يتميز منها شي ء، إلا أنه يتميز منه حجمها، بسبب عدم اختراق البصر لها و نفوذه فيما حولها من فضاء إلي النور، و لو لم يكن وراءها نور لما تميز الحجم.

و رابعة: يستر الحجم أيضا، إلا أنه يأخذ مثل ذلك الحجم بسبب التصاقه علي البشرة، نظير القفاز الذي تجعل فيه اليد، و منه الطين الذي تطلي به العورة.

أما الأول فلا يظن من أحد الاكتفاء به، لصدق النظر إلي العورة و عدم صدق سترها معه، بل لا يصدق إلا ستر اللون الذي لم تتضمنه الأدلة. و قد يوهم ما يأتي من العلامة الاكتفاء به، و إن كان بعيدا.

و مثله الثاني، كما صرح به في الجواهر.

لكن، قد يظهر من العلامة قدّس سرّه الاكتفاء به إذا كان ساترا للون، لذكره اللون في غير واحد من كتبه، قال في القواعد في مبحث لباس المصلي: «و يكفيه ثوب واحد يحول بين الناظر و لون البشرة».

و في جامع المقاصد: «و ظاهر إطلاق العبارة يتناول ما إذا كان الثوب يستر اللون و يصف الخلقة و الحجم، فيجوز الصلاة فيه، و به صرح في التذكرة. و اختار شيخنا في الذكري و غيرها عدم جواز الصلاة به، لمرفوع أحمد بن حماد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: لا تصل فيما شف و وصف «1». قال في الذكري: معني «شف» لاحت منه البشرة، و «وصف» حكي الحجم. و فيما اختاره قوة، للحديث، و لأن وصف الحجم موجب للهتك أيضا».

إلا أن يحمل علي إرادة الاكتفاء بستر نفس البشرة، في مقابل لزوم ستر

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب لباس المصلي حديث: 4. و في معني الحديث كلام بينهم أشار إليه في مفتاح الكرامة و الوسائل و كشف اللثام.

ص: 14

______________________________

الحجم، كما يظهر من كشف اللثام.

و كيف كان، فالوجه في عدم الاكتفاء به ظهور الأدلة في لزوم ستر العورة بنحو يمنع من النظر إليها- غير الحاصل في الفرض و إن لم يصدق معه الكشف- لا مسمي الستر المانع من بعض مراتب النظر.

لكن، قال الفقيه الهمداني قدّس سرّه: «و الواجب من الستر ما يحصل به مسماه بحيث لا يعد في العرف مكشوف العورة، فلا بأس. بالساتر الرقيق الذي يحكي شكل العورة من ورائه، لو لم يكن من الرقة و سعة منافذه علي وجه لا يعد في العرف حاجبا لما وراءه، و لا اعتبار بالدقة العقلية، كما في غيره من الأحكام الشرعية.». و لا يخلو كلامه عن إجمال.

و أما الثالث فالظاهر الاكتفاء به، لصدق الستر معه، و مجرد تميز الحجم لا دليل علي حرمته بعد فرض عدم النظر إلي ذي الحجم.

و أولي منه الرابع، إذ لا يظهر معه حتي الحجم، بل الظاهر حجم الساتر، المماثل لحجم المستور، كما نبه له غير واحد. و يقتضيه ما دل علي أن النورة سترة «1»، و إن كان ضعيفا سندا.

و من الغريب ما أصر عليه شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من عدم صدق ستر العورة مع ذلك، إذ ليس سترها إلا كستر البدن، لا يراد به إلا وجود الحائل بينه و بين الناظر.

إلا أن يدعي أن قبح العورة قائم بهيئتها، كقيامه ببشرتها، فملاك ستر البشرة موجود ارتكازا في ستر الحجم، كما قد يشير إليه ما تقدم من جامع المقاصد. و لذا كان ستر الحجم مقتضي المرتكزات. لكنه بالقياس و الاستحسان أشبه، و المرتكزات لا تبلغ مرتبة القطع.

هذا، و كلماتهم لا تخلو عن تشويش و اضطراب، فمن قال بوجوب ستر الحجم، كما يمكن حمل كلامه علي الوجه الرابع يمكن حمله علي الوجه الثالث، بل الثاني، في قبال الاكتفاء بستر اللون، بل صريح الوحيد و الجواهر عدم إرادة

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب آداب الحمام حديث: 1، 2.

ص: 15

و هي القبل و الدبر (1)

______________________________

الوجه الرابع من الحجم.

كما أن من قال بعدم وجوب ستره مقتضي استدلالهم بما دل علي أن النورة سترة إرادة خصوص الوجه الرابع، و مقتضي سوقهم ذلك مساق الاكتفاء بستر اللون إرادة ما يعم الوجوه الثلاثة الأخيرة. بل قد يوهم إرادة ما يعم الوجه الأول، و إن كان بعيدا جدا.

(1) كما نص عليه جماهير الأصحاب. كذا في مفتاح الكرامة، و عليه إجماع الفرقة، كما في الخلاف، و إجماع أهل البيت، كما عن السرائر.

لأنه المتيقن من لفظ العورة و الفرج، إن لم يكن هو المتبادر منهما، فيرجع في غيره للأصل.

مضافا إلي مرسل الواسطي، عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام: «العورة عورتان:

القبل و الدبر. و الدبر مستور بالأليتين، فإذا سترت القضيب و البيضتين فقد سترت العورة» «1»، و قريب منه مرسل الكليني «2»، و قد يشير إليه صحيح عبد اللّه بن سنان المتقدم.

و من ذلك يظهر ضعف ما عن الكركي في حاشية الإرشاد من إلحاق العجان بذلك في وجوب الستر.

و عن القاضي و الحلبي: أن العورة من السرة إلي الركبة، و عن ثانيهما: أن ذلك لا يتم إلا بستر نصف الساق، و قد يستدل عليه بالنصوص الآمرة بالإزار.

و فيه- مع عدم ملازمة الإزار لستر جميع ذلك- أن ظهور بعضها في أن وجوبه لأجل ستر العورة موجب لصرف الوجوب إليها، و هو يقتضي الاقتصار علي المتيقن منها.

نعم، في خبر الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه عليه السّلام: «قال: إذا زوج

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب آداب الحمام حديث: 3.

ص: 16

______________________________

الرجل أمته فلا ينظرن إلي عورتها. و العورة ما بين السرة و الركبة» «1»، و خبر بشير النبال قد تضمن اتزار الإمام عليه السّلام حين أمر صاحب الحمام فطلي ما كان خارج الإزار، ثمَّ أخرجه و طلي هو عليه السّلام ما تحت الإزار، ثمَّ قال: «هكذا فافعل» «2»، و في حديث الأربعمائة، عن علي عليه السّلام: «ليس للرجل أن يكشف فخذيه و يجلس بين قوم» «3».

لكنها- مع ضعف سند الأولين، و هجر الكل عند الأصحاب، و موافقة لسان الأول لبعض العامة، و عدم ظهور الثاني في الوجوب، للعلم بعدم وجوب كثير من الخصوصيات التي تضمنها، و عدم ملازمة الإزار لستر جميع ذلك. و ظهور الثالث في بيان آداب الجلوس مع القوم لا وجوب الستر عن كل أحد- معارضة بما سبق، و بخبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «و سألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو أليته الجرح، هل يصلح للمرأة أن تنظر إليه و تداويه؟ قال: إذا لم يكن عورة فلا بأس» «4».

و رواية الميثمي عن محمد بن حكيم قال: «لا أعلمه إلا قال: رأيت أبا عبد اللّه، أو من رآه متجردا، و علي عورته ثوب، فقال: إن الفخذ ليس من العورة» «5»، و ما في حديث المرافقي في الحمام: «إن أبا جعفر عليه السّلام كان يدخله فيبدأ فيطلي عانته و ما يليها، ثمَّ يلف إزاره علي أطراف إحليله، و يدعوني فاطلي سائر بدنه» «6».

فلا بد من حمل هذه النصوص علي الاستحباب و لو لأنه مقتضي الحشمة.

و لعل ذلك هو المصحح لإطلاق العورة التي قيل في تعريفها: أنه ما يستحي منه، و كأنه إلي ذلك نظر في محكي الغنية و الوسيلة من أن ما بين السرة و الركبة عورة يستحب ستره.

______________________________

(1) الوسائل باب: 44 من أبواب نكاح العبيد و الإماء حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب آداب الحمام حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب أحكام الملابس من كتاب الصلاة حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 30 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 4 من أبواب آداب الحمام حديث: 1.

(6) الوسائل باب: 18 من أبواب آداب الحمام حديث: 1.

ص: 17

و البيضتان (1) عن كل ناظر مميز (2)

______________________________

(1) الظاهر دخولهما في القبل عرفا، بل عن جماعة أنه المشهور، و عن آخرين أنه الأشهر. و يشهد به مرسل الواسطي المتقدم.

و عن ظاهر التحرير التوقف، و هو في غير محله، بل لا ينبغي الإشكال في كونهما من العورة، و هو المدعي عليه الإجماع في المدارك.

(2) كما هو ظاهر جامع المقاصد و المدارك و الجواهر و شيخنا الأعظم قدّس سرّه، بل في الجواهر أنه الظاهر من إطلاق النص و الفتوي.

و قد يستدل له بعموم حديث أبي بصير المتقدم، و الإطلاق المستفاد من حذف المتعلق فيما تقدم من موثق سماعة، و حديث المناهي، و صحيح ابن أبي يعفور، بناء علي حمل الكراهة فيه علي الحرمة، و الآية بناء علي حملها علي الحفظ من النظر.

لكن، الأول لما كان واردا لبيان جواز اغتسال الرجل بارزا في نفسه، و أن حرمته لأجل اطلاع غيره عليه لم يبعد قصوره عن العموم، و انصراف قوله: «إذا لم يره أحد» إلي خصوص من هو مفروغ عن حرمة اطلاعه.

نعم، لو كان واردا لبيان حرمة الاطلاع كان عمومه مستحكما. فتأمل جيدا.

و الثاني وارد لبيان جواز الاحتباء بالثوب الواحد إذا كان ساترا، لا لبيان وجوب التستر لينعقد له ظهور في الإطلاق بالإضافة إلي من يجب التستر عنه.

و مثله الثالث، إذ هو- مع ضعف سنده- وارد لبيان وجوب الاحتياط عند احتمال وجود الناظر بعد الفراغ عن وجوب التستر منه، لا لبيان وجوب التستر.

و الرابع إنما يحمل علي ما يعم الحرمة لا علي خصوصها، مع قرب وروده لبيان عدم استثناء حال صب الماء من إطلاق حرمة التكشف لعدم كونه عذرا مسوغا له، لا لبيان الحرمة ليكون له إطلاق من حيثية الناظر.

و حمل الآية علي ما نحن فيه إنما يتم بالنصوص المفسرة لها، و هي ضعيفة السند.

ص: 18

______________________________

و الانجبار بعمل الأصحاب غير ظاهر بعد قرب استنادهم لوجوه أخري في أصل الحكم، بل في عمومه أيضا- لو تمَّ بناؤهم عليه.

و أما ما في بعض النصوص من قولهم عليهم السّلام: «لا يدخل الرجل مع ابنه الحمام فينظر إلي عورته» «1»، فهو- مع ضعف سنده- ظاهر في لزوم التجنب عن النظر لعورة الولد، لا في حرمة تمكين الولد من النظر لعورة والده ليقتضي وجوب التستر عنه.

مع قرب وروده لدفع توهم كون البنوة مسوغة للنظر المفروغ عن كونه محرما بدونها، لا لتشريع حرمة النظر ليكون له إطلاق من جهة الناظر أو المنظور إليه، و يشمل غير المميز.

و أما النصوص الآمرة بالمئزر، فحيث كانت واردة في الحمام الذي يجتمع فيه كثير من الأصناف يشكل استفادة الإطلاق منها.

بل مقتضي تعليل الأمر بالإزار في موثق سدير المتقدم بقوله صلّي اللّه عليه و آله: «عورة المؤمن علي المؤمن حرام» وجوب التستر من المؤمن الذي يحرم عليه النظر، و لا يكفي فيه التمييز.

و مثله النبوي: «إياك و دخول الحمام بغير مئزر، ملعون ملعون الناظر و المنظور إليه» «2»، إذ لا يبعد ورود اللعن لبيان اشتراك الناظر و المنظور إليه في الحرمة، فيقصر عما لو لم يحرم النظر علي الناظر.

نعم، في النبوي الآخر: «لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الناظر و المنظور إليه في الحمام بلا مئزر» «3»، و حيث لم يرد مورد التعليل قد يتم إطلاقه، إلا أن ضعف سنده- كما سبقه- مانع من الاستدلال به.

مع قرب أن يكون ورود نصوص الحمام للحث علي المئزر كاشفا عن عدم كونه في مقام بيان من يحرم عليه النظر و يجب التستر عنه، بل لبيان عدم كون

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب آداب الحمام حديث: 1، 2.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب آداب الحمام حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 21 من أبواب آداب الحمام حديث: 1.

ص: 19

______________________________

الحمام مسوغا للتكشف أمام من يجب التستر عنه في نفسه. فتأمل.

و لعله لذا كان ظاهر إطلاق الحدائق عدم وجوب التستر من الطفل المميز.

قال: «و المراد بالناظر المحترم من يحرم نظره، فلا يجب التستر عن الزوجة و الطفل و الجارية التي يباح وطؤها».

و بالجملة: لا مجال لإثبات العموم المذكور من الأدلة المتقدمة.

لكن قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لا يبعد أن يكون الظاهر من الأصحاب التسالم علي هذا الإطلاق، و لعل مثله كاف في الحكم بذلك، و لا سيما مع موافقته لارتكاز المتشرعة. فتأمل».

و لعل أمره بالتأمل إشارة للخدش في ذلك بأنه لا مجال لاستفادة التسالم الكاشف عن رأي المعصوم بتصريح من عرفت.

و عدم وضوح كون الارتكازيات المذكورة متشرعية راجعة إلي ارتكازهم بما هم أهل شرع و دين، بل لعلها عقلائية أدبية بلحاظ منافاة التكشف أمام المميز للحشمة و الوقار.

نعم، قد يقال: المناسبات الارتكازية تقتضي كون وجوب التستر و حرمة النظر من جهة احترام المؤمن و حفظ كرامته من أن ينظر إلي عورته، كما يناسبه التعبير بالعورة في بعض النصوص، و يشير إليه ما في موثق سدير المتقدم، فإن الاستدلال علي وجوب التستر عن الغير بالنبوي الدال علي حرمة نظره لا يتجه إلا لكونه واردا بلحاظ الجهة المذكورة المقتضية للأمرين معا، بل هو المناسب لإرادة المعني الآخر من النبوي الذي أشير إليه في أحاديث عبد اللّه بن سنان، و حذيفة بن منصور و زيد الشحام، لأن الجهة الجامعة بين المعنيين تناسب الجهة المذكورة جدا، بل هو المناسب للنص الآتي المفصل بين عورة المسلم و الكافر.

و حينئذ فالأمر بالتستر من دون تعيين لمن يتستر منه موجب لانصرافه بحكم الإطلاقات المقامية إلي كل من يقبح اطلاعه علي العورة و يستحي منه عرفا، و هو كل مميز و إن لم يحرم عليه النظر.

و لذا لا إشكال في وجوب التستر عن الكافر، مع أنه كالطفل المميز في

ص: 20

______________________________

قصور الإطلاقات اللفظية عنه، فلو لا الجهة المذكورة التي تقتضي التستر عن الكافر بالأولوية العرفية من المؤمن لم يكن وجه للبناء علي وجوب التستر عنه.

نعم، أشار في الجواهر إلي ما قد يدعي من أن الإناث الكفار بمنزلة الإماء المملوكة.

لكنه- مع رجوعه إلي استثنائها لا قصور العموم عنها- غير تام، لأن النص «1» إنما تضمن أن أهل الكتاب مماليك للإمام، فيلزمه عدم جواز التكشف أمامهن إلا بتحليل منه.

و مما ذكرنا يظهر الوجه فيما صرح به من تقدم من عدم وجوب التستر عن غير المميز، و هو الذي لا يستقبح عرفا اطلاعه علي العورة، بحيث لا ينافي احترام المطلع عليه و كرامته، و هو المتيقن من سيرة المتشرعة القطعية التي أشار إليها في الجواهر، خلافا لما قد يظهر من المستند من العموم له، حيث أطلق وجوب التستر عمن يحرم وطؤه. فتأمل جيدا.

هذا كله في وجوب التستر، و أما حرمة النظر ففي الجواهر: «فالظاهر أن كل من يجب التستر عنه يحرم النظر إلي عورته، من غير فرق بين كونه مكلفا بالتستر أو لا، كالمجنون و شبهه، و لا بين كونه مسلما أو كافرا، ذكرا أو أنثي، فيحرم النظر إلي عورات المميزين، و إن كان إقامة الدليل عليه من السنة في غاية الإشكال»، ثمَّ ذكر بعض النصوص التي قد يستفاد منها الإطلاق، و قال: «إلا أن الكل لا يخلو من نظر، فالمسألة لا تخلو من إشكال، إن لم يقم إجماع يقطع به الأصل، و لم أعثر علي دعواه في المقام. فتأمل».

و ما أشار إليه من الملازمة لا إشعار به في النصوص.

و اللازم ملاحظة أدلة حرمة النظر، لمعرفة عمومها للمميز غير البالغ، و لغير المسلم، إذ لا إشكال في العموم لما عداهما.

أما الأول فلا ينبغي الإشكال في العموم له، لصدق المسلم و المؤمن و الأخ

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب ما يحرم بالكفر و نحوه من كتاب النكاح حديث: 1.

ص: 21

______________________________

و غيرها من العناوين التي تضمنتها النصوص، و هو المناسب للجهة الارتكازية التي أشرنا إليه في وجوب التستر، و مجرد عدم تكليفه لا يصلح للخروج به عن ذلك.

نعم، لا ينبغي الإشكال في جواز النظر إلي عورة غير المميز، لا لعدم صدق العناوين المذكورة عليه، لجريان أحكام المسلم عليه تبعا، خصوصا فيما كان مبنيا علي احترامه، بل لقرب انصراف الأدلة عنه، لعدم منافاة النظر إلي عورته لحرمته و كرامته عرفا. مضافا إلي السيرة القطعية الموجبة لكونه من الواضحات، بل الضروريات.

و منه يظهر أن المعيار في عدم التمييز ذلك، لا وصفه الإسلام و الإيمان و اعتقاده بمقتضاهما.

و أما الثاني فما يمكن أن يستفاد منه حرمة النظر إلي عورته إطلاق الأمر بالغض في الآية الكريمة، و بعض نصوص الحمام المتقدمة إليها الإشارة، و ما في صحيح ابن أبي يعفور المتقدم عند الكلام في وجوب التستر، بناء علي حمل الكراهة فيه علي الحرمة، و ما في حديث المناهي المتقدم من قوله عليه السّلام: «و نهي المرأة أن تنظر إلي عورة المرأة. من نظر إلي عورة أخيه المسلم أو عورة غير أهله متعمدا أدخله اللّه مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس.»،

و النبويان الآخران المتقدمان المتضمنان لعن الناظر و المنظور إليه. و ما في وصية أمير المؤمنين عليه السّلام لولده محمد المتقدم.

لكن تقدم الإشكال في الاستدلال بالآية الكريمة لما نحن فيه.

نعم، لو تمَّ الاستدلال بها فلا مجال لما ذكره بعض مشايخنا من أنها متكفلة لبيان حال المسلمين بعضهم مع بعض، و لا إطلاق لها بالإضافة إلي غيرهم، لعدم القرينة علي ذلك، بل لا إشكال في عموم بعض الأحكام بالإضافة إلي الكافر، كوجوب تستر المرأة.

و أما نصوص الحمام فهي- مع ضعف سندها في المقام- ربما يشكل الاستدلال بها مع كون أكثر أهل الحمام في بلاد الإسلام مسلمين، حيث قد ينصرف الإطلاق لهم.

ص: 22

______________________________

بل لا يبعد عدم ثبوت الإطلاق في نفسه، لما هو المعلوم من عدم إطلاق وجوب الغض في الحمام، فمن القريب سوقه لبيان أن تكشف من لا ينبغي النظر إليه لا يسوّغ النظر إليه لتخيل تحمله الوزر بتمكينه منه، فهو وارد لبيان عدم كون التكشف عذرا بعد الفراغ عن حرمة النظر ذاتا، لا لبيان حرمة النظر ليكون له إطلاق بالإضافة إلي من يحرم النظر إليه. فلاحظ.

و أما صحيح ابن أبي يعفور فلا يبعد اختصاصه بمقتضي السياق في النظر إلي عورات الناس حين صب الماء، فيجري فيه ما تقدم في عموم وجوب التستر من عدم الإطلاق له، مع ما تقدم من حمله علي ما يعم الحرمة، لا علي خصوصها.

و أما النبويات فهي ضعيفة السند. مضافا إلي قرب انصراف المرأة في الأول إلي خصوص المسلمة بمقتضي وروده في سياق نهي الرجل المسلم عن النظر إلي عورة أخيه المسلم.

و أما نهي الرجل فيه عن النظر إلي عورة غير أهله، فمن القريب انصرافه إلي خصوص المرأة التي قد يلتزم بإطلاق حرمة النظر إلي عورتها و إن كانت كافرة من قبل الرجل، و إن جاز له النظر إلي عورة الكافر. علي أن ما تضمنه من العقوبة يناسب فرض الحرمة للمنظور إليه لكونه مسلما، إذ لا إشكال في عدم حرمة البحث عن عورات الكفار، فهو ظاهر في تنزيل العورة البدنية منزلة العورة المعنوية، بعد الفراغ عن حرمة ذي العورة و لا يعم من لا حرمة له.

و لعن الناظر في الثاني، لما كان بعد الأمر بلبس الإزار المخاطب به المسلم يشكل إطلاقه لما لو كان المنظور إليه كافرا.

كما تقدم الإشكال في إطلاق الثالث.

و لا يخفي أن هذه المناقشات إن لم تنهض بمنع الإطلاق فلا أقل من كونها موجبة لضعفه بنحو يسهل رفع اليد عنه بظهور كثير من النصوص في اختصاص الحرمة بعورة المسلم، للتعبير فيها بالأخ و المسلم و المؤمن، فإن الوصف و إن لم يكن له مفهوم في نفسه، إلا أن من القريب جدا ثبوت المفهوم له

ص: 23

______________________________

في المقام، للمناسبة الارتكازية بينه و بين الحكم، فالاقتصار عليه في بيانه لا يناسب عمومه، لما فيه من إيهام خلاف المراد، و لا سيما مع ما أشرنا إليه آنفا من أن المناسبات الارتكازية و غيرها من القرائن تقتضي كون منشأ الحكم هو احترام المنظور إليه و اهتمام الشارع بحفظ كرامته، و هو لا يناسب العموم للكافر جدا.

و لو غض النظر عن جميع ذلك كفي في جواز النظر إلي عورة الكافر صحيح ابن أبي عمير، عن غير واحد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: النظر إلي عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلي عورة الحمار» «1»، الذي لا يبعد كونه بعضا من مرسل الصدوق «2» المتقدم في آخر الكلام في حرمة النظر.

و لا مجال للإشكال فيه بالإرسال بعد ما تقدم في أول الكلام في تحديد الكر من حجية مراسيل ابن أبي عمير، و لا سيما في مثل هذا الحديث الذي رواه عن غير واحد، حيث يظهر شيوع الرواية و استفاضتها.

و مثله الإشكال فيه بإعراض الأصحاب، لعدم وضوح بلوغه مرتبة يسقط بها الخبر عن الحجية، بعد ظهور حال الكليني و الصدوق قدّس سرّهما في العمل به، لذكرهما له في كتابيهما من غير معارض، بل من القريب عمل من سبقهما من الرواة به.

و قرب كون عدم تنبيه كثير لمضمونه لأجل عدم تصديهم لبيان حرمة النظر و تحديد موضوعه، و إنما يستفاد منهم عرضا في مقام بيان وجوب التستر. كما لا يبعد كون إعراض كثير عنه لتخيل قوة الإطلاقات و لزوم تقديمها عليه، لا لوضوح بطلان مضمونه عندهم.

و ما في الجواهر من أن مقتضاه عدم وجوب التستر عن الكافر و لم يقل به أحد، مبني علي الملازمة المشار إليها في كلامه المتقدم، و هي غير مسلمة، بل لا تلائم ما تقدم منه من عدم استيضاح دليل حرمة النظر إلي عورة الطفل المميز مع

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب آداب الحمام حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

ص: 24

______________________________

جزمه بوجوب التستر منه.

فالمتعين البناء علي جواز النظر إلي عورة الكافر، كما هو ظاهر الحر العاملي في الوسائل و عن غيرها- و صاحب الحدائق.

بل ربما يدعي جواز النظر إلي عورة المخالف، لعدم الدليل علي حرمته و اهتمام الشارع بكرامته، و إشعار النصوص المتضمنة للأخ و المؤمن بعدم حرمة النظر لعورته.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لظهور الحديث المتقدم في حرمة عورة المسلم، حيث يقرب معه تنزيل الأخوة علي اخوة الإسلام الظاهرية، و الإيمان علي ما يعم الإسلام بلحاظ دخول المسلم في حوزة المؤمنين و انتسابه لهم، نظير ما تضمن أن خطاب المؤمنين يلزم المنافقين، لإقرارهم بالدعوة «1»، فيستكشف من ذلك اهتمام الشارع بحرمتهم لحرمة الإسلام. خصوصا مع بعد تنزيل نصوص حرمة النظر علي خصوص المؤمنين مع قلتهم في عصر صدورها، و عدم تميزهم في موطن من الأرض. علي أنه لا يبعد تسالم الأصحاب علي الحرمة. فتأمل.

بقي شي ء: و هو أنه لا بد من التقيد بعدم الريبة، لحرمة النظر بريبة عندهم حتي لغير العورة، علي ما يذكر في كتاب النكاح.

كما أن الظاهر حرمة النظر إلي عورة الكافر غير المماثل، لظهور الأدلة في خروج عورة الكافر من حيث كونها عورة يكون النظر إليها منافيا لحرمة صاحبها، فلا ينافي وجوب الغض عنها من جهة كونها جزء بدن غير المماثل، الذي دلت الآية الكريمة و غيرها علي وجوب الغض عنه.

و ما دل علي جواز النظر إلي نساء أهل الذمة تخصيصا للآية- كموثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا حرمة لنساء أهل الذمة أن ينظر إلي شعورهن و أيديهن» «2» - مختص بالشعور و الأيدي، و التعدي منه لما يتعارف كشفه- لو تمَّ- لا يقتضي التعدي للعورة.

______________________________

(1) تفسير العياشي ج: 1 ص: 33 حديث: 15 من تفسير سورة البقرة.

(2) الوسائل باب: 112 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

ص: 25

عدا الزوج و الزوجة و شبههما (1)، كالمالك و مملوكته، و الأمة المحللة بالنسبة إلي المحلل له (2)،

______________________________

نعم، التعليل في بعض النصوص بأنهن إذا نهين لا ينتهين «1»، قد يقتضي التعدي لو فرض تعمد الكشف منهن.

لكنه- مع عدم اختصاصه بالكافرة- يصعب الالتزام به، لمنافاته للارتكازيات. فتأمل جيدا.

(1) بلا ريب، و يكفي فيه ملازمته عادة و عرفا للوطء الذي يجوز في الموارد المذكورة، بل أولويته بالجواز منه، كما يشير إليه ما في موثق يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: أ يغتسل الرجل بين يدي أهله؟ فقال: نعم، ما يفضي به أعظم» «2». و لذا كان مفروغا عنه في النصوص و الفتاوي.

نعم، عن ابن حمزة حرمة النظر إلي فرج المرأة، حال الجماع. و قد يستدل له بخبر أبي سعيد الخدري في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: «قال: و لا ينظر أحد إلي فرج امرأته، و ليغض بصره عند الجماع، فإن النظر إلي الفرج يورث العمي في الولد» «3».

لكن، في موثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الرجل ينظر في فرج المرأة و هو يجامعها؟ قال: لا بأس به، إلا أنه يورث العمي (في الولد. يب)» «4».

(2) و إن حلل له خصوص النظر لها و التكشف أمامها دون الوطء، ففي صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يقول لامرأته: أحلي لي جاريتك، فإني أكره أن تراني منكشفا، فأحلتها له (فتحلها له. يب في)، له أن يأتيها؟

قال: لا يحل له إلا الذي قالت» «5»، و في صحيح رفاعة و الفضيل، عنه عليه السّلام: «و لو

______________________________

(1) الوسائل باب: 113 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 59 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 59 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 35 من أبواب نكاح العبيد و الإماء حديث: 4.

ص: 26

فإنه يجوز لكل من هؤلاء أن ينظر إلي عورة الآخر.

نعم، إذا كانت الأمة مشتركة (1)، أو مزوجة (2)، أو معتدة،

______________________________

أحل له قبلة منها لم يحل له ما سوي ذلك» «1».

(1) لخروجها عن ملك اليمين التي يحل نكاحها، لأن الظاهر منها التي تكون بتمامها مملوكة، كما هو الحال في سائر ما يضاف للملك، فتدخل تحت عموم حرمة نكاح غير الزوجة و المملوكة. مضافا إلي غير واحد من النصوص «2».

نعم، لو أحلها أحد الشريكين للآخر حل له وطؤها، كما عن الحلي و جماعة، لصحيح محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن جارية بين رجلين دبّراها جميعا، ثمَّ أحل أحدهما فرجها لشريكه؟ قال: هو له حلال» «3».

(2) كما تظافرت به النصوص، و قد عقد لها في الوسائل الباب الرابع و الأربعين من أبواب نكاح العبيد و الإماء من كتاب النكاح.

هذا و الظاهر منهم التلازم بين حرمة نكاح الأمة و حرمة النظر إلي عورتها و التكشف أمامها.

و يقتضيه العموم المتقدم بعد قصور المخرج عنه، لأن الدليل علي جواز النظر لعورة المملوكة و التكشف أمامها هو الدليل علي جواز نكاحها و معاملتها معاملة الزوجة، فمع فرض عدم جوازه يتعين الرجوع للعموم المتقدم. و تمام الكلام في ذلك في كتاب النكاح، لعدم الابتلاء بذلك، كي يحسن صرف الوقت في تفصيل دليله هنا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب نكاح العبيد و الإماء حديث: 1، 2.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب بيع الحيوان حديث: 5. و باب: 3 من أبواب كتاب الشركة حديث: 1.

و باب: 1 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة من كتاب النكاح حديث: 1. و باب: 68 من أبواب نكاح العبيد و الإماء من كتاب النكاح حديث: 1. و ربما في غير ذلك.

(3) الوسائل باب: 41 من أبواب نكاح العبيد و الإماء من كتاب النكاح حديث: 1.

ص: 27

______________________________

تنبيه لو احتمل وجود الناظر فهل يجب التستر مطلقا- كما قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه و أصر عليه بعض مشايخنا- أو في غير الوهم- كما في المستند- أو مع الظن- كما حكاه في المستند عن والده، و حكي عنه التوقف مع الشك و نحوه في الجواهر- أو لا يجب مطلقا، كما قواه الفقيه الهمداني و شيخنا الأستاذ قدّس سرّهما و غيرهما؟ و توقف السيد في العروة الوثقي و جماعة من محشيها.

و لا يبعد الأول، للتعبير بالحفظ في الآية الشريفة، بناء علي الاستدلال بها في المقام، كما تقتضيه النصوص المتقدمة، و بالمحاذرة في النبوي المتقدم، و بالتوقي في مرسل الاحتجاج عن الكاظم عليه السّلام في حديثه مع أبي حنيفة، حيث قال:

«يتواري خلف الجدار و يتوقي أعين الجار»، فتأمل.

لظهور ذلك في لزوم الاحتياط، كما نبه له غير واحد، أولهم- فيما أعلم- صاحب المستند.

و ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن المراد بها مجرد عدم الإبداء للغير، المشكوك في الفرض.

ممنوع، بل هي ظاهرة في المحافظة و المحاذرة المقابلة للتفريط و التعريض.

و من القريب جدا اعتضاد بعضها ببعض بنحو لا يجوز الخروج عنها لضعف سندها، و إن كان لا يخلو عن إشكال.

و لو تمَّ الاستدلال بها فلا مجال لاستثناء الوهم، كما في المستند.

و ما استدل به من الأصل و الإجماع و رواية أبي بصير المتقدمة، غير تام، للزوم الخروج عن الأصل بإطلاق الدليل المتقدم. و الإجماع غير ثابت بعد عدم تحرير المسألة إلا في كلام بعض متأخري المتأخرين. و رواية أبي بصير إنما تدل علي جواز التكشف مع عدم الرؤية، فلا تنافي وجوب الاحتياط فيه مع الشك فيها.

ص: 28

لم يجز لمولاها النظر إلي عورتها، و كذا لا يجوز لها النظر إلي عورته.

و يحرم علي المتخلي استقبال القبلة و استدبارها (1)

______________________________

نعم، لو كان الوهم ضعيفا جدا لا يعتد به العقلاء في مقام العمل كانت الأدلة المتقدمة قاصرة عنه، لعدم منافاة التكشف معه للحفظ و المحاذرة و التوقي.

و لعل دعواه الإجماع بلحاظ ذلك، حيث لا يبعد استكشافه بلحاظ السيرة.

كما أنه لو لم تتم الأدلة المذكورة لم يكن وجه لإيجاب الاحتياط مع الظن إلا ما أشار إليه الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن الرجوع للبراءة موجب للوقوع غالبا في مفسدة خلاف الواقع.

و هو كما تري ليس محذورا، علي أنه غير تام لغلبة العلم بالحال.

نعم، لا يبعد البناء حينئذ علي الاكتفاء بالاطمئنان بوجود الناظر، لقرب موافقته لارتكاز المتشرعة. فلاحظ.

ثمَّ إنه لا يبعد كون الشك في احترام الناظر كالشك في وجوده، كما يظهر من السيد في العروة الوثقي و جماعة من شراحها و محشيها، لعدم الفرق بينهما بملاحظة الأدلة المتقدمة.

إلا أن يكون في المورد أصل موضوعي يحرز احترامه أو عدمه، فيحكم علي أصل البراءة، أو تلك الأدلة كاستصحاب الزوجية أو عدمها.

نعم، قد يشكل الرجوع لاستصحاب عدم التمييز بعدم وضوح أخذ عنوانه بما هو أمر وجودي شرطا في حرمة التكشف، ليكون نفيه بالأصل محرزا للجواز، بل لعله ملحوظ بواقعة، لأنه المتيقن من السيرة. فتأمل.

هذا، و الظاهر اختصاص ما تقدم بالتستر، دون النظر، فيجوز النظر في مقام يحتمل فيه الاطلاع علي عورة الغير، لقصور الأدلة المتقدمة عنه و الأصل البراءة.

(1) كما نسب إلي المشهور في كلام جماعة، بل ادعي عليه الإجماع في الخلاف و الغنية.

بل ذكر بعض مشايخنا أن ذلك هو المتسالم عليه بين الأصحاب، و لم ينقل

ص: 29

______________________________

الخلاف فيه إلا عن جماعة من متأخري المتأخرين، بل قال مقرر درسه: «فإن اعتمدنا علي التسالم القطعي و إجماعهم، بأن كان اتفاق المتقدمين و المتأخرين مدركا لإثبات حكم شرعي- كما هو غير بعيد- فلا كلام».

و لعل ذلك هو الذي دعا شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلي العمل علي المشهور مع اعترافه بأنه مقتضي ظواهر أخبار غير نقية السند أو الدلالة.

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك- النصوص الكثيرة الناهية عن الاستقبال و الاستدبار، كمرسلتي علي بن إبراهيم و الاحتجاج «1» الواردتين في سؤال أبي حنيفة للإمام الكاظم عليه السّلام، و مرفوع محمد بن يحيي: «سئل أبو الحسن عليه السّلام: ما حدّ الغائط؟ قال: لا تستقبل القبلة و لا تستدبرها، و لا تستقبل الريح و لا تستدبرها» «2».

و نحوه المرفوع عن الحسن بن علي عليه السّلام «3»، و في حديث المناهي: «إذا دخلتم الغائط فتجنبوا القبلة» «4»، و خبر عيسي بن عبد اللّه الهاشمي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السّلام: «قال: قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة و لا تستدبرها، و لكن شرقوا أو غربوا» «5»، و غيرها مما ذكر غير واحد أن ضعف أسانيدها منجبر بعمل الأصحاب.

لكن لا طريق لإثبات الإجماع و التسالم علي الوجوب بعد ذكر بعضهم استقبال القبلة و استدبارها في سياق المكروهات.

فقد اقتصر الكليني قدّس سرّه علي ذكر مرفوع محمد بن يحيي المتقدم في باب الموضع الذي يكره أن يتغوط فيه أو يبال، الذي اقتصر فيه علي الأخبار الواردة في المستحبات و المكروهات.

و نحوه الصدوق قدّس سرّه في الفقيه، حيث ذكر المرفوع الآخر المشار إليه آنفا في ضمن أخبار الآداب في باب: ارتياد المكان للحدث و السنة في دخوله و الآداب فيه إلي الخروج منه، و ذكر بعده مضمون صحيح ابن بزيع الذي يأتي أنه ظاهر في الاستحباب، كما أنه في المقنع ذكر آداب الخلوة و لم يذكر فيها ترك الاستقبال

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2، 7.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 2 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

ص: 30

______________________________

و الاستدبار، ثمَّ بعد كلام طويل قال: «و متي تكشفت لبول أو غير ذلك فقل: بسم اللّه، فإن الشيطان يغض بصره عنك، و سئل أبو الحسن الرضا عليه السّلام:.» إلي آخر ما تقدم في مرفوع محمد بن يحيي.

و قال الشيخ في النهاية: «إذا أردنا أن نبين كيفية الطهارة فالواجب أن نبين آداب ما يتقدمها من الاحداث، ثمَّ نتبعها بذكر كيفيتها و ترتيبها و أحكامها. فإذا أراد الإنسان الحدث فليستتر عن الناس بحيث لا يراه أحد.»، ثمَّ ذكر تقديم الرجل اليسري و التسمية و تغطية الرأس، ثمَّ قال: «و لا يستقبل القبلة و لا يستدبرها إلا أن يكون الموضع مبنيا علي وجه لا يتمكن فيه من الانحراف عن القبلة، و لا يستقبل الشمس و القمر.» إلي آخر ما ذكر من مكروهات الجلوس لقضاء الحاجة و مكانه.

فإن اعتمادهم في بيان حرمة الاستقبال و الاستدبار علي الظهور الأولي للنهي و إغفالهم السياق بعيد جدا.

و لا سيما بعد تصريحهم في عنوان مهم بذكر المكروهات و السنة و الآداب، التي لا إشكال في عدم اختصاصها بالمحرمات و الواجبات، حيث يسقط معه ظهور الأمر و النهي في الوجوب أو الحرمة.

نعم، عبر الصدوق في الهداية بعدم الجواز، إلا أن سياق كلامه يأبي حمله علي التحريم، قال: «و لا يجوز البول في حجور الهوام و لا في الماء الراكد. و لا يجوز أن يطمح الرجل ببوله في الهواء، و لا يجوز أن يجلس للبول و الغائط مستقبل القبلة و لا مستدبرها، و لا مستقبل الهلال و لا مستدبره».

بل استثناء الشيخ قدّس سرّه صورة تعذر الانحراف عن المكان المبني علي القبلة من دون تقييد له بالاضطرار إلي قضاء الحاجة فيه كالصريح في أن الحكم ندبي أدبي يقبل التسامح، كما أنه صرح بالاستثناء المذكور في محكي المبسوط أيضا.

و حمله علي صورة الاضطرار لقضاء الحاجة فيه- كما قد يظهر من المعتبر- بلا شاهد، و حكمه فيه بوجوب الانحراف مع التمكن لا يصلح شاهدا له، مع ملاحظة اضطرابه في المسألة.

بل يبعد ذلك فيما ذكره في الاستبصار من أن من اشتري دارا بني كنيفها

ص: 31

______________________________

علي القبلة جاز له الجلوس عليه، و هو ظاهر التهذيب أيضا من دون أن يصرح فيهما بحرمة الاستقبال.

و مجرد ذكره لبعض الأخبار المتقدمة لا يصلح شاهدا لإمكان حملها عنده علي الكراهة، و لا سيما مع ذكر ذلك في التهذيب شرحا لكلام المفيد قدّس سرّه في المقنعة، الذي هو لو لم يكن ظاهرا في الكراهة فلا أقل من إجماله، حيث قال في محكيها: «و لا يستقبل القبلة و لا يستدبرها، و لكن يجلس علي استقبال المشرق إن شاء أو المغرب. فإن دخل الإنسان دارا قد بني فيها مقعد الغائط علي استقبال القبلة، أو استدبارها لم يضره الجلوس، و إنما يكره ذلك في الصحاري و المواضع التي يتمكن فيها من الانحراف عن القبلة»، و من ثمَّ نسب بعضهم للمفيد الكراهة مطلقا أو في الجملة.

علي أنه قال في التهذيب في الباب المذكور، بعد ذكر جملة أمور منها عدم الاستنجاء بيد فيها خاتم فيه اسم اللّه تعالي: «علي ان ما قدمناه من آداب الطهارة و ليس من واجباتها».

هذا و قد صرح بعض الأصحاب بالاستحباب، فعن ابن الجنيد: «و يستحب للإنسان إذا أراد التغوط في الصحراء أن يجتنب استقبال القبلة، أو الشمس أو القمر أو الريح، بغائط أو بول»، و قال سلار في المراسم: «و هذا الاحداث لها أحكام، و هي علي ضربين: واجب و ندب، فالواجب الاستنجاء للغائط و غسل رأس الإحليل من البول، و الندب علي ضربين: أدب و ذكر، و رتبة الأدب متقدمة، فمن أراد الغائط يطلب ساترا يتخلي فيه، و لا يكون شط نهر. و ليجلس غير مستقبل القبلة و لا مستدبرها، فإن كان في موضع قد بني علي استقبالها أو استدبارها فلينحرف في قعوده. هذا إذا كان في الصحاري و الفلوات، و قد رخص ذلك في الدور، و تجنبه أفضل».

و مع هذا، فلا طريق لمعرفة مذهب قدماء الأصحاب ممن كان يقتصر في بيان الحكم علي ذكر النصوص، حيث لا يبعد فهمهم منها- بقرينة السياق أو غيرها- الكراهة، و قد أودعوها في كتبهم لبيان ذلك، خصوصا مع ظهور ضعف

ص: 32

______________________________

أسانيد كثير منها، كما هو شأن كثير من نصوص المندوبات و المكروهات، لما هو المعلوم من تسامحهم في ذلك جدا.

نعم، لو كان هناك تسالم قطعي علي الوجوب بين المتأخرين عنهم كشف عن وضوح الحكم عندهم بنحو لا مجال معه لمثل هذه الاحتمالات.

و مع هذا كله، كيف يمكن دعوي تسالم قدماء الأصحاب و متأخريهم بنحو ينهض بإثبات الحكم الشرعي، و يستغني به عن النظر في النصوص، بل التأمل في كلمات الأصحاب يمنع من استيضاح تسالمهم في كثير من العصور، و لا يختص الخلاف بمتأخري المتأخرين، كي يرمي بعضهم بالشذوذ أو سوء الطريقة، بل قد يظهر من بعضهم الاضطراب في نقل الأقوال و نسبتها إلي أصحابها.

و لأجل ذلك أطلنا الكلام في نقل الأقوال و العبارات حسب ما تيسر لنا.

و منه سبحانه نستمد العون و التوفيق.

و أما النصوص فيشكل الاستدلال بها مع ضعف سندها، و عدم وضوح انجبارها بعمل الأصحاب بعد ذهاب كثير منهم للكراهة، لبنائهم علي التسامح في أدلة السنن و الآداب بما لا يتسامحون به في أدلة الوجوب و الحرمة.

و دعوي: استفاضتها بنحو يوثق بصدور بعضها إجمالا.

مدفوعة: بأن ذلك لو تمَّ لا ينفع، لاختلاف مفادها، و ليست كلها ظاهرة في الحرمة.

فمثلا حديث الإمام الكاظم عليه السّلام مع أبي حنيفة لما كان مسبوقا بسؤال أبي حنيفة منه عليه السّلام، عن الموضع الذي يضع فيه الغريب، فمن البعيد جدا أن يكون السؤال عن الموضع الذي يجب اختياره، و يكون الجواب مشتملا علي قيود خمسة لا يجب إلا واحد منها أو اثنان، بل يقطع بملاحظة بعض الأمور المنهي عنها- كشطوط الأنهار- بأن السائل لم يعن الحرمة و لم يفهمها، و لا سيما مع عدم كون السؤال واردا مورد الاستفتاء للعمل، بل للامتحان، فلا بد إما من اختصاص المسؤول عنه بالآداب غير الإلزامية، أو يعم مطلق الآداب إلزامية أو غيرها، و هو يوجب إجمال الجواب و الاقتصار علي المتيقن منه، و هو مطلق المرجوحية.

ص: 33

______________________________

و ما في كلام غير واحد من جواز التفكيك بين الأوامر أو النواهي الواردة في سياق واحد، و أن قيام القرينة الملزمة بحمل بعضها علي الاستحباب أو الكراهة لا يمنع من العمل بظهور الباقي في الإلزام.

إنما يتجه مع احتمال انعقاد ظهور الكلام في الإلزام حين الخطاب به حتي يحتاج الخروج عنه إلي القرينة، لا في مثل المقام مما يعلم أو يطمأن بعدم ظهور الكلام حين صدوره في ذلك، لما ذكرنا أو نحوه.

و منه يظهر الحال في المرفوعين المتقدمين- الذين يظهر من غير واحد من قدماء الأصحاب ممن تقدم نقل كلامه و غيره الاهتمام بهما- حيث تضمنا السؤال عن حدّ الغائط، و من الظاهر أن اشتمالهما علي النهي عن الاستقبال و الاستدبار بالإضافة إلي القبلة و الريح معا يوجب الوثوق بأن الحد المسؤول عنه لا يختص بالحد الإلزامي، بل يعم أو يختص بالحد الراجح المراعاة، نظير قولهم عليهم السّلام: «ما من شي ء إلا و له حد ينتهي إليه» «1».

بل النظر فيما اشتمل عليه حديث المناهي من المكروهات و المستحبات الكثيرة الواضحة الحال خصوصا في أوله، يوجب و هن ظهور النهي فيه في التحريم جدا، خصوصا بعد الالتفات إلي أنه حديث واحد.

فلم يبق إلا حديث الهاشمي و نحوه مما لا يبلغ حدّ الاستفاضة المصححة للاستدلال.

هذا كله، مضافا إلي ظهور الاستحباب من صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع: «دخلت علي أبي الحسن الرضا عليه السّلام و في منزله كنيف مستقبل القبلة، و سمعته يقول: من بال حذاء القبلة ثمَّ ذكر فانحرف عنها إجلالا للقبلة و تعظيما لها لم يقم من مقعده ذلك حتي يغفر له» «2»، فإن قوله عليه السّلام: «فانحرف عنها إجلالا

______________________________

(1) الوسائل باب: 57 من أبواب آداب المائدة حديث: 3. و باب: 66 منها حديث: 3. و راجع البحار باب: ان لكل شي ء حدا، و إنه ليس شي ء إلا ورد فيه كتاب أو سنة، و علم ذلك كله عند الامام عليه السّلام مجلد: 1 ص: 114 طبع حجري.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

ص: 34

______________________________

للقبلة و تعظيما لها» ظاهر في كون الداعي للانحراف هو الإجلال و التعظيم، لا تحريم الاستقبال الذي أهم منها و أحق بالداعوية.

و الإنصاف أن سبر نصوص المسألة و كلمات متقدمي الأصحاب (رضي اللّه عنهم) يوجب الوثوق بأن الحكم أدبي، كسائر آداب الخلوة المذكورة في سياقه في النصوص و الفتاوي، كما هو الحال في سائر الآداب المذكورة لدخول المسجد و المائدة و النكاح و السفر و غيرها مما هو كثير جدا في أبواب الفقه، و لا يخطر ببال أحد حمله علي الإلزام، أو دعوي ظهور الخطاب فيه ثمَّ طلب المخرج عنه.

و من القريب جدا كون ظهور البناء علي الحرمة بعد ذلك بين الأصحاب لاستحكام ارتكاز أهمية القبلة الشريفة، المنبه للتشبث بظهور الأمر و النهي في الإلزام بدوا مع الغفلة عن القرائن التي أشرنا إليها.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه: من أن المنع عن الاستدبار لا يناسب كون الحكم أدبيا، لأن الاستدبار لا ينافي الأدب، فهو غير ظاهر.

علي أن مقتضي ما عن كتاب العلل «1» لمحمد بن علي بن إبراهيم القمي أن النهي عن الاستدبار بلحاظ استقبال القبلة بالدبر. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم. و منه نستمد العون و التوفيق.

ثمَّ إن ما تقدم في كلمات بعضهم من التفصيل بين الصحاري و الأبنية، بالحرمة أو الكراهة في الأول دون الثاني، غير ظاهر الوجه بعد إطلاق كثير من نصوص المسألة، و ظهور بعضها في خصوص البناء، و لو لأنه الفرد الظاهر، كالنبويين، لأن التعبير فيهما بالدخول ظاهر في إرادة المكان المعدّ لذلك، و هو يكون في الغالب مبنيا.

نعم، في النبوي المروي عن نوادر الراوندي: «نهي أن يبول الرجل و فرجه باد للقبلة» «2»، حيث قد يدعي اختصاصه بالمكان المنكشف، و تقدم في صحيح ابن بزيع أنه رأي في منزل الرضا عليه السّلام كنيفا مستقبل القبلة.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

ص: 35

______________________________

لكن، الأول لو أريد به الظهور المقابل للستر- لا الكناية عن أصل الاستقبال- فالاستدلال به مبني علي مفهوم اللقب، فلا يرفع اليد به عما تقدم، و الثاني تضمن قضية في واقعة مجهولة الحال.

و أضعف من ذلك ما تقدم من الشيخين قدّس سرّهما من جواز الجلوس في الكنيف المبني علي القبلة إذا لم يبنه المكلف نفسه، حيث لم يتضح وجهه.

إلا أن يكون أصل الحكم هو الكراهة فيدعي أن مناسبة كونه أدبيا تقتضي القصور عن ذلك أو خفة الكراهة فيه، و لا يخلو عن تسامح.

كما أن اقتصار بعضهم علي الاستقبال، و اقتصار آخرين علي الغائط، لا وجه له بعد ورود النصوص في الجميع. و اقتصار بعضها علي أحدهما- كالمرفوعين و مرسلتي علي بن إبراهيم و الاحتجاج- لا يقتضي الاقتصار عليه بعد استفادة الجميع من كثير منها، و عمل المشهور به فيها. فلاحظ.

بقي في المقام أمور.

الأول: ظاهر إطلاق جمع المنهي عن الاستقبال و الاستدبار إرادة الاستقبال و الاستدبار بالبدن، و هو المصرح به في جامع المقاصد، و محكي مجمع الفوائد، و هو المراد مما في الروضة و كشف اللثام من أنه بمقاديم البدن، و ما في المسالك و عن الروض من أنه علي نحو الاستقبال و الاستدبار في الصلاة.

لكن، عن الموجز و التنقيح الاستقبال و الاستدبار بالفرج، و عن ألفية الشهيد أنه بالعورة.

و لا يبعد ظهوره في الاكتفاء باستقبال العورة- لا اعتبار الاستقبال بالبدن معها- بناء علي أن مفاد باء التعدية مفاد همزتها.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و لعله مراد المشهور، إذ من البعيد التزامهم بعدم الحرمة لو مال بكتفيه عن القبلة إذا كان قد وجه فرجه إليها، و لا يبعد أن يكون هو ظاهر النصوص المتقدمة».

لكن ما ذكره في كلام المشهور و النصوص الناهية عن الاستقبال علي الإطلاق غير ظاهر، لأن إطلاق الاستقبال و الاستدبار للإنسان ينصرف إلي

ص: 36

______________________________

الاستقبال و الاستدبار بمقاديم البدن، كما في الصلاة، لا مع الفرج، و لا بالفرج.

و مجرد مناسبة الفرج للمقام لا يقتضي الخروج عن الإطلاق المذكور بعد كون مقتضاه مناسبا أيضا، و لا سيما مع تعذر الاستقبال بالدبر في الوضع المتعارف للتخلي، لكونه معه غالبا إلي الخلف أو الأسفل.

و الاستبعاد المذكور في كلامه ليس بأقوي من استبعاد حمل النصوص و كلام المشهور علي جواز الاستقبال بمقاديم البدن مع حرف الفرج، بل تقدم في صحيح محمد بن إسماعيل حث المستقبل علي الانحراف الظاهر في انحراف بدنه، لا حرفه لفرجه.

و أما النصوص المتضمنة للنهي عن استقبال القبلة ببول أو غائط، فبعد تعذر الاستقبال بالغائط للجالس الذي- هو الغالب- يتعين حمله علي الاستقبال بالبدن حال التبول أو التغوط، كما هو مفاد الإطلاق.

نعم، ظاهر النبوي المتقدم عن نوادر الراوندي أن المدار علي الاستقبال بالفرج، لكن لا مجال للخروج به عن ظاهر النصوص الأخري مع كثرتها، لضعف سنده و عدم انجباره.

و أما احتمال حرمة الأمرين معا عملا بالكل، فهو موقوف علي حجية النبوي، و علي إبقائه علي ظاهره، فيكون متعرضا لما لم تتعرض له النصوص الأخري، و كلاهما بعيد.

هذا، و قد يدعي إلحاق الاستقبال بالفرج بالاستقبال بالبدن، لمشاركته له في المنافاة لتعظيم القبلة.

لكن في بلوغ ذلك حدا يصلح لإثبات حرمته- لو قيل بها هناك- إشكال.

نعم، يحسن تجنبه لذلك و للنبوي المذكور، و لو لقاعدة التسامح.

ثمَّ ان الظاهر عدم دخل الوجه في الاستقبال و الاستدبار في المقام- كما استظهره في الجواهر و صرح به غيره- لا لعدم توقف صدقهما عليه، لعدم وضوح ذلك، بل لبعد تنزيل النصوص علي خصوص صورة استقامة الوجه مع كثرة انحرافه، و لا سيما مع عدم دخله في الاستهوان بالقبلة، بل المدار فيه ارتكازا علي

ص: 37

______________________________

البدن وحده.

و بهذا يفترق الحال في المقام عن الصلاة التي لا يغلب فيها الانحراف، و يقصد فيها بالاستقبال تعظيم الكعبة، و التوجه له تعالي عن طريقها، حيث لا إشكال في دخل الوجه في ذلك أتم الدخل.

كما أن ظاهر صحيح ابن بزيع الحث في المقام علي الانحراف الظاهر في انحراف تمام البدن، لا خصوص الوجه.

و منه يظهر ضعف ما حكاه في كشف اللثام عن المفيد قدّس سرّه من التصريح بالوجه.

كما لا ينبغي الإشكال في دخل الصدر و البطن و الحقو في الاستقبال و الاستدبار، و لا وجه للاقتصار علي الأولين، كما قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره.

و أما الرجلان، فالظاهر إنهما كاليدين غير دخيلين في المقام، لصدق الاستقبال عرفا مع عدم وضعهما علي سمت اتجاه البدن.

و أما ما ذكره السيد الطباطبائي في العروة الوثقي من أن الركبتين من المقاديم الدخيلة في الاستقبال، فمقتضي الجمود عليه لزوم ثني الرجلين و الجلوس علي القدمين، و توجيه الركبتين إلي الامام، لكن لا ينبغي التأمل في عدم إرادته لذلك، لعدم كونه متعارفا حال التخلي، فلا يبعد كون مراده ما ذكرناه من جعل سمت الرجلين حال ثنيهما و بروز الركبتين- مرفوعتين أو موضوعتين أو مختلفين، مستقيمتين أو منحرفتين- باتجاه واحد علي سمت اتجاه البدن.

و كيف كان مراده فهو غير تام، لما ذكرنا من عدم دخل الرجلين في الاستقبال.

الثاني: قال في جامع المقاصد: «و اعلم أن الاستقبال و الاستدبار بالنسبة إلي القائم و الجالس معلوم، أما بالنسبة إلي المضطجع و المستلقي، فإن بلغ بهما العجز إلي هذا الحد فلا بحث في أن الاستقبال و الاستدبار بالنسبة إليهما في التخلي يحال علي استقبالهما في الصلاة، و إلا ففيه تردد»، ثمَّ مال إلي العدم، لاختصاص

ص: 38

______________________________

اعتبارها بحال العجز، و لهذا لو حلف ليستقبلن لم يبرأ بأحد هذه الوجوه.

هذا، و لا يخفي أن الوجوه الأخري المذكورة إن كانت استقبالا عرفيا مشمولا للإطلاق، فلا وجه لتقييد حرمتها بحال العجز عن غيرها، و إلا لم يصلح العجز عن غيرها لتحريمها، لاختصاص دليل بدليتها بالصلاة.

و الظاهر الأول في المضطجع علي أحد الجانبين، كما استظهره في المدارك و مال إليه في الجواهر. و قد تومئ إليه بعض نصوص تشريعه في الصلاة، لعدم ظهورها في بدليته عن الاستقبال، بل بدليته عن القيام و الجلوس مع المفروغية عن صدق الاستقبال فيه.

و دعوي: اختصاص نصوص الاستقبال في المقام بالوضع المتعارف، و هو الجلوس أو القيام. غير ظاهرة بعد إطلاق أكثرها و مناسبة الجهة الارتكازية- و هي التعظيم- للعموم.

و منه يظهر الحال في النذر، حيث يتوقف قصوره عن شمول ذلك علي القرينة الصارفة.

و أما المستلقي فصدق الاستقبال عليه مع توجيه الرجلين إلي القبلة لا يخلو عن إشكال، لما تقدم من أن الاستقبال بالصدر و البطن و الحقو، و الاستقبال بالرجلين لا يحقق استقبال الإنسان عرفا، و لذا لا يعد الواقف مستقبلا للأرض بلحاظ رجليه.

نعم، لو فرض ورود الدليل الخاص في تشريع الاستقبال له تعين حمله علي ذلك دفعا للغوية، لا لصدقه عرفا، و ثبوت ذلك في الصلاة لا ينفع فيما نحن فيه.

و أشكل منه صدق الاستدبار عليه، لأن الظاهر منه الاستقبال بالظهر، و هو غير حاصل.

و منه يظهر ضعف ما في المدارك من صدق الاستقبال و الاستدبار فيه بالمواجهة و مقابلها، و ما في الجواهر من صدقهما عليه، و علي المكبوب بالتعاكس.

ص: 39

______________________________

الثالث: أن الكلام في تحديد القبلة و التوسع فيها ثبوتا هو الكلام في الصلاة، لعدم الفرق بينهما ظاهرا بالنظر إلي إطلاقات الأدلة، و قد يظهر منهم المفروغية عن ذلك، لأن اقتصارهم علي بيان الحكم هنا من دون تعرض للموضوع مع تعرضهم له في الصلاة قد يظهر في تحويلهم فيه إليها، بل هو ظاهر الجواهر و صريح جامع المقاصد.

و كذا الحال في الطرق المنصوبة للقبلة، فإن الظاهر عدم الفرق بين المقام و الصلاة في دليل ذلك.

نعم، يظهر من الجواهر نحو توقف في قيام الاجتهاد و التحري عند عدم غيره مقام اليقين، لتأمله في دليله.

و فيه: أنه يكفي فيه إطلاق صحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: يجزي التحري أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة» «1» و تخصيصه بالصلاة بلا وجه.

و مثله ما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه من احتمال انصرافه إلي صورة التكليف بالاستقبال.

لاندفاعه: بأن ظاهر الإجزاء فيه ليس إجزاء العمل الواقع مع الظن بالقبلة، بل أجزاء التحري عن معرفة القبلة، و مقتضي إطلاقه أجزاؤه في كل مورد يحتاج إلي معرفتها، و لو لتجنب استقبالها أو استدبارها. فلاحظ.

الرابع: المصرح به في كلام غير واحد كفاية الانحراف اليسير عن القبلة، بحيث لا يصدق معه الاستقبال أو الاستدبار، و لا يعتبر التشريق أو التغريب بجعل القبلة علي اليمين أو اليسار.

و يقتضيه إطلاق صحيح محمد بن إسماعيل المتقدم.

نعم، تقدم في خبر الهاشمي الأمر بالتشريق و التغريب.

لكنه- مع ضعف سنده- لا بد من رفع اليد عنه بعد ظهور سيرة المتشرعة و اتفاق الأصحاب علي عدم وجوب ذلك، عدا ما في المدارك من نسبته إلي بعض

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب القبلة من كتاب الصلاة حديث: 1.

ص: 40

______________________________

المحققين، و في محكي الذخيرة من نسبته إلي بعض المدققين، إذ لا يمكن خفاء مثل ذلك مما يكثر الابتلاء به.

فلا بد إما من حمل الخبر علي الميل إلي المشرق أو المغرب، لترك الاستقبال و الاستدبار، فيكون الأمر عرضيا لا حقيقيا، أو علي الاستحباب.

و أضعف من ذلك الاستدلال للوجوب بما دل علي أن ما بين المشرق و المغرب قبلة «1».

لأن المقطوع به عدم إرادة ظاهره، بل لا بد من تنزيله علي كون ذلك قبلة المتحير، كما قيل، أو لبيان صحة الصلاة إلي ما بين المشرق و المغرب عند انحرافها عن القبلة خطأ، كما تضمنه بعض نصوصه، علي ما يذكر في كتاب الصلاة.

الخامس: لو خرج البول أو الغائط من دون اختيار- كما في المسلوس و المبطون و نحوهما- فلا يبعد عدم حرمة الاستقبال، كما استظهره في الجواهر.

لخروجه عن المتيقن من الأدلة المتقدمة، لظهور أكثرها في إرادة النهي حال التخلي و التبول، لا حال خروج البول و الغائط، كما يناسبه ما في النبويين من النهي حال دخول المخرج أو الغائط، و السؤال في المرفوعين عن حد الغائط، و في المرسل عن كيفية وضع الغريب.

لكن، ذلك مختص بما إذا لم يكن المكلف في مقام أن يلقي ما يخرج منه في مكانه الذي يريده له و يتهيأ لخروجه، و إلا دخل في الأدلة المتقدمة.

اللهم إلا أن يدعي أن المتيقن من أكثرها الكناية عن التخلي و التبول اللذين هما من وظائف الجسم الطبيعية و المتقومان بالدفع الإرادي العضلي، لا مطلق خروج البول و الغائط ليشمل المقام.

نعم، مقتضي بعض النصوص العموم حتي لصورة عدم التهيؤ أيضا، مثل ما تضمن النهي عن الاستقبال ببول أو غائط.

إلا أن يستشكل في عمومه بعد حمله- كما تقدم في الأمر الأول- علي إرادة

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 10 من أبواب القبلة من كتاب الصلاة.

ص: 41

______________________________

النهي عن الاستقبال حال خروجهما، حيث لا يبعد قصوره عن الخروج بالنحو المذكور.

مضافا إلي ضعف سنده و عدم وضوح انجباره، فلا مجال للخروج به عن مقتضي الأصل، و إن حسن الاحتياط بالترك لأجله.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا في توجيه الجواز في المقام من أنه لما كان مفاد النصوص تحريم التغوط و التبول حال الاستقبال و الاستدبار، لا تحريم الاستقبال و الاستدبار حالهما، فمع فرض سلب الاختيار بالإضافة إلي نفس التغوط و التبول يتعين سقوط حرمتهما، و لا مجال حينئذ لحرمة نفس الاستقبال و الاستدبار، و إن كانا مقدورين لعدم حرمتهما ذاتا.

ففيه- مع ظهور الأدلة في حرمة الاستقبال و الاستدبار حال التخلي و التبول، لا العكس- أن خروج أصل التغوط و التبول عن الاختيار لا ينافي كون الحرام منهما و هو المقيد بالاستقبال و الاستدبار اختياريا باختيارية قيده.

و لذا لا يظن منه التوقف في حرمة الاستقبال و الاستدبار لو اكره علي أصل التخلي أو التبول.

السادس: دخل المكلف باستقبال الغير.

تارة: يكون بوضعه له علي القبلة من دون اختيار من المتخلي و اخري: بإعانته عليه مع اختيار المتخلي.

و ثالثة: بإيهامه فيه حكما أو موضوعا.

و رابعة: يكون بعدم منعه منه.

أما في الأولي فلا ينبغي الإشكال في الحرمة مع تكليف المتخلي و التفاته، لاستفادته مما دل علي وجوب الردع عن المنكر و حرمة حبه و الرضا به بالأولوية، لأن الإجبار علي المنكر أولي بالحرمة من التشجيع عليه، فضلا عن ترك الردع عنه.

و خروجه عن المنكر في حق المباشر بالإجبار لا يسوغ الإجبار ارتكازا.

و أما مع تكليف المتخلي و غفلته فهو لا يخلو عن إشكال، لعدم الدليل علي

ص: 42

______________________________

عموم حرمة التسبيب للحرام الواقعي مع عدم تنجزه.

و أولي منه بالإشكال ما إذا لم يكن المتخلي مكلفا، كالطفل، لعدم التسبيب للحرام الفعلي حينئذ.

اللهم إلا أن يدعي أن ارتكاز كون منشأ الحكم تعظيم القبلة التي هي من شعائر الدين يقتضي اهتمام الشارع به، بنحو لا يرضي بالتسبيب إليه بالوجه المذكور، و لو مع عدم تكليف المتخلي نفسه، فضلا عما لو كان مكلفا غافلا.

لكن، هذا إنما يتم في توهين القبلة و نحوها بالوجه العرفي الظاهر، لا في مثل المقام، مما كان الملحوظ نحوا من التوهين لا يدركه العرف، بل الشارع، فان اللازم متابعة دليله، و لا مجال لحصول العلم بالحرمة بدونه.

و أشكل من ذلك احتمال عموم أدلة المقام له.

نعم، قد يتوهم ذلك في مثل قولهم عليهم السّلام: «لا تستقبل القبلة بغائط و لا بول» «1».

و يظهر ضعفه مما تقدم في الأمر الأول من أن المراد به الاستقبال حال البول و الغائط، و هو ظاهر في حرمة الاستقبال علي نفس المتغوط و المتبول، لا حرمة الاستقبال بهما علي غيرهما. فلاحظ.

و منه يظهر الحال في الثانية، فإن الإعانة أخف من التسبيب بالوجه المذكور، و لا دليل علي عموم حرمة الإعانة علي الحرام، بل الثابت حرمة التعاون لا غير، إلا أن يكون في الإعانة تشجيع علي الحرام، فتحرم لأن وجوب الردع عن المنكر يقتضي حرمة التشجيع عليه بالأولوية.

و أما الثالثة فلا إشكال في حرمته مع الكذب مطلقا، و بدونه في الشبهة الحكمية، لما دل علي وجوب بيان الأحكام الشرعية، فضلا عن حرمة التضليل فيها.

و أما في الشبهة الموضوعية فلا مجال للبناء علي الحرمة، لعدم الدليل علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 43

حال التخلي، و يجوز حال الاستبراء و الاستنجاء (1)،

______________________________

وجوب بيان الموضوعات.

و إشكال التسبيب هنا أخف منه في الصورة الأولي.

و أما في الرابعة فلا إشكال في حرمته مع تكليف المتخلي و تعمده، لوجوب النهي عن المنكر، و كذا مع جهله بالحكم، لوجوب بيان الأحكام.

و أما في غير ذلك فلا موجب للردع إلا ما أشرنا إليه من مناسبة تعظيم القبلة لاهتمام الشارع بمنع وقوعه من كل أحد، و إن لم يكن مكلفا، فضلا عما لو كان مكلفا غافلا.

و يظهر ضعفه مما تقدم.

ثمَّ إن الكلام في الصور المذكورة مختص بما إذا لم يكن الأمر مبنيا علي الاستئمان.

أما لو استأمن المكلف شخصا علي نفسه لتوجيهه أو إرشاده، فالظاهر حرمة تفريطه في حقه حينئذ في جميع الصور المتقدمة، عملا بمقتضي الأمانة.

السابع: يشكل عموم الحكم لما إذا خرج البول أو الغائط من غير المخرج الطبيعي، و إن صار معتادا، لعدم ثبوت إطلاق يقتضي حرمة الاستقبال و الاستدبار، أو كراهتهما حال خروج البول و الغائط، بل المتيقن- كما تقدم في الأمر الخامس- حرمتهما حال التبول و التغوط، اللذين هما من وظائف الجسم الطبيعية، و هما غير صادقين في الفرض.

نعم، لو فرض صدقهما بأن كان الخروج مستندا إلي دفع إرادي لم يبعد عموم الحكم. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) كما استظهره في الجواهر، و في المدارك أنه المستفاد من كلام الأصحاب، لقصور النصوص عنهما.

و في المدارك و ظاهر كشف اللثام، و عن الذخيرة و الدلائل احتمال إلحاق

ص: 44

______________________________

حال الاستنجاء بحال التخلي، و عن الذكري التردد فيه.

لموثق عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: الرجل يريد أن يستنجي كيف يقعد؟ قال: كما يقعد للغائط، قال: و إنما عليه أن يغسل ما ظهر منه، و ليس عليه أن يغسل باطنه» «1».

و فيه: أن ظاهره أو المتيقن منه إرادة الكيفية من حيثية بدن المتخلي نفسه، و من المعلوم عدم إرادة الوجوب منه، بل الاستحباب، أو الترخيص في قبال ما حكي عن العامة من القول باستحباب أو وجوب تفريج الرجلين أو الاسترخاء، كما قد يشير إليه ذيله. و به صرح في محكي كاشف الغطاء قدّس سرّه.

و لا مجال لحمله علي خصوص هيئته من حيثية أمر خارج عن بدن المتخلي، كالقبلة، ليمكن حمله علي الوجوب، لاحتياجه إلي عناية زائدة لا إشعار بها في الكلام.

و أما الاستدلال لحرمة الاستقبال و الاستدبار في حال الاستنجاء، بل الاستبراء بإطلاق ما تضمن حرمتهما في حال دخول الغائط أو المخرج مما تقدم، لشموله للحالين المذكورين.

فيندفع: - مع ضعف السند و عدم ظهور الانجبار- بأنه لا مجال للجمود علي عنوان الدخول، ليتجه التمسك بإطلاقه، للعلم بعدم دخله في الحرمة، بل لا بد من حمله علي الكناية عن بعض ما يقع حينه، و المتيقن منه التخلي و التبول، و ليس هو من تقييد الإطلاق، بل اقتصار علي المتيقن من المدلول.

نعم، لو فرض العلم بخروج شي ء من البول حين الاستبراء فقد يدعي دخوله في إطلاق الأدلة، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره.

و إن كان لا يخلو عن إشكال، لما تقدم في الأمر الخامس و السابع من أن المتيقن منه حرمة الاستقبال و الاستدبار حال التبول و التغوط، لا حال خروج البول و الغائط، و الصادق في محل الكلام الثاني، لا الأول.

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1

ص: 45

و إن كان الأحوط استحبابا الترك (1). و لو اضطر إلي أحدهما فالأقوي اجتناب الاستقبال (2).

______________________________

و أما ما قد يظهر من بعض مشايخنا من أن عدم الصدق لقلة الخارج. فهو غير ظاهر.

و من جميع ما تقدم يظهر الوجه فيما ذكره في الجواهر من عدم حرمة الاستقبال و الاستدبار حال خروج أمر غير البول و الغائط، كماء الاحتقان و الديدان مع الخلوص عنهما.

(1) خصوصا حال الاستبراء مع العلم بخروج شي ء من المجري، و من بعده حال الاستنجاء، كما يظهر مما سبق.

بل الأحوط الاجتناب أيضا حال خروج مثل ماء الاحتقان، إذا كان بدفع إرادي علي نحو خروج الغائط.

(2) كما في المدارك و الجواهر، و في المسالك أنه الأولي.

و علله في الجواهر بأنه أعظم قبحا، لكنه موقوف علي كون الملاك هو القبح العرفي، و هو غير ظاهر.

نعم، لا إشكال في كون ذلك- مع كثرة نصوص الاستقبال- موجبا لاحتمال أهميته الملزم عقلا بمراعاته، كما في سائر موارد التزاحم بين التكليفين في مقام الامتثال.

و منه يظهر ضعف ما في المستند و العروة الوثقي من التخيير في المقام.

لكن، ذكر بعض مشايخنا أن ذلك يتم لو كان دليل حرمة الاستقبال و الاستدبار الأخبار، أما لو كان دليلها الإجماع، فالدوران في المقام بين التعيين و التخيير في مقام الجعل الذي يكون المرجع فيه البراءة علي مختاره، بل لعله الظاهر.

إذ ليس للإجماع إطلاق يشمل حال الاضطرار إلي أحد الأمرين، فيدور الأمر فيه بين حرمة خصوص الاستقبال تعيينا، و حرمة أحدهما تخييرا.

ص: 46

مسألة 1 لو اشتبهت القبلة لم يجز له التخلي

(مسألة 1): لو اشتبهت القبلة (1) لم يجز له التخلي (2)، إلا بعد اليأس (3) عن معرفتها (4)، و عدم إمكان الانتظار (5).

______________________________

و لا يخفي أنه لو تمَّ ما ذكره كان الدوران في المقام بين تحريم الاستقبال تعيينا و عدمه لا غير، الذي لا إشكال معه في الرجوع للبراءة، إذ يلغو تحريم الاستقبال و الاستدبار تخييرا مع تعذر الجمع بينهما.

نعم، الظاهر عدم تمامية ما ذكره، إذ لو تمَّ الإجماع فالمعلوم من حال المجمعين ذهابهم إلي تمامية ملاك الحرمة تعيينا في كل من الأمرين، حتي في حال تعذر اجتنابهما معا، فليس الشك في الجعل، بل في صلوح متابعة كل من الجعلين للعذر عن امتثال الآخر، و حيث يعلم بكون متابعة محتمل الأهمية عذرا عن الآخر، و لا يعلم العكس، تعيين التحفظ علي محتمل الأهمية عقلا للشك في وجود العذر المسوغ لمخالفته، كما لو احتمل العجز عنه. فلاحظ و تمام الكلام في مباحث التزاحم.

و قد ظهر مما تقدم الوجه فيما في المدارك و الجواهر من تقديم ستر العورة عن الناظر، عند الدوران بين كشفها و بين الاستقبال أو الاستدبار، و في المسالك أنه الأولي، فإن الرجوع لنصوص الستر و مرتكزات المتشرعة إن لم يوجب القطع بأهميته فلا أقل من احتمالها.

(1) يعني: بنحو يتعذر معه الاحتياط، بأن تردد بين تمام نقاط الدائرة أو بين نقاط نصفها.

(2) بناء علي حرمة الاستقبال و الاستدبار حاله، أما بناء علي الكراهة فيرجح ترك التخلي لا غير.

(3) تجنبا عن احتمال مخالفة التكليف بالإجمال من دون مسوغ.

(4) و لو بالرجوع للأمارات الخاصة، و منها التحري، كما سبق في الفرع الثالث.

(5) و إلا وجب حذرا من مخالفة العلم الإجمالي المذكور. و المراد بعدم

ص: 47

______________________________

الإمكان ما يعم الحرج.

هذا، و قد استقرب في المدارك سقوط الحكم عند اشتباه القبلة، للشك في المقتضي، فلا مجال لفرض العلم الإجمالي.

لكنه خروج عن الإطلاق بلا وجه.

و دعوي: أن مناسبة كون الحكم مبنيا علي إجلال الكعبة تقتضي اختصاصه بصورة العلم بها، إذ استقبالها مع الجهل لا ينافي أجلالها.

مدفوعة: بأنه لإيراد بالإجلال ما يتقوم بالقصد، بل ما ينشأ من منافاة العمل لكرامتها بنظر الشارع، و لا يعلم اختصاص ذلك بصورة العلم بها.

و علي هذا، فلو تعذرت معرفتها، و تعذر الاحتياط- لسعة جهة التردد و عدم إمكان الاحتياط- كان المقام من موارد تعذر الموافقة القطعية الموجب للتنزل للموافقة الاحتمالية.

بل يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، لعدم الأثر له بعد تعذر المخالفة القطعية أيضا، لأن خروج كل جزء من البول و الغائط لا بد أن يكون إلي جهة واحدة، و لكل منها تكليف مستقل، فيتعين التخيير نظير موارد الدوران بين محذورين، بل هو منها.

و أما دعوي: ظهور الأثر للعلم الإجمالي في كون التخيير ابتدائيا مع تعدد المرات، بل في المرة الواحدة بلحاظ أجزائها، فلا يجوز الدور بالبول في تمام الجهات، فرارا من المخالفة القطعية.

فهي مدفوعة: بأنه لا محذور في المخالفة الإجمالية القطعية في مثل ذلك، لتحقق الموافقة القطعية معها بنسبتها.

و دعوي: أهمية المخالفة القطعية من الموافقة القطعية، و لذا يمتنع ترخيص الشارع فيها، بخلاف الموافقة القطعية، حيث يمكن ترخيصه في تركها.

ممنوعة، لعدم الفرق بينهما ارتكازا في تفويت الغرض.

و امتناع الترخيص الشرعي في المخالفة القطعية في ظرف القدرة علي تجنبها ليس لأهميتها، بل للغوية التكليف معه، فلا ينافي الترخيص العقلي في

ص: 48

______________________________

المقام بلحاظ التزاحم بينها و بين الموافقة القطعية بعد فرض عدم بيان الشارع.

و من ثمَّ ذكرنا في مبحث الدوران بين المحذورين أن التخيير استمراري.

هذا، و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من عدم حصول الموافقة القطعية في المقام، إذ ليس في البول لغير القبلة موافقة لتكليف شرعي.

فيدفعه: أن الموافقة ليست في البول لغير القبلة، بل في ترك البول للقبلة الحاصل في المقام بالإضافة إلي بعض المرات أو بعض أجزاء المرة الواحدة.

علي أنه يكفي في التخيير دوران الأمر بين المخالفات الاحتمالية الكثيرة و المخالفات القطعية القليلة، لعدم الفرق بينه و بين ما ذكرنا في ملاك الحكم.

ثمَّ إن السيد في العروة الوثقي مع حكمه بالتخيير الاستمراري مع تعدد المرات منع من الدور بالبول في المرة الواحدة.

و فرق بعض مشايخنا بينهما بتعدد الواقعة في الأول، فيبتني علي منجزية العلم الإجمالي التدريجي، و وحدة الواقعة في الثاني، حيث لا إشكال معها في منجزية العلم الإجمالي.

و فيه: أن العلم الإجمالي بالإضافة إلي أجزاء المرة الواحدة تدريجي أيضا.

فلا فرق بين المقامين.

نعم، لو لم يعلم من أول الأمر بابتلائه بالمرات المتعاقبة كانت كل مرة واقعة مستقلة لا أثر للعلم الإجمالي بالمخالفة فيها أو فيما سبقها، لخروج المرات السابقة عن الابتلاء.

بقي شي ء: و هو ان امتناع الاحتياط مبني علي تحقق الاستقبال و الاستدبار بجميع الهيآت، أما بناء علي ما سبق في الأمر الثاني من عدم تحققه من المستلقي و المكبوب، فاللازم اختيارهما تجنبا عن المخالفة الاحتمالية، لو لا ما هو الغالب من لزوم الحرج منهما الملحق لهما بالتعذر.

بل من القريب جدا عدم وجوبهما حتي مع عدم الحرج، لبعد تكليف الشارع بهما جدا.

و إن كان الخروج عن الإطلاق بمثل ذلك مشكل.

ص: 49

مسألة 2 لا يجوز النظر إلي عورة غيره من وراء الزجاجة و نحوها و لا في المرآة

(مسألة 2): لا يجوز النظر إلي عورة غيره من وراء الزجاجة و نحوها (1)، و لا في المرآة (2)،

______________________________

(1) كما صرح به في العروة الوثقي و وافقه جملة من شراحها و محشيها.

و يقتضيه إطلاق أدلة حرمة النظر إلي العورة و وجوب سترها. لصدق النظر و عدم صدق الستر مع ذلك.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من قصور لفظ الأدلة عن شموله، غير ظاهر.

(2) كما صرح به في العروة الوثقي و وافقه جملة من شراحها و محشيها.

و استدل له شيخنا الأستاذ قدّس سرّه بصدق النظر إلي العورة عرفا.

و فيه: أن الصادق عرفا هو النظر إلي عكسها و صورتها المنطبعة، لا إلي عينها الذي هو مورد الأدلة.

و إطلاق النظر إلي العورة مبني علي نحو من المجاز و التسامح لا مجال لحمل الأدلة عليه.

و مثله ما ذكره بعض مشايخنا من ابتنائه علي كون الرؤية فيها بخروج الشعاع و انكساره إلي المرئي، و أن المشاهد في المرآة نفس العين لا صورتها.

فإن ذلك لو ثبت فهم أمر حقيقي دقي، لا عرفي، كي تنزل عليه الأدلة و يدخل في إطلاقها.

فلا بد في إثبات الحرمة في المقام إما من دعوي أن المفهوم عرفا من الأدلة ما يعمه- كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه- لصعوبة التفكيك عرفا بين النظرين بملاحظة المناسبات الارتكازية للحكم، فلا بد من حمل الأدلة علي ما يعمهما.

أو دعوي: وحدة المناط الملزم بالإلحاق و إن قصرت الأدلة.

و الانصاف أن البناء علي الحرمة قريب جدا. و إن كان الدليل عليها مشكلا.

ص: 50

و لا في الماء الصافي (1).

مسألة 3 لا يجوز التخلي في ملك غيره إلا بإذنه

(مسألة 3): لا يجوز التخلي في ملك غيره (2) إلا بإذنه (3)، و لو بالفحوي (4).

______________________________

ثمَّ إن هذا مختص بما يعكس الحجم، دون مثل الظل و الصور الفتوغرافية المعروفة في زماننا، و إن أمكن النظر إليها بالعينات الموهمة للحجم. للقطع بقصور الأدلة عن ذلك، و لا طريق لإحراز المناط فيه. بل الأمر كذلك في الصور ذات الحجم لو فرض ثبوتها و عدم تحركها كتحرك صورة المرآة. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) الظاهر أن المراد به الصورة المنعكسة في الماء الصافي، الذي هو نظير المرآة، فيلحقه ما تقدم فيها إذا كان الانعكاس فيه بنحو يوجب ظهور البشرة، لا خصوص الحجم.

و لا يريد به النظر إلي العورة حال كونها في الماء الصافي، الذي هو نظير النظر من وراء الزجاجة، و يلحقه ما تقدم فيه.

(2) لعموم حرمة مال المسلم المستفادة من كثير من النصوص، و منها ما يأتي.

(3) لمثل التوقيع الشريف: «فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه» «1».

(4) قال في المدارك: «المعهود من اصطلاحهم أن دلالة الفحوي هي مفهوم الموافقة، و هو التنبيه بالأدني علي الأعلي، أي كون الحكم في غير المذكور أولي منه في المذكور باعتبار المعني المناسب المقصود من الحكم».

و في الجواهر: «الفحوي عند متشرعة العصر ليست إلا حصول القطع بالرضا بسبب صدور فعل من المالك أو قول لم يكن المقصود منه بيان الرضا في المراد،

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الأنفال حديث: 6.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 52

ص: 51

______________________________

أو غيرهما، بلا مراعاة أولوية و مساواة و نحوهما من أسباب القطع».

و الظاهر أن الثاني هو مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه، لظهور كلامه في إرادة بيان أخفي أفراده الاذن، و ليست الفحوي بالمعني الأول كذلك. بل الظاهر أن المراد به ما يعم الرضا التقديري، الراجع إلي كون المالك بحيث لو التفت لرضي، و لا يضر عدم رضاه لغفلته عن الموضوع.

و يكفي في جواز التصرف بذلك ظهور التسالم عليه بين الأصحاب. و ما هو المعلوم من سيرة المتشرعة.

بل يرون التوقف عن التصرف مع ذلك لأجل عدم الاذن الصريح من سنخ الوسواس أو الجمود، لا أنه مقتضي التحرج في الدين الذي هو من أجل الأمور خطرا و أحسنها أثرا.

بل لعل سيرتهم علي ذلك تبلغ حدا يستوجب مخالفته الهرج و المرج أو اختلال النظام.

و يقتضيه مع ذلك الجمع بين الأدلة، فإن النصوص بين ما هو ظاهر في اعتبار الاذن، كالتوقيع المتقدم، و ما هو ظاهر في اعتبار طيب النفس، مثل ما رواه زيد الشحام في الصحيح، و سماعة في الموثق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث: «أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: من كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرء مسلم و لا ماله إلا بطيبة نفسه» «1».

و حيث كان الاذن كاشفا عن طيب النفس كان مقتضي الجمع بين الدليلين رفع اليد عن ظهور دليل الاذن في موضوعيته و حمله علي كون ذكره لطريقيته للموضوع، و هو طيب النفس.

كما أنه لا بد من حمل طيب النفس في دليله علي ما يعم الرضا التقديري، لوضوح أن ذلك هو القابل للبقاء و المستكشف بالإذن، لأن الرضا الفعلي و إن كان قابلا للحدوث و عنه يصدر الإذن، إلا أنه يعلم بارتفاعه بطروء الغفلة أو النوم،

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب مكان المصلي حديث: 1. و باب: 1 من أبواب القصاص حديث: 3.

ص: 52

______________________________

و ليس الباقي إلا الرضا الشأني، و إليه يستند التصرف بعد ذلك، لا إلي الرضا الفعلي السابق، لعدم الأثر له ارتكازا، و لظهور دليل طيب النفس في لزوم مقارنته للتصرف، و لذا يسقط أثر الاذن و الرضا بالعدول، و بسقوط المالك عن قابلية الرضا بجنون و نحوه.

نعم، لو توقف طيب النفس علي أمر زائد علي التفات المالك للموضوع، كما لو اعتقد خطأ بعداوة المتصرف، و كان بحيث لو انكشف له الحال لرضي بتصرفه أشكل جواز التصرف، لخروجه عن المتيقن من الأدلة المتقدمة.

و أظهر من ذلك ما لو التفت إلي الموضوع فلم يرض لخطئه في اعتقاد ما يمنع منه كعداوة المتصرف. بل لا ريب في التصرف حينئذ لصدق عدم طيب النفس فعلا.

هذا، و قد ورد في بعض كلماتهم في نظير المقام الاكتفاء بشاهد الحال.

و حمله علي خصوص صورة حصول العلم بالرضا منه بعيد عن ظاهرها.

قال في الشرائع في مبحث مكان المصلي: «و الاذن قد يكون بعوض. أو بالفحوي. أو بشاهد الحال، كما إذا كان هناك أمارة تشهد أن المالك لا يكره».

و حكي عن بعضهم حمله علي الاطمئنان.

و الوجه فيه غير ظاهر بناء علي عدم حجية الاطمئنان في نفسه، كما هو غير بعيد. بل لا إشكال في بطلانه لو حمل علي مطلق الظن.

نعم، لا يبعد البناء علي الاكتفاء بظهور فعل المالك إذا كان لفعله ظهور عرفي في الاذن، نظير فتح المضيف و تمكين الناس من قضاء و طرهم فيه و فيما يتعلق به، لحجية ذلك عرفا نظير حجية القول.

و لعل ذلك هو مراد الشرائع، لجعله ذلك من أفراد الاذن، بخلاف الأمارات التي لا تستند إلي المالك و إن أوجبت الاطمئنان، فضلا عن مطلق الظن. و قد أطال في الجواهر في ذلك في أوائل مبحث لباس المصلي. فراجع.

هذا، و لا يبعد الجواز في الأراضي المتسعة، كالصحاري و البساتين غير المحجبة و إن لم يحرز رضا المالك، بل و إن لم يكن المالك أهلا للإذن للحجر عليه

ص: 53

مسألة 4 لا يجوز التخلي في المدارس و نحوها ما لم يعلم بعموم الوقف

(مسألة 4): لا يجوز التخلي في المدارس و نحوها (1) ما لم يعلم بعموم الوقف (2).

______________________________

إذ لم يكن التخلي مضرا بها، بأربابها لسيرة المتشرعة عليه، كما يذكر في مباحث الوضوء و الصلاة.

نعم، المتيقن من ذلك ما إذا لم يحرز عدم رضا المالك أو وليه. و يأتي في المسألة السابعة و الستين في فصل شرائط الوضوء تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالي.

(1) يعني: من الأوقاف.

(2) كما صرح به في العروة الوثقي، و تبعه جملة من شراحها و محشيها.

و العمدة فيه أن المستفاد من الأدلة إناطة جواز التصرف في الوقف بدخوله في الجهة الموقوف عليها و لو إجمالا أو تبعا، لما هو المعلوم من أن المال المملوك محترم يناط أمره بمالكه، فجواز التصرف بعد الوقف ناشئ من نفوذ الوقف المترتب علي سلطان المالك و المستند إليه. لا أن حرمة التصرف مشروطة بخروجه عن الجهة الموقوف عليها.

و حينئذ يكون استصحاب عدم دخول التصرف في الجهة الموقوف عليها منقحا لموضوع حرمة التصرف. و لا يعارضه استصحاب عدم خروجه عنها، لعدم الأثر له.

و أما أصالة الحرمة في الأموال فقد تقدم في مبحث اشتباه المباح بالمغصوب عدم الدليل عليها.

و مما ذكرنا يظهر الاشكال فيما ذكره السيد الأصفهاني قدّس سرّه و غيره من تقريب الجواز مع عدم المزاحمة لجهة الوقف و عدم إحراز منع الواقف من التصرف. قال:

«لا يبعد الجواز إذا لم يزاحم الطلبة و لم يحرز أن الواقف شرط أن لا يتخلي فيها غيرهم، و كذا الحال في التصرفات الأخر».

فإن الالتزام بجواز التصرف لمن لم يدخل في الوقف مع عدم مزاحمته

ص: 54

و لو أخبر المتولي (1)

______________________________

لجهة الوقف بعيد جدا مناف لما أشرنا إليه من ارتكاز كون الوقف هو المسوغ للتصرف لا مانع منه، فما لم يشمل التصرف لا يسوغه.

(1) لكونه صاحب يد، فيقبل قوله فيما تحت يده. قال سيدنا المصنف قدّس سرّه:

«لكن عرفت تقييده بالائتمان».

و كأنه أشار بذلك إلي ما ذكره في مباحث المياه عند الكلام في ثبوت نجاسة الماء بقول صاحب اليد من ظهور بعض النصوص في اعتبار عدم الاتهام في قول صاحب اليد، كصحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ علي الثلث و أنا أعرف أنه يشربه علي النصف، أ فأشربه بقوله و هو يشربه علي النصف؟ فقال: لا تشربه. قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه علي الثلث و لا يستحله علي النصف يخبرنا أن عنده بختجا علي الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال:

نعم» «1». و نحوه صحيح عمر بن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يهدي إليه البختج من غير أصحابنا. فقال: إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه، و إن كان ممن لا يستحل فاشربه» «2».

لكن لا يخفي أنهما مختصان بالبختج، و قد ورد في صحيح ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال إذا شرب الرجل النبيذ المخمور فلا تجوز شهادته في شي ء من الأشربة و إن كان يصف ما تصفون» «3». و ظاهره خصوصية الأشربة في الحكم.

علي أن عدم قبول قول صاحب اليد في مثل الطهارة و النجاسة و الحرمة- مما لا دخل له بالسلطنة و الاستحقاق- لا يوجب رفع اليد عن ارتكاز حجيته فيما تكون اليد حجة فيه من شؤون الاستحقاق و السلطنة، كما في المقام، و كما لو أخبر

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

ص: 55

أو بعض أهل المدرسة بذلك كفي (1). و كذا الحال في سائر التصرفات فيها.

______________________________

الوكيل بإذن المالك في التصرف، أو باستحقاق شخص للمنفعة بإجارة أو شرط، إلي غير ذلك.

فالبناء علي عموم قبول خبره هو الأنسب بمقتضي السيرة الارتكازية علي قبول قول صاحب اليد فيما هو من شئون الاستحقاق و السلطنة عما ما تحت يده.

و مثله قبول إذنه إذا احتمل سلطنته علي ذلك، لإناطة الواقف التصرف به، و كان مبنيا علي إعمال سلطنته. لحجية اليد علي السلطنة.

و تقييده بالائتمان- كما قد يظهر منه قدّس سرّه- أشكل، بعد اختصاص النص المتقدم بالإخبار.

و أشكل منه ما في بعض حواشي العروة الوثقي من تقييده بما إذا حصل الوثوق و الاطمئنان بأن له ذلك.

هذا، و أما الاكتفاء منه بالرضا الباطني الفعلي أو الشأني من دون إذن فهو موقوف علي عموم الوقف لذلك، إذ لو اشترط الواقف إذن المتولي لم يكف ذلك، لعدم صدق الاذن معه.

نعم، لا يبعد الاكتفاء بشاهد الحال المستند إلي ظهور فعل منه، مثل فتحه الباب و تمكينه الناس مع قدرته علي المنع و نحو ذلك، لقرب صدق الاذن معه عرفا، نظير ما تقدم من الاكتفاء بشاهد الحال من المالك.

(1) لم يتضح الوجه في حجيته إذا لم يكن صاحب يد، و ليس هو إلا كسائر المخبرين. و مجرد جواز التصرف له، لكونه داخلا في الوقف لا يجعله صاحب يد.

ثمَّ إنه استظهر في العروة الوثقي الاكتفاء بجريان العادة علي التصرف، و تبعه جملة من محشيها.

و هو في محله لو استلزمت العادة الشياع القطعي بأن يبتني تصرف الناس علي دعوي عموم الوقف، أو كشفت عن حجة علي الجواز و إن احتمل خطؤها،

ص: 56

______________________________

كما لو علم من حال الوقف أن تلك العادة لا تجري فيه لو لم يأذن المتولي. أو رجعت إلي ثبوت يد نوعية لهم عليه، بأن يتصرفوا في الوقف علي أنهم أهله و مستحقوه المسيطرون عليه، نظير تصرف بعض القبائل في بعض الدور آخذين له يدا عن يد و إن لم يختص واحد منهم به بشخصه، لعدم الفرق في حجية اليد بين الشخصية و النوعية.

بل الثانية ترجع إلي الأولي، لوضوح رجوعها إلي بناء الأشخاص أصحاب اليد علي استحقاق النوع لما تحت أيديهم، فإن صاحب اليد الشخصية يقبل قوله في تعيين المستحق، و لا يختص قبول قوله بما إذا ادعي اختصاصه بالاستحقاق.

و أما مجرد العادة التي يحتمل ابتناؤها علي التسامح، لعدم المباشر لشؤون الوقف و حفظه، أو عجزه عن المنع فلا طريق لإثبات حجيتها.

و الحمل علي الصحة لا يقتضي ذلك بنحو يثبت الاستحقاق. و قد صرح بذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه في حاشيته علي العروة الوثقي و شرحه لها، و غيره.

ص: 57

ص: 58

الفصل الثاني: في الاستنجاء
اشارة

الفصل الثاني يجب غسل موضع البول (1)

______________________________

(1) المراد بالوجوب في المقام إما التكليفي أو الوضعي، لبيان توقف طهارة المحل علي الغسل.

أما الأول فلا يراد منه الوجوب النفسي، لعدم بنائهم ظاهرا عليه، بل ظاهر الجواهر المفروغية عن عدمه، بل الغيري مقدمة لما يعتبر فيه الطهارة، و منه الصلاة علي ما يذكر في محله.

و في الخلاف و عن التذكرة و إحقاق الحق دعوي الإجماع علي وجوب الاستنجاء، و في الجواهر: «إجماعا منقولا و محصلا، بل هو من ضروريات مذهبنا» خلافا لما عن أبي حنيفة من استحبابه.

قال في مفتاح الكرامة: «و من قال من أصحابنا بالعفو عما دون الدرهم من النجاسات لعله يستثني هذا لمكان الإجماع».

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك و إلي عموم مانعية النجاسة من الصلاة و نحوها- صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: لا صلاة إلا بطهور. و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنة من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، و أما البول فإنه لا بد من غسله» «1» و صحيح ابن أذينة: «ذكر أبو مريم الأنصاري أن الحكم بن عيينة بال يوما و لم يغسل ذكره متعمدا، فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السّلام فقال:

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 59

______________________________

بئس ما صنع، عليه أن يغسل ذكره و يعيد صلاته، و لا يعيد وضوءه» «1» و نحوهما غيرهما.

نعم، النصوص في صحة الصلاة مع نسيان الاستنجاء مختلفة. و يأتي الكلام فيها إن شاء اللّه تعالي عند الكلام في الصلاة في النجس في المسألة الخامسة و الثلاثين من مبحث الطهارة من الخبث.

هذا، و المشهور عدم بطلان الوضوء بترك الاستنجاء، لغير واحد من النصوص، و منها ما تقدم، خلافا للصدوق في الفقيه و المقنع، و يشهد له موثق سماعة: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا دخلت الغائط فقضيت الحاجة فلم ترق [تهرق. خ. ل] الماء و نسيت أن تستنجي فذكرت بعد صليت فعليك الإعادة، و إن كنت أهرقت الماء فنسيت أن تغسل ذكرك حتي صليت فعليك إعادة الوضوء و الصلاة و غسل ذكرك، لأن البول مثل البراز» «2» و قريب منه في ذلك صحيح سليمان بن خالد «3» و موثق أبي بصير «4».

لكن يتعين حملها علي الاستحباب جمعا، بل احتمل في الوسائل حملها علي التقية، و لعله الأنسب بإعراض الأصحاب.

و أما الثاني فهو المدعي عليه الإجماع في كتب كثيرة، كالانتصار و الخلاف و الغنية، و محكي التذكرة و النهاية و شرح الموجز و الروض و المجمع و الدلائل و الذخيرة و المفاتيح، و في المعتبر و عن المنتهي نسبته إلي علمائنا.

و كأنه لأجل هذا الإجماع خرج السيد المرتضي قدّس سرّه عما هو المعروف عنه من الاكتفاء في التطهير بكل ما يزيل عين النجاسة، علي ما تقدم في الماء المضاف.

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك، و إلي ما تقدم في الماء المضاف و يأتي إن شاء اللّه تعالي في مبحث التطهير من النجاسات من عدم التطهير بإزالة عين النجاسة-

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 18 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

(4) الوسائل باب: 18 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

ص: 60

______________________________

جملة من النصوص المصرحة بتعين الغسل أو الماء أو الظاهرة في ذلك، كصحيح زرارة المتقدم، و قريب منه صحيح بريد «1»، و صحيح ابن أذينة المتقدم و صحيح يونس بن يعقوب: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الوضوء الذي افترضه اللّه علي العباد لمن جاء من الغائط أو بال. قال: يغسل ذكره و يذهب الغائط، ثمَّ يتوضأ مرتين مرتين» «2». و مثلها ما هو صريح في عدم الاكتفاء فيه بالتمسح بالأحجار، كصحيح العيص بن القاسم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء، فمسح ذكره بحجر، و قد عرق ذكره و فخذاه. قال: يغسل ذكره و فخذيه» «3».

لكن في موثق سماعة: «قلت لأبي الحسن موسي عليه السّلام: إني أبول ثمَّ أتمسح بالأحجار، فيجي ء مني البلل ما يفسد سراويلي». قال: ليس به بأس» «4»، و في موثق حنان: «سمعت رجلا سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام فقال: إني ربما بلت فلا أقدر علي الماء و يشتد ذلك علي. فقال: إذا بلت و تمسحت فامسح ذكرك بريقك، فان وجدت شيئا فقل. هذا من ذاك» «5» و في حديث ابن بكير: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

الرجل يبول و لا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط. قال: كل شي ء يابس زكي» [ذكي يب] «6»، حيث قد يستدل بها علي حصول الطهارة بالتمسح، كما في الغائط.

و فيه: أن الأخير ظاهر في أن المعيار في الطهارة الجفاف لا زوال عين النجاسة، فضلا عن التمسح بالأحجار، فلا بد من حمله علي نحو من الكفاية لبيان عدم تنجيس الجاف للملاقي.

و الثاني: مع عدم التعرض فيه للمسح بالأحجار- ظاهر في نجاسة الموضع و تنجيسه للملاقي، و هو البلل الخارج بعد التمسح، الملزم بحمل جعل الريق

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 31 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(6) الوسائل باب: 31 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

ص: 61

______________________________

علي الذكر علي جعله علي غير موضع البول منه، لأجل إحداث الشبهة و إثارة احتمال كون ما يراه من الريق الطاهر لا البلل المتنجس بالملاقاة، إذ لو جعل علي موضع النجاسة لم يصلح لإثارة الاحتمال، كما أنه لو طهر الموضع لم يحتج لاثارته.

فلم يبق إلا الأول، و هو- مع معارضته بصحيح العيص المتقدم، بل و موثق حنان، علي ما ذكرنا- ظاهر في مفروغية السائل عن نجاسة المحل، و تنجس البلل الخارج به، و تنجيس البلل للسراويل، و لا ظهور في للجواب في الردع عن خصوص الأول.

ثمَّ إن ظاهر التهذيب و محكي المقنعة وجوب مسح البول و إزالته عند تعذر الغسل بالماء، و هو صريح المعتبر و محكي التذكرة و المنتهي و نهاية الأحكام و الذكري، بل في الجواهر عن بعضهم أنه مشهور.

و قد ينزل عليه تقييد وجوب الغسل بالماء بالقدرة في نهاية الشيخ و المراسم و الشرائع.

بل قد يستظهر منها حصول الطهارة عند عدم الماء بذلك، كما هو ظاهر الوسيلة في جميع النجاسات، لو لا ما في الجواهر من الإجماع علي عدم الفرق بين القدرة و العجز في كيفية التطهير. و يقتضيه إطلاق بعض النصوص المتقدمة، بل هو المتيقن من صحيح العيص.

و كيف كان، فقد استدل علي وجوب إزالة عين النجاسة عند تعذر غسلها.

تارة: بما في المعتبر من أن الواجب إزالة العين و الأثر، و تعذر الثاني لا يسقط الأول.

و اخري: بقاعدة الميسور، كما في الجواهر.

و ثالثة: بما دل علي وجوب تبديل خرقة المستحاضة.

و رابعة: بحديث محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن طهور المرأة في النفاس إذا طهرت و كانت لا تستطيع أن تستنجي بالماء، إنها إن استنجت اعتقرت، هل لها رخصة أن تتوضأ من خارج و تنشفه بقطن أو خرقة؟ قال: نعم،

ص: 62

مرتين (1) علي الأحوط وجوبا، و لا يجزي غير الماء.

______________________________

لتنقي من داخل بقطن أو خرقة» «1» و خبر ابن بكير المتقدم.

لكن الأول إنما يتم في التكليفين النفسيين، دون مثل المقام، حيث لم يثبت وجوب إزالة العين إلا مقدمة للتطهير، فان سقوط وجوب ذي المقدمة يستلزم سقوط وجوبها.

و به يظهر ضعف الثاني، إذ لا قائل بجريان قاعدة الميسور في الوجوب المقدمي، بل هي غير تامة في نفسها علي التحقيق حتي في الوجوب الضمني.

و الثالث بظاهره قياس- لو تمَّ وجوب التبديل- و لا مجال لدعوي فهم عدم الخصوصية، و أن المانع حمل عين النجاسة في الصلاة مطلقا، لقرب خصوصية دم الاستحاضة في المقام، كخصوصيته في عدم العفو عن قليله، كيف و لا إشكال ظاهرا في جواز حمل ما لا تتم به الصلاة و إن كان ملوثا بالنجاسة.

و حديث ابن مسلم وارد لبيان الترخيص في ترك التطهير، لا لوجوب التنقية.

و حديث ابن بكير محمول- كما تقدم- علي بيان عدم تنجيس الجاف لغيره، فلا يدل علي وجوب التجفيف، فضلا عن إزالة العين.

نعم، لا ينبغي الإشكال في لزوم التجفيف لو كانت النجاسة تسري إلي الموضع الطاهر بدونه، لوجوب تقليل النجاسة.

بل قوّي في الجواهر وجوب التخفيف الحكمي بمثل الغسل مرة واحدة عند تعذر الغسل مرتين.

و إن كان لا يخلو عن إشكال، و تمام الكلام في مبحث مانعية النجاسة من الصلاة.

(1) كما في الفقيه و الهداية و عن الذكري و الجعفرية و محتمل الدروس، و قواه في المسالك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

ص: 63

______________________________

و كأن الوجه فيه إطلاق النصوص الدالة علي وجوب المرتين في البول، كصحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن البول يصيب الجسد.

قال: صب عليه الماء مرتين» «1» و غيره.

و أما صحيح نشيط بن صالح عنه عليه السّلام: «سألته كم يجزي من الماء في الاستنجاء من البول، فقال: مثلا ما علي الحشفة من البلل» «2».

فهو وارد لتحديد مقدار الماء، لا عدد الصب، غايته أن العمل به و بالمطلقات يقتضي الاكتفاء بالمقدار المذكور مع قسمته بصبتين، كما هو ظاهر من تقدم، قال في الفقيه: «و يصب علي إحليله من الماء مثلي ما عليه من البول يصبه مرتين»، و نحوه في الهداية، و قريب منه كلام من اعتبر الفصل بين المثلين.

هذا، و صرّح جماعة بالاكتفاء بالمرة، بل هو ظاهر بعض من أطلق وجوب الغسل أو الاكتفاء بالمثلين من دون تقييد بالتعدد، و إن كان ظاهر بعضهم سوقه في قبال الاكتفاء في الغائط بالأحجار.

و يستدل له بقصور الإطلاقات المذكورة، لانصراف الإصابة عن محل الكلام مما كانت الملاقاة بسبب الخروج الطبيعي للبول.

فالمرجع إطلاقات النصوص الآمرة بالصب و الغسل، كصحيح زرارة المتقدم في أول الفصل و غيره.

و خصوصا صحيح يونس بن يعقوب المتقدم الوارد في بيان الوضوء المفترض، لقوله عليه السّلام: «يغسل ذكره و يذهب الغائط ثمَّ يتوضأ مرتين مرتين» «3»، فإن إطلاق غسل الذكر فيه في مقام بيان الفرض و تحديده موجب لقوة ظهوره في الاكتفاء بالمرة. و لا سيما مع التنصيص فيه علي المرتين في الوضوء مع عدم وجوبهما.

و كذا صحيح ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه السّلام: «قلت له: للاستنجاء حدّ؟

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

ص: 64

______________________________

قال: لا، ينقي ما ثمة. قلت: ينقي ما ثمة و يبقي الريح قال: الريح لا ينظر إليها» «1».

بل صحيح نشيط ظاهر في المرة، لتوقف استيلاء الماء علي النجاسة بنحو يتحقق الغسل علي غلبته عليها و أكثريته منها، فلا يتحقق بالمثلين إلا غسلة واحدة.

و لذا فهم ذلك منه جماعة، كابن إدريس و التقي و العلامة و غيرهم، علي ما حكي عنهم.

بل عن العلامة أن الاكتفاء في الغائط بزوال العين يقتضي الاكتفاء به في البول بالأولوية.

و من جميع ما تقدم يظهر لزوم رفع اليد عن إطلاقات التعدد لو فرض شمولها للمقام.

لكن انصراف الإطلاقات بدوي، و لا سيما بعد فهم عدم الخصوصية للإصابة عرفا، لظهوره في كون التعدد من شؤون نجاسة البول، و لذا لا إشكال في لزوم التعدد في تطهير المثانة التي يخلق فيها البول و ما يخرج معه من الحصي و نحوه مما لا ينجس إلا بعد خروجه عن الباطن مصاحبا للبول و غيره مما لا يصدق معه الإصابة.

بل لا يظن منهم التوقف في لزوم التعدد لو فرض عدم وجود الأدلة الخاصة بالاستنجاء.

و أما النصوص الآمرة بالغسل و الصب في الاستنجاء فهي بين ما لا إطلاق له، لوروده في مقام البيان من جهات اخري- كصحيح زرارة المتقدم و نحوه مما ورد لبيان انحصار المطهر من البول بالماء، و صحيح جميل الوارد لبيان وقت الاستنجاء، لقوله عليه السّلام فيه: «إذا انقطعت درة البول فصب الماء» «2» - و ما هو مطلق صالح للتقييد بما دل علي التعدد في البول.

فإنه و إن كان بين الدليلين عموم من وجه، إلا أن الظاهر تقديم دليل التعدد، لأن ظهوره في خصوصية البول أقوي من ظهور نصوص المقام في خصوصية

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 65

______________________________

الاستنجاء، بل هو كسائر خصوصيات الموارد التي ورد فيها إطلاق الغسل، كإطلاق الغسل في الفراش المتنجس بالبول، و الغسل من أبوال ما لا يؤكل لحمه و ثوب المربية و نحو ذلك مما يتعين تقديم إطلاق التعدد عليه.

و أما صحيح يونس فهو وارد في مقام تحديد المفروض من الوضوء لمن جاء من البول أو الغائط و هو وضوء الصلاة، لا لمن بال أو تغوط ليمكن شموله للاستنجاء، و إنما ذكر فيه الاستنجاء تبعا، و لعله لدفع توهم عدم شرطيته للصلاة، و لذا أهمل فيه تثليث الأحجار في الاستنجاء من الغائط، فليس هو إلا كسائر المطلقات التي يلزم رفع اليد عنها بدليل التعدد.

و أما صحيح ابن المغيرة فهو ظاهر في الاستنجاء من الغائط، بقرينة اشتماله علي الإنقاء الظاهر في احتياج رفع القذر إلي عناية، و فرض بقاء الريح الذي هو من شئون الغائط، خصوصا مع الاستنجاء منه بالتمسح.

مع قرب اختصاص الاستنجاء في الأصل به، لأنه من النجو- كما يظهر من الصحاح و النهاية و الأساس و ما حكاه في لسان العرب عن غير واحد- و هو الغائط، كما في مجمع البحرين و عن غيره، أو ما يخرج من البطن، كما في الصحاح، أو ما يخرج منها من ريح أو غائط، كما في لسان العرب و القاموس.

نعم، احتمل كون أصله القطع، نظير استنجاء الغصن من الشجرة، أو من النجوة، و هي ما ارتفع من الأرض، كأن الإنسان يطلبها ليجلس تحتها، فيمكن شموله للبول، إلا أنهما نادران في كلماتهم و بعيدان.

علي أنه يظهر من غير واحد من النصوص اختصاص الاستنجاء بإزالة الغائط، كصحيح زرارة و موثق سماعة المتقدمين في أول الفصل. و لأجل ذلك يتعين حمل النصوص المعممة علي التغليب.

و أما صحيح نشيط فلا وجه لظهوره في المرة، فإن الظاهر حصول الغلبة بما يقارب القطرة، لأن ما علي الحشفة إن كان قطرة كان مزيلا لها و موجبا لسقوطها عن الموضع، و إن كان بللا كان مستوليا عليه عرفا، علي ما يأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالي.

ص: 66

______________________________

علي أنه لو فرض عدم غلبته له مع المماثلة فليكن الصحيح دليلا علي الاكتفاء بحصول الغلبة في مجموع المرتين و عدم اعتبار حصولها في كل منهما، فان ذلك أولي من جعله دليلا علي كفاية المرة و الخروج به عن إطلاقات التعدد.

و أما الأولوية التي تقدمت عن العلامة قدّس سرّه فهي ممنوعة بعد وجود القول بكفاية المرة في أكثر النجاسات- و منها الغائط- مع وجوب التعدد في البول في غير المقام.

بل مقتضي الاكتفاء بغير الماء في الغائط دون البول أشدية نجاسته من نجاسة الغائط.

هذا، و المصرح به في كلام جمع تحديد الماء بمثلي ما علي الحشفة، عملا بحديث نشيط بن صالح المتقدم.

و قد يستشكل فيه.

تارة: بضعف سنده، فقد وقع الكلام منهم في غير واحد من رجاله، بل لم أعثر علي من وصفه بالصحة.

و اخري: بعدم إمكان الالتزام بظاهره، إذ كثيرا ما يكون بلل الحشفة خفيفا، و مثلاه من الماء لا يبلغ ربع قطرة، فلا يصلح للصب مرة، فضلا عن مرتين، و لا يتحقق به الغسل الذي تضمنته النصوص.

و ثالثة: بمعارضته بحديثه الآخر عنه عليه السّلام: «يجزي من البول أن يغسله بمثله» «1» المعتضد بمرسل الكليني: «و روي أنه يجزي أن يغسله بمثله إذا كان علي رأس الحشفة و غيره» «2».

و لعله لذا أهمل جماعة التحديد بذلك، بل أطلقوا اعتبار الغسل، كما في الوسيلة و اللمعتين و الانتصار و عن جمل السيد و الشيخ و الكافي و السرائر و الموجز و غيرها.

و إن لم يبعد كون مراد غير واحد بيان الفرق بين الغائط و البول بلزوم الماء

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 67

______________________________

في الثاني من دون نظر لمقداره، بل هو الظاهر من بعضهم.

نعم، ظاهر محكي الدروس الاعراض عن مفاد الحديث، لأنه عبر بالغسل بالماء المزيل للعين الوارد بعد الزوال من دون إشارة لمضمونه.

لكن يندفع الأول بأن الشيخ روي الحديث عن المفيد عن أحمد بن محمد عن أبيه عن سعد بن عبد اللّه عن الهيثم بن أبي مسروق عن مروك بن عبيد عن نشيط، و أحمد بن محمد مردد بين أحمد بن محمد بن يحيي العطار، و أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد.

و الأول تقدم منا تقريب وثاقته بقرائن كثيرة عند الكلام في منافاة ارتكاب الصغائر للعدالة.

و مثله الثاني- الذي لا يبعد إرادته في المقام، كما صرح به بعضهم- لأنه من مشايخ الإجازة، و أستاذ المفيد و جماعة من طبقته، و قد أكثر الشيخ قدّس سرّه في كتابيه من الرواية عنه بطريقهم، بل قيل: انه كثيرا ما يؤثر الطريق الذي هو فيه علي غيره، و قرائن المقام تشهد بكونه كأبيه من علماء هذه الطائفة المتحملين لأحاديثها المشهورين عندها، فلو ظهر منه- و العياذ باللّه- ما ينافي الوثوق لما خفي علي هؤلاء الأجلاء، و لو ظهر لهم لرفضه إذ لا تغتفر من مثله أدني زلة.

و لذا يظهر من جماعة من المتأخرين المفروغية عن وثاقته فقد صحح العلامة جملة طرق هو فيها، و وثقه الشهيد الثاني و ولده و غيرهما- علي ما حكي عنهم. بل عن تلخيص المقال: «انه من المشايخ المعتبرين. و لم أر إلي الآن و لم أسمع من أحد يتأمل في توثيقه».

و لعل عدم تعرض النجاشي و الشيخ و من سبقهما لترجمته لكونه من المتأخرين غير المعاصرين للأئمة عليهم السّلام و لا من أصحاب الكتب.

و أما أبوه فهو من الأعيان الأجلاء، سواء كان ابن يحيي أم ابن الحسن. و كذا سعد بن عبد اللّه.

كما أن الهيثم بن أبي مسروق قد أثني عليه الأصحاب، فقال النجاشي:

«قريب الأمر» و روي الكشي عن حمدويه أنه قال: «لأبي مسروق ابن يقال له الهيثم

ص: 68

______________________________

سمعت أصحابي يذكرونهما بخير، كلاهما فاضلان». و هو من رجال كامل الزيارة.

و أما عروك، فقد روي الكشي عن العياشي عن علي بن الحسن بن فضال أنه قال فيه: «ثقة شيخ صدوق» و كون علي بن الحسن فطحيا لا يمنع من الاعتماد علي توثيقه بعد كونه بمرتبة عالية من الوثاقة عند الأصحاب، و يظهر من الكشي و العياشي الاعتماد عليه في التوثيق، لما قيل من إكثار الكشي نقل توثيقه للرجال عن العياشي.

و لا سيما مع تأيد توثيقه لمروك بقول النجاشي في حقه: «قال أصحابنا القميون نوادره أصل».

و أما نشيط فقد وثقه النجاشي صريحا، و روي الكشي أنه كان يخدم الكاظم عليه السّلام. و ليس في أحد هؤلاء طعن يعارض ما تقدم، فيتعين اعتبار السند المذكور. و من ثمَّ وصفناه بالصحة.

علي أن الأصحاب قد اعتمدوا علي الحديث و أفتوا بمضمونه معبرين بعبارته، و هو كاف في حجيته، كما ذكره غير واحد، و تكرر منا نظيره في نظائر المقام.

و أما الثاني فهو لا يناسب شيوع الفتوي بمضمون الحديث بين الأصحاب، حيث لا إشكال في قصدهم معني قابلا للعمل و فهمهم ذلك من الحديث. و الذي ينسبق منهم إرادة ما يقارب القطرتين.

و كان منشأ فهمهم ذلك منه أن المماثلة فيه لم تفرض بين البول الذي علي الحشفة و الماء، بل بين البلل و الماء، و لما كان البلل فاقدا للحجم عرفا في كثير من الموارد لقلته، بل هو من سنخ العرض، فلا يقدر إلا بالمساحة، و حيث كان ما علي الحشفة منه غالبا مقاربا في المساحة للقطرة، كان مثلاه من الماء قطرتين.

و لا سيما مع وضوح لزوم استيعاب الاستنجاء لتمام موضع النجاسة، و لزوم كونه بالماء القابل للصب و الانفصال، لا بالبلل، فان ذلك قرينة قطعية محيطة بالكلام موجبة لانصرافه في النص و الفتاوي لما ذكرنا.

و أما النصوص المتضمنة للغسل فلا ريب في حملها علي كونه لمجرد غلبة

ص: 69

______________________________

الماء علي البول الحاصل بالصب، إذ لا إشكال في كفاية الصب، و هو يتحقق بالقطرة، و لو لأجل هذا الحديث، لحكومته علي نصوص الصب، لوروده في تحديد موضوعها، و هو الماء المصبوب.

و يندفع الثالث بأن الخبر الآخر لما كان ضعيفا بالإرسال، معرضا عنه عند الأصحاب لم ينهض بمعارضة الصحيح المذكور.

و مثله مرسل الكليني، بل لا يبعد اتحاده معه.

و احتمال اتحاد حديثي صالح الراجع إلي اضطرابه متنا و سندا. لا قرينة عليه، بل هو بعيد بلحاظ شدة اختلاف المتنين.

فلا يبعد الجمع بينهما بحمل المرسل علي تحديد الماء الذي يتحقق به الغسل، لا الذي يتوقف عليه التطهير، فلا ينافي وجوب المثلين لتعدد الغسل المطهر، كما هو مقتضي الصحيح و نصوص التعدد. و هو أولي من غير واحد من وجوه الجمع المذكورة في كلماتهم. فراجع.

و بالجملة: لا مجال للاعراض عن الحديث المذكور بعد اعتبار سنده، و اعتماد الأصحاب عليه، و ظهور المراد منه و لو بضميمة فهمهم.

و الظاهر أن ما ذكر فيه من الحد هو أقل ما يمكن معه تحقق الصب مرتين.

و لو فرض إمكان تحققه بدونه لم يجز الاقتصار عليه، لقوة ظهوره في تحديد أقل ما يجزي من الماء. كما أنه لو فرض انصراف الصب في نصوصه إلي ما زاد علي ذلك لزم رفع اليد عنه بالحديث المذكور، لحكومته عليه.

بقي في المقام أمور.

الأول: حيث كان دليل الاكتفاء بالمثلين هو صحيح نشيط المختص بما علي الحشفة فقد يدعي لزوم الاقتصار علي مورده و عدم التعدي منه إلي مثل استنجاء المرأة.

لكن الظاهر إلغاء الخصوصية المذكورة لو أمكن وصول المثل حين صبه إلي تمام السطح المتنجس حين المتبول، لعدم دخلها ارتكازا.

و لا سيما بعد عموم السؤال، فكأن ذكر الحشفة لأن الذي يستلزمه البول

ص: 70

______________________________

من بللها أقل من بلل غيرها، و المقصود في الجواب بيان أقل ما يجزي من الماء.

بل قد يقال بتعميم الحكم لمطلق التطهير من البول بالاكتفاء بمثلي ما علي الموضع النجس، لا لإلغاء خصوصية الاستنجاء في الصحيح، لإمكان اختصاصه بنحو من التخفيف، لكثرة الابتلاء به، بل لصدق الصب بذلك، فيدخل في الإطلاقات المتقدمة، و يؤيد بإطلاق المرسلة الاولي، و التعميم في الثانية لغير ما علي الحشفة.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لقرب انصراف الصب في الإطلاقات إلي ما يزيد علي ذلك و له نحو غلبة علي النجاسة، و ضعف المرسلتين.

و منه يظهر الإشكال في الاكتفاء بذلك في تطهير مخرج البول غير الطبيعي، لتصور الصحيح عنه، لعدم وضوح صدق الاستنجاء عليه، خصوصا بناء علي ما تقدم من قرب كون إطلاق الاستنجاء علي التطهير من البول للتغليب، لأن الظاهر اختصاص التغليب بالمخرج الطبيعي.

و مثله في ذلك ما إذا تعدي عن المخرج الطبيعي، نظير ما يأتي في الغائط.

الثاني: أن ظاهر أدلة اعتبار التعدد هو التعدد الحقيقي الموقوف علي الفصل، لا ما يعم التقديري الحاصل باستمرار الصب، بل يبعد الحمل عليه بلحاظ غلبة استمرار الصب في المرة الواحدة و ندرة الاقتصار علي ما يحقق المسمي المستلزم لغلبة الاكتفاء بالصبة الواحدة، و هو مما تأباه النصوص جدا.

و لو فرض الاكتفاء به اتجه الاكتفاء به في المقام حتي في صب المثلين لو فرض تحقق الاستمرار في صبهما بنحو لا يعد صبهما دفعيا عرفا.

و لعل ما عن الذكري من اعتباره الفصل بين المثلين في المقام مع اكتفائه بالتعدد التقديري مبني علي ما هو الغالب من كون صبهما دفعيا لا استمرار له عرفا، نظير إلقاء القطرة الكبيرة.

و كأنه إلي ذلك نظر في جامع المقاصد، حيث قال: «و ما اعتبره في الذكري

ص: 71

______________________________

من اشتراط تخلل الفصل بين المثلين ليتحقق تعدد الغسل حق، لا لأن التعدد لا يتحقق إلا بذلك، بل لأن التعدد المطلوب بالمثلين لا يوجد بدون ذلك، لأن ورود المثلين دفعة واحدة غسلة واحدة. و لو غسل بأكثر من المثلين بحيث تتراخي أجزاء الغسل بعضها عن بعض في الزمان لم يشترط الفصل قطعا».

الثالث: حيث كان التعدد مستفادا من الإطلاقات لزم الاكتفاء بالمرة في الرضيع الذي لم يتغذ بالطعام، بناء علي تقييد الإطلاقات المذكورة فيه علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي. و الظاهر لزوم المثلين فيها، عملا بإطلاق صحيح نشيط.

و دعوي: الاكتفاء بالمثل لأنه إذا كان مقتضي الجمع بينه و بين الإطلاقات لزوم كون كل غسل بمثل، فمع فرض الاكتفاء فيه بالغسلة الواحدة يتعين الاكتفاء فيها بالمثل.

مدفوعة: بأن تقسيم المثلين و الاكتفاء في كل غسلة بمثل إنما استفيد بضميمة دليل التعدد، فمع فرض عدم وجوب التعدد و سقوط دليله في مورد لا طريق لاستفادة الاكتفاء بالغسلة الواحدة بالمثل الواحد، بل يلزم العمل بإطلاق الصحيح الملزم بالمثلين.

نعم، لو كان الاكتفاء بالمثل في المرة مقتضي المرسلتين أو إطلاق دليل الصب لدعوي صدقه به، لم يبعد عرفا حمل الصحيح علي خصوص صورة وجوب التعدد و الرجوع في غيرها إلي إطلاق الدليل المذكور.

لكن المرسلتين غير حجة، و الإطلاق قد عرفت الاشكال فيه.

الرابع: الظاهر أن الأغلف يكتفي بغسل الظاهر، و لا يجب عليه كشف الحشفة و إن أمكنه ذلك- كما هو المحكي عن العلامة و الشهيدين- لأنها من الباطن، و مجرد إمكان كشفها لا يجعلها من الظاهر، كإخراج اللسان من الفم، خلافا ما في المعتبر و عن الدلائل و مجمع الفوائد. بل لازمهم البناء علي وجوب غسل باطن الغلفة.

نعم، لو لم تكن الغلفة مرتتقة، بل متفرجة تظهر الحشفة بنفسها من تحتها

ص: 72

و أما موضع الغائط (1) فإن تعدي المخرج تعين غسله بالماء (2)،

______________________________

كانت من الظاهر و وجب إيصال الماء إليها.

الخامس: صرح بعضهم باستحباب تثليث الغسل في الاستنجاء من البول.

لصحيح زرارة: «كان يستنجي من البول ثلاث مرات و من الغائط بالمدر و الخرق» «1» فان ظهوره في الاستمرار دليل علي الاستحباب، من دون فرق بين كون الحاكي هو زرارة و الضمير راجع إلي أبي جعفر عليه السّلام، و كونه هو الامام عليه السّلام و الضمير راجع إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله. فلاحظ.

(1) الكلام في وجوب الاستنجاء من الغائط مقدمة للصلاة أو الوضوء كالكلام المتقدم في الاستنجاء من البول، لاشتراكهما في الأدلة و الأقوال إلا أن الصدوق في الفقيه لم يتعرض لذلك هنا، و انما صرح بخلاف المشهور في المقنع فقط. و تقدم بعض النصوص الشاملة له. فراجع.

هذا و لا ينبغي الإشكال في اختصاص وجوب الاستنجاء منه الوضعي و التكليفي بما إذا تنجس به الظاهر، لملاقاته له برطوبة.

لقصور الأدلة عن غيره. و لا سيما بملاحظة ما في صحيح زرارة المتقدم في أول الفصل من تفريعه علي قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلا بطهور»، و ما تقدم قريبا في صحيح ابن المغيرة من أن حده الإنقاء.

و احتمال وجوبه تعبدا، و لو مع عدم التنجس، أو حصول التنجس بخروجه و لو مع عدم الملاقاة برطوبة، بعيد مخالف للأدلة و الأصول.

(2) و هو مذهب أهل العلم، كما في المعتبر، و بالإجماع، كما في الغنية و كشف اللثام و عن التذكرة و الذكري و الروض و المفاتيح، و في الانتصار أنه لا خلاف فيه.

و ظاهره كالمعتبر عدم الخلاف فيه بين المسلمين.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

ص: 73

______________________________

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك- ما أرسله في المعتبر عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

«يكفي أحدكم ثلاثة أحجار إذا لم يتجاوز محل العادة» «1» و نحوه ما عن عوالي اللئالي عن فخر المحققين عن أبي جعفر عليه السّلام «2».

لكن ضعف السند مانع من الاستدلال بهما.

و انجبارهما بالعمل غير ظاهر، بعد عدم ذكرها في الكتب المشهورة في الفقه و الحديث، و قرب اعتمادهم علي ما يأتي من خروجه عن إطلاقات الاستنجاء.

و مثلهما ما في المعتبر من رواية الجمهور عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «كنتم تبعرون بعرا و أنتم اليوم تثلطون ثلطا فاتبعوا الماء الأحجار» «3» و أرسله أيضا في محكي عوالي اللئالي عن فخر المحققين عنه عليه السّلام «4». مع أن ظاهره كون المنشأ لين البطن و رطوبة الغائط لا تعدّيه، فيحمل علي الاستحباب.

و لا سيما بعد تضمنه اتباع الأحجار بالماء، لا تعين الماء، فهو مساوق لما ورد في قصة تشريع استحباب الاستنجاء من الغائط بالماء «5» من أن رجلا فعله، فبعث إليه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فسأله، فقال: «ما حملني علي الاستنجاء بالماء إلا أني أكلت طعاما فلان بطني فلم تغن عني الحجارة شيئا فاستنجيت بالماء.»

فبشره صلّي اللّه عليه و آله بنزول قوله تعالي إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «6».

و كذا الاستدلال بصحيح مسعدة بن زياد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام عنه صلّي اللّه عليه و آله أنه قال لبعض نسائه: «مري نساء المؤمنين أن يستنجين بالماء و يبالغن، فإنه مطهرة للحواشي و مذهبة للبواسير» «7».

______________________________

(1) المعتبر، ص: 33.

(2) مستدرك الوسائل باب: 25 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

(3) المعتبر، ص: 33.

(4) مستدرك الوسائل باب: 25 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

(5) الوسائل باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(6) البقرة: 222.

(7) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

ص: 74

______________________________

فإنه ظاهر في الاستحباب، بقرينة الأمر بالمبالغة و التعليل بذهاب البواسير، و لا سيما مع اختصاصه بالمرأة التي هي أحري بالتنظيف- لأنها ريحانة الرجل و لعبته- و عدم التقييد فيه بصورة التعدي.

و مجرد التعليل فيه بأنه مطهرة للحواشي لا يكون قرينة علي التقييد المذكور، إذ لا يجب الماء بمجرد إصابة الحواشي، بل بالتعدي عنها مطلقا أو بالخروج عن المعتاد، علي ما يأتي. فلاحظ.

هذا، و قد عبر في الغنية و المراسم و الشرائع و المعتبر بتعدي الغائط عن المخرج، و في مفتاح الكرامة أنه قد صرح به الجم الغفير، بل هو معقد إجماع المعتبر و محكي التذكرة و الذكري، الذي نفي عنه الخلاف في الاستبصار.

و في المدارك: «ينبغي أن يراد بالتعدي وصول النجاسة إلي محل لا يعتاد وصولها إليه، و لا يصدق علي إزالتها اسم الاستنجاء» و نحوه عن الدلائل.

و عن مجمع البرهان: أنه يمكن القول باعتبار التعدي عن الموضع المعتاد لو لا دعوي الإجماع من التذكرة علي أن المتعدي هو ما يتعدي عن المخرج في الجملة و لو لم يصل إلي الحد المذكور.

لكن ادعي في الجواهر أن مراد الجميع عدم التعدي عن الموضع المعتاد، و أقام علي ذلك جملة قرائن، كعدم تحديد رؤساء الأصحاب للتعدي الملزم بحمله علي ذلك، و ذكرهم له في قبال ما نقلوه عن الشافعي من الاجتزاء بالأحجار إذا وصل الي باطن الأليتين، و استدلال المحقق في المعتبر بالحديث المتقدم المتضمن لاشتراط عدم تجاور محل العادة، و استدلال العلامة في المنتهي علي تعين الماء مع التعدي بأنه إنما شرع الاستجمار لأجل المشقة الحاصلة من تكرر الغسل مع تكرر النجاسة، أما ما لا يتكثر فيه حصول النجاسة- كالساق و الفخذ- فلا يجزي فيه إلا الغسل.

قال في الجواهر: «بل كيف يسوغ لأحد أن يحمل كلامهم علي ارادة مطلق التعدي مع أنه لازم لخروج الغائط في الغالب، مع أن الاستجمار بالأحجار كان هو المتعارف في ذلك الزمان، بل يظهر من الروايات أنه لم يعرف غيره حتي نزل قوله

ص: 75

______________________________

تعالي إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ في الرجل الذي أكل طعاما فلان بطنه، فاستنجي بالماء».

و ما ذكره قدّس سرّه متين جدا و لا سيما مع تعبير بعضهم بانتشار الغائط عن المخرج الظاهر في كثرته، و تعبير آخرين بالتعدي عن حواشي المخرج أو الدبر، كما في المسالك و الروضة و كشف اللثام و عن الروض، مع ما تقدم من الأخيرين من دعوي الإجماع علي الحكم، إذ لا يبعد اختصاص المعتاد بذلك، لأنه هو الذي يستلزمه التخلي في حال لين البطن مع الجلوس له بالوضع المتعارف.

نعم، ظاهر بعض كلماتهم خلاف ذلك، كقوله في الانتصار في الفرق بين البول و الغائط: «الغائط قد لا يتعدي المخرج إذا كان يابسا، و يتعداه إذا كان بخلاف هذه الصفة، و لا خلاف في أن الغائط متي تعدي المخرج فلا بد من غسله بالماء، و البول- لأنه مائع جار- لا بد من تعديه المخرج».

و ما عن التذكرة: «و يشترط في الاستنجاء بالأحجار أمور. منها: عدم التعدي، فلو تعدي المخرج وجب الماء، و هو أحد قولي الشافعي. و في الآخر: لا يشترط، لأن الخروج لا ينفك منه غالبا، و اشترط عدم الزيادة عن القدر المعتاد، و هو أن يتلوث المخرج و ما حواليه. و إن زاد عليه و لم يتجاوز الغائط صفحتي الأليتين فقولان».

لكن الإنصاف أن ذلك لا ينهض بالخروج عن مقتضي القرائن المتقدمة.

و لا سيما مع ظهور ما في الانتصار في تعين الماء بمجرد تعدي الغائط اللازم من عدم يبوسته، و اضطراب ما في التذكرة في نقل قول الشافعي، لمخالفته لما نقله في موضع آخر منها و في غيرها.

و لا أقل من اضطراب كلماتهم و عدم تحصيل تسالم منهم صالح للاستدلال في المقام، فيلزم النظر في أدلة المسألة.

و قد عرفت ضعف الاستدلال بالنصوص المتقدمة. مع أن عمدتها الأول الظاهر في لزوم التجاوز عن المحل المعتاد.

فلم يبق إلا إطلاقات الاستنجاء بالأحجار التي يصعب تنزيلها علي صورة

ص: 76

______________________________

عدم التعدي أصلا، مع غلبة تحقيقه، خصوصا ما ورد منها عن الأئمة عليهم السّلام الذين شهدوا عصر الرخاء و لين المأكل، المستلزم للين البطن.

فاللازم الاقتصار في تعيين الماء علي صورة خروج التلوث عما يقتضيه عادة بنحو لا يصدق معه الاستنجاء بالإضافة إلي الزائد، فتقصر عنه الإطلاقات، كما تقدم في كلام من عرفت. و هذا هو عمدة الدليل في المسألة.

و أما ما يظهر من الجواهر من أن الخروج عن المحل المعتاد لا ينافي صدق الاستنجاء، و لذا احتاج إلي الاستدلال بانصراف الإطلاقات و إن كانت شاملة لفظا، و بالإجماع المنقول علي وجوب الغسل بالماء حينئذ.

فهو غير ظاهر، لأن المتيقن من الاستنجاء هو إزالة الغائط الذي يستلزمه التخلي عادة، لا ما يتعدي الموضع لطارئ خارج.

نعم، لا يبعد ظهور بعض كلماتهم التي أشار إليها قدّس سرّه في صدق الاستنجاء في بعض موارد التعدي التي يجب فيها الماء عندهم.

لكن من القريب ابتناؤه علي صدق الاستنجاء بالإضافة إلي خصوص ما يكون علي الموضع العادي مع الغفلة عن عدم صدقه بالإضافة إلي الزائد إلا تغليبا.

و أما الانصراف علي تقدير صدق الاستنجاء فغير ظاهر الوجه بعد ما تكرر من أن الانصراف للغالب بدوي.

كما أن المتيقن من الإجماع صورة عدم صدقه.

ثمَّ إن التعدي عن الموضع المعتاد.

تارة: يكون مع انفصال المتعدي علي المخرج.

و اخري: يكون مع اتصاله به.

أما في الأول فلا إشكال في الاجتزاء بالأحجار في تطهير المخرج، لظهور صدق الاستنجاء عليه.

و كذا في الثاني، كما استقربه في الجواهر، لأن عدم صدق الاستنجاء بالإضافة إلي المتعدي لا ينافي صدقه بالإضافة إلي غيره. و يظهر الأثر في لزوم

ص: 77

كغيره من المتنجسات. و إذا لم يتعد المخرج تخير بين غسله بالماء (1) حتي ينقي (2)

______________________________

التمسح بالأحجار عند تعذر الماء، تقليلا للنجاسة. لكن في الجواهر أن ظاهر عباراتهم تعين الماء في الكل. و كأنه لإطلاقهم عدم الاجتزاء بالأحجار مع التعدي.

و إن لم يبعد كون منشئه الغفلة عن فرض التفكيك في العمل كي ينظر في حكمه.

ثمَّ إنه كما يتعين الماء مع التعدي عن المخرج يتعين مع مصاحبة الغائط لنجاسة خارجية من دم أو قيح أو نحوهما، و كذا مع اصابة الموضع بنجاسة من الخارج، لخروجهما عن الاستنجاء، كما يأتي نظيره في ماء الاستنجاء. و لعل إهمالهم له لوضوحه. و يأتي منهم ما يناسبه عند الكلام في اعتبار طهارة الأحجار.

(1) حيث لا إشكال في إجزائه، بل لم ينقل في المعتبر الخلاف فيه إلا عن سعد بن أبي وقاص و ابن الزبير. و النصوص به متظافرة، مثل ما دل علي استحبابه «1»، و علي كفاية غسل ظاهر المقعدة «2»، و علي الاكتفاء بغسل المخرج الذي يخرج منه الحدث دون الآخر «3»، و غير ذلك مما هو كثير.

بل هو مقتضي عموم مطهرية الماء الذي يأتي في مبحث المطهرات.

و إطلاق صحيح يونس بن يعقوب الآتي، من دون أن يكون هناك ما يوهم عدم إجزائه، لظهور أدلة التمسح في إجزائه لا تعينه. و لو فرض لها ظهور بدوي في تعينه لزم رفع اليد عنه بما ذكرنا.

(2) من دون تقيد بعدد.

و يقتضيه- بعد عموم الاكتفاء بذلك في التطهير، علي ما يأتي الكلام فيه في

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة.

(2) راجع الوسائل باب: 29، 37 من أبواب أحكام الخلوة.

(3) راجع الوسائل باب: 28 من أبواب أحكام الخلوة.

ص: 78

و مسحه (1)

______________________________

مبحث المطهرات- صحيح عبد اللّه بن المغيرة عن أبي الحسن عليه السّلام: «قلت له:

للاستنجاء حد؟ قال: لا، ينقي ما ثمة.» «1» و إطلاق صحيح يونس بن يعقوب:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الوضوء الذي افترضه اللّه علي العباد لمن جاء من الغائط أو بال. قال: يغسل ذكره و يذهب الغائط.» «2». و يأتي في المسألة الثامنة إن شاء اللّه تعالي الكلام في حد النقاء.

(1) فإنه يجزي و لا يجب الماء بلا إشكال ظاهر، بل هو المنقول عليه الإجماع في الخلاف و الغنية و المعتبر و المدارك و ظاهر الانتصار و عن غيرها، و عن المنتهي نسبته إلي أهل العلم إلا من شذ كعطاء. و في الجواهر: «إجماعا محصلا و منقولا مستفيضا، بل كاد يكون متواترا، و سنة كذلك».

و يقتضيه- مضافا إلي صحيح يونس المتقدم، فان العدول فيه عن الغسل إلي إذهاب الغائط كالصريح في عدم وجوب الغسل- كثير من النصوص، كصحيح زرارة المتقدم، في أول الفصل و صحيح بريد عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنه قال: يجزي من الغائط المسح بالأحجار، و لا يجزي من البول إلا الماء» «3». و ما يأتي في عدد الأحجار و في جواز التمسح بغير الحجر، بل يظهر مما ورد فيما يحرم الاستنجاء به «4» المفروغية عنه.

نعم، في موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل ينسي أن يغسل دبره بالماء حتي صلي، إلا أنه قد تمسح بثلاثة أحجار. قال: إن كان في وقت تلك الصلاة فليعد الصلاة و ليعد الوضوء، و إن كان قد مضي وقت تلك الصلاة التي صلي فقد جازت صلاته، و ليتوضأ لما يستقبل من الصلاة» «5». و قد ذكر مضمونه في المقنع.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

(4) راجع الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الخلوة.

(5) الوسائل باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 79

بالأحجار (1) أو الخرق أو نحوهما من الأجسام القالعة للنجاسة (2).

______________________________

لكن لا مجال للخروج به عما تقدم.

و دعوي: حمله علي صورة التمكن من الماء و حمل ما تقدم علي صورة تعذره جمعا بينهما بقرينة النبوي: «إذا استنجي أحدكم فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء» «1».

مدفوعة: بتعذر حمل ما تقدم علي صورة تعذر الماء بعد كثرة تلك النصوص و قلة الابتلاء بتعذره.

و لا سيما مع المقابلة في بعضها بين الغائط و البول و الإلزام بالماء في البول، و تضمن بعضها سيرة بعض المعصومين عليهم السّلام «2» حيث يبعد ابتلاؤهم بتعذر الماء، فضلا عن شيوعه في حقهم.

و النبوي- مع ضعف سنده- ظاهر في أن المعلق علي عدم الماء هو الأمر بالوتر، لا استعمال الحجر، فكأن المراد به أن الأمر بالوتر يختص بالأحجار.

فالمتعين طرح الموثق، لهجره عند الأصحاب، أو حمله علي الاستحباب- كما في التهذيب- و هو الأنسب بذكر مضمونه في المقنع، و إن كان بعيدا في نفسه، لظهور الموثق في أهمية الحكم بالنحو الذي يستوجب إعادة الصلاة، و هو لا يناسب نصوص التمسح، و لا سيما ما تضمن منها سيرة بعض المعصومين عليهم السّلام عليه. و ليس مفاد الموثق مجرد الأمر باستعمال الماء، كي لا ينافي ذلك. فلاحظ.

(1) و هو المتيقن من التمسح نصا و فتوي، لتظافر النصوص به و تطابقهم عليه.

(2) كما صرح به جماعة، و عن غير واحد دعوي الشهرة عليه، و عن

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1. و باب: 35 منها حديث: 2، 3.

ص: 80

______________________________

المنتهي انه قول أكثر أهل العلم، و في مفتاح الكرامة: «صرح بذلك جمهور الأصحاب».

بل في الخلاف و الغنية دعوي الإجماع عليه. و لعل اقتصار بعضهم علي ذكر الأحجار لأنها أظهر أفراد الماسح لا للمنع عن غيرها.

بل هو المتعين من مثل المحقق في الشرائع، حيث منع من استعمال العظم و الروث و نحوهما مع عدم دخولها في الأحجار، فإن ذلك منه كاشف عن مفروغيته عن العموم، بل دعواهم الإجماع علي المنع عن ذلك ظاهر في مفروغيته الأصحاب عن العموم المذكور.

و قد استدل عليه في المستند و الجواهر بإطلاق صحيحي ابن المغيرة و يونس المتقدمين.

لكن لا يبعد ورود إطلاق صحيح ابن المغيرة لبيان عدم الحد في نفس الاستنجاء بما هو معني مصدري و فعل للمكلف، فيكفي منه ما أوجب النقاء دون ما زاد علي ذلك من العدد و نحوه، لا بالإضافة إلي آلة الاستنجاء أو زمانه أو مكانه مما هو خارج عن فعل المكلف، و إن كان متعلقا له، كما يناسبه السؤال عن وجوب إزالة الريح. و لذا لم نستدل به علي كفاية التمسح.

نعم، الظاهر تمامية إطلاق صحيح يونس المعتضد بصحيح زرارة: «قال: كان يستنجي من البول ثلاث مرات، و من الغائط بالمدر و الخرق» «1» و صحيحه الآخر:

«سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: كان الحسين عليه السّلام يتمسح من الغائط بالكرسف و لا يغتسل» «2» لظهور عدم الفصل عندهم بين الكرسف و غيره كالخشب و الجلد و غيرهما مما يزيل النجاسة و ليس بحجر.

بل في خبر ليث- المنجبر بعمل الأصحاب- عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود. قال: أما العظم و الروث فطعام الجن، و ذلك مما اشترطوا علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، فقال: لا يصلح بشي ء من ذلك» «3».

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 81

______________________________

فان ظاهره المفروغية عن صلوح الأمور المذكورة للاستنجاء في نفسها لو لا اشتراط الجن في العظم و الروث المقتضي للحرمة التكليفية فيهما لا غير، و من الظاهر فهم عدم الخصوصية للأمور المذكورة عرفا، و أن المعيار علي كل ما يذهب الغائط.

و من ذلك يظهر ضعف ما في المراسم من أنه لا يجزي إلا ما كان أصله الأرض، سواء أريد به ما كان منها ثمَّ تغير بالحرق و نحوه كالخزف، أم يعم ما كان نابتا فيها، كما فسره به الشهيد في محكي البيان و النفلية.

و مثله ما عن الإسكافي، حيث قال: «فإن لم يحضر الأحجار تمسح بالكرسف أو ما قام مقامه، و لا أختار الاستطابة بالآجر أو الخزف إلا إذا ألبسا طينا أو ترابا يابسا» و عن صاحب المعالم في اثني عشريته موافقته، بناء علي إرادتهما المفهوم من الشرطية، فإن ذلك مخالف للإطلاقات المتقدمة الشاملة للخرق و الكرسف من الصوف، و لصورة تيسر الأحجار بلا إشكال.

ثمَّ إنه صرح في العروة الوثقي بالاكتفاء بكل قالع حتي أصابع المتخلي نفسه، و في الجواهر أنه مقتضي الأخذ بظاهر عباراتهم. و إن تنظّر فيه هو و غير واحد ممن تأخر عنه، منهم سيدنا المصنف قدّس سرّه.

لكن لا ينبغي الإشكال في انصراف كلماتهم عنه و إن كان مقتضي إطلاقها.

كما أنه لا مجال للتعدي إليه بعدم الفصل أو بفهم عدم الخصوصية من النصوص المتقدمة في الكرسف و نحوه.

نعم، هو مقتضي إطلاق صحيح يونس. و ما ذكره بعض مشايخنا من أنه بصدد بيان ما يعتبر في الوضوء و مقدماته، و طهارة الأصابع أولي بالاشتراط، فكيف يراد به ما يعم الاستنجاء بالأصابع و لا ينبه فيه إلي تطهيرها.

مندفع: بأن اشتراط طهارة أعضاء الوضوء لا ينافي جواز الاستنجاء بها ثمَّ تطهيرها، كما لو تنجست بسبب الاستنجاء بالخرق و نحوها.

و عدم التنبيه علي تطهيرها حينئذ لعله لوضوح وجوبه أو لعدم فرض الاستنجاء بها الموجب لتنجسها و إن كان جائزا بمقتضي الإطلاق، بخلاف أصل

ص: 82

و الماء أفضل (1)، و الجمع أكمل (2).

______________________________

تطهير موضع الغائط و البول، فان المفروض نجاستهما، و ربما توهم عدم وجوبه و صحة الصلاة بدونه، كما ينسب لبعض العامة.

فالظاهر تمامية إطلاق الصحيح المذكور. و إن كان في العمل به في ذلك، بل في مطلق جسد الإنسان- و إن كان غير المتخلي- إشكال.

(1) إجماعا، كما في الغنية و كشف اللثام. و عن المنتهي نسبته إلي أهل العلم.

و تقتضيه النصوص الكثيرة منها صحيح مسعدة بن زياد المتقدم في وجوب الاستنجاء بالماء مع التعدي. و صحيح جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في قول اللّه عز و جل إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ قال: كان الناس يستنجون بالكرسف و الأحجار، ثمَّ أحدث الوضوء، و هو خلق كريم، فأمر به رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و صنعه، فأنزل اللّه في كتابه إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» «1».

و مثله كثير مما ورد في بيان نزول الآية و غيره.

و لا ينافي ذلك ما تضمن سيرة بعض المعصومين عليهم السّلام علي الاستنجاء بالأحجار، فإنه لا يدل علي التزامهم عليهم السّلام بترك الماء، بل تكرر الاكتفاء منهم بالتمسح، و هو لا ينافي استحباب الماء، إذ لا مانع من تكرر تركهم لبعض المستحبات، و لو لعدم سهولتها.

نعم، مداومتهم علي ترك المستحب مع تيسره بعيد عن شأنهم عليهم السّلام.

(2) كما في الشرائع. و لعله إليه يرجع ما في كلام غير واحد من أن الجمع أفضل. بل ادعي عليه الإجماع في الغنية و ظاهر الخلاف و المعتبر، و عن المنتهي نسبته إلي أكثر أهل العلم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

ص: 83

______________________________

و يقتضيه مرفوع أحمد بن محمد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار، و يتبع بالماء» «1». و المرسل عن أمير المؤمنين عليه السّلام المتقدم في المتعدي عن الموضع المعتاد.

مضافا إلي ما قيل من الاستظهار باستعمال المطهرين. و حفظ اليد عن الاستقذار و بقاء الرائحة.

لكنه- كما تري- لا يصلح للتأييد، فضلا عن الاستدلال.

و أما المرسل فهو لا يقتضي إلا استحباب إتباع الماء في ظرف استعمال الأحجار، و هو لا يقتضي استحباب الأحجار التي يتوقف عليها الاتباع- الراجع إلي الجمع- لأن المشروط لا يقتضي حفظ شرطه، فهو لا يدل إلا علي عدم سقوط استحباب الماء باستعمال الأحجار، نظير عدم سقوط استحباب الجماعة بالانفراد.

فالعمدة المرفوع الذي يظهر من غير واحد الاستدلال به، و منه يظهر أن المستحب هو تقديم التمسح، كما نبه له غير واحد، و لعله منصرف إطلاق الآخرين، بقرينة أكثر استدلالاتهم.

كما ظهر لزوم كون التمسح بالنحو الذي يترتب عليه التطهير شرعا، لأنه المنصرف من إطلاق الأحجار في المرفوع و كلماتهم.

و ما في الروضة من الاكتفاء بالحجر الذي يزيل العين لتحقق الغرض، موقوف علي كون منشأ استحباب الجمع حفظ اليد عن الاستقذار و بقاء الرائحة.

و قد عرفت ضعفه.

ثمَّ إنه قال في الوسيلة في تعداد المستحبات: «و الجمع بين الحجارة و الماء في الاستنجاء، و تقديم الحجر علي الماء، أو الاقتصار علي الماء».

و قد يظهر منه عدم أفضلية الجمع من الاقتصار علي الماء، نظير ما تقدم في مفاد المرسل.

و هو خلاف ظاهر المرفوع. إلا أن يحمل علي كون صدره لبيان السنة في

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

ص: 84

مسألة 5 الأحوط وجوبا اعتبار المسح بثلاثة أحجار

(مسألة 5): الأحوط وجوبا اعتبار المسح بثلاثة أحجار (1) أو نحوها إذا حصل النقاء بالأقل.

______________________________

الاستنجاء بالأحجار و كون إتباع الماء الذي تضمنه الذيل أمرا مستقلا خارجا عن السنة التي تضمنها الصدر، فيجري فيه ما تقدم في المرسل.

لكنه لا يخلو عن إشكال، و لعل الأظهر كون الذيل تتمة لبيان السنة، كما فهمه الأصحاب. فلاحظ.

هذا، و قد اقتصر في القواعد علي ذكر الجمع في المتعدي عن المخرج.

و عممه إليه في الروضة، و نسبه في المدارك و الجواهر إلي المعتبر، و إن لم أعثر فيه علي ذلك إلا في غير المتعدي.

و كيف كان، فقد يستدل عليه بالمرسل، الشامل أو المختص بالتعدي.

و بإطلاق المرفوع. و حفظ اليد عن الاستقذار و بقاء الرائحة.

لكن تقدم الإشكال في ظهور المرسل في استحباب الجمع.

و إطلاق المرفوع موقوف علي شمول الاستنجاء للمتعدي، و قد تقدم المنع عنه.

كما تقدم عدم نهوض الوجه الأخير بالاستدلال.

نعم، لو أريد استحباب الجمع بالإضافة إلي خصوص الموضع المعتاد اتجه دخوله في إطلاق المرفوع، لصدق الاستنجاء بالإضافة إليه، كما تقدم.

(1) كما في الشرائع و النافع و المعتبر، و القواعد و جامع المقاصد، و ظاهر المراسم و إشارة السبق و اللمعتين. و عن المنتهي و التحرير و الإرشاد و الذكري و الدروس و البيان و الموجز و الاثني عشرية و شرحيهما و الدلائل و غيرها و ظاهر المقنعة و الكافي.

و في المدارك و عن الذخيرة و الكفاية و غيرها أنه المشهور.

بل قد يستظهر من المعتبر الإجماع عليه، حيث لم ينقل الخلاف إلا عن مالك و داود.

ص: 85

______________________________

هذا، و قد عبر غير واحد من القدماء عن التثليث بالسنة أو المسنون، كالشيخ في النهاية و الخلاف و ابني حمزة و زهرة في الوسيلة و الغنية، و عن السيد و الشيخ في جميلهما و ابني البراج و إدريس في المهذب و السرائر، بل في الغنية دعوي الإجماع علي ذلك. و في محكي المبسوط: انه إن نقي بدون الثلاثة استعمل الثلاثة عبادة.

لكن صرح في محكي السرائر بوجوب إكمال الثلاثة لو نقي المحل بدونه، و هو ظاهر الخلاف، لاستدلاله عليه بالأمر به في بعض النصوص، ثمَّ قال: «و ظاهره الوجوب، إلا أن يقوم دليل».

إلا أن يحمل الوجوب في كلامه علي ما يعم الاستحباب- في قبال احتمال كون الأمر بالثلاثة لغلبة حصول النقاء بها- كما يناسبه ما ذكره في صدر كلامه من أن حد الاستنجاء النقاء، سواء كان بالأحجار أم بالماء، فان الوجوب تعبدا لا من جهة الاستنجاء بعيد جدا.

كما أنه لا إشكال في ظهور كلام غيره ممن تقدم في الاستحباب، بل هو كالصريح من الوسيلة، حيث قال: «فان زالت النجاسة بواحد استعمل تمام الثلاثة سنة، و إن لم تزل بثلاثة استعمل حتي تزول فرضا». و إلي ذلك ذهب في المدارك، و قال في مفتاح الكرامة: «و قد حكم بعدم لزوم الإكمال أيضا في الاقتصار، و نقل ذلك عن الجامع و مصباح الشيخ و. نسبه في السرائر إلي المفيد، و كذا في المفاتيح نسبه إلي الشيخين، و لم أجد له في المقنعة نصا، و لعله ذكره في غيرها.

و مال إليه في. المجمع و الكفاية و المفاتيح، و ربما لاح من التذكرة الميل إليه».

و نسبه في الجواهر إلي محكي المختلف.

و قد يستفاد من إطلاق الصدوق في الفقيه إجزاء الاستنجاء بالحجارة و نحوها من دون تنصيص علي العدد، و نحوه عن النزهة.

هذا كله في أقوال الأصحاب في المقام.

و أما مقتضي الأدلة فتوضيحه: أن مقتضي الاستصحاب هو لزوم التثليث، بناء علي ما هو الظاهر من جريان استصحاب النجاسة في الشبهات الحكمية، كما

ص: 86

______________________________

أشرنا إليه غير مرة، و أطلنا الكلام فيه في مبحث تتميم الماء المتنجس كرا.

و عليه يقع الكلام.

أولا: في وجود إطلاق صالح للخروج عن الأصل المذكور يقتضي الاكتفاء بزوال العين.

و ثانيا: في وجود مقيد للإطلاق المذكور- لو فرض تماميته- ملزم بالتثليث.

أما الأول فقد استدل عليه ببعض النصوص.

الأول: صحيح عبد اللّه بن المغيرة «1» المتقدم في الاستنجاء بالماء، المتضمن أنه لأحد للاستنجاء الا النقاء، لظهور عموم الاستنجاء للاستجمار.

لكن استظهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه اختصاصه بالاستنجاء بالماء، و ما يتحصل منه في وجه ذلك: أن المراد بالنقاء إن كان هو زوال العين اختص بالاستنجاء بالأحجار، و إن كان هو زوالها مع الأثر اختص بالاستنجاء بالماء، و حيث لا جامع بينهما فالحديث إما مجمل، أو محمول علي الثاني، لأنه مقتضي إطلاق النقاء، لأن الأثر من أجزاء الغائط حقيقة.

و لأن إرادة الاستنجاء بالماء من الحديث متفق عليه. بل إرادة خصوص الاستجمار من لفظ الاستنجاء في غاية الندرة، و لا سيما مع غلبة وجود الماء، بل استعماله بعد زمن التابعين.

و لأن بقاء الريح بعد الاستجمار لا يعلم الا من جهة العلم ببقاء الأثر، و هو أولي بالسؤال من الريح، فتخصيص السؤال بالريح ظاهر في إرادة الاستنجاء بالماء الذي يمكن معه استكشاف بقاء الريح بشم اليد الملاقية لموضع الغائط ببلتها الناقلة له، بخلاف الاستجمار.

و يندفع: بأنه لا مانع من إرادة الجامع بين الأمرين، لعدم التفات العرف إلا إلي العين التي يجب إزالتها في الموردين. و ليس الأثر- في فرض الالتفات إليه- إلا كاللون من سنخ العرض المتخلف عنها عرفا، و إن كان جزءا منها دقة حقيقة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 87

______________________________

و وجوب إزالته في الماء، لأجل الإطلاقات المقامية بقرينة ورود الغسل ارتكازا مورد التنظيف الرافع للاستقذار المتوقف علي ارتفاع الأثر، الذي لا إشكال في عدم ارادته مع التمسح.

و لا سيما مع كون وصول الماء إليه موجبا لظهوره باللمس- لذوبانه و سعة حجمه- و شدة استقذاره.

و بالجملة: وجوب إزالته مع أحد المطهرين دون الآخر إنما هو لخصوصية في كل منهما من دون أن يقتضي اختلاف مفهوم الإنقاء فيهما، ليتعذر الإطلاق.

نعم، لو أضيف النقاء إلي نفس محل القذر كالثوب و البدن، كان ظاهرا في زوال الأثر، لأن المنصرف منه النظافة الرافعة للاستقذار التي أشرنا إلي توقفها علي زواله.

لكن لا مجال للحمل علي ذلك في المقام، لظهور الموصول في إرادة ما علي المحل من النجاسة الملزم بحمل الإنقاء علي إزالته، كما قد يناسبه مقابلة النقاء ببقاء الريح، و قد عرفت أن المنصرف من الإزالة إزالة العين.

علي أنه لو فرض ظهور الإنقاء في إزالة الأثر تعين رفع اليد عنه بقرينة إطلاق الاستنجاء في السؤال، و لا مجال لرفع اليد به عن الإطلاق المذكور، لإمكان اعتماد المجيب علي القرينة التي يتضمنها السؤال، و تعذر اعتماد السائل علي القرينة التي يتضمنها الجواب.

غاية الأمر أن يعتمد علي قرينة أخري تناسب الجواب. لكن الأصل عدمها.

نعم، لو كان ظهور الجواب مستحكما بنحو لا يقبل التنزيل علي ظهور السؤال كشف عن احتفاف السؤال بالقرينة المذكورة، أو عدم مطابقة الجواب له، و لا مجال لدعوي ذلك في المقام، فان تنزيل الإنقاء علي ازالة العين قريب في نفسه.

و بما ذكرنا يظهر سقوط كثير من الوجوه التي ذكرها لترجيح الحمل علي خصوص الاستنجاء بالماء، لأنها مبنية علي فرض تعذر الإطلاق، و لا تصلح لرفع اليد عنه لو فرض تماميته، لما أشير إليه غير مرة من عدم تقييد الإطلاق بالغلبة.

ص: 88

______________________________

علي أن غلبة استعمال الماء بعد زمن التابعين غير ظاهرة.

و أما عدم السؤال عن الأثر فلعل الوجه فيه ما أشرنا إليه من الغفلة عنه في قبال العين بخلاف الريح. بل من القريب جدا وضوح حكمه مع كلا المطهرين، فان تعذر إزالته بالتمسح المتعارف، و ارتكاز توقف تنظيف الماء علي ازالته مستلزم لوضوح وجوب إزالته في الثاني دون الأول، فيستغني معه عن السؤال عنه.

كما أنه لا تتوقف صحة السؤال عن الريح علي فرض العلم ببقائه ليشكل فرضه في الاستجمار، بل يكفي الشك فيه، لوجوب الاستظهار منه لو فرض وجوب إزالته و لو لاستصحاب النجاسة.

و بالجملة: ما ذكره قدّس سرّه لا يرجع إلي محصل ظاهر يمكن الخروج به عن ظهور الحديث في الإطلاق. بل لعل السؤال عن الريح موجب لقوة ظهوره في العموم للاستنجاء بالأحجار، لأن الغالب استناد بقاء الريح إلي بقاء الأثر اللازم معها، و إلا فبقاؤها مع الغسل الرافع له إنما يكون مع شدة نفوذها، و هو نادر، كما أشار إليه في الجواهر.

الثاني: صحيح يونس بن يعقوب: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الوضوء الذي افترضه اللّه علي العباد لمن جاء من الغائط أو بال. قال: يغسل ذكره، و يذهب الغائط، ثمَّ يتوضأ مرتين مرتين» «1».

لكن استظهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه اختصاصه بالاستنجاء بالماء أيضا.

بدعوي: ظهور الوضوء المسؤول عنه في الغسل بالماء- كما أشار إليه في الجواهر أيضا- نظير ما في صحيح جميل المتقدم في وجه أفضليته من الاستجمار.

و العدول عن التعبير بغسل الدبر إلي التعبير بإذهاب الغائط إما للتوسع في العبارة، أو لاستهجان ذكر الدبر، أو للتنبيه علي عدم الاكتفاء بمسمي الغسل الذي يبقي معه الأثر، بل لا بد من إزالته عملا بإطلاق الإذهاب.

و يندفع بأن ظاهر الوضوء في السؤال هو الوضوء الرافع للحدث، لأنه

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

ص: 89

______________________________

المنصرف منه، و هو المفترض بعد المجي ء من الغائط، كما أشارت إليه آية التيمم، و الذي أجيب عنه بقوله: «ثمَّ يتوضأ مرتين مرتين». و إلا فالاستنجاء واجب بخروجهما لا بالمجي ء منهما.

و لعل التفضل منه عليه السّلام بذكر الاستنجاء للتنبيه علي كونه من مقدمات الصلاة التي افترض لأجلها الوضوء، ردعا عما عليه بعض العامة.

أو لكونه من المقدمات العادية التي يسأل عنها معه أو تذكر تبعا له، كما في بعض النصوص مثل خبر الهاشمي الوارد في وضوء أمير المؤمنين عليه السّلام «1» و صحيح الحذاء الوارد في توضئته للباقر عليه السّلام «2» و غيرهما مما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه.

كما أنه لا مجال لما ذكره في توجيه العدول عن التعبير بالغسل إلي التعبير بالاذهاب.

إذ لا نكتة في التوسع في العبارة مع كون العطف أفيد و أخصر.

و ليس الدبر أشد استهجانا من الذكر. مع أماكن الفرار عنه بالكناية، أو بإضافة الغسل للغائط، و ليس المبني في النصوص علي الاهتمام بهذه الجهة.

كما أن التعبير بالغسل أظهر في لزوم إزالة الأثر من التعبير بالاذهاب، لما تقدم في الصحيح السابق.

نعم، استشكل قدّس سرّه في حمل السؤال و الجواب علي ما ذكرنا.

تارة: بأنه لا يناسب الجواب بالمرتين، للإجماع علي عدم وجوبهما، و إنما الخلاف في جوازهما.

و اخري: بأن ذكر الاستنجاء مع عدم السؤال عنه تفضلا موجب لسقوط الإطلاق عن الاستدلال، لعدم سوق الكلام لبيان تفاصيله، بل للإشارة إليه إجمالا، نظير قولنا: إذا فرغت من الاستنجاء فافعل كذا.

و لعل ما في الرياض من إجمال الحديث بلحاظ بعض ما تقدم.

______________________________

(1) الوسائل باب 16 من أبواب الوضوء، حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 90

______________________________

لكن يندفع الأول: بأن الظاهر أن ذكر المرتين ليس للأمر بهما، بل لبيان الحد الأعلي الوضوء المفروض، في قبال ما عليه العامة من التثليث، لكون ذلك هو المسؤول عنه، دون وجوب الوضوء، أو كيفيته، لفرض الأول في السؤال و إهمال الثاني في الجواب.

و يندفع الثاني: بأن التفضل إنما يمنع من الظهور في الإطلاق لو أشير فيه لماهية الفعل و عنوانه من دون شرح لحاله، كما في المثال الذي ذكره، حيث أطلق فيه عنوان الاستنجاء، دون مثل الصحيح المتضمن لذكر ما يتحقق به الاستنجاء من غسل الذكر و إذهاب الغائط، خصوصا مع التفرق بينهما في التعبير الظاهر في التصدي لشرح الماهية.

و مثله ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من انصراف إطلاق إذهاب الغائط بقرينة الارتكاز العرفي في التطهير إلي نقاء العين و الأثر، فالاكتفاء بزوال العين في الاستجمار يتوقف علي الاعتماد علي أخباره و النظر فيها.

لاندفاعه: بأنه لا مجال للخروج عن الإطلاق بالقرينة المذكورة بعد فرض العموم للاستجمار الذي لا يزول معه الأثر غالبا أو دائما، و لذا لا يتوهم لزوم ذلك في الثلاثة باختيار الأحجار الكبيرة التي يكون استيعابها بالمسح مستلزما لذلك في الجملة.

الثالث: صحيح بريد عن أبي جعفر عليه السّلام: أنه قال: «يجزي من الغائط المسح بالأحجار، و لا يجزي من البول إلا الماء» «1».

بدعوي: ظهوره في الجنس بعد تعذر الاستغراق و عدم القرينة علي العهد، فيجزي ما يمسح الغائط و يزيله و إن كان حجرا واحدا.

و دعوي: ظهوره في جنس الجمع لا جنس المفرد.

مدفوعة: بأن ذلك يتم في المنكر لا في المعرّف، و إلا فهو ظاهر في مطلق الجنس، سواء كان باللام أم بالإضافة، كما في قوله تعالي:

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

ص: 91

______________________________

وَ إِذٰا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيٰاتِنٰا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ «1» و قوله تعالي وَ إِذٰا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ وَ الْمَسٰاكِينُ. «2» و قوله تعالي فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ «3» إلي غير ذلك.

فالعمدة في خدش الاستدلال به أنه وارد لبيان مشروعية الأحجار في الجملة كما يناسبه ما في ذيله من مقابلته بالبول الذي لا يجزي فيه إلا الماء.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر المسح فيه هو مسح الغائط المزيل له، لا مسح موضعه، فيكون ظاهرا في الاكتفاء بالنقاء، و وجوب ما زاد عليه ليس تقييدا، كي يدعي عدم الإطلاق الدافع له، بل هو راجع إلي عدم إجزائه، كما لو وجب أمر آخر غير المسح، و هو خلاف ظاهره. فتأمل جيدا.

الرابع: صحيح زرارة: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: كان الحسين بن علي عليه السّلام يتمسح من الغائط بالكرسف و لا يغتسل». «4»

لكن عدم تقييد الكرسف لا يوجب الإطلاق بعد وروده في نقل قضية خارجية لعلها كانت مبنية علي التعدد، كما هو المصرح به في موثقة الآخر عنه عليه السّلام: «سألته عن التمسح بالأحجار فقال: كان الحسين بن علي عليه السّلام يمسح بثلاثة أحجار» «5»، فهو لا يدل الا علي مشروعية التمسح و الاجتزاء به عن الغسل، و هو مقتضي التنبيه في ذيله علي عدم الغسل.

و مثله في ذلك صحيحة الآخر: «كان يستنجي من البول ثلاث مرات، و من الغائط بالمدر و الخرق» «6».

و ما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من التفريق بينهما بعدم ظهور الثاني في

______________________________

(1) الأنعام: 68.

(2) النساء: 8.

(3) النحل: 43، الأنبياء: 7.

(4) الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(6) الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 92

______________________________

كون الحاكي هو الامام عليه السّلام فلا يكون إطلاقه حجة، بخلاف الأول.

غير ظاهر، فإن حكاية الإمام عليه السّلام لا توجب الإطلاق في القضية الخارجية.

نعم، قد يستفاد الإطلاق من عدم التنبيه علي القيد لخصوصية في المورد، كما لو ورد جوابا عن سؤال مطلق، مثلا لو سئل الإمام عليه السّلام عن الصلاة في الصوف، فأجاب بأن النبي صلّي اللّه عليه و آله كان يصلي في الصوف، اتجه التمسك بالإطلاق، لظهوره حينئذ في صلوح الجواب لبيان الحكم في مورد السؤال بنحو يترتب عليه العمل فيه علي إطلاقه المستلزم لعدم أخذ القيود فيه، بخلاف المقام مما لم يعلم فيه وجه ورود النقل، إذ لعله لبيان أصل مشروعية التمسح، أو لمحض نقل القضية الخارجية.

الخامس: إطلاق الاستنجاء في كثير من النصوص، حيث استدل بذلك في الجواهر بتقريب أن الاستنجاء لغة هو غسل محل النجو أو مسحه.

لكن لم أعثر في النصوص علي ما تضمن الإطلاق المذكور، فان النصوص المتضمنة لعنوان الاستنجاء قد وردت لبيان أحكامه بنحو يظهر منها المفروغية عما هو المشروع منه، مثل ما ورد في نسيان الاستنجاء «1»، و استحباب الوتر فيه «2»، و كراهته باليمين «3»، و باليد التي فيها خاتم فيه اسم اللّه تعالي «4»، و كيفية الجلوس له «5»، و ليست واردة لبيان وجوب الاستنجاء، ليتجه التمسك بإطلاقها. فالعمدة في إثبات الإطلاق المذكور هو الصحيحان الأولان.

نعم، لا يبعد التمسك بالإطلاقات المقامية للنصوص المتضمنة لمشروعية الاستجمار، فإنه حيث كان الاستجمار شائعا عند الناس، و لا يدركون من فائدته إلا إزالة العين، فظاهر حال الشارع في إقراره و ترتيب الآثار عليه إرادة ما عليه الناس،

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9، 10 من أبواب أحكام الخلوة.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(3) راجع الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الخلوة.

(4) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الخلوة.

(5) راجع الوسائل باب: 37 من أبواب أحكام الخلوة.

ص: 93

______________________________

و اعتبار ما زاد علي ذلك محتاج إلي دليل خاص، من دون فرق بين التثليث و غيره.

و المتحصل: أنه لا ينبغي التأمل بعد ملاحظة ما تقدم في أنه لا مسرح للاستصحاب في المقام، و أنه لو فرض قصور ما استدل به علي التثليث كان المتعين الاكتفاء بالبقاء، عملا بالإطلاقات اللفظية و المقامية المذكورة.

و لذا لا ريب عندهم في الاكتفاء بزوال العين لو لم يحصل النقاء بالثلاثة، مع وضوح قصور نصوص التثليث عن الفرض المذكور، و ليست هي شاملة له بنحو تقيد فيه بالزيادة، ليدعي أن اللازم الاقتصار علي المتيقن في تقييده، و هو ما أوجب النقاء، لأن مدعي المستدل بها ظهورها في التحديد غير القابل للتقييد، أو بيان أقل المجزي، من دون تحديد للأكثر.

كما أن احتمال اعتمادهم فيه علي إجماع تعبدي بعيد جدا، لظهور مفروغيتهم عنه بسلائقهم، المناسب لارتكاز إطلاق الاجتزاء بالنقاء عندهم بنحو يرجع إليه عند قصور نصوص التثليث.

بل يكاد يقطع الناظر في كلماتهم و فيما تقدم بأنه لو لا النصوص الآتية لما توقفوا في الاكتفاء بالنقاء، و لم يتجشموا إقامة الدليل الخاص عليه الذي يخرج به عن مقتضي الاستصحاب. هذا كله في الأمر الأول، و هو تنقيح الإطلاق المقتضي للاجتزاء بالنقاء.

و أما الثاني- و هو تقييد الإطلاق المذكور بالتثليث- فقد استدل عليه في كلامهم بالنصوص الكثيرة.

منها: صحيح بريد المتقدم، بدعوي: أن أقل الجمع ثلاثة.

و منها: موثق زرارة المتقدم، لأن نقل الامام عليه السّلام لسيرة الحسين عليه السّلام علي التثليث في مقام الجواب عن التمسح ظاهر في التحديد به و وجوبه.

و يؤيده ما في صحيح أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «كان الناس يستنجون بثلاثة أحجار. فأكل رجل من الأنصار الدبا فلان بطنه، فاستنجي

ص: 94

______________________________

بالماء.» «1».

و منها: صحيح زرارة المتقدم في أول الفصل المتضمن لقول الباقر عليه السّلام: «لا صلاة إلا بطهور. و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنة من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله» «2» و صحيحة الآخر عنه عليه السّلام: «جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان و لا يغسله.» «3» و مرفوع أحمد بن محمد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار و يتبع بالماء» «4».

و منها: النبوي: «و ليستنج بثلاثة أحجار أبكار» «5» و نحوه نبويات أخري، و في بعضها أنه صلّي اللّه عليه و آله نهي أن يستنجي بدون الثلاثة.

لكن الجميع لا يخلو عن إشكال لما تقدم من ظهور صحيح بريد في الجنس. و دلالة الموثق موقوفة عن كون السؤال فيه عن شروط التمسح، و لا قرينة عليه، لاحتمال كون المراد به السؤال عن أصل مشروعيته، فيكون الجواب مسوقا لبيان ذلك.

بل لعله الأنسب بالاستشهار بسيرة الحسين عليه السّلام، لوضوح أن الاستشهاد علي التثليث بسنة النبي صلّي اللّه عليه و آله أولي، بخلاف أصل المشروعية، فان الاستشهاد عليه بسيرة الحسين عليه السّلام أولي من الاستشهاد بسنة النبي صلّي اللّه عليه و آله، لعدم دفع سنته صلّي اللّه عليه و آله لاحتمال النسخ الذي يقرب كونه منشأ السؤال. لأن المشروعية في صدر التشريع يبعد اختفاؤها و احتياجها للسؤال.

كما أن بيان أصل المشروعية هو الظاهر من صحيح أبي خديجة بقرينة ذيله.

و أما ما تضمنه الموثق و الصحيح من سيرة الحسين عليه السّلام و الناس فهو لا يدل علي الوجوب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 30 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(5) مستدرك الوسائل باب: 22 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

ص: 95

______________________________

و أما صحيح زرارة الأول فدلالته موقوفة علي مفهوم العدد، و هو غير ظاهر.

و دعوي لغويته في المقام لو لم يكن له مفهوم.

ممنوعة، لإمكان كون الغرض منه التنبيه علي الفضل. و لا سيما بعد تعقيبه بيان السنة التي يحتمل أن يكون المراد بها الاستحباب، لا ما شرعه النبي صلّي اللّه عليه و آله علي نحو الإلزام.

بل لا إشكال في عدم وجوب خصوصية الحجر، لما تقدم من الاجتزاء بكل قالع. و التفكيك بين العدد و المعدود خلاف الظاهر.

و منه يظهر حال صحيحة الآخر، و المرفوع.

و النبويات ضعيفة السند، و لا يتضح انجبارها بعمل الأصحاب بعد عدم روايتهم لها في كتب الحديث المشهورة، و المظنون أخذها من العامة.

فالخروج بذلك عن الإطلاق المتقدم في غاية الاشكال، و أشكل منه ما في المستند من التفصيل بين الحجر و غيره، فيختص التثليث بالحجر، لاختصاص أدلته به.

لاندفاعه: بأن الأدلة لو تمت تقتضي الاقتصار علي الأحجار الثلاثة، و عدم الاجتزاء بما دونها و لا بغير الحجر. و إلغاء خصوصية الحجر للأدلة المتقدمة لا يقتضي إلغاء التثليث في غيره. و ليس مفادها اشتراط اعتبار التثليث باستعمال الأحجار، ليرجع في غيرها للإطلاق. و اللّه سبحانه و تعالي العالم بالحال، و منه نستمد العصمة و التوفيق.

بقي في المقام فروع تبتني علي القول بالتثليث.

الأول: صرح في المعتبر و الشرائع و الروضة و المدارك و كشف اللثام و غيرها بعدم إجزاء المسحات الثلاث بالحجر الواحد ذي الشعب، و هو المحكي عن جمل السيد و ظاهر المقنعة و المصباح و غيرها، بل هو ظاهر كل من عبّر بثلاثة أحجار، كالخلاف و المراسم و إشارة السبق و اللمعة و محكي السرائر و الكافي و غيرها. و عن شرح المفاتيح أنه المشهور. و عن المبسوط: «و الحجر إذا كان له ثلاثة قرون فإنه يجزي عن ثلاثة أحجار عند بعض أصحابنا. و الأحوط اعتبار العدد

ص: 96

______________________________

لظاهر الأخبار». و ما ذكره من ظهور الأخبار قد تبعه علي الاستدلال به غير واحد، بل هو عمدة الدليل في المقام.

و أما الأصل فهو موقوف علي عدم تمامية إطلاق يقتضي الاكتفاء بالنقاء، كما تقدم.

هذا، و قد صرح في القواعد بالاجتزاء بالمسحات الثلاث بالحجر الواحد، و وافقه في جامع المقاصد، و هو المحكي عن المقنعة و ابن البراج و جملة من كتب العلامة و الشهيد و المحقق الثاني و غيرهم، بل عن الروض و شرح الألفية دعوي الشهرة عليه.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 97

و قد استدل عليه.

تارة: بأن المراد بثلاثة أحجار في النصوص ثلاث مسحات، نظير قولنا:

ضربته عشرة أسواط كما عن المختلف.

و اخري: بالنبوي: «و ليستنج بثلاث مسحات» «1».

و ثالثة: بحصول المقصود و هو إزالة النجاسة و بأنه يجزي المسح بالحجر الواحد بعد تكسيره و انفصال أجزائه، فكذا مع اتصالها، للقطع بعدم الفرق.

قال في محكي المختلف: «و أي عاقل يفرق بين الحجر متصلا بغيره و منفصلا».

كما أنه يجزي استنجاء ثلاثة بالحجر الواحد كل بجهة منه، فيجزي للواحد.

و لأنه إذا غسل الحجر أجزأ و إن استنجي بالجهة التي مسح بها أولا، فكذا بالجهتين الطاهرتين قبل الغسل.

و يندفع الأول: بأنه خلاف الظاهر، و التنظير في غير محله، إذ مع عدم الباء ينصب العدد علي أنه مفعول مطلق لبيان عدد المصدر، و قد أقيمت الآلة مقامه و أعطيت ما له من إعراب و إفراد أو تثنية أو جمع، و التقدير ضربته عشر ضربات سوط، كما نص عليه الرضي في شرح الكافية و غيره من النحويين، أما مع الباء فيكون المعدود بنفسه آلة للفعل، فلا بد من تعدد الآلة.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 22 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 9.

ص: 97

______________________________

و الثاني بعدم حجية النبوي، لعدم إسناده من طرقنا. و لا مجال لدعوي انجباره بعمل الأصحاب بعد عدم روايتهم له في كتب الحديث المشهورة و عدم وضوح اعتمادهم عليه، و لعله راجع إلي ما حكي عن بعضه العامة من روايتهم عنه صلّي اللّه عليه و آله: «إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات» «1».

علي أنه أعم من نصوص تثليث الأحجار، فيخصص بها، كما ذكره في الحدائق و المستند.

اللهم إلا أن يكون حملها عليه بجعله قرينة علي كون تعدد الأحجار فيها لأجل تعدد المسح أقرب عرفا من حمله عليها بتخصيصه بها، و لو لخصوصية المورد لبعد خصوصية تعدد الحجر. و لا أقل من تساوي الوجهين الملزم بالرجوع لإطلاقات النقاء المقتضية لعدم وجوب تعدد الحجر. فتأمل جيدا.

و أما الثالث فما اشتمل عليه من التنظيرات لا يخلو بعضها عن إشكال، لاحتمال منافاة الثاني لما عن بعضهم من اعتبار البكارة، بل الثالث مناف له قطعا، بل هو لا يتم بناء علي اعتبار تثليث الأحجار، و إنما يمكن تسليم الخصم به في استنجاء آخر.

علي أنه يشبه القياس و الاستحسان الذي لا مجال للاعتماد عليه إلا أن يوجب القطع، الذي تختص حجيته بمن حصل له، و لا يصلح للاحتجاج عند الخصام.

و لا طريق لتحصيله مع كون أصل التثليث تعبديا محضا يخفي وجهه علي العرف، إذ ليس هو بأولي من دعوي القطع بعدم خصوصية تعدد المسح و أن الغرض كميته، فيكفي المسح الواحد بالحجر الكبير إذا كان بقدر ثلاث مسحات بالأحجار المتعارفة.

هذا، و قد ذكر في الجواهر أن المستفاد من نصوص تثليث الأحجار اعتبار تعدد المسح، و تعدد الممسوح به- بمعني تعدد السطح الذي يقع به المسح-

______________________________

(1) حكي عن مجمع الزوائد للهيثمي ج: 1 ص: 211 و كنز العمال ج: 5 ص: 85.

ص: 98

______________________________

و كون الماسح حجرا، و انفصال بعضه عن بعض. و انجبارها في الأولين بالشهرة لا ينافي الخروج عنها في الثالث بالإجماع المتقدم، و في الرابع بالشهرة المتقدم دعواها عن الروض، و بغيرها مما يظن معه ببقائه تحت الإطلاق المتقدم.

و يشكل: - مع عدم وضوح الشهرة علي الثاني، بل الظاهر ابتناؤه عندهم علي الرابع- بأن العامل بنصوص تثليث الأحجار لا يحتاج لدعوي انجبارها، لقوة أسانيدها، و عدم صلوح الشهرة لجبر الدلالة، فلا بد من فرض تمامية دلالتها.

و حينئذ فرفع اليد عن خصوصية الحجر للإجماع أو النصوص المتقدمة لا يقتضي رفع اليد عن خصوصية التعدد في الممسوح به الذي هو بمعني تعدد الجسم الذي يكون به المسح، لا تعدد السطح الماسح، لعدم الدليل عليه.

و مجرد دعوي الشهرة علي إلغاء الخصوصية المذكورة- مع معارضتها بدعوي الشهرة علي الخلاف- لا تنهض بالخروج عن ظهور النصوص المذكورة.

و الظن ببقائه علي الإطلاق لا ينفع بعد فرض وجود المخصص التام الدلالة و السند.

نعم، لو فرض فهم عدم الخصوصية عرفا لتعدد الجسم الماسح و أن المفهوم من الكلام إرادة تعدد المسح بحيث يكون هو ظاهر الخطاب و إن لم يكن هو المعني الحقيقي- كما قد يظهر من الجواهر الجزم به- كفي في التعدي و إن لم يقطع بعدم الفرق و لم يقم عليه دليل خاص.

و ذلك و إن كان قريبا في الجملة، لقرب غفلة العرف عن دخل الخصوصية المذكورة، إلا أنه لا مجال للجزم به في مثل التثليث من الأمور التعبدية التي يخفي وجهها.

فالخروج عن مفاد الأدلة لا يخلو عن إشكال.

بل لا ينبغي الريب في عدم الإجزاء بناء علي اعتبار البكارة، علي ما سيتضح عند الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالي.

هذا، و في المدارك: «فالمتجه تفريعا علي المشهور من وجوب الإكمال مع النقاء بالأقل عدم الاجزاء، و مع ذلك فينبغي القطع بإجزاء الخرقة الطويلة إذا

ص: 99

______________________________

استعملت من جهاتها الثلاث، تمسكا بالعموم». بل قد يظهر من محكي المنتهي عدم النزاع في الأجزاء في مثل الثوب و الحائط.

لكن ظهور دليل التثليث في لزوم تعدد الماسح ملزم بالخروج عن العموم في غير الأحجار بعد رفع اليد عن خصوصيتها بدليل التعميم لكل قالع، لما أشرنا إليه من عدم التلازم بين الأمرين، و لا ظهور لأدلة التثليث في كون وجوبه مشروطا باستعمال الأحجار، و إلا لزم الاكتفاء بالنقاء في غيرها، كما تقدم من المستند و تقدم الاشكال فيه.

و لعله لذا ذكر في المعتبر لزوم قطعها.

و أما ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه و يظهر من الجواهر من الاكتفاء بالخرقة الطويلة و الصخرة العظيمة التي يعد أطرافها عرفا بمنزلة الأشياء المستقلة.

فهو مبني علي الاكتفاء بالتعدد التسامحي، المحتاج إلي الإثبات.

و ما في الجواهر من نسبة عدم الاجتزاء بذلك إلي الجمود، لا يجدي بعد عدم رجوعه للقطع و لا الظهور.

نعم، لا يبعد الاكتفاء بالمسح بالأحجار المتعددة المثبتة في الحائط الواحد، لأن وصل الجص و نحوه بينها لا يوجب وحدتها عرفا، ليقصر عنها إطلاق أدلة التثليث.

و لا أقل من الشك في قصوره الراجع إلي إجماله الذي يلزم معه الرجوع لإطلاق النقاء.

ثمَّ إنه قد يظهر من المعتبر الاجتزاء باستعمال الموضع الطاهر من الحجر المستعمل بعد كسره و فصله عنه، بل هو كالصريح منه في الثوب.

و يشكل: بأن التعدد فيه بلحاظ الحدود لا بلحاظ الذات، الذي هو المنساق من الأدلة.

و أشكل منه ما قد يظهر منه من الاجتزاء باستعمال الحجر المستعمل بعد غسله، لعدم الإشكال في عدم التعدد معه، فلا يناسب مذهبه من لزوم تثليث نفس الأحجار.

ص: 100

______________________________

بل قوي في الجواهر عدم الاجتزاء به حتي بناء علي جواز الاكتفاء بالمسح بشعب الحجر الواحد.

و كأن وجهه ما سبق منه من فرض الشهرة علي ذلك بنحو يجبره للنصوص فيه، و سبق الاشكال فيه.

هذا، و ربما يكون مراد المعتبر استعمال المستعمل بعد كسره أو غسله في استنجاء آخر و لو لنفس الشخص المستنجي به أولا، فيرجع إلي عدم اعتبار البكارة، الذي لو تمَّ لم يحتج استعمال الوجه الطاهر إلي الكسر.

الثاني: صرح في الشرائع بوجوب إمرار كل حجر علي موضع النجاسة، و كأنه يريد استيعاب كل حجر للموضع، كما يظهر من شراح كلامه، و عن شرح الألفية أنه الأصلح مع نسبته للشهيد في جميع كتبه، بل عن محكي المفاتيح و شرحها نسبته إلي الشهرة.

لكن في الجواهر أنه لم يعثر علي موافق صريح للشرائع، سوي بعض متأخري المتأخرين، و أن المشهور هو الاجتزاء بالتوزيع.

و قد صرح بإجزائه في المعتبر و القواعد و المدارك، و هو المحكي عن المبسوط و المنتهي و التحرير و التذكرة و محكي الجامع و نهاية الأحكام و الذكري و الدروس و البيان، و غيرها. بل في مفتاح الكرامة أنه قد نص عليه أجلاء الأصحاب.

و العمدة في وجه الاجزاء دعوي صدق المسح بثلاثة أحجار معه. و لو فرض الشك في ذلك الراجع إلي إجمال دليل التثليث كان المرجع إطلاقات النقاء، حيث يقتصر في تقييدها علي المتيقن، و هو لزوم التثليث في الجملة و لو بالنحو المذكور.

لكن الانصاف ظهور أدلة التثليث في استيعاب كل حجر لتمام الموضع، بمقتضي ظهور كون كل منها جزءا من المطهر الذي يلزم استيعابه لتمام موضع النجاسة، لا أن المطهر للمجموع مجموعها و لو بنحو التوزيع، نظير ما ورد من صب الماء مرتين علي البول الذي يصيب الجسد.

ص: 101

______________________________

و أما الاستدلال علي وجوب الاستيعاب بصحيح زرارة المتقدم: «جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان و لا يغسله» «1» بدعوي: ظهوره في مسح تمام الأثر و العجان الذي يراد به الدبر.

فهو لا ينفع إلا بالقرينة التي ذكرناها، و التي تجري في غيره من النصوص، لصدق مسح العجان بالثلاثة مع التوزيع، نظير إنارة الدار بعشرة مصابيح.

ثمَّ إنه علي القول باجزاء التوزيع يتعين الاكتفاء بالمسح بثلاثة أحجار دفعة واحدة بجمعها و إمرارها علي الموضع معترضة، و إن كان بعيدا عن مساق كلامهم، لعدم الدليل علي وجوب الترتيب في المسح بين الأحجار. أما علي المختار فهو متعذر.

هذا، و قد تعرضوا لكيفية الاستجمار بالثلاثة و كيفية التوزيع بما لا مجال لإثبات وجوبه بعد سكوت النصوص عنه، فيلزم البناء علي الاكتفاء بأي وجه يتحقق به استيعاب مسح تمام المحل بكل حجر أو بمجموع الأحجار عملا بالإطلاقات اللفظية أو المقامية.

نعم، لا بد من عدم تلويث بعض المواضع الطاهرة بالوجه غير المتعارف، لعدم الدليل علي كفاية الأحجار حينئذ، كما لا يخفي.

الثالث: لو لم ينق الموضع بالثلاث وجب الإنقاء بلا إشكال، بل بالإجماع المنقول و المحصل، كما في الجواهر، و قد ادعي عليه الإجماع في المعتبر و كشف اللثام و المدارك، و عن غيرها.

و يقتضيه إطلاقات الإنقاء المتقدمة، كما أشرنا إليه آنفا.

و يلزم لأجلها رفع اليد عن نصوص التثليث، و حملها علي الغالب- كما قيل- بل هي منصرفة عن صورة عدم الإنقاء، بسبب وضوح عدم ارتفاع نجاسة الغائط و وجوب التطهير منه.

بل لا يبعد كون مقتضي الجمع بين الطائفتين تقييد إحداهما بالأخري،

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

ص: 102

مسألة 6 يجب أن تكون الأحجار أو نحوها طاهرة

(مسألة 6): يجب أن تكون الأحجار أو نحوها طاهرة (1).

______________________________

بحمل الثلاث التي جرت بها السنة علي الثلاث المنقية، فالثلاث غير المنقية كما لا تكون مطهرة لا تؤدي بها السنة، بل تؤدي بما يتحقق به النقاء بعد ذلك.

لوضوح أن السنة للتطهير من الغائط لا في استعمال الأحجار تعبدا. و عليه يعتبر فيما يتحقق به النقاء ما يعتبر في الثلاث، كالبكارة- لو قيل باعتبارها فيها- أما علي الوجهين الأولين فلا يعتبر فيه شي ء، عملا بالإطلاق. فتأمل جيدا.

ثمَّ إنه صرح في المعتبر و القواعد و المدارك و عن جمع غيرهم باستحباب الوتر مع الزيادة علي الثلاث.

و يقتضيه خبر الهاشمي عن أبيه عن جده عن علي عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: إذا استنجي أحدكم فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء» «1».

(1) كما صرح به غير واحد، بل في الغنية و عن المنتهي و التحرير الإجماع عليه، و ظاهر غير واحد المفروغية عنه، لعدم تعرضهم لدليله.

و لا ينبغي الإشكال فيه مع مماسته للموضع برطوبة مسرية، لأنه ينجسه.

بل لا بد حينئذ من تطهيره بالماء و عدم إجزاء الأحجار. كما في القواعد و جامع المقاصد و عن المنتهي و التحرير و الذكري. لاختصاص نصوص الأحجار بالتطهير من الغائط الخارج حين التخلي، لأنه هو الاستنجاء و لا إطلاق لها يشمل النجاسة العرضية.

و دعوي: أن المتنجس لا يتنجس ثانيا.

غير ظاهرة، بل لا مانع من ترتب أثره الملاقاة الطارئة و تأكد النجاسة بها. من دون فرق في ذلك بين تنجسه بغائط و غيره، كما في جامع المقاصد و كشف اللثام و محكي التحرير و الذكري.

خلافا لظاهر القواعد فاكتفي بالأحجار في المتنجس بالغائط، و تردد فيه في

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

ص: 103

______________________________

محكي المنتهي. و علله في جامع المقاصد و كشف اللثام بامتناع اجتماع المثلين.

و فيه: أنه لا مانع من التأكد، فيترتب أثر الطارئ.

و أما مع عدم مماسة الحجر المتنجس للموضع برطوبة مسرية فالعمدة فيه- بعد إطلاق معاقد الإجماع- قاعدة أن فاقد الشي ء لا يعطيه التي هي في المقام ارتكازية و إن لم تكن عقلية، و التي لا يبعد كونها في المقام و نظائره إجماعية. قال الفقيه الهمداني قدّس سرّه: «إجماعا منقولا مستفيضا بل متواترا، كما لا يخفي علي من تتبع كلماتهم في المقام و نظائره، فإنه لا يكاد يرتاب في أن من القواعد المسلمة عندهم التي صرحوا بالإجماع عليها في كل مقام هي أن النجس لا يكون مطهرا».

و يشهد بذلك تسالمهم علي اعتبار الطهارة في الأرض المطهرة لباطن القدم، و التراب الذي يعفر به الإناء في الولوغ، بل طهارة تراب التيمم و ماء الوضوء و الغسل و أعضائهما، و إن أمكن الاستدلال لبعض ذلك بالخصوص بوجوه أخري فتأمل.

و دعوي: أن الماسح في المقام ليس مطهرا، بل المطهر زوال عين النجاسة المسبب عن المسح، كما قد يستفاد من إطلاق إذهاب الغائط في صحيح يونس بن يعقوب المتقدم.

مدفوعة: بأن مقتضي تفريع الأحجار في صحيح زرارة المتقدم علي قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلا بطهور» أنها طهور تستند طهارة الموضع إليه لا إلي زوال العين.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من الاستدلال بالصحيح المذكور علي اعتبار طهارة الماسح، لأن الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره.

فيدفعه ما صرح به في مبحث مطهرية الماء و وافقناه فيه من أن الطهور لغة هو المطهر، و اعتبار طهارته إنما هو بضميمة ملازمة المطهرية للطهارة الراجعة إلي الإجماع أو القاعدة الارتكازية التي أشرنا إليها، فلا وجه للاستدلال بذلك في مقابلهما. فلاحظ.

هذا، و قد صرح في المقنعة و النهاية و الوسيلة و القواعد و النافع و الشرائع

ص: 104

______________________________

بعدم استعمال الحجر المستعمل، و هو المحكي عن السرائر و المهذب و الجامع و الإصباح و غيرها.

و يقتضيه مرفوع أحمد بن محمد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار، و يتبع بالماء» «1».

لكنه- مع ضعفه- محتمل للاستحباب، لأن السنة تعمه. بل ذكر غير واحد أن اشتماله علي الاتباع ملزم بحمله عليه. إلا أنه يندفع باحتماله الاستئناف و عدم بيان السنة، فلا ينافي إرادة الوجوب منها.

نعم، يتعين كونه لبيان السنة علي تقدير عدم الواو، كما رواه سيدنا المصنف قدس سره.

لكنها مثبتة في التهذيب و الوسائل المطبوعين حديثا، و أصر عليها شيخنا الأستاذ قدّس سرّه.

فالعمدة ما ذكرنا. و لعله لذا صرح بعدم اعتبار البكارة في المبسوط و جامع المقاصد و الروضة و المدارك، و هو المحكي عن التذكرة و الموجز و الروض، و هو ظاهر اللمعة و محكي الدلائل، بل الغنية، حيث صرح فيها باجزاء الطاهر.

بل قد يستظهر أيضا ممن اقتصر علي ذكر الأحجار، لأن البكارة ليست كالطهارة من الشروط الارتكازية التي قد تستغني عن التنصيص عليها.

بل لا يبعد كون مراد بعض من صرح باعتبار عدم الاستعمال الكناية عن اعتبار الطهارة، كما قد يناسبه الاقتصار عليه، و عدم ذكر الطهارة في النهاية و النافع، و عطف نجس العين عليه في الشرائع، و لا سيما مع ما في المعتبر، حيث صرح باشتراط عدم الاستعمال، ثمَّ قال: «و أما الحجر المستعمل فمرادنا بالمنع الاستنجاء بموضع النجاسة منه». و قال في المقنعة: «استبرأ بثلاثة أحجار طاهرة لم تستعمل في إزالة النجاسة قبل ذلك»، لقرب إرادته تأكيد اعتبار الطهارة، كما يناسبه تعميمه لمطلق النجاسة، لا لخصوص الاستنجاء. و قريب منه ما في محكي

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

ص: 105

______________________________

السرائر، حيث قال: «و تكون الأحجار أبكارا غير مستعملة في إزالة النجاسة».

بل في الجواهر: «صرح جملة من الأصحاب بجواز الاستنجاء بالمتنجس بالاستنجاء بعد غسله و تطهيره، بل في المصابيح: و لو طهر المتنجس بالاستنجاء أو غيره جاز استعماله إجماعا».

فنسبة عدم اعتبار البكارة إلي المعظم قريبة جدا. فلا مجال لدعوي انجبار المرفوع بالعمل. بل قد يظهر من بعضهم حمل كلام جميع من ذكره علي الكناية عن اعتبار الطهارة، حتي مثل العلامة في القواعد الذي عطف عليه النجس، بحمل النجس علي نجس العين فقط.

لكن الإنصاف أنه مخالف للظاهر.

و مثله ما يظهر من المدارك من حمل المرفوع علي ذلك، حيث استدل به عليه. فإنه و إن كان قريبا في نفسه، إلا أنه مخالف لأصالة الحقيقة بلا قرينة.

و أشكل منه ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من انصراف الحديث إلي ما عليه أثر الاستعمال بالفعل، بدعوي: أنه لا يظن بأهل العرف أن يفهموا من هذا الرواية عدم جواز استعمال الحجر المستعمل في الأزمنة السابقة بعد كسر موضع انفعاله أو غسله.

فان ما ذكره قدّس سرّه إنما يفهم في بعض الموارد بالقرينة، حيث قد يستفاد منها كون مانعية الاستعمال من جهة الاستقذار الخارجي، و لا مجال له بدونها.

بقي في المقام شي ء، و هو أن المراد بالاستعمال في المقام هو الاستعمال في الاستنجاء لا في مطلق التطهير بنحو يشمل استعمال الأرض لتطهير باطن القدم- كما استظهره في الجواهر- فضلا عن غيره، و لا خصوص الاستعمال في الاستنجاء بالنحو الذي يتنجس به الحجر، كما قد يظهر من الفقيه الهمداني.

لانحصار الدليل في المقام بالمرفوع المتضمن لعنوان البكارة التي لا يراد منها إلا عدم استعمال الحجر، كما يناسبه تفسير البكر بالعذراء لغة و عرفا، و حيث لا يراد منه مطلق الاستعمال، لعدم مانعية مثل الضرب بالحجر و التيمم به، و غير ذلك مما لا يتعلق بالتطهير من الخبث، فالأقرب حمله علي الاستنجاء، لأنه

ص: 106

مسألة 7 يحرم الاستجمار بالأجسام المحترمة

(مسألة 7): يحرم الاستجمار بالأجسام المحترمة (1).

______________________________

الاستعمال الخاص الذي أخذ العنوان شرطا فيه، حيث يتعارف الاعتماد علي القرينة المذكورة في بيان المراد من البكارة، بل هي مانعة من الحمل علي الإطلاق- لو أمكن. و لا سيما مع كون الاستنجاء هو الاستعمال المعهود في الحجر بعنوانه حسبما تعرضت له النصوص.

نعم، لا يبعد شموله للاستعمال في الاستنجاء بالوجه المستحب، كإكمال العدد بعد النقاء، بناء علي عدم وجوبه، و كالوتر فيما زاد عليه. لقرب دخوله في الإطلاق.

كما لا ينبغي الإشكال في عدم الفرق فيه بين الاستعمال في نفس الاستنجاء الواحد و الاستعمال في استنجاء آخر، لنفس الشخص أو لشخص آخر، كما لا يفرق فيه بين غسل الحجر أو كسره و عدمهما، لأن الغسل انما يوجب الطهارة لا البكارة، و الكسر إنما يوجب اختلاف الحدود مع وحدة الذات المفروض عدم البكارة فيها.

(1) الظاهر أن المعيار في الاحترام كون الشي ء مما يحرم توهينه، لا بمعني فعل ما يقصد به توهينه، بل فعل ما يكون موهنا له عرفا، و إن كان بداع آخر، كسهولة تحصيل الغرض و نحوها، لعدم أخذهم قصد التوهين في المقام. بل قد يكون قصد التوهين مساوقا للكفر أو موجبا له- كما في الجواهر- و هو خارج عن محل الكلام.

و منه يظهر الوجه في تحريم الاستنجاء، لوضوح أنه أشد أفراد التوهين بالوجه المذكور.

هذا، و الذي يظهر من الأصحاب أن الأمور المحترمة صنفان.

الأول: المطعوم، كما في الشرائع و القواعد، و نسب في كلام غير واحد إلي جماعة من أصحابنا، بل عن المنتهي نسبته إلي علمائنا، و في الغنية و عن ظاهر الروض دعوي الإجماع عليه.

ص: 107

______________________________

و العمدة فيه ارتكازيات المتشرعة بلحاظ أن في الاستنجاء من التوهين ما لا يناسب وضع النعمة، بل هو بنظرهم- بل نظر العرف- كفر بها لا يناسب شكر المنعم بها.

و أما الاستدلال بفحوي ما ورد في العظم و الروث من التعليل بأنه طعام الجن.

فيشكل بعدم وضوح كون الملاك في ذلك الاحترام، بل لعله التخوف من ضررهم، بل في تلك الأدلة ما يظهر منه أن الملاك هو القيام بشرطهم علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله.»

و مثله الاستدلال عليه بما عن الدعائم: «نهوا عليهم السّلام عن الاستنجاء بالعظام و البعر و كل طعام» «1»، لضعفه في نفسه، و قرب كونه رواية بالمعني مستندة إلي اجتهاد الراوي، علي أن عموم الطعام لكل مطعوم لا يخلو عن إشكال.

و أما الاستدلال بما تضمن الأمر باحترام الطعام و النهي عن توهينه، مثل ما تضمن الأمر بلطع القصعة «2»، و مص الأصابع «3»، و أكل ما يسقط من الخوان «4»، و أكل التمرة و الكسرة المطروحة بعد غسلها إن كانت قذرة «5»، و النهي عن أن يوضع الخبز تحت القصعة «6»، و أن ينتظر به غيره «7»، و شمه «8»، و التخوف من وطء المائدة «9».

فلا مجال له بعد ظهور كثير منها في الاستحباب و الكراهة، بل لا يبعد لزوم

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 67، 112 من أبواب آداب المائدة.

(3) راجع الوسائل باب: 67، 78، 112 من أبواب آداب المائدة.

(4) راجع الوسائل باب: 76 من أبواب آداب المائدة.

(5) راجع الوسائل باب: 77 من أبواب آداب المائدة.

(6) راجع الوسائل باب: 81 من أبواب آداب المائدة.

(7) راجع الوسائل باب: 83 من أبواب آداب المائدة.

(8) راجع الوسائل باب: 85 من أبواب آداب المائدة.

(9) راجع الوسائل باب: 79 من أبواب آداب المائدة.

ص: 108

______________________________

حمل جميعها علي ذلك، و لو لضعف سنده.

نعم، ورد في خصوص العجين ما ظاهره تحريم الاستنجاء به، و هي قصة أهل الثرثار الذين استنجوا به، التي وردت بطرق متعددة، و قد تضمن أكثرها أن فيها نزول قوله تعالي قَرْيَةً كٰانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهٰا رِزْقُهٰا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّٰهِ فَأَذٰاقَهَا اللّٰهُ لِبٰاسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِمٰا كٰانُوا يَصْنَعُونَ «1».

لكن لا مجال للتعدي من العجين لكل مطعوم.

نعم، لا ريب في التعدي للخبز بالأولوية العرفية، بل لا ينبغي التأمل في التعدي منه للطحين، بل للحنطة و الشعير، بل لا يبعد التعدي للارز و نحوه.

بل قد يستدل في الحنطة و الشعير بصحيح هشام بن سالم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صاحب لنا يكون علي سطحه الحنطة و الشعير، فيطؤونه يصلون عليه. قال: فغضب ثمَّ قال: لو لا أني أري أنه من أصحابنا للعنته» «2»، و نحوه ما في خبر أبي عيينة «3»، فإن حرمة الوطء تقتضي حرمة الاستنجاء بالأولوية.

لكن لا يبعد حمله علي الكراهة، لأن الوطء في مثل ذلك قد لا يعد توهينا عرفا. فتأمل.

و كيف كان، فنحن في غني عن ذلك بعد عموم الارتكاز في حرمة الاستنجاء لجميع أنواع الطعام مما ينتفع به في الأكل و يعدّ له.

و إن استشكل في بعض ذلك في الجواهر. قال: «لا يبعد عدم ثبوت الاحترام بالنسبة إلي بعض المطعومات الغير المعتادة، كبعض البقول. بل الإنصاف أن بعضا من المعتاد كاللحم و نحوه ليس مبنيا علي الاحترام».

لكنه مشكل.

ثمَّ إن المرتكزات تقضي بحرمة الاستنجاء في مثل الخبز و التمر و الحنطة

______________________________

(1) النحل: 112.

(2) الوسائل باب: 79 من أبواب آداب المائدة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 79 من أبواب آداب المائدة حديث: 4.

ص: 109

______________________________

مطلقا و إن لم يصلح للأكل لتعفن و نحوه. أما في غيره فالمتيقن منها ما إذا كان صالحا للأكل فعلا، دون ما سقط عن ذلك بتعفن و نحوه، أو لم يصلح له رأسا، لعدم نضجه، كما لا يجزي ذلك في مطعوم الحيوانات.

هذا، و يناسب هنا الكلام فيما تعارف بين المتديّنين من الاهتمام بتنحية الخبز و ما يشبهه عن الطريق و نحوه مما يتعرض فيه للوطء و التقذر، فان عملهم ربما كان متفرعا علي بنائهم علي وجوبه، بل كان ظاهر سيدنا المصنف قدّس سرّه الفتوي به فيما إذا كان الخبز بمقدار معتد به بحيث يتحقق به التوهين.

لكن الدليل عليه غير ظاهر، فان المتيقن من المرتكزات في حرمة التوهين لمثل الخبز هو حرمة فعل ما يوجبه، كالاستنجاء به و وطئه، أما وجوب دفع تحققه من الغير بتنحية الخبز عن الطريق الذي يتعرض فيه لذلك فوضوحه من المرتكزات ممنوع، بل ليس المتيقن منها إلا حسن ذلك، لما فيه من تكريم النعمة و كونه من مظاهر شكرها، نظير أكل الخبز حينئذ.

بل حيث كان الابتلاء بذلك في جميع العصور كثيرا فعدم وقوع السؤال عنه في النصوص مع كثرة فروعه قد يوجب الوثوق بعدم وجوبه.

بل قد تضمن غير واحد من النصوص أن ما يسقط من الخوان و المائدة خارج المنزل لا يلقط، بل يترك، ففي صحيح معمر بن خلاد: «سمعت أبا الحسن الرضا عليه السّلام يقول: من أكل في منزله طعاما فسقط منه شي ء فليتناوله، و من أكل في الصحراء أو خارجا فليتركه للطير و السبع» «1» و نحوه غيره، و من أن ذلك معرض له لمثل الوطء، و هو لا يناسب وجوب دفع ذلك عنه بتنحيته عن الطريق.

نعم، قد يبلغ التوهين مرتبة يقطع معها بوجوب دفعه عنه، لكثرة الطعام و بشاعة ما يتعرض له من موجباته.

إلا أنه فرض لا ضابط له، و الرجوع مع الشك للبراءة متعين. فلاحظ و اللّه

______________________________

(1) الوسائل باب: 72 من أبواب آداب المائدة حديث: 1.

ص: 110

______________________________

سبحانه و تعالي العالم.

الثاني: ما يكون من شعائر الدين، لانتسابه إليه تعالي أو إلي أوليائه، ككتابه المجيد و كتب الحديث و الأدعية و ما كتب عليه اسمه تعالي أو اسم أحد المعصومين عليهم السّلام و التربة و السبحة الحسينيتين و نحوها، فقد نص في القواعد علي التربة الحسينية، و عمم في كشف اللثام و محكي التذكرة و النهاية لتربة النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام، و زاد في الأخيرين ما كتب عليه القرآن أو العلوم أو أسماء الأنبياء أو الأئمة عليهم السّلام، و في المعتبر ذكر ورق المصحف و كتب الفقه و حديث النبي صلّي اللّه عليه و آله، و عن التحرير ذكر حجر زمزم، و في كشف اللثام: «و بالجملة: ما علم من الدين أو المذهب وجوب احترامه».

و العمدة فيه: أن توهينها بالاستنجاء توهين لمن تنسب إليه، و إليه يرجع ما في المعتبر من أن فيه هتكا للشرع.

و عليه لا بد في ذلك من نسبتها للجهة الشريفة عرفا، لوضعها علي ذلك و تعنونها به في مقام تشريفها، لا محض انتسابها واقعا من دون تعنون، أو مع انسلاخ العنوان المذكور عرفا بعد تحققه، كما لا يبعد في مثل غلاف المصحف إذا فصل عنه و ذهبت معالمه و التربة الشريفة و حجر زمزم إذا لم تؤخذ بالعنوان الخاص المبني علي التبرك.

هذا، و في جامع المقاصد: «يوجد في عبارة بعض الأصحاب ما كتب عليه القرآن. و فيه شي ء، فان هذا يقتضي كفر فاعله، و في التربة المقدسة إن دل استعمالها علي الاستخفاف بالحسين عليه السّلام كذلك».

لكن التفريق بين القرآن و التربة بالإطلاق في الأول و التقييد في الثانية غير ظاهر، و مثله ما يأتي عن شرح الألفية الظاهر في الإطلاق فيهما.

بل الظاهر عدم الكفر في الأمرين و لا في غيرهما مع عدم وقوع الاستنجاء لأجل الاستخفاف و التوهين، و إن استلزم التوهين خارجا، و مع ابتنائه علي ذلك قد يلحق بالكفر في إسقاطه حرمة القائم به، لمنافاته عرفا للاعتراف بالدين و الإقرار به و بشعائره، نظير سب أحد المعصومين عليهم السّلام فتأمل.

ص: 111

و كذا بالعظم و الروث (1)، علي الأحوط وجوبا.

______________________________

نعم، لا بد في ذلك من رجوع الاستخفاف إلي الاستخفاف بمن تنسب إليه هذه الأمور، إما الاستخفاف بنفس الأمر المنتسب، لتجاهل نسبته فهو لا يوجبه، و إن كان محرما بعد فرض حصول التوهين به، كمن يقصد توهين التربة الشريفة، لعدم قناعته بأن توهينها توهين لمن تنسب إليه.

إلا أن يكون تشريف الأمر المنتسب بالنسبة مقوما للدين أو من ضرورياته كتشريف الكتاب المجيد.

(1) باتفاق الأصحاب، كما في المعتبر، و بالإجماع، كما في الغنية و عن الروض و الدلائل و المفاتيح، و عن المنتهي نسبته إلي علمائنا.

و لم يعرف الخلاف فيه قبل الوسائل، حيث حكم بالكراهة، إلا من ظهور إطلاق ابن حمزة في الوسيلة جواز الاستجمار بما يزيل العين سوي ما يؤكل، و احتمال العلامة في محكي التذكرة الكراهة الذي قد لا يكون خلافا.

و أما سكوت المراسم عن التنبيه علي ذلك فليس لخلافه فيه، بل لاعتباره فيما يمسح به أن يكون أصله من الأرض، كما سبق.

و كيف كان، فيدل علي التحريم جملة من النصوص، ففي خبر ليث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود. قال: أما العظم و الروث فطعام الجن، و ذلك مما اشترطوا علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، فقال: لا يصلح بشي ء من ذلك» «1» و قال في الفقيه: «و لا يجوز الاستنجاء بالروث و العظم، لأن وفد الجان جاؤا إلي رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله، فقالوا: يا رسول اللّه متعنا فأعطاهم الروث و العظم، فلذلك لا ينبغي أن يستنجي بهما» «2» و في حديث المناهي: «و نهي أن يستنجي

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الفقيه طبع النجف الأشرف ج: 1 ص: 20 و ذكر الحديث في الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

ص: 112

______________________________

الرجل بالروث و الرمة» «1»، و في الخلاف: «و روي سلمان قال: أمرنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن نستنجي بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع و لا عظم» «2» و رواية الدعائم المتقدمة في المطعوم، و غيرها.

و لا مجال للإشكال فيها بضعف السند بعد انجبارها بعمل الأصحاب بالوجه المذكور، خصوصا رواية ليث التي وقع في سندها غير واحد من الأجلاء و يظهر من الأصحاب الاستدلال بها، حتي ذكر في المعتبر أنه رواها الأصحاب عن ليث.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من عدم ظهور روايتي ليث و الفقيه في الحرمة، بل التعليل في الأولي صارف لبقية النصوص إلي الكراهة.

فهو كما تري! بل التعليل فيهما ظاهر في الحرمة جدا، لوضوح وجوب القيام بشرط النبي صلّي اللّه عليه و آله و بمقتضي عطيته علي أمته، بترك الاستنجاء الذي يظهر من الروايتين منافاته لهما، و ذلك قرينة علي حمل: «لا يصلح» و «لا ينبغي» فيهما علي الحرمة.

ثمَّ إن المعتمد هو إطلاق العظم في رواية ليث و نحوها، و لا مجال للتخصيص بالرمة- التي هي العظم البالي- لحديث المناهي بعد إعراض الأصحاب عنه و اعتمادهم علي غيره في إطلاق المنع.

كما أن الإطلاق المذكور شامل لعظم ما لا يؤكل لحمه.

و تقييده بما يؤكل، لدعوي: اتفاقهم مع الإنس في الحكم. كما تري! و كذا الحال في الروث الذي تضمنته رواية ليث و غيرها، فإنه ظاهر في رجيع ذات الحافر من الخيل و الحمير و نحوها، دون ذات الظلف، و قد يشعر به العدول في الجواب عن البعر إلي الروث في رواية ليث، كما في الجواهر.

و لا مجال للاستدلال علي العموم بإطلاق الرجيع في رواية الخلاف و ذكر البعر في رواية الدعائم، بعد ضعف سندهما و عدم انجبارهما، بل ظهور

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(2) الخلاف طبع إيران الحجري ص: 8.

ص: 113

بل الأحوط وجوبا عدم الاجتزاء بالاستجمار في الجميع (1).

______________________________

إعراض الأصحاب عنهما. و لا سيما مع ما في القاموس من تفسير الرجيع بالروث.

هذا، و أما ما نقله في مفتاح الكرامة عن النهاية و المبسوط من الاقتصار علي العظم فلا وجه له بعد اشتراك الروث معه في الدليل. علي أن المطبوع من النهاية قد اشتمل علي ذكر الروث، و في المبسوط مثّل لما لا يزيل عين النجاسة بالعظم من دون ظهور في الحصر [1].

بقي شي ء، و هو أنه لا بد من الاقتصار علي مورد النصوص المتقدمة، و هو الاستنجاء بالعظم و الروث، و لا مجال للتعدي عنه لتنجيسهما بالغائط بغير الاستنجاء، فضلا عن مطلق التنجيس. بدعوي: أنه مقتضي التعليل بكونهما طعام الجن.

و ذلك لأن ترتب حرمة الاستنجاء علي كونهما طعاما للجن ليس عرفيا، ليمكن التعدي منه لكل ما يشاركه في الجهة المقتضية له، بل هو تعبدي مستفاد من النصوص المختصة بالاستنجاء، فالمرجع في غيره الأصل.

بل لا ينبغي احتمال الحرمة فيه بعد ملاحظة مرتكزات المتشرعة و سيرتهم القطعية علي إهمال العظم و الروث و عدم التحفظ من تنجسهما.

(1) كما هو صريح المبسوط و المعتبر و الشرائع و ظاهر النهاية و الغنية و النافع، و حكي عن السرائر، بل ظاهر الغنية دعوي الإجماع عليه، و عن الذخيرة دعوي الشهرة عليه.

و صرح بالاجزاء في القواعد و جامع المقاصد و المسالك و المدارك، و حكي عن الشهيد و الصيمري و الجامع و الدلال و غيرها، بل عن المفاتيح دعوي الشهرة عليه.

______________________________

[1] قال: «و لا يجوز الاستجمار الا بما يزيل العين، مثل الحجر و المدر و الخرق غيرها، فاما ما يزيل عين النجاسة مثل الحديد الصيقل و الزجاج و العظم فلا يستنجي به».

ص: 114

______________________________

و هو الأوفق بالأدلة، بناء علي ما تقدم من عموم الاجتزاء بكل قالع، عملا بإطلاق صحيح يونس المتضمن للاجتزاء بإذهاب الغائط، و الوجوه المتقدمة للمنع إنما تقتضي النهي التكليفي، الذي لا يقتضي الفساد في المقام و نحوه مما لا يكون عبادة، كما ذكره غير واحد.

لكن ادعي بعض مشايخنا أن نصوص الاستنجاء بالعظم و الروث ظاهرة في الإرشاد إلي البطلان، كما هو الحال في سائر موارد النهي في المعاملة بالمعني الأعم، و هي ما يقصد أثره.

و لعله لذا احتمل في كشف اللثام التفصيل بين ما ورد النهي عنه، كالعظم و الروث، لخروجه عن مورد الرخصة صريحا، بخلاف غيره، و جزم بذلك في الجواهر.

و يندفع: بأن التعليل في بعضها بشرط النبي صلّي اللّه عليه و آله للجن و عطيته لهم ظاهر في صلوحها للاستنجاء ذاتا، و أن منشأ المنع منافاة الاستنجاء لحق الجن، الذي هو كمنافاته لحق الإنس في المغصوب لا يقتضي إلا النهي التكليفي.

نعم، عن الدارقطني: «أن النبي صلّي اللّه عليه و آله نهي أن يستنجي بروث أو عظم، و قال:

أنهما لا يطهران» «1». و نحوه المرسل في المعتبر، لكن ضعفهما مانع من التعويل عليهما.

و مثله ما ذكره من أن دليل المنع في العظم و الروث إن كان هو الإجماع لا النصوص كان مقتضي العلم الإجمالي الاحتياط بترتيب أثر الحرمة الوضعية و التكليفية معا، و لا مجال للرجوع للإطلاق، لظهوره في نفي كلتا الحرمتين، فيعلم إجمالا تقييده في إحداهما بالإضافة إلي الأمرين المذكورين، فيسقط فيهما معا.

لاندفاعه. أولا: بانحلال العلم الإجمالي بظهور كلماتهم في الحرمة التكليفية، بقرينة استدلالهم بالنصوص المتقدمة الظاهرة فيها، و إنما الكلام عندهم في الجهة الوضعية معها. فتأمل.

______________________________

(1) عن المنتقي لابن تيمية علي هامش نيل الأوطار للشوكاني مجلد: 1 ص: 84.

ص: 115

مسألة 8 يجب في الغسل بالماء إزالة العين و الأثر

(مسألة 8): يجب في الغسل بالماء إزالة العين و الأثر (1)،

______________________________

و ثانيا: بأن الإطلاق ظاهر في الجهة الوضعية، لوروده في مقام بيان الاستنجاء المطهر، فهو يقتضي مطهرية الأمرين المذكورين، فيكون حجة علي الحرمة التكليفية بعد فرض العلم الإجمالي المذكور.

نعم، لو قيل بعدم نهوض الإطلاقات بإثبات التعدي عن الأحجار لكل قالع، و أن مستنده الإجماع فالمتيقن منه غير ما يحرم الاستنجاء به، كما صرح به غير واحد.

هذا، و أما ما عن شرح الألفية من أن أوراق المصحف و تربة الحسين عليه السّلام لا تطهر، بل يكفر مستعملها مع علمه، فلا يتصور الطهارة، بخلاف الجاهل.

فهو- مع عدم تماميته في نفسه، لما تقدم من أنه لا كفر بالاستنجاء لا بداعي الاستخفاف و التوهين- راجع إلي مطهريتها ذاتا، و النجاسة لأمر خارج، و هو الكفر.

(1) كما في المبسوط و الوسيلة و الشرائع و القواعد، و عن المقنعة و السرائر و غيرها.

و الظاهر أن المراد بالأثر- بقرينة مقابلتهم الماء بالأحجار- ما لا يزول بالمسح عادة من الأجزاء الدقيقة العالقة بالمحل غير المحسوسة بالمس إلا مع الرطوبة الموجبة لانحلالها و لزوجة المحل بسببها، لا اللون أو الرائحة- لما يأتي، و لا الرطوبة المتخلفة، لأنها من العين- كما في جامع المقاصد و عن الدلائل- و لأن بقاءها مع الماء غير ممكن. و لا النجاسة الحكمية، ليكون إشارة إلي تعدد الغسل، لأنه- مع بعده عن ظاهر كلامهم- لا دليل علي وجوبه، بل إطلاق النقاء ينفيه.

هذا، و ربما استشكل في وجوب إزالة الأثر بمنافاته لإطلاق النقاء و إذهاب الغائط في صحيحي ابن المغيرة و يونس، الظاهرين في زوال العين، و لا سيما مع شموله للاستجمار، الذي لا يزول به الأثر عادة.

و ربما يستفاد ذلك من كل من عبّر بالنقاء، كالخلاف و النهاية و المعتبر

ص: 116

و لا يجب إزالة اللون (1)

______________________________

و غيرها. قال في المدارك: «المستفاد من الأخبار المعتبرة أن الواجب في الاستنجاء من الغائط هو الإنقاء خاصة، و هو الذي عبر به المصنف رحمه اللّه في النافع و المعتبر.

و أما ما ذكره المصنف قدّس سرّه هنا و جمع من الأصحاب من وجوب إزالة الأثر مع العين، فلم نقف فيه علي أثر».

و يندفع: بأن ورود الغسل مورد التنظيف الرافع للاستقذار قرينة عرفية علي لزوم إزالة الأثر بالمعني المذكور. فراجع ما تقدم في حكم التثليث عند الكلام في صحيح ابن المغيرة.

و بذلك يتجه تنزيل إطلاق النقاء في كلام غير واحد عليه، و لا سيما مع تصريح المعتبر في توجيه الاكتفاء بالنقاء في الماء و عدم اعتبار العدد بأن الغرض منه إزالة النجاسة عينا و أثرا. و أضعف من ذلك الاستدلال لعدم وجوب إزالته بما ورد في بقاء أثر دم الحيض «1». لأن المراد من الأثر فيه اللون، بقرينة الأمر بصبغه بمشق حتي يختلط، لا المعني المراد هنا. فتأمل. مع أنه مختص بمورده.

و عن المراسم اعتبار أن يصرّ الموضع، فإن أراد وجوب ذلك زائدا علي رفع الأثر و النقاء فلا دليل عليه، بل إطلاق الأدلة ينفيه.

و إن أراد توقف ارتفاع الأثر عليه أو توقف العلم به عليه، فهو ممنوع، إذ قد يكون في الموضع دسومة لا يصرّ معها الموضع، و يتحقق النقاء.

(1) كما صرح به غير واحد، خلافا لما عن التنقيح من تفسير الأثر به، لأنه عرض لا يقوم به بنفسه، و لا ينتقل عن محله، فوجوده دليل علي وجود العين، فيجب إزالته.

و يشكل. أولا: بعدم وضوح توقف انتقال العرض علي انتقال المحل القائم به، بل قد يكون بتفاعل الجسمين، و لذا قد يحدث لون آخر مباين للون الجسمين،

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب النجاسات.

ص: 117

و الرائحة (1)، و يجزي في المسح إزالة العين (2)،

______________________________

كالخضاب بعد بلوغه. و إن لم يكن لنا اطلاع علي حقيقة ذلك.

و ثانيا: بأن الأجزاء الدقيقة التي يتوقف عليها انتقال اللون لا تعد من العين غرفا، و لا تنافي الغسل و الإنقاء و الإذهاب التي تضمنتها الأدلة، و لذا صرحوا في مباحث التطهير بعدم وجوب إزالة اللون، تبعا للنصوص الواردة في دم الحيض «1».

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن ذلك إنما يتم في مثل الثوب مما له مسام دقيقة، دون مثل الجسد مما لا مسام فيه مع مثل العذرة مما لا ثبات في لونه، فحمله للونها لا يكون إلا لبقاء عينها عرفا.

فهو دعوي تحتاج إلي إثبات، و خارجة عن محل الكلام، إذ الكلام في صورة زوال العين عرفا.

(1) كما صرح به في الشرائع و القواعد و غيرهما، بل في المدارك: «هذا مذهب للأصحاب لا أعلم فيه مخالفا» و في كشف اللثام: «حكي عليه الإجماع».

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق إذهاب الغائط في صحيح يونس المتقدم، و إطلاق الغسل المنصرف في المقام و غيره من موارد التطهير للإنقاء غير المتوقف علي زوال الرائحة- صحيح ابن المغيرة المصرح بعدم الاعتداد بالرائحة.

و أما ما عن الأردبيلي من تنزيل الأثر في كلامهم علي الرائحة و حمله علي للندب.

فهو لا يناسب ظهور كلامهم في وجوب إزالة الأثر، و لا تعرضهم للرائحة في مقابله.

(2) كما هو مقتضي الأمر بالإنقاء و إذهاب الغائط في صحيحي عبد اللّه بن المغيرة و يونس المتقدمين، بل هو المنصرف من إطلاقات المسح في نصوص المقام، لارتكاز أن الغرض منه ذلك.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب النجاسات.

ص: 118

و لا تجب إزالة الأثر (1) الذي لا يزول بالمسح بالأحجار عادة (2).

______________________________

(1) كما في المبسوط و ظاهر السرائر، بل هو ظاهر كل من اقتصر في المسح علي زوال العين، و لا سيما بعد مقابلته بزوال الأثر معها في الماء، بل في المعتبر دعوي الإجماع علي العفو عن أثر النجاسة بعد زوال العين، و إنما الكلام في طهر المحل و عدمه معها.

و العمدة فيه: أن التمسح بنفسه لا يوجب زوال الأثر غالبا أو دائما، فتشريعه ظاهر في عدم وجوب إزالته، و به يخرج عن القرينة المتقدمة. و بذلك يتعيّن حمل كلام من اقتصر علي ذكر النقاء- كالنهاية و غيرها- عليه.

هذا، و ظاهر الأصحاب الطهارة مع بقاء الأثر، لا مجرد العفو عنه، بل هو المصرح به في المعتبر و جامع المقاصد، و عن النزهة و المنتهي و التذكرة و الذكري و غيرها، و ظاهر المعتبر و محكي المنتهي عدم الخلاف فيه من أصحابنا، لأنهما حكيا الخلاف عن الشافعي و أبي حنيفة.

و يكفي فيه تفريع الأحجار في صحيح زرارة المتقدم في أول الفصل علي قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلا بطهور».

(2) لأن ذلك هو المناسب للوجه المتقدم للعفو عنه.

و لعله عليه يحمل ما في المبسوط و الشرائع و غيرهما من عدم جواز المسح بصيقل لا يزيل النجاسة، و ما في القواعد و عن غيرها من عدم جوازه بما يزلق عنها.

لوضوح أن الصيقل قد يزيل النجاسة بالمسح، إلا أنه يبقي معه مرتبة من الأثر أكثر من مرتبة ما يبقي منه مع التمسح بالأحجار و نحوها، لا يشملهما إطلاق التمسح عرفا، لانصرافه- بقرينة ارتكاز نجاسة الغائط بتمام أجزائه و كون الغرض التطهير منه- إلي زواله ما يمكن زواله من أجزاء العين مع المسح المتعارف، و حيث كان ذلك خارجا عنه، فلا طريق لإثبات العفو عما يبقي معه.

هذا، و أما الاجتزاء بالماسح المذكور بعد حصول النقاء لا كمال العدد- كما

ص: 119

مسألة 9 إذا خرج مع الغائط نجاسة أخري لا يجزي في التطهير إلا الماء

(مسألة 9): إذا خرج مع الغائط أو قبله أو بعده نجاسة أخري- مثل الدم- و لاقت المحل لا يجزي في التطهير إلا الماء (1).

______________________________

استوضحه في الجواهر- فهو لا يخلو عن إشكال، لأن نصوص التثليث مختصة بالأحجار، و المتيقن في التعدي عنها غير ذلك.

و لا مجال للرجوع لإطلاق إذهاب الغائط و النقاد- و لو فرض صدقهما في المقام- لأن نصوص التثليث أخص. نعم، قد يتجه الاجتزاء به لتحقيق الوتر المستحب بعد النقاء، لعدم منافاته للإطلاق المذكور. إلا أن يدعي انصرافه إلي ما هو نظير المسح الذي يحصل به النقاء. فلاحظ.

(1) ففي مفتاح الكرامة: «و نص الشهيد و المحقق الثاني و أبو العباس و الصيمري علي عدم إجزاء الأحجار مع خروج الغائط ممتزجا بغيره من النجاسات. و هو ظاهر الأكثر».

و العمدة فيه: خروج ذلك عن الاستنجاء الذي هو موضوع مطهرية الأحجار، نظير ما تقدم فيما لو مسح بالحجر النجس.

و منه يظهر امتناع الاستجمار أيضا بالحجر المرطوب رطوبة مسرية، لانفعاله بالنجاسة و انفعال الموضع به.

و لو شك في طروء النجاسة الخارجية أجزأت الأحجار، للعلم بارتفاع نجاسة الغائط بها و استصحاب عدم غيرها.

و لا مجال للرجوع لاستصحاب النجاسة، لأنه من القسم الثالث من استصحاب الكلي، بناء علي تعدد النجاستين، بحيث يمكن زوال أحدهما دون الأخري، أما بناء علي اتحادهما و لحوق حكم الأشد لهما، فيكون من القسم الثاني.

ص: 120

الفصل الثالث: في آداب التخلي
اشارة

الفصل الثالث يستحب للمتخلي- علي ما ذكره العلماء رحمهم اللّه- أن يكون بحيث لا يراه الناظر (1)،

______________________________

(1) لما في خبر حماد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال لقمان لابنه:. و إذا أردت قضاء حاجتك فابعد الذهب في الأرض» «1»، و في مرسل الطبرسي عنه عليه السّلام في وصف لقمان: «و لم يره أحد من الناس علي بول قط و لا اغتسال، لشدة تستره و تحفظه في أمره. فبذلك أوتي الحكمة و منح القضية» «2» و مرسل الشهيد في النفلية عن النبي صلّي اللّه عليه و آله: «أنه لم ير علي بول أو غائط» «3» و مرسله الآخر: «و قال عليه السّلام:

من أتي الغائط فليستتر» «4»، و في مرسل الاحتجاج في جواب الكاظم عليه السّلام لأبي حنيفة: «يتواري خلف الجدار.» «5» و غيرها.

و ظاهر هذه النصوص إرادة الاستتار عن الناظر سواء كان بالبعد في مثل الصحاري من الأمكنة المنكشفة، أم بالجلوس خلف حاجب من بناء أو ربوة، بل و الاستتار بمثل الستر المضروب، و ما في الجواهر من عدم كفاية الاستتار بعباءة و نحوها لم يتضح وجهه.

إلا أن يريد به مثل لبس العبادة الساترة للبدن، لصدق النظر للشخص معها عرفا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 4 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1، 2، 3، 4.

(5) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

ص: 121

______________________________

نعم، يظهر من بعض النصوص استحباب بناء الكنيف في أستر موضع من الدار، فعن الدعائم: «و روينا عن بعضهم عليهم السّلام أنه أمر بابتناء مخرج في الدار، فأشاروا إلي موضع غير مستتر من الدار، فقال عليه السّلام: يا هؤلاء ان اللّه عز و جل لما خلق الإنسان خلق مخرجه في أستر موضع منه، و كذلك ينبغي أن يكون المخرج في أستر موضع في الدار» «1» و عن توحيد المفضل: «أ ليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع فيها، فهكذا جعل اللّه سبحانه المنفذ المهيأ للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه» «2».

لكن هذا- لو تمَّ- مستحب آخر زائد علي استحباب التستر حين قضاء الحاجة.

ثمَّ إنه عبر في الشرائع و القواعد باستحباب ستر البدن، و ظاهره- و لا سيما مع إلحاقه في الأول بوجوب ستر العورة- إرادة ستر البدن بثوب و نحوه، و لا مجال لحمل النصوص المتقدمة عليه، و لا دليل عليه من غيرها، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و لعله لذا حمله في المدارك و غيرها علي ما في المتن من تستر المتخلي نفسه بالبعد أو الجلوس من خلف حائل.

نعم، لا يبعد كراهة التعري تحت السماء و لو في غير حال التخلي، لما تضمن النهي عن الغسل تحت السماء بغير مئزر «3».

و أما دعوي: كراهة التعري مطلقا لخبر أبي بصير الذي لا يخلو عن اعتبار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قال: إذا تعري أحدكم نظر إليه الشيطان فطمع فيه فاستتروا» «4» و لنصوص المئزر، الشاملة لصورة عدم وجود الناظر.

فهي لا تخلو عن إشكال، لظهور الخبر في الأمر بالاستتار لا باستعمال

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 4 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(2) مستدرك الوسائل باب: 4 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب آداب الحمام حديث: 2، 3، 4.

(4) الوسائل باب: 9 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

ص: 122

و لو بالابتعاد عنه (1)، كما يستحب له تغطية الرأس (2)،

______________________________

الساتر، فيلزم حمل التعري المنهي عنه فيه علي التعري مع عدم الاستتار.

و نصوص المئزر حيث كانت ظاهرة في الحرمة و خصصت بوجود الناظر فلا مجال لاستفادة الكراهة منها مع عدمه.

ثمَّ إنه لا وجه لتخصيص ذلك بالغائط بعد ورود بعض النصوص المتقدمة في البول و قرب فهم عدم الخصوصية للغائط من غيرها.

(1) كما هو المتيقن من بعض النصوص المتقدمة و غيرها.

(2) كما صرح به غير واحد. بل في المعتبر و عن الذكري و المفاتيح أن عليه اتفاق الأصحاب.

و يقتضيه ما عن المقنعة: «ان تغطية الرأس إن كان مكشوفا سنة من سنن النبي صلّي اللّه عليه و آله «1» و ما عن الجعفريات بسنده عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله. كان إذا أراد الكنيف غطي رأسه» «2».

و علله في الفقيه بالإقرار بأنه غير مبرئ نفسه من العيوب، و في محكي المقنعة بأنه يأمن بذلك من عبث الشيطان، و من وصول الرائحة الخبيثة إلي دماغه، و بأن فيه إظهار الحياء من اللّه تعالي لكثرة نعمه علي العبد و قلة الشكر منه.

و هذه التعليلات كما تري، إذ لم نعثر علي ما تضمنها من النصوص، لتكون شرعية تعبدية. كما أنها ليست عرفية، كيف و لا إشكال في عدم كون تغطية الرأس بمثل العمامة و القلنسوة من مظاهر الحياء أو الإقرار بالعيب.

كما أن طريق وصول الرائحة الأنف لا الرأس. إلا أن يريدوا بالرأس ما يقابل الجسد، لا ما يقابل الوجه الذي يحده قصاص الشعر، حيث قد يتجه فيه بعض هذه التعاليل. إلا أنه يتوقف علي قصد ذلك منه.

مع أن المعني المذكور لا يناسب مرسل المقنعة، لأن الرأس بالمعني

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 123

و التقنع (1)، و هو يجزي عنها (2)،

______________________________

المذكور منكشف غالبا بسبب كشف الوجه، فلا وجه للتقييد بكونه مكشوفا، بل لا مجال للبناء علي استحباب ستر جميعه، لعدم الإشكال في سيرتهم عليهم السّلام علي كشف بعض الوجه. إلا أن يريدوا بستره ما يساوق التقنع الذي يأتي الكلام فيه، كما قد يناسبه عدم ذكر كثير منهم للتقنع مع ورود غير واحد من النصوص به.

(1) ففي المرسل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه [كان يعمله] إذا دخل الكنيف يقنع رأسه، و يقول سرا في نفسه: بسم اللّه و باللّه.» «1».

و في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله لأبي ذر: «يا أبا ذر استحي من اللّه، فإني و الذي نفسي بيده لا ظل حين أذهب إلي الغائط متقنعا بثوبي استحياء من الملكين اللذين معي» «2»، و عن الدعائم عنهم عليهم السّلام: «ان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كان إذا دخل الخلاء تقنع و غطي رأسه و لم يره أحد» «3».

(2) لأنه أخص منها، لتحقق التغطية بمثل العمامة و القلنسوة مما لا يصدق معه التقنع. فيلزم لأجل ذلك حمل الجمع بينهما في خبر الدعائم المتقدم علي التفسير الراجع إلي عدم استحباب التقنع إلا لأجل التغطية، أو التأكيد بلحاظ استلزام التقنع للتغطية.

و الأول هو الظاهر من الحديث، و الثاني هو المناسب لظاهر بقية النصوص.

هذا كله بناء علي أن المراد بالرأس الذي يستحب ستره هو المقابل للوجه، الذي يحده قصاص الشعر، أما بناء علي أن المراد به ما يقابل الجسد فالنسبة بينه و بين التقنع لا تخلو عن إشكال، لما أشرنا إليه آنفا من عدم إمكان البناء علي استحباب ستر جميعه، و أنه لا بد من كشف بعض الوجه.

كما أنه لم يتسير لنا تحديد التقنع بعد الرجوع لما تيسر الاطلاع عليه من

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(3) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 124

و التسمية عن التكشف (1).

______________________________

كلمات اللغويين و غيرها.

فمقتضي إطلاق التقنع علي لبس بيضة الحرب كونه ستر الرأس، كما أن قناع المرأة عرفا ما يستر رأسها و رقبتها عدا قرص الوجه.

و لعله المناسب لما أرسله في مكارم الأخلاق عن عبد اللّه بن وضاح: «رأيت أبا الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام و هو جالس في مؤخر الكعبة و تقنع و أخرج أذنيه من قناعه»، و في جمهرة ابن دريد: «و كل مغط رأسه فهو مقنع، و من ذلك قولهم:

تقنع القوم في الحديد إذا تكفروا و لبسوا المغافر و البيض». و ربما يستفاد ذلك من غيره من اللغويين، لاضافتهم القناع للرأس.

ثمَّ إن المحكي عن الشيخين و المفاتيح استحباب التقنع فوق العمامة. فإن أرادوا به استحباب التقنع في فرض وجود العمامة، فهو في محله، إلا أنه لا يتعين كونه فوقها. و إن أرادوا به استحباب الجمع بين الأمرين، فلا دليل عليه.

(1) ففي صحيح محمد بن الحسين عن العسكري عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عن جعفر عليه السّلام: «قال: قال النبي صلّي اللّه عليه و آله إذا انكشف أحدكم لبول أو غير ذلك فليقل:

بسم اللّه، فان الشيطان يغض بصره» «1» و نحوه موثق السكوني «2».

هذا و قد أطلق غير واحد من الأصحاب التسمية في مستحبات الخلوة، و ظاهره استحبابها عند دخول الخلاء، بل هو المصرح به في المعتبر، المدعي عليه فيه اتفاق الأصحاب.

و يقتضيه غير واحد من النصوص، كالمرسل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام المتقدم في التقنع، و نحوه مرسل الصدوق عنه عليه السّلام «3» و صحيح معاوية بن عمار: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا دخلت المخرج فقل: بسم اللّه، اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الرجس النجس الشيطان الرجيم. فإذا خرجت فقل: بسم اللّه

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 5 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

ص: 125

و الدعاء بالمأثور (1)، و تقديم الرجل اليسري عند الدخول و اليمني عند الخروج (2)،

______________________________

الحمد للّه الذي عافاني من الخبيث المخبث و أماط عني الأذي» «1» و مرفوع سعد بن عبد اللّه عن الصادق عليه السّلام: «انه قال: من كثر عليه السهو في الصلاة فليقل إذا دخل الخلاء: بسم اللّه و باللّه أعوذ باللّه من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم» «2».

و لو أريد من التسمية مطلق ذكر اللّه تعالي- و لو بمثل الدعاء- ففيه نصوص أخري يأتي بعضها.

(1) عند الدخول و الخروج بمثل ما تقدم في صحيح معاوية بن عمار و مرفوع سعد بن عبد اللّه و غيره مما تضمنه غير واحد من النصوص.

و ظاهر بعضها استحباب الدعاء عند الفراغ من التخلي، ففي خبر أبي بصير عن أحدهما عليهم السّلام بعد ذكر الاستعاذة بالوجه المتقدم في مرفوع سعد: «و إذا فرغت فقل: الحمد للّه الذي عافاني من البلاء و أماط عني الأذي» «3» و في خبر أبي أسامة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في بيان السنة في دخول الخلاء: «قال: تذكر اللّه و تتعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فإذا فرغت قلت: الحمد للّه علي ما أخرج مني من الأذي في يسر و عافية» «4».

و هناك أدعية أخري في هذه الحالات و غيرها يضيق المقام عن استقصائها.

كما أن المنساق من الأدلة عدم خصوصية المكان المعد للخلاء في الأدعية المذكورة، بل تشرع عند التهيؤ للتخلي في مكانه و بعد مفارقة مكانه و إن لم يكن معدا لذلك.

(2) كما هو صرح به غير واحد، بل في المدارك أنه مشهور بين الأصحاب،

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 5 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 5 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 126

و الاستبراء (1)،

______________________________

و في الغنية الإجماع عليه.

و عللوه بالفرق بينه و بين السجدة الذي يستحب فيه العكس، و استحسنه في المعتبر مع اعترافه بعدم الحجة عليه.

و قال في الحدائق: «لكن الصدوق ذكره في الفقيه. و الظاهر أن مثله من أرباب النصوص لا يذكر ذلك إلا عن نص بلغه فيه».

و فيه: أنه لا مجال لاستظهار ذلك منه بعد تعليله له بما تقدم. ثمَّ إنه لو تمَّ ذلك فهل يختص بالبنيان مما يصدق فيه الدخول و الخروج أو يجري في غيره بالإضافة إلي موضع الجلوس؟ وجهان.

(1) كما صرح به غير واحد، و نسب إلي المشهور في المدارك و كشف اللثام و عن غيرهما.

و عقد في الاستبصار بابا في وجوبه، و به صرح في الغنية و الوسيلة، بل في الغنية دعوي الإجماع عليه.

و قد ذكر في الاستبصار في الباب المذكور صحيح محمد بن مسلم: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: رجل بال و لم يكن معه ماء قال: يعصر أصل ذكره إلي طرفه [رأس ذكره. نسخة من التهذيب] ثلاث عصرات، و ينتر طرفه، فان خرج بعد ذلك شي ء فليس من البول، و لكنه من الحبائل» «1» و صحيح حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يبول. قال: ينتره ثلاثا، ثمَّ إن سال حتي يبلغ السوق فلا يبالي» «2».

لكن تفريع فائدة الاستبراء بعد ذكره في الصحيحين موجب لظهورهما في الإرشاد.

علي أنه قد يستفاد عدم الوجوب من صحيح جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 127

______________________________

«قال: إذا انقطعت درة البول فصب الماء» «1» و خبر روح بن عبد الرحيم قال:

«بال أبو عبد اللّه عليه السّلام و أنا قائم علي رأسه و معي أداوة، أو قال: كوز، فلما انقطع شخب البول قال بيده هكذا إلي، فناولته الماء، فتوضأ مكانه» «2».

بل من القريب حمل كلام من عرفت علي الإرشاد، لبيان توقف جواز البناء علي طهارة البلل المشتبه علي الاستبراء، لا وجوبه تعبدا نفسيا، إذ هو لا يلائم ما تقدم من عدم وجوب أصل الاستنجاء، و لا مقدميا بلحاظ توقف صحة الاستنجاء و ترتب أثره عليه، لبعده جدا، بل بعض نصوص الاستبراء ظاهر في عدم الحكم بنجاسة المحل مع عدم الاستبراء إلا بخروج البلل المشتبه.

و كيف كان فالصحيحان المذكوران لا ينهضان بإثبات الاستحباب فضلا عن الوجوب، كما صرح به غير واحد.

نعم، عن الجعفريات بإسناده عن علي عليه السّلام: «قال: قال لنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

من بال فليضع إصبعه الوسطي في أصل العجان، ثمَّ يسلها ثلاثا» «3»، و نحوه عن نوادر الراوندي «4»، و عن عوالي اللئالي عن داود: «إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: إذا بال أحدكم فلينتر ذكره» «5».

هذا، و ظاهر الأصحاب تبعا للنصوص اختصاص استحباب الاستبراء بالرجل.

لكن قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و ما في المنتهي من أن الرجل و المرأة سواء، و البكر و الثيب سواء، غير ظاهر المراد و لا ظاهر المستند».

و يأتي في آخر الكلام في كيفية الاستبراء التعرض لاستبراء المرأة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(3) مستدرك الوسائل باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(5) مستدرك الوسائل باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

ص: 128

و أن يتكئ حال الجلوس علي رجله اليسري و يفرج اليمني (1).

و يكره الجلوس في الشوارع (2)،

______________________________

(1) قال في الحدائق: «و منها الاعتماد علي اليسري ذكره جملة من الأصحاب (رضوان اللّه عليهم). و لم أقف فيه علي نص، و أسنده في الذكري إلي رواية عن النبي صلّي اللّه عليه و آله. و قال العلامة في النهاية: لأنه عليه السّلام علم أصحابه الاتكاء علي اليسار. و هما أعلم بما قالا.»

و عن مجمع الزوائد علي الطبراني الكبير عن رجل من بني مدلج عن أبيه قال: «جاء سراقة بن مالك بن جشعم من عند النبي صلّي اللّه عليه و آله، فقال: علمنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كذا و كذا، فقال رجل كالمستهزئ: أما علمكم كيف تخرؤون. فقال:

بلي و الذي بعثه بالحق، لقد أمرنا أن نتوكأ علي اليسري، و أن ننصب اليمني» «1».

(2) جمع شارع، و هو الطريق الأعظم، كما في الصحاح و لسان العرب و مجمع البحرين.

لكن في كشف اللثام: أنه الطريق النافذ. و يناسبه ما في الصحاح: «و شرع المنزل إذا كان بابه علي طريق نافذ»، و في لسان العرب: «و شرع المنزل إذا كان علي طريق نافذ،. يقال: شرعت الباب إلي الطريق أنفذته إليه» و في نهاية ابن الأثير:

«كانت الأبواب شارعة إلي المسجد، أي: مفتوحة إليه. يقال: شرعت الباب إلي الطريق أي: أنفذته إليه» و نحوه في القاموس.

بل يتعين الحمل علي ذلك بلحاظ النصوص، ففي صحيح عاصم بن عبد الحميد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رجل لعلي بن الحسين عليه السّلام: أين يتوضأ الغرباء؟ قال: تتقي شطوط الأنهار و الطرق النافذة، و تحت الأشجار المثمرة

______________________________

(1) هامش الحدائق 2: 68 عن مجمع الزوائد للهيثمي 1: 206.

ص: 129

______________________________

و مواضع اللعن. فقيل له: و أين مواضع اللعن؟ قال: أبواب الدور» «1»، و في حديث المناهي: «نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن يبول أحد تحت شجرة مثمرة أو علي قارعة الطريق» «2»، و في حديث الأربعمائة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قال: لا تبل علي المحجة، و لا تتغوط عليها» «3»، و المحجة جادة الطريق، كما في الصحاح و مجمع البحرين، و في لسان العرب «المحجة الطريق، و قيل: جادة الطريق. و قيل: محجة الطريق سننه» و الجادة معظم الطريق، كما في الصحاح، أو مسلكه و ما وضح منه، كما في لسان العرب.

فان المتحصل بعد النظر في النصوص و كلمات اللغويين أن موضوع الحكم هو مطلق الطريق النافذ.

ثمَّ إنه صرح بالكراهة جمع من الأصحاب، بل هو المشهورة شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا، بل هي كذلك، كما في الجواهر، و في الغنية دعوي الإجماع عليه.

و لم يعرف الخلاف فيه إلا ما في المقنعة و الهداية، قال في الهداية: «و لا يجوز التغوط علي شطوط الأنهار و الطرق النافذة و أبواب الدور و في ء النزال و تحت الأشجار المثمرة. و لا يجوز البول في حجور الهوام و لا في الماء الراكد. و لا يجوز أن يطمح الرجل ببوله في الهواء.» و قال في المقنعة: «و لا يجوز التغوط علي شطوط الأنهار، لأنها موارد الناس للشرب و الطهارة، و لا يجوز أن يفعل فيها ما يتأذون به. و لا يجوز التغوط علي جواد الطرق، و لا في أفنية الدور، لا يجوز تحت الأشجار المثمرة و لا في المواضع التي ينزلها المسافرون و لا في أفنية البيوت، و لا يجوز في مجاري المياه و لا في الماء الراكد».

لكن سياق كلامهما يأبي الحمل علي الحرمة، لبعد ذهابهما إلي حرمة جميع الأمور المذكورة في كلامهما.

و كيف كان فلا مجال له بعد الشهرة المذكورة علي الكراهة، و قيام السيرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 12.

ص: 130

و المشارع (1)،

______________________________

عليه، إذ لا يحتمل اختفاء مثل ذلك علي الأصحاب بعد كثرة الابتلاء به، خصوصا في العصور السابقة.

نعم، لو كان مانعا للناس من المرور لم يبعد حرمته، لما فيه من الإضرار بالمسلمين، و قرب حمل الكلام الأصحاب و المتيقن من السيرة علي غيره. و عن ابن أبي عمير- في الصحيح- و غيره عن إبراهيم بن أبي زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: ثلاث من فعلهن ملعون: المتغوط في ظل النزال و المانع الماء المنتاب و ساد الطريق المسلوك» «1» و في مرسل الصدوق: «من سد طريقا بتر اللّه عمره» «2». فلاحظ.

كما أنه لو كان الطريق غير نافذ، بل كان خاصا، فبناء علي كونه ملكا لأربابه لا يجوز التخلي فيه بغير إذنهم، كما صرح به بعضهم. و إن كان قد تنافيه السيرة.

فتأمل.

(1) جمع مشرعة، و هي مورد الشاربة، كما في القاموس، أو طريق الماء للواردة، كما في مجمع البحرين. و هي كالشوارع في الأقوال المتقدمة.

نعم، المذكور في النصوص شطوط الأنهار، كما في صحيح عاصم المتقدم و غيره من النصوص الكثيرة. و بها عبر في الهداية و المقنعة فيما تقدم. و شفير نهر أو شفير بئر أو بئر يستعذب ماؤها، كما في موثق السكوني عن الصادق عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام: «قال: نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن يتغوط علي شفير بئر ماء يستعذب منها، أو نهر يستعذب أو تحت شجرة فيها ثمرتها» «3» و نحوه خبر الحصين بن مخارق «4».

و مقتضي إطلاقها عموم الكراهة لغير المشرعة إلا أن يقيد بها بمناسبة ظهور كون الحكم للإرفاق بالناس الواردين من الماء. لكنه لا يناسب ما عن كتاب

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

ص: 131

و مساقط الثمار (1)

______________________________

العلل لمحمد بن علي القمي: «و العلة في ذلك أن في الأنهار سكانا من الملائكة» «1».

هذا، و لو فرض منع الناس من الورود، لضيق الطريق أو نحوه، لم يبعد الحرمة، كما تقدم في الشوارع. فتأمل.

(1) كما في مرسلتي علي بن إبراهيم و الاحتجاج في جواب الكاظم عليه السّلام لأبي حنيفة «2». و نحوها مرسلة المسعودي. «3»

و في الشرائع ذكر التخلي تحت الأشجار المثمرة، و به عبر أكثر الأصحاب، كما في الجواهر. و يقتضيه النصوص الكثيرة، منها ما تقدم من صحيح عاصم و موثق السكوني و حديث المناهي و خبر الحصين.

و هو أعم، لشموله لما إذا كانت ثمرة الشجرة مما يقطف و لا يسقط تحتها، و هو المناسب للتعليل في خبر حبيب السجستاني عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إنما نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن يضرب أحد من المسلمين خلا [خلاه. خ. ل] تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت لمكان الملائكة الموكلين بها. قال: و لذلك يكون الشجر و النخل آنسا إذا كان فيه حمله، لأن الملائكة تحضره» «4».

ثمَّ إن هذه النصوص ظاهرة في اعتبار فعلية الأثمار، و به أفتي جماعة من المتأخرين، كما في الجواهر.

لكن في جامع المقاصد: «و الظاهر أنه لا يراد بها ذات الثمرة بالفعل، بل ما من شأنها ذلك، كما في شاة لبون، علي ما صرحوا به و لأن المشتق لا يشترط في صدقه بقاء أصله و لأن ذلك موجب لبقاء النفرة في ثمرتها».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2، 7.

(3) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 8.

ص: 132

______________________________

و الكل كما تري! فان اللبون صفة مشبهة دالة علي الثبوت يراد بها تعيين الصنف، فلا وجه للقياس عليها، و المشتق ليس حقيقة إلا في المتلبس بالمبدإ علي التحقيق، بل غاية ما قيل انه يعم ما انقضي عنه المبدأ لا مطلق ما من شأنه الاتصاف به.

علي أنه قد تضمن موثق السكوني المتقدم و غيره التقييد بأن فيها ثمرتها، و في بعض النصوص: «تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت» «1» و في آخر: «تحت شجرة مثمرة قد أينعت أو نخلة قد أينعت، يعني: أثمرت» «2»، و هي كالصريحة في اعتبار فعلية الأثمار، و هو المناسب للتعليل المتقدم في خبر السجستاني.

و بقاء النفرة- لو تمَّ- استحسان لا ينهض بإثبات الحكم الشرعي.

نعم قد يستدل علي العموم بما ورد في جواب الكاظم عليه السّلام لأبي حنيفة، إذ لا يراد بمساقط الثمار إلا محل سقوطها، الذي لا يراد به فعلية السقوط، بل شأنيته، فيشمل ما إذا لم تكن الثمرة موجودة بالفعل.

اللهم إلا أن يحمل علي صورة وجودها بقرينة النصوص الأخري، لأن ظهور تلك النصوص الكثيرة في الاختصاص- و إن كان بمفهوم الوصف- أقوي من ظهوره في الإطلاق بالنحو المذكور. فلاحظ.

ثمَّ إن ما تقدم في الشوارع من نسبة القول بالحرمة للهداية و المقنعة جار هنا.

و قد عبر بعدم الجواز هنا في الفقيه أيضا و ظهر حاله مما تقدم فان تسالم الأصحاب علي الكراهة في مثل ذلك مع كونه موردا للابتلاء مما يمنع من البناء علي الحرمة، بل قد يلزم بحمل كلامهم علي الكراهة كما هو المناسب لقرينة السياق في كلامي الهداية و المقنعة.

كما أنه لو فرض كون الشجرة مملوكة و كان التخلي تحتها مزاحما لمالكها فقد يتجه البناء علي الحرمة مع عدم رضاه. بل لا ينبغي الإشكال فيه لو كان مالكا للأرض، كما صرح به في جامع المقاصد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 11.

ص: 133

و مواضع اللعن (1)، كأبواب الدور و نحوها من المواضع التي يكون المتخلي فيها عرضة للعن الناس (2)، و المواضع المعدة لنزول القوافل (3).

______________________________

(1) كما في المقنع و النهاية و اشارة السبق و الوسيلة و الشرائع و القواعد، و في الجواهر أنه المشهور. و يقتضيه صحيح عاصم المتقدم في الشوارع.

(2) كما هو مقتضي إطلاق مواضع اللعن في مثل النهاية و اشارة السبق و الوسيلة و الشرائع و القواعد. لكن فسرها في المقنع بأبواب الدور، كما هو الحال في صحيح عاصم الذي هو الدليل في المقام.

و لعله لذا اقتصر فيما تقدم من الهداية علي ذكر أبواب الدور، و في المقنعة علي ذكر أفنيتها، من دون ذكر لمواضع اللعن.

و احتمل في الجواهر حمل الصحيح علي التمثيل، و لا يناسبه التركيب، إلا أن يستفاد من ذكر اللعن، لإشعاره بأن منشأ الكراهة تجنب اللعن المقتضي لعدم خصوصية أبواب الدور، و إلا كان الأنسب ذكرها رأسا.

و أما ما في جامع المقاصد من قوله بعد تعرضه لمفاد الصحيح: «و قيل:

مجمع المنادي لتعرضه للعنهم».

فهو خروج عن الإطلاق أيضا. إلا أن يراد به التمثيل.

و كيف كان، فظاهر الأصحاب التسالم علي الكراهة، كما يشهد به عدم تعرض بعضهم لذلك أصلا.

و ما تقدم في الشوارع من الهداية و المقنعة قد عرفت استبعاد حمله علي الحرمة. بل لعل الصحيح مشعر بعدم الحرمة، لإشعاره بأن منشأ الترك تجنب اللعن و إن لم يكن بحق، لا منافاة حق صاحب الدار.

نعم، لا يبعد اختصاصه بما إذا لم يكن مزاحما لصاحب الدار بنحو يمنعه من الخروج أو يحصل له الأذي بسببه. فلاحظ.

(3) كما تقدم من المقنعة، و ذكره في الشرائع.

ص: 134

______________________________

و يدل عليه مرسلتا علي بن إبراهيم و المسعودي الواردتان في جواب الكاظم عليه السّلام لأبي حنيفة المتقدم إليهما الإشارة في مساقط الثمار.

و عبر جماعة كثيرة بفي ء النزال، كما في الهداية و النهاية و إشارة السبق و المراسم و الوسيلة و القواعد. و يدل عليه خبر الكرخي المتقدم في الشوارع، و ما في علل القمي «1».

و عبر بعدم الجواز في الفقيه و فيما تقدم من الهداية و المقنعة.

و يقرب حمل ما في الأخيرين علي الكراهة، لنظير ما تقدم في الشوارع، بل هي المتعينة بلحاظ تسالم الأصحاب، كما تقدم نظيره.

هذا و قد ذكرت في النصوص و كلماتهم مواضع اخري يكره التخلي فيها.

الأول: مواضع التأذي، كما في النهاية و الغنية و الوسيلة و القواعد، و عن غيرها.

و لم أعثر علي نص به. إلا أن يستفاد من كثير من المكروهات المذكورة في النصوص، كمنازل النزال و شطوط الأنهار و جواد الطرق و غيرها. بدعوي: فهم عدم الخصوصية لها. و لعله لذا جعله في الغنية موضوع الكراهة، و جعل الأمور المذكورة أمثلة له.

و لا بأس به بلحاظ قاعدة التسامح، و إلا فهو خلاف ظاهر ما ورد في جواب الكاظم عليه السّلام لأبي حنيفة، للتصريح فيه بعد بيان المواضع الخاصة بأن له أن يضع حيث شاء، بل هو خلاف ظاهر مثل صحيح عاصم، لظهوره في التحديد بقرينة السؤال.

الثاني و الثالث: قبلة المساجد و أفنيتها، و لم أعثر علي من ذكرهما، و إنما هما مذكوران في مرسل المسعودي المتضمن لجواب الكاظم عليه السّلام لأبي حنيفة المتقدمة إليه الإشارة في مساقط الثمار.

كما ذكر الثالث في مرسل علي بن إبراهيم «2» المتضمن لذلك، و فيما عن

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 135

و استقبال قرص (1) الشمس أو القمر (2)

______________________________

كتاب العلل للقمي مع تحديد الفناء فيه بأربعين ذراعا في أربعين «1».

الرابع: أفنية الدور، المذكورة في كلام المقنعة المتقدم، و في النهاية و الغنية و الوسيلة.

و لم أعثر علي نص به، و إنما جعله في الغنية من أمثلة مواضع التأذي، فيبتني علي ما تقدم فيها. إلا أن يستفاد مما ورد في أبواب الدور.

لكنه لا يخلو عن إشكال: لأنه أوسع ظاهرا، لأن الفناء ما اتسع أمام الدار.

و منه يظهر الحال في فناء البيوت الذي تقدم من المقنعة أيضا.

الخامس: الأفنية من غير تقييد، و هو مذكور في القواعد. و يشمل فناء السوق و غيره.

و لا دليل عليه، إلا أن يدخل في مواضع التأذي فيبتني علي ما تقدم فيها.

السادس: الحمّام. فعن جامع الأخبار عن النبي صلّي اللّه عليه و آله عدّه مما يورث الفقر «2».

السابع: التخلي علي القبر، أو بين القبور. ففي صحيح محمد بن مسلم الآتي في البول قائما أن الأول معرض لاصابة الشيطان، و في خبري إبراهيم و محمد أن الثاني يتخوف منه الجنون «3». و إطلاقها يشمل قبر غير المؤمن، فلا وجه لما في العروة الوثقي من التخصيص بالمؤمن.

نعم، لو كان منشأ الحكم احترام صاحب القبر فقد يتجه استحباب تركه. كما قد يتجه ما ذكره فيها من التحريم لو استوجب هتكه.

(1) كما هو صريح الروضة و المدارك و ظاهر اللمعة و عن المقنعة و الذكري و الروض و غيرها. لأنه الظاهر من عنوان الشمس و القمر.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(2) مستدرك الوسائل باب: 29 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 16 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 136

______________________________

و لا مجال للتعدي للجهة، لأنه إن رجع إلي دعوي أنها هي المراد منهما فلا قرينة عليه بعد مخالفته الظاهر.

و إن رجع إلي دعوي سعة مفهوم الاستقبال، فهي ممنوعة، و تمام الكلام في مبحث القبلة من الصلاة.

كما لا مجال للحمل علي الشعاع، لعدم الريب في مجازيته و مخالفته للظاهر، بل هو مما يقطع بعدم كراهته، لغلبة الابتلاء به.

(2) كما صرح به غير واحد، بل في الجواهر: «هو المشهور بين الأصحاب، بل لا أعلم فيه خلافا بين المتأخرين».

و كأنه يشير إلي ما في الهداية و عن المقنعة من التعبير بعدم الجواز الذي لا يبعد حمله علي الكراهة، لعين ما تقدم في التخلي في الشوارع. و كيف كان فيدل علي الكراهة النصوص الكثيرة، ففي موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام: «قال: نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن يستقبل الرجل الشمس و القمر بفرجه و هو يبول» «1»، و في حديث المناهي: «و نهي أن يبول الرجل و فرجه باد للشمس و القمر» «2»، و في صحيح الكاهلي: «لا يبولن أحدكم و فرجه باد للقمر يستقبل به» «3» و نحوه ما عن الجعفريات «4»، و في مرسل الكليني: «لا تستقبل الشمس و لا القمر» «5»، و في مرسل الصدوق: «لا تستقبل الهلال و لا تستدبره. يعني: في التخلي» «6»، و غيرها.

و ظاهر إطلاق غير واحد عموم الكراهة للبول و الغائط معا. بل هو صريح الوسيلة و محكي المقنعة و المبسوط و الدروس.

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل باب: 20 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 25 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(6) الوسائل باب: 25 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

ص: 137

______________________________

و عن الاقتصاد و الجمل و المصباح و مختصره التخصيص بالبول. و هو مقتضي الجمود علي صحيح الكاهلي، و موثق السكوني، و حديث المناهي، و خبر الجعفريات، و حيث كان باقي النصوص ضعيف السند كان التعميم للغائط مبنيا علي قاعدة التسامح.

كما أنه اقتصر في الهداية علي ذكر الهلال، دون الشمس [1] و القمر. و كأنه اقتصار منه علي المرسل المتقدم. و لا وجه له.

هذا، و قد صرح فيها بإلحاق الاستدبار بالاستقبال. و لعله ظاهر الفقيه لذكره المرسل المتقدم الذي هو العمدة فيه، و عن الذكري و الروض احتماله، للمساواة في الاحترام.

لكنه- كما تري- غير ظاهر لا من حيث الصغري و لا الكبري. فالعمدة المرسل. و قد يستفاد مما عن علل القمي [2]، حيث يستفاد منه النهي عن الاستقبال بالدبر.

و كأن ندرة المرسل مع ظهور سكوت النصوص الأخري الكثيرة عنه في عدم كراهته هو الذي أوجب إعراض الأصحاب عن مضمونه، مع ما عرف منهم من التسامح في أدلة السنن.

بل صرّح في المدارك و كشف اللثام و محكي نهاية الأحكام و الذخيرة بعدم كراهته، بل عن الفخر في شرح الإرشاد الإجماع علي ذلك. و إلا فمن البعيد عدم اطلاعهم علي المرسل، و إن كان قد يناسبه التعليل في المدارك بعدم المقتضي.

و أما ما في كشف اللثام من احتمال حمله كعبارة الهداية علي الاستقبال حين البول و الاستدبار حين الغائط.

فلا يناسب لسان المرسل جدا، كما لا يناسب عبارة الهداية، حيث قال:

______________________________

[1] هذا هو الموجود في المطبوعتين من الهداية. و حكي عنه في مفتاح الكرامة ذكر الشمس علي اضطراب في نقله.

[2] قال: «و لا يستقبل الشمس و القمر، لأنهما آيتان من آيات اللّه. و علة اخري: ان فيها نورا مركبا فلا يجوز ان يستقبل بقبل و لا دبر.» مستدرك الوسائل باب: 20 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

ص: 138

بفرجه (1)،

______________________________

«و لا يجوز أن يجلس للبول و الغائط مستقبل القبلة و لا مستدبرها، و لا مستقبل الهلال و لا مستدبره».

و كيف كان فلا بأس بالعمل بالمرسل، لقاعدة التسامح. و سكوت النصوص عن مضمونه قد يكون لخفة الكراهة.

نعم، هو مختص بالهلال و التعدي للشمس و القمر إما أن يكون لاحتمال الإلحاق، أو لاستفادته مما تقدم عن علل القمي.

ثمَّ إن مورد النصوص الاستقبال حال التغوط و التبول. و هو ظاهر الأصحاب، و ربما ينزل عليه ما تقدم من الهداية من إطلاق النهي حال الجلوس لهما، و إن كان شاملا لفظا لحال التهيؤ لهما.

إلا أن يستفاد العموم من التعليل بما يناسب التكريم فيما تقدم عن علل القمي. و لعله منصرف بقية النصوص.

(1) كما في الشرائع و القواعد و الروضة و جملة من كتب العلامة.

و يقتضيه التنصيص عليه في أكثر نصوص المقام، و منها الصحيح و الموثق اللذان هما عمدتها، و به يخرج عن إطلاق الاستقبال في مرسلي الكليني و الصدوق، الظاهر في الاستقبال بمقاديم البدن، كما تقدم في استقبال القبلة.

و أما ما في مرسل عوالي اللئالي عن فخر المحققين: «لا تستقبلوا الشمس و القمر ببول أو غائط» «1»، فيتعين تنزيله علي الاستقبال حالهما- نظير ما تقدم في استقبال القبلة- أو علي الاستقبال بالفرج لملازمته لذلك في الجملة.

و ربما يحمل علي ما ذكرنا إطلاق الاستقبال في كلام جماعة، كالنهاية و الغنية و عن السرائر، و إن كان لا يناسبه ذكره في سياق استقبال القبلة. كما قد يحمل ما في كلام بعضهم- كابن حمزة- من إطلاق الاستقبال بالبول و الغائط علي

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 20 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 139

و استقبال الريح بالبول (1)،

______________________________

ما تقدم في مرسل العوالي.

ثمَّ إن ظاهر الاستقبال بالفرج في النصوص و كلمات الأصحاب الاختصاص بالقبل، لانصراف الفرج إليه و لإمكان الاستقبال به في الجلوس المتعارف، دون الدبر.

و حمله علي الفرجين معا بتنزيل الاستقبال بالدبر علي الوضع غير المتعارف، أو علي الاستقبال بالدبر في الوضع المتعارف بعيد.

نعم، عبر بالفرجين في محكي التذكرة. و قد يناسبه ما تقدم عن علل القمي.

و ربما يحمل الاستقبال بالدبر فيهما علي ما يلازم الجلوس مستقبلا. فلاحظ.

ثمَّ إنه صرح في المسالك و كشف اللثام و المدارك و محكي المنتهي و نهاية الأحكام و غيرها بارتفاع الكراهة بوجود الحائل من بناء أو غيم أو كف أو غيرها.

و عن العلامة تعليله: بأنه لو استتر عن القبلة بالانحراف جاز فهنا أولي.

و هو كما تري! و عمدة الوجه فيه: اختصاص غير واحد من النصوص المتقدمة بالنهي عن بدو الفرج للشمس و القمر، الظاهر في عدم الحائل. و حمله علي الكناية عن أصل الاستقبال خلاف ظاهره. كما أن ذلك هو المتيقن من الاستقبال في بقية النصوص إن لم يكن هو الظاهر منه.

و حمله في القبلة علي التوجه إلي سمت الكعبة الشريفة و لو مع الحائل إنما هو لتعذر الحمل علي خصوص صورة عدم الحائل، لندرة الابتلاء بها، فلا بد أن يراد منه ما أريد من الاستقبال في الصلاة، بخلاف المقام.

نعم، يحسن تجنب ذلك احتياطا لاحتمال العموم.

(1) كما مر في المقنعة و النهاية و الوسيلة و المراسم و الشرائع و القواعد و عن غيرها، بل في الغنية دعوي الإجماع علي استحباب توقي ذلك.

و يقتضيه ما عن الخصال في حديث الأربعمائة الذي لا يخلو سنده عن اعتبار: «لا يبولن أحدكم في سطح في الهواء، و لا يبولن في ماء جار، فان فعل ذلك

ص: 140

______________________________

فأصابه شي ء فلا يلومن إلا نفسه، و إذا بال أحدكم فلا يطمحن ببوله، و لا يستقبل ببوله الريح» «1» و في مرفوع محمد بن يحيي: «سئل أبو الحسن عليه السّلام ما حد الغائط؟

قال: لا تستقبل القبلة و لا تستدبرها و لا تستقبل الريح و لا تستدبرها» «2» و نحوه مرفوع عبد الحميد بن أبي العلاء و غيره «3».

و مقتضي الأخيرين عموم الحكم لحال التغوط، إما لاختصاصهما به، أو لأن المراد السؤال عن الخلوة الشامل للأمرين.

و هو ظاهر اللمعة و محكي الدروس و الذكري و البيان.

و نزله في مفتاح الكرامة علي إرادة الاستقبال حال البتول و الاستدبار حال التغوط، و هو غير ظاهر. بل ظاهر اللمعة استقبال المتخلي في الحالين.

كما أن مقتضي المرفوعين إلحاق الاستدبار بالاستقبال في كلا الحدثين، كما ذكره في المدارك. و من ثمَّ صرح بعموم الكراهة في الروضة، و هو ظاهر محكي الذخيرة، بل هو ظاهر الكافي و المقنع و الفقيه و المعتبر، لذكر مرفوع محمد بن يحيي فيها في بيان الآداب، بل قد يستظهر لأجل ذلك من التهذيب، حيث ذكر مرفوع عبد الحميد، و إن كان في مقام الاستدلال علي كراهة الاستقبال بالبول.

و منه يظهر أنه لا مجال لما في الجواهر من استظهار إعراض الأصحاب عن المرفوعين.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 141

و لعل ترك غير من ذكرنا لمضمونهما لعدم كونهم في مقام استيفاء المكروهات، و لو لبنائهم علي خفة الكراهة فيه، أو لدعوي لزوم رفع اليد عنهما، لاختصاص علة الحكم المذكورة في كلام بعضهم كالمفيد في المقنعة.

و في بعض النصوص بالاستقبال بالبول، فعن علل القمي: «و لا يستقبل الريح لعلتين أحدهما: أن الريح ترد البول، فيصيب الثوب و ربما لم يعلم ذلك أو لم

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

ص: 141

______________________________

يجد ما يغسله. و العلة الثانية: أن مع الريح ملكا فلا يستقبل بالعورة» «1»، حيث اقتصروا علي العلة الاولي و أغفلوا العلة الثانية المناسبة للتعميم، لعدم الفرق بين الحدثين في تحقق استقبال الملك بالقبل عند الاستقبال و بالدبر عند الاستدبار، كما لا يخفي.

و بالجملة: ينبغي متابعة المرفوعين في التعميم، بضميمة قاعدة التسامح، لضعفهما.

هذا، و قد نسب في مفتاح الكرامة للهداية التعميم مع الظهور في التحريم، و لم أعثر علي ما يقتضي ذلك. و إنما تعرض لعدم جواز التطميح بالبول، الذي حكم غير واحد بكراهة، و هو عبارة عن البول من مرتفع و إن لم يكن مستقبلا لمهب الهواء أو مستدبرا له، لأن التطميح بالشي ء رميه و رفعه في الهواء. و قد تضمنه أيضا غير واحد من النصوص، كرواية الخصال المتقدمة كصحيح مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: يكره للرجل، أو ينهي الرجل أن يطمح ببوله من السطح في الهواء» «2» و موثق السكوني عنه عليه السّلام: «نهي النبي صلّي اللّه عليه و آله أن يطمح الرجل ببوله من السطح و من الشي ء المرتفع» «3».

و يلزم حملها علي الكراهة لنظير ما تقدم في كراهة البول في الشوارع.

نعم، لا يبعد اختصاصه بالمكان المنكشف، دون مثل البول في بالوعة الكنيف، و إن تحقق فيه ارتفاع محل البول عن محل سقوطه، لانصراف النصوص عنه، بل لا يبعد عدم صدق التطميح معه، كما قد يناسبه تعريفه بأنه رمي الشي ء في الهواء.

ثمَّ إنه قد تضمنت رواية الخصال بصدرها النهي عن البول في السطح في

______________________________

(1) البحار مجلد: 18 ص: 46 أبواب آداب الخلاء طبعة كمپاني.

(2) الوسائل باب: 33 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 33 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 142

و البول في الأرض الصلبة (1)،

______________________________

الهواء، و هو غير التطميح، لظهوره في كون السطح مبالا حين هبوب الهواء. و كأنه مبني علي رجحان الاحتياط و الحذر من إصابة البول للجسد أو غيره، الذي يتسبب عن وجود الهواء.

و لعل ذكر السطح فيه بلحاظ كونه معرضا له، لا لخصوصية فيه، فيكون مساوقا لما تضمن رجحان الحذر من البول باختيار المكان المرتفع أو الرخو الذي يغوص فيه البول، كما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

(1) كما في النهاية و المراسم و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و الشرائع و القواعد و غيرها.

و يقتضيه صحيح ابن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أشد الناس توقيا للبول كان إذا أراد البول يعمد إلي مكان من الأمكنة يكون فيه التراب الكثير كراهية أن ينضح عليه البول» «1» و مرسل سليمان الجعفري: «بت مع الرضا عليه السّلام في سفح جبل فلما كان آخر الليل قام فتنحي و صار علي موضع مرتفع فبال و توضأ. و قال: «من فقه الرجل أن يرتاد لموضع بوله.» و بسط سراويله و قام و صلي صلاة الليل» «2». و المستفاد منهما مرجوحية التعرض لاصابة البول و رجحان الحذر من ذلك من دون خصوصية للأرض الصلبة.

هذا، و قد عبر من عرفت بالكراهة أو النهي، و لعله إليه يرجع ما في موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: من فقه الرجل أن يرتاد موضعا لبوله» «3».

و ما عن بعضهم من استحباب ارتياد موضع للبول، و إلا فظاهر الصحيح كراهة التعرض للبول.

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 143

و في ثقوب الحيوان (1)، و في الماء (2)،

______________________________

نعم، مقتضي ارتكاز كون منشأ الحذر من البول الابتلاء بالأمور المذكورة- كما في الحائض- أو للعلم بتحقق التطهير قبلها.

(1) كما في النهاية و الغنية و المراسم و إشارة السبق و الوسيلة و الشرائع و القواعد و غيرها، بل في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه، إلا ما ينقل عن ظاهر الهداية، لقوله: لا يجوز. مع احتماله ما عرفته غير مرة».

و كأنه لمرسل الديلمي: «قال الباقر لبعض أصحابه و قد أراد سفرا فقال له:

أوصني، فقال له: لا تسيرن سيرا و أنت حاف، و لا تنزلن عن دابتك ليلا الا و رجلاك في خف، و لا تبولن في نفق.» «1» و ما رواه العامة من نهي النبي صلّي اللّه عليه و آله عن البول في الجحر «2».

(2) كما في النهاية و الغنية و المراسم و الوسيلة و الشرائع و القواعد و غيرها، بل في كشف اللثام و عن الذخيرة أنه الأشهر.

و يقتضيه النصوص الكثيرة علي اختلاف ألسنتها.

فبعضها تضمن إطلاق الكراهة في الماء، كمرسل حكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: أ يبول الرجل في الماء؟ قال: نعم، و لكن يتخوف عليه الشيطان» «3» و عن جامع البزنطي عن الباقر عليه السّلام: «لا تبل في الماء» «4».

و بعضها مختص ببعض أقسامه، ففي مرسل مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أنه نهي أن يبول الرجل في الماء الجاري إلا من ضرورة. و قال: إن للماء أهلا» «5» و قريب منه ما في حديث الأربعمائة المتقدم في

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 29 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 10.

(2) عن سنن البيهقي 1: 99 و كنز العمال 5: 87.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل باب: 19 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

(5) الوسائل باب: 24 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

ص: 144

______________________________

استقبال الريح بالبول. و في صحيح الحلبي عنه عليه السّلام: «قال: لا تشرب و أنت قائم، و لا تطف بقبر، و لا تبل في ماء نقيع، فإنه من فعل ذلك فأصابه شي ء فلا يلومن إلا نفسه. و من فعل شيئا من ذلك لم يكد يفارقه إلا ما شاء اللّه» «1» و نحوه غيره و في حديث المناهي: «و نهي أن يبول أحد في الماء الراكد، فإنه يكون منه ذهاب العقل» «2»، و نحوه غيره.

نعم، في صحيح الفضيل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا بأس أن يبول الرجل في الماء الجاري، و كره أن يبول في الماء الراكد» «3» و في موثق ابن بكير عنه عليه السّلام قال:

«لا بأس بالبول في الماء الجاري» «4» و نحوه غيره. و لعله لذا اقتصر علي ذكر الراكد في الهداية و غيرها، بل يظهر مما تقدم أنه قول معروف للأصحاب.

لكن يتعين عرفا الجمع بين هذه النصوص و النصوص الواردة في الجاري بخفة الكراهة.

و ما في الجواهر من عدم الشاهد علي ذلك و لا ينتقل إليه من اللفظ. غير ظاهر، لكونه نحوا من الجمع العرفي.

هذا، و في الجواهر: «ان ظواهر الأخبار اختصاص الحكم بالبول. و عن الأكثر إلحاق الغائط. و لعله للتعليل قيل: و لأنه أولي».

لكن التعليل تعبدي، فلا مجال لاستفادة مساواة الغائط للبول، فضلا عن أولويته منه.

و في جامع المقاصد: «و لا يبعد أن يقال: إن الماء المعد في بيوت الخلاء لأخذ النجاسة و اكتنافها- كما يوجد في الشام و ما جري مجراها من البلاد الكثيرة الماء- لا يكره قضاء الحاجة فيه.»

و استشكله غير واحد بإطلاق النهي. و مجرد اعداد الناس أمرهم علي ما هو المكروه لا يرفع كراهته.

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 5 من أبواب الماء المطلق حديث: 3.

ص: 145

خصوصا الراكد (1)، و الأكل و الشرب حال الجلوس للتخلي (2)،

______________________________

(1) لما تقدم، و ما في الهداية من التعبير بعدم الجواز يظهر حاله مما تقدم في نظيره، خصوصا بعد كون النصوص الناهية بين ما هو ضعيف السند، و ظاهر في الكراهة، بقرينة التعليل أو السياق. فلاحظ.

(2) كما في إشارة السبق و الوسيلة و الشرائع و المعتبر و القواعد. قال في المعتبر: «لما يتضمن من الاستقذار الدال علي مهانة النفس».

و هو كما تري لا يطرد في تمام أفراد الأكل و الشرب. علي أن في بلوغ ذلك حدا يوجب الكراهة الشرعية للأكل و الشرب بخصوصيتهما إشكالا أو منعا.

و قد استدل عليه أيضا بمرسل الصدوق: «دخل أبو جعفر الباقر عليه السّلام: الخلاء فوجد لقمة خبز في القذر، فأخذها و غسلها و دفعها إلي مملوك معه، فقال: تكون معك لآكلها إذا خرجت، فلما خرج عليه السلام قال للملوك: أين اللقمة؟ فقال: أكلتها يا بن رسول اللّه، فقال عليه السّلام: أنها ما استقرت في جوف أحد إلا وجبت له الجنة، فاذهب فأنت حر، فإني أكره أن استخدم رجلا من أهل الجنة» «1»، و قريب منه ما عن عيون الأخبار، و صحيفة الرضا عليه السّلام بأسانيدهما عن الحسين عليه السّلام «2».

بتقريب: أن تركهما عليهما السّلام للمبادرة بأكل اللقمة في الخلإ مع اهتمامهما باستحبابه لا يكون إلا لكراهة الأكل فيه. و من ثمَّ قد يتجه الاستدلال بالفحوي كما في الجواهر، لأن الكراهة مع وجود جهة تقتضي الاستحباب تقتضي الكراهة بدونها بالأولوية.

و فيه- مع اختصاصهما بالأكل- أن مضمونهما قضية خارجية لا تصلح للاستدلال، لإمكان أن يكون تجنبهما لذلك لأجل أن نفسهما تعاف الأكل، أو لاعجال قضاء الحاجة لهما عنه، أو لطفا بالمملوك ليتوفق للثواب. و إلا فظاهر الخبرين أن وجدانهما عليهما السّلام للقمة بمجرد دخولهما قبل الاشتغال بقضاء الحاجة،

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 146

و الكلام (1) بغير ذكر اللّه (2)،

______________________________

فلو كان الاستحباب مقتضيا لهذا النحو من التعجيل لكان المناسب المبادرة له خارج الخلاء قبل قضاء الحاجة.

ثمَّ إن المحكي عن المصباح و مختصره و المهذب و نهاية الأحكام و المنتهي تخصيص الكراهة بحال التخلي.

و وجهه غير ظاهر، فان الوجهين المتقدمين مناسبان للتعميم، كما هو ظاهر إطلاق من تقدم، بل قد يناسبان التعميم لحال الكون في الخلإ و إن لم يجلس.

فلاحظ.

(1) كما صرح به جماعة و حكي عن آخرين، بل في الجواهر: «لعله لا خلاف في الحكم بين الأصحاب، لتصريح كثير من القدماء و المتأخرين به سوي ما يظهر من الفقيه، حيث قال: لا يجوز. و لعل مراده الكراهة.»

و يقتضيه صحيح صفوان عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «أنه قال: نهي رسول اللّه أن يجيب الرجل آخر و هو علي الغائط أو يكلمه حتي يفرغ» «1» و خبر أبي بصير:

«قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا تتكلم علي الخلاء، فان من تكلم علي الخلاء لم تقض له حاجة» «2» و ما عن المحاسن و جامع الأخبار من قولهم عليهم السّلام: «ترك الكلام في الخلاء يزيد في الرزق» «3». و ظاهرها- خصوصا الأخيرين- أن موضوع الكراهة هو الخلاء، لا خصوص حال خروج البول و الغائط.

(2) كما ذكره غير واحد. بل ظاهر غير واحد استحبابه. للنصوص الكثيرة المتضمنة حسن الذكر علي كل حال، و منها صحيح محمد بن مسلم الآتي في حكاية الأذان، و معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا بأس بذكر اللّه و أنت تبول، فان ذكر اللّه حسن علي كل حال، فلا تسأم من ذكر اللّه» «4».

و أما ما في صحيح عمر بن يزيد: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التسبيح في

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(3) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 7 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 147

______________________________

المخرج و قراءة القرآن. قال: لم يرخص في الكنيف في أكثر من آية الكرسي و يحمد اللّه و آية الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ». «1» و رواه الشيخ بطريق آخر هكذا: «و يحمد اللّه و آية».

فلا بد من حمل التحديد فيه علي التحديد بالإضافة إلي القرآن، لا بالإضافة إلي الذكر، و إن وقع في السؤال أيضا، فعدم التعرض له لعدم الحد له، لا لعدم الترخيص فيه.

هذا و في النهاية و الوسيلة و عن المبسوط و غيره أنه يذكر اللّه فيما بينه و بين نفسه، و في إشارة السبق الذكر سرا. و كأنه لموثق سعدة بن صدقة عن الصادق عليه السّلام:

«قال: كان أبي يقول: إذا عطس أحدكم و هو علي خلاء فليحمد اللّه في نفسه» «2».

و المرسل عنه عليه السّلام: «انه [كان يعمله] إذا دخل الكنيف يقنع رأسه و يقول سرا في نفسه: بسم اللّه و باللّه.» «3» بعد إلغاء خصوصية موردهما. بل ثبوت ذلك في مطلق الذكر الذي لا خصوصية له مقتضي الأولوية العرفية.

و الذي ينبغي أن يقال: إن أريد بذلك الكلام النفسي من دون نطق الذي لا يصدق عليه القول إلا مجازا فهو و إن كان محتملا من الخبرين بدوا، إلا أنه لا مجال له بلحاظ النصوص الكثيرة الواردة في الأدعية و الأذكار الخاصة بالخلاء «4» التي تقدم التعرض لبعضها و النصوص الآتية في حكاية الأذان، لأن حملها علي المجاز مع خلوها- علي كثرتها- عن القرينة عليه بعيد جدا. بل يتعين حمل الخبرين علي الاسرار المقابل للاجهار، كما لعله ظاهر إشارة السبق.

نعم، لا ظهور للخبرين في كراهة الجهر، كما لا مجال للجمع بينهما و بين إطلاق أدلة استحباب الذكر بالتقييد، بل يتعين حملها علي استحباب الإخفات بنحو تعدد المطلوب، علي ما هو المتبع في الجمع بين المطلق و المقيد في الأحكام غير الإلزامية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(4) راجع الوسائل باب: 7 من أبواب أحكام الخلوة.

ص: 148

______________________________

ثمَّ إنه قد استثني من الكلام أيضا أمور.

الأول: قراءة آية الكرسي. فقد استثناها من عموم كراهة الكلام في الشرائع و القواعد، و في الجواهر: «صرح به كثير من المتأخرين». و استدل عليه فيها و غيرها بصحيح عمر بن يزيد المتقدم. لكنه إنما يقتضي استثناءه من كراهة قراءة القرآن التي هي مقتضي الجمع بين الصحيح المذكور و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته أ تقرأ النفساء و الحائض و الجنب و الرجل يتغوط القرآن؟ قال:

يقرؤون ما شاءوا» «1» كما جري عليه في النهاية و الوسيلة. و لا ينافي كراهة من حيثية كونه كلاما.

اللهم إلا أن يقال: صحيح صفوان مختص بالكلام مع الغير، و لا يشمل القرآن، و إطلاق الكلام في غيره منصرف عنه. فتأمل.

هذا، و في الوسيلة استثني قراءة آية الكرسي فيما بينه و بين نفسه، و قال:

«لئلا يفوته شرف فضلها». و لا وجه له إلا دعوي استفادته من موثق مسعدة و المرسل المتقدم بالإلحاق أو إلغاء الخصوصية، و كلاهما غير ظاهر.

الثاني: حكاية الأذان، كما صرح به غير واحد، و في الجواهر أنه المشهور، بل في النهاية أنه مستحب. لصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام:

«يا محمد بن مسلم لا تدعن ذكر اللّه علي كل حال، و لو سمعت المنادي ينادي بالأذان و أنت علي الخلاء فاذكر اللّه عز و جل و قل كما يقول المؤذن» «2»، و نحوه خبر أبي بصير «3»، و في خبر سليمان بن مقبل: «قلت لأبي الحسن موسي بن جعفر عليهم السّلام: لأي علة يستحب للإنسان إذا سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذن و إن كان علي البول و الغائط؟ فقال: لأن ذلك يزيد في الرزق» «4». و قريب منه غيره. و في النهاية و الوسيلة و عن المهذب أنه يحكيه في نفسه.

و الكلام فيه كما في سابقة.

هذا، و عن الروض تخصيصه بالفصول المتضمنة للذكر، دون الحيعلات، إلا أن تبدل بالحولقة، و كأن وجهه ظهور نصوص حكاية الأذان في المقام و غيره بأنه

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

ص: 149

______________________________

من صغريات حسن الذكر علي كل حال.

و يشكل- مع قرب حمل ذلك علي الحكمة، لعدم التنبيه في نصوص الحكاية علي الاختصاص- بأن بعض النصوص خال عن ذلك ظاهر في الإطلاق، كخبر سليمان المتقدم، و صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام:

«قال: كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إذا سمع المؤذن يؤذن قال مثل ما يقول في كل شي ء» «1».

نعم، وردت في كتبنا «2» و كتب العامة «3» بعض الأخبار الضعيفة المشتملة علي ابدال الحيعلات بالحولقة، كما وردت نصوص أخري في متابعة المؤذن بوجه آخر، فلا بأس بالعمل بأي منها، و إن كانت حكاية الحيعلات أولي من إبدالها بالحولقة، لأقوائية نصوصها.

الثالث: أن تدعوه إلي الكلام الضرورة، كما في النهاية و الوسيلة. و استدل عليه في الجواهر برفع الحرج.

و هو كما تري. إذ لو كان المراد بالضرورة العرفية المساوقة للحرج فعموم رفع الحرج لا ينهض برفع الأحكام غير الإلزامية، لعدم لزوم الحرج منها.

و إن أريد بها الضرورة العقلية كان الاولي الاستدلال باستحالة طلب ما لا يطاق.

و أما ما في القواعد من الاكتفاء بالحاجة المضر فوتها فهو إنما يتم لو أريد منه الضرر الذي يحرم الوقوع فيه أو يكره كراهة مساوية لكراهة الكلام أو أهم منها.

و أشكل من ذلك ما في المراسم من إطلاق استثناء الحاجة، بل قد تأباه نصوص كراهة الكلام.

الرابع: التحميد بعد العطاس، كما في الجواهر، بل هو مستحب، لموثق مسعدة المتقدم، و إطلاقات الذكر المتقدمة الكاشفة عن عدم كراهته من جهة الكلام، فلا مانع من الرجوع إلي إطلاقات استحبابه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 45 من أبواب الأذان و الإقامة حديث: 1.

(2) راجع مستدرك الوسائل باب: 34 من أبواب الأذان و الإقامة.

(3) حكي عن صحيح مسلم 4: 85، و سنن النسائي 2: 25.

ص: 150

إلي غير ذلك مما ذكره العلماء (رضوان اللّه عليهم) (1).

______________________________

و مثله في ذلك تسميت العاطس. إلا أن يستشكل في عموم الذكر لمثل الدعاء. المخاطب به الغير، مثل قول: يرحمك اللّه، بل مطلق الدعاء غير المخاطب به اللّه تعالي، مثل: رحم اللّه زيدا. فتأمل.

الخامس: الصلاة علي النبي صلّي اللّه عليه و آله عند سماع ذكره، كما في المقنعة. و العمدة فيه دخولها في الذكر، فيجري فيها ما تقدم في سابقها.

(1) و هي أمور لا بأس بالإشارة إليها و إلي دليلها باختصار.

الأول: البول قائما، كما ذكره غير واحد، ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: من تخلي علي قبر أو بال قائما، أو بال في ماء قائما أو مشي في حذاء واحد، أو شرب قائما، أو خلا في بيت وحده، أو بات علي غمر، فأصابه شي ء من الشيطان لم يدعه إلا أن يشاء اللّه، و أسرع ما يكون الشيطان إلي الإنسان، و هو علي بعض هذه الحالات» «1».

و مما تقدم من كراهة البول في الماء يظهر تأكد الكراهة في البول قائما في الماء، الذي ذكر في الصحيح أيضا.

و ما في الهداية من عدم جواز البول قائما من غير علة محمول علي الكراهة، لما سبق في نظائره، و لا سيما مع تعليله فيها بأنه من الجفاء.

و عن نهاية الأحكام زوال الكراهة في الحمام. و كأنه يريد حال الاطلاء الذي حكاه في مفتاح الكرامة عن بعض الناس. لصحيح ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يطلي فيبول و هو قائم قال: لا بأس به» «2».

بل ظاهر الوسائل كراهة الجلوس حينه، لما عن الصدوق: «روي أن من جلس و هو متنور خيف عليه الفتق» «3».

بل قد يستفاد من موثق السكوني الآتي ارتفاع الكراهة بمطلق العلة. فتأمل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب آداب الحمام حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 37 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

ص: 151

______________________________

الثاني: السواك، كما ذكره غير واحد. لما في مرسل الصدوق عن الكاظم عليه السّلام: «أكل الأشنان يذيب البدن، و التدلك بالخزف يبلي الجسد، و السواك في الخلإ يورث البخر» «1».

الثالث: الاستنجاء باليمين- كما ذكره غير واحد، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه سوي ما في المقنعة و المهذب و عن النهاية من أنه لا يجوز» - ففي موثق السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليهم السّلام عن النبي صلّي اللّه عليه و آله: «قال: البول قائما من غير علة من الجفاء، و الاستنجاء باليمين من الجفاء» «2»، و في مرسل يونس عنه عليه السّلام: «قال: نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن يستنجي الرجل بيمينه» «3».

و يلزم حمله علي الكراهة، لا لضعف سنده، لما تقدم في تحديد الكر من حجية مراسيل يونس، بل لظهور مفروغية الأصحاب عن الجواز، بنحو لا يبعد لأجله حمل عدم الجواز في الهداية و النهاية و عن المقنعة و عن المهذب علي الكراهة. مضافا إلي ما تقدم في نظائره.

و في مرسلتي الكليني و الصدوق «4» ارتفاع الكراهة إذا كانت باليسار علة.

و ينبغي أن يلحق بالاستنجاء الاستبراء، لما يأتي من كراهة مس الذكر باليمين. و لما ورد في روايات العامة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله من أن يده اليمني كانت لطعامه و طهوره و يده اليسري للاستنجاء.

الرابع: أن يمس ذكره بيمينه. لمرسل الصدوق: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا بال الرجل فلا يمس ذكره بيمينه» «5».

و لا يبعد إلغاء خصوصية البول، و أن ذكره لأنه مظنة المس، فيكره المس و لو في غير حال الخلوة.

الخامس: أن يكون في يده التي يستنجي بها خاتم عليه اسم اللّه تعالي، كما صرح به جماعة كثيرة. لجملة من النصوص، كخبر الحسين عن أبي الحسين الثاني عليه السّلام: «قلت له: إنا روينا في الحديث أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كان يستنجي و خاتمة

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5، 6.

ص: 152

______________________________

في إصبعه، و كذلك كان يفعل أمير المؤمنين عليه السّلام و كان نقش خاتم رسول اللّه «محمد رسول اللّه». قال: صدقوا. قلت: فينبغي لنا أن نفعل؟ قال: إن أولئك كانوا يتختمون في اليد اليمني، و إنكم أنتم تتختمون في اليسري» «1» و غيره مما هو كثير، بل لا يبعد استفاضتها بنحو يجبر ضعفها لو تمَّ في الكل.

نعم، لا ينبغي الإشكال في حملها علي الكراهة بعد ظهور التسالم الأصحاب عليه.

و أما ما في خبر أبي البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: كان نقش خاتم أبي: «العزة للّه جميعا»، و كان في يساره يستنجي بها، و كان نقش خاتم أمير المؤمنين عليه السّلام: «الملك للّه»، و كان في يده اليسري يستنجي بها» «2».

فلا مجال للتعويل عليه بعد ضعف أبي البختري جدا، و معارضة الخبر للنصوص المتقدمة و نصوص استحباب التختم باليمين. و لعل الأقرب حمله علي التقية لو فرض صدقه، لأن أبا البختري عامي.

بقي في المقام أمور.

أولها: ألحق في المقنعة باسم اللّه تعالي خاص أسماء الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام معللا بتعظيمهم عليهم السّلام.

و حمله الشيخ علي الاسم المقصود به النبي و الامام، في مقابل المشترك الذي يقصد به غيرهما. و هو ظاهر إطلاق جمع إلحاق أسماء الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام.

و زاد في جامع المقاصد اسم فاطمة عليها السّلام، و هو ظاهر ما في الوسيلة من إطلاق الاسم المعظم. و لا وجه له الا التعظيم، الذي هو مستحب لا مكروه الترك.

نعم، لو بلغ مرتبة الهتك حرم. و لا مجال لدعواه في المقام. و لعله لذا فرق في المقنع بين ما كان عليه اسم اللّه تعالي و ما كان عليه اسم محمد صلّي اللّه عليه و آله، و حكم بعدم البأس بعدم تحويل الثاني. و ربما يكون مستنده في ذلك معتبر معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: الرجل يريد الخلاء و عليه خاتم فيه اسم اللّه

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 8.

ص: 153

______________________________

تعالي. فقال: ما أحب ذلك. قال: فيكون اسم محمد صلّي اللّه عليه و آله قال: لا بأس» «1». و حمله علي ما إذا قصد به شخص آخر مخالف للظاهر جدا.

نعم، هو ظاهر في الفرق بينهما في كراهة اللبس حين الدخول للخلاء، لا حين الاستنجاء الذي هو محل الكلام. إلا أن يحمل عليه، علي ما يأتي الكلام فيه.

ثانيها: قال في الجواهر: «صرح جمع من الأصحاب بتقييد الكراهة بما إذا لم يستلزم تلويثا في النجاسة، و إلا فيحرم- بل قد يصل إلي حد الكفر مع قصد الإهانة و الاستحقار- و إن تأمل في الحرمة بعض المتأخرين. لكنه في غير محله بالنسبة إلي لفظ الجلالة».

و العمدة فيه المرتكزات المتشرعية في لزوم تجنيبه الهتك الحاصل من التنجيس في مثل المقام. بل لا يبعد العموم لأسماء المعصومين إذا كتبت و حملت للتبرك.

و أما مطلق التنجيس فالأمر فيه لا يخلو عن إشكال.

ثالثها: ألحق في الفقيه و النهاية بالخاتم الذي كتب عليه اسم اللّه الخاتم الذي فصه من حجر زمزم، و عن الدلائل انه المشهور. و عمم في الوسيلة لكل حجر له حرمة.

و كأن الوجه فيه مضمر علي بن الحسين بن عبد ربه: «قلت له: ما تقول في الفص يتخذ من أحجار [حجارة. خ ل] زمزم؟ قال: لا بأس به، و لكن إذا أراد الاستنجاء نزعه» «2». لكن روي في بعض نسخ الكافي و التهذيب بإبدال زمزم بزمرد. إلا أن ترجح الاولي بمناسبة الحكم للموضوع ارتكازا، و بفتوي الصدوق- الذي هو من أركان الحديث- و الشيخ- الذي روي المضمرة نفسها- علي طبقها.

رابعها: المحكي عن بعضهم كراهة استصحاب الخاتم الذي عليه اسم اللّه تعالي في الخلاء مطلقا و لو في اليد التي لا يستنجي بها، و هو ظاهر الهداية معبرا بعدم الجواز.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 36 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 154

______________________________

و يقتضيه خبر معاوية المتقدم، و موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يمس الجنب درهما و لا دينارا عليه اسم اللّه تعالي، و لا يستنجي و عليه خاتم فيه اسم اللّه، و لا يجامع و هو عليه، و لا يدخل المخرج و هو عليه» «1» المتمم بعدم القول بالفصل بين الجنب و غيره. و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يجامع و يدخل الكنيف و عليه الخاتم فيه ذكر اللّه، أو الشي ء من القرآن، أ يصلح ذلك؟ قال: لا» «2» و غيرها.

لكن ذكر غير واحد لزوم حملها علي ما إذا استنجي باليد التي فيها الخاتم، ليناسب ما في خبر الحسين المتقدم و غيره من سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام علي الدخول للمخرج مع كون الخاتم في اليمين. إلا أن الحمل المذكور بعيد جدا، خصوصا في موثق عمار المتضمن للأمرين.

فلعل الأولي الحمل علي خفة الكراهة التي لا تنافي صدور ذلك منهم كثيرا لبعض الطوارئ الثانوية، التي قد يكثر الابتلاء بها. و يناسبه ما يأتي في الدراهم الأبيض. بناء علي أن منشأ الكراهة كتابة الاسم الشريف عليه. و من هنا يتجه الفرق بين اسم اللّه تعالي و اسم غيره و إن كان معصوما، لحديث معاوية المتقدم.

نعم، يتجه التعميم لما كتب عليه القرآن الشريف لخبر علي بن جعفر بضميمة قاعدة التسامح في السنن.

السادس: استصحاب الدرهم الأبيض، كما في الجواهر و عن غيرها.

و يقتضيه موثق غياث أو صحيحة عن جعفر عن أبيه عليه السّلام: «أنه كره أن يدخل الخلاء و معه درهم أبيض، إلا أن يكون مصرورا» «3».

و عن بعضهم تخصيصه بما يكون عليه اسم اللّه تعالي. و كأنه لأن عدم مناسبة البياض للكراهة ارتكازا تكشف عن كون ذكره عرضا بلحاظ كتابة الاسم الشريف عليه، بناء علي معروفية اختصاصه بذلك في عصر الصدور. و هو و إن كان

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 17.

ص: 155

مسألة 10 ماء الاستنجاء طاهر علي الأقوي

(مسألة 10): ماء الاستنجاء طاهر علي الأقوي (1)

______________________________

قريبا، إلا أنه لا طريق لنا فعلا لإثباته.

و لو تمَّ اتجه التعدي لكل ما يكتب عليه اسم اللّه تعالي. بل قد يتجه التعدي لمثل كتابة القرآن المجيد، حيث لا يبعد كونه هو المنشأ في الكراهة، لتعارف كتابته سابقا علي الدراهم و الدنانير. فتأمل.

هذا، و قد اكتفي في العروة الوثقي في ارتفاع الكراهة بكونه مستورا. و هو مخالف لظاهر الموثق، لأن الضر أخص من الستر، بل يبعد حمل الخبر علي خصوص صورة ظهوره مع غلبة ستره و لو بقبض اليد عليه.

السابع: طول المكث في بيت الخلاء، لغير واحد من النصوص المتضمنة أنه يورث الباسور، منها موثق محمد بن مسلم: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: قال لقمان لابنه: طول الجلوس علي الخلاء يورث الباسور. قال: فكتب هذا علي باب الحش» «1».

و ربما بقيت بعض المندوبات و المكروهات تظهر بتصفح كتب الأخبار.

(1) الظاهر عدم الخلاف بينهم في عدم تنجيس ماء الاستنجاء لما يصيبه من الثوب و غيره، بل في الجواهر: «لا ينجس ما يلاقيه إجماعا، تحصيلا و منقولا، نصا و ظاهرا علي لسان جملة من علمائنا» و إنما الكلام في أن ذلك لطهارته، أو هو عفو خاص مع نجاسته.

و قد صرح بالأول في الشرائع و القواعد و جامع المقاصد و المسالك و المدارك، و هو ظاهر المعتبر، و قد نسبه للشيخين، و حكاه في مفتاح الكرامة عن موضعين من الخلاف و جملة من المتأخرين. بل في جامع المقاصد و عن كشف الالتباس دعوي اتفاق الأصحاب عليه.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لاقتصار قدماء الأصحاب من أهل الحديث علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 156

______________________________

ذكر النصوص الآتية من دون توجه لهذه الخصوصية، و عن بعضهم التعبير بالعفو، و نفي البأس عن إصابته للثوب أو البدن، و ليس ذلك نصا و لا ظاهرا في الطهارة، و لا سيما مع عدم ظهور أثر للفرق في كلمات القدماء، لقرب ذهابهم لعدم مطهريته.

و ما في المدارك من أن مرادهم بالعفو هنا عدم الطهورية. لا قرينة عليه، و لا سيما مع ما عن حاشيتي الشرائع و الإرشاد للكركي من أنه عند القائل بالعفو نجس معفو عنه.

و كيف كان فاللازم ذكر النصوص ثمَّ النظر في مفادها. ففي صحيح عبد الكريم بن عتبة الهاشمي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يقع ثوبه علي الماء الذي استنجي به، أ ينجس ذلك ثوبه؟ قال: لا» «1» و صحيح الأحول: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخرج من الخلاء، فاستنجي بالماء، فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به فقال: لا بأس به [ليس عليك شي ء. خ فقيه]» «2» و قريب منه موثقة «3». و في صحيح يونس عن رجل عن الغير أو عن الأحول [من أهل المشرق عن العنزا عن الأحول. علل] عنه عليه السّلام انه قال له: «الرجل يستنجي، فيقع ثوبه في الماء الذي استنجي به. فقال: لا بأس. فسكت. فقال: أو تدري لم صار لا بأس به؟

قلت: لا و اللّه، فقال: إن الماء أكثر من القذر» «4».

و هذه النصوص- كما تري- ليست مسوقة إلا لبيان عدم تنجس الثوب، كما هو صريح الأول و ظاهر ما بعده، لأن ظاهرها نفي البأس عن الثوب أو عن وقوعه في ماء الاستنجاء لبيان عدم تنجسه، لا عن نفس ماء الاستنجاء لتدل علي طهارته.

نعم، التعليل في الأخير يناسب طهارة الماء. إلا أن يستشكل فيه بأن عدم إمكان التعدي عن مورده- للبناء علي نجاسة الغسالة، بل مطلق الماء القليل بملاقاة النجاسة، كما تقدم- موجب لإجمال جهة التعليل فيه، فيكون تعبديا، لا ارتكازيا، و حينئذ فكما يمكن سوقه لبيان طهارة الثوب لأجل طهارة الماء يمكن

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 13 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 2.

ص: 157

______________________________

سوقه لبيان طهارة الثوب رأسا من دون نظر للماء.

علي أن سنده لا يخلو عن إشكال، لأن مراسيل يونس و إن كانت حجة بمقتضي ما تقدم في أوائل مسألة تحديد الكر، إلا أن ما في العلل من روايته عن رجل من أهل المشرق كالمشعر بعدم توثيق يونس له. فتأمل.

هذا، و قد ذكر غير واحد أن الحكم بطهارة الثوب ظاهر في طهارة الماء للملازمة العرفية بين طهارة الملاقي و طهارة الملاقي، كالملازمة بين نجاسة الملاقي و نجاسته. و من ثمَّ استفيدت طهارة كثير من الأمور و نجاستها من الحكم بطهارة ملاقيها و نجاسته.

لكنه لا يخلو عن إشكال، فإن ملازمة نجاسة الملاقي لنجاسة الملاقي التي هي من سنخ المقتضي لها ارتكازا تكاد تلحق بالملازمة العقلية، بخلاف ملازمة طهارة الملاقي لطهارة الملاقي، لوضوح امتناع تحقق المعلول بدون المقتضي، و إمكان عدم تأثير المقتضي في ظرف تحققه لمانع من تأثيره، و لو كان هو التسهيل و الامتنان- كما يحتمل في المقام- فليست الملازمة المدعاة إلا عرفية، بلحاظ شيوع سراية النجاسة للملاقي و ارتكازيتها، فيستفاد عرفا من دليل طهارة الملاقي طهارة الملاقي.

و لا سيما مع كون الأثر الظاهر لنجاسة الملاقي هو نجاسة ملاقية، حيث يوجب ذلك التلازم بينهما ذهنا، كما لعله مورد ما أشير إليه من استدلال الأصحاب بدليل طهارة الملاقي علي طهارة الملاقي.

إلا أنه لا مجال للاعتماد عليها في المقام، لابتناء الحكم بطهارة الثوب علي رفع اليد عنها في الجملة، إما التفكيك في الطهارة بين الثوب و ماء الاستنجاء، أو بين ماء الاستنجاء و الغائط.

بل يبعد جدا دعوي: أن المستفاد عرفا من الجواب بطهارة الثوب هو طهارة ماء الاستنجاء علي حد سائر المياه الطاهرة، بحيث يرفع به الخبث و الحدث، مع أن رفعهما بالماء من أظهر لوازم طهارته عرفا.

بل لما كان من الواضح عند السائل نجاسة الغائط، مع ارتكاز سراية النجاسة

ص: 158

______________________________

للملاقي، كان مقتضي الارتكاز الأولي في ذهنه هو نجاسة كل من ماء الاستنجاء و الثوب، بل أولوية ماء الاستنجاء بالنجاسة من الثوب، فمن القريب أن يكون إهماله السؤال عن الماء و سؤاله عن الثوب مبنيا علي المفروغية عن نجاسة الماء بمقتضي الارتكاز المذكور. و إلا لكان هو الأولي بالسؤال بعد ما أشرنا إليه من عدم وفاء الجواب بطهارة الثوب بمعرفة حاله، لابتنائه علي إهمال الملازمة المذكورة في الجملة. فتأمل.

و بالجملة: الاقتصار في السؤال و الجواب علي الثوب و إهمال ماء الاستنجاء إن لم يكن ظاهرا في المفروغية عن نجاسته بمقتضي ارتكاز السراية من النجس، الذي هو أقوي من ارتكاز سرايتها من المتنجس، فلا أقل من عدم ظهوره في طهارته. بل المرجع فيه عموم الانفعال.

و دعوي: أن إعمال العموم المذكور في ماء الاستنجاء مستلزم لتخصيص عموم تنجيس المتنجس فيه، إذ مقتضي العموم المذكور بضميمة النصوص المتقدمة الدالة علي عدم تنجيسه هو طهارته.

مدفوعة: بعدم حجية عموم تنجيس المتنجس في ماء الاستنجاء، لخروجه عنه تخصصا أو تخصيصا، و ليس العام حجة في نفي التخصيص و تعيين التخصص عند الدوران بينهما، و لا سيما في مثل المقام، حيث يستلزم إعمال العموم المذكور تخصيص عموم انفعال الماء بعين النجاسة، الذي هو أقوي دليلا و ارتكازا من عموم تنجيس النجس.

و أضعف منه ما ذكره الفقيه الهمداني قدس سره الشريف من أن الالتزام بنجاسة الماء يستلزم التصرف في جميع الأدلة الدالة علي عدم جواز استعمال الماء النجس في المأكول و المشروب و الوضوء و الصلاة و غيرها مما يشترط بالطهارة، لثبوت نفي البأس عن الكل و لو بالإجماع.

لاندفاعه. أولا: بأنه يعلم بسقوط العمومات المذكورة عن الحجية في الماء المذكور، لخروجه عنها تخصصا أو تخصيصا.

و ثانيا: بعدم الوجه في عدم البأس في الأمور المذكورة بالإضافة إلي الماء

ص: 159

و إن كان من البول (1)،

______________________________

المذكور، بناء علي نجاسته، لعدم المخصص للعمومات المذكورة فيه من إجماع و غيره، بل لا ثمرة للنجاسة إلا عدم ترتب هذه الأمور عليه.

بل حتي بناء علي طهارته، يقوي احتمال عدم مطهريته من الحدث، حيث ادعي الإجماع فيه.

و لو تمَّ لزم من القول بالطهارة تخصيص عموم مطهرية الماء الطاهر، الذي هو كتخصيص عموم عدم جواز شرب النجس.

نعم، لو كان عدم البأس في أخبار الأحول راجعا إلي الماء اتجه عمومه لجميع هذه الأمور، بل يتعين حينئذ البناء علي الطهارة، لعدم الأثر للنجاسة حينئذ، الموجب للغويتها عرفا و ظهور نفي البأس في الطهارة.

إلا أن ملاحظة النصوص تشهد برجوعه إلي الثوب، فلا تدل إلا علي طهارته و عدم منجسية الماء المذكور له. و التعدي لغير الثوب من سائر أفراد الملاقي إنما هو بفهم عدم الخصوصية. و إن كان المتيقن منه البدن، دون مثل الطشت و نحوه مما يتعارف تجنبه من دون أن يستلزم الحرج نوعا، فإن التعدي إليه لا يخلو عن إشكال، لو لا ظهور مفروغيتهم عن ذلك. فتأمل.

(1) كما في المعتبر و جامع المقاصد و المسالك و عن غيرها. و في المدارك و عن الذخيرة أنه مقتضي إطلاق النص و كلام الأصحاب.

و إليه يرجع ما في المعتبر من صدق الاستنجاء عليه. و قد تقدم الإشكال في ذلك عند الكلام في وجوب التعدد في البول. إلا أن يرجع إلي استفادته من إطلاق النص تبعا، لعدم انفكاك ماء الاستنجاء من الغائط عن ماء الاستنجاء من البول غالبا.

و لا سيما بملاحظة ما في صحيح الأحول من فرض الاستنجاء بعد الخروج من الخلاء، لاستبعاد الاستنجاء بعد الخروج منها من خصوص الغائط كاستبعاد تميز أحد المائين عن الآخر، فعدم التنبيه علي التفصيل فيه ظاهر في العموم لما

ص: 160

فلا يجب الاجتناب عنه (1)، و لا عن ملاقيه (2)، إذا لم يتغير بالنجاسة (3)،

______________________________

إذا استنجي من البول مع الغائط، و يتعدي منه لما إذا استنجي من البول وحده، لعدم الفصل، بل لفهم عدم الخصوصية.

(1) أما في الشرب فلأصالة البراءة بعد عدم وضوح عموم يقتضي جواز شرب الماء الطاهر.

و أما في رفع الخبث فلعموم مطهرية الماء الطاهر الذي تقدم تنقيحه في أوائل أحكام المياه. و لم يظهر لي عاجلا من يمنع من رفع الخبث به علي القول بطهارته، و إنما يأتي الكلام في رفع الحدث.

هذا، و أما بناء علي نجاسة ماء الاستنجاء فالمنع في الكل ظاهر الوجه، كما أشرنا إليه آنفا.

(2) فان مقتضي الحكم بطهارته ترتب جميع أحكام الطاهر عليه.

(3) كما صرح به غير واحد، بل في مفتاح الكرامة أنه صرح به جميع الفقهاء إلا من شذ، و في كشف اللثام كأنه لا خلاف فيه، بل ظاهر شيخنا الأعظم قدس سره دعوي الإجماع عليه.

و العمدة فيه عموم نجاسة المتغير المستفاد من مجموع النصوص الواردة فيه، المقدم علي عموم طهارة ماء الاستنجاء، و إن كان بينهما عموم من وجه، لأن التغير حيثية زائدة في ماء الاستنجاء، لصدق ماء الاستنجاء بمجرد غسل موضع النجو الملازم لملاقاة النجاسة، و التغير أمر زائد علي ذلك، فحال العمومين حال عموم حكم العنوان الأولي مع عموم حكم العنوان الثانوي.

و يؤيده التعليل في مرسل الأحول الظاهر في اختصاص الحكم بالطهارة بصورة كون الماء أكثر من القذر، حيث يلزم حمله علي إرادة غلبته له الملازمة لعدم التغير- و لو بقرينة نصوص التغير. و هو لا ينافي ما تقدم من إجمال التعليل، إذ المراد به إجمال جهة التعليل فيه بعد فرض اختصاصه بمورده، و هو لا ينافي

ص: 161

______________________________

ظهوره في فرض كون الماء أكثر.

و منه يظهر ضعف ما عن الأردبيلي من أن هذا الشرط غير ظاهر.

و أما ما في الجواهر من أقوائية عموم التغير، لأن ماء الاستنجاء ليس أعظم من الكر و الجاري، بل ليس لنا ماء لا يفسد بالتغير.

فيشكل: بأن طهارة ماء الاستنجاء أو ملاقيه ليس لاعتصامه في نفسه، ليكون نظيرا للكر و الجاري، ليمكن نفي أقوائيته منهما، بل هي حكم تعبدي و لو من جهة الامتنان و التخفيف، فيمكن ثبوتها مع التغير.

و كما لم يثبت لنا ماء لا يفسد بالتغير لم يثبت لنا ماء استنجاء نجس هو و ملاقيه، و المستثنيات الأخري المذكورة في كلماتهم خارجة عنه موضوعا.

و مثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن عموم نصوص الاستنجاء بالإطلاق، و عموم نصوص التغير بالوضع المستفاد من صحيح حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: كلما غلب الماء علي ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «1».

للإشكال فيه- مضافا إلي أن الصحيح محمول علي الماء الكثير، بقرينة تضمنه الطهارة مع عدم التغير، و وارد في الميتة، لأنها الظاهرة عرفا من الجيفة، فلا يعم ماء الاستنجاء، و إنما استفيد عموم الانفعال الشامل لماء الاستنجاء من النصوص الأخري، و لو بضميمة فهم عدم الخصوصية- بأن العموم الوضعي الذي تضمنته الفقرة الأولي وارد في الطهارة مع عدم التغير، و أما النجاسة مع التغير فهي مستفادة من الفقرة الثانية بالإطلاق.

علي أن سنده لا يخلو عن إشكال، لقوة احتمال الإرسال فيه، لروايته بطريق آخر صحيح عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و من البعيد تعدد الرواية، بل هو من تعارض الروايتين المسقط لهما عن الحجية. فلاحظ.

ثمَّ إن شيخنا الأعظم قدس سره استثني من التغير التغير الذي يحصل لأول الماء

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 162

و لم تتجاوز نجاسة الموضع عن المحل المعتاد (1)، و لم تصحبه أجزاء النجاسة متميزة (2)،

______________________________

عند الغسل تدريجا، لأن الاستنجاء لا ينفك غالبا عن هذا التغير.

و هو في محله. لكن استشكل قدس سره في الطهارة مع انفصال انفصال الجزء المتغير بالنحو المذكور.

فإن أراد نجاسته مع تميزه عن غيره فهو في محله. و إن أراد نجاسته و تنجيسه لما يقع عليه و يختلط به من بقية ماء الاستنجاء فلا يخلو عن إشكال، بل منع، لصعوبة حمل النصوص علي ذلك جدا.

هذا، و قد تقدم في المسألة الثالثة من مباحث المياه أن المعيار في التغير الصفات الثلاث اللون و الريح و الطعم.

فلا وجه لما عن الذكري من ذكر زيادة الوزن في المقام، و ما عن العلامة في نهاية الأحكام من ذكره في مطلق الغسالة.

(1) كما في المسالك و المدارك و كشف اللثام و غيرها. و قد ذكروا أن المراد به التعدي الفاحش الذي لا يصدق معه الاستنجاء. و لعله خارج عن إطلاق عدم قادحية التعدي فيما عن الشهيد و الميسي و أبي العباس. و كيف كان فوجه اشتراط ذلك ظاهر.

نعم، اللازم فيه التفصيل بين ما يغسل به الموضع المعتاد و ما يغسل به موضع التعدي لو أمكن الفصل بينهما، كما ذكره في الجواهر، و تقدم نظيره في الاستجمار.

هذا، و المستفاد من صحيح الأحول بمقتضي فرض الخروج فيه عدم قدح التعدي الذي يحصل من الخروج بسبب تقارب الأليتين و حركتهما حينه.

(2) كما في جامع المقاصد و المسالك و كشف اللثام و عن الروض و الميسي و عن الأردبيلي انه غير ظاهر. و توقف فيه في المدارك، لإطلاق النص.

لكن إطلاق النص ناظر إلي طهارته بلحاظ غسل النجاسة به المستلزم

ص: 163

و لم تصبه نجاسة من الخارج (1)

______________________________

لملاقاته لها، فان ذلك هو المقوم لصدق ماء الاستنجاء، و لا نظر فيه إلي ملاقاته للنجاسة بعد ذلك، لبقائها فيه و عدم استهلاكها.

و من ثمَّ لا يعد إهمال بعض الأصحاب التنبيه علي ذلك خلافا في المسألة.

اللهم إلا أن يريد استفادته من الإطلاق تبعا، لكثرة مصاحبة ماء الاستنجاء لذلك مع الغفلة عنه، فعدم التنبيه عليه ظاهر في عدم قدحه.

و ما ذكره بعض مشايخنا من غلبة قلة الغائط في المحل، فلا يتميز منه شي ء في ماء الاستنجاء.

غير ظاهر، إذ كثيرا ما يكون غسل النجاسة بقلعها، المستلزم لتميزها، لا بتذويبها بالماء المستلزم لاستهلاكها فيه. فالبناء علي عدم قدح ذلك قريب جدا.

و أظهر من ذلك ما لو كان في الماء ما يخرج مع النجاسة و يتنجس بها مما لا يقبل الذوبان، كقشور بعض المطعومات التي لا تنهضم، كما نبه له السيد الطباطبائي في العروة الوثقي و تبعه جملة من شراحها و محشيها، و إن قرّب في الجواهر قادحيته أيضا، بل جزم بها شيخنا الأعظم قدس سره.

(1) كما صرح به جمع من الأصحاب، كالمحقق و العلامة، و عن الشيخ و غيرهم. بل في كشف اللثام كأنه لا خلاف فيه.

و يقتضيه ما تقدم من اختصاص النصوص بنفي النجاسة من حيثية الاستنجاء، و لا تنهض بنفي تنجسه بنجاسة خارجية. كما لا طريق لاستفادته تبعا، لعدم كثرة الابتلاء بذلك بنحو يغفل عنه.

لكن قد يدل علي العفو تبعا موثق الأحول أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قلت له: استنجي ثمَّ يقع ثوبي فيه و أنا جنب. فقال: لا بأس به» «1». لقرب حمله علي إرادة غسل المني مع الاستنجاء، بقرينة ذكر الجنابة لبعد احتمال دخل

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب المضاف و المستعمل حديث: 4.

ص: 164

أو من الداخل (1)

______________________________

حدثها في حكم ماء الاستنجاء، كي يحتاج لذكرها في السؤال.

إلا أن في بلوغ ذلك مرتبة الظهور الحجة إشكالا، فلا يخرج به عما عرفت.

ثمَّ إن ذلك كما يجري في غسل النجاسة الخارجية بالماء يجري في وقوعه علي الموضع النجس و نجاسة اليد التي يستنجي بها من غير جهة الاستنجاء، و لو لوضعها علي النجاسة لا بقصده، كما صرح به بعضهم.

نعم، لا تقدح نجاسة اليد بسبب الاستنجاء بها- كما صرح به غير واحد- لملازمة الاستنجاء لذلك. من دون فرق بين سبق اليد علي الماء في ملاقاة النجاسة و غيره، كما في جامع المقاصد و غيره، لتعارف الوجهين في الجملة، بنحو يغفل عن التقييد بالصورة الثانية، الموجب لظهور الإطلاق في إفادته تبعا.

خلافا لما في كشف اللثام من عدّ الصورة الأولي من صور ملاقاة النجاسة الخارجية القادحة.

(1) كما في جامع المقاصد و المسالك و كشف اللثام و غيرها. لما تقدم في سابقة، لاختصاص الاستنجاء بغسل النجو، و هو الغائط، كما تقدم.

و دلالة الإطلاق علي الطهارة مع الاختلاط تبعا غير ظاهر، لعدم وضوح غلبة ذلك بالنحو الذي يغفل عن استثنائه، لأنه علي خلاف المتعارف في الأمزجة الصحيحة. فما في المدارك من التوقف في ذلك لإطلاق النص، في غير محله.

ثمَّ إنه قد عمم صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذلك للمتنجس الخارج مع الغائط أو بعده، كالحصي و الوذي، حيث يتنجس به الموضع أيضا، و ليس التطهير منه استنجاء.

لكنه في غاية الإشكال، لكثرة خروجه و غفلة العرف عنه، و لو لتفرع نجاسته علي نجاسة الغائط المفروض عدم قدحها، فاستفادة عدم قدحه من الإطلاق تبعا قريبة جدا.

هذا، و عن المدارك و الذخيرة عدم الفرق بين ما يخرج من المخرج الطبيعي

ص: 165

فإذا اجتمعت هذه الشروط كان طاهرا، و لكن لا يجوز الوضوء به (1).

______________________________

و غيره، و في جامع المقاصد و غيره و عن الدلائل اعتبار كون غير الطبيعي معتادا، و ظاهر سيدنا المصنف قدّس سرّه لزوم كون الموضع معدا لخروج النجاسة و لو مع عدم التكرار و الاعتياد.

و الكل يبتني علي عدم اختصاص الاستنجاء بغسل المخرج الطبيعي، بل يعم غيره مطلقا أو بأحد الشرطين المذكورين.

و هو غير ظاهر، بل المتيقن منه غسل المخرج الطبيعي، فيرجع في غيره الي عموم حكم الماء الملاقي للنجاسة.

و منه يظهر عدم الاجتزاء بالاستجمار فيه، كما لا يجتزأ بها مع تنجس الموضع بنجاسة أخري غير الغائط، كما تقدم ما يناسبه عند الكلام في اعتبار طهارة الأحجار. فراجع.

(1) كما هو ظاهر الذخيرة و قواه شيخنا الأعظم قدّس سرّه و بعض من تأخر عنه.

لخبر عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا بأس بأن يتوضأ الرجل بالماء المستعمل. فقال: الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضأ منه و أشباهه.» «1» بناء علي ما تقدم في الماء المستعمل من تقريب قوة سنده، و علي التعدي عن مورده إلي مطلق ما يغسل به النجاسة و إن كان طاهرا.

و لما في المعتبر و المنتهي من دعوي الإجماع علي عدم جواز رفع الحدث بما يزال به النجاسة. و في مفتاح الكرامة: «و قد اعترف بهذا الإجماع جماعة، كصاحب المدارك و المعالم و الذخيرة و غيرهم.» و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه:

«الإجماع الذي يحكيه الفاضلان و يتلقاه الأعاظم بعدهما بالقبول ليس من الإجماع المنقول».

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 13.

ص: 166

______________________________

و فيه: أنه لا مجال للتعدي عن مورد الخبر إلي الغسالة الطاهرة بعد ارتكازية مانعية نجاسة الماء عن التطهير به.

و أما دعوي الإجماع فلا مجال للتعويل عليها بعد عدم ظهور التسالم علي مضمونها، فان ما في مفتاح الكرامة- من اعتراف جماعة به- لا يريد به إلا نقلهم لحكايته من الفاضلين، كما يظهر من كلام له آخر، و هو الموجود في المدارك و الذخيرة، بل في المدارك أن الأصح مطهريته من الحدث، و هو صريح كشف اللثام، و محكي مجمع البرهان، و عن الذكري و المهذب البارع أن ثمرة الخلاف في ماء الاستنجاء تظهر في رفعه الحدث و الخبث. و في مفتاح الكرامة بعد نقل ذلك عنهما: «فيكون معقد الإجماع عندهما غير ماء الاستنجاء».

و لعل منشأه عدم صراحة كلام ناقلي الإجماع في العموم، ففي المعتبر في حكم الماء المستعمل: «و فيما يزال به الخبث و لم يتغير بالنجاسة قولان، أشبههما التنجيس، عدا ماء الاستنجاء. أما نجاسته مع التغير فبإجماع الناس. و أما إذا لم يتغير فقد اختلف قول الشيخ. أما رفع الحدث به أو بغيره مما يزال النجاسة فلا إجماعا، و لما رواه عبد اللّه ابن سنان. و أما طهارة ماء الاستنجاء فهو مذهب الشيخين.».

و في المنتهي بعد حكمه بنجاسة الغسلة المطهرة: «رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره مما يزيل النجاسة لا يجوز إجماعا، أما علي قولنا فظاهر. و أما علي قول الشيخ فلما رواه عبد اللّه بن سنان.».

و قد يشهد باختصاص معقد الإجماع في كلامهما عدم ظهور العمل منهما به في ماء الاستنجاء، حيث أطلق في الشرائع و النافع طهارته مع وضوح احتياج عدم رفع الحدث به مع طهارته للتنبيه، خصوصا مع التنبيه له فيما يرفع به الحدث الأكبر المذكور في سياقه، بل أطلق في القواعد مطهريته، و لم ينبه علي استثناء الحدث في غير واحد من شروح الكتب المذكورة، كجامع المقاصد و المسالك و الرياض، حيث يظهر منهم البناء علي عموم مطهريته، خصوصا الأول.

و لعله لذا قال في الجواهر: «سمعت الإجماع سابقا في ماء الغسالة من

ص: 167

______________________________

المصنف و العلامة أنه لا يجوز رفع الحدث بما يزال به النجاسة. و يدخل فيه ذلك [يعني: ماء الاستنجاء] علي اشكال».

علي أن من القريب ابتناء مذهب بعض المانعين من رفع الخبث بما يزال به النجاسة علي نجاسته، و بعضهم علي دخوله في خبر عبد اللّه بن سنان، و لا يحرز خصوصيته في المانعية عندهم مع قطع النظر عن ذلك.

ثمَّ إن الأمر لا يختص بالوضوء، بل لو تمَّ المنع، فان كان دليله الإجماع تعين التعدي لكل ما يرفع الحدث من الوضوء و الغسل، و أشكل شموله لما لا يرفعه من الوضوءات و الأغسال المستحبة.

و إن كان دليله خبر ابن سنان كان الوجه في التعدي للغسل ارتكاز أولوية الطهارة الكبري في ذلك من الطهارة الصغري. كما يتعين التعميم لما لا يكون رافعا للحدث من الوضوء و الغسل المندوبين، عملا بإطلاق الوضوء في الخبر بعد فرض التعدي منه للغسل، كما تقدم نظيره في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

بقي في المقام فروع لا بأس بالتعرض لها.

الأول: لما كان منشأ القول بنجاسة ماء الاستنجاء هو عموم الانفعال بملاقاة النجاسة تعين قصوره عن الماء المعتصم، من دون فرق بين تمامية الشروط المتقدمة و عدمه، عدا التغير. و هو ظاهر.

كما أن منشأ امتناع رفع الحدث به علي تقدير طهارته إن كان هو الإجماع فمن المعلوم قصوره عن ذلك أيضا. و إن كان هو خبر ابن سنان تعين الخروج عنه بما دل علي جواز الغسل بالماء الكثير الذي يغتسل به الجنب و يستنجي به «1»، علي ما تقدم في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر. بل المقام أظهر منه.

نعم، قد يستدل علي كراهة استعمال الماء الكثير الذي يستنجي به بصحيح ابن بزيع: «كتبت إلي من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء و يستقي فيه من بئر، فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب، ما حده الذي لا يجوز؟

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

ص: 168

______________________________

فكتب: لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» «1».

لكنه ظاهر في الماء المعرض لكل طارئ، كما تقدم هناك أيضا.

الثاني: إذا تردد الماء بين كونه غسالة نجاسة و ماء استنجاء لم يبعد البناء علي نجاسته و منجسيته، لاستصحاب عدم كونه ماء استنجاء، بناء علي ما هو الظاهر من أن إحراز عدم الخاص في موارد كاف في إحراز ثبوت حكم العام له، و هو في المقام عموم انفعال الماء القليل.

الثالث: إذا شك في تحقق الشروط المتقدمة لثبوت حكم ماء الاستنجاء لم يقدح ذلك في إجراء حكمه، لصدق الاستنجاء في جميع ذلك المقتضي لترتب حكمه، و إنما يحتمل وجوب الاجتناب عنه أو عن ملاقيه لاحتمال أمر خارج عنه من تغير أو ملاقاة نجاسة غير ما يستنجي منه، فاستصحاب عدم ذلك يقتضي عدم وجوب الاجتناب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الماء المطلق حديث: 15.

ص: 169

ص: 170

الفصل الرابع: كيفية الاستبراء من البول
اشارة

الفصل الرابع كيفية الاستبراء من البول (1)

______________________________

(1) تقدم في مستحبات التخلي أن ظاهر بعض النصوص استحباب الاستبراء في نفسه. كما يأتي أن فائدته طهارة البلل المشتبه.

فان فرض عدم الاجمال فيه- و لو للجمع بين النصوص- فهو، و إلا كان مقتضي قاعدة التسامح استحباب جميع الكيفيات التي تضمنتها النصوص بنحو تعدد المطلوب.

و أما بالإضافة إلي الفائدة المذكورة فمقتضي القاعدة في مورد الشك و الاجمال البناء علي الطهارة الحديثة و الخبيثة، لاستصحابهما بعد فرض إجمال المخرج عنهما، و هو نصوص الاستبراء.

لكن احتمل في الجواهر، بل جزم شيخنا الأستاذ قدّس سرّه بأن اللازم البناء علي النجاسة و الحدث، للزوم الاقتصار علي المتيقن في الخروج عن إطلاق ما تضمن وجوب الوضوء و الاستنجاء بخروج البلل بعد البول، كصحيح محمد بن مسلم:

«قال أبو جعفر عليه السّلام: من اغتسل و هو جنب قبل أن يبول ثمَّ يجد بللا فقد انتقض غسله، و إن كان بال ثمَّ وجد بللا فليس ينقض غسله، و لكن عليه الوضوء، لأن البول لم يدع شيئا» «1» و موثق سماعة: «سألته عن الرجل يجنب ثمَّ يغتسل قبل أن يبول، فيجد بللا بعد ما يغتسل. قال: يعيد الغسل، فان كان بال قبل

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 171

أن يمسح من المقعدة إلي أصل القضيب ثلاثا، ثمَّ منه إلي رأس الحشفة ثلاثا، ثمَّ ينترها ثلاثا (1).

______________________________

أن يغتسل فلا يعيد غسله، و لكن يتوضأ و يستنجي» «1» و غيرهما.

و فيه: أن الإطلاق المذكور معارض بإطلاق ما تضمن طهارة البلل الخارج بعد البول و عدم ناقضيته ففي صحيح ابن أبي يعفور: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل بال ثمَّ توضأ، ثمَّ قام إلي الصلاة، ثمَّ وجد بللا قال: [لا شي ء عليه و. فقيه] لا يتوضأ [إنما ذلك في الحبائل. كافي]» «2». و نصوص الاستبراء تصلح لأن تكون شاهد جمع بين الإطلاقين، ففي مورد إجمالها كما تسقط عن الحجية يسقط الإطلاقان بالمعارضة، و يكون المرجع استصحاب الطهارة الحديثة و الخبثية، كما ذكرنا.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن صحيح ابن أبي يعفور لما كان مطابقا لعموم الاستصحاب كان ملحقا به، و لم يصلح لمعارضة الإطلاقات الأول المقدمة في نفسها علي عموم الاستصحاب.

ففيه. أولا: أن تقدم الإطلاقات الأول علي عموم الاستصحاب لما كان الوجه فيه أنها أخص منه أو حاكمة عليه فلا مجال لتقديمها علي إطلاق صحيح ابن أبي يعفور الذي هو مباين لها، بل يتعين استحكام التعارض بينه و بينها، بل قد يترجح بموافقته لعموم الاستصحاب.

و ثانيا: أن ظاهر الصحيح المذكور كون البناء علي الطهارة لأجل أن البلل من الحبائل، لا للاستصحاب، فمضمونه حاكم علي مفاد عموم الاستصحاب، و ليس مسانخا له، كي يدعي إلحاقه به.

(1) كما في الشرائع و القواعد و عن المنتهي و التحرير و التذكرة. و عن البيان

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 172

______________________________

و الدروس إبدال نتر الحشفة بعصرها، و وافقهما في الروضة و زاد إبدال مسح القضيب بنتره.

هذا مع محافظة الجميع علي التسع، و نسبها في المدارك إلي المبسوط، و في الجواهر إلي صريح الصدوق. بل عن الذكري: «و ليكن بالتسع المشهورة»، و وصفها بالشهرة أيضا في المدارك و محكي الذخيرة.

و قد استدل عليها غير واحد بأنها مقتضي الجمع بين النصوص بعد تقييد بعضها ببعض و توضيح ذلك: أن التسع بتمامها لم يتضمنها نص خاص، و إنما تضمن كل نص قسما منها. ففي صحيح محمد بن مسلم: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام:

رجل بال و لم يكن معه ماء. قال: يعصر أصل ذكره إلي طرفه [رأس ذكره. خ يب] ثلاث عصرات، و ينتر طرفه، فإن خرج بعد ذلك شي ء فليس من البول و لكنه من الحبائل» «1» و صحيح حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يبول.

قال: ينتره ثلاثا، ثمَّ إن سال حتي يبلغ السوق فلا يبالي» «2» و خبر عبد الملك- الذي لا يبعد حسنه- عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يبول ثمَّ يستنجي ثمَّ يجد بعد ذلك بللا. قال: إذا بال فخرط ما بين المقعدة و الأنثيين ثلاث مرات و غمز ما بينهما، ثمَّ استنجي، فان سال حتي يبلغ السوق فلا يبالي» «3» و تقدم في مسألة استحباب الاستبراء ما في بعض النصوص من سلّ الإصبع من أصل العجان ثلاثا، و في آخر من نتر الذكر ثلاثا.

إلا أن ضعف سندها مانع من الاستدلال بها، بل لا تصلح إلا للتأييد، و العمدة ما ذكرناه هنا.

و قد يدعي أن إطلاق كل منها و إن كان يقتضي الاكتفاء بما تضمنه من الكيفية في طهارة البلل المشتبه، إلا أن الجمع بينها يقتضي تقييد كل منها بالآخر، فيعتبر جميع ما تضمنته من خرط ما بين المقعدة و الأنثيين ثلاثا الذي تضمنه خبر

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقص الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

ص: 173

______________________________

عبد الملك- و عليه ينزل السل في خبر الجعفريات المتقدم في استحباب الاستبراء- و عصر الذكر ثلاثا الذي تضمنه صحيح محمد بن مسلم- و الذي قد ينزل عليه النتر في صحيح حفص و غيره مما تقدم في استحباب الاستبراء- و نتر الحشفة الذي تضمنه صحيح محمد بن مسلم.

فلم يبق إلا الترتيب بين العصرات، الذي قد يتعين الحمل عليه بمناسبة كون الغرض التنقية.

و يشكل. أولا: بأن صحيح محمد بن مسلم لم يتضمن التثليث في نتر الحشفة، بل تركه فيه مع التعرض له في عصر الذكر قد يوجب قوة ظهوره في عدم لزومه. و أما دعوي حذفه اعتمادا علي ذكره سابقا فهي خالية عن الشاهد.

و ثانيا: بأن خبر عبد الملك قد تضمن الغمز الظاهر في غمز ما بين المقعدة و الأنثيين، الذي لم يعتبره أحد زائدا علي الخرط، كما في الجواهر.

و حمله علي غمز ما بين الأنثيين لأنهما الأقرب- كما في الجواهر- مخالف للظاهر، لأنهما مذكوران ضمنا في تحديد الخرط، فيبعد إرادتهما من الضمير. علي أنه لم يقل به أحد أيضا، لأن أكثر ما ذكروه هو التسع.

و أضعف منه ما أشار إليه في الرياض و استظهره الفقيه الهمداني، من حمله علي غمز الذكر، لأنه واقع بين الأنثيين، و عدم التصريح به لاستهجانه.

للإشكال فيه- مضافا إلي ما سبق- بأن الذكر فوق الأنثيين، لا بينهما، و لو أريد لكان التصريح به أخصر و أفيد، و ليس البناء في النصوص علي ملاحظة الاستهجان بمثل ذلك.

فالإنصاف: أن توجيه الغمز المذكور علي مبني المشهور مشكل.

اللهم إلا أن يقال: عدم ذكره لا يختص بالقائلين بالخرطات التسع، فلا يكون موهنا للقول المذكور، بل إعراضهم عنه إما أن يوجب سقوط ما تضمنه عن الحجية، أو يكشف عن كون عطفه علي الخرطات للتأكيد و التوضيح، لا لكونه أمرا آخر في قبالها.

و ثالثا: بأن ظهور كل منها في جواز البناء علي الطهارة مع فعل الكيفية

ص: 174

______________________________

المذكورة فيها أقوي من ظهوره في عدم جواز البناء عليها مع تركها، فالمقام نظير ما إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء، الذي كان المعروف فيه البناء علي الاكتفاء بأحد الشروط في ترتب الجزاء و عدم لزوم اجتماعها، تقديما لظهور المنطوق علي ظهور المفهوم، بل المقام أولي بذلك، لأن دلالة الصحيحين علي عدم جواز البناء علي الطهارة مع عدم الاستبراء بالكيفيتين فيهما ليس لاشتمالهما علي أداة الشرط الظاهرة في الإناطة المقتضية للمفهوم، بل لظهور الأمر في كل منهما بالكيفية المذكورة فيه في التعيين، المستلزم لعدم ترتب الأثر بدونه، و هو أضعف من ظهور الشرط في المفهوم.

و منه يظهر أن قول المشهور ليس مبنيا علي تحكيم المنطوق علي المفهوم، كما في الجواهر، بل علي العكس الذي هو خلاف الظاهر.

و دعوي: أن مناسبة كون الغرض الإنقاء تعيّنه و إن كان في نفسه خلاف الظاهر.

مدفوعة بأن المناسبة المذكورة ليست من القرائن المحيطة بالكلام الصارفة عن الظهور المذكور.

و مما ذكرنا يظهر حال ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن التردد في المقام بين الجمع بتقييد كل منطوق منها بمفهوم الآخر و الجمع بتقييد مفهوم كل منها بمنطوق الآخر موجب لإجمال الاستبراء، الملزم بالاقتصار علي المتيقن منه- و هو التسع- و الرجوع في غيره لعموم نجاسة البلل الخارج بعد البول و ناقضيته، علي ما تقدم منه في تقريب مقتضي الأصل في فرض الاجمال.

لاندفاعه بما ذكرنا من أن تقييد المفهوم بالمنطوق هو الأظهر، و بما تقدم من أن المرجع في فرض الاجمال هو استصحاب الطهارة، لا العموم المذكور.

و رابعا: بأن التقييد بالوجه المذكور و التنقية لا يقتضيان الترتيب بالوجه المذكور، فإن التنقية و ان توقفت علي تقديم عصر ما بين المقعدة و الأنثيين علي عصر الذكر، و تقديم عصر الذكر علي عصر الحشفة، إلا أنها لا تقتضي تقديم تمام عصرات كل موضع علي تمام عصرات ما بعده، بل يكفي عصر ما بين المقعدة

ص: 175

______________________________

و الأنثيين ثمَّ الذكر، مع تكرار ذلك ثلاثا.

بل لو أمكن استيعاب ما بين المقعدة و طرف الذكر بعصرة واحدة كفت ثلاث عصرات مستوعبة. إلا أن الظاهر تعذر ذلك، لأن عصر ما بين المقعدة و الأنثيين بضغط الإصبع علي الموضع، و عصر الذكر بضغطه بين الإصبعين، بنحو يحتاج للفصل الموجب للتعدد.

كما أنه لا بد من نتر الحشفة زائدا علي ذلك، بناء علي الجمع بين مفاد النصوص، لظهور صحيح محمد بن مسلم في ذلك.

و لعله لذا قال في النافع: «يعصر ذكره من المقعدة إلي طرفه ثلاثا، و ينتره ثلاثا» إذ لا يبعد أن يكون مراده من نتره ما يساوق نتر الحشفة، كما هو الظاهر من جملة ممن ذكره في ضمن التسع كالشرائع و القواعد و غيرهما، و إلا فحمله علي نتر تمام الذكر موجب لتكرر عصره بلا وجه. و ما في الرياض من حمل «طرفه» علي الأنثيين غريب. فتأمل.

بقي في المقام أقوال أخري.

الأول: ما في الغنية، حيث قال: «أما البول فيجب الاستبراء منه أولا بنتر القضيب و المسح من مخرج النجو إلي رأسه ثلاث مرات».

و ظاهره الاكتفاء بالمسح المستوعب للمجري ثلاث مرات، كما تقدم من النافع، مع إسقاط نتر الحشفة.

و فيه: أنه إن بني علي التخيير بين الكيفيات المذكورة في النصوص فلا مجال للإلزام بالاستيعاب المذكور، و إن بني علي الجمع بينها لزم ذكر نتر الحشفة، كما تقدم.

نعم، المستفاد من كلام غير واحد توجيه دلالة النصوص بمجموعها علي ذلك، بحمل أصل الذكر في صحيح محمد بن مسلم علي أصله المخفي في العجان الذي يبدأ من المقعدة، و حمل نتر طرفه فيه علي تأكيد استيعاب الذكر بالعصر، لدفع توهم الاكتفاء بعصر ما عد الحشفة، لا لبيان أمر آخر زائد علي ذلك، و حمل الغمز في خبر عبد الملك علي غمز الذكر، و حمل النتر في صحيح حفص

ص: 176

______________________________

علي نتر البول الذي يكون في المجري المدلول عليه بقوله: «يبول» و إخراجه بعصر تمام المجري.

و يشكل بأن ظاهر أصل الذكر في صحيح ابن مسلم مبدؤه المقابل لطرفه، لا ما يخرج عنه عرفا، و لا سيما مع التصريح بتثليث العصرات، لما ذكرناه آنفا من تعذر عصر ما بين المقعدة و طرف الذكر بعصرة واحدة.

و حمل نتر طرفه علي تأكيد استيعابه بالعصر مخالف للظاهر جدا، و لا سيما مع العدول عن التعبير بالعصر إلي التعبير بالنتر.

و مثله حمل الغمز في خبر عبد الملك علي غمز الذكر، كما تقدم في الوجه الثاني للإشكال في الاستدلال علي التسع المشهورة.

كما أنه لا مجال لحمل النتر في صحيح حفص علي إخراج البول بعصر مجراه، لأن النتر جذب الشي ء بشدة، و منه نتر الحبل، و إخراج البول مما بين المقعدة و الاثنين لا يكون بالوجه المذكور، بل بالسل و الخرط.

علي أن البول المستفاد من قوله: «يبول» هو الخارج الذي لا يكون موردا للنتر، و المتبقي في المجري غير مفروض في السؤال، كي يحمل عليه الجواب.

مع أنه لا معني لتثليث النتر بالإضافة إلي البول، بل لامتناع تعدد خروجه، و إنما يتوجه في مثل نتر الذكر المستلزم لخروج البول تدريجا.

و من ثمَّ كان هو الظاهر، و لا سيما بعد كونه المناسب المعهود للنتر، و ورد في غير واحد من النصوص المتقدم بعضها في استحباب الاستبراء، و إن كانت ضعيفة السند.

الثاني: ما في الفقيه و النهاية و المراسم و الوسيلة و عن السرائر من أنه عبارة عن مسح ما بين المقعدة و الأنثيين ثلاثا و نتر الذكر ثلاثا، و لعله ظاهر المبسط، حيث قال في محكيه: «مسح من عند المقعدة إلي تحت الأنثيين ثلاثا، و مسح القضيب و نتره ثلاثا».

و يأتي فيه ما تقدم في سابقة من أنه لا وجه لإسقاط نتر الحشفة بعد ذكره في صحيح محمد بن مسلم.

ص: 177

______________________________

مع ما تقدم من أنه لا ملزم بالترتيب بين تمام المسحات و تمام النترات الذي هو صريح الفقيه و النهاية و المنصرف من غيرهما.

علي أن الإلزام بالنتر لا وجه له بعد ظهور صحيح محمد بن مسلم في الاكتفاء بالعصر.

الثالث: ما عن المقنعة، حيث قال: «مسح بإصبعه الوسطي تحت أنثييه إلي أصل القضيب مرتين أو ثلاثا، ثمَّ يضع مسبحته تحت القضيب و إبهامه فوقه و يمرها عليه باعتماد قوي من أصله إلي رأس الحشفة [مرة أو] مرتين أو ثلاثا».

و يشكل- مضافا إلي ما تقدم في سابقة- بأنه لا وجه للتسامح في التثليث بعد تصريح جميع النصوص به، و لا للإلزام بعصر الذكر بعد ظهور صحيح حفص في كفاية النتر. فلاحظ.

الرابع: ما عن والد الصدوق من الاقتصار علي مسح ما بين المقعدة و الأنثيين ثلاثا.

الخامس: ما عن المرتضي و ابن الجنيد من الاقتصار علي نتر الذكر من أصله ثلاثا.

السادس: ما عن المهذب من الاقتصار علي عصر الذكر مرتين أو ثلاثا مع عصر الحشفة.

و هذه الثلاثة مبنية علي العمل ببعض النصوص و إهمال بعضها. و يزيد الأخير بالتسامح في التثليث، و إبدال نتر الحشفة بعصرها.

و الذي يتحصل بعد النظر فيما تقدم: أن مقتضي الجمع بين النصوص الاكتفاء بإحدي الكيفيات الثلاث المذكورة في النصوص المتقدمة، و هي مسح ما بين المقعدة و الأنثيين ثلاثا، و نتر الذكر ثلاثا، و عصره من أصله ثلاثا مع نتر الحشفة.

و مقتضي ملاحظة التنقية و الاحتياط بالجمع بين مفاد النصوص هو مسح تمام ما بين المقعدة و رأس الذكر ثلاثا ثمَّ نتر الحشفة.

ثمَّ إنه لو بني علي الجمع بين مفاد النصوص فالظاهر أن اختلاف صحيحي محمد بن مسلم و حفص في الذكر، حيث تضمن الأول عصره، و الثاني نتره

ص: 178

و فائدته طهارة البلل الخارج بعده إذا احتمل أنه بول، و لا يجب الوضوء منه (1).

______________________________

محمول علي التخيير، أو الاختلاف في الفضل، لأن العصر آكد من النتر في التنقية.

و ربما حمل النتر علي العصر، بأن يحمل علي جذب الذكر من أصله إلي طرفه بنحو الخرط، الذي هو المراد بالعصر، كما قد يظهر من بعضهم.

كما أن تعبير سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره بالمسح فيه و في الخرطات الاولي لا بد أن يحمل علي المسح بشدة المساوق للخرط، بقرينة نصوص المقام و مناسبة التنقية. و أما إبدال نتر الحشفة بعصرها- كما تقدم من الشهيدين- فهو خروج عن النص بلا وجه، إلا أن يكون لمجرد الاستظهار، لا للوجوب.

بقي شي ء، و هو أن بعضهم قد تعرض لبعض الكيفيات الخاصة للخرطات، مثل ما تقدم عن المقنعة من المسح بالإصبع الوسطي و وضع الإبهام و المسبحة.

و لا ملزم به بعد إطلاق الأدلة. نعم، قد تضمن خبر الجعفريات- المتقدم في استحباب الاستبراء- سل الإصبع الوسطي من أصل العجان. و لا بأس بالعمل به برجاء المطلوبية، و إن كان من القريب إلغاء خصوصيته. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) كما صرح به جمع، بل عن السرائر نفي الخلاف فيه، و في كشف اللثام دعوي الاتفاق عليه، و في الحدائق عن غير واحد من المتأخرين التصريح بعدم معرفة الخلاف فيه، و هو مقتضي صحيحي محمد بن مسلم و حفص، و خبر عبد الملك، المتقدمة في كيفية الاستبراء، التي تقدم في أول الفصل أنها شاهد جمع بين إطلاق ما دل علي طهارة البلل، و ما دل علي نجاسته و ناقضيته. فراجع.

و أما ما عن محمد بن عيسي: «كتب إليه رجل: هل يجب الوضوء مما خرج من الذكر بعد الاستبراء؟ فكتب: نعم» «1».

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

ص: 179

و لو خرج البلل المشتبه بالبول قبل الاستبراء بني علي كونه بولا (1)،

______________________________

فلا مجال للتعويل عليه بعد ما عرفت.

و قد ذكر الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار أن الوجه حمله علي الندب أو التقية، لموافقته لمذهب أكثر العامة، لما حكي عنهم من ناقضية كل ما يخرج من السبيلين، و ليس فائدة الاستبراء إلا تنقية المجري. و لا سيما مع عدم ظهوره في فرض اشتباه البلل، بل يعم ما إذا علم بعدم كونه بولا.

(1) كما صرح به جمع، و عن السرائر نفي الخلاف فيه، و في الحدائق عن غير واحد من المتأخرين التصريح بنفي معرفة الخلاف فيه.

و استدل عليه في كلام غير واحد بمفهوم النصوص المذكورة.

و يشكل بعدم كون المفهوم في الصحيحين مفهوم الشرط، بل مفهوم اللقب الذي ليس بحجة.

مع أن صحيح محمد بن مسلم مسوق لبيان ملازمة الاستبراء لعدم كون الخارج بولا، بحيث يكون سببا للحكم ظاهرا بعدم بوليته، فلا يقتضي إلا عدم الامارة علي ذلك مع عدم الاستبراء، لا الحكم ببوليته، لترتب أحكامه، و ليس واردا لبيان إناطة عدم البولية واقعا بالاستبراء، للقطع بعدم ذلك، و إمكان نقاء المحل بدونه.

و أما خبر عبد الملك فالشرطية فيه مسوقة لتحقيق الموضوع، لأن الشرط فيها هو البول، لا الاستبراء، و تنزيلها علي كون البول موضوع الشرطية لا نفس الشرط، لا قرينة عليه.

و دعوي: أنه لو كان المرجع بدون الاستبراء هو الأصل المقتضي للطهارة كان ذكر الاستبراء في النصوص لغوا، لعدم الأثر له.

مدفوعة: بأنه يكفي في الأثر له عدم حسن الاحتياط أو ضعفه معه، لأنه أمارة قطعية أو شرعية علي عدم كون الخارج بولا.

فالعمدة في المقام هو إطلاقات النصوص المتضمنة لوجوب الوضوء

ص: 180

فيجب التطهير منه (1)

______________________________

و الاستنجاء من البلل الخارج بعد البول المتقدمة في أول الفصل، بعد تقييدها بنصوص الاستبراء المتقدمة، حيث تقدم أنها تكون شاهد جمع بينها و بين إطلاق طهارة البلل. فلاحظ.

(1) كما استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه. و إن استشكل فيه بأنه لا يناسب ما ذكروه في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة من عدم الحكم بنجاسته، لاشتراك طرف الشبهة مع البلل المشتبه في أن كلّا منهما قد اعطي بعض أحكام النجاسة، فإذا لم يكن وجوب الاجتناب عن طرف الشبهة مستلزما لتنجس ملاقيه، لم تكن ناقضية البلل المشتبه مستلزمة لنجاسته.

لكنه يندفع بالفرق بين المقامين بأن الحكم بوجوب الاجتناب عن طرف الشبهة عقلي بملاك لزوم إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم بالإجمال من دون أن يتضمن الحكم بنجاسته، ليتفرع عليه تنجس ملاقيه.

أما الحكم بناقضية البلل المشتبه- لو تمَّ- فهو شرعي متفرع علي كونه بولا، للمفروغية عن عدم ناقضية غير البول مما يخرج من مخرجه، فيلزم نجاسته.

اللهم إلا أن يقال: الحكم بناقضيته إنما يستلزم بوليته و نجاسته إذا كان حكما واقعيا، أما إذا كان ظاهريا- كما هو الحال في المقام- فلا ينهض بإثبات لازمه، إذ لا مانع من التفكيك في مقام الظاهر بين التلازمات. علي أن نصوص المقام لم تتضمن الحكم بناقضية البلل المشتبه، بل الأمر بالوضوء منه، و هو أعم من ناقضيته، لإمكان كونه أمرا احتياطيا، لاحتمال الناقضية.

و الذي ينبغي أن يقال: انّه إن كان الإشكال في وجوب الاستنجاء من البلل المشتبه، لإنكار الملازمة بينه و بين وجوب الوضوء منه. فيدفعه عدم الحاجة للملازمة المذكورة بعد ما تقدم في موثق سماعة من الأمر بالاستنجاء منه.

و إن كان الإشكال في ترتب سائر آثار البول عليه. فهو لا يخلو عن وجه، لأن الأمر ظاهرا بالوضوء و الاستنجاء منه لا يستلزم الحكم ظاهرا ببوليته، ليترتب عليه

ص: 181

______________________________

سائر آثارها، لإمكان ابتنائه علي الاحتياط في الأمرين المذكورين، الملزم بالاقتصار عليهما و عدم التعدي لسائر الآثار، فان الاحتياط الشرعي كالعقلي لا يبتني علي التعبد بمنشإ الاحتمال الملزم به و إحرازه، لتترتب آثاره.

و دعوي: أن المستفاد من نصوص المقام كون الأمر بالوضوء و الاستنجاء من باب تقديم الظاهر علي الأصل- كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره- فهو راجع إلي كون عدم الاستبراء أمارة علي كون الخارج بولا، لظهور الحال في بقاء شي ء من البول في المجري.

مدفوعة: بأن الاستبراء و إن كان أمارة علي عدم كون البلل بولا، إلا أن عدمه ليس أمارة علي بولية البلل، لإمكان نقاء المحل بدونه، كما تقدم.

فالحكم ببوليته- لو تمَّ- لا يستند إلي الظاهر، بل هو تعبد شرعي بمجرد الاحتمال، و لا يصلح الأمر بالوضوء و الاستنجاء للدلالة عليه، كما تقدم.

نعم، لو تمَّ المفهوم في صحيح محمد بن مسلم كان مقتضاه التعبد ببولية البلل، لأن تعليق عدم البولية علي الاستبراء مستلزم للبولية بدونه، إلا أنه تقدم عدم تماميته.

لكن الإنصاف أن إطلاق الاستنجاء ظاهر في المفروغية عن تحقق موضوعه، و هو البول، لأن الغسل بدون البول ليس استنجاء. و محض الاحتياط بالغسل لاحتمال كونه استنجاء، لا يصح إطلاق الاستنجاء حقيقة، فظاهر الأمر بالاستنجاء هو التعبد يكون البلل بولا.

مع أنه بعد كون وجوب الوضوء و الاستنجاء متيقنا من الأدلة فلا أثر للتعبد بالبولية إلا وجوب غسل الملاقي في غير مورد الاستنجاء و وجوب غسل ملاقي الملاقي مهما تسلسل.

و يكفي في ذلك صعوبة التفكيك عرفا بينهما و بين الاستنجاء، فالمفهوم من الأمر بالاستنجاء وجوب ترتيب آثار الانفعال بالبلل و إن لم يحكم عليه بالبولية.

فلاحظ.

ص: 182

و الوضوء (1)، و إن كان ترك الاستبراء لعدم التمكن منه (2)،

______________________________

(1) لا إشكال فيه بعد كثرة نصوصه من المطلقات المشار إليها «1».

(2) لإطلاق الأدلة المتقدمة.

و دعوي: أن مقتضي حديث الرفع «2» المتضمن رفع الاضطرار و ما لا يطيقون رفع أثر عدم الاستبراء، و هو وجوب البناء علي البولية.

مدفوعة: بما ذكرناه في الأصول عند الكلام في مفاد الحديث من أن مصحح اسناد الرفع للأمور المذكورة فيه رفع تبعة الفعل أو التكليف و ما يكون من شؤون المسؤولية المترتبة عليهما، فيختص بالآثار الثابتة بعناية كونها تبعة و جزاء علي الفعل، كالمؤاخذة في الأحكام التكليفية، و كوجوب الكفارة و الحد، و نفوذ العقد و اليمين و الإقرار، دون بقية الآثار التابعة لأسبابها الشرعية و إن كانت موجبة للضيق، كالنجاسة بالملاقاة، و تحريم الحيوان مع الخطأ في التذكية، و منها ما نحن فيه، فان وجوب البناء علي البولية ليس من سنخ التبعة و الجزاء لترك الاستبراء، بل هو من أحكامه الشرعية بلا ملاحظة ذلك.

نعم، لو كان مفاد الحديث تنزيل الأمور المذكورة فيه منزلة العدم شرعا فقد يتجه شموله لما نحن فيه و غيره.

لكنه خلاف ظاهره.

و ذكر بعض مشايخنا في وجه عدم شمول الحديث لما نحن فيه أمرين.

الأول: أنه مختص بالتكاليف الإلزامية المتوجهة إلي المكلف بسبب الفعل الاختياري كالإفطار في نهار شهر رمضان الذي هو موضوع لمثل الحرمة و الكفارة، دون ما يتوجه علي المكلف بسبب أمر لم يؤخذ فيه الاختيار، كالنجاسة و الغسل المترتبين علي إصابة النجس و لو بلا اختيار، و منه ما نحن فيه، فان وجوب البناء

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 20 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، و باب: 56 من أبواب جهاد النفس، و باب: 16 من كتاب الإيمان.

ص: 183

أو كان المشتبه مرددا بين البول و المني (1).

______________________________

علي البول من آثار خروج البلل مع عدم الاستبراء و إن لم يكن باختيار المكلف.

الثاني: أن مقتضي الحديث رفع حكم المضطر إليه لا ترتيب آثار نقيضه عليه. فمن وجب عليه البيع لو اضطر إلي تركه لم يحرم عليه الترك، لكن لا يترتب عليه آثار البيع من الملكية و نحوها.

و يندفع الأول: بأن أخذ الاختيار في موضوع التكليف الإلزامي إن كان لاختصاص دليله به، لفرض عدم الإطلاق له بنحو يشمل الفعل غير الاختياري، لم يحتج لحديث الرفع، بل لا موضوع له حينئذ، فلا بد أن يفرض شمول إطلاق الدليل للفعل غير الاختياري كي يكون الحديث حاكما عليه و مخصصا للحكم بحال العمد و الاختيار.

كما يندفع الثاني: بأن رفع حكم عدم الاستبراء في المقام كاف في البناء علي الطهارة، لاستصحابها، بلا حاجة إلي إثبات حكم الاستبراء، و هو الأمارية علي عدم البولية.

هذا، و لو كان الاضطرار بترك بعض المسحات لعدم الموضوع لها لقطع الحشفة أو تمام الذكر فالظاهر ترتب الفائدة المذكورة، لأن المستفاد من نصوص الاستبراء ان الغرض منه تنقية المجري لرفع احتمال تخلف البول فيه و نزوله بعد ذلك منه، فمع القطع بعدم التخلف فيه تترتب الفائدة بالأولوية العرفية. بل بناء علي ما تقدم من أن مقتضي الجمع العرفي الاكتفاء بإحدي الكيفيات المذكورة في النصوص يكون ذلك مقتضي النصوص، و به يخرج عن الإطلاق المتقدم. و لا مجال لما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من عدم ترتب الفائدة حينئذ.

(1) كما صرح به في العروة الوثقي و تبعه جماعة من محشيها.

و قد استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه.

تارة بقصور نصوص الاستبراء عن شمول الفرض، لظهورها في أن ما يحكم عليه بأنه بول لو لا الاستبراء محكوم عليه بأنه من الحبائل بعده.

ص: 184

______________________________

و اخري بأن لازمه الحكم عليه بأنه مني بعد الاستبراء، لأن نصوص الاستبراء كما يظهر منها الحكم ببولية الخارج قبل الاستبراء يظهر منها الحكم بعدم بوليته بعده، فيلزمه كونه منيا.

و لعله لذا استشكل السيد الأصفهاني قدّس سرّه في حاشيته علي العروة الوثقي في الاجتزاء بالوضوء في ذلك، بل قوّي في محكي وسيلته وجوب الجمع بينه و بين الغسل.

و يندفع بما ذكرناه آنفا من أن دليل البناء علي البولية مع عدم الاستبراء ليس هو مفهوم نصوصه، ليقدح قصورها عن محل الكلام، بل إطلاق ما دل علي وجوب الوضوء و الاستنجاء و عدم وجوب الغسل بخروج البلل بعد غسل الجنابة مع البول قبله، و من الظاهر شمول الإطلاق المذكور لمحل الكلام، إن لم يكن من أظهر أفراده.

بل يكفي في ذلك ما تضمن عدم وجوب الغسل و لم يتضمن وجوب الوضوء، كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سئل عن الرجل يغتسل، ثمَّ يجد بعد ذلك بللا و قد كان بال قبل أن يغتسل. قال: ان كان بال قبل أن يغتسل فلا يعيد الغسل» «1» لأن الترخيص الظاهري في بعض أطراف العلم الإجمالي إنما لا يجوز و لا يصلح لحله إذا كان بلسان الأصل، دون ما إذا كان بمفاد الامارة، كما في المقام، لأن المستفاد من مجموع النصوص أن عدم وجوب الغسل مع البول إنما هو لأمارية البول علي عدم كون البلل منيا، فإنه مستلزم لبوليته في محل الكلام، فيرتفع به الاجمال تعبدا. فتأمل.

علي أنه لو فرض نهوض نصوص الاستبراء بإثبات بولية البلل مع عدمه، فهي و إن اختصت بصورة احتمال كون البلل من الحبائل، لتضمنها الحكم به مع الاستبراء- كما ذكره قدّس سرّه- إلا أن الظاهر إلغاء الخصوصية المذكورة عرفا، لأن عدم الاستبراء إذا كان موجبا للتعبد ببولية البلل و إلغاء احتمال كونه من الحبائل مع عدم الامارة علي نفي الحبائل، فهو يقتضي التعبد ببولية البلل و إلغاء احتمال كونه منيا

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 185

______________________________

مع كون البول أمارة علي عدم المني بالأولوية العرفية التي لها الدخل في فهم الأدلة.

و أما ما ذكره أخيرا من أن لازم ذلك الحكم علي البلل مع الاستبراء بأنه مني. فهو كما ذكره لو لا ما دل علي أمارية البول علي كونه غير مني، الموجب لتعارض الأمارتين فيسقطان عن الحجية، و يلزم مراعاة العلم الإجمالي بخروج أحد الأمرين، كما صرح به جمع، منهم سيدنا المصنف قدّس سرّه نفسه، بل جري قدّس سرّه في مبحث غسل الجنابة علي ما ذكرناه و أغفل ما تقدم منه مما ذكره في مبحث الاستبراء من قصور نصوص الاستبراء عن الفرض المذكور.

مع أنه بناء علي قصورها عنه يشكل ذلك بما نبه له شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن اللازم في فرض الاستبراء أيضا الرجوع إلي إطلاق ما تضمن عدم وجوب الغسل و وجوب الوضوء و الاستنجاء بخروج البلل بعد غسل الجنابة مع البول قبله، لشموله لحال الاستبراء بالخرطات، فينحل به العلم الإجمالي المذكور.

و لا يندفع ذلك إلا بدعوي إلغاء خصوصية مورد نصوص الاستبراء، لفهم عدم دخل احتمال كون البلل من الحبائل في أمارية الاستبراء علي عدم البولية، لأن منشأها ارتكازا نقاء المجري من البول الذي لا يفرق فيه بين صورة احتمال كون البلل من الحبائل- التي هي مورد النصوص- و صورة عدمه و التردد بين البول و المني، و الحكم في النصوص بطهارة البلل إنما هو لندرة الصورة الثانية، لا لاختصاص الأمارية بالأولي.

و عليه يتعين تعارض الأمارتين في الصورة الثانية- التي هي محل الكلام- و مراعاة العلم الإجمالي.

نعم، نبه شيخنا الأستاذ قدّس سرّه إلي أن المستفاد من نصوص الاستبراء من الجنابة بالبول و من البول بالخرطات اختصاص أمارية الأمرين المذكورين بنفي بقاء المني و البول في المجري، لوضوح أن البول و الخرطات إنما ينقيان المجري، كما يناسبه التعليل في صحيح محمد بن مسلم المتقدم في أول الفصل بأن البول لم يدع شيئا، و لا دافع لاحتمال خروجهما من الداخل بسبب جديد إلا الأصل.

ص: 186

______________________________

و علي هذا يختلف الحال في محل الكلام، فان لتردد البلل بين البول و المني صورا أربعا.

الأولي: أن يعلم بخروج أحدهما من المجري.

و يجري فيها ما تقدم من البناء علي بوليته مع عدم الاستبراء، و علي مقتضي العلم الإجمالي معه.

و يلحق بها ما إذا احتمل خروج أحدهما من المجري و إن لم يعلم به، إذ مع الاستبراء تتعارض الأمارتان بالإضافة إلي الخروج من المجري، و أصالة عدم كل من الأمرين بالإضافة إلي الخروج من الداخل. و مع عدمه فالمرجع عموم البناء علي بولية البلل الخارج بعد البول، إذ يكفي فيه احتمال الخروج من المجري لا القطع به، فينحل به العلم الإجمالي.

الثانية: أن يعلم بخروج أحدهما من الداخل. و لا فرق فيها بين الاستبراء و عدمه في لزوم البناء علي مقتضي العلم الإجمالي.

الثالثة: أن يعلم بخروج البول من المجري أو المني من الداخل. فمع الاستبراء قد يتجه البناء علي المني، لأن الاستبراء لما كان أمارة علي عدم خروج البول من المجري فهو أمارة علي كون الخارج منيا، فيكون حاكما علي استصحاب عدم خروج المني، و ينحل به العلم الإجمالي.

اللهم إلا أن يقال: حجية الاستبراء في نفي البول لا تستلزم حجيته في إثبات خروج المني من الداخل، و إن كان لازما اتفاقيا لذلك. و لا أصل لما اشتهر من حجية الإمارة في لازم مؤداها، بل هو مختص ببعض الأمارات، كالبينة و نحوها مما ثبت ببناء العقلاء حجيته في اللازم، دون مثل الاستبراء، فان المتيقن حجيته في مؤداة، فيعارض بأصالة عدم خروج المني، و بعد تساقطهما يتعين البناء علي مقتضي العلم الإجمالي.

و أما مع عدم الاستبراء فمقتضي إطلاق الأدلة المتقدمة لزوم البناء علي بولية الخارج، فينحل العلم الإجمالي بذلك، و يبني علي أصالة عدم خروج المني.

و دعوي: أن ظاهر النصوص المتقدمة التعبد ببولية البلل في مقابل خروج

ص: 187

______________________________

المني من المجري، لا مطلقا و لو في مقابل خروج المني من الداخل.

مدفوعة: بأن التقييد المذكور لا يناسب إهمال النصوص لاحتمال كون البلل من الحبائل، لوضوح أن الحبائل ليست مما يبقي في المجري، بل يحتمل نزولها من الداخل، فالتعبد بالبولية مع ذلك ظاهر في الإطلاق، و إهمال احتمال خروج ما عدا البول من الداخل أو المجري مع عدم الاستبراء بالخرطات.

فلاحظ.

الرابعة: أن يعلم بخروج المني من المجري أو البول من الداخل. و الظاهر فيها لزوم مراعاة العلم الإجمالي.

و دعوي: أن مقتضي أمارية البول علي عدم خروج المني هو خروج البول حتي مع الاستبراء، لأن الاستبراء لا يدفع احتمال خروجه من الداخل.

مدفوعة: بما ذكرناه في الصورة السابقة من عدم حجية مثل هذه الامارة علي مثل هذا اللازم، بل تقتصر حجيتها علي مؤداها، فتعارضها أصالة عدم خروج البول، و بعد سقوطهما يتعين مراعاة العلم الإجمالي.

و قد تحصل من جميع ذلك: أنه يجب مراعاة العلم الإجمالي إلا مع عدم الاستبراء و احتمال خروج البول من المجري، حيث تقتضي الإطلاقات المتقدمة البناء علي بولية الخارج، فينحل العلم الإجمالي بذلك. فلاحظ.

بقي الكلام في مقتضي العلم الإجمالي بخروج أحد الأمرين من البول و المني.

و من الظاهر عدم الأثر له مع سبق الجنابة، للعلم بوجوب غسلها، دون الوضوء، علي كل حال.

كما لا ينبغي الإشكال في لزوم الجمع بين الوضوء و الغسل مع سبق الطهارة من الحدث الأكبر و الأصغر، للعلم الإجمالي بوجوب أحدهما تبعا لذلك.

و كذا مع سبق الحدث الأكبر غير الجنابة، بناء علي عدم إجزاء ما عدا غسل الجنابة من الأغسال عن الوضوء، لأصالة عدم خروج المني و عدم حدوث الجنابة، غير المعارضة بأصالة عدم خروج البول، لعدم الأثر للبول بعد العلم بسبق وجوب الوضوء. و إنما الإشكال فيما لو سبق الحدث الأصغر، فقد صرح جماعة

ص: 188

______________________________

بالاكتفاء بالوضوء.

و ربما يستشكل في ذلك باستصحاب كلي الحدث المعلوم وجوده بعد البلل و قبل الوضوء، لاحتمال عدم ارتفاعه بالوضوء، فيجب الغسل عقلا لإحراز ارتفاعه، لا شرعا، لعدم كونه من أحكام كلي الحدث، بل من أحكام خصوص الحدث الأكبر الذي مقتضي الأصل عدمه.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من معارضة استصحاب عدم الحدث الأكبر المقتضي لعدم وجوب الغسل لاستصحاب الكلي في المقام.

ففيه: أن إحراز عدم وجوب الغسل شرعا لاستصحاب عدم الحدث الأكبر، المقتضي لعدم ترتيب جميع الآثار المختصة به لا ينافي وجوبه عقلا، لإحراز ارتفاع كلي الحدث و ارتفاع آثاره تبعا له. نظير من اغتسل بمائع مردد بين البول و الماء، فان مقتضي استصحاب طهارة بدنه و إن كان هو عدم وجوب غسله و تطهيره، إلا أنه يجب غسله عقلا، لإحراز صحة الغسل بعد فرض استصحاب الحدث، للقطع بعدم مشروعية الغسل بدونه، إما لصحة الغسل الأول، أو لنجاسة البدن. فلاحظ.

نعم، يشكل التمسك باستصحاب كلي الحدث في المقام لوجوه.

الأول: أنه لا مجال له مع الاستصحاب الجاري في فرديه.

و توضيح ذلك: أن الحدث الأكبر إما أن يكون مانعا من الحدث الأصغر إن سبقه و رافعا له إن لحقه، فليس الغسل رافعا إلا للأكبر. أو لا، بل يجتمعان معا مع تبيانهما سنخا أو تأكد أحدهما بالآخر، و يكون الغسل رافعا لهما معا.

أما علي الأول فاستصحاب كلي الحدث و إن كان بدوا من القسم الثاني لاستصحاب الكلي، لتردد الحدث الواحد المعلوم الحصول قبل الوضوء بين الأكبر المقطوع البقاء مع الوضوء و الأصغر المقطوع الارتفاع به، إلا أن مقتضي استصحاب الأصغر و عدم الأكبر بعد خروج البلل هو ارتفاع الأصغر و الكلي تبعا له بالوضوء و عدم الاحتياج في رفع الكلي للغسل.

و دعوي: أن الاستصحاب المذكور إنما يحرز عدم الأكبر و عدم ترتب آثاره

ص: 189

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 190

______________________________

الخاصة به، كحرمة قراءة العزائم و المكث في المساجد، لا ارتفاع كلي الحدث المستتبع لارتفاع آثاره، كعدم جواز الدخول في الصلاة، إلا بناء علي الأصل المثبت، بل مقتضي الاستصحاب بقاء الكلي.

مدفوعة: بأن استصحاب بقاء الأصغر يحرز رافعية الوضوء له و للكلي الموجود في ضمنه لأن ذلك هو المستفاد من دليل رافعية الوضوء للحدث الأصغر ثبوتا. و لذا لا إشكال في جريان استصحاب طهارة الماء لإحراز صحة الوضوء به، لترتيب آثار ارتفاع كلي الحدث، مع وضوح أن الوضوء سبب لارتفاع خصوص الأصغر منه.

و حينئذ يرجع احتمال بقاء كلي الحدث إلي احتمال وجوده في ضمن الأكبر المشكوك الحدوث، فيكون استصحابه من القسم الثالث لاستصحاب الكلي، الذي لا يجري، خصوصا في مثل المقام مما احتمل فيه تعاقب الفردين، لا اجتماعهما في الوجود.

و أما علي الثاني فربما يدعي أن الأصغر الموجود مع الأكبر كما يرتفع بالغسل يرتفع بالوضوء، فليس الشك إلا في حدوث الأكبر، و الأصل عدمه، و يكون استصحاب كلي الحدث معه من القسم الثالث الذي لا يجري حتي في مثل المقام مما احتمل فيه اجتماع الفردين في الوجود لا تعاقبهما.

و قد يستدل عليه بإطلاق ما دل علي سببية أسباب الحدث الأصغر للوضوء و رافعيته له، لشمولها لحال وجود الحدث الأكبر. بل ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنه لا يبعد استفادة ذلك من أدلة مشروعية الوضوء لنوم الجنب «1».

لكن الظاهر عدم ارتفاعه بالوضوء، و الا لزم وجوب الجمع بين الوضوء و التيمم مع تعذر الغسل، تحصيلا للطهارة الاختيارية من الحدث الأصغر، و مشروعية الوضوء قبل غسل الجنابة و إن لم يكن واجبا، مع عدم الاشكال ظاهرا في بطلان الأمرين، بل هو صريح النصوص في الأول «2»، و الذي قد يظهر منها «3».

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 24 من أبواب التيمم.

(3) راجع الوسائل باب: 34، 35 من أبواب الجنابة.

ص: 190

______________________________

في الثاني.

بل الظاهر أن مشروعية الوضوء مع غير غسل الجنابة من الأغسال ليس لرفع الحدث الأصغر الموجود معه، بل لتتميم أثر الغسل، و لذا لا يتوقف علي تحقق سبب الحدث الأصغر من البول و نحوه.

كما أن مشروعية الوضوء لنوم الجنب ليست لرفعه الحدث الأصغر، بل هي من أحكام الجنب و لو مع عدم سبب الحدث الأصغر، كاستحباب الوضوء و المضمضة و غسل الوجه و اليدين للأكل و الشرب التي دلت عليها النصوص أيضا «1».

فالعمدة في المقام: أن رافعية الوضوء للحدث الأصغر تكون- بناء علي ذلك- مشروطة بعدم الحدث الأكبر، و حيث كان الحدث الأصغر محرزا بالوجدان، فبضميمة استصحاب عدم الحدث الأكبر يحرز ارتفاع الأصغر بالوضوء، و كذا ارتفاع الكلي الموجود في ضمنه، كما تقدم.

فإن أريد باستصحاب كلي الحدث استصحابه بلحاظ احتمال بقائه في ضمن الأصغر المتيقن الحدوث- ليكون من القسم الأول من استصحاب الكلي- فهو محكوم لاستصحاب عدم الحدث الأكبر المحرز لرافعية الوضوء للحدث الوضوء.

و إن أريد استصحابه بلحاظ احتمال بقائه في ضمن الأكبر المحتمل الحدوث فهو من القسم الثالث من استصحاب الكلي، الذي عرفت عدم جريانه.

الثاني: أن الظاهر كون الأثر مترتبا علي فردي الحدث بخصوصيتيهما و عنوانيهما، لعدم أخذ كلي الحدث بعنوانه موضوعا للمانعية، بل أخذت الطهارة موضوعا للشرطية، و من الظاهر أن الطهارة أمر إضافي يختلف بالإضافة إلي كل حدث بنفسه، فيكون كل حدث بنفسه موضوعا للمانعية. و هو الظاهر من مثل قوله

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة.

ص: 191

______________________________

تعالي إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ. وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «1» بناء علي أن المراد القيام من النوم، كما في موثق بن بكير «2»، و ظاهر نصوص الأحداث، مثل قوله عليه السّلام في صحيح يونس في بيان الوضوء المفترض لمن جاء من الغائط أو بال: «يغسل ذكره و يذهب الغائط و يتوضأ مرتين» «3» و غيره.

فإن المستفاد من ذلك كون كل منهما بنفسه موضوعا للمانعية، و اتفاق الافراد في المانعية لا يستلزم كون المانع شرعا هو الجامع بما هو أمر بسيط قد ألغيت فيه الخصوصيات، بل يكون موضوع المانعية مركبا من العناوين المتعددة الخاصة، فإذا أحرز عدم بعضها بالوجدان و عدم الآخر بالأصل أحرز فقد المانع و حصول الشرط، و إن لم يحرز عدم الكلي بما هو أمر بسيط، لا بالأصل و لا بالوجدان. فتأمل جيدا.

الثالث: أن ذلك لو تمَّ لزم البناء علي الاحتياط بالغسل في كل مورد يكون المكلف محدثا بالأصغر إذا احتمل طروء الحدث الأكبر، سواء طرأ الحدث الأصغر قبل الاحتمال أم بعده، و من الظاهر عدم إمكان الالتزام بذلك بعد ملاحظة سيرة المتشرعة.

بل قد يشهد به بعض النصوص، كالنصوص المتضمنة لعدم وجوب الغسل بخروج البلل بعد الغسل إذا كان قد بال «4»، لوضوح أن البول إنما يكون أمارة علي نقاء المجري و عدم خروج المني منه، و لا يدفع احتمال نزوله من الداخل، و ما عن مستطرفات السرائر عن محمد بن مسلم: «سألته عن رجل لم ير في منامه شيئا، فاستيقظ فإذا هو بلل. قال: ليس عليه غسل» «5» و خبر أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصيب بثوبه منيا و لم يعلم أنه احتلم. قال: ليغسل ما وجد

______________________________

(1) سورة المائدة: 6.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(4) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة و قد تقدم بعض هذه النصوص في أول هذا الفصل.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 192

______________________________

بثوبه و ليتوضأ» «1» بناء علي حمله علي الثوب المشترك- كما ذكره الشيخ قدّس سرّه- أو علي احتمال كونه من جنابة سابقة- كما احتمله في الوسائل- فلاحظ.

هذا كله بالإضافة إلي الحدث، و أما بالإضافة إلي الخبث فلا أثر للعلم الإجمالي مع عدم تنجس البدن بالبلل، لخروجه في مثل الكر، و لا مع سبق النجاسة بالبول، لوجوب الغسلتين علي كل حال.

و أما مع سبق الطهارة أو النجاسة بغير البول مما يكتفي فيه بالمرة فقد يدعي أن مقتضي استصحاب النجاسة وجوب الغسل مرتين.

لكن الظاهر أنه محكوم لاستصحاب عدم ملاقاة البول للبدن المقتضي لعدم وجوب التعدد بمقتضي عموم الاكتفاء بالمرة في تطهير المتنجس، بناء علي ما أشرنا إليه في أول فروع ماء الاستنجاء من أن إحراز عدم عنوان الخاص بالأصل كاف في جريان حكم العام.

و لا يعارض باستصحاب عدم ملاقاة البدن للمني، لعدم كون الاكتفاء بالمرة من أحكام التنجس بالمني، بل من أحكام مطلق التنجس المعلوم في المقام.

اللهم إلا أن يقال: الاكتفاء بالمرة ليس من أحكام مطلق التنجس و قد استثني منه التنجس بالبول، بل من أحكام التنجس بكل نجاسة غير البول، علي نحو يكون من أحكام أفراد ملاقاة النجاسات المختلفة غير البول، لتشابه تلك النجاسات في الحكم المذكور، فلا ينفع في الاكتفاء بالمرة إحراز التنجس بالوجدان و نفي التنجس بالبول بالأصل، بل لا بد من إحراز التنجس بغير البول من النجاسات، و لا أصل يحرز ذلك، بل يتعين الرجوع لاستصحاب النجاسة، لكنه مشكل جدا.

ثمَّ إنه لو بني علي الاكتفاء بالمرة لأصالة عدم ملاقاة البول فإنما يتجه العمل به في المقام مع لزومه الغسل إما لسبق الحدث الأكبر، أو للعلم الإجمالي في فرض سبق الطهارة من الحدثين.

أما مع سبق الحدث الأصغر الذي تقدم أن مقتضي الاستصحاب الاكتفاء

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 193

و يلحق بالاستبراء في الفائدة المذكورة طول المدة علي وجه يقطع بعدم بقاء شي ء في المجري (1). و لا استبراء للنساء (2)،

______________________________

معه بالوضوء، فمع الغسل مرة واحدة يعلم إجمالا بالنجاسة الخبثية أو الحدث الأكبر، فيجب الاحتياط بالجمع بين غسلة اخري و الغسل. إلا أن يتجنب حدوث العلم الإجمالي المذكور بالغسل بالكر الذي لا يحتاج للتعدد فيه حتي في البول، لعدم فعلية الأثر للعلم الإجمالي المذكور قبل الغسل، لعدم الفرق بين النجاستين في الآثار، و إنما يكره أثره فعليا بعد الغسل مرة بالقليل، فمع تجنب ذلك بالغسل بالكثير لا مانع من العمل بالأصل في نفي الغسل. فلاحظ.

(1) قال في الجواهر: «و ربما ألحق بعض مشايخنا بالاستبراء طول المدة و كثرة الحركة، بحيث لا يخاف بقاء شي ء في المجري. و هو لا يخلو من وجه بعد حصول القطع بذلك. و إلا فإطلاق الأدلة ينافيه. بل يمكن المناقشة حتي في صورة القطع، لاحتمال مدخلية الكيفية الخاصة في قطع دريرة البول. لكنها ضعيفة».

لكن تقدم أن فائدة الاستبراء البناء علي عدم خروج البول من المجري، و لا نظر في أدلته لاحتمال نزوله من الداخل بدفع جديد.

و عليه لا موضوع للفائدة المذكورة، في فرض القطع بنقاء المجري، إذ احتمال بولية البلل إن كان مع احتمال خروجه من المجري كان منافيا للقطع المذكور، و مستلزما لتبدله بالشك، و إن كان مع احتمال نزوله من الداخل لم يصلح القطع المذكور لدفعه، كما لا يدفعه الاستبراء، بل ليس الدافع له إلا الأصل، كما تقدم.

(2) كما هو ظاهر تقييد استحباب الاستبراء بالرجل و ظاهر بيان كيفيته في كلام جماعة.

و عن المنتهي و محكي النهاية التعميم لها، بل عن الروض و الذخيرة أنه أثبته جماعة للأنثي، فتستبرئ عرضا.

و هو غير ظاهر المستند بعد اختصاص نصوص الاستبراء و كيفيته بالرجل.

ص: 194

و البلل المشتبه الخارج منهن طاهر لا يجب له الوضوء (1).

نعم، الاولي أن تصبر قليلا (2) و تتنحنح (3) و تعصر فرجها عرضا (4).

______________________________

(1) كما صرح به غير واحد، و في الجواهر: أنه ينبغي القطع به و إن قيل باستحباب الاستبراء لها. و يقتضيه الأصل.

لكن ذكر شيخنا الأستاذ قدّس سرّه أن اللازم البناء علي البولية، لإطلاق النصوص المتضمنة لذلك في البلل الخارج بعد البول، حيث يجب الاقتصار في الخروج عنه علي الرجل المستبرئ، و تعذر الاستبراء منها لا يوجب خروجها عن الإطلاق المذكور. و ورود الإطلاق المذكور في الرجل لا ينافي شموله لها، كما هو شأن أكثر الأحكام التي تضمنتها الأخبار.

و لازمه البناء علي البولية و لو مع الاستبراء بالكيفية الآتية، لخروجها عن الكيفية المذكورة في النصوص.

و يشكل ما ذكره: بأنه بعد فرض اختصاص الإطلاق في النصوص بالرجل لا مجال للتعدي للمرأة لا في هذا الحكم و لا في غيره، إلا بقرينة خارجية من إجماع و نحوه أو بفهم عدم الخصوصية، و لا مجال لهما في المقام بعد اقتصارهم علي الرجل، و كون المفهوم من النصوص تقديم احتمال بقاء شي ء في المجري، الذي يحتمل خصوصية المجري الذي للرجل فيه، لكثرة تخلف البول فيه، فلا مخرج في المرأة عن مقتضي الأصل.

بل لا ينبغي الإشكال في قصور الإطلاق لو احتمل خروج البلل من مجري الحيض، لا مجري البول.

(2) كما عن نجاة العباد، و لعله للاستظهار بخروج تمام البول.

(3) كما عن ابن الجنيد، و لعله لما تقدم أيضا.

(4) تقدم عن الروض و الذخيرة نسبته إلي جماعة، و لعله لما تقدم أيضا.

لكن يكفي فيه عصر مخرج البول لا تمام الفرج، و لعل مرادهم ذلك.

ص: 195

مسألة 11 فائدة الاستبراء

(مسألة 11): فائدة الاستبراء تترتب عليه و لو كان بفعل غيره (1).

إذا شك في الاستبراء أو الاستنجاء بني علي عدمه

(مسألة 12): إذا شك في الاستبراء أو الاستنجاء بني علي عدمه (2)، و إن كان من عادته فعله (3).

______________________________

(1) و ان كان متبرعا غير مأمور، كما استظهره في الجواهر. لأن الجمود علي لسان النصوص و إن كان يقتضي اعتبار المباشرة، إلا أن الظاهر إلغاء خصوصيتها عرفا، بقرينة كون المقصود التنقية الحاصلة بفعل الغير و إن كان متبرعا.

(2) للأصل.

(3) لعدم حجية العادة، و عدم الاعتبار بالمحل العادي في صدق التجاوز المعتبر في قاعدة التجاوز، لانصراف نصوصه إلي المحل الشرعي لا غير علي ما يذكر في محله.

و منه يظهر عدم صدق التجاوز عن الاستبراء بالاستنجاء، و لا عن الاستنجاء بالقيام عن محل قضاء الحاجة، لأن تقديم الاستبراء علي الاستنجاء و الاستنجاء علي القيام عن محل قضاء الحاجة إنما هو لمحض التعارف و العادة، لا للترتيب الشرعي.

فما في العروة الوثقي من أنه لا يبعد جريان قاعدة التجاوز عن الاستنجاء في صورة الاعتياد.

ضعيف، بل هو لا يناسب جزمه بعدم التعويل علي العادة في الاستبراء.

نعم، لو فرغ من الصلاة و شك في الاستنجاء قبلها بني علي صحتها، لقاعدة التجاوز أو الفراغ بالإضافة إليها، لا إلي الاستنجاء نفسه، لعدم الترتيب بينه و بينها إلا باعتبار شرطية الطهارة فيها الملزم بتقديم الاستنجاء عليها عادة و عقلا.

و من هنا لا بد من الإتيان به للصلوات الآتية، لأصالة عدمه. كما أنه لو التفت في أثناء الصلاة لم ينفع التجاوز إلا بالإضافة إلي ما وقع من الأجزاء، و لا مجال لإحرازه بنحو يصحح المضي فيها.

ص: 196

و إذا شك من لم يستبرئ في خروج رطوبة بني علي عدمها (1) و إن كان ظانا بالخروج (2).

______________________________

نعم، لو أمكن التطهير بمجرد الالتفات من دون فعل المنافي كان له المضي في صلاته بعده، بناء علي عدم قادحية النجاسة في حال عدم الانشغال بأجزاء الصلاة. بل لا إشكال لو فرض حصول التطهير له قبل الالتفات، لصحة الأجزاء السابقة ظاهرا بقاعدة الفراغ أو التجاوز و اللاحقة بمقتضي فرض التطهير.

و أما دعوي: أن مفاد القاعدة تحقق المشكوك الذي مضي محله، و الاستنجاء قد مضي محله بالإضافة إلي ما وقع من أجزاء الصلاة، لأنه شرط فيها، و مضي الشرط بمضي المشروط، و بعد فرض التعبد بتحققه يتعين جواز الدخول في صلاة أخري، فضلا عن إكمال الصلاة التي بيده.

فهي مدفوعة: بأنه لو سلم صدق المضي بالإضافة إلي الشرط تبعا- لمضي المشروط- لا بالإضافة إلي المشروط وحده بنحو يقتضي صحته لا غير- و سلم كون مفاد القاعدة وجود المشكوك الذي مضي محله- لا محض إهمال الشك- إلا أن المتيقن منه هو التعبد بوجوده من حيثية كونه قد مضي محله، فلا تترتب إلا الآثار الخاصة به من حيثية ارتباطه بالمحل الخاص، و هو في المقام صحة ما مضي من الصلاة و تماميتها لا غير، و لا إطلاق للتعبد بوجوده بحيث يقتضي التعبد حتي بآثار مطلق وجوده، ليتجه الاستمرار في الصلاة التي شك في أثنائها و الدخول في غيرها. و تمام الكلام في ذلك في محله.

(1) للأصل بعد اختصاص أدلة البناء علي الحدث و النجاسة مع عدم الاستبراء بصورة الشك في حال البلل الخارج، و لا تعم الشك في أصل الخروج، فإنه و إن أطلق في بعضها وجدان البلل الشامل لصورة الشك في خروجه، إلا أن المنصرف منها الكناية عن خروجه، و لذا لا إشكال في شمولها لما إذا علم بخروج البلل و لم يوجد لسقوطه في مثل الكنيف. فلاحظ.

(2) لعدم الدليل علي حجية الظن المذكور.

ص: 197

إذا علم أنه استبرأ أو استنجي و شك في كونه علي الوجه الصحيح بني علي الصحة

(مسألة 13): إذا علم أنه استبرأ أو استنجي و شك في كونه علي الوجه الصحيح بني علي الصحة (1).

مسألة 14 لو علم بخروج المذي و لم يعلم استصحابه لجزء من البول بني علي طهارته

(مسألة 14): لو علم بخروج المذي و لم يعلم استصحابه لجزء من البول بني علي طهارته و إن كان لم يستبرئ (2).

______________________________

(1) لقاعدة الصحة المعول عليها عند العقلاء في جميع أمورهم، بل لا يبعد كون قاعدة الفراغ و التجاوز من صغرياتها.

و قد يقتضيه موثق محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: كلما شككت فيه مما قد مضي فامضه كما هو» «1» بناء علي حمل الشك في الشي ء علي الشك في صحته بعد الفراغ عن وجوده.

بل لو كان المراد به الشك في أصل الوجود كان دالا علي حكم الشك في الصحة مع إحراز أصل الوجود بالأولوية العرفية. فتأمل.

بل لا يبعد دخول الشك في الاستنجاء في إطلاق موثقة الآخر: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كلما مضي من صلاتك و طهورك فذكرته تذكرا فامضه كما هو و لا إعادة عليك فيه» «2» لصدق الطهور علي الاستنجاء، و لا سيما بملاحظة ما في الصحيح: «قال: لا صلاة إلا بطهور، و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار.» «3».

(2) كأنه لاختصاص النصوص بالبلل المشتبه المردد بين البول و غيره، فلا يشمل الفرض مما علم فيه بكون الخارج مذيا، و احتمال استصحابه لشي ء من أجزاء البول لا ينافي صدق الذي عليه، لقلته.

نعم، لو كان البول المحتمل اختلاطه به من الكثرة بحيث يمنع من صدق

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 198

______________________________

المذي عليه، بل يكون بولا و مذيا اتجه البناء علي النجاسة و الناقضية، لصدق البلل المشتبه عليه حينئذ، كما صرح به في العروة الوثقي.

لكن من الظاهر أن النصوص لم تتضمن أخذ الاشتباه قيدا في البلل، بل أطلق فيها البلل. غايته أن فرض طهارة ما عدا البول و عدم ناقضيته ملزم بحمل الحكم فيها علي كونه ظاهريا مختصا بحال احتمال الانتقاض بخروج البلل و لو لاحتمال استصحابه لشي ء من البول، و لا يخرج من إطلاقها إلا ما يعلم معه بالطهارة و عدم الناقضية واقعا، كالمذي الخالص.

و منه يظهر أن اللازم البناء علي الانتقاض و النجاسة حتي مع العلم باستهلاك البول في المذي لقلته، لدخوله في إطلاق نصوص المقام.

اللهم إلا أن يقال: الظاهر ورود نصوص المقام لبيان الحكم الظاهري في الشبهة الموضوعية بعد الفراغ عن الحكم الكلي الكبروي، و الشك في المقام في ناقضية البول المستهلك و نجاسته كبرويا، فلا تنهض ببيانهما، بل يلزم البناء علي عدمهما لأصالة الطهارة من الخبث في الخارج و استصحاب الطهارة من الحدث، بل لنصوص حصر النواقض، لظهورها في أن الناقض هو ما يصدق عليه البول عرفا، دون المستهلك منه.

كما قد يمنع ذلك من شمول النصوص للمذي المحتمل استصحابه للبول.

لأن ورودها لبيان الحكم الظاهري من سنخ القرائن المتصلة المانعة من انعقاد إطلاق عنوان البلل و الشي ء، بنحو يشمل البول الخالص و المستصحب لشي ء من المذي يقينا أو احتمالا و المذي الخالص و المستصحب لشي ء من البول يقينا، لعدم الشك معها، بل ينصرف إلي ما لا يعلم عنوانه الخاص و يتردد بينهما، بحيث لا يعلم إلا بأنه شي ء أو بلل، و حينئذ لا يشمل المذي المحتمل اختلاطه بالبول، كما لم يشمل البول الذي يحتمل اختلاطه بالمذي، و لا أقل من كونه خلاف المتيقن من الإطلاق. و إنما يتجه البناء علي العموم له لو كان خروج بعض الأفراد القليلة لقرينة منفصلة غير مانعة من انعقاد الإطلاق.

و أظهر من ذلك ما لو علم بكون الخارج مذيا خالصا مثلا، و احتمل خروج

ص: 199

______________________________

بعض الأجزاء البولية قبله أو بعده بحيث لا يتصل به، حيث لا أثر للاحتمال المذكور، لخروجه عن النصوص بل يدخل فيما تقدم في آخر المسألة الثانية عشرة. فلاحظ.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم، و له الحمد وحده، و الصلاة و السلام علي من لا نبي بعده سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين.

انتهي الكلام في مبحث أحكام الخلوة عصر الثلاثاء الثاني و العشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف و ثلاثمائة و ستّ و تسعين للهجرة.

و انتهي تبييضه ضحي الخميس الرابع و العشرين من الشهر المذكور.

ص: 200

المبحث الثالث في الوضوء

اشارة

المبحث الثالث في الوضوء و فيه فصول:

الفصل الأول: في أجزائه
اشارة

الفصل الأول في أجزائه و هي غسل الوجه و اليدين (1) و مسح الرأس و الرجلين (2).

فهنا أمور.

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين. و الصلاة و السلام علي سيدنا محمد و آله الطاهرين.

و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين.

(1) اعلم أن الكتاب المجيد و السنة المتواترة و عبارات الفقهاء و إن اشتملت علي عنوان الغسل بالإضافة إلي الوجه و اليدين.

(2) الظاهر أن عدم وجوب ما زاد علي ذلك من ضروريات المذهب الحق. و يكفي فيه شرح الوضوء المستفاد من قوله تعالي إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ «1»، و النصوص الكثيرة المتضمنة لحده و كيفية التي لا يبعد تواترها

______________________________

(1) سورة المائدة: 6.

ص: 201

الأول: غسل الوجه
اشارة

الأول يجب غسل الوجه (1) ما بين قصاص الشعر إلي طرف الذقن طولا، و ما اشتملت عليه الإصبع الوسطي و الإبهام عرضا (2).

______________________________

معني «1»، و غيرهما مما ورد في بيان عدم وجوب ما زاد علي ذلك، كغسل الأذنين «2» و المضمضة و الاستنشاق «3»، و به ترفع اليد عما يظهر في خلاف ذلك، حيث لا بد من حمله علي الاستحباب أو التقية أو غيرهما.

و لعله يأتي التعرض لبعض ذلك في مطاوي ما يأتي.

(1) بإجماع علماء الإسلام كافة، كما عن المنتهي و التذكرة و نهاية الأحكام و الذكري، و به نطق الكتاب العزيز و السنة المتواترة.

(2) و هو مذهب أهل البيت عليهم السّلام كما في المعتبر و عن المنتهي، و ادعي الإجماع عليه في الناصريات و الخلاف و الغنية و المدارك.

نعم، ذكر في الناصريات و النهاية و الخلاف و الغنية و المراسم و الوسيلة و القواعد و محكي المقنعة في بيان الحد الأسفل: «محادر شعر الذقن»، بل نسبه في الجواهر إلي الأصحاب.

و ذكر في الناصريات و محكي المبسوط في بيان الحد العرضي: «ما دارت السبابة و الإبهام و الوسطي».

لكن لم يجعل أحد ذلك خلافا في المقام. و كأنه لأن محادر شعر الذقن هي أطرافه حيث ينحدر عنها الشعر نازلا، بنحو لا يسامت شيئا من الذقن، لا مبدأ انحدار الشعر الذي هو منابته، و إلا كان الأولي التعبير بها، لأنها أصرح و أنسب بالمقابلة لقصاص الشعر في الحد الأعلي. هذا بناء علي ما عن الجوهري من أن الذقن من الإنسان مجتمع لحييه، و أما بناء علي ما عن ابن سيدة من أنه مجتمع اللحيين من أسفلهما فالأمر أظهر.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء و غيرها.

(2) راجع الوسائل باب: 18 من أبواب الوضوء.

(3) راجع الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء.

ص: 202

______________________________

كما أن الوسطي لما كانت أطول من السبابة لم يوجب ذكر السبابة معها اختلافا في التحديد. و كأن ذكرها لمحض متابعة بعض طرق رواية الصحيح الآتي.

و كيف كان، فالعمدة فيه صحيح زرارة المروي في الكافي و التهذيب مضمرا، و في الفقيه عن الباقر عليه السّلام: أنه قال له: «أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يتوضأ الذي قال اللّه عز و جل. فقال: الوجه الذي قال اللّه و أمر اللّه عز و جل الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه و لا ينقض منه، إن زاد عليه لم يؤجر، و إن نقص منه أثم، ما دارت عليه الوسطي و الإبهام من قصاص شعر الرأس إلي الذقن و ما جرت [حوت. خ. تهذيب] عليه الإصبعان من الوجه مستديرا فهو من الوجه، و ما سوي ذلك فليس من الوجه. قلت: الصدغ من الوجه؟ فقال: لا» «1».

لكن في الكافي و التهذيب روايته هكذا: «و ما دارت عليه السبابة و الوسطي و الإبهام».

و ينافيه قوله عليه السّلام: «و ما جرت عليه الإصبعان» مع أنه لا أثر له في التحديد، كما تقدم إلا أن تحمل الواو علي معني: «أو»، و هو خلاف الظاهر جدا، بل ممتنع، لتنافي التحديدين، كما ذكره سيدنا المصنف قدس سره الشريف.

و تقريب دلالة الصحيح علي ما عليه الأصحاب- كما يستفاد مما عن بعضهم- أن قوله عليه السلام: «ما دارت عليه الوسطي و الإبهام» لبيان الحد العرضي للوجه، و قوله عليه السّلام: «من قصاص شعر الرأس إلي الذقن» لبيان الحد الطولي له، بدخول الغاية في المحدود- و لو بضميمة القطع بكون الذقن من الوجه- بل بناء علي ما تقدم عن ابن سيدة من كون الذقن أسفل مجمع اللحيين لا ينبغي الإشكال في ذلك، لأن الغاية إذا كانت طرفا لا امتداد له يتعين دخولها في المحدود. و يكون قوله عليه السّلام: «و ما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه» تأكيدا لما تقدم مشيرا لكلا الحدين.

و ما يظهر من الجواهر من احتمال بعضهم كونه بيانا للحد العرضي، و أن ما

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 203

______________________________

قبله مختص بالحد الطولي.

مخالف للظاهر جدا، بل لا معني لتحديد الطول بما بين الإصبعين، و بما بين القصاص و الذقن، إلا أن يكون أحدهما تأكيدا للآخر، و لا مجال له بعد اختلافهما في المقدار دائما أو كثيرا. بل الظاهر ما ذكرنا. و ما في الحدائق من ظهور التكلف فيه و عدم الارتباط مردود عليه.

و كأن وجه التعبير بالدوران في الفقرتين هو تقوس الوجه عرضا تبعا لتدوير الرأس من الامام إلي الخلف، الموجب لاستدارة الإصبعين حين وضعهما عليه و استدارة القوس، لبيان أن ما يجب غسله من الوجه هو ما يطابق ما بين الإصبعين حال دورانهما، لا ما يساوي ما بينهما حين فتحهما الذي هو أكثر.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من التفكيك بين الفقرتين، بجعل ذلك وجها لفرض الدوران في الفقرة الأولي، و جعل وجه فرضه في الثانية هو استدارة الوجه عرفا باستدارة قصاص الشعر من الناصية منحرفا إلي مواضع التحذيف إلي منابت الشعر حول العذار إلي أقصي اللحيين إلي الذقن، فهو كالدائرة المواجهة.

فهو- مع عدم مناسبته لما ذكره و تقدم من سوق الفقرة الثانية لتأكيد ما قبلها- بعيد جدا، لأن اختلاف الفقرتين في المراد من التدوير محتاج إلي عناية، فتبعد إرادته بلا قرينة.

و مجرد نسبة الدوران للإصبعين في الفقرة الأولي، دون الثانية، و إلا لقال:

«مستديرين» فيلزم حمله علي استدارة نفس الوجه.

لا يصلح قرينة علي الفرق، لأن دوران الإصبعين مستلزم لاستدارة ما يجريان عليه من دون حاجة إلي فرض استدارة أخري. و لا سيما مع عدم تدوير الوجه عرفا، بل تقويسه من الأعلي بانفراج أكثر من الدائرة و من تقويسه الأسفل حاد يقرب من الزاوية، فهو أقرب إلي نصف الشكل البيضوي، ففرض الاستدارة فيه محتاج إلي عناية يصعب الحمل عليها بلا قرينة، و لا سيما مع فرض الاستدارة في الفقرة الأولي بوجه آخر. فلاحظ.

و أشكل من ذلك ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه حيث قال: «فيكون المقصود

ص: 204

______________________________

من دوران الإصبعين من قصاص الشعر إلي الذقن و ضعهما علي القصاص و فتحهما بحيث يمتلئ الفرجة بينهما، ثمَّ إدارتها بحيث تنتهي الدورة إلي الذقن، فيحدث من ذلك شكل يشبه الوجه حقيقة و الدائرة عرفا».

فإن أراد حصول الاستدارة بمرور الإصبعين باتجاههما في صفحتي الوجه فيمران باتجاه الإبهام في أحد الجانبين، ثمَّ باتجاه الوسطي في الجانب الآخر، فيدوران علي محيط الدائرة، كدوران القوس عليها ذاهبا و راجعا.

فهو بعيد جدا، أولا: لتوقفه علي تعدد حركتهما، حيث ينزلان باتجاه أحدهما للذقن، ثمَّ يرجعان للقصاص و ينزلان باتجاه الآخر له.

و ثانيا: لأن المناسب أن يقول حينئذ: «و ما جرت حوله الإصبعان مستديرا».

و ثالثا: لأنه لا يصل للتحديد، لأن سعة الدائرة و ضيقها حينئذ لا يتبعان مقدار الإصبعين، بل كيفية حركتهما و اتجاهها انبساطا تارة و انقباضا اخري، بل يمكن تحقق الدائرة بإصبع واحدة.

و إن أراد حصول الاستدارة بمرور الإصبعين نازلتين علي تمام الوجه من القصاص إلي الذقن لتحدب الوجه و بروز طرف الأنف منه، الموجب لتقوسه طولا كتقوسه عرضا.

ففيه: أن التحدب المذكور ليس له من الوضوح ما يحسن التعبير عنه بالتدوير.

مضافا إلي ما يرد علي الوجهين من أنه لا ظهور للكلام في كون التحديد من القصاص إلي الذقن لبيان مبدأ لدوران و منتهاه، بل هو ظاهر في محض بيان الحد الطولي للوجه مع حصول التدوير بمجرد وضع الإصبعين، كما ذكرنا. و يأتي إن شاء اللّه مزيد توضيح لذلك.

و إن أراد ما احتمله في الجواهر من كون إطلاق التدوير علي جري الإصبعين من القصاص إلي الذقن بلحاظ حصول شبه الدائرة منه و إن لم يكن جريهما دائريا.

فهو تكلف مخالف للظاهر، مضافا إلي ما عرفت من عدم تدوير الوجه عرفا،

ص: 205

______________________________

بل هو أشبه بنصف الشكل البيضوي.

علي أنه لو سلم تدويره فهو خلقي لا دخل لجري الإصبعين به، و ما يتبع جريهما هو تدوير نفس الجري و المسح الحاصل به، و ليس الحديث بصدد تحديده، بل تحديد نفس الوجه.

و بالجملة: ما ذكره قدّس سرّه لا يرجع إلي محصل ظاهر، و الأظهر في وجه فرض الاستدارة ما ذكرنا. فلاحظ.

هذا، و قد استشكل شيخنا البهائي قدّس سرّه في استفادة التحديد المذكور من الصحيح بأن لازمه دخول النزعتين- بالفتح- و هما البياضان المكتنفان للناصية- اللذين ينحسر عنهما شعر الرأس من جانبيه، لأنهما تحت الشعر النابت من جانبهما، مع خروجهما إجماعا. و كذا الصدغان، لدخولهما فيما حوته الإبهام و الوسطي عرضا، مع خروجهما بنص الحديث. و خروج مواضع التحذيف- و هي ما بين النزعتين و الصدغين مما ينبت عليه الشعر الخفيف الذي قد تزيله النساء و بعض المترفين- و العارضين- و هما الشعر المنحط عن الاذن من مبدإ صفحتي اللحية- و العذارين- و هما بين العارض و الصدغ- مع قطع بعضهم بدخولها.

و يندفع: بأن انحسار الشعر عن النزعتين طارئ، و المعيار في التحديد بقصاص الشعر علي الشعر الطبيعي، و لذا لا يجب غسل الناصية لو انحسر الشعر عنها.

هذا، بناء علي أن المراد بقصاص الشعر أطرافه في تمام دور الرأس، فيشمل في المقام جانب النزعتين.

و أما بناء علي أنه لا يشمل أطرافه من الجانبين- كما قد يظهر مما صرح به بعض اللغويين من أن قصاص الشعر حيث ينتهي نبته من مقدمه و مؤخره- فخروج النزعتين ظاهر.

بل يكفي في خروجهما- بعد وضوح كونهما من الرأس- ظهور كون المراد بما دار عليه الإصبعان القوس المتصل بعضه ببعض، لا المنفصل بالشعر، و هو يبدأ من قصاص الناصية، و أما النزعتان فهما لا يشكلان قوسا، لعدم اتصالهما، بل

ص: 206

______________________________

تفصل بينهما الناصية.

إلا أن يراد غسل ما سامتهما من الناصية، و هو معلوم البطلان، لخروجه عن الوجه قطعا.

كما أن دخول بعض الصدغين في الحد المشهور إنما يلزم لو كان المراد بهما ما بين لحظ العين إلي أصل الاذن- كما في النهاية و الأساس- أما بناء علي أن المراد بهما الشعر المتدلي من الرأس إلي جهة الاذن- كما في الصحاح و القاموس و مجمع البحرين أنه أحد معنييه، أو ما ينزل من الرأس علي مركب اللحيين- كما في لسان العرب- و يناسبهما قولهم: «شاب صدغاه» قولهم: «صدغ معقرب» و قوله:

صدغ الحبيب و حالي كلاهما كالليالي

فهما خارجان عن الحد. و لا بد من تنزيل الصحيح و كلمات الأصحاب علي إرادة أحد الأخيرين، كما يناسبه ما عن بعضهم من أنه الشعر المحاذي للعذار فوقه.

و لا سيما مع ظهور الصحيح في عدم منافاة خروج الصدغ للتحديد المذكور، و إلا كان المناسب استثناءه منه قبل السؤال عنه.

و أما مواضع التحذيف و العذاران و العارضان فخروج ما خرج منها عن الحد المذكور و دخول ما دخل فيه ليس محذورا. و التزام بعضهم بدخول شي ء منها أو خروجه بالمقدار المنافي للتحديد المذكور- لو تمَّ- لا مجال له.

ثمَّ إن البهائي قدّس سرّه بعد أن أورد بما سبق استظهر من الصحيح معني خالف فيه تحديد الأصحاب، فذكر أن ما يجب غسله عبارة عن دائرة هندسية قطرها ما بين الإصبعين، المساوي لما بين القصاص و الذقن غالبا، و أن المراد من دوران الإصبعين في الحديث دورانهما في محيط الدائرة المذكورة، نظير دور الرحي، حيث يكون مركز الدائرة ما بينهما، و يكون دور أحدهما من القصاص للذقن ملازما لدور الآخر من الذقن للقصاص، و تتم الدائرة بذلك، فيخرج الصدغ و النزعتان و مواضع التحذيف و العذاران و بعض العارضين.

و تبعه في ذلك الكاشاني، و في الحدائق: «و هو بمحل من القبول و قد تلقاه بالتسليم جملة ممن تأخر عنه من الفحول».

ص: 207

______________________________

لكنه يشكل. أولا: بأنه يبتني علي دوران أحد الإصبعين من القصاص إلي الذقن، مع ظهور الحديث في دورانهما و جريهما معا.

مع أنه لا معني لتحديد سعة الدائرة بقطرين، و هما ما بين الإصبعين، و ما بين القصاص و الذقن، و حمل أحدهما علي الآخر لا مجال له بعد كثرة اختلافهما، لاختلاف الوجوه بالطول و القصر، و حمل ما بين القصاص و الذقن علي مجرد بيان مبدأ الدوران و منتهاه لا مجال له، إذ لا خصوصية لمبدإ معين في تحقيق الدائرة، بل يمكن بدؤها من جميع نقاط محيطها.

و لذلك و نحوه كان هذا المعني غامضا جدا لا يلتفت إليه عند النظر في الحديث. و كفي في وهنه عدم ظهوره لمن سبقه من الأصحاب علي كثرتهم، خصوصا القدماء منهم الذين هم أعرف بالمراد من الأخبار، لقربهم من ظرف صدورها، فلا يمكن حمل الصحيح عليه بعد كون مضمونه موردا للابتلاء و العمل.

و كأن الذي أوقعه فيه ما ذكره من أن قوله عليه السّلام: «من قصاص.» إما أن يكون متعلقا بقوله: «دارت» أو صفة لمصدر محذوف مستفاد من الفعل، يعني: دورانا من القصاص.، أو حالا من الموصول الواقع خبرا، فهي لبيان مبدأ الدوران و منتهاه.

لكنه علي الأخير لا دخل له بالدوران، بل يكون متمحضا في تحديد الموصول الذي هو كناية عن الوجه.

و من ثمَّ يتعين- بناء علي المشهور المنصور- الحمل عليه، أو علي كونه متمما للخبر، لأن الخبر هو تمام الحد المركب من بعدي الطول و العرض، نظير قولهم: العنب حلو حامض. و لعل الثاني أقرب.

و ثانيا: بأنه لا يصلح لما اهتم به من إخراج ما دخل بالحد المتقدم، فان النزعتين و الصدغ بمعني الشعر أو موضعه تخرج بكلا الحدين، و الصدغ بمعني ما بين لحظ العين و الاذن يدخل بعضه كذلك. كما يشترك الحدان في العذارين تقريبا.

و دخول بعض مواضع التحذيف و العذارين ليس محذورا، كما سبق.

بل يخرج بهذا الحد بعض الجبهة و الجبينين مما ينحرف عنه محيط الدائرة من جانبي الوجه، مع أنه لا إشكال ظاهرا في دخولها بتمامها في الوجه و وجوب

ص: 208

______________________________

غسلها، بل دخول الجبينين صريح خبر إسماعيل بن مهران، بل صحيحه- بناء علي ما تقدم في استعمال الماء المضاف من وثاقة سهل بن زياد-: «كتبت إلي الرضا عليه السّلام أسأله عن حد الوجه، فكتب: من أول الشعر إلي آخر الوجه، و كذلك الجبينين» «1».

هذا و في المدارك أن التحديد بما بين الإصبعين إنما يعتبر في وسط التدوير من الوجه خاصة، لا في أسفله، و إلا لوجب غسل ما ناله الإصبعان و إن تجاوز العارض، و هو باطل إجماعا.

فإن أراد بذلك فرض الدائرة التي ذكرها البهائي قدّس سرّه فقد عرفت ضعفه.

و إن أراد تخصيص الحد العرضي بنصف الوجه، فلا وجه له بعد ظهور الصحيح في عموم التحديد العرضي لتمام نقاط التحديد الطولي، بل لا إشكال في اعتبار الحد المذكور من أعلي الوجه، لا من خصوص وسطه.

و ما استشهد به لا يرجع إلي محصل، إذ لو أراد به تجاوز الإصبعين عن العارضين عرضا إلي أسفل الاذن أو تحتها مما يسامت الكفين، فهو فرض لا واقع له إلا مع شذوذ الإصبعين في الطول الذي لا عبرة به في التحديد. مع أن بعض العارضين واقع في وسط الوجه، فيرد فيه الاشكال.

و إن أراد تجاوزهما إلي ما تحت العارضين من الرقبة في سمت الذقن، لنزول الذقن عن أقصي اللحيين و انحداره مسامتا لبعض الرقبة في كثير من الناس، فمن المعلوم خروج ذلك عن الوجه و أن المراد من التحديد بالإصبعين في طرف الذقن ما يسامت اللحيين، اللذين هما أسفل الوجه. فلاحظ.

بقي شي ء، و هو أن مقتضي صحيح إسماعيل بن مهران المتقدم دخول الجبينين بتمامهما، و هما داخلان في الحد المشهور بناء علي ما في مجمع البحرين من أنهما في جانبي الجبهة من طرف الحاجبين إلي قصاص الشعر، و جعله في القاموس أحد المعنيين.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 209

______________________________

لكن، ذكر في القاموس معني آخر، و هو أنهما من حروف الجبهة ما بين الصدغين متصلا بحذاء الناصية، و ظاهره إرادة ما بين شعر الصدغ و الناصية، و هو أوسع كثيرا، و قد لا تستوعبه الإصبعان. فلا بد إما من تنزيلهما في الصحيح علي المعني الأول، أو تنزيل الإصبعين في صحيح زرارة علي الطويلين المحتويين له بتمامه، لتعارفهما.

و لعل الثاني أقرب. بل يشكل الأول بظهور الصحيح في كون الجبينين منتهي حد الوجه عرضا، مع أنهما بالمعني الأول أقل مما بين الإصبعين كثيرا. و لا أقل من الاجمال، فيلزم مراعاة أكثر الحدين، إما لدخوله في الوجه عرفا، أو لكون الشك في المحصل الذي يجب معه الاحتياط.

و دعوي: و هن صحيح إسماعيل بإعراض الأصحاب عنه، لعدم إشارتهم لمضمونه، و اقتصارهم في مقام الفتوي علي مضمون صحيح زرارة.

مدفوعة: بقرب كون منشأ عدم تعرضهم لمضمونه بناءهم علي تطابق مضمون الصحيحين، لغلبة شمول الإصبعين لتمام الجبينين، و لا طريق لإحراز الاعراض الموهن. و لا سيما مع ظهور حال الكليني و الشيخ قدّس سرّه في الاعتماد علي الصحيح، لذكرهما له في بيان حد الوجه، بل جعله الشيخ قدّس سرّه دليلا علي التحديد المشهور.

هذا، و حيث ظهر الحد الذي ينبغي العمل عليه فالمناسب التعرض لما وقع منهم الكلام فيه من المواضع، و هي أمور.

الأول: مواضع التحذيف، فعن العلامة في المنتهي و التذكرة القطع بخروجها، و في الروضة و المسالك و المدارك و عن غيرها دخولها بل عن شرح المفاتيح، انه المعروف من الفقهاء و المخالف نادر. و عن الذكري و المقاصد العلية أن غسلها أحوط. قال في الجواهر: «و ليس ذلك من جهة شمول الإصبعين و عدمه، بل لكونها منابت من القصاص أو لا. و لعل الأظهر دخولها، لأنها كما عرفت منابت الشعر الخفيف. و الظاهر عدم دخولها في مسمي شعر الرأس، كما يشعر به سبب تسميتها بذلك من كثرة حذف الشعر فيها من النساء و المترفين. مع تأيده

ص: 210

______________________________

بالاحتياط».

و ما ذكره متين جدا، بل مما تقدم تعرف لزوم الاحتياط، و كونه دليلا لا مؤيدا فقط.

الثاني: الصدغ، و قد صرح غير واحد بخروجه، لكن عن الراوندي إدخاله في الوجه. و ربما يحمل علي البعض الذي لا شعر فيه، بناء علي عموم الصدغ لتمام ما بين لحظ العين و الاذن، فيطابق المعني الاوسع للجبين الذي عرفت وجوب غسله. و إلا فما يكون منبتا للشعر هو المتيقن مما في صحيح زرارة من خروج الصدغ عن الوجه، كما تقدم.

الثالث: العذار، فعن المشهور خروجه. و في جامع المقاصد أن غسله أحوط، مع اعترافه بخروجه عن الحد المروي عنهم عليهم السّلام بل ظاهر المرتضي وجوبه، و ظاهر الشرائع و صريح الروضة دخوله في الحد.

و الذي ينبغي أن يقال: إن كان المراد به الشعر النابت علي العظم الذي علي سمت الصماخ الواقع بين الصدغ و العارض،- كما لعله ظاهر المرتضي- فلا إشكال في خروجه عن الحد، و لا معني معه للاحتياط بغسله، فضلا عن وجوبه.

و إن أريد به ما هو أوسع من ذلك مما يسامته عرضا إلي العين اتجه وجوب غسل ما دخل منه في الحد. و إلي هذا يرجع ما في المعتبر و عن غيره من أنه لا يجب غسل ما خرج عما دارت عليه الإصبعان من العذار.

الرابع: العارض، ففي الروضة و عن الذكري القطع بدخوله، بل في المسالك نفي الخلاف فيه. و عن المنتهي القطع بخروجه.

لكن الظاهر دخول بعضه فيجب غسله، كما عن العلامة في النهاية، و في جامع المقاصد دخول الأسفل منه فيجب غسله.

و ما في المدارك من عدم صحة الاحتجاج لدخوله ببلوغ الإصبعين، لأن ذلك إنما يعتبر في وسط التدوير من الوجه خاصة. قد تقدم الاشكال فيه.

ص: 211

و الخارج عن ذلك ليس من الوجه (1)،

______________________________

(1) لا إشكال في خروج ذلك عما يجب غسله، و إنما الإشكال في خروجه عن الوجه شرعا أو عرفا، أو لا.

و توضيح ذلك: أن التحديد المذكور إما أن يكون واردا لبيان حدّ ما يجب غسله من دون نظر لمفهوم الوجه.

أو لبيان حد الوجه شرعا، بأن يكون للوجه حقيقة شرعية قد أريدت من إطلاق أحكامه، لاختصاص غرض الشارع بها دون المعني العرفي.

أو لبيان الحدود الخارجية للوجه بما له من المفهوم العرفي، لأنه هو الموضوع للأحكام، و ان اشتبهت تلك الحدود علي السائل لبعض الطوارئ، كخلاف العامة.

و قد يقرب الأول بالنظر إلي التعرض في السؤال و الجواب للذي يجب توضئته و غسله، مما يكشف عن كون المهم تحديد موضوعه لا تحديد مفهوم الوجه شرعا أو عرفا من حيث هو.

لكنه يشكل: بظهور السؤال و الجواب في تحديد الوجه الذي يوضأ، لا تحديد ما يوضأ من الوجه، فقوله في السؤال: «الذي ينبغي أن يوضأ» و في الجواب:

«الذي قال اللّه و أمر.» وصف موضح لا قيد، لما هو المعلوم من عدم سوقه لتقييد الوجه المسؤول عنه بما يجب غسله في مقابل الوجه الذي لا يجب غسله، بل لأجل أن الوجه المسؤول عنه قد وجب غسله، و ظاهر التوصيف المفروغية عن وجوب غسل تمام الوجه- و إن اشتبهت حدوده- و عدم وجوب غسل غيره معه.

و أما احتمال كون المصحح للتوصيف وجوب غسل الوجه في الجملة- و لو ببعضه أو مع غيره- و أن التحديد منصرف إلي خصوص موضوع الوصف- و هو الذي يجب غسله- دون الوجه.

فهو بعيد جدا، مخالف للظاهر.

هذا، مضافا إلي قوله عليه السّلام: «و ما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من

ص: 212

______________________________

الوجه، و ما سوي ذلك فليس من الوجه. فقال له: الصدغ من الوجه؟ فقال: لا» فإنه ظاهر في التصدي لتحديد الوجه، لا لما يجب غسله و إن لم يطابقه.

و هو مقتضي صحيح إسماعيل بن مهران أيضا. بل لا أقل من كونه مقتضي الجمع بين صحيح زرارة المذكور و صحيحة الآخر الوارد في تفسير الآية، لقوله عليه السّلام: «لأن اللّه عز و جل قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يغسل» «1» و مثله صحيح زرارة و بكير، و فيه: «ثمَّ قال: إن اللّه تعالي يقول:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلا غسله» «2». و كذا الإطلاقات و غيرها مما يستفاد منه وجوب غسل الوجه كله، و هو كثير جدا.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الحديث بنفسه و بضميمة القرائن الخارجية في تحديد نفس الوجه، لا تحديد ما يجب غسله و إن لم يطابقه.

و من هنا فقد يقرب الثاني بأن المنصرف من التحديد الواقع في لسان الشارع هو التحديد الشرعي، لا بيان الحدود العرفية، لأنه خارج عن وظيفته.

لكنه يندفع: بأن بيان الحدود الخارجية للمعني العرفي الذي يكون موضوعا للأحكام الشرعية ليس خارجا عن وظيفة الشارع، لرجوعه إلي تحديد موضوع حكمه الذي هو من شؤون بيان الحكم.

بل لما كان مقتضي الإطلاق المقامي للأوامر الكثيرة الواردة في الكتاب و السنة المتواترة بغسل الوجه إرادة الوجه بما له من المعني العرفي من دون تنبيه علي خروج الشارع الأقدس عنه، أوجب ذلك وضوح إرادته بنحو يقتضي صرف السؤال و الجواب في نصوص التحديد إليه، لاشتباه حدوده بسبب خلاف العامة، كما يشهد به موثق زرارة: «سألت أبا جعفر عليه السّلام قلت: إن أناسا يقولون: إن بطن الأذنين من الوجه و ظهرهما من الرأس. فقال: ليس عليهما غسل و لا مسح» «3»،

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 213

و إن وجب إدخال شي ء من الأطراف إذا لم يحصل الواجب إلا بذلك (1).

______________________________

و صحيح ابن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الأذنان ليسا من الوجه و لا من الرأس» «1».

و إلا فالسؤال عن حدود المفهوم الشرعي فرع فرض خروج الشارع عن المفهوم العرفي، و هو أولي بالسؤال، لابتنائه علي مزيد عناية. فلاحظ.

(1) مقتضي الجمود علي لفظ العبارة فرض توقف حصول الواجب ثبوتا علي غسل الخارج، فيكون الوجوب مقدميا.

لكنه فرض بعيد التحقق في نفسه، بل منعه قدّس سرّه في مستمسكه.

فالظاهر أن مراده ما تعرض له غير واحد من فرض توقف العلم بحصول الواجب علي غسل الخارج، لعدم تيسر ضبط الحد دقة، فيكون الواجب المذكور طريقيا، لوجوب العلم بالفراغ عقلا.

و دعوي: أن مرجعه إلي إجمال الحد المستلزم للشك في التكليف بغسل المشكوك، و المرجع فيه البراءة.

مدفوعة: بأنه لا إجمال في الحد، بل في حصوله لعدم تيسر ضبطه، فيرجع إلي الشك في الامتثال.

مع أن المرجع عند الشك في التكليف بغسل شي ء في المقام هو الاحتياط، للشك في المحصل، بعد كون المستفاد من الآية و النصوص هو وجوب الطهارة المسببة عن الغسل، لا نفس الغسل.

نعم، قد ينافي ذلك ما في صحيح زرارة: «ثمَّ غرف ملأها ماء فوضعها علي جبهته ثمَّ قال: بسم اللّه و سدله علي أطراف لحيته، ثمَّ أمر يده علي وجهه و ظاهر جبهته مرة واحدة «2»»، فإن العلم باستيعاب الحد عرضا موقوف علي إمرار اليد من

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 214

و يجب الابتداء بأعلي الوجه (1)

______________________________

جانبي الوجه كما تضمنه غير واحد من النصوص، و لا يحصل بالإمرار مرة واحدة.

فتأمل جيدا.

(1) قال في المبسوط: «و ينبغي أن يبتدئ بغسل الوجه من قصاص شعر الرأس إلي المحادر، فان خالف و غسل منكوسا خالف السنة.

و الظاهر أنه لا يجزيه، لأنه خالف المأمور به. و في أصحابنا من قال: يجزيه، لأنه يكون غاسلا»، و جعل وجوب البدء بالأعلي هو الأشبه في المعتبر، و الأصح في جامع المقاصد، و جزم به في الوسيلة و الشرائع و القواعد، و هو المحكي عن الصدوقين و الشهيدين و غيرهم.

و في المدارك و عن شرح المفاتيح و غيرهما أنه المشهور بين الأصحاب، و عن التذكرة و شرح الاثني عشرية و كشف الرموز نسبته للأكثر، بل عن محكي التبيان و بعض حواشي الألفية دعوي الإجماع عليه.

لكن الموجود في التبيان ما قد يظهر منه الإجماع علي ذلك في غسل اليدين، من دون إشارة للشرط المذكور في غسل الوجه.

كما لا يبعد أن يكون منشأ نسبة ذلك لبعضهم تعبيرهم بوجوب غسل الوجه من القصاص إلي الذقن، مع أن مرادهم قد يكون محض تحديد الوجه، لا بيان مبدأ للغسل.

هذا، و عن المرتضي و ابني إدريس و سعيد جواز النكس، و في المدارك و عن المنتهي و الذخيرة الميل إليه، و نسبه في الحدائق إلي جمع من المتأخرين و متأخريهم. و قد يستفاد ممن أطلق وجوب غسل الوجه.

كما أنه قد يستظهر ممن نبه منهم علي عدم جواز النكس في غسل اليدين من دون تنبيه عليه في غسل الوجه، كما في الفقيه و المقنعة و النهاية و الخلاف و التبيان و إشارة السبق و الغنية و المراسم و المختصر النافع و اللمعة.

و دعوي: عدم الفصل بين اليدين و الوجه في ذلك غير ظاهرة مع ذلك.

ص: 215

______________________________

و قد ظهر بذلك أنه لا مجال لما يظهر من بعض مشايخنا من الاستدلال علي عدم جواز النكس بتسالم الفقهاء ممن عدا المرتضي علي ذلك، و سيرة الشيعة علي الالتزام به علي نحو الوجوب و أخذهم له خلفا عن سلف من غير نكير، مع أن مثل ذلك مما يكثر الابتلاء به لا يخفي عادة.

لاندفاعه: بظهور عدم التسالم من الفقهاء بعد ما تقدم، و عدم وضوح التزام الشيعة به من الصدر الأول بانين علي وجوبه، بل غاية الأمر التزامهم به في الجملة للوجوب أو للاحتياط أو الاستحباب. فلا بد من النظر في بقية أدلة المسألة.

و قد يستدل علي وجوب البدء بالأعلي.

تارة: بالنصوص الكثيرة الحاكية لوضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله الظاهرة في غسل الوجه من أعلاه، ففي صحيح زرارة: «ثمَّ غرف ملأها ماء فوضعها علي جبهته» «1» و في صحيحه الآخر: «فأخذ كفا من ماء فأسدلها علي وجهه من أعلي الوجه، ثمَّ مسح بيده الجانبين جميعا» «2»، و في الثالث: «فأخذ كفا من ماء فأسدله علي وجهه [من أعلي الوجه] ثمَّ مسح وجهه من الجانبين جميعا» «3»، و في صحيح محمد بن مسلم: «فأخذ كفا من ماء فصبه علي وجهه ثمَّ مسح جانبيه حتي مسحه كله» «4».

و في مرسل العياشي عن زرارة و بكير: «فغمس كفه اليمني فغرف بها غرفة فصبها علي جبهته فغسل وجهه بها» «5».

و اخري: بما في الفقيه قال: «و توضأ النبي صلّي اللّه عليه و آله مرة مرة، فقال: هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به» «6»، و نحوه في الناصريات، و نسبه في الانتصار و الغنية إلي رواية العامة، و في المعتبر و المنتهي و عن الذكري أنه صلّي اللّه عليه و آله قال ذلك بعد ما أكمل وضوءه، و في الخلاف أنه قاله بعد ما علّم الأعرابي الوضوء. فإنه بضميمة عدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(5) تفسير العياشي حديث: 51 من تفسير سورة المائدة ج: 1 ص: 298. مستدرك الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3. لكن رواه في الكافي و التهذيب هكذا: «فصبها علي وجهه» الوسائل باب:

15 من أبواب حديث: 3. فلا تصلح شاهدا.

(6) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 11.

ص: 216

______________________________

النكس منه صلّي اللّه عليه و آله- كما في المعتبر، و تقتضيه النصوص البيانية- يكون ظاهرا في مبطلية النكس.

و ثالثة: بخبر أبي جرير الرقاشي [1] المروي في قرب الاسناد: «قلت لأبي الحسن موسي عليه السّلام: كيف أتوضأ للصلاة؟ فقال: لا تعمق في الوضوء و لا تلطم وجهك بالماء لطما، و لكن اغسله من أعلي وجهك إلي أسفله بالماء مسحا، و كذلك فامسح الماء علي ذراعيك و رأسك و قدميك» «2».

و يشكل الأول: بأن حكايات الامام عليه السّلام قد اشتمل كل منها علي خصوصيات كثيرة يعلم بعدم سوقها لبيان جميع خصوصيات وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله التي كان يحافظ عليها، لاختلافها في بعض الخصوصيات، لأن من القريب وضوءه صلّي اللّه عليه و آله مرتين «3»، و لم يشر في هذه النصوص لذلك، و قد غسل يديه و تمضمض و استنشق. مع أنه لم يتعرض إلا لغسل اليدين في بعض هذه النصوص، و أنه كان يتوضأ بمد. و هو لا يناسب الغرفات الثلاث. إلي غير ذلك مما يعلم معه بعدم سوق هذه النصوص إلا لبيان وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله المشروع في الجملة و لو لم يكن ملتزما به، لدفع توهم وجوب ما زاد عليه أو خالفه في الكيفية، كما يناسبه تعقيب حكاية الوضوء في الصحيح الأول بقوله عليه السّلام: «إن اللّه وتر يجب الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات» و التمهيد لها في صحيح ابن مسلم بقوله عليه السّلام:

«يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده، و الماء أوسع، ألا أحكي.» فلا يكشف عدم النكس منه عليه السّلام عن التزام النبي صلّي اللّه عليه و آله بعدمه.

علي أنه لو سلم التزامه صلّي اللّه عليه و آله بذلك فقد استشكل في المدارك باحتمال كون البدء بالأعلي لأنه أحد أفراد الواجب، لا لوجوبه بخصوصه.

و أجاب عن ذلك في الجواهر بظهور حكاية الإمام عليه السّلام له في وجوبه،

______________________________

[1] هكذا في قرب الاسناد مع كون الراوي عنه ابن محبوب و الموجود في التهذيب رواية ابن محبوب عن أبي جرير الرواسي عن أبي الحسن في موضع و عن أبي الحسن موسي في آخر. فراجع.

______________________________

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 22.

(3) راجع الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء.

ص: 217

______________________________

و ظهور تنبيه الراوي عليه بالخصوص- كما في الصحيح الثاني و الثالث علي نسخة- في أنه فهمه منه. بل ظاهر اهتمام الامام عليه السّلام بحكاية وضوء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله التعريض بالعامة في وضوئهم منكوسا، كما قد يرشد إلي ذلك خبر علي بن يقطين المشهور «1» للتنبيه فيه علي عدم النكس حين أمره بالوضوء المشروع بعد ذهاب الخوف عنه.

لكن فيه: أنه يكفي في غرض الامام عليه السّلام من الحكاية التنبيه علي تخفيف الوضوء بالاكتفاء بالمرة و الغرفة الواحدة و مسح الرجلين، و الاقتصار علي الأعضاء الخمسة، و هي الأمور التي يظهر من هذه النصوص علي كثرتها الاهتمام بها. و لا ينحصر غرضه بالتعريض بالعامة في خصوص النكس، بل لا معني له بناء علي ما حكي عنهم من استحباب البدء بالأعلي في الوجه.

و تنبيه الراوي علي ذلك لا يشهد بفهمه الوجوب، بل قد يكون لفهمه الاستحباب، أو لبيان الاكتفاء بغسل مقدم الوجه بإسدال الماء و كفاية استيعاب الماء له به من دون حاجة إلي مسح آخر.

و خبر علي بن يقطين لا يدل علي أن الغرض من النصوص البيانية التعريض بالعامة في النكس، و إنما يدل علي اختلافنا معهم فيه.

بل حيث كان مختصا بالنكس في اليدين فقد يظهر منه عدم المنع من النكس في الوجه- كما تقدم منا نظيره في كلمات بعض الأصحاب- أو اتفاقنا معهم فيه و لو لذهابهم إلي استحباب البدإ بالأعلي، كما تقدمت حكايته عنهم.

و يشكل الثاني: - بعد تسليم التزامه صلّي اللّه عليه و آله بعدم النكس- بأنه لا مجال لحمل الكلام المذكور علي لزوم المحافظة علي جميع الخصوصيات التي اشتمل عليها وضوؤه صلّي اللّه عليه و آله للعلم بعدم وجوب أكثرها، و ليس هو من سنخ العام المخصص، و إلا لزم تخصيص الأكثر المستهجن، فلا بد أن يكون المراد به الحكاية عن أركان الوضوء، أو عن الاكتفاء بالمرة، كما يناسبه صدره علي رواية الفقيه أو غير ذلك مما

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 218

______________________________

يمنع من الاستدلال به في المقام.

مضافا إلي ضعف سند الخبر بالإرسال و عدم وضوح انجباره بعمل الأصحاب بعد خفاء دلالته و ابتنائها علي المقدمة المذكورة التي لم يشر إليها أحد قبل المحقق قدّس سرّه و إنما ذكره من قبله عاضدا للاكتفاء بالمرة أو في قبال العامة.

و إما الثالث فيشكل.

أولا: بضعف سند الخبر، لإهمال أبي جرير في كتب الرجال.

و دعوي: أن كتاب قرب الاسناد من الكتب المعتمدة.

غير ظاهرة المأخذ إن أريد بها الاستغناء عن النظر في سند أحاديثه، إذ لم أعثر في كلمات مشايخ الأصحاب علي أكثر من توثيق عبد اللّه بن جعفر الحميري و تبجيله و نسبة الكتاب له.

و مثلها دعوي: انجبار الخبر بعمل الأصحاب.

لاندفاعها: بعدم وضوح اعتماد قدماء الأصحاب علي الخبر المذكور بعد عدم إيراد المشايخ الثلاثة له، كيف و لم يذكره حتي المحقق في المعتبر و العلامة في المنتهي مع استدلالهما بما تقدم مما لا يبعد كونه أضعف منه.

و مجرد موافقة فتوي بعض الأصحاب له لا تكفي في انجباره، كاستدلال بعض متأخري المتأخرين به.

و ثانيا: بضعف دلالته، لأن تقديم النهي عن التعميق و اللطم المعلوم عدم إرادة الإلزام منه يوجب ظهور الجواب في بيان الكيفية المستحبة، و صرف السؤال إليها لا إلي الكيفية الواجبة، فيمنع من ظهور الأمر بالغسل في الوجوب، و لا سيما مع تقييده بالمسح الذي لا إشكال في استحبابه.

بل لما كان التعميق و اللطم من أفراد الغسل لزم حمل الأمر بالغسل بعد النهي عنهما علي الغسل المباين لهما، و هو الغسل بالمسح المسترسل الذي أوضحه عليه السّلام بقوله: «مسحا»، و لا إشكال في ان الأمر به للاستحباب، أو لبيان إجزائه و عدم الحاجة للتعميق، و لا طريق مع ذلك لإحراز وجوب قيده، و هو كونه من أعلي الوجه إلي أسفله.

ص: 219

______________________________

و منه يظهر ضعف دعوي: أن استحباب المسح في الغسل لا يلزم بحمل التقييد بكونه من الأعلي علي الاستحباب، لإمكان التفكيك بين القيود في ذلك.

لاندفاعها: بأن المسح ليس قيدا زائدا علي الغسل، بل موضح للمراد منه، و لا بد من كون الأمر بالغسل المذكور للاستحباب، و معه لا مجال لاستفادة وجوب قيده المذكور.

و أما ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أنه لا ملزم بحمل النهي عن اللطم علي الكراهة، بل يبقي علي ظاهره في التحريم، بحمله علي اللطم الذي لا يحصل به غسل مجموع الوجه، لأن قوله عليه السّلام: «لطما» ظاهر في إرادة لطم ما، و هو اللطم بالنحو المذكور.

ففيه: أن ظاهر المفعول المطلق في مثل المقام التأكيد لبيان النهي عن الفرد الشديد من اللطم، كما هو الظاهر منه أيضا في موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا تضربوا وجوهكم بالماء ضربا إذا توضأتم، و لكن شنوا الماء شنا» «1»، و لا أقل من كونه مقتضي الأمر بالصفق في بعض النصوص «2»، و لا ظهور للمصدر في الفرد الذي ذكره.

مع أن الأمر لا يختص بالنهي عن اللطم، بل يأتي في النهي عن التعميق.

و توهم حمله علي الإلزام دفعا للوسواس. تحكم، لعدم الملازمة بينهما، غاية الأمر حمله علي الإرشاد أو الاستحباب لذلك، أو علي دفع توهم وجوبه، و بيان كفاية الغسل بنحو المسح. و لا سيما مع تعقيبه بقوله عليه السّلام: «و كذلك فامسح علي ذراعيك و رأسك و قدميك»، لوضوح عدم اعتبار البدء بالأعلي في مسح الرأس و الرجلين، بل ليس المقصود إلا بيان عدم وجوب التعميق أو كراهته، و الاكتفاء بالمسح الخفيف المسترسل أو استحبابه.

و بالجملة: ليس للحديث ظهور معتد به في وجوب الابتداء بالأعلي.

و من هنا فقد يقوي القول بجواز النكس، عملا بالإطلاقات المؤيدة بما في

______________________________

(1) الكافي 3: 28 باب: حد الوجه الذي يغسل، حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 220

______________________________

حديث ابن يقطين «1»، من الأمر بالبدء من المرفقين في غسل اليدين مع إطلاق غسل الوجه الظاهر في اتفاقنا معهم فيه، كما سبق. و كذا تنبيه الراوي في غير واحد من النصوص البيانية عليه في اليدين دون الوجه.

و بها يخرج عن مقتضي أصالة الاشتغال التي أشرنا إلي جريانها في أمثال المقام مما كان الشك فيه في المحصل.

و لا مجال للإشكال في الاستدلال بالإطلاقات.

تارة: بما عن شيخنا البهائي قدّس سرّه من انصرافها إلي البدء بالأعلي، لأنه المتعارف من الغسل.

و اخري: بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من ورودها في مقام التشريع و بيان أصل وجوب العبادة لا كيفيتها.

لاندفاع الأول: بأن الانصراف للمتعارف بدوي لا يرفع به اليد عن الإطلاق.

و منع تعارف البدء من الأعلي في الغسل، بل هو محتاج لعناية، و إنما تعارف عند المتشرعة لشبهة الوجوب.

و اندفاع الثاني: بأن ورود الإطلاق لبيان وجوب الشي ء من دون تعرض لكيفيته ظاهر في عدم اعتبار كيفية خاصة فيه.

بل كيف يمكن إنكار إطلاق الآية الكريمة من هذه الجهة مع ورودها في مقام بيان الواجب و خصوصياته، و مثلها ما ورد في بيان حد الوضوء و تعليمه، كصحيح ابن فرقد: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إن أبي كان يقول: ان للوضوء حدا من تعداه لم يؤجر، و كان أبي يقول: إنما يتلدد «2». فقال له رجل: و ما حده؟

قال: تغسل وجهك و يديك و تمسح رأسك و رجليك» «3» و نحوه غيره.

نعم، يتجه ذلك في بعض النصوص، مثل ما تضمن تعليل تخصيص الأعضاء الستة بالوضوء و بيان ثواب غسلها فيه و نحوها مما ظاهره المفروغية عن

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) يتلفت و يتحير.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 221

إلي الأسفل فالأسفل عرفا (1)،

______________________________

وجوب غسلها، لا بيان وجوبه.

(1) اعلم أن بعض الأصحاب- كابن حمزة- صرح بعدم جواز استقبال الشعر الذي هو عبارة عن النكس، و من الظاهر أنه لا يستلزم البدء بالأعلي الذي هو مقتضي الأدلة المتقدمة- لو تمت- و إن كان لا يبعد حمل عليه بقرينتها.

و كيف كان فالمحتمل بعد البناء علي وجوب الابتداء بالأعلي وجوه.

الأول: الاكتفاء بمسمي الابتداء بالأعلي و إن لم يحصل الترتيب فيما تحته.

الثاني: وجوب غسل الأعلي فالأعلي في جميع النقاط العرضية، فلا يجوز غسل شي ء من الأسفل قبل ما فوقه و إن لم يكن في سمته.

الثالث: وجوب غسل الأعلي فالأعلي بحسب الخطوط الطولية لا غير.

الرابع: أن يكون اتجاه المسح من الأعلي للأسفل و إن كان منحرفا عن سمت خط الطول، كما لو مسح من الجبين الأيمن إلي اللحي الأيسر.

أما الأول ففي الجواهر أنه مقتضي كلام كثير من المتأخرين، و نسبه في مفتاح الكرامة إلي إطلاقات الأصحاب، و ظاهره الميل إليه بالنحو الذي لا يستلزم النكس.

و يدفعه ظهور أدلة البدء بالأعلي في وجوب الترتيب في تمام الوجه، لوضح أن غسل مقدم الوجه بإسدال الماء علي الجبهة- الذي تضمنته بعض النصوص البيانية- إنما يكون بنحو الترتيب، تبعا لنزول الماء من الأعلي إلي الأسفل، بل هو صريح خبر أبي جرير المتقدم.

و أما الثاني فقد نسبه في المدارك إلي بعض القاصرين، و ذكر أنه من الخرافات الباردة و الأوهام الفاسدة.

لكن اختاره في الحدائق و نسبه إلي الشهيد الثاني في شرح الرسالة و ظاهر العلامة، و إن لم تخل النسبة عن إشكال، لتصريح الشهيد فيما نقله عنه بأن في الاكتفاء بالثالث وجها وجيها، و قرّب حمل كلام العلامة عليه.

ص: 222

______________________________

و قد اختار الوجه الثاني أيضا شيخنا الأستاذ قدّس سرّه بعد حمله علي الترتيب العرفي بتكرار المسح، لا الدقي.

و قد استدل عليه في الحدائق ببعض النصوص البيانية، ففي صحيح زرارة:

«ثمَّ غرف ملأها ماء فوضعها علي جبهته، ثمَّ قال: بسم اللّه، و سدله علي أطراف لحيته، ثمَّ أمر يده علي وجهه و ظاهر جبهته مرة واحدة» «1».

و استدل عليه شيخنا الأستاذ قدّس سرّه بظاهر رواية أبي جرير المتقدمة.

لكن الصحيح قد تضمن إمرار اليد مرة واحدة، و هو لا يستوعب جانبي الوجه إلا بمد الإصبعين الموجب لعدم استيلائهما علي جانبي الأنف في مقدم الوجه لانخفاضهما، فلا بد أن يكون انغسالهما قبل ذلك بإسدال الماء الراجع إلي غسل مقدم الوجه قبل جانبيه.

و منه يظهر أن الاستدلال برواية أبي جرير يتوقف علي حملها علي مسح الوجه بكلتا اليدين أو علي تقطع المسح باليد الواحدة بالمسح في سمت الطول قليلا قليلا مستوعبا للعرض ثمَّ التدرج للأسفل بنحو يصدق عرفا مسح تمام الوجه عرضا من أعلاه إلي أسفله، فلو استمرت المسحة الواحدة باليد الواحدة من الأعلي للأسفل كان استمرارها لاغيا و لم يكن مسحا وضوئيا.

و هذا و إن كان مقتضي الجمود علي اسناد الغسل للوجه الظاهر في إرادة غسل تمامه، إلا أن خروجه عن المتعارف و احتياجه للعناية مانع من ظهورها فيه، بل ليس المنصرف منها إلا إرادة كون اتجاه المسح من الأعلي للأسفل و إن لم يستوعب الوجه عرضا.

هذا، مضافا إلي ظهور غير واحد من النصوص البيانية المتقدمة في عدم وجوب الاستيعاب العرضي بالوجه المذكور، لما تضمنته من مسح جانبي الوجه بعد إسدال الماء علي أعلي الوجه.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من حملها علي مسح الجانبين بمسحة

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 223

______________________________

واحدة مستوعبة لهما.

فهو- مع عدم مناسبته لإضافة المسحة للجانبين، لا للوجه- يجري فيه ما تقدم في الصحيح الذي استدل به في الحدائق. فلاحظ.

فالوجه المذكور في غاية الضعف. بل لو أريد منه الترتيب الدقي كان متعذرا، إلا أن يكون غسل الوجه بكلتا اليدين أو بالارتماس، و لا ريب في عدم وجوبهما.

ثمَّ ان مقتضي رواية أبي جرير بعد حملها علي عدم استيعاب الخط العرضي الاكتفاء بالابتداء بنقطة من الأعلي إلي نقطة من الأسفل الذي هو مفاد الوجه الرابع، إلا أن تحمل علي الثالث، لدعوي كونه هو المتعارف من الترتيب المنصرف إليه الخطاب بالغسل من الأعلي إلي الأسفل، و إن لم يكن متعارفا في أصل الغسل. أو لبعض النصوص البيانية المتقدمة بناء علي تمامية دلالتها علي الوجوب، لظهورها في غسل تمام مقدم الوجه بإسدال الماء قبل غسل جانبيه بالمسح عليهما، فتكون أخص من رواية أبي جرير.

لكنه لو تمَّ يتعين الاكتفاء فيه بالوجه العرفي، و لا يعتبر التدقيق، لابتنائه علي عناية يبعد إرادتها من مجرد العمل. و لا سيما مع ظهور النصوص البيانية في قلة إمرار اليد في غسل الوجه، حيث يظهر منها الاهتمام باستيعاب الوجه بالغسل، و يغفل معه عن مثل هذه التدقيقات.

بقي أمران.

الأول: أن النصوص البيانية و إن تضمنت إسدال الماء علي الجبهة أو أعلي الوجه، إلا أن ذلك لا يقتضي انغسال الجزء الأول من الوجه دقة قبل غيره، لوضوح أن الكف من الماء له مساحة معتد بها تباشر مقدارها من الوجه فتغسله دفعة.

و تحقيق الابتداء بالأعلي دقة يتوقف حينئذ إما علي صب الماء علي الرأس فوق الوجه، كي ينزل إلي أعلي الوجه منه تدريجا، أو علي كون انغسال ما يقارن الأعلي بصب الأعلي لغوا، و لا يتحقق الغسل الوضوئي إلا بإمرار اليد من الأعلي إلي الأسفل بعد صب الماء، و كلاهما مما تأباه النصوص البيانية و سيرة المتشرعة في تحقيق الغسل من الأعلي، الملزم بالاكتفاء بذلك و حمل إطلاق خبر أبي جرير عليه. فلاحظ.

ص: 224

و لا يجوز النكس (1).

نعم، لو ردّ الماء منكوسا و نوي الوضوء بإرجاعه إلي الأسفل صح وضوؤه (2).

______________________________

الثاني: ورد في بعض النصوص «1» أن من بقي في وجهه موضع لم يصبه الماء يجزيه أن يبله من بعض جسده. و هو بظاهر مناف للترتيب، لبعد حمله علي خصوص ما إذا كان الموضع آخر الوجه.

كما قد ينافيه أيضا ما في صحيح ابن جعفر «2» من الاجتزاء بإصابة المطر حتي تبتل جميع أعضاء الوضوء، لبعد حمله علي الترتيب بالوجه المذكور، غايته أن يحمل علي عدم النكس.

لكنهما كما ينافيان الترتيب في نفس العضو ينافيان الترتيب بين الأعضاء، بل الثاني لا يناسب عدم الاجتزاء في الرأس و الرجلين بالغسل. فلا بد من توجيههما أو تخصيصهما بموردهما أو طرحهما، علي ما قد يتضح عند الكلام في المسألة الثامنة عشرة في الوضوء بماء المطر، و في مبحث اعتبار الترتيب، و اللّه سبحانه و تعالي المعين الموفق.

(1) مما تقدم يظهر أن ذلك أعم من وجوب الغسل من الأعلي للأسفل.

و من هنا كان متيقنا بالإضافة إليه بالنظر للأدلة المتقدمة و كلام الأصحاب و السيرة.

(2) لعدم الدليل علي قادحية النكس مقدمة للوضوء.

و دعوي: منافاته للوضوءات البيانية المحكية بالنصوص المتقدمة.

مدفوعة: بأن مفاد النصوص المذكورة كون المقصود بالوضوءات البيانية حكاية وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله بنفسه لا بمقدماته، فما اشتملت عليه من المقدمات غير

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 43 من أبواب الوضوء.

(2) الوسائل باب: 36 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 225

______________________________

وارد للحكاية كي يتوهم وجوبه.

إلا أن المعروف المشهور بينهم المصرح به في كلام جماعة كثيرة- كما في الناصريات و الاستبصار و القواعد و المنتهي و اللمعة و محكي المبسوط و غيرها من كتب القدماء و المتأخرين- أنه لا بد من جريان الماء، بل عن الشهيد الثاني في بعض تحقيقاته أنه المعروف بين الفقهاء- و لا سيما المتأخرين- و المصرح به في عباراتهم، و عن محكي حاشية التهذيب للمجلسي أن ظاهر الأصحاب الاتفاق عليه.

و الظاهر أن مرادهم به انتقال الماء من بعض أجزاء البدن لغيره و لو بإعانة اليد و نحوها، كما يناسبه الوضوءات البيانية و سيرة المتشرعة، و ما ذكره غير واحد من الاجتزاء بمثل الدهن- كما في الاستبصار و القواعد و غيرهما- بل هو المصرح به في جامع المقاصد و كشف اللثام و عن التذكرة و غيرها. بل في الروض: «و أقله أن يجري جزء من الماء علي جزئين من البشرة و لو بمعاون» و نحوه في المسالك و عن غيرها.

و كأن ذلك من الأصحاب لبنائهم علي تقوم الغسل بالجريان، كما يناسبه الجمع بينه و بين مفروغيتهم عن وجوب الغسل، بل هو المصرح به في الاستبصار و المنتهي و جامع المقاصد و الروض و المسالك و عن غيرها، بل في مبحث الغسل من المدارك: أنه الذي قطع به الأصحاب، و في كشف اللثام: أنه الذي يشهد به العرف و اللغة، و في الروض و عن الأنوار أن الغسل في اللغة إمرار الماء علي الشي ء علي وجه التنظيف و التحسين و إزالة الوسخ و نحوها، و في مجمع البحرين: «غسل الشي ء إزالة الوسخ و نحوه عنه بإجراء الماء عليه» و في مفردات الراغب: «غسلت الشي ء غسلا: أسلت عليه الماء فأزلت درنه».

لكن صاحب المدارك و إن استحسن في مبحث الغسل ما نسبه للأصحاب من اعتبار الجريان و لو بمعاون، إلا أنه تنظّر في مبحث الوضوء في صدقه عرفا بما تقدم من الروض و المسالك من أن أقله أن يجري جزء من الماء علي جزئين من البشرة.

ص: 226

______________________________

و ظاهره اعتبار ما زاد علي ذلك. و هو في محله، فأن مرجعه إلي تحقق الغسل بمسح العضو المبتل علي العضو الجاف إذا صارت مساحة المبتل من الممسوح ضعف المبتل من الماسح، و العرف يأبي ذلك جدا.

و ما تقدم من المجمع و مفردات الراغب لا يشمل مثل هذا قطعا، بل المنصرف منه أن يكون للماء وجود استقلالي حين الجريان.

بل الظاهر عدم صدق الجريان و الاسالة بدون ذلك، بل يشكل صدقهما مع كون انتقال الماء بمعونة اليد و إن فرض استيلاء الماء بذلك و تحقق الغسل، و ليست الاستعانة في انتقال الماء باليد هي المصححة لنسبة الاجراء و الاسالة للفاعل، بل المصحح لها صبه للماء بقدر معتد به يقتضي جريانه بنفسه.

و من ثمَّ لا يبعد عدم تقوم الغسل بأصل الجريان و السيلان، كما يناسبه ما حكاه في الحدائق عن الشهيد الثاني في بعض تحقيقاته من أن ذلك غير مفهوم من كلام أهل اللغة. قال: «لعدم تصريحهم باشتراط جريان الماء في تحققه و أن العرف دال علي ما هو أعم منه».

بل ما ذكره من كون الغسل أعم من الجريان غير ظاهر، بل الظاهر تباينهما مفهوما، و إن كان بينهما عموم من وجه موردا، فيتوقف صدق الغسل علي كثرة الماء و استيلائه بالنحو الذي من شأنه أن يزيل الوسخ و القذر بذلك، و عصر و نحوهما، و بنحو يكون له غسالة، كما يناسبه ما في غير واحد من النصوص من الأمر بصب الماء علي الجسد و غسل الثوب عند إصابة البول، و لا سيما مع تعليل الاكتفاء بالصب في بعضها بأنه ماء «1»، و مثلها في ذلك صحيح الحلبي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بول الصبي. قال: تصب عليه الماء، فان كان قد أكل فاغسله بالماء غسلا» «2»، و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الفراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول كيف يغسل؟ قال: يغسل الظاهر ثمَّ يصب عليه الماء في

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب النجاسات.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 227

______________________________

المكان الذي أصابه البول حتي يخرج من جانب الفراش الآخر» «1» و ما في موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر. قال: تغسله ثلاث مرات. و سئل: أ يجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتي يدلكه بيده و يغسله ثلاث مرات» «2». لظهورها في عدم تحقق الغسل بمجرد الصب المستلزم لانتقال أجزاء الماء من بعض أجزاء الجسم لبعض.

و لعله لذا كان ظاهر المدارك و عن خاله صاحب المعالم و تلميذه الشيخ نجيب الدين الإرجاع في صدق الغسل إلي العرف من غير تحديد بشي ء مما تقدم، كما هو ظاهر جماعة من اللغويين، لعدم تعرضهم لشرحه.

و كأن من اعتبر في الغسل الجريان نظر إلي النصوص الآتية المتضمنة له، و من اكتفي بالجريان بإعانة اليد و لو بالوجه المتقدم عن الروض نظر إلي نصوص الوضوءات البيانية و نصوص المسح و الدهن التي سيأتي الكلام فيها أيضا، كما قد يشهد به تعبير جماعة بما تضمنته النصوص المذكورة من الاجتزاء بالدهن مع اعتبارهم صدق الغسل، كما في الاستبصار و الشرائع و المعتبر و المنتهي و القواعد و غيرها.

لكن النصوص المذكورة لو تمَّ الاستدلال بها في الأمرين المذكورين لا تستلزم كون مضمونها مطابقا لمفهوم الغسل عرفا، بحيث تكون واردة لبيان تحققه بالوجه الذي تضمنته. بل قد يكون مرجع بعضها إلي تقييد أدلة الغسل بحال الاختيار.

بل لا يبعد كون المراد بها بأجمعها بيان عدم وجوب الغسل بخصوصيته، بل لأجل إيصال الماء المتحقق بما تضمنته، فان الجمع بينها و بين أدلة وجوب الغسل بذلك أقرب من تنزيلها علي بيان أدني ما يحقق الغسل عرفا بعد ما ذكرنا من مفهوم الغسل.

بل من البعيد جدا خفاء الغسل بالنحو المحتاج للشرح، و لذا لم يشر فيها

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 228

______________________________

إلي مفهوم الغسل و تنقيح مصداقه، و إنما اقتصر فيها علي بيان الأجزاء و التأكيد عليه.

و من ثمَّ لم يتعرضوا للاجتزاء بذلك في الغسل من النجاسة، مع أنه لو كان من أفراد الغسل العرفية أو الشرعية لكان الاجتزاء به متعينا.

و مما ذكرنا يظهر الإشكال فيما في المعتبر في مبحث التيمم، حيث قال: «ظن قوم منا أن دهن الأعضاء في الطهارة يقصر عن الغسل و منعوا الاجتزاء به إلا في حال الضرورة، و هو خطأ، فإنه لو لم يسمّ غسلا لما جاز الاجتزاء به، لأنه لا يكون متمثلا.

و إن كان غسلا لم يشترط فيه الضرورة. و يدل علي أنه مجز روايات.» ثمَّ ذكر رواية زرارة و محمد بن مسلم الآتية.

لاندفاعه: بإمكان خروجه عن الغسل و إجزائه في حال الضرورة. بل مطلقا، لكونه محققا لغرض الشارع من الغسل في المقام، كما ذكرنا.

و دعوي: منافاته للكتاب و السنة المتواترة، بل الضرورة علي وجوب الغسل و تتوقف الطهارة عليه.

مدفوعة: بأن المتيقن إنما هو وجوب الغسل في الجملة و لو حال الاختيار، أو لأجل تحقيق إيصال الماء بالوجه المذكور في هذه النصوص، و أما توقف الطهارة عليه بعنوانه و خصوصيته مطلقا فليس هو إلا ظاهر الأوامر المذكورة، الذي يمكن رفع اليد عنه بتنزيلها علي ما ذكرنا جمعا.

نعم، لا ريب في مباينة الغسل للمسح، فلا بد من المحافظة علي ذلك في مقام العمل بهذه النصوص علي ما يتضح إن شاء اللّه تعالي.

إذا عرفت هذا، فلا ريب في عدم اعتبار الغسل بالمعني المتقدم في الوضوء و الغسل و كفاية الجريان و الصب، كما يشهد به نصوص الوضوءات البيانية المتضمنة لغسل مقدم الوجه و ظاهر الذراع بصب الماء و إسداله «1»، و ما تضمن الاجتزاء بإصابة المطر للأعضاء «2». و ما تضمن تحقق الغسل بإفاضة الماء و صبه

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء.

(2) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الوضوء حديث: 1. و باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 10، 11، 14.

ص: 229

______________________________

علي الجسد في غسل الجنابة «1» و غير ذلك، بل في كثير منها التعبير عنه بالغسل الكاشف عن إلغاء الخصوصية المذكورة في المقام، بلحاظ تحقق الغرض من الغسل به- و لو لتحقق الطهارة به- بنحو يصحح إطلاقه عليه.

كما لا ينبغي الإشكال في عدم لزوم أن يستقل الماء بالجريان، بل يكفي أن يكون بمعونة اليد و نحوها و إن لم يتحقق به الغسل العرفي، لخفة المسح، لوفاء النصوص البيانية و نصوص تعليم غسل الجنابة «2» و غيرها به.

و إنما الإشكال في أمرين.

الأول: في لزوم الجريان و لو بالنحو المذكور مع غض النظر عما تقدم منهم من أخذه في مفهوم الغسل.

فقد استدل عليه بغير واحد من النصوص الواردة في الوضوء و الغسل، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يطلبوه و لا يبحثوا عنه، و لكن يجري عليه الماء» «3» و في صحيحه الآخر عنه عليه السّلام: «قال:

الجنب ما جري عليه الماء من جسده قليله و كثيره فقد أجزأه» «4» و في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «ثمَّ تصب علي سائر جسدك مرتين، فما جري عليه الماء فقد طهر» «5».

و يندفع بعدم ظهور هذه النصوص في لزوم الجريان، بل هي واردة لبيان الاكتفاء بالماء القليل و عدم وجوب الإكثار منه، و لا وجوب التعميق و غسل ما تحت الشعر.

بل قد يستفاد عدم وجوب الجريان من صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

(3) الوسائل باب: 46 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 230

______________________________

الوضوء: «قال: إذا مس جلدك الماء فحسبك» «1»، و صحيحة الآخر في الغسل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ثمَّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلي قدميك. و كل شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته. و لو أن رجلا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك و إن لم يدلك جسده» «2».

لوضوح أن الإمساس لا يتوقف علي الجريان بالمعني المذكور.

نعم، بناء علي وجوب الترتيب في الوضوء في نفس الأعضاء يتجه عدم الاكتفاء فيه بمجرد الإمساس، بل لا بد من نقل الماء بإجراء أو مسح أو نحوهما، كما تضمنه غير واحد من نصوص الوضوءات البيانية و غيرها.

و أما الغسل فيشكل الأمر فيه جدا بعد الصحيح المتقدم.

و دعوي: أن ما تضمنه صدره من الغسل الذي لا يتحقق بمجرد الإمساس ملزم بتقييد الإمساس بذلك.

مدفوعة: بظهور ذكر الإمساس بعد الغسل في التنبيه علي أن المعيار عليه، لدفع توهم وجوب ما زاد عليه مما قد يوهمه ذكر الغسل، و أن ذكر الغسل لأنه يحققه، لا لوجوب المحافظة علي خصوصية، و إلا لم يكن لذكره بعد ذكر الغسل من القرن إلي القدم فائدة. و يقرب ذلك التنبيه علي عدم وجوب الدلك مع الارتماس الذي هو من لوازم الغسل. فلاحظ.

و قد يؤيد أو يعتضد بصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له:

أغتسل من الجنابة و غير ذلك في الكنيف الذي يبال فيه و علي نعل سندية، فاغتسل و علي النعل كما هي. فقال: إن كان الماء الذي يسيل من جسدك يصيب أسفل قدميك فلا تغسلهما» «3» لوضوح أن وصول الماء إلي أسفل القدم مع لبس النعل لا يستلزم جريانه في تمام القدم، بل قد يكون بتفشي الماء في النعل بسبب حركة القدم. و مثله ما تضمن الاكتفاء بوصول الماء إلي بشرة الرأس بشرب الشعر

______________________________

(1) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 27 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 231

______________________________

له، مع عدم استلزامه جريانه علي البشرة ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: الحائض ما بلغ بلل الماء من شعرها أجزأها» «1» و في صحيح الكاهلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في غسل الجنابة للمرأة من دون أن تنقض شعرها:

«مرها أن تروي رأسها من الماء و تعصره حتي يروي، فإذا روي فلا بأس عليها» «2».

بل قد يؤيد باغفال نصوص المئزر حله أو تحريكه عند الغسل «3»، مع قرب الغفلة عن ذلك و الاكتفاء بوصول الماء للبشرة بتخلله للمئزر من دون أن يستلزم مسح البدن بالماء.

و لا سيما مع مطابقة ذلك للارتكازات العرفية في التطهير بالماء، إذ المهم بحسبها هو وصول الماء للبشرة و استيلاؤه عليها، و لذا يكتفي بذلك في التطهير من الخبث، فيما يكتفي فيه بالصب و نحوه، و لا خصوصية للإجراء ارتكازا، و إنما تعارف لتسهيل تبليغ الجسد أو للاقتصاد في الماء.

نعم، قد ينافي ما ذكرنا خبر بكر بن كرب: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يغتسل من الجنابة، أ يغسل رجليه بعد الغسل؟ فقال: إن كان يغتسل في مكان يسيل الماء علي رجليه فلا عليه أن لا يغسلهما، و إن كان يغتسل في مكان يستنقع رجلاه في الماء فليغسلهما» «4».

إلا أن من القريب حمله علي لزوم سيلان الماء علي ظاهر القدم، و إلا فباطن القدم المماس للأرض لا يسيل عليه الماء إلا برفع القدم، و لا يراد بغسله إلا رفعه و إسالة الماء عليه، فعدم إيجاب غسله ظاهر في عدم وجوب رفعه و الاكتفاء بإصابة الماء له بسبب مماسته للأرض التي يسيل عليها الماء، نظير ما تقدم في صحيح هشام. فلا بد أن يكون اعتبار سيلان الماء علي ظاهر القدم في مقابل انغماره، إما بالماء الموجود قبل الغسل الذي لم ينو بالدخول فيه الغسل، أو

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) راجع الوسائل باب: 9، 10، 11 من أبواب آداب الحمام.

(4) الوسائل باب: 27 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 232

______________________________

بغسالة الجنابة التي لا يصح الاغتسال بها إما لعدم رفع الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر للحدث، أو لعدم نية الغسل بتجمع الماء بالوجه المذكور، و إنما ينوي بصبه أو لنحو ذلك.

هذا، و لو فرض قصور جميع ما ذكرنا عن إفادة المطلوب لزم المحافظة علي الاجراء بالوجه المذكور، لأنه المتيقن من نصوص تعليم غسل الجنابة و سيرة المتشرعة و مطابقته لقاعدة الاشتغال المحكمة في المقام و نحوه من موارد الشك في المحصل. فتأمل جيدا.

الثاني: في مقدار الماء الذي يكتفي بإجرائه و لو بواسطة اليد.

و لا إشكال عندهم في الاكتفاء بما تضمنته نصوص الوضوءات البيانية و غيرها «1» من الاكتفاء بغرفة لكل عضو، و ما تضمنته نصوص تعليم غسل الجنابة من الاكتفاء بالكف و الكفين و غيرهما في الأعضاء، بل ظاهرهم المفروغية عن صدق الغسل به، و إن كان لا يخلو عن نظر، كما يظهر مما تقدم.

و إنما الإشكال عندهم فيما هو الأقل من ذلك الذي هو ظاهر بعض النصوص. ففي صحيح زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إنما الوضوء حد من حدود اللّه، ليعلم اللّه من يعطيه و من يعصيه، و إن المؤمن لا ينجسه شي ء، إنما يكفيه مثل الدهن» «2» و صحيح محمد بن مسلم عنه عليه السّلام: «يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده، و الماء أوسع من ذلك، إلا أحكي لكم وضوء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله.» «3». و موثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه: «ان عليا عليه السّلام كان يقول: الغسل من الجنابة و الوضوء يجزي منه ما أجري من الدهن الذي يبل الجسد» «4» و موثق زرارة: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن غسل الجنابة، قال:

أفض علي رأسك ثلاث أكف و عن يمينك و عن يسارك إنما يكفيك مثل

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء.

(2) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 233

______________________________

الدهن» «1». و صحيح هارون عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: يجزيك من الغسل و الاستنجاء ما بلت [ملأت خ ل] يمينك» «2».

هذا، و حيث كان المعيار في الغسل عند المشهور حصول مسمي الجريان، فالأصحاب بين من حملها علي ذلك و أوجب الغسل و إن كان بمثل الدهن، كما تقدم، و من حملها علي المجاز و المبالغة في تقليل الماء، كما في الروض و المسالك و غيرهما، و من قرّب حملها علي الحقيقة و إن لم يحصل الغسل، كما يظهر من المدارك، و من حملها علي الضرورة، كما تقدم من المعتبر نسبته إلي قوم من أصحابنا، و مال إليه في الحدائق و نسبه لبعض مشايخه المحققين من متأخري المتأخرين، بل ربما ينسب للشيخين، لاكتفائهما في النهاية و المقنعة لمن كان في أرض ثلج و لا ماء عنده و لا تراب بوضع يديه باعتماد علي الثلج حتي تندي ثمَّ يمسح بها أعضاء الوضوء أو سائر البدن في الغسل.

لكن عرفت الإشكال في الأول، و أن ذلك لا يحقق الغسل العرفي.

كما أن الثاني مخالف لظاهر هذه النصوص جدا. و لا سيما بعد التنبيه في الصحيح الأول إلي عدم النجاسة التي هي المنشأ ارتكازا لاعتبار الإكثار من الماء الذي يتوقف عليه الغسل العرفي، و ما في الثاني من تحديد الدهن بالراحة، و ما في الموثق الأول من جعل المعيار بلّ الجسد.

و بالجملة: ظهور النصوص في التحديد العملي ببيان أقل المجزي مما لا مجال لرفع اليد عنه بالحمل علي المجاز و المبالغة.

و من ثمَّ كان الظاهر هو الثالث، و مجرد عدم حصول الغسل به ليس محذورا، كما تقدم.

نعم، استشكل فيه غير واحد بأنه لا يناسب المقابلة بين المسح و الغسل في أعضاء الوضوء، إذ مع عدم تحقق الغسل لا يتحقق الا المسح، و الاكتفاء به في جميع الأعضاء المغسولة مخالف للكتاب و السنة و الإجماع، بل الضرورة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 234

______________________________

و الذي ينبغي أن يقال: قوام المسح نقل البلة من أحد الجسمين للآخر بامراره عليه، و إن لم يصدق الماء علي ما ينتقل إليه و يحمله منه، و إن لم تصدق الرطوبة المعتد بها، و غاية ما يدعي في المقام هو لزوم التأثير في الممسوح بوجه ما.

و علي هذا فإنما يلزم الاشكال المذكور لو كان ظاهر النصوص المذكورة هو الاكتفاء بهذا المقدار بدلا عن الغسل.

لكنه ليس كذلك، بل هي ظاهرة في لزوم صدق الماء و البلل علي ما ينتقل إلي الأعضاء، كما ينتقل الدهن بالتمسح، بل هو كالصريح من موثق إسحاق بن عمار. و لا أقل من كونه مقتضي الجمع بين هذه النصوص و صحيحي زرارة المتقدمين الظاهرين في لزوم مس الماء للجسد، و من الظاهر أن ذلك أمر زائد علي المسح، فيمكن حمل الغسل عليه.

نعم، ما في إحدي نسختي صحيح هارون من قوله: «ما بلت يمينك» لا يناسب ذلك.

لكنه- مع عدم ثبوت النسخة في نفسها- لا مجال للبناء علي ظاهرها، لعدم الريب في عدم كفاية ذلك في الاستنجاء، فلا بد من حملها علي ضرب من المجاز و المبالغة، أو طرحها.

و أما الرابع- و هو التخصيص بحال الضرورة- فهو مما تأباه هذه النصوص جدا.

و أما ما في الحدائق حاكيا له عن شيخه المذكور من لزوم حملها علي الضرورة بقرينة بعض النصوص المختصة بها، لدعوي كونها شاهد جمع بين هذه النصوص و أدلة الغسل- بعد فرض استحكام التعارض بينها.

فيندفع: بأن اختصاص بعض النصوص ببعض الأفراد إنما يكون شاهد جمع بين المتعارضين إذا أمكن عرفا تنزيلهما معا عليها، لا في مثل المقام.

مضافا إلي ما تقدم من عدم استحكام التعارض بين نصوص المقام و أدلة الغسل، بل تنزل أدلة الغسل علي نصوص المقام.

ص: 235

______________________________

ثمَّ إن النصوص المختصة بحال الضرورة المدعي دلالتها علي الاكتفاء بما لا يحقق أدني الواجب حال الاختيار هي صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام:

«سألته عن الرجل الجنب أو علي غير وضوء لا يكون معه ماء و هو يصيب ثلجا أو صعيدا أيهما أفضل أ يتيمم أم يمسح بالثلج وجهه؟ قال: الثلج إذا بلّ رأسه و جسده أفضل، فان لم يقدر علي أن يغتسل به فليتيمم» «1» و قريب منه خبره عنه عليه السّلام «2» و صحيحه الآخر عنه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع، أ يغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره، و الماء لا يبلغ صاعا للجنابة و لا مدا للوضوء. فقال: إن كانت يده نظيفة. فإن خشي أن لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات، ثمَّ مسح جلده بيده، فان ذلك يجزيه، و إن كان الوضوء غسل وجهه و مسح يده علي ذراعيه و رأسه و رجليه.» «3» و خبر معاوية بن شريح أو حسنه: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده، فقال: يصيبنا الدمق «4» و الثلج و نريد أن نتوضأ و لا نجد إلا ماء جامدا، فكيف أتوضأ، أدلك به جلدي؟ قال: نعم» «5» و مرسل الكليني: «و روي في رجل كان معه من الماء مقدار كف و حضرت الصلاة قال: فقال: يقسمه أثلاثا: ثلث للوجه، و ثلث لليد اليمني، و ثلث لليسري، و يمسح بالبلة رأسه و رجليه» «6».

مضافا إلي قاعدة الميسور، لأن المسح بالوجه المذكور ميسور بالإضافة إلي الغسل.

و من ثمَّ حكي القول بالاكتفاء بالمسح بنداوة الثلج- و إن لم يحقق أدني الواجب في حال الاختيار- عن جماعة، بل قد يحمل عليه ما تقدم من المقنعة و النهاية و الوسيلة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب التيمم حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب التيمم حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

(4) الدمق محركة ريح و ثلج معربة دمه قاموس.

(5) الوسائل باب: 10 من أبواب التيمم حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 9.

ص: 236

______________________________

لكن صحيح ابن جعفر و خبره ظاهران فيما يتحقق به الواجب الاختياري، و هو بلّ الجسد، و لا بد من حمل الأفضلية فيهما علي الإلزام أو الترخيص من جهة الحرج، بناء علي أنه لا يرفع مشروعية الوضوء.

و خبر معاوية ظاهر في الاكتفاء بذلك الجلد بالثلج في مقابل لزوم إجراء الماء المذاب، و لا إطلاق له من جهة مقدار البلل الحاصل من الدلك، و لا سيما مع غلبة حصول مقدار الواجب- و هو حمل البلل الذي يصدق عليه الماء- به.

كما أن ما تضمنه مرسل الكليني محقق للواجب الاختياري بالتجربة.

و صحيح علي بن جعفر الآخر لا يخلو عن اضطراب في نفسه مانع من الاستدلال به، و قد فصلنا الكلام فيه في مبحث الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

و قاعدة الميسور غير ثابتة في نفسها. مع قصورها عن مثل المقام من موارد التبعيض في سبب الواجب البسيط، لما أشرنا إليه من أن الواجب ليس هو الوضوء و الغسل، بل الطهارة المسببة عنهما.

هذا كله مضافا إلي ما تضمنه غير واحد من الصحاح و غيرها من وجوب التيمم لمن أجنب و معه من الماء ما يكفيه للوضوء «1»، مع وضوح كفاية المقدار المذكور من الماء في تحقيق الغسل الاضطراري بالوجه المذكور.

ثمَّ إنه ربما يدعي وجوب الوضوء أو الغسل الاضطراريين بالوجه المذكور بعد تعذر التيمم، كما هو ظاهر ما تقدم من المقنعة و النهاية و الوسيلة، بل هو صريح المحكي عن العلامة قدّس سرّه في النهاية.

و لا يظهر وجهه، و تمام الكلام في ذلك في مبحث التيمم. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 24 من أبواب التيمم.

ص: 237

مسألة 1 غير مستوي الخلقة يرجع إلي متناسب الخلقة المتعارف

(مسألة 1): غير مستوي الخلقة- لكبر الوجه أو لصغره، أو لطول الأصابع أو لقصرها- يرجع إلي متناسب الخلقة المتعارف (1).

______________________________

(1) كما صرح به في الشرائع و القواعد و غيرهما.

و الظاهر أن مراد الكل هو وجوب غسل تمام ما يغسله متناسب الخلقة من أعضاء الوجه، فلا ينقص منها كبير الوجه أو قصير الإصبعين، و لا يزيد عليها صغير الوجه أو طويل الإصبعين.

و إليه يرجع ما عن بعضهم من أن العبرة بمستوي الخلقة في الحد دون المحدود، و إن كانت بعض عباراتهم توهم رجوعه لهما معا، فمن خرج وجهه عن المتعارف يغسل بقدر ما يغسله متعارف الوجه من المساحة، كما أن من خرجت اصبعاه عن المتعارف يرجع في التحديد إلي الإصبعين المتعارفتين. لكن من البعيد إرادتهم له، لو لم يقطع بعدمها.

و كيف كان فالحكم المذكور مبني علي ما تقدم من أن التحديد بالإصبعين في الصحيح لبيان الحدود الخارجية للوجه العرفي، الذي هو موضوع الحكم و يجب غسل تمامه، و من الظاهر أن الخروج عن المتعارف في الوجه و الإصبعين لا يوجب تبدلا في حدّ الوجه المذكور، فيجب الرجوع معه إلي ما يطابق الحدود المذكورة مع التعارف.

و ما تكرر منا- تبعا لمشايخنا- من عدم صلوح التعارف لتقييد الإطلاق، إنما يتجه مع احتمال إرادة الإطلاق، لا في مثل المقام مما يعلم بعدم إرادته، لاستحالة تحديد الوجه العرفي مع اختلاف مساحته باختلاف الأشخاص بمثل هذا الحد علي الإطلاق، فلا بد من الرجوع للتعارف بالوجه المذكور، لتعينه عرفا بعد تعذر الإطلاق.

نعم، بناء علي أن التحديد وارد لبيان ما يجب غسله و إن لم يطابق الوجه، أو لبيان الوجه الشرعي، لا العرفي، يتجه البناء علي عموم التحديد بما بين الإصبعين بعد ظهوره في أن المدار لكل شخص علي أصابعه، و لا ملزم بالحمل علي

ص: 238

و كذا لو كان أغم قد نبت الشعر علي جبهته أو كان أصلع قد انحسر الشعر عن مقدم رأسه، فإنه يرجع إلي المتعارف (1).

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 239

______________________________

المتعارف، لعدم صلوح التعارف لتقييد الإطلاق بعد إمكان إرادته.

اللهم إلا أن يحمل عليه في خصوص المقام، بقرينة ما تضمنه الصحيح من عدم كون الصدغ من الوجه، الكاشف عن المفروغية عن عدم تجاوز الإصبعين للصدغين، و لا يتم إلا بملاحظة المتعارف. و كذا ما تضمنه صحيح إسماعيل بن مهران «1» من دخول الجبينين في الوجه و انهما منتهي حد عرضه، و ما في بعض النصوص «2» من خروج الأذنين عن الوجه، لأن الجمع بذلك بينها و بين التحديد بما بين الإصبعين أولي عرفا من الجمع بتخصيص مضمون هذه النصوص بما إذا لم ينطبق عليه التحديد بالإصبعين و لو للخروج عن المتعارف.

و لو فرض عدم المرجح لأحد الوجهين كان المرجع في مورد عدم التطابق عموم وجوب غسل الوجه الظاهر في وجوب غسل تمام الوجه بما له من المعني العرفي.

ثمَّ إنه حيث كان المتعارف مختلفا أيضا فلا بد من كون المعيار هو الأقل، و يكون الإطلاق لاشتمال الأكثر عليه، كما تقدم نظيره في اختلاف الشبر المتعارف المعتبر في تحديد الكر.

نعم، سبق أنه يلزم الاحتياط بجعل الحد أكثر الأمرين مما بين الإصبعين و ما بين الجبينين، فلا مجال للاكتفاء بالمتعارف الذي لا يصل إلي الجبينين.

(1) أما في الأنزع فلنظير ما سبق، لعدم الإشكال في بقاء موضع الانحسار في الرأس و عدم دخوله في الوجه عرفا.

بل لا يبعد عدم صدق القصاص علي منتهي انحسار الشعر من الرأس في

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الوضوء حديث: 2 قد تقدم عند الكلام في حد الوجه ص: 150.

(2) راجع الوسائل باب: 18 من أبواب الوضوء. و قد تقدمت هذه النصوص في شرح قول الماتن قدّس سرّه:

«و الخارج عن ذلك ليس من الوجه» فراجع ص 212.

ص: 239

مسألة 2) الشعر النابت فيما دخل في حد الوجه يجب غسل ظاهره

(مسألة 2): الشعر النابت فيما دخل في حد الوجه يجب غسل ظاهره (1)،

______________________________

الأصلع، فيخرج عن موضوع التحديد بالقصاص- لو غض النظر عن حمله علي المتعارف- و يتعين الرجوع لما دل علي الاقتصار علي غسل الوجه، المحمول بمقتضي الإطلاق المقامي علي غسل الوجه العرفي.

و أما في الأغم فقد استشكل في الجواهر في صدق الوجه علي موضع الشعر، و من ثمَّ تمسك بانصراف التحديد المتعارف.

لكن الانصراف للمتعارف بدوي لا يعتد به، و إنما كان هو المعيار فيما سبق بقرينة ظهور التحديد في كونه لبيان الوجه العرفي الذي لا يختلف باختلاف الحد، كما سبق، فإذا فرض اختلافه في المقام تبعا لاختلاف الحد تعين العمل بإطلاق الحد، كيف و لا إشكال في عدم وجوب غسل أمر زائد علي الوجه.

فالعمدة في المقام: أن الظاهر صدق الوجه علي موضع الشعر النازل، لعدم الإشكال في عدم صدق الرأس عليه، و لا واسطة بينهما. و لا أقل من الشك الموجب للاحتياط، لما سبق من أن الشك في المحصل.

(1) كما صرح به غير واحد، بل استظهر في الجواهر أن يكون وجوب غسل ما دخل في الحد من اللحية إجماعيا، و نسبه للدروس، و هو ظاهر الناصريات و الخلاف. و يقتضيه ما في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام بعد تحديد الوجه بما تقدم: «قلت له: أرأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال: كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد [علي العباد. الفقيه] أن يطلبوه و لا يبحثوا عنه، و لكن يجري عليه الماء» «1»، إذ بعد التصريح فيه بعدم وجوب غسل ما يستره الشعر لا بد من إرجاع الضمير في قوله عليه السّلام: «يجري عليه» إلي الشعر، أو إلي المستور به بإرادة إجراء الماء عليه من وراء الشعر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 46 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 240

و لا يجب البحث عن الشعر المستور، فضلا عن البشرة المستورة (1).

______________________________

و قد يستدل عليه أيضا بالوضوءات البيانية. و لا يخلو عن إشكال، لإمكان كون غسله تبعيا لا لوجوبه.

كما قد يستدل عليه بدخوله في الوجه عرفا و لو تبعا. و هو قد يتم في مثل شعر الحاجبين، أما اللحية فدخولها عرفا لا يخلو عن إشكال، لأنها طارئة، و من شأنها الاسترسال و الخروج عن حد الوجه، حيث يصعب الجزم ببناء العرف علي التفكيك في صدق الوجه عليهما بين ما حاذي الذقن و ما نزل عنه، مع عدم الإشكال في خروج المسترسل، النازل عن الذقن منها.

(1) كما هو المصرح به في كلامهم، بل في الناصريات و الخلاف دعوي الإجماع عليه. و يستفاد مما ذكروه من عدم وجوب تخليل اللحية، الذي صرح في جامع المقاصد و عن غيره بعدم الخلاف فيه، و عن التذكرة أنه مذهب علمائنا.

و يقتضيه صحيح زرارة المتقدم، و صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن الرجل يتوضأ أ يبطن لحيته؟ قال: لا» «1».

مضافا إلي بعض نصوص الوضوءات البيانية «2» المشتملة علي مسح الوجه حين غسله من دون تكرار المستلزم لعدم غسل ما تحت الشعر، و إن كان الماء قد يصل إلي بعضه. و ما في قصة علي بن يقطين «3»، حيث أمره الإمام عليه السّلام أولا بتخليل اللحية تقية، و أهمله بعد ارتفاع الخوف عنه.

و أما ما في المنتهي من الاستدلال بخبر زرارة أو حسنه عن أبي جعفر عليه السّلام:

«قال: ليس المضمضة و الاستنشاق فريضة و لا سنة، إنما عليك أن تغسل ما ظهر» «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 46 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء.

(3) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 6.

ص: 241

______________________________

فلا يخلو عن إشكال، لقرب كون المراد بما ظهر البشرة الظاهرة و إن كانت مستورة بالشعر في مقابل باطن الجسد، كباطن الأنف و الفم و الإحليل، و لذا يجب غسل المستور بالشعر في الغسل و التطهير من النجاسة، و لا يجري حكم الباطن عليه في ذلك.

هذا، و مقتضي إطلاق جماعة كثيرة و تصريح آخرين- كالفاضلين في المعتبر و المنتهي و الكركي و عن الشهيد في الذكري- عدم الفرق بين الخفيف و الكثيف، و هو المنسوب للمشهور في كلام جماعة، بل مقتضي إطلاق معقد إجماع الخلاف.

و صرح غير واحد بوجوب تخليل الخفيف و غسل ما تحته كالعلامة في القواعد و التذكرة و الشهيد في اللمعة، و هو المحكي عن ابني أبي عقيل و الجنيد و المقداد و غيرهم، و يقتضيه ما في الناصريات من التقييد بالكثيف.

و قد وقع الكلام تبعا لذلك في تحديد الخفيف و الكثيف. لكن حيث لم يكن في الأدلة أثر للعنوانين المذكورين فلا وجه لاطالة الكلام فيهما، بل ليس المناط إلا ما تضمنته الأدلة من إحاطة الشعر و تخليل اللحية، و يستكشف المعيار العملي لذلك من الوضوءات البيانية التي تضمنتها النصوص، فان المستفاد منها الاكتفاء بمسح اليد علي تمام الوجه من دون تكرار بعد إسدال الماء عليه من دون تعميق و تخليل، فان كان يستلزم غسل الشعر و ما تحته فهو، و إلا فلا يجب ما زاد عليه مما يستلزم ذلك.

نعم، لو كان وضع الشعر بنحو غير متعارف، كما لو طال الشارب في جانبي الوجه و فتل حتي ستر قسما من الخد أشكل سقوط غسل البشرة المستورة، لخروجه عن المتيقن من جميع الأدلة المتقدمة.

و كذا لو كان عدم وصول الماء بالمسح مع خفة الشعر لقلة الماء، إما لعدم الصب و الاكتفاء بالمسح باليد الحاملة للماء، أو لقلة المصبوب جدا.

كما لا إشكال في وجوب غسل البشرة الظاهرة التي لا ينبت عليها الشعر كاللمعة، و إن كان المسح المسترسل لا يكفي في وصول الماء إليها، لكثافة الشعر

ص: 242

نعم، ما لا يحتاج غسله إلي بحث و طلب (1) يجب غسله (2).

______________________________

النابت حولها و إن لم يسترها، عملا بعموم دليل وجوب غسل الوجه بعد قصور الأدلة المتقدمة عنه.

(1) تقدم أن المعيار العملي في ذلك علي ما يستفاد من الوضوءات البيانية.

(2) أما وجوب غسل البشرة فلعموم وجوب غسل الوجه.

و دعوي: عدم صدق الوجه علي المستور بالشعر، لأن الوجه مأخوذ من المواجهة.

مدفوعة: بأن أخذ الوجه من المواجهة إنما هو بمعني كونها منشأ للتسمية، من دون أن يدور الاسم مدار فعليتها، فإنه جامد لا مشتق.

و أما الشعر فوجوب غسله يبتني علي دخوله في الوجه حقيقة، أو تبعا، أو علي الإجماع المدعي في جامع المقاصد في الفرع السابع من فروع مبحث الغسل، و لا أقل من قاعدة الاشتغال التي عرفت جريانها في أمثال المقام، و التي يكفي فيها الشك.

لكن الظاهر خروجه عن حقيقة الوجه، بل هو من سنخ النابت فيه، و لا يراد بالوجه عرفا إلا البشرة، كما يناسبه السؤال في الصحيح عما أحاط به الشعر من دون سؤال عن نفس الشعر.

و أما الدخول في الوجه تبعا فهو غير ظاهر أيضا. و مجرد التبعية خارجا لا يكفي في التبعية حكما.

و أما الإجماع فهو غير ثابت بنحو معتد به.

و قاعدة الاشتغال مورودة للإطلاقات الحاكمة بكفاية غسل الأعضاء التي عرفت خروج الشعر عن حقيقتها.

ثمَّ إنه لو تمَّ شي ء مما تقدم فغاية ما يلزم مسح الشعر تبعا للوجه، و إلا فالوضوءات البيانية تقتضي عدم وجوب تخليله بنحو يحصل العلم باستيعاب الماء له. فتأمل.

ص: 243

و كذا الشعر الرقيق النابت في البشرة يغسل مع البشرة (1). و مثله الشعرات الغليظة التي لا تستر البشرة (2) علي الأحوط وجوبا.

مسألة 3 لا يجب غسل باطن العين

(مسألة 3): لا يجب غسل باطن العين. (3)

______________________________

(1) الكلام فيه كما في سابقة.

و إلحاقه بالوجه عرفا غير ظاهر إلا بمعني غفلتهم عن وجوده، لعدم تميزه و استقلاله بالوجود، لا بمعني حكمهم بجزئيته بنحو لا يتحقق غسل تمام الوجه إلا بغسلة.

(2) يجري فيها الكلام السابق أيضا.

(3) العمدة فيه صدق غسل الوجه بدونه، فيكون مقتضي الإطلاق عدم الحاجة له، و لا سيما مع تعارف تغميض العين عند الغسل، بنحو يحتاج إرادة غسله إلي تنبيه و عناية، و لو نبّه عليه لم يخف، لعموم الابتلاء، بل لا ينبغي التأمل فيه بعد النظر في الوضوءات البيانية المتضمنة لغسل مقدم الوجه بإسدال الماء و إمرار اليد من دون تعميق و عناية.

و أما الاستدلال عليه بما تضمن عدم غسل الجوف و ما ليس بظاهر فلا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح خروجه عن الظاهر بعد تعارف ظهوره بسبب تعارف فتح العين، كما أن الظاهر عدم صدق الجوف عليه.

نعم، في النبوي: «افتحوا عيونكم عند الوضوء لعلها لا تري نار جهنم» «1».

لكنه- مع ضعف سنده- ظاهر في الاستحباب.

علي أنه صرح في الخلاف بعدم الاستحباب محتجا بعدم الدليل و بإجماع الفرقة، خلافا لما عن ابن عمر و أصحاب الشافعي، و من هنا يمكن الاستدلال عليه بسيرة المتشرعة، لما هو المعلوم من حالهم من عدم بنائهم علي العناية المذكورة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 53 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 244

و الفم و الأنف (1)

______________________________

(1) بل كل باطن لا يحسب من البشرة الظاهرة.

و الظاهر الاتفاق عليه و إن لم يصرحوا به علي الوجه المذكور، كما يظهر مما ذكره في استحباب المضمضة و الاستنشاق.

و يقتضيه خبر زرارة المتقدم، و صحيح أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: ليس عليك مضمضة و استنشاق، لأنهما من الجوف» «1» و نحوه المرسل عن أبي بصير «2»، و في خبره: «ليس هما من الوضوء، هما من الجوف» «3».

مضافا إلي ما يظهر من بعض نصوص الوضوءات البيانية من الاكتفاء بإمرار اليد من دون تعميق يقتضي مسح هذه البواطن، لاحتياجه إلي عناية تستلزم التنبيه.

نعم، أخبار الوضوءات البيانية لا تنهض بإثبات عدم وجوب غسل البواطن الحادثة بجرح و نحوه، لعدم تعارفها. و كذا روايات الحضرمي و أبي بصير، لعدم صدق الجوف عليها.

فالعمدة في إطلاق عدم وجوب غسل الباطن بالمعني المقابل للظاهر من هذه النصوص خبر زرارة، الذي لا يخلو سنده عن اعتبار، إذ ليس فيه إلا القاسم بن عروة، حيث لم ينص أحد علي توثيقه، إلا أن رواية غير واحد من الأجلاء عنه- كابن أبي عمير، و الحسين بن سعيد و العباس بن معروف و ابن فضال و البزنطي و حماد و ابن شاذان- مع كثرة رواياته و اشتهارها موجب للوثوق به. و من ثمَّ حكي عن العلامة و البهائي تصحيح بعض الروايات التي هو في طريقها.

علي أنه يكفي في الإطلاقات المذكور صدق غسل الأعضاء التي يجب غسلها- كالوجه في المقام- بغسل الظاهر وحده، حيث يكون مقتضي إطلاق دليل شرح الطهارة عدم وجوب غسله، و به يخرج عن قاعدة الاشتغال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 12.

(3) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 9.

ص: 245

و مطبق الشفتين و العينين (1).

مسألة 4 الشعر النابت في الخارج عن الحد إذا تدلي علي ما دخل في الحد لا يجب غسله

(مسألة 4): الشعر النابت في الخارج عن الحد إذا تدلي علي ما دخل في الحد لا يجب غسله (2)، و كذا المقدار الخارج عن الحد، و إن كان نابتا في داخل الحد، كمسترسل اللحية (3).

______________________________

(1) لأن غسلهما محتاج إلي عناية لا يناسبها ما في غير واحد من نصوص الوضوءات البيانية من غسل مقدم الوجه بإسدال الماء علي الجبهة، كما لا يناسبها النظر في حال السيرة.

مضافا إلي صدق غسل الوجه عرفا بدون غسلهما. بل لا يبعد وفاء خبر زرارة بمطبق الشفتين، لعدم كونه من الظاهر.

هذا، و قد حكم في العروة الوثقي بوجوب غسل شي ء من الباطن من باب المقدمة.

و الظاهر أنه يكفي المسح بالنحو المتعارف المستفاد من نصوص الوضوءات البيانية.

(2) لأن تدليه لا يوجب دخوله في الوجه عرفا، و لا يوجب صدق كون ما تحته مما أحاط به الشعر حتي يجب إجراء الماء عليه بدلا عنه.

(3) و هو ما خرج عن محاذاة الذقن منها، حيث صرحوا بعدم وجوب غسله، بل ظاهر جامع المقاصد و صريح كشف اللثام و المدارك الإجماع عليه منا.

بل في الخلاف أن عدم وجوب الغسل إجماعي من المسلمين، و أن الخلاف إنما هو في إفاضة الماء عليها، مع الإجماع منا علي عدم وجوبه أيضا.

و يقتضيه- مضافا إلي خروجه عن الوجه عرفا- التنصيص في صحيح زرارة علي أن حد الوجه من الأسفل الذقن.

نعم، في صحيح زرارة الحاكي لوضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله: «و سدله علي أطراف لحيته». «1».

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 246

مسألة 5 إذا بقي مما في الحد شي ء لم يغسل و لو بمقدار رأس إبرة لا يصح الوضوء

(مسألة 5): إذا بقي مما في الحد شي ء لم يغسل و لو بمقدار رأس إبرة لا يصح الوضوء (1)، فيجب أن يلاحظ آماق (2) و أطراف عينيه لا يكون عليها شي ء من القيح أو الكحل المانع (3).

______________________________

لكنه قد يكون ناشئا عن طبع الماء، لا لوجوبه، بل و لا استحبابه. و منه يظهر الاشكال فيما عن الذكري و الدروس من الاستدلال به علي الاستحباب، بعد حكايته عن ابن الجنيد.

(1) سواء كان عن عمد أم سهو، كما هو مقتضي القاعدة في المركبات الارتباطية. و يشهد به في خصوص المقام ما في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام الوارد في الشك في الوضوء بعد الفراغ: «و إن تيقنت أنك لم تتم وضوءك فأعد علي ما تركت يقينا حتي تأتي علي الوضوء» «1» و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: ان ذكرت و أنت في صلاتك أنك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك فأتم الذي نسيته من ضوئك و أعد صلاتك.» «2» و خبر سهل: «سألت الرضا عليه السّلام عن الرجل يبقي من وجهه موضع لم يصبه الماء، فقال:

يجزيه أن يبله من بعض جسده» «3».

(2) جمع: مأق، و هو طرف العين من جانب الأنف، الذي هو مجري الدمع منها، أو مقدمها أو مؤخرها. كذا في القاموس. و ذكر أن مفرده يأتي بصيغ كثيرة لا يهم ذكرها.

(3) أما مجرد الكحل الموجب للّون فلا يمنع من استيلاء الماء، و إن أمكنت إزالته بمسح و نحوه. كما قد يشهد به ما دل علي جواز إبقاء أثر الطيب و نحوه في البدن بعد الغسل «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 43 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(4) راجع الوسائل باب: 30 من أبواب الجنابة.

ص: 247

و كذا يلاحظ حاجبه (1) لا يكون عليه شي ء من الوسخ، و أن لا يكون علي حاجب المرأة وسمة أو خطاط له جرم مانع.

مسألة 6 إذا تيقن وجود ما يشك في مانعيته يجب تحصيل اليقين بزواله

(مسألة 6): إذا تيقن وجود ما يشك في مانعيته يجب تحصيل اليقين بزواله أو وصول (2) الماء إلي البشرة (3).

______________________________

(1) سواء كان علي البشرة أم علي الشعر، بناء علي وجوب غسل الشعر مطلقا أو خصوص شعر الحاجب.

نعم، لو كان الشعر محيطا بالبشرة، بحيث لا يصل الماء إليها بإجرائه لم يضر وجود الحاجب عليها، بل لا بد من وصول الماء للشعر لا غير.

(2) كذا عبر في العروة الوثقي أيضا. إلا أن من الظاهر أن المهم هو اليقين بوصول الماء إلي البشرة، و لا أهمية لليقين بزوال مشكوك الحاجبية إلا لملازمته له، فهو في طوله، لا في عرضه بنحو يكونان طرفي التخيير.

(3) كما هو مقتضي ما عن الذكري من وجوب تحريك الخاتم و السوار و الدملج أو نزعها إذا لم يعلم جري الماء تحتها. لقاعدة الاشتغال الجارية في موارد الشك في الامتثال.

و أصالة عدم مانعية الشي ء، أو عدم وجود المانع لا تنفع إلا بناء علي الأصل المثبت، لأن الأثر ليس إلا لوصول الماء للبشرة اللازم للعدمين المذكورين.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن استصحاب عدم مانعية الموجود مبني علي جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية، و لو جري لم يبعد الاجتزاء به و خروجه عن الأصل المثبت، إذ لا يبعد أن يكون عدم مانعيته عين وصول الماء إلي البشرة، لا أمرا آخر ملازما له.

فهو كما تري! إذ مانعية الشي ء من وصول الماء ليست من لوازم وجوده، بل من الطوارئ اللاحقة له بعد إصابته للبشرة، فلا يبتني استصحابها علي استصحاب العدم الأزلي كما أن التباين بين عدم المانعية و وصول الماء للبشرة أظهر من أن يخفي علي مثله قدّس سرّه.

ص: 248

______________________________

بل كيف يجتمع ما ذكره مع ما هو المعلوم من عدم ابتناء استصحاب عدم وصول الماء إلي البشرة علي استصحاب العدم الأزلي.

و مثله في الاشكال تفريقه بين الأصل المذكور و أصالة عدم وجود المانع بعدم حجية الثاني أولا: لأنه لا يحرز وصول الماء للبشرة إلا بالملازمة، و ثانيا: لأنه لا يحرز عدم مانعية الموجود إلا كذلك.

إذ لا وجه للجمع بين الوجهين بعد فرض اتحاد الملزومين.

مع الإشكال في الأول بعدم وضوح الفرق فيه بين الأصلين، و في الثاني بعدم كون موضوع الأثر حاجبية الموجود حتي يهم عدم إحرازه.

و قد يستدل علي ما ذكرنا بصحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخاتم إذا اغتسلت، قال: حوله عن مكانه، و قال في الوضوء: تدره، فان نسيت حتي تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة» «1»، فإن من القريب كون الأمر بالتحويل و الإدارة طريقي لإحراز وصول الماء، لا مقدمي لفرض توقف وصول الماء عليه، فانّ فرض العلم بعدم وصول الماء معه بعيد في نفسه، فإرادته محتاجة إلي عناية، فيبعد حمل الكلام عليها، و الغالب هو حصول الاحتمال.

و أبعد منه احتمال كون ذلك شرطا في الوضوء زائدا علي وصول الماء، أو مطلوبا نفسيا حينه، كما يناسبه استدلال بعضهم بالصحيح علي استحباب تحريك الخاتم مع سعته.

هذا، و في صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن المرأة عليها السوار و الدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحته أم لا، كيف تصنع؟

قال: تحركه حتي يدخل الماء تحته أو تنزعه. و عن الخاتم الضيق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا كيف تصنع؟ قال: إن علم أن الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ» «2». و ظاهر ذيله عدم وجوب الاحتياط، علي خلاف ما في المصدر المطابق لما عرفت من القاعدة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 249

______________________________

و قد ذكر في الجواهر أن الصدر مقدم علي الذيل، لأن دلالته بالمنطوق، و لأنه أخص، لاختصاصه بصورة الشك، و شمول المفهوم في الذيل له و لصورة العلم بعدم المانعية من جريان الماء.

و فيه: أن اختصاص السؤال في الذيل بالشك موجب لقوة ظهوره في المفهوم و صعوبة تقييده بصورة العلم بعدم المانعية، لاستلزامه لغوية التقييد بالشرط، و إخراج المورد، فلا يكون الجمع المذكور عرفيا.

و مثله ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الجمع بينهما بحمل الذيل علي إرادة العلم بعدم كون الخاتم بحيث يدخل الماء تحته دائما، فالنفي و إن سلط لفظا علي الدخول، إلا أنه راجع إلي استمرار الدخول المستفاد من الكلام.

و كأنه أراد بدخوله دائما سهولة دخوله و اطراده، فالعلم بعدمه لا ينافي احتمال الدخول الذي هو مورد السؤال و محل الكلام.

بل قرّب قدّس سرّه ظهور الكلام في ذلك بنفسه مع قطع النظر عن مقام الجمع، لئلا يلزم إيكال بيان حكم مورد السؤال إلي المفهوم المفاد تبعا و عدم التصدي لبيانه في المنطوق، الذي هو خلاف الظاهر.

و بالجملة: المعني المذكور هو الظاهر في نفسه من الكلام، فيغني عن الجمع بحمل الصدر علي الاستحباب.

وجه الاشكال فيه: أن ارادة الشك الذي هو مورد السؤال بمثل هذه العبارة بعيد جدا، بل مستهجن لا ينبغي حمل كلام الامام عليه السّلام عليه. مع أن مقتضاه عدم وجوب الاحتياط لو شك في حال الخاتم، و أنه مما يدخل الماء تحته دائما أو لا، و هو لا يناسب الصدر أيضا.

و التصدي لبيان حكم مورد السؤال بالمفهوم دون المنطوق و إن لم يخل عن شي ء، إلا أنه أهون بكثير من الحمل المذكور.

نعم، الجمع بحمل الصدر علي الاستحباب بعيد أيضا، لصعوبة التفكيك في الكلام الواحد بحمل بعضه علي الوجوب و بعضه علي الاستحباب مع وحدة السياق.

ص: 250

______________________________

و لعله لذا ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أن الجمع العرفي بينهما بعيد، فيلحقه حكم المجمل، و يرجع إلي القاعدة المتقدمة.

لكنه مبني علي أن يكون المجموع كلاما واحدا، حيث يكون تنافي مضامينه موجبا لإجماله.

و هو غير ظاهر، لما أشرنا إليه في بعض المواضع المتقدمة من أن الفصل بين الكلامين بمثل: «و عن» ظاهر في تعدد السؤال و الكلام، كما قد يؤيده رواية الشيخ قدّس سرّه للذيل وحده بطريق مستقل، و روايته في قرب الاسناد بتقديم الذيل علي الصدر مع الفصل بينهما بقوله: «و سألته» مضافا إلي بعد اختصاص الخاتم باحتمال يقتضي تخصيصه بالسؤال بعد السؤال عن السوار و الدملج.

و عليه يلحقه حكم الروايتين المتعارضتين، حيث قد يتجه الجمع بينهما بحمل الصدر علي الاستحباب.

و ربما يبتني عليه ما في المعتبر و القواعد و المنتهي و المدارك و محكي المبسوط و غيرها من وجوب التحريك و النزع مع المنع من وصول الماء و الاستحباب بدونه، مع تعليل الاستحباب في غير واحد منها بالاستظهار، فان الاستظهار فرع الاحتمال، فيحمل حكمهم بالوجوب مع المنع علي العلم بالمنع، بل في الشرائع: «و من كان في يده خاتم أو سير فعليه إيصال الماء إلي ما تحته، و إن كان واسعا استحب له تحريكه»، مع وضوح أن سعته لا تستلزم العلم باستيلاء الماء علي تمام ما تحته من دون تحريك، فما ذكروه لا يلائم القاعدة المتقدمة. قال الوحيد في حاشية المدارك: «إن لم يحصل العلم بالوصول فلا بد من التحريك أو النزع، تحصيلا للعلم بالامتثال و البراءة اليقينية. و إن حصل العلم فكيف يتأتي الاستظهار.».

لكن الإنصاف أن احتمال تعدد الكلام و إن كان قريبا، إلا أن في بلوغه حد الحجية بنحو يرفع الاجمال إشكالا. كالإشكال في كون الجمع المذكور عرفيا، لأن سبب التنافي بينهما صعوبة التفكيك عرفا بين موضوعي الحكمين، لا تنافي الحكمين نفسهما، مع وحدة موضوعهما كي يتجه الجمع المذكور.

ص: 251

و أطراف عينيه لا يكون عليها شي ء من القيح أو الكحل المانع (1).

______________________________

و كذا الإشكال في استفادة ذلك من الأصحاب، فإن إرادتهم لمثل هذا الأمر المخالف للقواعد بمثل هذا البيان بعيد جدا، و الالتزام بإجمال تعليلهم للاستحباب أو تأويله بما أشار إليه الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن الاستظهار حكمة لا علة أهون.

و عليه إن أمكن العمل بالذيل في مورده- و هو الخاتم- فهو المتعين، و إلا تعين التوقف عن الحديث المذكور، و العمل بما تقدم من القاعدة في الجميع.

و هو الأظهر، لصعوبة التفكيك عرفا بين الخاتم و غيره. و لا سيما مع ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من استبعاد إيكال بيان مورد السؤال إلي المفهوم و إهماله في المنطوق، فان هذا مما يثير احتمال التصحيف في الذيل و أن النفي في الواقع مسلط علي العلم لا علي الدخول.

و من جميع ما تقدم يظهر الاشكال فيما عن الذكري من الاستدلال علي ما تقدم منه من وجوب الاحتياط في الخاتم و السوار و الدملج بقوله: «لصحيح علي بن جعفر عن أخيه الكاظم قدّس سرّه في الثلاثة، و حكم غيرها حكمها».

(1) عملا بالقاعدة المتقدمة.

لكن حكي شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن بعضهم دعوي الإجماع علي عدم وجوب الفحص، و عن آخر دعوي استقرار السيرة عليه، و أنكر الأمرين. قال قدّس سرّه:

و أما الإجماع فالحدس القطعي بتحققه غير حاصل، لعدم تعرض جل الأصحاب لهذا الفرع بالخصوص. و أشكل منه دعوي استقرار السيرة. إذا الغالب عدم التفات الناس إلي احتمال وجود الحاجب أو اطمئنانهم بعدمه علي وجه لا يعبأون بمجرد إمكان وجوده.

مع أن دعوي الإجماع و السيرة في بعض أفراد هذا الشك- مثل الشك في وجود قلنسوة علي الرأس أو جورب في الرجل أو وجود لباس آخر علي البدن أغلط من ذلك- مجازفة. و الفرق بين كون الحاجب المشكوك في وجوده رقيقا أو غليظا اقتراح. و الحوالة علي موارد السيرة فرار عن المطلب».

ص: 252

______________________________

و ما ذكره قدّس سرّه متين جدا.

و ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن غفلتهم مسببة عن عدم اعتنائهم بالاحتمال، تحكم.

و كذا ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن عدم السيرة في مثل الشك في وجود القلنسوة لعدم الشك أو ندرته، لا للاعتناء بالشك، كي يشكل الفرق بينه و بين غيره.

إذ فيه: أنه بعد فرض عدم الشك أو ندرته كيف تحرز السيرة الارتكازية من المتشرعة بما هم متشرعة علي عدم الاعتناء بالاحتمال لو فرض تحققه. بل الاعتناء منهم هو الظاهر لو لم يكن مقطوعا به. و لا سيما مع وجود منشأ مهم معتد به للاحتمال.

و منه يظهر حال ما في الجواهر من الإصرار علي السيرة بلحاظ ما تعارف من عدم اختبار البدن عند الوضوء و الغسل، مع قيام الاحتمال غالبا، لمكان قذي البراغيث و القمل و نحوهما.

لاندفاعه: بالغفلة عن ذلك، لقلة الابتلاء بلصوق مثل ذلك، بل هو ينفصل غالبا بحركة البدن و نزع الثياب و نحوهما، و لا سيما مع غلبة كون الغسل بإمرار الماء بالمسح باليد الموجب لزوال مثل هذه الموانع لو فرض لصوقها، و لا يتهيأ لنا الجزم بالسيرة من غير أهل التسامح علي عدم الاختبار لو فرض الالتفات و احتمال لصوق مثل ذلك بنحو لا يكفي في زواله ما ذكرنا، مع كون الاحتمال عقلائيا، لا من سنخ الوسواس.

و أما الاستدلال بأصالة عدم المانع، إما لدعوي كونه أصلا عقلائيا ثبت إمضاؤه شرعا، كأصالة عدم القرينة، أو لكونه من صغريات الاستصحاب الشرعي لما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من خفاء الواسطة في بعض الموارد.

فهو غير ظاهر، لعدم وضوح بناء العقلاء علي الأصل المذكور في مقام التعذير و التنجيز، و لا محرز للإمضاء إلا السيرة التي عرفت حالها. فتأمل. و لعدم تمامية خفاء الواسطة صغرويا و لا كبرويا.

مع أنه لو تمَّ اقتضي عدم وجوب الاحتياط مع الشك في حاجبية الموجود،

ص: 253

علي الأحوط وجوبا، إلا مع الظن بعدمه (1).

مسألة 7 الثقبة في الأنف موضع الحلقة أو الخزامة لا يجب غسل باطنها

(مسألة 7): الثقبة في الأنف موضع الحلقة أو الخزامة لا يجب غسل باطنها (2)،

______________________________

بل تمامية قاعدة المقتضي و المانع، و لم يلتزم بذلك.

علي أنه لا ضابط للموارد التي قصدها، بل لا يتضح الوجه في الفرق بين الموارد.

و مثله الاستدلال بقاعدة المقتضي، لما أشرنا إليه غير مرة من عدم ثبوتها، فلا مجال للخروج عما عرفت من القاعدة.

(1) لما ذكره قدّس سرّه من أنه المتيقن من السيرة التي تقدم الإشكال في أصل ثبوتها.

و منه يظهر الإشكال في الاكتفاء بالاطمئنان، كما صرح به في العروة الوثقي و غيرها. إلا أن يرجع إلي حجية الاطمئنان بنفسه. و هو لا يخلو عن إشكال، كما أشرنا إليه في أواخر الكلام في طرق ثبوت العدالة.

هذا، و قد حكم السيد الأصفهاني قدّس سرّه في حاشيته علي العروة الوثقي بعدم وجوب الفحص إذا لم يكن للاحتمال منشأ عقلائي.

فإن أراد ما إذا كان الاحتمال من سنخ الوسواس و الاقتراح الخارج عن المتعارف، و الذي يصح عرفا أن ينسب للشيطان، فهو في محله، لعدم الاعتداد بذلك في كل شي ء، و لا يتحقق معه موضوع قاعدة الاشتغال. و لعله هو الذي أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في كلامه السابق عند ذكر الاطمئنان.

و إن أراد أمرا آخر فالدليل عليه غير ظاهر.

(2) لما تقدم من عدم وجوب غسل الباطن. و مثلها في ذلك ثقبة القرط في الأذنين.

لكن صدق الباطن في الموردين موقوف علي كونها بحيث لو خليت

ص: 254

بل يكفي غسل ظاهرها، سواء أ كانت فيها الحلقة أم لا (1).

الثاني: غسل اليدين
اشارة

الثاني: يجب غسل اليدين (2) من المرفقين إلي أطراف

______________________________

و نفسها لانضمت أطرافها و لم تظهر للناظر. بل لا يبعد توقفه مع ذلك علي قوة تماسكها بحيث يحتاج انفراجها و إيصال الماء إليها إلي عناية، و إلا كانت كعنكة البطن محسوبة من الظاهر.

و لا أقل من الشك الملزم بالاحتياط، حيث أنه المرجع في جميع موارد الشك في كون الشي ء من الظاهر بنحو الشبهة المفهومية، بل المصداقية إذا لم يكن مسبوقا بكونه من الباطن. فتأمل جيدا.

(1) لأن انفراجها بالحلقة لا يدخلها في الظاهر، كانفراج اللحم بغرز إبرة أو نحوها فيه.

فرع:

الظاهر أنه لا يتعين غسل الوجه باليمني، بل يجوز باليسري وحدها أو معها كما في المستند و عن النفلية و الفوائد الملية، بل في مفتاح الكرامة أنه ظاهر الأصحاب لإطلاق الكتاب و كثير من النصوص.

و ما في بعض نصوص الوضوءات البيانية لا يصلح للاستحباب، فضلا عن الوجوب، لينهض بالتقييد، و لا سيما أنّ في صحيح بكير و زرارة أو موثقهما: «ثمَّ غمس كفه اليمني في التور، فغسل وجهه بها، و استعان بيده اليسري بكفه علي غسل وجهه.» «1». و لذا يأتي في المسألة الثالثة عشرة جواز الوضوء بالارتماس.

و منه يظهر ضعف ما في المراسم من أن غسل الوجه بيد واحدة و هي اليمني.

(2) بالإجماع، كما في المنتهي، و بإجماع المسلمين، كما في المعتبر، بل

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 11.

ص: 255

الأصابع (1). و يجب الابتداء بالمرفقين (2)

______________________________

لعله من ضروريات الدين. و يقتضيه الكتاب المجيد و السنة المتواترة.

(1) كما هو مقتضي التحديد بالمرفقين في الكتاب المجيد و بعض النصوص البيانية و غيرها. و يأتي منه قدّس سرّه دخول المرفق في المغسول.

(2) مما تقدم في الوجه يظهر أن وجوب الابتداء من المرفق هنا أشهر قائلا من وجوب الابتداء بالأعلي هناك، فقد صرح غير واحد بعدم رد الشعر هنا و لم يتعرض له هناك، بل حكي عن ابن سعيد و المرتضي في أحد قوليه وجوب البدء بالمرفقين مع تصريحهما بعدم وجوب البدء بالأعلي في الوجه، بل يظهر من التبيان دعوي الإجماع علي وجوب الغسل من المرفقين، و هو المحكي عن بعض حواشي الألفية، و ان حكي عنهما دعواه هناك أيضا كما تقدم.

لكن تقدم أنه لا مجال لدعواه هناك. كما لا مجال لدعواه هنا أيضا بعد ظهور المخالف فيه، فقد قال في المبسوط: «و يكون الابتداء من المرافق إلي رؤوس الأصابع، و لا يستقبل الشعر، فان خالف و غسل إليها فالظاهر أنه لا يجزيه، و في أصحابنا من قال: يجزيه، لأنه غاسل»، و جعل في المعتبر المسألة ذات قولين، و هو صريح المرتضي في الناصريات و الانتصار و حكاه في الثاني عن كتاب مسائل الخلاف و الموصليات له، كما حكي عن المصباح له أيضا، و عن السرائر و هو ظاهر اشارة السبق، لأنه جعل ترك كسر الشعر في غسل الذراعين من السنن، و في الحدائق أنه مال إليه جمع من المتأخرين و متأخريهم.

و كيف كان، فقد يستدل عليه هنا.

تارة: بنصوص الوضوءات البيانية التي بعضها هنا أظهر، ففي صحيح زرارة و بكير: «فأفرغ علي ذراعه اليمني، فغسل بها ذراعه من المرفق إلي الكف لا يردها إلي المرفق» «1» و قد روي بطريق آخر «2» بألفاظ أخري تقرب من ذلك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 11.

ص: 256

______________________________

و اخري: ببعض النصوص الآمرة به، ففي مرسل العياشي عن صفوان عن الرضا عليه السّلام: «قلت: فإنه قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ فكيف الغسل؟ قال:

هكذا أن يأخذ الماء بيده اليمني فيصبه في اليسري ثمَّ يفيضه علي المرفق ثمَّ يمسح إلي الكف. قلت: يرد الشعر؟ قال: إذا كان عنده آخر فعل، و إلا فلا» «1».

و بملاحظة صدره يظهر أنه لا مجال لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من المناقشة في ذيله باحتماله رفع الوجوب الثابت حال التقية.

و في خبر الإرشاد في قضية علي بن يقطين بعد أمر الكاظم عليه السّلام له بالغسل إلي المرفقين ثلاثا للتقية كان فيما كتب عليه السّلام له بعد ذهاب الخوف عنه: «و اغسل يديك من المرفقين» «2» و فيما عن كشف الغمة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله: «فعلمه جبرئيل الوضوء علي الوجه و اليدين من المرفق» «3».

و ثالثة: بخبر الهيثم بن عروة التميمي- الذي هو معتبر سندا، بناء علي ما تقدم في مطهرية المضاف من الحدث من اعتبار سهل بن زياد-: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالي فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ فقلت:

هكذا؟ و مسحت من ظهر كفي إلي المرفق، فقال: ليس هكذا تنزيلها، إنما هي فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ من [إلي. خ. ئل] الْمَرٰافِقِ، ثمَّ أمرّ يده من مرفقه إلي أصابعه» «4» و نحوه في بيان تنزيل الآية عن الباقر عليه السّلام ما حكي عن كتاب الاستغاثة «5».

و يشكل الأول بعدم ظهور الوضوءات البيانية في الوجوب، علي ما تقدم في غسل الوجه.

و الثاني بضعف النصوص المذكورة.

______________________________

(1) تفسير العياشي ج: 1 ص: 3 تفسير سورة المائدة حديث: 54.

(2) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 24.

(4) الوسائل باب: 19 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(5) مستدرك الوسائل باب: 18 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 257

______________________________

مضافا إلي ما في الأول من الأمر بأخذ الماء باليمني و صبه في اليسري الذي لا إشكال في عدم وجوبه، حيث قد يكشف عن كون المسؤول عنه الكيفية المستحبة لا الواجبة.

و مثله الثاني، لبعد خفاء كيفية الوضوء الواجبة علي علي بن يقطين حتي يسأل عنها، و لا سيما مع اشتمال الجواب في بيان وضوئنا و وضوء العامة علي بعض المستحبات عندنا و عندهم.

و ما في الثالث من احتمال كون: «من» لتحديد المغسول، لا لمبدإ الغسل.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر الأول السؤال عن كيفية نفس الغسل، و أخذ الماء باليمني ليس من الغسل، بل من مقدماته، فالتفضل ببيانه لا يكشف عن كون السؤال عن الكيفية المستحبة.

كما أن المقابلة في الثاني بين الفريضة و الإسباغ ظاهر في وجوب القيد، لقوله عليه السّلام: «توضأ كما أمرك اللّه تعالي اغسل وجهك مرة فريضة، و اخري إسباغا، و اغسل يديك من المرفقين كذلك».

كما أن «من» في الثالث ظاهرة في بيان مبدأ الفعل، كما هو الحال في سائر موارد وقوعها بعد الافعال التدريجية.

بل العدول عما تضمنته الآية الكريمة من التعبير ب «إلي» إلي التعبير ب «من» موجب لقوة ظهورها في ذلك جدا.

و أما الثالث فقد يستشكل فيه بمخالفته للقراءة المتواترة.

و حمله علي بيان المراد من التنزيل، لا حقيقته- كما استظهره سيدنا المصنف قدّس سرّه- خلاف ظاهره، و لذا فهم منه الشيخ قدّس سرّه اختلاف القراءة.

فالعمدة في الجواب عن ذلك: أن ما تضمنه الحديث من اختلاف التنزيل عما عليه الناس و إن كان غامضا ينبغي رده إلي قائله عليه السّلام إلا أنه لا يمنع من العمل بظاهره من وجوب البدء بالمرفق و الردع عن النكس، لوضوح أن السؤال و الجواب منصب إليه، و التعرض للتنزيل كان تبعا له.

ص: 258

______________________________

و لا سيما بعد تأيده باشتهار الحكم بين الطائفة، و بالنصوص السابقة، و بمفهوم النصوص المتضمنة أن مسح الرجلين يجوز فيه النكس و أنه من الأمر الموسع «1»، فإنه مشعر بخصوصية المسح في ذلك في الجملة.

و الظاهر الاكتفاء بذلك في البناء علي الوجوب، و الخروج عن إطلاق الآية الشريفة و بعض النصوص.

و توهم ظهور الآية في مشروعية النكس و الانتهاء بالمرفقين، لظهور «إلي» في ذلك، فعدم حملها علي الوجوب، للإجماع منا و من جميع المسلمين- كما قيل- عدا الناصر و بعض نصوص الوضوءات البيانية و غيرها، لا يمنع من دلالتها علي المشروعية، فلا مجال لتقييدها بوجوب البدء بالمرفقين.

مدفوع: بعدم ظهور «إلي» في ذلك، لأن الاكتفاء بتحديد الفعل بالغاية غير مألوف في الاستعمال، و إنما يكتفي بتحديده بالمبدإ، كما تقدم في خبر كشف الغمة.

مضافا إلي أنه لما كان ظاهر التقييد الوجوب فالظاهر بعد تعذر الحمل عليه- لما تقدم- ليس هو الحمل علي الجواز، بل حمل «إلي» علي تحديد المغسول، أو علي ما قيل من كونها بمعني «مع» فتكون مطلقة قابلة للتقييد بما عرفت.

ثمَّ إنه قد استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه علي عدم جواز النكس بما في صحيح زرارة المروي في الفقيه من قول أبي جعفر عليه السّلام: «و لا تردّ الشعر في غسل اليدين» «2».

و فيه: أن ظاهر الفقيه كون ذلك فتوي من الصدوق بعد انتهاء الصحيح ببيان حكم ما أحاط به الشعر، لا تتمة له. و لذا لم يشر إليه في الوسائل، و لا في كتب الاستدلال. فلاحظه.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 30 من أبواب الوضوء.

(2) الفقيه باب: حد الوضوء و ترتيبه و ثوابه في ذيل الحديث الأول 1: 28 طبع النجف الأشرف.

ص: 259

ثمَّ الأسفل منهما فالأسفل عرفا إلي أطراف الأصابع (1)، و المقطوع بعض يده يغسل ما بقي (2).

______________________________

(1) تقدم أن جماعة من الأصحاب عبروا بعدم استقبال الشعر، الذي هو بمعني عدم النكس، كما عبر آخرون بالبدء بالمرفقين، و لا يبعد رجوعهما لما ذكر في المتن، لأنه الذي تساعد عليه الأدلة المتقدمة بعد تنزيل بعضها علي بعض، بل خبر الهيثم الذي هو العمدة في المقام ظاهر فيه بنفسه.

هذا و قد تقدم في غسل الوجه ما له نفع في المقام. فراجع.

(2) إجماعا، كما في المدارك، و اتفاقا، كما في كشف اللثام، و هو قول أهل العلم، كما في المنتهي، و ظاهر غير واحد المفروغية عنه.

و يستدل عليه.

تارة: بالاستصحاب مطلقا، أو فيما لو كان القطع بعد الوقت.

و اخري: بقاعدة الميسور.

و ثالثة: بغير واحد من النصوص، كصحيح رفاعة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الأقطع، فقال: يغسل ما قطع منه» «1» و صحيحه الآخر عنه عليه السّلام [2]: «سألته عن الأقطع اليد و الرجل كيف يتوضأ؟ قال: يغسل ذلك المكان الذي قطع منه» «3» و صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن الأقطع اليد و الرجل. قال:

يغسلهما» «4» و صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن رجل قطعت يده من المرفق كيف يتوضأ؟ قال: يغسل ما بقي من عضده» «5».

لكن الاستصحاب المذكور لا يخلو عن إشكال، لأن غسل الأعضاء ليس

______________________________

[2] ربما يكون هذا الصحيح عين الأول و الاختلاف بينهما ناشئ عن النقل بالمعني. منه عفي عنه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 49 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 49 حديث: 47.

(4) الوسائل باب: 49 حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 49 حديث: 2.

ص: 260

______________________________

واجبا لنفسه، بل لسببيته للطهارة الواجبة، فإن أريد استصحاب وجوب الطهارة فالشك ليس فيه، بل في القدرة عليها، و إن أريد استصحاب القدرة عليها فهو لا يقتضي تحققها بفعل الناقص إلا بالملازمة.

و قاعدة الميسور غير ثابتة، لضعف نصوصها دلالة و سندا.

علي أنها قاصرة عن المقام، لاختصاصها بالواجب المركب، و لا تركب هنا في نفس الواجب- و هو الطهارة- بل في سببه.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن شمول القاعدة لمثل ذلك كاشف عن تحقق الغرض بفعل الميسور.

فيندفع بأن المدعي قصورها عن المقام تخصصا.

اللهم إلا أن يدعي غفلة العرف في مثل ذلك عن كون الواجب هو الأمر البسيط المسبب عن المركب و تخيلهم وجوب نفس المركب، و حيث كان مقتضي الإطلاق المقامي للخطاب إيكال تطبيقه للعرف و عدم اعتماد الدقة فيه، كان مقتضي الإطلاق شموله. و لا يخلو عن إشكال.

و أما النصوص فلا تخلو عن إجمال، لأن التعبير في الأولين لا يناسب المدعي، بل المناسب التعبير بغسل ما بقي، فلا بد في توجيه دلالتهما علي المدعي من أحد وجهين.

الأول: ما قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من حمل الأقطع علي القطع من دون المرفق، و يراد بهما وجوب الغسل إلي المكان الذي قطع منه، إما لظهور الأقطع في ذلك، أو للإجماع علي عدم وجوب غسل موضع القطع إذا كان فوق المرفق.

الثاني: ما يظهر من الفقيه الهمداني قدّس سرّه من حملهما علي بيان وجوب غسل الموضع الذي ظهر بالقطع بدلا عما قطع، مع المفروغية عن عدم وجوب غسل غير ما وجب غسله قبل القطع و عدم سقوط غسل ما بقي مما كان يجب غسله قبل القطع، للإجماع علي الأول و عدم تشكيك العرف في الثاني

ص: 261

______________________________

بعد اطلاعهم علي عدم سقوط الوضوء بسبب القطع، إذ كما يجب غسل بقية الأعضاء يجب غسل ما بقي من المقطوع، لعدم الفرق بينها في الارتباطية المفروضة.

لكن الأول مخالف للظاهر.

و ظهور الأقطع في خصوص من قطعت يده دون المرفق ممنوع. بل لا يبعد كون المنصرف منه في المقام من قطع منه تمام العضو الذي يجب غسله، كناية عن ارتفاع موضوع أحد أركان الوضوء، بل لا ينبغي الإشكال في كون ذلك هو الأظهر في الرجل، لعدم وضوح صدق الأقطع علي من قطع منه ما دون الكعب، فيكونان ظاهرين في الأمر بغسل موضع القطع.

و الإجماع علي عدم وجوبه مع القطع من فوق المرفق لا يصحح عرفا حملهما علي خصوص القطع من دون المرفق، بل غاية الأمر عروض الاجمال لهما أو حملهما علي الاستحباب، كما يأتي من بعضهم.

و الثاني- مع ابتنائه علي حمل الحديثين علي خصوص القطع مما دون المرفق- راجع إلي الاستدلال علي وجوب غسل تمام الباقي بالإجماع لا بالنصوص، غايته أنه يتضمن تنزيل النصوص علي ما لا ينافي الإجماع.

و منه يظهر الحال في الثالث، فإن استفادة المدعي منه موقوفة علي حمله علي القطع مما تحت المرفق و الكعب و حمل غسلهما علي غسل ما بقي في الحد، لا غسل تمام العضو، فيجري فيه ما تقدم في الثاني.

مضافا إلي ما فيهما من غسل الرجل. إلا أن يحمل علي بيان أن القطع لا يسقط الغسل، و يكون تعميمه للرجل تقية، أو يكون التعبير بالغسل للتغليب، و المراد ما يعم المسح.

بل ربما يدفع الإشكال من أصله في الثالث بحمله علي غسل الرجلين في الغسل، لا في الوضوء.

ص: 262

______________________________

و إن كان قد يبعده ظهوره في خصوصية العضوين في العمل.

كما أن استفادة المدعي من الرابع موقوفة علي ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه- و سبقه إليه في الحدائق- من حمله علي بقاء المرفق و حمل غسل ما بقي من العضد علي غسل ما بقي مما يجب غسله- و هو المرفق- الذي هو بعض العضد، بجعل «من» للتبعيض متعلقة بكون عام أو ب «يغسل» لا بيانا للموصول، و لا متعلقة ب «بقي».

قال قدّس سرّه: «إذ الأول خلاف الظاهر، و لو كان هو المراد لقال: فليغسل عضده، و الثاني خلاف فرض القطع من المرفق، و إنما يصح لو كان القطع لبعض العضد، مع أن في الإجماع المتقدم كفاية في وجوب الحمل علي ما عرفت».

لكن المعني الذي ذكره بعيد جدا عن ظاهر التركيب اللفظي، و لو أريد لكان الأنسب التعبير بغسل المرفق.

و الظاهر هو الثاني بحمل القطع من المرفق علي قطع المرفق مع الذراع- كما لعله الظاهر في نفسه في المقام- فيكون الباقي بعض العضد.

و مخالفته للإجماع المدعي لا يصحح الحمل علي ما ذكره عرفا، بل يوجب إجمال الحديث أو حمله علي الاستحباب.

و قد تحصل: أنه لا مجال لاستفادة المدعي من النصوص المذكورة، و أنها بين أن تكون ظاهرة في القطع مما فوق المرفق و محتملة له.

فالعمدة: الإجماع المشار إليه الكاشف عن ثبوت الحكم المذكور، لامتناع خفاء الحكم في مثل ذلك مما يكثر الابتلاء به. و لا سيما مع أن البناء علي مقتضي الارتباطية كما يقتضي سقوط غسل العضو المقطوع منه يقتضي سقوط تمام الوضوء، بل تعذر الطهارة الترابية أيضا، لمشاركة التيمم للوضوء في الارتباطية، فتسقط الصلاة تبعا لذلك، و هو ضروري البطلان.

و التفكيك في الارتباطية بين بقية العضو المقطوع و سائر أعضاء الوضوء مما

ص: 263

و لو قطعت من فوق المرفق سقط وجوب غسلها (1)،

______________________________

تأباه المرتكزات العرفية جدا، كما تقدم من الفقيه الهمداني قدّس سرّه، فان ذلك ملزم عرفا بحمل وجوب غسل أو مسح كل شي ء علي كونه معلقا علي فرض وجوده، لا مطلقا، ليلزم سقوط غسل العضو أو تمام الوضوء بقطع البعض.

و ذلك ملزم بتنزيل صحيحي رفاعة علي ما لا ينافيه، كالقطع فوق المرفق، أو ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

هذا، مضافا إلي أنه مقتضي قاعدة الاشتغال بالطهارة بعد فرض عدم سقوطها الموجب لسقوط دليل الارتباطية عن الحجية للعلم بعدم شموله للمقام.

و أما صحيح رفاعة الثاني الظاهر في وجوب غسل موضع القطع فمن القريب تنزيله علي القطع مما فوق المرفق أو علي ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه، كما تقدم. و لا أقل من إجماله أو سقوطه عن الحجية بإعراض الأصحاب، فإن الإجماع المتقدم إن لم يكن دليلا بنفسه، فلا أقل من كشفه عن الاعراض المسقط للصحيح عن الحجية. فتأمل.

نعم، لو فرض التشكيك في وجوب الطهارة تعين الرجوع للبراءة منها بعد سقوط دليلها بالعلم الإجمالي، إما بسقوط تقييد الصلاة بها، أو بسقوط الارتباطية في أجزاء الوضوء.

لكن لا مجال لذلك بعد الإجماع و النصوص المتقدمة الظاهرة في المفروغية عن وجوب الطهارة في حق الأقطع. فلاحظ.

(1) و لا يجب غسل العضد بدلا عنها، كما صرح به جماعة، بل في المنتهي و كشف اللثام دعوي الإجماع عليه. و في مفتاح الكرامة: «و لا أجد فيه خلافا إلا ما نقله في البيان عن المفيد، و هو الظاهر من عبارة الكاتب علي ما نقل».

لكن في محكي المختلف استظهر إرادة ابن الجنيد في الكاتب استحباب غسل العضد، و اختاره أيضا، كما اختاره في المنتهي و محكي نهاية الإحكام

ص: 264

______________________________

و الذكري و الدروس، و عن المبسوط استحباب مسح الباقي من العضد بالماء. و حمل عليه صحيح علي بن جعفر المتقدم، لمخالفة ظاهره للإجماع المذكور.

نعم، لم يستبعد في الجواهر إرادة ابن الجنيد الوجوب، عملا بظاهر الصحيح و غيره، و عن الوحيد في حاشية المدارك الميل إليه.

و كيف كان، فقد عرفت ظهور صحيح علي بن جعفر في وجوب غسل العضد، بل هو ظاهر صحيح محمد بن مسلم و محتمل صحيح رفاعة الأول، إلا أنه لا بد من رفع اليد عن ذلك بالإجماع المذكور، الظاهر تلقيهم له بالقبول، و المؤيد بسكوت كثير منهم عن التنبيه عليه مع كونه خلاف الأصل، و من البعيد خفاء الحكم في مثل ذلك مما يكثر الابتلاء به، فلا بد من حمل النصوص المذكورة علي الاستحباب، و إن كان الوجوب موافقا لقاعدة الاشتغال التي عرفت غير مرة أنها المرجع في أمثال المقام لو فرض الشك. فتأمل.

هذا و في المعتبر و عن التذكرة استحباب مسح موضوع القطع من العضد بالماء. و كأن المراد المسح المحقق للغسل، ليكون الوجه فيه صحيحي رفاعة، خصوصا الثاني منهما، بعد الإجماع المتقدم علي سقوط غسل العضو باستيعاب القطع له. و مقتضي الجمع بينهما و بين صحيح علي بن جعفر الحمل علي اختلاف مراتب الفضل.

تنبيه:

لو فرض نقص بعض اليد أو تمامها في أصل الخلقة فالأمر أظهر، لخروجه عن النصوص المتقدمة، و مقتضي إطلاق الآية الاجتزاء بغسل الباقي، لشموله لليد الناقصة و اليد الواحدة. و خروجه عن المتعارف لا يخرجه عن الإطلاق المذكور، لما تكرر من عدم تقييد التعارف للإطلاق.

و دعوي: أن مقتضي الجمع بين الآية و النصوص الأخري الشارحة للوضوء

ص: 265

و لو كان له ذراعان دون المرفق وجب غسلهما (1)،

______________________________

بالوجه المتعارف هو تقييد الآية بالمتعارف.

مدفوعة: بأن تنزيل النصوص علي المتعارف أولي من تقييدها لإطلاق الآية، و لا سيما مع العلم بعدم خروج الشخص عن عموم وجوب الوضوء. فلاحظ.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة، بل في مفتاح الكرامة و الجواهر عدم وجدان الخلاف فيه، و في الحدائق و طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن الظاهر عدم الخلاف فيه، و في المستند و عن شرح الدروس أن الظاهر الإجماع عليه، و في المدارك: «لا ريب في وجوب غسل ما دون المرفق كله».

و قد يتجه الاستدلال عليه بعموم وجوب غسل الأيدي لو كان كل منهما يدا أصلية عرفا، لعدم تميز إحداهما علي الأخري.

و كون المتعارف في الناس غسل يد واحدة في كل جانب لا يدين، و ورود النصوص علي طبقه، لا يوجب قصور العموم عن مثل ذلك، كما سبق نظيره في آخر الفرع السابق.

علي أنه لو فرض قصور العموم المذكور كفي في وجوب غسل الجميع قاعدة الاشتغال بعد العلم بعدم سقوط الوضوء بسبب ذلك.

نعم، قد يتجه عليه الاحتياط بالمسح بكل منهما و عدم الاكتفاء بالمسح بإحداهما لفرض عدم الإطلاق المقتضي لذلك.

أما لو كانت إحداهما زائدة عرفا، لضعفها و خروجها عن المتعارف أشكل شمول العموم لها، لقرب انصرافه للأيدي الأصلية المعهودة للإنسان، لأن الإضافة تقتضي نحوا من العهد.

نعم، قد يستدل علي وجوب غسلها حينئذ.

تارة: بكونه جزءا من اليد الأصلية أو تابعة لها كالجزء عرفا.

و اخري: بدخولها في الحد، و هو ما تحت المرفق.

ص: 266

و كذا اللحم الزائد و الإصبع الزائدة (1).

______________________________

و ثالثة: بأنها بدل عن المحل النابتة فيه.

و رابعة: بأن ما عليها من الجلد جزء مما يجب غسله، و هو اليد الأصلية.

و الكل كما تري! لاندفاع الأول بخروجها عرفا عن اليد الأصلية، بل هي من سنخ النابت فيها. و تبعيتها لها ممنوعة، و إنما تتم التبعية في مثل الثالول مما لا يعتد به عرفا، و لا وجود له استقلالا، بل قد يكون جزءا عرفا.

و الثاني بأن التحديد بالمرفق لبيان منتهي ما يغسل من اليد، لا لوجوب غسل كل ما تحته.

و الثالث بأن المحل المذكور باطن لا يجب غسله.

و أما الرابع فهو ممنوع جدا، بل ليس الجزء أو محتمل الجزئية إلا ما قارب المنبت.

فلعل الأولي أن يقال: انصراف العموم المذكور عن مثل هذه اليد ليس بالنحو الموجب لظهور الإطلاق في عدم وجوب غسلها، بل غايته الاجمال، فيلزم غسلها بمقتضي قاعدة الاشتغال، لعدم اليقين بحصول الطهارة بدونها. و لا سيما مع شبهة الإجماع المذكور. و إن كان الاعتماد علي الإجماع في غاية الإشكال بعد عدم تعرض النصوص و لا أكثر القدماء للحكم المذكور، و أول من أشار إليه الشيخ قدّس سرّه في المبسوط، كما أن الحكم ليس مما يكثر الابتلاء به بالنحو الموجب لوضوح حكمه.

ثمَّ إنه بناء علي الوجه المذكور يتعين المسح باليد الأصلية، لدخولها في المتيقن من الإطلاق، دون الزائدة.

هذا كله إذا صدق علي الزائدة أنها يد، و أما إذا لم يصدق و إن كانت مشابهة لليد أو قسما منها- كالكف- فلا إشكال في ظهور الإطلاق في عدم وجوب غسلها بالأصالة، بل يجري فيها ما يأتي في الإصبع و اللحم الزائدين.

(1) كما صرح به غير واحد، و هو داخل في معاقد الإجماعات و نفي

ص: 267

______________________________

الخلاف في كلام من تقدم، بل بعضها يعم غير اللحم و الإصبع كالعظم و السلعة و نحوها مما كان تحت المرفق، كما هو ظاهر ما تقدم من المدارك و صريح المستند.

و العمدة فيه دخوله في اليد عرفا و لو تبعا.

لكنه مختص بمثل الإصبع و القليل من اللحم و نحوه مما لا يعتد به، و كذا ما كان من سنخ الورم في اليد، لأن ظاهره جلد اليد- كما تقدم في الرابع من وجوه الاستدلال علي غسل اليد الزائدة- دون مثل السلعة الكبيرة المتحيزة عن اليد مما يعد عرفا من سنخ النابت فيها، كما تقدم نظيره في اليد الزائدة.

كما أنه يشترك معها في بقية الوجوه المتقدمة و اندفاعها. فالأمر في مثل ذلك لا يخلو عن إشكال بعد كون مقتضي الإطلاق عدم وجوب غسله.

ثمَّ إنه لو فرض وجوب غسل شي ء من ذلك لم يفرق بين خروجه بامتداده عن محاذاة الأصابع و عدمه، فيجب غسله بتمامه في الأول مطلقا.

و قد يظهر من تردد بعضهم في وجوب غسل الأظافر مع طولها و خروجها عن حد الأصابع التردد فيه، بل يظهر من بعضهم تقريب عدمه، نظير عدم غسل مسترسل اللحية.

و لا وجه له، لأن انتهاء اليد بالأصابع غالبا لا ينافي وجوب غسل ما طال عليها، تبعا لليد أو لكونه جزءا منها عرفا.

و إنما لم يجب غسل ما استرسل من اللحية لعدم وجوب غسل الشعر إلا بدلا عما تحته، و ليس كالمقام مما فرض وجوب غسله بنفسه و لو تبعا.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من إمكان الاستدلال علي التحديد بأطراف الأصابع بقول أبي جعفر عليه السّلام في الصحيح المروي في الفقيه: «و حد اليد من المرفق إلي أطراف الأصابع» «1».

فيندفع بأن الظاهر كون الفقرة المذكورة فتوي من الصدوق، لا تتمة للصحيح، كما تقدم نظيره في حكم النكس.

مع قرب تنزيل التحديد به علي الغالب. بل ظاهره كونه بنفسه حدا لليد، لا

______________________________

(1) الفقيه باب: حد الوضوء و ترتيبه و ثوابه في ذيل الحديث الأول ص: 1: 28 طبع النجف الأشرف.

ص: 268

و لو كان له يد زائدة فوق المرفق فالأحوط وجوبا غسلها أيضا (1).

______________________________

لبيان قدر امتداد ما يجب غسله، فلا ينافي وجوب غسل ما طال عليه تبعا. فلاحظ.

(1) فعن المختلف و التلخيص و الإرشاد و محتمل التذكرة وجوب غسل اليد الزائدة مطلقا فوق المرفق أو تحته و إن تميزت الأصلية، و هو مقتضي إطلاق ما في الشرائع من وجوب غسل اليد الزائدة.

خلافا لما في القواعد و المنتهي من عدم وجوب غسل الزائدة إذا تميزت و كانت فوق المرفق، و عليه يحمل ما في المعتبر و جواهر القاضي و عن المبسوط و المهذب من عدم وجوب غسل الزائدة إذا كانت فوق المرفق.

و العمدة في وجوب غسلها عموم وجوب غسل الأيدي في الآية، الذي عرفت الإشكال في شموله لليد الزائدة، و أن الوجه في وجوب غسلها بعد فرض إجمال العموم منحصر بقاعدة الاشتغال، المقتضية لعدم الاجتزاء بالمسح بها، بل الأصلية، لأنه المتيقن من إطلاق المسح.

لكن في المدارك: «و لو لم يكن لليد الزائدة مرفق لم يجب غسلها قطعا».

و كأنه لأن جعل المرفق غاية للمغسول يوجب تقييد اليد التي يجب غسلها بما يكون لها مرفق.

ألا أنه لو تمَّ اقتضي عدم وجوب غسل الأصلية لو فرض عدم المرفق لها، و لا يظن منه و لا من غيره الالتزام به.

و الفرق بينهما بالإجماع غير ظاهر، بل التحديد بالمرفق غير ظاهر في التقييد به، فاحتمال شمول الإطلاق لليد المذكورة لا دافع له، فيتحقق موضوع قاعدة الاشتغال.

نعم، لو فرض عدم صدق اليد عليها و إن كانت مشابهة لليد أو قسما منها- كالكف- فلا إشكال في خروجها عن الإطلاق و ظهوره في عدم وجوب غسلها، فيلحقها حكم اللحم الزائد فوق المرفق الذي لا إشكال في عدم وجوب غسله،

ص: 269

و لو أشبهت الزائدة بالأصلية (1) غسلهما جميعا (2)، و مسح بهما علي الأحوط وجوبا (3).

______________________________

كما في المدارك و صرح به غير واحد.

و حينئذ لا يفرق في عدم وجوب الغسل بين محاذاة الزائد بامتداده لما تحت المرفق و عدمه.

و احتمال وجوب غسل موضع المحاذاة في الأول- كما عن الشافعي- لا وجه له، كما نبه له غير واحد.

(1) المراد بالاشتباه.

تارة: خفاء جهة التمييز مع تحققه واقعا و هو الأنسب بعنوان الاشتباه.

و اخري: انعدام جهة التمييز، و هو الأنسب بالمقام.

و الاحتياط بالوجه المذكور في كلامه قدّس سرّه في الأول هو مقتضي القاعدة في جميع موارد العلم الإجمالي، بناء علي ما عرفت من أن الأدلة منصرفة إلي اليد الأصلية، دون الزائدة- و لو لأنها المتيقن من الإطلاقات.

و أما في الثاني فلا مجال لفرض العلم الإجمالي، لأنه فرع الاشتباه المفروض عدمه.

بل مقتضي العموم غسلهما معا، و الاجتزاء بالمسح بإحداهما. و لو فرض قصور الإطلاقات لزم الجمع بينهما في الغسل و المسح معا بمقتضي قاعدة الاشتغال، كما تقدم فيما لو كانت اليديان تحت المرفق.

(2) للعلم الإجمالي علي الوجه الأول، و للإطلاقات أو لقاعدة الاشتغال علي الوجه الثاني.

(3) لما كان الاحتياط الوجوبي هو الاحتياط عن الفتوي، لغموض حال الأدلة عند المفتي، و لذا جاز الرجوع في مورده للغير، فلا مجال له في المقام لو أريد من الاشتباه الوجه الأول، لأن الاحتياط بالوجه المذكور هو مقتضي قاعدة العلم الإجمالي. و إنما يتجه علي الوجه الثاني، لإمكان خفاء

ص: 270

مسألة 8 المرفق مجمع عظمي الذراع و العضد

(مسألة 8): المرفق مجمع عظمي الذراع و العضد (1). و يجب غسله مع اليد (2).

______________________________

حال الإطلاقات عنده قدّس سرّه.

اللهم إلا أن يحتمل عنده قدّس سرّه شمول الإطلاقات لليد الزائدة بنحو يقتضي الاجتزاء بالمسح بها، فيتجه الاجتزاء بالمسح بإحدي اليدين، حتي علي الوجه الأول، كما يتجه منه الاحتياط الوجوبي عليه لغموض حال الإطلاقات عنده و احتمال الرجوع لقاعدة الاشتغال المقتضية للمسح بخصوص الأصلية الملزم بالاحتياط بالجمع.

و مما ذكرنا ظهر أن الاحتياط المذكور راجع للمسح.

و أما الجمع في الغسل بينهما فاللازم الفتوي به للزومه علي كل حال، كما ذكرنا.

(1) ففي جمهرة اللغة و الصحاح و مجمع البحرين و عن المطرز أنه موصل الذراع في العضد، و عن المغرب أنه موصل الذراع بالعضد، و عن ابن سيدة أنه أعلي الذراع و أسفل العضد.

و يمكن أن يراد بهذه الكلمات الخط الموهوم بين العظمين، أو طرفاهما، أو مجموع محل الاتصال بينهما، كما هو ظاهر المتن و محكي التذكرة.

لكن في مجمع البيان و ظاهر التبيان: أنه المكان الذي يرتفق به أي يتكأ عليه من اليد، و ظاهره أنه طرف العضد، لأنه الذي يتكأ عليه.

كما أن ظاهر المنتهي أنه طرف الذراع، لأنه صرح بعدم وجوب غسل طرف العضد علي من قطعت يده من المرفق، لأنه إنما وجب غسله توصلا إلي غسل المرفق، و مع سقوط الأصل ينتفي الوجوب.

و الأمر غير مهم، و إنما المهم تحديد ما يجب غسله الذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما صرح به جماعة كثيرة، بل في جامع المقاصد أنه لا كلام فيه، و في

ص: 271

______________________________

المدارك أن الأصحاب قطعوا به، و في الخلاف و المعتبر و كشف اللثام و عن التذكرة و عن غيرها دعوي الإجماع عليه ممن عدا زفر و داود و بعض المالكية ممن لا عبرة بخلافهم، و عن الطبرسي نسبته إلي مذهب أهل البيت عليهم السّلام.

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك- الآية الكريمة بناء علي أن «إلي» فيها بمعني «مع» كما هو صريح التبيان و ظاهر التهذيب، بل في الخلاف أنه الذي ثبت عن الأئمة عليهم السّلام، و عن الواحدي نسبته إلي كثير من النحويين، و قد استشهدوا لورودها بالمعني المذكور بقوله تعالي مَنْ أَنْصٰارِي إِلَي اللّٰهِ «1» و قوله تعالي وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَهُمْ إِليٰ أَمْوٰالِكُمْ «2» و قولهم: فلان ولي الكوفة إلي البصرة و نحو ذلك من الاستعمالات الكثيرة.

لكن «إلي» في المقام و غيره بعيدة عن المعني المذكور و إن نسب لجماعة من النحويين، و الظاهر تنزيلها في الاستعمالات المذكورة علي الغاية بتضمين الفعل معني الصيرورة أو الضم أو نحوهما مما يناسبها، فيراد بالآية الأولي: من أنصاري سائرين إلي اللّه تعالي و منسوبين إليه، كما يناسب صدر الآية و ذيلها، قال تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصٰارَ اللّٰهِ كَمٰا قٰالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوٰارِيِّينَ مَنْ أَنْصٰارِي إِلَي اللّٰهِ قٰالَ الْحَوٰارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصٰارُ اللّٰهِ و بالآية الثانية: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَهُمْ بضمها لأموالكم، و نحوهما بقية الاستعمالات.

و نسبة المعني المذكور في الخلاف للأئمة عليهم السّلام غير ظاهرة المأخذ.

و كأن المراد بها ما ثبت عنهم عليهم السّلام من عدم وجوب الانتهاء بالمرافق، بتخيل توقف ذلك علي كونها بمعني: «مع».

لكنه كما تري! إذ يكفي فيه كونها لتحديد المغسول مع المحافظة فيها علي معني الغاية، بجعلها غاية اعتبارية للتحديد. كما هو الظاهر مما في صحيح زرارة و بكير عن أبي جعفر عليه السّلام: «و أمر بغسل اليدين إلي المرفقين، فليس له أن يدع من.

______________________________

(1) سورة الصف: 14.

(2) سورة النساء: 2.

ص: 272

______________________________

يديه إلي المرفقين شيئا إلا غسله، لأن اللّه تعالي يقول فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ «1»، و ما في صحيح زرارة عنه عليه السّلام: «ثمَّ قال وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ فوصل اليدين إلي المرفقين بالوجه، فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا إلي المرفقين» «2».

بل لو كانت بمعني «مع» لم تكن الآية صريحة في كون المرفق منتهي المغسول، بل يكون نظير عطف البعض علي الكل، كما نبه لذلك الزجاج.

ففي التبيان: «و طعن الزجاج علي ذلك فقال: لو كان المراد ب «إلي» «مع» لوجب غسل اليد إلي الكتف، لتناول الاسم له، و إنما المراد ب «إلي» الغاية و الانتهاء، لكن المرافق يجب غسلها مع اليدين. و هذا الذي ذكره ليس بصحيح، لأنا لو خلينا و ذلك لقلنا بما قاله، لكن خرجنا بدليل، و دليلنا علي صحة ما قلناه إجماع الأمة علي أنه متي بدأ من المرافق كان وضوؤه صحيحا»، و قريب منه مجمع البيان.

و مما تقدم يظهر أن الإجماع المذكور إنما يمنع من كونها غاية للغسل، لا من كونها غاية للمغسول، ليلزم الخروج به عن مقتضي الظاهر بحملها علي معني «مع».

و من هنا ظهر أنه لا مجال للاستدلال بالآية و نحوها مما تضمن وجوب غسل اليد إلي المرفق علي وجوب غسل المرفق، لعدم ظهورها فيه- كما اعترف به الشيخ الطبرسي في محكي جامع الجوامع- إذ لا يلزم دخول الغاية في حكم المغيي لو لم يكن الظاهر الخروج.

و من هنا يتعين النظر في النصوص. و ظاهر جملة منها وجوب غسل تمام الذراع المستلزم لغسل مجمع العظمين، و لا ظهور لها في وجوب الغسل إلي منتهي مجمع العظمين بنفسه مع قطع النظر عن ذلك، بحيث لو فرض قطع عظم الذراع من المفصل لوجب غسل طرف العضد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 273

______________________________

ففي صحيح ابن أذينة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث المعراج و وحي اللّه تعالي للنبي صلّي اللّه عليه و آله كيفية الوضوء: «ثمَّ اغسل ذراعيك اليمني و اليسري، فإنك تلقي بيدك كلامي» «1» و في صحيح الحسين بن أبي العلاء عنه عليه السّلام في جواب النبي صلّي اللّه عليه و آله لمسائل نفر من اليهود: «و إذا غسل ساعديه حرم اللّه عليه أغلال النار» «2» و في صحيح محمد ابن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام في خطاب النبي صلّي اللّه عليه و آله للثقفي:

«فإذا غسلت ذراعيك تناثرت الذنوب عن يمينك و شمالك» «3»، و قريب منها روايات الرقاشي و عيسي بن المستفاد عن الكاظم عليه السّلام «4». و يناسبه التعليل في خبر محمد بن سنان عن الرضا عليه السّلام بقوله عليه السّلام: «و يغسل اليدين ليقلبهما و يرغب بهما و يرهب و يتبتل» «5».

و حيث كانت هذه النصوص تامة الدلالة علي ما ذكرنا تعين العمل عليها، و حمل ما تضمن الغسل من المرفقين- من النصوص المتقدمة- أو إلي المرفقين- من الآية و النصوص الكثيرة- علي مفادها، إما بحمل المرفق علي خصوص طرف الذراع- كما تقدم من العلامة- مع دخول الغاية في حكم المغي و إما بجعل الغاية لبيان المراد من اليد، فإنها و إن كانت ظاهرة في نفسها في تمام العضو المنتهي بالكتف، إلا أنه يراد بها أيضا ما ينتهي بالزند تارة، و ما ينتهي بالمرفق اخري، فتكون الغاية قرينة لبيان المراد من اليد، لا لتقييدها مع استعمالها في تمام العضو، و من الظاهر أن ما ينتهي بالمرفق هو الذراع، و لا يدخل فيه طرف العضد، كما أن ما ينتهي بالكتف هو العضد و لا يدخل فيه شي ء من عظم الكتف. و إما بجعل التقييد بالمرفق لاشتماله علي ما يجب غسله و هو الذراع، لعدم الحد الظاهر له سواه بسبب دخوله فيه.

فان ذلك أولي عرفا من حمل النصوص المتقدمة علي كون ذكر الذراع لملازمته لما يجب غسله، و هو ما ينتهي بمجمع العظمين من دون أن يكون هو الموضوع بخصوصيته، و لا سيما بملاحظة ما اشتمل عليه صحيحا ابن أذينة

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 12.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 22، 25.

(5) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 26، 15.

ص: 274

______________________________

و الحسين بن أبي العلاء و خبر محمد بن سنان من التعليل المناسب لخصوصية الذراع، و إجمال المرفق بنحو يسهل تنزيله علي ما لا ينافي النصوص المتقدمة.

و كأن هذا هو المراد مما عن جماعة من المتأخرين من القول بوجوب غسل المرفق مقدمه، لا أصالة، بل هو صريح ما تقدم من العلامة قدّس سرّه فإنه و إن كان مبني كلامه علي كون المرفق طرف الذراع و وجوب غسله أصالة، و الواجب تبعا هو غسل طرف العضد، إلا أنه موافق لما ذكرنا عملا.

و إلا فلو أريد بالمقدمية المقدمية الخارجية أو العلمية فمن الواضح أن المرفق لو كان خارجا عما يجب غسله لم يتوقف الغسل الواجب عليه، كما لا يتوقف العلم بغسل ما دونه علي غسل تمامه، بل يكفي غسل بعضه.

بل لا ينبغي الريب في عدم إرادتهم من الوجوب المتقدمي أحد المعنيين المذكورين، لوضوح عدم اختصاصه بالمرفق، بل يجزي في جميع الأعضاء، و عدم إنكاره من زفر و نحوه ممن نسب له الخلاف في المقام.

فلا بد من إرادتهم ما ذكرنا من كون غسل ما يسامت مجمع العظمين لأجل استيعاب الذراع بالغسل المستلزم لغسل بعض العضد، لا لكونه بنفسه بعض المغسول، و لا تظهر الثمرة بينهما إلا في الأقطع، كما ذكره العلامة قدّس سرّه.

و مما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لما في الجواهر من دعوي كون معقد الإجماع المتقدم هو الوجوب الأصلي، لا المقدمي، لظهور كلمات الأصحاب في ذلك.

فإن كلمات الأصحاب و إن كانت ظاهرة في عدم إرادة الوجوب للمقدمية الخارجية أو العلمية، إلا أنها لا تنافي الوجوب التبعي بالمعني الذي ذكرنا، و لا سيما مع عدم ظهور الثمرة له إلا في الأقطع، و إجمال المرفق بنحو يسهل تنزيل جعله غاية في الأدلة و كلماتهم علي ما ذكرنا، كما تقدم، فدعوي أن المتيقن من

ص: 275

مسألة 9 يجب غسل الشعر النابت في اليدين مع البشرة

(مسألة 9): يجب غسل الشعر النابت في اليدين مع البشرة (1)، حتي الغليظ منه، علي الأحوط وجوبا.

______________________________

الإجماع ما ذكرناه، غير بعيدة.

و ربما يرجع إليها ما في المدارك من أن المتيقن هو الوجوب المقدمي.

و كيف كان، فلا مجال للخروج عن ظاهر النصوص المتقدمة بعد إمكان تنزيل غيرها عليها، و عدم وضوح قيام إجماع مخالف لها صالح لأن يرفع به اليد عنها. فلاحظ.

(1) قال في الحدائق: «ظاهر المشهور وجوب غسل الشعر هنا، لدخوله في محل الفرض- كما علله البعض- أو أنه من توابع اليد- كما علله آخر- و قد عرفت ما فيه».

و يظهر من التعليلين أن مرادهم الجمع بين الشعر و البشرة، و هو الذي استظهره شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره.

و كأن الوجه فيه ما تقدم في المسألة الثانية في توجيه وجوب غسل الشعر الذي لا يصدق فيه الإحاطة، أو ما تقدم في وجه وجوب غسل ما تحت المرفق من الزوائد، بناء علي شموله للشعر، كما يظهر من بعضهم.

و يظهر ضعف ذلك مما تقدم من ظهور إطلاقات الأدلة في كفاية غسل اليد الظاهر في عدم شمول ذلك مما هو من سنخ النابت فيها.

نعم، قد يدعي كفاية غسله إذا تكاثف، كما في الوجه، و في مفتاح الكرامة أنه الذي يستفاد من مطاوي بعض الكلمات، بل هو المنقول عن محكي كاشف الغطاء، و مال إليه في المستند، خلافا لما عن المحقق الثاني و جماعة من لزوم غسل البشرة.

و قد يوجه الأول.

تارة: بما تضمن لزوم غسل الظهر. و يظهر ضعفه مما تقدم في غسل الوجه.

ص: 276

______________________________

و اخري: بصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: أ رأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال: كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يطلبوه و لا يبحثوا عنه، و لكن يجري عليه الماء» «1». قال في المستند: «و تخصيصها بالوجه لا وجه له».

لكن ذكر غير واحد أن الوجه فيه روايتها في الفقيه ذيلا للصحيحة المتقدمة في تحديد الوجه بما بين الإبهام و الوسطي.

و أما ما استظهره في الحدائق من كونها رواية مستقلة كما ذكره الشيخ في التهذيب و أن ذكرها في الفقيه في ذيل الصحيحة المذكورة لأن عادته سبك الأخبار.

فلا مجال له، لظهور عبارة الفقيه في اتحاد الكلام، و لا سيما مع التعرض منه لحد اليد و الرجلين بعدها الظاهر في كون مضمونها من توابع حد الوجه. بل لا ينبغي التأمل في ذلك بعد ظهور السؤال فيها في كونه تابعا لكلام سابق، لا ابتداء كلام، و إلا لم يكن له معني.

و منه يظهر أن أفرادها في التهذيب من سنخ المجمل المبين بما في الفقيه، فلا يعارضه.

و دعوي: أن المورد لا يخصص الوارد.

مدفوعة: بأن المورد في المقام مانع من ظهور الوارد في العموم.

اللهم إلا أن يقال: لا ريب في ظهور الحديث بعد النظر في رواية الفقيه له في كون موضوع السؤال هو ما أحاط به الشعر من الوجه، إلا أن عدم الاكتفاء في الجواب ببيان حكمه، بل التأكيد فيه علي العموم قد يظهر في وروده لضرب القاعدة العامة لغير الوجه، لعدم ظهور النكتة فيه لو لا ذلك.

لكن في بلوغ ذلك حد الظهور الحجة إشكال. و من ثمَّ قد يتعين الاحتياط بالجمع بين غسل ظاهر الشعر و البشرة.

إلا أن يكون المرجع بعد فرض إجماله الإطلاقات المقتضية للاكتفاء

______________________________

(1) الوسائل باب: 46 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 277

مسألة 10 إذا دخلت شوكة في اليد لا يجب إخراجها

(مسألة 10): إذا دخلت شوكة في اليد لا يجب إخراجها، إلا إذا كان ما تحتها محسوبا من الظاهر (1)، فيجب غسله حينئذ (2) و لو بإخراجها.

مسألة 11 الوسخ الذي يكون علي الأعضاء إذا كان معدودا جزء من البشرة لا تجب إزالته

(مسألة 11): الوسخ الذي يكون علي الأعضاء إذا كان معدودا جزء من البشرة لا تجب (3) إزالته، و إن كان معدودا أجنبيا عن

______________________________

بغسل البشرة. فتأمل.

علي أنه مختص بما إذا توقف غسل البشرة علي البحث و الطلب، لكون الشعر محيطا بها، الذي هو مورد الصحيحة، و هو نادر في اليدين، و أما في غيره فمقتضي ما تقدم الاكتفاء بغسل البشرة، كما ذكرناه في الوجه أيضا. فراجع.

(1) بأن لا يكون له تماسك يوجب انطباقه مع رفع الشوكة، كما تقدم نظيره في المسألة السابعة.

(2) يعني: بإيصال الماء إليه و لو من تحت الشوكة و إن لم يتحقق الإجراء، أما بناء علي ما تقدم من عدم توقف الغسل علي الجريان فظاهر بعد عدم منافاته للترتيب العرفي.

و أما بناء علي لزومه فيمكن رفع اليد عنه في خصوص المقام، لتعذره فيه حتي مع رفع الشوكة بسبب نزوله في العمق، بل للغفلة عنه عرفا الكاشف عن التسامح فيه شرعا. فلاحظ.

(3) لا ينبغي الإشكال في ذلك لو تحقق الفرض المذكور. إلا أنه غير ظاهر التحقق.

و يظهر منه قدّس سرّه في مستمسكه أن المراد بذلك ما يفرزه البدن الذي قد يكون من سنخ الجلد و يزول بالدلك.

و من ثمَّ استثني منه ما إذا طالت المدة كثيرا، فتجب إزالته، لأنه لا يعد جزءا من البدن عرفا.

ص: 278

البشرة تجب إزالته (1).

مسألة 12 إذا شك في حاجبية شي ء وجبت إزالته

(مسألة 12): إذا شك في حاجبية شي ء وجبت إزالته (2)، و إذا شك في وجود الحاجب بحث عنه علي الأحوط وجوبا، إلا مع الظن بعدمه.

مسألة 13 يجوز الوضوء برمس العضو في الماء

(مسألة 13): يجوز الوضوء برمس العضو في الماء (3)،

______________________________

و يشكل: بأنه ليس من الوسخ، بل هو جزء من البدن حقيقة و عرفا فلا تجب إزالته مطلقا إذ لا يزيد علي القشر المنجمد علي الجرح بعد برئه الذي يأتي في المسألة السابعة عشرة عدم وجوب إزالته. و ليس الوسخ إلا ما هو خارج عن البدن طارئ عليه، و فرض صيرورته جزءا منه عرفا غير ظاهر، كما ذكرنا.

نعم، قد يكون الوسخ من سنخ اللون غير المانع من وصول الماء للبشرة، فلا تجب إزالته، كما تقدم نظيره في المسألة الخامسة.

كما أنه لو فرض تعارفه بنحو يغفل عنه نوعا يتجه عدم وجوب إزالته، كما يأتي نظيره في المسألة الرابعة عشرة.

(1) كما هو ظاهر و تقدم نظيره في المسألة الخامسة، و يأتي في المسألة الرابعة عشرة الكلام في خصوص وسخ الأظفار.

(2) تقدم الكلام في نظير هذه المسألة في المسألة السادسة في فروع غسل الوجه. بل ما تقدم من النصوص مختص بالمقام لوروده في الخاتم و السوار و الدملج، و التعدي منه للوجه مبني علي إلغاء خصوصية المورد.

(3) و هو مذهب الأصحاب، كما في المدارك، اتفاقا، كما عن البرهان و ظاهر الجواهر.

و كأنه مبني علي ظهور حال الأصحاب من تعريفهم للغسل و عدم تنبيههم علي المنع من الرمس، و إلا فلم أعثر علي تصريح معتد به منهم.

و تعرضهم له في الجبائر لا يقتضي جوازه في غيرها.

ص: 279

مع مراعاة غسل الأعلي فالأعلي (1)،

______________________________

و كيف كان، فيقتضيه إطلاق أدلة الغسل، حتي بناء علي اعتبار الجريان في مفهوم الغسل، لتحققه بتحريك العضو في الماء، إذ لا يراد به إلا انتقال الماء علي أجزاء الأعضاء. و أما ما عن ظاهر ابن الجنيد من وجوب إمرار اليد لحكاية وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله و لأنه المعهود في الغسل.

فيندفع بما تقدم غير مرة من عدم ظهور النصوص البيانية في الاستحباب، فضلا عن الوجوب، فلا مجال للخروج بها عن الإطلاقات، و لا سيما مع ما تضمن جواز الوضوء بإصابة المطر «1». فتأمل. كما أن الغلبة لا تصلح لتقييد الإطلاقات.

(1) لما تقدم من اعتبار ذلك في اليدين، و في الوجه علي كلام.

و ربما يدعي سقوط الترتيب مع الارتماس، لموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الرجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر أن يحله لحال الجبر إذا جبر كيف يصنع؟ قال: إذا أراد أن يتوضأ فليضع إناء فيه ماء، و يضع موضع الجبر في الماء حتي يصل الماء إلي جلده، و قد أجزأه ذلك من غير أن يحله» «2».

بدعوي: ظهور ذيله في إجزاء ذلك و إن تمكن من حله، مع وضوح عدم حصول الترتيب به، و لذا صرحوا بكفاية وضع موضع الجبر في الماء حتي يصل إلي البشرة و لو مع إمكان النزع.

و يشكل: بأنه لا ظهور في الذيل في إجزاء الرمس و لو مع التمكن من الحل بعد كون المفروض في السؤال تعذر الحل.

و تصريحهم بكفاية ذلك لم يبلغ مرتبة الإجماع ليمكن الاحتجاج به. علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 7.

ص: 280

فيحرك العضو المرموس حركة تدريجية حتي يحصل الغسل تدريجيا (1)،

______________________________

أنه مختص بالجبيرة، و التعدي منها للمقام في غير محله بعد مخالفة الحكم للقاعدة.

(1) يعني: ينوي الغسل لأجزاء العضو الواحد تدريجا باستمرار الحركة، فلا بد من كون الحركة بقدر العضو.

و لا يكفي نية الغسل التدريجي مع استقرار العضو في الماء، أما بناء علي اعتبار الجريان فظاهر.

و أما بناء علي عدمه فلأن المتيقن من الأدلة المتقدمة هو اعتبار إيصال الماء بما هو معني مصدري، و هو موقوف علي الحركة حتي يصل إلي كل جزء من العضو شي ء من الماء تدريجا، و لا تكفي نتيجة المصدر، و هي التماس بين الماء و البشرة الحاصل مع سكون العضو في الماء، لعدم تحقق الغسل به، بناء علي ما تقدم من معناه، و عدم الدليل علي الاكتفاء به.

بل لا يبعد ظهور دليل الترتيب- خصوصا خبر الهيثم المتقدم في غسل اليدين- في لزوم اتجاه الماء من الأعلي إلي الأسفل، لا مجرد تحقق الغسل بالترتيب من دون حركة في الماء لو فرض عدم توقف الغسل عليها.

نعم، لو فرض جريان الماء حال كون العضو فيه لم يبعد عدم الاحتياج للتحريك، بل يكفي مرور الماء الجاري من أول العضو إلي آخره، لاستناد وصول الماء و إمساسه بالمعني المصدري للمكلف، نظير وقوفه تحت المطر الموجب لاصابة مائه له.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه في وجه وجوب التحريك مع ركود الماء- بعد الاعتراف بصدق الغسل عليه، لأنه عبارة عن استيلاء الماء علي البشرة- من أن الواجب في الوضوء حدوث الغسل، لا ما يعم البقاء، و لذا لا يكفي أن يغسل

ص: 281

و لا يكفي مجرد الحركة آنا ما، فإنه لا يحصل الغسل التدريجي بذلك.

كما أنه لا يجوز أن ينوي الغسل لليسري بإدخالها في الماء (1)، لأنه يلزم تعذر المسح بماء الوضوء (2)،

______________________________

وجهه للتبريد ثمَّ ينوي بإبقاء البلل و عدم تجفيفه الغسل الوضوئي.

ففيه: أن التحريك ليس إحداثا للغسل- بمعني استيلاء الماء علي البشرة- بل إبقاء له، فلو لم يكف استمرار الغسل و إبقاؤه لم يكف التحريك أيضا، بل لم يكف تجديد الرمس إلا بعد تجفيف اليد.

و لعله لذا استشكل بعض مشايخنا في الاكتفاء بقصد الغسل بإخراج العضو من الماء، بل اقتصر علي رمس العضو من الأعلي فالأعلي.

لكن الظاهر الاكتفاء بالإبقاء عملا بإطلاق الأدلة، كما في سائر الأمور الاستمرارية و لا سيما مع مناسبته لارتكاز مطهرية الماء، و لذا لا يظن من أحد الالتزام بعدم الاكتفاء بالصب أو إمرار اليد إذا أحدثهما لا بنية الوضوء و نواه باستمرارهما، بحيث يلزم التوقف ثمَّ إحداثهما حين نية الغسل بهما.

كيف! و لازمه عدم تحقق غسل عقدة الإصبع مثلا بوضع الكف علي تمامها، ثمَّ جره و إمراره باتجاه آخرها، لعدم صحة غسل آخرها باحداث الجر عليها، لفرض وجوب الترتيب بينه و بين أولها، و لا باستمراره بعد غسل الأول، لأن الاستمرار لا يكفي في الامتثال. فلاحظ.

(1) يعني من المرفق، و إلا فنية الغسل بإدخالها من الكف لا يحصل معه الترتيب.

(2) و في المدارك أنه المنقول عن السيد جمال الدين بن طاوس في البشري، و قواه في الذكري لما يأتي من عدم جواز المسح بماء جديد غير ماء الوضوء.

لكن في جامع المقاصد: «و يشكل بأن الغمس لا يصدق معه الاستيناف عرفا» و قريب منه عن المشكاة، و نحوه في المدارك لكن بشرط عدم استقرار

ص: 282

بل ينوي غسلها بالإخراج (1). و يحافظ علي عدم نزول الماء الذي علي الذراع إلي الكف لئلا يختلط بماء الكف، فيشكل المسح به (2).

و كذا الحال في اليمني إذا لم يغسل بها اليسري (3).

______________________________

العضو في الماء عرفا.

و فيه: أن الأدلة لم تتضمن النهي عن الاستئناف، بل الأمر بالمسح بالبلة الباقية في اليد من ماء الوضوء بعد غسلها، و هو غير حاصل في الفرض.

(1) قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و لو بأن يقصد الغسل الثاني المستحب حال الإخراج، و حال الإدخال من الأعلي يقصد الغسل الأول الواجب».

لكن يأتي منه في المسألة الثانية بعد المائة الاحتياط الاستحبابي بترك الغسلة الثانية فيما يمسح به.

(2) كأنه لاحتمال أن يكون المراد من بلة اليسري التي ورد في بعض النصوص وجوب المسح بها بلة الكف التي يتحقق بها غسله، لا مطلق بلة اليد بنحو تشمل البلة النازلة من الذراع إلي الكف بعد تمام غسل الكف.

لكن ظهور النصوص في ذلك ممنوع، و لو فرض الاجمال كان المرجع إطلاق المسح.

علي أن الظاهر كون المصحح للإضافة وجود البلة في اليد بعد إتمام الغسل، لا غسلها بها، و لذا صح إضافة البلة لليمني أيضا مع عدم غسلها بها، بل ليس المغسول بها إلا اليسري، بل كثيرا ما يكون ماء الوضوء في غير الارتماس كثيرا، بحيث يسيل من الذراع إلي الكف أو من ظاهر الكف إلي باطنها، فلو وجب التحرز من ذلك لزم التنبيه عليه في النصوص، للغفلة عنه.

(3) كلها أو بعضها، لوضوح أنه مع غسلها بها يكون ماء اليمني ماء الوضوء.

ص: 283

مسألة 14 الوسخ تحت الأظفار إذا لم يكن زائدا علي المتعارف لا تجب إزالته

(مسألة 14): الوسخ تحت الأظفار إذا لم يكن زائدا علي المتعارف لا تجب إزالته إلا إذا كان ما تحته معدودا من الظاهر (1)،

______________________________

(1) لما كان وجوب الغسل مختصا بالظاهر فلا فائدة في ذكر المتعارف، لعدم وجوب إزالة الوسخ عن الباطن و إن زاد علي المتعارف.

و كيف كان فقد جزم في المعتبر و القواعد و جامع المقاصد و محكي التذكرة و المقاصد العلية بوجوب إزالة الوسخ، و جعله في المنتهي الأقرب.

لكن قال: «و يمكن أن يقال: إنه ساتر عادة، فكان يجب علي النبي صلّي اللّه عليه و آله بيانه، و لما لم يبين دل علي عدم الوجوب. و لأنه يستر عادة، فأشبه ما يستره الشعر من الوجه»، و الثاني بظاهره قياس مع الفارق، لأن الشعر ساتر طبيعي، و الوسخ أجنبي.

و أما الأول فقد دفعه في جامع المقاصد بأنه يكفي في البيان الحكم بوجوب غسل جميع اليد.

و لا يخفي أن صلوح العموم المذكور للبيان موقوف علي عدم كون العادة بالنحو الموجب للغفلة عن وجوب إزالته، بنحو تكون السيرة علي عدمها، و إلا لم ينفع العموم و احتاج إلي البيان الخاص و كشف عدمه عن تخصيص العموم المذكور.

و منه يظهر حال ما عن الأسترابادي من تأييد عدم وجوب الإزالة بما دل علي استحباب إطالة الأظفار للمرأة «1»، لأنها مظنة اجتماع الوسخ.

هذا، و قد استبعد سيدنا المصنف قدّس سرّه ثبوت العادة، لأن الجزء الذي يعد من الظاهر يبعد عن موضع التقليم و يكون طرف الإصبع، و ثبوت العادة علي وجود الوسخ فيه ممنوع.

و يشكل: بأن تخصيص الظاهر بطرف الإصبع ممنوع، بل الظاهر شموله لما

______________________________

(1) الوسائل باب: 81 من أبواب آداب الحمام حديث: 1.

ص: 284

و إذا قص أظفاره فصار ما تحتها ظاهرا وجب غسله (1) بعد إزالة الوسخ.

______________________________

يكون في موضع التقليم إذا لم يكن ما طال من الظفر لاصقا بطرف الإصبع، بحيث يصل الماء إلي ما تحت الظفر مع عدم الوسخ بلا كلفة، و من الظاهر تعارف وجود الوسخ فيه، و الظاهر أنه محل كلامهم.

و من هنا يقوي عدم وجوب إزالة ذلك.

ثمَّ إنه علي القول بوجوب الإزالة فقد قيده في محكي التذكرة و المقاصد العلية و في ظاهر المعتبر بصورة عدم المشقة في الإزالة. و لعله إليه يرجع تقييده بالمكنة في القواعد.

و هو في محله، عملا بعموم رفع الحرج. و إن كان في شموله لما إذا لم يكن تجنب الابتلاء بالوسخ حرجيا إشكال. فتأمل.

هذا، و قد حكي في الحدائق عن الأصحاب الحكم باستحباب رفع الوسخ مع عدم منعه من وصول الماء، و جعله منافيا لما ذكروه من توقف الغسل علي الجريان الذي لا يتحقق مع بقاء الوسخ.

لكن الظاهر أن الجريان لا يتأتي فيما تحت الظفر حتي مع عدم الوسخ، و ليس الإخلال به مستندا للوسخ، فهو غير واجب في مثل ذلك، نظير ما تقدم فيما تحت الشوكة.

(1) بلا إشكال ظاهر، إذ لا طريق لإحراز السيرة علي إبقاء الوسخ حينئذ.

تنبيه:

إذا طالت الأظفار حتي خرجت عن أطراف الأصابع فقد ذكر في القواعد و كشف اللثام و محكي الذكري و الدروس و البيان و الجعفرية و غيرها وجوب غسلها. و تردد في المنتهي و جامع المقاصد و محكي التذكرة و نهاية الإحكام، و عن

ص: 285

مسألة 15 إذا انقطع لحم من اليدين غسل ما ظهر بعد القطع

(مسألة 15): إذا انقطع لحم من اليدين غسل ما ظهر بعد القطع (1)، و يجب غسل ذلك اللحم أيضا ما دام لم ينفصل (2)،

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 286

______________________________

المشكاة: لا يجب غسلها علي إشكال.

و مقتضي تخصيصهم الكلام بما إذا خرجت عن أطراف الأصابع مفروغيتهم عن إلحاق ما طال منها باليد حقيقة أو عرفا- و هو الظاهر- و أن الاشكال فيما إذا تجاوزت أطراف الأصابع لأجل كون حد اليد هو أطراف الأصابع، نظير مسترسل اللحية.

و إلا فلو كان منشؤه أيضا، احتمال خروج الأظافر عن اليد لزم الاشكال حتي مع عدم تجاوزها عن أطراف الأصابع.

و من هنا فرق في محكي الذكري بينها و بين مسترسل اللحية باتصالها بمتصل دائما. و هو غير ظاهر، كما في جامع المقاصد.

فالعمدة ما أشار إليه في كشف اللثام من عدم تحديد اليد شرعا بأطراف الأصابع، كما تقدم نظيره في الزوائد النابتة فيما تحت المرفق.

(1) بلا إشكال ظاهر، لما دل علي وجوب غسل الظاهر.

(2) بل لا يبعد كون مراده ما إذا كان موضع اتصال اللحم باليد تحت المرفق، فيلحقه ما تقدم في الزوائد النابتة تحت المرفق، سواء كان انكشاطها من تحت المرفق أم من فوقه.

و أما ما احتمله في كشف اللثام من الاقتصار علي غسل ما كان أصله تحت المرفق منها، دون الزائد، إبقاء لكل منهما علي حكمه.

فهو لا يناسب حكمهم هناك بغسل تمام ما نبت تحت المرفق، لعدم الفرق بينهما ارتكازا.

نعم، لو بقي المكشوط علي سمت اليد و لم يتدلّ تحت المرفق بأن كان طرفه فوق المرفق و أصله تحته لم يبعد الاكتفاء بغسل ما حاذي المرفق منه، دون

ص: 286

و إن كان اتصاله بجلدة رقيقة. و لا يجب قطعه ليغسل ما تحت الجلدة (1)، و إن كان هو الأحوط وجوبا لو عد ذلك اللحم شيئا خارجيا و لم يحسب جزءا من اليد (2).

مسألة 16 الشقوق التي تحدث علي ظهر الكف من جهة البرد

(مسألة 16): الشقوق التي تحدث علي ظهر الكف من جهة البرد إن كانت وسيعة يري جوفها (3) وجب إيصال الماء إليها، و إلا فلا، و مع الشك فالأحوط وجوبا الإيصال (4).

______________________________

الزائد، لخروجه عن حد ما يجب غسله، كما احتمله في كشف اللثام، و إن احتمل أيضا وجوب غسل الكل نظير ما لو طال الظفر.

لكنه كما تري! للفرق بينهما بثبوت التحديد شرعا من جانب المرفق دون طرف اليد.

و إما لو كان موضع اتصال اللحم فوق المرفق فالظاهر عدم وجوب غسله، كما في القواعد و غيرها، بل في المنتهي نفي الخلاف فيه، من دون فرق بين كون تمام المكشوط مما فوق المرفق و كون بعضه مما تحته.

و احتمال وجوب غسل ما حاذي المرفق في الأول، بعيد، لخروج المقطوع بتمامه عن المحدود عرفا.

(1) لأن ما تحت الجلدة من الباطن الذي لا يجب غسله.

(2) لكن الفرض المذكور غير ظاهر التحقق، لأن الجلد المذكور لا يزيد علي ما ينجمد علي الجرح عند البرء الذي يأتي في المسألة السابعة عشرة أنه لا يجب رفعه.

(3) يشكل كون ذلك معيارا في صدق الظاهر. و المعيار فيه وصول الماء بإجرائه من دون كلفة و تعميق، لصدق غسل تمام العضو به. فلاحظ المسألة الثالثة.

(4) لقاعدة الاشتغال، و أما استصحاب عدم كونه من الظاهر فهو لا يجري

ص: 287

مسألة 17 ما ينجمد علي الجرح عند البرء و يصير كالجلد لا يجب رفعه

(مسألة 17): ما ينجمد علي الجرح عند البرء و يصير كالجلد لا يجب رفعه، و يجزي غسل ظاهره (1).

______________________________

مع كون الشبهة مفهومية، لعدم جريان الاستصحاب في المفهوم المردد.

و أما مع كونها مصداقية فجريانه موقوف علي كون الظاهر بعنوانه موضوعا للحكم بسببية غسله للطهارة.

و هو لا يخلو عن إشكال، لقرب أن يكون وجوب غسله لتوقف صدق غسل العضو عليه عرفا، فليس الواجب إلا ما يصدق معه غسل العضو. و تحديده بغسل الظاهر لبيان حده الخارجي لا لأخذ المفهوم المذكور في موضوع الحكم الشرعي نظير تحديد الوجه بأنه ما دارت عليه الإبهام و الوسطي، و إلا فالبناء علي كونه قيدا شرعا في وجوب غسل العضو موقوف علي كونه أخص منه، و هو بعيد جدا، بل الظاهر تطابقهما خارجا و هو مستلزم للغوية الجمع بينهما، فيتعين ما ذكرنا.

و أما ما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من توجيه المنع من الاستصحاب بأن الواجب ليس هو الغسل و الوضوء، بل الطهارة المسببة عنه، و ليس عنوان الباطن موضوعا للحكم الشرعي، و لا قيدا له.

ففيه: أن كون الواجب هو الطهارة لا يمنع من التمسك باستصحاب كون المحل من الباطن لو كان عنوانه مأخوذا في سببها شرعا، كما يتمسك باستصحاب طهارة الماء أو الأعضاء لذلك.

و كيف كان، فالظاهر أن المقام من موارد لزوم الاحتياط، لا من موارد الاحتياط في الفتوي، كما يظهر من المتن.

(1) لأنه عرفا هو الجزء الذي يناط صدق غسل العضو بغسله.

نعم، لو انخرق الجلد الموصل له بالبدن من تمام أطرافه أو من أكثرها، بحيث يعد عرفا لاصقا بالبدن لا متصلا به خرج عن كونه جزءا و وجب غسل ما تحته مع التمكن.

ص: 288

و إن كان رفعه سهلا (1).

مسألة 18 يجوز الوضوء بماء المطر

(مسألة 18): يجوز الوضوء بماء المطر (2)،

______________________________

(1) لعدم دخل سهولة الرفع في جزئيته. نعم، لو كان الوجه في الاجتزاء به بدليته عما تحته بملاك رفع الحرج كالجبيرة اتجه وجوب رفعه مع سهولته.

(2) ظاهر الجواهر المفروغية عنه بينهم، و إن لم أعثر في كلماتهم علي تصريح معتد به منهم.

و يقتضيه صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل لا يكون علي وضوء، فيصيبه المطر حتي يبتل رأسه و لحيته و جسده و يداه و رجلاه هل يجزيه ذلك من الوضوء؟ قال: إن غسله فان ذلك يجزيه» «1».

لكنه بظاهره مخالف لما دل علي وجوب الترتيب في نفس الأعضاء، و بينها، و عدم إجزاء الغسل عن المسح في الرأس و الرجلين.

بل لما هو المعلوم من كون الوضوء تعبديا لا توصليا يجزي فيه إصابة الماء، لظهوره في كون المسؤول عنه هو الاجزاء بعد إصابة المطر، لا إجزاء فعل ما يوجبها، كالقيام تحته و التعرض له.

و من الظاهر امتناع الخروج به عن جميع ذلك، بعد كون عموم اعتبارها من الواضحات، المتسالم عليها بين الأصحاب، حتي في مورده، لعدم استثنائهم له من عمومها، بل صرح الشيخ قدّس سرّه في التهذيب و الاستبصار بتنزيله علي الترتيب بين الأعضاء.

و من هنا لا بد من تنزيله علي ما لا ينافي جميع ذلك، بحمله علي بيان أن إصابة المطر تحقق الغسل الواجب، لا إطلاق الاكتفاء بها، و لو مع مخالفة شروط الغسل. مع تقييده أيضا بغير مواضع المسح.

لكن الإنصاف أن حمله علي ذلك بعيد عن ظاهره جدا، فيتعين رفع اليد

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 289

كما إذا قام تحت السماء حين نزوله (1)، فقصد بجريانه علي وجهه غسل الوجه، مع مراعاة الأعلي فالأعلي، و كذلك بالنسبة إلي يديه.

و كذلك إذا قام تحت الميزاب أو نحوه (2). و لو لم ينو من الأول لكن بعد جريانه علي جميع محال الوضوء مسح بيده علي وجهه بقصد غسله، و كذا علي يديه إذا حصل الجريان أيضا (3).

مسألة 19 إذا شك في شي ء أنه من الظاهر حتي يجب غسله

(مسألة 19): إذا شك في شي ء أنه من الظاهر حتي يجب غسله، أو الباطن، فالأحوط وجوبا غسله (4).

______________________________

عنه، لظهور إعراض الأصحاب عن مضمونه المسقط له عن الحجية، و الموجب لكونه من المشكل الذي يردّ إليهم عليهم السّلام.

و يكون الدليل في المقام هو إطلاقات أدلة الغسل- بعد ما سبق من أن المراد به إيصال الماء للبشرة- المعتضدة بما دل علي إجزاء إصابة المطر في الغسل «1» - الخالي عن أكثر الإشكالات المتقدمة- لإلغاء خصوصية مورده و التعدي منه للوضوء.

(1) بحيث يكون وصول الماء للبشرة مستندا للمكلف و باختياره، لفعله ما يوجبه، كتعريض نفسه له، فلو فرض سلب اختياره في ذلك لم تكفه النية بالجريان، لما يأتي من اعتبار المباشرة في الوضوء.

(2) للإطلاقات المشار إليها، أو لنصوص المطر بعد إلغاء خصوصية موردها عرفا.

(3) مما تقدم في الارتماس يظهر أنه لا بد من كون المسح موجبا لوصول ماء لكل جزء من البشرة غير ما وصل إليه سابقا بنزول المطر، و لو لكونه سببا لتنقل الأجزاء المائية في أجزاء العضو.

(4) أما مع سبق كونه من الظاهر مع تعاقب الحالتين فظاهر، إذ لا أقل من

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 10، 11، 14.

ص: 290

الثالث: مسح مقدم الرأس
اشارة

الثالث: يجب مسح مقدم الرأس (1)،

______________________________

كونه مقتضي قاعدة الاشتغال، التي تقدم أنها المرجع في المقام، لكون الشك في المحصل.

و أما مع سبق كونه من الباطن فلما تقدم في المسألة السادسة عشرة من الإشكال في استصحاب عدم كون الموضع من الظاهر، سواء كانت الشبهة مفهومية أم مصداقية.

و عليه يكون المورد من موارد لزوم الاحتياط لا من موارد الاحتياط في الفتوي، كما تقدم نظيره.

و منه يظهر الحال فيما لو جهلت حالته السابقة، لتوقف عدم وجوب غسله علي استصحاب عدم كونه من الظاهر، فإنه و إن كان يجري في نفسه بلحاظ العدم الأزلي، و غير معارض باستصحاب عدم كونه من الباطن- لعدم الأثر له، لاختصاص الأثر بالمغسول، دون غيره- إلا أن الاشكال المتقدم في الاستصحاب جار فيه.

(1) أما وجوب مسح الرأس فهو الذي نطق به الكتاب المجيد و السنة المستفيضة أو المتواترة و ادعي عليه إجماع المسلمين، و ان حكي عن الشافعي و أحمد في أحد قوليه إجزاء الغسل عنه.

و أما عدم وجوب استيعاب الرأس بالمسح فهو- مع كونه مجمعا عليه بين الأصحاب، كما يظهر مما يأتي- مقتضي النصوص الكثيرة الآتي بعضها. بل هو مقتضي الآية الكريمة بناء علي أن الباء للتبعيض، أو مقتضي إطلاقها، بناء علي أنها للإلصاق أو الاستعانة، فإن كون الرأس ممسوحا به لا يقتضي استيعابه، كما أن كون المنديل ممسوحا به لا يقتضيه، بخلاف ما لو كان ممسوحا.

و الثاني هو المتيقن مما في صحيح زرارة و بكير عن أبي جعفر عليه السّلام: «ثمَّ قال:

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ فإذا مسح بشي ء من رأسه أو

ص: 291

______________________________

بشي ء من قدميه ما بين الكعبين إلي أطراف الأصابع فقد أجزأه» «1».

و أما الأول فهو الظاهر من صحيح زرارة: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: ألا تخبرني من أين علمت و قلت ان المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟ فضحك فقال: يا زرارة قاله رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و نزل به الكتاب من اللّه عز و جل، لأن اللّه عز و جل قال:

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ. ثمَّ فصل بين الكلام فقال وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فعرفنا حين قال بِرُؤُسِكُمْ أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء.» «2».

لكن المعني المذكور غير متبادر من الباء بنفسها. و من هنا قد ينزل الصحيح علي أن الباء لما كانت للإلصاق أو الاستعانة يكون مقتضي الإطلاق الاجتزاء بالبعض، و هو مستلزم لعدم مشروعية المسح بالكل، لتعذره دفعة واحدة، و مع التدريج يحصل الامتثال بالبعض، و يكون الكل زائدا علي الواجب، لأن التخيير بين الأقل و الأكثر التدريجي مخالف للإطلاق. فيكون التبعيض مستفادا من الباء بضميمة حكم العقل بامتثال الطبيعة بصرف الوجود، و تعذر المسح بالكل دفعة.

و أما كون المسح علي مقدم الرأس فهو المدعي عليه الإجماع في الناصريات و الخلاف و المعتبر و كشف اللثام و المدارك و عن التذكرة و الذكري، و هو ظاهر المنتهي و عن التنقيح، و في الانتصار أنه من متفردات الإمامية الذي لا شبهة في أنه الفرض عندهم.

و يقتضيه غير واحد من النصوص، ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: مسح الرأس علي مقدمه» «3»، و في صحيحة الآخر عنه عليه السّلام في حديث: «و ذكر المسح فقال: امسح علي مقدم رأسك» «4»، و ما عن العلل في بيان حال آدم عليه السّلام: «و أمره بمسح الرأس لما وضع يده علي أم رأسه» «5»، و ما ورد في

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب الوضوء حديث: 1، 2.

(4) الوسائل باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 16.

ص: 292

______________________________

قصة علي بن يقطين من أمره أولا بمسح تمام الرأس، و بعد ارتفاع موجب التقية عنه كان في جملة ما كتب عليه السّلام إليه به: «و امسح بمقدم رأسك» «1».

و أما ما في صحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: ان اللّه وتر يحب الوتر، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات، واحدة للوجه، و اثنتان للذراعين، و تمسح ببلة يمناك ناصيتك» «2».

فقد يستشكل في دلالته باحتمال كون قوله عليه السّلام: «و تمسح.» لبيان الإجزاء تتمة لإجزاء الغرفات الثلاث، لا الوجوب، بل الاحتمال المذكور هو المتعين بالإضافة إلي البلة الممسوح بها. فتأمل.

كما لا مجال للاستدلال ببعض نصوص الوضوءات البيانية الظاهرة في مسح المقدم، لما تكرر من عدم دلالتها علي الاستحباب، فضلا عن الوجوب.

و كذا مرسل حماد عن أحدهما عليهما السّلام: «في الرجل يتوضأ و عليه العمامة.

قال: يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه فيمسح مقدم رأسه» «3». لوروده لبيان عدم وجوب وضع العمامة عن الرأس. و لعل مسح المقدم لأنه أحد أفراد التخيير أو أسهلها في فرض عدم وضع العمامة.

و مثله خبر الحسين بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا تمسح المرأة بالرأس كما يمسح الرجال، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها تضع الخمار عنها، و إذا كان الظهر و العصر و المغرب و العشاء تمسح بناصيتها» «4».

لقرب وروده لبيان الاجتزاء بمسح الناصية في الأوقات الأربعة، في مقابل وضع الخمار عند الصبح الذي لا يبعد كونه كناية عن مسح ما هو أكثر من ذلك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 293

______________________________

فالعمدة ما تقدم الذي عمدته صحيحا محمد بن مسلم، و قد عرفت تسالم الأصحاب علي ذلك.

و لأجله يلزم رفع اليد عن غير واحد من النصوص التي قد يظهر منها خلاف ذلك، كصحيح الحسين بن أبي العلاء: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: امسح علي الرأس مقدمه و مؤخره» «1» و صحيحة الآخر عنه عليه السّلام: «و سألته عن الوضوء بمسح الرأس مقدمه و مؤخره. فقال: كأني أنظر إلي عكنة في رقبة أبي يمسح عليها» «2» و خبر الحسين بن عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يمسح رأسه من خلفه و عليه عمامة بإصبعه أ يجزيه ذلك؟ قال: نعم» «3».

فان الجمع بين هذه النصوص و النصوص السابقة لو أمكن عرفا بحمل تلك علي الاستحباب، إلا أنه لا مجال له بعد ما عرفت من تسالم الأصحاب علي وجوب المسح علي المقدم و إهمال هذه النصوص المسقط لها عن الحجية، و المقرّب لاحتمال التقية فيها.

مع أن من القريب ظهور الأول في وجوب الجمع بين المقدم و المؤخر- لا التخيير بينهما- كما تضمنه المرفوع إلي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في مسح القدمين و مسح الرأس. فقال: مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس و مؤخره، و مسح القدمين ظاهرهما و باطنهما» «4»، فينافي صريح النصوص المتقدمة و غيرها مما يدل علي الاجتزاء بمسح المقدم، و يلزم بحمله علي التقية.

كما أن ظاهر الثاني جواز الجمع بينهما فلا ينافي وجوب مسح المقدم.

و أما الثالث فحمل النصوص المتقدمة لأجله علي الاستحباب ليس بأولي من حمله لأجلها علي مسح المقدم من جهة الخلف. علي أنه ضعيف السند، لإهمال الحسين بن عبد اللّه أو جهالته.

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 7.

ص: 294

و هو ما يقارب ربعه مما يلي الجبهة (1)،

______________________________

(1) حيث ينقسم الرأس بطبعه أربعة أقسام، المقدم و المؤخر و الجانبين، فالمقدم ما يسامت الجبهة إلي قنة الرأس و وسطه، و قد لا تبلغ مساحته ربع الرأس.

و حمله علي الناصية لما عن القاموس من جعلها من معانيه لا مجال له لتبادر ما ذكرناه منه، كما يقتضيه مقابلته بالمؤخر عند العرف و في كلمات الفقهاء، و لا ينهض كلام القاموس حجة علي خلافه، و لا سيما مع ظهوره- كصريح لسان العرب- في كون الناصية من معاني مقدمة الرأس لا مقدمه، و لا سيما مع تفسيره الناصية- كما عن ابن سيدة- بقصاص الشعر الذي هو أول الرأس مع القطع بعدم اختصاص المقدم به و عدم إرادته في المقام.

و مثله تنزيله عليها بقرينة صحيح زرارة و خبر الحسين المتقدمين، إما بجعلهما مفسرين له أو مقيدين لإطلاقه.

لضعف دلالتهما علي وجوب مسح الناصية- لما تقدم- و ضعف سند الثاني منهما. بل لو فرض ظهورهما في الوجوب فهو لا يقاوم ظهور صحيح محمد بن مسلم في التحديد، فحملهما لأجله علي الاستحباب أقرب من تقييده بهما.

علي أن الناصية لا تخلو عن إجمال بعد اختلافهم في معناها فقد فسرت بالمقدم- كما عن الأزهري و المصباح المنير و تفسير البيضاوي- أو بشعر المقدم- كما في مجمع البيان- و بما بين النزعتين- كما عن التذكرة و غيرها- و بالقصاص- كما في القاموس و مجمع البحرين و عن ابن سيدة- و لعل الأول أقرب للمعني العرفي.

بل لا إشكال في عدم إرادة الثالث في المقام، كما تقدم، و الثاني و إن أمكن إرادته إلا أن صغر مساحته و قربه من الوجه المغسول المستلزم لتعرضه للبلل، يستلزم احتياج مسحه إلي عناية، فلو وجب لظهر و لم يخف علي الأصحاب، و هو لا يناسب إهمالهم التنبيه عليه و إطلاقهم المسح علي المقدم، لاحتياج مثله إلي التنبيه.

ص: 295

و يكفي فيه المسمي طولا و عرضا (1)،

______________________________

و مما تقدم يظهر أنه لا طريق لإثبات استحباب المسح علي الناصية، بمعني ما بين النزعتين، و إن حسن برجاء المطلوبية.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة، و نسب إلي المشهور في كلام غير واحد، بل نسبه في التبيان إلي مذهبنا، و في مجمع البيان إلي أصحابنا، في مقابل العامة، و عن أحكام القرآن للراوندي و ظاهر آيات الأحكام للأردبيلي دعوي الإجماع عليه.

و ربما يرجع إليه ما صرح به جماعة من الاجتزاء بالإصبع، بل في الخلاف و الغنية أن عليه الإجماع، و إن كان صريح بعضهم عدم تأدي الواجب إلا به.

و كيف كان، فهو مقتضي إطلاق الآية الكريمة بالتقريب المتقدم. و كذا النصوص المتضمنة للاجتزاء بالبعض، كصحيح زرارة و صحيح زرارة و بكير المتقدمين، و صحيحهما الآخر عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنه قال في المسح: تمسح علي النعلين، و لا تدخل يدك تحت الشراك، و إذا مسحت بشي ء من رأسك أو بشي ء من قدميك ما بين كعبيك إلي أطراف الأصابع فقد أجزأك» «1» و ما تضمن الأمر بالمسح علي الرأس أو به، فإنه يصدق مع مسح بعضه، و ليس هو كالتعبير بمسح الرأس في ظهوره في الاستيعاب.

و من الغريب ما يظهر من الحدائق من الميل إلي إجمال هذه الأدلة و عدم ظهورها في الإطلاق بدعوي القطع بعدم إرادة بعض ما من الأبعاض و لا شي ء ما من الأشياء، بل بعض معين، فلا بد من تعيينه بأدلة أخري، كما تعين موضع المسح بنصوص المقدم.

لوضوح اندفاعه بأن ظاهر هذه الأدلة عدم تعين مقدار الممسوح و لا محله،

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 296

______________________________

و تقييد نصوص المقدّم لها بالإضافة إلي المحل لا يستلزم إجمالها بالإضافة إلي المقدار.

هذا، و في الفقيه و عن مسائل الخلاف للمرتضي و كتاب عمل يوم و ليلة للشيخ وجوب المسح بثلاث أصابع. و كأن الوجه فيه خبر معمر بن عمر عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: يجزي من المسح علي الرأس موضع ثلاث أصابع. و كذلك الرجل» «1» و صحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع، و لا تلقي عنها خمارها» «2» بناء علي عدم الفصل بين الرجل و المرأة.

لكن لا ظهور للخبرين في أن الثلاث أقل المجزي، غايته إشعارهما بذلك، و هو لا ينهض بتقييد الإطلاق، خصوصا في صحيحي زرارة و بكير اللذين هما كالنص فيه.

مع أن الأول ضعيف السند، و لم يتضح انجباره بالعمل، لأن حكم جماعة باستحباب المسح بثلاث أصابع لعله مبني علي قاعدة التسامح، لا لاعتبار الخبر عندهم.

كما أن ذهاب من عرفت للوجوب- مع قلتهم- إنما هو بمقتضي ظاهر كلامهم الذي يمكن تنزيله علي الاستحباب، لكثرة تسامحهم في التعبير بذلك، و لا سيما مع تصريح بعضهم بالاستحباب في بعض كتبهم، و ظهور ما عرفت من كلماتهم في كون الاجتزاء بالمسمي هو مذهب الإمامية، و لا مجال مع ذلك لإثبات حجية الخبر.

و أما الثاني فهو مشعر بخصوصية المرأة كاشعاره بالمدعي، فلعله وارد لبيان استحباب زيادتها علي الرجل في المسح، كما تضمنه خبر الحسين بن زيد المتقدم، فهو لبيان إجزاء عدم وضع الخمار مع زيادة المسح، لدفع توهم

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 297

______________________________

خصوصية وضع الخمار في ذلك الذي قد يستفاد من خبر الحسين.

مضافا إلي معارضتهما بخبر الحسين بن عبد اللّه و مرسل حماد المتقدمين، و نحوهما حسن حماد عن الحسين: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل توضأ و هو معتم، فثقل عليه نزع العمامة لمكان البرد. فقال: ليدخل إصبعه» «1».

و لا يخفي أن ثقل نزع العمامة عليه لا يستلزم الحرج، فضلا عن خوف الضرر. علي أن عدم نزع العمامة للضرورة لا يستلزم الاقتصار علي إصبع واحدة، كي لا يكشف عن إجزائه اختيارا.

و منه يظهر الاشكال فيما في النهاية من عدم جواز الاقتصار علي ما دون ثلاث أصابع مع الاختيار، فلو خاف البرد من نزع العمامة أجزأه مقدار إصبع واحدة.

إذ لا وجه له إلا حمل الخبر علي الضرورة.

و كذا ما عن ابن الجنيد من أنه يجزي الرجل في المقدم إصبع و المرأة ثلاث أصابع- لو أراد أنه أقل المجزي.

فإنه لا وجه له إلا جعل صحيح زرارة شاهد جمع بين خبر معمر و نصوص الإصبع. و قد عرفت عدم ظهور الجميع في بيان أقل المجزي.

مضافا إلي أن الفرق المذكور لو كان ثابتا بنحو الوجوب لم يخف مع كثرة الابتلاء بالحكم، فلا يمكن خفاؤه علي الأصحاب و إهمالهم التنبيه عليه.

و أما ما ذكره بعض الأصحاب و حكي عن جماعة من وجوب المسح بإصبع واحدة، إما لعدم تأدي المسمي إلا به- كما عن الدروس- أو لتقييد إطلاق الأدلة بنصوص الإصبع المتقدمة، بحملها علي بيان أقل المجزي- كما يظهر من الشيخ قدّس سرّه في التهذيب.

فلا مجال له، لمنع الأول. و الثاني لا قرينة عليه في النصوص المتقدمة، بل غاية ما تضمنته جواز إدخال الإصبع تحت العمامة في مقابل وجوب نزعها، فإنه

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 298

و الأحوط استحبابا أن يكون العرض قدر ثلاث أصابع و الطول قدر إصبع (1).

______________________________

الذي يسهل إدخاله حين لبسها، و لا إشعار فيها بالتقدير به، بنحو لا يجوز المسح ببعضه، أو مع جفاف الماء عن بعضه.

فيتعين الاكتفاء بالمسمي من دون تحديد، عملا بالإطلاق الذي عرفت قوة ظهور صحيحي زرارة و بكير فيه، حتي كادا يكونان صريحين فيه.

(1) عرفت من بعض الأصحاب وجوب كون الممسوح بقدر ثلاث أصابع، و قد أفتي جماعة منهم باستحباب ذلك. و كأنه للعمل بخبر معمر، و يتجه لو تمت قاعدة التسامح.

هذا و قد أطلق جمع منهم من دون تقييد بالطول و العرض، كما قيده بعضهم بالعرض.

و قد وقع الكلام منهم في تعيين المراد من النصوص و كلمات الأصحاب.

و اختلفوا في ذلك علي أقوال.

الأول: أن المراد التحديد بذلك في جانب عرض الرأس، مع الإطلاق و الاكتفاء بمسمي المسح في جانب طوله، كما في جامع المقاصد و عن محكي شرح الدروس و اللوامع، بل ظاهر الأول و صريح الأخيرين كون ذلك مراد جميع الأصحاب.

الثاني: مرور الماسح علي الرأس بهذا المقدار، كما هو صريح المسالك و ظاهر الجواهر. نعم، أطلق في المسالك اتجاه المسح في الطول و العرض، و في طول الممسوح و عرضه. و احتمل في الجواهر كون اتجاه المسح في طول الرأس.

الثالث: أن يكون الممسوح من عرض الرأس بقدر طول إصبع، بقدر عرض ثلاث أصابع مضمومة، و هو الذي استظهره في الحدائق من الأخبار، تبعا للاسترابادي.

ص: 299

______________________________

الرابع: عكس الوجه المذكور. و لا يبعد إرادة سيدنا المصنف قدّس سرّه من المتن، لأنه فهم هذا الوجه من عبارة العروة الوثقي المقاربة لعبارته هنا، و إن لم يرتضه و قرّب الوجه الأول.

الخامس: التخيير بين الوجهين المذكورين، و هو الذي صرح به في المستند، و يحتمله ما في العروة الوثقي.

و الذي ينبغي أن يقال: لا بد في تحديد كل شي ء من ذكر حدوده المقومة له، فيحدد الخط ببعد واحد، و السطح ببعدين، و الجسم بأبعاد ثلاثة. و حيث لا يصدق المسح بالخط عرفا، بل يتوقف علي كون الممسوح سطحا ذا بعدين، تعين الاتكال في الحديثين المتقدمين المتضمنين للتحديد بثلاث أصابع في بيان البعد الثاني علي البعد المذكور فيهما، فيكون المراد مسح مساحة من الرأس بقدر ثلاث أصابع مربعة، نظير ما تقدم في تحديد الكر من الاتكال في بيان البعد الثالث علي البعدين المذكورين في النصوص لمشابهته لهما.

و بهذا يفترق التحديد في الرأس عن التحديد في الرجلين الذي تضمنه أيضا خبر معمر، لأن وضوح وجوب الاستيعاب فيهما في جانب الطول يوجب انصراف التحديد إلي خصوص العرض، بخلاف الرأس.

و لا مجال للاتكال فيه في بيان أحد البعدين علي الإطلاق- كما هو مبني الوجه الأول و الثاني- لأن مبني التحديد في كلا البعدين علي مخالفته و تقييده، فهو مما يغفل عنه في مقام التحديد و لا يلتفت إليه كي يتكل عليه. بل صدق قدر ثلاث أصابع علي خصوص قدرها في أحد البعدين و أدني المسمي في الثاني بعيد عن العرف جدا.

نعم، لو لم يكن تحديد أحد البعدين منافيا للإطلاق، أو أشير في التحديد إلي تحديد أحدهما المعين أو المردد اتجه الرجوع للإطلاق في الثاني.

كما لا مجال للحمل علي تحديد البعد الثاني بطول الإصبع، لأن منصرف التحديد بالأصابع الثلاثة إلي قدر عرضها الحاصل من ضم بعضها لبعض، و لذا كان

ص: 300

______________________________

هو المفهوم في تحديد ما له بعد واحد بها، و لا ينصرف إلي الطول الحاصل لكل منها و لو مع عدم الانضمام.

و منه يظهر ضعف جميع الوجوه المتقدمة. مضافا إلي الإشكال في الوجه الأول و الثالث و الرابع بأن صرف التحديد بعرض ثلاث أصابع إلي خصوص طول الرأس، أو عرضه، بلا مرجح.

و في الثاني بأن ظاهر الخبرين تحديد مساحة الممسوح لا حركة الماسح.

و من ثمَّ كان الوجه الخامس أقوي تلك الوجوه، و إن كان ما ذكرنا أظهر منه.

و أما الاستدلال علي الثالث- كما عن الأسترابادي- بصحيح زرارة المتقدم المتضمن مسح الناصية، بدعوي ظهوره في مسح تمامها.

فكأنه مبني علي تفسير الناصية بما بين النزعتين، و تخيل كونها حينئذ ذات شكل مربع علي الوجه المذكور.

و قد عرفت الإشكال في الأول آنفا، كما يشكل الثاني بأن الناصية بهذا المعني مثلثة لا مربعة و ضلعها الأعلي أطول من إصبع، و قطر مثلثها دون ثلاث أصابع.

و أشكل من ذلك الاستدلال له بأنه مقتضي الجمع بين نصوص الإصبع و نصوص الثلاث.

لوضوح أن نصوص الإصبع لم تتضمن التقدير به، بل المسح به بإدخاله تحت العمامة، و من الظاهر أن المسح به حينئذ يكون طولا لا عرضا، فيكون عرض الممسوح بقدر إصبع أو دونه، لا بقدر ثلاث أصابع.

هذا، و المذكور في الفقيه و إشارة السبق هو المسح بثلاث أصابع.

و لا شاهد له، لأن الخبرين المتقدمين قد تضمنا تقدير الممسوح بقدر ثلاث أصابع- و إن لم يسمح بها- و هو المعروف في كلمات الأصحاب، و ربما ينزل ما في الكتابين المذكورين عليه.

بقي في المقام أمور.

ص: 301

______________________________

الأول: صرح باستحباب مسح قدر ثلاث أصابع مضمومة في المقنعة و الخلاف و الغنية و الوسيلة و المعتبر و الشرائع و القواعد و المنتهي و غيرها، و هو المحكي عن مصباح السيد و جمله و المبسوط و المهذب و الإصباح و السرائر و غيرها.

و ربما يرجع إليه ما في المراسم من أن أقل المسح مقدار إصبع واحدة و أكثره مقدار ثلاث أصابع. و الوجه فيه خبر معمر المتقدم، لأن العدول في ذكر المجزي عن الإصبع إلي الثلاث ظاهر في الاهتمام بها و رجحانها.

نعم، ضعف الخبر و عدم وضوح انجباره بعملهم به في المستحبات- كما أشرنا إليه آنفا- يمنع من الفتوي به إلا بناء علي قاعدة التسامح في أدلة السنن.

الثاني: أطلق جماعة استحباب مسح مقدار ثلاث أصابع من دون إشارة للفرق بين الرجل و المرأة.

لكن في المقنع و الهداية أنها تلقي عنها قناعها في صلاة الغداة و المغرب، و يجزيها في بقية الصلوات أن تدخل إصبعها تحته من دون أن تلقيه، و نحوه في المقنعة و زاد أنها تمسح بثلاث أصابع بعد إلقاء قناعها في الوقتين المذكورين، و في المعتبر و المنتهي أنه يستحب لها أن تلقي خمارها و يتأكد في الصبح و المغرب.

و قد تقدم عن ابن الجنيد التفريق بينهما بإجزاء الإصبع للرجل و الثلاث للمرأة.

و قد تقدم في رواية الحسين بن زيد أنها تضع الخمار في خصوص الصبح، و في رواية جابر الجعفي عن الباقر عليه السّلام: «و لا تمسح كما يمسح الرجال، بل عليها أن تلقي الخمار من موضع مسح رأسها في صلاة الغداة و المغرب و تمسح عليه، و في سائر الصلوات تدخل إصبعها فتمسح علي رأسها من غير أن تلقي عنها خمارها» «1» و يتعين الجمع بينهما بتأكد الفضل في الصبح.

كما تقدم قرب أن يكون إلقاء الخمار كناية عن زيادة المسح بمسح. مقدار

______________________________

(1) الوسائل كتاب النكاح باب: 123 من أبواب مقدماته و آدابه حديث: 1. كتاب الخصال ص: 553 طبع النجف الأشرف.

ص: 302

______________________________

ثلاث أصابع بقرينة صحيح زرارة المتقدم.

و لا بد من حمل الجميع علي الاستحباب، و إن كان ظاهر المقنع و الهداية و المقنعة الوجوب، لبعد خفاء مثل هذا الحكم، أو إهمال الأصحاب له لو كان إلزاميا، لكثرة الابتلاء به. و لا سيما مع ضعف خبري الحسين و جابر سندا، و عدم ظهور صحيح زرارة في بيان أقل المجزي، كما سبق.

و يكون المحصل من جميع ما تقدم: استحباب المسح بثلاث أصابع مطلقا، و يتأكد في المرأة في صلاتي الصبح و المغرب، و هو في صلاة الصبح لها آكد.

هذا مع الغض عن ضعف أخبار معمر و الحسين و جابر، أو بناء علي قاعدة التسامح، و إلا فالمتعين البناء علي استحباب مسح مقدار الثلاث للمرأة مطلقا، عملا بصحيح زرارة.

الثالث: تقدم في أول المسألة عدم مشروعية مسح تمام الرأس، إما لاختصاص التشريع بالبعض، أو لأن مقتضي الاكتفاء بالمسمي عدم مشروعية ما زاد عليه بعد فرض كون المسح تدريجيا.

كما أن مقتضي نصوص المقدم و لا سيما صحيح محمد بن مسلم الأول عدم مشروعية مسح غير المقدم حتي معه. فيكون الإتيان به بقصد مشروعيته بدعة و حراما.

و يبطل الوضوء إن كان التشريع فيه قيدا في امتثال أمر الوضوء، أو راجعا إلي التشريع في نفس أمر الوضوء، بأن يشرّع أمرا وضوئيا آخر مشتملا علي الزيادة المذكورة. و إن كان التشريع في نفس الزيادة، بأن يشرّع في كيفية الأمر الوضوئي المشروع المعهود، مع قصد امتثاله علي إطلاقه، لم يبطل الوضوء، إلا أن يتحقق مسحه مع المسح الواجب بحركة واحدة دفعية، فإن حرمة الحركة المذكورة و امتناع التقريب بها لاشتمالها علي التشريع يبطل المسح بالمقدار الواجب الحاصل بها.

و ربما يأتي في مباحث النية ما له دخل في المقام.

ص: 303

و الأحوط وجوبا أن يكون بنداوة الكف اليمني (1)،

______________________________

و إن لم يكن مسح الزائد بقصد مشروعيته فلا مجال لحرمته، فضلا عن إبطاله.

و في الروضة و عن الدروس و الذكري و المقاصد العلية كراهة الاستيعاب حينئذ.

و لم يتضح وجهه، و في الجواهر: «و لعله من جهة التشبه بالعامة. و الأمر سهل».

و أما المقدم فقد عرفت إجزاء مسمي المسح منه، و استحباب كونه بقدر ثلاث أصابع- و لو بناء علي قاعدة التسامح- فان وقع دفعة كان أفضل فردي الواجب، و إن وقع تدريجا تحقق الواجب بالمسمي، و كان الزائد مستحبا محضا، علي ما هو مقتضي قاعدة إجزاء المسمي و سقوط الأمر به. و التخيير بين الأقل و الأكثر التدريجين مخالف للإطلاق، كما يذكر في محله.

و أما ما زاد علي ذلك من المقدم، فان وقع بعد مسح مقدار الثلاث لكون المسح تدريجيا فلا دليل علي مشروعيته، و يلحقه ما تقدم في مسح غير المقدم تدريجا، و إن وقع معها لكون المسح دفعيا تعين وقوع الامتثال به بتمامه حتي لو فرض استيعاب تمام المقدم، لدخوله في إطلاق المسح و عدم منافاته للتبعيض في الرأس.

و لا وجه لما تقدم من المراسم من أن أكثر المسح قدر ثلاث أصابع إن أراد به تحديد المشروع لا المستحب، و كذا ما عن الكركي من عدم مشروعية ما زاد علي الثلاث.

فإن دليل الثلاث إنما يقتضي مشروعيتها، بل استحبابها، لا عدم مشروعية ما زاد عليها، ليصلح لتقييد الإطلاق. فلاحظ.

(1) هذا يرجع إلي اعتبار أمور.

ص: 304

______________________________

الأول: أن يكون المسح ببقية ماء الغسل الوضوئي، لا بماء آخر بعد إكماله.

و هو المنسوب لأكثر أصحابنا في الخلاف، و إن ادعي عليه إجماع الفرقة بعد ذلك، كما ادعي عليه الإجماع في الانتصار و الغنية و محكي التذكرة و نهاية الإحكام و ظاهر التنقيح، و جعله من متفردات الإمامية، و ظاهر جامع المقاصد و الروض و المدارك و محكي الذكري أنه مذهب الأصحاب عدا ابن الجنيد، حيث صرح في محكي كلامه بجواز استئناف ماء جديد مع جفاف الأعضاء [1].

و كيف كان، فقد استدل عليه في كلام غير واحد بنصوص الوضوءات البيانية فقد اشتمل جملة منها علي التصريح بذلك و بأنه مسح بفضل الندا، و أنه لم يعد يده في الإناء، و نحو ذلك مما يظهر منه تنبه الراوي لذلك.

نعم، في المعتبر: «و ذكر البزنطي في جامعه عن جميل عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: حكي لنا وضوء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و قال: ثمَّ مسح بما بقي في يده رأسه و رجليه، ثمَّ قال أحمد البزنطي: و حدثني المثني عن زرارة و أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام مثل حديث جميل في الوضوء، إلا أنه في حديث المثني: ثمَّ وضع يده في الإناء فمسح رأسه و رجليه» «2». و احتمال تعدد الواقعة مانع من التعارض بين روايتي جميل و المثني، و حيث كانت رواية المثني حسنة أو صحيحة كانت دليلا للجواز.

اللهم أن يستشكل فيها بأن إطباق نصوص الوضوءات البيانية علي حكاية وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله- الظاهر في إرادة الوضوء الشائع منه- علي خلاف ما تضمنته و التأكيد فيها علي عدم أخذ الماء الجديد مانع من الوثوق بها و مقرب لاحتمال الخطأ فيها و مسقط لها عن الحجية، و لا سيما بعد إهمال الأصحاب لها فلم يرووها

______________________________

[1] قال فيما حكاه عنه في محكي المختلف: «إذا كان بيد المتطهر نداوة يستبقيها من غسل يديه مسح بيمينه رأسه و رجله اليمني و بنداوة اليسري رجله اليسري، و ان لم يستبق ذلك أخذ ماء جديدا لرأسه و رجليه» و منه يظهر أنه لا ينبغي نسبة الخلاف له في أصل الحكم و أنه يري جواز الاستئناف مطلقا و لو مع عدم جفاف بلة الوضوء، كما يظهر من بعضهم. منه عفي عنه.

______________________________

(2) تراجع النصوص المذكورة في الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء، و غيرها من الأبواب المتفرقة.

ص: 305

______________________________

في كتبهم المشهورة، و لم يهتموا بمناقشتها، فكأنها عندهم شاذة لا يعول عليها.

فالعمدة: ما تكرر غير مرة من عدم دلالة الوضوءات البيانية علي الوجوب، و لا سيما في المقام، حيث كان مذهب جمهور العامة وجوب الاستئناف، و القول بجواز المسح ببلة الوضوء غير شائع بينهم.

و مثله الاستدلال بما في صحيح زرارة بعد حكاية وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله من قوله: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إن اللّه وتر يحب الوتر، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه، و اثنتان للذراعين، و تمسح ببلة يمناك ناصيتك، و ما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمني، و تمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسري» «1».

لقرب أن يكون قوله: «و تمسح.» جملة خبرية مسوقة مساق الأمر الوارد في مقام دفع توهم الحظر، لبيان إجزاء المسح بالبلة، و عدم وجوب الاستئناف، جريا علي ما تضمنه الصدر من إجزاء الغرفات الثلاث، فان احتفاف الأمر بذلك صالح لصرفه عن ظاهره، بلا حاجة إلي دعوي: كونه معطوفا علي فاعل: «يجزيك».

ليستشكل فيه بتوقفه علي تقديره بالمصدر، أو علي إضمار «أن»، و كلاهما خلاف الأصل. بل قد يدعي المنع من الثاني، لتوقفه- كما عن ابن الأنباري- علي كون المعطوف عليه مصدرا. فتأمل جيدا.

فالأولي الاستدلال علي ذلك بطائفتين من النصوص.

الأولي: ما تضمن الأمر به ابتداء، مثل ما في صحيح ابن أذينة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث المعراج و وحي اللّه تعالي لنبيه صلّي اللّه عليه و آله في الوضوء من قوله:

«ثمَّ أوحي اللّه إليه أن اغسل وجهك فإنك تنظر إلي عظمتي، ثمَّ اغسل ذراعيك اليمني و اليسري، فإنك تلقي بيدك كلامي، ثمَّ امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء و رجليك إلي كعبيك فإني أبارك عليك.» «2» المؤيد بما ورد في قصة علي بن يقطين من قوله عليه السّلام: «و امسح بمقدم رأسك و ظاهر قدميك من فضل نداوة

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 306

______________________________

وضوئك.» «1».

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من إجمال الصحيح، لأنه وارد في بيان قصة خارجية.

فلا مجال له، لظهور الأمر في الوجوب.

و احتمال كون القيد ليس للأمر الوضوئي بعيد عرفا، كاحتمال خصوصيته صلّي اللّه عليه و آله في القضية الخاصة أو في مطلق وضوئه. و لا سيما مع اشتماله علي بعض الخصوصيات، كتحديد الرجلين بالكعبين الظاهر في شرح الوضوء المشروع.

و حينئذ ينهض هذا الصحيح بشرح صحيح زرارة المتقدم الحاكي لوضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله و حمل قوله عليه السّلام فيه: «فقد يجزيك من الوضوء.» علي اجزاء الغرفات الثلاث لخصوص الغسل الوضوئي في مقابل إمكان الزيادة عليها له، لا علي ما يعم المسح. و لا يكون قوله عليه السّلام: «و تمسح ببلة.» متفرعا علي قوله: «فقد يجزيك.»

ليمنع من ظهوره في الوجوب كما تقدم احتماله، بل هو جملة مستأنفة، فتحمل علي الوجوب كما هو ظاهرها بدوا، و تنفع في إثبات وجوب القيود المذكورة فيها، كما يأتي في بعض الفروع الآتية.

الثانية: ما تضمن وجوب المسح من بلل اللحية أو أشفار العينين، كحسن مالك بن أعين أو صحيحة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من نسي مسح رأسه ثمَّ ذكر أنه لم يمسح رأسه، فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه و ليمسح رأسه، و إن لم يكن في لحيته بلل فلينصرف و ليعد الوضوء» «2» و نحوه مرسل الفقيه «3».

فإن الأمر بالمسح من بلل اللحية ظاهر في وجوبه و عدم جواز المسح بماء جديد، و لا سيما مع ما في المسح من بلل اللحية من العناية، لقلته. مضافا إلي

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 72.

(3) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 307

______________________________

التصريح فيهما باستئناف الوضوء مع جفاف بلل اللحية.

و دعوي: أنه قد يكون ناشئا عن الخلل بالموالاة، لأن المعيار فيها علي عدم الجفاف.

مدفوعة: بأن الجفاف المخل بالموالاة هو الجفاف الناشئ عن طول المدة، لا عن مثل التمندل الذي يشمله إطلاق الخبرين. بل عدم البلل في اللحية لا ينافي بقاء رطوبة بقية الأعضاء قليلا بنحو يحفظ الموالاة، و إن لم يمكن نقل البلة منها و المسح بها.

نعم، لا مجال للاستدلال بمرسل خلف بن حماد عنه عليه السّلام: «قلت له: الرجل ينسي مسح رأسه و هو في الصلاة. قال: ان كان في لحيته بلل فليمسح به. قلت: فان لم يكن له لحية؟ قال: يمسح من حاجبيه أو أشفار عينيه» «1». و قريب منه خبرا زرارة و أبي بصير «2».

للإشكال: فيها.

تارة: بظهورها في صحة الدخول في الصلاة مع نقض الوضوء نسيانا، و هو مما يصعب الالتزام به، و لا سيما مع مخالفته لبعض النصوص المعتبرة «3». و ربما يلزم لأجل ذلك حملها علي صورة الشك، كما تضمنته بعض النصوص «4»، و منها خبر أبي بصير الآتي.

و اخري: بإمكان أن يكون الأمر بالمسح من ماء الوضوء فيها لغرض الدخول في الصلاة، لأنه الأقرب للمحافظة علي هيئتها، و لا سيما مع ما في خبر أبي بصير عنه عليه السّلام: «في رجل نسي أن يمسح علي رأسه فذكر و هو في الصلاة. فقال: إن كان استيقن ذلك انصرف فمسح علي رأسه و علي رجليه و استقبل الصلاة، و إن شك

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 3، 9.

(3) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء.

(4) راجع الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء.

ص: 308

______________________________

فلم يدر مسح أو لم يمسح فليتناول من لحيته إن كانت مبتلة و ليمسح علي رأسه، و إن كان أمامه ماء فليتناوله منه فليمسح به علي رأسه» «1». فإنه و إن كان خارجا عما نحن فيه، لوروده في الشك الذي هو مورد قاعدة الفراغ، إلا أنه يقوي الاحتمال الذي ذكرنا في النصوص المذكورة.

اللهم إلا أن يجمع بين هذه النصوص و ما تضمن وجوب استئناف الصلاة مع نقص شي ء من الوضوء بحملها علي وجوب الاستئناف و رفع اليد عما ينسبق منها بدوا من صحة الدخول في الصلاة مع نقص الوضوء نسيانا، فإنه أقرب من حملها علي صورة الشك. فيتجه الاستدلال بها. فتأمل.

فالعمدة ما تقدم، لوفائه بالمطلوب، و لا سيما بعد ظهور تسالم الأصحاب علي الحكم و ظهوره عندهم حتي عدّ من متفرداتهم.

و خلاف ابن الجنيد لا يرجع إلي إنكاره، بل إلي تقييده بصورة عدم جفاف ما علي اليد، و هو ظاهر في مفروغية عن أصل الحكم.

بل ربما حاول بعضهم حمل كلامه علي أن المراد بالماء الجديد ماء غير اليد من ماء الوضوء، كبلل اللحية و الأشفار، فيوافق الأصحاب، أو علي أن المراد بالجفاف ليس خصوص جفاف ما علي اليد، بل جفاف ماء الوضوء بتمامه مع اختصاصه بالجفاف القهري لحرارة الهواء بنحو يتعذر إبقاء البلل، حيث ذهب بعضهم إلي جواز الاستئناف حينئذ، كما يأتي في المسألة السادسة و العشرين. إن شاء اللّه تعالي.

لكن الإنصاف أن الوجهين معا مخالفان لظاهر كلامه المتقدم، و إن كان الثاني منهما هو المناسب لما عن شرح الموجز حيث حكي عن ابن الجنيد أنه صرح في موضع آخر بأنه لو تعذر بقاء البلل للمسح جاز الاستئناف للضرورة و نفي الحرج.

و كيف كان، فليس هو مخالفا للأصحاب في أصل الحكم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 309

______________________________

و مثل هذا التسالم كاشف عن وضوح الحكم عندهم و اطلاعهم علي دليل واف به، و لو كان هو احتفاف بعض النصوص البيانية أو غيرها لبيان الوجوب، لا أصل الجواز، فلا ينبغي التوقف في الحكم بعد جميع ما تقدم، و الخروج به عن الإطلاقات.

و منه يظهر حال ما ظاهره وجوب الاستئناف، و هو خبر أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مسح الرأس، قلت: أمسح بما علي يدي من الندا رأسي؟ قال:

لا، بل تضع يدك في الماء ثمَّ تمسح» «1» و في صحيح معمر بن خلاد: «سألت أبا الحسن عليه السّلام: أ يجزي الرجل أن يمسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال برأسه: لا. فقلت:

أ بماء جديد؟ فقال برأسه: نعم» «2» و خبر جعفر بن عمارة: «سألت جعفر بن محمد عليه السّلام: أمسح رأسي ببلل يدي؟ قال: خذ لرأسك ماء جديدا» «3».

فإن مخالفتها للإجماع و للنصوص المتقدمة و غيرها من النصوص المستفيضة أو المتواترة الصريحة في جواز المسح ببقية البلل تلزم برفع اليد عنها أو حملها علي التقية لموافقتها لمشهور العامة.

هذا، و أما ما عن ابن الجنيد فإن أراد به صورة تعذر إبقاء البلة فالكلام فيه موكول للمسألة السادسة و العشرين.

و إن أراد به مطلق الجفاف و لو اختيارا فهو مخالف لإطلاق خبر مالك بن أعين و مرسل الصدوق و ما ورد في قضية علي بن يقطين. دون صحيح ابن اذنية، لأنه وارد في قضية خاصة لا إطلاق لها.

و أما الاستدلال عليه بما في ذيل خبر أبي بصير المتقدم، بتقريب: أن مورده و إن كان صورة الشك بعد الفراغ التي لا يعتني فيها بالشك، فالأمر فيها بالمسح لا بد أن يكون للاحتياط غير اللازم، إلا أن الاحتياط لا يتأتي بفعل غير المجزي واقعا، فيكشف جواز المسح بالماء الجديد فيه عن إجزائه واقعا.

ففيه: أن لازم ذلك صحة الدخول في الصلاة مع نقص الوضوء نسيانا، و هو

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 6.

ص: 310

______________________________

مخالف لصدره و لكثير من النصوص الواردة في الوضوء و غسل الجنابة «1»، فلا بد من حمله و حمل غيره مما ورد في الشك في بعض أجزاء الوضوء أو الغسل حال الصلاة «2» علي كونه مستحبا تعبديا حال الشك، و إن لم يحصل به الاحتياط للواقع، فالتسامح فيه بالاجتزاء باستئناف ماء للمسح لا يكشف عن إجزائه واقعا.

اللهم إلا أن يدعي أن الغرض منه الاحتياط لتصحيح الوضوء و الغسل واقعا، لا لتصحيح الصلاة، بل يجتزي بصحتها ظاهرا لقاعدة الفراغ، فيدل علي صحة الوضوء مع الاستئناف.

لكنه بعيد، و لا سيما في الوضوء الذي يغلب تكراره مع كل صلاة، فلا يهتم بالاحتياط فيه إلا للاحتياط فيها، إذ لا أقل مع ذلك من إجمال جهة الأمر، بنحو يمنع من استفادة إجزاء المسح بالماء الجديد واقعا في مورد النص و هو الشك، فضلا عن صورة اليقين بنقص الوضوء، و خصوصا ما كان منه قبل الدخول في الصلاة و مع عدم تعذر المسح بالبلة، ليمكن الخروج به عما تقدم. فلاحظ.

الثاني: أن يكون ببلة اليد الباقية بعد الغسل، فلا يجوز الأخذ من بلل بقية الأعضاء مع وجود البلة في اليد. و هو المنسوب لظاهر عبارات الأصحاب.

و كأنه لترتيبهم بين الأخذ من اللحية أو الأشفار و جفاف اليد. كما أنه المصرح به في كشف اللثام و الظاهر من الوحيد في حاشية المدارك و محكي شرح المفاتيح.

لكن في المدارك أن التعليق في عبارات الأصحاب مخرج الأغلب، و عن السيد الطباطبائي أنه لبيان شرط وجوب الأخذ، لا جوازه. و لعل الأقرب حمل تعليقهم له علي الجفاف علي أنه ناشئ من كون الجفاف مورد الحاجة للأخذ، لا لاشتراطه فيه، كما يناسبه اقتصارهم علي اشتراط كون المسح ببلة الوضوء و عدم استئناف الماء من دون تقييد ببلة اليد.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء.

(2) راجع الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 311

______________________________

بل هو ظاهر المنتهي، حيث استدل علي جواز الأخذ من اللحية و الأشفار لو جف ما علي اليد بأنه ماء الوضوء، فأشبه ما لو كان علي اليد، إذ الاعتبار بالبقية، لا بمحلها، و هو الذي صرح به في المسالك و الروض و المدارك، و حكي عن المقاصد العلمية و السيد الطباطبائي و كاشف الغطاء و مال إليه في الجواهر.

و مما سبق يظهر أنه لا مجال للاستدلال علي التقييد ببلة اليد بنصوص الوضوءات البيانية. كما لا مجال للاستدلال بما تضمن المسح باليد أو بالأصابع أو بالكف، لأنه أعم.

نعم، قد يستدل عليه- كما يظهر من الوحيد- بنصوص الأخذ من اللحية أو الأشفار، لظهور التقييد فيها بالجفاف في عدم مشروعيته بدونه.

لكن أكثر هذه النصوص لم تتضمن التقييد المذكور، كما يظهر بملاحظة ما تقدم منها.

بل لا مجال لدعوي اختصاص موردها به، لأنه و إن كان المنصرف من نسيان المسح هو مرور مدة يغلب فيها الجفاف، إلا أن شموله لما إذا بقي قليل من البلل في بعض المواضع التي لا يتعارف المسح بها من اليدين قريب.

و اقتصار النصوص حينئذ علي الأخذ من اللحية و الأشفار لعله لغلبة كثرة الماء فيها بنحو يسهل نقله و لا يحتاج إلي عناية، بخلاف بقية المواضع، لا لفرض الجفاف فيها.

نعم، لو أريد جفاف خصوص باطن الكفين فاختصاص النصوص به قريب، لعدم الحاجة إلي الأخذ بدونه.

و أما مرسل الصدوق: «قال الصادق عليه السّلام: إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه و علي رجليك من بلة وضوئك، فان لم يكن بقي في يدك من نداوة وضوئك شي ء فخذ ما بقي منه في لحيتك. و إن لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك و أشفار عينيك.» «1».

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 312

______________________________

فهو و إن اشتمل علي الترتيب بين جفاف اليد و الأخذ من اللحية و الأشفار، إلا أنه- مع ضعفه- ظاهر في سوق ذلك للتنبيه علي مجال بلل الوضوء الذي أوجب المسح به أولا، لبيان عمومه لمثل بلل اللحية، لا للترتيب بينهما شرعا تقييدا لإطلاق المسح بالبلل، فالترتيب بينهما خارجي عرفي بلحاظ عدم الحاجة للأخذ مع عدم الجفاف، كالترتيب بين اللحية و الأشفار بلحاظ كثرة بلل اللحية الموجب للتوجه إليه أولا، و إن لم يكن بينهما ترتيب شرعي، و لذا لم يعثر- كما في الجواهر- علي من أفتي به، و لا علي من أفتي باشتراط الأخذ من الأشفار بعدم اللحية، كما تضمنه هذا المرسل و غيره.

فالأولي الاستدلال علي التقييد ببلة اليد بصحيح ابن أذينة المتقدم المتضمن الأمر بالمسح بفضل ما بقي في اليد، المؤيد بصحيح زرارة المتقدم أيضا المتضمن المسح ببلة اليد اليمني و اليسري، فإنه و إن كان ظاهرا بقرينة صدره في الاجزاء لا الوجوب، إلا أن القرينة المذكورة إنما تقتضي ذلك بالإضافة إلي أصل البلة في مقابل الاستئناف لا إلي خصوصية اليدين، كما تقدم نظيره في وجوب مسح المقدم، فهو إن لم يكن ظاهرا في وجوب الخصوصية المذكورة فلا أقل من كونه مشعرا به، و يكون مؤيدا لصحيح ابن أذينة.

بل سبق عند الكلام في وجوب المسح ببلة الوضوء حمل صحيح زرارة علي وجوب المسح بالبلة، فيكون عاضدا لصحيح ابن أذينة في المقام، لقوة ظهورهما في خصوصية الماء الباقي في اليد. و حملهما. علي الماء الموجود عليها و لو بسبب أخذه من غيرها لبيان وجوب كون المسح باليد. مخالف لظاهرهما، جدا.

و به ترفع اليد عن إطلاقات المسح، و إطلاق ما ورد في قصة علي بن يقطين من الأمر بالمسح بنداوة الوضوء، فتنزل علي مقتضي الغالب المطابق له.

نعم، قد يشكل ذلك بلحاظ السيرة علي عدم التحرز من استمرار الغسل زائدا علي المقدار الواجب- كما أشار إليه السيد الطباطبائي في محكي كلامه- بناء

ص: 313

______________________________

علي لزوم التقيد باليمين و اليسار، بل و عدم تحرزهم عن مطلق اختلاط ماء اليد بغيره بعد إكمال الغسل- كما في الجواهر- فلا يلتفت إلي اجتناب مثل حكّ ما يحتاج إلي الحك من الوجه و غيره.

اللهم إلا أن يقتصر علي المتقين من السيرة و هو ما لا يصدق عليه عرفا المسح ببلل غير اليد، لعدم تميزه و الاعتداد به، بل يغفل عنه، دون غيره مما يصدق معه الأخذ من غير اليد و المسح بغير مائها، و إن كان الأمر لا يخلو عن إشكال. و اللّه سبحانه و تعالي العالم بحقائق الأحكام.

الثالث: أن يكون المسح باليد، ففي الحدائق: «قد ذكر جملة من أصحابنا أنه لا يجوز المسح بغير اليد اتفاقا»، و نفي شيخنا الأعظم قدّس سرّه فيه الخلاف نصا و فتوي.

و من الظاهر تعذر مسح الرأس بغير اليد من أعضاء الوضوء، و هو الوجه، و إنما يمكن ذلك في مسح الرجلين.

و حينئذ إن أريد مسحهما ببلة الوجه، كان مدفوعا بصحيح ابن أذينة المتقدم، و إن أريد مسحهما ببلة اليد بعد نقلها للوجه فهو خلاف المنصرف من الصحيح المذكور، و المنصرف منه المسح بالبلة الباقية في اليد حال بقائها فيها، كما قد يشير إليه ما تضمنته بعض نصوص الوضوءات البيانية من مسحه عليه السّلام ببلة اليد من دون أن يدخلها في الإناء. و إلا جاز المسح بغير أعضاء الوضوء من خشبة أو نحوها بعد انتقال بلة اليد إليها و لو بالتقاطر عليها، و لا يظن من أحد الالتزام بجوازه.

هذا، و لو لم يبلغ الانصراف المذكور مرتبة الظهور كان مقتضي الإطلاق الجواز.

و أما ما تضمّن المسح باليد أو بالأصابع مما تقدم بعضه، فهو ظاهر في الاجزاء لا الوجوب.

نعم، في صحيح البزنطي عن الرضا عليه السّلام: «سألته عن المسح علي القدمين كيف هو؟ فوضع كفه علي الأصابع فمسحها إلي الكعبين إلي ظاهر القدم. فقلت:

ص: 314

______________________________

جعلت فداك لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا؟ فقال: لا إلا بكفه [بكفيه.

خ ل] كلها» «1».

لكن لزوم حمله علي استحباب المسح بتمام الكف- كما يأتي إن شاء اللّه تعالي- مانع من الاستدلال به علي وجوب كونه بالكف أو باليد، لأن استفادة المسح باليد منه بتبع دلالته علي استيعاب الكف، لا في قباله، ليمكن التفكيك بينهما في الوجوب و الاستحباب.

الرابع: أن يكون بالكف، كما في الجواهر و منظومة السيد الطباطبائي قدّس سرّه و ظاهر محكي الذكري، بل ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنه المحكي عن جماعة.

و في الجواهر أن المتبادر من إطلاق النص و الفتوي المسح باليد، و هو المتعارف في المسح، و الذي يرشد إليه ما تضمن من نصوص الوضوءات البيانية المسح بالكف.

لكن التبادر ناشئ من التعارف الذي تكرر عدم نهوضه بتقييد الإطلاق.

و لا سيما مع كون استفادة وجوب المسح باليد تبعا لدلالة الصحيح علي وجوب المسح ببلتها، لا للأمر به بنفسه.

كما تقدم غير مرة عدم نهوض الوضوءات البيانية لإفادة الوجوب، فلا مخرج عن الإطلاق.

اللهم إلا أن يقال: المسح من سنخ الأعمال فالمنصرف من إطلاقه إرادة الإتيان به بالكف، خصوصا بناء علي وجوب الإتيان به باليد، لأن الكف هي آلة العمل في اليد.

نعم، لا مجال لتخصيصه بالأصابع- و إن نسبه في الحدائق إلي جملة من الأصحاب- لعدم الدليل علي ذلك عدا ما تضمنته النصوص المتقدمة في المسح تحت العمامة، مما لا ظهور له إلا في الإجزاء، كما تقدم. بل في الجواهر: «لم أقف

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 315

______________________________

علي مصرح به، و لا دليل يقتضيه».

هذا، و لو تعذر المسح بالكف أو بالأصابع علي القول بوجوبه، لم يبعد وجوب المسح بغيرها، لأن سقوط الوضوء مما يكاد يقطع بعدمه، إذا المستفاد مما تقدم في الأقطع و ما ورد في الجبائر و غيرها ابتناء الوضوء علي الميسور- و إن لم تثبت قاعدة الميسور كلية، كما تقدم غير مرة- فيجب المسح بالميسور لقاعدة الاشتغال، التي تقدم غير مرة أنها المرجع في المقام.

و أما إطلاق الأمر بالمسح فلا مجال للاستدلال به بعد فرض تقييده و ظهوره في الارتباطية.

كما أنه لو جف ما علي الكف أو الأصابع مع بقاء بلة الذراع فمقتضي الاحتياط الجمع بين المسح ببلة الذراع و المسح بالكف أو الأصابع بعد نقل البلة إليه، إما بأخذ البلة من ذراع اليد الأخري- بناء علي عدم التقييد باليمين و اليسار، أو لجفاف بلة تلك اليد أيضا- و إما بتكرار المسح مرة بالذراع و مرة بالكف أو الأصابع بعد نقل البلة إليها من بقية الأعضاء.

الخامس: أن يكون باليد اليمني، كما عن ظاهر المفيد و محكي المهذب، و هو ظاهر عبارة ابن الجنيد المتقدمة في وجوب المسح ببلل الوضوء.

و قد يستدل عليه بما في صحيح زرارة في حكاية وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله:

«و مسح مقدم رأسه و ظهر قدميه ببلة يساره و بقية بلة يمناه. قال: و قال أبو جعفر عليه السّلام: إن اللّه وتر يحب الوتر، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه، و اثنتان للذراعين و تمسح ببلة يمناك ناصيتك، و ما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمني، و تمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسري» «1».

لظهور التعبير في حكاية الوضوء ببلة اليسري و بقية بلة اليمني في إرادة مسح الرجلين مع المفروغية عن مسح الرأس باليمني، و ظهور قول أبي

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 316

بل الأحوط وجوبا باطنها (1).

______________________________

جعفر عليه السّلام في الوجوب، و لو بضميمة صحيح ابن أذينة، علي ما تقدم عند الكلام في وجوب المسح ببلة الوضوء. و لعل عدم تنبيه جماعة من الأصحاب له للمفروغية عنه و اتكالا علي التعارف.

لكن استظهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن المشهور الاستحباب، بل في الحدائق ان ظاهرهم الاتفاق عليه، و هو المصرح به في محكي النفلية و شرحها للشهيدين و عن البيان و الفوائد الملية التصريح باستحباب مسح اليمني باليمني و اليسري باليسري مع أن ظاهر الصحيح وجوبه. و في مفتاح الكرامة أن المفهوم من نهاية الاحكام و التذكرة عدم وجوب مسح الرأس و اليمني باليمني و عن مجمع البرهان أنه لعله لم يقل أحد بوجوب ذلك.

لكنه في غاية الإشكال بعد ما تقدم. بل لو غض النظر عما تقدم في صحيح زرارة أشكل استفادة الاستحباب منه أيضا، و إن كان هو ظاهر المدارك.

نعم، قد يستدل له بما في صحيح ابن أذينة: «فتلقي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الماء بيده اليمني، فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين» «1» و ما في بعض روايات العامة المتقدمة في الاستنجاء عن النبي صلّي اللّه عليه و آله من أن يده اليمني كانت لطعامه و طهوره.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر الصحيح استحباب تناول ماء الوضوء باليمين، لا استحباب كل عمل فيه بها. و لعله محمل رواية العامة. مع أن الاستدلال بها إنما يتم بضميمة قاعدة التسامح.

(1) كما ذكره في جامع المقاصد و المدارك و الجواهر. للتأسي، و لأنه المتبادر من المسح بالكف. لكن التأسي لا ينهض بتقييد الإطلاق، و مثل هذا التبادر الناشئ من التعارف لا ينهض بالخروج عنه الا أن يبتني علي ما أشرنا إليه عند الكلام في وجوب المسح بالكف من أن المسح من سنخ الأعمال، فإن ذلك كما

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 317

و يجزي فيه أن يكون منكوسا من الأسفل إلي الأعلي (1)،

______________________________

يقتضي تعين الكف يقتضي تعين باطنها، و لذا جروا علي ذلك في التيمم، بل قد يظهر المفروغية عنه من صحيح الحلبي المتقدم عند الكلام في وجوب المسح باليد. و لعله لذا أهمل أكثر الأصحاب التعرض له، لا لخلافهم فيه، و إن كان ظاهر محكي الذكري الاستحباب، لأنه جعله الأولي.

هذا، و في كيفية الاحتياط لو جف ما في الباطن ما تقدم في جفاف ما علي الكف- عند الكلام في وجوب المسح بها.

(1) كما هو مقتضي إطلاق جماعة و صريح آخرين، كالشيخ و ابن إدريس في محكي المبسوط و السرائر، و المحققين و العلامة في جملة من كتبهم، و الشهيدين في الروضة و الروض و ظاهر اللمعة و محكي الألفية و البيان، و عن جماعة غيرهم، بل في الحدائق: أنه المشهور، و عن شرح المفاتيح أنه المشهور بين المتأخرين. لإطلاق أدلة المسح، و لا سيما بملاحظة ما تضمن المسح بإدخال الإصبع تحت العمامة، فإنه و إن كان واردا لبيان إجزاء المسح مع عدم وضعها، و لا إطلاق له في بيان كيفية المسح، إلا أن حمله علي خصوص المسح بإخراج الإصبع و سلّه مع التقيد بعدم المسح بإدخاله بعيد جدا.

مضافا إلي صحيح حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا بأس بمسح الوضوء مقبلا و مدبرا» «1».

و أما الاستدلال بما تضمن جواز النكس في الرجلين بضميمة عدم الفصل بينهما و بين الرأس.

فلا مجال له بعد ثبوت الفصل بينهما من جماعة من الأعيان، حيث منع من النكس في الرأس و أجازه فيهما الشيخ في النهاية و التهذيب و الاستبصار و ابن حمزة في ظاهر الوسيلة و الشهيد في محكي الدروس، و عكس الشهيد في محكي

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 318

______________________________

الألفية و البيان.

هذا، و ذهب الصدوق في الفقيه و المرتضي في ظاهر الانتصار و محكي الإصباح و الشيخ في النهاية و التهذيبين و الخلاف و ابن حمزة في الوسيلة و المفيد و الشهيد في محكي المقنعة و الدروس إلي عدم جواز النكس، و نسبه في الانتصار و محكي الذكري و المقاصد العلية إلي الأكثر، و في محكي الدروس أنه المشهور، و ادعي في الخلاف الإجماع عليه.

و استدل لهم- مضافا إلي دعوي الإجماع المؤيدة بدعوي الشهرة ممن عرفت- بطريقة الاحتياط بدعوي: قصور إطلاق المسح، لانصرافه إلي المتعارف.

و يؤيد بما في صحيح يونس عمن أخبره عن أبي الحسن عليه السّلام: «الأمر في مسح الرجلين موسع، من شاء مسح مقبلا و من شاء مسح مدبرا» «1» فان التقييد بالرجلين مشعر باختصاص التوسعة، و إلا كان تركه أفيد.

مضافا إلي الوضوءات البيانية التي يتعين حملها علي عدم النكس، و إن لم يصرح به فيها، للإجماع علي الاجزاء معه، و لو كان وضوؤه صلّي اللّه عليه و آله بالنكس فلا إجزاء بدونه، لما ورد عنه من قوله صلّي اللّه عليه و آله بعد تعليم الوضوء: «هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به».

و أما صحيح حماد فقد رواه في موضع آخر من التهذيب بسند يشترك مع السند الأول في أكثر رجاله هكذا: «لا بأس بمسح القدمين مقبلا و مدبرا» «2».

و احتمال تعدد الرواية بعيد، فيكون مشتبه المتن، و يسقط عن الحجية. بل ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن التعبير بالإقبال و الادبار يرجع المتن الثاني، لأن الإقبال هو تحريك الماسح بيده مقبلا إلي نفسه و بدنه، و الادبار هو تحريكها مدبرة عنه إلي الخارج، و هما مختصان بالقدمين، و لا يناسبان الرأس، بل المناسب له الصعود و الهبوط.

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 20 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 319

______________________________

و بهذا يمكن تقييد المتن الأول- لو تمَّ في نفسه- بالرجلين.

لكن لا مجال للتعويل علي دعوي الإجماع، و لا سيما بعد مخالفة حاكية له في مبسوطه و ظهور الخلاف ممن تقدم كما تكرر عدم صلوح التعارف لرفع اليد عن الإطلاق.

علي أنه لم يتضح اختصاص التعارف بالمسح من الأعلي، و لا سيما في مثل المسح بإدخال الإصبع تحت العمامة الذي دلت عليه النصوص، بل لعل الغالب فيه خلاف ذلك، كما تقدم.

و أما التقييد في صحيح يونس فلعل النكتة فيه التنبيه علي عدم سوق «إلي» في الآية الشريفة للغاية، بل لتحديد الممسوح، أو كون مورده مسح الرجلين.

و أما الوضوءات البيانية فقد تقدم في غسل الوجه عدم نهوضها بإثبات الوجوب حتي بضميمة النبوي المذكور. فراجع.

و أما صحيح حماد فالبناء علي اشتباه متنه مخالف لأصالة عدم الخطأ، و الالتزام بتعدد الرواية هو الأنسب بها. و لا سيما مع إمكان كون المتن الثاني مبنيا علي النقل بالمعني. فتأمل. بل احتمال الخطأ في المتن الثاني هو الأقرب بعد اقتصاره في الاستبصار علي المتن الأول، بنحو يظهر منه الالتفات إلي عمومه لغير الرجلين، لأنه استدل علي تخصيصه بهما بحديث يونس المشار إليه، و لو كان مرويا بالمتنين لكان الأنسب منه التنبيه علي ذلك.

و مع هذا لا مجال للتعويل علي ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه لترجيح المتن الثاني، فإنه أشبه بالاجتهاد في مقابل النص.

و أما جعله قرينة علي تقييد المتن الأول، فهو لا يناسب إضافة المسح للوضوء جدا، بل يتعين بلحاظه جعل الإقبال و الادبار كناية عن التوسع في المسح مطلقا، تغليبا لحال الرجلين.

هذا، و المصرح به في الشرائع و القواعد و محكي المبسوط و السرائر و غيرها كراهة النكس، و الظاهر انحصار الدليل عليه بالخروج عن شبهة الخلاف المتقدم،

ص: 320

كما يجوز فيه أن يكون منحرفا و عرضا (1).

مسألة 20 يكفي المسح علي الشعر المختص بالمقدم

(مسألة 20): يكفي المسح علي الشعر المختص بالمقدم (2)،

______________________________

كما هو المصرح به في كلام غير واحد. و الأمر سهل.

(1) كما هو مقتضي إطلاق جماعة. بل لا يبعد كونه مراد من اقتصر علي جواز النكس، بأن يكون المراد عدم تقييد المسح بنحو خاص، و أنه باق علي الإطلاق.

و منه يظهر قرب استفادته من صحيح حماد. و لا أقل من كونه مقتضي الإطلاق، الذي يخرج به عن مقتضي الأصل.

(2) فيخير بينه و بين المسح علي البشرة، بلا خلاف أجده بين الإمامية، بل في ظاهر المعتبر و صريح المدارك و الحدائق و غيرهما- كما عن ظاهر التذكرة- دعوي الإجماع عليه. كذا في الجواهر.

و يظهر من المنتهي المفروغية عن جواز مسح الشعر، و أن الخلاف مع بعض العامة في وجوبه، و لذا قال في الجواهر بعد أن أطال في وجه ذلك: «الاجتزاء بالمسح علي الشعر مجمع عليه بين العامة و الخاصة، بل يقرب إلي حد الضرورة من الدين».

و هو كذلك بعد النظر في السيرة القطعية، لغلبة الابتلاء به.

بل الغلبة المذكورة قرينة قطعية علي كون المراد من إطلاق مسح الرأس و المقدم ما يعمه، بلحاظ صعوبة مس البشرة المقوم لصدق المسح عليها، بخلاف الغسل الذي يراد به مجرد استيلاء الماء علي البشرة و لو بنفوذه في الشعر.

و منه يظهر جوازه اختيارا لا من جهة تعسر إزالته، ليكون بدلا اضطراريا، كالجبيرة.

هذا، و أما مرفوع محمد بن يحيي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الذي يخضب رأسه بالحناء، ثمَّ يبدو له في الوضوء. قال: لا يجوز حتي يصيب بشرة رأسه

ص: 321

______________________________

بالماء» «1».

فلا بد من حمل البشرة فيه علي ما يعم الشعر، في مقابل المسح علي الحناء، لما تقدم.

و منه يتضح أن الأمر أظهر من أن يستدل عليه بما تضمن المسح علي الناصية كصحيح زرارة و خبر الحسين بن زيد المتقدمين في وجوب مسح المقدم، لأن الناصية هي شعر المقدم، كما في مجمع البيان.

علي أن تفسير الناصية بذلك غير ثابت، فقد تقدم عند الكلام في وجوب مسح المقدم تفسيرها بالمقدم من غير واحد من اللغويين، بل عن الأزهري:

«الناصية، عند العرب منبت الشعر في مقدم الرأس، لا الشعر الذي تسميه العامة الناصية، و سمي الشعر ناصية، لنباته في ذلك الموضع». فتأمل.

كما ظهر أيضا أنه لا مجال لتوهم عدم إجزاء المسح علي البشرة و انتقال الفرض إلي الشعر. لمنافاته للإطلاق المشار إليه.

كما لا مجال للاستدلال عليه بما في صحيح زرارة من قوله عليه السّلام: «كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يطلبوه و لا يبحثوا عنه، و لكن يجزي عليه الماء» «2».

لظهور ذيله في الغسل، لأنه الذي يشتمل علي إجراء الماء.

و حمله علي الاستخدام بإرجاع الضمير إلي بعض العام مخالف للظاهر. بل تقدم في المسألة التاسعة الإشكال في شموله لليدين.

علي أن مسح البشرة مستلزم لمسح الشعر النابت فيها، فلا أثر للكلام في الاجتزاء بها عنه.

هذا، و قد يستشكل في اجزاء المسح علي الشعر.

تارة: فيما لو مدّ علي بشرة محلوقة، كما في الجواهر.

و اخري: فيما لو كان بينه و بين ما تحته من الشعر أو البشرة حاجب أجنبي،

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 46 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 322

بشرط أن لا يخرج بمده عن حده (1)،

______________________________

كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و ثالثة: فيما لو رفع عن المقدم بعقص أو باليد و نحوها، كما أشار إليه غير واحد، بل صرح في المعتبر و المنتهي و محكي الذكري بعدم جواز المسح علي الجمة، و ظاهر الأخير أن المراد بها ما لا يخرج بمده عن حده.

و كأن الوجه في الجميع خروجه عن المتيقن من السيرة و الإطلاق المشار إليهما، لعدم وضوح إلحاقه بالرأس و تبعيته له عرفا بنحو يفهم من الإطلاق المشار إليه. بل لا ينبغي الإشكال في عدم الاجزاء لو رفع باليد، لعدم صدق المسح علي الرأس و المقدم حينئذ. نعم، قد يضعف الإشكال في المعقوص، لأن قلة امتداده، و تماسكه مع شعر الرأس موجب لإلحاقه به عرفا. فتأمل.

(1) أما ما خرج عن الحد فعلا باسترساله فلا ينبغي الإشكال في عدم جواز المسح علي الموضع الخارج منه- كما صرح به جماعة، و يظهر من غير واحد المفروغية عنه، و في الجواهر عدم وجدان الخلاف فيه- لعدم صدق المسح علي المقدم بمسحه.

و دعوي: أن جواز المسح عليه مقتضي إطلاق ما تضمن المسح علي الناصية، بناء علي تفسيرها بالشعر النابت في المقدم.

مدفوعة: - مضافا إلي ما تقدم من الإشكال في تفسيرها بذلك- بعدم وضوح الإطلاق المذكور، لورود صحيح زرارة لبيان الاجتزاء ببلة الوضوء، و ورود خبر الحسين بن زيد لبيان عدم وجوب وضع الخمار، و ليسا في مقام البيان من تمام الجهات، ليكون لهما إطلاق بالإضافة إلي المحل الممسوح.

علي أنه لو فرض تمامية الإطلاق وجب رفع اليد عنه بدليل مسح المقدم، لأنه أخص.

نعم، يجوز المسح علي أصوله، لصدق المسح علي المقدم معه، و دخوله

ص: 323

فلو كان كذلك فجمع و جعل علي الناصية لم يجز المسح عليه (1).

______________________________

في السيرة. و لعله مفروغ عنه بينهم، كما قد يظهر من بعضهم، و إن أوهمت بعض عباراتهم خلافه.

و أما ما لم يخرج عن المقدم فعلا، لجمعه عليه و إن كان يخرج عنه لو مدّ فقد يدعي قصور استثنائهم عنه و اختصاصه بالأول، لأن الظاهر من الخروج عن الحد هو الخروج الفعلي لا التقديري.

لكن صريح القواعد و ظاهر محكي الذكري عدم جواز المسح عليه، و يقتضيه ما تقدم من المعتبر و المنتهي من عدم جواز المسح علي الجمة، بل عن شرح الدروس: «إن المشهور بين القوم بحيث لم نعرف فيه خلافا عدم جواز المسح إلّا علي أصول ذلك المجتمع. و إن في إثباته بالدليل اشكالا».

و العمدة في وجه المنع خروجه عن المتيقن من السيرة و الإطلاق المشار إليهما، فإن المتيقن ما يلحق بالمقدم عرفا و يكون من توابعه لقلة امتداده، دون ما طال، و إن جمع عليه، بل هو من سنخ الحائل عرفا، إذ لا أقل مع ذلك من الاجمال الملزم بالاحتياط.

نعم، يصعب الالتزام بذلك فيما لو لم يخرج الشعر عن المقدم بامتداده الطبيعي، و إنما يخرج بمده علي خلاف طبعه كالنابت في أعلي المقدم المسترسل عليه من دون أن يخرج عنه، و إن خرج عنه لو ارجع إلي الخلف أو إلي أحد الجانبين.

فيقرب جواز المسح عليه، لتعارفه، فيدخل في الإطلاق و السيرة المتقدمين. و لعله خارج عن المستثني في كلامهم، لاختصاص كلامهم بالمجموع علي المقدم، غير الصادق عليه.

(1) و أولي بالمنع ما لو جمع الشعر النابت في غير المقدم علي المقدم، فإنه من سنخ الحائل، كما صرح به جماعة، بنحو يظهر من غير واحد المفروغية

ص: 324

مسألة 21 لا تضر كثرة بلل الماسح و إن حصل معه الغسل

(مسألة 21): لا تضر كثرة بلل الماسح و إن حصل معه الغسل (1).

______________________________

عنه، و في الجواهر نفي الخلاف فيه، و في كشف اللثام دعوي الاتفاق عليه.

لكن قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «و يشكل بالنابت فوق المقدم المتدلي عليه، بحيث يتعذر تخليله و مسح ما تحته من البشرة أو الشعر النابت عليها، فان ما ذكر من ظهور الإطلاق في الأعم جار هنا».

و هو كما تري! فان المقدم ينتهي بأعلي الرأس، و الشعر النابت خلفه متجه إلي الخلف، و لو فرض اتجاهه إلي المقدم فندرته مانعة من استفادته من الإطلاق تبعا، و من دعوي السيرة علي المسح عليه.

(1) بناء علي ما اشتهر بين الأصحاب من تقوم الغسل بجريان الماء و لو بإمرار اليد، حيث يجتمع الغسل و المسح حينئذ بحركة واحدة، و يكون الغسل مسببا توليديا للمسح مع كونهما متباينين في أنفسهما لتقوم الغسل بالجريان و المسح بإمرار اليد، و هما متباينان.

و حينئذ فمقتضي إطلاق ما دل علي وجوب المسح الاجتزاء بالمسح المذكور، و إن حصل معه الغسل.

و هو المصرح به من غير واحد، ففي محكي الذكري: «لو مسح بماء جار علي العضو و إن أفرط في الجريان لا يقدح، لصدق الامتثال، و لأن الغسل غير مقصود». و قريب منه في المدارك و محكي حاشية الشرائع للكركي و مجمع البرهان، و غيرها.

مضافا إلي أنه لو اعتبر عدم الجريان لاحتاج إلي التنبيه و البيان للغفلة عنه مع غلبة كثرة البلة، و لم يرد ما يتضمّن ذلك من قول أو عمل، بل النظر في نصوص الوضوءات البيانية يوجب القطع بعدم اعتباره، لظهورها في قلة إمرار اليد حين الغسل المستلزم لكثرة البلل الباقي للمسح.

ص: 325

______________________________

كما أن سيرة المتشرعة علي عدم التقيد بذلك، بل الغالب منهم المسح مع كثرة الماء.

بل يلزم من ذلك العسر و الحرج، حيث قد يتعذر تحصيل القطع ببقاء البلل بالنحو الصالح للمسح دون أن يتحقق الاجراء و لو بأدني مراتبه. كما ذكر بعض ذلك في الجواهر.

لكن في كشف اللثام بعد أن تعرض لذلك قال: «و هو متجه لو لا ظهور اتفاق الأصحاب و أكثر من عداهم علي تباين حقيقتي الغسل و المسح» و عن الشهيد الثاني في المقاصد العلية أنه بعد أن تعرض لاحتمال العموم من وجه بين الغسل و المسح قال: «و الحق اشتراط عدم الجريان في المسح مطلقا، و أن بين المفهومين تباينا كليا، لدلالة الآية و الأخبار و الإجماع علي اختصاص أعضاء الغسل به، و أعضاء المسح به، و التفصيل قاطع للشركة، و لو أمكن اجتماعهما في مادة أمكن غسل الممسوح، فيتحقق الاشتراك.

و الاحتجاج علي الاجزاء بتحقق الامتثال بذلك و كون الغسل غير مقصود مع وجوده. ضعيف، لأن الامتثال يتحقق بالمسح، لا بالغسل، كيف و هو أول المسألة. و عدم كون الغسل مقصودا مع وجوده لا يخرجه عن كونه غسلا، لأن الاسم تابع للحقيقة لا للنية».

و يندفع: بأن التباين بين الغسل و المسح لتباين منشإ انتزاعهما لا ينافي اجتماعهما موردا. و الأدلة المتقدمة إنما تقتضي عدم إجزاء الغسل عن المسح، لا عدم إجزاء المسح الحاصل به الغسل، فلا مانع من إجزائه لو قصد الامتثال به، لا بالغسل الحاصل به، كما يجزي الغسل المصاحب للمسح في الأعضاء التي يجب غسلها لو قصد الامتثال به.

و كأنه هو الوجه في جعل المدار علي النية- كما تقدم عن الذكري- لا عدم تحقق الغسل مع نية المسح.

و أما ما يظهر منه من أخذ عدم إجراء الماء في المسح. فإن أراد به أخذه في

ص: 326

مسألة 22 لو تعذر المسح بباطن الكف مسح بغيره

(مسألة 22): لو تعذر المسح بباطن الكف مسح بغيره (1).

______________________________

مفهوم المسح لغة أو عرفا- كما هو ظاهر السيد في الانتصار- فهو غريب، كيف و قد اشتملت النصوص علي إطلاق المسح عند بيان غسل الوضوء! و إن أراد به أخذه في المسح الواجب في المقام، لأجل الأدلة التي ساقها المانعة من الشركة بينه و بين الغسل، فقد عرفت عدم نهوض الأدلة المذكورة بذلك، كما لا تنهض بتقييد الغسل بما لا يكون بالمسح.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في إجزاء مطلق المسح و ان استلزام إجراء الماء بمعني نقله في أجزاء العضو بإمرار اليد.

نعم، تقدم في أوائل هذا الفصل عدم صدق الغسل بمجرد إجراء الماء بالنحو المذكور، و أن الاجتزاء به في الوجه و اليدين للدليل الخاص الكاشف عن أن الغرض من الغسل إيصال الماء للبشرة، كما ذكرنا الفرق بينه و بين المسح الواجب في المقام بما يجري فيه ما ذكرناه هنا من الاجزاء. فراجع.

(1) كما قطع به في المدارك و مال إليه في الجواهر، مع ذهابهما إلي تعين الباطن اختيارا، للقطع بعدم سقوط الوضوء، إذ المستفاد مما تقدم في الأقطع و ما ورد في الجبائر و غيرها ابتناء الوضوء علي الميسور- و إن لم تثبت قاعدة الميسور كلية، كما تقدم غير مرة- فيجب المسح بالميسور لقاعدة الاشتغال، التي تقدم أنها المرجع في المقام.

و لا مجال لما في الجواهر من الاستدلال بإطلاق الأمر بالمسح حينئذ.

لفرض اختصاصه بباطن الكف مع ظهوره في الارتباطية. نعم، لو كان التخصيص بظاهر الكف لدليل خارج أمكن دعوي اختصاصه بصورة الاختيار.

اللهم إلا أن يقال: لا منشأ لاختصاص الإطلاق بباطن الكف إلا التعارف، و هو إنما يقتضي الاقتصار عليه مع إمكانه، لا مطلقا ليقتضي سقوطه بتعذره. و منه يظهر أنه يكفي الإطلاق في إثبات وجوب الوضوء في المقام، و لا

ص: 327

و الأحوط وجوبا المسح بظاهر الكف (1)، فان تعذر فالأحوط وجوبا أن يكون بباطن الذراع (2).

مسألة 23 يعتبر أن لا يكون علي الممسوح بلل ظاهر

(مسألة 23): يعتبر أن لا يكون علي الممسوح بلل ظاهر (3)،

______________________________

حاجة لما تقدم من القطع بابتناء الوضوء علي الميسور.

هذا، و أما بناء علي عدم تعين الباطن حتي عند الاختيار فالأمر أظهر.

(1) لأنه الأقرب عرفا، فيجب بمقتضي الإطلاق أو قاعدة الاشتغال. و لا يحتمل تقدم باطن الذراع عليه، إذ لا منشأ للتقييد إلا الغلبة و التعارف، و ظاهر الكف أقرب إليهما.

(2) فعن الذكري: «و لو تعذر المسح بالكف فالأقوي جوازه بالذراع».

و الوجه فيه ما تقدم في ظاهر الكف، و هو الوجه في تعين باطنه، و إن كان احتماله ضعيفا، بل لا مجال لدعوي استفادته من الإطلاق، لعدم وضوح تعارف تعيينه عند تعذر المسح بالكف. فلاحظ.

و مما تقدم يظهر لزوم الانتقال لظاهر الذراع عند تعذر باطنه.

(3) كما اختاره الوحيد في حاشية المدارك، و حكي عن المقداد و العلامة في النهاية و المختلف، و حكاه في المنتهي عن والده. خلافا للمحققين في المعتبر و جامع المقاصد و السيد في المدارك، فأجازوا ذلك، و اختاره العلامة في المنتهي أيضا، و إن تنظر في دليله أخيرا، و هو المحكي عن السرائر و هداية السيد الطباطبائي.

قال في المعتبر: «لو كان في ماء و غسل وجهه و يديه و مسح برأسه و برجله جاز، لأن يديه لا ينفك من ماء الوضوء، و لم يضره ما كان علي القدمين من ماء»، و قريب منه ما عن السرائر. و استشكل في محكي الذكري في الاجزاء بدون التنشيف. و عن الذكري و الدروس الاجزاء مع غلبة ماء الوضوء.

و عمدة الدليل علي الأول: أن مسح العضو الذي عليه البلل موجب

ص: 328

______________________________

لاختلاط بلله ببلة الوضوء، و ظاهر الأمر بالمسح ببلة الوضوء لزوم خلوصها و عدم امتزاجها بغيرها، و إلا جاز استئناف ماء للمسح، كما هو دأب العامة، إذ لا يراد به أخذه بعد تنشيف اليدين من ماء الوضوء، ليكون المسح بالماء الأجنبي خالصا، بل أخذه و لو بنحو يمتزج بماء الوضوء، مع أنه لا يحصل به الامتثال بلا تأمل، كما ذكره الوحيد في حاشية المدارك.

نعم، في المعتبر: «هل تبطل الطهارة لو غسل يديه ثلاثا؟ قيل: نعم، لأنه مسح لا بماء الوضوء. و الوجه الجواز، لأنه لا ينفك عن ماء الوضوء الأصلي».

و مقتضاه جواز المزج حتي بماء مستأنف غير بلل الممسوح. و هو غريب، و لا سيما في فرض كلامه، حيث يكون ماء الوضوء زائلا عرفا بالغسل الثالث.

و كيف كان، فلا ريب في ظهور دليل المسح ببلة الوضوء في لزوم خلوصها.

و أما ما في جامع المقاصد من أن المرجع في معني الاستئناف إلي العرف، و هو غير صادق علي هذا الفرد.

ففيه: أن النصوص لم تتضمن النهي عن الاستئناف، لينفع عدم صدقه، بل المسح ببلة الوضوء الظاهر في لزوم خلوصها، كما تقدم نظيره في الوضوء بالارتماس.

و مثله ما أشار إليه من أن ذلك لو كان مانعا لمنع بلل الأعضاء المغسولة قبل الوضوء، للقطع ببقاء شي ء منه بعد الغسل المستلزم للمسح به مع ماء الوضوء.

لاندفاعه: بأن الماء يكون بالغسل من ماء الوضوء، لما تقدم في الوضوء بالارتماس من أن المراد بالغسل الواجب هو إيصال أجزاء الماء لأجزاء البشرة تدريجا، و هو حاصل في الماء المذكور بسبب إمرار اليد علي الأعضاء المغسولة.

علي أن ثبوت عدم قادحية ذلك بالسيرة أو غيرها لا يقتضي التعدي لغيره من أنحاء المزج.

و أشكل من ذلك ما عن السيد الطباطبائي في هدايته من أن البلل الحاصل علي الرأس إذا مسح عليه صار ماء وضوء، فيجوز المسح به علي الرجل، كالماء

ص: 329

______________________________

الكائن علي الوجه قبل غسله.

لوضوح اندفاعه: بأن المراد بماء الوضوء هو ماء غسله لا ماء مسحه، و بهذا يفترق محل الكلام عن الماء الكائن علي الوجه قبل غسله.

مع أن الاشكال لا يختص بما بعد العضو الذي عليه الماء، بل يجري في مسح نفس العضو المذكور، و من الظاهر أن اختلاط مائه بماء الوضوء قبل مسحه به، فلا يكون مسحه بماء الوضوء خالصا.

و كذا حال ما في جامع المقاصد من أن ذلك لو كان مانعا لامتنع الوضوء في المحل الذي لا ينفك عن العرق، كالحمام.

لاندفاعه: بأن العرق لو كان معتدا به يخرج الماء عن الإطلاق بالاختلاط به، و لذا منع منه السيد الطباطبائي قدّس سرّه في محكي هدايته إذا كان غالبا، مع ما تقدم منه من تجويزه في غيره، فلا بد من تقييده بما لا يوجب ذلك، و كما يمكن تقييده بغيره يمكن تقييده بما إذا كان مستهلكا في ماء الوضوء لقلته، لئلا يلزم امتزاج بلة الوضوء.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور دليل المسح ببلة الوضوء في لزوم خلوصها، و هو يقتضي اعتبار جفاف العضو الممسوح، و به يخرج عن إطلاق دليل المسح، الذي استدل به للاجزاء.

اللهم إلا أن يقال: لعل المراد بالمسح ببلة الوضوء نقل البلة بالمسح من اليد إلي العضو، و من الظاهر أن ذلك لا يتحقق بالإضافة إلي البلة الموجودة علي العضو حين المسح عليه و إن امتزجت ببلة الوضوء، بل ليس المنتقل مع ذلك إلا بلة الوضوء، و هذا بخلاف امتزاج بلة الوضوء قبل المسح بها ببلة خارجية، حيث لا تنتقل معه بلة الوضوء خالصة، بل ممتزجة.

نعم، لو كان المراد بالمسح بالبلة مجرد وجودها حين مرور الماسح كان امتزاج بلة الوضوء ببلة العضو الممسوح مانعا من صدق المسح ببلة الوضوء وحدها.

ص: 330

بحيث يختلط ببلل الماسح بمجرد المماسة (1).

______________________________

لكن لا طريق لإثبات إرادة ذلك من دليل المسح بالبلة، بل الظاهر الأول. و لا أقل من الشك الموجب لإجمال الدليل المذكور، و الرجوع لإطلاق دليل المسح المقتضي لعدم مانعية بلل الممسوح.

و ربما يؤيد ذلك بما ورد في الوضوء بالمطر «1». فتأمل. و بما في صحيح زرارة: «قال: ابدأ بالمسح علي الرجلين، فان بدا لك غسل فغسلته فامسح بعده ليكون آخر ذلك المفروض» «2» لبعد أن يكون المراد المسح بعد التنشيف من الغسل.

نعم، لا بد من عدم كون بلل الممسوح غالبا علي بلة الوضوء، بحيث لا يتعدي شي ء منها له عرفا.

أما علي القول الأول فلا بد من خلوص بلة الوضوء عرفا و لو لاستهلاك بلل الممسوح. بل ربما منع من تحقق الاستهلاك مع اتحاد الجنس.

لكن تقدم في الماء المستعمل تقريب تحققه. و هو المناسب للسيرة في المقام، لما هو المعلوم من كثرة الابتلاء بنضح الماء علي الرجلين عند الغسل، مع عموم الغفلة عنه و عدم التحرز منه.

و لعل هذا هو المراد مما تقدم عن الذكري و الدروس من الاجزاء مع غلبة ماء الوضوء، و إلا فلو أريد به مجرد كونه أكثر لم يكن له وجه، إذ لو كان الخلوص معتبر لم ينفع فيه ذلك- كما أشار إليه في جامع المقاصد- و إلا لم يحتج له، كما هو ظاهر.

(1) فرض وجود البلل ملازم لذلك، إلا أن يراد به ما يقابل الرطوبة غير المسرية التي لا يصدق معها البلل، أو ما يقابل صورة الاستهلاك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 12.

ص: 331

مسألة 24 لو اختلط بلل اليد ببلل أعضاء الوضوء لم يجز المسح به علي الأحوط

(مسألة 24): لو اختلط بلل اليد ببلل أعضاء الوضوء لم يجز المسح به علي الأحوط وجوبا (1).

نعم، لا بأس باختلاط بلل اليد اليمني ببلل اليد اليسري الناشئ من الاستمرار في غسل اليسري بعد الانتهاء من غسلها، إما احتياطا أو للعادة الجارية (2).

______________________________

(1) بل الأظهر، بناء علي ما تقدم من وجوب المسح ببلة اليد، و ما تقدم في المسألة السابقة من ظهور دليله في لزوم خلوص البلة و عدم امتزاجها بغيرها، إلا مع استهلاك غيرها فيها.

(2) لما سبق في وجوب المسح ببلة اليد من السيرة علي عدم التقيد بذلك، بل في فرض كون التكرار للاحتياط يلزم الحرج الشديد الذي يقطع معه بعدم التقييد بالوجه المذكور، بل يستلزم سدّ باب الاحتياط، للدوران فيه بين المحذورين من نقص الغسل عن الواجب و امتزاج البلة، إذ من المعلوم تعسر العلم بحصول الغسل الواجب من دون زيادة تعسرا ملحقا بالتعذر، و لا سيما مع غلبة بلل الكفين قبل غسل اليدين.

و أما استصحاب عدم غسلها مع الشك فهو و إن كان ملزما بغسلها، إلا أنه لا يحرز عدم امتزاج البلة، إلا بناء علي الأصل المثبت.

نعم، يمكن الفرار عن الحرج المذكور بعدم نية غسل جزء صغير من اليسري إلا بعد الاحتياط في غسل ما عداه، حيث يسهل غسله بعد ذلك من دون زيادة عن المقدار الواجب، لكن من المقطوع به عدم لزوم التقييد بذلك، لعدم التنبيه عليه مع الغفلة عنه.

هذا، و الاحتياج إلي استثناء ما ذكره قدّس سرّه مبني علي لزوم مسح الرأس و الرجل اليمني ببلة اليد اليمني و مسح الرجل اليسري ببلة اليسري و عدم الاجتزاء بمطلق بلة اليد، كما أشرنا إليه هناك.

ص: 332

مسألة 25 لو جف ما علي اليد من البلل لعذر أخذ من بلل حاجبيه

(مسألة 25): لو جف ما علي اليد من البلل لعذر أخذ من بلل حاجبيه و أشفار عينيه و من شعر لحيته (1)

______________________________

كما أنه تقدم أيضا أن مقتضي السيرة الارتكازية عدم التقيد و الامتناع عن وضع اليد قبل المسح علي بعض الأعضاء لحك و نحوه. فراجع.

(1) كما صرح به غير واحد، و يظهر من بعضهم المفروغية عنه، و نسبه في جامع المقاصد إلي إطباق الأصحاب، و في كشف اللثام إلي قطعهم، و في مفتاح الكرامة أنه لا كلام فيه، و ادعي في المعتبر اتفاقهم عليه في ناسي المسح.

و به يخرج عن إطلاق بعضهم وجوب المسح ببلة اليد، فيحمل علي إرادة عدم الاستئناف الذي تقدم جوازه عن ابن الجنيد.

لكن في الحدائق: «و المشهور أنه مع جفاف اليد يأخذ من شعر لحيته أو حاجبيه، و مع جفاف الجميع، فان كان لضرورة إفراط الحر أو قلة الماء جاز الاستئناف، و إلا أعاد الوضوء».

إلا أن من القريب كون الشهرة بلحاظ مجموع ما تضمنه كلامه، لا لوجود المخالف في الأخذ من شعر اللحية و الحاجبين مع الجفاف، و إلا فلم يعرف مخالف في ذلك. قال في الجواهر: «لم أجد أحدا من المتأخرين نقل خلافا فيه ممن عادته التعرض لمثله».

و يقتضيه صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا ذكرت و أنت في صلاتك أنك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك فانصرف فأتم الذي نسيته من وضوئك و أعد صلاتك. و يكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك، فتمسح به مقدم رأسك» «1»، و كذا صحيح مالك

______________________________

(1) راجع صدر الحديث في الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء حديث: 6 و ذيله في باب: 21 منها حديث: 2.

ص: 333

______________________________

ابن أعين «1» المتقدم في عدم جواز استئناف ماء للمسح، و مرسل الصدوق «2» المتقدم إليه الإشارة في وجوب المسح ببلة خصوص اليد. بل و كذا مرسل خلف ابن جماد المتقدم في عدم جواز الاستئناف و خبرا زرارة و أبي بصير «3»، الواردة فيمن ذكر أنه لم يمسح رأسه و هو في الصلاة، بناء علي ما تقدم هناك من لزوم حملها علي استئناف الصلاة، جمعا من النصوص الأخري الملزمة بذلك، و أنه أقرب من الجمع بحملها علي صورة الشك مع جواز الاستمرار في الصلاة، ليكون مستحبا تعبديا خارجا عما نحن فيه. فراجع.

و بذلك كله يلزم الخروج عن إطلاق صحيح ابن أذينة المتقدم المتضمن الأمر بالمسح ببقية بلة اليد، و حمله علي صورة عدم الجفاف، لأن صورة الجفاف هي الفرد المتعارف في مورد هذه النصوص، و هو النسيان بل هي مورد مرسل الصدوق.

نعم، لا يبعد البناء علي الاكتفاء بجفاف الكف الذي يتعارف المسح به لأنه هو الغالب في مورد هذه النصوص، دون جفاف الذراع، خصوصا مع قلة البلة فيه، حيث يشمل إطلاقها عدم الجفاف فيه، و إن كان مرسل الصدوق ظاهرا في جفاف تمام ما علي اليد. فتأمل.

بقي في المقام أمور.

الأول: أن نصوص المقام مختصة بنسيان المسح، و هو معقد إجماع المعتبر المتقدم، بل في الجواهر أن بعضهم احتمل الاختصاص به، إلا أن ظاهر كلماتهم المفروغية عن عدم الاختصاص حتي أنه في المعتبر استدل بالإجماع الذي ادعاه علي كفاية بقاء شي ء من البلل في الموالاة، بل في الحدائق أنه لا قائل بالفرق بين النسيان و غيره.

نعم، استشكل سيد المدارك في الاستدلال المتقدم من المعتبر باحتمال اختصاص ذلك بالناسي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 1، 3، 9.

ص: 334

______________________________

لكن ذلك لا يناسب إطلاقه جواز أخذ البلل من دون تقييد بالنسيان مع اختصاص النصوص المذكورة به، فلو لا المفروغية عن العموم لم يكن وجه للإطلاق المذكور. إلا أن يكون وجهه عنده و عند غيره ممن صرح بجواز الأخذ و لو مع عدم الجفاف إطلاق أدلة المسح، لا عموم الإجماع لغير حال النسيان. فبعد البناء علي تقييد الإطلاق المذكور- بدليل المسح ببلة اليد- كما تقدم منا تبعا لبعضهم- يحتاج التعميم إلي دليل، و هو مفقود بعد اختصاص النصوص و المتيقن من الإجماع- لو تمَّ- بالنسيان.

اللهم إلا أن يقال: لا إطلاق لدليل المسح ببلة اليد يشمل حال جفافها، لاختصاصه بصحيح ابن أذينة الوارد في قضية خارجية لا إطلاق لها.

بل مقتضي إطلاق الأمر بالمسح و ما ورد في قصة علي بن يقطين «1» جواز المسح بالبلة المأخوذة من المواضع المذكورة.

مضافا إلي أنه يبعد الجمود علي مورد النصوص جدا، لقرب فهم عدم الخصوصية له عرفا، و لا سيما بعد ما تقدم من ظهور تسالم الأصحاب علي العموم مع ظهور حالهم في كون الدليل هو النصوص المذكورة.

نعم، المتيقن من ذلك صورة العذر العرفي، كقلة الماء أو حرارة الهواء، دون صورة تعمد التجفيف أو التسامح في تأخير المسح، كما ذكر في المتن و قواه في الجواهر.

و إن كان مقتضي ما أشرنا إليه من إطلاق الأمر بالمسح المؤيد بإطلاق ما ورد في قصة علي بن يقطين جواز الأخذ مع الجفاف مطلقا و لو بدون عذر، كما هو ظاهر جامع المقاصد، حيث ذكر أنه لو مسح بماء مستأنف، ثمَّ جفف ما علي محل الاستئناف و أخذ من ماء الوضوء و مسح به صح وضوؤه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 336

ص: 335

الداخل في حد الوجه (1) و مسح به.

______________________________

الثاني: النصوص و إن اختصت بنسيان مسح الرأس، إلا أن الظاهر التعدي لمسح الرجلين. بل حيث كان اللازم تدارك الترتيب- كما تظافرت به النصوص- كان لازم مفاد هذه النصوص مسح الرجلين بعد مسح الرأس، فيتعين التعدي لصورة مسح الرأس بماء اليد دون الرجلين. يفهم عدم الخصوصية.

علي أنه مقتضي إطلاق الأمر بالمسح بعد قصور صحيح ابن أذينة عن صورة الجفاف، كما سبق. و الظاهر تسالم الأصحاب علي ذلك.

الثالث: النصوص المتقدمة مختصة ببلل اللحية و الحاجبين الأشفار، بل المعتبر سندا منها- و هو صحيحا الحلبي و مالك- مختص بالأول، إلا أن الخصوصية المذكورة بالأول ملغية عرفا، و المنساق منها التنبيه علي محال البلل في ظرف النسيان من دون خصوصية لموضع دون آخر، كما يشير إليه ذيل مرسل الصدوق لقوله: «فان لم يبق من بلة وضوئك شي ء أعدت الوضوء».

و لذا لم يرتب الأصحاب بين بلل اللحية و غيره، كما لم يعتبروا في الأخذ من غير اللحية عدم اللحية، و إن تضمنه مرسل الصدوق و حماد، كما تقدم التنبيه علي ذلك عند الكلام في وجوب المسح ببلة اليد. و لا أقل من كونه مقتضي إطلاق الأمر بالمسح بعد قصور صحيح ابن أذينة عن صورة الجفاف، كما تقدم.

(1) دون المسترسل طولا و عرضا، فعن نهاية الإحكام المنع من الأخذ منه، و مال إليه في الجواهر.

بدعوي: أن الظاهر من الأخبار إرادة نداوة الوضوء، و هو لا يدخل تحتها بناء علي عدم استحباب غسله، لأنه و إن كان ماء غسل الوجه، إلا أن المراد من ماء الوضوء الباقي في محاله، لا مطلق مائه و إن انفصل عنها و اجتمع في إناء أو نحوه.

نعم، لو قيل باستحباب غسله اتجه جواز الأخذ منه، لأن المراد بماء الوضوء ما

ص: 336

______________________________

يعم الغسل المستحب، كالغسلة الثانية. لكن تقدم الإشكال في استحباب غسله [1].

و يشكل بأنه مخالف لإطلاق النصوص المتقدمة، بل يصعب حمل إطلاقها علي خصوص ما دخل في حدّ الوجه، و لا سيما مع غلبة وجود الماء في المسترسل الخارج، للغفلة عن التقييد المذكور جدا.

و منه يظهر أنه لا مجال لتقييد الإطلاق المذكور بما دل علي عدم جواز استئناف الماء للمسح، فان حمل ذلك علي صورة عدم الجفاف أو غير ما يكون في المسترسل أقرب عرفا من تقييد هذا الإطلاق و حمله علي خصوص ما دخل في الحد.

علي أنه تقدم أن عمدة الدليل علي عدم جواز الاستئناف هو هذه النصوص، و صحيح ابن أذينة و ما ورد في قصة علي بن يقطين من الأمر بالمسح بنداوة الوضوء. و قد عرفت أن هذه النصوص لا تمنع من الأخذ من المسترسل، كما أن الصحيح لا إطلاق له يشمل صورة جفاف بلة الوضوء، لأنه وارد في قضية خاصة.

و أما ما ورد في قضية علي بن يقطين فهو- مع ضعف سنده- يشكل ظهوره في المنع من الأخذ من المسترسل، لاحتمال صدق نداوة الوضوء عليه، لإلحاقه بأعضاء الوضوء عرفا.

مع أنه لو فرض تمامية الإطلاق لذلك فبينه و بين إطلاق هذه النصوص عموم من وجه، و المتجه بعد تساقطهما الرجوع لإطلاقات الأمر بالمسح الشامل للمسح ببلة المسترسل. فالبناء علي إطلاق جواز الأخذ من اللحية هو الأقوي، كما هو مقتضي إطلاق أكثر الأصحاب، و صريح محكي شرح المفاتيح و الهداية للسيد الطباطبائي قدّس سرّه.

نعم، لا بد من الاقتصار علي البلل الحاصل من الغسل الوضوئي، دون ما

______________________________

[1] هذا ما ذكره في هذه المسألة لكن ذكر في مبحث الموالاة انه يكتفي ببقاء البلل المستحب، كالذي يكون علي مسترسل اللحية.

ص: 337

مسألة 26 لو لم يمكن حفظ الرطوبة في الماسح فالأحوط الجمع بين المسح بالماء الجديد و التيمم

(مسألة 26): لو لم يمكن حفظ الرطوبة في الماسح لحر أو غيره فالأحوط وجوبا الجمع بين المسح (1) بالماء الجديد و التيمم.

______________________________

يكون مسببا عن غسله برجاء المطلوبية بعد إكمال غسل الوجه، لانصراف النصوص عنه بعد عدم ثبوت مشروعيته.

(1) الاجتزاء بالمسح بالماء الجديد هو المصرح به في المعتبر و جامع المقاصد، و المنتهي في إحدي نسختيه، و في المدارك بعد أن حكم بجواز استئناف ماء للمسح قال: «و يحتمل الانتقال للتيمم لتعذر الوضوء» و حكي جواز الاستئناف أيضا عن الذكري و البيان و المقاصد العلية، كما تقدمت حكايته عن ابن الجنيد، بل تقدم من الحدائق نسبته للمشهور.

و في محكي التحرير المسح مع الجفاف من دون استئناف، و هو ظاهر نسخة المنتهي الأخري [1].

و أما التيمم فقد ذكر في الجواهر أنه لم يعثر علي مفت به، و إنما تقدم من المدارك احتماله، و استحسن في جامع المقاصد الاحتياط بضمه للوضوء. نعم، قرّب بعض مشايخنا الاجتزاء به، و نقل شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن بعض حواشي التحرير نسبته للعلامة.

و الذي ينبغي أن يقال: لما كان دليل عدم الاستئناف منحصرا بالإجماع، و صحيح ابن أذينة، و نصوص الأخذ من اللحية و نحوها عند الجفاف، و ما ورد في قصة علي بن يقطين.

______________________________

[1] ربما يحمل مراد العلامة قدّس سرّه في هذه من الكتابين علي ان مثل هذا الجفاف لا يخل بالموالاة، و انما لا يسوغ استئناف الماء للمسح، لمفروغيته عن إمكان تحصيل المسح ببلة الوضوء بإكثار الماء أو الإسراع أو نحوهما نظير ما في محكي التذكرة حيث قال: «لو جف ماء الوضوء للحر أو الهواء المفرطين استأنف الوضوء و لو تعذر أبقي جزءا من يده اليسري ثمَّ أخذ كفا غسله به و عجل المسح علي الرأس و الرجلين» (منه عفي عنه).

ص: 338

______________________________

فمن الظاهر عدم شمول الإجماع للمقام بعد ذهاب من عرفت لوجوب الاستئناف، كما تقدم عدم الإطلاق في صحيح ابن أذينة، و نصوص الأخذ من اللحية و نحوها تقصر عن المقام، لاختصاصها بصورة إمكان المسح ببلل الوضوء لعدم جفافه أو لإمكان استئنافه بالوجه المذكور.

فلم يبق إلا ما ورد في قصة علي بن يقطين، و إطلاقه و إن كان يقتضي عدم مشروعية الوضوء مع الاستئناف حتي في محل الكلام، لظهوره في الإرشاد إلي كيفية الوضوء، مع ظهوره في الارتباطية. إلا أن ضعف سنده مانع من الاعتماد عليه في الخروج عن إطلاق الأمر بالمسح، المقتضي لجواز الاستئناف.

و يؤيد ذلك ابتناء الوضوء في الجملة علي الميسور، و هو في المقام أقرب عرفا منه في الجبائر- و إن لم تثبت قاعدة الميسور كلية.

و منه يظهر أنه لا مجال للاكتفاء بالوضوء من دون مسح- كما قد يظهر احتماله من بعض في المقام- أو بالمسح من دون استئناف- كما قواه في الجواهر- فضلا عن وجوبه- كما لعله ظاهر ما تقدم من التحرير-، لأن دليل مشروعية الوضوء في المقام إن كان هو الإطلاق فالظاهر منه وجوب المسح بالماء.

و إن كان هو ابتناء الوضوء علي الميسور فالمسح بالماء هو الأقرب للميسور عرفا، و لا أقل من كونه حينئذ مقتضي قاعدة الاشتغال، لاحتمال توقف الطهارة المفروض وجوبها عليه، و لا يحتمل مانعيته منها. فلاحظ.

هذا، و لو غض النظر عما تقدم و فرض إطلاق المنع عن الاستئناف بنحو يشمل المقام تعين الانتقال للتيمم لإطلاق دليل مشروعيته بتعذر الوضوء.

و مجرد عدم تعرض الأصحاب لذلك في مسوغات التيمم لا يكشف عن إجماعهم علي عدم مشروعيته و مشروعية الوضوء الناقص، مع ما هو المعلوم منهم من مشروعية التيمم بمجرد تعذر الوضوء، فإذا كان مقتضي الارتباطية تعذره في المقام لزم مشروعية التيمم بلا حاجة إلي التنصيص عليه منهم بالخصوص.

و منه يظهر حال دعوي: أن احتمال الاكتفاء بالميسور ملزم بالاحتياط

ص: 339

______________________________

بالجمع بينه و بين التيمم، للعلم الإجمالي بوجوب أحدهما.

لاندفاعها: بأن إطلاق مشروعية التيمم بتعذر الوضوء بضميمة ظهور دليل الوضوء في خصوص التام كاشف عن الاكتفاء بالتيمم و رافع للإجمال تعبدا.

كما ظهر مما تقدم أن الأقوي الاكتفاء بالوضوء مع الاستئناف، و الأحوط استحبابا ضم التيمم إليه، و لا حاجة للاحتياط بالوضوء بالمسح من دون استئناف.

فرع:

المحكي عن نهاية الإحكام وجوب تأثر الممسوح بالماسح مع الإمكان، و هو الذي استظهره في المستند، و به صرح في العروة الوثقي، و وافقه سيدنا المصنف قدّس سرّه ناسبا التصريح به لجماعة كثيرة، قال: «لأن المسح بالبلل كالمسح بالدهن ظاهر في ذلك، لا مجرد المسح بالعضو متلبسا بالبلل».

أقول: إن كان المراد بالتأثير مجرد انتقال البلة من الماسح للممسوح، فهو ملازم لفرض وجود البلة في الماسح حين المسح.

و إن كان المراد به حمل الممسوح لرطوبة يصدق عليها الماء و البلل فدعوي ظهور إطلاق المسح فيه ممنوعة.

و المسح بالدهن إنما يفهم منه ذلك إذا كان كناية عن تدهين الممسوح، و إلا فمسح الدهن بالمنديل لا يفهم منه ذلك. بل قد ينافي ذلك مقابلة المسح بالغسل الذي تقدم أنه يجزي فيه مثل الدهن.

و كذا رواية الأخذ من الأشفار و الحاجبين، لقلة الماء فيها بنحو يندر حمل الرأس و الرجلين للبلل بمسحها به. فتأمل.

و كذا الحال لو أريد بالتأثر حمل الممسوح لمسمي الرطوبة و لو لم تكن مسرية. فإنه مخالف للإطلاق أيضا، و انصرافه منه ممنوع، و إن كان ما سبقه أشد منعا.

ص: 340

مسألة 27 لا يجوز المسح علي العمامة و القناع أو غيرهما من الحائل

(مسألة 27): لا يجوز المسح علي العمامة و القناع أو غيرهما من الحائل (1)،

______________________________

هذا، و لو فرض وجوب تأثر الممسوح و تعذرت المحافظة علي البلة بالمقدار المستلزم له، ففي وجوب المسح بالبلة من دون تأثير- كما عن نهاية الإحكام- أو وجوب الاستئناف وجهان.

مقتضي إطلاق الأمر بالمسح الثاني بعد فرض انصرافه لصورة التأثير و فرض قصور دليل المنع عن الاستئناف عن المقام، كما تقدم نظيره.

و إن فرض إطلاق دليل المنع عن الاستئناف و شموله للمقام و أن الدليل علي مشروعية الوضوء فيه قاعدة الميسور كان مقتضي قاعدة الاشتغال الجمع بالمسح أولا ببلة الوضوء ثمَّ المسح بالماء الجديد.

و إن فرض المنع من جريان قاعدة الميسور كان اللازم التيمم، كما يظهر بملاحظة ما تقدم.

(1) إجماعا محصلا و منقولا علي لسان جملة من الأساطين. كذا في الجواهر. و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «ينبغي عده من ضروريات المذهب». و قد تكرر في كلماتهم دعوي الإجماع علي عدم المسح علي العمامة و الشعر الخارج عن الحد و غيرهما.

و يقتضيه- مضافا إلي ظاهر الإطلاقات المستفيضة بالمسح علي الرأس و القدم- صريح ما تضمن إدخال الإصبع تحت العمامة و الخمار «1»، و قد تقدم كثير منه عند الكلام في إجزاء مسمي المسح، و مرفوع محمد بن يحيي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الذي يخضب رأسه بالحناء ثمَّ يبدو له في الوضوء. قال: لا يجوز

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 5، و باب: 37 من أبواب الوضوء حديث: 5، و باب:

123 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1. و راجع باب: 24 من أبواب الوضوء.

ص: 341

______________________________

حتي يصيب بشرة رأسه بالماء» «1». و ما قد يستفاد من بعض نصوص المسح علي الخف من عدم الخصوصية له.

لكن في صحيح عمر بن يزيد: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يخضب رأسه بالحناء ثمَّ يبدو له في الوضوء. قال: يمسح فوق الحناء» «2» و في صحيح محمد بن مسلم عنه عليه السّلام: «في الرجل يحلق رأسه ثمَّ يطليه بالحناء ثمَّ يتوضأ للصلاة. فقال: لا بأس بأن يمسح رأسه و الحناء عليه» «3».

إلا أن ظاهر الأصحاب الإعراض عنهما، لعدم تنبيههم علي استثناء الحناء، مع أنها أولي بالتنبيه من شعر المقدم. بل عن غير واحد التنبيه علي المنع فيها، و ذلك مانع من الاعتماد عليهما في موردهما، فضلا عن التعدي لغيره من افراد الحائل مع ما عرفت من الإجماع و النص. فليحملا علي بعض المحامل من تقية أو ضرر أو حرج أو نحوهما.

نعم، مقتضي ما عن الذكري من نقل الإجماع علي عدم إجزاء المسح علي العمامة و الشهرة في الحناء وجود القول به. و لعله لما في الاستبصار حيث عقد للمسح علي الحناء بابا ثمَّ ذكر الصحيحين.

لكنه بعد أن عارضهما بمرفوع محمد بن يحيي المتقدم، و رجحهما عليه بانقطاع سنده، قال: «و لو سلم لأمكن حمله علي أنه إذا أمكن إيصال الماء إلي البشرة فلا بد من إيصاله، و إذا لم يمكن ذلك أو لحقه مشقة في إيصاله لم يجب عليه. و يؤكد ذلك ما رواه. الوشاء قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الدواء إذا كان علي يدي الرجل، أ يجزيه أن يمسح علي طلاء الدواء؟ فقال: نعم يجزيه أن يمسح عليه». أو هو ظاهر في عدم عمله بظاهر الصحيحين.

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 37 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 342

و إن كان شيئا رقيقا لا يمنع من وصول الرطوبة إلي البشرة (1).

الرابع: مسح القدمين
اشارة

الرابع: يجب مسح القدمين (2)

______________________________

(1) كما صرح به في المنتهي، و نسب الخلاف فيه لأبي حنيفة. و ظاهره الإجماع منا، و هو الظاهر من الأصحاب، لعدم استثنائهم ذلك من الحائل.

و يقتضيه ما تقدم، لظهور المسح في مماسة الماسح للممسوح. و لا قرينة علي أن الغرض مجرد وصول الماء للممسوح، بل هو لا يناسب مقابلة المسح بالغسل الذي يراد منه ذلك، بل الأمر أظهر من أن يحتاج للاستدلال.

(2) قال في الجواهر: «إجماعا عند الإمامية محصلا و منقولا، بل هو من ضروريات مذهبهم، و أخبارهم به متواترة، بل في الانتصار أنها أكثر من عدد الرمل و الحصي، بل رواه مخالفوهم أيضا. بل هو المنقول عن جماعة من الصحابة و التابعين و الفقهاء، كابن عباس و عكرمة و أنس و أبي العالية و الشعبي.

و عن أبي الحسن البصري و ابن جرير الطبري و أبي علي الجبائي التخيير بينه و بين الغسل.

و عن داود يجب الغسل و المسح معا، و نحوه عن الناصر الزيدي. و باقي الفقهاء علي إيجاب الغسل فقط».

و يكفينا دليلا الثقلان اللذان تركهما رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في أمته كتاب اللّه و عترته. أما العترة عليهم السّلام فقولهم به معلوم بإجماع شيعتهم و أصحابهم الآخذين منهم، و بالنصوص المروية عنهم الصريحة في مشروعية المسح، بل وجوبه، و أنه الذي نزل به الكتاب.

و أما الكتاب فيدل عليه بمقتضي عطف الأرجل علي الرؤوس التي فرضها المسح، فتشاركها فيه. من دون فرق بين قراءة الجر التي قال الشيخ في التهذيب انها مجمع عليها، و في رواية غالب عن الباقر عليه السّلام «1» تعيينها- اتباعا للفظ الرؤوس،

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 10.

ص: 343

______________________________

و قراءة النصب اتباعا لمحلها، أو بنزع الخافض أو عطفا علي الجار و المجرور معا، لتجريد الرجلين عن معني الباء الدالة علي التبعيض أو الإلصاق المستتبع للاكتفاء بالمسمي- كما سبق- لعدم الاكتفاء فيهما بالمسمي طولا.

و حملها علي العطف علي الوجوه المغسولة مستلزم للفصل بين المتعاطفين بالأجنبي المستبشع جدا، و لا سيما علي قراءة الجر التي يتعين في وجهها علي ذلك الاتباع للمجاورة، الذي هو من شواذ الاستعمال، فلا يحمل عليه الكلام، خصوصا كلام اللّه تعالي الوارد مورد الاعجاز، و لا سيما ممن لم يؤت علم الكتاب و لم يطلع علي تأويله، بل ليس له إلا التعبد بظواهره، حيث لا ينبغي الريب في مخالفة الحمل المذكور للظاهر، و ليس الظاهر إلا وجوب المسح.

و كذا دعوي: أن المراد بالمسح الغسل، لأن الغسل الخفيف يسمي مسحا، فإنه حمل للكلام علي المجاز بلا قرينة، بل يأباه سياقه، لعطف الأرجل علي الرؤوس.

و منه يظهر أنه لا بد من طرح النصوص «1» التي قد يظهر منها وجوب الغسل، أو حملها علي التقية، لأنها من الشاذ النادر المخالف للكتاب و الموافق للعامة.

و معه لا وجه لوجوب الجمع بين المسح و الغسل إلا الاحتياط بالجمع بين احتمالين، قد عينت الأدلة أولهما و أبطلت ثانيهما.

كما لا وجه للتخيير ظاهرا إلا دعوي: أولوية الغسل من المسح، لأنه أبلغ في التطهير. و هي ظنية لا يخرج بها عما سبق. أو دعوي: بدليته عن المسح جمعا بين ما تقدم و النصوص المتضمنة للغسل المروية من طرقهم و طرقنا، ففي صحيح أيوب بن نوح: «كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام: أسأله عن المسح علي القدمين. فقال:

الوضوء بالمسح، و لا يجب فيه إلا ذاك، و من غسل فلا بأس» «2» و في موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يتوضأ الوضوء كله إلا رجليه، ثمَّ يخوض بهما

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 13.

ص: 344

______________________________

الماء خوضا. قال: أجزأه ذلك» «1».

لكن نصوصهم ليست حجة علينا، و نصوصنا متعينة للحمل علي التقية بعد ما سبقت الإشارة إليه من الإجماع و النصوص الصريحة في عدم الاجزاء، كصحيح زرارة «2» المتقدم في المسألة الثالثة و العشرين، و حسن محمد بن مروان أو صحيحه: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يأتي علي الرجل ستون و سبعون سنة ما قبل اللّه منه صلاة. قلت: كيف ذاك؟ قال: لأنه يغسل ما أمر اللّه بمسحه» «3» و ما ورد في قصة علي بن يقطين «4».

ثمَّ إن ظاهر الأصحاب اختصاص ظاهر القدمين بالمسح- فلا يجب مسح باطنهما فقط أو مع الظاهر- لأنه موقع الكعبين، بناء علي ما يأتي منهم من أنهما قبتا القدمين. و هو المصرح به في الغنية و إشارة السبق و المراسم و عن المقنعة و السرائر و غيرهما، و ظاهر الغنية الإجماع عليه، كما هو المصرح به في كشف اللثام و محكي غيره.

و أما ما في المقنعة من قوله: «و مسح القدمين ظاهرهما و باطنهما» فلا بد من تأويله بعد ما عرفت منه و من غيره. قال في التهذيب في شرحه: «يريد مقبلا و مدبرا من الأصابع إلي الكعبين، و من الكعبين إلي الأصابع». و هو أعرف بمراد شيخه.

و كيف كان، فيقتضيه- مضافا إلي ما عرفت من الإجماع، و إلي ظاهر الآية و النصوص المتضمنة للمسح إلي الكعبين، بناء علي أنهما قبتا القدمين بالوجه المتقدم- ظاهر النصوص المتضمنة لتعدية المسح ب «علي»، و النصوص المتضمنة للمسح علي الظاهر، و منها ما تضمن المسح علي النعلين «5»، و إن لم يكن بعضها ظاهرا في الوجوب، بل في الاجزاء لا غير، لوروده في بيان العمل أو غير ذلك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 14.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 12.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(5) راجع في النصوص المذكورة باب: 15، 20، 23، 24، 25، 32 و غيرها من أبواب الوضوء.

ص: 345

من أطراف الأصابع إلي الكعبين (1)

______________________________

نعم، في خبر سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا توضأت فامسح قدميك ظاهرهما و باطنهما، ثمَّ قال: هكذا، فوضع يده علي الكعب و ضرب الأخري علي باطن قدميه، ثمَّ مسهما إلي الأصابع» «1» و في مرفوع أحمد بن محمد بن عيسي عن أبي بصير عنه عليه السّلام: «في مسح القدمين و مسح الرأس. فقال:

مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس و مؤخره، و مسح القدمين ظاهرهما و باطنهما» «2».

لكن لا مجال للخروج بهما عما تقدم. و قد حملهما الشيخ قدّس سرّه في كتابيه علي التقية، قال في الاستبصار: «لأن في الفقهاء من يقول بمسح الرجلين، و يقول مع ذلك باستيعاب العضو ظاهرا و باطنا.

و يحتمل أن يكون أراد ظاهرهما و باطنهما، أعني: مقبلا و مدبرا، علي ما بينا القول فيه». و لو لا شذوذهما و ظهور إعراض الأصحاب عنهما لأمكن الجمع بينهما و بين ما تقدم بالحمل علي الاستحباب. فلاحظ.

(1) يعني: فيجب الاستيعاب الطولي للحد المذكور.

أما أصل التحديد فهو من الواضحات، فتوي و دليلا، بعد اشتمال الكتاب و السنة المستفيضة أو المتواترة عليه.

و أما وجوب الاستيعاب و عدم الاكتفاء بالمسمي طولا- علي خلاف ما تقدم في الرأس- فهو المصرح به في كلام جماعة و ادعي الإجماع عليه في ظاهر الخلاف و الغنية، و صريح المنتهي و محكي التنقيح، و لعله ظاهر التذكرة، لأنه و إن عبر بكفاية المسح من رؤوس إلي الكعبين و لو بإصبع واحدة في مقابل وجوب الاستيعاب حتي في العرض، إلا أن من القريب إرادته بيان المجزي عرضا مع الحفاظ علي المقدار المذكور طولا، و عن الذكري نسبته إلي عمل الأصحاب بعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الوضوء حديث: 7.

ص: 346

______________________________

أن تردد فيه، كما تردد فيه في المعتبر أولا، ثمَّ جزم بوجوبه، و ظاهر المدارك التردد فيه أيضا، و مال لعدم الوجوب في الحدائق- لو لا الاحتياط- و حكي عن صاحب رياض المسائل و حياض الدلائل نفي البعد عنه.

و ظاهرهم أو صريحهم أن منشأ التردد فيه هو احتمال كون «إلي» لتحديد الممسوح و بيان محل المسح، لا غاية للمسح، بل قد يدعي ظهورها في ذلك بمقتضي وقوعها في سياق التحديد بها في اليدين. بل لا ينبغي الإشكال في ذلك بناء علي جواز النكس.

و ما في الجواهر من أن خروج ذلك بدليل لا ينافي كونها غاية للمسح.

كما تري! إذ لا معني لكونها غاية للمسح إذا جاز الابتداء بالكعبين، و ليس هو من سنخ التقييد له.

مضافا إلي ما قد يدعي من أن عدم وجوب الاستيعاب مقتضي العطف علي الرؤوس التي أريد منها التبعيض في الطول و العرض معا، لمكان الباء، أو الإطلاق.

و فيه: أن كونها لتحديد الممسوح يقتضي استيعابه، كما اقتضاه في الأيدي، علي ما نبه له في الجواهر.

و أما العطف فهو لا يقتضي التبعيض بناء علي قراءة النصب و العطف علي الجار و المجرور معا- كما تقدم- بل لا بد في الاكتفاء بالبعض عرضا من دليل خارج. و أما بناء علي العطف علي محل المجرور أو بنزع الخافض، أو علي قراءة الجر- كما هو الظاهر لصحيح زرارة المتضمن إفادة الباء للتبعيض «1» و صحيحي الأخوين الآتيين، و خبر غالب المعين لقراءة الجر «2» - فلأن ظاهر التحديد ب «إلي» لزوم الاستيعاب الطولي و اختصاص التبعيض بالعرض.

إذ ليس المراد بكون «إلي» لتحديد الممسوح أنها تفسير لمفهوم الأرجل

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 1. و قد تقدم في أول الكلام في مسح الرأس.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 10.

ص: 347

______________________________

التي وقع عليها المسح، كما لو فسرت الرجل بالقدم، حيث يكون مقتضي العطف التبعيض فيه مطلقا طولا و عرضا- كما في الرؤوس- إذا لم يعهد إرادة ذلك من مثل هذا التركيب.

بل المراد أنها للمسح لا لبيان غايته، بل لبيان مقداره في اتجاه الطول، و مقتضاه الاستيعاب فيه، و إن لم يجب الاستيعاب عرضا للإطلاق.

نعم، يتجه التبعيض فيه لو كان الجار و المجرور صفة للبعض الذي يجب مسحه المستفاد من تسليط الباء، لبيان محله، فكأنه قيل: و امسحوا بأرجلكم بموضع واقع في الحد الخاص.

لكنه تكلف مخالف لظاهر الكلام جدا، بل لعله لا يصح إرادة ذلك من مثل هذا التركيب، لعدم اشتمال الكلام علي البعض الموصوف، و لظهور «إلي» في التحديد و بيان السعة، لا محض الظرفية و بيان المحل.

و منه يظهر وجه الاستدلال لوجوب الاستيعاب بغير واحد من النصوص المتضمنة لوجوب المسح إلي الكعبين، كصحيح ابن أذينة الوارد في حديث المعراج، و فيه: «ثمَّ امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء، و رجليك إلي كعبيك» «1».

و أما الاستدلال بصحيح البزنطي عن الرضا عليه السّلام: «سألته عن المسح علي القدمين كيف هو؟ فوضع كفه علي الأصابع فمسحها إلي الكعبين إلي ظاهر القدم.

فقلت: جعلت فداك لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا. فقال: لا إلا بكفه كلها» «2».

فقد يشكل: بأن اشتماله علي المسح بتمام الكف ملزم بحمله علي الاستحباب، فلا مجال لاستفادة وجوب الاستيعاب الطولي منه.

اللهم إلا أن يقال: إنما يمنع ذلك من استفادة وجوب الاستيعاب الطولي لو

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 348

______________________________

كان قرينة عرفية علي صرف السؤال إلي إرادة بيان الكيفية الكاملة، لا خصوص الواجب، و هو مما يأباه ظاهر الجواب جدا بلحاظ ذيله، غاية الأمر أنه يجب رفع اليد عن ظهور جوابه عليه السّلام في وجوب المسح بتمام الكف، و هو لا يستلزم رفع اليد عن ظهوره في وجوب الاستيعاب الطولي.

و الأمر سهل بعد وفاء ما تقدم بالمطلوب. و به يخرج عما يوهم الإطلاق، كصحيح ابن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «و ذكر المسح فقال: امسح علي مقدم رأسك، و امسح علي القدمين، و ابدأ بالشق الأيمن» «1». إذ لا يبعد شمول المسح علي القدم لصورة عدم الاستيعاب، و ليس هو كمسح القدم.

هذا، و قد استدل في الحدائق لعدم وجوب الاستيعاب بما تضمن المسح علي النعلين من دون استبطان الشراكين «2». و خبر جعفر بن سليمان: «سألت أبا الحسن موسي عليه السّلام: قلت: جعلت فداك يكون خف الرجل مخرقا فيدخل يده فيمسح ظهر قدميه أ يجزيه ذلك؟ قال: نعم» «3».

لكن عدم استبطان الشراكين لا يستلزم عدم الاستيعاب بعد كون معقد الشراك هو الكعب- كما في كلام غير واحد- غاية ما يلزم عدم مسح الكعب، و هو أعم من المدعي، لإمكان عدم دخول الغاية في حكم المغيي، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

بل التنبيه علي عدم استبطان الشراك ظاهر في المفروغية عن عدم إجزاء المسمي طولا، و أن للطول حدا لا بد من استيعابه، بحيث قد يتوهم لأجله وجوب الاستبطان.

كما أن المسح من تحت الخف المخرق قد يحصل معه الاستيعاب، بل لو لا مفروغية السائل عن وجوبه لم يحتج إلي فرض تخرق الخف، لإمكان تحقق

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 20، 23، 24 من أبواب الوضوء.

(3) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 349

______________________________

مسمي المسح طولا تحت الخف غير المخرق.

و أما صحيحة الأخوين عن أبي جعفر عليه السّلام: «إن اللّه تعالي يقول يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلا غسله. ثمَّ قال وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ فإذا مسح بشي ء من رأسه أو بشي ء من قدميه ما بين الكعبين إلي أطراف الأصابع فقد أجزأه» «1»، و صحيحتهما الأخري عنه عليه السّلام- التي لا يبعد كونها قسما من الأولي، و الاختلاف من جهة النقل بالمعني-: «أنه قال في المسح: تمسح علي النعلين و لا تدخل يدك تحت الشراك، و إذا مسحت بشي ء من رأسك أو بشي ء من قدميك ما بين كعبيك إلي أطراف الأصابع فقد أجزأك» «2».

فقد يستدل بهما علي عدم وجوب الاستيعاب، إما لكون «ما» بدلا من القدمين، أو بدلا من «شي ء» مع كون الباء الداخلة علي «شي ء» للتبعيض أو الإلصاق المفيد فائدته.

لكن الابدال من القدمين دون «شي ء» بعيد جدا، بعد كون القدمين مذكورين تبعا في وصف «شي ء»، و كونه أحوج للتحديد منهما، لوجود الحد الخارجي العرفي لهما دونه، لصدقه علي الكثير بعين صدقه علي القليل.

هذا، بناء علي ما يظهر منهم من تعين «ما» للاسمية، و أنها اسم موصول أو نكرة موصوفة، أما بناء علي أنها حرف رابط ممهد لما بعدها تعين كون ما بعدها صفة ل «شي ء»، دون القدمين، لكونهما معرفة لا توصف بالظرف، بل لا معني لوصفهما بأنهما بين الكعبين إلي أطراف الأصابع.

و أما كون الباء لإفادة التبعيض فلا مجال له، لظهور أن ذكر «شي ء» لبيان

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 350

و هما قبتا القدمين (1).

______________________________

التبعيض الذي هو مقتضي الباء في الآية، كما يظهر من مقابلة الغسل بالمسح في الصحيح الأول، بل هو صريح صحيح زرارة «1» المتضمن أن استفادة التبعيض لمكان الباء، فلا معني معه لذكر الباء و إرادة ما يقتضي التبعيض منها- كما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه- بل لا بد أن تكون لمحض الإلصاق بالنحو الذي لا يقتضي التبعيض في مدخولها، كما يناسبه ورود الصحيح الأول مورد التفسير للآية.

نعم، لو كان قوله عليه السّلام: «ما بين.» لبيان محل الشي ء الممسوح لا حدّه و مقداره، كان مقتضي الإطلاق عدم وجوب الاستيعاب.

لكن تقدم أن ظاهر «إلي» التحديد لا محض الظرفية و بيان المحل.

و من جميع ذلك ظهر أن الحديثين ظاهران في وجوب الاستيعاب الطولي، و أن الممسوح تمام ما بين الحدين، و لا مجال معه لاطالة الكلام فيما ذكره صاحب الحدائق عن صاحب رياض المسائل في تقريب دلالتهما علي عدم وجوب الاستيعاب. فراجع.

(1) كما في الشرائع و النافع و الروضة و عن التنقيح.

و يقتضيه كلام جل الأصحاب من القدماء و المتأخرين علي اختلاف عباراتهم، ففي محكي المقنعة: «و الكعبان هما قبتا القدمين أمام الساقين ما بين المفصل و المشط، و ليسا الأعظم عن اليمين و الشمال من الساقين الخارجة عنها، كما يظن ذلك العامة، و يسمونها الكعبين، بل هذه عظام الساقين، و العرب تسمي كل واحد منهما ظنبوبا. و الكعب في كل قدم، و هو ما علا منه في وسطه، كما ذكرنا» و في الانتصار و مجمع البيان: «هما العظمان النابتان في ظهر القدم عند معقد الشراك» و قريب منه في الخلاف و الغنية و المعتبر و المنتهي و الذكري و عن الجمل و العقود و السرائر و المهذب، و في المبسوط: «و هما النباتان في وسط القدم»، و في

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 1. و قد تقدم في أول الكلام في مسح الرأس.

ص: 351

______________________________

التحرير: «و هما النابتان في وسط القدم»، و في إشارة السبق و المراسم و محكي الكافي: أنهما معقد الشراك، و في محكي الكاتب لابن الجنيد: «الكعب في ظهر القدم دون عظم الساق، و هو المفصل الذي قدام العرقوب» [1]، و عن ابن أبي عقيل أنهما ظهر القدم [2].

و قد نسب للإمامية في الانتصار و مجمع البيان، و لفقهاء أهل البيت في المعتبر، و لعلمائنا في المنتهي، و لأصحابنا في محكي التنقيح، و لإجماعنا في الذكري، و لإجماع القائلين بوجوب المسح في الانتصار و التهذيب و الخلاف و الغنية و الذكري، و في نهاية ابن الأثير و لسان العرب و عن محكي لباب التأويل. أنه مذهب الشيعة، و في كشف اللثام أنه استفاض نقل الإجماع عليه.

و ذهب العلامة قدّس سرّه إلي أنه المفصل بين الساق و القدم، و تبعه الكاشاني، كما حكي موافقته عن غير واحد، كالشهيد في الألفية، و المقداد في كنز العرفان، و أبي العباس في الموجز، و الحر العاملي.

______________________________

[1] لما كان العرقوب هو العصب الغليظ الذي فوق العقب، كما ذكره غير واحد من اللغويين كان مقتضاه أن الكعب هو مفصل الساق و القدم. لكنه لا يناسب تصريحه بأنه دون عظم الساق.

و من هنا يحتمل.

تارة: أن مرجع الضمير عظم السابق لا الكعب.

و اخري: أن المراد بالعرقوب ما يعم العصب الذي أمام الساق، كما قد يناسبه ما في لسان العرب عن الأصمعي: «و العرقوبان: من الفرس ما ضم ملتقي الوظيفين و الساقين من مئاخرهما من العصب، و هو من الإنسان ما ضم أسفل الساق و القدم».

و ثالثة: أن لا يكون قوله: «و هو الفصل الذي قدام العرقوب» من كلام ابن الجنيد، بل من كلام العلامة قدّس سرّه عقب به كلام ابن الجنيد عند نقله في المختلف، كما أشار إليه في مفتاح الكرامة و يؤيده نقل العلامة له في جملة العبارات الموهمة لتفسير الكعب بغير المفصل، و عدم نقل الشهيد في الذكري الفقرة المذكورة في جملة كلام ابن الجنيد.

و لعل هذا أظهر الاحتمالات في المقام. (منه عفي عنه).

[2] ظاهره إرادة ما برز منه و ارتفع نظير ظهر الجبل، لا ما يقابل بطن القدم، لأنه محل المسح لا غاية الممسوح. (منه عفي عنه).

ص: 352

______________________________

بل يظهر منه قدّس سرّه حمل كلام الأصحاب علي ذلك، ففي التحرير فسره بما ذكره الأصحاب أولا، و في آخر كلامه فسره بالمفصل، و في المنتهي بعد أن فسره بما تقدم ناسبا له إلي علمائنا و تعرض لقول العامة ورده قال: «و قد يشتبه عبارة علمائنا علي بعض من لا مزيد تحصيل له في معني الكعب. و الضابط فيه ما رواه زرارة.» و ذكر صحيح الأخوين الآتي الذي هو دليله المختارة، و في المختلف: أن في عبارات الأصحاب اشتباها علي غير المحصّل، و في التذكرة: «و هما العظمان النابتان في وسط القدم، و هما معقد الشراك، أعني: مجمع الساق و القدم. ذهب إليه علماؤنا أجمع. و به قال محمد بن الحسن الشيباني، لأنه مأخوذ من كعب ثدي المرأة أي ارتفع».

و هو كما تري خروج عن ظاهر كلماتهم أو صريحها، فان التعبير بأنه العظم الواقع في وسط القدم أو ظهره و أنه معقد الشراك لا يناسب كونه المفصل الواقع في آخر القدم، و كذا وصفه بالنتوء و العلو و النبات، و تعليل تسميته بأنه مأخوذ من كعب ثدي المرأة، كما تقدم منه و ذكره غيره. بل كيف يمكن ذلك مع تصريح الشيخ في المبسوط بعدم مشروعية امتداد المسح لعظم الساق.

و مثله ما حمل البهائي و الفاضل الهندي قدّس سرهما عليه كلام العلامة و نسباه إلي علماء التشريح من أنه عظم مائل إلي الاستدارة واقع في ملتقي الساق و القدم له زائدتان في أعلاه يدخلان في حفرتي قصبة الساق و زائدتان في أسفله يدخلان في حفرتي العقب، و هو نأت في وسط ظهر القدم- يعني: وسطه العرضي- و لكن نتوءه غير ظاهر لحس البصر، لارتكاز أعلاه في حفرتي الساق. و ذكر البهائي قدّس سرّه أنه قد يعبر عنه بالمفصل- كما صنعه العلامة- لمجاورته له، أو من قبيل تسمية الحال باسم المحل. و نسبه في تفسير الرازي و النيشابوري إلي الإمامية و كل من قال بوجوب المسح.

و ذكر أيضا أنه يمكن تنزيل كلمات الأصحاب (رضي اللّه عنهم) عليه، بأن يريدوا بوسط القدم وسطه العرضي، لا الطولي، و بنتوء الكعب نتوءه غير

ص: 353

______________________________

المحسوس. و إن كان لا مجال لذلك في كلام المفيد، لصراحته في إرادته المعني الأول. و كأنه لجعله الكعب أمام الساقين بين المفصل و المشط، لا تحت الساقين عند المفصل.

لاندفاعه- مع عدم مناسبته لما تقدم من المبسوط- بأن الظاهر من وسط القدم هو الوسط الطولي، و لا سيما مع مشاركتهم المفيد في أخذ ذلك في تعريفه بل هو كالصريح ممن جعله في ظهر القدم، و ممن صرح بأنه عند معقد الشراك.

كما أن حمل النتوء و العلو في كلماتهم علي العلو غير المحسوس لا يناسب ذكرهم له علامة للكعب، ليرجع إليه في معرفته.

قال في الحدائق: «و لو كان المراد بالكعب هذا المعني الذي لا يفهمه إلا علماء التشريح، دون سائر العلماء، فضلا عن المتعلمين، لأوضحوه بعبارات جلية و بينوه بكلمات واضحة غير خفية، و لما اقتصروا في وصفه علي مجرد النتوء و الارتفاع، الذي هو من قبيل تعريف المجهول بما هو أخفي».

و بالجملة: النظر في كلام من عرفت يوجب القطع بموافقتهم للمفيد قدّس سرّه الذي اعترف البهائي بصراحة كلامه في إرادة المعني الأول و لا سيما بعد كون بعضهم من تلامذته أو شارحا.

بل من البعيد تنزيل عبارات العلامة قدّس سرّه علي هذا المعني بعد عدم إشارته إليه بوجه، و اقتصاره علي ذكر المفصل. و لا سيما مع ما في المنتهي، حيث ذكر في جملة كلام المخالفين- الذي رده- ما عن أبي عبيدة من أن الكعب هو الذي في أصل القدم ينتهي الساق إليه بمنزلة كعاب القناة.

و منه يظهر أنه لا مأخذ لنسبته للإمامية في تفسير الرازي و عن تفسير النيشابوري.

هذا، و قد تحصل من جميع ما تقدم: أن للمسلمين في الكعب أقوالا أربعة.

الأول: قبة القدم، و هو ظاهر الأصحاب.

الثاني: المفصل، و هو الظاهر من العلامة.

ص: 354

______________________________

الثالث: العظم الذي أثبته علماء التشريح، كما تقدم من البهائي قدّس سرّه.

الرابع: العظمان المكتنفان للساق، ففي كل رجلي كعبان. و هو الذي عليه جمهور فقهاء العامة عدا محمد بن الحسن الشيباني، فقد تكرر النقل عنه بموافقته لنا في معني الكعب علي الخلاف فيه.

و هو المذكور في غير واحد من كتب اللغة في جملة معانيه، بل عن بعضهم تعينه، و هو الذي نقله في لسان العرب عن أبي عمرو بن العلاء و الأصمعي في رواية ثعلب، و إن كان ظاهر بعضهم إنكاره، كما هو ظاهر الصحاح و مفردات الراغب و عن ظاهر العين و المجمل، و المفضل و ابن الأعرابي و حكاه الرازي عن الأصمعي في رواية القفال، مدعيا أن العظمين المذكورين يسميان المنجمين، نظير ما تقدم من المفيد قدّس سرّه.

و حيث يظهر من اللغويين سبق الخلاف في معني الكعب، فلا مجال لاحتمال هذا المعني في المقام بعد إطباق الطائفة علي خلافه حتي صار شعارا لهم يعرفه مخالفوهم عنهم، لامتناع خفاء ذلك عليهم عادة مع كثرة الابتلاء به و تيسر رجوعهم لأئمتهم عليهم السّلام في معرفته. مضافا إلي ما يأتي من ظهور النصوص في خلافه.

و الثالث هو ظاهر ما في الصحاح و مفردات الراغب من أن الكعب العظم عند ملتقي الساق و القدم، و هو المحكي عن ظاهر العين و المجمل، و قد يقتضيه ما تقدم عن أبي عبيدة.

و أما الثاني فهو الذي نقله في لسان العرب عن المفضل و ابن الأعرابي في رواية ثعلب، و قد يناسبه ما فيه و في القاموس في بيان أحد معاني الكعب أنه كل مفصل للعظام.

و أما الأول فقد ذكر في غير واحد من كتب اللغة من معاني الكعب، و استشهدوا له بقول يحيي بن الحارث: رأيت القتلي يوم زيد بن علي فرأيت الكعاب في وسط القدم، بل ظاهر ما في الصحاح و لسان العرب أنه المعروف بين

ص: 355

______________________________

الناس، حيث قالا: «و أنكر الأصمعي قول الناس أنه في ظهر القدم». و نقل في الذكري عن فائت الجمهرة لأبي عمرو الزاهد عن الفراء أنه في مشط الرجل، و حكي عنه أيضا أنه قال: «و أخبرني سلمة عن الفراء عن الكسائي، قال: قعد محمد بن علي بن الحسين عليهم السّلام في مجلس كان له، و قال: هاهنا الكعبان. فقالوا:

هكذا، فقال: ليس هو هكذا، و لكنه هكذا، و أشار إلي مشط رجله، فقالوا له: إن الناس يقولون: هكذا. فقال: لا هذا قول الخاصة و ذلك قول العامة».

كما نقل عن عميد الرؤساء من لغوية الخاصة أنه صنف كتابا في تحقيق معني الكعب أكثر فيه من الشواهد علي أنه في ظهر القدم أمام الساق حيث يقع معقد الشراك من النعل.

و منه يظهر حال ما ذكره العلامة قدّس سرّه في تقريب مدعاه من أنه أقرب إلي ما حدده أهل اللغة، حيث ظهر شدة الخلاف بين اللغويين و عدم اتفاقهم علي معني واحد يكون ما ذكره أقرب إليه مما ذكره الأصحاب، بل لعل ما ذكروه أظهر بملاحظة مجموع كلمات اللغويين، و لا سيما الخاصة منهم، بل ذكر الشهيد في الذكري: أنه إن أراد لغوية العامة فهم مختلفون، و إن أراد لغوية الخاصة فهم متفقون علي خلافه.

هذا كله في كلام الأصحاب و اللغويين.

و أما النصوص فقد استدل العلامة علي مختاره و استدل له بغير واحد منها، ففي صحيح الأخوين عن أبي جعفر عليه السّلام: «فقلنا: أين الكعبان؟ قال: هاهنا. يعني:

المفصل دون عظم الساق. فقلنا: هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم الساق [و الكعب أسفل من ذلك. خ ل]» «1» و في صحيح زرارة عنه عليه السّلام: «و مسح رأسه و ظهر قدميه» «2».

بدعوي: أنه يعطي استيعاب المسح لظهر القدم. و في صحيح البزنطي عن

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 356

______________________________

الرضا عليه السّلام: «سألته عن المسح علي القدمين كيف هو؟ فوضع كفه علي الأصابع فمسحها إلي الكعبين إلي ظاهر القدم» «1» بدعوي: أن الغاية الثانية مفسرة للأولي، و المراد بها تمام ظاهر القدم.

و يشكل: بأن وصف المفصل في صحيح الأخوين بأنه دون عظم الساق يأبي حمله علي مفصل الساق و القدم، و يقرب حمله علي العظم الواقع بينه و بين المشط، فإنه مفصل أيضا، و كذا قوله: «و الكعب أسفل من ذلك» - و من ثمَّ استدل به الشيخ قدّس سرّه و غيره علي المعني المعروف- و تطبيقه علي مفصل الساق و القدم بلحاظ كونه في منتهي عظم الساق بعيد، و لا أقل من عدم كونه ظاهرا من الكلام.

و صحيح زرارة- مع وروده في حكاية حال لا تصلح لتفسير معني الكعب- ظاهر بدوا في استيعاب الرأس و ظهر القدم طولا و عرضا، فلا بد من كون المراد به المسح علي المواضع المذكورة في الجملة، نظير ما تضمنته جملة من النصوص من مسح الرأس و الرجلين.

و حمل صحيح البزنطي علي إرادة تمام ظاهر القدم ليس بأولي من حمل ظاهر القدم علي ما ارتفع منه و برز- فيطابق المشهور- أو حمله علي بيان أن المسح في جهة الظاهر في مقابل الباطن.

و أضعف من ذلك الاستدلال له بصحيح يونس: «أخبرني من رأي أبا الحسن عليه السّلام بمني يمسح ظهر القدمين من أعلي القدم إلي الكعب، و من الكعب إلي أعلي القدم» «2».

بدعوي: ظهوره في أن أعلي القدم غير الكعب، فلا بد من كون الكعب هو المفصل.

لاندفاعه: - مضافا إلي كونه حكاية حال لا تصلح للتحديد- بأن الظاهر منه بيان طرفي محل المسح، فليس المراد بأعلي القدم قبته، بل أطراف

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 20 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 357

______________________________

الأصابع، و لعله بلحاظ وضع الرجل حين المسح. و حمله علي ارادة بيان مجرد اتجاه المسح بعيد جدا.

هذا، و قد يستدل للمشهور بجملة من النصوص.

منها: صحيح ميسر [1] عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: الوضوء واحد. و وصف الكعب في ظهر القدم» «2» إذ ليس في ظهر القدم إلا الذي اعتمده الأصحاب.

و ما ذكره البهائي من أن التعبير بالوصف يعطي أن الإمام عليه السّلام ذكر للكعب أوصافا ليعرف بها، و لو كان الكعب هذا المحسوس المشاهد لم يحتج لذلك.

كما تري، لعدم وضوح كون المراد بالوصف أمرا زائدا علي الإشارة للشي ء و بيانه، مع أن نتوء الكعب في ظهر القدم ليس بحد يغني عن التوضيح الذي يصدق عليه الوصف، علي أن ذلك لا يصلح للخروج عن صريح الحديث في كون الكعب في ظهر القدم.

و منها: موثقة أو صحيحه عنه عليه السّلام و فيه: «ثمَّ وضع يده علي ظهر القدم، ثمَّ قال: هذا هو الكعب. و قال: و أومي بيده إلي أسفل العرقوب، ثمَّ قال: إن هذا هو الظنبوب» «3». و لو كان المراد المفصل لكان المناسب وضع اليد عليه. و كذا لو كان

______________________________

[1] و هو ميسر بن عبد العزيز الذي هو من رجال كامل الزيارة، و روي الكشي عن علي بن الحسن بن فضال توثيقه، كما وردت فيه روايات تتضمن مدحه، بل جلالته. و قد روي عنه هذا الحديث علي بن أبي المغيرة الذي قال النجاشي في ترجمة ولده الحسن: «الحسن بن علي بن أبي المغيرة الزبيدي الكوفي ثقة هو و أبوه، روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام، و هو يروي كتاب أبيه عنه، و له كتاب مفرد» و ظاهره توثيقه لهما معا.

و ما استظهره بعضهم من رجوع التوثيق للابن فقط، و ما بعده مستأنف لبيان من يروي عنه الأب.

مخالف للظاهر جدا، فإن التأكيد بضمير الفصل ظاهر في إرادة العطف. و مجرد التعرض بعد ذلك لرواية الابن كتاب أبيه لا يصلح شاهدا لمدعاهم.

نعم، لو ثبت عدم رواية الحسن عن الصادقين كان شاهدا لما ذكروه. لكنه- مع عدم ثبوته- لا ينهض بالخروج عن الظاهر. فتأمل. (منه عفي عنه).

______________________________

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 9.

ص: 358

______________________________

المراد العظم الذي فيه- كما هو مختار البهائي- بل كان المناسب أن يقول عليه السّلام حينئذ: هاهنا الكعب، لعدم كونه محسوسا بنفسه ليعبر عنه باسم الإشارة.

و منها: ما تضمن عدم استبطان الشراكين، كما في صحيح الأخوين عنه عليه السّلام: «أنه قال في المسح: تمسح علي النعلين، و لا تدخل يدك تحت الشراك» «1»، إذ لا ريب في عدم كون معقد الشراك بعد المفصل، بل الظاهر أنه في وسط القدم، كما ذكره الأصحاب.

و أما احتمال وروده لبيان بدلية المسح علي الشراك عن المسح علي البشرة.

فغريب، و لا سيما بعد النظر في نصوص المسح علي الخفين الظاهرة في شدة النكير منهم عليهم السّلام علي المسح علي غير البشرة، و منها ما تضمن قولهم عليهم السّلام:

«سبق الكتاب الخفين» «2».

علي أن المناسب حينئذ عدم الاكتفاء ببيان عدم وجوب المسح تحت الشراك، بل ينبه إلي المسح علي الشراك، كما نبه له في الجبائر، لعدم كون بدليته بحدّ لا يحتاج معه إلي التنبيه.

و منها: ما تضمن قطع رجل السارق من الكعب، كما في صحيح زرارة عنه عليه السّلام «فإذا قطع الرجل قطعها من الكعب» «3» بضميمة ما تضمن قطعها من وسط القدم، و هو موثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «فان عاد قطعت رجله من وسط القدم» «4» المؤيد بالنصوص المتضمنة لترك العقب يمشي عليه. «5».

و دعوي: أن ترك العقب يمشي عليه يجتمع مع كون الكعب هو المفصل، بأن يكون مبدأ القطع محاذيا للمفصل من الأعلي ثمَّ ينزل في سمت الساق.

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 4. و بقية أحاديث عدم استبطان الشراكين في باب: 15 حديث: 3. و باب: 23 حديث: 3 و باب: 24 حديث: 6.

(2) راجع الوسائل باب: 38 من أبواب الوضوء.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب حد السرقة حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 4 من أبواب حد السرقة حديث: 3.

(5) راجع الوسائل باب: 4، 5 من أبواب حد السرقة.

ص: 359

______________________________

مخالفة لظاهر القطع من المفصل جدا. بل هو مخالف لظاهر حسنة عبد اللّه بن هلال، بل صحيحته [1] عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و فيها: «قلت له: جعلت فداك و كيف يقوم و قد قطعت رجله؟ فقال: إن القطع ليس من حيث رأيت يقطع، إنما يقطع الرجل من الكعب و يترك من قدمه ما يقوم عليه و يصلي و يعبد اللّه» «2» لظهورها في أن القطع من الكعب بطبعه يقتضي بقاء شي ء من القدم، لأنه ليس من المفصل كما يفعله العامة فهو ظاهر في تباينهما.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل بعد ملاحظة نصوص المقام و نصوص قطع رجل السارق في أن الكعب في وسط القدم، كما جري عليه الأصحاب. و كفي بإطباقهم دليلا عليه بعد كثرة الابتلاء به و اهتمامهم بشأنه بسبب سبق الخلاف فيه بينهم و بين العامة و تيسر رجوعهم لأئمتهم عليهم السّلام في معرفته، إذ لا أقل من كشفه عن المراد بهذه النصوص لو فرض طروء الاجمال عليها.

و ليس خلاف العلامة و من تأخر عنه إلا لشبهة حصلت لهم لا تخل بكشف الإجماع عن رأي المعصومين عليهم السّلام أو عن المراد بهذه النصوص. و إن كان الأمر أظهر من أن يحتاج لذلك. و اللّه سبحانه و تعالي ولي العصمة و السداد.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من ظهورها في حصر المتروك بما يمكن أن يقوم عليه، فلا يناسب القطع من وسط القدم، بل يتعين حملها علي القطع من مفصل القدم نازلا بالوجه الذي أشرنا إليه آنفا.

فلم يتضح مأخذه، لأنها في مقام بيان عدم وجوب استيعاب القطع للقدم، لا بيان مقدار ما يبقي منه.

نعم، في خبر معاوية بن عمار: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:. و تقطع الرجل من المفصل و يترك العقب يطأ عليه» «3».

______________________________

[1] إذ ليس في طريقها من يتوقف فيه إلا محمد بن عبد اللّه بن هلال و أبوه، و هما من رجال كامل الزيارة.

مع تأيد وثاقتهما برواية بعض أجلاء الأصحاب عنهما. (منه عفي عنه).

______________________________

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب حد السرقة حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب حد السرقة حديث: 7.

ص: 360

______________________________

لكنه- مع ضعف سنده، بل شذوذه، لعدم روايته إلا في نوادر أحمد بن محمد بن عيسي- قابل للحمل علي التقية. و لا ينافيه اشتماله علي بقاء العقب، لإمكان كون التقية في نفس المحافظة علي العنوان المذكور عند العامة، و لو مع الاستثناء منه علي خلاف مذهبهم. علي أنه ليس نصا في عدم إرادة وسط القدم، لإمكان حمله علي مفصل الكعب الذي في ظهر القدم، نظير ما تقدم في صحيح الأخوين، فإنه و إن كان خلاف الظاهر منه بدوا، إلا أنه المتعين جمعا. و إلا فلا مجال لرفع اليد به عما ذكرنا بعد قوة النصوص المتقدمة سندا و دلالة.

و من الغريب ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الاستدلال بنصوص قطع السارق لمذهب العلامة أولي من هذا الخبر و ما تقدم منه في سابقة، خلافا لما حكاه عن الوحيد قدّس سرّه من الاستدلال بها لمذهب المشهور.

بقي في المقام شي ء، و هو أنه هل يجب إدخال الكعب في الممسوح أو لا؟

اختار الأول في المنتهي و جامع المقاصد و محكي التحرير.

إما لأن «إلي» في الآية بمعني «مع» أو لأنها للغاية، و هي داخلة في حكم المغيي إذا لم تنفصل عنه حسا، أو لما حكاه في المنتهي عن المبرد من أن الحدّ إذا كان من جنس المحدود دخل فيه، و الكعبان من جنس الرجلين.

و لأنه في حالة الابتداء بهما يجب مسحهما، لرواية يونس المتقدمة المتضمنة لمسح أبي الحسن عليه السّلام قدميه من أعلي القدم إلي الكعب، و من الكعب إلي أعلي القدم «1»، و لا قائل بالفرق.

لكن حمل «إلي» علي معني «مع» مجاز مخالف للظاهر جدا، و جواز النكس لا يقتضيه، بل يقتضي بكونها لتحديد الممسوح. و دخول الغاية في حكم المغيي غير ثابت مع عدم القرينة. و رواية يونس- مع ورودها في حكاية فعل لا تصلح للتحديد- ليست صريحة في دخول الكعب حال المسح منه، لاشتراك مبدأ الغاية و منتهاها في عدم ثبوت دخولهما في حكم المغيي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 361

و الأحوط استحبابا المسح إلي مفصل الساق. و يجزي المسمي عرضا (1).

______________________________

و اختار المحقق في المعتبر الثاني، و نفي عنه البأس في المدارك. بل قد يستظهر من كل من نص علي الإدخال في المرفق دون الكعب.

و لعله لذا نسبه في محكي الذكري لظاهر الأصحاب.

بل عن صاحب رياض المسائل نفي الخلاف فيه، و إن كان هو كما تري بعد ثبوت الخلاف ممن تقدم.

و عمدة دليله في كلماتهم ما في صحيح الأخوين من قوله عليه السّلام: «فإذا مسح بشي ء من رأسه أو بشي ء من قدميه ما بين الكعبين إلي أطراف الأصابع فقد أجزأه» «1» و نحوه صحيحهما الآخر «2».

لوضوح أن ظاهر البينة خروج طرفها، و استعمالها فيما يقتضي دخوله في نحو قولنا: عندي ما بين عشرة إلي خمسة، مجاز، لأن المراد بالبينة هنا تردد الشك و الاحتمال، لا البينة الخارجية الحقيقية، كما في المقام.

و أما ما تضمن عدم استبطان الشراك، فالاستدلال به موقوف علي كون الكعب تحت الشراك- كما هو مقتضي تعبير بعضهم عنه بمعقد الشراك- و هو غير ثابت، لإمكان محاذاته له- كما يحتمله تعبير بعضهم عنه بأنه عند معقد الشراك- و لا سيما مع صغر الكعب و عدم دقة وضع الشراك بنحو لا يتعداه و يخرج عنه.

نعم، قد يصلح مؤيدا لما تضمنه الصحيحان.

و بذلك يخرج عن مقتضي قاعدة الاشتغال، التي عرفت غير مرة أنها المرجع في أمثال المقام.

(1) كما هو المصرح به في كلام غير واحد المدعي عليه الشهرة في

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 362

______________________________

كلامهم، بل يظهر من المعتبر و المنتهي و محكي التذكرة دعوي الإجماع عليه، لأنها و ان تضمنت الاجتزاء بالمسح و لو بإصبع، إلا أن الظاهر أن ذكر الإصبع لتعارف تحقيق المسمي به، لا لأنه أقل المجزي، كما يشهد به الاستدلال عليه في الأولين بما يدل علي التبعيض من غير تحديد، بل لعله المراد من غير واحد ممن ذكر الاجتزاء به، و إن كان ظاهر بعضهم التحديد به.

و عن المقاصد العلية: «إن إجزاء المسمي هنا موضع وفاق، و إنما الخلاف في الرأس. و التعبير بأقل الاسم أجود من التعبير بإصبع، لإيهامه كون أقله مقدار إصبع، و ليس كذلك، بل التعبير بها لعدم إمكان جعل آلة المسح أقل من إصبع، و إن جاز الاقتصار في المسح بها عن أقل من عرضها، فالتمثيل بها من جهة كونها آلة للمسح، لا مقدرة له بقدرها».

و كيف كان، فتقتضيه الآية الكريمة بناء علي قراءة الجر و النصب بالعطف علي المحل أو بنزع الخافض، و وجوب الاستيعاب الطولي إنما استفيد من التحديد ب «إلي» كما تقدم.

نعم، بناء علي النصب للعطف علي الجار و المجرور معا يكون ظاهر الآية وجوب الاستيعاب العرضي حتي بالإضافة إلي الباطن.

لكن لا مجال للبناء عليه بالنظر لصحيح زرارة المتضمن إفادة الباء التبعيض «1»، و صحيح الأخوين الأول «2» المتقدم قريبا، و خبر غالب المعيّن لقراءة الجر «3»، و من ذلك يظهر وجه الاستدلال بالصحيحين المذكورين و صحيح الأخوين الآخر «4»، و كذا مثل ما ورد في قضية علي بن يقطين من قوله عليه السّلام:

«و امسح بمقدم رأسك و ظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك» «5» فإن إدخال الباء

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 363

______________________________

علي مقدم الرأس و عطف ظاهر القدمين عليه ظاهر في الاجتزاء بالتبعيض فيهما بالبيان الوارد في صحيح زرارة المذكور. و قد تقدم في مسح الرأس و في وجوب الاستيعاب الطولي في الرجلين ما ينفع في المقام.

نعم، في صحيح البزنطي عن الرضا عليه السّلام: «سألته عن المسح علي القدمين كيف هو؟ فوضع كفه علي الأصابع فمسحها إلي الكعبين إلي ظاهر القدم. فقلت:

جعلت فداك لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا. فقال: لا، إلا بكفيه [بكفه خ ل] كلها» «1».

و في موثق عمار: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل ينقطع ظفره هل يجوز له أن يجعل عليه علكا؟ قال: لا، و لا يجعل إلا ما يقدر علي أخذه عنه عند الوضوء و لا يجعل عليه إلا ما [لا] يصل إليه الماء» «2»، فإنه لو لا وجوب الاستيعاب لأمكن الاكتفاء بمسح إصبع آخر.

و في خبر عبد الأعلي مولي آل سام الذي لا يبعد اعتباره [3]: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: عثرت فانقطع ظفري فجعلت علي إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه عز و جل، قال اللّه تعالي مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ امسح عليه» «4» فان الاحتياج للمسح علي الجبيرة بمقتضي دليل الحرج يتوقف علي وجوب استيعاب الأصابع بالمسح.

______________________________

[3] لقرب اتحاده مع عبد الأعلي بن أعين- الذي وثقه المفيد في محكي رسالته في الرد علي أصحاب العدد صريحا- كما صرح به الكليني في رواية له في استحباب نكاح الابكار (الوسائل باب: 17 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1)، و لا يعارضه عد الشيخ لهما معا في أصحاب الصادق عليه السّلام، لأن نسبته إليه كنسبة الأصل للدليل، و لا سيما مع ما هو المعروف من أضبطية الكليني. و لو فرض تعددهما لم يبعد حسن عبد الأعلي مولي آل سام بلحاظ بعض النصوص المؤيدة برواية بعض أجلاء الأصحاب عنه. و تمام الكلام في محله. (منه عفي عنه).

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 364

______________________________

و لا مجال لحملهما علي بدلية الجبيرة اختيارا و لو مع الاكتفاء بالمسح علي الإصبع التي ليست عليها، فإنه لا يناسب النهي في الموثق و لا تطبيق دليل الحرج في الخبر.

و أضعف منه حملهما علي استيعاب الجبيرة للأصابع. لأنهما كالصريحين في خلاف ذلك، فطرحهما أهون منه.

و من هنا فقد يدعي أن مقتضي الجمع العرفي هو تنزيل ما تقدم علي هذه النصوص، لأن ما تقدم إنما يقتضي الاجتزاء بالمسمي بإطلاقه الصالح للتقييد بها. و يكفي في التبعيض المصرح به في الصحاح المتقدمة الاكتفاء بظاهر القدم و عدم وجوب مسح الباطن.

لكن الإنصاف أن ذلك لا يناسب التصريح في صحيح زرارة و صحيح الأخوين الأول باستفادة التبعيض من الآية، و ظهورهما في وفائها ببيان أعضاء الوضوء و تحديدها، و ظهور «شي ء» في صحيحي الأخوين في الإطلاق، لا إرادة شي ء معين، و هو تمام الظاهر، مع قوة ظهورهما في تحديد المجزي.

و من هنا قد يتعين حمل الصحيح و الموثق علي الاستحباب و الخبر علي التنبيه إلي عدم كون وجوب الوضوء و غيره بالنحو المستلزم للحرج، أو علي حمل الموثق و الخبر علي إرادة انقطاع ظفر اليد، أو حمل جميع هذه النصوص علي التقية، و لو بلحاظ كون الاستيعاب أقرب إلي فتوي العامة.

و لا سيما مع تأيد عدم الاستيعاب بخبر جعفر بن سليمان «1» المتضمن للاجتزاء بإدخال اليد تحت الخف المخرق، لما هو المعلوم من عدم تيسر الاستيعاب بذلك، و بخبر معمر الآتي المتضمن للاجتزاء بالمسح بثلاث أصابع، و بنصوص أخذ البلل من اللحية و الأشفار عند نسيان المسح «2»، لعدم كثرة بللها

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) راجع الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء.

ص: 365

______________________________

بالنحو القابل للاستيعاب، و بنصوص المسح علي النعل «1»، لوضوح ستر النعل لبعض ظهر القدم.

علي أنه لا مجال للتعويل علي هذه النصوص بعد إعراض الأصحاب عنها، لعدم نقل الفتوي بمضمونها من أحد منهم.

نعم، قال في الفقيه: «و حد مسح الرجلين أن تضع كفيك علي أطراف أصابع رجليك و تمدهما إلي الكعبين».

لكنه لو كان للوجوب عملا منه بهذه النصوص لم يكف في حجيتها، بعد إهمال مشايخ القدماء لذلك، و تصريح جملة منهم- كالمفيد و الشيخ و أتباعهما- بخلافه، بنحو يظهر منهم التسالم عليه، و لا سيما في مثل هذا الحكم الذي يكثر الابتلاء به و يمتنع عادة اختفاؤه.

فما عن مجمع الفائدة و البرهان من الميل لوجوب المسح بتمام الكف ضعيف.

هذا، و عن أحكام الراوندي أن أقله إصبع، و في إشارة السبق أنه إصبعان، و قد يستظهر من الغنية لقوله: «و يجزي بإصبعين منهما»، و عن التذكرة أنه حكي عن بعض علمائنا وجوب المسح بثلاث أصابع.

و لا يتضح وجه الأولين. و قد يستدل للثالث بخبر معمر بن عمر عن أبي جعفر عليه السّلام: «يجزي من المسح علي الرأس موضع ثلاث أصابع، و كذا الرجل» «2».

و فيه- مع ضعف سند الخبر- أن إجزاء الثلاث لا ظهور له في عدم إجزاء ما دونها، غايته الاشعار الذي لا ينهض برفع اليد عما تقدم، و لا سيما مع لزوم حمله في الرأس علي الاستحباب لصعوبة التفكيك بينهما عرفا.

و قد تقدم في مسح الرأس ما له نفع في ذلك. فراجع.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3. و باب: 23 منها حديث: 3، 4 و باب: 24 منها حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 366

و الأحوط وجوبا مسح اليمني باليمني [1] أولا ثمَّ اليسري [2]

______________________________

(1) تقدم في مسح الرأس الكلام.

تارة: في وجوب كون المسح ببلة الوضوء.

و اخري: في تعين بلة اليد.

و ثالثة: في وجوب كونه باليد.

و رابعة: في تعين الكف، بل الباطن.

و خامسة: في تعين اليد اليمني.

و الكلام المتقدم هناك جار هنا. بل بعض كلماتهم مختص بالمقام، و التعدي منه للرأس لفهم عدم الخصوصية. ففي إشارة السبق هنا وجوب الأخير من دون أن يتعرض له هناك.

(2) مرتبا بينهما، كما ذهب إليه في الفقيه و المراسم و اللمعة و جامع المقاصد و الروض و المسالك و المدارك و ظاهر الروضة، و حكاه في المختلف عن ابني أبي عقيل و الجنيد و الصدوق الأول، كما حكي عن شرح الإرشاد للفخر و البيان و حاشية الشرائع و الجعفرية و شرحها و المقاصد العلية و غيرها.

و يقتضيه ما في الخلاف و عن ابن سعيد من إطلاق وجوب تقديم اليمين علي اليسار مستدلا عليه في الخلاف بإجماع الفرقة.

و ما في كشف اللثام من تنزيله علي خصوص اليدين غير ظاهر الوجه، بل قد يأباه ما في الخلاف من تعقيب ذلك لوجوب الترتيب في أعضاء الوضوء كلها، فان التعميم في الأعضاء لا يناسب التخصيص المذكور جدا.

و يقتضيه صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال:

«و ذكر المسح فقال: امسح علي مقدم رأسك، و امسح علي القدمين و ابدأ بالشق الأيمن» «1» المؤيد بما أسنده النجاشي في كتاب الرجال عن عبد الرحمن بن

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 367

______________________________

محمد بن عبيد اللّه بن أبي رافع، و كان كاتب أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنه كان يقول: إذا توضأ أحدكم للصلاة فليبدأ باليمني [باليمين خ ل] قبل الشمال من جسده» «1».

و أما ما في الجواهر من احتمال إرادة اليد اليمني من الثاني بقرينة ذكر الشمال. فهو لا يناسب التعميم بقوله عليه السّلام: «من جسده» جدا.

نعم، جهالة بعض رجال سنده مانع من الاستدلال به، و إن كان تعدد طرق النجاشي للكتاب المتضمن له و ظهور حاله في وثوقه بصدوره مقربا لصدوره، إذ لا أقل مع ذلك من جعله مؤيدا.

نعم، لا ينهض بذلك مثل مرسل الفخر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله: «ان اللّه يحب التيامن في كل شي ء» «2». و نحوه مرسل المعتبر و المنتهي «3». و في مرسل مكارم الأخلاق عنه صلّي اللّه عليه و آله أنه قال: «إذا لبستم و توضأتم فابدؤا بميامنكم» «4».

لعدم ظهور الحب- في الأولين- في الوجوب. كما أن اشتمال الثالث علي اللبس مانع من حمله عليه.

و كذا ما عن مجالس ابن الشيخ الطوسي مسندا عن أبي هريرة: «أن النبي صلّي اللّه عليه و آله كان إذا توضأ بدأ بميامنه» «5». لأنه حكاية فعل لا يدل علي الوجوب، كما تقدم عند الكلام في وجوب غسل الوجه من الأعلي و غيره.

و مما تقدم هناك يظهر ضعف ما ذكره في الذكري و جامع المقاصد و روض الجنان من الاستدلال بالوضوء البياني بتقريب أنه لو كان علي خلاف الترتيب المذكور لكان واجبا، لما ورد عنه صلّي اللّه عليه و آله من أن هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به، و حيث لا يجب إجماعا تعين كونه علي الترتيب المذكور، و لزم وجوبه.

فالعمدة في المقام هو الصحيح المذكور مؤيدا بالخبر المزبور.

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(2) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) المعتبر ص: 41، و المنتهي 1: 69.

(4) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 34 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 368

______________________________

هذا، و مقتضي إطلاق غير واحد عدم وجوب الترتيب بين الرجلين، و لا سيما من نبه منهم علي الترتيب بين اليدين كالشيخ في المبسوط و محكي الجمل و العقود و ابن زهرة في الغنية، بل هو المصرح به في الشرائع و المعتبر و القواعد و المنتهي و الإرشاد و عن التحرير و المختلف و التنقيح، بل عن غير واحد نسبته للمشهور، و عن آخرين نسبته للأكثر، بل عن السرائر: «لا أظن أحدا منا يخالف فيه».

و قد يستظهر دخوله في معقد الإجماع الذي ادعاه في الغنية علي الترتيب بالوجه المتقدم.

و استدلوا عليه بإطلاق الكتاب و السنة. و زاد في الجواهر ظهوره من نصوص الوضوءات البيانية، فإنها علي كثرتها و تعرضها للترتيب في غيرهما كادت تكون صريحة في عدم وجوبه، بل قد يظهر من خبر عبد الرحمن بن كثير الهاشمي عن الصادق عليه السّلام الحاكي لوضوء أمير المؤمنين عليه السّلام المتضمن للدعاء عند كل عضو، و فيه: «ثمَّ مسح رجليه فقال: اللهم ثبتني علي الصراط.» بل هو كالصريح في أنه عليه السّلام مسحهما معا. و أنه لو وجب لكان شائعا، لعموم البلوي به و تكرره في كل يوم.

و يندفع بتقييد الإطلاقات بصحيح محمد بن مسلم. و لا مجال لتوهينه بإعراض الأصحاب عنه بعد فتوي من عرفت من أعيان الأصحاب بمضمونه، و ظهور حال غير واحد ممن لم يفت بمضمونه في عدم اطلاعهم عليه، حيث لم يشر إليه في المعتبر و المنتهي حتي في دليل الاستحباب، و إنما اعتمدا فيه علي المرسل المتقدم مفرقين بين الرجلين و اليدين بوجود الدليل في اليدين، بل صرح في المنتهي بعدم وجدان حديث يدل علي الترتيب في الرجلين، و أن حملهما علي اليدين قياس، بل يظهر ذلك من بعض من أفتي بالترتيب أيضا، حيث لم يشر في جامع المقاصد و روض الجنان له، بل ذكرا الوجه المتقدم، و كذا الشهيد في الذكري.

ص: 369

______________________________

و لو فرض اطلاع بعضهم عليه فلعل عدم فتواه بالوجوب لحمله علي الاستحباب جمعا مع ما يستدل به لعدمه، كما جري عليه في الجواهر.

و مع ذلك كيف يمكن إحراز الاعراض الموهن بعد صحة سند الخبر و ظهوره في الوجوب.

و أما عدم التعرض للترتيب في نصوص الوضوءات البيانية فلعله ناشئ من عدم تصدي الراوي للتفصيل، لعدم اهتمامه به، بخلاف اليدين لاحتياج كل منهما لغرفة مختصة بها، و إلا فمن البعيد جدا عدم الترتيب في جميع تلك الوضوءات بين الرجلين. علي أن عدم ذكر الترتيب كعدم ذكر خلافه لا يكشف عن أحد الأمرين، بل هو موجب لإجمال حال الفعل المحكي.

و كذا حال خبر عبد الرحمن، إذ حيث كان المهم فيه أدعية الوضوء فلعل عدم التنبيه فيه الترتيب بين الرجلين لوحدة الدعاء لهما أو تكراره فيهما، دون أن يختص كل منهما بدعاء، كما في اليدين.

و أما عموم البلوي بالحكم فهو إنما يكشف عن عدم اعتبار الترتيب لو تعارف عدمه، و لا مجال لدعوي ذلك، بل الظاهر تعارف الترتيب في الجملة، فيستغني معه عن التنبيه له أو التأكيد عليه، كما هو الحال في المسح بالكف أو بالباطن.

هذا، و مقتضي الاقتصار في المراسم و الذكري و كشف اللثام و محكي المختلف و غيره في المسألة علي حكاية القولين انحصار الخلاف بهما، بل هو ظاهر جامع المقاصد، حيث عبر عن القول بعدم وجوب الترتيب بأنه أحد القولين.

لكن في الحدائق و عن الذكري و المقاصد العلية و شرح المفاتيح أن في المقام قولا بعدم جواز تقديم اليسري علي اليمني و جواز تقارنهما.

و في الجواهر: «لم نعرف قائله».

لكنه ظاهر الحر العاملي في الوسائل و محكي البداية، و حكاه في الحدائق عن بعض فضلاء المتأخرين، و عن شرح المفاتيح أن تقديم اليسري مشكل، و ربما

ص: 370

باليسري [1]. و حكم العضو المقطوع من الممسوح حكم العضو المقطوع من المغسول [2]،

______________________________

ينزل عليه ما عن المقنعة من قوله: «ثمَّ يضع يديه جميعا علي ظاهر قدميه، فيمسحهما جميعا معا» لوضوح عدم وجوب المعية بنحو يبعد إرادته له.

و كيف كان، فدليله ما في الاحتجاج عن الحميري عن صاحب الزمان عليه السّلام:

«و سأل عن المسح علي الرجلين و بأيهما يبدأ باليمين أو يمسح عليهما جميعا معا؟ فأجاب عليه السّلام: يمسح عليهما معا، فان بدأ بإحداهما قبل الأخري فلا يبتدئ إلا باليمين» «1».

و لو كان حجة في نفسه لزم لأجله حمل صحيح محمد بن مسلم علي الاستحباب جمعا. إلا أنه يشكل البناء علي حجيته بعد عدم اتضاح سند الطبرسي للحميري و عدم معروفية مضمون التوقيع الشريف بين الأصحاب. فالالتزام بالترتيب عملا بظاهر الصحيح هو الأحوط، بل الأوفق بالقواعد. و إن كان المظنون قويا إتقان الطبرسي لسند التوقيع. و اللّه سبحانه العالم.

(1) الكلام فيه هو الكلام في وجوب مسح اليمني باليمني.

(2) كما صرح به في المبسوط و الشرائع و المعتبر و القواعد و المنتهي، بل في الجواهر نفي وجدان الخلاف فيه، و يظهر من غير واحد المفروغية عنه، و الاكتفاء فيه بما ذكروه في قطع المغسول.

و هو في محله، لعدم خصوصية المغسول بالإضافة إلي ما تقدم من الأدلة، عدا بعض النصوص، و هو لا يهم بعد كون المعول هناك علي غيرها، و عمدته الإجماع، و قاعدة الاشتغال.

و منه يظهر لزوم حمل ما تضمن من النصوص إطلاق الغسل في المغسول و الممسوح علي التغليب أو غيره مما تقدم التعرض له هناك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب الوضوء حديث: 5. الاحتجاج ج: 2 ص: 315 طبع النجف الأشرف.

ص: 371

و كذا حكم الزائد من الرجل و الرأس (1). و حكم البلة (2) و حكم جفاف الممسوح (3)

______________________________

هذا، و قد تقدم من المعتبر استحباب مسح موضع القطع بالماء مع استيعابه للحد، و لم يذكره هنا.

و كأنه لعدم النص فيه، فعن الذكري: «لم نقف علي نص في مسح موضع القطع كما في اليدين. غير أن الصدوق لما روي عن الكاظم عليه السّلام غسل الأقطع عضده قال: و كذلك روي في قطع الرجلين».

و لعل الصدوق أشار للنصوص المتقدمة هناك المتضمنة غسل الأقطع أو اقطع اليد أو الرجل موضع القطع بعد حملها في الرجل علي المسح. و لعله لذا أفتي في محكي الدروس بالاستحباب. و الأمر سهل.

(1) كما في مفتاح الكرامة، و في الجواهر: «و لعلهم اكتفوا بذكر البحث في اليد الزائدة عن القدم الزائدة، فإن الظاهر كون الحكم فيهما واحدا». و يظهر وجهه مما تقدم هناك.

نعم، تقدم في الاستدلال علي وجوب غسل اليد الزائدة إذا نبتت في الحد دون المرفق بعض الوجوه المبتنية علي وجوب استيعاب اليد بالغسل، فلا تجري في القدم إذا أمكن الاستيعاب الطولي بدون المسح عليها، لعدم وجوب استيعاب العرض فيه.

و كذا الحال في غير القدم من الزوائد من لحم أو عظم أو غيرهما. لكن تقدم هناك تقريب وجوب غسل كل يد لقاعدة الاشتغال، فيجري ذلك هنا أيضا.

(2) فقد تقدمت قريبا الإشارة إلي الكلام في وجوب المسح ببلة الوضوء، بل خصوص بلة اليد اليمني و اليسري، بل الكف، و التحويل في ذلك علي ما تقدم في مسح الرأس.

(3) حيث تقدم في المسألة الثالثة و العشرين الكلام في وجوب جفاف الممسوح قبل المسح. فراجع.

ص: 372

و الماسح (1) كما سبق.

مسألة 28 يجب المسح علي البشرة

(مسألة 28): يجب المسح علي البشرة (2)،

______________________________

(1) حيث تقدم في المسألة الخامسة و العشرين جواز الأخذ من بلة اللحية و الأشفار عند جفاف بلة اليد، فان النصوص و إن وردت في نسيان مسح الرأس إلا أن وجوب الترتيب مستلزم لجواز مسح الرجل، فيتعدي منه لما إذا جفت البلة بعد مسح الرأس- بحيث لا يحتاج للأخذ إلا في مسح الرجل- بفهم عدم الخصوصية عرفا. و قد تقدم هناك تمام الكلام.

(2) فلا يجزي المسح علي الشعر بدلها، كما لعله مقتضي التعبير بالبشرة في كلماتهم- كما استظهره في مفتاح الكرامة- و خصوصا ممن خيّر في الرأس بين البشرة و الشعر كالشرائع و القواعد و غيرهما، و لذا ذكر في الحدائق أن ظاهر الأصحاب الاتفاق علي ذلك، و قد حكي التصريح بذلك عن الشهيد الثاني في شرح الرسالة.

و العمدة فيه ما تقدم في غسل الوجه و اليدين من خروج الشعر عنها عرفا، بل هو من سنخ النابت فيها.

و الفرق بين الرأس و الرجلين هو غلبة وجود الشعر في الرأس بالنحو الساتر للبشرة، بخلافهما، حيث يندر وجوده فيهما بالنحو المانع من الاستيعاب الطولي، و لا سيما مع غلبة تحرك الشعر الذي عليهما بالمسح بنحو يستلزم مماسة البشرة.

كما أن الفرق بينهما و بين الوجه هو النص الذي كان المتيقن منه المغسول بقرينة ذكر إجراء الماء، بل خصوص الوجه لوروده في ذيل تحديده، كما تقدم.

نعم، تقدم احتمال العموم فيه لكل الأعضاء بالنحو الذي لا يبعد وجوب الاحتياط لأجله بالجمع.

لكنه مختص بالشعر المحيط الذي تحتاج البشرة معه إلي بحث و طلب

ص: 373

و الأحوط وجوبا مسح الشعر النابت فيها معها (1).

______________________________

و هو- مع ندرته أو انعدامه في الرجلين- لا يمكن استيعاب البشرة معه بالمسح، ليتسني الاحتياط المذكور، فلا بد أن يكون الكلام في غيره، و قد ظهر عدم الاجتزاء بالمسح عليه.

نعم، لا بد من المسح بالنحو المتعارف الذي يتخلل معه الشعر بالنحو المتعارف، و لا يجب التدقيق في إيصال الماء لما تحت الشعر، لعدم التنبيه في النصوص علي ذلك مع غلبة الابتلاء بالشعر في جميع الأصابع أو أكثرها، مع العلم بالاكتفاء بالمسح المتعارف بمقتضي الوضوءات البيانية و غيرها.

و لعل ذلك هو المراد مما في الحدائق و الجواهر من الميل للاجتزاء بالمسح علي الشعر، بل لعله ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

(1) كما قد يستفاد مما ذكره بعضهم من وجوب غسل الشعر النابت في اليد، إما لدخوله في محل الفرض، أو لكونه من توابع اليد.

لكن تقدم المنع منه، و هو في المقام أولي لاحتياج استيعاب سطوح الشعر بالمسح لعناية لا مجال للبناء عليها بالنظر لنصوص الوضوءات البيانية و غيرها.

و من ثمَّ لا يبعد عدم إرادتهم لذلك في المقام، و إن ذكروه في الغسل.

اللهم إلا أن يراد مسح خصوص السطح الذي يمسح منه بإمرار اليد علي البشرة بلا عناية، فلا محذور في البناء عليه إلا منافاته للإطلاقات المقتضية للاجتزاء بمسح البشرة، لخروج الشعر عن حقيقة العضو عرفا، كما تقدم في الوجه و اليدين.

علي أن النزاع في ذلك ليس عمليا، إذ مع فرض تحقق مسمي المسح عرضا بدونه لا إشكال في عدم وجوب مسحه عند الكل، و مع توقفه عليه يجب مسحه و لو تبعا، فلا يبقي الفرق إلا بالنية.

ص: 374

مسألة 29 لا يجوز المسح علي الحائل

(مسألة 29): لا يجوز المسح علي الحائل (1)

______________________________

(1) و هو مذهب أهل البيت عليهم السّلام كما في المنتهي، و ادعي الإجماع عليه في المعتبر و المدارك و كشف اللثام، و محكي التذكرة و الذكري و غيرها.

و هو الظاهر من الإجماع المدعي في الخلاف و الغنية علي عدم جواز المسح علي الخف، لظهور كلامهما في عدم خصوصية من بين أفراد الحائل، و أظهر منه ما في الناصريات من الإجماع علي عدم جواز المسح علي الخف و الجورب و الجرموق. قال في الجواهر: «بل الإجماع عليه محصل. و لا ينافيه اشتمال عبارة القدماء علي لفظ الخف و الجرموق و الجورب و الشمشك، لظهور إرادتهم من ذلك التمثيل، كما لا يخفي علي من لاحظ كلامهم فيه، كالأخبار».

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك، و إلي ظاهر الآية الكريمة و النصوص الكثيرة المتضمنة للمسح علي الرجلين- النصوص الكثيرة المتواترة- كما قيل- الناهية عن المسح علي الخفين «1» بنحو يظهر من بعضها عدم الخصوصية لهما، كالنصوص الكثيرة المتضمنة أنه سبق الكتاب الخفين، و أنه مخالف للكتاب، و رواية الكلبي النسابة عن الصادق عليه السّلام في حديث: «قلت له: ما تقول في المسح علي الخفين؟

فتبسم ثمَّ قال: إذا كان يوم القيامة ورد اللّه كل شي ء إلي شيئه ورد الجلد إلي الغنم، فتري أصحاب المسح أين يذهب وضوؤهم» «2»، و غيرها.

هذا، و ظاهر الأدلة المتقدمة اعتبار مباشرة الماسح للمسوح، لا مجرد وصول رطوبته إليه، فلا يجوز المسح علي الحائل و إن كان رقيقا غير مانع منها، كما تقدم في مسح الرأس.

ثمَّ إنه قد يظهر من العلامة في التذكرة استثناء النعل العربية من ذلك، فيجوز المسح عليها و إن كانت ساترة لشي ء من المفروض. و قد يستظهر من كل من خص

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 37 من أبواب الوضوء.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 375

______________________________

الحكم بالنعل العربي، للنصوص التي تضمنت المسح علي النعل من دون استبطان الشراك، المتقدم بعضها في تحديد الكعب.

قال في التذكرة: «يجوز المسح علي النعل العربية و إن لم يدخل يده تحت الشراك. و هل يجزي لو تخلف ما تحته أو بعضه؟ إشكال، أقربه ذلك. و هل ينسحب الحكم إلي ما يشبهه، كالسير في الخشب؟ إشكال. و كذا لو ربط رجله بسير، للحاجة، و في العبث إشكال».

لكن ظاهر المنتهي خصوصية النعل المذكورة من جهة الموضوع لا الحكم، لحكمه بوجوب مسح ما تحت الشراك، و إن لم يدخل يده تحته، كما تضمنته النصوص، و لتعليله جواز المسح عليها بأنها لا تمنع من مسح محل الفرض، و هو الظاهر من كل من علل بذلك، كالشيخ في التهذيب و المحقق في المعتبر.

بل هو صريح ما عن ابن الجنيد، حيث حكي عنه في الذكري أنه قال في النعال: «و ما كان منها غير مانع لوصول الراحة أو بعضها إلي مماسة القدمين فلا بأس بالمسح عليهما» و ما عن ابن إدريس لقوله: «و أما النعال فما كان منها حائلا بين الماء و القدم لم يجز المسح عليه، و ما لم يمنع من ذلك جاز المسح عليه، سواء كان منسوبا إلي العرب أو العجم». و لا يبعد كون ذلك مراد الكل.

و هو المطابق لإطلاق الكتاب و السنة، و عموم معاقد الإجماع المدعي علي عدم جواز المسح علي حائل، و من القريب إباء ذلك عن التخصيص لوروده مورد المقابلة للعامة و التشنيع عليهم بمخالفة الكتاب، فان ذلك قرينة عرفا علي حمل النصوص المتضمنة للمسح علي النعل علي ما ذكرنا، و إلا لم يكن وجه للتخصيص بالنعل العربية بعد عدم التقييد بها في شي ء من النصوص.

و أما التعبير بالمسح علي النعل في بعض النصوص و الفتاوي فلعله كناية عن المسح حين لبسه أو بلحاظ زيادة المسح علي المقدار الواجب المستلزم لمرور اليد حين المسح علي الشراك.

كما أن ستر النعل لبعض ظهر القدم في جانب الإبهام لا ينافي تحقق

ص: 376

- كالخف- إلا لضرورة (1)،

______________________________

المسمي في غير جهته.

و أما التنبيه علي عدم استبطان الشراك فلعله لأجل بيان عدم استيعاب ظهر القدم عرضا و أن المسح لا يستمر للمفصل طولا، كما تقدم.

(1) كما صرح به غير واحد، بل ظاهر الناصريات و صريح المختلف و عن الخلاف [1] الإجماع عليه. بل لا يبعد دخوله في معقد الإجماع المدعي في محكي التذكرة و الذكري علي عدم جواز المسح علي حائل إلا لضرورة أو تقية، و في الحدائق أن ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق علي الجواز.

و يقتضيه الصحيح عن أبي الورد: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: ان أبا ظبيان حدثني أنه رأي عليا عليه السّلام أراق الماء ثمَّ مسح علي الخفين. فقال: كذب أبو ظبيان، أما بلغك قول علي عليه السّلام فيكم: سبق الكتاب الخفين. فقلت: فهل فيهما رخصه؟

فقال: لا، إلا من عدو تتقيه أو ثلج تخافه علي رجليك» «2». و رواية عبد الأعلي مولي آل سام المتقدمة في مسألة إجزاء مسمي المسح عرضا. فان التحويل فيها علي عموم نفي الحرج قاض بالتعدي عن موردها، و البناء علي عموم سقوط ارتباطية المسح علي البشرة بالحرج.

و دعوي: أن دليل الحرج يقتضي سقوط المسح علي البشرة، لا بدلية المسح علي المرارة عنه، لأنه ناف لا مثبت.

مدفوعة: بأنه يكفي في وجوب المسح علي الحائل قاعدة الاشتغال بعد فرض مشروعية الطهارة المائية.

علي أنه لا يبعد عموم موردها لما إذا لم يكن وضع المرارة علي الظفر للتداوي، بل لتجنب تأثره بالاحتكاك الحاصل بالمشي، فيخرج عن الجبائر و يكون

______________________________

[1] حكاه عنه في مفتاح الكرامة و لم أجده فيه بما تيسر لي من فحص. (منه عفي عنه).

______________________________

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 377

______________________________

مما نحن فيه، و يتعدي عن مورده بفهم عدم الخصوصية له.

و أما الإشكال فيها بظهورها في لزوم استيعاب المسح عرضا، فهو لا يمنع من الاستدلال بما تضمنته من الكبري، و إن أشكل تطبيقها في موردها.

لكن يأتي في المسألة السادسة و الثلاثين في الفصل الآتي الإشكال في استفادة عموم سقوط الارتباطية منها كما يأتي أن مثل التوقي بالمرارة عن الاحتكاك ملحق بالجبائر و التعدي لغيره محتاج إلي دليل. فراجع.

فالعمدة في المقام الصحيح. مضافا إلي تأيد الحكم بما ورد في الجبائر، لقرب فهم عدم الخصوصية لموردها من حيثية سقوط اعتبار المسح علي البشرة، و إن لم يكن لذلك مجال في بدلية مسح الحائل، لأنه تعبدي محض، و هو غير مهم بعد كفاية قاعدة الاشتغال فيه.

و كذا يؤيد الحكم بما تقدم في الرأس من النص المتضمن جواز المسح علي الحناء المحمول علي الضرورة، كما تقدم.

فان ذلك كله يشرف بالفقيه علي القطع بابتناء الوضوء علي الميسور في المسح علي البشرة، و إن لم تكن بدلية المسح علي الحاجب ارتكازية، بل تعبدية محضة. مع أن في تسالم الأصحاب علي الحكم في المقام و نحوه كفاية بعد كون الحكم موردا للابتلاء العام الذي يمتنع معه عادة خفاء الأحكام.

و أما صحيح إسحاق بن عمار أو موثقة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المريض هل له رخصة في المسح؟ فقال: لا» «1».

فلا بد من تنزيله علي ما لا ينافي ما تقدم، بحمله علي ترك المسح رأسا، أو علي لزوم المشقة الخفيفة التي لا تبلغ مرتبة الحرج أو الضرورة العرفية المسوغة للمسح علي الحائل.

و بذلك ظهر أنه لا مجال لما في المدارك من التردد في ذلك، و احتمال

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 378

أو لتقية (1).

______________________________

الانتقال للتيمم لتعذر الوضوء بتعذر جزئه بعد ضعف الخبر المتقدم، لجهالة أبي الورد.

فإن ذلك لا يقدح في مثل هذا الخبر المعتضد و المؤيد بما عرفت، و الذي يظهر من الأصحاب الاعتماد عليه و الفتوي بمضمونه. و لا سيما مع إشعار بعض الروايات بمدح أبي الورد، حتي عده المجلسي في وجيزته من الممدوحين.

فراجع و تأمل.

كما ظهر بذلك الوجه في عدم الاقتصار علي مورد الخبر المذكور- و هو الثلج- و التعدي لجميع موارد الضرورة، كما هو ظاهر الأصحاب، بل صريح جملة منهم مما يظهر منه فهمهم عدم الخصوصية لمورده.

و ما يظهر من الجواهر من التوقف فيه و الاحتياط بضم التيمم في غير محله بعد ما عرفت.

بل يتجه بلحاظ ذلك التعدي لمسح الرأس أيضا، كما صرح به في المعتبر و المنتهي، و ظاهر الشيخ في الاستبصار و غيره المفروغية عنه، حيث حملوا نصوص المسح علي الحناء المتقدمة في مسح الرأس علي المشقة في المسح علي البشرة. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) نسبه في المدارك إلي قطع الأصحاب، و قد حكي نفي الخلاف أو دعوي الإجماع عن غير واحد، منهم الشيخ في الخلاف و العلامة في التذكرة و المختلف و الشهيد في الذكري، و إن كان ما عثرت عليه من كلام الخلاف ليس صريحا في دعوي الإجماع، بل هو ظاهر في ذلك.

و كيف كان، فيقتضيه خبر أبي الورد و عبد الأعلي المتقدمان. مضافا إلي عمومات التقية المتضمنة للحث عليها، و أنها من دين اللّه تعالي و دينهم عليهم السّلام و ما عبد اللّه تعالي بشي ء أحب إليه منها، و هي أقر لعيونهم عليهم السّلام، و أحب الأشياء إليهم،

ص: 379

______________________________

و أنها جهاد المؤمن في دولة الباطن، و جنته و ترسه و حرزه، و حصنه، و السد الذي بينه و بين أعدائه، و أنها الحسنة التي تدرأ بها السيئة، و أنه لا دين لمن لا تقية له، و لا إيمان له، و لا خير فيه، و أن اللّه تعالي أبي للشيعة في دينه إلا التقية، و أن أكرم المؤمنين علي اللّه تعالي أعملهم بها، و أنها مشروعة في كل ضرورة، و صاحبها أعلم بها، و نحو ذلك مما تضمنته النصوص الكثيرة التي ذكر قسما كبيرا منها في الوسائل. فراجع الباب الرابع و العشرين إلي الباب التاسع و العشرين من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

اللهم إلا أن يقال: العمومات المذكورة إنما تتضمن الحث علي التقية و مشروعيتها تكليفا مداراة للعامة و دفعا لشرهم، و لا تقتضي أجزاء العمل المطابق لها و صحته، لعدم أخذ ذلك في مفهومها و لا يستفاد من مساق أدلتها.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن ظاهر كونها دينا الاجزاء.

ممنوع، فإنه لا يدل إلا علي كون الاتقاء مشروعا في مقابل وجوب الجهر بالحق و الدعوة له، و هو أعم من الاجزاء.

و مثله ما ذكره و سبقه شيخنا الأعظم قدّس سرّه إليه من الاستشهاد لذلك بالاستثناء في الصحيح عن أبي عمر الأعجمي: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا عمر: إن تسعة أعشار الدين في التقية، و لا دين لمن لا تقية له، و التقية في كل شي ء إلا في النبيذ، و المسح علي الخفين» «1».

بدعوي [2]: أن المنصرف من نفي التقية في المسح علي الخفين إنما هو بالإضافة إلي الحكم الوضعي، فيدل علي عموم المستثني منه للتكليف و الوضع.

لاندفاعه: بأن بناءهم علي جريان التقية في المسح علي الخفين ملزم

______________________________

[2] هذه الدعوي لم يصرح بها في كلامهما، و إنما ذكرناها لتوجيه ما ذكراه و تتميمه.

______________________________

(1) أورد صدره في الوسائل باب: 24 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حديث: 2. و ذيله في باب: 25 من الأبواب المذكورة حديث: 3.

ص: 380

______________________________

بتأويل الخبر- لو فرض حجيته في نفسه [1]- بما يناسب ذلك، و ربما يحمل علي إرادة عدم الحاجة للتقية فيها، لاختلاف مذاهب المخالفين، فلا خوف من ترك المسح علي الخفين الذي هو موضوع التقية، و مع ذلك لا طريق لدعوي الانصراف إلي الحكم الوضعي.

بل لا مجال لدعوي الانصراف للحكم الوضعي في مثل ذلك و عدم إرادة الحكم التكليفي، لمناسبة الحث المذكور لإرادة التكليف. غاية الأمر أن التكليف بالتقية فيما يتصف بالصحة و الفساد مع عدم التنبيه علي الفساد يوجب استفادة الصحة فيه تبعا، و هذا لا يجري مع نفي التقية في ذلك و استثنائه من عمومها، كي يدل علي عموم المستثني للوضع. فلاحظ.

و مثله في ذلك ما في صحيح أبي الصباح عن الصادق عليه السّلام: «ما صنعتم من شي ء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة» «2» لظهوره في السعة التكليفية.

و دعوي: أن عدم الاجزاء ضيق.

مدفوعة: بأن الضيق مع عدم الاجزاء في جعل التكليف الأولي، لا في نفس الفعل، بخلاف الضيق التكليفي، فإنه في نفس الفعل، و حيث تضمن الصحيح نسبة السعة لنفس الفعل لزم حمله علي رفع التكليف، كما في اليمين، كما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه.

نعم، قد يستدل علي ذلك بموثق سماعة: «سألته عن رجل كان يصلي، فخرج الامام و قد صلي الرجل ركعة من صلاة فريضة. قال: إن كان إماما عدلا فليصل اخري و ينصرف و يجعلها تطوعا، و ليدخل مع الإمام في صلاته كما هو،

______________________________

[1] فقد رواه في أصول الكافي [ج: 2 ص: 217 طبعة حديثه] عن هشام بن سالم عن أبي عمر، و هو مجهول، و رواه في المحاسن [ص: 205 طبع النجف الأشرف] عن هشام بن سالم و عن أبي عمر، و علي الثاني يكون صحيحا، إلا أن معارضته برواية الكافي تمنع من الاعتماد عليه، و لا سيما مع اشتهار ضبط الكافي. و أما احتمال تعدد السند فبعيد جدا. (منه عفي عنه).

______________________________

(2) الوسائل باب: 12 من كتاب الايمان حديث: 2.

ص: 381

______________________________

و إن لم يكن إمام عدل فليبن علي صلاته كما هو و يصلي ركعة أخري، و يجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، ثمَّ ليتم صلاته معه علي ما استطاع، فإن التقية واسعة، و ليس شي ء من التقية إلا و صاحبها مأجور عليها إن شاء اللّه» «1». فإنه كالصريح في صحة الصلاة مع موافقتها للتقية، فيكون ظاهر التعليل في الذيل كون المراد بعموم سعة التقية ما يقتضي السعة الوضعية، الراجعة للاجزاء.

علي أنه يبعد حمل العمومات المتقدمة مع كثرتها علي خصوص الحكم التكليفي مع ما هو المعلوم من كثرة موارد التقية في العبادات، لكثرة خلاف العامة لنا فيها، و شدة الاهتمام بصحة العمل و إجزائه حينئذ، حيث لا مجال مع ذلك للجمود علي مفادها اللفظي و هو رفع التكليف الأولي و الحث علي التقية تكليفا، بل يتعين التعميم للاجزاء، و لا سيما مع مناسبته للامتنان و الإرفاق بالشيعة، و لذا كان بناء الشيعة قولا و عملا علي الاجزاء في موارد التقية، و عمدة دليلهم علي ذلك العمومات المذكورة، و لو لم يرد منها ذلك لم يخف مع كثرة الابتلاء بالحكم المذكور و شدة الاهتمام به، و لكثر السؤال عن ذلك، و كفي بذلك قرينة في المقام.

و أما الاستدلال علي العموم المذكور بما في خبر داود الرقي المتضمن للأمر بالتثليث في الوضوء، و فيه قول الصادق عليه السّلام: «هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق» «2».

بدعوي: ظهوره في أن الخوف كما يجيز التقية تكليفا يقتضي إجزاء العمل معها، و لذا لم يؤمر بالإعادة بعد ارتفاع موجب التقية، و كذا صحيح داود بن زربي «3» و ما ورد في قصة علي بن يقطين «4» - و إن كانا خاصين بموردهما و لا ظهور لهما في العموم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 56 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 382

______________________________

فلا مجال له، لأن الظاهر خروجها عما نحن فيه، و ورودها في جواز الفتوي بغير الحق تقية علي المستفتي، إذ لا ريب في عدم كون جميع الوقائع التي ابتلي فيها المستفتي بالوضوء المذكور من موارد التقية، لطول المدة، و إنما افتي بذلك ليلتزم به في خلواته، كي تظهر للمتجسس عليه في غفلته من أهل الباطل في واقعة واحدة براءته من تهمة الرفض، فالأمر المذكور غير صادر لبيان الحكم الواقعي، و إن كان حجة موجبة للحكم الظاهري في حق المستفتي بمقتضي أصالة الجهة.

فهذه النصوص دليل علي الاجزاء مع موافقة الحكم الكلي الظاهري مع الخطأ، كما تقدم تقريبه في مباحث الاجتهاد و التقليد، لا علي إجزاء العمل الاضطراري الصادر تقية، الذي هو محل الكلام في المقام. و إن كان ثبوته بالأولوية العرفية قريبا جدا. فتأمل. علي أنه يكفي في إثبات عموم الاجزاء ما تقدم.

هذا و في الهداية: «و لا تقية في ثلاثة أشياء: في شرب المسكر و المسح علي الخفين و متعة الحج»، و قريب منه في بعض نسخ المقنع، و في نسخة اخري نسبته للرواية من دون تصريح بالفتوي بمضمونه، كما في المفاتيح، و كذا في الفقيه، لكن بعد الفتوي بجواز التقية في ذلك.

و كيف كان، فيقتضيه الاستثناء في خبر أبي عمر المتقدم، و في صحيح زرارة: «قلت له: في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة لا أتقي فيهن أحدا: شرب المسكر و مسح الخفين و متعة الحج. قال زرارة: و لم يقل: الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحدا» «1»، و صحيحة الآخر عن غير واحد: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: في المسح علي الخفين تقية؟ قال: لا يتقي في ثلاث. قلنا: و ما هن؟ قال: شرب الخمر، أو قال: شرب المسكر و المسح علي الخفين و متعة الحج» «2»، و في حديث

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) فروع الكافي ج: 2 ص: 195 كتاب الأطعمة و الأشربة.

ص: 383

كما يجوز العمل عليهما في سائر (1) أفعال الوضوء.

______________________________

الأربعمائة: «ليس في شرب المسكر و المسح علي الخفين تقية» «1».

لكن ظهور تسالم الأصحاب علي جواز التقية في المسح علي الخفين الراجع إلي الإعراض عن النصوص المذكورة، و مخالفتها لما تقدم، بل لما هو المعلوم من مشروعية التقية في ذلك في الجملة و لو مع خوف القتل أو نحوه من الإضرار المهمة، موجب لإجمالها، أو ملزم بتأويلها بما لا ينافيه، كما يظهر من الأصحاب، فتحمل علي عدم الحاجة للتقية، لعدم الخوف فيها بسبب اختلاف العامة في ذلك و تفصيلهم في مشروعيته، أو عدم رجحان التقية فيه أو عدم مشروعيتها لغير الضرورة، و نحو ذلك مما لعله يأتي التعرض له عند الكلام في اعتبار عدم المندوحة.

و أما حملها علي اختصاص عدم التقية به عليه السّلام، فهو إنما يناسب صحيح زرارة الأول، كما فهمه زرارة نفسه، دون غيره، كما لا يخفي.

(1) أما في التقية فللعمومات المتقدمة. مضافا إلي ما ورد في تثليث الوضوء مما تقدمت إليه الإشارة، و تقدم قرب استفادة الاجزاء منه، و إلي مرسل العياشي المتقدم في وجوب الابتداء بالمرفقين المتضمن جواز رد الشعر للمتوضئ إذا كان عنده غيره. و إلي ما في مفتاح الكرامة من استفاضة نقل الإجماع علي اجزاء غسل الرجلين عن مسحهما التقية.

و أما في غيرها من أفراد الضرورة فلم يتضح الوجه فيه، لعدم عموم يقتضي إجزاء الناقص معها، فالمتعين الانتقال للتيمم إلا بدليل خاص يقتضي الاجتزاء بالناقص، و يأتي بعض الفروع المبنية علي ذلك في أحكام الجبائر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الوضوء حديث: 18.

ص: 384

مسألة 30 لو دار الأمر بين المسح علي الخف و الغسل

(مسألة 30): لو دار الأمر بين المسح علي الخف و الغسل للرجلين للتقية اختار الثاني (1).

______________________________

(1) كما في الروض و كشف اللثام و ظاهر المدارك، و عن الذخيرة نسبته للأصحاب، و نسبه في الحدائق إلي تصريح جملة منهم، و نسبه شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره إلي المشهور. و علله في الروض بأنه أقرب إلي الواجب الأصلي.

خلافا لما يظهر من الحدائق من الميل إلي التخيير، و قواه السيد الطباطبائي في العروة الوثقي، و لعله إليه يرجع ما عن التذكرة و البيان من أن الغسل حينئذ أولي، و إن كان ظاهر الرياض التردد في الأولوية أيضا.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «كأنه لإطلاق أدلة التقية، لكون كل منهما موافقا للتقية و مخالفا للواجب الأولي. و مجرد أقربية أحدهما لا توجب انصراف الإطلاق إليه».

اللهم إلا أن يدعي أن قوله عليه السّلام في موثق سماعة المتقدم: «ثمَّ ليتم معه صلاته علي ما استطاع»، و نحوه مما دل علي اعتبار عدم المندوحة في أداء التقية ظاهر في أن الفعل الصادر تقية من سنخ البدل الاضطراري حين تحقق موضوع التقية، و ذلك قرينة عرفية علي لزوم اختيار الأقرب للواجب الأصلي، و مع ذلك يشكل التمسك بالإطلاق، إذ لا أقل من إجماله من هذه الجهة، الملزم بالرجوع للأصل المقتضي للاحتياط في المقام. فتأمل.

هذا، و قد ذكر الفقيه الهمداني قدّس سرّه أن ذلك مقتضي الجمع بين خبر أبي الورد و النصوص الناهية عن التقية في مسح الخفين، لأن الخبر نص في مشروعيتها في الجملة، و النصوص ظاهرة في عدم مشروعيتها مطلقا، فيجمع بينهما بحمل الخبر علي مشروعيتها مع انحصار التقية بالمسح تخصيصا للنصوص المذكورة.

و كأنه لدعوي: أن المستثني منه في خبر أبي الورد لما كان هو نفي الرخصة مطلقا كان مقتضي الاستثناء هو ثبوتها في الجملة مع التقية، لأن نقيض السلب

ص: 385

مسألة 31 يعتبر عدم المندوحة في مكان التقية علي الأقوي

(مسألة 31): يعتبر عدم المندوحة في مكان التقية علي الأقوي (1)،

______________________________

الكلي هو الإيجاب الجزئي لا الكلي.

لكنه يندفع بأن مفاد الاستثناء ليس هو نقيض عموم المستثني منه في حق المستثني، كما في المفهوم و المنطوق، كيف و المستثني بعض أفراد المستثني منه، بل مفاده إخراج المستثني عن عموم الحكم الثابت للمستثني منه المستلزم لثبوت نقيضه له، و مقتضي الإطلاق في المستثني عموم خروجه عن الحكم المذكور، و ثبوت نقيضه له مطلقا.

علي أنه لو فرض الإهمال فيه بحسب مدلوله اللفظي فوروده في مقام البيان المستتبع للعمل قرينة علي إرادة الإطلاق منه، لأن القضية المهملة و الجزئية لا يترتب عليها العمل.

و لذا لا يظن منه قدّس سرّه الالتزام بذلك في الخوف من الثلج الذي تضمنه الخبر أيضا، بل و لا في التقية لو لم ترد النصوص المانعة.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 386

فالظاهر استحكام التعارض بين الخبر و النصوص المذكورة و ترجيحه عليها، لما تقدم.

(1) كما قواه في العروة الوثقي، و ظاهر الفقيه الهمداني قدّس سرّه المفروغية عنه، حيث ذكر في توجيه النصوص المتقدمة المانعة من التقية في مسح الخفين أن المتوضئ يتمكن من تلبيس الأمر عليهم بإيجاد مسح الرجلين عند اختيار الغسل.

و يكفي فيه قصور أدلة التقية عن ذلك، لظهور إناطة الحكم بها في كونه من سنخ البدل الاضطراري حين الابتلاء بها، فلا مجال له مع المندوحة. مضافا إلي موثق سماعة المتقدم الظاهر في لزوم تحصيل ما هو المستطاع من الواجب الأصلي، و يستفاد من غيره من نصوص الصلاة خلف المخالفين للأمر فيها بالقراءة سرا «1».

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 33، 34، 35 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 386

فلو أمكنه ترك التقية و إراءتهم المسح علي الخفين مثلا لم تشرع التقية، و لا يعتبر عدم المندوحة في الحضور في مكان التقية (1)

______________________________

لكن في صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يؤم القوم و أنت لا ترضي به في صلاة تجهر فيها بالقراءة. فقال: إذا سمعت كتاب اللّه يتلي فأنصت. فقلت: فإنه يشهد علي بالشرك. فقال: إن عصي اللّه فأطع اللّه.

فرددت عليه فأبي أن يرخص لي. فقلت له: أصلي إذن في بيتي ثمَّ أخرج إليه.

فقال: أنت و ذاك.» «1» و نحوه غيره مما هو ظاهر أو صريح في عدم وجوب القراءة و الاجتزاء بقراءة الإمام.

إلا أنها- مع مخالفتها للنصوص الكثيرة الظاهرة في وجوب القراءة حتي في الجهرية- إنما تقتضي عدم القراءة في الجهرية لأجل وجوب الإنصات شرعا، الراجع إلي عدم المندوحة في ترك القراءة، فلا تنافي ما تقدم.

نعم، في خبر زرارة أو حسنه، عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: لا بأس بأن تصلي خلف الناصب، و لا تقرأ خلفه فيما يجهر فيه، فان قراءته يجزيك إذا سمعتها» «2»، و ظاهره إجزاء قراءة الإمام بنفسها، لا لوجوب الإنصات.

لكنه مخالف للنصوص الكثيرة الظاهرة أو الصريحة في عدم الاعتداد بقراءتهم، و أنهم كالجدر. فلا بد من تأويله أو حمله علي التقية في الفتوي أو نحوهما، و لا يخرج به عما ذكرنا.

(1) كما في الروض و عن البيان و غيره و صرح به في جامع المقاصد في غسل الرجلين للتقية، خلافا للمدارك و عن غيره، بل هو ظاهر كل من اقتصر في دليل مشروعية التقية علي الضرر و الحرج، لظهوره في كونها من سنخ الابدال الاضطرارية التي يعتبر فيها عدم المندوحة ارتكازا.

و عن المحقق الثاني في بعض فوائده التفصيل، فما كان الأمر فيه بالتقية

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 34 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 5.

ص: 387

______________________________

بطريق الخصوص يصح و لو مع المندوحة، مدعيا عدم العثور علي الخلاف فيه، و ما كان الأمر فيه بها بطريق العموم لا يصح مع المندوحة، فيجب فيه الإعادة، و مع تعذرها يتوقف وجوب القضاء علي دليل خاص، لأنه بأمر جديد.

و كأنه لدعوي: قصور عمومات التقية عن صورة وجود المندوحة، لورودها مورد الابدال الاضطرارية المعتبر فيها ارتكازا عدم المندوحة.

لكن هذا كما يجري في العمومات يجري في الأدلة الخاصة. نعم، قد يدعي قصور العمومات عن إفادة الاجزاء، بخلاف الأدلة الخاصة، لورودها في الموارد التي يكون الغرض المهم فيها الاجزاء. و هذا أمر آخر لو تمَّ اقتضي عدم الاجزاء في المورد الذي ينحصر فيه الدليل بعمومات التقية حتي مع عدم المندوحة، فيجب القضاء فيما يقضي، كما لو فرط في الإعادة.

و قد تقدم عدم تمامية ذلك و نهوض العمومات بإثبات الإجزاء.

بل الإنصاف أن ما ذكر من الوجه قد يتم في بعض الأدلة الخاصة، لعدم ورودها مورد الحث و الترغيب، بل في مقام تشريع التقية لا غير، فقد يتجه حملها علي خصوص صورة عدم المندوحة للقرينة المذكورة.

و هذا بخلاف العمومات، لظهورها في كون الاضطرار و دفع شر المخالفين حكمة نوعية لاحظها الشارع في تشريع التقية، لا علة شخصية يدور الحكم مدارها بنحو لا بد من إحراز المكلف لها، كما يناسبه ورود العمومات مورد الحث علي التقية و الترغيب فيها و إحداث الدواعي لها مما لا يناسب اختصاص حكمها بالاضطرار و عدم المندوحة جدا.

بل هو لا يناسب ما تقدم في موثق سماعة، لصعوبة حمله علي صورة عدم المندوحة الطولية بالصلاة في وقت آخر، و العرضية بالصلاة فرادي في نفس الوقت. بل اشتمال صدره علي حكم الامام العدل مانع من الحمل علي خصوص الصورة المذكورة، كما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و كذا ما ورد في الحث علي الصلاة مع المخالفين و شدة الترغيب إليها. بل

ص: 388

______________________________

صحيح معاوية بن وهب المتقدم كالصريح في أن الصلاة فرادي في البيت قبل الصلاة معهم تكلف من الراوي غير واجب عليه، و هو من أفراد المندوحة.

علي أن إناطة الحكم بعدم المندوحة يخل بالغرض الذي شرعت لأجله التقية، لغلبة وجود المندوحة، فلو صار بناء أفراد الشيعة علي تحريها لأدي ذلك إلي تركهم الحضور مع العامة و عدم مخالطتهم لهم، لأن الإنسان إنما يدرك غالبا ضروراته الشخصية التي تحفظه، و لا يتسني له تحديد الضرورات النوعية التي تحفظ نوع الشيعة، ليحافظ عليها، فمع اعتقاده بعدم الضرر الشخصي يغفل عن الضرر النوعي و يترك محافظة العامة و يحترز بعمله، ليجزيه، و هذا يؤدي إلي ظهور حال الشيعة و وغر الصدور عليهم، فينتقض غرض الشارع الأقدس من تشريع التقية.

نعم، في صحيح البزنطي عن إبراهيم بن شيبة: «كتبت إلي أبي جعفر الثاني عليه السّلام أسأله عن الصلاة خلف من يتولي أمير المؤمنين عليه السّلام و هو يري المسح علي الخفين، أو خلف من يحرّم المسح و هو يمسح. فكتب عليه السّلام: إن جامعك و إياهم موضع فلم تجد بدا من الصلاة فأذن لنفسك و أقم، فإن سبقك إلي القراءة فسبح» «1»، و هو ظاهر في اعتبار عدم المندوحة العرضية.

لكن ظاهر صدره إرادة الشيعي بالمعني الأعم إذا كان يري المسح، و لم يتضح دخوله في عمومات التقية، ليكون منافيا لما تقدم، لأن المتيقن منها المخالفون الذين لهم الدولة و السلطان و الذين لا يتدينون بموالاته عليه السّلام دون بقية الفرق ممن لا دولة لهم و لا سلطان.

نعم، من يحرّم المسح علي الخفين لا يختص بالشيعة، فقد نقل القول بحرمته عن جماعة من الصحابة و التابعين.

لكن اشتهار جوازه عند العامة خصوصا في عصر صدور الحديث المذكور يوجب انصرافه عنهم إلي غيرهم ممن لا دولة له و لا سلطان. و لا أقل من

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 2.

ص: 389

______________________________

اختصاصه بمن يكون عمله علي خلاف مذهبه، حيث قد يدعي انصراف العمومات و قصورها عن مورده أيضا، أو تخصيصها به- لو فرض حجيته في نفسه- و يكون تشريع التقية في مورده مختصا بعدم المندوحة العرضية، و إلا فلا مجال للخروج به عما تقدم من النصوص الكثيرة التي لا مجال لحملها علي صورة عدم المندوحة، كما تقدم.

هذا، و لكن ينبغي التنبيه علي أمر يحتاج توضيحه إلي تقديم مقدمة. و هي أن الظاهر أنه يكفي في مشروعية التقية التحبب للعامة الذي يقتضيه حسن المعاشرة معهم، فضلا عن دفع شرهم عن النفس أو الأهل أو الأخوان المؤمنين، بل يكفي تحبيب نوع الشيعة و تحبيب أئمتهم عليهم السّلام لهم، و إن لم يكن لها دخل في تحبيب شخص العامل بها.

كما يشهد به جملة من النصوص كالصحيح عن هشام الكندي [1]: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إياكم أن تعملوا عملا نعير به، فان ولد السوء يعير والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا و لا تكونوا عليه شينا. صلّوا في عشائرهم، و عودوا مرضاهم. و اللّه ما عبد اللّه بشي ء أحب إليه من الخباء. قلت: و ما الخباء؟

قال: التقية» «2»، و صحيح عبد اللّه بن سنان: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أوصيكم بتقوي اللّه، و لا تحملوا الناس علي أكتافكم فتذلوا. إن اللّه عز و جل يقول في كتابه وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً، ثمَّ قال: عودوا مرضاهم، و احضروا جنائزهم و اشهدوا لهم و عليهم، و صلوا معهم في مساجدهم، حتي يكون التمييز و تكون المباينة منكم و منهم» «3» و قريب منها أخبار زيد الشحام «4» و حبيب

______________________________

[1] ليس فيمن يسمي بهشام من الرواة من ينسب لكندة غير هشام بن الحكم، و من هنا كان الظاهر إرادته في المقام و إن لم يتعارف التعبير عنه بذلك في الأسانيد، و هو الذي فهمه في جامع الرواة فتكون الرواية صحيحة، و لا سيما مع كون الراوي عنه هذا الحديث علي بن الحكم، و لم ينقل روايته عمن يسمي بهشام غير هشام بن الحكم و هشام بن سالم الجواليقي، و كلاهما صحيح. (منه عفي عنه).

______________________________

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب أحكام العشرة حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 75 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 1.

ص: 390

______________________________

الخثعمي «1» و كثير بن علقمة «2» و مرازم «3».

نعم، لو لم يحصل من موافقتهم في العمل شي ء من ذلك، لظهور مذهب الشيعة عندهم و وضوح تشيع الشخص و عدم انتظارهم منه المتابعة- كما هو الحال في كثير من البلاد في زماننا- لم تشرع التقية، لقصور الأدلة المتقدمة عن ذلك. بل قد تحمل المتابعة علي محض التزلف و النفاق و ضعف العقيدة و نحوها مما يوهن الفرقة الحقة زادها اللّه عزا و شرفا و تأييدا و تسديدا.

هذا، و من الظاهر أن حسن المخالطة و المعاشرة لا يتوقف علي حضور مكان التقية و العمل علي طبقها في جميع الأفعال، بل يختص ببعضها مما يتعارف فيه الاجتماع و يكون تركه مثارا للاتهام، كالصلاة و النفر في الحج و تشييع الجنائز، دون مثل الوضوء و الغسل مما يتعارف إتيان الإنسان به في بيته، حيث لا يحتاج للتقية في بإظهاره للعامة، و إن كان قد يحتاج إليها في كيفية أدائه- لو فرض اطلاعهم عليه.

إذا عرفت هذا فإن أريد من عدم المندوحة تعذر الإتيان بالواجب الأولي في وقت آخر و لو مع الإتيان بما يوافق التقية، فلا ينبغي الإشكال في عدم اعتباره، لما تقدم. و إن أريد منه توقف الغرض الموجب لتشريع التقية- و لو كان هو حسن المخالطة و المعاشرة- علي الفعل الموافق لها، بحيث لولاها لما تأتي الغرض المذكور، فاعتباره متعين، لأنه يرجع في الحقيقة إلي القدرة علي رفع موضوع التقية نظير القدرة علي هداية المخالف لترتفع التقية منه، أو حجزه عن الإيذاء، كي لا يخشي منه، و مقتضي ورود التقية مورد البدل الاضطراري قصورها عن الصورة المذكورة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب أحكام العشرة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب أحكام العشرة حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب أحكام العشرة حديث: 5.

ص: 391

______________________________

و أما نصوص الحث علي التقية فهي لا تنافي ذلك، لأن الحث قد يكون لبيان الاكتفاء في تشريعها بالتحبب الذي هو مقتضي حسن المخالطة و جميل المعاشرة و عدم توقفها علي الضرورة العرفية الشخصية فإن ذلك لا ينهض لداعوية المكلف للتقية المبنية علي مجاملة العدو، المستلزمة لترك التكليف الأولي لو لا الحث من الشارع بالوجه المذكور. و كذا نصوص الحث علي الصلاة معهم، لورودها مورد الحث علي حسن معاشرتهم، فهي ظاهرة في توقف حسن المعاشرة علي ذلك و عدم المندوحة عنه بالإضافة إلي الغرض المذكور.

و هذا لا يجري في مثل الوضوء مما لا دخل لإيقاعه أمامهم بحسن المعاشرة، فلا وجه للتقية فيه مع المندوحة عنه. إلا أن يتوقف حصول غرض التقية، علي إيقاعه أمامهم، إما لدفع التهمة به، أو لضيق الوقت، أو لتوقف إيقاع الصلاة معهم عليه في ظرف لزوم إيقاعها معهم و لو لحسن المعاشرة أو نحو ذلك مما يرجع إلي لابدية وقوعه بوجه التقية.

و قد تحصل بما ذكرنا: أن المعتبر في المقام عدم المندوحة عن العمل المتقي به، بمعني لزوم إيقاعه، لا بمعني تعذر الإتيان بالواجب الأصلي و لو منضما إليه قبله أو بعده. كما أنه يكفي عدم المندوحة بلحاظ التحبب الذي هو مقتضي حسن المعاشرة، و لا يلزم خوف الضرر و نحوه مما يرجع إلي الاضطرار.

بقي في المقام أمور.

الأول: أن الظاهر أن موضوع التقية هو العدو ذو القوة و السلطنة الذي يضطر لمجاملته و مجاراته، كافرا كان أو مخالفا أو غيرهما، كما هو مقتضي ظاهر إطلاق التقية، و ما دل علي أنها جنة المؤمن و ترسه و حرزه و حصنه و السد الذي بينه و بين أعدائه، و ما ورد في أهل الكهف و أبي طالب عليه السّلام من أنهم أسرّوا الإيمان و أظهروا الشرك، و في قضية عمار «1».

______________________________

(1) تراجع النصوص المذكورة في الوسائل في باب: 34 إلي 29 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

ص: 392

______________________________

مضافا إلي موثق مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث في التقية: «و تفسير ما يتقي مثل أن يكون قوم سوء، ظاهر حكمهم و فعلهم علي غير حكم الحق و فعله، فكل شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلي الفساد في الدين فإنه جائز» «1».

و الظاهر أن المراد بالفساد في الدين الفساد العام، كضياع معالمه، لا ترك المكلف للواجب الأصلي، لابتناء التقية علي ذلك، فتشريعها يخرج ذلك عن كونه فسادا في دين الشخص.

نعم، المتيقن من الاجزاء مع مخالفة الحكم الأولي صورة الإتيان بالواجب علي وجه المتابعة لهم بالنحو الذي يرونه عليه، فلو ترك الواجب رأسا تقية منهم، فلا إجزاء، و كذا لو أتي به علي غير ما يرونه و لو لأنهم لا يعترفون بالواجب، كما لو أمكن الصلاة إيماء تقية من منكر وجوبها، أو لأنهم لا يصدقونه في دعوي فقد الشرط، أو يخشي من بيان ذلك لهم، مع اعترافهم باعتبار الشرط، كما لو تخيلوا أن اعتذاره بالحدث تهرب من الصلاة معهم، أو كانوا يمنعون من تأخير الطهارة لذلك الوقت.

نعم، لو فرض قيام الدليل علي كفاية ذلك من جهة الاضطرار- لا من جهة التقية- أجزأت، بشرط عدم المندوحة الطولية و العرضية، كما هو الحال في سائر الابدال الاضطرارية.

و منه يظهر عدم الاجتزاء بما يخالف مذهب المتقي منه و إن تأدت به التقية لعدم كونه في مقام الإنكار علي فاعله، كما عليه سيرتهم في مذاهبهم المعترف بها.

و لا مجال للتمسك فيه بإطلاق التقية، لأن الإطلاق الشامل لذلك هو إطلاق حكمها التكليفي، و هو كما يشمله الإتيان بصورة العمل، و غيره مما تقدم، لأن المعيار فيها محض المجاملة و تجنب المنافرة و لا إشكال في عدم كونه معيارا

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حديث: 6.

ص: 393

______________________________

في الاجزاء، بل المتيقن من دليله ما ذكرنا.

نعم، لو كان مخالفته في المذهب فيما هو الحق عندنا أيضا، كترك التكفير، لزم لرجوعه إلي وجود المندوحة في نفس الأداء الذي تقدم اعتباره في إجزاء التقية. فلاحظ.

الثاني: حيث عرفت أنه يعتبر عدم المندوحة بالوجه المتقدم، فيقع الكلام فيما لو رفع المكلف المندوحة، كما لو لم يتوقف غرض التقية علي الحضور مع المخالفين عند الوضوء، و بسبب حضور المكلف عندهم توقف غرضها علي الوضوء أمامهم.

و لا الإشكال في حسن التقية أو لزومها في الجملة- حسب نوع الغرض المصحح لها- لإطلاق أدلة الحث عليها. و إنما الإشكال في الاجزاء، لأن الدليل عليه ينحصر بظهور الإجماع، و العمومات، و موثق سماعة، و نصوص الحث علي الصلاة مع المخالفين.

لكن هذه الصورة غير داخلة في المتيقن من الإجماع- لو تمَّ. و العمومات قد عرفت عدم استفادة الاجزاء منها إلا بضميمة كثرة موارد الاهتمام به فيما هو موضوع التقية، بنحو يبعد عدم إرادته، و لا سيما مع معروفية الاجزاء عند المتشرعة و عمدة الدليل لهم عليه العمومات المذكورة، و هذا لا يقتضي استفادة عموم الاجزاء منها، بل ثبوته في الجملة من جهة الموارد و الأحوال.

إلا أن عدم الخصوصية عرفا للموارد، و لا سيما بقرينة ورود الحكم مورد الإرفاق و الامتنان الذي لا يختص ببعضها، و ثبوت الاجزاء في مثل الصلاة و الطهارة من الأمور المهمة موجب لاستفادة العموم من حيثية الموارد، دون الأحوال، فالتعميم لكل خصوصية حالية محتاج لدليل و إن كان هو القطع بعدم دخلها، و لا طريق لاستفادة الاجزاء منها في محل الكلام، و لا سيما مع قصور قرينة الامتنان عن شموله. فتأمل جيدا.

و أمّا موثق سماعة و نصوص الحث علي الصلاة معهم فهي واردة في مورد

ص: 394

______________________________

عدم المندوحة بلحاظ غرض التحبب بلا توسط اختيار المكلف، لما عرفت من ابتناء الصلاة علي الاجتماع و استنكار الاعتزال فيها عن العامة. فالبناء علي عدم الاجزاء هو الأوفق بإطلاق الاحكام الأولية.

نعم، مقتضي إطلاق خبر أبي الورد عموم الاجزاء مع عدم المندوحة و لو كانت بفعل المكلف. إلا أنه لو تمَّ و لم ينصرف عن هذه الصورة مختص بالمسح علي الخف و بالتقية الناشئة من الخوف، دون ما يكون للتحبب، لظهور قوله عليه السّلام:

«تتقيه» في ذلك.

و تعميم التقية التي حث عليها الشارع الأقدس للتحبب بقرينة النصوص السابقة لا يقتضي التعميم فيه، لعدم ثبوت نقل المادة شرعا عن معناها بذلك بنحو تدل عليه في سائر الهيآت. فتأمل جيدا.

هذا، و لو كان رفع المكلف للمندوحة ناشئا عن غفلته أو جهله بالحال فلا ينبغي التأمل في الاجزاء، لمناسبته للإرفاق و الامتنان، و لابتناء كثير من موارد التقية علي ذلك، بنحو لا مجال لإخراج هذه الصورة عنها.

ثمَّ إنه في مورد عدم الاجزاء إن أمكن التدارك في الوقت فلا مزاحم لحسن التقية أو لزومها تكليفا الذي عرفت أنه مقتضي إطلاق أدلتها.

و إن تعذر كان وجوب الواجب مزاحما للتكليف بالتقية، فيقدم الأهم، كما هو القاعدة في باب التزاحم. و إن كان الظاهر استحقاق العقاب علي التقصير و تفويت المهم بسبب اختيار مورد التزاحم الملزم بتفويته عقلا.

و دعوي: أن عمومات التقية مخصصة لعمومات التكاليف الأولية فلا تنهض بمزاحمتها.

مدفوعة: بأن تخصيصها لها مشروط بعدم المندوحة كما سبق، فلا يجوز رفع المندوحة و تفويت الواجب الأولي بعد فرض قصور دليل البدلية، فلو فوته كان مسؤولا به، و هو مستلزم للتزاحم بينه و بينها.

بل يمكن دعوي ذلك فيما لو لزم من التقية مخالفة تكليف إلزامي، و لو كان

ص: 395

______________________________

هو فوت الواجب الاختياري و الاكتفاء بما يطابق التقية في مورد الاجزاء، لظهور أدلتها في عدم ارتفاع ملاك الحكم الواقعي، و أن تشريعها لوجود المزاحم، فمع فرض استناد المزاحم لاختيار المكلف و إن سقط التكليف به خطابا، إلا أن المكلف محاسب عليه و يستحق العقاب عليه عقلا. فتأمل جيدا.

الثالث: ما تقدم إنما يقتضي إجزاء العمل الموافق للتقية في مورد الخطاب الإلزامي أو الاقتضائي الذي هو موضوع للامتثال، دون الصحة في التسبيبات المحضة التي لا تكون موردا للتكليف كالتذكية و العقود و الإيقاعات، لقصور جميع الأدلة المتقدمة عنها، إذ لا موهم لا فائدة الصحة فيها مما سبق من أدلة الاجزاء الا العمومات التي تقدم عدم دلالتها علي الاجزاء بدوا إلا في الجملة، و أن استفادة عمومه من حيثية الموارد لفهم عدم الخصوصية عرفا، و لا مجال لدعوي ذلك في المقام مما لا يرجع إلي السعة لا في مقام العمل، و لا في جعل التكليف الأولي، لفرض عدم التكليف رأسا و انحصار الأمر في السببية.

و بذلك ظهر عدم الاجزاء في مثل التطهير من الخبث.

و دعوي: أنه موضوع للتكليف الغيري، حيث يتوقف عليه مثل الصلاة مما يعتبر فيه الطهارة.

مدفوعة: بأن ما هو القيد في مثل الصلاة ليس هو السبب بنفسه، بل هو المسبب، و هو الطهارة الخبثية، و ليس الخلاف بيننا و بينهم في اعتبارها ليكون مقتضي أدلة التقية السعة في مقام الجعل بالإضافة إليها و سقوط قيديتها، بل في سببها، و قد عرفت قصور أدلة التقية عن إثبات الصحة في الأسباب.

و من هنا يشكل الاستدلال بالعمومات و نحوها علي إجزاء التقية في الوضوء و الغسل و التيمم حيث يكون موضوع التكليف فيه هو المسبب، و هو الطهارة، لا السبب، كما أشرنا إليه غير مرة.

اللهم إلا أن يقال: نصوص المسح علي الخفين و لا سيما خبر أبي عمر الأعجمي ظاهرة في المفروغية عن جريان التقية في غيره من أفعال

ص: 396

و زمانها كما لا يجب بذل مال لرفع التقية (1)،

______________________________

الوضوء، و حيث كان من المعلوم أن الغرض المهم للآتي بها الاجزاء و تحصل الطهارة، لا محض الإتيان بصورة الوضوء، لعدم الداعي له غالبا بعد عدم توقف حصول غرض التقية علي الوضوء أمامهم، كما سبق، كشف عن الاجزاء فيه.

و هذا لا ينافي ما سبق منا عند الكلام في عمومات التقية من عدم كون الاستثناء في خبر أبي عمر قرينة علي حملها علي الاجزاء، لأن عدم كونه قرينة علي سوق العموم للاجزاء لا ينافي دلالته علي الاجزاء في أفعال الوضوء بالقرينة المذكورة.

هذا، مضافا إلي ظهور تسالم الأصحاب علي عموم إجزاء الوضوء تقية، إذ يمتنع عادة خفاء ذلك عليهم مع ظهور كثرة الابتلاء به في العصور السابقة، كما تشهد به النصوص. و لا سيما مع تأيده بورود الترخيص في المسح علي الخفين، الذي هو أبعد ارتكازا عن الواجب الأصلي من غيره من موارد مخالفتهم لنا. بل يؤيده أيضا ما ثبت في كثير من الموارد من ابتناء الوضوء علي الميسور، فإن ذلك كله كاشف عن وضوح شمول العمومات للوضوء، و لو لإلحاقه بالصلاة لشدة ارتباطه بها و كثرة مخالفتهم لنا فيهما. فتأمل.

(1) هذا ظاهر بناء علي جواز وضوء التقية مع المندوحة. أما بناء علي ما عرفت من عدم جوازه إلا مع عدم المندوحة عنه فاللازم وجوب بذل المال للتخلص منه.

و مجرد عدم وجوب الإعادة لا يوجب كونه في عرض الواقع، بل غاية ما يكشف عنه كون أثره تاما، و هو لا ينافي كونه مترتبا تشريعا علي تعذر الوضوء التام و لو بلحاظ توقف حصول غرض التقية عليه.

ص: 397

و أما في سائر موارد الاضطرار فيعتبر ذلك كله (1).

مسألة 32 إذا زال السبب المسوغ للمسح علي الحائل في أثناء الوضوء

(مسألة 32): إذا زال السبب المسوغ للمسح علي الحائل في أثناء الوضوء أو بعده لم تجب الإعادة في التقية (2)،

______________________________

نعم، لو كان بذل المال ضرريا أو حرجيا تعين سقوطه في التقية و غيرها من الضرورات.

و دعوي: أن بذل المال المعتد به ضرر مطلقا و لو لم يكن مجحفا.

غير ظاهرة، لانصراف الضرر في أدلة نفيه إلي خصوص ما يكون تحمله ضيقا علي المكلف و حرجا عليه.

و لذا كان بناء المتشرعة علي بذل المال لو توقف القيام بالتكاليف عليه.

و تدل عليه النصوص في خصوص شراء الماء للوضوء «1». فتأمل.

(1) لأن الجمع عرفا بين أدلة الابدال الاضطرارية و الأحكام الأولية ليس بتخصيص الثانية بالأولي بنحو يقتضي خروجها عنها موضوعا و ملاكا، بل الاكتفاء بالإبدال الاضطرارية في مقام العمل مع بقاء ملاكات الأحكام الأولية، المقتضي لوجوب تحصيلها مهما أمكن، و اختصاص الاكتفاء بالإبدال الاضطرارية بصورة عدم المندوحة مطلقا و تعذر الواجب الأصلي رأسا.

نعم، لو كان رفع موضوع الاضطرار ببذل عدم المال أو غيره حرجيا أو ضرريا تعين سقوطه و الاكتفاء بالواجب الاضطراري.

(2) أما بعد الإتمام و فوات الموالاة المعتبرة في جواز المسح علي البشرة إتماما للوضوء السابق- الذي هو منصرف بعض كلماتهم و صريح آخر- فهو الذي صرح به في جامع المقاصد و المدارك و ظاهر الروض، و عن الجامع و المختلف و الذكري و الدروس و البيان. إذ بعد حصول الطهارة لا ترتفع

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب التيمم.

ص: 398

______________________________

إلا بحدث، و ليس منه زوال السبب.

خلافا لما في المعتبر و المنتهي و كشف اللثام و عن المبسوط و التذكرة و الإيضاح و غيرها من وجوب الاستئناف، لأن الضرورة تقدر بقدرها.

و يندفع بما أشار إليه غير واحد من أن المنوط بالضرورة هو إيقاع الوضوء المذكور- فلا يشرع بعد ارتفاعها- لا أثره، بل هو لا يرتفع إلا بالحدث.

نعم، قد يقال: مجرد بقاء أثر الوضوء المذكور لعدم الحدث، لا يستلزم الاجتزاء به، بل إن كان أثره تاما كأثر الوضوء التام تعين الاكتفاء به في الدخول في الغايات.

و إن كان ناقصا و اكتفي به لمكان الضرورة لزم عدم الاكتفاء به بعد ارتفاعها و التمكن من فعل التام، لإطلاق دليل التام المقتصر في الخروج عنه علي حال الضرورة بمقتضي كون البدلية اضطرارية. فاللازم النظر في مقتضي دليل البدلية.

و حيث تقدم مشروعية التقية مع المندوحة الطولية و لو بالجمع بين العمل الأولي و العمل للتقية لزم البناء علي تمامية الطهارة و الاجتزاء بها في الغايات اللاحقة.

و مجرد اعتبار عدم المندوحة بالمعني المتقدم منا الراجع إلي توقف حصول غرض التقية علي العمل المطابق لها لا ينافي ذلك، لرجوعه إلي قصور المشروعية، و ترتب الأثر عن شمول صورة وجود المندوحة، فلا ينافي تمامية الأثر المذكور بعد فرض المشروعية، لعدم المندوحة بالمعني المذكور.

نعم، بناء علي اعتبار عدم المندوحة مطلقا بقرينة كون البدلية اضطرارية تكون الطهارة الحاصلة من الوضوء المذكور ناقصة، فلا تجزي بعد ارتفاع الضرورة.

إلا أن يدل علي الاجتزاء بها دليل خاص.

كما لا يبعد ظهور خبر أبي الورد- و لو بإطلاقه المقامي- في ذلك، فان عدم التنبيه فيه علي لزوم التدارك بعد ارتفاع العذر مع الغفلة عنه و غلبة سرعة زوال العذر ظاهر في الاجتزاء به حينئذ.

ص: 399

و وجبت في سائر الضرورات (1).

______________________________

بل لا يبعد ظهور جميع أدلة الوضوء العذري في ذلك، علي ما يأتي الكلام فيه في الجبائر في المسألة الواحدة و الأربعين ان شاء اللّه تعالي. و لا سيما مع ما في جامع المقاصد في حكم التقية بالغسل، من قوله: «و لا يجب الإعادة بزوالها قولا واحدا فيما أظنه».

و أما قبل فوات الموالاة فهل يجب التدارك بمثل رفع الحائل و المسح بالبلة، أو لا؟ قولان، ظاهر كشف اللثام ابتناؤهما علي القولين السابقين.

لكن صاحب المدارك مع ذهابه لعدم الإعادة هناك حكي عنه القول هنا- وفاقا لشيخه- بوجوب التدارك، و وافقهما في ذلك السيد الطباطبائي في العروة الوثقي و سيدنا المصنف قدّس سرّه في شرحها.

و هو في محله، لقصور أدلة التقية عن الاجتزاء بالناقص مع التمكن من الإتمام، نظير ما تقدم من اعتبار عدم المندوحة في كيفية العمل. و يستفاد من موثق سماعة المتقدم، لقوله عليه السّلام: «ثمَّ ليتم معه صلاته علي ما استطاع» «1».

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه إذا كان زمان ارتفاع التقية معتدا به، لبعده، لم يبعد شمول أدلة التقية له. فهو غير ظاهر مع ذلك.

و منه يظهر وجوب التدارك إذا كان ارتفاع السبب في الأثناء، لملازمته لبقاء الموالاة.

(1) الظاهر أن الخلاف في ذلك هو الخلاف المتقدم في التقية، بل هو الخلاف المذكور في الجبائر، بل ينبغي أن يجزي في سائر أفراد الوضوء الاضطراري.

و كيف كان، فمقتضي ما تقدم من القاعدة وجوب الإعادة في المقام، و سائر الوضوءات الاضطرارية لظهور أدلتها- بقرينة ورودها مورد الاضطرار- في اعتبار

______________________________

(1) الوسائل باب: 56 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 2.

ص: 400

مسألة 33): لو توضأ علي خلاف التقية فالأحوط وجوبا الإعادة

(مسألة 33): لو توضأ علي خلاف التقية (1) فالأحوط وجوبا الإعادة (2).

______________________________

عدم المندوحة مطلقا، و ليست كالتقية في مشروعيتها مع المندوحة في الجملة، لو لا ما أشرنا إليه آنفا من قرب ظهور دليل تشريعها- و لو بإطلاقه المقامي- في عدم وجوب الإعادة. فلاحظ.

(1) الظاهر أن مراده قدّس سرّه صورة وجوبها. أما في مورد استحبابها فلا منشأ لعدم إجزاء الواجب الأصلي إلا تخيل أن إطلاق دليل مشروعيته لما كان ظاهرا في لزومه، فالبناء علي استحباب التقية كاشف عن كذب الظهور المذكور في موردها، فلا طريق لإثبات مشروعية فيه، لسقوط الدلالة الالتزامية تبعا للدلالة المطابقية.

و يندفع- مع الغمض عما يأتي في صورة وجوب التقية- بأن استفادة المشروعية ليس لحجية الدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية، بل لأنه مقتضي الجمع العرفي بين إطلاق الوجوب و دليل استحباب التقية.

(2) فقد استظهر في الجواهر عدم إجزاء الوضوء المذكور، قال: «و لذا صرح بالبطلان في مقام يجب الغسل للتقية، فخالف و مسح، جماعة من الأصحاب، و هما من واد واحد.»

و قد يستدل عليه.

تارة: بأن الواجب فعلا هو العمل المطابق لها، فلا يجزي غيره.

و اخري: بأن وجوب التقية يستلزم حرمة الفعل المخالف لها، لا لأن الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده، بل لأن مرجع وجوبها إلي وجود الملزم في مجاراتهم و ترك مجاهرتهم بالمخالفة، و هو كما يقتضي وجوب الفعل الذي به المجاراة يقتضي حرمة الفعل الذي تكون به المجاهرة بالمخالفة، فيمتنع التقرب به.

و يندفع الأول: بأن الجمع عرفا بين دليل وجوب التقية الراجع إلي التكليف

ص: 401

______________________________

بها و إطلاق دليل الواجب الأولي الوارد لبيان ماهية المأمور به ليس بالتخصيص، ليقصر الواجب الأولي في ظرف وجود موجب التقية ملاكا، و تكون التقية عدلا له في عرضه، كالقصر و التمام، بل بحمل دليل التقية علي وجود المانع الخارجي عن التكليف بالواقع مع بقاء ملاكه، و لذا يكون المتقي منه مسؤولا و آثما بملاك منعه من امتثال التكليف الشرعي زائدا علي كونه مانعا للمتقي من إعمال سلطنته، لا أنه مانع من تمامية التكليف في حقه، كما لو سلب ماله، فرفع استطاعته للحج.

فالوضوء الأولي في مورد التقية الواجبة يكون نظير مورد اجتماع الأمر و النهي، الذي هو مجزي عن الأمر مع تأتي قصد القربة، علي التحقيق.

و مجرد إجزاء العمل الموافق للتقية لا ينافي ما ذكرنا، بل غاية ما يقتضي بدلية التقية عن الواقع و لو في طوله، مع تمامية ملاكه، نظير إجزاء الناقص عن التام مع الجهل بالحكم الذي لا ينافي إجزاء التام أيضا، لتمامية ملاكه و موضوعه، بل فعلية التكليف به واقعا.

و أما الثاني فهو لا ينافي الاجزاء مع غفلة المكلف عن مخالفته للتقية، أو عن وجوبها.

و كذا لو قصد التقية حين الإتيان بالواجب الأصلي، ثمَّ تعمد تركها بعد إكماله، كما لو توضأ عازما علي التقية بالمسح علي الخفين بعد المسح علي البشرة خفية من المخالفين، و بعد إكمال وضوئه عدل عن ذلك فلم يمسح علي الخفين.

نعم، لو تعمد فعل ما له دخل في مخالفة التقية من أجزاء الوضوء ملتفتا لذلك بطل للوجه المذكور، سواء كان الفعل بنفسه مخالفا لهم، كما لو جاهر بمسح البشرة، أم لا، كما لو شرع بغسل الوجه عازما علي المجاهرة بمسحها، فان الشروع في الوضوء محقق لموضوع التقية، فمع البناء علي تركها يكون فعله مقدمة للحرام، فيمتنع التقرب به، و يبطل حتي لو عدل عن مخالفتها بعد ذلك، فمسح علي الخفين أو غسل رجليه، غايته أن امتناع التقرب به حينئذ للتجري لا للمعصية به.

و كذا لو فرض تخيل المكلف وجوب التقية خطأ فخالفها بالوجه المذكور.

ص: 402

______________________________

تتمة لو وافق المكلف التقية لاعتقاد وجوبها خطأ، فإن كانت مستحبة في الواقع فلا ينبغي الإشكال في صحة عمله.

و إلا فإن كان الخطأ في اعتقاد كون المتقي منه عدوا مخالفا فالظاهر بطلان العمل، لعدم الموضوع للتقية واقعا، و ظهور أدلتها في فرض وجود عدو يتقي منه.

و إن كان الخطأ في تخيل ترتب الضرر منه، فالظاهر الاجزاء، لابتناء التقية علي الحذر الصادق مع الخوف و إن لم يكن ضرر واقعي.

فالخوف محقق لموضوعها و ليس طريقا محضا مع كون الموضوع هو الضرر الواقعي، ليتعين البطلان مع عدمه.

و أما بقية الضرورات فما كان منها من قبيل العجز و التعذر لا مجال للبناء علي الاجزاء مع ظهور الخطأ فيه لقصور الأدلة عن ذلك.

و ما كان قبيل الضرر، كما في الجبائر و المسح علي الحائل عند خوف الثلج فقد قرب سيدنا المصنف قدّس سرّه عدم الاجزاء فيه، لدعوي: أن مقتضي الجمع بين الأدلة المتضمنة لعنوان خوف الضرر أو اعتقاده- كخبر أبي الورد المتقدم- و الأدلة المتضمنة لعنوان الضرر كون الموضوع الحقيقي هو الضرر الواقعي، و أن الخوف و الاعتقاد طريق إليه، فيصح العمل عليها ظاهرا، و إن لم يجزئ واقعا لو فرض عدم الضرر، بناء علي ما هو الظاهر من عدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري.

و دعوي: أن خوف الضرر لما كان طريقا شرعا له كان منجزا لحكمه و مانعا عقلا من الإتيان بالوضوء التام، فيكون كما لو تعذر خارجا.

مدفوعة- مضافا إلي قصوره عن خوف الضرر الذي لا يجب دفعه- بقصور أدلة تشريع الوضوء الاضطراري عن المانع العقلي بالنحو المذكور، بل هي مختصة بالأعذار الشرعية كالضرر و الحرج و الموانع الخارجية في

ص: 403

______________________________

موارد التعذر.

نعم، إذا كان تحصيل الواقع في فرض خوف الضرر حرجا عرفا تعين الاجزاء واقعا و إن لم يكن هناك ضرر، لو فرض الاكتفاء بالحرج في تشريع الوضوء الاضطراري.

هذا، و لكن الخوف ليس أمارة عرفا علي تحقق الضرر، ليتجه بمقتضي الجمع العرفي حمل ما تضمنه من الأدلة علي كونه طريقا ظاهريا للضرر مع تبعية الحكم الواقعي بدفعه و مشروعية البدل الاضطراري معه للضرر الواقعي. بل الاكتفاء به عرفا لمحض الاحتياط في دفع الضرر للاهتمام به.

و ذلك إنما يقتضي منجزيته للتكليف بحرمة الضرر ظاهرا، المستلزم لكونه عذرا في مخالفة الواقع الاولي الذي يحتمل التكليف به تبعا لاحتمال عدم الضرر، و لا يقتضي الاجتزاء بالبدل الاضطراري ظاهرا، بل مقتضي الاحتياط لو كان الاجزاء منوطا بالضرر الواقعي هو الجمع بين الأداء به و الإعادة أو القضاء بالواجب التام بعد الأمن من الضرر.

و حيث لا إشكال في عدم وجوبه فالأنسب الجمع بين دليلي الاجزاء بحمل ما تضمن عنوان الضرر علي كونه الموضوع الواقعي للتكليف الثانوي و الرافع الواقعي للحكم الاولي، و حمل ما تضمن عنوان الخوف علي الاكتفاء به في مقام العمل، فيكون العمل الاضطراري معه مجزيا، و إن لم يكن مشروعا لعدم الضرر الواقعي.

فالخوف بنفسه موضوع للاجزاء واقعا، و إن كان منجزا ظاهريا للتكليف بدفع الضرر و معذرا ظاهريا عن التكليف الأولي المزاحم له، مع تبعية التكليف بدفع الضرر للضرر الواقعي. و لا ملزم بكونهما علي نهج واحد، و لا سيما مع مناسبة التكليف ارتكازا للضرر الواقعي، و مناسبة الاجزاء لمقام العمل التابع للمؤمّن و المنجّز في مقام الظاهر، لأنه الأنسب بمقام الامتنان بعد فرض عدم سقوط التكليف الأولي ملاكا، و لا دخل للضرر الواقعي فيه أصلا. فالاجزاء في المقام نظير الاجزاء في موارد لا تعاد لا ينافي إناطة التكليف بالواقع.

ص: 404

مسألة 34 لا يجب في مسح الرجلين أن يضع يده علي الأصابع

(مسألة 34): لا يجب في مسح الرجلين أن يضع يده علي الأصابع و يمسح إلي الكعبين بالتدريج، بل يجوز أن يضع تمام كفه علي تمام ظهر القدم من طرف الطول إلي المفصل و يجرها قليلا بمقدار صدق المسح. (1)

______________________________

و منه يظهر الوجه في إجزاء الواجب الأولي لو أتي به المكلف بسبب القطع خطأ بعدم الضرر، كما تقدم في التقية. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) كما صرح به في العروة الوثقي. لإطلاق أدلة المسح، حتي الآية الكريمة، بناء علي ظهور الغاية فيها في كونها لتحديد الممسوح، لما أشرنا إليه عند الكلام في غسل اليدين من عدم تعارف تحديد الفعل بالاقتصار علي بيان الغاية.

و لا سيما مع ورودها في سياق التحديد في اليدين الذي إشكال في عدم إرادة غاية الفعل فيه.

بل حتي بناء علي ظهورها في بيان غاية المسح لا تدل إلا علي وجوب الانتهاء بالكعبين و لو بجر اليد إليهما قليلا، و لا تقتضي البدء بالأصابع.

نعم، في صحيح البزنطي عن الرضا عليه السّلام: «سألته عن المسح علي القدمين كيف هو؟ فوضع كفه علي الأصابع فمسحها إلي الكعبين إلي ظاهر القدم. فقلت:

جعلت فداك، لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا. فقال: لا إلا بكفيه [بكفه.

خ ل]» «1» و هو ظاهر في وجوب الكيفية المذكورة.

لكن ما دل علي جواز النكس ملزم بحمله علي الاستحباب، أو علي بيان كمية الماسح أو الممسوح، كما هو الأنسب بالذيل و أن المراد من الكيفية ما يعم ذلك.

و أما حمله علي وجوب الكيفية من حيثية الاستمرار لا من حيثية المبدأ

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 405

كما أنه يجوز النكس (1)، بأن يبتدئ من الكعبين و ينتهي بأطراف الأصابع.

______________________________

و المنتهي، فليس هو عرفيا في مقام الجمع بين الأدلة، بل التفكيك المذكور مما يغفل العرف عنه جدا.

(1) كما في المبسوط و النهاية و التهذيب و الاستبصار و إشارة السبق و المراسم و الشرائع و المعتبر و المنتهي و القواعد و الإرشاد و جامع المقاصد، و عن محكي المهذب و الجامع و الإصباح و غيرها، و في الحدائق و عن الذكري أنه المشهور، بل في المفاتيح نسبة الشذوذ للمخالف هنا.

و يشهد له- مضافا إلي إطلاقات المسح حتي الآية بناء علي ظهورها في تحديد المسح، كما تقدم- صحيح حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا بأس بمسح الوضوء مقبلا و مدبرا» «1» و روي في سند آخر هكذا: «لا بأس بمسح القدمين مقبلا و مدبرا» «2» و صحيح يونس: «أخبرني من رأي أبا الحسن عليه السّلام بمني يمسح ظهر القدمين من أعلي القدم إلي الكعب، و من الكعب إلي أعلي القدم و يقول: الأمر في مسح الرجلين موسع من شاء مسح مقبلا و من شاء مسح مدبرا، فإنه من الأمر الموسع إن شاء اللّه» «3».

و احتمال ارادة الجمع من الأولين لا التخيير مخالف للظاهر، كالإشكال في سند الأخير بالإرسال، لاندفاعه بما تقدم في تحديد الكر بالوزن من الاعتماد علي مراسيل يونس.

هذا، و في الفقيه و عن السرائر و البيان و الألفية عدم جواز النكس، و نسب لظاهر الانتصار و الغنية و الوسيلة، بل لو تمَّ كان ظاهر الأولين دعوي الإجماع عليه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 20 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 20 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 406

______________________________

لكن لا يبعد كون مرادهم تحديد الممسوح، بل لعله ظاهر الأول.

و كيف كان فقد استدل لهم بأنه المتعارف الذي ينصرف إليه الإطلاق، و بنصوص الوضوءات البيانية بعد حملها عليه، إذ لو وردت بالنكس لوجب، لقوله صلّي اللّه عليه و آله: «هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به»، و بصحيح البزنطي المتقدم.

لكن التعارف لا ينهض بتقييد الإطلاق، و الوضوءات البيانية لا تنهض بإثبات الوجوب- كما تقدم غير مرة- و لا سيما مع ما تقدم من النصوص التي يجب رفع اليد بها عن ظاهر صحيح البزنطي، كما تقدم أيضا.

و من ذلك يظهر جواز المسح عرضا، فإنه و إن خرج عن مفاد النصوص السابقة، إلا أنه مقتضي الإطلاقات. بل لا يبعد إيماء النصوص السابقة إلي بقاء المسح علي إطلاقه من دون خصوصية للنكس.

ثمَّ إنه قد صرح في جامع المقاصد بكراهة النكس. و لعله يرجع لما في المراسم من استحباب المسح من أطراف الأصابع إلي الكعبين.

و كأن وجهه التأسي و صحيح البزنطي بناء علي حمله علي الاستحباب، لا محض تحديد الماسح أو الممسوح. و لا ريب في أنه أولي- كما عن الذكري و الدروس و المختلف و محكي المهذب- إذ لا أقل من الخروج به عن شبهة الخلاف.

بقي أمور.

الأول: صرّح في العروة الوثقي بوجوب إمرار الماسح علي الممسوح بتحريكه فوقه، و لا يكفي جرّ الممسوح تحته و أمضاه غير واحد من محشيها. و كأنه لدعوي انحصار الفرق بين الماسح و الممسوح بذلك.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لكنه غير ظاهر، لصدق قولنا: مسحت يدي بالجدار، و مسحت رجلي بالأرض. و الفارق بين الماسح و الممسوح أن الممسوح هو الذي يقصد إزالة شي ء عنه، و الماسح ما يكون آلة لذلك، فان كان الوسخ باليد تقول: مسحت يدي بالجدار، و إن كان الوسخ بالجدار تقول: مسحت الجدار بيدي

ص: 407

______________________________

و استعمال العكس مجاز».

و كأن مصحح نسبة المسح لليد هنا كونها مزيلة للخبث الخارجي أو الاعتباري.

و قد استشكل في ذلك شيخنا الأستاذ قدّس سرّه بأن باء الاستعانة لما كان مدخولها آلة الفعل فلا بد من حركته تحقيقا لمعني الآلية المبني علي اعمال الآلة. و أما الباء في قولنا مسحت يدي بالجدار فليست للاستعانة، بل للإلصاق أو التبعيض، مثلها في قوله تعالي وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ «1»، بخلاف الباء الداخلة علي اليد في الوضوء و التيمم، فإنها للاستعانة بلا إشكال.

و يندفع: بأن توقف الآلية- التي هي مفاد الباء- علي حركة مدخولها غير ظاهر، بل يكفي تأثير مدخول الباء للفعل العامل فيها في معموله، بنحو يصح إطلاق اسم الفاعل عليه، و لذا تدخل علي ما لا حركة فيه، كقولنا: أحرقت الثوب بالنار، و طهرته بالماء، لوضوح أن الباء في الجميع للاستعانة، مثلها في قولنا: مسحت رأسي بيدي، فإذا فرض أن الملحوظ في المسح هو التأثير و الإزالة- كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه- فمدخول الباء هو المؤثر فيما يتعدي له المسح بنفسه و إن كان ساكنا لا حركة فيه، كالجدار في قولنا: مسحت يدي بالجدار.

و لا مجال لما ذكره من أن الباء في المثال المذكور ليست للاستعانة، بل للإلصاق أو التبعيض.

لوضوح أن باء الإلصاق أو التبعيض تدخل علي المفعول في المعني، و قد صرح بالمفعول في المثال، و هو اليد، فكانت هي الممسوح، و من الظاهر أن المسح لا يتعدي إلي مفعولين، فلا بد من كون الجدار آلة المسح، فيكون ماسحا بمعني، كالماء المطهّر و النار المحرقة. و لا وجه لقياسه بقوله تعالي وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ لوضوح أن الرؤوس ممسوحة و آلة المسح الأيدي.

______________________________

(1) سورة المائدة: 6.

ص: 408

______________________________

فلعل الأولي أن يقال: إن اعتبار الحركة في الماسح ليس لتوقف الآلية المستفادة من الباء عليه، بل لأخذها في مفهوم المسح، لتقومه بإمرار أحد الجسمين علي الآخر بمماسة و بنحو من الاستيلاء، فالماسح هو المار و الممسوح هو المرور عليه.

و أما الإزالة و التنظيف أو التأثير فهي خارجة عن مفهومه، و لذا قد يخلو عنها فيما لو لم يقصد بالمسح إزالة شي ء عن شي ء و لا التأثير فيه، و منه مسح رأس اليتيم و عند البيعة، و لا مجال لدعوي عدم صدق المسح حينئذ.

نعم، لما كان الغالب كون المقصود بالمسح الإزالة أو التأثير فقد يضمن معناهما و يجرد عن معناه، و يكون الماسح هو المزيل. أو المؤثر و إن لم يكن مارا و لا متحركا، و الممسوح هو المزال أو عنه أو المؤثر فيه و إن كان متحركا، و منه: مسحت يدي بالجدار، و مسحت التراب عنها، و عليه جري قوله عليه السّلام:

«و امسح ببلة يمناك ناصيتك».

لكن لا مجال للحمل عليه بلا قرينة و إن أمكن في المقام، بل يتعين الالتزام بالمعني الأصلي، و قد يشهد لما ذكرنا تعدية المسح للممسوح ب «علي» في غير واحد من النصوص، و منها صحيح محمد بن مسلم: «امسح علي مقدم رأسك، و امسح علي القدمين» «1»، فان ظهوره في لزوم إمرار اليد علي الممسوح مما لا ينبغي أن ينكر.

و لو فرض إجمال المسح من هذه الجهة لزم الاقتصار علي المتيقن منه، و هو صورة مرور الماسح، لقاعدة الاشتغال المعول عليها في مثل المقام.

هذا، و أما الاكتفاء بالمرور من كل منهما، لصدق مرور اليد علي العضو، فيكون ممسوحا بها، و إن كان هو مارا عليها و ماسحا لها، و هما متماسحان.

فلا يخلو عن إشكال، لأن مقتضي ما تقدم اعتبار وقوع المسح من اليد علي العضو، و الحاصل في الفرض المذكور مسح واحد مستند لكل منهما، لا

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 409

______________________________

مسحان، كل منهما واقع من أحدهما علي الآخر، و ليس هو كالتعاطي بين الشخصين المنتزع من إعطائين كل منهما صادر من أحدهما للآخر. فتأمل جيدا.

الثاني: صرح في محكي التنقيح بأنه لا يشترط اتصال الخط من أطراف الأصابع إلي الكعب في المسح، فلو مسح ثمَّ قطع ثمَّ مسح من محاذيه كفي، و حكي في مفتاح الكرامة عن أستاذ السيد الطباطبائي اشتراط الاتصال.

أقول: إن كان المراد بالاتصال اتصال المسح- و هو الذي فهمه في الجواهر من التنقيح- بحيث يكون بمسحة واحدة، فلا وجه لاعتباره بعد إطلاق أدلة المسح، كيف و إيجاب ذلك يستلزم وجوب استمرار الحركة! فلا يجوز التوقف حتي مع إبقاء الماسح علي الممسوح و عدم رفعه عنه، لتوقف وحدة المسح علي ذلك، و من البعيد التزام أحد به، و خصوصية رفع الماسح لا أثر لها في ذلك.

و إن كان المراد اتصال الممسوح فالظاهر اعتباره- كما هو ظاهر محكي المقاصد العلية- لظهور أدلة تحديد الممسوح طولا في لزوم وحدته باتصال أجزائه، بحيث يكون الممسوح شيئا واحدا واقعا بين أطراف الأصابع و الكعب.

بل لا يبعد اعتبار كونه خطا مستقيما عرفا، فلا يكفي مسح خط متعرج و إن كان متصلا، لانصراف أدلة التحديد المذكورة عنه. فلاحظ.

ثمَّ إنه صرح في محكي المقاصد العلية بالاكتفاء بمسح أي إصبع شاء من الرجل، و ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنه صرح به جماعة.

و هو المطابق لإطلاق أدلة تحديد الممسوح طولا. بل يبعد حمل الإطلاقات المذكورة علي إصبع معين بعد التصريح في بعضها بأن أحد الحدين هو أطراف الأصابع.

نعم، هو يناسب موثق عمار و رواية عبد الأعلي مولي آل سام الواردين في الإصبع الذي ينقطع ظفره «1».

إلا أن عدم تعيين الإصبع فيهما موجب لظهورهما في وجوب الاستيعاب،

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 5، 6.

ص: 410

______________________________

و تنزيلهما علي إصبع خاص بعيد عن ظاهرهما، فليس الحمل عليه عرفيا. فتأمل جيدا.

الثالث: أشار في العروة الوثقي إلي الإشكال في وضوء الوسواسي.

و منشأ الاشكال فيه أحد أمرين.

الأول: أن عمل الوسواسي قد يستوجب الإخلال بشرط الوضوء، كما لو أخل بالموالاة فيما لو فرض الاستمرار بغسل أحد الأعضاء بتكثير الماء و الاستمرار في صبه بالنحو المستلزم لجفاف ماء الوضوء الأصلي، أو احتاط بتكرار غسل اليد اليسري و صب الماء عليها لكون المسح بغير ماء الوضوء، أو زاد في مسحها علي المتعارف، حيث يلزم مسح الرأس بماء اليسري بناء علي عدم جواز ذلك.

و هذا لا يختص بالوسواس، بل يجري في مطلق التكرار الخارج عن المتعارف، سواء كان لاحتياط مشروع أم لتخيل عدم الإتيان بالجزء.

الثاني: أن حرمة الوسواس تمنع من التقرب بالفعل، فيبطل، و هو لا يختص بالوضوء.

و الكلام في ذلك.

تارة: في الدليل علي الحرمة.

و اخري: في لازمها.

أما الأول: فقد تردد في ألسنة المتشرعة حرمة الوسواس. بل استظهر سيدنا المصنف قدّس سرّه عدم الإشكال في حرمته.

و قد يستدل عليه بالنصوص الرادعة عنه، ففي صحيح عبد اللّه بن سنان:

«ذكرت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجلا مبتلي بالوضوء و الصلاة، و قلت: هو رجل عاقل.

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و أي عقل له و هو يطيع الشيطان؟ فقلت له: و كيف يطيع الشيطان؟ فقال: سله هذا الذي يأتيه من أي شي ء هو؟ فإنه يقول لك: من عمل

ص: 411

______________________________

الشيطان» «1»، و في صحيح زرارة و أبي بصير: «قلنا له: الرجل يشك كثيرا في صلاته حتي لا يدري كم صلي و لا ما بقي عليه، قال: يعيد. قلنا: فإنه يكثر عليه ذلك كلما أعاد شك. قال: يمضي في شكه. ثمَّ قال: لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه، فان الشيطان خبيث معتاد لما عوّد، فليمض أحدكم في الوهم، و لا يكثرن نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك. قال زرارة: ثمَّ قال: إنما يريد الخبيث أن يطاع، فإذا عصي لم يعد إلي أحدكم» «2»، و في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا كثر عليك السهو فامض علي صلاتك، فإنه يوشك أن يدعك، إنما هو من الشيطان» «3».

و يشكل: بعدم ظهورها في الحرمة التكليفية، فإن الردع في الأول لما كان بملاك قلة عقل الوسواسي كان ظاهرا في الإرشاد، و مجرد فرض إطاعة الشيطان لا يستلزم الحرمة التكليفية، لعدم حرمة إطاعته إلا إرشادا حيث يأمر بالمعصية، و لا يستلزم كون جميع ما يأمر به معصية، حيث أنه يأمر بترك المستحبات، كما قد يأمر ببعض الأمور بلحاظ آثارها الوضعية من ضيق صدر المؤمن و ضياع وقته و نحوهما مما يرغب فيه بمقتضي عداوته له و إن لم يكن معصية بنفسه.

و لذا قد يكون الوسواس في غير أمور الدين مما يهتم به الإنسان كصحته و كرامته و ماله، فيخرج عن المتعارف عند العقلاء في طرق حفظها، و لا يظن من أحد الالتزام بحرمته. و الردع في الأخيرين وارد مورد الإرشاد لرفع الوسواس من دون أن يتضمن حرمته.

و دعوي: أن الإرشاد إلي رفعه ظاهر في حرمته و مبغوضيته.

ممنوعة، إذ قد يكون بلحاظ الضيق الحاصل منه علي المكلف، لا لمبغوضيته شرعا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.

ص: 412

______________________________

و من هنا كان إثبات حرمة الوسواس في غاية الإشكال. بل هو لا يناسب مرتكزات المتشرعة، لنظرهم إلي الوسواسي نظر العطف و الرحمة كنظرهم للمريض المبتلي، لا نظر المقت و الاستنكار كنظرهم للعصاة بجوارحهم أو جوانحهم.

نعم، لا إشكال في رجحان مقاومته إرغاما للشيطان الخبيث و حذرا مما قد يستلزمه من ضيق الصدر و ضياع الوقت الذي قد يستلزم التفريط ببعض المهمات الدينية و الدنيوية، بل قد يؤدي إلي ترك بعض الواجبات. بل لا ريب في كونه نقصا منافيا لكمال الإنسان و قوة نفسه. نسأله سبحانه أن يعيذنا و جميع المؤمنين منه بمنه و كرمه إنه أرحم الراحمين.

و أما الثاني: فالحرمة إنما تقتضي بطلان العمل العبادي مع الالتفات إليها كبري و صغري، بأن يعلم المكلف أن عمله ناشئ عن الوسواس و تتنجز حرمته عليه.

مع أنها إنما تقتضي بطلان الجزء الصادر عن الوسواس، لا تمام العمل إلا إذا أوجب خللا فيه، كزيادة مبطلة بأن زاد سجدة في الصلاة، أو ذكرا جازما بجزئيته، أو نقص الجزء فيما لو فرض الحاجة له واقعا لعدم الإتيان به، إلا أن المكلف أتي به للوسواس، فان بطلانه مستلزم لنقص العمل و بطلانه.

نعم، لا يتنجز ذلك علي المكلف حين العمل، لامتناع فرض الوسواس مع ظهور الحاجة إلي الجزء، و إنما يمكن اطلاع المكلف عليه بعد ذلك.

ثمَّ إن هذا يأتي أيضا في تكرار العمل بتمامه، للوسواس، فان فرض حرمة الوسواس و بطلان العمل لأجله مستلزم لعدم إجزائه حتي لو فرض الحاجة إليه واقعا، و لو لخلل مغفول عنه في العمل المأتي به أولا. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم. و منه نستمد العون و التسديد، و هو حسبنا و نعم الوكيل. و له الحمد وحده و الصلاة و السلام علي من لا نبي بعده محمد و آله الطاهرين من أعلام الحق و سادات الخلق.

ص: 413

______________________________

انتهي الكلام في فصل أفعال الوضوء بعد ظهر الاثنين غرة ذي القعدة الحرام، سنة ألف و ثلاثمائة و ست و تسعين للهجرة. بقلم العبد الفقير (محمد سعيد الطباطبائي الحكيم) عفي عنه.

و انتهي تبيضه بقلم مؤلفه بعد الفراغ من تدريسه، بعد ظهر الأربعاء الثالث من الشهر المذكور، من السنة المذكورة. و الحمد للّه رب العالمين.

ص: 414

الفصل الثاني: في وضوء الجبيرة
اشارة

الفصل الثاني من كان علي بعض أعضاء وضوئه جبيرة (1)..

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام علي سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

(1) في مجمع البحرين و لسان العرب و القاموس و ظاهر الجمهرة و عن شرح الدروس: انها العيدان التي تجبر بها العظام، و في المصباح: أنها العظام التي توضع علي الموضع العليل من البدن. و قال الراغب: «و اشتق من لفظ جبر العظم الجبيرة، الخرقة التي تشد علي المجبور، و الجبارة للخشبة التي تشد عليه، و جمعها جبائر» و في كشف اللثام: «و ذو الجبيرة، أي: الخرقة أو اللوح أو نحوهما الشدود علي عضو من أعضاء الوضوء انكسر فجبر» و نحوه في الحدائق.

و ظاهر الكل بل صريح بعضهم اختصاصها بما يجبر به العظم المكسور، دون ما يشد علي الجروح و القروح و نحوها، و إن ساواها في الحكم، كما هو ظاهر الخلاف و المبسوط و المنتهي و الروض أيضا.

لكن في الحدائق و عن شرح المفاتيح أن ظاهر الفقهاء إطلاقها علي ما يعم ذلك. و قد يشهد به اقتصار بعضهم علي حكم الجبائر و عدم تعرضهم لما يشد به الجرح و القرح، كما في الشرائع و القواعد، مع بعد إهمالهم لحكمه بعد ورود الأدلة

ص: 415

فإن تمكن من غسل ما تحتها بنزعها أو بغمسها في الماء وجب (1)،

______________________________

فيه. بل هو صريح محكي المشكاة، حيث قال: «لا جبيرة إلا في كسر أو جرح أو قرح. و يلحق بالأول الخلع و الرض، و بالثاني الكي و الخراق، و بالثالث البثور و القوابي، و في الأورام نظر». بل قد يستفاد في الجملة من صحيح عبد الرحمن بن الحجاج «1» الآتي.

و كيف كان، فلا أهمية للتعميم في اصطلاح الفقهاء، كما لا يهم تحقيق مفهوم الجبيرة بعد عدم اختصاص الأدلة بها، و ورود بعضها في الجروح و القروح و الدواء. بل المستفاد العموم لجميع ما تقدم، من مجموع النصوص بعد ضم بعضها إلي بعض، و لو لفهم عدم الخصوصية بملاحظة المناسبات الارتكازية.

و لعله يأتي في بعض الفروع الآتية ما له نفع في ذلك.

(1) لا إشكال في عدم إجزاء المسح علي الجبيرة و لا في ترك موضعها مع إمكان نزعها و غسل ما تحتها.

و يقتضيه- مضافا إلي العمومات- صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سئل عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من موضع الوضوء فيعصبها بالخرقة و يتوضأ و يمسح عليها إذا توضأ. فقال: إن كان يؤذيه الماء فليمسح علي الخرقة، و إن كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثمَّ ليغسلها» «2».

و إنما الاشكال و الخلاف بينهم في أنه هل يتخير حينئذ بين أمور ثلاثة، و هي الغسل بعد النزع، تكرار صب الماء حتي يصيب البشرة، و غمس العضو فيه كذلك. أو يتخير بين الأولين. أو يتعين عليه الأول؟ وجوه.

قرّب في كشف اللثام الأول، و اختاره شيخنا الأعظم قدّس سرّه و هو المحكي عن شرح المفاتيح و الدروس و البيان و الكركي و ظاهر التحرير و نهاية الإحكام، بل عن اللوامع دعوي الإجماع عليه، و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «و لا خلاف في التخيير بين

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 416

______________________________

الوجوه، و إن أوهم بعض العبائر خلاف ذلك.»

و هو في محله لو حصل بالأخيرين الواجب الاختياري، لإطلاق الأدلة. بل لا يحتمل كون حكم ذي الجبيرة أشد من حكم غيره. و من هنا يتعين حمل الأمر بالنزع في صحيح الحلبي المتقدم علي المقدمية الغالبية للغسل الاختياري، لا علي تقييده. إلا أن الشأن في تحققه، فإنه و إن لم يعتبر في الغسل الجريان- كما تقدم في أول الفصل السابق- إلا أنه يعتبر الترتيب في نفس العضو في اليدين- كما تقدم- بل في الوجه علي المشهور، و يشكل حصوله بالوجهين المذكورين، خصوصا الغمس.

و أما موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر أن يحله، لحال الجبر إذا جبر كيف يصنع؟ قال: إذا أراد أن يتوضأ فليضع إناء فيه ماء و يضع موضع الجبر في الماء حتي يصل الماء إلي جلده، و قد أجزأه ذلك من غير أن يحله» «1».

فهو مختص بصورة تعذر الحل، و لا وجه للتعدي عنها إلا دعوي أن قوله عليه السّلام: «من غير أن يحله» مشعر بعدم وجوب الحل حتي مع إمكانه، و هي لو تمت لا تصلح للاستدلال.

نعم، لا بأس بالتخيير المذكور في الغسل بناء علي ما سبق هناك من ظهور الأدلة في كفاية إمساس الماء فيه. فراجع.

و أما الثاني: فهو مقتضي الاقتصار في جملة من الكتب علي التخيير بين النزع و تكرار الماء، كالشرائع و القواعد و الإرشاد و جامع المقاصد و الروض و عن غيرها، بل عن الذخيرة دعوي الإجماع علي أن الغمس لا يجوز إلا مع تعذر كل من النزع و التكرار.

و إن كانت النسبة للأصحاب لا تخلو عن إشكال، لقرب أن يكون تخييرهم بين الأولين لإرادة بيان وجوب إيصال الماء مع الإمكان من دون خصوصية لهما،

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 7.

ص: 417

______________________________

و هو يقتضي الاكتفاء بالثالث أيضا.

و كيف كان، فلا وجه له إلا دعوي صدق الجريان المقوم للغسل بتكرار الصب، خصوصا مع غمز الجبيرة و المسح عليها، بخلاف الغمس المجرد.

و هو غير مهم بعد ما تقدم من عدم اعتبار الجريان في الغسل الواجب في الوضوء إلا لأجل الترتيب الذي عرفت الإشكال في حصوله بالوجهين معا.

و من هنا كان الأقوي في الوضوء الثالث. و هو المحكي في المقام عن التذكرة، و يقتضيه الجمود علي عبارة الفقيه و النهاية و التهذيب و الخلاف، للاقتصار فيها علي ذكر النزع و حل الجبيرة مع الإمكان. بل قد يظهر من الشيخ و الفاضلين في المبسوط و المعتبر و المنتهي، لحكمهم بوجوب النزع مع الإمكان، و إلا مسح علي الجبيرة، ثمَّ نبهوا علي أنه لو أمكن الغمس وجب و لم يكف المسح عليها، حيث قد يظهر منهم الترتيب بين النزع و الغمس. و حاله يظهر مما سبق.

ثمَّ لو تعذر النزع فهل يتخير بين التكرار و الغمس، أو يرتب بينهما، أو لا يجب شي ء منهما بل يكتفي بالمسح علي الجبيرة؟ وجوه.

ظاهر ما تقدم من المعتبر و المنتهي الأول، لأن مقتضي تعليلهما وجوب الغمس بتحقق الغسل الاكتفاء بكل ما يحققه من دون ترجيح. و هو مقتضي موثق عمار المتقدم، بل الجمود عليه يقتضي تعيّن الغمس، إلا أن خصوصيته ملغية عرفا و المهم إيصال الماء للجلد.

لكن عن الذخيرة الثاني، بل قال: «لا يجوز هذا الغمس إلا بعد العجز عن النزع و عن التكرير إجماعا». إلا أن الإجماع لم يتضح في المقام. و لا وجه له غيره إلا ما أشرنا إليه من صدق الجريان المقوم عندهم للغسل مع التكرار و غمز الجبيرة دون الغمس المجرد، و قد تقدم ضعفه، و لا سيما مع إطلاق الموثق.

و أشكل منه ما في التهذيب و الاستبصار من اختيار الثالث، و حمل الموثق علي الاستحباب، فإنه خروج عن ظاهره بلا قرينة.

و دعوي: معارضته بنصوص المسح علي الجبيرة.

ص: 418

______________________________

مدفوعة: - مضافا إلي كونه أخص منها لانصرافه إلي ما إذا لم يضره إيصال الماء للبشرة- بالتقييد في بعض نصوص الجبيرة بما إذا كان يؤذيه الماء أو يخاف علي نفسه. و به يقيد إطلاق غيرها- لو تمَّ. هذا كله إذا كانت الجبيرة في الأعضاء المغسولة.

و إن كانت في موضع المسح فإن أمكن نزعها وجب، و لم يكف إيصال الماء للبشرة بالتكرار أو الغمس، كما في جامع المقاصد، بل عن المنتهي و شرح الدروس الإجماع عليه، و إن لم أجده في الأول. و تقتضيه العمومات.

و إن لم يمكن، فان تعذر إيصال الماء للبشرة فلا إشكال ظاهرا في إجزاء المسح علي الجبيرة، لإطلاق بعض نصوصها، كصحيح كليب الأسدي الآتي، بل هو صريح رواية عبد الأعلي المتضمنة للمسح علي المرارة «1»، بل لا يحتمل اختصاص حكم الجبيرة بأعضاء الغسل، و لا سيما مع ورود المسح علي الحائل للضرورة.

و إن أمكن إيصال الماء للبشرة فهل يتعين، أو يجب المسح علي الجبيرة ببلة الوضوء؟ اختار الأول في جامع المقاصد، لقاعدة الميسور، لتضمن المسح مماسحة الماسح للممسوح و وصول الماء منه إليه، فتعذر الأول لا يسقط الثاني.

و إليه مال في الحدائق و حكاه عن صاحب رياض المسائل مستدلا بالقاعدة، و بما تقدم من تقديم غسل الرجلين علي مسح الخف إذا تأدت التقية بكل منهما، لأنه أقرب للواجب الأولي. و لإطلاق موثق عمار المتقدم.

لكن تكرر الإشكال في الاستدلال بقاعدة الميسور. و الاستشهاد بتقديم الغسل علي مسح الخفين أشبه بالقياس إلا أن يرجع إلي تقريب مفاد قاعدة الميسور.

فالعمدة إطلاق الموثق، و حمله علي خصوص موضع الغسل بلا قرينة،

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 419

و إن لم يتمكن لخوف الضرر (1)،

______________________________

فيقيد به إطلاق صحيح كليب و يحمل علي صورة تعذر وصول الماء للبشرة، كما قيّد هو و غيره من نصوص المقام به في الأعضاء المغسولة. و بهذا تسقط منجزية العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين.

كما يظهر ضعف ما في الجواهر من وجوب المسح علي الجبيرة. و إن كان الأولي الاحتياط بمسح الجبيرة أولا ببلة الوضوء، ثمَّ إيصال الماء للبشرة بالغمس أو تكرار الصب.

(1) كما هو المتيقن من النص و الفتوي، بل معقد الإجماع المدعي المستفاد من كلماتهم، حيث ادعي في الخلاف و عن التذكرة الإجماع بالمسح علي الجبيرة، و في المعتبر أنه مذهب الأصحاب، و في المنتهي أنه مذهب علمائنا أجمع، و نفي عنه الخلاف بين الأصحاب في المدارك.

و قد سبق في صحيح الحلبي المسح علي الخرقة التي علي القرحة إذا كان يؤذيه الماء، و في حسن كليب الأسدي بل صحيحة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال: إن كان يتخوف علي نفسه فليمسح علي جبائره و ليصل» «1» و قريب منه مرسل العياشي «2» و في صحيح الوشاء: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الدواء إذا كان علي يدي الرجل أ يجزيه أن يمسح علي طلي الدواء؟ فقال: نعم يجزيه أن يمسح عليه» «3» و نحوه صحيحه الآخر «4» - إن لم يكن عينه- فإن صورة الخوف من استعمال الماء متيقنة من هذه النصوص.

و هي بمجموعها صالحة لإثبات الحكم في الجبيرة بالمعني الأعم الذي تقدم نسبته للفقهاء، بل في كل حاجب وضع لأجل التداوي، و خصوصية مواردها ملغية عرفا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 9.

(4) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 10.

ص: 420

أو لعدم إمكان إزالة النجاسة (1)،

______________________________

نعم، صحيح الحلبي قد تضمن اشتراط الضرر، و صحيح كليب قد تضمن اشتراط الخوف. و قد تقدم في آخر الكلام في أحكام التّقية أن مقتضي الجمع العرفي بين هذين اللسانين في مقام الاجزاء تقدم الثاني.

فراجع.

(1) كما في القواعد و جامع المقاصد و غيرهما، بل في المدارك أنه لا خلاف فيه، لكن في ثبوت الإجماع الحجة بذلك إشكال، بل منع، بعد إناطة جمع منهم الحكم بخوف الضرر أو تعذر النزع.

و أما النصوص فيشكل استفادة ذلك منها. أما ما تضمن عنوان الضرر أو خوفه فظاهر. و أما ما أطلق فيه الجبائر فلانصرافه أو اختصاصه بصورة لزوم الضرر أو الحرج بنزعها أو باستعمال الماء، لأنه المناسب لها دون ما يتعذر معه التطهير فقط، حيث لا دخل فيه لعنوان الجبائر و إن قارنها، كما يشير إليه صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام: عن الكسير تكون عليه الجبائر أو تكون به الجراحة كيف يصنع بالوضوء و عند غسل الجنابة و غسل الجمعة؟

فقال: يغسل ما وصل إليه الغسل مما ظهر مما ليس عليه الجبائر و يدع ما سوي ذلك مما لا يستطيع غسله، و لا ينزع الجبائر و يعبث بجراحته» «1».

و كذا بعض نصوص الجبائر الخاصة لاختصاص مواردها بذلك، كرواية عبد الأعلي المتضمنة للمسح علي المرارة و صحيحي الوشاء المتضمنين للمسح علي الدواء.

و مثلها ما تضمن عدم غسل الجرح، كصحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الجرح كيف يصنع صاحبه؟ قال: يغسل ما حوله» «2»،

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 421

أو لعدم إمكان إيصال الماء تحت الجبيرة (1)،

______________________________

و نحوه ذيل صحيح الحلبي المتقدم «1» فإنه منصرف لصورة الضرر من الغسل، لأنه المناسب لخصوصية الجرح، دون تعذر التطهير، فارادتها منه تحتاج إلي عناية و تنبيه.

و أما قاعدة الميسور فقد تكرر عدم التعويل عليها، خصوصا في الوضوء الذي كان المطلوب فيه الطهارة التي هي بسيطة لا تركيب فيها، و إن كان قد يؤيد جريانها في المقام ابتناء الوضوء في كثير من الموارد عليها، إلا أن في بلوغ ذلك حدّ الاستدلال منعا ظاهرا، و لا سيما مع عدم بنائهم عليها ظاهرا في غير الجرح من موارد تعذر التطهير من الخبث، كما يأتي في المسألة الخامسة و الخمسين.

بل مقتضي الارتباطية هو البناء علي تعذر الوضوء و الانتقال إلي التيمم. و به تسقط منجزية العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين من الوضوء الجبيري و التيمم.

نعم، ذلك مختص بما إذا كان تعذر التطهير لأمر غير الإضرار بالجرح، كعدم الماء، أو ضيق الوقت، أما إذا كان من جهة الإضرار به، لاحتياجه إلي نحو من التعميق و إن لم يضره إجراء الماء بالقدر المعتبر في الوضوء فالظاهر دخوله في إطلاق نصوص الجرح و الجبائر، لأن المفهوم منها عرفا هو إضرار الغسل الذي يقتضيه الوضوء و لو مقدمة من جهة التطهير أو إزالة الحواجب المسببة عن الجرح أو التداوي، لا بخصوص الغسل الوضوئي.

(1) كما هو ظاهر تعذر النزع في الفتاوي و معاقد الإجماعات المدعاة في المقام.

و يقتضيه إطلاق غير واحد من نصوص المقام، خصوصا صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم، لإشعاره بتحقق العبث بالجرح بمجرد نزع الجبائر، و كذا رواية عبد الأعلي المتضمنة للمسح علي المرارة المعللة بالحرج، إذ لا حرج

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 422

اجتزأ بالمسح عليها (1).

______________________________

بالمسح علي ما تحت المرارة غالبا إلا من جهة الحرج بنزعها.

و منه يظهر أن المراد بالتعذر ما يعم الحرج، بل هو مقتضي إطلاق النصوص المذكورة، و حملها علي خصوص صورة التعذر لا وجه له.

نعم، لا بد من كون تعذر النزع لأمر يعود للتداوي، و لو لاحتياجه لإعادة الجبيرة علي تقدير نزعها، بنحو يلزم منه الحرج، فلو تعذر رفعها مع الاستغناء عنها خرج عن منصرف أدلة الجبيرة، و دخل فيما يأتي في ذيل المسألة السادسة و الثلاثين.

(1) لما تقدم من الإجماع و النصوص التي يخرج بها عن مقتضي الارتباطية من تعذر المركب بتعذر جزئه، الموجب للانتقال للتيمم، لعموم مشروعيته عند تعذر الطهارة المائية.

لكن بعض النصوص تضمّن مشروعية التيمم للكسير و ذي الجروح و القروح، كمرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «يتيمم المجدور و الكسير بالتراب إذا أصابته جنابة» «1» و صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يكون به القرح و الجراحة يجنب. قال: لا بأس بأن لا يغتسل يتيمم» «2» و غيرهما.

و قد وقع الاشكال بينهم في الجمع بين هذه النصوص و نصوص الجبائر، كالإشكال في الجمع بين كلمات الأصحاب في المقامين.

قال في المدارك: «و اعلم أن في كلام الأصحاب في هذه المسألة إجمالا، فإنهم صرحوا هنا بإلحاق القرح و الجرح بالجبيرة، سواء كان عليها خرقة أم لا، و نص جماعة منهم علي أنه لا فرق بين أن تكون الجبيرة مختصة بعضو أو شاملة للجميع، و في التيمم جعلوا من أسبابه الخوف من استعمال الماء بسبب الجرح

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 423

______________________________

و القرح و الشين، و لم يشترط أكثرهم في ذلك تعذر مسح شي ء عليها و المسح عليه.

و أما الأخبار ففي بعضها أن من هذا شأنه يغسل ما حول الجرح- و قد تقدم- و في كثير منها أنه يتيمم. و يمكن الجمع بينها إما بحمل أخبار التيمم علي ما إذا تضرر بغسل ما حولها، أو بالتخيير بين الأمرين.».

و قد يجمع بينها أيضا بحمل نصوص الجبيرة علي صورة وجودها و منعها من وصول الماء للبشرة و نصوص التيمم علي صورة عدمها و كشف الموضع، أو بحمل نصوص الجبيرة علي الوضوء و نصوص التيمم علي الغسل لاختصاص نصوصها به، أو بحمل نصوص الجبيرة علي الجرح الواحد و نصوص التيمم علي الجروح المتعددة.

و الكل كما تري إما بلا شاهد كالأول و الثالث، أو يمتنع تنزيل النصوص عليه كالباقي، لظهور بعض نصوص التيمم في وجوبه، فينافي الثاني، و صراحة صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم و مرسل العياشي «1» في عموم حكم الجبيرة للغسل، فينافي الرابع، و قوة ظهور بعض نصوص التيمم في وحدة الجرح، فينافي الخامس.

فالأولي أن يقال: لما كان اللازم حمل نصوص الجبيرة علي صورة القدرة علي الوضوء أو الغسل الجبيري دون محذور فيه تعين حمل نصوص التيمم علي صورة تعذرهما، لنجاسة أو نحوها أو لزوم محذور منهما من حرج أو ضرر في غسل الصحيح الذي لا جبيرة عليه أو في المسح علي الجبيرة أو نحو ذلك مما يكثر الابتلاء به.

و هذا هو المتعين في الجمع بين كلمات الأصحاب، و هو المستفاد مما في المعتبر و المنتهي من أن ذا الجبائر يمسح عليها، فان تضرر بالمسح عليها تيمم فلا إجمال في كلماتهم، كما نبه لذلك في محكي شرح المفاتيح، قال في جملة كلام له: «ففي التيمم إذا جعلوا من أسبابه الخوف من استعمال الماء بسبب القروح أو

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 11.

ص: 424

______________________________

الجروح فلا شبهة في كون هذا التيمم بعد العجز عن تلك المائية. و كيف يمكن تجويز غير هذا عليهم.» و قريب منه في حاشية المدارك.

ثمَّ إنه روي عمار في الموثق قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل ينقطع ظفره هل يجوز له أن يجعل عليه علكا؟ قال: لا، و لا يجعل إلا ما يقدر علي أخذه عنه عند الوضوء، و لا يجعل عليه إلا ما يصل إليه الماء» «1».

و لا بد من رفع اليد عنه بما تقدم، و بعمومات الضرر و الحرج القطعية، و لا سيما بعد ظهور إعراض الأصحاب عنه.

فليحمل علي عدم الانحصار به و إمكان جعل غيره من غير حرج و لا ضرر، لدفع توهم مسوغية التداوي للوضوء الناقص مطلقا. فلا ينافي الأدلة السابقة، لانصرافها عن الصورة المذكورة و ظهورها في البدلية الاضطرارية. و لعل هذا هو مراد الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار من حمله علي الاختيار.

فما عن بعضهم من احتمال الرخصة مطلقا و لو مع عدم الاضطرار، عملا بإطلاق النصوص السابقة، و ما عن آخر من الاشكال بسبب الموثق المذكور، في غير محله، كما في الحدائق.

بقي شي ء، و هو أن المعروف من مذهب الأصحاب وجوب المسح علي الجبائر بدلا عن البشرة، بل هو الظاهر من معاقد الإجماعات المتقدمة.

لكن في المدارك: «و لو لا الإجماع المدعي علي وجوب المسح علي الجبيرة لأمكن القول بالاستحباب و الاكتفاء بغسل ما حولها، لصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج. و رواية عبد اللّه بن سنان. و ينبغي القطع بالسقوط في غير الجبيرة، أما فيها فالمسح عليها أحوط» و سبقه إلي ذلك شيخه الأردبيلي- فيما حكي عنه- بل قد يظهر من الصدوق في الفقيه، حيث قال في حكم الجروح و القروح المشدودة: «فليمسح يده علي الجبائر و القروح، و لا يحلها و لا يعبث بجراحته. و قد روي في الجبائر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنه قال: يغسل ما حولها»

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 6.

ص: 425

______________________________

و نحوه في الفقه الرضوي «1»، بل ربما ينسب للكليني، لظهور ذكره للنص المتضمن غسل ما ظهر و ما حول الجرح في عمله به.

أقول: ما تضمنه صحيح عبد الرحمن من تعقيب الأمر بغسل ما ظهر بترك غسل ما تحت الجبيرة ظاهر في أن الحصر إضافي بلحاظ البشرة، فلا ينافي وجوب المسح علي الجبيرة، غاية الأمر أن عدم التعرض له في بيان كيفية طهارة ذي الجبيرة ظاهر في عدم وجوبه.

لكنه لا ينهض بمعارضة ظهور الأمر بالمسح عليها في النصوص الكثيرة في وجوبه، و لا سيما صحيحي الوشاء المتضمنين للتعبير باجزاء المسح لظهوره في بدليته عن غسل البشرة في الوجوب و دخله في الاجزاء مثله، بل هو كالمطلق الذي يجب رفع اليد عنه بالمقيد.

و منه يظهر الحال في صحيحي ابن سنان و الحلبي المتضمنين لغسل ما حول الحرج، فان دلالتهما علي عدم وجوب مسح الجبيرة إنما هي للسكوت عنه في مورد الحاجة لبيانه.

علي أنهما مختصان أو شاملان للجرح المكشوف فلا مجال لرفع اليد بهما عن ظهور نصوص المسح علي الجبيرة في الوجوب، بل هما مباينان لها موردا أو مخصصان بها. و أما مرسل الصدوق المتقدم، فمن القريب كونه نقلا لمضمونهما.

و مما ذكرنا يظهر عموم وجوب المسح للجبيرة و ما الحق بها من عصابة الجرح و الدواء و نحوه، لورود الأدلة به في الكل.

و لعل ما تقدم من المدارك من القطع بعدم وجوب المسح في غير الجبيرة، في مقابل دعوي وجوب مسح الجرح المكشوف- كما فهمه بعضهم- لا لتخصيص الجبيرة- بالمعني اللغوي- من بين الأمور المذكورة.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 34 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 426

و لو أمكنه مسح البشرة مسح عليها (1).

______________________________

(1) قد تعرضوا لذلك في الجرح المكشوف، ففي الحدائق: أنه ذكره الأصحاب، و هو المحكي عن التذكرة و نهاية الأحكام و الدروس، و مال إليه في المعتبر.

و قد استدل عليه بأنه أقرب إلي المأمور به، و أولي من مسح الجبيرة.

و الأول راجع لقاعدة الميسور، التي تكرر منا الإشكال في الرجوع إليها في أمثال المقام.

و الثاني إن رجع إلي الأولوية الظنية فليس بحجة، و إن رجع إلي الأولوية القطعية أو مفهوم الموافقة فهو ممنوع.

و من هنا استشكل في الحكم جماعة من متأخري المتأخرين- كما في الجواهر- منهم صاحب الحدائق، و تردد في محكي الذكري و شرحي الدروس و المفاتيح. كل ذلك لإطلاق ما تضمن غسل ما حول الجرح الظاهر في عدم وجوب ما زاد عليه من المسح علي الجرح، أو علي الجبيرة بعد وضعها عليه، كما يأتي في المسألة الخامسة و الثلاثين.

اللهم إلا أن يقال: الإشكال في الرجوع لقاعدة الميسور إنما هو في الخروج عن مقتضي الارتباطية بتشريع العمل الناقص، أما بعد ثبوت مشروعية العمل الناقص و احتمال وجوب المحافظة علي ما هو الأقرب إلي التام فاللازم البناء عليه، لخروج الناقص حينئذ عن المتيقن من إطلاق دليل تشريعه بقرينة وروده مورد الاضطرار، و لا سيما مع ندرة الفرض في مورد النص، لغلبة نجاسة الجرح أو إضرار الماء به، و لو بمقدار المسح، فيكون مقتضي قاعدة الاشتغال المحافظة علي الأقرب بالمسح علي الجرح، خصوصا مع ثبوت نظيره في الجبيرة في موضع المسح، حيث تقدم وجوب إيصال الماء مع إمكانه و لو لم يتحقق المسح.

علي أنه يصعب غض النظر عن أولويته من المسح علي الجبيرة، لأنها قريبة

ص: 427

و الأحوط استحبابا الجمع بين المسح عليها و علي الجبيرة (1). و لا يجزي غسل الجبيرة عن مسحها علي الأقوي (2).

______________________________

جدا. لكن في بلوغ ذلك حدّ الحجية إشكال، و المتعين الاحتياط.

و مثله الإشكال في البشرة المستورة بالجبيرة لو أمكن المسح عليها، فإن إطلاق نصوص الجبيرة يقتضي المسح عليها، و الوجه المتقدم يقتضي المسح علي البشرة.

و دعوي: قصور الإطلاق عن صورة التمكن من المسح و اختصاصه بصورة تعذر نزع الجبيرة- كما قد يظهر من صحيح عبد الرحمن بن الحجاج- لقرب ظهوره في كون نزع الجبيرة عبثا بالجرح، بل هو الظاهر من رواية عبد الأعلي، كما تقدم، و منصرف صحيحي الوشاء، أو بصورة إضرار الماء و لو بنحو المسح- كما قد يظهر من صحيح الحلبي. كما أن فرض التخوف في صحيح كليب محتمل للأمرين.

ممنوعة، لتمامية الإطلاق في صحيح الحلبي، لظهوره- بقرينة ذكر الغسل في فرض عدم الإيذاء- في إرادة إيذاء الغسل لا غير. فتأمل.

و لو تمت الدعوي المذكورة فقد يدعي لزوم الاحتياط بالجمع بين المسح علي الجبيرة و المسح علي البشرة، للعلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين، خلافا لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يتم بناء علي وجوب وضع الجبيرة علي الجرح المكشوف و المسح عليها، أما بناء علي عدمه فبعد نزع الجبيرة في المقام للمسح علي البشرة احتياطا يكون الجرح مكشوفا، فلا يجب المسح علي الجبيرة. فتأمل جيدا.

(1) مما تقدم يظهر أن الاحتياط بالمسح علي الجبيرة في الفرض يبتني علي الاحتياط في الجرح المكشوف، و لعله لذا جعله استحبابيا.

(2) كما هو ظاهر كلام الأصحاب و معاقد إجماعاتهم، خصوصا ما تضمن

ص: 428

______________________________

التنصيص علي الأمر بالمسح حتي في موضع الغسل، لظهور المقابلة في خصوصية المسح المقابل للغسل، بل هو صريح غير واحد في المقام. و يقتضيه ظاهر الأمر بالمسح علي الجبيرة في النصوص الكثيرة.

لكن عن العلامة في النهاية احتمال وجوب أقل مسمي الغسل. قال في كشف اللثام: «و هو جيد. و لا ينافيه الأخبار، لدخوله في المسح».

و فيه: أنه إن أراد ملازمته للمسح فهو- مع اقتضائه الاكتفاء بذكر المسح عنه- في غاية المنع، إذ لا إشكال في غلبة عدم تحقق الغسل بالمسح علي الجبائر، التي هي غالبا من سنخ الخرق التي تمتص الماء الوارد عليها بالمسح، فلا يتحقق به مسمي الجريان الذي جعلوه المعيار في صدق الغسل، فضلا عن استيلاء الماء بالنحو الخاص الذي تقدم في أول الفصل السابق اعتباره في الغسل عرقا.

نعم، بناء علي ما تقدم من عدم اعتبار ذلك في الوضوء و الغسل و الاكتفاء بمس الماء للجلد فالظاهر ملازمته للمسح علي الجبيرة، لأن الظاهر لزوم كون المسح في المقام بالماء لا بالرطوبة القليلة التي لا يصدق معها عرفا انتقال الماء للجبيرة- كما قربه في الجواهر- لظهور سوقه في مساق غسل البشرة و كونه في محلها في إرادة ذلك.

علي أن ظاهر كلام العلامة لزوم أقل مسمي الغسل و لو بدون مسح، فينافيه إطلاق أدلة وجوب المسح، لظهوره في وجوبه عينا، و إجزائه و إن أوجب الغسل بمرتبة أشد. فتأمل.

و إن أراد إمكان حصوله بالمسح، فيجب المسح المحصل له. فيدفعه عدم الدليل علي وجوبه، بل إطلاق أدلة المسح يقتضي الاكتفاء به.

و مثله الاستدلال بأن المستفاد من الأمر بمسح الجبيرة بدليتها عن البشرة، لأنه المناسب لمقام الضرورة، فيجب غسلها مثلها، و التعبير بالمسح لأنه المقدمة المتعارفة لإيصال الماء للبشرة.

إذ فيه- مع عدم مناسبته للتقييد بأقل مسمي الغسل في كلام العلامة- أنه

ص: 429

______________________________

خروج عن ظاهر النصوص الآمرة بالمسح بلا قرينة.

و ليست بدلية الجبيرة عن البشرة ارتكازية، ليصلح الارتكاز المذكور للقرينية علي ذلك، بل هي تعبدية، و ظاهر أدلتها بدلية مسح الجبيرة عن غسل البشرة في الجزئية، لا بدلية الجبيرة عن البشرة في الغسل.

و منه يظهر ضعف الاستدلال بقاعدة الميسور لوجوب الغسل في المقام.

فان غسل الجبيرة ليس ميسورا عرفا من غسل البشرة، بل لو تمَّ كان بدلا تعبديّا محتاجا لدليل، و دليل المسح يدفعه.

و من الغريب ما في محكي شرح المفاتيح من تنزيل قوله عليه السّلام في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «يغسل ما وصل إليه الغسل مما ظهر مما ليس عليه الجبائر.» علي ما يعم البشرة و الجبيرة. قال: «و هو أنسب بعموم كلمة: «ما». و لعل عدوله عن قوله عليه السّلام: «اغسل ما حولها» لهذه النكتة. و لو قلنا: ان الرواية ليست ظاهرة في ذلك لوجب حملها علي هذا المعني، لئلا تحصل المنافاة بينها و بين غيرها من الروايات، لظهورها بدون ذلك في الاكتفاء بغسل ما حول الجبيرة».

فإنه- كما تري- لا يناسب التقييد بقوله عليه السّلام: «مما ليس عليه الجبائر.»

الذي هو صريح في إرادة البشرة الظاهرة في مقابل البشرة المستورة بالجبيرة، بنحو لا مجال لرفع اليد عنه، فرارا عن المنافاة لنصوص المسح علي الجبيرة، بل يتعين في رفعها ما تقدم التعرض له في الفرع السابق.

و مثله ما ذكره من أن الجمود علي ما تضمنته من التعبير بالمسح يوجب منافاتها لما دل علي وجوب الغسل من الكتاب و السنة.

لوضوح اندفاعه بأن الكتاب و السنة إنما دلا علي وجوب غسل البشرة، فمع تعذره يكون المسح بمقتضي النصوص المذكورة بدلا عنه من دون أن تنافيه.

و كذا حمل نصوص المسح علي صورة تعذر غسلها.

إذ لا معني لحمل جميع نصوص المقام علي الواجب الاضطراري من دون أن يشار للواجب الاختياري.

ص: 430

______________________________

و كأن الذي دعاه لذلك تخيل أن وجوب المسح يمنع من جريان الماء بمرور اليد، و لذا حكي عن شرح الجعفرية المنع منه.

لكن تقدم جواز الاجراء في أعضاء المسح التي تضمنت النصوص مقابلة المسح فيها للغسل، فجوازه في المقام أولي.

هذا، و قد نسب شيخنا الأعظم قدّس سرّه لظاهر الشهيدين القول بالتخيير بين المسح و الغسل، لما في الروض و المسالك و عن الذكري من عدم وجوب إجراء الماء علي الجبيرة، لأن الشارع لم يتعبد بغسلها. و هو كما تري إنما يدل علي عدم وجوب تحقيق الغسل بالمسح، لا إجزاء الغسل بدونه.

و كيف كان، فقد يستدل له بورود الأمر بالمسح لدفع توهم وجوب الغسل، فلا يكون ظاهرا في عدم اجزائه.

و فيه: أنه وارد لدفع توهم وجوب غسل البشرة، لا لدفع توهم وجوب غسل الجبيرة، فيحتاج إجزاء غسلها إلي دليل، و ظاهر الأمر بمسحها في مقام بيان الماهية تعينه في فرض عدم غسل البشرة، فلا يجزي غسلها عنه.

أما شيخنا الأعظم قدّس سرّه فقد قرّب كون الأمر بالمسح كناية عن وجوب إيصال الماء للجبيرة، فيجزي و لو بغير الغسل و المسح، لأنه المنسبق للأذهان، و لا سيما مع اشتمال السؤال في صحاح الحلبي و الوشاء علي فرض المسح علي الجبيرة و الدواء. مع أنه لو أريد خصوصيته في مقابل الغسل فلا منشأ لتوهم إجزائه قبل الاطلاع علي تعبد الشارع. و لاستبعاد التعبد بخصوصية الغسل أو المسح و لا سيما مع لزوم الحرج العظيم في التزام كل منهما بخصوصه.

و زاد الفقيه الهمداني في تقريب فهم ذلك من إطلاق المسح في المقام: أنه لولاه لكان اعتبار نداوة الماسح فضلا عن انتقال البلة للممسوح محتاجا للدليل، و كذا سائر الشرائط من الطهارة و الاستيعاب و الترتيب. فلو لا أن المفهوم من الأمر بمسح الجبيرة قيامها مقام البشرة في وجوب إيصال البلة، فتكون بحكمها، من دون خصوصية للمسح تعبدا لكان مقتضي إطلاق الأمر بالمسح عدم اعتبار ذلك.

ص: 431

و لا بد من استيعابها بالمسح (1)،

______________________________

و فيه: أن قيام الجبيرة مقام البشرة لما لم يكن عرفيا ارتكازيا، ليصلح الارتكاز لتحديده، بل هو تعبدي لزم الجمود علي ظاهر أدلته.

و فرضه في السؤال في الصحاح المذكورة لا بد أن يبتني علي الالتفات لاحتمال التعبد المذكور، أو المفروغية عنه في الجملة، لشيوع أدلته و إن لم تعلم حدوده تفصيلا. و إلا فمقتضي الارتكاز- لو تمَّ- لزوم الغسل، الذي اعترف شيخنا الأعظم قدّس سرّه بتعذر حمل الأدلة عليه.

و مجرد استبعاد الجمود علي خصوصية المسح بنحو لا يجزي الارتماس- لو تمَّ- لا ينهض بالقرينية علي تفسير الأدلة، و لا بالحجية علي الخروج عن ظاهرها. و لزوم الحرج منه ممنوع.

و هو لا ينافي انصراف إطلاقه إلي نقل البلة للممسوح، و استيعابه و الترتيب، لما تقدم في الأول، و يأتي في الأخيرين.

و اعتبار الطهارة ليس لخصوصية في إطلاقه، بل يجري في سائر أسباب التطهير، لقرينة عامة أو إجماع أو غيرهما.

فالجمود علي ظاهر النصوص في خصوصية المسح هو المتعين في المقام.

ثمَّ إن الظاهر عدم وجوب كون المسح بالكف، فضلا عن باطنها، لإطلاق أدلته. بل المقام أولي بذلك من الأعضاء الممسوحة التي تقدم عدم وجوب ذلك فيها أيضا، كما يظهر بمراجعة ما سبق هناك.

(1) كما في الخلاف و المعتبر و ظاهر المنتهي، و عن التذكرة و نهاية الإحكام و الدروس و غيرها، و في الحدائق أنه المشهور. و جعله في المبسوط أحوط، و استحسنه في محكي الذكري، و استشكل في الوجوب، بل صرح بعدمه في المستند، لصدق ما تضمنته النصوص من المسح عليها بالمسح علي بعضها، و ليس هو كمسحها في ظهوره في الاستيعاب.

ص: 432

إلا ما يتعسر استيعابه بالمسح عادة (1)، كالخلل التي تكون بين الخيوط و نحوها.

مسألة 35 الجروح و القروح المعصّبة حكمها حكم الجبيرة المتقدم

(مسألة 35): الجروح و القروح المعصّبة حكمها حكم الجبيرة المتقدم (2)،

______________________________

و ما في الجواهر من ظهورهما معا فيه و إن كان الثاني أظهر، و أن صدقه بدون الاستيعاب في مثل المسح علي الظهر للقرينة. غير ظاهر.

نعم، المنصرف عرفا من الأمر بالمسح علي الجبيرة هو بدلية المسح علي كل جزء منها عن غسل ما تحته من البشرة علي نحو الانحلال لا المجموعية، كما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه، و لعله إليه يرجع ما في المعتبر من أن الاستيعاب مقتضي بدلية المسح عن الغسل. بل عن شرح المفاتيح حمل ما في المبسوط علي ما يأتي من عدم وجوب المداقة في الاستيعاب.

و منه يظهر وجوب الترتيب في مسح أجزاء الجبيرة تبعا لوجوبه في غسل ما تحتها، كما نبه له في الجواهر و غيرها.

(1) لما هو المعلوم من ابتناء الجبيرة علي وجود الخلل و الخيوط و ابتناء المسح علي عدم المداقة، فلو كان التدقيق مرادا في المقام لاحتاج للتنبيه بالخصوص. فلاحظ.

(2) كما صرح به غير واحد، بل تقدم من بعضهم أن مراد الأصحاب من الجبائر ما يعمها. و هي داخلة صريحا في معقد الإجماع المدعي في الخلاف و المنتهي علي حكم الجبائر، و ظاهرا في معقد الإجماع المدعي في المعتبر عليه، و تقدم من المدارك- عند الكلام في نصوص التيمم- دعوي تصريح الأصحاب بالإلحاق، و عن شرح المفاتيح و غيره دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه صحيح الحلبي «1» في عصابة القرحة و رواية عبد الأعلي «2» في

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 433

و إن لم تكن معصّبة غسل ما حولها (1) و الأحوط وجوبا المسح عليها إن أمكن (2)، و لا يجب وضع خرقة عليها و مسحها (3)،

______________________________

المرارة التي يتوقي بها و لو مع عدم الجرح، و صحيح عبد الرحمن بن الحجاج «1» في عصابة الجرح، حيث تضمن مشروعية الوضوء الناقص و إن لم يدل علي وجوب مسح الجبيرة، و كذا ما تضمن غسل ما حول الجرح «2».

و يتعدي منها لغيرها مما يتوقي به بفهم عدم الخصوصية، و لا سيما مع ورود المسح علي الدواء في صحيحي الوشاء «3»، و المسح علي الحناء في صحيحي عمر ابن يزيد و محمد بن مسلم «4» المحمول علي الضرورة، كما تقدم في آخر الكلام في مسح الرأس.

(1) بلا إشكال، لصحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الجرح، كيف يصنع صاحبه؟ قال: يغسل ما حوله» «5»، و نحوه ذيل صحيح الحلبي «6»، و هما يشملان ما إذا كان الجرح مكشوفا أو يختصان به، كما يأتي. أما لو كان غسله مضرا فسيأتي الكلام فيه في المسألة الخامسة و الأربعين.

(2) تقدم منا الكلام في ذلك عند الكلام في وجوب مسح ما تحت الجبيرة إن أمكن. و ظاهره هناك الجزم بالوجوب، و لم يتضح وجه الفرق بين المقامين.

(3) كما هو ظاهر النهاية و المعتبر و محكي التذكرة، و في المدارك أنه ينبغي القطع به. بل ظاهر جامع المقاصد في آخر مبحث التيمم معروفية القول بذلك بين الأصحاب، بل قد يظهر منه إجماعهم عليه.

لكن نسب في الحدائق للأصحاب وجوب شد الجرح و المسح علي الخرقة مع التمكن، و في الرياض: «بل قيل: لا خلاف فيه ما لم يستر شيئا من الصحيح».

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 1، 2.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 9، 10.

(4) الوسائل باب: 37 من أبواب الوضوء حديث: 3، 4.

(5) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(6) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 434

______________________________

و هو المصرح به في المنتهي و محكي نهاية الإحكام، بل ظاهرهما أنه مع التعذر يسقط الوضوء و ينتقل إلي التيمم، و لا يكتفي بغسل ما حول الجرح، بل هو مقتضي إطلاق جماعة من الأصحاب ممن صرح بعدم تبعيض الطهارة، و أنه لو تعذر غسل بعض الأعضاء لمرض أو جرح انتقل للتيمم، كالشيخ في الخلاف و المبسوط و المحقق في الشرائع و العلامة في القواعد و غيرهم، بل في الجواهر: لا أعرف فيه خلافا.

بل هذا منهم بظاهره ينافي حكمهم بمشروعية الوضوء الجبيري و غسله، لو لا ما تقدم من لزوم حمله علي صورة تعذرهما، جمعا بين كلماتهم، فيبقي ظاهرا في عدم الاكتفاء بغسل ما حول الجرح، و وجوب الوضوء و الغسل المستوعبين، و لو بوضع الجبيرة.

لكن تحصيل الإجماع الحجة بذلك لا مجال له بعد ما تقدم من جامع المقاصد و غيره، بل بعد ظهور اضطرابهم في أحكام الجروح و نحوها، حيث يظهر منه مشروعية التيمم تارة، و لزوم الميسور من الطهارة المائية أخري، فإنه و إن تقدم الجمع بين كلماتهم بإرادة مشروعية الأول عند تعذر الثاني، إلا أن كلماتهم لا تخلو عن اضطراب و قصور في كثير من الموارد، و منها هذا المورد- كما نبه له غير واحد.

فلا بد من النظر في نصوص المقام، و من الظاهر أن مقتضي إطلاق صحيحي الحلبي و ابن سنان الاكتفاء بغسل ما حول الجرح، فان عدم التعرض لوضع شي ء علي الجرح بعد السؤال عن الوظيفة ظاهر في عدم وجوبه و تمامية الوظيفة بدونه.

و مجرد وجوب المسح علي الجبيرة- كما تقدم- لا يقتضي وجوب وضعها، لاختصاص نصوصه بصورة وجودها، و لا عموم لها لصورة عدمها بنحو يقتضي وضعها.

نعم، لو كان ذلك كاشفا عرفا عن عدم ورود الصحيحين لبيان تمام الوظيفة، بل لبيان المقدار الذي يغسل من البشرة، كان مانعا من الاستدلال بإطلاقهما في

ص: 435

______________________________

المقام.

لكن قوة ظهور الصحيحين في بيان تمام الوظيفة ملزمة بالجمع بينهما و بين نصوص مسح الجبيرة بالحمل علي خصوص الجرح المكشوف، أو بتقييدهما في خصوص صورة وجود الجبيرة و العمل بإطلاقهما في المقام.

و ما في الجواهر من ظهور قوله في صحيح الحلبي: «فيعصبها بالخرقة و يتوضأ و يمسح.» في كون التعصيب لأجل الوضوء.

ممنوع جدا، لأنه لا يناسب الجواب، للمقابلة فيه بين المسح علي الخرقة و نزعها، لا بين غسل البشرة و وضع الخرقة، فهو ظاهر في المفروغية عن تحقق التعصيب حين الوضوء، لا عن تحقيقه لأجله.

و مثله احتمال كون المراد بالمسح علي الجبائر في نصوصه المسح علي خرقة الجبيرة، و إن لم تصر جبيرة بالفعل.

فإن مجرد الاحتمال لا يصلح لتقييد إطلاق الصحيحين، و لا سيما مع مخالفته للظاهر، كيف و لازمه الاكتفاء بمسح الخرقة قبل وضعها علي المحل و صيرورتها جبيرة بالفعل! و كذا دعوي: ظهور الأمر بالمسح علي الجبائر في صحيح كليب مع عدم فرضها في كلام السائل في إطلاق وجوب المسح عليها بالنحو المقتضي لوضعها، و عدم اشتراطه بوضعها.

لاندفاعها بظهوره في المفروغية عن وجودها، لظهور الإضافة في التعريف و العهد. و لا سيما مع كون الجبائر- لغة و عرفا في حق الكسير- ما يجبر به كسره، لا مطلق ما يجعل عليه و لو موقتا لأجل الوضوء.

و أما استبعاده الفرق بين أن تكون الجبيرة موضوعة لا يؤذي حلها و ما لم تكن كذلك.

فهو- لو تمَّ- لا يقتضي وجوب وضع الجبيرة عند عدمها، بل جواز ترك المسح علي الجبيرة بعد إزالتها، كما تقدم عند الكلام في وجوب مسح البشرة مع

ص: 436

______________________________

الإمكان، و يأتي توضيحه.

نعم، لا يجوز ترك مسحها حينئذ مع بقائها كالتي لا يسهل إزالتها، لإطلاق نصوص مسح الجبيرة.

و أما عدم الضابط لشد الجروح بالنسبة للأشخاص و الأوقات، و أنه هل المدار علي أول الوقت أو حين الفعل. فليس مهما، لظهور الأدلة في أن المدار علي وقت الفعل.

و دعوي: ظهور نصوص الجبائر في وجوب المسح عليها بمجرد وضعها علي المحل، لصدق الجبيرة عليها حينئذ، فتدخل في إطلاق الخطاب.

مدفوعة: بأن الظاهر من الجبائر هي الموضوعة علي المحل بالفعل، لا ما وضع عليه آنا ما، و لذا لا ريب في وجوب المسح عليها و هي عليه، و لا يجزي المسح عليها بعد رفعها عنه.

و لعله لما ذكرنا اعترف قدّس سرّه بأن في كل واحد من هذه الوجوه مجالا للنظر.

لكنه قال: «مجموعها يفيد الفقيه قوة الظن بذلك».

و هو كما تري ممنوع صغرويا و كبرويا.

هذا، و أما ما في المستند من التخيير بين التيمم و الوضوء أو الغسل و لو مع عدم وضع شي ء علي الجرح، لدعوي: سوق المطلقات الواردة في تيمم الجريح و الكسير لبيان مشروعيته من دون إلزام، و ظهور دليل غسل ما حول الجرح فيمن يريد الغسل، لا مطلقا ليقتضي وجوبه، لقوله في صحيح الحلبي: «كيف اصنع به في غسله» فيتعين التخيير بين الأمرين.

ففيه: - مع أن ظاهر صحيح الحلبي المفروغية عن وجوب الغسل، و إلا لم يحتج لتكلفه، و أن نصوص التيمم مختصة بالغسل- أن صحيح عبد اللّه بن سنان ظاهر في الوجوب، فيتعين حمل مطلقات التيمم علي صورة تعذر ذلك، نظير ما تقدم في أول الكلام في حكم الجبائر.

بقي في المقام أمور.

ص: 437

______________________________

الأول: أن الصحيحين مختصان بالجرح الذي يكون في موضع الغسل، فالتعدي لما يكون في موضع المسح موقوف علي إلغاء خصوصية موردهما عرفا، و هو لا يخلو عن قرب و إن كان لا يخلو أيضا عن الاشكال، بالنظر لخبر أبي الورد المتقدم في المسح علي الخفين، حيث تضمن مشروعية المسح عليهما لخوف البرد، مع وضوح خروجهما عن الجبيرة و نحوها مما تقتضيه الآفة، بل لا ثبوت لهما كطرف الثوب الملقي، فالاحتياط هنا بالمسح علي الحائل متعين.

و أما احتمال الانتقال إلي التيمم فهو بعيد، بالنظر لنصوص الجبائر و المسح علي الخفين و نحوها، لبعد خصوصية وجود الجبيرة و الخف في مشروعية الوضوء، بل قد يستفاد التسامح في ترك المسح من الصحيحين بالأولوية، لأن الغسل أهم عرفا من المسح. فلاحظ.

الثاني: لو فرض وجوب مسح شي ء علي الجرح فمع تعذره هل يقتصر علي غسل ما حوله- كما في الجواهر- أو ينتقل للتيمم- كما تقدم أنه ظاهر المنتهي و محكي نهاية الإحكام، بل ظاهر إطلاق غيرهم-؟ لا يبعد الأول، لإطلاق صحيحي الحلبي و ابن سنان، المقتصر في الخروج عنهما علي صورة إمكان وضع الجبيرة، إذ لا إشكال في قصور نصوصها عن صورة تعذره. و لأجلهما لا تسمع دعوي عدم تبعض الطهارة. فلاحظ.

الثالث: الظاهر أنه يلحق بالجرح المكشوف غيره مما يضر به الماء، كالدماميل و الكسور غير المجبورة و الأورام، لفهم عدم الخصوصية للجرح بعد النظر في مجموع نصوص المقام الواردة في صورتي وجود الجبيرة و عدمها.

و لا يبعد بناء الأصحاب علي ذلك، فعن السيد بحر العلوم أنه قال: «اعلم أن الأصحاب ألحقوا الكسر المجرد عن الجبيرة أيضا بالجرح في الحكم. و كذا كل دواء (داء. ظ) في العضو لا يمكن إيصال الماء إليه، و الإثبات بالدليل مشكل. لكن الأولي متابعتهم». و يأتي في المسألة الأربعين تمام الكلام في ذلك.

ص: 438

و إن كان أحوط استحبابا (1).

مسألة 36 اللطوخ المطلي بها العضو للتداوي يجري عليها حكم الجبيرة

(مسألة 36): اللطوخ المطلي بها العضو للتداوي يجري عليها حكم الجبيرة (2)، و كذا العصابة التي يعصّب بها العضو لألم أو ورم أو نحو ذلك. (3).

______________________________

(1) يأتي في المسألة الرابعة و الأربعين أن جواز ذلك مشروط بعدم استلزامه ترك غسل شي ء من الصحيح.

(2) كما في كشف اللثام و عن التذكرة و الشهيد، و عن الذخيرة عن بعضهم دعوي الإجماع عليه، و عن شرح المفاتيح أن المشهور اتحاد حكم الطلاء الحائلة و اللصوق مع الجبيرة.

و يقتضيه صحيح الوشاء: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الدواء إذا كان علي يدي الرجل أ يجزيه أن يمسح علي طلي الدواء؟ فقال: نعم، يجزيه أن يمسح عليه» «1»، و نحوه صحيحه الثاني «2» الذي لا يبعد اتحاده معه، و أن اختلافهما للنقل بالمعني.

(3) لأن النصوص و إن اختصت بالجبائر و عصابة القرح و الجرح و الدواء، إلا أن المفهوم منها عرفا العموم لكل ما يجعل علي البدن لأمر يعود إليه كالتداوي و نحوه، لإلغاء خصوصية مواردها عرفا.

و لا سيما بملاحظة رواية عبد الأعلي الواردة في المسح علي المرارة «3»، لعمومها- بمقتضي ترك الاستفصال فيها- لما لو كان وضع المرارة لأجل التوقي علي موضع الظفر و إن برئ الجرح.

فما عن المشكاة من التنظر في إلحاق الأورام بالجبيرة في غير محله. و يأتي في المسألة الأربعين ما له نفع في المقام.

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 439

و أما الحاجب اللاصق اتفاقا- كالقير و نحوه- فلا يبعد فيه ذلك (1)، و لكن لا يترك الاحتياط الاستحبابي فيه بضم التيمم.

______________________________

(1) فعن الذكري التصريح بإلحاقه بالجبيرة، و قواه في الجواهر، لرواية عبد الأعلي، و فحوي حكم الجبائر بعد إلغاء خصوصية المرض، و للقطع بفساد القول بوجوب التيمم بدلا عن الغسل و الوضوء لمن كان في بدنه قطعة قير مثلا مدي عمره.

لكن الرواية مختصة بما يوضع لأمر يعود للبدن من التداوي و نحوه.

و دعوي: أن تطبيق دليل الحرج فيها ظاهر في عموم سقوط الارتباطية بين أجزاء الوضوء بالحرج، فيتعدي منه للتعذر بالأولوية العرفية.

مدفوعة: بأنها غير مسوقة لبيان سقوط الارتباطية، ليتمسك بإطلاقها في ذلك، بل لبيان مسقطية الحرج بعد الفراغ عن سقوط الارتباطية في الجملة، كما هو مقتضي الاستدلال بالآية، فلا مجال للتعدي عن موردها لجميع موارد تبعيض الوضوء. و كذا إطلاق أدلة الجبائر.

و إلغاء خصوصية المرض إن رجع إلي فهم عدم خصوصيته عرفا من الأدلة فهو ممنوع، و إن رجع إلي تنقيح المناط، لقرب أن يكون هو تعذر وصول الماء للبشرة فلا ينفع ما لم يكن قطعيا.

و ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من تنقيحه في خصوص صورة لصوقه لعذر. إن أراد به مطلق العذر، فخصوصيته غير واضحة الدخل، إذ المدار علي أقربية الوضوء الناقص لغرض الشارع من التيمم، و لا دخل للعذر في ذلك. و إن أراد خصوص ما يعود للبدن بالوجه الذي ذكرنا- كما قد يناسبه مقابلته بما ألصق اتفاقا أو اختيارا- فهو في محله، لكن لا لتنقيح المناط، بل لما سبق.

هذا، و لو كان مراد الجواهر من الفحوي الأولوية فهي ظاهرة المنع. و أما من تعذر عليه إزالة الحاجب طول عمره فاكتفاؤه بالمسح عليه- لو تمَّ-

ص: 440

مسألة 37 لا فرق في الحكم المتقدم بين الجبيرة المستوعبة للعضو و غيرها

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 441

(مسألة 37): لا فرق في الحكم المتقدم بين الجبيرة المستوعبة للعضو و غيرها (1)، و إن كان الأحوط استحبابا في الأولي ضم التيمم،

______________________________

لعله لكون ما تحته ميؤوسا منه بحكم المقطوع، بخلاف ما لو كان الحاجب في معرض الزوال.

و من هنا كان اللازم التيمم لإطلاق دليل مشروعيته بتعذر الطهارة المائية.

و إن كان الاحتياط بضم الوضوء الجبيري لازما، لقرب تنقيح المناط جدا.

(1) كما في المسالك و عن الذكري، و هو مقتضي إطلاق غير واحد من أعيان الأصحاب، بل هو كالصريح من بعضهم قال في المبسوط: «و متي أمكن غسل بعض الأعضاء و تعذر الباقي غسل ما يمكن غسله، و مسح علي حائل ما لا يمكن غسله» و في محكي التذكرة: «إذا كانت الجبائر علي جميع أعضاء الغسل و تعذر نزعها مسح عليها مستوعبا بالماء، و مسح رأسه و رجليه ببقية البلل».

و يقتضيه إطلاق غير واحد من نصوص المقام.

و دعوي: انصرافها عن الفرض، لندرته.

ممنوعة صغرويا و كبرويا، و لا سيما في أعضاء المسح، لصغر مساحتها.

و منه يظهر الاشكال فيما عن البيان من لزوم التيمم في الجرح المستوعب للعضو. نعم، لو كان الجرح مكشوفا أشكل دخوله في إطلاق صحيحي الحلبي و ابن سنان «1»، لأن الأمر بغسل ما حول الجرح ظاهر في فرض عدم استيعابه- كما نبه له في الجواهر.

و دعوي: أن لازم ذلك قصوره عن الجرح الذي يكون في طرف العضو، أو الدائر في الذراع بحيث ينقطع ما قبله عما بعده، و حيث لا إشكال في عموم حكمه لذلك، لفهم عدم خصوصية مورد النص، يتعين البناء علي العموم

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2، 3.

ص: 441

أما إذا كانت مستوعبة لتمام الأعضاء فجريان الحكم المتقدم فيها لا يخلو عن إشكال (1)،

______________________________

للمستوعب للعضو.

مدفوعة: بأن فهم عدم الخصوصية في الجملة لا يستلزم الظهور في الإطلاق بنحو يشمل المستوعب للعضو، و ما لو كان المقدار المتروك كثيرا، بحيث يكون هو المحيط بالمقدار الصحيح.

و تنقيح المناط فيه غير ظاهر، لكون الاجتزاء بالناقص تعبديا لا عرفيا، و دخل قلة المتعذر فيه غير بعيد في نفسه.

كما لا مجال لاستفادته من إطلاق نصوص المسح علي الجبائر، بدعوي:

إلغاء خصوصية موردها عرفا بالإضافة إلي سقوط غسل تمام العضو المؤوف، و إن اختصت بوجوب المسح علي الجبيرة في ظرف وجودها.

لاندفاعها: بإمكان خصوصية موردها بلحاظ فرض وجود البدل، و هو الجبيرة.

نعم، لو أمكن وضع جبيرة عليه دخل في إطلاقها. لكنه موقوف علي كون طبيعة الجرح و نحوه مقتضية لوضع ذلك الشي ء بحيث يصدق عليه الجبيرة و عصابة القرحة و نحوها مما يستفاد من النصوص، أما مجرد وضع شي ء لأجل الوضوء فهو لا يكفي في الدخول تحت الإطلاق. بل مقتضي عموم مشروعية التيمم عند تعذر الطهارة المائية هو الانتقال إليه في ذلك، و فيما لو تعذر وضع شي ء علي الجرح.

لكن لا بد من فرض تمامية التيمم، أما لو تعذر أيضا لتعذر المسح علي بعض أعضائه بسبب الجرح كان المورد من موارد فقد الطهورين، و إن كان الاحتياط فيه لازما، لقرب ابتناء الوضوء علي الميسور. بل لأجل ذلك لا يبعد لزوم الاحتياط بالجمع بين الوضوء و التيمم لو فرض إمكان التيمم التام أيضا.

(1) قال في محكي الذكري: «لو عمت الجبائر أو الدواء الأعضاء مسح

ص: 442

فلا يترك الاحتياط الوجوبي فيها بالجمع بين وضوء الجبيرة و التيمم (1). و كذلك الجبيرة النجسة (2) التي لا تصلح أن يمسح عليها.

______________________________

علي الجميع، و لو تضرر بالمسح تيمم». و قد تقدم من التذكرة فرض استيعاب الجبيرة لجميع أعضاء الغسل، بل لعله مقتضي إطلاق غير واحد، و إن لم يبعد انصراف أو قصور إطلاق غير واحد عنه أيضا.

و أما النصوص فليس فيها ما يشمل إطلاقه ذلك عدا صحيح كليب: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال: إن كان يتخوف علي نفسه فليمسح علي جبائره، و ليصل» «1». و مرسل العياشي «2».

فما ذكره غير واحد من قصور النصوص عنه غير ظاهر. و كأن منشأه استبعاد شمول الحكم للفرض. لكن لا مجال له في التعبديات.

بل ادعي شيخنا الأعظم قدّس سرّه تنقيح المناط في الفرض لو فرض قصور الإطلاق، و إن لم يكن بذلك الوضوح.

علي أنه لا مجال للخروج بمحض الاستبعاد عن الإطلاق، كيف و الاستبعاد وارد فيما لو كان المؤوف أكثر من الصحيح أو مساويا له، بل لا يكون المسح علي الجبيرة قريبا للذوق إلا إذا كان موضعها صغيرا لا يعتد به عرفا، مع وضوح عدم البناء علي التقيد بذلك لإطلاق النصوص.

(1) هذا موقوف علي إمكان تحصيل التيمم بمباشرة تمام الأعضاء أو بعضها، و إلا فالتيمم الجبيري المستوعب لا يحتمل أولويته من الوضوء الجبيري المستوعب. بل الاحتياط حينئذ بإجراء حكم فاقد الطهورين.

و مما تقدم يظهر أن الاحتياط المذكور استحبابي لا وجوبي.

(2) ظاهره إلحاقها بما سبق في وجوب الجمع بين المسح عليها و التيمم،

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 11.

ص: 443

______________________________

و إن لم يناسب فرض عدم صلوح الجبيرة النجسة لأن يمسح عليها.

و كيف كان، فالكلام.

تارة: فيما لو أمكن المسح علي الجبيرة الطاهرة بتبديلها أو تطهيرها أو وضع طاهر عليها، و المسح عليه.

و اخري: فيما لو تعذر ذلك.

أما الأول: فسيأتي.

و أما الثاني: فالأمر فيه دائر بين المسح عليها، و الاكتفاء بغسل ما حولها، و الانتقال للتيمم.

و يستدل للأول بإطلاق أدلة المسح علي الجبيرة، فإنه و إن لزم تقييده بما إذا كانت طاهرة، للإجماع، إلا أن المتيقن منه صورة القدرة علي ذلك.

و يشكل: بأن الظاهر من حال المجمعين عدم الفرق بين القدرة و التعذر في اعتبار الطهارة الخبثية في صحة الطهارة الحدثية، و لذا لا إشكال عندهم في اعتبارها مع تعذر تطهير البشرة في غير مورد الجبيرة مع إطلاق وجوب غسل البشرة كوجوب مسح الجبيرة، فإن كان إجماعهم حجة- كما هو الظاهر- تعين تقييد إطلاق دليل مسح الجبيرة بنحو يقتضي تعذره في المقام، كما يتعذر غسل البشرة مع نجاستها في غير مورد الجبيرة، و إلا لزم جواز مسح الجبيرة النجسة اختيارا و جواز غسل البشرة النجسة في غير مورد الجبيرة، لإطلاق دليليهما.

و أما الثاني فقد يستدل له بإطلاق غسل ما حول الجرح في صحيحي الحلبي و ابن سنان «1»، المقتصر في تقييده بالمسح علي الجبيرة علي ما إذا كانت طاهرة.

و يشكل: بأن تقييد المسح علي الجبيرة بما إذا كانت طاهرة راجع إلي كون الطهارة شرطا في صحة المسح، لا في وجوبه و جزئيته من الوضوء، و لذا لا إشكال ظاهرا في وجوب تطهير الجبيرة مع القدرة، فمع تعذر المسح علي الجبيرة الطاهرة في المقام يتعذر الجزء، و لا يخرج عن كونه جزءا، ليصح الوضوء بدونه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2، 3.

ص: 444

نعم، لو يضع عليها جبيرة (1) و يمسح عليها أجزأ (2).

______________________________

فالظاهر أن دليل القول المذكور منحصر بقاعدة الميسور بعد فرض مانعية النجاسة من المسح علي الجبيرة في المقام.

و حيث تقدم غير مرة عدم تمامية القاعدة، خصوصا في أمثال المقام، مما كان التعذر في جزء سبب الواجب، لا في جزء الواجب نفسه كان المتعين هو الثالث، عملا بعموم مشروعية التيمم عند تعذر الطهارة المائية الذي يكفي فيه تعذر بعض أجزائها. و مثله ما لو كان المانع من المسح علي الجبيرة أمرا آخر غير النجاسة، كالضرر.

(1) يعني: طاهرة، و مثله ما لو طهرها أو أبدلها بجبيرة طاهرة.

(2) لإطلاق دليل المسح علي الجبيرة. نعم، لو لم يعد الأمر المجعول علي الجبيرة جزءا منها عرفا لم يجز المسح عليه، و كان من صغريات تعذر المسح علي الجبيرة الطاهرة.

كما أنه لو فرض نزع الجبيرة بحيث يصير المورد من صغريات الجرح المكشوف اجتزأ بمسح ما حوله، لإطلاق صحيحي الحلبي و ابن سنان، نظير ما تقدم في المسألة الخامسة و الثلاثين.

و مما ذكرنا يظهر أنه لو تعذر الوضوء مع نزع الجبيرة وجب مع الإمكان تحصيل المسح علي الجبيرة الطاهرة بتطهير الجبيرة في الفرض، أو تبديلها، أو إضافة طاهر إليها يعد جزءا منها، لكونه جزءا من الوضوء الواجب في فرض وجود الجبيرة.

و لعله إليه يرجع ما في جامع المقاصد و الروض و المدارك، و عن التذكرة و الشهيد من وجوب وضع طاهر عليها و المسح عليه، بل في المدارك أنه لا خلاف فيه.

و إن أرادوا الاكتفاء بمسح الطاهر الموضوع عليها و إن لم يعد جزءا منها عرفا

ص: 445

مسألة 38): لا فرق في ثبوت حكم الجبيرة بين الوضوء و الغسل

(مسألة 38): لا فرق في ثبوت حكم الجبيرة بين الوضوء و الغسل (1).

______________________________

كان خاليا عن الدليل، بل مع الانحصار به يكون المقام من صغريات تعذر المسح علي الجبيرة الطاهرة، الذي تقدم فيه الوجوه الثلاثة، من وجوب المسح علي الجبيرة النجسة، و الاكتفاء بغسل ما حولها، و الانتقال للتيمم.

و لعله لذا حكي عن بعضهم الأول، و عن الذكري احتمال الثاني، و قرّبه شيخنا الأعظم قدّس سرّه. و عن شرح المفاتيح احتمال الثالث، و هو الأظهر.

(1) كما هو ظاهر المعتبر و غيره، بل صريح بعضهم، و في المنتهي: «و هو قول عامة العلماء».

و يقتضيه إطلاق صحيح كليب «1»، المتضمن المسح علي الجبائر، و صحيحي الحلبي و ابن سنان «2» المتضمنين مسح ما حول الجرح، و صريح صحيح عبد الرحمن بن الحجاج «3» المتضمن غسل ما ظهر مما ليس عليه الجبائر، و مرسل العياشي «4» المتضمن المسح علي الجبائر.

و قد تقدم في أول الكلام في الجبائر أنه لا مجال للجمع بين نصوصها و نصوص تيمم الكسير و الجريح و نحوهما بحمل الأولي علي الوضوء، و الثانية علي الغسل.

هذا، و قد ذكر غير واحد جريان حكم الجبيرة في التيمم، و في الجواهر: «بلا خلاف أعرفه فيه»، و عن غيرها دعوي الاتفاق عليه. لكن كلام جماعة كثيرة خال

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 8. و قد تقدم في المسألة السابعة و الثلاثين.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2، 3. و قد تقدم الثاني في أوائل الفصل عند الكلام في تعذر غسل ما تحت الجبيرة لنجاسته.

(3) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 1. و قد تقدم في أوائل هذا الفصل.

(4) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 11.

ص: 446

______________________________

عن التعرض له، و لا يبعد ابتناء دعوي الاتفاق علي فهم عدم الخصوصية للوضوء و الغسل في كلماتهم.

كما قد يدعي ذلك في النصوص أيضا، فعن الحدائق أن المستفاد من عموم الأخبار بدلية الجبيرة عن البشرة من دون فرق بين الطهارات الثلاث. إلا أنه- و إن كان قريبا في نفسه- ليس بحد يوجب ظهور النصوص في العموم بنحو ينهض بالاستدلال.

و مثله الاستدلال بقاعدة الميسور، و عموم التعليل بدليل الحرج في رواية عبد الأعلي المتضمنة للمسح علي المرارة «1»، و استصحاب دليل التيمم.

لما تكرر منا من عدم تمامية القاعدة، خصوصا في أمثال المقام حيث يكون الواجب- و هو الطهارة- بسيطا و التركيب في سببه.

كما أنه تقدم في المسألة السادسة و الثلاثين أن رواية عبد الأعلي واردة لبيان مسقطية الحرج بعد الفراغ عن قابلية الارتباطية للإسقاط في الجملة، لا لبيان سقوط الارتباطية بالحرج، ليمكن التعدي عن موردها.

و أما الإشكال فيها و في القاعدة: بأنهما إنما يقتضيان سقوط مسح البشرة لا بدلية مسح الجبيرة عنه، لأنه ليس ميسورا له عرفا، و لأن دليل الحرج رافع لا مثبت.

فهو غير مهم، لأنه يكفي في وجوب مسح الجبيرة قاعدة الاشتغال بالطهارة بعد فرض التكليف بها و القدرة عليها بمقتضي الرواية و القاعدة.

و أما الاستصحاب فهو مبني علي جريان الاستصحاب عند تعذر بعض أجزاء الواجب الارتباطي، و هو ممنوع، كما حرر في الأصول.

علي أنه يشكل في المقام بعدم التركيب في نفس الواجب- و هو الطهارة- بل في سببه، فالشك في حصول الواجب لا في بقاء وجوبه بلحاظ تيسر من أجزائه، و بأن وجود الجبيرة قد يكون قبل وجوب الطهارة و تعذر الطهارة المائية، فلا يقين بوجوب التيمم سابقا، إلا بنحو القضية التعليقية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 447

______________________________

هذا، و قد أشار سيدنا المصنف قدّس سرّه إلي الاستدلال بصحيح الوشاء: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الدواء إذا كان علي يدي الرجل أ يجزيه أن يمسح علي طلي الدواء؟ فقال: نعم، يجزيه أن يمسح عليه» «1» فان إطلاقه شامل للتيمم.

و استشكل فيه بقرب اتحاده مع صحيحه الآخر المتضمن لقوله: «أ يجزيه أن يمسح في الوضوء علي الدواء المطلي عليه» «2».

و هو في محله لتقارب مضمونهما، و اتحادهما في الإمام المروي عنه و الراوي و بعض رجال السند، فيقرب جدا كون منشأ الاختلاف بينهما النقل بالمعني، فلا وثوق بإطلاق الأول.

فالعمدة في المقام إطلاق صحيح كليب، فإنه كما يشمل الغسل يشمل التيمم، حيث أطلق فيه السؤال عن وظيفة الكسير في الصلاة من دون تقييد بالوضوء. و هو كاف في البناء علي مشروعية التيمم الجبيري، و لا سيما مع تأيده بما عرفت.

و منه يظهر أنه لا مجال لتوهم عدم مشروعية الطهارة المائية الجبيرية و مشروعية التيمم الجبيري لو كان الحائل في أعضاء التيمم لا غير.

لأن دليل مشروعية التيمم الجبيري لما كان هو الإطلاق الذي هو دليل علي مشروعية الطهارة المائية الجبيرية أيضا كان موضوع كل منهما مساويا لموضوع الآخر، مع تأخر التيمم الجبيري رتبة عنها تبعا لتأخر مبدله عن مبدلها، فكل مورد يحتمل فيه مشروعية الطهارة الجبيرية لا يكون التيمم الجبيري فيه مشروعا مع القدرة علي الطهارة المائية الجبيرية، فاذا احتمل عدم مشروعيتها يكون مقتضي الاحتياط إجراء حكم فاقد الطهورين، لا التيمم الجبيري.

و الاحتياط بالجمع بين التيمم و الطهارة المائية الجبيرية مختص بما إذا تيسر التيمم التام، أو كانت الطهارة المائية الجبيرية مقارنة لنقص زائد علي نقص التيمم الجبيري. هذا، و يأتي في المسألة الواحدة و الثلاثين في فصل شروط التيمم ما ينفع في المقام.

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 10.

ص: 448

مسألة 39 لو كانت الجبيرة علي العضو الماسح مسح ببلتها

(مسألة 39): لو كانت الجبيرة علي العضو الماسح مسح ببلتها (1).

______________________________

(1) كما هو مقتضي ما تقدم في المسألة السابعة و الثلاثين عن التذكرة من فرض استيعاب الجبيرة لجميع أعضاء الغسل، و يظهر من سكوتهم عن التنبيه عليه عند التعرض للجرح المستوعب للعضو المفروغية عنه.

و يقتضيه إطلاق ما تضمن وجوب المسح ببلة الوضوء، لوضوح أن بلة الجبيرة التي علي الماسح من بلة الوضوء.

نعم، قد يشكل بأن الواجب هو المسح بما بقي في اليد من بلة الوضوء، و بلل الجبيرة ليس باقيا في اليد.

بل يشكل في خصوص المسح باليمني بأن المعتبر هو المسح بما يبقي فيها من ماء غسلها أو غسل اليسري، لا ما يبقي في آلة غسل اليسري و لو كانت الآلة خرقة أجنبية، فجواز المسح ببلة الجبيرة موقوف علي ثبوت تنزيل الجبيرة منزلة نفس اليد في ذلك، و لا دليل عليه، لاختصاص أدلة الجبائر ببدلية المسح عليها عن غسل ما تحتها.

و لعله لذا أمر بالتأمل في الجواهر بعد استظهار جواز المسح ببلة الجبيرة.

اللهم إلا أن يقال: لا دليل علي التقييد ببلة اليد إلا صحيح ابن أذينة الوارد في قضية المعراج، المتضمن لقوله: «ثمَّ امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء.» و حيث كان واردا في قضية خاصة فلا إطلاق له يشمل صورة وجود الجبيرة و حملها لماء الوضوء.

علي أنه لا يبعد استفادة ذلك من نصوص المقام تبعا، للغفلة عن ذلك بعد الاطلاع علي الاجتزاء بمسح الجبيرة عن غسل ما تحتها، لأن الاهتمام بمباشرة المغسول أشد من الاهتمام بمباشرة الماسح ارتكازا، فالتسامح في الأول مع كثرة

ص: 449

مسألة 40 الأرمد إن كان يضره استعمال الماء تيمم

(مسألة 40): الأرمد إن كان يضره استعمال الماء تيمم (1)، و إن أمكن غسل ما حول العين فالأحوط وجوبا له الجمع بين الوضوء و التيمم. (2)

______________________________

استلزامه للثاني موجب لاستفادته منه تبعا، بنحو يحتاج خلافه للتنبيه. و لعل إغفال الأصحاب ذلك و مفروغيتهم عنه ناشئان من ذلك.

نعم، لو فرض عدم استيعاب الجبيرة للكف و إمكان المسح بالبشرة فلا ينبغي ترك الاحتياط به، لخروجه عن المتيقن مما سبق. فلاحظ.

(1) لعموم ما دل علي وجوب التيمم بتعذر الطهارة المائية و ما دل علي مشروعيته للمريض.

(2) صرح في مفتاح الكرامة بوجوب التيمم في المرض غير الكسر و الجرح و القرح، و عدم الاكتفاء بغسل ما حوله.

قال: «لفقد ما يدل علي كونه مثل الجبيرة من النص و الإجماع، بل ظاهر الأصحاب التيمم، كما في شرح المفاتيح.».

و كأن منشأ فهم ذلك من الأصحاب حكمهم بعدم تبعض الطهارة، و هو لا يخلو عن إشكال، إذ قد يكون ذلك منهم لبيان وجوب المسح علي حائل في الموضع الذي يضره الماء، و أن التيمم إنما يشرع مع تعذر ذلك، لا لاختصاص حكم الجبيرة بالكسر و القرح و الجرح.

بل قد يظهر من بعض كلماتهم أن المدار علي مطلق التعذر، بل تقدم في الجرح المكشوف عن الوحيد أن الأصحاب ألحقوا بالجرح الكسر المجرد عن الجبيرة و كلّ داء في العضو لا يمكن إيصال الماء إليه.

و كيف كان فمقتضي الارتباطية هو تعذر الطهارة المائية بتعذر بعض أجزائها، فيجب التيمم. و لا مخرج عن ذلك إلا قاعدة الميسور، و نصوص المقام.

ص: 450

______________________________

و قد تكرر منا الإشكال في تمامية القاعدة و لا سيما في أمثال المقام مما كان الواجب بسيطا و التركب في سببه.

و نصوص المقام مختصة بالكسر و الجرح و القرح، و لا عموم فيها لكل آفة.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال للجمود علي العناوين الموجودة في النصوص، فان مقتضي إطلاق صحيحي الوشاء «1» جواز المسح علي الدواء سواء وضع علي كسر أم قرح أم جرح أم ألم أم غيرها حتي العين المؤوفة، كما أن مقتضي رواية عبد الأعلي «2» جواز المسح علي المرارة و إن كانت علي الإصبع بعد برء الجرح، لأجل التوقي عليه من الاحتكاك.

و التفكيك في تشريع الوضوء الناقص بين صورتي وجود الحاجب الذي يمسح عليه و عدمه صعب جدا، بالنظر لصحيحي الحلبي و ابن سنان «3» المتضمنين لغسل ما حول الجرح، الشامل لصورتي كشفه و تعصيبه، لصعوبة الاقتصار في صورة الانكشاف علي الجرح و لا يتعدي حتي للقرح، لإلغاء خصوصيته بعد النظر في نصوص الجبائر و القرحة و الدواء و المرارة.

بل المفهوم من مجموع النصوص عرفا أن تعذر غسل بعض المواضع لآفة فيه لا يسقط الميسور، غايته انه مع وجود الحاجب يمسح عليه بدلا عما تحته، و في صورة عدمه يكتفي بغسل ما حوله، و الخصوصيات المذكورة في النصوص ملغية عرفا، كخصوصية المرارة و سقوط الظفر، و الدواء، و اليد و نحوها. و قد تقدم في الجرح المكشوف بعض الكلام في ذلك.

و من هنا فالاكتفاء بالوضوء الناقص في كل آفة لا يخلو عن قوة، و إن كان الاحتياط بضم التيمم حسنا، و لا سيما مع انكشاف موضع الآفة غير الجرح، بل

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 9، 10. و قد تقدم أحدهما في المسألة السادسة و الثلاثين.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2، 3.

ص: 451

مسألة 41 إذا برئ ذو الجبيرة في ضيق الوقت أجزأ وضوؤه

(مسألة 41): إذا برئ ذو الجبيرة في ضيق الوقت (1) أجزأ وضوؤه (2)، سواء برئ في أثناء الوضوء أم بعده قبل الصلاة أم في أثنائها أم بعدها (3). نعم، عليه إعادته لغير ذات الوقت. (4)

______________________________

ربما يدعي لزومه حينئذ.

نعم، قد يستشكل في خصوص بعض أمراض العين مما كان محله نفس العين التي لا تغسل لا الجفن الذي يغسل، إذ حيث كانا متباينين عرفا- لا كموضع الكسر من البشرة- فالتعدي له محتاج إلي توسع في مفاد الأدلة لا ينهض به ما سبق، بل هو نظير ما لو أضر الماء بأطراف الجرح أكثر من المتعارف، الذي يأتي الكلام فيه في المسألة الخامسة و الأربعين إن شاء اللّه تعالي.

(1) يعني: بنحو لا يسع إعادة الوضوء و الصلاة.

(2) كما هو المتيقن من الإطلاق المقامي لدليل مشروعيته- علي ما يأتي توضيحه. و قرينة الاضطرار لا تصلح لإخراجه عن إطلاق دليل المشروعية بعد فرض تحققه في المقام بسبب ضيق الوقت.

و كأن ما يأتي من بعضهم من إطلاق وجوب إعادة الوضوء بعد زوال الحائل قاصر عن هذه الصورة، و إلا كان مدفوعا بما ذكرنا.

و منه يظهر أنه يجب إيقاع الوضوء الجبيري مع العلم بتحقق البرء في ضيق الوقت بنحو لا يسع الوضوء و الصلاة، و لا يجوز انتظار البرء.

(3) هذا هو المتيقن من معقد الإجماع المدعي في المنتهي و المستند و عن شرح المفاتيح علي عدم إعادة الصلاة التي صلاها بالوضوء المذكور.

(4) فقد أوجب في المبسوط و محكي الإيضاح و شرح المفاتيح إعادة الوضوء بعد زوال العذر، و جعله في المعتبر أشبه، و في كشف اللثام أقوي. و في جامع المقاصد و المدارك و عن المختلف و الذكري و الدروس و البيان أنه لا يستأنف. و تردد في الشرائع و المنتهي و القواعد و محكي التذكرة.

ص: 452

______________________________

مع الإجماع من الكل علي عدم إعادة الصلاة التي صلاها بالوضوء المذكور، كما تقدم من المنتهي و عن غيره.

و العمدة في توجيه وجوب التدارك في الوضوء و الصلاة: أن الجمود علي مدلول النصوص و إن كان يقتضي مشروعية الوضوء الجبيري بمجرد تعذر الوضوء التام حين العمل، إلا أنه لما كان المنساق من دليل تشريع الوضوء المذكور كونه اضطراريا لتعذر الصلاة بالوضوء التام أشكل شمول إطلاقه لصورة وجود المندوحة و القدرة علي الوضوء التام و لو في آخر الوقت، بل يتعين الاقتصار علي المتيقن منه، و هو صورة عدم المندوحة، و الجهة المذكورة ارتكازية يمكن اعتماد المتكلم عليها في مقام البيان.

نعم، لو فرض كثرة الابتلاء بالبرء بعد العمل في الوقت و الغفلة عن تداركه مع الإمكان كان عدم التنبيه عليه في النصوص ظاهرا في صحة العمل.

لكنه ليس كذلك، لغلبة توقع البرء. و عدم المبادرة للوضوء الناقص معه بسبب ارتكاز كونه اضطراريا لا يكتفي به مع التمكن من التام.

و لو فرض الخطأ في ذلك و المبادرة للعمل الناقص فلم يعلم من حال المكلفين الغفلة عن التدارك مع الالتفات للحال، و كذا لو حصل البرء بعد خروج الوقت بالإضافة للصلوات اللاحقة، بل لعل مبناهم علي الاستئناف لأجل الارتكاز المذكور. و لا أقل من كون القرينة المذكورة مانعة من انعقاد الإطلاق و موجبة لإجمال الأدلة من هذه الجهة، فيلزم الاقتصار في دليل المشروعية علي المتيقن، و هو صورة عدم المندوحة.

و مقتضي ذلك انكشاف عدم صحة الصلاة لو حصل البرء في سعة الوقت، لعدم مشروعية الوضوء، فيجب إعادتها لعدم صحتها، لا لعدم أجزائها في ظرف صحتها و مشروعيتها.

و منه يظهر أنه لا مجال لدعوي: أن عدم الاجزاء في الفرض مخالف للإطلاق المقامي لأدلة تشريع الوضوء الجبيري و سائر الأفعال الاضطرارية، فإنه

ص: 453

______________________________

و إن أمكن عقلا عدم إجزاء العمل الاضطراري عن الاختياري، لعدم وفائه بملاكه، مع إمكان استيفائه بالتدارك بعد ارتفاع العذر، إلا أن عدم التنبيه علي التدارك مع الغفلة عنه موجب لظهور دليل المشروعية تبعا في عدم وجوبه، و لا سيما مع ظهور حال السائلين في الاهتمام بتحصيل ما يبرئ الذمة.

لاندفاعها: بأن الإطلاق المقامي إنما يتم في فرض عموم دليل مشروعية العمل الاضطراري للمأتي به، لا مع فرض قصوره عنه، لاختصاصه بقرينة الاضطرار بصورة عدم المندوحة، و المفروض انكشاف وجودها بسبب البرء في سعة الوقت.

إن قلت: هذا إنما يتم إذا أوقع المكلف الوضوء في وقت تلك الصلاة، أما إذا أوقعه في وقت صلاة سابقة لم يحصل البرء في تمام وقتها- كما هو المفروض في المتن- فقد صح الوضوء، فتصح الصلاة اللاحقة به.

قلت: مقتضي الجمع بن دليلي الوضوء الاختياري و الاضطراري هو كون الوضوء الاضطراري محصلا لبعض مراتب الطهارة و الاختياري محصلا لتمامها، فلا وجه للاكتفاء بالصلاة بالطهارة الناقصة مع إمكان تحصيل الصلاة بالطهارة التامة، لإطلاق دليل وجوبها المقتصر في الخروج عنه علي حال الضرورة و تعذر تحصيلها بمقتضي كون البدلية اضطرارية- كما تقدم نظيره عند الكلام في إجزاء العمل الواقع تقية في المسألة الثانية و الثلاثين من الفصل السابق- فلا تكون الصلاة بالوضوء المذكور مشروعة حين إيقاعها كي يكون مقتضي الإطلاق المقامي إجزاءها.

و أما ظهور تسالم الأصحاب علي صحة الصلاة، لعدم تحريرهم النزاع إلا في وجوب إعادة الوضوء مع تصريح غير واحد منهم بصحة الصلاة، كالشيخ و الفاضلين و غيرهم، بل تقدم من المنتهي و غيره دعوي الإجماع عليه.

فهو- لو فرض عمومه لصورة البرء في سعة الوقت، كما صرح به في المستند، و عدم إرادتهم الاجزاء في الجملة في قبال قول بعض العامة بوجوب

ص: 454

______________________________

الإعادة مطلقا- غير ظاهر الحجية، لعدم وضوح كونه إجماعا تعبديا، بل من القريب استناده لما تقدم من ظهور دليل تشريع الفعل الاضطراري في إجزائه، كما يناسبه تعليله في المعتبر بأنها صلاة مأمور بها، فتكون مجزية، فلا يعول عليه مع ما تقدم من خروج الفرض عن المتيقن من دليل المشروعية.

هذا، و لكن لازم ذلك عدم مشروعية إيقاع الغايات الموسعة بالوضوء أو الغسل الجبيري، كمس الكتاب المجيد و دخول المسجد و قراءة العزائم و قضاء الصوم و نحوها، لعدم الاضطرار.

بل يشكل إيقاع الغايات المضيقة إذا كانت المرتبة الفائتة من الطهارة الاختيارية أهم من الوقت، إذ كما تشرع الطهارة الجبيرية بالاضطرار، كذلك يشرع ترك الأداء و انتظار القضاء مع الاضطرار، فيلزم تقديم الأهم جعلا و امتثالا.

بل يكفي في ذلك احتمال الأهمية، لعدم اليقين معه بمشروعية الناقص، ليجزي بمقتضي الإطلاق المقامي المفروض.

و منه يظهر اندفاع توهم أن استحباب الكون في المسجد و قراءة جميع القرآن حتي العزائم موجب لتحقق الاضطرار المشرع للغسل الجبيري، كما يشرعه استحباب قراءة القرآن عن طهارة في كل وقت، و استحباب الصلاة علي كل حال.

وجه الاندفاع: أن الاستحباب لا يصلح لمزاحمة حرمة دخول الجنب للمساجد و قراءته للعزائم، لعدم نهوض الحكم غير الإلزامي بمزاحمة التكليف الإلزامي، و لذا تقدم عدم مشروعية الوضوء الجبيري المتعقب للبرء في سعة الوقت مع استحباب المبادرة للصلاة.

إذا عرفت هذا، فمن الظاهر عدم إمكان البناء علي ذلك، لظهور تسالم الأصحاب علي مشروعية جميع الغايات، كما يستفاد من سكوتهم عن ذلك، مع شدة الحاجة للتنبيه عليه، بل هو المستفاد من الإطلاق المقامي لأدلة تشريع الوضوء و الغسل الجبيري، لظهور حال السائل و المجيب في إرادة الطهارة التي تترتب عليها الأحكام المعهودة، و لا مجال لحملها علي خصوص الاضطرار لإيقاع

ص: 455

______________________________

الغايات بالطهارة الناقصة و تعذر الانتظار بها إلي تيسر الطهارة التامة، لاحتياج ذلك للتنبيه. و التفكيك بين الغايات في ذلك لا وجه له.

علي أن المرتكز أن الوضوء أو الغسل الجبيري لا ينتقض إلا بالنواقض المعهودة، فلو كان التدارك واجبا بارتفاع العذر لاحتاج للتنبيه، كما نبه لانتقاض التيمم بوجدان الماء، مع أنه أبعد عن الغفلة، لأن مطهريته أبعد ارتكازا، و اختصاصه بالاضطرار أظهر من الاختصاص في المقام.

بل لو فرض عدم الغفلة عن وجوب التدارك بالإضافة إلي الوضوء، لغلبة سرعة انتقاضه بالحدث و قلة بقائه بعد تحقق البرء، فلا مجال لدعوي ذلك بالإضافة إلي غسل الجنابة، فعدم التنبيه فيه للتدارك ظاهر في عدم وجوبه فيه و لا في الوضوء، لكشف ذلك عن كون الاضطرار المصحح لإيقاع الطهارة الجبيرية عبارة عن عدم تيسر الطهارة حينه، الحاصل في جميع الفروض، لا الاضطرار لإيقاع ذي الغاية بها.

و منه يظهر أن الطهارة التي هي قيد في الغايات ليست خصوص الطهارة الحاصلة بالعمل التام، بل ما يعم الطهارة الحاصلة مع الجبيرة، إما لعدم اختلاف الطهارة في المرتبة، أو لأن الواجب هو المرتبة الأقل منهما، كما هو المناسب، لارتكاز كون العمل الجبيري من سنخ الميسور، و إنما اكتفي بالأقل تخفيفا و تسهيلا علي المكلفين.

و الحاصل: أن البناء علي عدم انتقاض الطهارة الجبيرية و جواز إيقاع الغايات الآخر بها قريب جدا، و هو الحال في سائر الابدال الاضطرارية التي استفيدت من الأدلة اللفظية التي لها إطلاق خطابي أو مقامي يقتضي الاجزاء و الصحة.

نعم، لو كان الدليل منحصرا بالإجماع و نحوه من الأدلة اللبية كان الاقتصار علي المتيقن منها في محله.

إن قلت: في فرض إمكان تحصيل الواجب التام في الوقت و تعذره عند

ص: 456

______________________________

إرادة الوضوء للحاجة للجبيرة إن كان ملاك التكليف بالتام موجودا امتنع تشريع الناقص، لاستلزامه تفويت الملاك المذكور.

و إن لم يكن موجودا كان العمل الاضطراري في عرض الاختياري لا في طوله، و يكون دليله مخصصا لعموم دليله، لقصور ملاك كل منهما عن حال وجود ملاك الآخر، كالقصر و التمام، و لازم ذلك عدم مشروعية الواجب الاختياري في ظرف مشروعية الاضطراري، فلا يجزي لو أتي به جهلا بتحقق موضوع الاضطراري، و هو خلاف ما تقدم في المسألة الثالثة و الثلاثين من الفصل السابق عند الكلام في مخالفة التقية في موردها. بل هو خلاف ارتكاز نقص العمل الاضطراري.

و لذا قيل بعدم جواز إيقاع النفس في العذر، لاستلزامه تفويت الواجب التام. بل لعله لا إشكال في وجوب تحصيل الواجب الاختياري لو تمكن من رفع العذر في الوقت، مع استلزامه غالبا التأخير، فلو كان موضوع مشروعية الاضطراري المحقق لملاكه و الرافع لملاك الاختياري مجرد عدم تيسر الاختياري حين إرادة العمل لم يكن ذلك واجبا، كما لا يجب الرجوع للوطن في الوقت لتحصيل التمام.

قلت: ملاك التام موجود حين تشريع الناقص، لكن لا بنحو يقتضي فعلية التكليف به و يجب حفظه، بل بنحو يصلح لأن يمتثل و يحصل به تمام الغرض، و إن كان حدوث موضوع الناقص مانعا من وجوب حفظه، نظير وجود ملاك التكليف الأولي في مورد الحرج.

و مجرد عدم وجوب حفظ ملاك التام حين فعلية الناقص لا يستلزم كونه في عرضه، بل إن كان عدم فعلية أحد التكليفين حين حدوث الآخر لعدم تمامية ملاكه حينه كان في عرضه كالقصر مع التمام، و إن كان لوجود المانع الخارجي من الإلزام باستيفائه، كالتعذر أو التقية أو التسهيل و غيرها مما لا يخل بوجوده، كان في طوله، و أمكن استيفاؤه. و تعيين أحد القسمين تابع لنظر الفقيه في الجمع بين دليليهما.

ص: 457

______________________________

و منه يظهر أنه لا مانع من إيقاع النفس في العذر الشرعي، كالحرج و نحوه في فرض عموم دليل معذريته لما يستند لاختيار المكلف.

نعم، لو اختصت معذريته بغيره امتنع الفرض المذكور، كما يمتنع في العذر العقلي- و هو التعذر الحقيقي- لذلك.

و أما وجوب تحصيل الواجب الاختياري لو تمكن من رفع العذر، فهو- لو تمَّ، فيجب التداوي مثلا لرفع إضرار الماء- لا يستلزم كون الموضوع التعذر في تمام الوقت، بل قد يكون لاختصاص دليل، عذرية العذر و مشروعية الناقص معه بما إذا لم يتمكن المكلف من رفعه لتيسر مقدماته، فإذا خرج رفعه عن اختياره كان عذرا شرعا، و إن كان مرتفعا بنفسه في آخر الوقت.

و بعبارة أخري: المتبع في موضوع التكليف الطولي الذي لا يجتمع مع التكليف الأولي في الامتثال سعة و ضيقا هو دليله، و هو.

تارة: يقتضي تشريعه في ظرف فعلية التكليف الأولي، لتمامية ملاكه بنحو يجب حفظه، كالتكليف بالمهم في ظرف فعلية التكليف بضده الأهم بنحو الترتب.

و اخري: يقتضي تشريعه في ظرف سقوط التكليف الأولي عقلا للتعذر في تمام الوقت، فلا يجوز إيقاع النفس في العذر، و يجب رفعه مع القدرة عليه.

و ثالثة: يقتضي تشريعه مع سقوط التكليف و لو شرعا، لعذر شرعي من حرج و نحوه، و إن تمَّ ملاكه و أمكن استيفاؤه.

و المتعين في المقام الثالث، تبعا لظاهر الأدلة، الذي لا تنهض قرينة الاضطرار بالخروج عنه، بلحاظ بعض اللوازم المتقدمة. نعم، لا بد من الرجوع للأدلة في تحديد سعة العذر و ضيقه من حيثية إمكان الرفع و غيره.

هذا، و ربما بني النزاع في المقام علي النزاع في كون الوضوء الجبيري رافعا للحدث، و كونه مبيحا. فعلي الأول يتجه عدم الاستئناف، لاستصحاب الطهارة، بل لعموم ما دل علي عدم نقض الوضوء إلا بالأحداث المعهودة. و علي الثاني يتعين الاستئناف، لخروج الصلاة التي يرتفع العذر في وقتها عما هو المتيقن من

ص: 458

______________________________

الاستباحة بهذا الوضوء.

و يشكل بأن كون الوضوء المذكور رافعا للحدث لا ينفع مع فرض قصور دليل تشريعه عن صورة البرء في سعة الوقت، و قصور دليل إجزاء الصلاة به- في فرض مشروعيته لوقوعه لصلاة سابقة استوعب العذر وقتها- عن صورة إمكان تحصيل الصلاة في الوقت بطهارة تامة، لأن رفعه للحدث إنما يتم و ينفع مع مشروعيته و عدم التكليف بالصلاة بطهارة تامة.

كما أنه لو فرض عموم مشروعيته و عدم التكليف بالصلاة التامة حينئذ أمكن الاستغناء به و إن كان مبيحا، لظهور دليل تشريعه في كونه فردا من الوضوء و الغسل الرافعين- و لو ادعاء- بلحاظ ترتب أحكامهما عليه، و منها قيديته في الغايات و عدم انتقاضه حكما إلا بالحدث.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الحكم بعدم انتقاض الوضوء إلا بالحدث قرينة علي اختصاص موضوع الحكم بالوضوء الرافع، لأنه القابل للبقاء.

فهو كما تري! لأن اختصاصه بذلك لا ينافي إلحاق غيره به بمقتضي ظهور دليله في تنزيله منزلته و كونه فردا ادعائيا له، كما هو الحال في جميع الأفراد التنزيلية لموضوعات الأحكام.

و لذا كان الدليل المذكور صالحا لدفع الاحتمال انتقاضه بأمر لا ينقض الوضوء الرافع، كالرعاف، و لو لا ما ذكرنا من ظهور دليله في تنزيله منزلة الرافع لم يكن مبيحا للدخول في الغايات مع ظهور أدلتها في كون القيد فيها هو الطهارة.

و ما ذكره قدّس سرّه من أن المراد بالطهارة في تلك الأدلة مطلق رفع الحالة المانعة شأنا من الدخول في الصلاة، فيكون الوضوء المبيح فردا حقيقيا لها لا يبتني علي التنزيل و الادعاء.

لا وجه له، لظهور الطهارة في الحقيقة، بل يمتنع إرادة المعني الذي ذكره من دليل التقييد المذكور، لأن مانعية الشي ء منتزعة من التقييد و في رتبة متأخرة

ص: 459

إذا كانت موسعة، كالصلوات الآتية، اما لو برئ في السعة فالأحوط إن لم يكن أقوي الإعادة في جميع الصور المتقدمة (1).

______________________________

عنه، فلا تؤخذ في موضوعه، و كذا الحال في عنوان المبيح، فليس المراد من دليل التقييد إلّا الطهارة بما لها من مفهوم، و التعدي للوضوء الجبيري- بناء علي عدم كونه منها- بضميمة دليل التنزيل، الذي عرفت أن مقتضي إطلاقه عدم انتقاض الوضوء المذكور إلا بالحدث.

و مما ذكرنا ظهر أن التحقيق كون الوضوء و الغسل الجبيري رافعا لا مبيحا فقط، لظهور دليل تشريعه في كونه فردا حقيقيا للوضوء و الغسل المعهود الذي هو الرافع، و لا ملزم بالخروج عن ظاهر الدليل المذكور.

و غاية ما يدعي كونه رفعه ناقصا، لظهور دليله في كونه فردا اضطراريا شرع للتسهيل، علي ما تقدم و يأتي في المسألة الثانية و الخمسين تمام الكلام في ذلك.

فلاحظ.

(1) يعني: و يعيد به الصلاة التي بقي وقتها.

و قد تقدم أن ظاهر الأصحاب المفروغية عن عدم وجوب إعادة الصلاة و صريح بعضهم دعوي الإجماع عليه. و إطلاق معقده يشمل الصلاة المذكورة بل هو صريح معقد إجماع المستند. و كالصريح من معقد إجماع شرح المفاتيح.

بل احتمل شيخنا الأعظم قدّس سرّه عدم وجوب الإعادة لو تحقق البرء في أثناء الصلاة لدخوله فيها دخولا مشروعا، و إن قوي بعد ذلك وجوب الاستئناف، لعدم إحراز الطهارة لبقية الأجزاء.

إلا أنه تقدم أيضا الإشكال في حجية الإجماع المذكور، و أن العمدة في عدم وجوب الاستئناف في جميع الصور المتقدمة هو القاعدة. نعم، لو كان البرء في أثناء الوضوء أشكل عدم وجوب الاستئناف، لخروجه عن المتيقن من النصوص. فتأمل.

ص: 460

مسألة 42 إذا كان في عضو واحد جبائر متعددة يجب الغسل أو المسح في فواصلها

(مسألة 42): إذا كان في عضو واحد جبائر متعددة يجب الغسل أو المسح في فواصلها (1).

مسألة 43 إذا كان بعض الأطراف الصحيح تحت الجبيرة

(مسألة 43): إذا كان بعض الأطراف الصحيح تحت الجبيرة، فإن كان بالمقدار المتعارف مسح عليها (2)، و إن كان أزيد من المقدار المتعارف فإن أمكن رفعها رفعها و غسل المقدار الصحيح (3)

______________________________

(1) بلا إشكال، و يقتضيه صحيح ابن الحجاج المتضمن غسل ما يصل إليه الغسل مما ظهر مما ليس عليه الجبائر «1»، و صحيحا الحلبي و ابن سنان المتضمنان غسل ما حول الجرح «2».

بل هو مقتضي العمومات المتضمنة لاستيعاب الغسل و المسح التي كان مقتضي الجمع بينها و بين نصوص الجبائر بدليتها عما تحتها لا غير.

(2) كما صرح به في المنتهي و غيره، لأنه المتيقن من نصوص المقام، لوضوح أن الجبيرة و العصابة و نحوهما لا توضع علي خصوص موضع الآفة، بل تتعدي عنه، خصوصا في الجبائر. قال في المنتهي: «الجبيرة إنما توضع علي طرفي الصحيح ليرجع الكسر.»

نعم، قد يدعي وجوب غسل ما تحت الجبيرة من الصحيح أو مسحه مع إمكانه برفع الجبيرة أو بدونه، لانصراف نصوص المقام بحكم كون البدلية اضطرارية عن هذه الصورة.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر صحيح الحلبي جواز المسح علي الخرقة مع إمكان إزالتها إذا أضر الماء بالقرحة، و هو مستلزم للعفو عن غسل ما يستر بها من الصحيح.

(3) لما أشرنا إليه هناك من قصور إطلاقات الجبائر بقرينة الاضطرار عن صورة إمكان غسل المقدار المستور.

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 1، 2.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 461

ثمَّ وضعها و مسح عليها (1)، و إن لم يكن ذلك مسح عليها (2).

مسألة 44 في الجرح المكشوف

(مسألة 44): في الجرح المكشوف إذا أراد وضع طاهر عليه و مسحه (3) يجب أولا أن يغسل ما يمكن من أطرافه (4) ثمَّ وضعه.

______________________________

و أما صحيح الحلبي فهو إنما اقتضي العفو في عصابة القرحة التي لها وجود متعارف، و لا تشمل ما خرج عنه.

هذا، و لو أمكن غسل الصحيح أو مسحه بالوجه المعتبر من دون رفع الجبيرة اجتزأ به.

(1) لا يبعد عدم وجوب ذلك و جريان حكم الجرح المكشوف، كما تقدم عند الكلام في وجوب المسح علي البشرة مع التمكن و في حكم الجرح المكشوف.

نعم، لو غسل ما تحتها من الصحيح أو مسحه من دون رفعها وجب المسح عليها، كما تقدم.

(2) كما صرح به في المنتهي. و يقتضيه إطلاق نصوص الجبائر، لأن التعارف لا يصلح لتقييد الإطلاق، خصوصا في مثل المقام مما كان العموم فيه مناسبا للارتكاز، لارتكاز كون منشأ البدلية الاضطرار.

نعم، لا بد من كون ستر المقدار الزائد لأمر يعود للآفة من الكسر و الجرح، لا لأمر آخر، كما لو تعذرت الجبيرة الصغيرة، أو تعذر إزالة الزائد بعد شفاء ما تحته أو نحوهما، و إلا قصرت نصوص المقام عنه، و دخل فيما تقدم في المسألة السادسة و الثلاثين في حكم الحاجب اللاصق اتفاقا.

(3) لأجل الاحتياط المشار إليه في المسألة الخامسة و الثلاثين.

(4) عملا بصحيحي الحلبي و ابن سنان المتضمنين غسل ما حول الجرح «1»، بناء علي ما تقدم من عدم تقييدهما بوضع الحاجب و المسح عليه

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2، 3.

ص: 462

مسألة 45 إذا أضر الماء بأطراف الجرح بمقدار المتعارف يكفي المسح علي الجبيرة

(مسألة 45): إذا أضر الماء بأطراف الجرح (1) بمقدار المتعارف يكفي المسح علي الجبيرة (2). و الأحوط وجوبا ضم التيمم إذا كان الضرر أزيد من المتعارف (3).

______________________________

ليغتفر ستره للأطراف بالمقدار المتعارف.

نعم، ظاهر كل من أوجب وضع الحائل اغتفار ذلك، لاحتياج وضع الأطراف إلي عناية مغفول عنها، لتعارف وضع الحائل قبل الشروع في الوضوء و الغسل. لكن تقدم عدم بلوغ ذلك منهم حد الإجماع الحجة.

(1) المراد تضرر الجرح بوصول الماء للصحيح، لا تضرر الصحيح بوصول الماء إليه في مقابل تضرر الجرح، الذي يأتي الكلام فيه، كما يظهر بملاحظة المستمسك.

(2) يعني: مع وضعها، أما مع عدم وضعها فيكفي غسل ما حوله مما لا يضره الماء، عملا بإطلاق صحيحي الحلبي و ابن سنان «1».

(3) لانصراف النصوص إلي ما إذا كان المضر بالجرح غسله، و المتيقن في التعدي لما جاوره ما إذا كان بالمقدار المتعارف، فيخرج المقام عن مفاد النصوص.

و اغتفار ترك ما حول مكان الآفة مع ستره بالجبيرة التي تقتضيها و إن خرج عن المتعارف- كما تقدم- لا يستلزم اغتفاره مع كشف الموضع أو عدم اقتضاء الآفة لستره. فالاكتفاء بالتيمم أقوي. و إن كان الاحتياط حسنا بلحاظ قاعدة الميسور، أو احتمال شمول الإطلاق، أو تحقق المناط.

و لو تضرر الصحيح بالماء في مقابل تضرر الجرح به لحقه ما تقدم في المسألة الأربعين، لأنه من صغرياتها. فراجع.

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2، 3.

ص: 463

مسألة 46 إذا كان الجرح أو نحوه في مكان آخر غير مواضع الوضوء

(مسألة 46): إذا كان الجرح أو نحوه في مكان آخر غير مواضع الوضوء لكن كان بحيث يضر استعمال الماء في مواضعه أيضا فالمتعين التيمم (1).

مسألة 47 لا فرق في حكم الجبيرة بين أن يكون الجرح أو نحوه حدث باختياره

(مسألة 47): لا فرق في حكم الجبيرة بين أن يكون الجرح أو نحوه حدث باختياره علي وجه العصيان (2) أم لا (3).

مسألة 48 إذا كان ظاهر الجبيرة طاهرا لا يضره نجاسة باطنها

(مسألة 48): إذا كان ظاهر الجبيرة طاهرا لا يضره نجاسة باطنها (4).

______________________________

(1) لاختصاص النصوص بما إذا كانت الآفة في مواضع الوضوء، للأمر فيها بالمسح علي الحائل و غسل ما حول الجرح.

(2) بأن استلزم ضررا يحرم إيقاعه، و لو كان مراده بالعصيان العصيان في تفويت الواجب الاختياري لا في نفس إحداث الجرح فهو مبني علي تمامية ملاك الوضوء أو الغسل التام حتي في ظرف وجود الجبيرة بنحو يقتضي حفظه مع القدرة عليه و يمنع من تفويته. و قد تقدم في المسألة الواحدة و الأربعين المنع من ذلك.

(3) لعدم الاختيار أو معه لوجود المسوغ. و الوجه فيه إطلاق نصوص المقام.

(4) لإطلاق أدلتها، بل يغلب نجاسة الباطن في عصابة القرحة التي هي مورد صحيح الحلبي «1»، لتعرضها للدم.

و الظاهر عدم الإشكال فيه، و إنما تعرض الأصحاب- كالشيخ و الفاضلين و غيرهم- لعدم قدح نجاسة ما تحتها في قبال قول بعض العامة بقدحه، و يعلم منه رأيهم في محل الكلام، لأنهما من باب واحد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 464

مسألة 49 محل الفصد داخل في الجروح

(مسألة 49): محل الفصد داخل في الجروح (1)، فلو لم يمكن تطهيره، أو كان مضرا، يكفي المسح علي الوصلة التي عليه (2) إن لم يكن أزيد من المتعارف، و إلا حلها و غسل المقدار الزائد (3) ثمَّ شدها.

مسألة 50 إذا كان ما علي الجرح من الجبيرة مغصوبا لا يجوز المسح عليه

(مسألة 50): إذا كان ما علي الجرح من الجبيرة مغصوبا لا يجوز المسح عليه (4)، بل يجب رفعه (5)

______________________________

(1) كما في المستند و غيره. و هو ظاهر.

(2) هذا إنما يتم لو كان التطهير مضرا، و لو لاستلزامه حل الجرح، أما لو تعذر من غير جهة الضرر فهو لا يخلو عن إشكال، كما تقدم في أول الفصل.

(3) يظهر الكلام في ذلك مما تقدم في المسألة الخامسة و الأربعين، كما يظهر حكم ما لو تعذر الحل.

(4) لأنه تصرف فيه، فيحرم، و يكون من صغريات مسألة اجتماع الأمر و النهي، التي كان التحقيق فيها عدم الاجزاء في العبادات مع الالتفات، لامتناع التقرب معه، و مع عدمه يتعين الاجزاء فيها، كما يتعين في غيرها حتي مع الالتفات. و تمام الكلام في محله.

(5) لما كان رفعه تصرفا كان محرما في نفسه، فيكون المقام من تزاحم أفراد الحرام الذي يلزم فيه الترجيح بالأهمية، فلا يجب الرفع إلا إذا كان التصرف بالإبقاء أشد من التصرف بالرفع، فلو كان التصرف بالرفع أشد وجب الإبقاء، و لو كانا متساويين تخير، نظير ما يذكر في توسط الأرض المغصوبة.

و حينئذ فلو كان الرفع أشد، أو الإبقاء أشد و تعذر الرفع، فحيث كان المسح تصرفا زائدا علي الإبقاء، كان التكليف بالطهارة الجبيرية مزاحما لحرمة التصرف في المغصوب و لا إشكال في أهمية الثاني، و لا أقل من كونه محتمل الأهمية، فيتعين في مقام الامتثال، فيجب التيمم لو لم تكن الجبيرة في أعضائه، و إلا كان من

ص: 465

و تبديله (1) و إن كان ظاهره مباحا و باطنه مغصوبا فان لم يعد مسح الظاهر تصرفا فيه فلا يضر، و إلا بطل (2).

مسألة 51 لا يشترط في الجبيرة أن تكون مما تصح الصلاة فيه

(مسألة 51): لا يشترط في الجبيرة أن تكون مما تصح الصلاة فيه، فلو كانت حريرا أو ذهبا (3) أو جزء حيوان غير مأكول لم يضر بوضوئه (4). فالذي يضر هو نجاسة ظاهرها (5) أو غصبيته.

______________________________

موارد فقد الطهورين. فتأمل.

و لا مجال للاكتفاء بغسل ما حوله بعد ظهور الأدلة في جزئية المسح علي الجبيرة حين وجودها من الطهارة، و مقتضي الارتباطية تعذرها بتعذره.

نعم، لو فرض الاضطرار إلي التصرف بالمسح أو نحوه و لو مع عدم الوضوء أو الغسل كان المسح فيهما من أفراد التصرف المضطر إليه، فتسقط حرمته، و يتعين جوازهما، بل وجوبهما.

لكن لو كان الاضطرار بسوء الاختيار كان الفعل مبعدا و إن سقط النهي عنه، فيمتنع التقرب به و تتعذر العبادة الموقوفة عليه. إلا أن تسقط المبعدية المسببة عن سوء الاختيار بالتوبة، فيمكن التقرب حينئذ و يصح العمل و توضيح ذلك في مبحث اجتماع الأمر و النهي عند الكلام في توسط الأرض المغصوبة.

(1) الظاهر عدم وجوب التبديل بعد الرفع، لما تقدم في الجرح المكشوف من أن وجوب المسح علي الجبيرة لا يقتضي وجوب وضعها في ظرف عدمها، بل يختص بما إذا كانت موجودة.

(2) علي التفصيل المتقدم.

(3) يعني: للرجال.

(4) لإطلاق الأدلة، و حرمة اللبس في بعض ما تقدم لا تمنع من التقرب بالمسح، لتباينهما. و إليه يرجع ما في الجواهر من أن الحرمة خارجية.

(5) الظاهر عدم الاشكال فيه، لعين ما يذكر في وجه وجوب طهارة محال الطهارة. و قد تقدم بعض الكلام في ذلك في أواخر المسألة السابعة و الثلاثين.

ص: 466

مسألة 52 ما دام خوف الضرر باقيا يجري حكم الجبيرة

(مسألة 52): ما دام خوف الضرر باقيا يجري حكم الجبيرة (1).

و إن احتمل البرء، و إذا ظن البرء و زال الخوف وجب رفعها.

مسألة 53 إذا كان رفع الجبيرة و غسل المحل موجبا لفوات الوقت الأظهر العدول إلي التيمم

(مسألة 53): إذا أمكن رفع الجبيرة و غسل المحل لكن كان موجبا لفوات الوقت الأظهر العدول إلي التيمم (2).

مسألة 54 الدواء الموضوع علي الجرح و نحوه إذا اختلط مع الدم

(مسألة 54): الدواء الموضوع علي الجرح و نحوه إذا اختلط مع الدم و صار كالشي ء الواحد و لم يمكن رفعه بعد البرء بأن كان مستلزما لجرح المحل و خروج الدم، فإن كان مستحيلا (3) بحيث لا يصدق عليه الدم، بل صار كالجلد، فما دام كذلك يجري عليه حكم الجبيرة (4)،

______________________________

(1) إما لأن الخوف هو موضوع الاجزاء ثبوتا، أو لأنه طريق إلي الضرر الذي هو الموضوع. و يأتي الكلام في ذلك في المسألة التاسعة و الخمسين إن شاء اللّه تعالي.

(2) لاختصاص بعض نصوص الجبيرة و انصراف الباقي إلي كون المانع هو لزوم الضرر من نزع الجبيرة أو من إيصال الماء إلي ما تحتها، بل ظاهر صحيحي الحلبي و كليب «1» الاختصاص بذلك، فيتعين الرجوع في الفرض لعموم ما دل علي مشروعية التيمم بتعذر الوضوء، بناء علي شموله للتعذر من جهة ضيق الوقت، و إن كان لا يخلو عن إشكال. و الكلام فيه موكول لمبحث التيمم.

(3) مقتضي صدر الكلام أن المراد استحالة الدواء، إلا أن مقتضي قوله:

«بحيث لا يصدق عليه الدم» كون المراد استحالة الدم.

و هو الذي يقتضيه الحكم، لوضوح أنه مع استحالة الدم يمكن تطهير الظاهر، أما استحالة الدواء فلا أثر لها مع بقاء الدم، لتعذر التطهير.

(4) يعني: بعد تطهيره بسبب اختلاطه بالدم قبل استحالته:

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2، 8.

ص: 467

و إن لم يستحل كان كالجبيرة النجسة (1) يضع عليه خرقة و يمسح عليه. و لا يترك الاحتياط بضم التيمم في الصورتين (2).

مسألة 55 إذا كان العضو نجسا يتعين التيمم

(مسألة 55): إذا كان العضو صحيحا لكن كان نجسا و لم يمكن تطهيره لا يجري عليه حكم الجرح، بل يتعين التيمم (3).

______________________________

هذا، و لو فرض استحالته بوجه يعد جزءا من البدن، لاكتسائه القشر الرقيق المتصل بالجلد جري عليه حكم البشرة، لا حكم الجبيرة. و لعله المناسب لقوله:

«بل صار كالجلد»، و حينئذ لا يحتاج للتطهير.

إلا أن يقال: القشر المفروض لا يتكون رأسا، بل أصله سائل يفرزه البدن، و هو يتنجس بالدم المفروض، فيلزم تطهيره.

(1) لامتناع التطهير في فرض عدم استحالة الدم.

(2) أما في الصورة الثانية فظاهر، لما تقدم في حكم الجبيرة النجسة في المسألة السابعة و الثلاثين.

و أما في الصورة الأولي فقد يضعف الاحتياط المذكور بلحاظ إطلاق صحيحي الوشاء «1» المتضمنين جواز المسح علي الدواء. إلا أن يدعي اختصاصهما بما هو دواء بالفعل، لكونه دخيلا في الشفاء، و لا يعمان ما وضع لأجل التداوي، ثمَّ خرج عن كونه دواء و صار من سنخ الوسخ الحاجب، بل هو كالحاجب اللاصق اتفاقا الذي تقدم في المسألة السادسة و الثلاثين أن الأحوط فيه ضم التيمم.

نعم، تقدم منه قدّس سرّه أن الاحتياط بضم التيمم فيه استحبابي، و هو لا يناسب ما قد يظهر منه في المقام.

هذا، و لو كان معدودا جزءا من البدن فقد عرفت جريان حكم البشرة عليه، فلا يحتاج فيه للتيمم، إلا إذا تعذر تطهيره، لما يأتي في المسألة اللاحقة.

(3) كما هو مقتضي عموم مشروعية التيمم بتعذر الطهارة المائية بعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 9، 10.

ص: 468

مسألة 56 لا يلزم تخفيف ما علي الجرح من الجبيرة إن كانت علي المتعارف

(مسألة 56): لا يلزم تخفيف ما علي الجرح من الجبيرة (1) إن كانت علي المتعارف (2). كما أنه لا يجوز وضع شي ء عليها مع عدم الحاجة (3)، إلا أن يحسب جزءا منها بعد الوضع (4).

مسألة 57 الوضوء مع الجبيرة رافع للحدث رفعا ناقصا لا مبيح فقط

(مسألة 57): الوضوء مع الجبيرة رافع للحدث (5) رفعا ناقصا (6)، لا مبيح فقط.

______________________________

خروجه عن نصوص المقام، لاختصاصها بما إذا كان التعذر لأجل الآفة التي يضر معها استعمال الماء.

(1) كما في المستند و غيره، و يقتضيه إطلاق النصوص.

و عن نهاية الإحكام الإشكال في المسح علي الظاهر من الجبائر لو تكثرت، و مال إليه في الرياض، لأنه الأقرب للحقيقة. لكنه لو تمَّ لا ينهض بالخروج عن الإطلاق.

و لعله لذا حكي عن نهاية الإحكام احتمال عدم وجوب التخفيف، لعدم الخروج به عن الحائل.

(2) بل و إن خرجت عنه، لأن التعارف لا ينهض بتقييد الإطلاق.

نعم، لو خرج الزائد عن كونه جبيرة، بل عدّ حائلا عليها تعين نزعه، لظهور الأدلة في وجوب المسح علي الجبيرة.

(3) كما أطلق ذلك في المستند.

(4) فيدخل في إطلاق نصوص المسح علي الجبائر، المقتضي للاجزاء.

(5) كما هو ظاهر تطبيق الوضوء عليه، علي ما تقدم في أواخر المسألة الواحدة و الأربعين.

(6) كأنه لقرينة الاضطرار الموجبة لكونه ارتكازا دون الواجب الاختياري.

أو لمناسبة الرفع و الطهارة ارتكازا للمسح علي البشرة دون المسح علي الحائل.

و يشكل الأول: بإمكان كون الاضطرار موضوعا للرفع و الطهارة التأمين،

ص: 469

مسألة 58 يجوز لصاحب الجبيرة الصلاة في أول الوقت برجاء استمرار العذر

(مسألة 58): يجوز لصاحب الجبيرة الصلاة في أول الوقت (1) برجاء استمرار العذر (2)،

______________________________

و لا سيما مع ما تقدم من عدم انتقاض الطهارة الجبيرية بارتفاع العذر.

و الثاني: بأنه مختص بالطهارة الخارجية الحقيقية دون الشرعية الاعتبارية، بل هي أمر تعبدي تابع لتمامية موضوعه، و لا سيما مع ما في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إنما الوضوء حدّ من حدود اللّه ليعلم اللّه من يطيعه و من يعصيه، و إن المؤمن لا ينجسه شي ء، إنما يكفيه مثل الدهن» «1».

و الأمر سهل لعدم الأثر لذلك، و إنما المهم مشروعيته مع المندوحة و عدمها، و قد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الواحدة و الأربعين، و يأتي في المسألة الآتية.

(1) لإطلاق نصوص المقام، فإنها و إن وردت لبيان بدلية مسح الجبيرة عن غسل البشرة، إلا أن مقتضي إطلاق البدلية عدم قادحية التعجيل، فالبدل مشروع في كل مورد يكون المبدل منه مشروعا. بل ينبغي عدم الإشكال في ذلك في الجملة، إذ لو كان التعجيل قادحا لاحتاج للتنبيه، للغفلة عنه بدونه.

(2) و لا يعتبر اليأس، لمنافاته للإطلاق المتقدم.

نعم، بناء علي لزوم استيعاب الوقت بالعذر و عدم مشروعية الطهارة الجبيرية مع البرء في أثنائه يكون التعجيل بها برجاء استمرار العذر مستلزما لفقدها، للجزم بالنية، فتبتني صحتها حينئذ علي ما تقدم الكلام فيه في المسألة الثالثة من مباحث التقليد.

و دعوي: أن مقتضي استصحاب العذر في تمام الوقت مشروعية الطهارة الجبيرية، فيتيسر الجزم بالنية.

مدفوعة: بأن موضوع الأثر- بناء علي ذلك- ليس هو استمرار العذر، بل

______________________________

(1) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 470

فإذا انكشف ارتفاعه في الوقت أعاد الوضوء و الصلاة (1).

______________________________

تعذر الصلاة بالطهارة التامة، و هو غير محرز من أول الأمر ليستصحب بنفسه، و استمرار العذر ملازم له، فاستصحاب العذر في تمام الوقت مثبت. فالعمدة ما تقدم هناك من عدم اعتبار الجزم بالنية.

(1) كما تقدم منه قدّس سرّه في المسألة الواحدة و الأربعين.

و قد تقدم أنه مبني علي أن موضوع مشروعية الطهارة الجبيرية هو تعذر الإتيان بالطهارة التامة في تمام الوقت، فمع البرء في أثنائه ينكشف عدم مشروعية الطهارة الجبيرية حين وقوعها، فلا تجزي. و عليه يلزم الإعادة حتي مع اليأس حين العمل من البرء في الوقت و القطع خطأ باستمرار العذر.

لكن تقدم المنع من ذلك و أن الظاهر كون الموضوع هو وجود العذر حين العمل، فيتعين الاجزاء مع رجاء استمرار العذر، فضلا عن صورة القطع به حين العمل.

و مما ذكرنا يظهر الاشكال فيما عن شرح المفاتيح من أن الأحوط، بل الأقرب عدم جواز الطهارة الجبيرية مع رجاء زوال العذر إلا إذا تضيق الوقت بنظر المكلف، فالحكم بعدم الإعادة مختص بصورة الاعتقاد ببقاء العذر أو بتضيق الوقت.

وجه الاشكال: أن موضوع الطهارة الجبيرية إن كان هو العذر المستوعب للوقت وجبت الإعادة مطلقا، و إن كان هو وجوده حين العمل لم تجب مطلقا، كما ذكرنا، بل مقتضاه الاجزاء حتي مع القطع أو الوثوق بزوال العذر في الوقت.

إلا أن يدعي انصراف الإطلاقات عن ذلك، لأن ارتكاز كون العمل اضطراريا مانع من إقدام المكلف عليه مع العلم بالتمكن من العمل التام في الوقت، فينصرف السؤال عنه. فتأمل.

ص: 471

مسألة 59 إذا اعتقد الضرر لم يصح الوضوء

(مسألة 59): إذا اعتقد الضرر في غسل البشرة فعمل بالجبيرة ثمَّ تبين عدم الضرر في الواقع لم يصح الوضوء و لا الغسل (1). و إذا اعتقد عدم الضرر فغسل ثمَّ تبين أنه كان مضرا و كان وظيفته الجبيرة صح وضوؤه و غسله (2).

______________________________

(1) بناء علي أن موضوع الطهارة الجبيرية ثبوتا هو الضرر الواقعي، كما هو مقتضي صحيح الحلبي «1»، لا خوف الضرر، و أن ما تضمن أخذ الخوف- كصحيح كليب «2» - محمول علي كونه طريقا لما هو الموضوع يجوز العمل عليه ظاهرا مع الجهل بالحال، فلا يجزي مع انكشاف عدم الضرر، بناء علي ما هو التحقيق من عدم إجزاء الأمر الظاهري مع ظهور الخطأ.

لكن تقدم في المسألة الثالثة و الثلاثين من الفصل السابق الإشكال في ذلك، و أن الأظهر حمل ما تضمن الخوف علي كونه كافيا في الاجزاء، و إن لم يكن العمل مشروعا في ظرف عدم الضرر، لاختصاص مشروعيته بصورة وجود الضرر.

نعم، لو كان عدم الضرر لعدم الكسر أو الجرح أو نحوهما فالظاهر عدم الاجزاء، لقصور جميع أدلة المقام عنه، كما تقدم نظيره في باب التقية. فراجع.

(2) إما لأن موضوع الطهارة الجبيرية الخوف المفروض عدمه في المقام، أو لأن موضوعها الضرر الواقعي، لكن لا بنحو يرتفع به ملاك الطهارة الاختيارية، فيتعين الاجزاء بموافقته. كذا ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه.

لكن لازم الأول عدم إجزاء الطهارة الجبيرية مع الضرر الواقعي بدون خوف لو فرض الإتيان بها لمحض الاحتمال غير البالغ مرتبة الخوف، أو للغفلة عن إزالة الجبيرة، و لا يظن التزام أحد بذلك. فالمتعين الثاني المستلزم لعدم مشروعية الطهارة الجبيرية مع الخوف من دون ضرر، و إن كانت مجزية لما سبق.

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 472

و كذلك يصحان لو اعتقد الضرر و لكن ترك الجبيرة و توضأ و اغتسل ثمَّ تبين عدم الضرر (1) و أن وظيفته غسل البشرة، و لكن الصحة في هذه الصورة تتوقف علي إمكان قصد القربة (2).

مسألة 60 في كل مورد يشك في أن وظيفته الوضوء الجبيري أو التيمم الأحوط الجمع

(مسألة 60): في كل مورد يشك في أن وظيفته الوضوء الجبيري أو التيمم الأحوط وجوبا الجمع بينهما (3).

______________________________

(1) الوجه فيه ظاهر بناء علي ما تقدم من أن موضوع مشروعية الطهارة الجبيرية الرافع للتكليف بالطهارة الاختيارية هو الضرر الواقعي، فمع فرض عدمه يكون الواجب هو الطهارة الاختيارية و يتعين إجزاؤها.

بل يتجه حتي بناء علي أن موضوعها هو الخوف الحاصل في المقام بناء علي ما أشرنا إليه هنا و تقدم توضيحه في المسألة الثالثة و الثلاثين من الفصل السابق من أن تشريع الابدال الاضطرارية لا يستلزم ارتفاع ملاك التكاليف الأولية، بل يبقي ملاكها فتجزي موافقته.

و منه يظهر إجزاء الطهارة الاختيارية في فرض اعتقاد الضرر حتي مع وجوده واقعا، لو فرض حصول قصد القربة.

(2) بأن غفل المكلف حين العمل فأوصل الماء للبشرة، أو لم يكن الضرر بمرتبة يحرم إيقاع النفس فيه.

(3) ظاهره التوقف عن الفتوي بذلك، و لا موجب له بعد كون ذلك مقتضي الوظيفة العقلية في مورد العلم الإجمالي، من دون فرق بين الشبهة المفهومية أو الحكمية قبل الفحص و الشبهة الموضوعية.

نعم، لا يبعد الرجوع في الأخيرة للاستصحاب لو كانت هناك حالة سابقة، كما لو تعذرت إزالة العصابة التي وضعت علي محل صحيح سابقا يحتمل تقرحه لاحقا، فان استصحاب عدم كون المكلف ذا جبيرة قاض بوجوب التيمم و عدم مشروعية الطهارة الجبيرية.

ص: 473

______________________________

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من كون الاستصحاب تعليقيا، بناء علي أن الطهارة هي الأثر الحاصل من الوضوء و نحوه، إنما يتجه لو أريد التمسك بالاستصحاب الحكمي، كاستصحاب ترتب الطهارة بالتيمم، أما مع الرجوع للاستصحاب الموضوعي- كما ذكرنا- فهو تنجيزي مغن عن الاستصحاب التعليقي.

هذا، و أما الشبهة الحكمية بعد الفحص فلا مجال لفرضها في المقام، لعدم كونها موردا لعمل العامي، بل تختص بالمجتهد، و لا بد من رجوعه لما يؤدي إليه نظره من الأصل أو الدليل العام أو الخاص، و لا يتسني ضرب القاعدة في مثل ذلك. و اللّه سبحانه و تعالي ولي العصمة و السداد، و له الحمد وحده، و الصلاة و السلام علي من لا نبي بعده محمد و آله الطاهرين.

انتهي الكلام في أحكام الجبائر ليلة الاثنين 14 ذي الحجة سنة 1396 للهجرة. و انتهي تبييضه ضحي اليوم المذكور بقلم مؤلفه، عفي عنه.

ص: 474

الفصل الثالث: في شرائط الوضوء
اشارة

الفصل الثالث في شرائط الوضوء

منها طهارة الماء و إطلاقه و إباحته

منها: طهارة الماء (1)

______________________________

(1) لا ينبغي الريب فيه بعد النظر في كلام الأصحاب و النصوص، لظهورها في المفروغية عنه، كما يشهد به استفادتهم انفعال الماء من الحكم بعدم جواز استعماله في الوضوء، بل هو المدعي عليه صريحا الإجماع في كلام غير واحد.

و يستفاد من النصوص الواردة في الماء المتغير و القليل و الإنائين المشتبهين و ماء البئر و غيرها مما يوجب وضوح الحكم، بل عدّه في الضروريات.

هذا، و قد صرح غير واحد بعدم جواز الوضوء بالماء النجس، و قد وقع الكلام بينهم في أن المراد به الحرمة الوضعية- كما عن نهاية الإحكام- أو التكليفية المستتبعة للإثم- كما في جامع المقاصد و استظهره في مفتاح الكرامة- وجهان ردد بينهما في الروض و المدارك، قد يشهد بالأول اقتصارهم علي ذلك و عدم تنبيههم.

علي الحرمة الوضعية مع أهميتها، و بالثاني عطفهم شرب الماء النجس علي الوضوء به.

و كيف كان، فإن أريد بالحرمة التكليفية الحقيقية بلحاظ التشريع، أو العرضية بلحاظ أن الاعتداد بالوضوء بالماء النجس مستلزم للوقوع في الحرام كترك الصلاة المطلوبة. فهو في محله، بل هو لازم للحرمة الوضعية.

و إن أريد بها الحقيقية الذاتية، بحيث يكون الوضوء به لاعتقاد طهارته

ص: 475

و إطلاقه (1) و إباحته (2)

______________________________

محرما في الواقع، بل موجبا للعقاب مع التقصير في البناء علي الطهارة لكون الشبهة حكمية قبل الفحص، كما يعاقب علي شربه حينئذ.

فلا دليل عليها، لانصراف الأدلة الناهية عن الوضوء بالماء النجس إلي الإرشاد للجهة الوضعية، كما في سائر موارد بيان الماهيات ذات الأجزاء و الشرائط. بل لا ينبغي الريب فيه بعد ظهور استدلالهم بها علي ذلك مع وضوح عدم استلزام الحرمة الفساد إذا تحقق قصد القربة للجهل بالحال.

بل لما لم يصح الوضوء بالماء النجس قطعا لزم التصرف في دليل النهي المذكور، لامتناع إيقاع الوضوء بالماء النجس كي يحرم، فلا بد إما من حمل النهي علي الإرشاد، أو حمل الوضوء المنهي عنه علي قصده، و ليس الثاني بأولي من الأول.

(1) كما تقدم الوجه فيه في المسألة الحادية و العشرين من مبحث المياه.

و لا بد من بقائه علي الإطلاق إلي أن يتحقق مسمي الغسل أو المسح المعتبر.

(2) بمعني عدم كونه محقوقا للغير حقا مانعا من التصرف، بأن كان مملوكا للغير أو مرهونا عنده أو نحوهما، لأن مقتضي سلطنته علي حقه حرمة التصرف في موضوعه بغير إذنه في الوضوء و غيره، فيتعذر معه قصد التقرب المعتبر في صحة الوضوء. و منه الوقف و نحوه مما كان مقتضي نفوذه عدم جواز التصرف المنافي له.

نعم، هو موقوف علي الالتفات، كما يأتي في المسألة الرابعة و الستين.

هذا، و عن الدلائل أنه بعد نسبة الحكم للأصحاب نقل عن الكليني (رضوان اللّه عليه) الفرق بين ما ينهي عنه لخصوص العبادة و ما ينهي عنه لنفسه من المكان و اللباس، ثمَّ قال: «و علي قوله يصح الوضوء بالمغصوب، لأنه منهي عنه لنفسه.

ص: 476

و عدم استعماله في التطهير من الخبث (1)، بل و لا في رفع الحدث الأكبر، علي الأحوط استحبابا، علي ما تقدم (2).

و منها طهارة أعضاء الوضوء

و منها: طهارة أعضاء الوضوء (3).

______________________________

و هو قوي» و ضعفه يظهر مما تقدم. إلا أن يريد الصحة في الجملة و لو مع الغفلة، في قبال النواهي الراجعة لخصوص العبادة مما يرد للإرشاد للمانعية، لظهور دليله في كونه من الموانع الواقعية الذي يبطل العمل معه و لو كان عن غفلة. و كيف كان فلا ينبغي الإشكال في البطلان، و قد ادعي غير واحد الإجماع عليه.

(1) أما بناء علي نجاسة ماء الغسالة فواضح.

و أما بناء علي طهارته فلما تقدم في آخر الكلام في حكم ماء الغسالة.

نعم، تقدم في المسألة العاشرة، من مبحث أحكام الخلوة الإشكال في عدم جواز رفع الحدث بماء الاستنجاء بناء علي طهارته.

(2) في الفصل الثالث من مبحث المياه. و تقدم منا أن الأقوي مانعيته.

(3) و في الحدائق أنه المشهور.

و كأن منشأ النسبة ما ذكروه في غسل الجنابة. قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لم أجد فيما يحضرني تحريرا له في المقام، و إنما حرر في غسل الجنابة».

و لذا أحال في الحدائق الكلام فيه في المقام علي ما ذكره هناك. لكن المحكي عنه نسبته هناك للمشهور بين المتأخرين، و في جامع المقاصد أنه الشائع علي ألسنة الفقهاء. و هو المصرح به في المنتهي و القواعد و جامع المقاصد و محكي الذكري و البيان و الدروس و الجعفرية و شرحها.

بل قد يستظهر من كل من ذكر في بيان كيفية الغسل إزالة النجاسة عن البدن قبله، كما في المقنع و الهداية و النهاية و الوسيلة و المراسم، بل قد يظهر من الأمالي أنه من دين الإمامية، و من الغنية دعوي الإجماع عليه. فتأمل.

و كيف كان، فلا ينبغي التوقف في اعتبار طهارتها لو استلزمت نجاستها

ص: 477

______________________________

انفعال الماء، كما لو كان قليلا بناء علي ما تقدم من انفعال ماء الغسالة بالملاقاة قبل الانفصال.

و احتمال عدم قدح الانفعال الناشئ من الاستعمال فيه، لأن مورد النصوص ما كان نجسا قبله. في غير محله، لإلغاء خصوصية مواردها عرفا.

و لا مجال لقياسه علي التطهير من الخبث. للفرق بين المقامين باختلاف القذر الذي يطرأ علي الماء عن القذر الذي يزال به سنخا في المقام، بخلاف التطهير من الخبث، و حيث كان التطهير من الخبث بغسله ارتكازا لزم العفو عن انفعال الماء به حينه، فما هو النظير للتطهير من الخبث مانعية استعمال الماء في رفع الحدث الأكبر من رفع الحدث به، حيث إنه إنما يمنع من استعمال آخر، لا من الاستعمال الواحد عرفا.

لكن في المبسوط: «و إن كان علي بدنه نجاسة أزالها ثمَّ اغتسل، فان خالف و اغتسل أولا فقد ارتفع حدث الجنابة. و عليه أن يزيل النجاسة إن كانت لم تزل بالغسل، و إن زالت بالاغتسال فقد أجزأه عن غسلها».

و مقتضي إطلاقه من عدم مانعية النجاسة الطارئة من التطهير. و تنزيله علي خصوص الكثير و نحوه مما لا ينفعل لأجل ما هو المعلوم مانعية نجاسة الماء بعيد، لأنه حمل علي غير الفرد المشهور مما يغفل عنه من دون تنبيه. إلا أن يرجع كلامه إلي عدم انفعال ماء الغسالة. فتأمل.

و الأمر سهل، إذ لا غرض في تحقيق مراده قدّس سرّه بعد ما عرفت من البناء علي مانعية النجاسة في الفرض.

و أما لو لم تستلزم نجاستها نجاسة الماء- لاعتصام الماء، أو للبناء علي طهارة الغسالة مطلقا أو قبل الانفصال- فقد يستدل علي وجوب طهارة الأعضاء و عدم الاجتزاء بغسل واحد للحدث و الخبث بوجوه.

الأول: أن الأصل عدم التداخل.

و فيه: أن التداخل هو مقتضي الإطلاق، و إنما خرجنا عنه فيما لو تعددت

ص: 478

______________________________

الأسباب، و كان المسبب هو التكليف بماهية واحدة، لأجل ظهور دليل كل سبب في كونه سببا مستقلا لحدوث التكليف المستقل، المستلزم لتعدد التكاليف بتعدد الأسباب المستتبع لتعدد متعلقها، و أنه ليس محض الماهية الحاصلة بصرف الوجود، لامتناع تعدد التكليف مع وحدة المكلف به.

أما في المقام فحيث كان التعدد في المسبب، و هو إزالة الحدث و الخبث و الطهارة من كل منهما، و لم يمتنع صدور المسببين عن سبب واحد، و هو الغسل في المقام، فلا موجب للخروج عن مقتضي الإطلاق في السبب، و هو الغسل، بل يتعين الاكتفاء بغسل واحد، كما يكتفي به في التطهير من النجاسات المتعددة، كالدم و البول. و تمام الكلام في ذلك في الأصول في ذيل مبحث مفهوم الشرط.

فراجع.

هذا، و قد أشار في الجواهر إلي الإشكال في الاستدلال بأصالة عدم التداخل بأن مقتضاها عدم الاكتفاء بغسل واحد للحدث و الخبث، لا شرطية رفع الخبث في صحة الغسل لرفع الحدث.

و يندفع: بأنه بعد العلم بارتفاع الخبث بالغسل الأول يكون احتياج رفع الخبث لغسل آخر مقتضي أصالة عدم التداخل، المفروض الرجوع إليها.

و لا ضير في لزوم تقييد إطلاق أدلة بيان الغسل، لابتناء أصالة عدم التداخل علي تقييد الإطلاق.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن الموجب لعدم التداخل ظهور تعدد الشرط في تعدد الجزاء، فإذا بني علي رفع اليد عن هذا الظهور بالنسبة إلي الخبث، و أنه يتحقق و لو بالغسل لرفع الحدث فلا مانع من الأخذ بإطلاق الإجزاء بالنسبة إلي الحدث، فيكتفي في رفعه بمجرد الغسل و إن ترتب عليه رفع الخبث.

فيندفع: بأن مقتضي الجمع بين أصالة عدم التداخل و فرض ارتفاع الخبث بالغسل الأول هو عدم صلوح الغسل المذكور لرفع الحدث، فلا تشرع نيته به، كي يكون ارتفاع الخبث به منافيا لأصالة عدم التداخل. فلاحظ.

ص: 479

______________________________

الثاني: ما في جامع المقاصد من أنه لو أجزأ الغسل مع نجاسة المحل لأجزأ مع بقاء عين النجاسة.

و هو كما تري لا يرجع إلي محصل ظاهر، فان عين النجاسة إن كانت مانعة من استيلاء الماء علي البشرة بالنحو المعتبر في رفع الحدث خرج عن المقام، و إلا فلا بأس بالتزام الإجزاء معها، و كانت من محل الكلام.

الثالث: النصوص المتضمنة للأمر بغسل النجاسة من البدن قبل الشروع في الغسل في مقام تعليمه، مثل ما تضمن غسل الفرج- بناء علي حمله علي فرض نجاسته، لا علي الاستحباب، كغسل اليدين- و صحيح حكم بن حكيم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الجنابة. فقال: أفض علي كفك اليمني من الماء فاغسلها، ثمَّ اغسل ما أصاب جسدك من أذي، ثمَّ اغسل فرجك، و أفض علي رأسك و جسدك فاغتسل» «1». و صحيح البزنطي: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن غسل الجنابة.

فقال: تغسل يدك اليمني من المرفقين [المرفق. خ ل] إلي أصابعك، و تبول إن قدرت علي البول، ثمَّ تدخل يدك في الإناء، ثمَّ اغسل ما أصابك منه، ثمَّ أفض علي رأسك و جسدك» «2» و غيرها.

فإن ظاهر الأمر فيها اللزوم، و مقتضي وروده لبيان الماهية كونه للإرشاد إلي توقفها علي ذلك، لا للوجوب التعبدي، كما قد يظهر مما تقدم من المبسوط.

و فيه: أن السؤال في هذه النصوص لما كان عن نفس الغسل فبيان المقدمات المذكورة خارج عن مقتضي السؤال لمحض التفضل، و هو كما يكون بالإرشاد إلي توقف الغسل علي ذلك يكون بالإرشاد إلي تجنب النجاسة، لما يستلزمه اختلاط ماء غسالة الغسل بغسالة الخبث من محذور ينبغي التوقي منه، و لا قرينة علي إرادة خصوص الأول.

و لا سيما مع ما في موثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا أصاب

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 34 من أبواب غسل الجنابة حديث: 3.

ص: 480

______________________________

الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ علي كفيه و ليغسلهما دون المرفق، ثمَّ يدخل يده في إنائه، ثمَّ يغسل فرجه، ثمَّ ليصب علي رأسه ثلاث مرات مل ء كفيه، ثمَّ يضرب بكف من ماء علي صدره و كف بين كتفيه، ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله، فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت فلا بأس» «1» لظهوره في اهتمامه عليه السّلام بتجنب انفعال غسالة الغسل.

و دعوي: أن الحمل علي ذلك لا يناسب ما في ذيل صحيح حكم: «فان كنت في مكان نظيف فلا يضرك أن لا تغسل رجليك، و إن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك.» «2»، إذ لا غرض في تجنب انفعال غسالة غسل الرجلين في المكان القذر، إذ لا بد من تجنب ما ينتضح منها علي المكان، و هي لا تنتضح علي البدن لأنهما في أسفله.

مدفوعة: بقرب عدم كون المراد من غسل الرجلين غسلهما مقدمة للغسل، ليكون شاهدا لما نحن فيه، بل غسلهما بعد إكمال الغسل، لبيان عدم تنجسهما بماء غسل الجنابة مع مراعاة الكيفية المذكورة إلا إذا كان المكان قذرا، فيكون مساوقا للموثق.

علي أن ظاهر النصوص المذكورة بيان كيفية الاغتسال بالماء القليل، و لا إشكال في توقف الغسل به علي التطهير من الخبيث، إما لاعتباره في نفسه، أو للفرار به من محذور انفعال الماء المانع من الاغتسال به- كما تقدم- و لا قرينة في النصوص علي إرادة الأول.

و من هنا يشكل البناء علي وجوب التطهير قبل الغسل مع عدم انفعال الماء.

بل قوي في كشف اللثام العدم، و هو المحكي عن المختلف و نهاية الأحكام و شرح الدروس و الحدائق.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب غسل الجنابة حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 27 من أبواب غسل الجنابة حديث: 1.

ص: 481

و منها إباحة الفضاء الذي يقع فيه الغسل
اشارة

و منها: إباحة الفضاء الذي يقع فيه الغسل

______________________________

بقي في المقام أمور.

الأول: أشرنا إلي أنه لو قيل بعدم انفعال ماء الغسالة قبل انفصاله يتجه التوقف في مانعية نجاسة الأعضاء من رفع الحدث بغسلها.

و ربما يتوهم منافاته لما تقدم من عدم جواز الوضوء بالماء القليل المستعمل في رفع الخبث و إن قلنا بطهارته.

لكنه يندفع: بأنه لا يصدق علي الماء أنه مستعمل في رفع الخبث بمجرد ملاقاته، بل لا بد من جريانه علي المحل، بحيث يصدق عليه الغسالة، فيتحقق الوضوء به قبل صدق العنوان المذكور عليه. فتأمل.

الثاني: المحكي عن نهاية الإحكام عدم قدح النجاسة إذا كانت في آخر العضو في الوضوء بالماء القليل. و لا يتضح خصوصية آخر العضو في ذلك، فان المحذور ليس هو تنجس ما يجري عليه الماء، كي لا يبقي له موضوع في الفرض المذكور، بل انفعال نفس الماء بملاقاة الموضع النجس، و هو حاصل في الفرض، فلا بد فيه من استمرار إجراء الماء بعد طهارة المحل، كما في سائر المواضع.

الثالث: مقتضي ما سبق عدم الفرق بين النجاسة التي تزول بالمرة و التي لا تزول بها، فكما يكون الغسل الواحد مع عدم انفعال الماء بملاقاة العضو في الأولي مطهرا من الحدث و الخبث، يكون في الثانية مطهرا من الحدث و مجزيا عن مرة مما يعتبر في رفع الخبث. و ربما يحمل علي ذلك ما تقدم من المبسوط.

و قد أشار في الجواهر إلي القول في المقام باعتبار عدم بقاء المحل نجسا بعد الغسل، و لم يشر إلي القائل به و لا إلي دليله، و إنما قال: «ليس له وجه ظاهر سالم عن التأمل و النظر».

(1) كما لم يستبعده في الجواهر.

و الوجه فيه: أن حركات المكلف حين إيقاع الأفعال الوضوئية تصرف في الفضاء المذكور، و كذا إجراء الماء من مثل الإبريق علي أعضاء الوضوء و لو مع

ص: 482

______________________________

سكون المكلف حينه، لأن حركة الماء في الفضاء تصرف فيه، فيحرم.

و دعوي: انصراف إطلاق حرمة التصرف في مال الغير عن الفضاء.

مردودة علي مدعيها، لأن الفضاء مال مهم، و التعدي بالتصرف فيه لا يقصر عن التعدي بالتصرف في الأعيان الخارجية.

كيف، و لازم ذلك عدم جواز طرد المتصرف فيه و منعه من الاستمرار فيه، لعدم التعدي منه المسقط لحرمته و المسوغ للتعدي عليه بالطرد و نحوه. و لا يظن التزام أحد به.

و مثلها دعوي: انصراف الإطلاق المذكور عن التصرف اللازم من الوضوء. إذ لا يظهر وجه خصوصيته عن سائر التصرفات.

و أما منع انطباق التصرف علي الوضوء، لأنه عبارة عن وصول الماء إلي المحل، و إمرار الغاسل أو الماسح مقدمة له.

ففيه- مع أن الوضوء ليس عبارة عن وصول الماء إلي المحل، بل إيصاله إليه، كما يشهد به تفسيره بالغسل و المسح في الكتاب و السنة، و هما من أفعال المكلف، و وصول الماء نتيجة لهما- أن التقرب المعتبر في الوضوء إنما يكون بالحركات المذكورة، لأنها هي فعل المكلف بالمباشرة، فمع حرمتها يمتنع التقرب، فيبطل.

و كأن توقف سيدنا المصنف قدّس سرّه في الحكم لبعض هذه الوجوه، أو جميعها، لأنه تعرض لها في مقام الاستدلال عليه، و إن سبقه إلي بعضها في الجواهر.

فراجع.

هذا، و أما إباحة الأرض و الفراش و نحوهما مما يعتمد عليه المتوضي، فلا دليل علي اعتبارها، لعدم دخلها بحركات الوضوء و أفعاله. و مجرد مقارنة الأفعال للتصرف فيها بالاشغال و الاعتماد لا يوجب حرمتها، و لا يمنع من التقرب بها بعد أن لم يكن جزءا منها.

و ما عن غير واحد من صدق التصرف في المكان المغصوب علي نفس الوضوء، غير ظاهر.

ص: 483

علي الأحوط وجوبا. و الأظهر عدم اعتبار إباحة الإناء الذي يتوضأ منه مع الانحصار به (1)،

______________________________

فالمتعين البناء علي عدم البطلان، كما في المعتبر و المنتهي و المدارك و عن الحبل المتين. خلافا لما في الروض و عن محكي نهاية الإحكام، و الذكري و الدروس و الموجز الحاوي و كشف الالتباس و المقاصد العلية و مجمع البرهان.

حيث حكموا بالبطلان مع عدم اباحة المكان، بل ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنه ظاهر المنسوب للمشهور.

اللهم إلا أن يكون محل كلامهم صورة غصبية الفضاء مع الأرض، لأنه الفرد الشائع، فيتجه البطلان، لما تقدم.

(1) حيث قد يدعي حينئذ عدم مشروعية الوضوء، لمزاحمته بحرمة الغصب، المقتضي لسقوط الأمر به، لأن مقتضي الجمع بين دليله و دليل التيمم، أخذ الوجدان في موضوعه، فمع توقفه علي التصرف بالمغصوب يكون مقتضي إطلاق حرمة الغصب عدم الوجدان و ارتفاع موضوع الوضوء. و منه يظهر أنه لا مجال لإعمال قواعد التزاحم بين التكليفين من ترجيح الأهم و التخيير مع عدمه.

إذ لا تزاحم بين التكليفين مع ورود أحدهما علي الآخر و رفعه لموضوعه، بل يختص بما إذا كانا في عرض واحد.

لكنه يندفع بأن سقوط الأمر بالوضوء لأجل عدم الوجدان لا ينافي بقاء ملاكه المستفاد من إطلاق دليله، فان مثل عدم الوجدان من الروافع الاضطرارية لا يوجب خروج مورده عن موضوع المشروعية عرفا تخصيصا لعموم دليله، بنحو يكون فاقدا لملاكه، بل يكون مسقطا للإلزام لا غير مع بقاء الملاك، فموضوع الحكم الاضطراري من سنخ المانع عن تأثير الملاك للأمر و الإلزام، و لا يمنع من رجحان الفعل بنحو يشرع الإتيان به و يصح التقرب به بلحاظ ملاكه.

و لذا يحسن تحمل الزحمة في رفع موضوع البدل الاضطراري، و يجب

ص: 484

فضلا عن عدمه (1)، فلو توضأ بماء مباح من إناء مغصوب أثم (2) و صح وضوؤه، من دون فرق بين الاغتراف منه (3)

______________________________

قضاء ما فات حال الاضطرار بالوجه الاختياري مع التمكن و نحو ذلك مما يكشف عن بقاء ملاك التكليف الأولي بنحو يكون الفعل مشروعا في نفسه صالحا للتقرب.

و هو لا ينافي ما تقدم من عدم صلوح التكليف بالوضوء لمزاحمة التكليف بترك الغصب، لوروده عليه و رفعه لموضوعه. فان رفعه لموضوع الأمر و الإلزام لا يستلزم رفعه للمشروعية و الملاك. و الملاك بنفسه و إن كان مهما لا يصلح لمزاحمة الملاك الفعلي إذا لم يكن التكليف علي طبقه فعليا.

(1) إذ لا مجال معه لجريان الشبهة المتقدمة، بل لا إشكال في وجوب الوضوء، للقدرة عليه من الماء الآخر الذي ليس في الإناء المغصوب.

(2) يعني: في التصرف بالإناء، لا في الوضوء المترتب عليه، علي ما يأتي توضيحه.

(3) لا يبعد صدق التصرف علي الاغتراف من الإناء فيما إذا أوجب تموج الماء و تحركه علي سطحه، إما لصغر الإناء، أو العنف في الاغتراف، فيحرم.

و أما إذا لم يوجب ذلك، لكبر الإناء و الاغتراف منه برفق، أو لشدة تموج الماء في الإناء قبل الاغتراف منه بنحو يتلاشي التموج الحاصل بسببه فيه، فلا يصدق التصرف عليه عرفا، فلا يكون محرما.

و كيف كان، فلو كان الاغتراف محرما فحيث لم يكن متحدا مع أفعال الوضوء، بل هو مقدمة إعدادية لها، و كان ترتبها عليها باختيار مستقل عنه، و ليست من سنخ المسببات التوليدية عنه، لم تكن حرمته مانعة من التقرب بها، ليبطل الوضوء.

و ما عن بعضهم من أن الوضوء من الإناء المغصوب استعمال له عرفا، فيحرم و يبطل. ممنوع جدا.

ص: 485

دفعة (1) أو تدريجا (2)،

______________________________

غاية ما قد يدعي صدق الاستعمال علي أخذ الماء من الإناء للوضوء، و هو غير ضائر، علي أنه لا أهمية لصدق الاستعمال عليه، بل لا بد من صدق التصرف، لأنه الذي تضمنه التوقيع الشريف «1»، و هو المنصرف من موثق سماعة و غيره مما تضمن عدم حل مال المسلم إلا بطيبة نفسه «2»، لمنافاته لحرمة المال ارتكازا، و هو غير منطبق علي الوضوء قطعا.

(1) يعني: بمقدار يكفي لتمام الوضوء. لكنه لما كان موجبا للقدرة علي الوضوء التام، لما تقدم من عدم صدق التصرف عليه فلا ينبغي الإشكال في وجوب الوضوء معه من دون فرق بين صورتي الانحصار و عدمه، و إنما يظهر الفرق المتقدم بينهما قبل حصوله، كما يظهر في الاغتراف التدريجي.

(2) فإنه بعد ما تقدم من عدم انطباق التصرف في الإناء علي الوضوء لا يمتنع التقرب به، فيصح و إن لم يكن مأمورا به مع الانحصار، لإمكان التقرب بالملاك.

إلا أن يستشكل في حصول قصد القربة حين الشروع في الوضوء، لابتنائه علي قصد المعصية بالاغتراف لبقية الأجزاء، لعدم مشروعية كل جزء منه إلا في ظرف الإتيان بالباقي بمقتضي الارتباطية، فلا بد من قصد كل جزء في ضمن قصد الكل، و حيث كان قصد الكل مبنيا علي قصد الإتيان به من الطريق المحرم كان الشروع مبنيا علي التجرؤ بقصد المعصية بحيث يكون داعيا إليها، و هو مناف للتقرب به ارتكازا.

و هذا بخلاف ما لو كان الاغتراف دفعيا، فان الوضوء بعده لا يبتني علي قصد المعصية و إن كان مسبوقا بها، أو كان الوضوء علي الفراش المغصوب، فإنه

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب مكان المصلي حديث: 1. و باب: 1 من أبواب القصاص حديث: 3.

ص: 486

و الصب منه (1).

______________________________

و إن كان مقارنا لقصد المعصية إلا أنه لا يبتني عليه و لا يرتبط به.

و لو تمَّ ذلك لم يفرق فيه بين صورتي الانحصار و عدمه، إذا كان المقصود إكمال الوضوء من الإناء المغصوب.

نعم، لا مانع من التقرب بالجزء لو فرض عدم القصد إلي الإكمال من المغصوب، إما لتخيل القدرة علي ماء آخر، أو لعدم قصد المجموع، بل اتي بالجزء احتياطا برجاء الإكمال من ماء آخر.

و كذا لو فرض القصد إلي المعصية علي كل حال لا من أجل الوضوء، بحيث لا يكون الوضوء داعيا إليها و إن قصد ترتبه عليها. علي اشكال في الأخير.

و ما ذكرناه يجري في كل مقدمة محرمة يبتني الشروع في العمل علي قصد إكماله من طريقها، بحيث يكون العمل داعيا إليها و يكون قصدها متفرعا علي قصده فلاحظ.

(1) أما الصب منه في الكف ثمَّ الغسل به فيلحقه حكم الاغتراف المتقدم.

و أما الصب منه علي العضو لغسله رأسا فقد يشكل، لأن قصد التقرب إنما يكون بالصب، لأنه فعل المكلف بالمباشرة و الغسل مسبب توليدي له ليس موضوعا لاختيار مستقل عنه، فإذا كان الصب محرما امتنع التقرب به، فيبطل الوضوء.

نعم، لو اجري الماء من المغصوب باستمرار بثقب و نحوه لا لأجل الوضوء فوضع المكلف العضو تحته لغسله به، نظير الاسالة المعروفة في زماننا لم يبعد تأتي قصد القربة، لأن التقرب إنما يكون بوضع العضو تحت الماء، و هو مباين للفعل المحرم الذي سبب الجريان فلا تمنع حرمته من التقرب به.

هذا كله إذا لم يجب التفريغ، و أما إذا وجب شرعا أو عقلا بنحو لا يكون مبعدا، كما لو اضطر إليه لا بسوء الاختيار، للفرار به من زيادة التصرف في

ص: 487

نعم، يشكل الوضوء إذا كان بنحو الارتماس فيه (1)، إلا أن يصدق التصرف فيه عرفا علي الوضوء فيه (2). كما أن الأحوط وجوبا إباحة المصب إذا كان وضع الماء علي العضو مقدمة للوصول إليه (3).

______________________________

المغصوب، فلا إشكال في جواز نية الوضوء حينئذ بالاغتراف أو الصب.

أما لو كان الاضطرار بسوء الاختيار فلا ينافي مبعديته، و يمتنع التقرب به، كما تقدم نظيره في المسألة الخمسين في حكم الجبيرة المغصوبة.

(1) سواء نوي الغسل الوضوئي بنفس الارتماس أم بالإخراج، لأن كلّا منهما موجب لتموج الماء علي السطح الداخلي للإناء، و هو نحو من التصرف فيه عرفا، فيحرم، و يمتنع التقرب به.

نعم، لو فرض معذورية المكلف بالارتماس كان مضطرا للإخراج، من دون أن يحرم أو يكون مبعدا، بل يمكن التقرب بنية الوضوء به.

ثمَّ إن الأمر لا يختص بالإناء، بل يجري في كل محل للماء، كالحوض و البئر و نحوهما. فالمعيار في الحرمة فيه تحقق التصرف بتموج الماء فيه و عدمه، بل هو المعيار لو كان المغصوب طرفا منه، فمثل قعر الحوض لا يضر غصبيته غالبا، لعدم التموج فيه و عدم صدق التصرف.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من التحريم فيما لو كان المغصوب مقوما لحوضية الحوض، بحيث لولاه لم يبق الماء فيه، لأن التصرف في كل شي ء بحسبه، و كما يكون الوضوء من الحوض تصرفا فيه يكون تصرفا في أجزائه.

فهو في غير محله، لابتنائه علي الخلط بين الانتفاع و التصرف. و يأتي في مسألة الوضوء تحت الخيمة المغصوبة في ذيل الكلام في اعتبار الإباحة ما له نفع في المقام.

(2) لسعة الإناء و حصول الارتماس برفق، أو لشدة تموج الماء في الإناء قبل الارتماس، نظير ما تقدم في الاغتراف.

(3) يعني: بنحو يكون الوصول مسببا توليديا عن وضع الماء علي العضو

ص: 488

مسألة 61 يكفي طهارة كل عضو قبل غسله

(مسألة 61): يكفي طهارة كل عضو قبل غسله (1)، و لا يلزم أن تكون جميع الأعضاء قبل الشروع طاهرة، فلو كانت نجسة و غسل كل عضو بعد تطهيره كفي (2).

______________________________

لا يحتاج لاختيار مستقل، فيكون الوضع مبعدا بنفسه، و يمتنع التقرب به.

و أما لو كان فعلا مستقلا تابعا لاختيار مستقل فلا مجال للبطلان معه. كما أن البطلان في الصورة الأولي مختص بما إذا نوي الغسل بوضع الماء، و أما لو نواه بإمرار اليد علي العضو بعد وضعه عليه من دون أن يستلزم الجريان حينئذ لحقه ما تقدم في الاغتراف التدريجي.

(1) يعني: بناء علي اعتبار طهارة الأعضاء قبل الغسل، و قد تقدم الكلام في ذلك.

(2) لإطلاق أدلة الوضوء.

نعم، قد يستفاد اعتبار ذلك من النصوص المتقدمة عند الكلام في اعتبار طهارة الأعضاء الواردة في تعليم الغسل، المتضمنة ذكر إزالة النجاسة قبل الشروع فيه.

و بمضمونها عبر غير واحد ممن تقدم التعرض له، بل تقدم ما قد يظهر منه دعوي الإجماع علي المضمون المذكور.

و من هنا فقد ذكر في محكي شرح المفاتيح أن اعتبار إزالة النجاسة قبل الشروع في الغسل هو الظاهر من فتاوي الأصحاب.

لكن في جامع المقاصد بعد التعرض لإيهام عبارة القواعد ذلك: «و ليس كذلك قطعا»، و في كشف اللثام: «و تقديم غسل الفرج من باب الأولي قطعا»، و عن السرائر نفي الخلاف في كون ذلك من السنن و الآداب.

و قد تقدم الإشكال في دلالة النصوص المذكورة علي اعتبار طهارة العضو قبل الشروع فيه، فضلا عن اعتبارها قبل الشروع في الغسل.

ص: 489

و لا يضر تنجس عضو بعد غسله و إن لم يتم الوضوء (1).

مسألة 62 إذا توضأ من إناء الذهب أو الفضة بالاغتراف منه دفعة أو تدريجا

(مسألة 62): إذا توضأ من إناء الذهب أو الفضة بالاغتراف منه دفعة أو تدريجا، أو بالصب منه، فصحة الوضوء لا تخلو من وجه (2)،

______________________________

مضافا إلي ما تقدم في ذيل صحيح حكم من فرض الغسل في المكان القذر، و في موثق سماعة من أن فائدة التطهير عدم الانفعال بانتضاح ماء الغسل في الإناء، المشعر أو الظاهر في المفروغية عن إمكان الاغتسال بنحو يوجب الانفعال، لتنجس البدن.

(1) للإطلاق.

(2) أما بناء علي اختصاص الحرمة بالأكل و الشرب من إناء الذهب و الفضة دون بقية الاستعمالات، فظاهر.

و أما بناء علي عمومها لمطلق الانتفاع- كما قد يدعي- أو لمطلق الاستعمال- كما هو معقد الإجماع المدعي في كلام غير واحد- أو للاستعمال المناسب للإناء المقصود نوعا منه بما هو إناء- كما لعله المتيقن من الإجماع المذكور، و تقتضيه النصوص المتضمنة لكراهة آنية الذهب و الفضة، و أنها متاع الذين لا يوقنون «1»، فإنه بعد تعذر حمل الطائفة الأولي علي كراهة نفس الإناء لامتناع تعلق الحكم التكليفي بالأعيان، فالأقرب حملها علي كراهة الاستعمال المناسب للإناء، دون خصوص الأكل و الشرب، منه أو وجوده، كما أن ذلك هو المتيقن أو المنصرف من الطائفة الثانية. و تمام الكلام في محله من خاتمة كتاب الطهارة، فلأن الانتفاع و الاستعمال إنما يكونان باغتراف الماء من الآنية و الصب منها، لا بما يترتب عليهما من غسل الأعضاء، فلا موجب لحرمة الغسل، كي يمتنع التقرب به و يبطل.

نعم، يجري في الاغتراف التدريجي و الصب ما تقدم في الوضوء من الإناء المغصوب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 65 من أبواب النجاسات و الأواني و الجلود.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 491

ص: 490

من دون فرق بين صورة الانحصار و عدمه (1). و لو توضأ بالارتماس فيه فالصحة مشكلة (2).

______________________________

(1) لما تقدم في الوضوء من الإناء المغصوب. و سيأتي تمام الكلام في ذلك.

(2) لقرب صدق الاستعمال علي نفس الارتماس، فيحرم و يمتنع التقرب به.

ثمَّ إنه لو فرض انحصار الماء بالماء الموجود في إناء الذهب و الفضة فقد يقال بوجوب تفريغه في إناء آخر مع التمكن، جمعا بين حرمة استعمال الإناء و وجوب الوضوء، و مع التعذر يسقط الوضوء، لتوقفه علي الاستعمال المحرم الموجب لصدق عدم الوجدان.

و قد يستشكل في الأول بأن إفراغ الماء من الإناء لإناء آخر محرم أيضا، لأنه نحو من الاستعمال له، نظير تفريغه حين الغسل به.

و يندفع بأن التفريغ المذكور و إن كان استعمالا للإناء، إلا أنه ليس استعمالا مقصودا منه بما هو إناء، و ليس هو كالتفريغ حين الغسل به عرفا، بل هو خروج عن مقتضي إنائيته.

نعم، قد يكون من شأن الإناء استعماله لنقل الماء من محل لآخر، لكنه خارج عن محل الكلام مما كان المقصود محض التفريغ للتخلص من الاستعمال.

و أما الثاني، فقد يشكل بقرب انصراف النصوص المستفاد منها حرمة استعمال الإناء عن الاستعمال الذي ينحصر به استعمال ما فيه من طعام و شراب و نحوهما، لسوقها في مساق ترجيح نحو من الاستعمال له علي نحو آخر، بمناسبة ارتكاز كون مبني النهي المذكور علي تجنب نحو من الترف و البطر، و الاستعمال الذي للإناء ينحصر به استعمال ما فيه، أجنبي عن ذلك.

و لذا يصعب جدا البناء علي وجوب ترك الطعام و الشراب الموجود في آنية

ص: 491

و منها عدم المانع من استعمال الماء
اشارة

و منها: عدم المانع من استعمال الماء (1)، لمرض أو عطش يخاف منه علي نفسه أو علي نفس محترمة.

نعم، في فرض العطش لو أراق الماء علي أعلي جبهته، و نوي الوضوء بعد ذلك بتحريك الماء من أعلي الوجه إلي أسفله، كان للصحة وجه (2).

______________________________

الذهب و الفضة إذا تعذر إفراغه منهما في غيرهما، كما يصعب البناء علي سقوط الوضوء في المقام، و إن كان أدني تكليف صالحا لإسقاط الوضوء عند مزاحمته به، كما سبق.

و منه يظهر الجواز و إن لم ينحصر الأمر بالماء الموجود في الإناء المذكور إذا انحصر الانتفاع بذلك الماء باستعماله فيه، فلاحظ.

(1) المراد المانع الشرعي، الذي يحرم معه صرف الماء في الوضوء، حيث يكون الوضوء به مبعدا، فيبطل.

لا المانع الخارجي، لعدم مناسبته للمقام، و لا مطلق ما يشرع معه التيمم، لما هو الظاهر من أن مشروعية التيمم لا تمنع من صحة الوضوء علي ما يأتي في مبحث التيمم إن شاء اللّه تعالي.

و منه يظهر أنه لا بد من فرض كون المرض و العطش بنحو يجب التوقي منه.

كما أنه يلحق بالمرض سائر موارد الضرر الذي يجب دفعه شرعا، و بخوف العطش سائر الموارد التي يجب حفظ الماء فيها و عدم صرفه في الوضوء، كما لو وجب تطهير المسجد أو البدن به مقدمة للصلاة، لامتناع التقرب بغسل الأعضاء بالماء حينئذ، فلا يقع الوضوء به، إلا فيما يأتي استثناؤه.

(2) لتحقق العصيان بصب الماء، لأنه الموجب لتعذر صرفه في ما يجب صرفه فيه، أما تحريكه علي الوجه بعد ذلك فلا موجب لحرمته ليمتنع التقرب به، فيجري فيه ما تقدم في الاغتراف التدريجي.

ص: 492

مسألة 63 إذا توضأ في حال ضيق الوقت عن الوضوء فان قصد أمر الصلاة الأدائي بطل

(مسألة 63): إذا توضأ في حال ضيق الوقت عن الوضوء، فان قصد أمر الصلاة الأدائي بطل (1)، و إن قصد أمر غاية أخري، و لو الكون علي الطهارة، صح (2).

مسألة 64 لا فرق في عدم صحة الوضوء بالماء المضاف أو النجس أو مع الحائل

(مسألة 64): لا فرق في عدم صحة الوضوء بالماء المضاف أو النجس أو مع الحائل (3)

______________________________

نعم، لو تعذر أداء الواجب ببقية الماء لحقه حكم الاغتراف الدفعي.

و نظير ذلك يجري في الضرر لو فرض حصوله حصوله بصب الماء علي الأعضاء، دون إمراره بعد ذلك عليها باليد.

(1) لعدم تحقق الامتثال بعد فرض عدم الأمر الممتثل.

نعم، لو قصد امتثال الأمر الفعلي بالصلاة و إن كان قضائيا، صح الوضوء.

و دعوي: أن الأمر القضائي ليس فعليا حين الوضوء، لفرض عدم خروج الوقت، و إنما يكون فعليا بعد ذلك فلا يمكن قصده حين الوضوء.

مدفوعة: بأن مقتضي الجمع بين دليلي الأداء و القضاء أخذ خصوصية الوقت بنحو تعدد المطلوب، مع كون أصل المطلوب في الوقت و خارجه بأمر واحد، فيمكن قصد امتثال الأمر المذكور بالوضوء.

نعم، في فرض إمكان الأداء بالتيمم فبناء علي مشروعيته يكون واجبا، فتمتنع معه فعلية الأمر المذكور و يتعين التقرب بالملاك. و يأتي في المسألة الواحدة و السبعين تقريب صحة الوضوء مطلقا، كما يأتي نظير هذه المسألة في المسألة التاسعة عشرة من مباحث غسل الجنابة، مع التعرض لما ينفع في المقام.

(2) بناء علي وجوب التيمم للصلاة التي ضاق وقتها يكون الوضوء للغايات المذكورة مزاحما للواجب المذكور، فيسقط الأمر به، و يتعين حينئذ قصد ملاك الأمر بالغايات المذكورة، لا قصد الأمر الفعلي بها.

(3) حيث تقدم اشتراط عدم الحائل عند التعرض لأفعال الوضوء.

ص: 493

بين صورة العلم و العمد و الجهل و النسيان (1).

و أما في الغصب، فالبطلان مختص بصورة العمد (2)، سواء أ كان المغصوب الماء أو المكان أو المصب، فمع الجهل بكونها مغصوبة أو النسيان لا بطلان.

______________________________

(1) لإطلاق أدلة الشروط المذكورة، و عدم الدليل علي إجزاء الفاقد لها في الأخيرين و إن لم يكن مأمورا به.

(2) لأن المانع من الصحة ليس إلا مبعدية الفعل بسبب النهي، فيمتنع التقرب به، فمع فرض عدم الالتفات إليه يرتفع المانع، فيصح الفعل بعد واجديته لملاك الأمر، بل دخوله فعلا في الماهية المأمور بها، علي ما حرر في محله من مبحث اجتماع الأمر و النهي.

و منه يظهر الحال في سائر الموارد التي يكون المانع فيها من الوضوء استلزامه مخالفة تكليف تقتضي البعد بالعمل و تمنع من التقرب به، فالأمر فيها كالغصبية.

كما يظهر أنه لا يكفي عدم التكليف واقعا لو فرض منجزية احتماله في مقام العمل، لقيام الحجة عليه أو لزوم الاحتياط فيه عقلا- كما في أطراف العلم الإجمالي- أو شرعا- كما في مورد عدم الفحص عن الحكم الكلي- لامتناع التقرب أيضا، لمبعدية الإقدام حينئذ، لأنه نحو من التجري.

نعم، لو فرض عدم المعذورية عن التكليف واقعا و استحقاق العقاب عليه للتقصير، إلا أنه كان مغفولا عنه غير منجز في مقام العمل، لم تبعد الصحة، لإمكان قصد التقرب.

و دعوي: أنه غير صالح للمقربية مع فرض استحقاق العقاب عليه، فلا ينفع قصد التقرب.

مدفوعة: بأنه صالح للمقربية من حيثية الامتثال، و إن كان مبعدا من حيثية

ص: 494

مسألة 65 إذا التفت إلي الغصبية في أثناء الوضوء صح ما مضي من أجزائه

(مسألة 65): إذا التفت إلي الغصبية في أثناء الوضوء صح ما مضي من أجزائه (1)، و يجب تحصيل المباح للباقي. و لكن إذا كان المغصوب الماء و التفت إلي الغصبية بعد الغسلات و قبل المسح فجواز المسح بما بقي من الرطوبة لا يخلو من قوة (2)، و إن كان الأحوط استحبابا إعادة الوضوء.

______________________________

المعصية الواقعية.

و التنافي في العمل الواحد بين المقربية و المبعدية إنما هو بمعني امتناع قصد التقرب بما يعلم بمبعديته و يكون العبد فيه متجرئا علي المولي، لا بمعني امتناع تحقق المقربية الواقعية فيما يكون مبعدا واقعا مع تعدد الجهة.

علي أنه لا دليل علي اعتبار المقربية الواقعية في العبادة، بل هي كأصل العبادية مخالفة للإطلاق و الأصل علي التحقيق، و المتيقن في الخروج عنهما اعتبار قصد التقرب الذي هو مقوم للعبادية المفروض حصوله في المقام. فلاحظ.

(1) لما تقدم في المسألة السابقة.

(2) إما لأن الرطوبة من سنخ العرض، و ليست ماء عرفا كي تكون ملكا لمالكه.

أو لأنها- و إن كانت ملكا له- خارجة عن المالية، و دليل حرمة التصرف- كالتوقيع و غيره- مختص بالمال.

أو لأن مبني الضمان مع بقاء العين للحيلولة أو للسقوط عن المالية ارتكازا ليس علي مجرد الغرامة مع بقاء المضمون علي ملك مالكه، بل علي المعاوضة المقتضية لانتقال المضمون إلي ملك الضامن، فتكون الرطوبة في الفرض ملكا للمتوضئ، فيجوز له المسح بها.

لكن يندفع الأول بأن الرطوبة التي يجوز المسح بها ليست من سنخ العرض، بل هي ماء عرفا قابل لأن يملك.

و الثاني بأن الظاهر أن المراد بالمال في أدلة الاحترام ما يعم الملك، و لذا لا

ص: 495

مسألة 66 مع الشك في رضا المالك لا يجوز التصرف

(مسألة 66): مع الشك في رضا المالك لا يجوز التصرف (1)،

______________________________

إشكال ظاهرا في عدم جواز مزاحمة المالك فيما يملكه و إن خرج عن المالية.

و أما الثالث الذي يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه الاعتماد عليه في المقام، فهو إنما يتم مع دفع العوض و قبول المالك به، و أما قبله فالظاهر بقاء المال علي ملك مالكه.

و مجرد كونه مضمونا لا يقتضي المعاوضة فيه و تملك الضامن له. و لذا يمكن تعدد الضامنين للمال الواحد- كما في مورد تعاقب الأيدي- مع وضوح عدم تعدد المعاوضات في حق كل منهم بالإضافة إلي المال الواحد.

بل لازم ذلك جواز الغسل الوضوئي بالماء المغصوب، لسقوطه عن المالية بمجرد صبه علي العضو.

بل يلزم جواز أكل المغصوب و شربه بمجرد مضغه و صيرورته في فضاء الفم قبل ابتلاعه، لخروجه بذلك عن المالية، و لا يظن التزام أحد بذلك و نحوه.

فالبناء علي عدم جواز المسح في غير مورد دفع البدل هو الأظهر.

نعم، لو فرض عدم تقصير المتوضي، فحيث كان بعد الالتفات مضطرا للتصرف في الرطوبة المذكورة، بالمسح أو التنشيف أو نحوهما، فلو فرض عدم الفرق بين المسح و غيره من أنحاء التصرفات بنظر المالك، لم يكن المسح مبعدا بسبب الاضطرار المذكور، و أمكن التقرب به، فيصح الوضوء.

بل قد يجري ذلك في الغسل أيضا لو التفت المتوضي للغصبية بعد إراقة الماء علي العضو.

بل قد يتجه ذلك لو فرض تقصير المكلف، إلا أنه تاب عند الالتفات، لقرب ارتفاع المبعدية حينئذ عند الالتفات، نظير ما تقدم في المسألة الخمسين في الجبيرة المغصوبة.

(1) لاستصحاب عدم طيب نفس المالك، الذي هو موضوع جواز التصرف

ص: 496

و يجري عليه حكم الغصب، فلا بد من العلم بإذن المالك، و لو بالفحوي أو شاهد الحال (1).

مسألة 67 يجوز الوضوء و الشرب من الأنهار الكبار

(مسألة 67): يجوز الوضوء و الشرب من الأنهار الكبار (2)،

______________________________

في ملك الغير بمقتضي موثق سماعة و نحوه «1» مما تقدمت إليه الإشارة عند الكلام في اعتبار إباحة الإناء الذي يتوضأ منه.

بل ذكرنا في الأصول في مسألة انقلاب الأصل في الدماء و الفروج و الأموال أنه مع عدم إحراز إذن المالك يتعين الاحتياط بترك التصرف مع قطع النظر عن الاستصحاب المذكور.

نعم، لو سبق من المالك طيب النفس كان مقتضي استصحابه جواز التصرف.

لكن لا بد من سبق طيب النفس بخصوص التصرف الذي هو محل الابتلاء أو ما يعمه، و لا يكفي طيب النفس بخصوص التصرف السابق، كما هو ظاهر.

(1) تقدم في المسألة الثالثة من فصل أحكام الخلوة الكلام فيهما مفهوما و حكما، و ذكرنا أن المراد بالفحوي الرضا التقديري، الذي هو عبارة عن كون المالك بحيث لو التفت لرضي، و إن كان غافلا حين التصرف.

و بشاهد الحال الفعل الصادر من المالك و نحوه الدال عرفا علي الرضا.

(2) كما صرح به غير واحد و حكي عن آخرين. بل يظهر من بعضهم في نظائر المقام الاتفاق علي ذلك في الجملة، و إن اختلفوا في دليله و مقدار عمومه.

و كيف كان، فقد يستدل عليه بما تضمن اشتراك المسلمين في الماء، كصحيح محمد بن سنان عن أبي الحسن عليه السّلام: «سألته عن ماء الوادي. فقال: إن المسلمين شركاء في الماء و النار و الكلاء» «2»، و قيام الضرورة علي انتفاء الاشتراك

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب مكان المصلي حديث: 1. و باب: 1 من أبواب القصاص حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب إحياء الموات حديث: 1.

ص: 497

______________________________

في كثير من الموارد لا يمنع من الرجوع للعموم المذكور، للزوم الاقتصار في تخصيصه علي المتيقن، و ليس منه المقام.

و فيه: أن كثرة موارد التخصيص و وضوحها تمنع من البناء علي العموم المذكور، و تكشف عن احتفافه بما يصلح لصرفه عن ظاهره بنحو لا ينهض بالاستدلال في المقام.

و لعل الأقرب حمله علي عدم جواز منع هذه الأمور مع بقائها علي الإباحة الأصلية و عدم تملكها ببعض الأسباب، تعريضا بما يزاوله بعض الظلمة من حمي الحمي و منع الرعية من هذه الأمور مع إباحتها الأصلية، أو يصطلح عليه في بعض الأعراف من ثبوت حق السبق فيها من دون حيازة مملكة.

و لا بد أن يراد بالنار حينئذ مادتها و هي الحطب، و إلا فالنار غالبا مملوكة لموقدها، فله المنع منها بالضرورة.

هذا، مضافا إلي غير واحد من النصوص الظاهرة في كون الماء و الكلأ كسائر الأمور قابلين للتملك بالأسباب المتعارفة، كصحيح سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يكون له الشرب مع قوم في قناة فيها شركاء، فيستغني بعضهم عن شربه، أ يبيع شربه؟ قال: نعم، إن شاء باعه بورق و إن شاء باعه بكيل حنطة» «1».

و موثق إسماعيل بن المفضل أو صحيحه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بيع الكلاء إذا كان سيحا، فيعمد الرجل إلي مائه، فيسوقه إلي الأرض فيسقيه الحشيش و هو الذي حفر النهر، و له الماء يزرع به ما شاء. فقال: إذا كان الماء له فليرزع به ما شاء و ليبعه بما أحب» «2».

و نحوهما غيرهما «3»، حيث يلزم لأجلها حمل الصحيح المذكور و نحوه

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب إحياء الموات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب إحياء الموات حديث: 2.

(3) راجع الوسائل باب: 22 من أبواب عقد البيع و شروطه. و باب: 6، 9 من أبواب إحياء الموات.

ص: 498

______________________________

علي غير المملوك.

و ربما يحمل علي الاستحباب لأجلها، و الأول أقرب.

و ربما يجعل جواز التصرف في المقام و نظائره من صغريات قيام شاهد الحال علي رضا المالك، لقيام العادة علي عدم المنع في مثله.

و قد أطال غير واحد في تقريب ذلك.

و يشكل: - مضافا إلي عدم اطراد حصول العلم بعدم المنع، و الظن لا يكفي إلا مع استناده لظهور فعل من المالك، الذي تقدم أنه المراد بشاهد الحال- بأن المعتبر ليس هو عدم المنع من التصرف، بل الإذن فيه أو الرضا به و لو شأنا، بحيث لو التفت المالك لرضي به، و هو غير مطرد، لإمكان عدم رضا المالك لو التفت، لا لاهتمامه بالمال، بل لبغضه للمتصرف، لكونه عدوا في الدين أو الدنيا.

بل قد لا يعتد برضا المالك للتحجير عليه، و قد لا يكون لوليه حق الإذن في التصرف، لعدم كونه صالحا له، بل قد يكون عدمه أصلح له و إن لم يكن هو مضرا به عرفا، فلاحظ.

هذا و عن كاشف الغطاء قدّس سرّه الاستدلال علي الجواز باستلزام المنع للحرج العام، فيسري إلي الخصوص.

فإن أراد الاستدلال بقاعدة نفي الحرج، فهي- مع كون موضوعها الحرج الشخصي لا النوعي، و هو غير مطرد- لا تقتضي جواز الوضوء في ملك الغير، لمنافاته للامتنان، بل تقتضي سقوط الوضوء.

و إن أراد أن لزوم الحرج العام من المنع كاشف عن عدمه، لابتناء الشريعة علي السهولة و عدم الحرج النوعي في أحكامها. فهو لا يخلو عن وجه، إلا أن في بلوغه حد الاستدلال إشكالا.

و العمدة في المقام سيرة المتشرعة من غير نكير علي استعمال المياه المذكورة، فلو كان ذلك محرما لظهر و لم يخف عليهم بسبب كثرة الابتلاء به، و لو ظهر لم تقم السيرة علي ذلك أو اختصت بغير المتدينين مع الاستنكار من

ص: 499

سواء أ كانت قنوات (1) أو منشقة من شط و إن لم يعلم رضا المالكين، و إن كان فيهم الصغار و المجانين (2).

______________________________

المتدينين، كما هو الحال في سائر المحرمات الشائعة.

و عليه، يجب الاقتصار في الحكم علي المتيقن من السيرة المذكورة، لمخالفتها لقاعدة احترام مال المسلم.

بقي شي ء، و هو أن الأنهر قد تشق في الأرض للاستقاء منها من دون أن يقصد حيازة مائها، كما هو الحال في الأنهر التي تعبر علي أراضي متعاقبة لملاك متعددين، فإن كلا منهم لا يستولي علي مائها بعد فرض جريانه لأرض غيره، و لا يملك إلا ما يستقي به من الماء، و بقية ماء النهر علي الإباحة الأصلية، فلا مورد للإشكال فيه.

نعم، يتجه الإشكال في الدخول للأرض المملوكة في طريق النهر، فلا بد فيه من التشبث بما يأتي في الأراضي الواسعة.

(1) قال في مجمع البحرين: «و هي الآبار التي تحفر في الأرض متتابعة ليستخرج ماؤها».

(2) كما صرح به غير واحد في الأراضي الواسعة المتحدة الحكم مع المياه المذكورة ظاهرا، لاشتراكها في أكثر الأدلة المتقدمة، و عن الذكري: أنه مقتضي إطلاق الأصحاب، و عن حاشية المدارك: أنه الذي أفتي به الفقهاء.

قال في الروض: «و لا يقدح في الجواز كون الصحراء للمولّي عليه علي الظاهر، لشهادة الحال و لو من الولي، إذ لا بد من وجود وليّ، و لو أنه الإمام عليه السّلام»، و قريب منه كلام غيره.

و قد تقدم الإشكال في جعل المقام من صغريات الرجوع لشاهد الحال.

و مثله ما عن مجمع البرهان من أن الإذن في أمثال ذلك حاصل، لحصول النفع بدون الضرر، فلا يحتاج إلي إذن المالك و نحوه، لابتناء الحكم علي التوسعة، لظهور ضعف التعليل المذكور، لأن حصول النفع الأخروي للمالك من دون ضرر

ص: 500

و كذا الأراضي الوسيعة جدا (1)، أو غير المحجبة (2)،

______________________________

ليس معيارا للإذن في التصرف منه و لا من الشارع، و حصول النفع الدنيوي من غير ضرر و إن كان مستلزما للإذن منه غالبا، بل قد يستحب التصرف شرعا حينئذ حسبة، إلا أنه غير حاصل في المقام قطعا.

فالعمدة في الجواز جريان السيرة فيه، التي عرفت أنها العمدة في المقام، و لذا لم يكن بناء المتشرعة علي الفحص عن حال المالك.

(1) كلام أكثر الأصحاب وارد في الأراضي الواسعة، كالصحاري، و قل من تعرض للماء، و إنما استفيد حكمهم فيه تبعا، كما أشرنا إليه.

و أكثر ما تقدم من وجوه الاستدلال وارد فيها، و منها السيرة التي عرفت أنها العمدة في المقام.

هذا، و المتيقن منها الأراضي المنكشفة، و هي المنساقة من كلام الأصحاب، لتمثيلهم بالصحاري، و كأنه لابتناء التحجيب عرفا علي صيانة الأرض و احترامها.

فيشكل ما قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه و السيد الطباطبائي في العروة الوثقي من التعميم للمحجبة إذا كانت وسيعة جدا.

نعم، لو تعارف العبور فيها أو التصرف مع تحجيبها مع جريان العادة باطلاع المالك علي ذلك، لم يبعد عن مقتضي السيرة كونها كغير المحجبة، فلاحظ.

(2) و إن لم تكن وسيعة، لقيام السيرة علي العبور في الخرائب و اتخاذها طرقا، بل الجلوس فيها و عدم التحرز من ذلك.

نعم، المتيقن من ذلك ما إذا استند عدم التحجيب للمالك و لو من جهة إهماله، أما إذا استند لغيره من ظالم أو نحوه أشكل قيام السيرة من المتدينين.

و من هنا يشكل التصرف بالعبور و نحوه في الأراضي التي تستملكها الحكومة و تجعلها طرقا أو ساحات أو حدائق عامة أو نحوها، كما تعارف في عصورنا كثيرا، لعدم اختيار المالك في كشفها و رفع الحاجب عنها.

ص: 501

فيجوز الوضوء و الجلوس و النوم و نحوها (1) فيها،

______________________________

لكن الإنصاف أن الجهات الارتكازية و السيرة الفعلية تناسب التعميم، و لا تساعد علي الفرق، بل من القريب جدا ثبوت السيرة علي ذلك من الصدر الأول، لكثرة الابتلاء به بسبب ما كان يقترفه ولاة الجور من هدم دور المؤمنين و اصطفاء ضياعهم، و التحرز عن العبور فيها لو قاربت الطريق و نحوه محتاج إلي عناية يبعد جدا من حال المؤمنين الالتزام بها.

علي أنه لو كان البناء علي التوقف في ذلك لزم التوقف مع الجهل بالحال، ما لم يحرزه استناد كشف الأرض للمالك بوجدان أو أصل، و هو لا يناسب السيرة جدا.

بل يبعد عن المرتكزات الفرق بين كون عدم التحجيب لعجز المالك أو جهله و كونه لمنع الظالم و اغتصابه، و حيث كان المنع في كلتا الصورتين و تخصيص الجواز بصورة إهمال المالك بعيدا عن السيرة جدا كان الجواز في الكل قريبا جدا.

نعم، لو كان العبور ترويجا للظلم و إمضاء له، بحيث يكون للتوقف دخل في إنكار المنكر و إيقاف الظالم عند حده فلا ينبغي الإشكال في حرمة العبور بمقتضي العمومات و ارتكاز المتشرعة، و هو خارج عن محل الكلام و الابتلاء غالبا.

(1) يعني: من التصرفات العابرة غير المبنية علي الاستحكام و الثبات، و التي لا تزاحم المالك و لا توجب الإضرار بالأرض عرفا، و إلا خرجت عن المتيقن من سيرة المتشرعة.

بل الظاهر كونها اعتداء بمقتضي ارتكازهم.

نعم، ربما يكون ترك الناس التصرفات المذكورة أنفع للمالك، لاستلزام تحققها من المجموع لنحو من الضرر التدريجي، و إن لم يترتب ضرر معتد به عرفا علي تصرف كل شخص وحده، و الظاهر اغتفار ذلك و عدم منعه من التصرف، لابتناء السيرة علي التسامح فيه.

ص: 502

ما لم ينه المالك (1).

______________________________

(1) للشك في ثبوت السيرة حينئذ، فالمرجع عموم حرمة التصرف مع عدم طيب النفس.

اللهم إلا أن يقال: مقتضي العموم اعتبار طيب نفس المالك أو إذنه، فحيث علم بعدم اعتبار أحدهما في المقام فقد علم بتخصيص العموم فيه و سقوطه عن الحجية، و هو لا ينهض بإثبات مانعية النهي عن التصرف، لخروجه عن مفاده، و هذا بخلاف بقية موارد قصور السيرة كالأرض الواسعة المحجبة، إذ حيث يحتمل فيها اعتبار طيب النفس لم يعلم بتخصيص العموم فيها، فيكون حجة.

و دعوي: أن توقف جواز التصرف علي الإذن مستلزم لعدم جوازه مع المنع بالأولوية، فسقوط العام في الأول لا ينافي حجيته في الثاني.

مدفوعة بعدم وضوح الأولوية المذكورة، لأن مقتضي العموم المذكور استناد حرمة التصرف في مورد النهي لعدم طيب النفس الملازم له، لا للنهي نفسه، كي يمكن دعوي بقاء تأثيره في الفرض.

علي أن ذلك مبني علي أن سقوط الدليل في المدلول المطابقي لا يسقطه عن الحجية في المدلول الالتزامي، و هو خلاف التحقيق.

فالبناء علي عدم ترتب الأثر علي نهي المالك و جواز التصرف معه لا يخلو عن وجه.

و إن كان في النفس منه شي ء، فلا يترك الاحتياط بالاجتناب.

بل ينبغي تركه مع ظهور كراهة المالك بأمارة عرفية، و إن لم يصرح بالنهي و لم يعلم بالكراهة لخروجه عن المتيقن من السيرة.

بقي شي ء، و هو أنه لو غصب الماء أو الأراضي المذكورة غاصب، فالظاهر بقاء جواز التصرف في حق غيره مع عدم نهي المالك، كما كان قبل الغصب، لعموم السيرة المشار إليها، و لذا لا يبتني تصرفهم علي إحراز عدم الغصب

ص: 503

مسألة 68 الحياض الواقعة في المساجد و المدارس إذا لم يعلم كيفية وقفها لا يجوز لغيرهم الوضوء منها

(مسألة 68): الحياض الواقعة في المساجد و المدارس إذا لم يعلم كيفية وقفها من اختصاصها بمن يصلي فيها أو الطلاب الساكنين فيها أو عدم اختصاصها، لا يجوز لغيرهم الوضوء منها (1)، إلا مع جريان العادة بوضوء كل من يريد مع عدم منع أحد، فإنه يجوز الوضوء لغيرهم منها إذا كشفت العادة عن عموم الإذن (2).

مسألة 69 إذا علم أن حوض المسجد وقف علي المصلين فيه لا يجوز الوضوء منه بقصد الصلاة في مكان آخر

(مسألة 69): إذا علم أن حوض المسجد وقف علي المصلين فيه لا يجوز الوضوء منه بقصد الصلاة في مكان آخر (3)،

______________________________

وجدانا أو تعبدا.

نعم، لا يجوز التصرف للغاصب نفسه، لخروجه عن المتيقن من سيرة المتشرعة بما هم متشرعة.

و تصرف الغاصب نفسه لا يكشف عن عموم الجواز له، لعدم إحراز دخوله في سيرتهم بعد كونه عاصيا بالغصب، فالرجوع لعموم المنع فيه متعين.

بل و كذا في أتباعه ممن يتصرف بتسليطه و تمكينه مبنيا علي احترامه و الاهتمام بيده.

أما من يسترضيه في التصرف خوفا منه مع كون مبني تصرفه علي الجواز له شرعا و لو بدونه، فلا يبعد الجواز له و إن لم يحرز فيه السيرة بالخصوص، لعدم شيوع الابتلاء به، لعدم الفرق بينه و بين مورد السيرة ارتكازا.

و أما تعميم ذلك للغاصب و أتباعه، فلا يخلو عن إشكال.

(1) تقدم الكلام في ذلك في المسألة الرابعة في فصل أحكام التخلي.

(2) أو كشفت عن حجة علي الجواز، أو رجعت إلي يد نوعية علي الوقف، علي ما تقدم التعرض له في المسألة المذكورة، كما تقدم هناك الكلام في حجية خبر متولي الوقف و بعض الموقوف عليهم. فراجع.

(3) لخروجه حينئذ عن شرط الواقف فيحرم كالوضوء من المغصوب.

ص: 504

و لو توضأ بقصد الصلاة فيه، ثمَّ بدا له أن يصلي في مكان آخر أو لم يتمكن من ذلك فالظاهر عدم بطلان وضوئه (1)، و كذلك يصح لو توضأ غفلة، أو باعتقاد عدم الاشتراط (2). و لا يجب عليه أن يصلي فيه (3)، و إن كان أحوط.

______________________________

و منه يظهر عدم صحته بالعدول عن القصد المذكور و الصلاة في المسجد، لأن الوضوء يبطل بمجرد التجري حينه.

كما ظهر امتناع الوضوء مع التردد في إيقاع الصلاة في المسجد، لاستصحاب عدمها، بناء علي ما هو الظاهر من جريان الاستصحاب في الأمر المستقبل.

(1) أما إذا كان الشرط هو قصد الصلاة في المكان الخاص حين الوضوء، فلتحقق شرط الواقف.

و أما إذا كان الشرط هو نفس الصلاة- كما هو مقتضي الجمود علي ظاهر التعبير- فلأن ترك الصلاة يكشف عن خروج الوضوء عن شرط الواقف، فيكون نظير الوضوء بالماء المغصوب جهلا بغصبيته، الذي تقدم عدم بطلانه.

ثمَّ إن محل الكلام ترك الصلاة مطلقا فيها، لا ترك خصوص الصلاة التي توضأ لأجلها، مع الإتيان بغيرها فيه، لتحقق شرط الواقف.

إلا أن يفرض اشتراطه خصوص الصلاة التي توضأ لأجلها، فلا بد في الحكم ببطلان الوضوء- لو قيل به مع تخلف شرط الواقف- من تعذر الإتيان بالصلاة المذكورة فيه، و لا يكفي فيه مجرد الإتيان بها في غيره، للحكم ببطلانها، إذ يلزم من الحكم بصحتها عدمها.

أما الحكم ببطلانها مع صحة الصلاة بعدها في المسجد، فلا يلزم منه إلا تقييد الإطلاق المقتضي لإجزاء الصلاة مع الطهارة، و لا محذور فيه.

(2) لعدم تنجز الحرمة حينئذ، فلا يمتنع التقرب.

(3) لأن مفاد شرط الواقف ليس إلا تقييد الموقوف عليهم بالشرط، فنفوذه

ص: 505

______________________________

لا يقتضي إلا حرمة تصرف فاقد الشرط، و المفروض معذوريته حين التصرف، لقصده تحقيق الشرط أو لجهله بأخذه، و لا دليل علي وجوب إدخال المتصرف نفسه في الموقوف عليهم بعد التصرف.

نعم، لو كان مرجع شرطه إلي إلزام آخر في قبال الوقف، من دون أن يقتضي تقييده- نظير التزام المتبايعين بالشرط في ضمن البيع- كان مقتضي نفوده لزوم القيام به من المتصرف.

و كذا لو كان مرجعه إلي أمر الولي بإيقاع عقد مع المتصرف يقتضي استحقاق المتصرف للتصرف في مقابل تحقيقه للشرط، و التفت المكلف لذلك قبل التصرف، فأقدم علي التصرف بداعي إيقاع العقد المذكور و قبوله الفعلي بالتصرف، إذ مقتضي وجوب الوفاء بالعقد المذكور تحقيق الشرط.

لكن الأول- مع بعده في نفسه- لا دليل علي نفوذه، لظهور عموم نفوذ الشرط في لزوم قيام الإنسان بما يشترطه علي نفسه، لا لزوم قيامه بما يشترط عليه غيره أو استحقاقه لما يشترطه لنفسه، و لذا كان قاصرا عن إثبات نفوذ الشرط في الإيقاع.

و الثاني مبني علي عناية خارجة عن محل الكلام.

و منه يظهر ضعف الاحتياط في المقام.

نعم، لو كان التصرف لغير الموقوف عليهم مضمونا علي التصرف لابتناء الوقف علي ملكية الموقوف عليهم للمنفعة، توقفت البراءة من الضمان علي تحقيق شرط الواقف، سواء وقع التصرف منه بقصد إيقاع الشرط، أم للغفلة عنه، أم لاعتقاد عدمه، أم اضطرارا، أم إكراها، أم بقصد عدم إيقاع الشرط مخالفة للواقف، لعدم الفرق بين الجميع في ذلك.

بل قد يدعي وجوب إيقاع شرط الواقف في الصورة الأخيرة عقلا، تجنبا عن كون التصرف السابق مخالفة للوقف و معصية للشارع، لفرض كونه مسؤولا به حين وقوعه، لقصده المخالفة به، فيكون متجرئا مستحقا للعقاب، و المتيقن من مسقطية التوبة غير صورة إمكان الفرار عن المعصية.

فراجع ما تقدم فيما يجب علي المغتاب للفرار عن العقاب و تأمل.

ص: 506

مسألة 70 إذا دخل المكان الغصبي غفلة، و في حال الخروج توضأ بحيث لا ينافي فوريته

(مسألة 70): إذا دخل المكان الغصبي غفلة، و في حال الخروج توضأ بحيث لا ينافي فوريته، فالظاهر صحة وضوئه (1)، و كذا إذا دخل عصيانا ثمَّ تاب و خرج و توضأ في حال الخروج (2).

______________________________

هذا، و لو فرض عدم استحقاق العقاب علي التجري، أو كون عقابه دون عقاب المعصية فالأمر أظهر.

(1) لأن الاضطرار للتصرف في الفضاء المغصوب حال الخروج لما لم يكن بسوء الاختيار كان مسقطا للتكليف من دون أن يقتضي المبعدية، فلا يمنع من التقرب حينه بالوضوء.

نعم، لا بد من عدم استلزامه التصرف بإراقة الماء في الأرض زائدا علي التصرف المضطر إليه، و إلا لحقه حكم غصبية المصب.

(2) بناء علي ما أشرنا إليه في الجبيرة المغصوبة و غيرها من مسقطية التوبة للمبعدية الحاصلة بالعصيان، و حيث كان الاضطرار للخروج مسقطا للتكليف فلا مانع من التقرب بالوضوء حينه.

و هذا بخلاف ما لو لم تحصل التوبة، لأن الاضطرار لما كان بسوء الاختيار فهو و إن كان موجبا لسقوط التكليف، إلا أنه موجب لمبعدية الفعل، فيمتنع التقرب به.

هذا، و الكلام في هذه المسألة مبني علي اعتبار إباحة الفضاء، و إلا اختص الإشكال بما إذا لزم زيادة التصرف في الأرض بإراقة الماء عليها.

ص: 507

______________________________

تتميم:

ذكر في العروة الوثقي فروعا تبتني علي اعتبار الإباحة، بعضها ظاهر الحكم في نفسه أو باعتبار ما تقدم، فلا ينبغي إطالة الكلام بالتعرض له، و ما يهم منها:

الأول: في الوضوء تحت الخيمة المغصوبة.

و الكلام فيه يتفرع علي حرمة استغلالها بالجلوس و نحوه، إذ لو حل ذلك فلا إشكال في صحة الوضوء، فالمناسب التعرض لحكم الجلوس و نحوه.

و يظهر من غير واحد حرمته مطلقا أو في مورد الحاجة إليه.

و قد يوجه.

تارة: بأنه يكون انتفاعا بالخيمة، فيحرم، كما في الجواهر.

و اخري: بأنه تصرف فيها، مطلقا كما هو ظاهر الروض و صريح شيخنا الأستاذ قدّس سرّه، أو في مورد الحاجة، كما يظهر من العروة الوثقي.

و يشكل: الأول بمنع الكبري، بل تختص الحرمة بالتصرف، كما تقدم في الوضوء من الإناء المغصوب، بل لا ينبغي الريب في عدم حرمة كل انتفاع، إذ لا ريب في جواز الاستضاءة بسراج الغير و الاستظلال بظل ناقته و المتابعة له في القراءة. و هو الظاهر من الجواهر في مبحث مكان المصلي، و عليه بني جواز الاستظلال بحائط الغير.

و الثاني بمنع الصغري، لتوقف صدق التصرف علي نحو من التقليب للشي ء و تغييره من حال الآخر، و لا يكفي فيه مجرد الانتفاع به، للحاجة، فضلا عما لم يكن معها. و منه يظهر ضعف ما في جامع المقاصد من صدق التصرف و الانتفاع معا بالجلوس و نحوه، و ظاهره أن المدار في التحريم عليهما.

نعم، ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أن الجلوس مع الحاجة حينئذ من المنافع ذات المالية، فيكون مملوكا لصاحب الخيمة، فيحرم استيفاؤه بغير إذنه، لأنه و إن لم يكن تصرفا في العين، إلا أنه تصرف في المنفعة المملوكة، و عموم حرمة التصرف

ص: 508

______________________________

في مال الغير لا يختص بالأعيان، أما مع عدم الحاجة فلا مالية للمنفعة فلا تكون مملوكة، للفرق بين المنفعة و العين بتوقف ملكية الأولي علي ماليتها، بخلاف الثانية.

و كأن منشأ ما ذكره هو ما أشرنا إليه من جواز الانتفاع ببعض منافع بعض الأعيان من دون رضا مالكها.

لكن لو كان منشأ ذلك عدم ملكيتها لزم امتناع الاستئجار عليها، مع وضوح جوازه و نفوذه.

فالتحقيق أن المنفعة كالعين تملك مطلقا، إذ ليس المنشأ لملكيتها إلا كونها نماء للملوك، و لا يتعين في ملكية النماء المالية.

لكنها لا تملك لصاحبها بالفعل، بل هو مسلط علي تمليكها بإجارة و نحوها، نظير الذميات التي لا يملكها الإنسان علي نفسه و إن كان له أن يملّكها لغيره، فكما لا يملك الإنسان دراهم في ذمته لا يملك منفعته أو منفعة شي ء من أعيانه، و إنما يسلط علي تمليك جميع ذلك.

نعم، هي تضمن بالاستيفاء من دون تمليك، و هو إنما يكون باستحصال المنفعة من العين بجعلها صالحة للانتفاع، لا بمجرد الانتفاع بالعين من دون تصرف فيها.

كما أن تملك الغير لها إنما يقتضي تملكه لذلك، ببذلها من صاحبها الذي ملكت عليه، بالقيام بها أو ببذل العين التي تقوم بها.

أما الانتفاع المجرد من دون أن يقتضي تصرفا في العين، بأن تكون العين بنحو صالح للانتفاع من دون تصرف من المالك أو المنتفع، فليس مملوكا و لا مضمونا، و إن كان متنافسا عليه بين العقلاء لترتب الفوائد المهمة عليه.

و بعبارة أخري: المنفعة أمر إضافي قائم بين المنتفع و العين المنتفع بها، و ترتبها بينهما يتوقف علي كون العين المنتفع بها بنحو صالح لإفادة المنفعة، و كون المنتفع بها بنحو يستثمرها و يستفيد منها، فترتب القراءة علي سراج الغير مثلا إنما

ص: 509

______________________________

يكون بإشعال السراج و قراءة القارئ أمامه، و ملكية المنفعة المذكورة لا ترجع إلي ملكيه الأمر الثاني، بل إلي ملكيه تحصيل الأول، المبني علي نحو من التصرف في العين و لو بإبقائها علي حالها الموجب لذلك، و هو المعيار في الضمان بالاستيفاء، و حينئذ يمكن تملكه- بمعني القدرة علي تمليكه- و إن لم يكن له مالية.

فإذا فرض ترتب الأمر المذكور بنفسه و خروجه عن سلطان المالك بحدوثه و ببقائه امتنعت ملكية المنفعة أو تمليكها أو ضمانها. و ترتب الانتفاع من قبل المنتفع من دون أن يكون له دخل في الأول لا يكون محرما و لا مضمونا، و إن كان كان موردا لتنافس العقلاء.

فإذا تعلق الغرض بالقراءة علي سراج شخص، فإن أشعله القارئ أو حمل مالكه علي إشعاله مدة قراءته كان ذلك منفعة مملوكة و مضمونة، و إن لم يكن دخيلا في إشعاله فالقراءة عليه انتفاع محض غير مملوك و لا مضمون.

و يناسب ذلك ما صرحت به النصوص و الفتاوي من الاكتفاء في تسليم المنفعة و استحقاق الأجرة بتسليم العين مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها و إن لم يستوفها المستأجر.

و يترتب علي ما ذكرنا أن من غصب عينا و انتفع بها كان عاصيا في التصرف بالعين بنحو يجعلها صالحة للانتفاع، لا في نفس الانتفاع إذا لم يتحد مع ذلك خارجا، كالقراءة علي السراج و الاستظلال بظل الناقة.

و بذلك ظهر الحال في الجلوس تحت الخيمة المغصوبة، فإنه حيث لم يفرض فيها التصرف بالنصب فلا وجه لحرمته و لا لضمانه. بل لا يحرم و لا يضمن حتي مع التصرف فيها بالنصب، لعدم اتحادهما خارجا.

و دعوي: أن ذلك يستلزم جواز مزاحمة المالك في الجلوس تحت خيمته إذا نصبها في الأرض المباحة و عدم ضمانه، بل عدم صحة الإجارة عليه بعد النصب.

مدفوعة: بأن نصبها يوجب له حق السبق في الأرض المقتضي لأولوية

ص: 510

______________________________

التصرف له عرفا، بل قد يدعي حينئذ ملكيته لمنفعة الأرض، لأنه نحو من الحيازة لها، فيحرم مزاحمته.

كما يكون سلطانه علي التمكين من ذلك أمرا مصححا للإجارة كقدرته علي تقويض الخيمة و إبقائها.

و لذا لا يجوز مزاحمته حتي لو لم يصدق الانتفاع، لعدم الفائدة أو لزوم الضرر بالدخول تحت الخيمة.

نعم، لو فرض نصبه للخيمة لا بداعي السبق للمكان و الاستيلاء علي منفعته لم يبعد جواز مزاحمته، و عدم أولويته حينئذ.

ثمَّ إن هذا التفصيل لو تمَّ لجري في الوضوء، فيحرم و يبطل إذا عد انتفاعا بالخيمة، بأن توقف حصوله بالوجه المرغوب فيه عليها، كما لو فرض تعذر تحصيله خارجا أو صعوبته، لجفاف الماء بالحرّ أو الهواء، أما لو لم يكن كذلك فلا يحرم و لا يبطل و إن عدّ الجلوس تحتها انتفاعا، لعدم اتحاده مع الجلوس.

فما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره من جريان التفصيل المذكور في الجلوس دون الوضوء و أنه لا يحرم مطلقا لعدم اتحاده مع الجلوس، في غير محله.

الثاني: إذا وقع قليل من الماء المغصوب في كثير من الماء المباح المملوك أو غيره، فإن كان متميزا فيه حرم التصرف فيه بلا إشكال.

و لعله إليه يرجع ما في العروة الوثقي من وجوب إرجاعه إلي مالكه مع إمكانه.

و إن امتزج به، ففي صيرورة مالكه شريكا في مجموع الماء بالنسبة، فلا بد من إذنه في حل التصرف فيه، أو ضمان الماء المذكور لصيرورته بحكم التالف لاستهلاكه فيه بسبب قلته، و يبقي الماء علي إباحته، وجهان. احتمل أولهما في العروة الوثقي، و جزم بثانيهما سيدنا المصنف قدّس سرّه، لما هو مختاره من عدم الاستهلاك مع اتحاد الجنس، أما بناء علي ما هو الظاهر من تحقق الاستهلاك مع اتحاد الجنس فقد يتعين الأول.

ص: 511

______________________________

لكن تقدم في الفرع الثاني من فروع الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر أن استهلاك القليل في الكثير إنما هو بمعني انعدامه عرفا بحدّه المميز له عن غيره، كخصوصية الاستعمال في الماء، و خصوصية الخمرية و الدموية، أما بلحاظ ذاته فلا مجال لدعوي انعدامه، إذ لا ريب في زيادة الكثير بالقليل عرفا المستلزم لانحفاظ ذاته فيه.

و من هنا يتعين ترتب الأحكام التابعة للذات، و إن لم تترتب الأحكام التابعة للخصوصية بما لها من حد مميز.

و الظاهر أن حرمة الاستعمال و التصرف و إن كانت تابعة لخصوصية كون الشي ء مملوكا للغير، إلا أن الشركة من الأحكام العرفية التابعة للذات، فإن كل جسمين امتزجا فمالكاهما يشتركان في المجموع بالنسبة من دون دخل لخصوصية أحدهما المميزة له، حيث يأتي ذلك في مختلفي الجنس، بل حتي لو كان الممتزج حقيقة ثالثة عرفا.

و علي هذا ينطبق دليل حرمة التصرف في ملك الغير لا بلحاظ الأجزاء المنبثة من القليل، لفرض استهلاكه بحده، بل بلحاظ الشخص المستحق في المجموع الذي لا يقبل الاستهلاك.

نعم، هذا مبني علي أن الشركة بالامتزاج حقيقة واقعية، أما بناء علي ما هو الظاهر من أنها حكمية ظاهرية راجعة إلي البناء ظاهرا علي أن التلف و النماء منهما بالنسبة، مع بقاء كل منهما بذاته علي ملك صاحبه، فاللازم البناء علي جواز التصرف، لأن مالك القليل لا يملك في الحقيقة الشخص من المجموع، كي لا يقبل الاستهلاك، بل يملك عين مائه المفروض استهلاكه لقلته و عدم صدق التصرف فيه عرفا بسبب ذلك، و إن كان المال موجودا بعينه و باقيا علي ملك صاحبه، لأن الملكية قائمة بالذات من دون دخل للخصوصية، كما سبق، و لذا لا ريب ظاهرا في الحكم بملكيته له لو أمكن عزله بعد امتزاجه، فيفصل بينهما بالمصالحة و نحوها.

و لو تعذر ذلك لم يبعد جريان ضمان الحيلولة في حق من يجعل الماء

ص: 512

و منها: النية
اشارة

و منها: النية

______________________________

القليل في الكثير، فتأمل.

و لعل ما ذكرنا هو الأنسب بمقتضي السيرة، إذ من البعيد جدا توقف مالك الكثير عن التصرف بماله بمجرد إلقاء شي ء قليل عليه.

و لا أقل من كونه مقتضي أصالة البراءة بعد الشك في عموم حرمة التصرف لمثل المقام.

(1) كما ذكره كثير من الأصحاب، و ادعي عليه الإجماع في كلام جماعة- علي اختلاف عباراتهم- فقد صرح به في الخلاف و الغنية و المنتهي و جامع المقاصد و كشف اللثام و المدارك، و محكي التذكرة و المختلف و الإيضاح و التنقيح.

نعم، عن الذكري أنه نسب لابن الجنيد القول بالاستحباب، و أنه لم يذكرها قدماء الأصحاب، كالصدوقين و الجعفي، و في المعتبر: «و لم أعرف لقدمائنا فيه نصا علي التعيين».

لكن خلاف ابن الجنيد لا يقدح في الإجماع، و لا سيما مع ما في المعتبر من نسبة القول بالشرطية إليه. و إهمال قدماء الأصحاب لها قد يكون ناشئا من وضوح اعتبارها من ارتكازيات المتشرعة و سيرتهم، الناشئة من وضوح كونه من العبادات، و لا سيما مع أن طريقتهم الاقتصار علي مضامين الأخبار.

و إلا فيمتنع عادة تسالم من عرفت علي الوجوب، و حكايتهم الإجماع في مثل هذا الأمر الذي يكثر الابتلاء به من دون أن يكون متسالما عليه بين الأصحاب و المتشرعة، و لا سيما مع نقلهم الخلاف عن بعض العامة، لملازمة ذلك غالبا لتنبه الطائفة للمسألة، و لو كانوا مختلفين فيها لم يحصل التسالم المذكور، و لا سيما مع كون عباديته تعبدية لا ارتكازية، و الأدلة النقلية المذكورة في كلماتهم ليست من الوضوح بحد يستوجب التسالم المذكور.

و بهذا يخرج عن مقتضي الإطلاق المقامي، بل اللفظي، لأدلة الوضوء، بناء

ص: 513

______________________________

علي ما هو التحقيق من أنها المرجع في العبادية، بل لو فرض قصور الإطلاقات في نفي العبادية كان المرجع فيه أصل البراءة في غير مثل الوضوء من موارد الشك في المحصل، كما هو الحال في سائر موارد الدوران بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و أما ما ذكره غير واحد- منهم الشيخ قدّس سرّه في الخلاف- من قصور إطلاق الآية، بل ظهورها في اعتبار النية، لظهورها في كون الوضوء للصلاة، و لا يكون الإنسان متوضئا للصلاة إلا بالنية.

ففيه- مضافا إلي التسالم علي عدم اعتبار قصد الصلاة في الوضوء، حتي الذي هو شرط في الصلاة-: أن الآية لم تتضمن القيد المذكور صريحا، و غاية ما يستفاد منها بضميمة التسالم علي شرطية الوضوء للصلاة كون الأمر به لأجل الصلاة بلحاظ دخله في ترتب ملاكها، فغائية الصلاة له منتزعة من شرطيته منها كغائيتها للتطهير من الخبث، لا قيدا فيه بحيث يجب قصدها حينه، لتكون سابقة علي الشرطية رتبة، لأخذها في موضوعها، و هو الشرط، كما هو المدعي.

هذا، و قد استدل عليه في كلماتهم أيضا.

تارة: بقوله تعالي وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ «1».

و أخري: بما في غير واحد من النصوص من أنه لا عمل إلا بنية، و أن الأعمال بالنيات، و لكل امرئ ما نوي «2».

و يشكل: الأول بأن الظاهر من الإخلاص للّه تعالي في الدين هو التوحيد في مقابل التدين بالشرك، كما يناسبه عطف الصلاة و الزكاة اللتين هما من الواجبات الزائدة علي التوحيد.

و أما الإخلاص فيما نحن فيه، فهو إخلاص في العمل، و هو واجب في الصلاة و الزكاة أيضا، فلا يناسب عطفهما عليه.

______________________________

(1) سورة البينة: 5.

(2) راجع الوسائل باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات.

ص: 514

______________________________

علي أنه لو فرض إرادته من الآية، فهي لا تنفع فيما نحن فيه، لأن اللام إن كانت للغاية بلحاظ نفس الأمر أو لتقوية العامل- كما لعله يرجع إليه ما في كلام بعضهم من أنها لام الإرادة- فهي لبيان المأمور به، فتدل علي أنهم لم يؤمروا إلا بالعبادة الخالصة له تعالي- إن كان الحصر حقيقيا- أو لم يؤمروا بالعبادة إلا علي وجه الإخلاص له تعالي- إن كان الحصر إضافيا- لا أنه يعتبر في الواجبات أن تكون عبادية، فهي ظاهرة في بيان قضية خارجية خبرية عن حال تشريعاتهم، لا قضية حقيقية تشريعية تتضمن تقييد الواجبات، لينفع فيما نحن فيه.

و إن كانت اللام للغاية بلحاظ المأمور، به فهو ظاهر في أنهم أمروا بأشياء فائدتها التوفيق للعبادة الخالصة، نظير ما تضمن بيان فوائد كثير من الواجبات، و لا دلالة لها علي تعيين ما وجب عليهم، فضلا عن اعتبار العبادية فيه.

علي أنه وارد لبيان حكم أهل الكتاب، فالاستدلال به في حقنا مبني علي جريان أحكامهم في حقنا بالاستصحاب، أو أصالة عدم النسخ- الذي هو خلاف التحقيق- أو جريان خصوص هذا الحكم، لما قيل من أن قوله تعالي وَ ذٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ دال علي استمرار الحكم المذكور و ثبوته في جميع الأديان.

و أما الثاني، فربما يظهر من بعضهم الاستدلال به بحمله علي النفي الحقيقي بلحاظ دلالته علي ما هو المعلوم من توقف الأفعال الاختيارية علي النية.

لكنه- مع أنه أجنبي عما نحن فيه، لأن مرادهم بالنية قصد الفعل بنحو مقرب، و لا يتوقف الفعل الاختياري علي ذلك- بعيد في نفسه، لأنه أمر تكويني خارجي لا غرض ببيانه، بل ظاهر الحديث الحث علي النية بلسان نفي الموضوع ادعاء.

و حينئذ فنقول: بعد تعذر حمله علي الحقيقية فليس حمله علي إناطة الإجزاء بالنية المستلزم للشرطية بأولي من حمله علي إرادة إناطة الثواب و نحوه بها، لأن كلا منهما مورد لغرض المكلف صالح لأن يبين.

و دعوي: منافاة ذلك لما ذكروه من أن نفي الصحة أقرب إلي نفي الحقيقة

ص: 515

______________________________

من نفي الكمال.

ممنوعة، فإن نفي الكمال مع الصحة راجع إلي ترتب بعض الأثر المطلوب، أما الثواب و الإجزاء فنفي كل منهما يرجع إلي عدم ترتب شي ء من الأثر المطلوب، و التردد بينهما إنما هو للتردد في الأثر المهم المنظور للمتكلم الذي يصح النفي بلحاظه.

و مثلها دعوي: أن مقتضي الإطلاق العموم لكلا الأثرين.

لاندفاعها: بعدم الجامع بينهما عرفا، إذ لو أريد نفي الثواب كانت القضية ارتكازية إرشادية، و لو أريد نفي الإجزاء كانت تعبدية محضة ترجع إلي تقييد إطلاقات التشريع بالنية.

و بهذا يظهر أن الأول أظهر في نفسه، لأن انس الذهن بالقضايا الارتكازية يصلح للقرينية عرفا علي حمل الكلام عليها مع تردده بينها و بين غيرها بدوا، و لا سيما مع استلزام الحمل علي الثاني كثرة التخصيص بنحو ظاهر عند الخطاب بالكلام، لأن عدم العبادية في كثير من الأعمال في الجملة من الواضحات التي لا تخفي بحال، و هو مما يوجب انصراف الذهن عنه.

علي أنه لا مجال للاحتمال المذكور في قولهم عليهم السّلام: «إنما الأعمال بالنيات» و «لكل امرئ ما نوي» بحسب التركيب اللفظي، لظهوره في اختلاف العمل باختلاف النية، لا في نفي العمل عند عدمها، ليجري فيه ما تقدم.

و من الغريب ما في الجواهر، من الاستدلال بالنبوي: «إنما الأعمال بالنيات، و لكل امرئ ما نوي، فمن غزا ابتغاء ما عند اللّه فقد وقع أجره علي اللّه عز و جل، و من غزا يريد عرض الدنيا أو نوي عقالا لم يكن له إلا ما نوي» مع وروده في الجهاد الذي هو من التوصليات و صراحته في إرادة الثواب.

نعم، لو فرض المفروغية عن كون الوضوء من العبادات المقربة، فحيث كانت العبادية متقومة بالقصد يتجه الاستشهاد بالأحاديث المذكورة و بالآية بناء علي كونها مما نحن فيه.

ص: 516

______________________________

و ربما يكون ذلك هو مبني كلام غير واحد ممن ذكرها في المقام.

قال في الروض: «فوجوب نية القربة في الوضوء و في كل عبادة لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه، و مما استدل به عليه قوله تعالي وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.».

و قال في جامع المقاصد: «لا ريب أن الطهارة عن الحدث فعل مطلوب للقربة، و هو اتفاقي. و وقوعه علي وجوه متعددة بعضها معتبر عند الشارع و بعضها غير معتبر أمر معلوم، و ما هذا شأنه فلا بد فيه من النية، لأن بها يصير واقعا علي الوجه المطلوب شرعا، لأن المؤثر في وجوه الأفعال هو النية، كما دل عليه قوله عليه السّلام: إنما الأعمال بالنيات، و إنما لكل امرئ ما نوي».

و قد يناسب المفروغية المذكورة سوقه في كثير من النصوص مساق الصلاة حتي كان الشروع فيه شروعا فيها، مثل ما تضمن أنه افتتاحها «1»، و أنها ثلاثة أثلاث ثلث طهور و ثلث ركوع و ثلث سجود «2»، و كذا ما تضمن النهي عن صب الماء علي اليد من الغير حين الوضوء معللا بعدم الإشراك في العبادة، أو في الصلاة التي هي عبادة «3»، بل في موثق السكوني: «خصلتان لا أحب أن يشاركني فيها أحد:

وضوئي، فإنه من صلاتي، و صدقتي.» «4»، و كذا ما تضمن أنه شطر الإيمان «5»، و أن الإمامين الحسن و السجاد عليهما السّلام كانا إذا توضأ اصفر لونهما، و قد عللا ذلك بأنهما يتأهبان للوقوف بين يدي اللّه تعالي «6»، إلي غير ذلك مما يظهر منه تميز الوضوء عن غيره من المقدمات و أنه من سنخ العبادات، فإن هذا يناسب

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الوضوء حديث: 4، 7.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الركوع حديث: 1.

(3) راجع الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء.

(4) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(6) البحار المجلد: 1 ص: 93. و مناقب ابن شهرآشوب ص: 18، 289 مستدرك الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء.

ص: 517

و هي أن يقصد الفعل (1)،

______________________________

المفروغية المذكورة، و إن لم يصلح بنفسه للاستدلال.

هذا، و قد أطال في المنتهي في ذكر وجوه للاستدلال علي اعتبار النية لا تخلو عن إشكال.

نعم، ذكر أنه روي الجمهور عن علي عليه السّلام أنه قال: «النية شرط في جميع الطهارات»، لكن لم أعثر في كلام غيره من أصحابنا علي من أشار لهذه الرواية، و هي بعبارات الفقهاء أشبه منها بعبارات الروايات، إلا أن تكون منقولة بالمعني.

ثمَّ إن الأصحاب بين من عبر بشرطية النية في الطهارات، و من عبر بجزئيتها منها، و من أجمل من هذه الجهة و عبر بكونها من فروضها و واجباتها.

و حيث لا تظهر ثمرة في تحقيق أحد الأمرين، فلا ينبغي الاهتمام بذلك و إن أطال فيه غير واحد من أعاظم الأصحاب.

كما لا مجال لإطالة الكلام في أن اعتبارها فيها شرعي تابع للأمر بها معها بأمر آخر مع التلازم بين الأمرين في مقام الامتثال، أو لتقييد أمرها بها، أو عقلي محض ناش من دخلها في ملاكها، المستلزم لعدم تحقق قصد الامتثال بدونها، فإن الكلام في ذلك قد استوفي في الأصول. و عليه يبتني المرجع عند الشك في أصل اعتبارها أو في بعض خصوصياتها، فراجع.

(1) فقد فسرت النية بالقصد في المنتهي و عن كثير من الأصحاب و بعض أهل اللغة، كما فسرت في الشرائع و القواعد و عن جماعة بالإرادة، و عن رسالة الفخر: «عرفها المتكلمون بأنها إرادة من الفاعل للفعل مقارنة له. و عرفها الفقهاء بأنها إرادة الفعل المطلوب علي وجهه».

و قد أطالوا الكلام في ذلك بما لا مجال لمتابعتهم فيه بعد عدم أخذ عنوان النية في دليل المسألة، لما عرفت من قصور النصوص عن إثبات وجوبها، بل من القريب كون اختلافهم في تحديد النية و تعريفها لا في واقعها، فيكون النزاع لفظيا.

ص: 518

______________________________

و الذي ينبغي أن يقال: لا إشكال في تقوم عبادية العمل بقصد التقرب له تعالي به- علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي- و هو مستلزم لكون العبادة فعلا اختياريا لا بد من التفات الفاعل إليه في الجملة، و لا يقع مع السهو و الغفلة.

بل لما كان المقصود هو التقرب بالفعل لزم قصده بالوجه الدخيل في مقربيته المحقق لعنوانه المأخوذ في الخطاب به، فلو كان المكلف به هو الفعل بعنوان خاص أو كيفية خاصة لم يكف قصده بوجه آخر، و إن وقع علي الوجه المطلوب، لتخلف ذلك القصد.

فإذا كان الواجب المقرب هو الغسل بالماء المطلق لم يكف قصد الغسل بالماء المضاف و إن وقع الغسل بالماء المطلق.

و بهذا افترقت العبادات عن التوصليات، حيث يكون المعيار فيها علي تحققها بالوجه المطلوب و إن قصد خلافه حين الشروع فيها.

نعم، الظاهر كفاية القصد الإجمالي مع عدم العلم بخصوصية العبادة العنوانية أو الخارجية تفصيلا، فيصح الوضوء ممن لم يعلم بكيفيته و لا بعنوانه تبعا لأمر العارف أو فعله و إن لم يعرفه بتمامه و عنوانه حين الشروع فيه إذا كان من نيته الإتيان بتمام ما هو الواجب بالوجه المحقق للعنوان المطلوب واقعا، إذ لا دليل علي وجوب القصد التفصيلي للعنوان أو الكيفية. بل مقتضي الإطلاق و الأصل عدمه، كما عرفت.

نعم، لو كان مفاد دليل اعتبار النية المتقدم اعتبار قصد الفعل زائدا علي قصد التقرب امتنع حمله علي ما ذكرنا، لما عرفت من أنه لازم لقصد التقرب، فيلغوا اعتباره معه.

لكن لا مجال لذلك، لاختصاص الدليل عليها بالإجماع الذي يقرب كون المراد منها فيه قصد القربة، بل في كشف اللثام أنه حقيقة النية الواجبة، و هو المناسب للآية و النصوص التي استدلوا بها.

و لعل ذكر قصد الفعل في كلماتهم لتوقفه عليه في الجملة، لا لأنه معتبر

ص: 519

______________________________

معه، أو لأنه المراد بالنية، و قصد القربة أمر زائد علي النية.

و أشكل من ذلك ما يظهر من بعضهم- بل ربما نسب للمشهور- من لزوم إخطار صورة العمل أو عنوانه تفصيلا حين الشروع فيه، بنحو يظهر منهم عدم الاكتفاء بالقصد الارتكازي الإجمالي تبعا للعادة و نحوها الذي قد يعبر عنه في كلماتهم باستدامة النيّة، كما يظهر من نزاعهم في وجوب استحضار نية الصلاة قبل التكبير متصلا به، أو عند الشروع فيه، أو في تمام زمانه، و ما ذكره من التفريق بين حالي الشروع في الفعل و الاستمرار فيه من اعتبار النية الفعلية في الأول، و الاكتفاء بالحكمية في الثاني.

و يظهر الإشكال فيه مما ذكرنا، فإن التقرب بالعمل لا يتوقف علي الإخطار المذكور، بل يكفي فيه القصد الإجمالي الارتكازي، و لا دليل علي اعتبار ما زاد عليه.

بل لا ينبغي الشك في عدم اعتباره، لما يستلزمه من كلفة و عناية تخرج بالناس عن مقتضي طبعهم في العبادات، فلو كان معتبرا لظهر في سيرتهم، و لاستوجب كثيرا من الأسئلة و البيانات، فعدم ذلك شاهد بعدم اعتبار غير ما ذكرنا مما هو مقتضي طبع الناس في كل فعل اختياري مقصود، بل هو مقتضي سيرة المتشرعة في أكثر الأمور العبادية من الزيارات و الأدعية و الأوراد و الأعمال، و مراعاة ذلك من بعض المتنبهين في الصلاة و نحوها ناش من الاهتمام بها بعد التنبيه لهذا الأمر، و قد وقع كثير منهم في مشاكل من جراء ذلك.

و مما يشهد بما ذكرنا، اتفاقهم علي الاكتفاء بالنية الحكمية أو استدامة النية بعد الشروع مع أنه لا يفرق في دليل النية بين الحالين.

و التفريق بينهما بالسيرة أو بلزوم العسر، في غير محله، لقلة من يتعمد الإخطار و نشوء ذلك منه بسبب التنبيه، لا بمقتضي ارتكازياته العقلائية أو المتشرعية ليكشف عن أخذه من الشارع أو إمضائه له.

و العسر إنما يمنع من استيعاب تمام العمل بالنية الإخطارية، و لا يميز أول

ص: 520

و يكون الباعث إلي القصد المذكور أمر اللّه تعالي (1). من دون فرق بين أن يكون ذلك بداعي (2)

______________________________

العمل عن غيره من أجزائه.

هذا، و قد أطال في الحدائق و مفتاح الكرامة و الجواهر في إنكاره و توهينه، فراجع.

(1) كما صرح به غير واحد، و أرجع في الجواهر غيره من الغايات إليه، لدعوي: توقف العبادية- التي عرفت تسالمهم عليها في الوضوء- علي القصد المذكور.

لكن الظاهر عدم توقف العبادية عليه، بل علي قصد ملاك المحبوبية من حيثية إضافته للمولي، و إن فرض عدم فعلية الأمر علي طبقه، لقصور في الآمر بغفلة أو نحوها، أو لمانع خارجي صالح لأن يكون عذرا للمكلف، كالمزاحمة بالضد و نحوها.

و لأجل هذا صح عندهم التقرب بالملاك في مورد المزاحمة.

و منه يظهر أن قصد الأمر إنما يكون محققا للتقرب من حيثية كشف الأمر عن الملاك المذكور، فهو مقصود في طوله.

نعم، لا بد من قصد الملاك من حيثية محبوبيته للمولي و نسبته إليه، حتي يصح جعل الفعل في حسابه و لأجله و يكون سببا للقرب منه، و إلا فمجرد قصد الملاك أو المصلحة لا يكفي في العبادية التي هي فناء العبد في طريق المعبود و منتهي الخضوع له، و إن أوهمه إطلاق بعضهم.

و قد أوضحنا الكلام في ذلك في مبحث التعبدي و التوصلي و مبحث الضد، فراجع.

(2) فإن قصد أمر اللّه تعالي قد لا يكون صالحا لدفع المكلف بنفسه، بل قد تكون دافعيته عرضية بلحاظ جهة تترتب عليه و تلازمه، فتكون تلك الجهة هي الداعي الأصلي الذي يعبر عنه بداعي الداعي.

ص: 521

الحب له سبحانه أو رجاء الثواب أو الخوف من العقاب (1).

______________________________

(1) قد ذكرت في كلماتهم هذه الدواعي و غيرها، كتعظيمه تعالي، و كونه أهلا للطاعة، و القربة منه.

و لم يظهر منهم الخلاف في الصحة مع الجميع إلا في قصد ترتب الثواب و الفرار من العقاب و القربة بناء علي تفسيرها بما يرجع إلي الأول.

حيث وقع الخلاف منهم فيها، فاختار في الحدائق الصحة و نسبه إلي جماعة من متأخري المتأخرين، خلافا لما عن المشهور من البطلان، بل عن السيد رضي الدين بن طاوس القطع به، و عن قواعد الشهيد نسبته إلي قطع الأصحاب، قال في الجواهر: «لأنه من قبيل المعاوضات التي لا تناسب مرتبة السيد».

و الذي ينبغي أن يقال: قصد الأمور المذكورة.

تارة: يكون في طول قصد امتثال الأمر أو ملاك المحبوبية بنحو داعي الداعي، بحيث يكون المقصود الإتيان بالعمل لحسابه تعالي، كي يرضي عنه و يكون أهلا لرحمته و بعيدا عن نقمته، نظير التحبب للعشيرة بالإحسان إليهم، كي يعينوه في شدائده.

و اخري: يكون في عرضه، بحيث يستغني بها عنه، فيكون العمل في قبال هذه الأمور رأسا، نظير استئجار الإنسان شخصا ليعينه في أموره، حيث لا ينظر في دفع الأجرة الإحسان إليه و رضاه، بل محض مقابلتها بالعمل.

أما الأول، فلا ينبغي الريب في صحة العمل معه و عدم منافاته للعبادية، بعد النظر في المرتكزات العقلائية و سيرة المتشرعة و الآيات و الروايات الحاثة علي الطاعة و الزاجرة عن المعصية ببيان ما يترتب علي الأولي من جليل الثواب و علي الثانية من أليم العقاب، و كذا ما تضمن بيان مراتب العبادة «1»، كالصحيح الآتي.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب مقدمة العبادات.

ص: 522

______________________________

بل تضمن بعض النصوص الترغيب علي العمل طلبا لما عند اللّه تعالي، كالنبوي «1» المتقدم في وجوب النية، و بعضها حثّ علي العمل لما يخاف و يرجي «2».

بل لا ينبغي التأمل في عدم قدح قصد الثواب الدنيوي، كسعة الرزق و طول العمر و نماء العدد و نحوها، لأجل السيرة و النصوص المتضمنة لبيان تلك الآثار علي بعض العبادات الظاهرة في الحث عليها ببيان ذلك.

و لا مجال لقياسه بالمعاوضات المنافية لمقام المولي. لفرض أن الملحوظ هو ترتب هذه الأمور بما أنها جزاء من المولي بعد رضاه للقيام بعبادته.

و منه يظهر أنه لا مجال لدعوي: أن داعي الداعي هو الداعي الحقيقي، فمن أطاع زيدا بداعي رضا عمرو، كان رضا عمرو هو الداعي الحقيقي له، و لم يكن العمل مقربا من زيد و لا موجبا لاستحقاق الجزاء منه، فإذا كان الداعي الحقيقي هو ترتب الثواب لم يكن العمل عبادة له تعالي و لا مقربا منه ليستحق عليه الثواب.

لاندفاعها بأنه بعد فرض كون الثواب ملحوظا بما أنه جزاء منه تعالي متفرع علي عبادته و رضاه لم يكن منافيا لهما، نظير التحبب للمؤمنين و الإحسان إليهم بداعي أمر الشارع، فإنه لا يمنع من استحقاق الشكر عليهم جزاء عليهما و قياما بمقتضاهما، فتأمل جيدا.

نعم، الاطلاعة بقصد المنافع الدنيوية و الأخروية مرتبة دانية من الإطاعة، و قصد ما يعود للمولي من حبه و أهليته و شكره أرفع منها بمقتضي الارتكازات العقلائية و النصوص، ففي صحيح هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إن العبادة ثلاثة: قوم عبدوا اللّه عز و جل خوفا فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالي طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء، و قوم عبدوا اللّه عز و جل حبا له

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب جهاد النفس حديث: 5.

ص: 523

______________________________

فتلك عبادة الأحرار. و هي أفضل العبادة» «1»، و قريب منه غيره لكنه أمر آخر لا ينافي الأجزاء الذي نحن بصدده.

و أما الثاني، فتشكل صحة العمل معه، لعدم مناسبته للعبودية بعد فرض عدم ارتباطه بالمولي و عدم وقوعه في طريق رضاه.

لكن هذا إنما يمكن فرضه في الآثار الوضعية المترتبة علي العمل رأسا، نظير ترتب الإحراق علي النار، دون المقاصد الدنيوية و الأخروية المترتبة بعنوان الثواب و الجزاء منه تعالي، لأن جزاء المولي علي العمل فرع وصوله إليه و الإتيان به لحسابه، فقصده من قبل المكلف غاية للعمل مستلزم لقصد الامتثال و موافقة ملاك المحبوبية به، لأن ذلك هو المعيار في نسبته للمولي و صيرورته في حسابه يتوقع منه جزاؤه عليه، فتأمل.

هذا، و ظاهر غير واحد ممن منع من الصحة مع قصد الثواب و الخوف من العقاب إرادة هذا الوجه، بل هو صريح بعضهم، و إن لم يناسب ما ذكروه من الصحة في بقية الدواعي، مع وضوح ابتنائها علي قصد الامتثال.

كما أن من القريب أن يكون مراد من بني علي الصحة معهما إرادة الوجه السابق، بل هو كالصريح مما ذكروه في قصد القربة، فكأن النزاع في البين غير حقيقي، و إن كان استقصاء كلماتهم يضيق عنه المقام و يخلو عن الثمرة.

ثمَّ إنه لا ريب في كون محل النية القلب، و لا يجب التلفظ بالأمر المنوي بلا إشكال ظاهر، كما صرح به جماعة، بل في كشف اللثام و عن ظاهر التذكرة الاتفاق عليه.

بل لا يستحب أيضا، كما صرح به جماعة، بل لا يبعد عدم الخلاف في عدم استحبابه لذاته، لعدم الدليل عليه، و إن وقع الكلام في استحبابه بالعرض، لأنه زيادة مشقة، فيستتبع الثواب أو لأنه أعون علي خلوص القصد كما عن التذكرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

ص: 524

و يعتبر فيها الإخلاص، فلو ضم إليها الرياء بطل (1).

______________________________

- بل يجب لو توقف عليه، كما عن نهاية الإحكام- أو عدم استحبابه، بل كراهته في الصلاة، لأنه كلام بعد الإقامة، بل مطلقا لأنه إحداث شرع، كما عن البيان، بل في الجواهر: «الأحوط الترك مع الاختيار فرارا من التشريع».

لكن الظاهر عدم دخل اللفظ في خلوص القصد، كما عن الذكري، غاية الأمر أنه قد يكون أعون علي استحضار الفعل و إخطاره، و قد عرفت عدم اعتباره.

كما أن زيادة المشقة إنما توجب زيادة الثواب إذا كانت في طريق الطاعة، لا في ما هو خارج عنها.

و أما التشريع فلا إشكال في حرمته، إلا أنه موقوف علي التعبد بما ليس من الدين، و لا يكفي فيه محض الإتيان به.

(1) كما صرح به غير واحد، و نسب في المدارك للأكثر، و في كشف اللثام للمشهور، بل عن الذكري: «لا نعلم فيه خلافا إلا من السيد» و عن جامع المقاصد:

«قولا واحدا إلا ما يحكي عن المرتضي».

و قد يستدل عليه.

تارة: بما تضمن الأمر بالإخلاص من الآيات الكثيرة و النصوص، كصحيح ابن مسكان المتضمن تفسير قوله تعالي حَنِيفاً مُسْلِماً بقوله عليه السّلام: «خالصا مخلصا لا يشوبه شي ء» «1»، و صحيح عمر بن يزيد المتضمن قوله عليه السّلام: «و كل عمل تعمله للّه فليكن نقيا من الدنس» «2»، و غيرهما.

و اخري: بتوقف العبادية علي الإخلاص.

و يندفع الأول: بأن الآيات قد تضمنت الأمر بالإخلاص في الدين، و هو ظاهر في التوحيد، كما سبق عند الكلام في وجوب النية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 10.

ص: 525

______________________________

و كذا صحيح ابن مسكان بقرينة ورود الآية في سياق نفي اليهودية و النصرانية عن إبراهيم عليه السّلام قال تعالي مٰا كٰانَ إِبْرٰاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لٰا نَصْرٰانِيًّا وَ لٰكِنْ كٰانَ حَنِيفاً مُسْلِماً «1»، و لا سيما مع روايته بطريق آخر هكذا: «خالصا مخلصا ليس فيه شي ء من عبادة الأوثان» «2».

مع أن مدح إبراهيم عليه السّلام بذلك لا يستلزم وجوبه في كل عبادة.

و صحيح ابن يزيد ظاهر في الإرشاد لتجنب ما يفسد العمل من دون تعيين له، كما يظهر من قوله عليه السّلام قبل ذلك: «إذا صليت فأحسن ركوعك و سجودك، و إذا صمت فتوقّ ما فيه فساد صومك.» و غيرهما ظاهر في الاستحباب، فراجع الباب الذي عقده في الوسائل لذلك.

و أما الثاني: فهو ممنوع، لإمكان اجتماع داعيين أو أكثر في العمل الواحد.

و لو تمحض العمل في الرياء خرج عن محل الكلام، بل لا يبعد خروج صورة ما إذا لم يصلح الداعي القربي بنفسه للداعوية، لضعفه، لما يأتي في الضمائم المباحة.

فالعمدة في مبطلية قصد الرياء حرمة العمل معه المانعة من التقرب به، لأن الظاهر من أدلة حرمة الرياء حرمة نفس العمل الذي يراءي به، لأن الرياء هو تظاهر الإنسان بالخير و الدين و إراءة الناس ذلك منه، و هو ينطبق علي نفس العمل الظاهر، لا علي القصد المصاحب له.

مضافا إلي موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به، فإذا صعد بحسناته يقول اللّه عز و جل:

اجعلوها في سجّين، ليس إياي أراد» «3»، فإن جعل العمل في سجّين ظاهر في حرمته بنفسه.

______________________________

(1) سورة آل عمران: 67.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 3.

ص: 526

______________________________

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من حمله علي جعل العمل في مرتبة نازلة من القبول في مقابل جعله في عليين، لحمله علي الرياء الخفي الذي لا يمكن الالتزام بإبطاله للعمل، فيحمل علي مكلف خاص يكون هذا العمل منه كالسيئة، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، كل ذلك لعدم خفاء شرائط الصحة علي الملائكة فابتهاج الملك مستلزم لحصولها.

فهو تكلف لا ملزم به، إذ كما يمكن خفاء شرائط القبول علي الملائكة يمكن خفاء شرائط الصحة عليهم إذا كانت من سنخ النية.

هذا، و اختصاص كثير من نصوص حرمة الرياء بما إذا تمحض في الداعوية- الذي تقدم خروجه عما نحن فيه- لا ينافي البناء علي العموم لما إذا اشترك مع الداعي القربي فيها- الذي هو محل الكلام- لإطلاق بعض نصوصه، خصوصا ما تضمن تطبيق عنوان الشرك عليه، بل صراحة بعضها في العموم له، كصحيح زرارة و حمران عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: لو أن عبدا عمل عملا يطلب به وجه اللّه و الدار الآخرة و أدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا. و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من عمل للناس كان ثوابه علي الناس. يا زرارة كل رياء شرك. و قال عليه السّلام: قال اللّه عز و جل: من عمل لي و لغيري فهو لمن عمل له» «1».

هذا، مضافا إلي ما تضمنه ذيل الصحيح و غيره «2» من عدم الاعتداد بالداعي القربي الذي يضم إليه الرياء، لظهوره في الردع عن تخيل حصول كلا المقصودين بتحصيل كلا الداعيين، و مقتضي إطلاقه عدم الاعتداد به حتي في الإجزاء، لا في خصوص ترتب الثواب.

و بهذا يظهر عدم الفرق بين دخل الرياء في الداعوية بنحو الشركة مع الداعي القربي- لصلوح كل منهما للداعوية، أو داعوية مجموعهما- و كونه بنحو التبعية مع كون الداعي القربي تام الداعوية، لعموم النصوص المتقدمة.

و إشكال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الأخير، لاختصاص أكثر أدلة الرياء بالأول،

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 7.

ص: 527

______________________________

فتنزل النصوص المتقدمة عليه. في غير محله، لعدم التنافي بين النصوص مع اشتراكها في الإثبات.

و لا سيما مع تأيد العموم بالموثق و الخبر «1» المتضمنين أن من علامات المرائي النشاط أمام الناس و الكسل وحده و حب أن يحمد في جميع أموره، و خبر مسمع المتضمن لقوله صلّي اللّه عليه و آله: «ما زاد خشوع الجسد علي ما في القلب فهو عندنا نفاق» «2» و خبر ابن أبي يعفور المتضمن لقوله عليه السّلام: «من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه» «3».

علي أن أكثر النصوص ظاهر في صورة انفراد الرياء بالداعوية، لا بالصورة المذكورة، و النصوص المذكورة تشمل جميع صور دخله، فإن بني علي الاقتصار علي مفاد الأكثر لزم عدم الحرمة في جميع صور دخله، و إن عمل بهذه النصوص التعميم لجميع الصور، و هو المتعين.

هذا، و لا يخفي أن ما ذكرنا من الوجه إنما يقتضي البطلان مع الالتفات لحرمة الرياء، أما مع الغفلة عنها، فيلزم الصحة لو فرض حصول الداعي القربي، و يلحقه ما يأتي في الضمائم المباحة.

إلا أن الإشكال في حصوله، لأن مبغوضية الرياء و منافاته للتقرب ارتكازية.

بل مقتضي ما تقدم من أن ظاهر ذيل صحيح زرارة و حمران المتقدم و غيره عدم الاعتداد بالداعي القربي مطلقا حتي في الإجزاء هو البطلان مطلقا، فتأمل.

ثمَّ إنه لا يبعد أن يكون المراد بما تقدم من نسبة الخلاف للمرتضي قدّس سرّه ما في الانتصار في تعقيب النبوي: «هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به» حيث قال:

«و لفظة «مقبول» يستفاد منه في عرف الشرع أمران: أحدهما: الإجزاء، كقولنا: لا يقبل اللّه صلاة بغير طهارة. و الأمر الآخر: الثواب عليها، كقولنا: إن الصلاة المقصود بها الرياء غير مقبولة، بمعني سقوط الثواب و إن لم يجب إعادتها»، حيث قد يظهر

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1، 2.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 15.

ص: 528

______________________________

منه عدم مبطلية الرياء، بل المفروغية عن ذلك.

فإن كان وجهه أن عدم القبول أعم من البطلان، فقد سبق أن الدليل لا ينحصر بما تضمن ذلك. و إن كان وجهه دليلا خاصا مخرجا عما سبق، فهو مطالب به.

و مال في كشف اللثام للإجزاء، للأصل، لمنع دخل الإخلاص في مفهوم العناوين العبادية من الوضوء و الصلاة و نحوهما، غايته أنه واجب مثلها، فيأثم المكلف بالإخلال به من دون أن يبطلها.

و يندفع: بأن الإثم بالرياء مانع من التقرب بالعمل المراءي به.

إلا أن يرجع إلي دعوي أن المحرم هو قصد الرياء لا نفس العمل، ليمتنع التقرب به المعتبر في عباديته. و يظهر ضعفه مما سبق.

بقي في المقام أمور.

الأول: أن الرياء.

تارة: يكون في أصل العمل.

و اخري: يكون في تشخصه بفرد خاص، كالصلاة جماعة أو في أول الوقت أو في المسجد.

و ثالثة: يكون في مقارناته الخارجة عنه، كالتحنك و التخشع في الصلاة.

و رابعة: يكون في أجزائه الواجبة، كما لو اختار السور الطوال، أو المستحبة، كالاستعاذة، بناء علي أنها أجزاء مستحبة لا مطلوب في ضمن مطلوب، و إلا كانت من القسم الثالث.

و الجميع محرم بمقتضي العموم المتقدم.

و الأول متيقن من مبطلية الرياء، لاتحاد العبادة مع الحرام.

و مثله الثاني، لأن التقرب إنما يكون بالفرد، فيمتنع مع حرمته.

و أما الثالث، فاختار فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه عدم البطلان، لفرض التباين بين العبادة، المتقرب بها و الرياء المحرم.

ص: 529

______________________________

و هو إنما يتجه فيما إذا لم تكن العبادة دخلية في تحقق الرياء، كما لو صلي بالداعي القربي و تصدق حين الصلاة رياء لبيان سخائه في الصدقات، و لا يتم فيما إذا كانت العبادة دخيلة في ذلك، كالمثالين المتقدمين، فإن خصوصية حال الصلاة دخيلة في تحقق الرياء بالتحنك و التخشع، فحرمة الرياء تقتضي مبعدية ما يكون دخيلا في تحققه و إن كان خارجا عن موضوعه، فيمتنع التقرب به و يبطل.

نعم، إذا وقع في أثنائه من دون أن يقارن شيئا من أجزائه، كالاستعاذة- بناء علي عدم كونها جزءا مستحبا- اتجه عدم بطلان العمل بها إذا لم يقصدها المكلف إلا حين إيقاعها، أما إذا كان عزمه عليها مقارنا لبعض أجزاء العمل تعين بطلانه، لكونه دخيلا في تحقق الرياء.

و منه يظهر الحال في الرابع، فإنه يبطل تمام العمل إذا كان مقصودا من أول الأمر، أما لو تجدد قصده في الأثناء حين حصول محله اختص البطلان به.

نعم، لو اقتصر عليه و كان جزءا واجبا بطل العمل للإخلال بجزئه، و كذا لو كانت زيادة الجزء مخلّة بالعمل، لا من جهة الرياء.

الثاني: بعد أن ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن الرياء إيقاع العبادة لأجل طلب المنزلة عند الناس ذكر أن ذلك لا يكون محرما إذا كان الغرض منه دفع ضررهم، لعدم الدليل علي حرمته، بل قد يجب، و حيث كان ظاهر الأخبار حرمة الرياء بقول مطلق فلا بد من خروج ذلك عنه موضوعا، بأن يختص الرياء بما يكون الداعي له ترتب النفع.

و فيه: أن أخذ الداعي المذكور في مفهوم الرياء لا يناسب معناه اللغوي، و لا نصوص تحريمه، لظهورها في أن المدار فيه علي قصد إرضاء الناس من حيثية الدين.

بل لا يناسب ما هو المعلوم من صدقه علي عبادة المنافقين، التي هي علي الظاهر مورد قوله تعالي:

ص: 530

______________________________

فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلٰاتِهِمْ سٰاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ. وَ يَمْنَعُونَ الْمٰاعُونَ «1»، مع أن عملهم قد يكون لتجنب إضرار المؤمنين بهم لو ظهرت حقائقهم، و لا ينحصر بجلب المنفعة.

و من هنا يكون الدليل علي حرمة الرياء في الفرض عموم أدلته.

فالعمدة في وجه الجواز، هو حكومة قاعدة نفي الضرر علي العموم المذكور.

لكنه يختص بمن لا يشرع إضراره، فمن شرع إضراره، كالمنافقين و العصاة، حيث يرجح الإضرار بهم قمعا للفساد و ردعا عن المنكر، لم تنهض قاعدة نفي الضرر بدفعه، و كان المرجع عموم حرمة الرياء.

الثالث: الغرض من التحبب و التقرب للناس بالعبادة.

تارة: يكون أمرا حاصلا منهم، كمدحهم و إحسانهم و دفع شرهم.

و اخري: يكون أمرا راجعا للّه تعالي، إما لرجحان إرضائهم ذاتا، كالوالدين، أو عرضا كمن يتقوي به في دفع المنكر و ترويج الحق.

أما الأول، فهو المتيقن من الرياء موضوعا و حكما إلا في دفع الشر، كما سبق.

و أما الثاني، فقد استظهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه عدم دخوله في الرياء، لأن مرجعه إلي طلب المنزلة عند اللّه تعالي.

لكن رجوعه إلي ذلك لا ينافي دخوله في الرياء إذا كان هو عبارة عن طلب الرفعة عند الناس.

نعم، لا يبعد أن يكون ذلك موجبا لانصراف عموم التحريم عنه، لأن المنصرف من فرض رضا شخص غاية للعمل كون غائيته بلحاظ ما يعود إليه من نتائج رضاه، دون ما يعود للّه تعالي، لأن داعي الداعي هو الدافع الحقيقي.

و يناسبه إطلاق الشرك علي الرياء، لظهوره في كون الملحوظ فيه إرضاء غيره تعالي في عرض إرضائه، لا في طوله، فيلحقه ما يأتي في الضمائم الراجحة.

______________________________

(1) سورة الماعون: 4- 6.

ص: 531

______________________________

و لذا لا ريب ظاهرا في عدم حرمة العبادة إذا تأكد الداعي القربي فيها بمثل إرضاء الوالدين و طلب دعائهما.

هذا، و لو فرض عموم التحريم، فلا مجال لما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من معارضته بعموم رجحان الداعي المفروض، لخروج المورد عن تعارض العمومين، و دخوله في تزاحم الحكمين، الذي يتعين فيه تقديم الحكم الإلزامي، و هو في المقام تحريم الرياء.

و لذا لا ريب في عدم تحليل المحرمات إذا ترتب عليها غايات راجحة، كما لو كان الغرض من الغناء إرضاء الفاسق ليعين المؤمن.

الرابع: الظاهر أن الرياء لا يختص بالعبادات، بل يجري في غيرها من الأفعال الراجحة شرعا إذا ابتني الإتيان بها علي ملاحظة مشروعيتها، و كان الإتيان بها بداعي تحصيل المنزلة الدينية في نفوس الناس.

بل يجري في التروك أيضا إذا ابتنت علي ذلك، كما لو تجنب الغيبة أو الكذب، مظهرا أن ذلك منه بداعي التدين لإرضاء الناس، فإنه لو فرض عدم صدق العمل عليها- الذي أخذ في أكثر نصوص المقام- إلا أن الظاهر إلغاء خصوصيته عرفا بمقتضي المناسبات الارتكازية القاضية بفهم أن المعيار علي كون الغاية من الطاعة رضا الناس.

نعم، لو كان الغرض هو التحبب للناس و تحصيل المنزلة في نفوسهم لا من حيثية التدين، بل لمحض ملائمة الترك لأعرافهم أو رغباتهم خرج عن الرياء، لابتنائه علي إراءة ما هو خلاف الواقع من الأمر الخفي الذي يظهره العمل، و هو التدين.

بل يخرج عنه حينئذ الفعل العبادي، فضلا عن غيره، كما لو كان الغرض من دفع الزكاة لشخص التحبب إليه من حيثية الإحسان، فيلحقه حكم الضمائم الأخر، التي يأتي الكلام فيها إن شاء اللّه تعالي.

الخامس: الظاهر اختصاص الرياء بما إذا كان الغرض من العمل رفع منزلة

ص: 532

______________________________

العامل بشخصه عند الناس و تقريبهم إليه، و ليس منه ما لو كان الغرض تزكية النوع الذي ينتسب إليه من فرقة أو جماعة أو عنوان، كما لو حسّن طالب العلم عمله، ليقرّب الناس لأهل العلم و برفعهم في عيونهم، بل يختلف حكم ذلك باختلاف ذلك النوع في رجحان حفظه و عدمه.

و قد تضمن غير واحد من النصوص حث المؤمنين علي أن يكونوا دعاة لمذهب الحق بأعمالهم، ففي صحيح ابن أبي يعفور: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع و الاجتهاد و الصلاة و الخير، فإن ذلك داعية» «1»، فإن التنبيه علي الأثر المذكور ظاهر في جواز قصده حين العمل.

و في موثق عبيد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يدخل في الصلاة فيجود صلاته و يحسنها رجاء أن يستجر بعض من يراه إلي هواه. قال: ليس هذا من الرياء» «2».

السادس: لا بد في صدق الرياء من دخله في الداعوية، أما مجرد أن يخطر في ذهن الإنسان أن فائدة العمل ظهور الخير منه للناس و ثناؤهم عليه من دون أن يكون دخيلا في الداعوية فليس من الرياء و لا يبطل.

و لعله هو المراد مما في الجواهر و غيرها من أنه لا عبرة بالخطرات التي هي غير مقصودة و لا عزم عليها، كما يتفق كثيرا لأغلب الناس.

بل لعله هو المراد مما في حسن يونس بن عمار، بل صحيحه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قيل له و أنا حاضر: الرجل يكون في صلاته خاليا فيدخله العجب، فقال: إذا كان في أول صلاته بنية يريد بها ربه فلا يضره ما دخله بعد ذلك، فليمض في صلاته، و ليخسأ الشيطان» «3».

إذ لو كان السؤال عن العجب، كما هو مقتضي الجمود علي اللفظ، لم يكن الجواب مناسبا له، لعدم التنافي بين الخلوص و العجب، لا في أول العمل و لا في

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 3.

ص: 533

______________________________

آخره، و لا سيما مع إباء نصوص العجب عن الحمل علي خصوص ما يكون في أول العمل، لغلبة حصوله في الأثناء أو بعد العمل، بل هي كالصريحة في ترتب محذورة إذا حصل بعد العمل، فضلا عما لو حصل في أثنائه.

و لو أريد به طروء الرياء الدخيل في الداعوية في أثناء العمل لم يناسب قوله عليه السّلام في الجواب: «و ليخسأ الشيطان»، لظهوره في أن قطع الصلاة لأجل ذلك تحقيق لغرض الشيطان، مع أن الشيطان دخيل في طروء الرياء، لا في قدحه، بل هو تابع للشارع.

و من ثمَّ كان الحمل المذكور بعيدا. و لا سيما مع إباء نصوص الرياء عن الحمل علي خصوص ما يكون أول العمل.

فمن القريب أن يكون المراد هو الخطور الذي ذكرناه، و نحوه مما يلقيه الشيطان في روع المكلف موحيا إليه أنه لا فائدة في عمله، ليقطعه، بل قد يزهده بذلك في العمل. فأراد عليه السّلام ببيان الضابط المذكور التنبيه علي أن ذلك ليس من الرياء، لعدم داعويته، لأن الدخول في العمل بنية خالصة ملازم غالبا لإتمامه بالداعي الأول.

و إنما أطلق علي ذلك في كلام السائل العجب بلحاظ أن الخطور المذكور راجع إلي تخيل أهمية العمل خارجا، بنحو يوجب ظهور فاعله بمظهر الخير للناس، و يحسن ظنهم به.

و مما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لما أشار إليه في الجواهر من الاستدلال بمفهوم الرواية علي قدح العجب المقارن لأول العمل، و بإطلاق منطوقها علي عدم قدح ما يطرأ في الأثناء من عجب أو رياء أو نحوهما، فإن ما ذكرنا إن لم ينهض بتقريب ظهور الرواية في المعني المذكور فلا أقل من كونه موجبا لإجمالها، فلا تنهض بالاستدلال، فلاحظ.

السابع: إذا كان العمل بتمام خصوصياته الراجحة متمحضا في الداعي القربي، فلا يكون إظهاره رياء، سواء كان الغرض من الإظهار اقتداء الغير به أم طلب

ص: 534

______________________________

رضاه أم دفع شره و صون النفس عن تهمة.

و أولي بذلك سرور الإنسان باطلاع غيره علي عمله، من دون أن يسعي لذلك. ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن الرجل يعمل الشي ء من الخير، فيراه إنسان، فيسره ذلك. قال: لا بأس، ما من أحد إلا و هو يحب أن يظهر له في الناس الخير، إذا لم يكن صنع ذلك لذلك» «1».

نعم، لا إشكال في استحباب الإسرار بالعبادة و كتمانها، كما تظافرت به النصوص «2»، لما في الإظهار من التعرض للرياء، و لا سيما الإظهار لتحصيل رضا الناس و مدحهم، لالتباسه كثيرا بالرياء، و في مرسل علي بن أسباط عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنه قال: الإبقاء علي العمل أشد من العمل. قال: و ما الإبقاء علي العمل؟ قال: يصل الرجل بصلة و ينفق نفقة للّه وحده لا شريك له فكتبت له سرا، ثمَّ يذكرها، فتمحي فتكتب له علانية، ثمَّ يذكرها فتمحي و تكتب له رياء» «3»، و لا بد من تأويل ما في ذيله بحمله علي حبط الثواب أو نقصه، لخروجه عن حقيقة الرياء بعد كون الداعي القربة خالصة.

لكن تضمن بعض النصوص استحباب الإعلان في الفرائض، ففي صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و كلما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من أسراره، و كلما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه.» «4».

الثامن: ذكر غير واحد أن السمعة من الدواعي المحرمة كالرياء.

و الفرق بينها و بين الرياء اشتقاقها من السماع، و اشتقاقه من الرؤية، فهي راجعة إلي كون الغرض من العمل السمعة الحسنة و الصيت الجميل، و من ثمَّ كانت غاية للعمل، لأنها من آثاره المباينة له المترتبة عليه، لا عنوانا له كالرياء.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 14، 17 من أبواب مقدمة العبادات، و باب: 13 من أبواب الصدقات و غيرها.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 54 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 1.

ص: 535

و لو ضم إليها غيره من الضمائم الراجحة- كالتنظيف (1)- أو المباحة- كالتبريد-

______________________________

و الوجه في حرمة العمل معها، ما يستفاد من نصوص الرياء بعد إلغاء خصوصية الرؤية عرفا، لكونها طريقا محضا.

و إطلاق بعض النصوص الظاهرة في أن المعيار كون الغرض ظهور الخير للناس، بنحو يكون العمل لإرضائهم، لا لإرضاء اللّه تعالي وحده.

و خصوص بعض النصوص المصرحة بها، كخبر ابن القداح: «و اعملوا للّه في غير رياء و لا سمعة، فإنه من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلي عمله يوم القيامة» «1»، و غيره «2».

التاسع: يشارك الرياء في المانعية و المبطلية غيره من العناوين المحرمة المنطبقة علي العمل، لامتناع التقرب بالمحرم، سواء كانت منتزعة من خصوصية مقارنة له، كالسجود لغير اللّه تعالي، أم من خصوصية تسبيبية، كصب الماء علي الوجه إذا استلزم جريانه علي محل مغصوب.

بل يكفي في المانعية قصد بعض الغايات المحرمة من العمل، و إن لم تكن مسببات توليدية له، بل كانت قابلة للتخلف عنه، لاحتياجها لاختيار مستقل، كما لو قصد بالسعي الوصول لإيذاء مؤمن، لأن قصد الغاية المحرمة موجب لمبعدية العمل، لكونه مظهرا للتمرد علي المولي، فيمتنع التقرب به، و يبطل إذا كان عبادة.

و نسأله تعالي العصمة و السداد.

(1) الظاهر أنه لا إشكال في استحبابه في الجملة، كما قد يستفاد مما تضمن استحباب دخول الحمام «3»، و استحباب غسل اليدين قبل المائدة و بعدها، و غيرهما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 10.

(2) راجع احاديث الباب السابق.

(3) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب آداب الحمام و الزينة.

ص: 536

فإن كانت الضميمة تابعة، أو كان كل من الأمر و الضميمة صالحا للاستقلال في البعث إلي الفعل لم تقدح، و في غير ذلك تقدح (1).

______________________________

(1) أما الضميمة الراجحة، ففي المدارك أن المتجه الصحة فيها مطلقا، و هو مقتضي إطلاق المحكي عن المشكاة، و إطلاق ما في الشرائع من عدم قدح نية التبرد و غيره، و يستفاد بالأولوية ممن اقتصر علي عدم قدح نية التبرد، كما يأتي التعرض لهم، بل في الجواهر: «في شرح الدروس الاتفاق عليه، و يظهر من بعضهم نفي الخلاف فيه».

لما قيل من عدم منافاته للإخلاص، بل هو مؤكد له.

و استشهد له في الجواهر- مضافا إلي ذلك.

تارة: بما تضمنته الأخبار من التنبيه علي ترتب كثير من الأمور الراجحة علي كثير من الواجبات و المستحبات، إذ لو كان قصدها مخلا لم يحسن التنبيه عليها، كي لا تقصد.

و اخري: بما ورد منهم عليهم السّلام من الوضوء و الصلاة بقصد التعليم، و الأمر بإطالة الركوع في الجماعة للانتظار، و إعطاء الزكاة للاقتداء، و التكبير للإعلام و نحوه.

لكن الوجهين لا يناسبان ما ذكره من أن خصوصية الضمائم الراجحة موقوفة علي قصد رجحانها شرعا، و إلا كانت كالضمائم المباحة، لوضوح عدم قصد الرجحان في أكثر الجهات التي وردت فيها النصوص المشار إليها.

نعم، تأكيدها للإخلاص موقوف علي قصد رجحانها شرعا.

كما أن الثاني منهما لا يناسب ما ذكره هو و غيره من عدم الصحة فيما لو كانت الجهة الراجحة مقصودة بالأصل و العبادة مقصودة بالتبع، لوضوح أن إطالة الركوع في الجماعة كثيرا ما يكون المقصود الأصلي به الانتظار، و كذا التكبير للإعلام.

ص: 537

______________________________

نعم، قد يمنع أصل الاستدلال بذلك بعدم الدليل علي وجوب التقرب و العبادية بإطالة الركوع و بتكبير الإعلام، بنحو يكون عدمه مخلا، بعد كون أصل الركوع الذي يتحقق به الجزء عباديا، و عدم صدق الزيادة عليه، و عدم قدح التكبير و غيره من أفراد الذكر في الصلاة.

فيلزم النظر في دليل الاستثناء المذكور، و قد ذكروا في وجهه عدم صدق الإطاعة لأمر العبادة مع قصده تبعا.

بل صرح في العروة الوثقي بعدم الصحة أيضا مع كون تمام العلة قصد المجموع، خلافا لما في الجواهر من التصريح بالصحة حينئذ.

و وجّهه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأنه مقتضي الإجماع علي كون الوضوء عبادة، مع وضوح استقلال الأمر العبادي في البعث، بل جعل ذلك قرينة علي إرادة ذلك من الإجماع المدعي علي عدم قدح الضميمة الراجحة.

لكنه موقوف علي كون مرادهم من الإجماع علي عبادية الوضوء و نحوه من العبادات لزوم التقرب و التعبد بأمره عند الامتثال، و هو غير ظاهر، لإمكان إرادتهم لزوم إيقاع العمل بوجه قربي، و لو بقصد أمر آخر متعلق به بعنوان آخر، فيلزم الاقتصار عليه، لأنه المتيقن في الخروج عن الإطلاق و الأصل القاضيين بعدم العبادية رأسا.

نعم، لا بد من قصد الجهة الراجحة من حيثية رجحانها شرعا، كما سبق من الجواهر، لتوقف العبادية علي ذلك.

و من ذلك يظهر الجواب عما تقدم من عدم صدق الطاعة لأمر الوضوء مع قصد أمره تبعا لأمر الضميمة الراجحة، إذ لو أريد من طاعة أمر الوضوء ما يناط بقصده فلزومها أول الكلام، و لو أريد منها موافقته فهي لا تتوقف علي قصد التقرب إلا بالمقدار الذي ثبت لزومه بالدليل.

اللهم إلا أن يقال: مقتضي ذلك إجزاء التقرب بأمر الضميمة الراجحة من دون قصد أمر الوضوء أصلا، بل من دون نية الوضوء، و الظاهر عدم الإشكال

ص: 538

______________________________

عندهم في عدم الإجزاء حينئذ، خصوصا مع الثاني، و هذا كاشف عن رجوع الإجماع علي عبادية الوضوء أو نحوه إلي لزوم التعبد و التقرب بأمره عند الامتثال، و هو موقوف علي تمامية داعويته، كما يأتي.

و بالجملة: ظاهر الإجماع علي عبادية العبادية عبادية أمرها، بمعني لزوم قصده عند الامتثال، لا عبادية الفعل و لو لقصد أمر آخر غير أمرها.

نعم، يأتي في المسألة الواحدة و السبعين أن عبادية الوضوء تمتاز بوجه آخر، لكنه لا أثر له فيما نحن فيه كما يأتي هناك أيضا، فراجع.

و أما الضميمة المباحة، فقد وقع الخلاف فيها بين الأصحاب، فقد صرح بعدم قدح ضم نية التبرد في المبسوط و المعتبر و المنتهي و الإرشاد و محكي الجامع، و قواه في محكي التذكرة بعد أن زاد عليه التنظيف، و مال إليه في جامع المقاصد و محكي الذكري بعد أن زاد التسخين، و تقدم من الشرائع التعميم لغير التبرد، و في المدارك أنه أشهر القولين، و عن قواعد الشهيد نسبته لأكثر الأصحاب.

و استشكل في القواعد في ضم نية التبرد، بل منع منه في الروض و محكي نهاية الإحكام و الإيضاح و البيان و جامع المقاصد و المجمع.

و في كشف اللثام: «و احتمل الشهيد في قواعده أن يقال: إن كان غرضه الأصلي القربة ثمَّ طرأ التبرد عند ابتداء الفعل لم يضر، و إن انعكس أو كان الغرض مجموعهما لم يصح، و هو الوجه، و عليه ينزل إطلاق الأصحاب»، و حكاه في مفتاح الكرامة عن مشكاة أستاذه، و كأنه راجع إلي ما في المتن.

و قد يناسبه تعليل بعضهم الجواز بعد المنافاة بين الداعيين، فإن التعرض لعدم المنافاة ظاهر في المفروغية عن فرض تمامية الداعي القربي بالنحو المعتبر، لا قصوره في نفسه و تتميمه بالداعي الآخر، و إلا كان المناسب حينئذ دعوي كفاية.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 539

الداعي القربي الناقص و لا يقتصر علي بيان عدم المنافاة.

نعم، حمل إطلاق المانعين علي خصوص صورة قصور الداعي القربي لا

ص: 539

______________________________

تشهد به كلماتهم، فما في الجواهر من إمكان الجمع بين القولين، فيرتفع الخلاف، غير ظاهر.

و كيف كان، فيكفي في الفساد في فرض قصور الداعي القربي- لتبعيته، أو لكون الداعي هو المجموع- عدم تحقق العبادية، التي هي محل الكلام مع ذلك.

و تنزيلها في كلامهم علي ما يستند للداعي القربي في الجملة بعيد جدا، بل مخالف لمعاقد الإجماعات الظاهرة في إرادة العبادية العرفية الموقوفة علي استناد الفعل الداعي القربي العبادي.

فما عن بعض متأخري المتأخرين من الصحة حينئذ في غير محله.

نعم، لا مجال لما في الجواهر من الاستدلال علي الفساد بما تضمن الأمر بالإخلاص في العبادة، لأنه أجنبي عما نحن فيه، كما يأتي.

و مثله الاستدلال بعدم صدق الامتثال حينئذ، لما عرفت من أن الامتثال إن كان بمعني ما يتوقف علي تمامية داعوية الأمر، فاعتباره محل الكلام. و إن كان بمعني موافقة الأمر، فهو لا يتوقف علي قصد التقرب إلا بالمقدار الذي ثبت لزومه.

و أما الصحة في فرض تمامية داعوية الداعي القربي- إما لتبعية الداعي الآخر، أو لتمامية كلا الداعيين في الداعوية- فيكفي فيها الإطلاق و الأصل المشار إليهما المقتضيان لعدم العبادية رأسا، حيث يجب الاقتصار في الخروج عنهما علي المتيقن.

و دعوي: منافاة ذلك للإخلاص المعتبر في العبادة.

ممنوعة، لما تقدم في آخر الكلام في مانعية الرياء من ظهور أكثر أدلة الإخلاص في الإخلاص المقابل للإشراك و عدم ظهور باقيها في الوجوب.

مضافا إلي ظهور بعض هذه النصوص في أن المنافي للإخلاص هو الرياء و نحوه مما يرجع إلي قصد إرضاء الناس دون بقية الضمائم، ففي خبر سفيان بن عيينة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الإيقاء علي العمل حتي يخلص أشد من العمل،

ص: 540

______________________________

و العمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا اللّه عز و جل» «1»، فلاحظ.

ثمَّ إنا قد جرينا في تحرير المسألة علي ما جروا عليه، ليتنسي لنا نظم أقوالهم و بيان نهج استدلالهم.

و الذي ينبغي أن يقال: الضميمة.

تارة: تترتب علي العمل بالوجه الذي يكون به امتثال الأمر، فهي في عرض الامتثال، كغسل المسجد الذي قد يكون لتطهيره، و قد يكون لرفع الاستقذار عنه، و صلة الرحم التي قد تكون لحبه، كما قد تكون امتثالا للأمر الشرعي.

و اخري: تترتب علي الامتثال و في طوله، كما لو أمر الوالد بالعبادة، فإن مراده امتثال أمر الشارع بها، فيكون امتثال الأمر مقصودا عند قصد امتثال أمر الشارع من باب داعي الداعي.

و ثالثة: تكون مترتبة علي ذات العمل، من دون دخل للعنوان الذي يتوقف الامتثال علي قصده، كالتنظيف و التبرد المترتبين علي ذات الغسل لا بعنوان كونه وضوءا أو غسلا، مع توقف قصد الامتثال علي قصد أحد العنوانين و لو إجمالا.

أما الأول، فهو المتيقن من محل التفصيل المتقدم. لكن الظاهر أن جميع موارده من التوصليات التي لا تتوقف صحتها علي وقوعها بالوجه العبادي، و لا أثر لقصد التعبد بها إلا ترتب الثواب عليها، و لا إشكال في تبعية مقداره لمرتبة داعوية الداعي القربي، و لا يظهر أثر للتفصيل المذكور فيه.

كما لا يبعد دخول الثاني في محل الكلام و جريان التفصيل المتقدم فيه، لأن داعي الداعي هو الداعي الأصلي، فإذا فرض قصور الداعي القربي في نفسه لم يكن قصده تبعا للداعي الآخر كافيا في تحقق العبادية.

إلا أن تكون الضميمة دخيلة في داعوية الأمر بنفسه، بحيث تكون موجبة لتمامية داعويته مع- نظير الوعظ و التذكير- فلا إشكال في عبادية العمل و صحته حينئذ، لدخوله في الشق الأول من التفصيل المتقدم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 4.

ص: 541

______________________________

نعم، لا يبعد الاجتزاء مع قصور داعوية الامتثال لو كانت الضميمة راجحة شرعا، و كانت داعويتها بلحاظ رجحانها، لما تقدم من أن داعي الداعي إذا كان راجعا إلي الآمر لم يخل بالعبادية، فلو فرض قصور أمر النافلة عن الداعوية إلا بضميمة أمر الأب بلحاظ حسن طاعته شرعا، كفي في عبادية النافلة.

و أما الثالث- الذي منه أمثلة الأصحاب- فالظاهر خروجه عن محل الكلام، لأن قصد بالعنوان يكون بنية القربة خالصة، لعدم توقف الضميمة عليها، فلا بد من تمامية داعويتها بلحاظ ذلك.

و مجرد كون أصل الذات بداعي الضميمة لا دليل علي قادحيته، غاية الأمر أن الضميمة تكون دخيلة في فعلية داعوية الداعي القربي نحو الخصوصية، بحيث يكون بسببها تام الداعوية، و قد عرفت أنه لا يخل بالعبادية، نظير سهولة العمل و ارتفاع المعوقات عنه في بعض الحالات.

و قد يشهد بما ذكرنا صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يدخل إلي أهله، فيقول: عندكم شي ء؟ و إلا صمت، فإن كان عندهم شي ء أتوه به، و إلا صام» «1».

و لعله مقتضي سيرة المتشرعة، لوضوح توقف داعوية أمر كثير من العبادات المستحبة في حق كثير من الناس علي تحقق الدواعي الخارجية لأصل العمل، كالحج و الزيارة مع كون أصل السفر للتفرج أو التجارة، بل هو الحال في بعض العبادات الواجبة في حق بعض الناس، كالزكاة التي لا يدفعها بعضهم لو لا وجود بعض المستحقين الذين يهتم بصلتهم.

إن قلت: هذا يجري في الرياء، أيضا إذ يكفي في تحققه الإتيان بصورة العمل، فقصد عنوان العبادة يكون بنية خالصة.

قلت: لما كان الرياء محرما، كان اتحاده مع العمل العبادي خارجا مانعا من التقرب به، بخلاف غيره من الضمائم و العناوين غير المحرمة، و لذا يكون قادحا لو

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب وجوب الصوم و نيته حديث: 7.

ص: 542

و الظاهر عدم قدح العجب حتي المقارن (1)،

______________________________

لم يتعلق بأصل العمل، بل بخصوصيته الفردية كالصلاة جماعة، مع عدم قدح الضمائم غير المحرمة فيها بلا إشكال.

(1) قال في الجواهر: «و ربما ألحق بعض مشايخنا العجب المقارن للعمل بالرياء في الإفساد، و لم أعرفه لأحد غيره، بل قد يظهر من الأصحاب خلافه، لمكان حصرهم المفسدات، و ذكرهم الرياء و ترك العجب، مع غلبة الذهن إلي الانتقال إليه عند ذكر الرياء».

هذا، و عدم قدح العجب هو مقتضي إطلاق أدلة العبادة، و الأصل، المشار إليهما آنفا. بل قد يستدل عليه في الجملة بصحيح يونس بن عمار المتقدم في الأمر السادس من لواحق الكلام في الرياء، و إن تقدم الإشكال في ذلك، فراجع.

و أما الاستدلال علي قدح العجب بما يأتي من النصوص الناهية عنه و المتضمنة أنه من المهلكات و نحو ذلك. فلا مجال له، إذ غاية ما تدل عليه حرمة العجب، و هي لا تستلزم إفساده للعبادة، لعدم الاتحاد بينهما.

و كذا الاستدلال بصحيح علي بن سويد عن أبي الحسن عليه السّلام: «سألته عن العجب الذي يفسد العمل، فقال: العجب درجات، منها: أن يزين للعبد سوء عمله، فيراه حسنا فيعجبه و يحسب أنه يحسن صنعا، و منها: أن يؤمن العبد بربه فيمنّ علي اللّه عز و جل، و للّه عليه فيه المن» «1».

لأن تطبيق العجب فيه علي تزيين العمل السيئ و المن بالإيمان غير القابلين للفساد بالمعني المقصود ملزم بحمله علي معني آخر من الفساد راجع إلي عدم ترتب الغرض الكامل من الإيمان، لعدم فعلية داعويته لعمل الخير و الانزجار عن الشرّ، بسبب تزيين العمل السيئ المستلزم للاستكثار منه، و الإدلال بالإيمان المستلزم للاتكال عليه و استقصاء الحساب منه تعالي الذي يهلك العبد، و لا يكون

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 5.

ص: 543

______________________________

أهلا للرحمة.

أو يراد من إفساد العجب للعمل إفساده لغير العمل المعجب به، فيحمل علي الإحباط، إذ لا إشكال في عدم بطلان العمل بسبب العجب بغيره.

و مثله ما في النبوي: «قال اللّه تبارك و تعالي: ما يتقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، و إن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة، فأكفه عنه، لئلا يدخله عجب فيفسده» «1».

لأن ظهوره في كون محذور العجب أضر من ترك العمل، حيث يكون مقتضيا للمن عليه بصرفه عنه تكوينا ملزم بحمل الفساد فيه علي فساد حال العبد، لإفساد العمل بالمعني المقصود الراجع إلي محض عدم الانتفاع به، لأنه ليس محذورا صالحا، للامتنان عليه بصرفه عنه.

نعم، في خبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: أتي عالم عابدا، فقال: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يسأل عن صلاته و أنا أعبد اللّه منذ كذا و كذا! قال:

فكيف بكاؤك؟ فقال: أبكي حتي تجري دموعي. فقال له العالم: فإن ضحكك و أنت خائف أفضل من بكائك و أنت مدل، إن المدل لا يصعد من عمله شي ء» «2».

لكن سنده لا يخلو عن اضطراب، فقد رواه الكليني بسنده عن محمد بن سنان عن نضر بن قرواش عن إسحاق، و ابن قرواش مجهول أو ضعيف، و عن ابن سعيد روايته عن نضر بن سويد عن محمد بن سنان عن إسحاق، و ابن سويد ثقة، و من البعيد جدا تعدد الطريق، إذ مع رواية ابن سنان له عن إسحاق لا وجه لروايته له بواسطة بن قرواش، فالظاهر وقوع التصحيف في أحد الطريقين المانع من الاعتماد علي الثاني منهما، و إن كان صحيحا في نفسه، بل هو الأقرب بلحاظ قلة الوسائط فيه.

مضافا إلي قرب كون صعود العمل كناية عن خصوص ترتب الثواب عليه، بحيث يذخر لصاحبه في كتاب الحسنات، الذي هو في عليين، كما هو الحال في

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 17.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 9.

ص: 544

و إن كان موجبا لحبط الثواب (1).

______________________________

البكاء، و إلا فكل عمل محصي و صاعد له تعالي و إن كان محرما أو مباحا أو فاسدا.

و لعل ذلك هو المنصرف من عدم القبول في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال إبليس: إذا استمكنت من ابن آدم من ثلاث لم أبال ما عمل فإنه غير مقبول منه: إذا استكثر عمله، و نسي ذنبه، و دخله العجب» «1».

مضافا إلي ما يأتي من خروج الصحيح و الخبر عن محل الكلام، و هو العجب بالعمل الخاص، لأنه الذي يحتمل مبطليته للعمل، و أما العجب بمجموع الأعمال بنحو يقتضي الاتكال عليها و الأمن بسببها فلا يظن من أحد البناء علي مبطليته، فلاحظ.

(1) كما يستفاد من خبر إسحاق و صحيح عبد الرحمن المتقدمين، فإن استكثار العمل في الصحيح راجع إلي العجب به و اعتقاد قبوله، لا محض البناء علي كثرته خارجا.

و لا بد من حمل العجب فيه علي العجب بالنفس، كما لعله مقتضي إطلاقه.

نعم، هو مختص بمن اجتمعت فيه الصفات الثلاث، و لا يبعد تلازمها، لأن المراد باستكثار العمل ما يساوق البناء علي نفعه و النجاة بسببه مستغنيا به عن عفو اللّه تعالي و رحمته، و هو مناسب لنسيان الذنب، الذي لا يبعد كونه كناية عن تناسيه و استصغاره و الاستهوان به، كما يأتي في مرسل يونس، كما أن العجب بالنفس يحصل مع ذلك غالبا بتسويل الشيطان، و قد أشير في بعض النصوص «2» إلي أن العجب بالعمل موجب للرضا عن النفس.

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1، و هو خبر أبي عبيدة الآتي.

ص: 545

______________________________

و أما ما تضمن أن الذنب خير من العمل الذي يعجب الإنسان، كقوله عليه السّلام:

«سيئة تسوؤك خير من حسنة تعجبك» «1».

فلا يصلح شاهدا للإحباط، لإمكان أن يكون التفضيل بلحاظ خطر العجب و إن لم يكن محبطا لأجر العمل، أو بلحاظ أن الخوف المصاحب للذنب الذي هو من المنجيات أهم من ثواب العمل، كما قد يناسبه ما في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «و قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يعمل العمل و هو خائف مشفق، ثمَّ يعمل شيئا من البر فيدخله شبه العجب به، فقال: هو في حاله الأولي و هو خائف أحسن حالا منه في حال عجبه» «2»، و غيره.

فالعمدة ما ذكرنا من الصحيح و الخبر.

لكن الظاهر منهما إرادة العجب بمجموع أعمال الإنسان، بالنحو الراجع إلي الاعتماد عليها و الأمن بسببها من العقاب، كما هو مقتضي الإدلال في الخبر، لأن الإدلال علي الشخص هو الجرأة عليه، للوثوق بمحبته، كما أن المنصرف من استكثار العمل في الصحيح ما يرجع إلي ذلك.

أما الإعجاب بالعمل الخاص لاعتقاد جمعه لشرائط القبول، و إن خيف معه بسبب قلته، أو الذنوب، الذي تقدم أنه محل الكلام، فهو خارج عن مفاد الصحيح و الخبر، و لا يظهر الوجه لكونه محبطا للثواب.

ثمَّ إنه قد يستفاد حرمة العجب- بالمعني المتقدم- زائدا علي إحباطه للعمل من النصوص الكثيرة المتضمنة للحث علي أن يري الإنسان من نفسه التقصير في العمل «3»، و النهي عن استكثاره «4»، و أنه من قاصمات الظهر «5»، و من الذنوب الموجبة لاستحواذ إبليس عليه «6»، و غيرها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 22.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1، 2.

(4) الوسائل باب: 22 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 22 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 6.

(6) الوسائل باب: 23 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 3. و سيأتي ذكره.

ص: 546

______________________________

و دعوي: أن النهي المذكور ليس مولويا، بل للإرشاد إلي أن اللّه تعالي لا يعبد حق عبادته، و أن العمل مهما عظم لا يبلغ قدر الثواب الأخروي المرغوب فيه، لأجل الحث علي الاستكثار من العمل، كما يشهد به صحيح خلف عن أبي الحسن موسي عليه السّلام: «قال لبعض ولده: يا بني عليك بالجد و لا تخرجن نفسك من حدّ التقصير في عبادة اللّه عز و جل و طاعته، فإن اللّه لا يعبد حق عبادته» «1»، و خبر أبي عبيدة أو صحيحه المتضمن لقوله تعالي- في حديث طويل-: «لا يتكل العاملون لي علي أعمالهم التي يعلمونها لثوابي، فإنهم لو اجتهدوا و أتعبوا أنفسهم و أفنوا أعمارهم في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي و النعيم في جناتي و رفيع الدرجات العلي في جواري.» «2».

ممنوعة، لمخالفتها لظاهر ما تضمن أن استكثار العمل و العجب به مبعد للعبد من اللّه تعالي، و معرض له للمداقة في الحساب و حرمانه من عفو اللّه تعالي و رحمته، و أنه من الذنوب الموجبة لاستحواذ إبليس عليه، ففي صدر خبر أبي عبيدة أنه تعالي يقول: «و لو اخلي بينه و بين ما يريد من عبادتي لدخله العجب من ذلك، فيصيره العجب إلي الفتنة بأعماله، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه، لعجبه بأعماله و رضاه عن نفسه، حتي يظن أنه قد فاق العابدين و جاز في عبادته حدّ التقصير، فيتباعد مني عند ذلك، و هو يظن أنه يتقرب إلي.» «3»، و في مرسل يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله- في حديث موسي و إبليس-: فقال موسي: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه.

قال: إذا أعجبته نفسه، و استكثر عمله، و صغر في عينه ذنبه، و قال: قال اللّه عز و جل لداود:. و أنذر الصديقين أن لا يعجبوا بأعمالهم، فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك» «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 22 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 3.

ص: 547

مسألة 71 لا يعتبر نية الوجوب و لا الندب

(مسألة 71): لا يعتبر نية الوجوب و لا الندب (1)،

______________________________

(1) كما في المعتبر و ظاهر المقنعة و النهاية و المبسوط، للاقتصار في الأولين علي القربة، و في الأخير علي رفع الحدث و الاستباحة، و هو المحكي عن المرتضي و البصروي و غيرهما، و في الجواهر: «و إليه ذهب كثير من متأخري المتأخرين و جملة مشايخنا المعاصرين، بل نقله الشهيد في نكت الإرشاد عن. الشيخ في الاقتصاد و عن المصنف في الطبرية، بل ربما كان ظاهر سلار و الجعفي، لإطلاقهم النية، علي ما قيل، كظاهر النافع. بل قد يكون ظاهر المتقدمين، لتركهم التعرض للنية أصلا.».

و الوجه في ظهور ذلك منهم: أن اعتبار ذلك محتاج إلي التنبيه للغفلة عنه بدونه، فإهماله في مقام بيان الماهية ظاهر في عدمه، بخلاف أصل نية التقرب، حيث يحسن الاتكال فيها علي المفروغية عن عبادية الوضوء، مع وضوح توقف العبادية عليها.

و هو الوجه في ظهور حال من اقتصر علي إطلاق النية في عدم اعتبارها فيها، كما في المراسم و الخلاف و غيرهما.

هذا، و قد صرح باعتبار نية الوجوب أو الندب في الوسيلة و إشارة السبق و الشرائع و القواعد و اللمعة و صلاة المبسوط و المعتبر و الروضة و غيرها، و حكي عن جماعة كثيرة، كالراوندي و معين الدين و ابن البراج و غيرهم، بل عن غير واحد نسبته للمشهور، و عن ظاهر التذكرة الإجماع عليه.

علي خلاف منهم في اعتبار نية أحدهما وصفا أو غاية أو بالوجهين.

و لا بد أن يراد بالغاية الداعي، لوضوح أن الحكم يدعو للفعل، و ليس غاية له مترتبا عليه، بل الامتثال مسقط للحكم كالمعصية.

و قد استدل غير واحد لاعتبار الأول بتوقف تعيين الفعل المأتي به عليه، لاختلاف وجوهه، فصلاة الظهر المبتدأة- مثلا- واجبة و المعادة جماعة بعد

ص: 548

______________________________

صلاتها فرادي مندوبة، و لا مميز لوجه المأتي به إلا بالنية، و بدونها لا يقع الفعل امتثالا لأمره، لعدم المرجح.

كما قد يستدل لاعتبار الثاني بما عن المتكلمين من وجوب إيقاع الفعل لوجوبه أو ندبه أو لوجههما.

و يندفع الأول بعدم توقف تعيين الفعل بالنحو المحقق لامتثال الأمر الخاص علي قصد إحدي الخصوصيتين، إذ مع وحدة الأمر فقصده قصد لمتعلقه و إن لم يعلم وجهه، و مع تعدده يمكن تعيين ما يراد امتثاله المستتبع لتعيين متعلقه بطريق آخر غير قصد الوجه، كقصد الأمر الوارد أولا مثلا.

كما يندفع الثاني بعدم وضوح الوجه في ما ذكروه، كما نبه له غير واحد.

قال في الروضة- بعد أن نقل ذلك عنهم-: «و وجوب ذلك أمر مرغوب عنه، إذ لم يحققه المحققون، فكيف يكلف به غيرهم؟!»، و في المدارك عن المحقق أنه قال في بعض تحقيقاته: «الذي ظهر لي أن نية الوجوب و الندب ليست شرطا في صحة الطهارة، و إنما يفتقر الوضوء إلي نية القربة. و ما يقوله المتكلمون من أن الإرادة تؤثر في حسن الفعل و قبحه، فإذا نوي الوجوب و الوضوء مندوب فقد قصد إيقاع الفعل علي غير وجهه، كلام شعري، و لو كان له حقيقة لكان الناوي مخطئا في نيته و لم تكن النية مخرجة للوضوء عن التقرب به».

بل لعل مراد بعض المتكلمين توقف الحسن الفاعلي الذي هو المعيار في المدح و الثواب علي قصد جهة حسن الفعل الشرعية أو العقلية في مقابل قصد الدواعي الآخر، لا اعتبار قصد خصوصية الجهة المذكورة من وجوب أو ندب، كما هو المدعي.

هذا، و أما الاستدلال لاعتبار أحد الوجهين أو كليهما.

تارة: بتوقف تحقق الامتثال عليه.

و اخري: بأنه مقتضي أصالة الاشتغال، إما في سائر موارد الشك في اعتبار مثل هذه الأمور مما يمتنع التقييد به في الخطاب، لكونه من شؤون الأمر المتأخرة

ص: 549

و لا غيرهما من الصفات و الغايات (1).

______________________________

عنه فلا تؤخذ في متعلقه، بل لا بد من الإتيان به مع احتماله، للشك في سقوط الأمر بدونه أو في خصوص الطهارات، حيث لا يكون مرجع الشك فيها إلي الشك في قيد الواجب، بل في محصله، كما تقدم غير مرة.

فهو كما تري! لمنع الأول جدا، بل يكفي في الامتثال الإتيان بالمأمور به و إن لم يعرف وجهه، كيف و لا إشكال في إمكان الامتثال عند تعذر معرفة الوجه، و من الظاهر عدم دخل القدرة في كيفية الامتثال؟

و أما الثاني، فيظهر اندفاعه مما أشرنا إليه في أول مباحث النية من أن مقتضي الإطلاقات المقامية، بل اللفظية نفي مثل هذه القيود، فيخرج بها عن مقتضي قاعدة الاشتغال، التي هي المرجع في موارد الشك في المحصل. و أما في غيرها فيكفي أصالة البراءة منها لو فرض عدم الإطلاق، كسائر موارد الدوران بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

بل الإنصاف أن النظر في النصوص و كلمات الأصحاب موجب لوضح عدم اعتبار ذلك، لعدم الإشارة فيها إلي هذه الجهات الموجب للغفلة عنها، بل هو مقتضي سيرة المتشرعة الارتكازية، و لا سيما مع كثرة الخطأ في تشخيص حال الأمر، لاستنكارهم بطلان العمل حينئذ، كما أشار إلي بعض ذلك الشهيدان و صاحب المدارك و الوحيد و غيرهم.

(1) كنيّة رفع الحدث التي ذكرها في محكي عمل يوم و ليلة، و نية الاستباحة التي ذكرت في اللمعة و حكيت عن المرتضي و الشيخ في الاقتصاد، و جمع بينهما في إشارة السبق و الغنية و الوسيلة، كما حكي عن أبي الصلاح الحلبي و ابن البراج و الإصباح، و عن التذكرة أنه الأولي، و خير بينهما في المبسوط و المعتبر و المنتهي و القواعد و جامع المقاصد و محكي السرائر و التذكرة و الدروس و الألفية و الذكري و غيرها. و عن السرائر: «إجماعنا منعقد علي أنه لا تستباح الصلاة إلا بنية

ص: 550

______________________________

رفع الحدث أو نية استباحة الصلاة بالطهارة».

و هل المراد بالاستباحة استباحة خصوص الصلاة، كما هو مقتضي الاقتصار عليها في الوسيلة و ما تقدم عن السرائر، و في مفتاح الكرامة: «لم يجوز بعضهم الدخول في الصلاة بغير الوضوء الذي وقع لاستباحة الصلاة»، أو استباحة كل ما يشترط بالطهارة، كما في المبسوط و إشارة السبق و الغنية و المعتبر و القواعد و غيرها؟.

بل عمم في المعتبر و جملة من كتب العلامة و الشهيد- علي ما حكي عن بعضها- لما نوي ما تكون الطهارة شرطا لفضيلته لا لاستباحته، كقراءة القرآن، لكن منع منه في المبسوط و محكي السرائر و الإيضاح و نسب لجماعة، قال في المبسوط: «لأن فعله ليس من شرطه الطهارة» و في المعتبر: «و لو قيل: يرتفع حدثه كان حسنا، لأنه قصد الفضيلة و هي لا تحصل بدونه» و نحوه حكي عن العلامة.

و يظهر من ذلك اختلاف محل الكلام، فمن منع نظر إلي قصد استباحة هذه الأمور، و من أجاز نظر إلي قصد كمالها، فلا نزاع في الحقيقة، كما نبه له بعضهم.

إذا عرفت هذا، فنقول:

أما وجوب نية الرفع، فقد يستدل عليه بأن الوضوء إنما شرع لذلك، فإذا لم يقصد لم يقصد الوضوء علي الوجه الذي شرع له.

و فيه: أنه لا ملزم بنية الغرض من التشريع و يكفي في تعيين الفعل المشروع و تحققه القصد إليه إجمالا، و لو بقصد أمره، لأن الأمر لا يدعو إلا إلي متعلقه، كما تقدم نظيره.

و أما وجوب نية الاستباحة، فقد يستدل عليه بما أشرنا إليه عند الكلام في وجوب النية من ظهور الآية في كون الوضوء للصلاة و مع عدم نية الصلاة لا يتحقق ذلك، كما تضمنه كلام غير واحد في المقام.

و قد أشرنا هناك إلي ضعف الاستدلال المذكور.

تارة: بعدم ظهور الآية في تقييد الوضوء الواجب بذلك.

ص: 551

______________________________

و اخري: بمنافاته لما هو المتسالم عليه من عدم اعتبار قصد الصلاة في الوضوء الذي هو شرط فيها.

و توضيح هذا الأخير: أن مفاد الآية الكريمة لزوم إيقاع الوضوء عند القيام للصلاة، فلو فرض ظهورها في التقييد لزم توقف كل صلاة علي الوضوء لها، فلا يبيح الوضوء إلا الصلاة المنوية حينه و إن تعددت، و يدفعه ما تضمن جواز إيقاع الصلوات الكثيرة بوضوء واحد من النص «1» و الإجماع، إذ غاية ما قيل هو ما تقدم من عدم جواز إيقاع الصلاة إلا بالوضوء الذي وقع لاستباحة الصلاة.

و العمدة في وجه ذلك: هو أن مقتضي الجمع بين ما دل علي الأمر بالوضوء قبل الصلاة- كالآية الشريفة- و ما دل علي اعتبار الطهارة فيها هو كون الأمر بالوضوء قبل الصلاة لأجل إيقاعها عن طهارة، فمع فرض حصول الطهارة بوضوء سابق لا يبقي موضوع للأمر به، كما يناسبه ما في ذيل الآية من قوله تعالي وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ «2» و ما تضمن تفسيرها بالقيام من النوم «3». و مقتضي ذلك الاجتزاء بكل وضوء محصل للطهارة و إن لم يقصد به الصلاة، لا تقييد الوضوء الذي يبيح الصلاة بما قصد به استباحتها، فضلا عن تقييد الرافع للحدث بذلك، كما هو المدعي لهم.

علي أن ذلك لو سلم دل علي اعتبار القصد إلي فعل الصلاة، و لا ريب في عدم اعتباره، كيف و قد تظافرت النصوص بتشريع الوضوء لأمور كثيرة غير الصلاة بنحو تكون هي المقصودة دونها؟ و الظاهر عدم الإشكال في ترتب الطهارة علي الوضوء المذكور، و ليس المدعي لهم إلا اعتبار نية استباحة الصلاة، بمعني رفع المانع عنها و إن لم يقصد فعلها، و هو أجنبي عن مفاد الآية الكريمة.

و منه يظهر أنه لا مجال للاستشهاد له بما في خبر الدعائم من قول علي عليه السّلام:

«لا وضوء إلا بنية، و من توضأ و لم ينو بوضوئه الصلاة لم يجزه أن يصلي به، كما لو

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 2، 3 من أبواب نواقض الوضوء.

(2) سورة المائدة: 6.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 552

______________________________

صلي أربع ركعات و لم ينوبها الظهر لم تجزه من الظهر» «1».

و حمله علي إرادة استباحة الصلاة لا نفسها بعيد عن ظاهره غير مناسب للتشبيه بنية الظهر في الصلاة.

فلا بد من طرحه لضعف سنده و هجره.

هذا، و قد يستدل في المقام باشتراك الوضوء بين الرافع و غيره- كوضوء المسلوس- و بين المبيح و غيره- كوضوء الجنب للنوم- فلا بد من تعيين كل من الرافع و المبيح بالنية و إلا لم يتعين للامتثال.

و يظهر ضعفه- مع غض النظر عن الأمثلة- مما تقدم من كفاية قصد الأمر مع وحدته في التعيين، لوضوح عدم اجتماع أمر الواجد و الفاقد في حال واحد.

هذا، و لا يخفي أن هذا الوجه يقتضي التخيير في النية بين الأمرين في فرض اجتماعهما، و نية خصوص أحدهما عند انفراده، و عدم نية أحدهما لو فرض خلو الوضوء عنهما معا، كما قد يدعي في وضوء الجنب للنوم.

كما أن التخيير بين الأمرين- الذي تقدم من جماعة- يبتني علي التلازم بينهما، كما يظهر من كلام بعضهم، بل في المعتبر: «و معناهما واحد، و هو إزالة المانع». و لو تمَّ أمكن إرجاع الأقوال الأربعة إلي ذلك.

لكنه يشكل في مثل وضوء الجنب للنوم، لظهور أنه غير مبيح، و إن لم يبعد كونه مخففا للحدث و موجبا لمرتبة من الطهارة.

و قد ظهر من جميع ما تقدم أنه لا ملزم بنية أحد الأمرين، لعدم الدليل عليه، فالمرجع إطلاق أدلة شرح الوضوء المقتضي لعدم اعتبارهما، و لا مجال لتوهم امتناع الإطلاق من هذه الجهة كما توهم في نية القربة، لعدم كون أحد الأمرين متفرعا علي الأمر.

و لعله لذا استظهر في الشرائع عدم وجوب نية أحد الأمرين، و قواه في كشف اللثام و غيره، و حكي عن جماعة من المتأخرين، و هو مقتضي الاقتصار علي

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 47 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 18.

ص: 553

______________________________

القربة في المقنعة و النهاية و إطلاق النية في الخلاف و المراسم و النافع، بل ربما يستظهر ممن لم يتعرض للنية بالتقريب المتقدم في نية الوجه.

نعم، لا بد من قصد التقرب بقصد الأمر الواقعي الداعي للوضوء و إن لم يعلم بخصوصيته، كما لو علم المكلف بوجوب الوضوء عليه ثمَّ الصلاة و لم يعلم مقدميته لها بلحاظ اقتضائه الطهارة، بل و إن احتمل وجوبه نفسيا مقدما عليها كالظهر قبل العصر، حيث يكفي قصد التقرب بلحاظ الأمر المذكور علي إجماله.

بقي في المقام أمران.

الأول: أنه لا إشكال ظاهرا في عدم اعتبار قصد موجب الوضوء من النواقض من بول أو نوم أو نحوهما، كما صرح به غير واحد، بل في الجواهر: «بلا خلاف أجده»، و ظاهر كشف اللثام الإجماع عليه، و في المدارك: «هذا مذهب العلماء كافة»، بل هو مقطوع به، لامتناع خفاء الحال في مثل ذلك مما يكثر الابتلاء به.

نعم، وقع الكلام بينهم في حكم قصد ذلك حسب اختلاف صوره، فإن المقصود.

تارة: رفع طبيعة الحدث.

و اخري: رفع جميع الأحداث.

و ثالثة: رفع بعض الأحداث الواقعة مع إهمال الباقي.

و رابعة: رفع بعض دون بعض.

و خامسة: رفع غير ما وقع للخطإ في تشخيص الواقع.

و لا إشكال في الصحة في الصورة الأولي، بل هو المتيقن مما ذكروه من وجوب نية رفع الحدث.

و أما الثانية، فلا بد من رجوعها للأولي، بناء علي ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من وحدة الحدث، لأنه عبارة عن نقض الوضوء، الذي تضمنته نصوص الأحداث، و هو غير قابل للتعدد، بل أمر واحد يستند للسبب الأول، و لا

ص: 554

______________________________

أثر لبقيتها.

لكن ذلك وحده لا يكفي في نفي التعدد الذي يظهر من بعض كلماتهم الآتية المفروغية عنه، إذ لا معني لنقض الوضوء بعد تماميته إلا بنقض أثره، كما لا معني لرفع الوضوء لموجبه- من بول أو نوم- إلا برفع أثره، و لا مانع من تعدد جهات أثر الوضوء و استناد ارتفاع كل منها إلي سبب من تلك الأسباب، فمع اجتماع أسباب الحدث ترتفع تمام تلك الجهات، و مع تبعضها يرتفع بعضها. بل لو فرض وحدة الجهة لأثر الوضوء أمكن تأثير كل سبب للحدث باحداث ضدها، و يكون أثر تعدد الأسباب تأكد الضد المذكور، لقابليته للتأكد، نظير البياض الذي يرتفع بأدني مراتب السواد مع تأكد وجود السواد بتعدد أسبابه.

بل هذا هو الأنسب بالمرتكزات في المقام، بسبب ارتكاز مشابهة الأحداث للقذارات العرفية، و لعل التعجيل في صلاة مستمر الحدث- كالمستحاضة- مبني علي ذلك، و لا سيما مع ثبوت نظيره في الأسباب الموجبة لاستحباب الوضوء المعبر في النصوص عنها بالناقض، حيث يتعين حمله علي النقض بلحاظ بعض المراتب.

نعم، في بلوغ ذلك حد الحجية، إشكال.

و من ثمَّ يتعين بناء هذه الصورة علي ما يأتي من التفصيل في تخلف القصود بين التقييد و عدمه، فيتوقف في صورة التقييد، لعدم ثبوت مشروعية الأمر المنوي، و يبني علي الصحة في غيرها.

و من هنا يشكل الحال في الصور الثلاث الباقية، لابتنائها علي تعدد الحدث بتعدد الأسباب.

فإن قيل بوحدة الحدث، تعين البطلان في الجميع في فرض التقييد.

و من ثمَّ أطلق في المدارك الإشكال مع قصد رفع بعض الأحداث.

إلا أن ترجع إلي قصد رفع طبيعة الحدث الحاصلة ببعض الأسباب دون بعض، فيتجه حينئذ ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من الصحة في الصورة الثالثة

ص: 555

______________________________

و الرابعة في فرض نية رفع ما يستند للسبب المتقدم، و البطلان في فرض نية رفع ما يستند للسبب المتأخر، لعدم وجوده، فما قصد لم يقع، و ما يمكن وقوعه لم يقصد. كما يتعين البطلان في الصورة الخامسة لذلك.

و إن قيل بتعدد الحدث، فالمتعين الصحة في الصورة الثالثة، لعدم منافاة المقصود لما شرع له الوضوء، فلا ينافي نيته، ليمنع من صحته. بل يتعين البناء علي ارتفاع الجميع، لأن الوضوء الصحيح رافع لها.

نعم، يشكل ذلك بناء علي اعتبار نية الرفع، لأن مقتضي بعض أدلته لزوم نية رفع الجميع، فإنه الذي شرع له الوضوء.

و لعله لذا احتمل العلامة في محكي النهاية البطلان.

و أما احتمال ارتفاع خصوص المنوي- كما احتمله فيه أيضا- فلا يظهر وجهه بعد ظهور الأدلة في كون الوضوء الصحيح موجبا للطهارة التامة.

و منه يظهر أن المتعين البطلان في الصورة الرابعة، كما في جامع المقاصد و عن نهاية الإحكام و قواعد الشهيد و الدروس و البيان، من دون فرق بين وجوب نية الرفع و عدمه، لمنافاة نية ذلك لنية الوضوء المشروع.

قال في المدارك: «و يتوجه البطلان هنا للتناقض». و كذا الحال في الخامسة، لأن ما قصد لم يقع و ما يمكن وقوعه لم يقصد.

هذا كله في فرض التقييد، و أما في فرض عدمه- لابتناء النية المذكورة علي محض الداعي أو نحوه مما يأتي توضيحه- فالمتعين الصحة في الجميع.

و لعله عليه يبتني ما في المدارك، حيث قال: «و يمكن أن يقال بالصحة و إن وقع الخطأ في النية، لصدق الامتثال بذلك، و هو حسن».

كما لا يبعد أن يبتني عليه ما في كلام غير واحد من إطلاق الصحة و ارتفاع الجميع مع نية رفع البعض، و في المدارك: أنه الذي قطع به أكثر الأصحاب و لا يبعد ظهور بعض كلماتهم فيما يعم الصورة الرابعة.

الثاني: لو نوي استباحة صلاة معينة مع إهمال غيرها، فحيث لا تنافي نية

ص: 556

و لو نوي الوجوب في موضع الندب، أو العكس، فإن رجع ذلك إلي تقييد الأمر بطل، و إلا صح (1).

______________________________

الوضوء المشروع تعين صحة الوضوء، و إن قيل باعتبار نية الاستباحة، لأن ظاهر أكثر كلماتهم إرادة استباحة ما يتوقف علي الوضوء في الجملة، و عليه فيباح به غيرها.

و قد صرح بذلك في القواعد، و ظاهر غير واحد المفروغية عنه.

أما لو نوي استباحة صلاة معينة دون غيرها، فقد صرح في القواعد بأنه كذلك. و يجري هنا ما تقدم في نية رفع الحدث الواحد دون غيره من منافاته لنية الوضوء المشروع، فالمتعين البطلان، كما في جامع المقاصد و عن الدروس و الذكري و البيان.

إلا أن لا يرجع إلي التقييد، لنظير ما تقدم.

و أما لو نوي أن لا يصلي به إلا صلاة واحدة و إن استبيح به غيرها- كما قد يظهر من تحرير المنتهي للمسألة- فلا ينبغي التأمل في الصحة و جواز مخالفة النية المذكورة، عملا بمقتضي تشريع الوضوء المفروض صحته في المقام.

(1) الخصوصية المقصودة حين الامتثال المتخلفة في الواقع.

تارة: تكون مقومة للأمر الممتثل.

و اخري: تكون خارجة عنه.

أما الأولي، فكخصوصية أمر الظهر لمن اعتقد انشغال ذمته بها مع أنه قد أداها و ليس في ذمته إلا العصر. و تخلفها مستلزم لعدم تحقق الامتثال، لعدم الموضوع له، و هو الأمر.

و أما الثانية، فهي علي أنحاء:

الأول: أن تكون أمرا مقارنا للامتثال لا دخل له فيه، كما لو دفع زكاته لفقير معتقدا أنه زيد، بحيث لو لم يكن زيدا لأعطاه أيضا.

ص: 557

______________________________

الثاني: أن تكون داعيا له، كما لو صلي في مسجد بتخيل أنه مسجد البلد.

الثالث: أن تكون قيدا له معلقا عليه.

و دعوي: أن الامتثال فعل خارجي لا يقبل التعليق و التقييد.

مدفوعة: بأن الفعل الخارجي هو ذات الفعل الممتثل به، أما عنوان الامتثال فهو أمر إنشائي جعلي راجع إلي تعيين الفعل المأتي به ليكون تحقيقا للمأمور به و إيجادا له، فيقبل التعليق كسائر الإنشائيات، كتعليق العتق و التمليك علي الموت في التدبير و الوصية.

و منه باب الاحتياط مع الجهل بثبوت الأمر أو بحال المأتي به، فمن صلي قصرا برجاء وجوب القصر عليه فقد علق الامتثال و قيده بوجود الأمر الممتثل، و من توضأ بمائع مردد بين الماء و غيره فقد علق الامتثال و قيده بكونه ماء.

و ليس المعيار فيه كون المكلف بحيث لو علم بعدم تحقق ما قصده لما أقدم علي الامتثال، لاشتراك الداعي مع التقييد في ذلك، لأن الداعي هو ما يكون علة بوجوده الذهني العلمي، فمع فرض العلم بعدمه لا مجال لتحقق الامتثال لعدم تمامية العلة له، كما لا يقدم المكلف علي الامتثال مع علمه بعدم تحقق القيد.

بل ليس الفرق بينهما إلا في أن الداعي بوجوده الذهني علة تكوينية من دون أن يكون لوجوده الخارجي أثر في تحقق الفعل، أما القيد فهو بوجوده الخارجي علة جعلية، بتبع الإناطة و التقييد المتقوم بالجعل.

و منه يظهر أن تخلف القيد في المقام مستلزم لعدم تحقق الامتثال، بخلاف تخلف الداعي، حيث لا ينافي تحقق الامتثال بعد فرض قصده فعلا بسبب الاعتقاد- و لو خطأ- بتحقق الداعي لفرض عدم دخل الداعي بوجوده الخارجي.

و أوضح منه في ذلك الأمر المقارن المحض، و هو القسم الأول المتقدم، لفرض عدم دخله لا بوجوده الذهني، و لا بوجوده الخارجي.

ثمَّ إن التقييد محتاج إلي عناية خاصة، لابتنائه علي ملاحظة نحو نسبة بين الامتثال و القيد زائدا علي ملاحظة الامتثال بما يقومه من الأمر و الفعل. بل لا

ص: 558

______________________________

يحسن التقييد و التعليق علي الأمر الحالي، إلا في فرض الشك في وجود القيد، أما مع القطع به، و لو خطأ- كما هو المفروض في المقام- فهو لغو خال عن الفائدة.

و من ثمَّ لا مجال غالبا للحمل عليه في المقام في فرض الشك في حال الخصوصية المقصودة.

كما لا مجال لتردد بين الاعتقاد المحض و الداعي، لأن الفرق بينهما ارتكازي، بسبب دخل الثاني بوجوده العلمي دون الأول.

علي أنه لا أثر للتردد بينهما بعد ما عرفت من اشتراكهما في عدم اختلال الامتثال بتخلفهما.

و المهم إنما هو التردد بينهما و بين ما يكون مقوما للأمر، حيث لا امتثال مع تخلفه، كما تقدم في الصورة الأولي.

فإن كانت الخصوصية المقصودة بنحو من الأهمية بنظر المكلف بحيث لو علم من أول الأمر بتخلفها لم يندفع نحو الامتثال، فقد تردد بين ما يكون مقوما للأمر و الداعي الخارج عنه، كما لو بادر للصلاة لتخيل بقاء الوقت، حيث يتردد الأمر بين قصد امتثال الأمر الأدائي- بناء علي مباينته للأمر القضائي- لتخيل وجوده، و قصد امتثال الأمر الفعلي بداعي كونه أدائيا، فتصح علي الثاني قضاء و تبطل علي الأول.

كما أنها لو لم تكن لها الأهمية بالنحو المذكور، فقد تردد بين ما يكون مقوما للأمر و المقارن المحض الخارج عنه، كما لو نسي أنه قد أتي بالظهر فصلي أربع ركعات، حيث قد يتردد الأمر بين قصد امتثال الأمر الفعلي مع الخطأ في اعتقاد كونه أمر الظهر، و قصد امتثال أمر الظهر لتخيل الأمر الفعلي بها، فتصح عصرا علي الأول و تبطل علي الثاني.

و دعوي: أن الخصوصية إن كانت من شؤون الأمر المميزة له، كالأدائية و القضائية و الظهرية و العصرية تعين كونها مقومة للأمر الممتثل، فيبطل العمل بدونها، و إن كانت خارجة عنه، ككون المسجد مسجد البلد، أو كون الثوب

ص: 559

______________________________

المصلي به كتانا، تعين كونها داعيا أو مقارنا محضا، فلا يخل تخلفها بصحة العمل، و لا مجال لفرض الاشتباه بين القسمين في مورد.

مدفوعة: بأن كون الخصوصية من شؤون الأمر المميزة له لا يستلزم لحاظها مقومة للأمر في مقام الامتثال، بل قد تلحظ داعيا أو مقارنا محضا مع كون الامتثال للأمر الفعلي بذاته، فينطبق علي الخالي عنها و إن اعتقد المكلف كونه واجدا لها.

ثمَّ إنه اشتهر في هذه العصور الترديد بين التقييد و غيره، و الحكم باستلزام التخلف للبطلان مع التقييد.

فإن أريد بالتقييد ما ذكرناه من تقييد الامتثال- كما هو ظاهر العبارات، و تقتضيه مقابلته بالداعي- فقد عرفت أنه لا مجال لاحتماله في المقام.

و إن أريد ما تقدم في الصورة الأولي، و هو ما يكون مقوما للأمر الممتثل- كما تناسبه عبارة المتن- فليس هو من التقييد في شي ء، لوضوح عدم الشيوع في الأمر الممتثل، بل ليست الجهة المقصودة فيه إلا معينة له من بين الأوامر المتعددة.

كما أن سيدنا المصنف قدس سره ذكر أن التقييد يكون.

تارة: علي نحو وحدة المطلوب.

و اخري: علي نحو تعدده، و أن البطلان بتخلف القيد إنما هو في الأول.

و لا يخلو المراد من الثاني عن غموض، سواء أريد بالتقييد تقييد الامتثال، أم تعيين الأمر الممتثل، لأن التقييد في النسبة كنسبة الامتثال في المقام- راجع إلي إرادة نسبة خاصة لا تشمل غير حال وجود القيد، كما أن تعيين الأمر الممتثل يقتضي عدم إرادة غيره، و لا يتضح معني لتعدد المطلوب في كلا الوجهين.

و أما ما اشتهر من أن بعض القيود مأخوذ بنحو تعدد المطلوب، فليس المراد به إلا اختصاص التقييد بحال القدرة علي القيد و سقوطه في حال تعذره، مع كون المطلوب في حال القدرة ليس إلا واحدا، و هو المقيد و لا تعدد فيه، و لذا لا يشرع الفاقد للقيد، لعدم كونه مطلوبا رأسا، فإن كان مشروعا و مطلوبا كان المورد من موارد المطلوب في المطلوب، كما في كثير من المستحبات، لا من باب التقييد،

ص: 560

______________________________

و حيث كان حال الامتثال حالا خاصا، ففرض التقييد فيه لا يناسب إلا وحدة المطلوب.

هذا هو مقتضي القاعدة في تخلف الخصوصيات المقصودة حين الامتثال.

و عليه العمل في سائر العبادات. بل في غيرها من الأمور الموقوفة علي القصد، كوفاء الدين، فمن دفع للدائن دينارا وفاء عن دين خاص لتخيل حلوله وقع وفاء له و إن لم يحل واقعا، أما لو دفعه وفاء لدين حال، فبان سقوطه بإبراء أو وفاء سابق لم يقع عن دين آخر لم يحل أجله.

ففي المقام لما كان الوضوء موردا للأوامر المختلفة باختلاف الغايات المترتبة عليه، كالأمر به للكون علي الطهارة، و للمقدمية للصلاة و الطواف و قراءة القرآن و غيرها.

فإن رجع قصد الوجوب أو الاستحباب إلي تشخيص الأمر الممتثل بما لا ينطبق علي الأمر الفعلي- كما لو قصد امتثال أمر الفريضة، فانكشف عدم ثبوته، و ثبوت استحباب الوضوء للكون علي الطهارة- تعين البطلان.

و إن رجع إلي تشخيص حال الأمر الممتثل وصفا له، أو داعيا لامتثاله، لم يخل تخلفه بالصحة، إذا كان الأمر الممتثل ثابتا، كما إذا قصد امتثال أمر صلاة نافلة مع تخيل وجوبها، أو قصد الأمر الفعلي بالوضوء مع تخيل انشغال الذمة بالفريضة، فانكشف سقوطها بأداء سابق، و استحباب الوضوء للكون علي الطهارة.

لكن يصعب البناء علي ذلك، لما يلزمه من كثرة موارد بطلان الوضوء، لانكشاف عدم الأمر الغيري به المقصود في طول قصد الأمر النفسي، إما لعدم ثبوت الأمر النفسي رأسا، أو لسقوطه بامتثال سابق.

بل بناء علي ما هو الظاهر من عدم وجوب المقدمة غير الموصلة، يلزم بطلان الوضوء لو لم تترتب الغاية المقصودة لتعذر أو نسيان أو لبطلان العمل المأتي به.

بل يلزم عدم جواز ترتيب أثر الصحة ظاهرا علي الوضوء المأتي به لأجل

ص: 561

______________________________

الغايات التي لم تثبت مشروعيتها، كما في موارد الاحتياط اللازم أو الراجح بالإتيان بأصل العمل، أو بإعادته، و في موارد قاعدة التسامح في أدلة السنن.

و لا مجال لذلك كله بالنظر لسيرة المتشرعة، لبنائهم علي صحة الوضوء في جميع ذلك و غفلتهم عن اللازم المذكور.

و دعوي: أن القصد في جميع هذه الموارد امتثال الأمر الفعلي بالوضوء المنطبق واقعا علي الأمر الاستحبابي بالكون علي الطهارة أو غيره من الأوامر الفعلية، و ليس قصد خصوص الأمر الحاصل من الغاية المقصودة إلا لتخيل انطباقه عليه، أو لأنه داع لامتثاله، فلا يقدح في الصحة، كما تقدم.

كما تري! لابتناء ذلك علي تكلف ظاهر لا يتعمده إلا بعض الخاصة المتنبهين لهذه النكات الدقيقة، دون عامة المتشرعة الجاري عملهم علي مقتضي السليقة الأولية غير المتكلفة.

و مثلها دعوي: أن المقصود بالوضوء في جميع الموارد هو امتثال الأمر بالكون علي الطهارة الذي هو فعلي دائما، و إن كان الداعي لذلك في بعض الموارد هو التوصل إلي بعض الغايات المذكورة. لمخالفتها للوجدان في حق أكثر الناس، لعدم اهتمامهم بالأمر المذكور، و إغفالهم له، و لا سيما مع جهل كثير منهم بثبوته، بل ليس المقصود لهم إلا امتثال أمر الغايات الخاصة.

نعم، لا يبعد كون قصد ترتب الطهارة علي الوضوء ارتكازيا عند الأكثر، إلا أن ذلك لا يستلزم قصد أمرها المذكور، بل المقصود بها غالبا ترتب الغايات.

و لعل الأولي أن يقال: أشرنا عند الكلام في الضميمة الراجحة إلي أن مرجع الإجماع علي عبادية العبادة- الذي هو عمدة أدلتها- إلي عبادية الأمر بها، الراجعة إلي تقييده بقصد امتثاله، و لازمه ما ذكرنا من عدم امتثال الأمر الفعلي مع تشخيص الأمر الممتثل بخصوصية لا تنطبق عليه.

لكن عبادية الوضوء لا ترجع إلي ذلك، لوضوح أن ما هو المستحب أو الواجب ليس إلا الطهارة بالمعني الاسم المصدري، الذي هو نتيجة الوضوء،

ص: 562

______________________________

و ليس الأمر بالوضوء إلا غيريا، و الأوامر الغيرية لا يقصد بها إلا التوصل لذيها، فهي توصلية لا تعبدية، و لذا لا يعتبر في امتثال كل منها قصد امتثاله، بل يكفي تحقق الطهارة و لو بقصد امتثال أمر غيره.

بل مرجع عبادية الوضوء إلي توقف ترتب الطهارة عليه بالمعني المصدري علي الإتيان بالأفعال الخاصة بوجه قربي.

فهي راجعة إلي تقييد سببية الأفعال المذكورة للطهارة، لا تقييد الأمر بالطهارة نفسيا أو غيريا.

و حينئذ يلزم الاقتصار في التقييد المذكور علي المتيقن، و هو القربة التي اقتصر عليها بعض الأصحاب، و هي المتيقن من إطلاق بعضهم، سواء كانت بلحاظ التوصل إلي امتثال أمر محقق- كما لو قصد الكون علي طهارة، أو صلاة مشروعة فصلاها- أم امتثال أمر مقطوع به لا واقع له- كما لو توضأ لصلاة بتوهم مشروعيتها- أم تخيل امتثال أمر محقق- كما لو توضأ ليصلي، فلم يصل- أم امتثال لأمر محتمل- كما لو توضأ لصلاة احتياطية- فإن السعي لتحصيل الطهارة في جميع ذلك مورد للتقرب و مظهر للعبودية، فيكفي في تحقق العبادية المعتبرة قيدا في سببية أفعال الوضوء للطهارة.

و لا دليل علي اعتبار خصوص القربة الناشئة من الأمر الفعلي الوارد علي الطهارة، كي يكون عدم ثبوت الأمر المتقرب به و عدم تحقق امتثاله مبطلا له، كما يبطل سائر العبادات.

بل هو لا يناسب السيرة التي أشرنا إليها.

و من ذلك يظهر أن تقييد الوضوء بالعبادية ليس موردا للإشكال المشهور في الواجبات التعبدية من امتناع تقييد المأمور به بما هو من شؤون الأمر المتأخرة عنه رتبة.

لعدم رجوع عباديته إلي اعتبار التقرب بأمره في امتثاله، الراجع إلي تقييد المأمور به، بل إلي تقييد تسبيب الأفعال الخاصة للطهارة علي التقرب بأي وجه

ص: 563

و كذا الحال إذا نوي التجديد و هو محدث، أو نوي الرفع و هو متطهر (1).

______________________________

فرض، و القيد المذكور غير متفرع علي المقيد، بل أجنبي عنه.

كما ظهر أن المتعين هو صحة الوضوء مع الخطأ في نية الوجوب أو الندب، و إن رجع إلي الخطأ في تشخيص الأمر الذي يراد امتثاله، خلافا لما في المتن من التفصيل، الذي عرفت أنه المتجه في سائر العبادات.

نعم، لو رجع ذلك إلي تقييد القصد إلي الوضوء و التقرب به اتجه البطلان، نظير ما تقدم في تخلف قيد الامتثال.

لكنه مثله يبتني علي تكلف لا مجال للحمل عليه.

ثمَّ إنه بما ذكرنا هنا يمكن تصحيح الوضوء قبل الوقت لأجل التهيؤ للصلاة فيه، فإن التهيؤ المذكور مورد للقربة و إن لم يكن مستحبا شرعا، لما يتضمنه من الانقياد للمولي و الخضوع له. و يأتي تمام الكلام فيه في غايات الوضوء عند الكلام في الوضوءات المستحبة إن شاء اللّه تعالي.

بقي شي ء، و هو أن الظاهر، بل المتيقن من الإجماع علي عبادية الوضوء و لزوم إيقاعه عن قربة لزوم التقرب بالأفعال من حيثية عنوانها الخاص، و هو عنوان الوضوء و الطهارة، بحيث تكون جهة التقرب قائمة به، فلا بد من قصد ذلك و لو إجمالا بقصد الأمر الوارد عليه من جهة أن الأمر لا يدعو إلا إلي متعلقه، و لا يكفي قصد التقرب بالأفعال من حيثية أخري كالتنظيف.

و عليه، لا بد من كون التقرب بالوجه المذكور تام الداعوية، علي ما تقدم توضيحه عند الكلام في الضمائم الراجحة و المباحة. فما ذكرناه هنا تتميم لما ذكرناه هناك، و استدراك لما فات فيه. فراجع و تأمل جيدا.

(1) صرح غير واحد من الأصحاب بأن من توضأ للتجديد ندبا فانكشف كونه محدثا صح وضوؤه، و إليه يرجع ما ذكره غير واحد من أن من أغفل شيئا من

ص: 564

______________________________

أعضاء وضوئه الرافع للحدث ثمَّ توضأ للتجديد صح وضوؤه.

و قد استشكل عليهم بأنه لا يناسب ما ذكره جملة منهم من اعتبار نية الرفع أو الاستباحة، أو نية الوجوب أو الندب، في الوضوء.

و أجاب عنه غير واحد- منهم الشهيد في محكي الذكري- بأن ظاهر الأصحاب و الأخبار أن شرعية التجديد لتدارك ما عساه فات بالأول.

و مرجعه إلي أن نية التجديد مستلزمة لنية الرفع أو الوجوب بالوضوء علي تقدير الحدث، كما في الوضوء المعاد احتياطا.

و هو كما تري لا شاهد له من النصوص، بل هي ظاهرة في أن الوضوء التجديدي لتأكيد الطهارة، كما هو مقتضي التعبير عنه فيها بالتجديد، و بأنه نور علي نور، و غير ذلك «1».

و من هنا جزم غير واحد بالبطلان، و بناه في الشرائع علي القول باعتبار بعض ما تقدم، إذ لا مجال للإشكال المذكور بناء علي عدم اعتبار أمر غير القربة، و من ثمَّ جزم بعضهم بالصحة حينئذ، و في الجواهر: «من غير إشكال يعرف عندهم فيه، بل في كلام بعضهم القطع به».

لكن بناء علي ما تقدم من المعيار العام في سائر العبادات يتعين التفصيل الذي أشار إليه في المتن، و هو أن نية أحد الأمرين إن رجعت إلي تشخيص الأمر بنحو لا ينطبق علي الأمر الفعلي تعين البطلان، و إن رجعت إلي نية أحدهما مقارنا محضا لامتثال الأمر الفعلي أو داعيا له خارجا عنه، مع نية امتثاله علي ما هو عليه تعينت الصحة.

أما بناء علي ما ذكرنا في عبادية الوضوء، فاللازم بناء المسألة علي أن الوضوء الرافع و التجديدي ماهية واحدة مشتركة في الأثر- و هو الطهارة- و تأكيد الطهارة بالتجديدي ناش من قبول الأثر المذكور للتأكد، أو ماهيتان لكل منهما أثرها المختص بها.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء.

ص: 565

مسألة 72 لا بد من استمرار النية

(مسألة 72): لا بد من استمرار النية (1)،

______________________________

فإن قيل بالأول، تعينت الصحة، لفرض القصد إلي الماهية المذكورة و قصد التقرب بها، و إن أخطأ المكلف في اعتقاد الخصوصية الفردية علي خلاف ما هي عليه.

و إن قيل بالثاني، تعين البطلان، لعدم القصد للماهية المشروعة ذات الأثر الخاص، بل للماهية الأخري المفروض عدم مشروعيتها، فهو كما لو قصد الغسل بغسل أعضاء الوضوء، حيث لا يقع وضوءا و إن لم يكن عليه غسل.

هذا، و ظاهر النصوص الأول، لانصرافه من التعبير عن التجديدي بالوضوء علي الوضوء، و بالطهر علي الطهر، بل هو الظاهر من فرض التجديد، إذ لا يجدد الشي ء إلا بمثله، و نسبة التجديد إليه لا تكون إلا بلحاظ بقاء أثره و تأكده، بل سبر جميع النصوص «1» يشرف بالناظر فيها علي القطع بذلك، فلاحظ.

(1) لا ينبغي التأمل في ذلك، لوضوح أن الوضوء بتمامه عبادة موقوفة علي النية.

نعم، لما كان مراد بعض الأصحاب بالنية ما يساوق الإخطار، و استمراره متعسر أو متعذر، فقد جعلوا محلها مقارنا لأول العمل، و اكتفوا في غيره باستدامتها حكما، مع خلافهم في تفسير الاستدامة الحكمية، حيث فسرت في كلام جماعة كثيرة- بل يظهر من محكي بعضهم دعوي الإجماع عليه- بعدم الانتقال إلي نية أخري تنافيها- كما في المبسوط و المعتبر و المنتهي و كثير غيرها- و فسرت في الغنية و محكي السرائر بأن يكون ذاكرا لها غير فاعل لنية تخالفها، مدعيا عليه في الأول الإجماع، و فسرها الشهيد في محكي الذكري بالبقاء علي حكمها و العزم علي مقتضاها، و عن قواعده عن بعض تفسيرها بتجديد العزم كلما ذكر.

و ظاهر بعضهم أن الاختلاف بين هذه الوجوه عملي.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء.

ص: 566

بمعني صدور تمام الأجزاء عن النية المذكورة (1).

مسألة 73 لو اجتمعت أسباب متعددة للوضوء كفي وضوء

(مسألة 73): لو اجتمعت أسباب متعددة للوضوء، كفي وضوء (2)

______________________________

إلا أن الظاهر رجوعها جميعا إلي ما هو مقتضي السيرة من الاكتفاء في الاستمرار بالقصد الإجمالي الارتكازي، و إلا فلا يظن من أحد الالتزام بجواز خلو شي ء من أجزاء العبادة عن النية.

و كيف كان، فقد تقدم- عند الكلام في حقيقة النية- الاكتفاء بالقصد المذكور في الابتداء أيضا، و أنه لا ملزم بالنية التفصيلية المساوقة للإخطار في أول العمل، فراجع.

ثمَّ إن المراد من استمرار النية ما يساوق وقوع جميع الأفعال عن نية فعل المجموع، فيؤتي بكل منها علي أنه جزء من العمل المنوي حين الانشغال بها، كما هو مقتضي الارتباطية بينها، لا علي أنه عمل مستقل قائم بنفسه.

نعم، يكفي نية ذلك إجمالا، كما لو توضأ الجاهل بأجزاء الوضوء متابعا للعالم بها، فإنه و إن لم يعلم بتمام أجزاء الوضوء حين الشروع فيه، إلا أنه ينوي الإتيان بكل فعل منها بالوجه الذي ينويه العالم.

و لهم كلام طويل في تحديد ذلك لا مجال لاستقصائه، كما لا مجال لاستقصاء غير ذلك مما ذكروه في المقام، لضيق الوقت، و قلة الفائدة، و ظهور الحال مما تقدم.

(1) فلا يخل انقطاع النية بالعدول عنها ثمَّ الرجوع إليها قبل فعل بعض الأجزاء، أو بعده إذا أعاده عن نية، مع المحافظة علي الموالاة، كما صرح به غير واحد.

لعدم الدليل علي اعتبار الاستمرار زائدا علي وقوع تمام الأفعال عن نية، بل يدفعه الإطلاق الذي أشرنا إليه غير مرة.

(2) هذا مذهب العلماء كافة، كما في المدارك.

ص: 567

______________________________

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك، و إلي السيرة القطعية- أدلة سببية الوضوء للطهارة، سواء قلنا بوحدة الحدث، و أنه يستند لمجموع الأسباب مع تقارنها، أو للأسبق منها مع تعاقبها، أم بتعدده علي ما سبق الكلام فيه في ذيل مسألة وجوب نية الرفع و الاستباحة.

أما علي الأول، فظاهر.

و أما علي الثاني، فلأن مقتضي إطلاق ما دل علي وجوب الوضوء، و الطهور الذي يظهر من النصوص إرادة الوضوء به- للغايات الاكتفاء بالوضوء الواحد «1».

بل ما تضمن ناقضية النواقض للوضوء ظاهر في أنه ليس هناك إلا وضوء واحد ينتقض بكل منها، لا أن لكل حدث وضوء ينتقض به، و إلا كان المناسب تنكير الوضوء أو إضافته لحدثه.

و أما دعوي: أنه مخالف لأصالة عدم التداخل.

فيدفعها ما أشرنا إليه عند الكلام في اعتبار طهارة الأعضاء قبل غسلها للوضوء من اختصاص أصالة عدم التداخل بالتكاليف، لاستحالة تعدد التكليف مع وحدة المكلف به، بخلاف الأسباب، إذ لا مانع من وحدة السبب مع تعدد المسبب، فيكون الوضوء الواحد في المقام رافعا للأحداث المتعددة.

و منه يظهر أنه لا مجال لتقريب أصالة عدم التداخل في المقام بما تضمنته بعض نصوص الأحداث من الأمر بالوضوء عقيبها و التعبير بأنها توجبه.

ففي صحيح محمد عبد اللّه بن المغيرة و محمد: «إذا ذهب النوم بالعقل فليعد الوضوء» «2»، و في صحيح ابن الحجاج: «من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فقد وجب عليه الوضوء» «3»، و في صحيح زرارة: «لا يوجب الوضوء إلا من غائط أو بول.» «4».

و الوجه فيه: أن الأوامر المذكورة ليست مسوقة للتكليف بالوضوء، بل

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 5، 6 من أبواب الوضوء، و غيرها.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

ص: 568

واحد بقصد رفع الحدث (1). و لو اجتمعت أسباب للغسل أجزأ غسل واحد (2)،

______________________________

للإرشاد إلي انتقاضه بالأمور المذكورة، و سببيتها للحدث الذي يرفع به، فحيث لا تجري أصالة عدم التداخل في الأسباب لا تنهض الأوامر المذكورة لتنقيح موضوعها.

بل مقتضي إطلاق الأمر فيها الاكتفاء بالوضوء الواحد لرفع كل من الأحداث المذكورة و إن قارن غيره من الأحداث، فلاحظ.

(1) أما لو قصد رفع حدث خاص أو جميع الأحداث، فقد تقدم الكلام فيه في ذيل مسألة نية الرفع و الاستباحة، كما تقدم عدم اعتبار نية الرفع في صحة الوضوء، بل تكفي نية الوضوء المشروع.

(2) لا يخفي أن إجزاء بعض الأغسال عن بعض مخالف للقاعدة الأولية، لظهور أدلة الأحداث و الأغسال في تباينها.

أما الأحداث، فلأن المنصرف من نسبة الغسل للجنابة و الحيض و نحوهما تباين ما يضاف الغسل له و يزيله، لا تباين سببه مع وحدته.

و هو المناسب لتباين أحكام الأحداث، ككراهة وطء المرأة المحدثة بحدث الحيض دون المحدثة بحدث الجنابة، و عدم جريان أحكام الحدث الأكبر، علي من يمس الميت، بل يجري عليه حكم الحدث الأصغر، و استحباب الوضوء أو وجوبه منضما للغسل فيما عدا الجنابة.

بل ظاهر بعض النصوص مشروعية رفع بعض الأحداث دون بعض، ففي موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن المرأة يواقعها زوجها ثمَّ تحيض قبل أن تغتسل، قال: إن شاءت أن تغتسل فعلت، و إن لم تفعل فليس عليها شي ء، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض و الجنابة» «1»، بل هو مقتضي ما يأتي من

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 7.

ص: 569

بقصد الجميع (1).

______________________________

تباين الأغسال، إذ مع وحدة الحدث يمتنع تعدد الرافع له.

و أما الأغسال، فتباينها مقتضي تعدد عناوينها، لأن الأدلة لم تتضمن بيان محض رفع الأحداث المذكورة بالغسل، ليكون مقتضي الإطلاق رفع الغسل الواحد لكل حدث منها و لو قارن غيره المستلزم للتداخل، نظير ما تقدم في الوضوء، بل إضافة كل غسل لحدثه، و ظاهر الإضافة الاختصاص، نظير إضافة الغلام لزيد و السرج للدابة و الباب للدار، و لازمه تعدد الأغسال، تبعا لتعدد ما أضيفت إليه، و لا تنطبق علي غسل واحد، و لا مميز بينها إلا النية، و إجزاء غسل واحد عن الجميع مخالف للأصل.

و كذا الحال في الأغسال المستحبة غير الرافعة للحدث، لأن أصالة عدم التداخل في التكاليف مع تعدد أسبابها تشمل المستحبات و لا تختص بالواجبات، لعموم الوجه الذي أشرنا إليه عند الكلام في اعتبار الطهارة في أعضاء الوضوء.

و علي هذا لا بد في تداخل الأغسال من دليل خاص يخرج به عن مقتضي القاعدة المذكورة، و هو ما يأتي الكلام فيه.

(1) أما إذا كانت كلها واجبة و كان فيها غسل الجنابة، فقد نسب في الجواهر لظاهر جماعة، و قال: «و الظاهر أنه المشهور، بل لم أعثر فيه علي مخالف صريح، بل عن شارح الدروس: الظاهر أنه موضع وفاق. و قد يدعي شمول ما نقل من الإجماع علي الاجتزاء في المسألة الثانية، و هي ما لو نوي الجنابة، لاشتمال نية الجميع عليها، بل في كشف اللثام: أن الصحة فيها أولي من تلك».

و يقتضيه كثير من النصوص، كصحيح زرارة: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة و الجمعة [الحجامة. خ ل كافي] و عرفة و النحر و الحلق و الذبح و الزيارة، فإذا اجتمعت [للّه عليك حقوق] عليك حقوق [اللّه] أجزأها

ص: 570

______________________________

عنك غسل واحد. قال: ثمَّ قال: و كذلك المرأة يجزؤها غسل واحد لجنابتها و إحرامها و جمعتها و غسلها من حيضها و عيدها «1»، و مرسل جميل عن أحدهما عليهما السّلام: «أنه قال: إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كل غسل يلزمه في ذلك اليوم» «2»، و النصوص المتضمنة أن المرأة الجنب إذا حاضت اغتسلت بعد طهرها غسلا واحدا «3»، منها موثق عمار المتقدم، و خبر شهاب المتضمن أن الجنب الذي يغسل الميت يجزؤه غسل واحد لهما «4»، و النصوص المتضمنة أن الميت الجنب أو الحائض أو النفساء يغسل غسلا واحدا «5».

و دعوي: أن الغسل المذكور غسل الميت لا غير، لسقوط الأغسال الأخري بارتفاع موضوعها، أو لعدم الخطاب بشي ء من غاياتها بعد الموت، فيخرج عما نحن فيه.

مدفوعة: بأن ذلك خلاف المنصرف من نصوص المقام و لو بلحاظ ظهورها في تقرير ما في نفس السائل و عليه ابتني سؤاله من الاهتمام برفع الأحداث المذكورة، و إلا كان المناسب التعبير عن الغسل الواحد بأنه غسل الميت، و لا سيما مع ظهور نصوص غسل الميت في أنه لأجل رفع حدث الموت كي يلقي ربه و هو طاهر، بل ظاهر بعضها أنه مسانخ لحدث الجنابة «6»، فالاهتمام برفعه يناسب الاهتمام برفع حدث الجنابة، الذي هو المناسب أيضا لما ورد في قصة غسيل الملائكة «7» و فيمن فجر بالميتة «8».

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) راجع الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة.

(4) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(5) راجع الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت.

(6) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

(7) راجع تنقيح المقال ج: 1 ص: 382 في ترجمة حنظلة ابن أبي عامر الراهب. و قد روي الصدوق حديث تغسيل الملائكة له من دون أن يشير لجنابته، الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 2. بل قد يظهر منه أنه لغسل الميت لا للجنابة. لكنه لا يناسب تخصيص حنظلة بذلك.

فلاحظ.

(8) أمالي الصدوق المجلس: 11 ص 38 طبع النجف الأشرف.

ص: 571

______________________________

مضافا إلي التعبير في صحيح زرارة بإجزائه للجنابة و لغسل الميت معللا بقوله عليه السّلام: «لأنهما حرمتان اجتمعا في حرمة واحدة» «1».

و هذه النصوص- كما تري- شاملة لما إذا نوي بالغسل الواحد الجميع، الذي هو المتعارف ممن يعلم بها.

و لا سيما مثل موثق عمار المتقدم، فإن قوله عليه السّلام فيه: «للحيض و الجنابة» و إن أمكن أن يكون بيانا لما يقع له الغسل الواحد، لا بيان الداعي المقصود حينه، إلا أنه يبعد عن مثل هذا التعبير مانعية قصدهما معا غاية البعد.

نعم، قد يشكل الاستدلال بمرسل جميل بأن أضافه الغسل فيه للجنب مانع من إطلاقه بنحو يشمل نية الجميع، لوروده لبيان إجزاء غسله عن غير الجنابة بعد المفروغية عن إجزائه للجنابة، فإذا احتمل قدح نية الجميع في إجزائه للجنابة لم ينهض بإثبات إجزائه لها، فضلا عن إجزائه لغيرها، بل المتيقن منه صورة قصد الجنابة وحدها و لو للغفلة عن غيرها، لكنه غير مهم بعد وفاء غيره بالمطلوب.

و منه يظهر ضعف ما عن ابن إدريس من إيجاب إيقاع الغسل للجنابة. إلا أن يكون مراده ما يعم نيتها في ضمن الجميع، أو في مقابل نية ما عداها، فلا يكون مخالفا في المقام.

و أما إذا لم يكن فيها جنابة، فمقتضي إطلاق بعضهم و صريح آخرين الاجتزاء بالغسل الواحد بنية الجميع، بل قد يظهر من الجواهر المفروغية عنه، حيث لم يشر للخلاف فيه.

و يقتضيه إطلاق صحيح زرارة الأول و عموم التعليل في صحيحة الثاني الوارد في غسل الميت الجنب.

خلافا لما قد يظهر من كشف اللثام من عدم التداخل حينئذ، حيث ذكر أن

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 572

______________________________

الأولي الاقتصار علي منطوق الصحيح الأولي، المختص بصورة وجود الجنابة.

و فيه: أن الحكم في الصحيح بإجزاء الغسل الواحد عن الأغسال المذكورة ظاهر في الانحلال بمعني إجزائه عن أي منها فرض، فيشمل ما لو لم يكن فيها جنابة، لا في المجموعية، ليختص بصورة وجود الجنابة، بل غيرها مما تضمنه الصحيح.

مضافا إلي أنه لا مجال للاقتصار علي ما ادعاه من منطوقه بعد قوله عليه السّلام فيه:

«و إذا اجتمعت عليك حقوق.» و عموم التعليل في الصحيح الثاني.

و أما إذا كانت كلها مستحبة، فقد صرح بالإجزاء مع نية الجميع في المعتبر و الروض و المدارك و محكي التذكرة و الذكري و أمان الأخطار لابن طاوس و الذخيرة و الكفاية و المفاتيح و الدلائل و غيرها. و هو المتيقن من إطلاق المنتهي و محكي نهاية الإحكام و البيان و المسالك و الأردبيلي و غيره. بل ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه المشهور ظاهرا.

خلافا للإرشاد و القواعد و جامع المقاصد و محكي التحرير و الموجز و مجمع الفوائد، فلا تداخل في المستحبات مطلقا.

و كأنه لأصالة عدم التداخل، لعدم المخرج عنها من النصوص المتقدمة إلا ما يوهمه إطلاق صحيح زرارة الأول، لكنه لو لم يكن ظاهرا في خصوص الواجب، فلا أقل من كونه المتيقن منه، للتعبير فيه بالحقوق.

و فيه: أنه لو فرض ظهور الحق في الواجب بدوا فلا بد من حمله علي الأعم بقرينة الصدر و الذيل المشتملين علي القسمين، لظهور الفقرة المذكورة في بيان كبري الحكم المذكور فيهما و ضابطه. و احتمال كونه كلاما مستقلا، مخالف للظاهر جدا.

علي أنه يكفي إطلاق الصدر و الذيل، لما أشرنا إليه في الصورة السابقة من أن الحكم فيهما بإجزاء الغسل الواحد عن الأغسال المذكورة ظاهر في الانحلال لا المجموعية، فيشمل ما لو كان الثابت خصوص المندوبة منهما، و يتعدي لبقية

ص: 573

______________________________

صور انفراد المندوب بعدم الفصل، بل بإلغاء خصوصية المورد عرفا.

كما ظهر من ذلك ضعف ما قد يظهر من كشف اللثام من اختصاص الخبر بصورة وجود الجنابة، و عدم شموله لصورة اجتماع المندوب مع غير الجنابة من الواجب، فضلا عما لو انفرد المندوب، كما هو محل الكلام.

هذا، و قد يستدل للإجزاء هنا بالصحيح عن ابن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: من اغتسل بعد طلوع الفجر كفاه غسله إلي الليل في كل موضع يجب فيه الغسل، و من اغتسل ليلا كفاه غسله إلي طلوع الفجر» «1».

بتقريب: أنه لا مجال لإبقاء الوجوب فيه علي ظاهره، و هو ما يقابل الندب، لعدم مناسبته للاستمرار المذكور فيه، سواء حمل علي الاستمرار بلحاظ تجدد أسباب الحدث الموجبة للغسل، أم بلحاظ الغاية التي يراد إيقاعها بالغسل، لوضوح أن تجدد الحدث ملزم بتجديد الغسل و لا يكفي الغسل الواحد في اليوم أو الليل، كما أن الغاية التي يجب لأجلها الغسل- كالصلاة- لا تحدد بالوقت المذكور، بل يجوز إيقاعها به و إن بعد زمانها عنه، فلا بد من حمل الوجوب فيه علي محض الثبوت، ليمكن إرادة ما يستحب لأجله الغسل، لبيان كفاية الغسل الواحد في اليوم أو الليل لجميع ما يقع فيه مما يستحب له الغسل، فيدل علي التداخل في فرض اجتماع الأغسال المستحبة وحدها.

و يشكل: بأنه كما يمكن حمله علي ذلك، يمكن حمل الاستمرار فيه علي كونه بلحاظ الغاية التي يراد فعلها بعد الغسل المستحب من إحرام أو زيارة أو حلق أو ذبح أو غيرها، و أنه لا بد من المبادرة إليها في اليوم أو الليل الذي أوقع فيه الغسل، من دون نظر للتداخل و عدمه، و هو المناسب لما في موثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من اغتسل قبل طلوع الفجر و قد استحم قبل ذلك ثمَّ أحرم من يومه أجزأه غسله، و إن اغتسل في أول الليل ثمَّ أحرم في آخر الليل أجزأه غسله» «2».

اللهم إلا أن يقال: لا إشعار في الصحيح و لا الموثق في أخذ غاية خاصة قيدا

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الإحرام من كتاب الحج حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الإحرام من كتاب الحج حديث: 5.

ص: 574

______________________________

في الغسل المفروض إجزاؤه، بمعني فرض الإجزاء فيهما بالإضافة إلي خصوص الغاية التي أوقع لأجلها الغسل.

بل مقتضي إطلاقهما كفاية الغسل الواحد لكل ما يحتاج فيه إلي الغسل مما يكون في يوم الغسل أو ليلته و إن كان متعددا، فيساوقان صحيح زرارة المتقدم مع تضمنهما بيان الغاية له، فيدلان علي التداخل مثله.

بل قد يدل عليه غيرهما مما تضمن كفاية غسل اليوم لليوم، و غسل الليل لليل «1»، فلاحظ.

و أما إذا كانت الأغسال مختلفة في الوجوب و الندب، فقد صرح بالاجتزاء بالغسل الواحد مع نية الجميع في المبسوط و المعتبر و الروض و المدارك و غيرها، و هو المحكي عن ابن أبي عقيل و الدلائل و الذخيرة و الكفاية و المفاتيح.

و يقتضيه إطلاق الشرائع و محكي الاشراف و أمان الأخطار و البيان و المسالك و الأردبيلي.

بل في الخلاف دعوي الإجماع علي إجزاء الغسل الواحد المنوي به الجنابة و الجمعة.

و قد تقدم من جماعة إطلاق عدم التداخل في المستحبات، و من كشف اللثام الميل لعدم التداخل إذا لم يكن فيها جنابة.

كما صرح بالبطلان مع نية الواجب و المستحب في المنتهي و محكي التذكرة و المختلف و النهاية. و ظاهر المحكي عن غير واحد التوقف.

و قد يستدل للتداخل بإطلاق صحيح زرارة الأول، و عموم التعليل في صحيحه الآخر الوارد في غسل الميت، و مرسل جميل، و الصحيح المتقدم عن ابن يزيد.

لكن لا إطلاق للصحيح المذكور يشمل المقام، لما تقدم من أن المنظور فيه التعميم من حيثية الأسباب و الغايات المتجددة في يوم الغسل أو ليلته، و أنه لا بد

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الإحرام من كتاب الحج.

ص: 575

______________________________

من حمله علي تجدد أسباب استحباب الغسل و غاياته، و لا نظر فيه إلي ما ينوي رفعه به حين وقوعه ليشمل نية الواجب و المستحب، و ينفع فيما نحن فيه، فتأمل.

و أما مرسل جميل، فقد تقدم في الصورة الأولي الإشكال في شمول إطلاقه لصورة نية الجميع، مع أن المتيقن من التعبير باللزوم فيه التداخل في الواجبات.

و مثله التعليل بالحرمة في صحيح زرارة الآخر.

فالعمدة صحيح زرارة الأول الشامل لنية الجميع، بل هي الصورة المتعارفة الملتفت إليها، كما تقدم.

و تقدم في الصورة الثانية ضعف ما قد يظهر من كشف اللثام من اختصاص التداخل بصورة وجود الجنابة، كما تقدم في الصورة الثالثة ضعف إطلاق عدم التداخل في المستحبات.

و أما من منع من التداخل في خصوص المقام، فعمدة الوجه لهم في ذلك ما في كلام جمع من تضاد النيتين، لاستحالة اجتماع الوجوب و الندب في فعل واحد.

و لا يخفي أن استحالة اجتماعهما إنما هي لاستحالة اجتماع الضدين، بعد فرض تضاد الأحكام و منها الحكمان المذكوران، و لو لزم ذلك من التداخل في المقام لزم نظيره من التداخل في الواجبات فقط أو المستحبات كذلك، لاستحالة اجتماع المثلين كالضدين، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و لازمه امتناع التداخل مطلقا، و هو مخالف لصريح النصوص المتقدمة المعمول عليها عند الأصحاب و منهم المانعون في هذه الصورة، لتسالمهم علي العمل بها في الجملة، و إن حكي في الجواهر عن بعضهم إنكار التداخل مطلقا، و هو من الشذوذ بمكان.

و من هنا ناسب التعرض لحقيقة التداخل، لابتناء اندفاع الإشكال علي ذلك، و لا سيما مع قرب ابتناء بعض وجوه الاستدلال في الفروع الآتية عليه.

فنقول: سقوط الأوامر المتعددة بالفعل الواحد.

تارة: لامتثالها به بسبب تصادق عناوينها عليه.

ص: 576

______________________________

و اخري: لوفائه بملاكها، و إن باينها.

و ثالثة: لكونه رافعا لموضوعها الذي يناط به ملاكها، كتطليق الزوجة المسقط لأحكامها من وجوب الإنفاق عليها و القسمة لها و غيرهما.

و رابعة: لكونه مانعا للمولي من استيفاء ملاكها بالتكليف، إما لإحداث ما يزاحم ملاكها، كما لو أمر بالدرس و المطالعة للتعلم فأحدث المكلف ما يوجب إضرارهما ضررا أهم من مصلحة التعلم، أو لإحداث المانع من ترتب الملاك علي الفعل، كما لو أحدث في المثال ما يوجب النسيان فلا يترتب التعلم علي الدرس و المطالعة، أو لتعذر الفعل مع تمامية ملاكه، كما لو عجّز المكلف نفسه في المثال عن المطالعة و الدرس.

و الظاهر رجوع الصورة الثانية للأولي، لتبعية التكليف للملاك سعة و ضيقا، فمع فرض وفاء الفعل المذكور بملاك الأوامر المذكورة لا معني للأمر بمتعلقاتها المباينة له تعيينا، بل لا بد من دخوله في حيز الأمر، و لو لكون الأمر تخييريا لو فرض عدم الجامع العرفي بين متعلق الأمر و الفعل المذكور، كما لو فرض حصول ملاك العقيقة بالأضحية، حيث يلزم حينئذ التخيير بينهما في فرض مشروعية الأضحية، لا الأمر بالعقيقة تعيينا، مع سقوط أمرها بالأضحية، فتكون الأضحية امتثالا للأمر التخييري المذكور، كما في الصورة الأولي.

و حينئذ، فمن الظاهر عدم رجوع التداخل في الأغسال و غيرها للصورتين الأخيرتين، لظهور التعبير بالإجزاء في أدلته في كون الفعل المجزي عن الأوامر المتعددة مسانخا لامتثالها و محصلا لملاكها، و لذا يكون مقربا مثلها، مع عدم صلوح المسقط في الصورتين المذكورتين للمقربية، لعدم وفائه بملاك فعلي مورد للتكليف، بل هو في الصورة الثالثة طرف للتخيير العقلي، دون الشرعي، و في الرابعة قبيح عقلا و مبعد من الشارع، لما فيه من تفويت الملاك الفعلي، بل لا بد من رجوعه للصورتين الأوليين اللتين عرفت رجوعهما للصورة الأولي.

و هو لا ينافي ما سبق من أن مقتضي الأصل الأولي عدم التداخل، لظهور

ص: 577

______________________________

أدلة الأوامر المذكورة في تباين متعلقاتها مفهوما و مصداقا بنحو لا تمتثل بفعل واحد.

إذ لا مانع من رفع اليد عن الظهور المذكور بدليل التداخل الظاهر في تحقق الامتثال للكل بفعل واحد برفع اليد إما عن ظهورها في تباين المتعلقات مفهوما، بحملها علي أن المأمور به في الكل مفهوم واحد صادق علي الفعل الواحد المستلزم لوحدة الأمر، لامتناع اجتماع المثلين، غايته أنه أمر مؤكد بسبب تعدد ملاكاته، تبعا لتعدد الجهات المقتضية له، و إما برفع اليد عن ظهورها في تباينها مصداقا، مع المحافظة علي تباينها مفهوما، بأن يكون المأمور به في كل منها خصوصية مباينة للخصوصية المأمور بها في الآخر، و إن أمكن اجتماع الخصوصيات في فرد واحد.

و مما ذكرنا، يظهر ضعف ما في الجواهر من امتناع التداخل الحقيقي الراجع إلي امتثال الأوامر المتعددة بالفعل الواحد. قال: «إذ لا يتصور جعل الشيئين شيئا واحدا حقيقة، و ما يطلق عليه الأصحاب أنه تداخل فالمراد أنه شبه التداخل من الاجتزاء بواحد عن متعدد، و بهذه المشابهة يمتاز عن الإسقاط».

و بهذا تخلص عن محذور اجتماع الضدين في محل الكلام، لأن الفعل الواحد و إن أسقط الوجوب و الندب، إلا أنه ليس امتثالا لهما، لمباينته للواجب و المندوب معا، فلا يكون منصفا بهما.

وجه الضعف: أن امتثال كلا الأمرين بالفعل الواحد لا يرجع إلي جعل الشيئين شيئا واحدا، بل إما أن يرجع إلي اندكاك أحد الأمرين بالآخر و رجوعهما لأمر واحد مؤكد، لوحدة متعلقهما مفهوما، أو تعددهما لتعدد متعلقيهما مفهوما مع انطباق المفهومين علي الفعل الواحد، الذي لا محذور فيه، لوضوح أن الفعل الواحد مجمع لعناوين كثيرة.

و مع ذلك لا يمكن الخروج عن ظهور النصوص و الفتاوي في كون التداخل حقيقيا بالمعني المذكور، و لا سيما مع اعترافه قدّس سرّه بأن الفعل الواحد واجد لملاكات

ص: 578

______________________________

الأوامر التي يجزئ عنها، حيث لا مجال مع ذلك لقصور المأمور به عن شموله، لوضوح تبعية الأمر للملاك.

ثمَّ إنه عرفت أن التداخل يبتني علي أحد وجهين.

الأول: أن تتحد متعلقات الأوامر مفهوما، فيلزم اندكاك الأوامر بعضها ببعض و رجوعها لأمر واحد مؤكد، تبعا لتعدد الملاك.

الثاني: أن تتباين متعلقات الأوامر مفهوما مع اجتماعها في الفعل الواحد، حيث يكون مصداق الكل منها.

و أما إذا كان الكل مفهوما واحدا من دون تأكد في الأمر، فهو خارج عما نحن فيه من تداخل الأوامر في الامتثال، بل يكون من تداخل أسباب الأمر فيه، حيث يكون المؤثر له هو السبب السابق- واحدا كان أو متعددا- دون اللاحق، نظير تداخل أسباب الحدث للوضوء، بناء علي وحدة الحدث.

إذا تقرر هذا، فالظاهر أن التداخل في الأغسال المستحبة غير الرافعة يبتني علي الوجه الأول، لوضوح أن مرجع الأمر بها- بعد فرض كونها طهارة- إلي كون المطلوب بكل منها مرتبة من الطهارة زائدة علي مجرد عدم الحدث، نظير الوضوء التجديدي، و لذا تشرع من غير المحدث، و أدلتها و إن كانت ظاهرة بدوا في تباينها المقتضي للجمع بينها عند اجتماع أسبابها المستلزم لحصول مرتبة مؤكدة من الطهارة المذكورة، و لذا كان الأصل عدم التداخل، إلا أن دليل التداخل كاشف عن كون المطلوب في الكل مرتبة واحدة تحصل بغسل واحد، فلا بد من اندكاك الأوامر بعضها ببعض و يكون هناك أمر واحد مؤكد.

و أما التداخل في الأغسال الرافعة للحدث، فهو يبتني علي الوجه الثاني، حيث أشرنا في وجه أصالة عدم التداخل فيها إلي ظهور الأدلة بدوا في تعدد الأحداث، و في اختصاص كل حدث بغسله، المستلزم لتباين الأغسال مصداقا، و دليل التداخل إنما ينافي الثاني دون الأول، فلا ملزم برفع اليد عنه، و إذا كانت الأحداث متباينة في أنفسها كان رفع كل منها مباينا لرفع الآخر مفهوما، فيكون

ص: 579

______________________________

حدوث كل منها سببا لحدوث الأمر برفعه، فتتعدد الأوامر تبعا لتعدد متعلقاتها مفهوما، كما أن فرض الاكتفاء في رفع جميع الأحداث بغسل واحد راجع إلي كونه امتثالا لكل منها بلحاظ كونه مجمعا لعناوين متعددة ناشئة من رفعه لكل حدث حدث.

و كذا الحال في التداخل بين الأغسال الواجبة و المستحبة، لكشفه عن أن الغسل الواحد كما يرفع الحدث محصل لمرتبة من الطهارة زائدة علي ذلك، فهو مجمع للعنوانين الواجب و المستحب، غايته أن المرتبة الزائدة من الطهارة الحاصلة به ليس من شأنها البقاء كمرتبة رفع الحدث، بل تبقي إلي أمد خاص حسبما تضمنته النصوص من إجزاء غسل اليوم لليوم، و غسل الليل لليل و غير ذلك مما هو شرط التداخل.

بقي الكلام في دفع إشكال اجتماع الضدين، الذي تقدم إيراده علي القول بالتداخل في الواجبات و المستحبات، و إشكال اجتماع المثلين الذي تقدم إيراده علي باقي صور التداخل.

و قد تصدي غير واحد لدفع ذلك بما حاصله: أن اللازم في المقام هو اجتماع جهتي الحكمين المتماثلين أو المتضادين، لا اجتماع الحكمين الفعليين، بل ليس الحكم الفعلي إلا واحدا، لاندكاك أحد الحكمين بالآخر وجوبيين كانا أم استحبابين أم مختلفين.

و لا يمنع منه اختلاف الوجوب و الاستحباب في الإلزام و عدمه، بل هو كسائر موارد اجتماع جهتي الاقتضاء و اللااقتضاء، حيث يكون المؤثر هو الأولي دون الثانية، فيكون الحاصل في المقام طلبا واحدا إلزاميا مؤكدا من حيثية الطلب دون الإلزام.

و ما ذكروه و إن كان وجيها في نفسه، لكن لا تصل النوبة إليه إلا في بعض فروض المقام.

و توضيح ذلك: أنه لا مجال لإشكال اجتماع الضدين قبل دخول وقت

ص: 580

______________________________

إحدي الغايات الواجبة الموقوفة علي رفع الحدث- بناء علي عدم فعلية وجوب المقدمة قبل وقت ذيها- فلا يكون الغسل إلا مستحبا، لاستحباب الكون علي الطهارة بتمام مراتبها.

بل لا مجال للإشكال المذكور حتي بعد دخول الوقت، بناء علي ما هو التحقيق من عدم ثبوت الأمر الغيري، و أن لزوم المقدمة عقلي لأجل امتثال الأمر النفسي، حيث لا يلزم اجتماع الأمرين الشرعيين في موضوع واحد، بل موضوع الوجوب هو الغاية المقيدة برفع الحدث- كالصلاة- و موضوع الاستحباب هو التطهر بمرتبة زائدة علي رفع الحدث.

و مجرد اقتضائهما معا الغسل ليس من اجتماع الحكمين المتضادين، لتوقف التضاد علي وحدة الحاكم، و المفروض أن أحد الحكمين شرعي و الآخر عقلي.

بل حتي بناء علي ثبوت الأمر الغيري ليس المطلوب هو الفعل الخارجي بذاته، ليلزم اجتماع الوجوب و الندب فيه، بل من حيثية كونه محصلا لقيد المطلوب النفسي، فالواجب الغيري في الحقيقة هو الغسل من حيثية كونه رافعا للحدث، و المستحب هو الغسل من حيثية كونه محصلا للمرتبة الزائدة علي ذلك من الطهارة، فيكون متعلق كل من الأمرين مباينا مفهوما لمتعلق الآخر و إن اجتمعا خارجا في مصداق واحد يكون به امتثال الأمرين معا، كما تقدم في حقيقة تداخل الأغسال.

و دعوي: أن فرض امتثال الأمرين معا بالفعل الواحد و اجتماع عنوانيهما فيه مستلزم لاتصافه بكلا الحكمين المتضادين.

مدفوعة: بأن تعلق الأحكام التكليفية بالماهيات ليس علي حدّ تعلق أكثر الأحكام الوضعية- كالطهارة و الحرية- أو العوارض الخارجية- كالبياض و الحرارة- بها، فان تعلق الأخيرة بالماهية إنما هو بمعني تعلقها بأفرادها الخارجية، إذ لا وجود لها لولاها، فمع فرض تضاد العرضين يمتنع اتصاف الماهيتين المتصادقتين

ص: 581

______________________________

في بعض الأفراد بهما، لئلا يلزم اجتماعهما في الأفراد المذكورة، بل لا بد من قصور أحدهما عن مورد الاجتماع.

أما الأحكام التكليفية، فتعلقها بالماهية لا يقتضي اتصاف أفرادها الخارجية بها، لوضوح أن وجود الفرد و تشخصه يستلزم سقوط الحكم بالطاعة أو المعصية، و لا وجود له معه ليتصف به، بل متعلق الحكم ليس إلا الماهية بمالها من حدود مفهومية عامة.

و تعلقه بها يقتضي إيجادها.

تارة: - كما في الوجوب و الاستحباب- و عدمها.

و اخري: - كما في الحرمة و الكراهة- و لا يقتضي شيئا منهما ثالثة- كما في الإباحة- و ليس معني تعلق الحكم بالفرد إلا اقتضاء تعلق الحكم بالماهية لإيجاده أو عدمه، بحيث يكون به أطاعته أو معصيته.

و حيث فرض اختلاف الماهيتين في المقام بالحدود المفهومية، لم يلزم من اتصاف إحداهما بالوجوب و الأخري بالاستحباب اجتماع الضدين و إن تصادقا في الخارج في فرد واحد كل منهما يقتضيه.

و إنما يمتنع اجتماع الوجوب و التحريم أو الاستحباب و الكراهة في الماهيتين المتصادقتين في بعض الأفراد أو تمامها لتنافي مقتضاهما، فيلزم من جعل كل منهما نقض الغرض من الآخر، نظير باب التزاحم، لا لاجتماع الضدين.

و هذا في الحقيقة راجع إلي جواز اجتماع الأمر و النهي بمعني. و تمام الكلام في محله.

و بهذا يندفع محذور اجتماع المثلين لو فرض اختلاف عنواني المأمور به مع اتفاق الأمرين في الوجوب أو الندب، كما في اجتماع الأغسال الواجبة بعد الوقت، أو قبله، أو اجتماعها مع المستحبة قبل الوقت.

و أما مع اتحاد عنواني المأمور به- كما في اجتماع الأغسال المستحبة

ص: 582

و لا يحتاج إلي الوضوء إذا كان فيها جنابة (1)،

______________________________

فالمتعين البناء علي الاندكاك و التأكد، كما ذكروه، و تقدم منا في بيان حقيقة التداخل.

هذا، و لا يخفي أن القول باعتبار نية الوجه لا يزيد في الإشكال، فإنه إن كان الفعل الواحد المجزي عن الجميع امتثالا لكلا الأمرين لزم نيتهما معا، و إن كان امتثالا لأحدهما دون الآخر لزم نية خصوص ما يكون امتثالا له، و إن لم يكن امتثالا لأحدهما- كما تقدم من الجواهر- فلا وجه للفعل كي تجب نيته، إذ لا يراد باعتبار نية الوجه إلا نيته في ظرف ثبوته علي نحو ثبوته، فمع عدم ثبوت أحد الوجهين للفعل لا موضوع لنية الوجه، كي يلزم الإخلال بها.

و إن قيل بامتناع التداخل لامتناع اجتماع الضدين، فلا يرفع المحذور المذكور عدم اعتبار نية الوجه.

فما عن العلامة في محكي النهاية من الصحة مع نية المطلق و عدم تعيين خصوصية أحد الأغسال بناء علي عدم اعتبار نية الوجه و البطلان بناء علي اعتبارها، غير ظاهر الوجه. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) أما بناء علي إجزاء كل غسل عن الوضوء فظاهر، و أما بناء علي اختصاص ذلك بغسل الجنابة فظاهر المنتهي أن الإجزاء عن غسل الجنابة مستلزم لسقوط الوضوء، و هو المصرح به في الجملة في كلام غير واحد، بل في المستند و عن الغنائم أنه ظاهر الجميع، بل يظهر من محكي شرحي الدروس و الموجز دعوي الإجماع عليه.

و قد يستدل له بإطلاق ما تضمن إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء «1»، بناء علي ما تقدم من رجوع التداخل لكون الغسل الواحد امتثالا للكل و فردا منها، لأن الغسل في المقام يكون من أفراد غسل الجنابة.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 33، 34، 35 من أبواب الجنابة.

ص: 583

______________________________

بل حتي بناء علي عدم كونه فردا منها، لأن إطلاق الإجزاء، يقتضي قيام المجزي مقام المجزي عنه في تمام آثاره و أحكامه.

لكن الإطلاق المذكور لا يستلزم في الإجزاء مثل المقام مما فرض فيه وجود غير الجنابة من الأحداث الكبيرة التي يحتاج غسلها للوضوء.

و توضيح ذلك: أن كفاية غسل الجنابة عن الوضوء دون غيره من الأغسال.

تارة: لعدم اجتماع الحدث الأصغر مع الجنابة و اجتماعه مع بقية الأحداث الكبيرة، سواء كان مسببا عن أسبابها أم عن أسبابه.

و اخري: لرفع غسل الجنابة للحدث الأصغر و إن كان مسببا عن سبب الحدث الأكبر، بخلاف بقية الأغسال.

و ثالثة: لاستقلال غسل الجنابة برفع حدثه، دون بقية الأغسال، حيث لا ترفع أحداثها إلا بضميمة الوضوء.

و رابعة: لأن حدث الجنابة لا يوجب الحدث الأصغر، بخلاف بقية الأحداث الكبيرة.

أما علي الأولين، فلا حاجة للوضوء، لعدم الموضوع له في فرض الجنابة علي الأول، و في فرض ارتفاعها بغسلها علي الثاني.

و أما علي الثالث، فلا بد من الوضوء، إذ لا إطلاق لنصوص التداخل يقتضي بنفيه، لعدم ورودها لبيان الاكتفاء بالغسل الواحد في رفع الأحداث المذكورة، بل لبيان إجزائه عن أغسالها و إن لم تكن تامة الرافعية، في مقابل تكرار الغسل لتعدد الحدث. بل هو صريح قوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «و غسلها من حيضها» و في مرسل جميل: «من كل غسل يلزمه.».

و دعوي: أن سقوط الوضوء حينئذ مقتضي إطلاق ما تضمن نفي الوضوء مع غسل الجنابة و إغنائه عنه، لرجوعه إلي ترتب آثاره عليه، و منها تتميم رافعية بقية الأغسال لإحداثها.

مدفوعة: بأن مفاد أدلة إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء ليس هو تنزيله

ص: 584

______________________________

منزلته، لتلحقه تمام آثاره بمقتضي عموم التنزيل، بل استقلاله بالرافعية لما يسبب عنه من حدث أكبر أو أصغر، و لا عموم فيه لبقية آثار الوضوء مما يرجع لرفعه لبقية الأحداث الكبيرة البانية لما يتسبب عن الجنابة من حدث.

و لذا لا ريب ظاهرا في أنه بناء علي عدم التداخل لا مجال للبناء علي الاجتزاء بغسل الجنابة عن الوضوء المتمم لرافعية بقية الأغسال لإحداثها، فلاحظ.

و كذا الحال علي الرابع، لأن عدم الحاجة للوضوء، من جهة الجنابة لعدم تأثيرها للحدث الأصغر، لا ينافي لزومه بسبب بقية الأحداث، لتأثيرها له و إن اجتمعت مع الجنابة.

لكن لا تأمل في بطلان هذا الوجه، كيف و لازمه وجوب الجمع بين الوضوء و الغسل لو اجتمع سبباهما؟! كما أن الظاهر بطلان الثالث، بل نفي في جامع المقاصد الريب فيه، إذ لا إشكال ظاهرا- كما في الجواهر- في ارتفاع الآثار المختصة بالحدث الأكبر في غير الجنابة بالغسل، فيجوز الدخول للمساجد و قراءة العزائم و الصوم و نحوها، فلكل من الغسل و الوضوء أثره المختص به، كما يظهر من التعبير في الهداية و الرضوي «1» بعدم إجزاء الغسل عن الوضوء، لأن السنة لا تجزئ عن الفريضة، و يظهر من غير واحد من الأصحاب المفروغية عنه، لظهور كلامهم في أن الوضوء لأجل الصلاة.

قال في النهاية بعد الحكم بوجوب الطهارة الصغري مع الغسل في غير الجنابة: «و تقديمها أفضل إذا أراد به الدخول في الصلاة. فإن لم يرد الصلاة في الحال جاز أن يفرد الغسل من الوضوء»، و في المبسوط: «و يلزمها تقديم الوضوء، ليسوغ لها استباحة الصلاة. فإن لم تتوض قبله فلا بد منه بعده» و نحوه في الغنية، و قريب منه عن السرائر، و هو المناسب لما في صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إن طهرت بليل من حيضها ثمَّ توانت في أن تغتسل حتي أصبحت

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 585

______________________________

عليها قضاء ذلك اليوم» «1»، المؤيد بمشروعية الوضوء مع الحيض «2» الكاشف عن استقلاله في رافعية حدثه حينه، فضلا عما بعد انقطاعه.

و احتمال كونه تعبدا محضا لا للتطهير بعيد جدا، كيف و لازمه جواز تخلل الحدث الأصغر بينه و بين الذكر أو الأكل اللذين ندب الوضوء لهما؟! مضافا إلي مرتكزات المتشرعة في استقلال كل من الوضوء و الغسل في الأثر، و أن الفرق بين غسل الجنابة و غيره من الأغسال في إجزائه عن الوضوء دونها، لا في استقلاله برفع الحدث و عدم استقلالها.

و ذلك كله صالح للقرينية علي صرف ما قد يظهر بدوا من نصوص وجوب الوضوء لبقية الأغسال من كونه متمما لها، كقولهم عليهم السّلام: «كل غسل قبله وضوء» و:

«في كل غسل وضوء» و: «إذا أردت أن تغتسل للجمعة فتوضأ و اغتسل» «3».

و منه يظهر ضعف ما عن الذكري من استبعاد استقلال كل من الطهارتين برفع كل من الحدثين «4»، و كذا ما في المدارك من احتمال اشتراكهما في الرفع مع وحدة الحدث أو تعدده.

و من هنا كان المتعين أحد الوجهين الأولين.

و لعل الثاني منهما أنسب بمفاد النصوص المتضمنة إجزاء الغسل عن الوضوء، لظهورها في تحقق الحدث المرتفع بالوضوء.

بل هو الظاهر مما تضمن استحباب وضوء الجنب للأكل «5» و النوم «6».

و علي كلا الوجهين يتعين البناء علي عدم الحاجة للوضوء، و هو المناسب

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 40 من أبواب الحيض.

(3) الوسائل باب: 35 من أبواب الجنابة حديث: 1، 2، 3.

(4) الظاهر عدم تمامية النسبة علي ما يأتي في ذيل الكلام في كيفية غسل الحيض.

(5) راجع الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة. و الاستدلال به مبني علي أن المراد به وضوء الصلاة كما هو غير بعيد لا غسل اليدين.

(6) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة.

ص: 586

و كذا لو قصد الجنابة فقط (1)

______________________________

لما يأتي من ظهور مفروغيتهم عن ذلك لو نوي خصوص الجنابة، مع عدم الفرق بينهما بمقتضي القواعد المتقدمة.

(1) فيجزئ عن غيره و لا يحتاج إلي الوضوء.

أما إجزاؤه عن غيره فيما لو كان الجميع واجبا، فهو المصرح به في كلام غير واحد، و في المدارك و محكي الذخيرة و الكفاية و البحار أنه المشهور، بل في بعضها: «قيل: إنه متفق عليه» و عن شرحي الموجز و الجعفرية نفي الخلاف فيه، و في جامع المقاصد و عن السرائر و مجمع الفوائد و الدلائل دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه- مضافا إلي مرسل جميل بالتقريب المتقدم في أول المسألة- إطلاق صحيح زرارة الشامل لصورة نية خصوص بعض الأغسال المجتمعة، بل هو من أفراده الظاهرة، لأنه وارد لتشريع التداخل في فرض إيقاع الغسل، لا لإحداث الداعي للغسل الذي به التداخل، فلا يفرض فيه العلم بالتداخل- موضوعا و حكما- حين إيقاع الغسل، بل هو شامل للغفلة عنه و الجري علي مقتضي الأصل من قصد الغسل لحدث خاص.

نعم، صورة قصد الجميع ظاهرة أيضا، لأنها الصورة المتعارفة مع الالتفات للجميع و لتشريع التداخل- كما تقدم- و لا مجال لإخراج صورة العلم بمؤدي الدليل عن إطلاقه.

و هذا بخلاف بقية النصوص المتضمنة لإجزاء غسل واحد للجنابة و الحيض أو للجنابة و مس الميت، لأنها واردة لإحداث الداعي للغسل المجزي عن الكل، فالصورة الظاهرة منها نية الكل تبعا للتشريع المذكور.

بل قد يدعي قصور إطلاقها لأجل ذلك عن صورة نية البعض.

هذا، و لكن نية خصوص الجنابة ترجع.

تارة: إلي قصد رفعها بالغسل من دون نظر لتخصيصه بها.

ص: 587

______________________________

و اخري: إلي قصد تخصيص الغسل بالجنابة، بنية الماهية الخاصة، كما لو لم يكن التداخل مشروعا.

و الظاهر من حكمهم بأقوائية غسل الجنابة أن محل كلامهم الصورة الثانية.

و إنما يتجه فرضه بناء علي ما سبق من الجواهر من رجوع التداخل إلي إجزاء غير المأمور به عن المأمور به.

إذ عليه يكون تشريع الأغسال علي نحوين مترتبين.

الأول: تشريع الأغسال المختصة بالأحداث، و هو يعم بمقتضي إطلاق أدلته حالي انفراد أحد الأحداث و اجتماعها.

الثاني: تشريع إجزاء غسل مباين للغسل المختص بحدث عنه، إما بأن يكون مباينا لجميع الأغسال، بأن لا ينوي به غسلا مختصا، أو يكون أحدها، بأن ينوي غسلا مختصا- كالجنابة- فيجزئ عن غيره من الأغسال المختصة بالأحداث الأخر.

فيقع الكلام حينئذ في قيام الدليل علي كلا القسمين، أو خصوص الأول أو الثاني منهما، و المعول فيه علي عموم النصوص السابقة و خصوصها.

و الظاهر أن إطلاق صحيح زرارة واف بإثبات القسمين معا، للتقريب المتقدم. كما أن مرسل جميل واف بإثبات إجزاء غسل الجنابة عن غيره، و هو من أفراد القسم الثاني.

و أما بقية النصوص، فهي وافية بإثبات القسم الأول فقط، لظهورها في تشريع الغسل الواحد للحدثين معا بنحو يظهر منها اتفاق نسبة الحدثين للغسل و عدم خصوصية أحدهما فيه، فيكون مباينا لكلا الغسلين المختصين.

أما بناء علي ما تقدم منا في حقيقة التداخل من رجوعه إلي كون الغسل الواحد امتثالا للكل، المستلزم لكون المشروع في الكل هو الماهية المطلقة الصادقة علي الواحد، و أنها رافعة لجميع الأحداث، فلا تشريع للغسل المختص، و لا تشرع نيته، بل يبطل.

ص: 588

______________________________

إلا أن تكون نيته لا علي نحو التقييد، بل علي نحو الاعتقاد المقارن- كما هو الظاهر عند الجهل بمشروعية التداخل- أو الداعي- كما هو الظاهر عند الجهل بتعدد الحدث- مع كون المقصود هو الغسل المشروع، فيرجع إلي الصورة الأولي، التي يظهر إرادتهم لها من حكمهم برجوع نية الجميع لنية الجنابة، و بأولويتها منها في الإجزاء. و عليه يحمل مرسل جميل و صحيح زرارة الظاهران في الصحة مع نية بعض الأحداث، إذ ليست هي بصدد إجزاء ما ليس بمشروع، بل بصدد بيان سعة التشريع، كما تحمل بقية النصوص عليه أيضا، و كون المتيقن منها نية الجميع إنما هو بلحاظ أنها الوجه المتعارف من قصد ما هو المشروع مع الالتفات لكبراه و صغراه.

و في الحقيقة لا اختلاف بين الجميع، إذ ليس المفروض فيها إلا قصد ما هو المشروع، غايته أنه بداعي رفع الجميع عند الالتفات لثبوته و ارتفاعه بالغسل الواحد، و بداعي رفع البعض، أو باعتقاد ذلك، عند الغفلة عن أحد الأمرين.

هذا، و قد يستدل علي التداخل عند قصد خصوص الجنابة.

تارة: بما في كلام غير واحد من أن غسل الجنابة لما كان أقوي من غيره من الأغسال، لإجزائه عن الوضوء دونها، تعين إجزاؤه عنها.

و اخري: بما قد يظهر من الجواهر الاعتماد عليه، من أن ارتفاع الأصغر مع غسل الجنابة مستلزم لارتفاع بقية الأحداث الكبيرة، لامتناع ارتفاعه مع بقائها.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 589

و يشكل الأول: بأن القوة المستلزمة لإجزاء الأقوي عن الأضعف إنما هي بمعني اندكاك أثر الأضعف في أثر الأقوي، لوجوده في ضمنه، و إنما يصح فرض ذلك في المقام بناء علي وحدة الحدث الأكبر مع تعدد أسبابه.

و هو- مع أنه خلاف الظاهر- خارج عن مبني النزاع، لابتناء نزاعهم علي فرض تعدد الأغسال، فضلا عن الأحداث.

أما بناء علي تعددها، فلكل من الغسلين أثره المختص به و إن امتاز غسل الجنابة برفع الأصغر أيضا، و لو فرض صدق الأقوائية بذلك فليست هي مستلزمة

ص: 589

______________________________

لإجزاء الأقوي عن الأضعف.

أما الثاني، فيشكل بعدم الوجه في امتناع رفع الأصغر مع بقاء الأكبر، بل قد يناسب ذلك استحباب الوضوء للحائض لأجل الأكل و الذكر في أوقات الصلاة، بناء علي ما تقدم من استظهار كونه رافعا للحدث، و كذا استحباب تقديم الوضوء عند الاغتسال.

و ما ذكره قدّس سرّه من عدم ارتفاع الأصغر إلا بعد الغسل بعيد جدا، لا يناسب ما سبق منه من استقلال الغسل برفع الحدث الأكبر و إن لم يتحقق الوضوء.

مضافا إلي ابتناء الوجهين معا علي وجوب الوضوء مع بقية الأغسال، و هو محل الكلام. فالعمدة ما عرفت من النصوص.

نعم، قد يستشكل في مشروعية نية الجنابة وحدها، و في صحة الغسل لها، فضلا عن إجزائه لغيرها، لنصوص تداخل الجنابة و الحيض، كقوله عليه السّلام في صحيح أبي بصير: «تجعله غسلا واحدا» «1»، و في صحيح ابن سنان: «غسل الجنابة و الحيض واحد» «2» و غيرهما، لظهورهما في عدم الاجتزاء بنية الجنابة وحدها.

لكنه يندفع- بناء علي ما ذكرنا من وحدة الغسل و أن اختلاف الأحداث ترجع إلي تعدد أثر الغسل الواحد- بأن النصوص المذكورة واردة لبيان الاكتفاء بالغسل الواحد، و لا تدل علي اعتبار قصد رفع الحدثين معا، في صحته كما لا تدل نصوص غسل الجنابة علي اعتبار نية رفع حدثها.

و أما بناء علي تباين الأغسال تبعا لتباين الأحداث، فالنصوص المذكورة و إن كانت ظاهرة في تشريع غسل خاص بالحدثين معا مباين لكل من الغسلين المختصين بكل منهما، و هو لا يتحقق بنية غسل الجنابة، إلا أن من القريب ورود هذه النصوص لدفع توهم وجوب التعدد، لا لتعيين الغسل المذكور و عدم مشروعية الغسلين المختصين.

و لا أقل من حملها علي ذلك لأجل ما تقدم، فإنه أولي من رفع اليد عما

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 9.

ص: 590

______________________________

تقدم مما يقتضي الاجتزاء بنية الجنابة لأجلها.

ثمَّ إنهم قد تعرضوا في المقام لما لو نوي عدم رفع غير الجنابة بغسل الجنابة. و يظهر من الجواهر الميل إلي التداخل فيه أيضا، عملا بالوجه المذكور، و في مفتاح الكرامة: «و لو نوي أمرا بشرط عدم غيره صح في المنوي- كما يظهر من بعضهم- و أما غيره فإن كان من اللوازم الشرعية التي يستحيل انفكاكها صح أيضا، و إلا فلا».

و الذي ينبغي أن يقال: لما كان ظاهر الأدلة أن الإجزاء عن بقية الأغسال قهري لا قصدي، فنية عدم الحدث الآخر إن رجعت إلي تشخيص الغسل بذلك أو تقييد امتثال الغسل المشروع به، تعين بطلان الغسل، فلا يرفع به الحدث المقصود به، فضلا عن غيره، لعدم مشروعية الغسل المأتي به في الأول، و عدم تحقق قيد الامتثال في الثاني.

و إن رجعت إلي الخطأ في تشخيص حكم الغسل أو التشريع فيه مع الإطلاق في امتثال الغسل المشروع، تعين البناء علي الصحة و الإجزاء عن غير ما قصد إيقاع الغسل له.

و أما إن كان بعض الأغسال مستحبا، فقد حكم بإجزاء غسل الجنابة عنها في المبسوط و الخلاف و كشف اللثام و ظاهر الوسيلة و عن السرائر و ابن سعيد و البيان و محكي المسالك، و نسب للمشهور، بل هو داخل في معقد إجماع السرائر.

و استشكل فيه في المعتبر، بل صرح بعدم الاجتزاء في المنتهي و محكي نهاية الإحكام و التذكرة و المختلف و غير واحد من متأخري المتأخرين، و هو مقتضي ما تقدم من جماعة من إطلاق عدم التداخل في المستحبات.

لكن تقدم في صورة نية الجميع أنه لا وجه للإطلاق المذكور، كما يظهر مما تقدم هنا عدم الفرق بين الواجبات و المستحبات، لصحيح زرارة.

و أما إجزاؤه عن الوضوء، فهو المصرح به في كلام غير واحد، و يظهر من كل

ص: 591

بل الأقوي ذلك أيضا إذا قصد منها واحدا غير الجنابة (1)،

______________________________

من تعرض له و أغفل التنبيه علي الوضوء، لظهور كلامهم في المفروغية عن ترتب سائر أحكام غسل الجنابة عليه، و أن إجزاءه عن غيره ليس لانطباق عنوانه عليه ليتوهم ترتب حكمه عليه، و هو الحاجة للوضوء، و لا سيما بملاحظة ارتكاز أن عدم إجزاء بقية الأغسال عن الوضوء لقصورها، فلا ينافي الاستغناء عنه بغسل الجنابة.

بل مقتضي الوجهين الأخيرين المتقدمين لإجزائه عن بقية الأغسال المفروغية عنه، و من هنا كان هو المنساق من مرسل جميل، بل الظاهر أنه مقتضي سيرة المتشرعة الارتكازية.

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك- ما تقدم في صورة نية الجميع، الذي أشرنا إلي اعتضاده بمفروغيتهم عن الإجزاء هنا.

(1) البحث في ذلك في مقامين.

الأول: ما إذا كان المقصود واجبا، فيقع الكلام.

تارة: في صحته لنفسه.

و اخري: في أنه مع وجود الجنابة هل يجزئ عن غسلها، و عن الوضوء أيضا تبعا له.

و ثالثة: في إجزائه عن الأغسال الأخري الواجبة.

و رابعة: في إجزائه عن الأغسال المستحبة.

أما الأول، فهو المصرح به في كلام غير واحد، و قد يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عنه. و يقتضيه إطلاق تشريع الغسل لكل حدث من الأحداث المذكورة، حيث يشمل صورة اجتماعها، فيكون مقتضاه زواله بنيته و إن قيل بعدم إجزائه عن غيره.

و لا ينافيه مشروعية التداخل و إجزاء الغسل الواحد بنية الجميع أو

ص: 592

______________________________

خصوص الجنابة- كما تقدم- لعدم ظهور دليله في الإلزام بمؤداه، بل في محض تشريعه لبيان عدم وجوب التعدد، إلا ما توهمه بعض نصوص تداخل الجنابة و الحيض، و قد تقدم لزوم رفع اليد عن ذلك.

و من ذلك يظهر عدم الفرق بين وجود الجنابة في ضمن الأحداث و عدمه.

لكن عن التذكرة الإشكال في صحة الغسل لما نوي له مع وجود الجنابة، قال فيها: «فإن نوت الجنابة أجزأ عنها، و إن نوت الحيض فإشكال ينشأ من عدم ارتفاعه مع بقاء الجنابة، لعدم نيتها، و من أنها طهارة قرنها الاستباحة، فإن صحت فالأقرب وجوب الوضوء، و حينئذ فالأقرب رفع حدث الجنابة، لوجود المساوي في الرفع».

و في الجواهر أنه ربما ظهر من بعضهم الجزم بعدم الصحة، و ربما أراد ما عن السرائر من حصره النية بالجنابة، و ما في كشف اللثام من عدم وجوب غسل الحيض للغايات المشتركة بينه و بين غسل الجنابة، كالصلاة.

و كأنه مبني علي عدم إغنائه عن غسل الجنابة، إما لأنه غير منوي، أو لأنه أضعف منه بناء علي لزوم الوضوء معه. و امتناع ارتفاع الأضعف مع بقاء الأقوي.

و فيه- مع ضعف المبني المذكور، لأن الظاهر إغناؤه عن غسل الجنابة و إن لم ينو، و لا يمنع منه أضعفيته بالمعني المذكور، إذ غايته وجوب الوضوء معه-: أن أضعفية غسل الحيض لوجوب الوضوء معه لا يستلزم أضعفية حدثه. بل صدق الأضعفية إنما يتجه مع اندكاك الأضعف في الأقوي، لوجوده في ضمنه، و هو غير محرز في المقام، لقرب امتياز كل حدث بنفسه عن الآخر.

علي أن امتناع زوال الأضعف مع بقاء الأقوي إنما هو مع بقائه بتمام مراتبه، و لا مانع من الالتزام بزوال بعض مراتب الجنابة، و إنما يحتاج لغسلها لإزالة بقية المراتب.

و أما الثاني، فقد ذهب إلي إجزائه عن الجنابة في المبسوط و الشرائع و المعتبر و جامع المقاصد و الروض و المدارك، و حكي عن ابن سعيد و الشهيد

ص: 593

______________________________

و جماعة، و عن شرح الجعفرية أنه المشهور، و عن الذكري: أن الفرق بين غسل الجنابة و غيره تحكم.

و يقتضيه إطلاق صحيح زرارة المتقدم. و لا مجال لدعوي اختصاصه بنية الجميع، لما تقدم في صورة نية الجنابة. بل تقدم هناك أنه بناء علي ما هو الظاهر من رجوع التداخل إلي التكليف بطبيعة الغسل أن نية الحدث لا بد أن تكون بنحو الداعي، فيتجه الاستدلال بجميع نصوص التداخل، لعدم ظهورها في لزوم نية الحدث زائدا علي نية الغسل المشروع، بل مقتضي إطلاقها لزوم إيقاع الغسل الذي تضمنته بأي داع فرض، و إنما ينحصر الاستدلال بصحيح زرارة بناء علي اختلاف ماهيات الأغسال، و رجوع التداخل إلي إجزاء غير المأمور به عن المأمور به، و عليه يبتني بعض استدلالاتهم في المقام، فراجع.

هذا، و قد أشير للاستدلال أيضا- كما في جامع المقاصد و غيره- بأنه لو لم يجز عن غسل الجنابة غيره عند اجتماعهما لزم عدم وجوب ذلك الغير، لعدم إجزائه و عدم الفائدة فيه بعد فرض وجوب الجنابة لا غير.

و فيه: أنه يكفي في صحة التكليف به أجزاؤه في رفع حدثه، بناء علي ما سبق من تعدد الأحداث.

علي أن الالتزام بعدم وجوب ذلك الغسل مع وجوب رفع حدثه بغسل الجنابة ليس محذورا، غايته استلزامه تقييد دليل سببية الغسل لرفع حدثه، و ليس هو بأبعد من رفع اليد عن ظهور دليل سببية غسل الجنابة لرفع حدثه في التعيين، بل يتساقطان، و يكون المرجع قاعدة الاشتغال المقتضية للاقتصار علي نية الجنابة، لأنه المتيقن في رفع الحدث. فالعمدة ما ذكرنا.

هذا، و قد استشكل في إجزائه عن الجنابة في المنتهي، بل صريح الوسيلة و القواعد و محكي السرائر و التذكرة عدمه و نسبه شيخنا الأعظم قدّس سرّه لأكثر من تعرض للمسألة، و قد يظهر من السرائر دعوي الإجماع عليه.

و المذكور في كلماتهم الاستدلال له بأمور.

ص: 594

______________________________

الأول: موثق سماعة عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهم السّلام: «قالا في الرجل يجامع المرأة فتحيض قبل أن تغتسل من الجنابة. قال: غسل الجنابة عليها واجب» «1».

لكن لما كان مقتضي الأصل الأولي وجوب غسلي الجنابة و الحيض معا، فظاهر الجواب بوجوب غسل الجنابة كون السؤال عنه في مقابل احتمال سقوطه مع المفروغية عن وجوب غسل الحيض، فيكون ظاهرا في وجوب الجمع بينهما علي ما هو مقتضي الأصل المذكور، و هو مخالف للإجماع و صريح النصوص المتقدمة، فلا بد إما من حمله علي تعيين الواجب منهما مع الفراغ عن عدم وجوب الجمع بينهما، أو حمل غسل الجنابة فيه علي الغسل الرافع للجنابة دفعا لتوهم ارتفاع موضوعه، و هو الجنابة أو اندكاكه بالحيض، لا ما يقابل غسل الحيض، فلا ينافي إجزاؤه عنه، أو حمل وجوب غسل الجنابة علي مشروعيته حتي في حال الحيض، كما تضمنه موثق عمار المتقدم في أول المسألة.

و هذه و إن اشتركت في مخالفة الظاهر إلا أن مقتضي الأول لزوم نية الغسل المختص بالجنابة و عدم إجزاء نية الجميع، و هو مما تأباه نصوص تداخل الحيض أو مس الميت و الجنابة جدا، لظهورها في كون الغسل الواحد للحدثين معا بنسبة واحدة، لا لخصوص الجنابة.

فالأقرب أحد الأخيرين.

و ربما كان الأقرب منهما حمل الموثق علي التقية لموافقته للمحكي عن الحسن و النخعي من وجوب غسلين.

الثاني: ما أشير إليه فيما تقدم عن التذكرة من تبعية العمل الصالح لأكثر من وجه واحد للنية، فمع عدم نية الجنابة لا مجال لارتفاعها.

و فيه: أنه مع فرض تعدد حقائق الأغسال، فذلك إنما يقتضي عدم تعيين الغسل لغسل الجنابة، لا عدم إجزائه عنه برفع حدثها لو دل الدليل عليه، و قد

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 595

______________________________

عرفت وفاء الدليل به كما يفي بغيره من موارد التداخل.

و أما مع فرض وحدة ماهية الغسل- كما سبق- فهو لا يقع إلا علي وجه واحد، و لا يحتاج إلي نية التعيين.

الثالث: أن غسل الجنابة أقوي من غيره، لإجزائه عن الوضوء، و لا يلزم من نية الفعل الضعيف حصول القوي، كما في المنتهي و عن السرائر.

و فيه- مضافا إلي ابتنائه علي عدم إجزاء غير الجنابة عن الوضوء- أنه مع فرض وحدة ماهية الأغسال فالمتعين الإجزاء، لأن القوة و الضعف من حالات الغسل الواحد، غايته أنه يلتزم بقوته و إجزائه عن الوضوء لتحقق الجنابة، أو بضعفة لتحقق غيرها، علي ما يأتي الكلام فيه. و مع فرض تباينها، فالأصل عدم إجزاء كل من القوي و الضعيف عن الآخر إلا بدليل، و قد سبق وفاء الدليل بذلك، كما يفي بغيره.

و يتفرع علي هذا الوجه ما تقدم عن التذكرة من أنه لو صح الغسل مع نية غير الجنابة وجب ضم الوضوء، فإن ضمه فالأقرب رفع حدث الجنابة، لوجود المساوي في الرفع.

و هو مبني علي وحدة الحدث الأكبر، و قد عرفت أنه خلاف الظاهر.

و لعله لذا استشكل في ذلك في القواعد و المنتهي معللا له في الثاني بأن الغسل لم يقع للجنابة، و الوضوء غير رافع لها.

ثمَّ إنه يظهر من المعتبر و محكي التذكرة و غيرهما المفروغية عن إجزاء غسل غير الجنابة عن غسلها بناء علي اشتراكهما في عدم الاحتياج للوضوء.

و كأنه لكونه مساويا في الرافعية حينئذ، أو لاستلزام ذلك اتحاد حقائق الأغسال.

لكن الأول إنما يسلم بالإضافة للحدث الأصغر، و أما بالإضافة للأكبر فهو موقوف علي وحدته، و هي ممنوعة كما تقدم.

و يندفع الثاني بمنع الملازمة، لإمكان اختلافها و اختصاص كل غسل بحدثه

ص: 596

______________________________

الأكبر، و إن اشتركت في رفع الأصغر.

فالأمر منحصر بالنصوص المتقدمة، فإن نهضت بالإجزاء- كما تقدم- لم يمنع منه اختلاف الأغسال في الحاجة للوضوء، و إلا لم ينفع اتفاقها في عدم الحاجة له.

هذا، و قد صرح في المعتبر و المنتهي بأنه بناء علي الإجزاء عن غسل الجنابة لا يحتاج إلي الوضوء، و لعله متسالم عليه بينهم، و إن قل من صرح به منهم.

و يظهر الوجه فيه مما تقدم في صورة نية الجميع، فراجع.

و أما الثالث، و هو الإجزاء عن غير الجنابة من الأغسال الواجبة، فالظاهر أنه مختار كل من ذهب إلي إجزائه عن الجنابة، و إن قصرت عبائر بعضهم عنه، لأولويته منه، حيث لا تردد فيه بعض الشبهات السابقة.

و من ثمَّ ضعف الخلاف هنا، بل عن شرح الدروس أنه استظهر الإطباق علي الإجزاء هنا.

لكن لا طريق للجزم بإطباقهم، و لا سيما مع ما عن الدلائل من الميل لاعتبار نية الأسباب في التداخل، و ما تقدم من كشف اللثام من الميل للاقتصار علي صورة وجود الجنابة، بل جزم في الجواهر بعدم الإجزاء، و قواه شيخنا الأعظم قدّس سرّه لدعوي اختصاص نصوص التداخل عدا مرسل جميل بصورة نية الجميع، و الأصل عدمه.

و يظهر ضعفه مما تقدم في صورة نية الجنابة من تقريب إطلاق صحيح زرارة بالإضافة إلي نية خصوص أحد الأغسال.

و أما الرابع، و هو الإجزاء عن الأغسال المستحبة، فهو مقتضي إطلاق ما في المبسوط و عن الجامع و البيان و المسالك، و مال إليه في المدارك. خلافا للمنتهي و محكي نهاية الإحكام و التذكرة و المختلف.

و يقتضيه ما تقدم من جماعة من إطلاق عدم التداخل في المستحبات، و من كشف اللثام من الميل للاقتصار في التداخل علي صورة وجود الجنابة، و ما تقدم في الأمر السابق من غير واحد من إطلاق توقف التداخل علي نية السبب،

ص: 597

______________________________

و ما في المعتبر و عن الذكري و غيرها من إطلاق. توقف التداخل في المستحبات علي نية السبب.

و تقدم ضعف الأولين في صورة نية الجميع.

كما يظهر ضعف الثالث مما تقدم في صورة نية الجنابة من تقريب إطلاق صحيح زرارة بالإضافة إلي نية خصوص بعض الأغسال.

و أما الرابع، فكأن الوجه فيه أن الغرض من المستحب تحصيل الثواب بالامتثال، و مع عدم نيته لا امتثال و لا ثواب.

و فيه: أن الذي لا يحصل هو الامتثال بمعني التعبد بالأمر، لا بمعني موافقته.

و عدم حصول الثواب لا ينافي الأجزاء المستلزم لعدم مشروعية التكرار.

المقام الثاني: ما لو كان المقصود غسلا مستحبا. و الكلام فيه.

تارة: فيما لو كان معه مستحب فقط.

و اخري: فيما لو كان معه واجب فقط.

و ثالثة: فيما لو كان معه واجب و مستحب.

أما الأول: فلا ريب في صحته في نفسه، لإطلاق أدلته.

و أما إجزاؤه عن غيره فهو مقتضي إطلاق غير واحد، و يقتضيه إطلاق صحيح زرارة السابق، المعتضد بالصحيح عن ابن يزيد، و نحوه مما تقدم الكلام فيه في صورة نية الجميع إذا كانت الأغسال مستحبة فقط.

خلافا لمن سبق ممن اعتبر في التداخل نية السبب، أو حكم بعدم التداخل في المستحبات مطلقا أو مع عدم نية المسبب.

و تقدم ضعف الجميع قريبا.

و أما الثاني: فالكلام فيه من جهتين.

الاولي: صحته في نفسه، و هو إنما يتجه ممن يقول بعدم إجزائه عن غيره، فقد منع في الخلاف من صحة غسل الجنب مع نية الجمعة فقط، معللا بأن الغرض منه التنظيف، و لا يصح مع بقاء الجنابة.

ص: 598

______________________________

و حكم بالصحة في المنتهي و محكي السرائر و الجامع و التذكرة و المختلف.

و يقتضيه إطلاق دليل الغسل المستحب الشامل لصورة اجتماعه مع سبب الواجب، المقتضي للاجتزاء به عن نفسه حينئذ و إن لم يجز عن الواجب.

و ما ذكره في الخلاف لا يصلح لرفع اليد عن ذلك، إذ لا مانع من حصول النحو الخاص من التنظيف مع بقاء الحدث. و لا سيما مع ثبوت مشروعية غسل الإحرام للحائض، كما نبه لذلك في المنتهي و محكي السرائر و المختلف.

الثانية: في إجزائه عن غيره. و هو ظاهر المدارك، و يقتضيه إطلاق محكي البيان و المسالك، و قد يستظهر من الصدوق في الفقيه لروايته المرسل الآتي مع تصريحه في أوله بأنه لا يودع فيه إلا ما يفتي به و يكون حجة بينه و بين ربه. و يشهد له إطلاق صحيح زرارة بالتقريب المتقدم في صورة نية خصوص الجنابة، و مرسل الصدوق: «و روي في خبر آخر: أن من جامع في أول شهر رمضان ثمَّ نسي الغسل حتي خرج شهر رمضان أن عليه أن يغتسل و يقتضي صلاته و صومه، إلا أن يكون قد اغتسل للجمعة، فإنه يقضي صلاته و صيامه إلي ذلك اليوم و لا يقضي ما بعد ذلك» «1».

خلافا للمبسوط- و الخلاف في فرض اجتماع الجنابة و الجمعة- و محكي السرائر و الجامع و جملة من كتب العلامة.

و كأنه لتخيل أن الأغسال المندوبة لا ترفع الحدث، و لذا تشرع مع عدمه، و مع بقائه كما في الإحرام للحائض، بل المقصود بها مرتبة من الطهارة مباينة لرفع الحدث.

و هو كما تري، لأن مشروعيتها لأجل المرتبة المذكورة لا تنافي رفعها للحدث أيضا لو وقعت حينه و أمكن ارتفاعه، كما هو مقتضي الدليل المتقدم.

و أما الثالث، فيظهر حال صحة الغسل في نفسه و إجزائه عن الواجب مما تقدم في الثاني، كما يظهر إجزاؤه عن المندوب مما تقدم في الأول.

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب من يصح منه الصوم حديث: 2.

ص: 599

و الأحوط حينئذ ضم الوضوء (1). و لو قصد الغسل قربة، من دون نية الجميع و لا واحد بعينه، فالظاهر البطلان (2)،

______________________________

كما أن الظاهر إجزاء الغسل في هذه الصورة و ما قبلها عن الوضوء مع وجود الجنابة، لما تقدم في صورة نية الجميع، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم، و هو ولي التوفيق و السداد.

(1) الاحتياط المذكور استحبابي، لأنه مسبوق بالفتوي.

لكن لما كان مبني سقوط الوضوء في فرض الإجزاء عن غسل الجنابة كون الغسل غسل جنابة، لاتحاد حقائق الأغسال أو مباينا له مجزئا عنه لاختلاف حقائقها، فلا بد أن يكون منشأ الاحتياط هنا احتمال عدم كونه غسل جنابة، مع احتمال عدم إطلاق إجزائه عنه بنحو يشمل رفع الحدث الأصغر، و أن المتيقن رفع الحدث الأكبر.

و هذا جار في صورة نية الجميع أيضا، لعدم صدق غسل الجنابة حينئذ بمعني الغسل المختص الذي هو موضوع الإجزاء عن الوضوء في ظاهر الأدلة، فاللازم تعميم الاحتياط لها.

و أما احتمال أن يكون وجهه شدة الخلاف هنا في تداخل الأغسال، فهو يقتضي الاحتياط بالغسل لا بالوضوء.

(2) كما قواه صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم قدّس سرّهما و نسبه في مفتاح الكرامة لظاهر النهاية، قال: «و لم أجد لهم في ذلك نصا، و إنما نص عليه الفاضل المقداد في نضد قواعد الشهيد، حيث قال: الناوي للغسل المطلق تقربا معرضا عن السبب في شرعية الغسل ملتزم بشرعية غسل لا لسبب، و هذا لا وجود له في الشرع».

لكن ظاهر الشرائع و صريح المدارك و عن محكي الذكري أنه من التداخل.

و الظاهر ابتناؤه علي ما تقدم من وحدة حقائق الأغسال و تعددها.

فيصح علي الأول، لانطباق الغسل المشروع علي المأتي به. و اعتبار نية

ص: 600

إلا أن يرجع إلي نية الجميع إجمالا (1)

______________________________

السبب في صحته خلاف الإطلاق.

و لا يلزم تشريع غسل لا لسبب، كما تقدم من المقداد، لأن عدم تعيين السبب لا ينافي قصد الغسل الواحد المشروع في نفسه، الذي هو في الواقع مشرع للأسباب المجتمعة، نظير ما لو نوي بالوضوء أو الغسل مع وحدة الحدث الأكبر القربة و لم ينو السبب.

أما علي الثاني، فلا يصح، إذ مع تعدد الغسل المشروع ينحصر تعيينه بالنية، فمع فرض عدم نية أحد الأغسال المختصة، و لا الغسل المجزي عن الكل المباين لها، لا ينطبق شي ء منها علي المأتي به، لعدم المرجح، و يتعين البطلان.

(1) كما جزم به قدّس سرّه في مستمسكه. و هو قد يتم مع الالتفات للجميع و العلم بتوقف صحة الغسل الواحد علي نية بعضها معينا أو جميعها، لأن عدم المرجح للبعض قد يستلزم انصراف القصد الارتكازي للجميع، لفرض قصد ما هو المشروع.

أما لو فرض تخيله كفاية قصد القربة في الإجزاء عن الجميع، فقد لا يقصد الجميع، لعدم تحقق الداعي له لذلك، بل ينحصر الداعي لرفعها في الجملة.

و كذا لو فرض جهله بوجود الجميع، كما لو علم إجمالا بثبوت أحد غسلين فنوي القربة، و كانا ثابتين معا عليه.

هذا، و قد جزم في المعتبر بكفاية الغسل بنية رفع الحدث، بل قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «و الظاهر أنه لا خلاف في التداخل فيه أيضا، كما في شرح الجعفرية».

و علله غير واحد برجوعه لنية الجميع. لكنه إنما يتم لو لم يكن عليه إلا الأغسال الرافعة للحدث، أما لو كان عليه غيرها كغسل الجمعة، فهو راجع لنية بعض الأغسال، فإن كان الحدث واحدا لحقه حكم نية غسل ذلك الحدث، و إن كان متعددا اتجهت صحته بناء علي ما تقدم من وحدة حقيقة الأغسال، أما بناء

ص: 601

______________________________

علي تعددها، فيشكل إحراز مشروعية الغسل المذكور، إذ عليه يكون المتيقن من نصوص التشريع الأولية هو الأغسال المختصة بكل حدث وحده، و من نصوص التداخل هو الغسل المنوي به الجميع.

و أما الغسل المنوي به أكثر من حدث واحد دون جميع الأغسال، فلا طريق لإحراز مشروعيته.

اللهم إلا أن تستفاد من إطلاق ما تضمن كفاية الغسل الواحد للجنابة مع الحيض أو مس الميت أو غسله حيث يشمل صورة ثبوت غسل آخر، فيتم المطلوب بضميمة إلغاء خصوصية مواردها، و لا سيما بضميمة تسالمهم المدعي في المقام، فتأمل.

و منه يظهر الحال في نية استباحة الصلاة التي جزم في المعتبر بالاجتزاء بها.

و الإنصاف أن ذلك مؤيد لما ذكرناه من وحدة حقائق الأغسال.

بقي في المقام أمران.

الأول: أنه أشير في كلام بعضهم إلي الكلام في أن التداخل رخصة أو عزيمة. و لا يخلو المراد به عن إجمال.

فإن أريد به أنه في فرض التداخل و العمل علي طبقه هل يبقي الغسل المجزي عنه مشروعا أو لا؟.

فالظاهر الثاني، إذ لا محرز لمشروعيته إلا الأمر به، فمع فرض الإجزاء و سقوط الأمر به لا طريق لإحرازها.

و دعوي: أن مقتضي إطلاق الأمر بقاء مشروعيته ما لم يمتثل، و دليل التداخل إنما يقتضي سقوط الإلزام لا غير، كما هو مقتضي التعبير بالإجزاء الظاهر في مجرد السعة.

مدفوعة: بأن إطلاق الإجزاء عن شي ء ظاهر في ترتب تمام غرضه عليه، و هو يقتضي سقوط مشروعيته به، خصوصا في مثل المقام مما كان الفعل مطلوبا لأثره، كالطهارة.

ص: 602

______________________________

علي أن بعض الأدلة لم ترد بلفظ الإجزاء، بل بالسنة أخر ظاهرة في رفع مشروعية الفعل.

و من هنا ذكرنا أن أدلة التداخل تكشف عن انطباق جميع الأغسال المجزي عنها علي الغسل الواحد و امتثالها به، و لازمه اتحاد حقائق الأغسال.

و إن أريد بذلك أنه في فرض اختصاص التداخل بوجه خاص هل يجب سلوكه أو يجوز تركه و امتثال الأغسال بالوجه الأولي؟.

فالظاهر الأول، فلو قيل باعتبار نية الجميع في التداخل هل يشرع الامتثال لا بنحو التداخل، بل بتكرار الغسل مع تعيين كل غسل لحدث، و لو قيل بإجزاء الواجب عن المستحب دون العكس يشرع الإتيان بالمستحب أولا ثمَّ بالواجب، و هكذا.

لعدم ظهور أدلة التداخل في الإلزام بمؤداها و رفع مشروعية الأغسال الأولية. بل هي واردة لدفع توهم وجوب التعدد، كما تقدم نظيره في صورة نية خصوص الجنابة، و عند الكلام في صحة الغسل في نفسه عند نية غير الجنابة من الواجب أو المستحب.

و إن أريد أنه في فرض مشروعية التداخل هل يمكن التخلص منه بنية عدمه أو لا، بل يكون قهريا؟.

فالظاهر الثاني، كما تقدم التعرض له في صورة نية خصوص الجنابة، فراجع.

الثاني: حيث تضمن صحيح زرارة التعبير بالإجزاء الظاهر في مشروعية المجزي عنه في المرتبة السابقة عليه، و كان ظاهره ترتب الإجزاء علي الغسل بمجرد وجوده، كان ظاهره الإجزاء في فرض اجتماع الأغسال و تحقق موضوعها قبل الغسل، بل هو كالصريح من قوله عليه السّلام: «فإذا اجتمعت.» الذي هو كالكبري لما تضمنه الصدر و الذيل من التداخل.

لكن ظاهر مرسل جميل التعميم لما تجدد مشروعيته في يوم الغسل، كما هو المناسب لفرض الإجزاء عن كل غسل يلزمه ذلك اليوم، إذ لو أريد خصوص

ص: 603

______________________________

المشروع قبل الغسل ناسب أن يقول: «عن كل غسل لزمه».

بل تقييد الغسل المجزي بما يكون بعد الفجر مناسب لإرادة ما يتجدد في اليوم، لبيان مبدأ التداخل و منتهاه، و إلا فالتداخل في الأغسال المجتمعة لا يفرق فيه بين ما يكون قبل الفجر و بعده، فهو مساوق لما في الصحيح عن ابن يزيد و غيره مما تضمن إجزاء غسل اليوم لليوم و غسل الليل لليل، علي ما تقدم في صورة نية الجميع.

بل قد يحمل صحيح زرارة عليه لأجل ذلك، حيث تضمن الغسل بعد الفجر. و لا سيما مع إضافة الإجزاء في صدره للأسباب لا للأغسال.

بل هو المناسب لفرض إجزاء الغسل الواقع بعد الفجر لكل من الحلق و الذبح و الزيارة، لوضوح عدم مشروعيتها إلا مترتبة بعد طلوع الشمس، فمقتضي التشريع الأولي استحباب الغسل لها حينئذ لا بمجرد طلوع الفجر.

و من هنا يقرب حمل اجتماع الحقوق فيه علي ما يعم ذلك، و يكون المراد بالإجزاء ما يعم ارتفاع موضوع الخطاب بالغسل في وقته، لتحقق أثره.

و هو المناسب لما هو المرتكز من أن تشريع الغسل لأجل أثره، و هو الطهارة، فمع فرض حصولها قبل تحقق موضوع الخطاب به لا مجال لتشريعه، نظير إجزاء الغسل و الوضوء الرافعين للحدث للغايات الكثيرة المتعاقبة. غايته أن المستفاد من هذه النصوص و نصوص التحديد باليوم و الليل أن المرتبة الزائدة علي رفع الحدث من الطهارة لا تستمر أكثر من ذلك، و يكون ذلك أمدا للتداخل.

نعم، أسباب الغسل الواجب و المستحب يراد بها.

تارة: ما هو من سنخ الناقض للمرتبة الواجبة و المستحبة من الطهارة، كالجنابة و الحيض و التفريط في صلاة الكسوفين مع احتراق القرص كله، و مس الميت بعد التغسيل.

و اخري: ما هو السبب في مطلوبية مرتبة خاصة من الطهارة كالصلاة و الإحرام و يوم الجمعة و غيرها.

ص: 604

و منها مباشرة المتوضي للغسل و المسح

و منها: مباشرة المتوضي للغسل و المسح (1).

______________________________

و استمرار التداخل إنما هو في الثاني، و عليه يحمل الحق و اللزوم في الصحيح و المرسل.

أما الأول، ففرض النقض فيه مانع من فرض التداخل، بل هو كما ينقض الغسل المختص ينقض الغسل الذي يكون به التداخل، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) كما في المبسوط و النهاية و الشرائع و القواعد و المنتهي و غيرها، بل ظاهر غير واحد المفروغية عنه، و في الانتصار أنه مما تفردت به الإمامية، و في المعتبر أنه مذهب الأصحاب، و في المنتهي أنه مذهب علمائنا، و في جواهر القاضي و محكي نهاية الإحكام و الذكري و المقاصد العلية أن عليه الإجماع. و في الروض أنه إجماع ممن عدا ابن الجنيد.

و أما ما عن ابن الجنيد من استحبابه، فلو أراد منه ظاهره أشكل قدحه في تحقق الإجماع الحجة في المقام مع تسالم الأصحاب علي خلافه، لعدم خفاء الحكم في مثل ذلك عادة مما يكثر الابتلاء به، و تكشف السيرة فيه عن صدق نقل الإجماع.

اللهم إلا أن يقال: لما كان تولي الغير للوضوء محتاجا إلي عناية في نفسه و كان بنفسه مرجوحا شرعا فسيرة المتشرعة علي تركه لا تكشف عن وضوح قدحه عند الطائفة الحقة في قبال العامة كي يوثق بنقل الإجماع في الانتصار بسببها، و لا سيما مع عدم تصريح أهل الفتوي به قبل السيد المرتضي، كالصدوق في الهداية و المقنع و المفيد في المقنعة، و إنما أودع أهل الحديث النصوص الناهية عن الاستعانة في الوضوء المحمولة عندهم علي الكراهة.

و أما تسالم الأصحاب علي ذلك من بعد الشيخ و نقلهم الإجماع، فلعله مبتن علي فهمهم ذلك من ظاهر الأدلة و تخيلهم وضوح الحكم عند الطائفة بسببها

ص: 605

______________________________

و بسبب السيرة، و لا سيما مع ذهاب السيد و الشيخ له و تصريح الأول بالإجماع، مع إهمالهم لخلاف ابن الجنيد، كما جروا عليه في كثير من الموارد.

و من هنا يشكل الاعتماد علي الإجماع، و إن كان مضمونه قريبا جدا، بل يلزم النظر في غيره.

و قد جري غير واحد علي الاستدلال بظاهر الخطابات السمعية في الكتاب المجيد و السنة الشريفة المتضمنة لإسناد الوضوء و أفعاله من الغسل و المسح للمكلف، لظهور نسبة الفعل للفاعل في مباشرته له. و لا أقل من فرض إجمال الأدلة من هذه الجهة، فيكون المرجع قاعدة الاشتغال التي عليها المعول في الوضوء و نحوه من الطهارات، كما سبق مرارا.

لكن قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «اللهم إلا أن يقال: ظاهر الخطابات اعتبار صحة النسبة إلي المخاطب، فما دل علي مشروعية النيابة من بناء العقلاء يكون حاكما عليه».

و فيه: أن ظاهر النسبة المباشرة، و الاكتفاء بالتسبيب مبني علي نحو من التوسع فيها، فلا مجال للبناء عليه إلا بقرينة. و لذا يندفع احتمال التوسع المذكور بالتأكيد في مثل قولنا: فعل زيد نفسه كذا، مع أن التأكيد رافع لاحتمال المجاز لا مقيد لإطلاق الكلام.

و بناء العقلاء علي مشروعية النيابة، راجع إلي اكتفائهم بالتسبيب و عدم اعتبارهم المباشرة، و هو يختص بالأمور التي يدرك العرف و العقلاء كيفية تسبيبها لمسبباتها، كالعقود و الإيقاعات، دون الأمور التعبدية التي يخفي عليهم المقصود منها، حيث يلزم الجمود فيها علي ظواهر أدلتها.

نعم، يدرك العرف قابلية العبادات و نحوها من العلاقات العاطفية بين الرؤساء و المرؤوسين و المتحابين- كالسلام و العبادة و نحوهما- للنيابة، إلا أنهم يدركون أن قيام النائب بها لا يؤدي تمام الأثر الحاصل بفعل الأصيل، بل مرتبة منه لا غير، و ليس هو كفعل النائب في العقود و الإيقاعات حيث لا فرق بينه و بين فعل

ص: 606

______________________________

الأصيل في ترتب الأثر المقصود بنظرهم، فلا بد في تشريع النيابة فيها من إحراز مطلوبية تلك المرتبة مطلقا أو عند تعذر المرتبة التامة، و لا مجال لذلك في المقام بعد ظهور الأدلة في المباشرة، و لا سيما مع كون عبادية الوضوء- كأثره- غير عرفية.

علي أن المقام أجنبي عن باب النيابة، لابتناء النيابة علي قيام فعل النائب مقام فعل المنوب عنه و الاكتفاء بامتثاله عن امتثاله، و هو إنما يتم في مثل صلاة النائب عن المنوب عنه. لا في مثل المقام مما فرض فيه قيام الفعل بالمكلف نفسه، و ليس من الغير إلا إحداثه فيه، نظير الحلق في الحج، و لذا تكون النية- في فرض مشروعيته- من الأصيل، فالإجزاء في المقام يبتني علي سعة المأمور به بنحو ينطبق علي فعل الغير، و هو- كما ذكرنا- خلاف ظاهر الأدلة.

بل الإنصاف أن سير النصوص الواردة في الوضوء علي كثرتها يشرف بالفقيه علي القطع باعتبار المباشرة، لعدم مناسبتها للعموم لفعل الغير جدا. بل قد يظهر من بعضها المفروغية عن ذلك، مثل ما تضمن تعليل استحباب الوضوء باليمين بأنه صلّي اللّه عليه و آله تناول الماء بيمينه «1»، و ما تضمن استحباب التسمية و الدعاء للمتوضئ عند وضع يده في الماء «2».

نعم، لا مجال للاستدلال بالوضوءات البيانية- و إن تضمنته كلماتهم- لما تكرر في المباحث السابقة من عدم نهوضها بإثبات الوجوب.

ثمَّ إن الأصحاب و إن عبروا بعدم الجواز، الظاهر بدوا في الحرمة التكليفية، إلا أن الظاهر إرادتهم الوضعية الراجعة لبطلان العمل، لأنه المنصرف في أمثال المقام مما كان الغرض المهم فيه ذلك، و لأنها مقتضي دليلهم المتقدم.

نعم، قد يستدل علي الحرمة التكليفية المستتبعة للوضعية في أمثال المقام من العبادات بما تضمن نهي الغير عن صب الماء للوضوء، معللا بقوله تعالي:

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 2، 10.

ص: 607

______________________________

فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «1»، و لا سيما مع ما في خبر الوشاء من قول الرضا عليه السّلام في ردعه عن صب الماء علي يديه طلبا للأجر: «تؤجر أنت و أؤزر أنا» «2»، بعد حمله علي الصب الذي يتحقق به الغسل الوضوئي لا الصب في الكف و نحوه مما يكون مقدمة للوضوء، فلا يحرم إجماعا.

و فيه: أن الآية الشريفة ظاهرة في نفسها و بسياقها في الإشراك في المعبودية، و هي مفسرة في خبري أبي الجارود «3» و جراح المدائني «4» و غيرهما بالرياء الذي هو نحو من الشرك في الداعوية، لا في العبودية، و علي كليهما يتعين إبقاؤها علي ظهورها في التحريم التكليفي.

أما في هذه النصوص، فقد طبقت علي الاستعانة بالغير في تحقيق العبادة، و لا إشكال في عدم عموم حرمة ذلك، بل يشرع في بعض الموارد اختيارا، كما في الحلق للحج، أو اضطرارا، كما في المقام مع إباء الآية عن التخصيص، بل لا إشكال في جواز الاشتراك في تعظيم شعائر الدين و كثير من أفعال البر و الخير و القربات، بنحو لا يناسب عموم المنع، غايته أنه يوجب نقصان الأجر عما لو استقل الإنسان في العبادة.

فلا بد من حمل الآية علي الإرشاد لذلك، كما يناسبه قوله عليه السّلام: «تؤجر أنت و أوزر أنا»، حيث يؤجر المعين للإعانة علي الخير، و ينقص أجر المعان لعدم استقلاله فيه، و لو كان مأزورا حقيقة لم يؤجر المعين، و يناسبه أيضا التعبير في ذيله بالكراهة، حيث قال عليه السّلام: «و ها أنا ذا أتوضأ للصلاة، و هي العبادة، فأكره أن يشركني فيها أحد»، فإن كراهته عليه السّلام الشي ء لنفسه كالظاهر في عدم حرمته.

______________________________

(1) سورة الكهف: 110.

(2) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 13.

(4) الوسائل باب: 12 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 6.

ص: 608

______________________________

كما أنه المناسب لما في موثق السكوني: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: خصلتان لا أحب أن يشاركني فيها أحد: وضوئي، فإنه من صلاتي، و صدقتي، فإنها من يدي إلي يد السائل، فإنها تقع في يد الرحمن» «1»، لمناسبة التعليل الثاني فيه للكمال الموجب لمزيد الثواب.

مع أن النصوص قد تضمنت تطبيق الإشراك في العبادة بلحاظ عبادية الصلاة، لا عبادية نفس الوضوء، مع وضوح أن الاستعانة فيه كالاستعانة في سائر مقدمات الصلاة لا ينافي الاستقلال المعتبر فيها، كما نبه له غير واحد.

فلا بد من حمل النهي علي الكراهة، كما جري عليه الأصحاب بعد أن حملوها علي الصب في الكف و نحوه مما لا يتحقق به الغسل الوضوئي، بل يكون مقدمة له.

بل لعله هو المنصرف منها في نفسه، لأنه المتعارف، بخلاف ما نحن فيه، حيث يبعد الحمل عليه، خصوصا في خبر الوشاء الوارد في قضية خارجية.

علي أن حملها علي ما نحن فيه محافظة علي ظهورها في التحريم ليس بأولي من حملها علي الكراهة لأجل عموم الصب أو انصرافه لخصوص ما يكون مقدمة للوضوء، فلاحظ.

هذا، و قد يستدل لعدم اعتبار المباشرة بما رواه الكشي مسندا من حديث قنبر حين سأله الحجاج عما كان يليه من أمير المؤمنين عليه السّلام، حيث قال: «كنت أوضيه.» «2» و ما عن أمالي الصدوق بسنده عن عبد الرزاق. قال: «جعلت جارية لعلي بن الحسين عليه السّلام تسكب عليه و هو يتوضأ للصلاة فسقط الإبريق من يد الجارية.» «3»، و صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل لا يكون علي وضوء، فيصيبه المطر حتي يبتل رأسه و لحيته و جسده و يداه و رجلاه هل

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) رجال الكشي ص: 70 طبع النجف الأشرف.

(3) مستدرك الوسائل باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 609

______________________________

يجزيه ذلك من الوضوء؟ قال: إن غسله فإن ذلك يجزيه» «1». و بما يأتي مما تضمن تغسيل المريض، و أن المجدور و الكسير يؤممان، لعدم استلزام المرض و الكسر للعجز عن المباشرة، و يتم الاستدلال بذلك في المقام بضميمة إلغاء خصوصية الغسل و التيمم عرفا، أو عدم الفصل.

لكن الخبرين- مع ضعف سندهما- لا مجال لحملهما علي ما نحن فيه، لظهور الأول في تكرر ذلك منه، و لا مجال لاحتمال تعوده عليه السّلام علي التولية في الوضوء، إذ لا أقل من مرجوحيتها. و ظهور الثاني في توليه عليه السّلام للوضوء لاستناده إليه، فلا بد من حمل التوضئة في الأول و سكب الماء في الثاني علي ما لا ينافي المباشرة في نفس الأفعال الوضوئية، بإرادة المقدمات.

و أما الصحيح، فهو ظاهر في كون الوضوء توصليا يكفي فيه إصابة الماء من دون فعل اختياري و لا قصد، لظهوره في السؤال عن الإجزاء في فرض إصابة المطر و لو لا عن قصد، و هو معلوم البطلان، إذ غاية ما يمكن هو الاجتزاء بتولية الغير للوضوء بحيث يستند للمكلف و لو بالتسبيب، أو بحيث يستقل الغير به بنحو النيابة، و لا ينهض الصحيح بذلك.

فلا بد إما من تنزيله علي صورة تعريض المكلف نفسه للمطر، أو دلكه لمواضع الوضوء بعد وقوع المطر عليها، كي يستند الغسل له، فلا ينافي اعتبار المباشرة، كما سيأتي، أو طرحه، لمنافاة ظاهره لعبادية الوضوء، و لما دل علي وجوب الترتيب في نفس الأعضاء، و بينها، و عدم إجزاء الغسل عن المسح في الرأس و الرجلين.

و لعل الثاني أولي، لصعوبة تنزيله علي ما لا ينافي جميع ذلك، كما تقدم في المسألة الثامنة عشرة.

و أما ما ورد في تغسيل المريض، فهو وارد في قضية خاصة لا إطلاق لها. كما أن ما ورد في المجدور و الكسير منصرف لصورة العجز، لمناسبتهما لذلك، و لا أقل من كونه مقتضي الجمع عرفا بينه و بين ما ظاهره وجوب المباشرة عليهما، فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 610

فلو وضأه غيره علي نحو لا يستند إليه الفعل (1) بطل،

______________________________

(1) يعني: استقلالا، إما لعدم استناده إليه أصلا، لعدم صدور فعل منه يستند إليه الغسل أو المسح، أو لاستناده له و لغيره بنحو الاشتراك، لأن ما تقدم كما يقتضي المباشرة يقتضي الاستقلال.

فرعان.

الأول: يكفي في تحقق المباشرة فعل ما تترتب عليه الأفعال الوضوئية بواسطة توليدية بنحو لا يتوسط فعل الغير في ترتبها، كبروز الإنسان تحت المطر أو الميزاب الجاري، الموجب لجريان الماء علي بدنه بتوسط تدافعه، حيث لا يخل توسط ذلك في نسبة الفعل إليه، بل هو نظير صب الماء علي أعلي العضو الموجب لانغسال أسفله بجريانه إليه بتأثير الجاذبية.

أما لو استند لفعل غير القاصد للغسل و المسح، كما لو صب شخص الماء من مكان عال فعرض المتوضي العضو له فانغسل، فقد مال في العروة الوثقي إلي عدم إخلاله بالمباشرة المعتبرة، و أمضاه غير واحد من محشيها.

و وجهه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن القصد من أحدهما دون الآخر يوجب نسبة الفعل للقاصد، كما يظهر من كلامهم في حكمهم بضمان المسبب القاصد دون المباشر الغافل.

لكن الظاهر أن المعيار في نسبة الفعل للشخص استناد آخر مقدمة له، بحيث لا يتوسط بين فعله و المسبب فعل لآخر، فإذا أمال زيد الإبريق و لم يحرك يده و استمر جريان الماء، فوضع عمرو يده تحت الماء انتسب غسل اليد لعمرو، و إذا كشف عمرو يده و لم يحركها، فأمال زيد الإبريق، فأصابها الماء، انتسب غسلها لزيد، و إن أمال زيد الإبريق أو حركة حين جريان الماء و حرك عمرو يده انتسب غسل اليد لهما معا، و لا دخل لقصد كل منهما ترتب غسل اليد علي فعله، لعدم

ص: 611

إلا مع الاضطرار، فيوضؤه غيره (1)،

______________________________

توقف النسبة علي قصد عنوان الفعل، و لذا ينسب في فرض الخطأ فيه، كما في القتل الخطائي، و ينسب لهما الفعل في الفرض لو فرض عدم القصد منهما معا.

و أما ضمان المسبب القاصد دون المباشر الغافل، فهو- لو تمَّ- يبتني علي أمر آخر مختص بالضمان، لا دخل فيه لانتساب الفعل الذي هو المهم في المقام.

الثاني: لا تقدح الاستعانة حتي في المقدمات القريبة إذا استند الفعل الوضوئي للمكلف. و منها ما لو صب الغير الماء علي العضو، مع نية المكلف الوضوء بدلكه بعد ذلك، إذ تحقق مسمي الغسل الواجب بالدلك، كما مال إليه في المستند، و استظهره في العروة الوثقي، و وافقه غير واحد من شراحها و محشيها.

خلافا لما في كشف اللثام «1»، و مفتاح الكرامة من عده من التولية القادحة، و هو مقتضي إطلاق ما في جامع المقاصد و الروض من أن صبّ الماء علي العضو من التولية.

و كأنه لتحقق الغسل بنفس الصب.

لكن تحققه به لا ينافي تحققه بالدلك أيضا، و مقتضي الدليل المتقدم وجوب تحقق مسمي الغسل من المكلف، لا مانعية تحققه من غيره أيضا.

نعم، لو لم يستقل الدلك بتحقيق المسمي اتجه المنع.

(1) كما صرح به غير واحد بنحو يظهر منه المفروغية عنه، و في المعتبر: أن عليه اتفاق الفقهاء، و في المنتهي أنه إجماع.

و ما في الروض من الاستدلال له بأن المجاز يصار إليه عند تعذر الحقيقة.

كما تري! لأن الخطاب بالوضوء كما هو ظاهر في المباشرة ظاهر في العموم للعاجز عنها، و حيث يمتنع الجمع بين الأمرين فإن رفعت اليد عن قيد المباشرة لم

______________________________

(1) في المطبوع منه هكذا: «(و يحرم التولية) و هل هي التوضئة بصب الغير الماء علي أعضاء الوضوء كلا أو بعضا و إن تولي هو الدلك (اختيارا) لأنه.» و الظاهر زيادة «هل». منه عفي عنه.

ص: 612

______________________________

تجب حتي علي القادر، و إن رفعت عن العموم لم ينهض الخطاب بإثبات وجوب الوضوء الفاقد لها علي العاجز.

و التفكيك في العموم بين وجوب أصل الوضوء و وجوب المباشرة، موقوف علي تعدد الخطاب بهما، و لا يتجه مع وحدته و ظهوره في كون المباشرة قيدا في الوضوء الواجب.

نعم، لو ورد الخطاب بالوضوء للعاجز عن المباشرة بالخصوص، لزم حمله علي الفاقد لها، لتعذر الحقيقة.

و مثله الاستدلال في المعتبر بأنه توصل إلي الطهارة بالقدر الممكن.

لاندفاعه بأن مقتضي الجمع بين إطلاق الخطاب بالوضوء الظاهر في المباشرة، و إطلاق الخطاب بالتيمم للعاجز عن الوضوء، هو حصول الطهارة بالتيمم، لا بالوضوء الفاقد للمباشرة.

إلا أن يرجع إلي المفروغية عن ابتناء التقييد بالمباشرة علي الميسور، كما هو ظاهر المنتهي، حيث استدل بلزوم المشقة من التكليف بالقيد المذكور.

و كأن ذلك هو الوجه في مفروغية الأصحاب عن الحكم.

و يشهد بذلك ما ورد في الغسل، كصحيح سليمان بن خالد و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و فيه: «قال: و ذكر أنه كان وجعا شديد الوجع، فأصابته جنابة و هو في مكان بارد، و كانت ليلة شديدة الريح باردة، فدعوت الغلمة، فقلت لهم: احملوني فاغسلوني، فقالوا: إنا نخاف عليك، فقلت لهم: ليس بدّ، فحملوني و وضعوني علي خشبات، ثمَّ صبوا عليّ الماء فغسلوني» «1».

و ظهوره في وجوب الغسل و إن لزم الضرر، مع أن الظاهر مشروعية التيمم، و في احتلام الإمام عليه السّلام و هو منزه عنه، كما قيل، لأنه من عبث الشيطان، لو تمَّ لا يسقطه عن الحجية فيما نحن فيه، إذ لا بأس بالتفكيك بين مضامين الحديث في الحجية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 613

و لكن هو الذي يتولي النية (1).

______________________________

و كذا ما ورد في الميت الجنب، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام:

«يغسل غسلا واحدا يجزئ ذلك للجنابة و لغسل الميت، لأنهما حرمتان اجتمعا في حرمة واحدة» «1»، لظهوره في تحقق وظيفة الجنابة للميت بتغسيله.

و هو و إن كان مبنيا علي تكليف المغسل، لا علي سقوط قيد المباشرة عن المكلف، كما في المقام، إلا أنه يدل علي عدم كون مباشرة المحدث قيدا في سببية الغسل للطهارة من حدث الجنابة مطلقا، بنحو يستلزم تعذره تعذرها.

و نظير المقام أيضا ما ورد في التيمم، كمرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: يؤمم المجدور و الكسير» «2»، و قريب منه مرسل الصدوق «3».

و يكون التعدي من الغسل و التيمم للوضوء بإلغاء خصوصيتهما عرفا، لاتحادها سنخا، و لا سيما بعد الأمر بالثلاثة في الآية الشريفة في مساق واحد، أو بعدم الفصل.

(1) كما في المعتبر و المنتهي و القواعد، بل عن ظاهر التذكرة الإجماع عليه، و عن الذكري أنه لا تجزئ نية المباشرة قطعا.

لما في كلام غير واحد من أن العاجز هو المكلف بالوضوء و المخاطب به، فيكون هو المتقرب به، غايته أنه لم يكلف بفعل نفسه، بل بما يعم فعل غيره و لو بتسبيبه إليه، و لا دليل علي مشروعية النيابة، لتجزئ نية المباشر، كما في ذبح الهدي.

إن قلت: تقدم في مسألة تخلف بعض القصود في مقام الامتثال أن عبادية الوضوء ليست من قبل أمره، بل لأخذها قيدا في سببية الأفعال للطهارة، فمجرد

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 12.

ص: 614

______________________________

تكليف العاجز بالوضوء لا يستلزم اعتبار تقربه، بل لا بد من الرجوع لأدلة سببية الأفعال، و حيث يعلم بتقييد إطلاقاتها بالنية فمع ترددها بين نية المكلف و نية المباشر يتعين الجمع بينهما، لعدم إحراز الطهارة بدونه.

قلت: التقرب بأفعال الوضوء المعتبر في سببيتها للطهارة إنما هو بلحاظ مقربية الطهارة بنفسها أو لمقدميتها لما هو المقرب، و من الظاهر أن المتقرب بالطهارة ليس إلا المتطهر نفسه، لا المباشر.

نعم، لو كلف المباشر بإحداث الطهارة أمكن تقربه به لنفسه، كما في تغسيله للميت.

لكن من المعلوم عدم كون المباشر في المقام كذلك، و أن اعتبار نيته لو تمَّ يرجع إلي نيابته عن العاجز في امتثاله، فينوي امتثال العاجز، لا امتثال نفسه، و لا دليل علي مشروعية النيابة في المقام، فضلا عن وجوبها، بل المتيقن من دليل عبادية الوضوء لزوم تقرب المتطهر نفسه بفعل المباشر، بلحاظ تقربه بأثره- و هو الطهارة- لتسبيبه له و لو بتهيئة نفسه و تقبله لتوضئة الغير له.

هذا، و لكن عن السيد الصدر أنه لا معني لقصد شخص فعل غيره.

و لعله إليه يرجع ما في المدارك من لزوم نية المباشر، لأنه الفاعل للوضوء حقيقة.

و فيه: أنه ليس المدعي قصده أن يفعل غيره، بل أن يتقرب بفعل غيره، و لا محذور فيه بعد فرض عموم ما كلف به لفعل الغير، و لذا يجب عليه تسبيبه إليه.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن ذلك إنما يتم لو كلف العاجز بحيثية الصدور، حيث يجب حينئذ النيابة فيها، فينوي المباشر امتثال أمره، و لا تكفي نية العاجز.

فهو لا يرجع إلي محصل ظاهر، إذ لا معني لتكليف العاجز بحيثية الصدور منه، و تكليفه بحيثية الصدور و لو من غيره لا يقتضي إلا تسبيبه لذلك و تقربه بما كلف به بعد فرض عبادية الوضوء، لا نيابة المباشر عنه في الامتثال.

ص: 615

و الأحوط أن ينوي الموضئ أيضا (1).

______________________________

نعم، لو كان مرجع العبادية إلي لزوم تقرب من يصدر منه الفعل، لزم تقرب المباشر رأسا- لو فرض محبوبية الفعل منه- كما يتقرب في تغسيل الميت، لا نيابته عن العاجز في امتثاله، و قد عرفت أنه لا مجال لذلك في المقام.

ثمَّ إنه قد استدل أيضا علي وجوب نية العاجز.

تارة: بأنه قادر علي النية، فلا مجال لاجتزائه بنية الغير.

و اخري: بأن الوضوء منسوب له، فيكون هو الناوي له، و ليس هو كالذبح في الإحرام منسوب للمباشر.

و ثالثة: بما في الجواهر من أن الوضوء وضوء العاجز، و المباشر إنما ينوب عنه في مقدماته.

و يشكل: الأول: بأنه لو فرض اعتبار نية من يصدر عنه الوضوء فالعاجز عن الوضوء عاجز عنها، و لو فرض اعتبار نية المتطهر تكون نية المباشر مباينة للشرط، فتأمل.

و الثاني: بأن الواقع في المقام هو التوضئة، و التقرب بها، و هي منسوبة للمباشر.

و الثالث: بأن الوضوء بالمعني الاسم المصدري ليس فعلا صالحا للتقرب، بل التقرب إنما يكون بالفعل الذي هو مفاد المصدر، و هو في المقام أعم من وضوء المحدث و توضئة المباشر له، و ليس فعل المباشر مقدمة لما هو المقرب.

إلا أن يرجع إلي ما ذكرنا من أن التقرب بالوضوء إنما هو بلحاظ مطلوبية الطهارة المسببة عنه، فلا يتقرب به إلا من تطلب الطهارة في حقه، دون المباشر، فالعمدة في المقام ما تقدم.

و منه يظهر أنه لا يعتبر تمييز المباشر، فضلا عن بلوغه، كما لا يعتبر إيمانه، لأنه كالآلة للعاجز الذي هو الناوي و الممتثل.

(1) خروجا عن شبهة الخلاف المتقدم.

ص: 616

______________________________

هذا، و في جامع المقاصد و الروض أنه يحسن ضم نية المباشر للعاجز، و نحوه عن الذكري قال: «لأنه الفاعل حقيقة، كذبح الهدي، و قد نص جماهير الأصحاب علي جواز تولي الذابح النية».

و يظهر ضعفه ما تقدم.

و الاجتزاء بنية الذابح ترجع إلي نيابته، و لو شرعت في المقام لأجزأت نيته و لم يحتج لنية العاجز، و قد تقدم عنه القطع بعدم إجزائها.

فروع.

الأول: يجب المسح ببقية البلل بيد العاجز، و لا يجوز المسح بيد المباشر، لعموم أدلته المتقدمة.

نعم، مع التعذر يجوز المسح بيد المباشر بعد أخذ البلة من يد العاجز لو أمكن، و بدونه مع التعذر، لقصور أدلة وجوب المسح ببلة الوضوء عن صورة تعذر المسح بها، كما تقدم في المسألة السادسة و العشرين.

و أما الغسل، فلا يجب أن يكون بيد العاجز، لعدم تقييد الغسل بها مع القدرة علي المباشرة، فضلا عن تعذرها.

الثاني: لو أمكنت المباشرة في بعض الأعضاء وجبت و إن كانت في بعض عضو، لخروجه عن المتيقن من دليل جواز التولية مع التعذر.

و ما في المستند من الفرق بين القدرة عليها في تمام العضو و بعضه، فتجب في الأول، للأمر بغسله، دون الثاني.

كما تري، لأن الأمر بالمباشرة كما هو ظاهر في الارتباطية في العضو الواحد ظاهر في الارتباطية بين الأعضاء، فمع التبعيض يخرج عن مقتضي الإطلاق في الموردين، و إنما تجب المباشرة في البعض مع القدرة للجمع العرفي بين إطلاق وجوب المباشرة و جواز التولية بحمل الإطلاق علي القدرة و لو في البعض بنحو الانحلال، لارتكاز ابتناء التولية علي الضرورة- التي تقدر بقدرها- أو للأصل، لعدم

ص: 617

______________________________

إحراز الطهارة مع التولية في الجميع حينئذ، لخروجه عن المتيقن من دليلها، و لا يفرق في ذلك بين القدرة علي تمام العضو و بعضه.

و منه يظهر الحال فيما لو عجز المكلف عن الاستقلال و تمكن من المباشرة مع الاستعانة بالغير، بحيث يسند الفعل إليهما بنحو الاشتراك، فإنه و إن خرج عن إطلاق دليل وجوب المباشرة، لما تقدم من أنه كما يقتضي المباشرة يقتضي الاستقلال، إلا أن خروجه عن المتيقن من جواز التولية المبنية علي استقلال الغير يقتضي الاقتصار علي الاشتراك، لعدم إحراز الطهارة بدونه. خلافا لما في المستند من عدم وجوبه.

الثالث: لا بأس بتعدد المباشر، كما في المستند، إذ ليس مبني الاستعانة به علي الاستنابة، ليدعي أن موضوع النيابة لما كان هو الامتثال لزم تحققه بعمل النائب، و مع التعدد لا يكون عمل كل منهم محققا له، و قيام النيابة في الامتثال الواحد بالمجموع غير ثابت و لا معهود، فتأمل.

بل هي مبنية علي تكليف العاجز بما يعم عمل الغير، كما تقدم، فلا مانع من عمومه لعمل التعدد، و لذا شرعت المباشرة في البعض، كما تقدم. و قد يشهد بذلك ما تقدم في صحيح سليمان بن خالد.

الرابع: لو شك العاجز في تمامية عمل المباشر، فهل تجري في حقه أصالة الصحة فيه، كما تجري في سائر موارد الشك في عمل الغير، أو لا بد له من إحرازها بالعلم و نحوه؟ صرح بالمستند و مصباح الفقيه بالثاني.

و كأنه لاختصاص قاعدة الصحة في عمل الغير بما إذا كان هو المتولي للعمل، بحيث يكون موكولا إليه، و لا تعم مثل المقام مما يبتني علي محض الاستعانة، من دون نيابة.

و لا يخلو عن إشكال، فإنه و إن لم يكن متوليا للامتثال، إلا أنه متول للغسل و المسح، نظير ما لو أوكل إليه غسل الثوب لتطهيره من الخبث.

و منه يظهر الحال في قبول قوله في صحته، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي ولي العصمة و السداد.

ص: 618

و منها الموالاة
اشارة

و منها: الموالاة (1)، و هي التتابع في الغسل و المسح بنحو لا يلزم جفاف (2)

______________________________

(1) فقد صرح الأصحاب (رضي اللّه عنهم) بوجوبها في الوضوء، و ادعي الإجماع عليه في ظاهر الناصريات و صريح الخلاف و الغنية و المعتبر و المنتهي و كشف اللثام و المدارك، و محكي التذكرة و الذكري و شرح الإرشاد للفخر و غيرها، و نفي الخلاف فيه في الروض.

و لا ينبغي التأمل فيه، بعد النظر في كلماتهم و كيفية تحريرهم للمسألة، و يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عنها.

و كأن ما في الحدائق من أن الظاهر عدم الخلاف فيه مبني علي محض التورع عن الجزم في النقل. و إلا فلم يشر هو و لا غيره إلي ما يوهم الخلاف فيه من أحد من الأصحاب.

هذا، و الظاهر اتفاق الكل علي إرادة الوجوب الشرطي، و إن كانت بعض كلماتهم قد تشعر بإرادة الوجوب التكليفي أيضا، بلحاظ بعض معاني الموالاة، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي. قال في الجواهر: «الموالاة واجبة في الجملة وجوبا شرطيا إجماعا محصلا و منقولا».

(2) اختلفت كلمات الأصحاب (رضي اللّه عنهم) في تحديد الموالاة الواجبة، كاختلافهم في أن وجوبها راجع إلي شرطيتها فقط، أو إلي الإثم بالإخلال بها أيضا بلحاظ بعض مراتبها.

و لا يخلو كلام بعضهم عن إجمال و إيهام.

و المتيقن من كلام الكل هو اعتبار عدم الفصل بين أجزاء الوضوء بالنحو الموجب للجفاف- علي كلام في تفصيله يأتي التعرض له إن شاء اللّه تعالي- فيبطل الوضوء مع الإخلال بالنحو المذكور، و في الجواهر: أن عليه الإجماع محصلا و منقولا علي لسان جملة من الأساطين من المتقدمين و المتأخرين.

ص: 619

______________________________

و يستدل له- مضافا إلي أنه المتيقن مما تضمن الأمر بالاتباع في الوضوء و إعادته بمخالفة الترتيب، علي ما يأتي التعرض له في أدلة وجوب المتابعة- بموثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا توضأت بعض وضوئك و عرضت لك حاجة حتي يبس وضوؤك فأعد وضوءك، فإن الوضوء لا يبعّض» «1»، و صحيح معاوية بن عمار: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ربما توضأت فنفذ الماء فدعوت الجارية فأبطأت علي بالماء فيجف وضوئي. فقال: أعد» «2»، فإن المتيقن منهما قدح الفصل الموجب للجفاف.

نعم، يعارضهما في ذلك صحيح حريز المروي في التهذيب و الاستبصار مضمرا، و عن مدينة العلم للصدوق مسندا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الوضوء يجف، قال: قلت: فإن جف الأول قبل أن أغسل الذي يليه. قال: جف أو لم يجف اغسل ما بقي. قلت: و كذلك غسل الجنابة. قال: هو بتلك المنزلة، و ابدأ بالرأس ثمَّ أفض علي سائر جسدك، قلت: و إن كان بعض يوم؟ قال: نعم» «3».

فإن إطلاق صدره شامل لما لو كان الجفاف مسببا عن الفصل، و لا سيما بضميمة الذيل المتضمن لجواز الفصل الطويل في غسل الجنابة بعد التصريح بأنه بمنزلة الوضوء.

بل ظاهر السؤال فيه عن مقدار الفصل فهم جواز أصل الفصل من الصدر، فيكشف عن كون المراد بالجفاف في الصدر هو الجفاف المسبب عن الفصل الذي هو محل الكلام، لا الجفاف من حيث هو ليدل علي محل الكلام بالعموم أو الإطلاق.

و من هنا يشكل الجمع بينه و بين الموثق و الصحيح بحمله علي الجفاف مع عدم الفصل- كما ذكره الشيخ قدّس سرّه و قد يظهر من الصدوقين قدّس سرّهما [4]- و حمل ما

______________________________

[4] قال في الفقيه: «قال أبي رضي اللّه عنه في رسالته إلي: إن فرغت من بعض وضوئك و انقطع بك الماء من قبل أن تتمه فأتيت بالماء فتم وضوءك إذا كان ما غسلته رطبا، و إن كان قد جف فأعد وضوءك. و إن جف بعض وضوئك قبل أن تتم الوضوء من غير أن ينقطع عنك الماء فاغسل ما بقي جف وضوؤك أو لم يجف». و قريب مما في الرسالة في المقنع. (منه عفي عنه).

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 33 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 33 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 620

______________________________

تضمنه من تنزيل غسل الجنابة منزلته علي اشتراكهما في عدم قادحية الجفاف مع اختصاص غسل الجنابة بعدم قادحية الفصل.

نعم، لا إشكال في أن دلالتهما علي إرادة الجفاف المسبب عن الفصل أقوي من دلالته علي إرادته.

لكن في كفاية ذلك في الجمع العرفي إشكالا، بل منعا.

و مثله الجمع بحملهما علي الاستحباب، لإباء موثق أبي بصير عنه جدا، بملاحظة التعليل فيه، لقوة ظهوره في عدم قابلية الوضوء للتبعيض.

علي أنه لا مجال لذلك بعد ظهور إعراض الأصحاب عن مضمون صحيح حريز، المسقط له عن الحجية فيه.

و دعوي: ابتنائه علي تخيل استحكام التعارض و الغفلة عن الجمع المذكور، فلو فرض إمكانه لم يصلح إعراضهم لإسقاط الصحيح عن الحجية.

مدفوعة: بأن إطباقهم علي وجوب الموالاة مع عموم الابتلاء به كاشف عن وضوح الحكم متصلا بعصر المعصومين عليهم السّلام بنحو يمنع عن حجية الصحيح في خلافه.

بل إهمالهم للجمع المذكور كاشف عن عدم كونه عرفيا.

فلا بد من طرح الصحيح، أو تأويله، أو حمله علي التقية، لموافقة كثير من العامة، كما ذكره الشيخ قدس سره.

ثمَّ إنه لا يبعد أن يكون الاكتفاء بهذا المقدار في الموالاة هو المشهور بين الأصحاب، لأنه المتحصل من مجموع عباراتهم علي اختلاف خصوصياتها، لتعبير كثير منهم بعدم التأخير بين الأعضاء بما يؤدي إلي الجفاف، كما في المقنع و الفقيه- حاكيا عن رسالة والده- و الناصريات و المراسم و الغنية و الوسيلة و عن المصباح و الجمل و العقود و السرائر و الكامل و الكيدري و غيرها علي اختلاف عباراتها.

نعم، اقتصر بعضهم علي عدم الجفاف، كما في إشارة السبق و الشرائع و اللمعتين و جامع المقاصد و عن جماعة كثيرة، بل في جامع المقاصد و الروض

ص: 621

______________________________

نسبته للأكثر، و عن الروضة أنه الأشهر، و عن غيرها أنه المشهور.

و مقتضي الجمود عليه مبطليته الجفاف و لو مع المتابعة، لحرارة الهواء و نحوها، فيخالف السابق.

إلا أن الظاهر بناؤهم علي عدم مبطليته، كما صرح به بعضهم و يشير إليه تقييد بعضهم ذلك بالهواء المعتدل، بل هو المصرح به في كلام غير واحد، و في محكي الذكري: «و تقييد الأصحاب بالهواء المعتدل، ليخرج طرف الإفراط في الحرارة»، حيث قد يظهر منه الاتفاق علي ذلك.

و احتمال أن العفو عنه عندهم للضرورة، لا للتوسع في الموالاة بعيد جدا، و إن ادعاه بعضهم، إذ لازمه الاقتصار فيه علي صورة عدم المندوحة لتعذر الوضوء في مكان آخر، و هو بعيد عن مساق كلامهم.

و من ثمَّ كان الظاهر رجوعه للقول السابق.

نعم، قد ينافيه ما عن الدروس و البيان من أنه لو والي و جف الوضوء بطل إلا مع إفراط الحر و شبهه، و ما عن الذكري من أن ما ذهب إليه الصدوقان من عدم قدح الجفاف إذا لم ينقطع الماء مخالف لظاهر الأخبار الكثيرة. و يأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالي.

فلم يبق في المقام إلا قولان آخران مخالفان للمشهور ينبغي التعرض لهما هنا:

الأول: أن ما هو الشرط في الوضوء هو الموالاة بالمعني المتقدم، إلا أنه يجب فيه تكليفا المتابعة، فلو فرّط فيها اختيارا أثم.

الثاني: أن الموالاة بالمعني المتقدم شرط في حال الاضطرار، و أما مع الاختيار فالشرط هو الموالاة بمعني المتابعة و عدم الفصل بين الأعضاء، و لازمه أنه لو أخل بها اختيارا بطل الوضوء و لو مع عدم الجفاف.

و هذان القولان يتردد بينهما كلام جملة من الأصحاب ممن أوجب المتابعة أو فسر بها الموالاة، مطلقا أو في حال الاختيار، مع تصريحه بأنه لو فرق لانقطاع

ص: 622

______________________________

الماء أو لغيره و لم يجف الوضوء أتم وضوءه و لم يستأنف، كالمفيد في المقنعة، و الشيخ في النهاية و المبسوط و محكي الخلاف، و المحقق في المعتبر، و العلامة في القواعد و الإرشاد و المنتهي و محكي التذكرة، و حكي عن مصباح السيد و أحكام الراوندي و موضع من السرائر.

و مقتضي انصراف الأمر في مقام بيان الماهيات المركبة إلي الوجوب الشرطي إرادتهم القول الثاني، و هو المناسب لاستدلالهم- كما عن شرح المفاتيح- للانصراف المذكور في الأدلة أيضا.

لو لا ظهور كلام بعضهم و تصريح آخر بعدم بطلان الوضوء بالإخلال بالمتابعة اختيارا إلا مع الجفاف، حيث قد يلزم لأجل ذلك تنزيل كلامهم علي القول الأول.

قال الفخر في محكي شرح الإرشاد: «اتفق الكل علي أنه لو أخر العضو الأخير عن السابق مختارا زمانا يخرج به عن المتابعة اختيارا و لم يجف ما تقدم و غسله قبل الجفاف، فإنه يصح وضوؤه، فلا تظهر فائدة الخلاف في البطلان، و إنما تظهر في الإثم و عدمه، فإنه علي القول بالمتابعة يأثم بالتأخير اختيارا، و علي مراعاة الجفاف لا يأثم»، و نحوه ما عن المقداد في التنقيح، و قريب منه ما في جامع المقاصد، و من ثمَّ أنكر فيه القول الثاني.

لكن كلام المبسوط ظاهر في إرادة القول الثاني، لتصريحه بعدم الإجزاء، قال: «و الموالاة واجبة في الوضوء، و هي أن يتابع بين الأعضاء مع الاختيار، فإن خالف لم يجزه. و إن انقطع عنه الماء انتظره، فإذا وصل إليه و كان ما غسله عليه نداوة بني عليه، و إن لم يبق فيه نداوة مع اعتدال الهواء أعاد الوضوء من أوله».

بل ظاهر المنتهي أن عدم البطلان مع الإخلال بالمتابعة لا ينافي كونها شرطا، لأنه فسر الموالاة بعد حكمه بشرطيتها في الوضوء بالمتابعة من دون فرق بين الاختيار و الاضطرار، ثمَّ ذكر أن وجوب الإعادة مشروط باليبس- كما تضمنه موثق أبي بصير- و قال: «و ذلك غير ما نحن فيه».

ص: 623

______________________________

و لو تمَّ ما ذكره لا يكون ذهابهم لعدم وجوب الاستئناف مع الإخلال بالمتابعة اختيارا منافيا لإرادتهم القول الثاني، الذي عرفت أنه مقتضي الانصراف للوجوب الشرطي في مقام بيان الماهيات.

و لا سيما مع بعد القول الأول في نفسه جدا، إذ لا إشكال ظاهرا في جواز قطع الوضوء بالإعراض عنه حتي يجف أو بالحدث، كما أشار إليه في الجواهر، فيلزم كون ترتب الإثم بترك المتابعة مراعي بالإتمام، و هو من الغرابة بمكان.

لكن ما تقدم من المنتهي من عدم التنافي بين شرطية المتابعة و عدم البطلان بالإحلال بها مما لم نتعقله.

و توجيهه بأن عدم البطلان بالإخلال بالمتابعة و عدم الجفاف مع شرطيتها إنما هو لأجل أن الفاقد لها بدل اضطراري كخصال الكفارة المرتبة، لا لأجل التوسع في الموالاة ليكون فردا اختياريا، موقوف علي الاقتصار في الاجتزاء علي صورة الإخلال بالمتابعة اضطرارا، و هو لا يناسب ما تقدم.

علي أنه قدّس سرّه صرح بترتب الإثم.

و من ثمَّ كان كلام هؤلاء في غاية الغموض و الإشكال، لو بني علي الجمود علي ظاهره في مخالفة المشهور.

و ربما أمكن تنزيل كلام بعضهم علي ما يطابق قول المشهور، بحمل المتابعة علي ما يساوق عدم الجفاف، و تكون شرطا من دون أن يترتب الإثم بتركها.

إلا أنه لا يتأتي في الكل، لتصريح بعضهم- كالمنتهي- بترتب الإثم بالإخلال بها، و لعدم مناسبته لتخصيص آخرين وجوب المتابعة بحال الاختيار.

و كيف كان، فقد استدل في كلماتهم لوجوب المتابعة.

تارة: بالأصل.

و اخري: بالوضوءات البيانية، للقطع بعدم ابتنائها علي الفصل المعتد به.

و ثالثة: بأن الأمر في المقام للفور، إما لأنه الأصل فيه، أو لاقترانه بالفاء

ص: 624

______________________________

المقتضية للتعقيب من دون تراخ.

و رابعة: بالنصوص المتضمنة للأمر بالمتابعة في الوضوء، و الآمرة بإعادته بدونها مما يأتي تفصيله.

لكن الأصل محكوم للإطلاقات.

و الوضوءات البيانية لا تنهض بإثبات الاستحباب، فضلا عن الوجوب، كما تقدم توضيحه في وجوب غسل الوجه من الأعلي، خصوصا في مثل الموالاة مما هو مقتضي الوضع الطبيعي، و لم ينبه له الراوي.

و لا ظهور للأمر في الفور، علي ما هو المشهور المنصور، خصوصا في مثل المقام مما ورد الأمر فيه إرشادا للمقدمية، لا للتكليف الناشئ عن محبوبية متعلقه.

و الفاء إنما تقتضي تعقيب الجزاء علي الشرط، و هو في المقام الأمر لا المأمور به.

بل لا إشكال في عدم فورية الأمر في المقام، لا في الوجه و لا في غيره من الأعضاء، و لذا لا تجب المبادرة لغسله، لا لنفسها، و لا لمقدميتها للمبادرة فيها، و إنما المدعي وجوب المبادرة لإكمال الوضوء بالشروع فيه، بل عدم جواز الفصل بين الأعضاء و لو مع التراخي فيها نفسها بالتأني في غسلها أو مسحها، و ما تقدم لا ينهض بإثباته.

و أما النصوص، فما يمكن الاستدلال به في المقام طائفتان.

الأولي: ما تضمن عنوان المتابعة، كصحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: تابع بين الوضوء كما قال اللّه عز و جل: ابدأ بالوجه ثمَّ باليدين.» «1» و صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا نسي الرجل أن يغسل يمينه، فغسل شماله و مسح رأسه و رجليه، فذكر بعد ذلك غسل يمينه و شماله و مسح رأسه و رجليه، و إن كان إنما نسي شماله فليغسل الشمال، و لا يعيد علي ما كان توضأ. و قال: اتبع وضوءك

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 625

______________________________

بعضه بعضا» «1»، و صحيح حكم بن حكيم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل نسي من الوضوء الذراع و الرأس، قال: يعيد الوضوء، إن الوضوء يتبع بعضه بعضا» «2».

الثانية: ما تضمن إعادة الوضوء بمخالفة الترتيب فيه، كقوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «يبدأ بما بدأ اللّه به و ليعد ما كان» «3»، و قوله عليه السّلام في موثق أبي بصير: «إن نسيت غسل وجهك فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك» «4»، و قوله عليه السّلام في خبر علي بن أبي حمزة البطائني: «ألا تري أنه لو بدأ بشماله قبل يمينه في الوضوء أراد [أراه. علل] أن يعيد الوضوء» «5».

فإنه لو لا وجوب المتابعة لم يجب إلا إعادة ما قدّم، لكفايته في حصول الترتيب.

و الجواب عن الطائفة الأولي: أن التبعية الحقيقية موقوفة علي فناء التابع في المتبوع، بحيث يكون في طوله، كتبعية المأموم للإمام و تبعية الأثر للمؤثر.

و استعمالها في التعاقب الزماني إنما يكون لمشابهته للمتابعة الحقيقية في سبق المتبوع علي التابع رتبه أو زمانا.

لكن من الظاهر عدم اطراد استعمالها في جميع موارد التعاقب الزماني، بل لا بد من لحاظ جهة تربط بين المتعاقبين، إما ادعائية صرفة كما في الأمور المتعاقبة صدفة، حيث قد يطلق التتابع فيها بعناية ادعاء اشتراكها في جهة واحدة، أو حقيقية إما بلحاظ وحدة الغرض، حيث يكون الداعي للمتبوع داعيا للتابع، أو الاتفاق في سنخ الأثر، حيث يكون التابع موجبا لاستمرار الأثر الحاصل بالمتبوع و عدم انقطاعه، كمتابعة علف الحيوان و خدمة البستان، أو نحوهما مما يصلح للارتباط بين المتعاقبات.

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 33 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(5) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 3. و باب: 10 من أبواب السعي حديث: 4. و علل الشرائع باب: 385 باب نوادر العلل حديث: 18 ص: 581. طبع النجف الأشرف.

ص: 626

______________________________

و عليه، لا يتوقف صدق المتابعة علي عدم الفصل الزماني، بل قد يكون معه، لعدم إخلاله بالجهة الرابطة المصححة لإطلاقها، كما في متابعة سقي البستان، حيث لا يخل بها الفصل بمقدار لا ينقطع به الأثر المسبب عن السقي السابق، و هو ارتواؤه بالوجه المطلوب.

نعم، إذا أطلقت المتابعة في مقام البيان، فإن أحرزت الجهة المصححة لإطلاقها لزم الاقتصار في الفصل علي ما لا يخل بها، كما في المثال المذكور، و إن لم تحرز لزم الحمل علي ما يساوق وحدة العمل عرفا، بلحاظ اتصال أجزائه و عدم الفصل المعتد به بينها، و هو المراد بالمتابعة العرفية، لأن ذلك نحو من الربط يدركه العرف، و لو لا الحمل عليه لزم عدم صلوح الإطلاق للبيان الذي يترتب عليه العمل، فالمتابعة العرفية بالمعني المذكور ليست مقومة لمفهوم المتابعة، بل معيارا في تشخيصها تستفاد من إطلاقها الصادر في مقام البيان عند عدم القرينة المعينة للجهة المصححة له.

إذا عرفت هذا، ظهر عدم نهوض صحيح زرارة بالدلالة علي وجوب المتابعة العرفية، لعدم وروده لبيان وجوب المتابعة، بل لبيان كيفيتها من حيثية التابع و المتبوع، و أن اللازم تقديم ما قدمه اللّه تعالي.

و أما صحيح الحلبي، فهو و إن أطلق فيه الأمر بالاتباع، إلا أن صدره يأبي الحمل علي المتابعة العرفية، للتصريح فيه بالاكتفاء بالمحافظة علي الترتيب عند نسيان غسل إحدي اليدين و عدم وجوب غسل الوجه مع تحقق الفصل بتقديم ما حقه التأخير.

فلا بد إما من ورود الأمر بالاتباع فيه لتعيين المتبوع من التابع، لا لإيجاب المتابعة، كما في صحيح زرارة، أو لبيان وجوب المتابعة بالنحو المساوق لعدم الجفاف، لقرينة اختفت علينا.

هذا بناء علي أن الذيل فيه تتمة للصدر، أما لو كان كلاما مستقلا- كما هو غير بعيد- فمقتضي إطلاقه و إن كان هو إرادة المتابعة العرفية، إلا أنه لا بد من

ص: 627

______________________________

الخروج عنه بما تضمنه الصدر و نحوه من النصوص الدالة علي الاكتفاء بما يحصل به الترتيب عند الإخلال به، و الدالة علي كفاية تدارك الجزء المنسي من الوضوء إذا ذكره و هو في الصلاة «1».

و كذا الحال في صحيح حكم أيضا.

علي أن منشأ حمل الإطلاق علي المتابعة العرفية لما كان هو عدم إدراك العرف لجهة من الربط غيرها تصلح لوحدة العمل و تصحح إطلاق المتابعة، كان محكوما لموثق أبي بصير المتقدم المتضمن تطبيق تبعيض الوضوء علي الفصل المستتبع للجفاف، لكشفه عن ملاحظة الشارع نحوا من الوحدة بين أجزاء الوضوء لا يخل بها إلا الفصل المستتبع للجفاف، و حيث كانت هذه الوحدة مصححة لإطلاق المتابعة بلحاظ عدم الجفاف تعين حمل المتابعة عليها، و لا يحتاج معها للحمل علي الوحدة العرفية المتقومة بالمتابعة العرفية، لصلوح الموثق للبيان.

و دعوي: اختصاص الموثق بصورة العذر، لفرض الحاجة فيه.

مدفوعة: بأن التعليل فيه ظاهر في إعطاء الضابط العام للوحدة المعتبرة حتي في غير مورده.

مضافا إلي أن عروض الحاجة لا يستلزم العذر، لظهوره في جواز الانشغال بالحاجة و لو مع إمكان تأخيرها بعد الفراغ من الوضوء.

و من بعض ما تقدم يظهر الجواب عن الطائفة الثانية، فإنها- لو تمت دلالتها، و كان الوجه فيها ما سبق- حيث كانت معارضة بالنصوص المتضمنة للاكتفاء بإعادة ما حقه التأخير- كصحيح الحلبي و غيره مما يأتي إن شاء اللّه تعالي- تعين الجمع بينها و بين تلك النصوص بالتفصيل بين فوت الموالاة و عدمه، من دون أن تنهض بتحديد الموالاة، و يكون المرجع فيه ما سبق.

بل حيث كان صريح تلك النصوص عدم قدح الإخلال بالمتابعة العرفية،

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء.

ص: 628

______________________________

لزم تقييد إطلاق هذه النصوص المقتضي لقادحية الإخلال بها.

بقي في المقام أمور.

الأول: أن جميع ما استدل به لوجوب المتابعة لو تمَّ يقتضي شرطيتها في الوضوء، لا وجوبها تكليفا، كما يظهر بأدني تأمل فيها.

فدعوي ترتب الإثم بتركها خالية عن الدليل. إلا أن يبني علي حرمة قطع الوضوء، و قد أشرنا آنفا إلي مفروغيتهم ظاهرا عن جوازه. مع أن ظاهر القائلين به، بل صريحهم عدم البطلان بترك المتابعة إلا مع الجفاف.

الثاني: أن أكثر النصوص التي تقدم الاستدلال بها لشرطية المتابعة واردة في صورة النسيان، الذي هو من الأعذار، و هو المتيقن من إطلاق الباقي، و قد تقدم أن القائل بها لا يلتزم بشرطيتها مع العذر، فلا مجال لاستدلاله بالنصوص المذكورة.

إلا أن يريد من العذر ما يساوق التعذر لا ما يعم النسيان.

لكن تدفعه حينئذ النصوص المعول عليها عند الكل، المتضمنة جواز أخذ ناسي المسح البلة من اللحية و الأشفار «1»، فلا بد من تنزيل نصوص المقام علي صورة جفاف البلل المذكور، و لا تصلح للاستدلال.

الثالث: قال في الجواهر: «و من العجب ما في الدروس بعد اختياره أن الموالاة مراعاة الجفاف، قال: و لو فرق و لم يجف فلا إثم و لا إبطال، إلا أن يفحش التراخي، فيأثم مع الاختيار، و مثله عن البيان. و لم أعثر لغيره علي ذلك، كما أنه لا دليل عليه».

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «و يمكن أن يكون قائلا بالإثم في ترك المتابعة إلا أن التفريق الغير المتفاحش غير قادح عنده في صدق المتابعة».

لكن إمكان ذلك لا ينافي ما أشار إليه في الجواهر من غرابته.

______________________________

(1) تقدم الكلام في هذه النصوص في المسألة الخامسة و العشرين، و راجع في هذه النصوص الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء.

ص: 629

تمام السابق (1) في الحال المتعارفة،

______________________________

(1) بعد ما تقدم من أن المدار في الموالاة علي بقاء بلل الوضوء مطلقا أو في حال الاضطرار، فالظاهر أنه يكفي بقاؤه و لو في بعض الأعضاء، كما في المعتبر و جامع المقاصد و الروض و كشف اللثام و المدارك و المبسوط و النهاية و الغنية و الوسيلة و المنتهي و اللمعتين و عن أبي الصلاح و الكيدري و الخلاف و التذكرة و البيان و غيرها، و عن المفاتيح نسبته للأكثر، و عن شرحه و المقاصد العلية أنه المشهور.

لأنه الظاهر من موثق أبي بصير، و المتيقن من صحيح معاوية في الخروج عن الإطلاقات.

و هو المناسب أيضا لما تضمن جواز الأخذ من بلل اللحية و الأشفار لناسي المسح، بناء علي ما هو ظاهرهم من إلغاء خصوصية النسيان و التعدي لجميع موارد جفاف البلة.

اللهم إلا أن يقال: المتيقن منهم التعدي من حيثية جفاف البلة بلحاظ سقوط شرطية المسح ببلة اليد، لا من حيثية الموالاة بلحاظ عدم الإخلال بها، فلا مانع من البناء علي عدم جواز الأخذ منها في غير النسيان مع الجفاف المستند للفصل، و أن جواز الأخذ منها مطلقا في النسيان و غيره مختص بالجفاف المستند لغير الفصل.

لكن لم يشر أحد منهم للتفصيل بالوجه المذكور.

و كيف كان، فيظهر مما تقدم ضعف ما عن ابن الجنيد من اعتبار بقاء البلل في جميع الأعضاء مطلقا أو في غير الضرورة، ليقرب من الموالاة الحقيقية.

إذ مع قيام الدليل علي اعتبار الموالاة الحقيقية لا وجه للاكتفاء بما يقرب منها، و بدونه لا وجه لاعتباره.

علي أن الموالاة الحقيقية لا تنافي جفاف بعض الأعضاء.

ص: 630

فلا يقدح الجفاف لأجل حرارة الهواء أو البدن الخارجة عن المتعارف (1).

______________________________

و مثله ما في الناصريات و إشارة السبق و عن المصباح و المهذب من اعتبار رطوبة خصوص الذي يكون منه الانقطاع، و ما في المراسم و عن السرائر لزوم غسل اليدين و الوجه رطب، و مسح الرأس و الرجلين و اليدان رطبتان، و ما عن موضع آخر من السرائر من لزوم الرجوع و التدارك من موضع الجفاف.

لخلو جميع ذلك عن الدليل، بل مخالفته لما تقدم.

ثمَّ إنه حكي في مفتاح الكرامة عن أستاذه الشريف الاكتفاء ببلل الغاسل، كما لو فرق بين الوجه و اليد بما يوجب جفافه دون الكف الغاسلة له، لأنه بلل الوضوء، و لذا يجوز المسح به.

و فيه: أن ظاهر الصحيح و الموثق أن البلل الذي يكون جفافه معيارا في الموالاة هو بلل الأعضاء الموضأة لا بلل الآلة الغاسلة له، و لا يهم مع ذلك صدق بلل الوضوء عليه. علي أن الظاهر عدم صدقه، بل هو كالمتقاطر من المغسول علي الأرض، و جواز المسح به إنما هو لظهور الأدلة في وجوب المسح بما يبقي في اليد بعد إكمال الوضوء، و لذا لا يجوز به لو لم يكن الغسل بيد المتوضي.

و أشكل من ذلك ما حكاه عنه من أنه يتفرع عليه فروع كثيرة، كما إذا غسل بكف غيره أو بآلة أو نحو ذلك.

لظهوره في كفاية بقاء رطوبة الآلة في تحقق الموالاة. مع وضوح أن ما استشهد به من جواز المسح بها، لا يتأتي فيه. مضافا إلي غرابته في نفسه و بعده عن مفاد النصوص و الفتاوي.

(1) فقد أشرنا آنفا إلي أن المذكور في كلام جماعة هو قادحية الجفاف المستند للفصل، و أن إطلاق آخرين قادحية الجفاف قد يرجع إليه بقرينة تقييدهم بصورة اعتدال الهواء، بل صريح الصدوقين و جماعة عدم إخلال الجفاف الحاصل

ص: 631

______________________________

مع المتابعة «1»، بل لعله متفق عليه في الجملة.

و كيف كان، فلا ينبغي الإشكال في عدم قادحية الجفاف مع الموالاة العرفية أخذا بالإطلاقات بعد خروجه عن المتيقن من صحيح معاوية بن عمار و موثق أبي بصير، لاختصاصهما بالجفاف المسبب عن الفصل.

و دعوي: أن مقتضي الجمع بينهما و بين مثل صحيح حكم هو اعتبار المتابعة التي لا يلزم معها الجفاف، و هي غير حاصلة في المقام و إن حصلت المتابعة العرفية.

مدفوعة: بأن الجمع بينهما لا يقتضي التقييد المذكور، و إلا لزم الجمع بين المتابعة و عدم الجفاف، بل التوسع في صدق المتابعة بحملها علي عدم الفصل بالمقدار المستلزم للجفاف- الذي هو مفاد الموثق- و هو حاصل في المقام، لفرض أن الجفاف الحاصل في المقام ليس هو الملزوم للفصل.

و لا فرق في ذلك بين كون سبب ذهاب الرطوبة اختياريا و غيره.

و استبعاد الصحة في الأول في غير محله. بل لو كان السبب الاختياري مثل المسح بخرقة كان أبعد عن الإشكال، لأنه و إن صدق معه جفاف الأعضاء، إلا أن ظاهر الصحيح و الموثق أن العبرة بجفاف الماء، و هو لا يصدق في الفرض، غاية ما يدعي هو فهم عدم الخصوصية لذلك.

و أما إن كان الجفاف مع الفصل القليل، فإن حصل بسبب خارجي لا دخل للفصل فيه عرفا، اختياري- كالمسح بثوب- أو قهري- كما لو وقع الثوب علي العضو بلا قصد فجف- فالظاهر عدم قادحيته، عملا بالإطلاقات، بعد خروجه عن المتيقن من الصحيح و الموثق.

و إن حصل الجفاف بسبب الفصل عرفا لحرارة الهواء و نحوها مما هو علي خلاف المتعارف، فهل يبطل الوضوء أو لا؟.

وجهان، يجريان في عكس الفرض أيضا، و هو الفصل الكثير الذي لا

______________________________

(1) تقدم نقل كلامهما في الكلام علي أدلة وجوب الموالاة عند الكلام في وجه الجمع بين أدلته و صحيح حريز.

ص: 632

______________________________

يحصل معه الجفاف لأمر غير متعارف من رطوبة الهواء أو كثرة الماء أو نحوهما.

و توضيح ذلك: أن مقتضي الجمود علي عنوان الجفاف في كلماتهم إرادة الجفاف الفعلي المعبر عنه عندهم بالحسي، فمعه يبطل الوضوء، و إن قصر الفصل لأمر غير متعارف، و بدونه يصح و إن طال الفصل لأمر غير متعارف.

لكن ظاهر غير واحد ممن قيد الجفاف بالهواء أو الزمان المعتدل الصحة في الأول.

نعم، لو لم يريدوا به إخراج صورة الجفاف مع الفصل القليل، بل مع المتابعة، كما قد يناسبه استدلال بعضهم علي الصحة فيه بالضرورة، كان أجنبيا عن ذلك.

لكن كلام كثير منهم يأبي الحمل عليه، لأخذهم له قيدا في التفريق الموجب للجفاف.

و أما الثاني، فقد صرح بالصحة معه في جامع المقاصد و الروض و الروضة و المدارك و محكي الذكري و المقاصد العلية و المشكاة و غيرها.

بل قد يظهر من محكي الذكري الاتفاق عليه، حيث قال: «لو كان الهواء رطبا جدا، بحيث لو اعتدل جف البلل لم يضر، لوجود البلل حسا. و تقييد الأصحاب بالهواء المعتدل ليخرج طرف الإفراط بالحرارة. و كذا لو أسبغ الماء بحيث لو اعتدل جف لم يضر».

لكن حمل التقييد علي خصوص ذلك لا يناسبه إطلاق الأكثر، بل ظاهرهم تحديد مقدار الفصل و إن لم يحصل الجفاف فعلا.

و لذا استظهر المحقق الخونساري و غيره- فيما حكي عنهم- البناء علي البطلان من كل من ذكر القيد المذكور.

نعم، يتوجه في كلام المبسوط المتقدم في تحقيق القولين المخالفين للمشهور في الموالاة، حيث قيد بالاعتدال البطلان مع الجفاف دون الصحة مع عدمه.

ص: 633

______________________________

و مثله من استثني صورة شدة الحر و لم يقيد بالاعتدال، كما عن المهذب و التحرير.

و كيف كان، فمن الظاهر أن البطلان في الأول و الصحة في الثاني مقتضي الجمود علي التعبير بالجفاف و اليبس في الصحيح و الموثق.

لكن ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنه لا مجال لذلك بملاحظة التعليل في ذيل الموثق بأن الوضوء لا يبعض، لظهوره في أن الوضوء عمل واحد له هيئة اتصالية، فلا بد من حمل ذكر اليبس فيه علي تحديد الفصل القادح بما يؤدي إليه بحسب المتعارف.

و فيه: أن ظاهره أن القادح في وحدة الوضوء هو الفصل المؤدي لليبس فعلا، لا تقديرا في الحال المتعارف، و لا مجرد اليبس من دون فصل.

و كأن هذا هو مراد من ذكر أن الوحدة بلحاظ الأثر، و هو البلل، بأن يكون مرادهم كفاية بقاء الأثر في الوحدة، لا كونه معيارا فيها.

و إلا لزم قدح الجفاف مع المتابعة، كما أشار إليه قدّس سرّه، و تقدم أنه لا مجال للبناء عليه.

و دعوي: أن ذكر اليبس ليس لدخله بنفسه، بل لتحديد أمد الفصل به، فلا بد من تنزيله علي الحال المتعارف، لأنه الصالح للتحديد، لامتناع التحديد بما يتردد بين الأقل و الأكثر.

مدفوعة: بمخالفة ذلك للظاهر في نفسه، لظهور ذكر العنوان في كونه دخيلا بنفسه، لا طريقا لتحديد ما هو الدخيل.

بل ما تضمنه صحيح معاوية من فرض الجفاف في كلام السائل كالصريح في إرادة الجفاف الفعلي، فعدم الاستفصال في الجواب عن كونه في الحال المتعارف ظاهر جدا في دوران الحكم مداره.

مضافا إلي شدة اختلاف الحال في أفراد المتعارف، بسبب اختلافها في مقدار الماء و الهواء و حرارتهما و حرارة الوقت و البدن و كيفية الغسل و مقدار الشعر،

ص: 634

______________________________

و نحو ذلك مما له الدخل في اختلاف أمد الجفاف، و التحديد بالمتوسط من جهة الكل مما لا مجالا له، لعدم تيسر ضبطه للخاصة، فضلا عن العامة.

و مثله ما قد يظهر من الجواهر من اختلاف المتعارف الذي يكون معيارا في المقام باختلاف الأزمنة، فهو في شدة الصيف غيره في شدة الشتاء.

فإنه و إن كان أقل اختلافا، إلا أنه- مع تعسر ضبطه- يبتني حمل النص عليه علي تكلف و يبعد عن ظاهره جدا.

بل لا مرجح للاختلاف من جهة الزمان علي الاختلاف من سائر الجهات التي ذكرناها، فاختلاف معيار الحكم باختلافه دونها تحكم.

إن قلت: لازم ذلك عدم بطلان الوضوء لو استند الجفاف لأمر غير الفصل و إن طال الفصل بعد ذلك، لما تقدم من ظهور الحديثين في الجفاف المستند للفصل، و هو غير حاصل في الفرض إلا تقديرا، فإذا لم يعتد بالجفاف التقديري فلا موجب للبطلان.

قلت: لا يبعد كون البطلان في ذلك مناسبا لارتكازية التعليل، القاضية بأن جعل الجفاف المستند للفصل معيارا في انقطاع الوحدة إنما هو بلحاظ تحديد الفصل الزماني و بيان مقداره، كما هو المناسب للتعليل بالاتباع في صحيح حكم، و لا دخل في ذلك لفعلية استناد الجفاف للفصل، بل يكفي تحقق الفصل المستلزم للجفاف و إن لم يستند له الجفاف لاستناده لسبب سابق.

و هو لا يستلزم الاكتفاء بالجفاف التقديري بالمعني المتقدم الراجع لكون المعيار هو الفصل المستلزم للجفاف نوعا بلحاظ الحال المتعارف، بحيث لا يقدح الفصل المستلزم له بشخصه بوجه غير متعارف، و لا ينفع عدمه مع الفصل الشخصي كذلك و لذا يكون المعيار في البطلان في فرض استناد الجفاف لسبب سابق هو الفصل المستلزم للجفاف في الحال الخاص، لا بحسب المتعارف.

فإن تمَّ هذا الوجه، و إلا فلا وجه للبطلان إلا الاستبعاد المحض، و لذا بني علي الصحة في المستند، فإن بلغ الاستبعاد حدا لا مجال معه للبناء علي الصحة

ص: 635

______________________________

لزم الاقتصار علي مورده، و هو التعدي للجفاف التقديري من حيثية عدم وجود الماء، لا جعل المدار علي الجفاف التقديري بالمعني المتقدم مع ما عرفت من مخالفته لظاهر الأدلة، بل صعوبة تنزيلها عليه جدا.

هذا، و يظهر مما حكي عن المحقق الخونساري الاستدلال علي البطلان مع بقاء البلل بوجه غير متعارف بانصراف الإطلاق للغالب الشائع، و لا يشمل الشاذ النادر.

و فيه- مع أنه لا يعتد بالانصراف الناشئ من الغلبة- أن الصحة في الفرض مقتضي الإطلاقات الأولية، فلا يهم قصور الموثق عن إثباتها بمفهومه بسبب الانصراف المدعي، لوضوح أن مقتضي الانصراف إجماله بالإضافة للفرد المذكور أو عدم تعرضه لحكمه، لا ظهوره في البطلان فيه.

نعم، ينفع الانصراف المدعي في إثبات الصحة في الفرض الأول، و هو ما لو حصل الجفاف بالفصل القصير علي خلاف المتعارف، لأن قصور الإطلاق عنه يقتضي الرجوع فيه للإطلاقات الأولية المقتضية للصحة.

و لعل هذا هو الوجه في بناء من تقدم علي الصحة في الفرضين معا.

لكن الظاهر عدم تمامية الانصراف فيه، و لا سيما في صحيح معاوية، حيث لا يكون الاستدلال بإطلاقه، بل يترك الاستفصال فيه، الذي هو كالعموم، و انصراف القضية المسؤول عنها إلي خصوص ما تكون بالوجه المتعارف بعيد جدا.

تنبيهات.

الأول: لو استأنف الوضوء قبل فوات الموالاة بالوجه المعتبر أما لإدراك جهة راجحة فيه- كما لو أوقع بعض الوضوء ببعض المياه المكروهة الاستعمال- أو لتخيل بطلان الوضوء الأول- للخطإ في تشخيص بعض ما يعتبر فيه من الموالاة أو

ص: 636

______________________________

غيرها- أو للاحتياط- لاحتمال بطلانه- فلا ينبغي التأمل في عدم بطلان ما أوقعه، لعدم الدليل علي مبطلية الإعراض، بل إطلاق أدلة الوضوء قاض بصحته بمعني تحقق الوضوء المشروع به لو انضم له بقية الأجزاء، بلا حاجة لاستصحاب الصحة.

بل لا مجال له- و إن ظهر من بعضهم التمسك به في أمثال المقام- لما هو المعلوم من عدم جعل الصحة شرعا، بل هي منتزعة من تمامية العمل و مطابقته للمأمور به، و هي أمر واقعي ليس موضوعا لأثر شرعي، بل للإجزاء العقلي.

مع أنها لا تحرز إلا بعد إتمام العمل، و ليس ثبوتها للإجزاء قبله إلا مراعي به، فلا يقين بها كي تستصحب.

فالعمدة ما ذكرنا من الإطلاق.

لكن صحة ما أعرض عنه بالمعني المذكور لا تمنع من صحة ما استأنفه أيضا بذلك المعني، لاشتراك الفردين في الدخول تحت الإطلاقات بعد فرض عدم تمامية الامتثال المسقط للأمر، فللمكلف أن يقصد الامتثال بتمام ما استأنفه، و يصح منه.

و لا مجال لتخيل البطلان لو لزم تثليث الغسلات، لعدم مشروعية الغسلة الثالثة، لاختصاص ذلك بما إذا نوي الامتثال بمجموع الغسلات، و لا يعم ما إذا نوي الامتثال بخصوص الأخيرة، للإعراض عما سبق.

و أولي بالصحة ما لو فاتت الموالاة بالإضافة إلي الأول بعد الاستئناف قبل الوصول إلي مكان القطع، لبطلانه حينئذ المانع من قابليته لالتحاق ما قطع منه به، بل ينحصر الأمر بالمستأنف، فيتم العمل به. و أولي منهما ما لو لم يجزم بالامتثال بالمستأنف، بل ردد فيه بين الامتثال بالتام و تتميم الأول، بنحو يكون الامتثال بالأول مراعي ببقاء الموالاة متمما بما يكون بعد الاستئناف، و إلا يكون بالثاني بتمامه.

نعم، لو كان الاستئناف بعد إكمال غسل اليدين أشكل ذلك باحتمال لزوم المسح بغير ماء الوضوء، لعدم فوت الموالاة المستلزم للغوية الغسل المستأنف،

ص: 637

مسألة 74 الأحوط عدم الاعتداد ببقاء الرطوبة في مسترسل اللحية الخارج عن حد الوجه

(مسألة 74): الأحوط وجوبا عدم الاعتداد ببقاء الرطوبة في مسترسل اللحية الخارج عن حد الوجه (1).

______________________________

فلا يكون المسح ببلة مسحا ببلل الوضوء، بخلاف ما لو نوي الامتثال بالمستأنف رأسا.

الثاني: لو شك في حصول الجفاف بني علي عدمه، لأخذه شرعا بعنوانه في موضوع المانعية، فيستصحب عدمه.

نعم، بناء علي تحديد أمد الفصل الزماني به بلحاظ الحال المتعارف، فإن رجع إلي الشك في تحقق المقدار المتعارف، جري استصحاب عدمه، و إن رجع إلي الشك في مقدار المتعارف لم يجر الاستصحاب، لكونه من استصحاب المفهوم المردد.

و كذا الحال لو لم يستند الجفاف للفصل، بناء علي ما عرفت من تقريب قدح الفصل المستلزم للجفاف تقديرا حينئذ، فيجري الاستصحاب لو شك في تحققه، لا في مقداره، فلاحظ.

الثالث: لا إشكال ظاهرا في أن اشتراط الوضوء بالموالاة بالمعني المنوط بالجفاف لا يسقط بالتعذر رأسا، فضلا عن التعذر في الوضوء الذي شرع فيه، بل يتعذر الوضوء بتعذرها، و ينتقل للتيمم، و لذا لم يشيروا لاستثناء صورة التعذر هنا، و إنما ذكروها في الموالاة، بمعني المتابعة، كما تقدم.

و يقتضيه إطلاق التعليل في موثق أبي بصير بأن الوضوء لا يبعض.

نعم، تقدم الكلام في جواز استئناف الماء للمسح مع تعذر حفظ ماء الوضوء لحرارة الهواء و نحوها.

لكنه خارج عما نحن فيه، لعدم إخلال الجفاف بالموالاة مع المتابعة العرفية، كما تقدم.

(1) تقدم منه قدّس سرّه في المسألة الخامسة و العشرين تقييد بلل اللحية الذي

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 2، ص: 639

ص: 638

و منها الترتيب بين الأعضاء

و منها: الترتيب بين الأعضاء (1)،

______________________________

يجوز المسح به بما يكون داخلا في الحد، و تقدم أنه لا مجال للتقييد المذكور بالنظر لأدلة تلك المسألة، من دون فرق بين القول باستحباب غسل مسترسل اللحية و عدمه، خلافا لما يظهر من الجواهر من بناء الكلام هناك و هنا علي ذلك.

و أما بالنظر لأدلة هذه المسألة، فقد يشكل بعدم صدق بلل الوضوء عليه، بناء علي عدم استحباب غسله، فلا يكون معيارا في بقاء الموالاة، و إن أمكن المسح به لو فرض تحققها، و لو لعدم استناد جفاف الأعضاء للفصل.

بل يشكل الاكتفاء ببلل ما دخل في الحد من باطن اللحية و الشعر، لعدم وجوب غسله، فلا يكون من الوضوء، و لا ملزم بإلحاقه به و لو تبعا.

اللهم إلا أن يقال: لما كان المفروض في بعض نصوص تلك المسألة ذكر المكلف لنقص الوضوء و هو في الصلاة كان ظاهرا في عدم قدح الفصل الطويل، فإذا فرض عموم البلل المأخوذ منه لما يكون في مسترسل اللحية كانت ظاهرة في كفايته في تحقق الموالاة المعتبرة.

لكنه مختص بنسيان المسح، و التعدي منه لسائر موارد الفصل بين الأعضاء مبني علي ابتنائه علي سعة الموالاة، لا علي التسامح فيها في المورد المذكور لأجل التسهيل، و هو غير ظاهر.

هذا، و أما غير ذلك مما خرج عن الحد من أطراف الأعضاء المغسولة تبعا أو مقدمة، فلا ينبغي الإشكال في عدم الاكتفاء ببقاء بللها، لقصور أدلة المسألتين عنها.

فما يظهر من السيد الطباطبائي في العروة الوثقي من كونها نظير مسترسل اللحية، في غير محله.

نعم، لا ينبغي التأمل في كفاية الرطوبة المتخلفة عن الغسل الوضوئي غير الواجب، كماء الغسلة الثانية، إذ لا يصدق معها جفاف الوضوء.

(1) إجماعا، كما في الغنية و المعتبر و المنتهي و عن الخلاف و التذكرة

ص: 639

______________________________

و غيرها، و عن غير واحد نفي الخلاف فيه، و في الجواهر: «إجماعا محصلا و منقولا مستفيضا كاد يكون متواترا».

و يقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: تابع بين الوضوء كما قال اللّه عز و جل: ابدأ بالوجه ثمَّ باليدين ثمَّ امسح الرأس و الرجلين و لا تقدمن شيئا بين يدي شي ء تخالف ما أمرت به، فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه و أعد علي الذراع، و إن مسحت الرجل قبل الرأس فامسح علي الرأس قبل الرجل ثمَّ أعد علي الرجل، ابدأ بما بدأ اللّه عز و جل به» «1»، و صحيح منصور ابن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يتوضأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين، قال:

يغسل اليمين و يعيد اليسار» «2»، و غيرهما مما ورد فيمن يخالف الترتيب و غيره مما يأتي التعرض له.

و به يخرج عن إطلاق الآية الشريفة.

و أما ما في المنتهي من قريب ظهور الآية في الترتيب، إما لظهور الواو فيه، أو لأن الفاء تقتضي تعقيب القيام للصلاة بالغسل، فيجب تقديمه علي غيره، و كل من أوجب تقديمه أوجب الترتيب.

فيندفع بأنه لا ظهور للواو في الترتيب، و ما أقامه من الوجوه عليه غير تام، كما يظهر بمراجعتها.

و الفاء لتعقيب وجوب الغسل، لا لتعقيب نفس الغسل، كما تقدم توضيحه في مبحث وجوب الموالاة. مع أن عدم القول بالفصل لو تمَّ لا ينفع ما لم يرجع إلي الإجماع علي عدمه، و هو غير ثابت في المقام.

و هناك بعض الوجوه الأخر ذكرها لا مجال لإطالة الكلام فيها.

هذا، و قد ينافي وجوب الترتيب ما في صحيح علي بن جعفر الوارد في الوضوء بالمطر «3».

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 36 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 640

بتقديم الوجه، ثمَّ اليد اليمني، ثمَّ اليسري، ثمَّ مسح الرأس (1).

و الأحوط تقديم الرجل اليمني علي اليسري (2). و كذا يجب الترتيب في أجزاء كل عضو (3)، علي ما تقدم. و لو عكس الترتيب سهوا أعاد (4)

______________________________

لكن لا مجال للخروج به عما تقدم، كما أشرنا إلي ذلك في المسألة الثامنة عشرة و في مبحث وجوب المباشرة.

(1) يعني: قبل مسح الرجلين، لما تقدم في صحيح زرارة و غيره.

(2) تقدم الكلام في ذلك عند الكلام في وجوب مسح الرجلين.

(3) يعني: مغسول، حيث تقدم الكلام في وجوب البدء بالأعلي في الوجه، و البدء من المرفق في اليدين. أما الأعضاء الممسوحة فقد تقدم عدم وجوب الترتيب فيها.

(4) و لا يسقط الترتيب في السهو بلا خلاف علي الظاهر، لعدم تعرضهم لاحتماله، بل يظهر من كثير من كلماتهم المفروغية عن عدمه، و ظاهر كشف اللثام دعوي الإجماع عليه.

و ظاهرهم عدم الفرق بين مخالفة الترتيب نسيانا، و نسيان المتقدم رأسا.

و تقتضيه- مضافا إلي القاعدة- النصوص الكثيرة في الموردين مما تقدم و يأتي.

نعم، قد يظهر من بعض النصوص عدم وجوب تدارك الترتيب في المسح مع عدم مخالفته في الغسل، كصحيحي الحلبي و مالك بن أعين و مرسل حماد «1» الواردة في نسيان مسح الرأس، و المتضمنة للأخذ من بلل اللحية، لظهورها في الاجتزاء بمسحه، لعدم التنبيه فيها لإعادة مسح الرجلين، مع الغفلة عن ذلك،

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 2، 7، 1.

ص: 641

______________________________

لابتناء الحكم علي التدارك و الرجوع، فلا ينصرف الذهن إلا إلي ما نبه إليه، و لا سيما مع قلة البلل غالبا. و صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن رجل توضأ و نسي غسل يساره، فقال: يغسل يساره وحدها، و لا يعيد وضوء شي ء غيرها» «1»، و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا نسي الرجل أن يغسل يمينه، فغسل شماله، و مسح رأسه و رجليه، فذكر بعد ذلك، غسل يمينه و شماله و مسح رأسه و رجليه، و إن كان إنما نسي شماله فليغسل الشمال، و لا يعيد علي ما كان توضأ.» «2».

لكن ظاهر جملة من النصوص وجوب التدارك حينئذ، كخبر زرارة- الذي لا يخلو سنده عن اعتبار- عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل ينسي مسح رأسه حتي يدخل في الصلاة، قال: إن كان في لحيته بلل بقدر ما يمسح رأسه و رجليه فليفعل ذلك و ليصل» «3»، و صحيح منصور: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمن نسي أن يمسح رأسه حتي قام في الصلاة. قال: ينصرف و يمسح رأسه و رجليه» «4»، و صحيح أبي بصير عنه عليه السّلام: «في رجل نسي أن يمسح علي رأسه، فذكر و هو في الصلاة. فقال:

إن كان استيقن ذلك انصرف فمسح علي رأسه و علي رجليه، و استقبل الصلاة.» «5»، و موثقه عنه عليه السّلام: «و إن نسيت مسح رأسك حتي تغسل رجليك فامسح رأسك ثمَّ اغسل رجليك» «6». فإنه و إن لزم حمل غسل الرجلين علي التقية، إلا أن ذلك لا يسقطه عن الحجية في الترتيب الذي ورد لبيانه.

فلا بد من رفع اليد عن ظاهر ما سبق، بتنزيل نصوص الأخذ من بلل اللحية علي عدم المفهوم، و تنزيل الوضوء في الصحيحين علي خصوص الغسل، لبيان عدم وجوب إعادة ما سبق علي المنسي، فإنه أقرب من حمل هذه النصوص علي استحباب تدارك الترتيب، لإباء سياقها له جدا، و لا سيما مع ظهور إعراض

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(6) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 642

______________________________

الأصحاب عن ظهور تلك النصوص في سقوط الترتيب.

هذا، و ظاهر الأصحاب عدم الفرق في مخالفة الترتيب بين تمام العضو و بعضه، فلو فاته بعض العضو لزم تداركه مع بقاء حفظ الموالاة، ثمَّ الإعادة علي ما بعده من العضو نفسه و من بقية الأعضاء، لعدم تنبيههم لاستثناء ذلك، و في الجواهر أنه قد يظهر من بعضهم دعوي الإجماع عليه. و هو المطابق لإطلاق الأدلة.

لكن في الجواهر عن ابن الجنيد أنه إذا كان المنسي لمعة دون سعة الدرهم كفي بلها من غير إعادة.

لما نقله هو من أنه روي توقيت الدرهم ابن سعيد عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام و ابن منصور عن يزيد بن علي، و منه حديث أبي أمامة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله.

و يقتضيه إطلاق خبر سهل بن اليسع- الذي رواه في العيون بسند لا يبعد حسنه-: «سألت الرضا عليه السّلام عن الرجل يبقي من وجهه إذا توضأ موضع لم يصبه الماء، فقال: يجزيه أن يبله من بعض جسده»، و نحوه مرسل الفقيه عن الكاظم عليه السّلام «1»، و إن لم يبعد اتحادهما.

لكن لا مجال للاعتماد علي مراسيل ابن الجنيد، و لا سيما مع نقلها بالمعني، و ظهور إعراض أرباب الحديث و الفتوي عنها.

و أما الخبر و المرسل، فربما كان المراد بهما بيان ما يجزئ في خصوص الموضع المتروك، دفعا لتوهم وجوب صب ماء جديد له، لا ما يجزئ لإتمام الوضوء، كي يدل علي سقوط الترتيب في الفرض.

فالخروج بهما علي مقتضي القاعدة المعول عليها بين الأصحاب لا يخلو عن إشكال. و لا سيما مع عدم ظهور اعتماد أحد عليهما حتي ابن الجنيد، لتصريحه بالاعتماد علي نصوص أخر بالسنة أخر.

و مجرد ذكر الصدوق للمرسل في الفقيه و ذكر الحر لهما في الوسائل لا يشهد باعتمادهما عليهما في الخروج عن مقتضي القاعدة المذكورة، لاحتمال حملهما لهما علي ما ذكرناه، الذي هو لا ينافيها، فتأمل جيدا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الوضوء حديث: 1 و ملحقة.

ص: 643

علي ما يحصل به الترتيب (1) مع عدم فوات الموالاة،

______________________________

(1) المحتمل في المقام، بعد النظر في كلمات الأصحاب و النصوص وجوه ثلاثة.

الأول: الاقتصار علي إعادة ما يحصل به الترتيب، كما هو مقتضي إطلاق غير واحد، كالشرائع و القواعد و غيرهما، بل قد يستظهر من إطلاق وجوب الترتيب في الهداية و إشارة السبق و المراسم و الغنية و الوسيلة و غيرها، لأن مقتضاه الاكتفاء بحصوله بذلك، بل هو صريح المعتبر، و في الجواهر: «لا أجد فيه خلافا»، و عن محكي اللوامع الوفاق عليه.

و يقتضيه إطلاق الأدلة.

و توهم: أن مقتضي اعتبار الترتيب بطلان ما قدم و أخر معا، لوقوع كل منهما في غير محله.

مدفوع. أولا: بأن ظاهر أدلة الترتيب عرفا هو اعتبار المتقدم في المتأخر لا العكس، و لذا لو لم يؤت بالمتأخر أصلا صح المتقدم في غير الارتباطيين، كالظهر و العصر، و إنما يبطل في الارتباطيين لجهة أخري، كالإخلال بالموالاة في مورد اعتبارها.

و ثانيا: أن مقتضي اعتبار الترتيب بطلان المتأخر إذا قدم، كما لو وقع بالماء المضاف، فالمقدم المأتي به بعده واقع في محله. و احتمال مانعيته من إتمام العمل نظير الزيادة في الصلاة، مدفوع بالإطلاق. و لذا لا إشكال ظاهرا في الاجتزاء بالإتيان بالمتقدم مرة واحدة لو لم يأت به أصلا.

و يدل علي ذلك أيضا موثق ابن أبي يعفور المروي عن مستطرفات السرائر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا بدأت بيسارك قبل يمينك و مسحت رأسك و رجليك ثمَّ استيقنت بعد أنك بدأت بها غسلت يسارك ثمَّ مسحت رأسك

ص: 644

______________________________

و رجليك» «1»، و رواية منصور بن حازم عنه عليه السّلام: «ألا تري أنك إذا غسلت شمالك قبل يمينك كان عليك أن تعيد علي شمالك» «2».

الثاني: وجوب إعادة ما أخره مما حقه التقديم أيضا، فلو غسل اليسري قبل اليمني ثمَّ ذكر بعد غسل اليمني أعاد اليمني ثمَّ اليسري.

و قد نسب- فيما عن محكي المناهل- للمقنعة و النهاية و السرائر.

لكن الموجود في الأولين كالمقنع فيمن قدم اليسري علي اليمني مثلا أنه يغسل اليمني و يعيد اليسري، و تخصيص التعبير بالإعادة باليسري ظاهر في فرض عدم الإتيان باليمني رأسا، لا تأخيرها عكسا للترتيب الذي هو محل الكلام.

نعم، قد يستظهر ذلك من المبسوط، حيث قال: «و إن قدم شيئا من الأعضاء علي شي ء رجع فقدم ما أخر و أعاد علي ما بعده». فإن التعبير بتقديم ما أخر قد يظهر في فرض سبق الإتيان بما أخر، فتأمل.

كما أنه قد يظهر من الفقيه التخيير بينه و بين الوجه الأول أو التردد بينهما، لأنه بعد أن ذكر صحيح زرارة المتقدم في أول المسألة، قال: «و روي في حديث آخر فيمن بدأ بيساره قبل يمينه أنه يعيد علي يمينه ثمَّ يعيد علي يساره. و قد روي أنه يعيد علي يساره».

و كيف كان، فقد يستدل له بغير واحد من النصوص، كصحيحي زرارة و منصور المتقدمين في أول المسألة، و خبر علي الصائغ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «.

أ لا تري أنه لو بدأ بشماله قبل يمينه كان عليه أن يبدأ بيمينه ثمَّ يعيد علي شماله» «3»، و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن رجل توضأ فغسل يساره قبل يمينه، كيف يصنع؟ قال: يعيد الوضوء من حيث أخطأ: يغسل يمينه ثمَّ يساره ثمَّ يمسح رأسه و رجليه» «4»، و موثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إن

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 14.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب السعي حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 15.

ص: 645

______________________________

نسيت غسل وجهك فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك، ثمَّ اغسل ذراعيك بعد الوجه، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد علي غسل الأيمن ثمَّ اغسل اليسار، و إن نسيت مسح رأسك حتي تغسل رجليك فامسح رأسك ثمَّ اغسل رجليك» «1».

و فيه: أن ظاهر الصحيحين و خبر علي الصائغ صورة ترك المتقدم رأسا، لا الإتيان به علي خلاف الترتيب الذي هو محل الكلام، لعدم التعبير فيها بالإعادة إلا بالإضافة إلي المتأخر الذي قدم.

بل حيث يصدق غسل اليسار قبل اليمين بمجرد فعل اليسار، و لا يتوقف علي فعل اليمين بعدها، كان محققا لموضوع الأمر فيها بالبدء باليمين و غسلها، فلو فرض غسلها قبل التذكر فقد امتثل ذلك الأمر، فلا يجب عليه الإعادة بعد الالتفات.

و أما خبر علي بن جعفر، فالتعبير فيه بإعادة الوضوء من حيث أخطأ ظاهر في أن الإعادة لتدارك الخطأ العرفي المعهود، فلا بد فيه من فرض الخطأ باليمين بتركها، إما لأن المراد بالوضوء في السؤال الشروع فيه، أو المراد إكماله علي النقص و عدم غسل اليمين.

و أما فرض الخطأ في اليمين مع غسلها بعد اليسار، فهو غير عرفي، لما تقدم من أن الترتيب يقتضي بطلان ما قدم علي خلافه دون ما أخر، بل يبتني علي تعبد شرعي، لا ظهور للكلام فيه، فما ذكرناه إن لم يكن أظهر فلا أقل من كونه محتملا احتمالا لا يمنع من الاستدلال.

و أما موثق أبي بصير، فهو و إن عبر فيه بالإعادة بالإضافة إلي ما حقه التقديم الظاهر في فرض إيقاعه بعد فعل ما حقه التأخير، إلا أنه لا يناسب فرض النسيان فيه في الصدر و الذيل الظاهر في ترك ما حقه التقديم رأسا.

و ليس تنزيل النسيان علي نسيان المحل دون نسيان أصل الفعل بقرينة

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 646

______________________________

الحكم بالإعادة بأولي من تنزيل الإعادة علي إرادة الرجوع بلحاظ عبور محل المتروك، بل لعل الثاني أولي.

بل هو المتعين بلحاظ ما سبق في موثق ابن أبي يعفور و خبر منصور.

الثالث: وجوب إعادة الوضوء رأسا.

و قد يستدل له بإطلاق صحيح زرارة: «سئل أحدهما عليهم السّلام عن رجل بدأ بيده قبل وجهه و برجليه قبل يديه، قال: يبدأ بما بدأ اللّه به و ليعد ما كان» «1».

لكن الظاهر منه إعادة ما بدأ به مما أخره اللّه تعالي، لا إعادة تمام الوضوء.

نعم، في خبر علي بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الا تري أنه لو بدأ بشماله قبل يمينه في الوضوء أراد «2» أن يعيد الوضوء» «3».

إلا أنه لا ينهض برفع اليد عن النصوص الكثيرة المتقدمة و غيرها، الصريحة في عدم وجوب الاستئناف، فلا بد من تنزيله علي صورة فوت الموالاة.

و يناسبه ورود نظيره في الناسي لبعض الأعضاء رأسا، و لزوم الجمع بينه و بين ما تضمن الإتمام فيه مع الترتيب و عدم لزوم الاستئناف، بقرينة صحيح حكم بن حكيم المتقدم في الموالاة المتضمن تعليل وجوب الاستيناف بأن الوضوء يتبع بعضه بعضا، فإنه بعد تنزيله علي الاتباع بالمعني المنوط بالجفاف بقرينة بقية أدلة الموالاة يصلح لأن يكون شاهد جمع بين الطائفتين المذكورتين، فينفع فيما نحن فيه، لقرب إلغاء خصوصية المورد.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل بعد النظر في النصوص الواردة فيمن يعكس الترتيب و في الناسي لبعض الأعضاء رأسا و في نصوص الموالاة في التفصيل بين

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) هكذا في الكافي و الوافي و العلل في الطبعة الأولي و الوسائل في كتابي الطهارة و الحج. و عليه يكون.

ذلك من كلام الراوي اجتهادا منه في تفسير مراد الإمام عليه السّلام فلا ينهض بالاستدلال.

نعم، الموجود في العلل المطبوع في النجف الأشرف حديثا هكذا: «أراه أن يعيد الوضوء»، فيكون من كلام الإمام عليه السّلام فيصلح للاستدلال. لكن لا طريق لإحراز صحته في قبال النسخ السابقة.

(3) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 13.

ص: 647

و إلا استأنف (1). و كذا لو عكس عمدا (2)،

______________________________

صورتي فوت الموالاة فيستأنف، و عدمه فيتم وضوءه علي الترتيب، و هو المطابق لإطلاقات أدلة الوضوء، و عليه جري الأصحاب.

نعم، في التذكرة: «لو أخل بالترتيب ناسيا بطل وضوؤه. و لو كان عامدا أعاد مع الجفاف، و إلا علي ما يحصل معه الترتيب».

و لعل مفروض كلامه في النسيان ما لو التفت بعد الجفاف، و إلا كان خاليا عن الدليل، بل غريبا في نفسه، إذ من البعيد جدا كون النسيان أشد من العمد.

و أما ما في التحرير من إطلاق البطلان مع العمد، و التفصيل فيه في السهو بين الجفاف و عدمه، فيأتي الكلام في وجهه عند الكلام في حكم العامد.

(1) يظهر وجهه مما تقدم.

(2) كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب.

و يقتضيه إطلاق أدلة الوضوء بالوجه المتقدم، و إطلاق خبر منصور المتقدم، دون موثق ابن أبي يعفور، لظهور قوله عليه السّلام: «ثمَّ استيقنت» في وقوع ذلك منه سهوا.

نعم، أشرنا إلي أن العلامة في التحرير خص التفصيل بين الجفاف و عدمه بالسهو و أطلق الاستئناف مع العمد.

و لعله مبني علي مختاره في الموالاة من أنها المتابعة اختيارا و مراعاة الجفاف اضطرارا.

أو علي أنه مع العمد لا يقصد امتثال أمر الوضوء الشرعي، لاختصاصه بالترتيب، بل أمر آخر خطئي أو تشريعي.

أو علي الرجوع لما دل علي إطلاق وجوب الإعادة من دون تفصيل بين الجفاف و عدمه بعد حمله علي خصوص العامد، بقرينة موثق ابن أبي يعفور الذي عرفت اختصاصه بالناسي.

ص: 648

إلا أن يكون قد أتي بالجميع عن غير الأمر الشرعي، فيستأنف (1).

______________________________

و يشكل الأول: بضعف المبني المذكور، علي ما تقدم في مبحث الموالاة.

و الثاني: بأن تعمد مخالفة الترتيب لا يستلزم قصد أمر آخر غير أمر الوضوء الشرعي، لابتنائه غالبا علي الخطأ أو التشريع في نفس الأمر الشرعي مع قصد امتثاله.

نعم، مع الالتفات لحرمة التشريع يكون العمل عليه مبعدا لا يتأتي معه قصد التقرب، فإذا شرع في الوضوء بانيا علي مخالفة الترتيب يكون الشروع مقدمة إعدادية للتشريع، فيكون مبعدا، نظير ما تقدم في الوضوء التدريجي من الإناء المغصوب.

لكنه يختص بما إذا نوي ذلك حين الشروع، كما لا يجري مع الجهل بوجوب الترتيب.

و أما الثالث، فيندفع- بعد تسليم نهوض ما تقدم بوجوب الاستئناف- بأنه لا مجال لحمله علي العمد، بقرينة موثق ابن أبي يعفور، بعد كون الموثق مقيدا بأدلة الموالاة لكشفه عن تقدم أدلة الموالاة عليه، بل يلزم حمله علي صورة فوت الموالاة- كما تقدم- و لو لأنه مقتضي إطلاقات الوضوء الأولية.

(1) كما تقدم في الوجه الثاني للاستدلال، علي ما تقدم من التحرير، و تقدم لزوم الاستئناف أيضا لو كان الشروع مبنيا علي قصد مخالفة الترتيب تشريعا.

كما أنه يتعين لو كانت مخالفة الترتيب مأخوذة بنحو التقييد في امتثال الأمر الشرعي، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم. و له الحمد و المجد، و الصلاة و السلام علي محمد و آله محمد.

انتهي الكلام في فصل شروط الوضوء شرحا لكتاب منهاج الصالحين، ليلة الأربعاء السادس من شهر جمادي الآخرة سنة ألف و ثلاثمائة و سبع و تسعين

ص: 649

______________________________

للهجرة، في النجف الأشرف علي مشرفه أفضل الصلاة و السلام، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة حجة الإسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته. و منه سبحانه نستمد العون و التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل. و نسأله سبحانه و تعالي أن يتقبله بقبول حسن و يجعله مورد نفع لنا و لإخواننا المؤمنين من طلبة علوم أهل البيت عليهم السّلام، إنه ولي التوفيق.

كما انتهي تبييضه بعد تدريسه ضحي السبت التاسع من الشهر المذكور بقلم مؤلفه الفقير في النجف الأشرف حامدا مصليا مسلما، راجيا راغبا راهبا. و اللّه ولي التسديد و التوفيق.

ص: 650

المجلد 3

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

تتمة كتاب الطهارة

تتمة المبحث الثالث

الفصل الرابع في أحكام الخلل
اشارة

الفصل الرابع في أحكام الخلل

مسألة 75 من تيقن الحدث و شك في الطهارة تطهر

مسألة 75: من تيقن الحدث (1) و شك في الطهارة تطهر (2)، و كذا لو ظن الطهارة (3)

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام علي سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين

(1) و كذا لو أحرزه بأمارة أو أصل، لما هو المتسالم عليه ظاهرا من جريان استصحاب مؤدي الأمارة و الأصل. و أوضح وجهه في محله.

(2) إجماعا، كما في المعتبر و المنتهي و كشف اللثام و غيرها، بل في المدارك: أنّه إجماعي بين المسلمين، و يقتضيه عموم أدلة الاستصحاب، و لولاه لكان اللازم الرجوع في كل حكم من أحكام الطهارة و الحدث للأصل الجاري فيه.

ففيما إذا كانت الطهارة شرطا في المكلف به أو الحدث مانعا منه، كالصلاة، يكون مقتضي أصالة الاشتغال فيه لزوم إحراز الطهارة أو عدم الحدث، لعدم إحراز الفراغ عنه بدون ذلك.

و فيما إذا كان الحدث شرطا في التكليف، كحرمة مس الكتاب، يكون مقتضي أصالة البراءة عدم الاعتناء باحتمال التكليف مع احتمال الحدث، فلا ملزم بالطهارة.

(3) كما صرح به غير واحد، لعموم أدلة الاستصحاب، لظهور أن المراد

ص: 7

ظنا غير معتبر شرعا (1)، و لو تيقن الطهارة و شك في الحدث بني علي الطهارة (2)

______________________________

بالشك فيها ما يقابل اليقين، لمقابلته به فيها، و ورود بعضها في مورد الظن بانتقاض الحالة السابقة، و لأنه معناه لغة و عرفا، كما صرح به جماعة من اللغويين و تشهد به الاستعمالات الكثيرة.

و تخصيصه بتساوي الطرفين اصطلاح متأخر علي الظاهر.

مضافا إلي اشتمالها علي حصر الناقض لليقين باليقين. و تفصيل ذلك في الأصول.

و منه يظهر ضعف ما عن بعض المتأخرين من الإشكال في ذلك بأن الحكم بعدم نقض اليقين بالشك دال بالمفهوم علي جواز نقضه بالظن، و هو الذي قد يظهر من الشيخ قدّس سرّه في النهاية، حيث ذكر أن من شك في الوضوء و الطهارة و تساوت ظنونه وجب عليه الطهارة، إذ قد يظهر في عدم وجوبها لو كان احتمال وجودها أرجح.

فيتعين حمل ما ذكره بعد ذلك من وجوب الطهارة علي من شك فيها بعد اليقين بالحدث علي غير صورة الظن بها.

اللهم إلا أن يكون مراده من العمل بظن الطهارة ما إذا لم يسبق باليقين بالحدث، و إن كان الفرض المذكور بعيدا أو ممتنعا عادة، فيخرج عما نحن فيه، و إن كان في غير محله أيضا، لعدم الدليل علي حجية الظن.

(1) أما لو كان معتبرا فيلزم رفع اليد عن الاستصحاب به بلا إشكال ظاهر، و إنما الإشكال في وجهه، و إن كان الظاهر أنه يبتني علي وروده عليه بنحو من أنحاء الورود، علي ما ذكرناه في محله.

(2) إجماعا، كما في الخلاف و المعتبر و المنتهي و غيرها.

و يقتضيه- مضافا إلي عمومات الاستصحاب- النصوص الكثيرة، كصحيح

ص: 8

و إن ظن الحدث (1) ظنا غير معتبر شرعا.

______________________________

زرارة الوارد فيمن شك في النوم، و فيه: «قلت: فإن حرك علي جنبه شي ء و لم يعلم به؟ قال: لا، حتي يستيقن أنه قد نام، حتي يجي ء من ذلك أمر بيّن.» «1».

و موثق بكير: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا استيقنت أنك قد أحدثت فتوضأ، و إياك أن تحدث وضوءا أبدا حتي تستيقن أنك قد أحدثت» «2».

و صحيح عبد الرحمن: «أنه قال للصادق عليه السّلام: أجد الريح في بطني حتي أظن أنها قد خرجت، فقال: ليس عليك وضوء حتي تسمع الصوت أو تجد الريح» «3»، و غيرها.

و أما ما في خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن رجل يكون علي وضوء، فيشك علي وضوء هو أم لا. قال: إذا ذكر و هو في صلاته انصرف فتوضأ و أعادها، و إن ذكر و قد فرغ من صلاته أجزأه ذلك» «4»، فلا مجال للخروج به عما سبق، بل لا بد من طرحه، أو حمله علي الشك الساري، و أما حمله علي الاستحباب فهو لا يناسب النصوص السابقة، و لا سيما موثق بكير.

نعم، يخرج عن ذلك ما لو استند الشك لخروج البلل المشتبه قبل الاستبراء، كما تقدم في الفصل الرابع من أحكام الخلوة.

(1) كما صرح به غير واحد، خلافا لابن حمزة في الوسيلة، فأوجب الطهارة مع ظن الحدث.

و للبهائي في الحبل المتين، حيث ذكر أن المدار في العمل باستصحاب الطهارة علي الظن ببقائها، و ربما يكون مراده ذلك في استصحاب الحدث أيضا،

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 44 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 9

مسألة 76 إذا تيقن الحدث و الطهارة و شك في المتقدم و المتأخر

مسألة 76: إذا تيقن الحدث و الطهارة و شك في المتقدم و المتأخر، فإن علم تأريخ الطهارة لم يلتفت و بني علي الطهارة (1).

______________________________

لظهور كلامه في أنّ منشأ ذلك ابتناء حجية الاستصحاب علي إفادته الظن.

و كيف كان، فلا مجال لذلك بالنظر لما تقدم من عموم أدلة الاستصحاب للظن بانتقاض الحالة السابقة، فضلا عن عدم الظن ببقائها، بل النصوص المتقدمة و غيرها صريحة في عدم الاعتداد بظن الحدث في قبال استصحاب الطهارة- الذي هو مورد كلامهما- و لذا حكي الرجوع لاستصحاب الطهارة فيه عمن تقدم منه الإشكال في الرجوع لاستصحاب الحدث مع ظن الطهارة.

(1) كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في أصوله و بعض من تأخر عنه، لاستصحاب الطهارة غير المعارض باستصحاب الحدث، للجهل بتأريخه، علي ما أوضحناه في مبحث الاستصحاب من الأصول بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.

خلافا لظاهر المشهور- كما قيل- حيث أطلقوا وجوب الطهارة مع الجهل بالمتقدم من الحدث و الطهارة، من دون تفصيل بين العلم بتأريخ أحدهما و عدمه، للوجه الآتي.

لكن لا يبعد انصراف كلامهم لصورة الجهل بتأريخهما معا و دخول صورة العلم بتأريخ الطهارة في فرض الشك في طروء الحدث، الذي تقدم منهم البناء فيه علي الطهارة، لأن فرض الجهل بتقدم كل منهما منصرف لفرض الجهل بتاريخهما معا، أما مع فرض العلم بتأريخ أحدهما فالأنسب التعبير بالجهل بتقدم الآخر و تأخره لا غير، لكن ظاهر الجواهر إرادتهم بالإطلاق المذكور ما يعم ذلك.

و قد يستدل عليه بإطلاق ما تضمن وجوب الوضوء عند اليقين بالحدث من النصوص المتقدمة و غيرها، المعتضدة بإطلاق الرضوي: «و إن كنت علي يقين من الوضوء و الحدث و لا تدري أيهما أسبق فتوضأ» «1».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 38 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 10

______________________________

و بإطلاق وجوب الوضوء لغاياته، خرج منه من علم بتطهره، و بقي الباقي.

و بإطلاق سببية الأحداث للوضوء، حيث يجب بمقتضاه الوضوء عقيب الحدث المتيقن، و المفروض عدم إحراز الوضوء عقيبه.

و يندفع الأول: بأن النصوص المذكورة غير مسوقة لبيان وجوب الوضوء تعبدا، كوجوب الكفارة بأسبابها، لتشمل ما نحن فيه، بل لأجل رافعيته للحدث و سببيته للطهارة.

كما أنها ليست واردة لبيان وجوب الوضوء ظاهرا بمجرد اليقين بسبق الحدث و إلغاء احتمال ارتفاعه، لأنها مسوقة للتعبد ببقاء الطهارة عند الشك دون العكس، بل هي واردة مورد المفروغية عن رفع الوضوء للحدث المتيقن، فلا تنهض بإثبات وجوب الوضوء في فرض احتمال ارتفاع الحدث و فعلية الطهارة، فضلا عما لو أحرز عدم الحدث بالاستصحاب، كما ذكرنا، و لا سيما مع تضمن بعض النصوص المذكورة الإشارة إلي كبري الاستصحاب.

و الرضوي- مع عدم صلوحه للاستدلال- منصرف لصورة الجهل بالتأريخين معا، لما تقدم في وجه انصراف إطلاق الأصحاب، و لا سيما مع التعرض في صدره و ذيله لتطبيق كبري الاستصحاب عند الشك في الحدث و اليقين بالوضوء، بنحو يظهر منه عدم الخروج عنها في الفقرة المذكورة. فراجع.

و الثاني: بأن الخارج عن العموم هو المتطهر واقعا، لا من علم بالطهارة، فالتمسك به مع الشك فيها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص، الذي لا يصح علي المشهور المنصور.

بل لما كان مرجع أدلة وجوب الوضوء للغايات هو اعتبار الطهارة فيها لكونه سببا لها، كان موضوعه المحدث، فالتمسك به مع الشك فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي لا يصح بلا كلام.

مع أن مقتضي استصحاب الطهارة عدم تحقق موضوع الوضوء.

و منه يظهر الجواب عن الثالث، فإنه إذا كان وجوب الوضوء عقيب الأسباب

ص: 11

و إن علم تأريخ الحدث، أو جهل تأريخهما جميعا تطهر (1).

______________________________

لأجل رفعه للحدث المسبب عنها، كان استصحاب الطهارة محرزا لعدم موضوع الوضوء كي تجري قاعدة الاشتغال به.

هذا، و عن بعض متأخري المتأخرين منهم السيد الطباطبائي في منظومته أنه مع العلم بتاريخ أحد الحادثين يحكم بتأخر المجهول منهما طهارة كان أو حدثا.

و فيه: أن الأصل إنما يقتضي عدم تحقق المجهول إلي حين تحقق المعلوم، و لا يحرز عنوان تأخره عنه، فلا مخرج عما ذكرنا.

(1) أما مع العلم بتأريخ الحدث، فلاستصحابه غير المعارض باستصحاب الطهارة، للجهل بتأريخها، كما سبق في نظيره.

و أما مع الجهل بالتأريخين، فهو المتيقن من إطلاقهم وجوب الطهارة مع الجهل بالمتقدم منها و من الحدث، كما في المقنع و المقنعة و التهذيب و النهاية و المبسوط و إشارة السبق و المراسم و الوسيلة و الشرائع و المنتهي و اللمعة، و عن المهذب و السرائر و الذكري و غيرها، بل في المنتهي و الروضة و عن جماعة أنه المشهور، و في كشف اللثام و عن التذكرة نسبته إلي أكثر علمائنا، و عن الذكري نسبته للأصحاب، و في جامع المقاصد نسبته لمتقدميهم.

لقاعدة الاشتغال بعد عدم الرجوع للاستصحاب، إما لعدم جريانه ذاتا في مجهولي التاريخ- كما عرفت- أو لسقوطه فيهما بالمعارضة، كما عن المشهور، و إن لم يتضح حال النسبة، لعدم تعرض كثير منهم للاستصحاب، و إنما عللوا بلزوم إحراز الطهارة.

نعم، أشرنا آنفا إلي أن قاعدة الاشتغال إنما تجري في مورد تكون الطهارة أو عدم الحدث قيدا في المكلف به، كما هو مقتضي. ما ذكره غير واحد من لزوم إحراز الصلاة عن طهارة، و أما لو كان الحدث قيدا في

ص: 12

______________________________

التكليف- كحرمة مس المصحف- فمقتضي الأصل البراءة من التكليف، و لا ملزم بالطهارة.

هذا، و في المعتبر و جامع المقاصد و عن حاشية الشرائع اختصاص ذلك بما إذا لم يعلم الحال المتقدم عليهما، و إلّا أخذ بضده، بدعوي رجوعه لليقين بذلك الضد و الشك في انتقاضه، للعلم بانتقاض الحال السابق بثبوت الضد، فيستصحب، و لا يعارض باستصحاب الحال السابق، للعلم بانتقاضه، و لا باستصحاب مثله للشك في ثبوته، لاحتمال كون ما علم من سبب المجانس للحال السابق واردا عليه قبل انتقاضه.

و فيه- بعد تسليم جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ-: أنه لا دخل لخصوصية الاتحاد مع الحال السابق و المماثلة له في موضوع الأثر، ليتعذر استصحاب السنخ بسبب عدم تمامية ركني الاستصحاب في كل منهما، بل موضوعه سنخ الحال- من الطهارة أو الحدث- من حيث هو، فلا مانع من استصحابه من حين حدوث سببه المعلوم، للعلم بوجوده و الشك في انتقاضه، فيعارض استصحاب الضد.

و تمام الكلام فيه في مبحث الاستصحاب من الأصول.

و عن العلّامة قدّس سرّه استصحاب نفس الحالة السابقة علي الحالتين المعلومتين، و هو بظاهره ظاهر الضعف، إذ لا معني لاستصحابها مع العلم بانتقاضها.

لكن ظاهر ما ذكره في غير واحد من كتبه هو فرض كون الحدث ناقضا لطهارة، و الطهارة رافعة لحدث، فيخرج عن الشك- الذي هو محل الكلام- إلي القطع بثبوت مثل الحالة السابقة، فلا استصحاب، كما حكي عن بعض تصريحاته.

إلا أن يفرض احتمال طروء الناقض للحالة الأخيرة منهما، كما قد يظهر من محكي المختلف.

لكن لا مجال حينئذ لعدّه من استصحاب الحالة السابقة علي الحالتين

ص: 13

مسألة 77 إذا شك في الطهارة بعد الصلاة أو غيرها مما يعتبر فيه الطهارة بني علي صحة العمل

مسألة 77: إذا شك في الطهارة بعد الصلاة أو غيرها مما يعتبر فيه الطهارة بني علي صحة العمل (1)، و تطهر لما يأتي (2).

______________________________

المعلومتين، بل هو من استصحاب مثلها الحادث بعد نقضها، و يدخل في المسألة السابقة المفروض فيها الشك في الطهارة بعد يقين الحدث، أو في الحدث بعد يقين الطهارة، التي عرفت عدم الإشكال في جريان الاستصحاب فيها.

(1) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك الذي مضي محله، المعول عليها عند الأصحاب، و التي يرجع إليها- علي الظاهر- كل من قاعدتي الفراغ و التجاوز المذكورتين في كلام بعضهم.

و يشهد بها النصوص الكثيرة العامة و الخاصة، ففي موثق محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «كلما شككت فيه مما قد مضي فامضه كما هو» «1».

و في صحيحه: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة. قال: يمض [يمضي. يب] علي صلاته و لا يعيد» «2»، و نحوه خبر علي ابن جعفر المتقدم، بناء علي حمله علي الشك الساري.

(2) لاستصحاب الحدث، أو قاعدة الاشتغال به- لو فرض عدم جريان الاستصحاب للجهل بالتأريخ أو نحوه- بعد عدم جريان القاعدة المتقدمة بالإضافة لما يأتي، لعدم مضيه.

و دعوي: أنه بناء علي ما لعله الظاهر من كون القاعدة تعبدية بل إحرازية فجريانها في الصلاة السابقة يقتضي التعبد بالطهارة و إحرازها، و مع إحرازها يتعين جواز الدخول في بقية الغايات.

مدفوعة: بأن كونها إحرازية إنما يقتضي إحراز الطهارة بالإضافة للجهة التي يصدق مضي محل الشك بلحاظها، و هي صحة العمل المشروط بها المفروض

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 14

من دون فرق بين تقدم منشأ الشك علي العمل، بحيث لو التفت إليه قبل العمل لشك (1)، و غيره، و إن كان الأحوط استحبابا في الأول الإعادة.

______________________________

مضيه، لا مطلقا و من جميع الجهات، ليمكن إحراز تمام الطهارة، و منها جواز الدخول فيما يأتي، بضميمة الملازمة الشرعية بين وجود الطهارة و بقائها، علي ما يذكر مفصلا عند الكلام في القاعدة المذكورة.

و مما ذكرنا يظهر أنه لا ينفع في جواز الدخول في الغايات اللاحقة دعوي:

أن الصلاة و نحوها مترتبة علي الوضوء، فبالدخول فيها يحرز الوضوء الذي هو شرط في الصلاة الآتية و نحوها، إذ لو تمت الدعوي المذكورة فالترتب بين الصلاة و الوضوء- مثلا- إنما هو بلحاظ شرطيته فيها، لا لأنه مشرع قبلها ذاتا- نظير تشريع صلاة الظهر قبل العصر- و الشرطية المذكورة إنما تقتضي كون الدخول في الصلاة محرزا للوضوء لها من حيثية شرطيته فيها، لا مطلقا، لينفع في الدخول في غيرها.

علي أن الدعوي المذكورة غير تامة في نفسها، لأن الترتب بين الوضوء و الصلاة ليس شرعيا، بل عقليا، بلحاظ أخذ الطهارة المسببة عن الوضوء شرطا في الصلاة، كما هو مقتضي الجمع بين ما تضمن الأمر به و ما تضمن شرطية الطهارة.

(1) فيكون عدم الشك للغفلة عن منشئه، لا لعدم تحقق منشئه بحيث يحتمل القصد لتتميم العمل و التحفظ من جهة الشك حين الانشغال به.

و الظاهر أنه قدّس سرّه أشار بذلك للقول بعدم جريان القاعدة في فرض الغفلة عن منشأ الشك، بحيث لو حصل المشكوك لكان حصوله اتفاقيا، لا بمقتضي القصد الارتكازي التابع لكون المكلف في مقام الامتثال، كما لو فرض غفلة المكلف عن اعتبار الطهارة في الصلاة، و احتمل بعد الصلاة حصول الطهارة حينها اتفاقا و بلا قصد.

و قد يوجه بابتناء القاعدة علي الجري علي ظهور حال الممتثل في

ص: 15

مسألة 78 إذا شك في الطهارة في أثناء الصلاة مثلا قطعها و تطهر

مسألة 78: إذا شك في الطهارة في أثناء الصلاة مثلا قطعها و تطهر (1)،

______________________________

المحافظة علي تمام ما هو الدخيل في الامتثال، و هو لا يتم في فرض الغفلة.

مضافا للتعليل في بعض النصوص بأنه حين العمل أذكر منه حين يشك «1»، و بأنه حين الفراغ أقرب إلي الحق منه بعد ذلك «2».

لكن لا طريق لإحراز ابتناء القاعدة علي ملاحظة الظهور المذكور، ليتعين تنزيل عموم أدلتها عليه علي مورده، بل قد يبتني علي مصلحة التسهيل و الإرفاق بالمكلفين، لأن الاعتناء بالشكوك المتجددة التي مضي محلها منشأ للضيق و الحرج، إذ البعد عن الشي ء موجب لكثرة الشك فيه.

كما لا مجال لتخصيص العموم المذكور بالتعليل المشار إليه، لعدم ظهور دليله في التعليل بالعلة المنحصرة التي يدور الحكم مدارها وجودا و عدما، فلا مخرج عن العموم.

و لا سيما بملاحظة صحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخاتم إذا اغتسلت. قال: حوّله من مكانه. و قال في الوضوء: تدره، فإن نسيت فلا آمرك أن تعيد الصلاة» «3»، لوضوح أن وصول الماء لما تحت الخاتم مع نسيان إدارته اتفاقي لا يستند لقصد المتوضئ الارتكازي.

و قد فصلنا الكلام في ذلك عند الكلام في القاعدة، في خاتمة الاستصحاب من الأصول.

(1) يظهر وجهه مما تقدم، من أن جريان القاعدة مع الشك في الشرط بلحاظ مضيه تبعا للمشروط إنما يقتضي إحرازه من حيثية المشروط الذي مضي،

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 16

و استأنف الصلاة (1).

مسألة 79 لو تيقن الإخلال بغسل عضو أو مسحه أتي به

مسألة 79: لو تيقن الإخلال بغسل عضو أو مسحه أتي به (2)

______________________________

لا مطلقا بلحاظ جميع الآثار، فلا محرز للطهارة بالإضافة لبقية أجزاء الصلاة، بل مقتضي استصحاب الحدث أو قاعدة الاشتغال بالطهارة لزوم إحراز الطهارة لها.

نعم، بناء علي أن الشرطية تقتضي الترتب بين الوضوء و تمام الصلاة، فالدخول في الصلاة يحرز الوضوء لها بتمامها، المقتضي لجواز إكمالها، نظير ما لو شك في الأذان و الإقامة بعد الدخول في الصلاة.

لكن عرفت عدم تمامية ذلك، و أن الشرط في تمام الصلاة هو الطهارة حينها، و الترتب بينها و بين الوضوء عقلي لا شرعي.

(1) هذا ظاهر، بناء علي ما هو المعروف- علي الظاهر- من أن الشرط في تمام الصلاة هو استمرار الطهارة من أولها لآخرها، حتي في الأكوان المتخللة بين الأجزاء، المستلزم لكون الحدث قاطعا لها، لعدم المحرز للطهارة حال الشك، لعدم مضيه، و يعضده خبر علي بن جعفر المتقدم في المسألة الخامسة و السبعين، بناء علي حمله علي الشك الساري.

نعم، لو فرض اليقين بالطهارة في الحال المذكور، لتجديد الطهارة في أثناء الصلاة قبل تحقق الشك المذكور، اتجه عدم الاستئناف، لمضي محل الشك.

و كذا بناء علي أن المعتبر هو الطهارة في خصوص حال الانشغال بالأجزاء دون الأكوان المتخللة بينها، إذ يكفي حينئذ الطهارة لما يأتي.

نعم، لا مجال للتقرب بالطهارة بلحاظ الأمر بالإتمام، إما لتحقق الطهارة سابقا، أو لعدم مشروعية الإتمام، لبطلان ما مضي، بمقتضي الارتباطية، بل لا بد من التقرب بلحاظ أمر آخر، كالكون علي الطهارة.

(2) إجماعا محصلا و منقولا، كذا في الجواهر.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاقات الوضوء- غير واحد من النصوص، ففي

ص: 17

و بما بعده، مراعيا للترتيب (1)، و الموالاة (2)،

______________________________

صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «و إن تيقنت أنك لم تتم وضوءك، فأعد علي ما تركت يقينا حتي تأتي علي الوضوء» «1»، و نحوه غيره.

(1) و هو مذهب أهل البيت، كما عن الذكري، و إجماعي، كما عن شرح المفاتيح، و عن التذكرة نفي الخلاف فيه.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاقات الترتيب، المعتضدة بما تضمن وجوب تداركه عند عكسه- غير واحد من النصوص الواردة في ناسي بعض الأعضاء، ففي موثق زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: و إن نسي شيئا من الوضوء المفروض، فعليه أن يبدأ بما نسي و يعيد ما بقي، لتمام الوضوء» «2»، و نحوه غيره.

نعم، تقدم عند الكلام فيمن عكس الترتيب بعض النصوص الموهمة لخلاف ذلك، و الجواب عنها- كما تقدم هناك أيضا عن ابن الجنيد- سقوط الترتيب لو كان المتروك دون الدرهم، و تقدم ضعفه.

(2) و هو مذهب أهل البيت، كما عن الذكري، و إجماعي، كما عن شرح المفاتيح.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق بعض أدلة الموالاة- صحيح حكم بن حكيم:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمن نسي من الوضوء الذراع و الرأس. قال: يعيد الوضوء، إن الوضوء يتبع بعضه بعضا» «3» بعد تنزيل الاتباع علي ما يساوق عدم الجفاف، كما سبق عند الكلام في الموالاة.

و عليه ينزّل موثق سماعة عنه عليه السّلام: «قال: من نسي مسح رأسه أو قدميه أو شيئا من الوضوء الذي ذكره اللّه تعالي في القرآن، كان عليه إعادة الوضوء

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 33 من أبواب الوضوء حديث: 6.

ص: 18

و غيرهما من الشرائط (1)، و كذا لو شك في فعل من أفعال الوضوء قبل الفراغ منه (2)،

______________________________

و الصلاة» «1»، كما هو المناسب لفرض إعادة الوضوء فيه.

نعم، المعيار في الموالاة في سائر الأعضاء علي جفاف تمام أعضاء الوضوء.

أما في نسيان المسح فيكفي فيها بقاء البلل في مسترسل اللحية الخارج عن الحد، مع عدم وجوب غسل باطنها في الحد فضلا عن خارجه، كما تقدم.

(1) لعموم أدلتها الشامل لحال النسيان.

(2) كما هو المصرح به في جملة من كتب الأصحاب القدماء منهم و المتأخرين، كالهداية و الفقيه و المقنعة و النهاية و المبسوط و التهذيب و الغنية و المراسم و إشارة السبق و الوسيلة و المعتبر و الشرائع و النافع و المنتهي و القواعد و الإرشاد و اللمعتين و الروض، و ظاهر الكليني في الكافي، و عن المهذب و السرائر و الجامع و الكافي لأبي الصلاح و الدروس و الذكري و غيرها.

و نسبه في الرياض لظاهر الأصحاب، و استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، و في كشف اللثام الإجماع عليه، بل جزم بالأول في المدارك و المفاتيح و محكي الذخيرة، و بالثاني في المستند و محكي شرحي الدروس و المفاتيح، بل في الأخير حكاية دعواه عن جماعة، و في مصباح الفقيه دعوي استفاضة نقله.

نعم، قال الصدوق في المقنع: «و إن شككت بعد ما صليت فلم تدر توضأت أم لا، فلا تعد الوضوء و لا الصلاة. و متي شككت في شي ء و أنت في حال أخري فامض و لا تلتفت إلي الشك». و إطلاق ذيله ينافي ذلك، و إن لم يبعد تنزيله علي الشك بعد الانتقال من الوضوء، تأكيدا لما في الصدر، و لا سيما بعد ما عرفت منه و من غيره.

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 19

______________________________

و يدل علي ما ذكره الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا كنت قاعدا علي وضوئك فلم تدر أ غسلت ذراعيك أم لا، فأعد عليهما و علي جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه مما سمي اللّه ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء و فرغت منه و قد صرت في حال أخري في الصلاة أو في غيرها، فشككت في بعض ما سمي اللّه مما أوجب اللّه عليك فيه وضوء، لا شي ء عليك فيه» «1».

و به ترفع اليد عن عموم قاعدة عدم الاعتناء بالشك الذي مضي محله، حيث تقتضي عدم الاعتناء بالشك في الشي ء بعد الدخول فيما يترتب عليه مما يتحقق معه مضي محله، الذي هو مفاد قاعدة التجاوز عندهم.

و من ثمَّ قيل بعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء للصحيح المذكور.

و أما دعوي: قصور العموم المذكور عن الشك في أثناء العمل، و أن ما دل عليه مختص بأجزاء الصلاة فلا يحتاج للصحيح المذكور، كما ذكره الفقيه الهمداني و بعض الأعاظم، و يناسبه استدلال بعض الأصحاب في المقام بأصالة عدم الإتيان بالمشكوك و عدم الخروج عن يقين الحدث إلا بيقين، لظهوره في موافقة الصحيح للقواعد.

فهي ممنوعة، لعموم أدلة القاعدة، علي ما ذكرنا عند الكلام فيها.

فالعمدة في الخروج عنها هو الصحيح المذكور.

لكن قد ينافيه موثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكك بشي ء، إنما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه» «2»، لظهور ضمير «غيره» في الرجوع ل «شي ء» - الذي هو البعض، بمقتضي ظهور «من» في التبعيض- لأنه المتبوع دون الوضوء، و إن كان أقرب، لأن جهة المتبوعية و التابعية أولي بالملاحظة عرفا من جهة القرب و البعد، كما ذكره

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 20

______________________________

سيدنا المصنف قدّس سرّه.

بل لا ينبغي التأمل فيه بملاحظة الذيل الظاهر في اعتبار عدم التجاوز عن نفس المشكوك- كما تضمنته أدلة القاعدة الأخر- فإنّ مقتضي المقابلة كون فرض الدخول في الغير- في الصدر- لكونه المحقق للتجاوز عن المشكوك و هو إنما يكون مع رجوع الضمير للشي ء لا للوضوء.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن المقابلة بالذيل تعين رجوع الضمير للوضوء، حيث تضمن فرض المكلف في شي ء لم يجزه، لظهوره في فرض الشي ء ذا أجزاء، قد انشغل به المكلف و لم يفرغ منه. و حمله علي كونه في محل الشي ء لا فيه نفسه مخالف للظاهر، فيكشف عن أن المراد في الصدر من الدخول في الغير هو فرض الفراغ عن الشي ء، الذي ينطبق علي الوضوء، لا علي الجزء المشكوك فيه منه.

ففيه: أن حمل الذيل علي ما ذكره قدّس سرّه مستلزم للاستغناء عن قوله عليه السّلام: «لم تجزه» و حمله علي التأكيد لجملة الشرط، لا التقييد للشي ء، و مساق الكلام آب عن ذلك جدا.

فلا بد من حمل فرض المكلف في الشي ء علي كونه فيه من حيثية كونه شاكا، لكونه متعلقا لشكه، فكأنه قال: إذا كنت شاكا في شي ء لم تجزه، في مقابل ما فرض في الصدر من كون الشك في الشي ء بعد التجاوز عنه و الدخول في غيره.

و تضمين الشرطية للشك ليس غريبا بعد تكراره في الكلام و التصريح به في الشرطية الأولي، إذ هو يشبه لازم ما ذكره من حذف متعلق الشك في الذيل و الاعتماد علي الصدر في بيانه، و أنه جزء الأمر الذي انشغل به، بل سوق الذيل لقلب ظهور الصدر محتاج إلي عناية خاصة لا يناسبها البيان المذكور، الظاهر في تقرير الصدر و تأكيده.

و بالجملة: لا يصلح الذيل للخروج به عن ظاهر الصدر الذي ذكرناه.

و منه يظهر ضعف الاستدلال بالموثق علي المدعي في المقام، كما يظهر

ص: 21

______________________________

من بعضهم.

و لذا قد يدعي أن مقتضي الجمع بينه و بين الصحيح حمل الصحيح علي الاستحباب، أو تخصيصه بالموثق، بحمله علي عدم الدخول في الجزء اللاحق.

لكن من الظاهر أن الاستحباب في المقام طريقي، بلحاظ حسن الاحتياط، و هو مما لا يناسبه صدر الصحيح و ذيله، بل لا يناسبه الموثق، حيث قد تضمن ضرب القاعدة العامة التي تعرضت لها النصوص الكثيرة الظاهرة في الردع عن الاحتياط.

و أبعد منه تخصيص الصحيح بالموثق، لقوة ظهوره في العموم، و لا سيما بملاحظة ذيله المصرح فيه بمفهوم الصدر، لقوة ظهورهما في دوران الالتفات للشك و عدمه مدار الانشغال بالوضوء و عدمه.

علي أنه ليس بأولي من تخصيص الموثق بالصحيح، بحمله علي صورة الفراغ عن الوضوء، بل الثاني أولي، لأنه محض تخصيص في عنوان الدخول في الغير، أما تخصيص الصحيح فهو راجع لإلغاء خصوصية عنوان الانشغال بالوضوء و الفراغ منه في الصدر و الذيل.

و إن كان الظاهر أنه لا مجال له أيضا، لصعوبة تنزيل الموثق عليه جدا، فليس هو جمعا عرفيا.

فلعل الأولي تنزيل الموثق علي الشك في الوضوء بعد الفراغ منه، لا بإرجاع الضمير للوضوء، فإنه بعيد أيضا، لما تقدم، بل بحمل التبعيض في قوله عليه السّلام: «من الوضوء» علي التبعيض بلحاظ الوحدة النوعية، الذي يكون البعض فيه فردا من الكلي- و الذي إليه ترجع «من» البيانية عندهم- لا بلحاظ الوحدة الاعتبارية، الذي يكون البعض فيه جزءا من الكل، فيراد من «الشي ء» فرد من الوضوء، لا بعض منه، و يكون المراد من الصدر عدم الالتفات للشك في الوضوء بعد الفراغ منه، الذي هو مفاد ذيل الصحيح من دون أن ينافي صدره.

نعم، مقتضي عموم مفهوم الحصر في ذيل الموثق هو عدم الاعتناء بالشك

ص: 22

______________________________

في جزء الوضوء مع التجاوز عنه و الدخول في الجزء المترتب عليه، فيسهل تخصيصه بالصحيح كما خصص به جميع عمومات القاعدة، أو يحمل الشي ء في الذيل علي الفرد من الوضوء، لا علي ما يعم جزءه.

و لا ريب في أن الجمع المذكور أقرب من غيره، لكن في كونه جمعا عرفيا إشكال، و إن لم يكن بعيدا.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في العمل بالصحيح، لأنه أقوي دلالة من الموثق، لعدم تأتي مثل هذا الاحتمال فيه.

مضافا إلي أنه أشهر رواية بين الأصحاب و أقوي سندا، مع تسالم الأصحاب علي العمل به، حيث يبعد جدا خفاء الحال في مثل هذه المسألة مما يكثر الابتلاء به.

بقي في المقام أمور.

الأول: أنه لا ينبغي التأمل في عموم وجوب الاعتناء بالشك قبل الفراغ من الوضوء لما إذا شك في غسل بعض العضو، و إن تجاوزه بالدخول في الجزء المتأخر عنه منه أو في العضو اللاحق، بل ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه الإجماع علي عدم الفصل بين الشك في تمام العضو و بعضه، لعموم قوله عليه السّلام في الصحيح:

«فأعد عليهما و علي جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه مما سمي اللّه»، و لا ملزم بحمله علي خصوص الأعضاء التامة، فإن بعض العضو و إن لم يسمه اللّه تعالي، إلا أنه مما سماه. فتأمل.

علي أن عدم غسل أو مسح ما سمي اللّه تعالي يصدق بعدم غسل بعضه أو مسحه، فيجب الإعادة عليه، و يكتفي بإتمامه، للقطع معه بغسله أو مسحه، لوضوح أن وجوب الإعادة طريقي لإحراز ذلك.

الثاني: هل يلحق الشك في الشرط- كالموالاة و الترتيب و إطلاق الماء- بالشك في الجزء في وجوب الاعتناء به إذا كان قبل الفراغ من الوضوء، أو لا، بل لا يعتني به بعد مضي محله، للفراغ من غسل العضو الذي هو مورد الشك؟

ص: 23

______________________________

و الأول هو مقتضي إطلاق الشك في الوضوء أو في واجباته، كما في النهاية و الوسيلة و إشارة السبق و الغنية و المراسم، بل هو كالظاهر فيه مما في المبسوط و اللمعة، لتضمنهما عطف الشك في شي ء منه عليه. بل هو صريح المقنعة و التهذيب، لاقتصاره في المقنعة علي الشك في مخالفة الترتيب، و استدلاله عليه في التهذيب بالنصوص، و به صرح جملة من المتأخرين.

كما أن مقتضي الاقتصار في كلام جماعة علي الشك في شي ء من الوضوء هو الثاني، و هو المناسب، لعموم قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، المقتصر في الخروج عنها علي مورد الصحيح، و هو الشك في الجزء من الغسل أو المسح.

فلا بد في التعميم للشرط إما من حمل الغسل و المسح في الصحيح علي خصوص المشروع منهما، و هو الواجد للشرائط المعتبرة، أو التعدي عن مورد النص، لإلغاء خصوصيته عرفا، أو لتنقيح المناط.

و يشكل الأول بأنه مخالف للإطلاق.

و انصرافه لخصوص المشروع عند الإشارة للحكم الواقعي، لا يستلزم انصرافه إليه في مقام بيان الحكم الظاهري، إذ لا مانع من تخصيص الحكم الظاهري بالشك في جهة دون أخري. و لا سيما في مثل المقام، حيث قد تكون أهمية الجزء موجبة لتخصيص الاحتياط به.

و منه يظهر ضعف الثاني.

و مثله الاستدلال بإطلاق مفهوم موثق ابن أبي يعفور، بناء علي حمله علي الشك في الوضوء بعد الفراغ منه، بدعوي: أن مقتضاه الاعتناء بالشك فيه قبل الفراغ منه، و لو للشك في الشرط.

لاندفاعه: بأنه لم يتضح أن حمله علي ذلك مقتضي الجمع العرفي، ليكون حجة فيه، كما ذكرناه آنفا.

مع أنه إن أريد مفهوم الشرطية، فهي مسوقة لتحقيق الموضوع، و لا مفهوم

ص: 24

______________________________

لها، و إن أريد مفهوم القيد، بدعوي أن مقتضي التقييد بالدخول في الغير الاعتناء بالشك مع الانشغال بالوضوء، فليس هو بحجة، و لا سيما بملاحظة تعقيبه بالذيل الظاهر في عموم عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز.

و أما ما يظهر من بعض مشايخنا من الاعتناء بالشك في الشروط المستفادة من الآية الشريفة- كإطلاق الماء- دون غيرها، فلم يتضح وجهه، لأن الصحيح ظاهر في اعتبار تسمية اللّه تعالي للعضو لا للغسل و المسح، فإن بني علي إطلاق الغسل و المسح لزم عدم الاعتناء بالشك في الشرط مطلقا، و إن بني علي انصرافه للمشروع منهما لزم الاعتناء به كذلك.

علي أن الصحيح لم يتضمّن التقييد بخصوص ما سمي اللّه تعالي في الكتاب، بل يعم ما استفيدت تسميته له من غيره، إذ ليس المراد من تسميته حينئذ ذكر اسمه، بل إيجابه.

و مثله ما يظهر من الجواهر من التعدي لجميع أفعال الوضوء، كالنية و الترتيب و الموالاة، و إن أمكن إحرازها بالأصل، لأنها و إن كانت خارجة عن مدلول الصحيح، إلا أن الاعتناء بالشك فيها مقتضي الأصل، و إطلاق معاقد الإجماعات.

بل يقرب التعدي للشك في الصحة و الفساد، لرجوعه حقيقة للشك في تحقق الفعل، بخلاف الشروط الخارجة عن الوضوء، كطهارة الماء و الأعضاء، للإشكال فيه.

تارة: بأن الترتيب و الموالاة- بل النية- ليست من أفعال الوضوء، كما يظهر من النصوص المحددة له بالغسل و المسح.

و أخري: بأنه مع فرض قصور الصحيح لا مجال للاعتماد علي معاقد الإجماعات، مع قرب إرادتهم الغسل و المسح منه، فإنّ حجية الإجماع- لو تمَّ- بملاك حجية القطع، لا حجية الظهور.

كما لا مجال للاعتماد علي الأصل، بالنظر لقاعدة عدم الاعتناء بالشك الذي مضي محله، الشاملة للمورد، و لا سيما فيما أمكن إحرازه بالأصل، كالموالاة

ص: 25

______________________________

بمعني عدم الجفاف.

و ثالثة: بأن التعدي للشك في الصحة و الفساد إن تمَّ بلحاظ رجوعه للشك في تحقق الفعل حقيقة لم يناسب التوقف في الشروط الخارجة، و إلا كان اللازم بيان الفارق بين الشروط المذكورة و غيرها.

و من جميع ذلك ظهر أن الاختصاص بالشك في الغسل و المسح هو الأوفق بعموم قاعدة عدم الاعتناء بالشك الذي مضي محله، و إن لم يخل عن الإشكال.

بل لا ينبغي الإشكال في عدم جريان القاعدة مع الشك في المباشرة، لعموم الصحيح له، بمقتضي ظاهر قوله عليه السّلام: «لم تغسله أو تمسحه»، بل لا يبعد ذلك أيضا مع الشك في النية، بمعني القصد للعمل الوضوئي، إذ لا يبعد انصراف الصحيح لذلك.

كما لا إشكال في عدم الاعتناء بالشك إذا أمكن إحراز الشرط بالأصل، كطهارة الماء و الأعضاء في بعض الموارد، و منه الموالاة بمعني عدم الجفاف، حيث تقدم جواز البناء عليه مطلقا و لو قبل مضي المحل.

الثالث: حكم في المقنعة و المراسم بوجوب الالتفات للشك في الحدث قبل الفراغ من الوضوء، و لم أعثر عاجلا علي من تعرض له غيرهما، عدا إطلاق بعضهم الشك في الوضوء قبل الفراغ منه، الذي لا يبعد انصرافه عن ذلك.

نعم، ظاهر التهذيب الجري علي ذلك و استدلاله عليه بالنصوص، لكن لم يتضح وجهه بعد قصور الصحيح عنه، و جريان استصحاب عدمه، حيث يتعين معه عدم الالتفات للشك قبل المضي عن محله، فضلا عما بعده.

الرابع: لو شك في غسل اليسري قبل تمام المسح، فغسلها و مسح بها، ثمَّ انكشف غسلها قبل ذلك، فقد يستشكل في صحة الوضوء، لانكشاف المسح بغير ماء الوضوء.

و لا مجال لاستفادة العفو عن ذلك من الصحيح، لا بإطلاقه، لوروده لبيان الوظيفة الظاهرية فلا ينافي البطلان واقعا، و لا تبعا، لقلة الابتلاء بانكشاف الخلاف و عدم وضوح الغفلة عن البطلان معه، فلا يكشف عدم التنبيه عليه علي عدمه.

ص: 26

أما لو شك بعد الفراغ لم يلتفت (1)، و يحصل الفراغ ببنائه علي نفسه فارغا (2).

______________________________

لكن الإشكال المذكور مختص بما إذا كان المسح بماء الغسلة الثالثة، لعدم مشروعيتها، أما لو كان بماء الغسلة الثانية فالمتعين الصحة.

و مجرد الخطأ في تشخيص حالها، لعدم العلم بكونها ثانية، لا يقدح في مشروعيتها، إلا أن يرجع إلي التقييد الذي هو بعيد في نفسه.

و كذا الحال لو قطع بعدم غسل اليسري فغسلها، ثمَّ انكشف أنه قد غسلها.

(1) كما صرح به- في الجملة- من تقدم التعرض له في حكم الشك قبل الفراغ، و ادعي الإجماع عليه في المعتبر و المنتهي و الروضة و المدارك و كشف اللثام، و إن اختلفوا في تحديد موضوع ذلك، علي ما يأتي.

و يقتضيه- مضافا إلي قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله- غير واحد من النصوص، كصحيح زرارة المتقدم، و موثق ابن أبي يعفور، بناء علي حمله علي ما تقدم، بل حتي علي المعني الظاهر فيه بدوا في الجملة، و لو بالأولوية، و موثق بكير أو صحيحه: «قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ. قال: هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» «1»، و خبر محمد بن مسلم: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كلما مضي من صلاتك و طهورك فذكرته تذكرا فامضه، و لا إعادة عليك فيه» «2».

(2) اختلفت عباراتهم في تحديد موضوع عدم الاعتناء بالشك، فقد ذكر في جملة منها القيام عن الوضوء أو الانتقال عن مكانه، خصوصا عبارات القدماء منهم، كما في الهداية و الفقيه و المقنعة و المراسم و الوسيلة و الغنية و غيرها، و عن الذكري: «و لو أطال القعود، فالظاهر التحاقه بالقيام».

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 6.

ص: 27

______________________________

و عن بعضهم اعتبار الدخول في حال آخر غير الوضوء، و لعله إليه يرجع كلام الأولين، و أن ذكرهم للقيام لأنه الفرد الظاهر المتعارف للانتقال لحال آخر، و إلا فمن البعيد الجمود عليه.

بل عن شرح المفاتيح أن فساد اشتراط القيام ضروري من الدين، و كأن مراده أنه ضروري من الفقه، بلحاظ استلزام اشتراطه عدم جريان القاعدة في حق المريض و نحوه ممن لا يقوم عن مكانه و إن طال الزمان، بل عدم جريانها فيمن يتوضأ قائما و نحوه مما لا يظن بأحد التزامه، و لعله لذا اعتبر في محكي الدروس الانتقال عن المحل و لو تقديرا.

و اقتصر جملة منهم علي الفراغ من الوضوء و الانصراف عنه أو عن حاله، في مقابل الانشغال به، كما في المبسوط و المعتبر و الشرائع و المنتهي و القواعد و جامع المقاصد و المسالك و اللمعتين، و عن المهذب و الجامع و الإرشاد و غيرها، و في الحدائق: «الظاهر أنه المشهور بين المتأخرين».

بل عن رياض المسائل تنزيل مراد القدماء عليه، بإجراء ما سبق منهم مجري الغالب، من دون أن يريدوا التقييد به. و لعله لذا نسبه الأردبيلي في محكي شرح الإرشاد لظاهر الأصحاب، بل ظاهر الروضة و صريح المدارك دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه- مضافا إلي عموم القاعدة المتقدمة- إطلاق خبري بكير و محمد ابن مسلم.

نعم، قد ينافيه قوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «فإذا قمت من الوضوء و قد صرت في حال أخري في الصلاة أو في غيرها»، و قوله عليه السّلام في موثق ابن أبي يعفور: «و قد دخلت في غيره».

و يشكل الاستدلال بالصحيح بملاحظة صدره، الظاهر في أن المعيار في الالتفات للشك هو كون المكلف في حال الوضوء، الملزم بإلغاء خصوصية القيام في الذيل و جعله كناية عن الفراغ، لغلبة تحققه حينه، لقوة ظهور: «ما دام» في

ص: 28

______________________________

المفهوم، و لا سيما مع سبق ذكر القعود علي الوضوء، الذي هو مسوق لتحقيق الموضوع، فيغني عن قوله: «ما دمت» لو لم يكن مسوقا للمفهوم.

بل لو فرض تساوي الصدر و الذيل في مرتبة الظهور بدوا، لم يبعد تحكيم الصدر لو أمكن الجمع بينهما، لأن سبقه يوجب مأنوسية الذهن به، فيحتاج رفع اليد عنه لما هو الأقوي منه، ليكون قرينة عرفا يرفع به اليد عنه.

و هو لا ينافي ما اشتهر من عدم استحكام ظهور الكلام إلا بعد الفراغ منه، إذ لا يبعد رجوعه لارتفاع ظهوره البدوي بما يشتمل عليه من قرائن هي أقوي منه، أو من معارضات يتعذر الجمع بينها و بينه. فتأمل.

هذا، مع أن الظاهر كون عطف الفراغ علي القيام تفسيريا، لسوق القيام للكناية عنه، كما سيق القعود علي الوضوء للكناية عن الانشغال به، مع إلغاء خصوصيته، و إلا كان من عطف العام علي الخاص، الذي لا يخلو عن حزازة.

و مما سبق يظهر لزوم حمل قوله عليه السّلام: «و قد صرت في حال أخري.» علي تأكيد الفراغ أيضا، فيراد منه مطلق الانتقال عن حال الوضوء- كما هو ظاهره في نفسه- لا الانشغال بأمر آخر، ليكون قيدا زائدا عليه، و إلا نافي مفهوم الصدر.

و عليه ينزل ما في تتمة الصحيح الوارد في الشك في غسل الجنابة من قوله عليه السّلام: «فإن دخله الشك و قد دخل في صلاته [حال أخري. كافي] فليمض في صلاته و لا شي ء عليه» «1»، لصلوح ما سبق لشرح المراد منه.

و أما الموثق، فقد سبق أنه لا مفهوم له، لا بلحاظ الشرطية، و لا بلحاظ القيد. بل بملاحظة الحصر في ذيله، للشك الذي يعتني به بما لم يجزه، يتعين حمل الدخول في الغير علي الكناية عن الفراغ الذي يتحقق به جواز الوضوء.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 29

______________________________

ثمَّ إنه لو فرض قصور جميع ما ذكرنا فلا أقل من إجمال الصحيح و الموثق الملزم بالرجوع للإطلاقات المقتضية بالاكتفاء بالفراغ في الوضوء، كما يكتفي به في جريان القاعدة في سائر الموارد.

إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بينهم في معيار الفراغ المعتبر في المقام بعد تعذر حمله علي الفراغ الحقيقي عن العمل المشروع المطلوب من المكلف، إذ لا يجتمع فرضه مع فرض الشك في تمامية العمل.

و قد ذكرنا عند الكلام في القاعدة أن المراد به هو الفراغ الحقيقي عن عمل المكلف الذي انشغل به، و هو العمل الخارجي المأتي به بعنوانه الخاص من غسل أو وضوء أو صلاة أو نحوها، فإنّ ذلك هو موضوع الشك في الصحة، و قد أضيف المضي و الفراغ في النصوص إليه، لا إلي كلي العمل المشروع. كما أن الكلي لا يتصف بالصحة و الفساد، بل بالوجود و العدم، فلا بد من صدق الفراغ عن العمل المذكور حقيقة بالمعني المقابل للانشغال به أو لقطعه.

فليس التسامح إلا في صدق العنوان علي العمل المأتي به بلحاظ قصده منه، بناء علي الصحيح، و هو تسامح شائع، و أما بناء علي الأعم فلا تسامح حتي في ذلك.

و الفراغ بالمعني المذكور يجتمع مع احتمال نقص العمل، بل مع العلم به، كما لا يخفي.

و أما جعل المعيار الفراغ البنائي- كما في المتن، و صرح به غير واحد- أو فعل الجزء الأخير، أو الانشغال بفعل آخر- خصوصا ما يتوقف علي تمامية العمل- أو تعذر التدارك- لفوت الموالاة المعتبرة أو فعل المنافي في مثل الصلاة أو نحوهما- و غير ذلك مما تعرضوا له في المقام، فلا مجال له، لخروجه عن ظاهر المضي و الفراغ اللذين تضمنتهما النصوص، إلا أن تستلزم الفراغ بالمعني الذي ذكرناه، فيكون المدار عليه لا عليها، و قد فصلنا الكلام في ذلك عند الكلام في القاعدة.

ص: 30

مسألة 80: إذا شك بعد الوضوء في حاجبية شي ء كالخاتم لم يلتفت

مسألة 80: إذا شك بعد الوضوء في حاجبية شي ء- كالخاتم و نحوه- لم يلتفت (1)، و كذا إذا شك في كون الحاجب سابقا علي الوضوء أو متأخرا عنه (2). و إن كان الأحوط استحبابا الإعادة فيهما (3) بعد رفع مشكوك الحاجبية في الفرض الأول.

مسألة 81 إذا كان مأمورا بالوضوء من جهة الشك فيه بعد الحدث إذا نسي شكه و صلي فلا إشكال في بطلان صلاته

مسألة 81: إذا كان مأمورا بالوضوء من جهة الشك فيه بعد الحدث إذا نسي شكه (4) و صلي، فلا إشكال في بطلان صلاته بحسب

______________________________

(1) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، من دون فرق في ذلك بين الالتفات له حين الوضوء و الاهتمام بإيصال الماء تحته، و تجدد الشك بعد الفراغ في وصوله، و الغفلة عنه حينه، لما سبق في المسألة السابعة و السبعين من عدم اختصاص القاعدة بالالتفات.

(2) للقاعدة المتقدمة، و استصحاب عدم الوضوء إلي حين وجود الحاجب عند الجهل بتأريخ الوضوء و العلم بتأريخ الحاجب- مع كونه من الأصل المثبت، كاستصحاب عدم الحاجب إلي حين الوضوء في عكس ذلك- لا ينهض برفع اليد عن القاعدة، لتقديمها علي الاستصحاب.

(3) الظاهر أن مراده صورة الغفلة، لما تقدم من شبهة اختصاص القاعدة بالالتفات.

(4) لمّا كان الشك من الأمور الوجدانية، فلا يجتمع فرض وجوده مع نسيانه، فإما أن يكون مراده صورة الغفلة عنه و الذهول عن حكمه مع بقاء نفس الشك، أو الغفلة عن المشكوك المستلزم لنسيان الشك السابق المتعلق به و عدم فعلية الشك.

أما علي الأول، فبطلان الصلاة- ظاهرا- مقتضي الأصل بعد قصور القاعدة المتقدمة عنه، لاختصاصها بالشك الحادث بعد مضي محله.

و أما علي الثاني، فلما ذكرناه في محله من قصور القاعدة عن الشك

ص: 31

الظاهر، فتجب عليه الإعادة إن تذكر في الوقت، و القضاء إن تذكر بعده (1).

______________________________

المسبوق بمثله، لوجوه لا يسمح المقام التعرض لها، لطولها، و إن كان للتأمل فيها مجال، فليلحظ.

نعم، لا بد من فرض استناد العمل لمحض الغفلة مع العلم بعدم صدور الوضوء بعد حدوث الشك المذكور، و إلا لم يعتن بالشك و جرت القاعدة، لمباينة الشك الحاصل بعد الفراغ للشك الحاصل قبله موضوعا.

بل لا يزيد سبق الشك بالحدث عن سبق اليقين به، مع جريان القاعدة في الثاني، لو فرض احتمال صدور الوضوء بعده قبل الصلاة.

(1) لما هو الظاهر من أن مقتضي الجمع بين دليلي الأداء و القضاء كون خصوصية الوقت مأخوذة بنحو تعدد المطلوب، و أن المكلف به أمران: أصل الواجب، و خصوصية كونه في الوقت، فمع خروج الوقت في المقام يعلم بسقوط الثاني بالتعذر أو الامتثال، و يشك في سقوط الأول بالامتثال، فيتعين إحراز الفراغ عنه بالقضاء.

و ليس القضاء مباينا للأداء، كي يرجع الشك في المقام للشك في حدوث التكليف بالقضاء مع سقوط الأداء.

و هو لا ينافي ما اشتهر من أن القضاء بأمر جديد، لرجوعه إلي ظهور الأمر بالموقت بدوا، في كون الوقت قيدا مقوما للواجب يسقط بتعذره، فلا يمتنع رفع اليد عن الظهور المذكور بعد فرض ورود الأمر بالقضاء، و يحمل علي تعدد المطلوب، جمعا بين الدليلين.

و كذا الحال بناء علي أن القضاء مباين للأداء، لما هو الظاهر من أن موضوعه مجرد عدم الإتيان بالواجب في وقته، حيث يمكن إحرازه بالاستصحاب في المقام بعد فرض عدم إحراز صحة ما وقع، لقصور القاعدة المذكورة عنه.

ص: 32

مسألة 82 إذا كان متوضئا و توضأ للتجديد و صلي

مسألة 82: إذا كان متوضئا و توضأ للتجديد و صلي، ثمَّ تيقن بطلان أحد الوضوءين و لم يعلم أيهما، لا إشكال في صحة صلاته (1)،

______________________________

نعم، لو كان موضوعه الفوت- الذي هو أمر وجودي ينتزع من عدم الإتيان بالواجب في محله- تعين عدم وجوبه في المقام، لعدم إحراز موضوعه باستصحاب الحدث، أو عدم الإتيان بالواجب، إلا بناء علي الأصل المثبت.

لكن لازمه عدم وجوب القضاء لو شك في صحة الفريضة قبل خروج الوقت، و لم يحرز صحتها، حيث يكون مقتضي قاعدة الاشتغال أو استصحاب عدم الإتيان بالواجب هو وجوب الإعادة، دون القضاء، لو لم يعد حتي خرج الوقت، و من البعيد التزام أحد بذلك.

و أما ما دل علي عدم الاعتناء بالشك في الصلاة إذا كان بعد خروج الوقت، و هو صحيح زرارة و الفضيل عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: متي استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنك لم تصلها، أو في وقت فوتها أنك لم تصلها صليتها، و إن شككت بعد ما خرج وقت الفوت و قد [فقد. في] دخل حائل، فلا إعادة عليك من شك حتي تستيقن، فإن استيقنت فعليك أن تصليها في أي حالة كنت» «1»، فهو ظاهر في فرض الشك في أصل الإتيان بالفريضة، و لا يعم صورة العلم بوجودها و الشك في صحتها، بل لا بد من ملاحظة مقتضي الأصل حينئذ، و قد عرفت اختلافه باختلاف المباني.

(1) كما في المبسوط و الوسيلة، و عن ابن سعيد و القاضي.

و صريح الأول هو الصحة الواقعية، للعلم بصحة إحدي الطهارتين، و هو متجه، بناء علي ما سبق في المسألة الواحدة و السبعين من صحة الوضوء المنوي به التجديد جهلا بالحدث، و إن لم يناسب ما ذكره هو و غيره من اعتبار نية الرفع أو الاستباحة، كما سبق.

______________________________

(1) الوسائل باب: 60 من أبواب مواقيت الصلاة حديث: 1.

ص: 33

و لا تجب عليه إعادة الوضوء للصلوات الآتية أيضا، إذا لم يكن قصد الوضوء التجديدي علي نحو التقييد (1).

______________________________

أما بناء علي بطلان الوضوء المذكور، فلا مجال لدعوي الصحة الواقعية، لاحتمال نقص الوضوء الأول، المستلزم لبطلان الثاني أيضا، فتبطل الصلاة لعدم الطهارة.

و من هنا بني في المعتبر و الشرائع و المنتهي و جامع المقاصد و غيرها صحة الصلاة في المقام و بطلانها علي القول بالاكتفاء بنية القربة، أو اعتبار ما زاد عليها من نية الوجوب أو الندب، أو الرفع أو الاستباحة.

بل ظاهرهم بطلان الصلاة ظاهرا علي الثاني، لحكمهم بوجوب إعادتها حينئذ، لعدم إحراز الطهارة لها، عدا ما في المنتهي من تقريب إحراز الطهارة ظاهرا، كما سيأتي.

لكن عدم إحراز الطهارة إنما يمنع من الدخول في الصلاة، أو البناء علي صحتها قبل الفراغ منها، و لا يمنع من البناء علي صحتها لو التفت المكلف بعد الفراغ منها- كما هو محل كلامهم ظاهرا- لعموم قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، كما هو الحال لو شك في أصل الوضوء، علي ما تقدم في المسألة السابعة و السبعين.

و من ثمَّ كان ما في المتن من نفي الإشكال في صحة الصلاة في محله.

هذا، و لو فرض احتمال عدم نية التجديد في الثاني فالأمر أظهر.

(1) لما تقدم منه في المسألة الواحدة و السبعين من صحة الوضوء المنوي به التجديد جهلا بالحدث، فيقطع حينئذ بالطهارة. و تقدم منا تفصيل الكلام في ذلك.

هذا، و لو فرض عدم صحة الوضوء المذكور- لنيته بنحو التقييد أو لغير ذلك- فقد قوي في المنتهي إحراز الطهارة ظاهرا، لعموم ما دل علي عدم

ص: 34

مسألة 83 إذا توضأ وضوءين و صلي بعدهما ثمَّ علم بحدوث حدث بعد أحدهما يجب الوضوء للصلاة الآتية

مسألة 83: إذا توضأ وضوءين و صلي بعدهما، ثمَّ علم بحدوث حدث بعد أحدهما، يجب الوضوء للصلاة الآتية، لأن الوضوء الأول معلوم الانتقاض، و الثاني مشكوك في انتقاضه، للشك في تأخره و تقدمه علي الحدث (1)، و أما الصلاة فيبني علي صحتها، لقاعدة الفراغ (2).

______________________________

الاعتناء بالشك بعد الفراغ من الوضوء بالإضافة للوضوء الأول، و حكاه في الذكري عن ابن طاوس و قال: «و هو متجه، إلا أن يقال: اليقين حاصل بالترك و إن كان شاكا في موضوعه، بخلاف الشك بعد الفراغ، فإنه لا يقين فيه بوجه»، و قريب منه في المدارك.

و فيه: أن اليقين بالنقص إجمالا ملازم للشك فيه بالإضافة للوضوء الأول، الذي هو موضوع القاعدة فيه، غاية ما يدعي مانعية العلم الإجمالي من الرجوع للقاعدة فيه.

لكن لا مجال له، لعدم منجزية العلم الإجمالي المذكور، لعدم الأثر له بالإضافة للوضوء التجديدي، للقطع ببطلانه حينئذ، إما لنقصه، أو لبطلان الوضوء الأول.

(1) لكن مقتضي ما تقدم في المسألة السادسة و السبعين البناء علي بقاء الطهارة لو علم تأريخ الوضوء الثاني و جهل تأريخ الحدث.

نعم، لو نوي بالوضوء الثاني التجديد و قيل ببطلان الوضوء المنوي به التجديد جهلا بالحدث يعلم ببطلان الوضوء الثاني، للحدث قبله أو بعده، ثمَّ إنه قد صرح قدّس سرّه في مستمسكه بأن محل الكلام صورة الجهل بالتأريخين. و لم يتضح وجهه.

(2) الظاهر من محل كلامهم فرض وقوع الصلاة بعد الحدث، فإن كان الحدث بعد الوضوء الثاني فالصلاة باطلة، و إن كان قبله بعد الوضوء الأول فهي

ص: 35

و إذا كان في محل الفرض قد صلي بعد كل وضوء صلاة أعاد الوضوء، لما تقدم، و أعاد الصلاتين إن كانتا مختلفتين في العدد (1)،

______________________________

صحيحة، لصحة الوضوء الثاني، و مقتضي قاعدة الفراغ صحتها.

لكن أشرنا إلي أنه لا يتم لو كان المنوي بالثاني التجديد و قيل ببطلان الوضوء المنوي به التجديد جهلا بالحدث، للعلم ببطلان الوضوء الثاني بالحدث قبله أو بعده، المستلزم للعلم ببطلان الصلاة.

(1) بلا خلاف أجده فيه، بل هو مجمع عليه. كذا في الجواهر.

للعلم الإجمالي بفساد إحدي الصلاتين الموجب للاحتياط بإعادتهما معا، و المانع من الرجوع لاستصحاب الطهارة، أو قاعدة الفراغ في كل من الصلاتين.

هذا، و قد تقدم أنه مع العلم بتأريخ الوضوء الثاني و الجهل بتأريخ الحدث يستصحب الوضوء. و لا مجال لذلك في المقام، للعلم الإجمالي ببطلان الصلاة الأولي أو الثانية مع وضوئها، فيتنجزان معا.

و هذا بخلاف ما سبق، حيث لا علم إجمالي فيه، لا بالإضافة للصلاة، لوحدتها، و لا بالإضافة للطهارة، للعلم ببطلان الوضوء الأول، فالشك في الثاني بدوي يكون مجري للاستصحاب، بل الظاهر أن وجوب إعادة الصلاتين مختص بهذه الصورة.

و أما في صورة الجهل بالتأريخين، أو العلم بتأريخ الحدث دون الوضوء، فحيث لا يجري استصحاب الطهارة في الصلاة الثانية يكون المعارض لاستصحاب الطهارة في الأولي هو قاعدة الفراغ في الثانية، و بعد تساقطهما تجري قاعدة الفراغ في الأولي، و أصالة عدم الإتيان بالثانية، فلا يجب إلا إعادة الثانية، كما جزم به بعض مشايخنا في جميع فروض المسألة، بناء منه علي معارضة الاستصحابين مع الجهل بالمتقدم و المتأخر مطلقا، فلا يجري الاستصحاب في الثانية مطلقا.

ص: 36

______________________________

نعم، استدل عليه باستصحاب الطهارة في الأولي بلا معارض، و قد عرفت معارضته بقاعدة الفراغ في الثانية، و أن الوجه في صحة الأولي هو قاعدة الفراغ بلا معارض.

ثمَّ إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه قال: «و مقتضي إطلاقهم عدم الفرق بين اتفاقهما في الأداء و القضاء و اختلافهما، و إن كان ربما يتخيل مع الاختلاف الاقتصار علي إعادة الثانية، لأصالة بقاء الأمر به، و قاعدة عدم الالتفات إلي الشك في الأولي بعد خروج وقتها».

و قد يستفاد من عدم تصديه لرد التخيل المذكور اقتصاره في رده علي إطلاق معقد الإجماع، و هو كما تري! لعدم بلوغ الإجماع مرتبة الاستدلال بعد قرب ابتنائه علي ملاحظة العلم الإجمالي.

فالعمدة في اندفاع وجه التخيل المذكور: أن قاعدة عدم الالتفات للشك في الصلاة بعد خروج وقتها مختصة بالشك في أصل وجود الفريضة، و لا تشمل مثل المقام من موارد الشك في صحتها، كما ذكره غير واحد، لقصور دليلها- و هو صحيح زرارة و الفضيل- عنه، كما تقدم في المسألة الواحدة و الثمانين.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن القاعدة المذكورة لو جرت مع الشك في الصحة لكانت في رتبة قاعدة الفراغ، فتسقط معها بالمعارضة لقاعدة الفراغ الجارية في الأدائية.

فهو موقوف علي أن يكون مفاد القاعدة لو جرت في المقام هو التعبد بصحة الموجود كمفاد قاعدة الفراغ، لكنه- مع استلزامه لغوية أخذ خروج الوقت في موضوع التعبد المذكور، لكفاية الفراغ فيه- لا يناسب دليلها، لظهوره في التعبد بوجود الصلاة و براءة الذمة منها مطلقا، فتكون قاعدة الفراغ حاكمة عليها و مقدمة عليها رتبة، لأن منشأ الشك في وجود الصحيح في المقام هو الشك في صحة الموجود، فبعد سقوط قاعدة الفراغ في الصلاتين معا تجري هذه القاعدة في القضائية، و أصالة عدم الإتيان بالواجب في الأدائية، كما ذكره المفصل.

ص: 37

و إلا كفي إعادة صلاة واحدة بقصد ما في الذمة (1)، جهرا إن كانتا

______________________________

و هو لا ينافي ما اخترناه في محله من رجوع هذه القاعدة و قاعدتي الفراغ و التجاوز لقاعدة واحدة و أن اختلافها في التطبيق، إذ لا مانع من تقدم أحد تطبيقي القاعدة الواحدة علي الآخر و حكومته عليه، كما في حكومة أحد الاستصحابين علي الآخر.

هذا، و قد يستدل للتفصيل المذكور أيضا بأن القضاء تكليف جديد، و الأصل البراءة منه، بخلاف الأداء، حيث تجري فيه قاعدة الاشتغال. و يظهر ضعفه مما تقدم في المسألة الواحدة و الثمانين أيضا.

(1) كما في المعتبر و الشرائع و المنتهي و القواعد و غيرها، علي اختلاف الفروع التي ذكروها، المتشابهة في فرض العلم ببطلان صلاة مرددة بين متفقتين في العدد. و نسبه في جامع المقاصد لأكثر الأصحاب، و في المدارك لمعظمهم، و في الجواهر: «كما هو الأشهر، بل عليه عامة من تأخر».

لمطابقته للقاعدة الأولية المقتضية للاجتزاء بتحصيل الواجب.

و التردد في عنوان المأتي به مع قصده إجمالا غير قادح، للأصل، بل الإطلاق، بل هو أولي عندهم من التردد في الامتثال بكل طرف، الحاصل مع التكرار.

مضافا إلي موثق علي بن أسباط، أو صحيحه، عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من نسي من صلاة يومه واحدة و لم يدر أي صلاة هي صلي ركعتين و ثلاثا و أربعا» «1».

و نحوه مرفوع الحسين بن سعيد، و زاد: «فإن كانت الظهر أو العصر أو العشاء فقد صلي أربعا، و إن كانت المغرب أو الغداة فقد صلي» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 2.

ص: 38

جهريتين، و إخفاتا إن كانتا إخفاتيتين، و مخيرا بين الجهر و الإخفات إن كانتا مختلفتين (1)، و الأحوط استحبابا في هذه الصورة الأخيرة إعادة كلتا الصلاتين.

______________________________

و لا يضر الإرسال فيهما بعد انجبارهما بعمل الأصحاب بهما في موردهما، و لا سيما مع إرسال الأول عن غير واحد، الظاهر في اشتهار الرواية.

كما لا يضر اختصاصهما بالناسي، لإلغاء خصوصيته عرفا، و لا سيما مع عموم التعليل في الثاني.

و منه يظهر ضعف ما في المبسوط، و عن القاضي و أبي الصلاح و ابني إدريس و سعيد من وجوب التكرار حتي مع الاتفاق في العدد، و هو مقتضي إطلاق الغنية وجوب ذلك عند تردد الفائتة.

(1) كما هو ظاهر إطلاق الأصحاب، بل هو المصرح به في كلام جملة منهم في مسألة تردد الفائتة بين الخمس.

و العمدة فيه الخبران المتقدمان، بناء علي نهوضهما بالاستدلال في المقام، كما تقدم، إذ لا يجتمع الاكتفاء برباعية واحدة، مع اعتبارهما، و حيث كان ترجيح أحدهما بلا مرجح، كان مقتضي إطلاقهما التخيير بينهما.

و لولاهما كان مقتضي إطلاق دليل الجهر و الإخفات وجوب الاحتياط بالتكرار، أو إعادة القراءة في صلاة واحدة، لعدم قدح قراءة القرآن في الصلاة.

و أما ما عن الوحيد قدّس سرّه في المصابيح من أن الإخلال بهما مع الجهل بنوع الفائتة لما لم يكن عمديا بل لأنه لا يدري، فلا يكون مبطلا.

ففيه: أن الدليل علي عدم قدح الإخلال غير العمدي منحصر بصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه و أخفي فيما لا ينبغي الإخفاء فيه. فقال: أي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته و عليه الإعادة، فإن فعل

ص: 39

مسألة 84 إذا تيقن بعد الفراغ من الوضوء أنه ترك جزءا منه

مسألة 84: إذا تيقن بعد الفراغ من الوضوء أنه ترك جزءا منه، و لا يدري أنه الجزء الواجب أو المستحب، فالظاهر الحكم بصحة وضوئه (1).

______________________________

ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شي ء عليه و قد تمت صلاته» «1» و صحيحه الآخر المتضمن لنفس السؤال و للجواب بقوله عليه السّلام: «أي ذلك فعل ناسيا أو ساهيا فلا شي ء عليه» «2».

و ظاهر الثاني تبعية الصحة للنسيان و السهو غير الصادقين في المقام قطعا.

و أما الأول، فالظاهر من التعمد فيه ما يعم المقام، و ظاهر قوله عليه السّلام: «لا يدري» هو الجهل المركب بالحكم الراجع للخطإ في تشخيصه، لا ما يعم الجهل البسيط الراجع للتردد في الحكم، لأن المنصرف هو استناد المخالفة لعدم الدراية، كاستنادها للسهو و النسيان، و التردد لا يقتضي المخالفة، بل يقتضي التوقف و الاحتياط، بخلاف الخطأ في تشخيص الحكم، و لذا لا إشكال ظاهرا عندهم في عدم الاكتفاء بمطابقة أحد الاحتمالين في الناسي المتردد.

و لا أقل من الإجمال الملزم بالرجوع للإطلاق، المقتضي للاحتياط، كما تقدم.

(1) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، حيث تحرز صحة الوضوء و تحقق الجزء الواجب، و لا تعارض بمثلها في الجزء المستحب، لعدم الأثر للإخلال به، لعدم الموضوع له في فرض صحة الوضوء، فلا يقبل التدارك.

بل لو فرض قبوله للتدارك، فحيث لم يكن تداركه إلزاميا لم يصلح العلم الإجمالي للتنجيز الإلزامي، ليمنع من الرجوع للقاعدة المذكورة بالإضافة للواجب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 2.

ص: 40

مسألة 85 إذا علم بعد الفراغ من الوضوء أنه مسح علي الحائل

مسألة 85: إذا علم بعد الفراغ من الوضوء أنه مسح علي الحائل، أو مسح في موضع الغسل (1)، أو غسل في موضع المسح، و لكن شك في أنه هل كان هناك مسوغ لذلك من جبيرة أو ضرورة أو تقية، أو لا، بل كان علي غير الوجه الشرعي، فالظاهر صحة وضوئه (2)، و إن كان الأحوط استحبابا الإعادة.

مسألة 86 إذا تيقن أنه دخل في الوضوء و أتي ببعض أفعاله

مسألة 86: إذا تيقن أنه دخل في الوضوء و أتي ببعض أفعاله، و لكن شك في أنه أتمه علي الوجه الصحيح أو لا، بل عدل عنه اختيارا أو اضطرارا، فالظاهر عدم صحة وضوئه (3).

______________________________

و من ثمَّ ذكرنا في مباحث العلم الإجمالي أن العلم بثبوت أحد حكمين إلزامي و غيره لا يمنع من جريان الأصل الترخيصي بالإضافة للحكم الإلزامي.

و منه في المقام ما لو توضأ و صلي الفريضة ثمَّ أحدث و توضأ للكون علي الطهارة، ثمَّ علم ببطلان أحد الوضوءين.

(1) فقد تقدم منه قدّس سرّه في الجبائر وجوب مسح البشرة لو أمكن و تعذر الغسل، و لا يكتفي بمسح الجبيرة.

(2) لعموم قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، لما ذكرناه عند الكلام فيها من عمومها لصورة العلم بصورة العمل.

(3) علله قدّس سرّه بعدم إحراز الفراغ البنائي، حيث تقدم منه في المسألة التاسعة و السبعين أنه المعيار في الفراغ، الذي هو موضوع القاعدة.

لكنه- لو تمَّ المعيار المذكور- غير مطرد، إذ قد يعلم المكلف بسبق الفراغ البنائي منه، كما لو تجدد احتمال القطع بعد اليقين بالإكمال بنحو الشك الساري.

فالعمدة في المقام عدم إحراز الفراغ الحقيقي عن العمل الخارجي المأتي

ص: 41

مسألة 87 إذا شك بعد الوضوء في وجود الحاجب أو علم بوجوده قبله

مسألة 87: إذا شك بعد الوضوء في وجود الحاجب، أو علم بوجوده قبله و لكن شك بعده في أنه أزاله أو وصل الماء تحته (1)، بني علي صحة وضوئه (2). و إذا علم بوجود الحاجب و علم زمان حدوثه، و شك في أن الوضوء كان قبل حدوثه أو بعده بني علي الصحة (3).

______________________________

به بعنوان الوضوء، الذي تقدم أنه الشرط في جريان القاعدة فيه.

و لعله إليه يرجع ما في العروة الوثقي من أنه يعتبر في جريان القاعدة كونه بانيا علي إكمال العمل، و إلا فلو أريد به بناؤه علي ذلك حين الشروع في العمل فهو حاصل في المقام، و إن أريد استمراره علي البناء المذكور في تمامه فهو عين المدعي.

(1) هذا لا يناسب فرض كونه حاجبا، بل يناسب الشك في حاجبية الموجود.

نعم، لو كان المراد إيصال الماء تحته بعناية كان من سنخ الشك في إزالة الحاجب، بل من أفراده.

(2) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، المقدمة علي استصحاب بقاء الحاجب في فرض سبق العلم بوجوده لو جري في نفسه.

علي أنه غير جار، لعدم ترتب الأثر عليه إلا بلحاظ لازمه الخارجي، و هو عدم وصول الماء للبشرة.

نعم، بناء علي اختصاص القاعدة بصورة الالتفات لمنشإ الشك حين العمل، يتعين تقييد البناء علي الصحة به في جميع فروض المسألة.

إلا أن يبني علي جريان أصالة عدم الحاجب في نفسها، فيتعين لأجلها البناء علي الصحة مع الشك في وجوده و لو مع عدم الالتفات، لكن تقدم في المسألة السادسة المنع من جريانها.

(3) للقاعدة المذكورة، و استصحاب عدم الوضوء إلي حين وجود

ص: 42

مسألة 88 إذا كانت أعضاء وضوئه أو بعضها نجسا، فتوضأ

مسألة 88: إذا كانت أعضاء وضوئه أو بعضها نجسا، فتوضأ و شك بعده في أنه طهرها أم لا، بني علي بقاء النجاسة (1)، فيجب غسله لما يأتي من الأعمال، و أما الوضوء فمحكوم الصحة (2). و كذا لو كان الماء الذي توضأ منه نجسا، ثمَّ شك بعد الوضوء في أنه طهره قبله أم لا، فإنه يحكم بصحة وضوئه و بقاء الماء نجسا، فيجب عليه تطهير ما لاقاه من ثوبه و بدنه (3).

______________________________

الحاجب- مع كونه من الأصل المثبت- لا يمنع من جريانها، لتقدمها علي الاستصحاب.

(1) لاستصحابها.

(2) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، و هي لا تنافي البناء علي بقاء النجاسة بلحاظ الأعمال اللاحقة، لما سبق في المسألة السابعة و السبعين من أنها إنما تحرز المشكوك من الجهة التي يصدق المضي بالإضافة إليها، لا مطلقا و من جميع الجهات.

و العلم الإجمالي بكذب أحد التعبدين لا يمنع من جريانهما بعد عدم لزوم المخالفة العملية منهما، علي ما حقق في محله من الأصول.

(3) لما تقدم.

و أظهر من ذلك لزوم البناء علي نجاسة الماء الباقي بعد الوضوء، إذ غاية ما تحرزه القاعدة هو طهارة الماء الذي توضأ به، لأنها الشرط في صحة الوضوء، دون طهارة تمام الماء الذي توضأ منه.

و التلازم بينهما لا ينفع، بناء علي التحقيق في القاعدة و نحوها من عدم حجيتها في لازم مؤداها.

ص: 43

______________________________

ختام في كثير الشك: استثني في جامع المقاصد و محكي السرائر و شرح الدروس من وجوب الاعتناء بالشك صورة كثرة الشك، و قرّبه في المدارك و حاشيتها و الحدائق و المستند و الرياض و محكي نهاية الاحكام و الذكري، و يظهر من كشف اللثام و غيره الميل إليه، و هو المحكي عن جماعة من متأخري المتأخرين، بل في الجواهر: «لا أجد فيه خلافا».

و كأن مراده عدم العثور علي مصرح بالخلاف، كما عن اللوامع، و إلا فالخلاف مقتضي إطلاق جماعة من القدماء و المتأخرين، حيث لم يستثنوا الصورة المذكورة من إطلاقهم وجوب الاعتناء بالشك.

ثمَّ إن من تعرض لذلك و إن استثناه من وجوب الاعتناء بالشك في الوضوء قبل الفراغ منه إلا أن مقتضي أدلتهم العموم لغيره من موارد الاعتناء بالشك في الوضوء، كالشك فيه بعد اليقين بالحدث، و لذا جعلنا البحث في ذلك ختاما لمباحث الخلل فيه، و لم نخصه بتلك المسألة.

بل مقتضي الأدلة المذكورة العموم لجميع موارد الاعتناء بالشك و لو في غير الوضوء من الطهارة الحدثية و الخبثية و الصلاة و غيرها.

فالذي ينبغي أن يقال في تحرير محل الكلام: إنه لا إشكال ظاهرا- نصا و فتوي- في أن كثرة الشك مانعة من الاعتناء به في أفعال الصلاة، و إنما الإشكال في عموم ذلك لغيرها من موارد الاعتناء بالشك، كما هو مقتضي أدلة القائلين بذلك هنا، فيلزم النظر فيها، و هي أمور.

الأول: دعوي انصراف أدلة أحكام الشك عن صورة كثرة الشك بالنحو الخارج عن المتعارف.

ص: 44

______________________________

و فيه. أولا: أن ذلك إنما يتم في الأحكام المخالفة للقاعدة، كوجوب الاعتناء بالشك بعد مضي محله قبل الفراغ من الوضوء، دون ما كان منها موافقا لها، كوجوب الاعتناء بالشك قبل مضي محله، فإنه مقتضي قاعدة الاشتغال العقلية، التي لا معني لدعوي الانصراف فيها.

إلا أن يدعي قصورها عن الشك المذكور، لكنه ممنوع في غير الوسواس.

و ثانيا: أن الانصراف عن غير المتعارف بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق، و لذا لا إشكال ظاهرا في عموم إطلاق أدلة عدم الاعتناء بالشك في سائر موارده لصورة كثرة الشك.

و أشكل من ذلك دعوي: أن الاعتناء بالشك لمّا كان موجها لمخاطب خاص، فلا عموم له لصورة كثرة الشك، لعدم إحراز ابتلاء الشخص المذكور به.

لاندفاعها بأن الخطاب المذكور لم يرد في قصة خارجية خاصة، بل بلسان القضية الشرطية، التي تعم صورة كثرة الشك.

الثاني: لزوم العسر و الحرج، فإنه يقتضي التنزل من الموافقة القطعية للموافقة الاحتمالية، بناء علي ما هو الظاهر من إمكان اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية مع بقاء التكليف، فيرتفع به موضوع قاعدة الاشتغال العقلية، و أن رفع موضوعها لا ينحصر برفع التكليف المستلزم لجواز ترك الامتثال رأسا، المعلوم عدمه في المقام، أو بالتعبد بالامتثال بمثل قاعدة الفراغ، الذي لا تنهض به قاعدة نفي الحرج، لتمحضها في الرفع، و عدم نهوضها بتشريع الأحكام المانعة من لزوم الحرج.

و فيه: أن لزوم الحرج من الموافقة القطعية لكثير الشك غير مطرد، و لزومه نوعا لا يكفي في جريانها، لظهور دليلها في الحرج الشخصي.

مع أن اللازم الاقتصار في التنزل عن الموافقة القطعية علي المرتبة التي يلزم من الزيادة عليها الحرج، لا إلغاء الشك مطلقا حتي بالإضافة للمرتبة التي لا يلزم منها الحرج، كما هو المقصود في المقام.

ص: 45

______________________________

الثالث: أنه لا يأمن دوام عروض الشك.

و فيه- مع أن ذلك مختص بالشك الذي يستند عرفا للشيطان-: أن المحذور المذكور ليس من الأهمية بنحو يحرز معه تنزل الشارع عن الموافقة القطعية مع القطع به، فضلا عن احتماله و عدم الأمن منه، و لا سيما مع أهمية موضوع الشك كالصلاة.

اللهم إلا أن يراد بذلك الإشارة لما تضمنته النصوص الآتية، فيجري فيه ما يأتي فيها.

الرابع: النصوص الواردة في الصلاة:

كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا كثر عليك السهو فامض علي صلاتك، فإنه يوشك أن يدعك، إنما هو من الشيطان» «1».

و صحيح زرارة و أبي بصير: «قلنا له: الرجل يشك كثيرا في صلاته، حتي لا يدري كم صلي و لا ما بقي عليه، قال: يعيد، قلنا: فإنه يكثر ذلك عليه كلما أعاد شك، قال: يمضي في شكه، ثمَّ قال: لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه، فإن الشيطان خبيث معتاد لما عوّد، فليمض أحدكم في الوهم، و لا يكثرن نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك. قال زرارة: ثمَّ قال:

إنما يريد الخبيث أن يطاع، فإذا عصي لم يعد إلي أحدكم» «2».

و خبر علي بن أبي حمزة عن رجل صالح [العبد الصالح. فقيه] عليه السّلام: «سألته عن الرجل يشك فلا يدري واحدة صلي أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا، تلتبس عليه صلاته. قال: كل ذا؟ قلت: نعم. قال: فليمض في صلاته، و يتعوذ باللّه من الشيطان فإنه يوشك أن يذهب عنه» «3»، و غيرها.

فإنها و إن وردت في الصلاة إلا أنه قد يستدل بها في الوضوء، بناء علي ما هو

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الخلل في الصلاة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 4.

ص: 46

______________________________

الظاهر من عمومها للشروط- كما هو مقتضي إطلاق الأول، بل ذيل الثاني- أو لاستفادة حكمه منها تبعا، بسبب ظهور شرطيته فيها و تبعيته لها عند المتشرعة.

و فيه: أن عمومها للشروط إنما هو بمعني عدم قطع الصلاة لأجل الشك في الشرط في فرض الدخول فيها لاعتقاد تحققه، فيكون المقام مستثني مما تقدم في المسألة الثامنة و السبعين، لا جواز الدخول فيها مع الشك فيه، فضلا عن الدخول في غيرها مما يشترط به.

و مجرد شرطيته في الصلاة و تبعيته لها، لا يقتضي استفادة حكمه من أدلتها تبعا، و لا سيما مع ثبوت اختلافهما في بعض الاحكام، كجريان قاعدة التجاوز فيها دونه.

نعم، قد أشير في كلماتهم إلي الاستدلال بعموم التعليل فيها بأنه من الشيطان، و أنه بإهماله يوشك أن يدعه، لظهوره في أن كثرة الشك من الشيطان و أنه يوشك أن يدعه بإهماله، و أنه يلزم إهماله لأجل ذلك و لو في غير مورد النصوص، كالشك في أفعال الوضوء.

بل لو تمَّ لجري في جميع موارد كثرة الشك، كما ذكرنا.

لكنه يشكل بأن المستفاد من النصوص أمران.

الأول: أن كثرة الشك في الصلاة من الشيطان، و إليه يرجع التعليل بأنه يوشك أن يدعه بإهماله.

الثاني: أنه ينبغي إهمال الشك الذي هو من الشيطان، لئلا يطمع، لأنه معتاد لما عوّد.

و مقتضي الثاني إهمال كل شك يكون من الشيطان.

و لا إشكال في ذلك، كما هو مفاد صحيح عبد اللّه بن سنان: «ذكرت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجلا مبتلي بالوضوء و الصلاة، و قلت: هو رجل عاقل. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و أي عقل له و هو يطيع الشيطان! فقلت: و كيف يطيع الشيطان؟ فقال:

ص: 47

______________________________

سله هذا الذي يأتيه من أي شي ء هو؟ فإنه يقول لك: من عمل الشيطان» «1». و لذا أجمعوا ظاهرا علي إهمال شك الوسواسي.

و إنما الإشكال في أن كثرة الشك موجبة لإهماله مطلقا و لو لم يحرز استناده للشيطان- كما هو محل الكلام- و لا تفي به النصوص المذكورة.

و مجرد ظهورها في كون كثرة الشك في الصلاة من الشيطان لا يستلزم كون كثرة الشك في جميع الموارد منه، لإمكان مزية للصلاة في ذلك، بلحاظ أهميتها الموجبة لاهتمامه بإفسادها و نقضها، و لا سيما لو كان قطع الصلاة مرجوحا ذاتا حتي مع الشك، و أن جوازه حينئذ للمزاحم.

اللهم إلا أن يقال: لو كان لكثرة الشك سبب غير الشيطان لجري في الصلاة أيضا، فإن أهميتها و خصوصيتها لا تمنع من تحقق السبب المذكور فيها.

فما تضمنته النصوص من أن كثرة الشك فيها من الشيطان إن كان بنحو القضية الحقيقية دل علي ذلك في غيرها أيضا، و إن كان بنحو القضية الغالبية أو الادعائية، بلحاظ دخل الشيطان في بعض مقدمات كثرة الشك، فتستند إليه و لو بالواسطة دل علي كفاية ذلك في إهمال الشك، و يجري في غير الصلاة بمقتضي عموم التعليل.

نعم، لو كان إسناد كثرة الشك للشيطان تعبديا ظاهريا أمكن اختصاصه بمورده، لكن ظاهر النصوص كونه حقيقيا حكاية عن قضية واقعية لا خصوصية للمورد فيها.

و لا سيما مع ما في موثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا سهو علي من أقر علي نفسه بسهو» «2»، لقرب كون المراد به الإقرار بسبب كثرة السهو، و إلا فكل ساه لا يرتب حكم السهو حتي يعلم من نفسه بالسهو و يقرّ به عليها، و مقتضي إطلاقه رفع حكم السهو في جميع موارد كثرته.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 8.

ص: 48

______________________________

لكن في بلوغ ذلك حدا يصلح معه للاستدلال إشكال، لتوقف استفادة العموم من تلك النصوص علي إلغاء خصوصية الصلاة عرفا، بحيث تكون النصوص ظاهرة فيه، أو القطع بعدم خصوصيتها، ليتعدي عنها بتنقيح المناط، و الأول محتاج إلي لطف قريحة، و الثاني حجة علي مدعيه.

و الموثق لا يخلو عن إجمال، لأن المعني المذكور و إن كان قريبا، إلا أنه لا شاهد له من الكلام.

فيشكل التعدي عن الصلاة، و لا سيما مع أن مقتضي ذلك التعدي لجميع موارد كثرة الشك، و لا يظهر منهم البناء عليه، لعدم تصديهم لاستثنائه في غير أفعال الصلاة و الوضوء.

نعم، لا ينبغي التأمل في عموم عدم الاعتناء بالشك الذي يحرز أنه من الشيطان، و الذي هو عبارة عن شك الوسواسي أو من مبادئه، لأنه المتيقن من النصوص المتقدمة و منها صحيح ابن سنان.

و إن كان قد ينافيه مرسل الواسطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت: جعلت فداك، أغسل وجهي ثمَّ يشكّكني الشيطان أني لم أغسل ذراعي و يدي. قال: إذا وجدت برد الماء علي ذراعك فلا تعد» «1»، لظهوره في عدم إهمال الشك الذي يكون من الشيطان مطلقا، بل لا بد من الرجوع للأمارة المذكورة علي حصول المشكوك.

لكن ضعف سنده، و عدم ظهور الجابر له مانع من الاعتماد عليه.

و قد حمل علي التنبيه لما يرفع الوسواس خارجا، بدعوي: أن وجدان برد الماء موجب لارتفاع الشك في غسل الذراع و ظهور كونه من سنخ الوسواس.

و ربما يحمل علي التنبيه لما يظهر حال الشك من كونه من الشيطان أو عدمه، إذ الشك مع وجدان برد الماء شيطاني غير طبيعي، و مع عدمه طبيعي غير شيطاني، أو التنبيه لما يرفع الشك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 49

______________________________

كما ربما يحمل إسناد الشك في كلام السائل للشيطان علي ابتنائه علي أن الشيطان سبب في كل شك، لإشغاله ذهن الإنسان بما ينسيه حاله، لا علي إرادة نوع الشك الخاص المنسوب للشيطان عرفا، و الذي هو مورد النصوص المتقدمة، و يكون التنبيه لوجدان برد الماء منه عليه السّلام لأنه موجب لليقين بغسل اليد في فرض عدم غسلها لغير الوضوء، كما هو المنصرف من الحديث، و لو فرض بقاء الشك معه كان من سنخ الوسواس الذي ينبغي إهماله.

ثمَّ إنه بعد ما تقدم لا حاجة للكلام في معيار كثرة الشك و فروعها، بل يوكل لمحله من مبحث خلل الصلاة، لأنه مورد الحاجة لذلك.

و اللّه سبحانه و تعالي ولي العصمة و السداد، و له الحمد علي نعمائه، و الصلاة و السلام علي خاتم أنبيائه و آله الطيبين الطاهرين.

ص: 50

الفصل الخامس في نواقض الوضوء
اشارة

الفصل الخامس في نواقض الوضوء يحصل الحدث (1) بأمور.

______________________________

(1) مراده به الأمر المسبب عن النواقض المذكورة المرتفع بالوضوء، و لأجله صار الوضوء سببا للطهارة، لوضوح أن الطهارة إنما تصدق بلحاظ ارتفاع نحو من القذر.

و بهذا تكون الطهارة مقابلة للحدث تقابل العدم و الملكة، كما هو الحال في الطهارة من الحدث الأكبر و من الخبث بالإضافة إليهما، كما صرح به شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و أما ما في الجواهر من أن التقابل بينهما تقابل التضادّ، فمن لم يبتل بسبب كل منهما لا يحكم عليه بأحدهما، و عليه رتب الفرق العملي بين شرطية الطهارة و مانعية الحدث.

فهو لا يناسب معني الطهارة عرفا، و لا قرينة علي نقلها عن المعني العرفي في المقام، و ليس اختلاف الشارع و العرف فيها ناشئا عن اختلاف مفهومها، بل اختلاف مصاديقها، لأنها من المعاني الإضافية، كما سبق في ذيل الدليل الأول من أدلة مطهرية الماء المطلق.

و هو لا ينافي عدم الحكم بالطهارة علي من لم يبتل بأسباب الحدث المعهودة، كما لعله مقتضي قولهم عليهم السّلام: «لا صلاة إلا بطهور» «1»، لإمكان الحكم

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب الوضوء.

ص: 51

الأول و الثاني خروج البول و الغائط

الأول و الثاني: خروج البول و الغائط (1)،

______________________________

عليه بالحدث حين وجوده و إن لم يطرأ سببه المعهود.

و من هنا كان الظاهر رجوع شرطية الطهارة لمانعية الحدث، كما هو المناسب لمرتكزات المتشرعة و عمل الفقهاء.

ثمَّ إن في كون الحدث حقائق متعددة بتعدد الأسباب أو حقيقة واحدة مستندة لكل منها قابلة للتأكد، أو لا، كلام تقدم في مبحث النية في ذيل الكلام في وجوب نية الرفع و الاستباحة.

هذا، و ظاهر غير واحد من الأصحاب إطلاق الحدث علي نفس الأسباب، و هي النواقض المذكورة، و لعله الأنسب بالمعني الاشتقاقي و الإطلاق العرفي.

بل هو الظاهر من صحيح إسحاق بن عبد اللّه الأشعري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: لا ينقض الوضوء إلا حدث، و النوم حدث» «1».

و خبر الكناني عنه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يخفق و هو في الصلاة، فقال: إن كان لا يحفظ حدثا منه إن كان، فعليه الوضوء و إعادة الصلاة.» «2».

و في المدارك أنه مشترك لفظي بين المعنيين. و الأمر سهل.

(1) بإجماع المسلمين، كما في التهذيب و المعتبر و المدارك، و في المنتهي أنه لا يعرف فيه خلافا بين أهل العلم، و عن غير واحد دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك، و إلي الكتاب المجيد في الغائط- النصوص المستفيضة «3»، بل لعلها متواترة معني.

و ظاهرهم- كالمتن- أنه يكفي خروجهما، و لا يعتبر إخراجهما بالنحو الذي يصحح نسبتهما للمكلف، و به صرح في الجواهر، و ظاهر غيره المفروغية عنه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(3) راجع الوسائل باب: 1، 2 من أبواب نواقض الوضوء و غيرهما.

ص: 52

سواء أ كان من الموضع المعتاد بالأصل (1)،

______________________________

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق نسبة الخروج للبول و الغائط في النصوص- ما تضمن الانتقاض بخروج حب القرع متلطخا بالعذرة «1»، و بخروج البلل المشتبه قبل الاستبراء «2»، و ما ورد في المسلوس و المبطون «3».

و به يخرج عما قد يوهمه التعبير بالحدث، بل قد يظهر من خبر الكناني المتقدم صدق الحدث بذلك.

كما أن ظاهرهم أن المراد من الخروج هو المتعارف المبني علي التحرك عن المخرج و الانتقال منه، لا مجرد الظهور لانفراج المخرج أو بروزه للخارج لعارض، كما قرّبه في جامع المقاصد و الروض و المدارك و كشف اللثام و الجواهر و محكي الذكري، و مال إليه في الرياض، لأنه الظاهر من الخروج في النص، و لا أقل من كونه المتيقن منه و مما تضمن ناقضية البول و الغائط، فيرجع في غيره لاستصحاب الطهارة.

فما في المنتهي و عن التحرير و التذكرة من الإشكال فيه، بل في المستند الجزم بالنقض، في غير محله. فتأمل.

(1) الظاهر أن المراد به الموضع الطبيعي لخروجهما في نوع الإنسان، و هو القبل في البول و الدبر في الغائط.

و الظاهر أنه المراد من الموضع المعتاد في المعتبر و الشرائع و المنتهي و القواعد و الإرشاد و الروضة، كما حمله عليه في جامع المقاصد و المسالك و الروض و المدارك، فذكر الاعتياد بلحاظ النوع، لا بلحاظ الشخص.

و كيف كان، فتحقق الحدث بما يخرج منهما مع فعلية الاعتياد للشخص هو

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 5 من أبواب نواقض الوضوء.

(2) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء.

(3) راجع الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء.

ص: 53

______________________________

المتيقن من النص و الفتوي، و مع عدمه- كما في الخروج منهما في المرة الأولي، أو لاعتياد الخروج من غيرهما لشذوذ خلقي- هو مقتضي إطلاق الانتقاض بخروج البول و الغائط في المقنع و المقنعة و الناصريات و النهاية و المبسوط و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و اللمعة، أو بما يخرج من الطرفين في الهداية، بل هو مقتضي إطلاق الانتقاض بخروجهما من الموضع المعتاد في كلام من عرفت، بناء علي حمله علي ما تقدم. و به صرح في المسالك و الروض و الرياض، و نفي الخلاف فيه في الحدائق، بل عن محكي شرح الدروس دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه إطلاق صحيح زرارة: «قلت لأبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: ما ينقض الوضوء؟ فقالا: ما يخرج من طرفيك الأسفلين- من الذكر و الدبر- من الغائط و البول، أو مني، أو ريح، و النوم حتي يذهب العقل» «1»، و نحوه غيره مما تضمن ناقضية ما يخرج من الطرفين و ناقضية البول و الغائط.

و الانصراف لصورة الاعتياد في المخرج- لو تمَّ- بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق.

لكن في الجواهر: «لعل قوله في خبر أبي بصير: «إنما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم بهما عليك» «2»، يرشد إلي اعتياد الخروج»، و كأنه لأن إنعامه تعالي بهما إنما هو بلحاظ كونهما طريقين معدين لخروج البول و الغائط، فمن لم يكونا له كذلك محروم من نعمتهما، و إن كانا عنده و تحقق الخروج منهما علي خلاف العادة، فلا يكون الخارج منهما خارجا من الطرفين اللذين أنعم اللّه بهما عليه.

و فيه- مع أنه لو تمَّ كون الإنعام بإعدادهما للخروج لا بنفس الخروج منهما، فهو لا ينهض بإثبات اعتبار اعتياد الخروج منهما كي لا يحصل الحدث بالخروج منهما في المرة الاولي، بل اعتبار إعدادهما للخروج، فلا يحصل مع اعتياد عدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2، و يأتي في تحقيق حكم الخارج من غير السبيلين الكلام في متن الحديث.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 54

أم بالعارض (1)، أم كان من غيره، علي الأحوط وجوبا.

______________________________

الخروج منهما لشذوذ خلقي-: أن الظاهر كون ذكر الإنعام فيهما لمحض الإشارة للجارحتين المخصوصتين، لا لتوقف الحكم عليه، غايته أنه يكشف عن فرض الإنعام بهما في حق المخاطب، فلا عموم للحديث في حق غيره ممن لا يتحقق في حقه الإنعام، فيرجع فيه لإطلاق بقية النصوص، و لا يصلح الحديث لتقييدها.

و إنما يتم ما ذكره لو كان بيان ذلك بلسان الشرط مثلا، كما لو قيل: إنما الوضوء من طرفيك إن أنعم اللّه بهما عليك.

هذا، و قد صرح في الشرائع و المعتبر و المنتهي و غيرها بعموم الحكم لما إذا كان المخرج المعهود في غير موضعه الطبيعي، و نفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه، بل في المنتهي و المدارك و عن التحرير دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه إطلاق النصوص المتقدمة، و لا ينافيه وصف الطرفين في بعضها بالأسفلين، لظهوره في الإشارة للجارحتين المعهودتين من دون دخل له في الحكم، نظير ما تقدم.

علي أن كونهما في غير موضعهما الطبيعي قد يجتمع مع كونهما أسفلين.

فما في الحدائق من الإشكال فيه، حملا للإطلاق علي المتعارف مع عدم حجية الإجماع، ضعيف.

(1) اختلفت كلمات الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في البول و الغائط الخارجين من غير السبيلين علي أقوال.

الأول: النقض مطلقا، كما عن ابن إدريس و التذكرة، و يقتضيه إطلاق الحكم بناقضية البول و الغائط ممن تقدم، و قوّاه في الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و قد استدل له بإطلاق الآية الشريفة، و بعض النصوص المتضمنة لناقضية البول و الغائط، كصحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يوجب الوضوء إلا من

ص: 55

______________________________

غائط أو بول.» «1»، مع حمل التقييد بالخروج من الطرفين في النصوص الأخر علي الغالب.

و ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن مراعاة الغلبة في المقيدات توجب مراعاتها في المطلقات فتقصر عن غير الغالب- و هو الخارج من غير السبيلين- فلا دليل علي ناقضيته.

كما تري! لعدم التلازم بين الأمرين، بل بينهما كمال التنافي، غاية الأمر أنه لا بد من النظر في وجه حمل القيد علي الغلبة مع أن الأصل فيه الاحتراز، و هو أمر آخر يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

و أما حمل الحصر علي كونه بالإضافة إلي ما يفتي العامة بناقضيته، كما هو الظاهر من صحيح أبي بصير أو موثقه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الرعاف [القي ء خ. ل]، و الحجامة، و كل دم سائل، فقال: ليس في هذا وضوء، إنما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم اللّه بهما عليك» «2»، لا بالإضافة إلي فاقد القيد المذكور.

فهو لا يتم ما لم يحمل القيد علي الغالب، لوضوح أن الحصر بالمقيد في مقابلهم يقتضي الاختصاص به، لا العموم للمطلق، فلا وجه لجعله وجها في مقابله، كما في الجواهر و غيره.

و أشكل منه ما أشار إليه من عدم حجية مفهوم القيد، لاختصاص ذلك بما إذا لم يقع القيد في مقام التحديد- كما في صحيح زرارة السابق- أو في حيز أدوات الحصر- كما في غير واحد من نصوص المقام- و إلا كان من مفهوم التحديد و الحصر، اللذين لا إشكال في حجيتهما.

الثاني: التفصيل بين ما يخرج من دون المعدة، فينقض، و ما يخرج من فوقها، فلا ينقض، كما في المبسوط، و الخلاف، و جواهر القاضي، و المذكور فيها و إن كان هو التفصيل في البول و الغائط معا، إلا أن دليله مختص بالغائط، فقد

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 56

______________________________

استدل علي النقض في الأول بالإطلاقات المتقدمة، و علي عدمه في الثاني بأن ما يخرج مما فوق المعدة لا يسمي غائطا.

و منه يظهر أن هذا التفصيل لا ينافي القول الأول، بل هو تفصيل في تحقق صغراه.

و قد استشكل فيه في المعتبر و غيره بأن المراد بالغائط في المقام الفضلة الخاصة، و هي الثفل، و لا خصوصية للمخرج في صدقه، بل لو فرض رجوعه إلي ما فوق المعدة و خروجه عن طريق الفم أو غيره لصدق عليه الغائط.

و قد وجه البهائي قدّس سرّه في الحبل المتين المراد من التفصيل المذكور بما قد يدفع الإشكال عنه، حيث حمله علي التفصيل بين ما يخرج بعد انحدار الطعام من المعدة للأمعاء و هضمها له و ما يخرج قبل ذلك، حيث لا يتضح صدق الغائط عليه حينئذ، بل هو يشبه القي ء، فالمراد مما يخرج دون المعدة الأول، و مما يخرج من فوقها الثاني.

و ما ذكره قدّس سرّه و إن لم يناسب مفاد كلام المفصلين، إلا أنه قريب، بلحاظ قرب كون المراد الخروج الانحداري، لأنه المنصرف، دون الرجوعي.

نعم، قد يشكل صدق الغائط بمجرد هضم المعدة للطعام و دفعه للأمعاء، بل لا يبعد احتياجه لمقدار من المرور في الأمعاء و امتصاصها منه في الجملة، و المدار علي الصدق العرفي، كما نبّه له شيخنا الأستاذ قدّس سرّه.

الثالث: التفصيل بين الاعتياد و عدمه، كما في الشرائع و القواعد، و عن الدروس و البيان.

و قد يوجه- بناء علي الرجوع للمطلقات- بانصرافها عن غير المعتاد، و بناء علي تقييدها بنصوص السبيلين بدخوله في إطلاقها، لصيرورته مخرجا عرفا- كما في جامع المقاصد- أو بمساواته للسبيلين، إما لكونه مما أنعم اللّه به- كما في المعتبر- أو لاستبعاد عدم الانتقاض بما يخرج منه.

لكن انصراف المطلقات عن غير المعتاد غير ظاهر، كما تقدم في صورة

ص: 57

______________________________

الخروج من المخرج الطبيعي.

علي أن المنشأ للانصراف- لو تمَّ- ليس هو الاعتياد، بل الغلبة، و هو يقتضي قصور الإطلاق عن الخارج من غير السبيلين، و لو مع الاعتياد، لكونه الفرد النادر من المطلق.

نعم، لو كان الانصراف للتغوط و التبول، لم يبعد كونهما منوطين بالاعتياد في غير السبيلين، إلا أنه تقدم عدم كونهما معيارا في الناقضية.

و شمول إطلاقات السبيلين له ممنوع جدا، لأن الظاهر منهما خصوص القبل و الدبر، كما هو المصرح به في صحيح زرارة المتقدم، لا كل ما يصدق عليه المخرج.

و كذا صدق الإنعام به، لظهور نسبة الانعام له تعالي في إرادة ما يكون بحسب أصل الخلقة، لا بسبب طارئ مستند للعبد.

مع أن الأنعام قد أخذ في النص وصفا للطرفين المقصود بهما خصوص السبيلين، و ليس هو تمام الموضوع للحكم.

مضافا إلي أن تحكيم النصوص المقيدة للإطلاقات يقتضي العمل بأخصها، و هو ما تضمن التقييد بالذكر و الدبر. فلاحظ.

و أما استبعاد عدم الانتقاض به، فهو لا يبلغ مرتبة الحجية في المقام.

الرابع: التفصيل بين انسداد المخرج الطبيعي و عدمه، فينقض في الأول، و لو في المرة الأولي قبل تحقق الاعتياد، دون الثاني، كما في الروضة و الرياض، و عن الجعفرية.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 58

و قد استدل عليه بما سبق من أنه يصير مخرجا منعما به، و غيره مما يظهر ضعفه بما تقدم.

كما قد يستدل عليه بالإجماع المدعي في المنتهي و المدارك.

و يشكل بعدم ظهور كلامهما في دعوي الإجماع في المقام، قال في المنتهي: «لو اتفق المخرج في غير المعتاد خلقة انتقضت الطهارة بخروج الحدث

ص: 58

______________________________

منه إجماعا، لأنه مما أنعم به، و كذا لو انسد المعتاد و انفتح غيره»، و المتيقن منه إلحاقه بما سبقه في الحكم- كما هو صريح المدارك- لا في الإجماع، مع عدم وضوح حجية دعوي الإجماع المذكورة.

و قد استدل بعض مشايخنا علي عدم الانتقاض مع انفتاح المخرجين و عدم اعتياد الخروج من غيرهما بنصوص التقييد بالسبيلين، كصحيح زرارة المتقدم، و علي الانتقاض مع انسدادهما بإطلاقات الانتقاض بخروج البول و الغائط، لاختصاص نصوص التقييد المذكورة بغير المورد، لأن الخطاب في صحيحة زرارة شخصي قد وجه إلي زرارة و كان سليم المخرج، و التعدي منه بالقطع بعدم خصوصية المورد إنما يصح لكل من كان سليم المخرج، دون غيره ممن انسد مخرجه، بل المرجع فيه الإطلاقات.

و فيه: أن زرارة كما كان سليم المخرج لم يكن له طريق آخر يخرج منه الخبثان، فلو كان الخطاب شخصيا لم يتجه التعدي منه لمن له الطريق الذي يخرج منه الخبثان باعتياد و بدونه، لعدم القطع بعدم دخل الخصوصية المذكورة، و إن لم يكن شخصيا، لإلغاء خصوصية المورد عرفا- كما هو الظاهر، حيث يفهم منه بيان موضوع الحكم في حق كل أحد- كان صالحا للاستدلال علي التقييد في حق من انسد مخرجه أيضا.

هذا، و قد اعتبر في المستند الاعتياد في النقض مع الانسداد، و حكاه عن نهاية الاحكام. لكن في كشف اللثام: «قيل: و لا شبهة في عدم اعتباره مع انسداد الطبيعي».

الخامس: التفصيل بالنقض مع انسداد المخرج الطبيعي مطلقا و لو في المرة الأولي قبل تحقق الاعتياد، و مع عدمه بشرط الاعتياد، و عدمه مع عدم الأمرين من الانسداد و الاعتياد، كما هو صريح المعتبر و المنتهي و جامع المقاصد و الروض، و ظاهر المدارك و عن الدلائل و مجمع الفائدة، و ظاهر الحدائق أنه المشهور، و ظاهر الرياض أنه الأشهر.

ص: 59

______________________________

و يظهر وجهه مما تقدم في القولين السابقين.

السادس: عدم الانتقاض مطلقا، كما مال إليه في الحدائق، و هو مقتضي الجمود علي ما تقدم من الصدوق في الهداية من الاقتصار علي ما يخرج من الطرفين. بل قد يظهر من الاقتصار علي ما يخرج من المعتاد في النافع و الإرشاد، بناء علي ما تقدم من ظهوره في المعتاد النوعي، إذ لو أريد به الاعتياد الشخصي لزم عدم ناقضية ما يخرج من الموضع الطبيعي من دون اعتياد.

و يستدل له بقصور الإطلاقات عنه، إما لانصرافها للفرد المتعارف، أو لتقييدها بنصوص الخروج من السبيلين، الذي هو العمدة في المقام، لما تقدم غير مرة من عدم التعويل علي مثل هذه الانصرافات.

هذا ما عثرنا عليه من أقوال الأصحاب، و قد ظهر مما سبق ضعف التفصيلات الأربعة في المقام، فلا بد من النظر في القول الأول و الأخير بالنقض مطلقا و عدمه كذلك.

و مدار الكلام فيهما علي أن نصوص السبيلين واردة مورد الغالب، أو مقيدة للإطلاقات.

و قد أصر غير واحد علي الأول، و قرّبه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأن الصلة ليست مناطا للحكم، لأن الموصول ليس للعموم، للزوم تخصيص الأكثر، فإن كثيرا مما يخرج من الطرفين ليس ناقضا، بل المراد به المعهود، و هو البول و الغائط و الريح، فتكون الصلة معرفة لذلك المعهود و مفسرة له، بلحاظ غلبة اتصافه بها، من دون دخل لها في الحكم.

و استشهد لذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه بما في صحيح زرارة من عطف البول بالواو، و عطف المني و الريح بأو، مع خروجها بأجمعها من السبيلين، حيث لا نكتة لذلك إلا كون البول و الغائط تفسيرا للموصول، لإرادة العهد به، و ما بعدهما معطوفا عليه، و لو كانا قيدا للموصول- لدخل عنوانه في موضوع الحكم- لشاركهما ما بعدهما في ذلك، و ناسب العطف بوجه واحد.

ص: 60

______________________________

و يشكل: بأن ظاهر الكلام كون الصلة مناطا للحكم، و لزوم تخصيص الأكثر بالنحو المستهجن ممنوع، لأن الفرد الشائع الكثير الوقوع المأنوس به الذهن هو الأمور الثلاثة المذكورة، فلا يستهجن عدم إرادة غيرها و إن كان أكثر عددا منها، و لا سيما مع قرب ورود التخصيص بالسبيلين لدفع توهم ناقضية مثل القي ء و الرعاف، كما تقدم في حديث أبي بصير، فيضعف إطلاق عقد الإيجاب فيه.

و أما صحيح زرارة، فما تقدم فيه مبني علي روايته بالوجه المذكور، كما في الوسائل، و هو مخالف لما في الكافي و التهذيب و الفقيه و الحدائق و الوافي من عطف البول علي الغائط ب «أو» مع تنكيرهما، كما هو المناسب لعطف النوم بالواو مع تعريفه، حيث يكون هو المعطوف علي الموصول و ما قبله من تتمة صلته.

بل حمل الموصول علي الإشارة لخصوص البول و الغائط دون الريح بعيد جدا غير مناسب لبقية النصوص المقتصر فيها علي ذكر ما يخرج من الطرفين، حيث لم تتعرض للريح، فلو لا دخوله فيما يخرج من الطرفين لكان المناسب التعرض له، كما تعرض له ما تضمن البول و الغائط بعنوانيهما.

فلا مجال للاستشهاد بالصحيح علي معرفية الصلة و عدم دخلها في موضوع الحكم.

فلم يبق إلا استبعاد دخلها في الحكم، لدعوي أن المناسبات الارتكازية تقتضي بأن المدار علي نفس الخبثين من دون خصوصية للمخرج، و لا سيما مع بعد عدم الانتقاض بالخارج من المعتاد غير السبيلين، خصوصا مع انسدادهما، لبعد انحصار الناقض للشخص المذكور بالنوم.

بل يظهر من غير واحد المفروغية عن الانتقاض حينئذ. فإن ذلك بمجموعه لو لم يكن قرينة علي صرف القيد للغالب، فلا أقل من كونه موجبا لإجماله، فيلزم الرجوع لإطلاق ما تضمن ناقضية البول و الغائط مما تقدم في حجة القول الأول.

لكن في بلوغ ذلك حدا صالحا للخروج عن ظهور القيد في الاحتراز إشكال.

ص: 61

______________________________

و المناسبات الارتكازية غير ظاهرة في مثل هذه الأمور التعبدية المحضة. و لا سيما مع صعوبة الالتزام بذلك في الريح، لعدم صدق عنوانه المذكور في النصوص مع خروجه من غير المخرج الطبيعي غالبا، كما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و استبعاد انحصار الناقض بالنوم في حق الشخص المذكور غير بالغ مرتبة الحجية بنفسه، و لا صالح للقرينية علي الكلام عرفا، بنحو يوجب التوقف عن ظهوره الأولي.

نعم، لو فرض ثبوت النقض في حق الشخص المذكور بإجماع أو نحوه، لم يبعد التعدي عنه لجميع موارد الخروج من غير السبيلين، و لو مع عدم الاعتياد، لقرب كشفه عرفا عن عدم دخل المخرج في الناقضية، و أن ذكره لمحض الغلبة، لما هو المرتكز عرفا حينئذ من اشتراك الكل في سبب واحد، و هو البول و الغائط.

و بعبارة أخري: لا يبعد كون إلغاء خصوصية السبيلين حينئذ مطلقا أقرب عرفا من قصر خصوصيتهما علي غير الشخص المذكور.

لكن لا طريق لإثبات النقض في حق الشخص المذكور، لما تقدم في القول الرابع من عدم ثبوت الإجماع، فلا مخرج عن ظهور القيد في الاحتراز، كما لا تصل النوبة لدعوي الإجمال الملزم بالرجوع لإطلاق أدلة ناقضية البول و الغائط.

علي أنه لم يتضح تمامية الإطلاق للأدلة المذكورة، و إن جرينا علي ذلك في عرض حجة القول الأول.

أما الآية الشريفة، فلأن المجي ء من الغائط فيها كناية عن قضاء الحاجة بالتخلي بالنحو المعهود، فالتعميم لمطلق خروج الغائط من الموضع الطبيعي و لو مع عدم صدق التخلّي- فضلا عن خروجه من غيره- مبني علي إلغاء الخصوصية عرفا، أو القطع بعدمها، و هما في محل المنع، و ليس استفادة العموم لكل ما يخرج من الموضع الطبيعي و إن لم يصدق التخلي إلا بضميمة الأدلة الأخر العامة أو الخاصة التي تقدم التعرض لها في أول الفصل.

ص: 62

______________________________

و أما النصوص المتضمنة للبول و الغائط بعنوانيهما، فلوضوح أن نسبة النقض للعين- بعد تعذر حمله علي استناده لمحض وجودها، للقطع بعدم ناقضيتهما قبل خروجهما- ينصرف لخصوص المتعلق الظاهر المعهود لها، و المتيقن منه الخروج بالنحو الطبيعي المعهود الذي يكون بالتخلي، كما تقدم في الآية.

و ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الظاهر في مثل ذلك الخروج من دون خصوصية للمخرج، لم يتضح بنحو معتدّ به، بل يبعد جدا فهم بعض أفراده من الإطلاق.

و ليس هذا من باب انصراف المطلق بسبب الغلبة- الذي تكرر منا منعه- بل هو راجع إلي منع الغلبة من انعقاد الإطلاق، و خروج الفرد غير المعهود عن المتيقن منه.

هذا، و قد يستدل للتعميم بما في العلل و عيون الأخبار، بسند لا يخلو عن اعتبار، عن الرضا عليه السّلام: «إنما وجب الوضوء مما خرج من الطرفين خاصة و من النوم دون سائر الأشياء، لأن الطرفين هما طريق النجاسة، و ليس للإنسان طريق يصيبه النجاسة من نفسه إلا منهما، فأمروا بالطهارة عند ما تصيبهم تلك النجاسة من أنفسهم» «1»، بدعوي: أن مقتضي عموم التعليل لكل طريق في البدن تصيبه النجاسة منه.

و هو كما تري! لظهور أن مثل هذه التعليلات ليست موضوعا للحكم بنحو يدور مدارها وجودا و عدما، بل هي من سنخ الحكمة غير المطردة و لا المنعكسة.

كيف و التعليل المذكور لا يناسب ناقضية الريح؟! بل مقتضاه عدم ناقضية البول و الغائط لو لم يستلزم خروجهما نجاسة البدن، و ناقضية خروج الدم من مثل البواسير و نحوها مما يخرج من طريق في البدن.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 63

______________________________

و قد تحصّل من جميع ما تقدم: أن الأدلة لا تنهض بالتعدي إلي ما يخرج من غير الموضع الطبيعي.

غاية ما في الأمر استبعاد عدم الانتقاض مع تعود الخروج منه، و لا سيما مع انحصار الطريق به لانسداد الموضع الطبيعي، كاستبعاد التعميم لمطلق الخروج منه و لو نادرا بسبب طعنة أو نحوها.

و جعل المدار علي التعود أو الانحصار لا تنهض به الأدلة، كجعل المدار علي ما يصدق معه عرفا قضاء الحاجة من تبول أو تغوط، بل هو لا يناسب ما تضمن ناقضية خروج الحب ملطخا بالعذرة و نحوه مما تقدم في أول الفصل.

و كأن هذا الاستبعاد هو الذي أوجب هذه التفصيلات التي عرفت عدم نهوض الأدلة بها.

فالظاهر أن ذلك فرد مسكوت عنه غير منظور إليه في إطلاق الأدلة و فتاوي قدماء الأصحاب، لعدم شيوع الابتلاء به، كما هو الحال في كثير من الفروع في أبواب الفقه، و إلا فمن البعيد فهم حكمه من هذه البيانات بنحو يستغني عن التنبيه عليه لو كان موردا للابتلاء، فلم يبق إلا الاحتياط في الفتوي و العمل، فإنه أسلم عاقبة. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم. و منه نستمد العون و التوفيق.

ثمَّ إنه لو بني علي النقض، فالمعيار هو الخروج عن حد البدن، فلو وضعت في المثانة- مثلا- أنبوبة (صوندة) لخروج البول و لها من طرفها الخارج سدّاد، كفي في النقض خروجه عن حد البدن و إن بقي في الانبوبة و لم يخرج عن السداد، فلو استمر خروجه لها يلحقه حكم السلس و إن انحبس بالسداد.

نعم، لو رجع من الانبوبة للداخل ثمَّ خرج لم يتحقق به النقض، لأن المنصرف من دليل النقض هو الخروج الأول المتعقب لتكون الخبث في البدن، دون الخروج المتعقب لدخول الخبث من الخارج، فلا يكون ناقضا حتي لو خرج من المخرج الطبيعي. فلاحظ.

ص: 64

و البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء بحكم البول ظاهرا (1).

الثالث خروج الريح من الدبر

الثالث: خروج الريح من الدبر (2).

______________________________

(1) كما تقدم في الفصل الرابع من مبحث أحكام الخلوة.

(2) بإجماع المسلمين، كما في التهذيب و المعتبر و المدارك، و في المنتهي أنه لا يعرف فيه خلافا بين أهل العلم، و عن غير واحد دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه النصوص «1» المستفيضة، بل لعلها متواترة معني. و قد تقدم بعضها.

و مقتضي إطلاقها- ككلام الأصحاب- عدم اعتبار الاعتياد في الخروج من الدبر، كما تقدم في البول و الغائط، خلافا لما قد يظهر من المراسم، حيث قال:

«و الريح الخارجة من الدبر علي وجه معتاد».

إلا أن يكون الاعتياد في كلامه وصفا للريح لبيان نوعها، لا قيدا في ناقضيتها، فيوافق ما في المتن.

كما أن مقتضي إطلاق معاقد الإجماعات و أكثر النصوص عدم اعتبار سماع الصوت أو ظهور الريح في النقض.

نعم، في صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يوجب الوضوء إلا من غائط، أو بول، أو ضرطة تسمع صوتها، أو فسوة تجد ريحها» «2»، و في موثق سماعة: «سألته عمّا ينقض الوضوء، فقال: الحدث تسمع صوته، أو تجد ريحه.» «3»، و نحوهما غيرهما. و بمضمون الموثق عبّر في المقنع.

و في المدارك: «و مقتضي الرواية أن الريح لا يكون ناقضا إلا مع أحد الوصفين».

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 2، 3 من أبواب نواقض الوضوء.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

ص: 65

أو من غيره، إذا كان من شأنه أن يخرج من الدبر (1)،

______________________________

و قد حمل غير واحد النصوص المذكورة علي صورة الشك، كما هو المناسب لما في صحيح معاوية بن عمار: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن الشيطان ينفخ في دبر الإنسان حتي يخيل إليه أنه قد خرج منه ريح، فلا ينقض الوضوء إلا ريح تسمعها أو تجد ريحها» «1».

و في صحيح عبد الرحمن: «أنه قال للصادق عليه السّلام: أجد الريح في بطني حتي أظن أنها قد خرجت. فقال: ليس عليك وضوء حتي تسمع الصوت أو تجد الريح، ثمَّ قال: إن إبليس يجلس بين إليتي الرجل فيحدث ليشككه» «2».

لظهورهما في ناقضية الريح بنفسها، و لذا يكون تخيلها سببا للشك في الانتقاض، و ليس اعتبار أحد الوصفين إلا لليقين بخروجها، بل هو صريح خبر علي ابن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «و سألته عن رجل يكون في الصلاة فيعلم أن ريحا قد خرجت، فلا يجد ريحها و لا يسمع صوتها. قال: يعيد الوضوء و الصلاة، و لا يعتدّ بشي ء مما صلي إذا علم ذلك يقينا» «3».

و من ثمَّ كان ظاهر الأصحاب المفروغية عن عدم اعتبارهما في الناقضية واقعا، لعدم تنبيههم عليه، بل في الرياض أنه لا ريب فيه.

و لذا لم يبعد حمل ما تقدم من المقنع علي صورة الشك، و لا سيما مع إطلاقه ناقضية الريح في صدر كلامه.

كما أنه احتمل في الجواهر عدم إرادة الخلاف مما سبق من المدارك.

(1) ظاهر غير واحد من الأصحاب أن الكلام هنا هو الكلام فيما سبق، حيث حرروا الكلام في الأحداث الثلاثة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

ص: 66

و لا عبرة بما يخرج من القبل (1) و لو مع الاعتياد.

______________________________

نعم، اقتصر في المبسوط و الخلاف و جواهر القاضي و محكي السرائر و التذكرة و المختلف في فرض الخروج من غير السبيلين علي الغائط و البول، و هو مقتضي ما تقدم من المراسم من تقييد الريح بالخارجة من الدبر، و ما عن السرائر من أن الريح غير الخارجة من الدبر علي وجه متيقن- كالخارجة من فرج المرأة أو مسام البدن- ليست ناقضة، و إن أمكن تنزيله علي ما ليس من شأنه الخروج من الدبر، كما تقدم في كلام المراسم.

و لعله لذا قال في محكي شرح المفاتيح: «ادعي المعتبرون للاعتياد الإجماع علي أن الجشأ لا ينقض. و ما ندري ما يقولون في الجشأ المنتن إذا اعتيد خروج الغائط من الفم مع انسداد المخرج الطبيعي».

و كيف كان، فقد أشرنا إلي أن العمدة في التعميم حمل التقييد بالسبيلين علي الغالب، و أنه لا يخلو عن إشكال. و هو في المقام أشكل، لأن صحيح زرارة المتقدم قد تضمن عنوان الضرطة و الفسوة، و صدقهما يختص بالخروج من السبيلين، و حمله علي ما من شأنه أن يسمي بهما محتاج إلي قرينة.

و استبعاد عدم الانتقاض مع الاعتياد أو الانحصار هنا أضعف منه هناك بالنظر للمرتكزات.

و كأن مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه من إطلاق الحكم هنا الجري فيه علي ما سبق من الاحتياط في الفتوي، و إلا فالجزم هنا بعموم النقض لا يناسب التوقف فيه هناك جدا بعد ما ذكرنا.

(1) كما في المنتهي و جامع المقاصد و الروض و المدارك، و عن الشهيد و الذخيرة و السرائر، و هو مقتضي ما تقدم من المراسم، لعدم صدق العنوانين المذكورين في صحيح زرارة المتقدم عليه.

و لأجله ضعف ما في المعتبر و عن التذكرة و شرح الموجز من أن الريح

ص: 67

الرابع النوم

الرابع: النوم (1).

______________________________

الخارج من قبل المرأة ينقض لأن له منفذا للجوف، و زاد عليه في محكي التذكرة ريح الأدر، المفسر بذي الفتق، بل عن بعضهم إطلاق ناقضية ما يخرج من الذكر.

إذ لا دليل عليه إلا إطلاق ما تضمن ناقضية الريح و ما خرج من السبيلين، الذي لو لم ينصرف لخصوص ما يخرج من الدبر- كما يناسبه ما تضمن تشكيك الشيطان- لوجب الخروج عنه بالصحيح المذكور.

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعي عليه الإجماع في الانتصار، و الناصريات، و الخلاف، و كشف اللثام، و محكي السرائر، و التذكرة، و شرح الموجز، و نسبه في المعتبر و المنتهي إلي علمائنا، و في محكي الكفاية إلي الأصحاب، و عدّه الصدوق في أماليه من دين الإمامية، و ادّعي في التهذيب إجماع المسلمين عليه. و في الجواهر: «الأخبار به متواترة، كالإجماعات المنقولة البالغة إلي حد يمكن دعوي تحصيل الإجماع من نقلتها».

و لأجله لا بد أن يحمل حصر الصدوق في المقنع و الهداية النواقض في الثلاثة المتقدمة علي كونه بالإضافة إلي غيرها مما يقول به العامّة لا بالإضافة إلي ما يعم النوم، كما يناسبه اقتصاره فيما نص علي عدم ناقضيته علي القي ء و القلس و الحجامة و المذي و الوذي و نحوها، إذ لو كان يري عدم ناقضية النوم لكان أولي من غيره بأن ينبه عليه، بسبب معروفية ناقضيته بين الإمامية، و لا سيما مع تصريحه في المقنع بأن من استيقظ من نومه فلا بأس بأن يدخل يده في الماء قبل أن يغسلها، إلا أن يكون قد بال، فإن ذلك مما تعرضت له- في الجملة- النصوص «1» و الفتاوي في الوضوء بنحو يظهر منه المفروغية عن ناقضية النوم، و كذا تصريحه في الفقيه بناقضية النوم.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 27 و 28 من أبواب الوضوء، و هي قد تضمنت الحكم علي خلاف ما في المقنع.

ص: 68

______________________________

و علي ذلك أيضا يحمل ما عن رسالة والده من عدم عدّ النوم من النواقض، و من ثمَّ نبّه في كشف اللثام علي عدم قدح ذلك في الإجماع، كما ذكر أن خلافه لو تمَّ لا يقدح فيه.

و كيف كان، فيقتضيه- مضافا إلي ذلك- الكتاب المجيد، بناء علي أن المراد من القيام إلي الصلاة فيه هو القيام من النوم، كما ادعي إجماع المفسرين عليه في الانتصار، و الناصريات، و المنتهي، و محكي التبيان، و نسبه لهم في الخلاف.

و يشهد به موثق ابن بكير: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قوله تعالي إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ ما يعني بذلك؟ قال: إذا قمتم من النوم. قلت: ينقض النوم الوضوء؟

فقال: نعم، إذا كان يغلب علي السمع و لا يسمع الصوت» «1».

مضافا إلي النصوص «2» المستفيضة أو المتواترة معني المتضمنة لناقضيته، و قد تقدم و يأتي بعضها.

و أما الحصر في غير واحد من النصوص بالثلاثة المتقدمة، فهو بالإضافة إلي بقية ما يخرج من السبيلين و غيرهما مما يخرج من الإنسان، كما تشير إليه بعضها، و يقتضيه الجمع بينها و بين نصوص المقام.

ثمَّ إن ظاهر النصوص و الفتاوي ناقضية النوم بنفسه، في قبال بقية النواقض، بل هو كالصريح منها، و من ثمَّ جزم به بعضهم.

و في الحدائق أنه قد يفهم من بعض كلماتهم كون ناقضيته باعتبار احتمال حصول الناقض حينه.

و ربما يستشهد له برواية أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يخفق في الصلاة. فقال: إن كان لا يحفظ حدثا منه إن كان فعليه الوضوء و إعادة الصلاة، و إن كان يستيقن أنه لم يحدث فليس عليه وضوء و لا إعادة» «3».

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(2) راجع الوسائل باب: 1، 2، 3، 4 من أبواب نواقض الوضوء.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

ص: 69

______________________________

و ما في العلل و العيون- بسند لا يخلو عن اعتبار- عن الرضا عليه السّلام: «قال: و أما النوم، فإن النائم إذا غلب عليه النوم يفتح كل شي ء منه و استرخي فكان أغلب الأشياء عليه فيما يخرج منه الريح، فوجب عليه الوضوء لهذه العلة» «1».

لكن ظاهر الثاني أن العلة هو التعرض للحدث مع النوم، و هو أمر أدركه الشارع ملاكا أو حكمة للحكم بناقضية النوم بنفسه واقعا مطلقا، و ليست العلة هي احتمال الحدث بنحو يكون هو الموضوع للنقض الظاهري، و يناط تشخيصه بالمكلف، كي لا يحكم بالنقض مع اليقين بعدم الحدث.

و أما الأول، فظاهر ذيله و إن كان هو ناقضية الحدث الذي قد يصاحب النوم- لا النوم بنفسه- إلا أن ظاهر صدره كون موضوع الناقضية واقعا هو كون المكلف بحيث لا يحفظ الحدث لو كان، و إن لم يكن حدث أصلا.

و تنزيل الصدر علي الذيل و إن كان هو الأظهر من الحديث، بجعل ناقضية الحالة المذكورة ظاهرية، بلحاظ استلزامها الشك في مصاحبة الحدث لها، إلا أنه قد يتعين- بلحاظ بقية نصوص المقام- تنزيل الذيل علي الصدر، بحمل اليقين في الذيل علي إرادة الالتفات حين الخفق، المستلزم لعدم تحقق النوم، في مقابل ما فرض في الصدر من فقد القوة الماسكة، المستلزم لفقد الالتفات، فيكون الحديث واردا لتحديد النوم الناقض، لأن مفروض السؤال هو الخفق الذي هو أعم منه، لا لبيان عدم ناقضية النوم بنفسه في فرض وجوده.

و إلا فلا مجال للخروج به عن نصوص المقام الكثيرة الظاهرة أو الصريحة في ناقضية النوم بنفسه كسائر النواقض، خصوصا صحيح إسحاق بن عبد اللّه الأشعري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا ينقض الوضوء إلا حدث، و النوم حدث» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 13.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

ص: 70

الغالب علي العقل (1)، و يعرف بغلبته علي السمع و البصر.

______________________________

(1) كما في المقنعة، و التهذيب، و المراسم و عن غيرها، و إليه يرجع ما في الناصريات من أنه الغالب علي العقل و التمييز، و ما في الغنية و عن جمل السيد من أنه ما يفقد معه التحصيل.

بل الظاهر أنه يرجع إليه ما في الروض و الروضة و المسالك و عن البيان من أنه الغالب علي مطلق الإحساس، و حدد بما يغلب علي السمع و البصر في المبسوط و النهاية و الخلاف و الوسيلة و المعتبر و الشرائع و النافع و المنتهي و الإرشاد و اللمعة، و نسب للأكثر.

و الظاهر رجوعه للأول مع كون منشأ الاختلاف بينهما اختلاف عبارات النصوص، أو نظر من ذكر الأول لحقيقة النوم، و من ذكر الثاني لطريق معرفته، كما جري عليه في المتن، و هو المستفاد من مجموع النصوص، بعد النظر في مفهوم النوم عرفا.

و توضيح ذلك: أن النصوص و إن اختلفت في بيان النوم الناقض، و أنه ما ذهب بالعقل- كما في صحيح عبد اللّه بن المغيرة و محمد بن عبد اللّه «1» - أو خالط القلب- كما في حديث الأربعمائة «2» - أو ما غلب علي السمع- كما في صحيح معمر بن خلّاد «3» و موثق بكير المتقدم «4» - أو ما غلب عليه و علي البصر- كما في مرسل سعد «5» - أو ما غلب عليهما و علي العقل- كما في صحيح زرارة «6» - إلا أن الأقرب عرفا في الجمع بينها تلازم الأمور المذكورة خارجا و عدم الفرق بينها

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

(6) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 71

______________________________

عملا، لما فيه من المحافظة علي ظهور كل منها في كفاية تحقق موضوعه في صدق النوم الناقض، و إنما يحتاج لتقييد بعض الأدلة ببعض و رفع اليد عن الظهور المذكور مع العلم بعدم تلازم موضوعاتها.

و يناسب ما ذكرنا قوله عليه السّلام في صحيح زرارة المتقدم: «و النوم حتي يذهب العقل. و كل النوم يكره إلا أن تكون تسمع الصوت» «1»، لعدم ظهوره في تقييد إحدي الفقرتين بالأخري، و لا يصح التحديد في مقام العمل بحدين إلا مع تطابقهما موردا.

و حينئذ، فحيث كان النوم عرفا حالة مقابلة للالتفات، و يلزمها عدم قيام الحواس بوظائفها، كان ذلك قرينة علي حمل ما تضمن التحديد بذهاب العقل علي الإشارة لحقيقته، و حمل ما تضمن التحديد بتعطل الحاستين علي بيان لازمه الخارجي الذي يصلح لأن يكون علامة له.

كما أن المستفاد من النصوص المعتبرة سندا هو كفاية كل من ذهاب العقل و ذهاب السمع- الذي عرفت رجوعه إليه لتلازمهما- دون ذهاب البصر، بل لا حاجة لضمه لذهاب السمع- و إن تضمنه المرسل و كلام الأصحاب- بل من القريب كونه أعم منه، كما قد يستفاد من قوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن، فإذا نامت العين و الاذن و القلب وجب الوضوء» «2»، لأن التنبيه فيه علي نوم العين مع عدم نوم القلب و الاذن، دون العكس مشعر أو ظاهر في ذلك.

و لعل الجمع بينهما في المرسل و كلام من عرفت للتنبيه لما أشير إليه في الصحيح من عدم الاكتفاء بنوم العين، لا لبيان عدم الاكتفاء بذهاب السمع أيضا.

و لعله لأجل ما ذكرنا كان ظاهر الأصحاب عدم الفرق عملا بين التحديدين المذكورين في كلماتهم، و إلا لزم إهمال كلتا الطائفتين لنصوص الطائفة الأخري بلا

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 72

______________________________

وجه، و لذا لم ينبه أكثرهم علي الخلاف من هذه الجهة، بل وقع كل من التحديدين في معاقد بعض الإجماعات السابقة، حتي أنه ادّعي الإجماع علي كل منهما من شخص واحد، فقد ادعي الشيخ قدّس سرّه الإجماع في التهذيب علي الأول، و في الخلاف علي الثاني.

بل هو كالصريح من المحقق في المعتبر، حيث جعل الموضوع في صدر كلامه النوم الغالب علي الحاستين، ثمَّ ذكر في بعض الفروع أن نقض النوم مشروط بذهاب العقل.

و أما ما ذكره المحقق و الشهيد الثانيان و نسب لجمع من الأصحاب من أن ذكرهم إبطال السمع و البصر لأنهما أعم الحواس إدراكا، فإذا بطل إحساسهما فقد بطل إحساس غيرهما، و لذا ذكر الشهيد الثاني أن المدار علي إبطال الإحساس مطلقا، فهو لا يخلو عن خفاء، و لذا تنظّر فيه في المدارك.

إلا أن يرجع إلي ما ذكرنا من أن المعيار الغلبة علي العقل المستلزم لبطلان الحاستين.

ثمَّ إن المراد بذهاب العقل هو ذهاب الإدراك بالوجه المعهود الذي تبتني عليه المسؤولية بنظر العقلاء، لا مطلق الإدراك، و إلا فهو قد يصاحب النوم.

كما أن المراد بإبطال الحاستين، هو إبطالهما بالوجه المصاحب للإحساس المذكور، الذي عبر عنه في الناصريات بالتمييز، و في الغنية بالتحصيل، إذ قد لا يوجب النوم تعطيلهما مطلقا، بل يتأثر النائم بهما تأثرا يشبه التأثر الغريزي، و لا يبتني علي التحصيل بالوجه المعهود.

هذا، و ظاهر النصوص المتقدمة تقييد ناقضية النوم بأحد الأمور المذكورة، مع كونه أعم منها موردا، إلا أنه يتعين حملها علي تحديد نفس النوم، مع كونه ناقضا مطلقا، و أنه عبارة عن المرتبة التامة، و أن ما نقص عنها من مبادئه، لا منه حقيقة، لعدم صدقه عرفا عليه، و للنصوص الظاهرة في أن مسمي النوم ناقض.

و لا سيما صحيح زيد الشحام: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخفقة

ص: 73

من غير فرق بين أن يكون قائما و قاعدا و مضطجعا (1).

______________________________

و الخفقتين. فقال: ما أدري ما الخفقة و الخفقتين، إن اللّه تعالي يقول:

بَلِ الْإِنْسٰانُ عَليٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، إن عليا عليه السّلام كان يقول: من وجد طعم النوم فقد وجب عليه الوضوء» «1». و قريب منه صحيح ابن الحجاج الآتي.

(1) كما هو معقد الإجماع المتقدم من الانتصار و الناصريات و المنتهي و محكي شرح الموجز، و عن الأكثر التصريح به.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق نصوص ناقضيته و عموم بعضها- صحيح عبد الرحمن بن الحجاج، المطابق لصحيح زيد الشحام المتقدم، إلا أنه حكي فيه عن علي عليه السّلام أنه كان يقول: «من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا، فقد وجب عليه الوضوء» «2».

و دعوي: معارضته بصحيح زيد لعدم تضمنه الزيادة المذكورة، و لا سيما مع قرب اتحادهما، لأن الذي روي صحيح زيد عنه هو عبد الرحمن بن الحجاج، فليس في المقام إلا صحيح واحد مضطرب السند و المتن.

مدفوعة: بأن الاختلاف بالزيادة إنما يوجب التعارض إذا كانت موجبة لتبدل المعني، دون ما إذا أوجبت زيادته أو توضيحه- كما في المقام- لإمكان كون عدم اشتمال أحد النقلين عليها لعدم تعلق الغرض بها.

و اتحادهما- مع مخالفته للأصل، لعدم كون القرينة المذكورة قطعية- لا يضر مع صحة كلا السندين.

و مثله في ذلك صحيح عبد الحميد بن عواض عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«سمعته يقول: من نام و هو راكع أو ساجد أو ماش، علي أي الحالات،

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

ص: 74

______________________________

فعليه الوضوء» «1».

و ربما ينسب للصدوق الخلاف في عموم ناقضية النوم، لأنه أورد في الفقيه موثق سماعة: «أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يخفق رأسه و هو في الصلاة قائما أو راكعا. قال: ليس عليه وضوء» «2»، و قال: «و سئل موسي بن جعفر عليهما السّلام عن الرجل يرقد و هو قاعد هل عليه وضوء؟ فقال: لا وضوء عليه ما دام قاعدا إن لم ينفرج» «3». لما ذكره في أول الكتاب من أنه لا يودع فيه إلا ما يفتي به و يكون حجة بينه و بين ربه.

و ما عن غير واحد من عدوله عن ذلك، غير ظاهر المأخذ.

و اشتمال الكتاب علي بعض النصوص المعلوم عدم حجيتها- كما ما يرويه عن العامة- لعله لأجل التأييد بها، أو لاشتمالها علي السنن.

و لا ينافي فتواه بمضمون الخبرين ذكره لبعض مطلقات ناقضية النوم في صدر كلامه، لقرب إرادة تقييدها بهما.

و كيف كان، فلا مجال للتعويل علي الخبرين.

أما الموثق، فهو و إن اعتضد بخبر الكاهلي: «سألت العبد الصالح عن الرجل يخفق و هو جالس في الصلاة، قال: لا بأس بالخفقة ما لم يضع جبهته عن الأرض أو يعتمد علي شي ء» «4».

إلا أن الخفق لا يلازم النوم، كما يظهر من صحيحي ابن الحجاج و زيد الشحام و خبر الكناني المتقدمة، فإنه: تحريك الرأس عند النعاس، كما في مجمع البحرين، و القاموس، و غيرهما.

علي أن خصوصية الصلاة في عدم انتقاض الوضوء ملغية عرفا، لبعد دخلها

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 12.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 11.

(4) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 75

______________________________

جدا، و لا سيما مع ما في بعض النصوص من عدم الترخيص به للصلاة «1»، و غاية ما يستفاد منه خصوصية القيام و الركوع، فيعارض بصحيح ابن الحجاج و خبر عبد الحميد المتقدمين.

و أما المرسل، فهو و إن اعتضد بخبر بكر الحضرمي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام هل ينام الرجل و هو جالس؟ فقال: كان أبي يقول: إذا نام الرجل و هو جالس مجتمع فليس عليه وضوء، و إذا نام مضطجعا فعليه الوضوء» «2».

إلا أنهما- مع ضعف سندهما و ظهور إعراض الأصحاب عنهما- معارضان بصحيحي ابن الحجاج و عبد الحميد المتقدمين، و صحيح معمر الآتي الوارد فيمن أغفي و هو قاعد «3»، و صحيح عبد اللّه بن المغيرة و محمد بن عبد اللّه الوارد في نوم الرجل علي دابته «4».

فلا بد من رفع اليد عنهما، لمخالفتهما لعمومات ناقضية النوم، و موافقتهما لبعض العامة، الملزمة بحملهما علي التقية، أو يحملان علي غلبة كون الاجتماع و عدم الانفراج مستلزما لاحتمال عدم تحقق النوم- كما حمله عليه الشيخ، و لعله مراد الصدوق- فلا ينافي عموم وجوب الوضوء لو علم بتحققه و لو مع عدم الانفراج.

و مثلهما رواية عمران بن حمران: «أنه سمع عبدا صالحا عليه السّلام يقول: من نام و هو جالس لا يتعمد النوم فلا وضوء عليه» «5».

لوضوح أنه لا مجال لحمل النصوص المتضمنة نقض النوم حال الجلوس علي خصوص صورة التعمد، لغلبة عدم تعمده حينه، فيتعين تقديم تلك النصوص عليها، و لا سيما مع ضعف سندها و ظهور إعراض الأصحاب عن مضمونها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 15.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 14.

ص: 76

______________________________

و أما صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل هل ينقض وضوؤه إذا نام و هو جالس؟ قال: إن كان يوم الجمعة في المسجد فلا وضوء عليه، و ذلك أنه في حال ضرورة» «1»، فلا مجال للتعويل عليه، بعد ظهور إعراض الأصحاب عنه.

مع أن التعليل فيه بالضرورة لا يناسب عدم انتقاض وضوئه، بل عدم تكليفه بالوضوء.

و من القريب أن يكون تطبيق الضرورة عليه بلحاظ منع الزحام له من الخروج مع رجحان صلاة الجمعة و لو ببعض مراتبها، المناسب لتشريع التيمم، كما تضمنه موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السّلام: «أنه سئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة، فأحدث أو ذكر أنه علي غير وضوء و لا يستطيع الخروج عن المسجد من كثرة الناس. قال: يتيمم و يصلي معهم، و يعيد إذا انصرف» «2»، و نحوه موثق سماعة «3»، المحمولان علي الاستحباب، و من ثمَّ حمله الشيخ علي ذلك.

و أما حمله علي إجزاء الصلاة للتقية- كما عن المنتقي- لما ذكره بعض مشايخنا من أن الخروج و ترك صلاة الجمعة معهم رأسا من دون بيان العذر مخالف للتقية بعد وجوبها عندهم، كما أن بيان العذر مخالف للتقية أيضا، لأن مذهب كثير منهم عدم الانتقاض بالنوم بالوجه المذكور، فهو كما لو توضأ بالمسح علي الخفين.

فيشكل بعدم التنبيه في الصحيح علي التقية بالوجه المذكور. و الضرورة أعم منها. كما لا دليل من غيره علي الاجزاء حينئذ، لأن المتيقن من دليل الإجزاء في التقية هو الإتيان بالعمل علي طبق مذهبهم، لا تركه رأسا، كما تقدم في محله.

و من الظاهر أن الصلاة بدون وضوء ليس مذهبا لهم، و الخلاف في انتقاض الوضوء ليس خلافا في كيفية أدائه بل في وجوده و عدمه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 16.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب التيمم حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 77

و مثله كل ما غلب علي العقل (1)

______________________________

كما أنه لم يفرض في مورد الصحيح التفاتهم لجهة الخلاف و متابعتهم فيما يقولون، لعدم فرض تنبيههم علي تحقق النوم بالوجه المذكور.

و لا سيما مع إمكان الاعتذار بحدث آخر مجمع علي ناقضيته- كالريح- فلو فرض تحقق موضوع التقية في المقام فهو في الصلاة معهم من دون وضوء، لمحذور في بيان عدمه، و هو لا يقتضي الإجزاء، كما تقدم.

(1) كما هو المعروف بينهم، علي اختلاف عباراتهم، حيث جعل بعضهم العنوان المذكور في قبال النوم، و جعل آخر النوم من صغرياته، و استغني ثالث بذكره عن النوم، و عطف رابع علي النوم بعض أفراده، كالمرض المانع عن الذكر، و السكر و الإغماء و الجنون. إلي غير ذلك مما يستفاد منه عدم اختصاص الناقضية بالنوم و عمومها لكل ما غلب العقل.

و عن الكفاية نسبته للأصحاب، و في المدارك و عن الدلائل دعوي الإجماع عليه، و عن الخصال أنه من دين الإمامية، و في التهذيب دعوي إجماع المسلمين عليه، و في المنتهي: «لا نعرف فيه خلافا بين أهل العلم»، و في البحار: «أكثر الأصحاب نقلوا الإجماع علي كونها ناقضة».

و قد استدل عليه الشيخ و غيره بصحيح معمر بن خلاد: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل به علة لا يقدر علي الاضطجاع، و الوضوء يشتد عليه و هو قاعد مستند بالوسائد، فربما أغفي و هو قاعد علي تلك الحال. قال: يتوضأ. قلت له: إن الوضوء يشتد عليه لحال علته، فقال: إذا خفي عليه الصوت فقد وجب عليه الوضوء.» «1»، بدعوي: أن مقتضي إطلاق الذيل فيه وجوب الوضوء بكل ما يخفي معه الصوت.

و فيه- كما أشار إليه غير واحد-: أنه ظاهر في تحديد الإغفاء الناقض الذي

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 78

______________________________

هو النوم. و لا ظهور له في عموم الانتقاض مع خفاء الصوت و لو مع النوم- إما لناقضيته بنفسه أو لملازمته لما هو الناقض- كي يدعي أن المورد لا يخصص الوارد، لعدم الابتداء ببيان ناقضيته، بل سيق لتأكيد ناقضية الإغفاء و تحديده.

و أضعف منه ما عن بعض متأخري المتأخرين من حمل الإغفاء فيه علي الإغماء، لظهور «ربما» في التكثير، لأنه الأكثر فيها- كما في مغني اللبيب- بل عن الشيخ الرضي أنه صار لها كالمعني الحقيقي، و التقليل كالمعني المجازي المحتاج للقرينة، و الذي يكثر في حال المرض هو الإغماء لا النوم.

و أما الإشكال في الاستدلال المذكور بأنه لا يطرد في السكر و الجنون، لعدم خفاء الصوت فيهما.

فهو مندفع، بأن المراد بخفاء الصوت ليس هو خفاءه رأسا، كيف و هو لا يخفي حتي في النوم، بل خفاؤه بالوجه المصاحب للإحساس المبني علي المسؤولية بنظر العقلاء، الذي عبر عنه في كلماتهم بالتحصيل و التمييز- كما تقدم في النوم- و هو حاصل فيهما ببعض مراتبهما، الذي هو المتيقن من كلماتهم في المقام، بقرينة سياقه مساق النوم فيها.

علي أنه إذا تمَّ ناقضية بعض أفراد فقد العقل أمكن التعدي لغيره بعدم الفصل. فتأمل.

و نظير الاستدلال المذكور في الضعف، الاستدلال بما تضمن تعليق ناقضية النوم بذهاب العقل، بدعوي: أنه يدل علي مناط الحكم.

لاندفاعه: بأنه ظاهر في تحديد النوم الناقض بما يذهب العقل، لا في عموم ناقضية ما يذهبه.

و كذا الاستدلال بعموم التعليل في خبر العلل و العيون المتقدم في أول الكلام في ناقضية النوم.

لاندفاعه: بأنه لا ظهور له في التعليل بما هو موضوع الحكم، بل في حكمة تشريعه، و لذا لا يظن من أحد البناء علي عموم الحكم لما يوجب الاسترخاء بنحو

ص: 79

______________________________

لا يحفظ من الريح مع بقاء العقل، علي أنه لم يتضح ملازمة ذهاب العقل للاسترخاء بالوجه المذكور.

و منه يظهر ضعف ما ذكره غير واحد من أنه إذا وجب الوضوء مع النوم الذي يجوز معه الحدث فمع الإغماء و السكر أولي.

إذ لو أريد الأولوية القطعية بلحاظ فهم علة الحكم، فهي- مع توقفها علي أولوية مورد التعدي من النوم في احتمال الحدث- موقوفة علي كون علة ناقضية النوم مجرد احتمال الحدث، و هو ممنوع، فإنه لو كانت ناقضية النوم طريقية لأجل احتمال الحدث- و غض النظر عما تقدم من منع ذلك- فهي لخصوصية في النوم، لا للانتقاض بمجرد ذلك الاحتمال، كي يتعدي عن النوم، إذ لا ريب في عدم الانتقاض به مع بقاء العقل.

و أشكل من ذلك ما لو أريد الأولوية العرفية الموجبة لظهور الكلام في العموم، الذي هو المعيار في مفهوم الموافقة- كما يظهر مما في المعتبر من الاستدلال بالمفهوم لا بالقياس- لأنها موقوفة علي كون العلة المشتركة من الظهور بحيث تكون من القرائن المحيطة بالكلام الموجبة لظهوره في التعدي لمورد الأولوية.

و نحو ذلك ما عن الأسترابادي من الاستدلال بتنقيح المناط.

نعم، في خبر الدعائم عن الصادق عليه السّلام: «إن المرء إذا توضأ صلي بوضوئه ذلك ما شاء من الصلوات ما لم يحدث، أو ينم، أو يجامع، أو يغمي [يغم. ظ] عليه» «1».

لكنه- مع اختصاصه بالإغماء- ضعيف السند غير منجبر بعمل الأصحاب، لعدم اعتمادهم عليه في الحكم المذكور، حيث لم يتعرضوا له، و مجرد موافقته لهم لا يكفي في انجباره.

فلم يبق في المقام إلا الإجماع الذي صرح غير واحد من المتأخرين بأنه

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 80

______________________________

العمدة في المقام، لاستفاضة نقله.

بل قال الفقيه الهمداني: «قلما يوجد في الأحكام الشرعية مورد يمكن استكشاف قول الإمام عليه السّلام أو وجود دليل معتبر من اتفاق الأصحاب مثل المقام، كما أنه قلما يمكن الاطلاع علي الإجماع لكثرة ناقلية و اعتضاد نقلهم بعدم الخلاف كما فيما نحن فيه. فاتفاق كلمة الأصحاب هو العمدة في المقام».

لكن في بلوغ دعوي الإجماع حدا يصلح لإثبات الحكم المذكور إشكال، إذ لا أهمية لنقله في كلمات المتأخرين- كصاحب المدارك- لما هو المعلوم من تعسر اطلاعهم عليه من طريق الحس، بل تعذره، و لا وثوق بحدسهم بعد خلو عبارات بعض الأصحاب عنه، بل ظهور حصرهم الناقض فيما عداه في الخلاف، كما هو الظاهر من حال أهل الأخبار الذين يظهر منهم الفتوي بمضمونها، و منهم الطبقة الأولي المتصلة بعصور المعصومين عليهم السّلام، الذين لم يتعودوا تحرير الفتاوي، حيث ذكروا في المقام النصوص المتضمنة للحصر المذكور.

و من هنا لزم حمل نسبة الحكم للأصحاب في الكفاية علي شيوعه بين أهل الفتوي منهم، لا الإجماع المصطلح.

كما لا مجال للتعويل علي ما تقدم من المنتهي، حيث يتعين حمله علي عدم العثور علي مصرح بالخلاف، و هو أعم من الإجماع.

و ما تقدم من البحار من نسبة دعوي الإجماع إلي أكثر الأصحاب و إن كان يزيد علي دعوي الاستفاضة- كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه- إلا أنه يوثق- بل يعلم- بعدم إرادة ظاهره، لقلة المدعين للإجماع منهم- كما سبق- و اطلاعه علي دعاوي كثيرة قد خفيت علي غيره مقطوع بعدمه، كيف و ظاهر آخر كلامه التشكيك في حصول الإجماع، حيث قال: «فالعمدة الإجماع إن ثبت».

و ما تقدم عن الخصال لم نتحققه، حيث لم يعهد من الصدوق فيه التعرض لشرح دين الإمامية، و إنما تعرض لذلك في الأمالي، و من المعلوم بسبر ما ذكره إرادته في كثير منه ما هو من دينهم بنظره الشريف، لا ما هو المجمع عليه بينهم.

ص: 81

من جنون أو إغماء أو سكر (1) أو غير ذلك.

______________________________

علي أنه صرح فيه بانحصار النواقض بما يخرج من الطرفين و النوم إذا ذهب بالعقل.

فلم يبق إلا دعوي إجماع المسلمين من الشيخ في التهذيب، و هي و إن لم تخل عن الأهمية، و لا سيما مع اعتضادها بجري من تأخر عنه عليها، إلا أن في كشفها عن تسالم قدماء الأصحاب علي الحكم بنحو يكشف عن رأي المعصومين عليهم السّلام إشكال، لقرب ابتنائها علي ملاحظة كلام المدونين للفتاوي كالمفيد و المرتضي و ابن الجنيد، مع استنادهم- كالمتأخرين- لما سبق من الاستدلالات.

و ما ذكره الفقيه الهمداني من أن تلك الاستدلالات لتطبيق الدليل علي المدعي- مع استغنائه عنه لوضوحه- لا لاستفادة المدعي من تلك الأدلة، بحيث لولاها لأفتوا بخلافه، غير ظاهر، بل لا يناسبه كلام بعضهم.

و لا مجال مع ذلك لإحراز موافقة الطبقة الأولي من الأصحاب الذين عرفت ظهور حالهم في متابعة النصوص الظاهرة في الحصر بما يخرج من الطرفين و النوم، لقوة ظهورها في خصوصية النوم و عدم كون ذكره لأنه من أفراد العنوان المذكور، و إلا كان المناسب التنبيه فيها له أو لبقية أفراده و عدم إغفال ذلك، لأنه مورد الحاجة.

و من هنا لا مجال للوثوق بالحكم، فضلا عن القطع به.

و لذا كان ظاهر الوسائل و الحدائق، بل البحار، التوقف في الحكم، و به يشعر ما في المفاتيح و عن الكفاية. فلاحظ.

(1) فإن هذه الأمور قد ذكرت في كلمات بعضهم بالخصوص، و الظاهر أن المراد منها ما يكون بمرتبة يخرج به الإنسان عن المسؤولية بالنحو المعهود عند العقلاء، و إن بقي الإدراك ببعض مراتبه معها، كما تقدم في النوم.

و ما دون ذلك من مراتبها خارج عن المتيقن من كلماتهم، بل يشكل صدق عناوينها عليه، فيتعين البناء علي عدم ناقضيته، كما هو الحال في غيرها من أفراد

ص: 82

الخامس الاستحاضة

الخامس: الاستحاضة، علي تفصيل يأتي إن شاء اللّه تعالي (1).

______________________________

العنوان المذكور في المتن.

(1) في الفصل الثالث من مباحث الأغسال.

هذا، و قد صرح جملة من الأصحاب بانتقاض الوضوء بطروء أحد أسباب الغسل. و الظاهر أنه ليس موردا للإشكال بينهم، و إنما أهمله بعضهم هنا لأنه بصدد بيان ما يوجب الوضوء وحده، و الاتكال في غيره علي ما يذكر في الأغسال.

و إنما الإشكال في أن إجزاء الغسل عن الوضوء في الجميع، أو يختص بالجنابة.

فالإشكال في إيجابها للوضوء، لا في ناقضيتها له.

و ليس مرجع النزاع في إجزاء الغسل عن الوضوء فيها إلي النزاع في توقف ارتفاع الحدث الأكبر المسبب عنها علي الوضوء، مع عدم إيجابها الحدث الأصغر.

و لذا لا يختص إجزاء غسلها عن الوضوء- علي القول به- بما إذا لم يصاحبه سبب الحدث الأصغر.

و لا إلي النزاع في رافعية غسلها للحدث الأصغر لو تحقق سببه من دون أن تكون هي مسببة له.

و لذا لا يختص عدم إجزاء غسلها عن الوضوء- علي القول به- بما إذا صاحبه سبب الحدث الأصغر.

و كيف كان، فيقتضيه في الجنابة: ما تقدم في صحيح زرارة «1» من جعل المني من جملة نواقض الوضوء، و في الجميع: ما يظهر من نصوص كل من إجزاء الغسل عن الوضوء و عدمه من المفروغية عن تحقق موضوع الوضوء.

و كذا ما تضمن مشروعية الوضوء للجنب و الحائض بلحاظ بعض الغايات، مع ما هو المرتكز عند المتشرعة من أن موضوع الوضوء هو الحدث الأصغر لا الأكبر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

ص: 83

مسألة 89 إذا شك في طروء أحد النواقض بني علي العدم

مسألة 89: إذا شك في طروء أحد النواقض بني علي العدم (1)، و كذا إذا شك في أن الخارج بول أو مذي (2)، فإنه يبني علي عدم كونه بولا (3)، إلا أن يكون قبل الاستبراء، فيحكم بأنه بول (4)، فإن كان متوضئا انتقض وضوؤه.

مسألة 90 إذا خرج ماء الاحتقان و لم يكن معه شي ء من الغائط لم ينتقض الوضوء

مسألة 90: إذا خرج ماء الاحتقان و لم يكن معه شي ء من الغائط، لم ينتقض الوضوء (5).

______________________________

و قد تقدم في مبحث تداخل الأغسال عند الكلام في الاجتزاء بالغسل عن الوضوء مع وجود الجنابة ما له نفع في المقام.

(1) لاستصحاب عدمه، المستغني به عن استصحاب الطهارة، الذي تقدم جريانه، في المسألة الخامسة و السبعين في أوائل أحكام الخلل.

(2) و كذا لو تردد بين البول و غير المذي، أو بين الغائط و غيره من الدود و نحوه مما ليس بناقض.

(3) هذا مبني علي استصحاب العدم الأزلي، الذي يشكل في خصوص المقام بأن البولية ليست من طواري الوجود عرفا، بل من الأمور الذاتية، فلا يقين بسلبها عن المشكوك حتي بلحاظ حال ما قبل وجوده.

فالأولي التمسك باستصحاب عدم خروج البول، لأنه يكفي في البناء علي عدم انتقاض الطهارة و إن لم يحرز حال الخارج، و لو غض النظر عنه أمكن الرجوع لاستصحاب الطهارة بناء علي ما هو التحقيق من جريان الاستصحاب مع الشك في رافعية الموجود.

و أما الخارج فيتعين الرجوع فيه لأصالة الطهارة، بعد ما ذكرنا من عدم جريان استصحاب عدم كونه بولا.

(4) كما تقدم في الفصل الرابع من مبحث أحكام الخلوة.

(5) فقد صرحوا بأن الخارج من السبيلين غير البول و الغائط و الريح و المني

ص: 84

و كذا لو شك في خروج شي ء من الغائط معه (1).

مسألة 91: لا ينتقض الوضوء بخروج المذي

مسألة 91: لا ينتقض الوضوء بخروج المذي (2)،

______________________________

- كالدود و الحصي و الحقنة و غيرها- لا ينقض الوضوء، و قد ادعي الإجماع علي ذلك في الخلاف و الغنية و ظاهر المنتهي و عن الدلائل.

و يقتضيه النصوص الكثيرة المتضمنة حصر النواقض مما يخرج من السبيلين بالأمور المذكورة المتقدم بعضها، و خصوص النصوص الواردة في ذلك، كموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سئل عن الرجل يكون في صلاته فيخرج منه حب القرع كيف يصنع؟ قال: إن كان خرج نظيفا من العذرة فليس عليه شي ء و لم ينقض وضوءه، و إن خرج متلطخا بالعذرة فعليه أن يعيد الوضوء» «1»، و غيره من النصوص الكثيرة.

و أما ما رواه الشيخ عن فضيل عنه عليه السّلام: «قال في الرجل يخرج منه مثل حب القرع. قال: عليه الوضوء».

فلا مجال للتعويل عليه بعد رواية الكليني له هكذا: «ليس عليه وضوء».

و من ذلك يظهر ضعف ما عن ابن الجنيد من نقض الحقنة إذا خرجت، و يأتي الكلام في بعض صغريات ذلك إن شاء اللّه تعالي، منا و من المتن.

(1) لاستصحاب عدم خروجه المستغني به عن استصحاب الطهارة، نظير ما تقدم في المسألة السابقة.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب (رضي اللّه عنهم) المدعي عليه الإجماع في الخلاف و الغنية و المنتهي و عن التذكرة و نهاية الاحكام.

و يقتضيه- مضافا إلي أخبار الحصر المشار إليها في المسألة السابقة- النصوص الكثيرة النافية لناقضيته بالخصوص، التي ذكر منها في الوسائل ما يزيد علي خمس عشرة رواية كثير منها معتبر السند:

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 85

______________________________

منها: صحيح بريد: «سألت أحدهما عليهما السّلام عن المذي. فقال: لا ينقض الوضوء و لا يغسل منه ثوب و لا جسد، إنما هو بمنزلة المخاط و البصاق» «1».

خلافا لما عن ابن الجنيد من النقض به إذا كان بشهوة. و عن بعض المتأخرين الاستدلال له بأنه مقتضي الجمع بين النصوص المذكورة و ما تضمن عموم ناقضيته، كصحيح ابن بزيع: «سألت الرضا عليه السّلام عن المذي فأمرني بالوضوء منه، ثمَّ أعدت عليه في سنة أخري فأمرني بالوضوء منه، و قال: إن عليا عليه السّلام أمر المقداد أن يسأل النبي صلّي اللّه عليه و آله و أستحيي أن يسأله، فقال: فيه الوضوء» «2»، و صحيح يعقوب بن يقطين: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يمذي و هو في الصلاة من شهوة أو من غير شهوة. قال: المذي منه الوضوء» «3»، و ما تضمن التفصيل المذكور، كصحيح علي بن يقطين: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن المذي أ ينقض الوضوء؟ قال: إن كان من شهوة نقض» «4». و مثله صحيح الكاهلي «5» و خبر أبي بصير «6».

و فيه: أنه لا مجال لذلك بعد ظهور إعراض الأصحاب عن هذه النصوص، و لا سيما مع كثرة الابتلاء بهذه المسألة، حيث يمتنع عادة خفاء حكمها عليهم.

و مجرد موافقة ابن الجنيد لها- في الجملة- لا يمنع من وهنها بذلك.

و أما ما ذكره الشيخ في التهذيب بعد ذكره لصحيح ابن بزيع من أنه لو صح لكان محمولا علي المذي الذي يخرج عن شهوة و يخرج عن المعهود من كثرته، فليس هو خلافا منه في المقام، و لا عملا منه بالخبر المذكور، لعدم جزمه بصحته، بل سبق منه أنه خبر ضعيف شاذ، بل اعتباره الكثرة خروج عن مفاد النصوص المذكورة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 17.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 16.

(4) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 11.

(5) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 12.

(6) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 10.

ص: 86

______________________________

علي أنه لا مجال للجمع المذكور مع إباء بعض نصوص الناقضية عن الاختصاص بصورة الخروج بشهوة، كصحيح يعقوب بن يقطين المتقدم، و صراحة بعض نصوص عدم الناقضية في صورة الخروج بشهوة، كصحيح عمر بن يزيد:

«اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة و لبست أثوابي و تطيبت فمرت بي وصيفة ففخذت لها فأمذيت أنا و أمنت هي، فدخلني من ذلك ضيق، فسألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك، فقال: ليس عليك وضوء و لا عليها غسل» «1»، و صحيح ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عنه عليه السّلام: «قال: ليس في المذي من الشهوة و لا من الإنعاظ و لا من القبلة و لا من مس الفرج و لا من المضاجعة وضوء.» «2».

و لا يقدح الإرسال من ابن أبي عمير، كما تقدم غير مرة، و لا سيما مع ظهور الإرسال عن غير واحد في اشتهار الحديث.

بل يظهر مما يأتي أن الغالب خروج المذي عن شهوة، فلا مجال لحمل النصوص الكثيرة المتضمنة لعدم ناقضيته علي خصوص صورة عدم الشهوة.

فلا بد من إهمال نصوص الناقضية المطلقة و المقيدة، إما لما تقدم من سقوطها عن الحجية بإعراض الأصحاب، أو لترجيح نصوص عدم الناقضية عليها بأنها أشهر رواية، و موافقة لعمومات الحصر المشار إليها، و مخالفة لمذهب العامة المدعي عليه إجماعهم.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من ترجيحها بموافقة الكتاب، لأن مقتضي إطلاق الآية الكريمة جواز الدخول في الصلاة بعد الوضوء و الغسل و إن خرج المذي، فهو لا يخلو عن إشكال، إذ الظاهر ورود الآية لبيان إيجاب النوم و الجنابة للوضوء و الغسل، لا لبيان أمد بقائهما و عدم انتقاضهما بغيرهما، لينفع فيما نحن فيه.

نعم، قد تحمل نصوص الناقضية علي الاستحباب إما مطلقا، كما حكاه في

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 13.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

ص: 87

أو الودي (1)،

______________________________

الحدائق عن جملة من متأخري المتأخرين، لما تضمنه صحيح ابن بزيع بطريق آخر صحيح أيضا من قوله: «قلت: و إن لم أتوضأ؟ قال: لا بأس» «1»، أو إذا كان عن شهوة، كما احتمله في الاستبصار، جمعا بين ذلك و نصوص التفصيل.

لكن قد يشكل الحمل علي الاستحباب باختلاف النصوص في جواب النبي صلّي اللّه عليه و آله للمقداد، ففي صحيح إسحاق بن عمار أنه قال: «ليس بشي ء» «2».

بل ذكر الشيخ أن ذلك هو المعروف من هذه القصة، و لا سيما مع إباء لسان بعض نصوص عدم الناقضية عن استحباب الوضوء، لشدة التأكيد فيها علي عدم الحاجة للوضوء بتشبيهه بالبزاق و نحوه.

فإن ذلك موجب للريب في نصوص الناقضية و مقرب لحملها علي التقية جدا.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في عدم وجوب الوضوء به، و ليس هو موردا للشك و حسن الاحتياط، كما يظهر من الحدائق، بل في المدارك بعد تقريب عدم الناقضية: «و الاحتياط هنا مما لا ينبغي تركه، لأن المسألة موضع تردد».

(1) كما نص عليه غير واحد، و ادعي الإجماع عليه في الحدائق، و الخلاف علي إحدي النسختين.

و يقتضيه- مضافا إلي ما تقدم في المسألة السابقة من الإجماع و نصوص الحصر- صحيح زيد الشحام و زرارة و محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

إن سال من ذكرك شي ء من مذي أو ودي و أنت في الصلاة فلا تغسله و لا تقطع له الصلاة و لا تنقض له الوضوء و إن بلغ عقبيك، فإنما ذلك بمنزلة النخامة، و كل شي ء خرج منك بعد الوضوء فإنه من الحبائل و البواسير و ليس بشي ء، فلا تغسله من

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 88

______________________________

ثوبك إلا أن تقذره» «1».

و مرسل حريز عنه عليه السّلام: «قال: الودي لا ينقض الوضوء، إنما هو بمنزلة المخاط و البزاق» [2].

و مرسل ابن رباط الآتي بناء علي استفادة حكمه منه بقرينة السياق.

نعم، في صحيح عبد اللّه بن سنان عنه عليه السّلام: «قال: ثلاث يخرجن من الإحليل، و هن: المني و فيه الغسل، و الودي فمنه الوضوء، لأنه يخرج من دريرة البول. قال: و المذي ليس فيه وضوء، إنما هو بمنزلة ما يخرج من الأنف» «3».

و قد حمله الشيخ و العلامة بقرينة التعليل علي من ترك الاستبراء، لأنه لا يخرج إلا و معه شي ء من البول، و استجوده في الحدائق.

و كأن وجهه: أن دريرة البول سيلانه، و لا معني للخروج منه، فإما أن يراد بالخروج منها الخروج من محلها- و هو الإحليل- أو الخروج معها مصاحبا لها كأنه منها، و حيث لم يكن الأول مناسبا للتعليل، لاشتراك الأمور الثلاثة فيه- كما تضمنه صدر الحديث- تعين الثاني، و يكون المراد به بيان الحال الغالب له لا الدائم، بقرينة ما تضمن عدم النقض بخروجه.

و أما ما في الجواهر و غيره من أن عدم الاستبراء إنما يوجب البناء علي ناقضية البلل المشتبه، دون ما يعلم بأنه غير بول و إن خرجت معه أجزاء بولية، لاستهلاكها بحيث لا تسمي بولا، بل يمكن دعوي طهارته، لخروجه عن المسمي

______________________________

[2] الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 15. ثمَّ ان الاستدلال بالصحيح و المرسل مبني علي رواية الودي فيهما بالدال المهملة، كما في الكافي و التهذيب، و عليه جري في الوسائل، و غير واحد من كتب الفقهاء.

اما روايته فيهما بالذال المعجمة كما في الاستبصار فيخرج عما نحن فيه و ينفع فيما يأتي. لكن يوهنه انه ذكره في الجواب عن صحيح ابن سنان الآتي الوارد في الودي بالمهملة فيكشف عن وقوع التصحيف فيه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 14.

ص: 89

أو الوذي (1)

______________________________

و عدم تنجسه في الباطن.

ففيه: أن مقتضي إطلاق نصوص الاستبراء شمول الناقضية للصورة المذكورة، كما تقدم في آخر فصل كيفية الاستبراء، و تقدم اختصاص عدم النقض بصورة الخلوص عن البول، و هي لا تناسب التعليل المذكور.

نعم، لا يكفي ما سبق في حمل الصحيح علي ما ذكره الشيخ، و لا أقل من إجماله، فلا يخرج به عما سبق.

علي أنه يكفي في وهنه في نفسه إعراض الأصحاب عنه، بل لا أقل من ترجيح معارضه عليه بأنه أشهر رواية، و موافق لعموم نصوص الحصر و غيرها، و مخالف للعامة.

ثمَّ إنه يظهر مما تقدم أنه لا مجال لإثبات استحباب الوضوء منه لأجل الصحيح المذكور، و إن حكي عن بعضهم.

(1) كما نص عليه غير واحد، و ادعي الإجماع عليه في الغنية و المنتهي و الحدائق و الخلاف علي إحدي النسختين.

و يقتضيه- مضافا إلي ما تقدم في المسألة السابقة من الإجماع و نصوص الحصر، و إلي عموم ذيل صحيح زيد الشحام و زرارة و محمد بن مسلم المتقدم- مرسل ابن رباط عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: يخرج من الإحليل المني و الوذي و المذي و الودي. فأما المني فهو الذي تسترخي له العظام و يفتر منه الجسد، و فيه الغسل. و أما المذي يخرج من شهوة، و لا شي ء فيه. و أما الودي فهو الذي يخرج بعد البول. و أما الوذي فهو الذي يخرج من الأدواء، و لا شي ء فيه» «1».

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

ص: 90

و الأول (1) ما يخرج بعد الملاعبة (2)،

______________________________

تنبيه تقارب الودي و الوذي في الرسم أوجب التشويش في عبارات الأصحاب، فقد يذكرون أحد الأمرين و يستدلون عليه بالنص الوارد في الآخر، و قد ينسب لأحدهم ذكر أحدهما أو دعوي الإجماع فيه مع أنه قد ذكر الآخر، و ما جرينا عليه في نقل كلماتهم و متون النصوص هو الذي تيسر لنا الاطلاع عليه من النسخ المطبوعة. و الأمر سهل بعد اشتراك الأمرين في وضوح عدم الناقضية و لو بسبب تسالم الأصحاب.

(1) و هو المذي قال في مجمع البحرين: «و فيه لغات: سكون الذال، و كسرها مع التثقيل، و الكسر مع التخفيف. و أشهر لغاته فتح فسكون، ثمَّ كسر ذال و شدة ياء. و عن الأموي: المذي و الودي و المني مشددات». و قريب منه في الحدائق، و ذكر اللغات الثلاث في القاموس، و اقتصر علي الأوليين في الجمهرة و لسان العرب، كما اقتصر علي الأولي في الصحاح و نقل عن الأموي ما تقدم من مجمع البحرين، و نقل في لسان العرب عن الأصمعي و علي بن حمزة الاقتصار علي الثانية.

(2) كما في النهاية، و في أدب الكاتب و الصحاح و لسان العرب و القاموس و مجمع البحرين: أنه ما يخرج عند الملاعبة و التقبيل. و قريب منه عن غيرها. و هو المذكور في كلام غير واحد من الأصحاب.

و مرجع الجميع ما تقدم في مرسل ابن رباط.

و يشير إليه ما تضمنه صحيحا إسحاق بن عمار و ابن بزيع من استحياء أمير المؤمنين عليه السّلام من سؤال النبي صلّي اللّه عليه و آله عنه.

لكن مقتضي صحيحي ابني يقطين المتقدمين و صحيح الكاهلي و خبر أبي بصير المشار إليهما آنفا عدم اختصاصه بالشهوة، كما يناسبه فرض خروجه أثناء

ص: 91

و الثاني (1) ما يخرج بعد خروج البول (2)، و الثالث (3) ما يخرج بعد خروج المني (4).

______________________________

الصلاة في صحيح زيد و زرارة و محمد بن مسلم المتقدم.

فيتعين حمل ما تقدم علي المعهود الشائع من حاله، و يكون التعرض في هذه النصوص للصورة النادرة، لتعلق الحكم الشرعي بها.

و من الغريب ما في الحدائق من الإشكال في مفاد هذه النصوص لأجل ما تقدم.

(1) و هو الودي. قال في مجمع البحرين: «بسكون الدال، و كسرها و تشديد الياء، و هو- علي ما قيل- أصح و أفصح من السكون». و قريب منه في الحدائق.

و ذكر اللغتين في الصحاح و مختاره و النهاية، و في لسان العرب حاكيا لهما عن ابن سيده. و اقتصر في الجمهرة و مفردات الراغب علي الأولي منهما.

(2) كما في الجمهرة و أدب الكاتب و النهاية و الصحاح و مختاره و القاموس و مجمع البحرين. و ذكره غير واحد من الأصحاب. و تقدم في مرسل ابن رباط، و يناسبه ما تقدم في صحيح ابن سنان.

لكن عن ابن الأنباري تقييده بما إذا كان قد جامع قبل ذلك أو نظر. و عممه في مفردات الراغب. قال: «و كني بالودي عن ماء الفحل عند الملاعبة و بعد البول.

فيقال فيه: أؤدي نحو أمذي و أمني». و قد يناسبه ما يأتي من الجمهرة في الوذي.

(3) و هو الوذي. قال في مجمع البحرين: «بالذال المعجمة الساكنة و الياء المخففة، و عن الأموي: بتشديد الياء: ماء يخرج عقيب إنزال المني، و في الحديث: هو ما يخرج من الأدواء. و ذكر الوذي مفقود في كثير من كتب اللغة».

و حكي في لسان العرب عن ابن الأعرابي فيه كلتا اللغتين.

(4) كما ذكره الصدوق في الفقيه، و في الحدائق أنه صرح به جملة من الأصحاب، و في الجواهر: «لم يحضرني من كتب اللغة ما أتحقق به ذلك، بل عن

ص: 92

______________________________

شارح الدروس: أنه لم يقف فيما يحضره من كتب اللغة علي شي ء مناسب له».

لكن تقدم من مجمع البحرين ما يشهد به.

و عن ابن الأعرابي تفسيره بالمني، و في الجمهرة: «و وذي الحمار و غيره وذيا إذا سال منيه. و هو مثل ودي بالدال. و ودي أكثر و أعلي».

نعم، ينافيهما ما في مرسل ابن رباط من أنه الذي يخرج من الأدواء، و ظاهره المرض.

و قد يناسبه ما في كلام غير واحد من اللغويين من أن الوذية العيب و العلة و الداء و الجراح، بل عن ابن الأعرابي: الوذي هي الخدوش. و في الحدائق: «و نقل بعض مشايخنا عن بعض نسخ الاستبصار «الأوداج» بدل «الأدواء» قال: و كأنه أريد بها العروق مطلقا، و إن كان الودج اسما لعرق في العنق».

فالأمر فيه لا يخلو عن إشكال، و إن لم يكن مهما، بعد ما سبق من عدم نقض ما يخرج من السبيلين غير الأمور الأربعة المتقدمة.

بقي في المقام أمور قال بعض أصحابنا بناقضيتها:

الأول: خروج الدم من أحد السبيلين إذا احتمل مصاحبته لشي ء من النواقض، فقد حكي عن ابن الجنيد ناقضيته، و كأن مراده النقض به ظاهرا.

و هو مخالف لعموم أدلة الاستصحاب. و احتمال النقض به واقعا- مع منافاته للاستصحاب أيضا- مناف لعموم الحصر المتقدم، و لإطلاق ما تضمن عدم الوضوء بخروج الدم مما يأتي الكلام فيه.

و أما ما تضمن الوضوء بخروج الدم «1»، فهو يقتضي النقض به و إن علم بخلوصه عن النواقض، مع أن المحكي عنه البناء علي عدم النقض به.

الثاني: مس الرجل باطن دبره أو باطن إحليله أو فتحه إحليله، فقد حكم الصدوق في الفقيه بإعادة الوضوء بها. و إلي الأولين يرجع ما عن ابن الجنيد من النقض بمس ما انضم عليه الثقبتان.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 12.

ص: 93

______________________________

و يشهد له موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سئل عن الرجل يتوضأ ثمَّ يمس باطن دبره. قال: ينقض وضوءه، و إن مس باطن إحليله فعليه أن يعيد الوضوء، و إن كان في الصلاة قطع الصلاة، و يتوضأ و يعيد الصلاة، و إن فتح إحليله أعاد الوضوء و أعاد الصلاة» «1».

لكن إعراض الأصحاب عنه مسقط له عن الحجية، خصوصا في مثل هذا الحكم الذي يشيع الابتلاء به، فيمتنع عادة خفاؤه علي جمهور الأصحاب.

و أما معارضته بعموم الحصر المشار إليه، و بما تضمن عدم النقض بمس الفرج «2»، فهو كما تري! لأنه أخص منهما.

نعم، لا يبعد قوة ظهور صحيحي زرارة المتضمنين للحصر بما يخرج من السبيلين و النوم في عدم نقض ما عداها، لأن عدم السنخية بين ما يخرج من السبيلين و النوم موجب لقوة ظهورهما في الاستيعاب و الحصر ردعا عما عليه العامة من النقض بغيرها، فيصعب رفع اليد عنهما بمثل هذه الرواية. فتأمل.

مضافا إلي ما في صحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يعبث بذكره في الصلاة المكتوبة فقال: لا بأس به» «3».

و في موثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يمس ذكره أو فرجه أو أسفل من ذلك و هو قائم يصلي، يعيد وضوءه؟ فقال: لا بأس بذلك، إنما هو من جسده» «4».

فإن العبث بالذكر و مسه حال القيام مبني علي نحو من الترسل و عدم التقيد، فكثيرا ما يستلزم فتح الإحليل، فعدم التنبيه علي ذلك ظاهر جدا في عدم قدحه، فيصعب رفع اليد عن ذلك بالموثق المذكور.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 10.

(2) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء و غيرها.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

ص: 94

______________________________

بل مثل هذا الحكم المخالف للقاعدة الارتكازية و لنصوص الحصر المشهورة، و البعيد عن الأذواق و الارتكازيات، و المستلزم لكثير من الضيق و الكلفة، لا يجتزأ في بيانه بخبر واحد، بل لو كان ثابتا لكثر السؤال عنه و كثرت النصوص في بيانه.

هذا، و في حمل الموثق علي الاستحباب أو التقية وجهان، أولهما مناسب لطريقتهم في سائر الموارد من حمل الأوامر علي الاستحباب إذا تعذر حملها علي الوجوب، لأنه نحو من الجمع العرفي المقدم علي التصرف في الجهة.

إلا أن ظاهر الأصحاب (رضي اللّه عنهم) في نواقض الوضوء الخروج عن ذلك، لعدم تصدي متقدميهم من أهل الفتوي لبيان ما يستحب منه الوضوء، كما تعرضوا لما يستحب له الوضوء و لما يستحب منه و له الغسل.

حيث يظهر منهم عدم قبول هذه النصوص للحمل علي ذلك بنحو يصلح لأن يعمل عليه و يفتي به، و إنما ذكره الشيخ احتمالا في مقام الجمع بين الأخبار و توجيه اختلافها، علي ما هي طريقته، و جري عليه بعض المتأخرين تبعا للقاعدة المشار إليها.

و يناسب عدم الاستحباب ورود النصوص المذكورة في موارد أقوال العامة بالنقض.

كما يناسبه في خصوص المقام قوة ظهور الموثق في الوجوب و صعوبة حمله علي الاستحباب، حيث تضمن قطع الصلاة مؤكدا علي ذلك في فروض المسألة.

بل إشعار التعليل في موثق سماعة بأنه من جسده في عدم المقتضي للوضوء حتي استحبابا. فلاحظ.

الثالث: مس ظاهر فرج الغير إذا كان محرما بشهوة، و مس باطنه مطلقا.

فعن ابن الجنيد النقض به- علي اضطراب في النقل عنه، كما قيل- و لم يتضح وجه التفصيل المذكور.

ص: 95

______________________________

نعم، في موثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا قبّل الرجل مرأة من شهوة أو مس فرجها أعاد الوضوء» «1».

لكنه- مع عدم مطابقته للدعوي، و ظهور إعراض الأصحاب عنه- معارض بما تضمن عدم النقض بمس الفرج، كمرسل ابن أبي عمير المتقدم في المذي، و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: ليس في القبلة و لا المباشرة [الملامسة خ ل] و لا مس الفرج وضوء» «2» و خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن رجل مس فرج امرأته. قال: ليس عليه شي ء، و إن شاء غسل يده، و القبلة لا تتوضأ منها» «3».

و دعوي: أن مقتضي الجمع بين الموثق و الأوّلين حملهما علي مس الإنسان فرج نفسه، و الثالث ضعيف السند فلا ينهض بمعارضة الموثق.

مدفوعة: بأن سياق الأوّلين يأبي الحمل علي خصوص مس الإنسان فرج نفسه، بل مس فرج المرأة كالمتيقن منهما، فحمل الموثق لأجله علي الاستحباب أو التقية أقرب.

و مما تقدم يظهر أن الثاني أنسب بالمقام، و لا سيما مع ما تضمنه خبر عبد الرحمن من التنبيه علي غسل اليد، حيث يظهر منه عدم المقتضي لغيره.

الرابع: القبلة بشهوة، فقد حكي عن ابن الجنيد ناقضيتها مطلقا، أو إذا كانت لمحرم.

و لا وجه له إلا موثق أبي بصير المتقدم و هو يناسب الإطلاق.

لكنه- مع وهنه بإعراض الأصحاب- معارض بمرسل ابن أبي عمير و صحيح زرارة و خبر عبد الرحمن المتقدمة، و مثلها في ذلك صحيح الحلبي «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 9 من أبواب ما ينقض الوضوء حديث: 5.

ص: 96

______________________________

و دعوي الجمع بينها و بينه بحملها علي القبلة بغير شهوة، كما تري، لندرة ذلك و إباء سياق المرسل عنه جدا.

و مما تقدم يظهر حال حمله علي الاستحباب.

الخامس: القهقهة في الصلاة متعمدا لنظر أو سماع ما أضحكه، فقد حكي عن ابن الجنيد ناقضيتها فيما حكي عنه.

و يقتضيه موثق سماعة: «سألته عما ينقض الوضوء، قال: الحدث تسمع صوته أو تجد ريحه، و القرقرة في البطن إلا شيئا تصبر عليه، و الضحك في الصلاة و القي ء» «1».

لكنه- مع إعراض الأصحاب عنه، و كونه أعم من المدعي- معارض بصحيح زرارة و موثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: القهقهة لا تنقض الوضوء و تنقض الصلاة» «2».

و حمله علي القهقهة في غير الصلاة يأباه سياقه جدا، لظهوره في أنها لو وقعت في أثناء الصلاة نقضتها دون الوضوء.

و صحيح ابن أبي عمير عن رهط سمعوه يقول: «إن التبسم في الصلاة لا ينقض الصلاة و لا ينقض الوضوء، إنما يقطع الضحك الذي فيه القهقهة» «3» و غيرهما.

و مما تقدم يظهر الحال في حمله علي الاستحباب.

ثمَّ إنه تقدم في أول فصل الاستنجاء من الصدوق وجوب إعادة الوضوء لمن توضأ قبل الاستنجاء. و هو راجع لكون نجاسة الموضع من سنخ الناقض، لمانعيتها من صحة الوضوء، كالحدث حال خروجه. و تقدم الكلام في ذلك.

هذا، و قد تضمنت كثير من النصوص النقض ببعض الأمور التي لا يعرف منا

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب ما ينقض الوضوء حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب ما ينقض الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب ما ينقض الوضوء حديث: 10.

ص: 97

______________________________

قائل بناقضيتها، ينبغي التعرض لها، لاحتمال استحباب الوضوء منها:

منها: القي ء، فقد تقدم في موثق سماعة النقض به، و مثله صحيح أبي عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الرعاف و القي ء و التخليل يسيل الدم إذا استكرهت شيئا ينقض الوضوء، و إن لم تستكرهه لم ينقض الوضوء» «1».

و قد يظهر من الأخير الاختصاص بصورة التعمد بجعل الاستكراه كناية عنه، فيكون شاهد جمع بين الموثق و النصوص الكثيرة المتضمنة عدم النقض بالقي ء «2».

لكن- مع عدم خلو الصحيح عن الإجمال- لا مجال لذلك بلحاظ موثق روح بن عبد الرحيم أو صحيحه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القي ء. قال: ليس فيه وضوء و إن تقيأت متعمدا» «3».

هذا، و قد تقدم الإشكال في الحمل علي الاستحباب، و يزيد هنا بما يأتي في خبر أبي هلال من استنكار السؤال عن الوضوء و نسبة القول به للمغيرة بن سعيد.

و منها: الرعاف، بل مطلق خروج الدم. ففي خبر عبيد بن زرارة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أصابه دم سائل. قال: يتوضأ و يعيد. قال: و إن لم يكن سائلا توضأ و بني. قال: و يصنع ذلك بين الصفا و المروة» «4».

و تقدم في صحيح أبي عبيدة ما يشهد به، و صحيح الحسن الوشاء: «سمعته يقول: رأيت أبي صلوات اللّه عليه و قد رعف- بعد ما توضأ- دما سائلا فتوضأ» «5».

لكنها معارضة بالنصوص الكثيرة الواردة في الرعاف و الحجامة و غيرها. «6».

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 12.

(2) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب نواقض الوضوء.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 12.

(5) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 13.

(6) راجع الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء.

ص: 98

______________________________

و قد عرفت بعد الجمع في هذه الموارد بالاستحباب، و لا سيما مع ما في خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام: «سمعته يقول: لو رعفت دورقا ما زدت [دما و رقي ما زدت. خ ل] علي أن أمسح مني الدم و أصلي» «1».

و في خبر أبي هلال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: أ ينقض الرعاف و القي ء و نتف الإبط الوضوء؟ فقال: و ما تصنع بهذا؟ هذا قول المغيرة بن سعيد، لعن اللّه المغيرة، يجزيك من الرعاف و القي ء أن تغسله و لا تعيد الوضوء» «2».

و منها: مس الكلب، ففي صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من مس كلبا فليتوضأ» «3».

و لا مجال للتعويل عليه بعد تسالم الأصحاب علي عدم ناقضيته، كما هو ظاهر بعض نصوص نجاسته، كصحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام:

عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل. قال: يغسل المكان الذي أصابه» «4»، لظهوره في بيان تمام ما يلزم المس.

و في حمل الأمر في الصحيح الأول علي الاستحباب- كما عن بعضهم- أو حمل الوضوء فيه علي غسل الموضع- كما ذكره الشيخ في التهذيب و الاستبصار- وجهان، ثانيهما أنسب بما تقدم من ظهور إعراض الأصحاب عن التعرض لاستحباب الوضوء.

و دعوي: أن الأول أقرب عرفا، لا تخلو عن خفاء.

و أما الحمل علي التقية، فهو موقوف علي وجود قول للعامة بناقضيته، و لم أعثر علي من نقله من أصحابنا عنهم.

و منها: مصافحة المجوسي، ففي خبر عيسي بن عمر [عمرو. خ ل]: «أنه

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 11 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

ص: 99

______________________________

سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يحل له مصافحة المجوسي؟ فقال: لا، فسأله:

يتوضأ إذا صافحهم؟ قال: نعم، إن مصافحتهم تنقض الوضوء» «1».

و لا مجال للتعويل عليه بعد تسالم الأصحاب علي عدم ناقضيته، و معارضته بصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن رجل صافح مجوسيا. قال: يغسل يده و لا يتوضأ» «2».

و قد حمله الشيخ في كتابيه علي غسل اليد، و يبعده عدم تعارف التعبير بالنقض في النجاسة الخبثية.

و مثله الحمل علي الاستحباب، لما تقدم، و لظهور الصحيح في عدم مشروعيته، إذ يكفي في بيان عدم وجوبه الاقتصار علي بيان غسل اليد. فتأمل.

و أما الحمل علي التقية، فيجري فيه ما تقدم في مس الكلب.

و منها: قبل الأكل و بعده. و محل الكلام الثاني، لأن الكلام فيما يتوضأ منه، الذي يناسب البحث في النواقض، لا فيما يتوضأ له، و إنما جمعا معا لاشتراكهما في الأدلة و كلام الأصحاب.

و كيف كان، فقد تضمن غير واحد من النصوص الأمر بهما، بنحو يظهر منه الاستحباب لا الوجوب، كصحيح أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: يا أبا حمزة الوضوء قبل الطعام و بعده يذيبان الفقر.» «3»، و غيره.

و لا إشكال في عدم الوجوب بملاحظة الإجماع، و السيرة، و النصوص الكثيرة، كصحيح بكير: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الوضوء مما غيرت النار. فقال:

ليس عليك فيه وضوء، إنما الوضوء مما يخرج ليس مما يدخل» «4» و زيد في

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 49 من أبواب آداب المائدة حديث: 1 و في الباب المذكور و ما بعده نصوص كثيرة متضمنة للوضوء.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

ص: 100

______________________________

بعضها: «فإنه يدخل طيّبا و يخرج خبيثا» «1».

و إنما الإشكال في ثبوت الاستحباب بذلك، كما يظهر من الجواهر حاكيا له عن النزهة، قال: «قيل: للأخبار، و ألفاظ الشارع تحمل علي الحقائق الشرعية، فلا معني لحمل الوضوء فيها علي غسل اليد».

لكن سبر النصوص الواردة في آداب المائدة- علي كثرتها- يشرف الناظر فيها علي القطع بإرادة غسل اليدين من الوضوء، بنحو يظهر منه شيوع الاستعمال المذكور، للاقتصار في طائفة علي الوضوء، و في أخري علي غسل اليدين، من دون أن يشار في شي ء منها للجمع بينهما أو أفضلية الوضوء من الغسل، كما ورد ذلك في نصوص أكل الجنب «2».

مع تقارب الطائفتين في بيان الآثار الوضعية لكل منهما، و اشتراكهما في نصوص بعض الاحكام، كنصوص استحباب البدء قبل الطعام بصاحب البيت و الختم بعد الطعام به، و استحباب الغسل للجماعة في إناء واحد، و استحباب التمندل بعد الطعام و تركه قبله «3».

و لا سيما مع أن ظاهر نصوص الوضوء الاقتصار عليه، و هو لا يناسب التنزه المطلوب شرعا و طبعا للطعام، لتعرض اليدين به للتقذر- عرفا- بمسح الرجلين.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك، بالنظر للتعبير بالوضوء في غسل الجماعة في المجلس الواحد «4»، للقطع بعدم إرادة الوضوء المعهود منهم، لما فيه من طول المدة و الخروج عن الوضع المألوف المناسب للاجتماع.

مع أن ذلك صريح خبر هشام بن سالم، لقوله بعد نقل الحث علي الوضوء:

«قال لي الصادق عليه السّلام: و الوضوء هاهنا غسل اليدين قبل الطعام و بعده» «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(3) راجع في النصوص المذكورة الوسائل باب: 50، 51، 52 من أبواب آداب المائدة.

(4) راجع الوسائل باب: 50، 51 من أبواب آداب المائدة.

(5) الوسائل باب: 49 من أبواب آداب المائدة حديث: 17.

ص: 101

______________________________

و ظاهر خبر محمد بن عجلان أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

الوضوء قبل الطعام يبدأ صاحب البيت، لئلا يحتشم أحد، فإذا فرغ من الطعام.

يكون آخر من يغسل يده صاحب المنزل.» «1».

و خبر الفضل بن يونس قال: «لما تغدي عندي أبو الحسن عليه السّلام و جي ء بالطشت بدئ به و كان في صدر المجلس، فقال: ابدأ بمن علي يمينك، فلما توضأ واحدا أراد الغلام أن يرفع الطشت، فقال له أبو الحسن عليه السّلام: دعها و اغسلوا أيديكم فيها» «2». للتعبير في صدرهما بالوضوء، و في ذيلهما بغسل اليدين.

هذا كله مضافا إلي عدم مناسبة استحباب الوضوء للتعليل المتقدم في نصوص عدم الناقضية، و لسيرة المتشرعة، لشدة إهمالهم له بنحو لا يناسب استحبابه جدا. فتأمل.

و منها: الغضب، فقد عده في الجواهر مما يستحب الوضوء منه، لما عن القطب الراوندي في دعواته: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: إذا غضب أحدكم فليتوضأ» «3».

و من الظاهر ابتناء استدلاله به علي قاعدة التسامح في أدلة السنن.

إلا أن من القريب جدا حمله علي إرادة استحباب الوضوء حين الغضب لتسكينه، نظير ما تضمن الأمر بالجلوس لمن غضب قائما، و القيام لمن غضب جالسا، و مس ذي الرحم لمن غضب عليه «4»، لا استحبابه بعده، ليكون مما يستحب الوضوء منه، بنحو يناسب ما نحن فيه من الكلام في النواقض.

و منها: الإكثار من إنشاد الشعر الباطل. ففي موثق سماعة: «سألته عن نشيد [نشد. إنشاء. استبصار] الشعر هل ينقض الوضوء؟ أو ظلم الرجل صاحبه أو الكذب؟ فقال: نعم، إلا أن يكون شعرا يصدق فيه، أو يكون يسيرا من الشعر:

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب آداب المائدة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 51 من أبواب آداب المائدة حديث: 2.

(3) مستدرك الوسائل باب: 47 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب جهاد النفس حديث: 4، 19.

ص: 102

______________________________

الأبيات الثلاثة و الأربعة، فأما أن يكثر من الشعر الباطل فهو ينقض الوضوء» «1».

و لا مجال للبناء علي الوجوب، بعد ظهور تسالم الأصحاب و سيرة المتشرعة علي عدمه المعتضد بنصوص الحصر.

و خبر معاوية بن ميسرة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن إنشاد الشعر هل ينقض الوضوء قال: لا» «2»، فإنه و إن كان أعم، إلا أن حمله علي غير مورد الموثق لا يخلو عن بعد، لشيوع مورده. فتأمل.

ثمَّ إنه لا مجال لحمله علي التقية، بعد عدم ظهور قول للعامة بناقضيته، بل في المنتهي دعوي إجماع علماء الأمصار علي عدمها.

و من هنا يقرب حمله علي الاستحباب- كما في التهذيب [3]- و لا سيما مع المناسبة الارتكازية بين فرض بطلان الشعر و نقض الوضوء به، بنحو ينبغي إعادته، لأنه آكد في التنفير عنه، بل هو المناسب للتسامح في تحديد الموضوع، لأن الكثرة و إن كانت من الأمور العرفية، إلا أن تطبيقها عندهم لا يبتني علي التدقيق.

و أما ما تقدم من أن إهمال الأصحاب لذكر ما يستحب الوضوء منه موهن للحمل علي الاستحباب، فهو من القرائن النوعية علي عدم حمل النصوص الكثيرة عليه، لأن كثرة الأمور المذكورة في النصوص تقتضي الاهتمام بها و التنبيه إليها لو كانت موضوعا للاستحباب بنظرهم، و هو لا ينافي غفلتهم عن خصوصية بعضها و حملها علي الأعم الأغلب، فلا ينهض إعراضهم في تلك الموارد برفع اليد عن مقتضي القاعدة من حمل الأمر علي الاستحباب بعد تعذر حمله علي الوجوب مع الالتفات لخصوصيتها. فتأمل جيدا.

هذا، و قد استشكل بعض مشايخنا في الحمل علي الاستحباب بعدم ظهور النصوص في الأمر المولوي، بل في كون الوضوء بعد الأمور المذكورة لأجل

______________________________

[3] و قد يرجع إليه ما في الاستبصار من الترديد بينه و بين احتمال التصحيف في «ينقص» و أنه بالصاد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

ص: 103

______________________________

ناقضيتها، و لا معني للناقضية الاستحبابية.

و يندفع: بأن مرجع الحمل علي الاستحباب في المقام إلي أن الأمور المذكورة ناقضة لمرتبة من الطهارة يستحب تحصيلها و إن لم تكن ناقضة للمرتبة اللازمة التحصيل منها، نظير ما ورد في آداب الصلاة و الصوم من التعبير بالقطع و الإفطار و نحوهما.

و قد تقدم في حكم البئر ما له نفع في المقام.

بقي في المقام أمران.

الأول: أن المرجع في تحديد الباطل هم المتشرعة، بما لهم من مرتكزات عرفية و شرعية، لأنهم هم المخاطبون بذلك، فمثل شعر الموعظة و التاريخ و العلم و مدح و هجاء من يستحق حق، و مثل شعر الغزل و التشبيب و مدح و هجاء من لا يستحق باطل.

أما المرجع في تحديد الكثرة فهم العرف، إذ ليس للشارع تحديد أو تطبيق يخرج به عن المرتكزات العرفية.

و ما تضمنه الموثق من ذكر الأبيات الأربعة غير وارد للتحديد، بل التمثيل.

فتحديد موضوع استحباب الوضوء بذلك في المدارك في غير محله.

نعم، هو كاشف عن مقاربته للكثرة. فلاحظ.

الثاني: قال في الجواهر: «و الإنشاء أقوي من الإنشاد. و تكرير البيت أو البيتين لا يوصفهما بالكثرة. و لو أنشد ثمَّ حذف منه بحيث أفسد شعريته احتمل خروجه عن الحكم، و لعل الأولي خلافه. و لا دخل للاتصال و الانفصال، فلو قرأ في أوقات متعددة بحيث يكون مجموعها كثرة ترتب الحكم».

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 104

و ما ذكره قريب، عدا جريان الحكم مع إفساد الشعر، فإنه ممنوع، لعدم صدق إنشاد الشعر حينئذ.

كما أن الإنشاء إنما يكون أقوي من الإنشاد إذا ابتني علي قراءة الشعر، كما في الارتجال، بل قد يصدق عليه الإنشاد، أما الإنشاء من دون قراءة، كما لو حرره

ص: 104

______________________________

كتابة، فلا مجال لإلحاقه به، فضلا عن دعوي أقوائيته منه.

و منها: ظلم الرجل صاحبه، لموثق سماعة المتقدم، و يظهر الكلام فيه مما سبق.

و منها: الغيبة، إما لأنها من أفراد الظلم، أو للنبوي: «من اغتاب أخاه المسلم بطل صومه، و نقض وضوءه» «1». و الكلام فيه كما في سابقة.

و منها: الكذب، كما في الجواهر و غيرها. و يقتضيه موثق سماعة المتقدم، و موثقه الآخر: «سألته عن رجل كذب في شهر رمضان، فقال: قد أفطر و عليه قضاؤه و هو صائم يقضي صومه و وضوءه إذا تعمد» «2».

و قد يشكل فيه: باحتمال كون نقض الوضوء لأجل نقض الصوم بالكذب، كما يناسبه عطفه علي القضاء المتفرع علي الإفطار، لا لأجل الكذب بنفسه.

فالعمدة الموثق الأول، فيجري فيه ما تقدم.

لكن قد يدعي لزوم تقييده بموثق أبي بصير أو صحيحه: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: الكذبة تنقض الوضوء و تفطر الصائم. قال: قلت له: هلكنا. قال:

ليس حيث تذهب، إنما ذلك الكذب علي اللّه و رسوله و علي الأئمة عليهم السّلام» «3».

و فيه: أن كون المفطر الناقض للوضوء هو الكذب الخاص لا ينافي كون مطلق الكذب ناقضا للوضوء فقط.

علي أنه بعد حمل النقض علي مرتبة من النقض في الطهارة تقتضي استحباب الوضوء فهو قابل للشدة و الضعف، بأن يكون المراد بالموثق المرتبة الضعيفة منه، و بحديث أبي بصير المرتبة الشديدة منه، و هو أقرب من تقييده بالفرد القليل غير الشائع.

نعم، المناسبات الارتكازية تقتضي تقييده بالتعمد، كما هو مقتضي الموثق

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب ما يمسك عنه الصائم و وقت الإمساك حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب ما يمسك عنه الصائم و وقت الإمساك حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب ما يمسك عنه الصائم و وقت الإمساك حديث: 2.

ص: 105

______________________________

الثاني، لو تمَّ الاستدلال به.

هذا ما تيسر لنا العثور عليه من موارد النصوص و كلمات الأصحاب. و ربما فاتنا شي ء قد يظهر الحال فيه مما تقدم.

بقي في المقام أمران.

الأول: لو قيل باستحباب الوضوء من هذه الأمور أو بعضها، فقد قال في الجواهر: «و لعل الاستحباب في هذه الأمور و ما شابهها إنما هو تأكد استحباب التجديد».

و لعله مقتضي إطلاق نصوص التجديد «1» المتضمنة أن الوضوء علي الوضوء كفارة لما مضي في ليله أو نهاره من الذنوب ما خلا الكبائر، و أنه عشر حسنات.

نعم، مقتضي ما في بعض نصوصه من أنه نور علي نور كونه مؤكدا للطهارة، و مقتضي نصوص المقام كونه مكملا لنقصها المسبب عن الأمور المذكورة، فيتقابل أثراهما.

لكن المضمون المذكور- مع عدم وروده إلا في مرسلة الصدوق «2» - لا ينافي الإطلاقات. فلاحظ.

الثاني: لو صادف الوضوء هنا حدثا ارتفع به، لأن الظاهر اتحاد ماهية الوضوء، و أن اختلاف أثره لاختلاف حال المتوضي، فإن كان محدثا ارتفع حدثه كما تقتضيه نصوص النواقض، و إن كان ناقص الطهارة تكملت طهارته، و إن كان تام الطهارة تأكدت طهارته، كما تقتضيه بعض نصوص التجديد، نظير ما تقدم في آخر المسألة الواحدة و السبعين في الوضوء التجديدي.

و لذا لا ريب ظاهرا في عدم الأثر لهذه الأمور لو وقعت حال الحدث، لاندكاك أثرها فيه، كما لا يستحب الجمع بين الوضوء لها و الوضوء للحدث لو وقع

______________________________

(1) تراجع النصوص المذكورة في الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 106

______________________________

بعدها، و لا يشرع الوضوء منها بنحو لا يترتب عليه رفع الحدث، كما لو وقع أحدهما في أثناء حدوث الآخر، مع أنه لو كان الوضوء المذكور مباينا بماهيته للوضوء الرافع، كان ذلك مخالفا لإطلاق أدلته.

و منه يظهر الحال فيما لم يثبت مشروعيته، بل جي ء به برجاء المطلوبية، فإنه في فرض مصادفته للحدث تنكشف مشروعيته و صحته، بعد فرض كون الوضوء حقيقة واحدة مقصودة في المقام، و إن لم يكن الداعي لها رفع الحدث.

و أما دعوي: أن عباديته موقوفة علي قصد الأمر به، و المفروض عدم قصد الأمر برفع الحدث للاعتقاد بعدمه، و أن الأمر الاستحبابي المقصود احتمالي غير محرز بنفسه ليحرز صحة الوضوء به و عباديته كي يكون رافعا للحدث، إلا أن يؤتي به بنية الأمر الفعلي، بنحو ينطبق علي الأمر برفع الحدث في ظرف مصادفته، لكنه محتاج إلي عناية يبعد تعمدها مع الاعتقاد بعدم الحدث.

فيظهر اندفاعها مما تقدم في المسألة الواحدة و السبعين من أن عبادية الوضوء إنما تقتضي إيقاعه بوجه قربي و إن لم يصادف الأمر، و يكفي في ذلك الإتيان به في المقام برجاء المطلوبية. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم، و له الحمد.

ص: 107

الفصل السادس في المسلوس و المبطون
اشارة

الفصل السادس من استمر به الحدث في الجملة (1)- كالمبطون و المسلوس و نحوهما (2)- له أحوال أربع.

______________________________

(1) بنحو يشمل ما إذا كان متقطعا يتعذر في بعض الوقت إيقاع الصلاة بدونه، ليشمل جميع الصور المفروضة، خصوصا الأولي منها.

(2) النصوص إنما تعرضت للمسلوس و المبطون و المستحاضة التي يأتي الكلام فيها في محلها، و كلام جمهور الأصحاب مختص بها، مع ظهور كلام بعضهم في دخول مستمر الريح في المبطون حقيقة أو حكما.

نعم، حكي في مفتاح الكرامة التعدي لغيرها من الأحداث عن بعض الأصحاب من دون تعيين، و ظاهر الجواهر الجري عليه.

و هو غير ظاهر الوجه بعد قصور النصوص عنه.

و لا مجال لفهم عدم الخصوصية لمواردها بعد عدم كون الحكم ارتكازيا، بل تعبديا مخالفا للقواعد المقتضية لتعذر الصلاة بتعذر شرطها، خصوصا مثل الطهارة التي لا تسقط بالتعذر عند المشهور علي ما يأتي في فاقد الطهورين إن شاء اللّه تعالي.

و عدم ناقضية الحدث في المقام للضرورة ليس بأولي ارتكازا من عدم ناقضية الحدث السابق في فاقد الطهورين لأجلها.

و مثله التعدي بتنقيح المناط، إذ لا طريق لإحراز المناط، و لا سيما مع اختلاف الاستحاضة عن المسلوس و المبطون في أحكام بعض الفروض، مع

ص: 108

الأولي أن تكون له فترة تسع الوضوء و الصلاة الاختيارية

الأولي: أن تكون له فترة تسع الوضوء و الصلاة الاختيارية (1)، و حكمه وجوب انتظار تلك الفترة (2)

______________________________

اشتراكها معهما في استمرار الحدث، بل احتمال الاختلاف بين المسلوس و المبطون في الاحكام.

و من هنا يتجه الاقتصار علي ما إذا كان استمرار الحدث لمرض يصدق معه العناوين التي تعرضت لها النصوص، دون ما إذا كان لضرورة خارجية، من إكراه، أو نحوه.

بل يتعين في الجميع الرجوع فيه للقاعدة المقتضية للمحافظة علي الصلاة في فترة تسع الطهارة المائية ثمَّ الترابية مع الصلاة بدون حدث إن كانت هناك فترة، و إلا فالبناء علي تعذر المشروط بتعذر شرطه و سقوط الأداء و انتظار القضاء بعد ارتفاع العذر، لو لم نقل بسقوط القضاء، لعموم ما ورد في المغمي عليه من أن ما غلب اللّه عليه فهو أولي بالعذر.

و أما ما عن شرح المفاتيح من عدم سقوط الصلاة- يعني في الوقت- إجماعا، فهو غير ظاهر بنحو ينهض بالخروج عن القاعدة، لعدم تحرير المسألة في كلماتهم، و عدم قيام الارتكازيات عليها بنحو معتد به.

علي أنه لو تمَّ أو كان الشفاء ميؤوسا منه أو بعيد الأمد بنحو يقطع بعدم رضا الشارع بترك الصلاة في الوقت، فاللازم ملاحظة القواعد العامة في اختيار الصلاة الميسورة، فإذا أمكنت الصلاة التامة مع الطهارة المائية ثمَّ الترابية تعينت، كما ذكرنا، و إلا لزم ملاحظة الأهمية في الأجزاء و الشرائط، و لا يجوز اختيار الصلاة مع الحدث المتجدد- كما في المسلوس و المبطون- ابتداء، إلحاقا له بهما بعد ما سبق، فلاحظ.

(1) و أما لو لم تسع إلا الصلاة الاضطرارية بنقص بعض الأجزاء أو الشرائط، فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما في جامع المقاصد، و ذكره في المسلوس في الروض و المسالك

ص: 109

______________________________

و المدارك و محكي التذكرة و علّله في الروض و المدارك بما يقتضي التعميم للمبطون، و في الجواهر في المسلوس: كما صرح به جمع من الأصحاب، بل لا أجد فيه خلافا هنا سوي ما ينقل عن الأردبيلي.»، و ذكر في المبطون أن التأمل في كلماتهم، بل تصريح بعضهم شاهد بخروجه عن محل النزاع. و يستفاد بالأولوية ممن أوجب عليه المحافظة علي الصلاة الاضطرارية مع الطهارة لو تمكن منها، كما في كشف اللثام و عن السرائر.

و كيف كان، فهو مقتضي القاعدة في الواجب الاختياري، حيث يجب المحافظة عليه مع القدرة.

و منه يظهر ضعف ما عن الأردبيلي في مجمع البرهان. قال: «يجوز له الصلاة في أول الوقت، لعموم أدلة الأوقات و الصلاة، و كون العذر موجبا للتأخير غير متيقن، و للحرج و الضيق».

لاندفاعه: بأنه يلزم الخروج عن العموم بعد تقييده بالصلاة عن طهارة بالمحافظة عليها. و هو الدليل علي إيجاب العذر للتأخير.

و الحرج النوعي- لو تمَّ- لا يسقط التكليف، و الشخصي- مع عدم اطراده- لا يقتضي بدلية الناقص، بل سقوط التام، فالاكتفاء بالناقص يبتني علي اقتضاء القاعدة له، لنظير ما تقدم في غير المسلوس و المبطون من أفراد مستمر الحدث.

و أما نصوص المقام فقد ادعي سيدنا المصنف قدّس سرّه انصرافها عن ذلك، بقرينة ورودها مورد العذر و الاضطرار، و لا سيما مع قوله عليه السّلام في صحيح منصور بن حازم:

«إذا لم يقدر علي حبسه فاللّه أولي بالعذر.» «1».

لكن يصعب حمل النصوص علي صورة عدم الفترة واقعا، و منها صحيح حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه قال: إذا كان الرجل يقطر منه البول و الدم، إذا كان حين الصلاة أخذ كيسا و جعل فيه قطنا ثمَّ علقه عليه و أدخل ذكره فيه، ثمَّ صلي، يجمع بين صلاتين، الظهر و العصر، يؤخر الظهر و يعجل العصر بأذان و إقامتين،

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

ص: 110

______________________________

و يؤخر المغرب و يعجل العشاء بأذان و إقامتين، و يفعل ذلك في الصبح» «1».

فإن حمل التقطير علي خصوص المستمر الذي لا فترة فيه أصلا بعيد جدا، لندرة ذلك، كحمله علي ما فيه فترات لا تسع الطهارة و الصلاة، لعدم القرينة علي التحديد المذكور، بل و بعده بعد كون المتعارف بين من يبتلي بذلك عدم الضابط له، بلحاظ طول الفترات و قصرها و اختلاف أوقاتها، فعدم التنبيه لذلك و لاحتمال حصول الفترة المطلوبة بعد الصلاة ظاهر في عموم الحكم لصورة وجود الفترة واقعا، و عدم وجوب تحريها و الفحص عنها و انتظارها، كما تقتضيه القاعدة الأولية.

و أظهر من ذلك ما ورد في المبطون، كموثق محمد بن مسلم: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المبطون فقال: يبني علي صلاته» «2».

فإن المراد من البناء علي الصلاة فيه ليس محض الإتيان بالصلاة في مقابل تركها لتعذر الطهارة، و إلا ناسب أن يقول: «يصلي».

و لا إكمالها من دون وضوء للحدث المتجدد في أثنائها في مقابل استئنافها من غير وضوء أيضا، إذ لا حاجة لطرد احتمال وجوب الاستئناف من دون وضوء، لعدم المنشأ له بعد كون الإكمال حينئذ أقرب للصحة ارتكازا من الاستئناف، لما فيه من وقوع بعض الصلاة بطهارة.

و احتمال مبطليته للصلاة دون الطهارة بعيد جدا، يبعد أن يكون هو المثير للسؤال، كاحتمال أهمية مبطليته للصلاة من شرطية الطهارة فيها، كيف و المرتكز تفرّع مبطليته للصلاة علي مبطليته للطهارة التي هي شرط فيها.

بل المراد من البناء علي الصلاة في الموثق هو إكمالها بعد الوضوء للحدث المتجدد، دفعا لتوهم وجوب استئنافها بعد الوضوء- الذي تضمنته النصوص في غير المبطون «3» - فرارا من محذور مبطلية الحدث للصلاة، كما هو مقتضي الجمع

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(3) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة.

ص: 111

______________________________

بين الموثق و النصوص الأخر الواردة في المقام، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنه قال: صاحب البطن الغالب يتوضأ و يبني علي صلاته» «1».

و خبره [2] عنه عليه السّلام: «قال: صاحب البطن الغالب يتوضأ ثمَّ يرجع في صلاته، فيتم ما بقي» «3».

و عليه يكون واردا مورد المفروغية عن توقع الفترة التي بها يمكن استئناف الصلاة بعد الوضوء، فكيف يمكن حمله علي عدمها؟! فتأمل.

مضافا إلي صعوبة حمل جميع هذه النصوص علي عدم الفترة بالنحو المذكور، مع أن المفروض فيها وجود الفترة في الجملة، و لا سيما مع ما أشرنا إليه آنفا من عدم الضابط غالبا للفترات، فلو كان الأمر دائرا مدار وجود الفترة واقعا لصعب تحديد موضوع النصوص و العمل عليها إلا بانتظار آخر الوقت، و هو بعيد عنها جدا.

و من هنا يتعين حمل العذر في صحيح منصور علي العذر بلحاظ العجز عن

______________________________

[2] عده غير واحد- أولهم العلامة في المختلف علي ما حكي عنه- موثقا، مع أن في سنده محمد بن نصير، المشترك بين جماعة، و المردد في هذا الحديث بحسب الطبقة بين الكشي الثقة و النميري الضال الملعون الذي وردت فيه الذموم العظيمة و نسبت له الأفعال الشنيعة و المقالات المهلكة، و لم يتضح حتي الآن المرجح للأول.

نعم قد يقال: لما كان الراوي عنه العياشي، الذي هو من الأعيان الذي يمتنع عادة روايته عن النميري حال انحرافه، كما يمتنع اهتمام الأصحاب بالحديث مع ذلك، فلا بد أن يكون المراد به الكشي أو النميري في حال استقامته، فيكون الحديث معتبرا و إن لم يكن من الموثق اصطلاحا، لكن الشيخ أرسل في التهذيب الحديث عن العياشي و لم يذكر فيه سنده إليه، و سنده المذكور في الفهرست قد اشتمل علي أبي المفضل محمد بن عبد اللّه الشيباني، الذي قال عنه في الفهرست: «حسن الحفظ غير أنه ضعّفه جماعة من أصحابنا»، و قال عنه النجاشي «كان في أول أمره ثبتا ثمَّ خلط، و رأيت جل أصحابنا يغمزونه و يضعفونه. سمعت منه كثيرا ثمَّ توقفت عن الرواية عنه إلا بواسطة بيني و بينه». إلا أن يقال: إن الرواية عن كتاب العياشي، و هو معروف عند الشيخ قدّس سرّه و ذكر السند له لمحض التبرك بالاتصال بالمعصوم عليه السّلام. فتأمل.

______________________________

(1) كتاب من لا يحضره الفقيه باب: 50 حديث: 11، ج: 1، ص: 237، طبع النجف الأشرف.

(3) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

ص: 112

______________________________

حبس البول، لا العجز عن الصلاة بالطهارة التامة، لاستيعاب العذر للوقت، فإنه يناسب الامتنان بنسبة العذر للّه تعالي، لأنه لا بد منه مع التعذر. فلاحظ.

و أما ما سبق من الجواهر من خروج هذه الصورة عن محل الكلام، فلم يتضح بنحو معتد به، بعد اضطرابهم في عنوان محل الكلام و شدة خلافهم في الحكم، كما اعترف به بعضهم، و يشهد به النظر في كلماتهم.

بل في الحدائق أن المفهوم من كلام بعضهم حمل النصوص علي ما إذا دخل في الصلاة متطهرا ثمَّ فجأه الحدث، كانت له فترة تسع الصلاة كلا أو بعضا أو لا.

و لعل منشأ ما ادعي من خروج ذلك عن محل الكلام هو قوة ارتكازية القاعدة المقتضية لتحصيل الواجب الاختياري، بنحو يصعب حمل كلماتهم علي ما يشمل الصورة المذكورة.

لكن المتيقن من ذلك ما إذا كانت الفترة مضبوطة معلومة وقتا و قدرا، حيث لا يحتاج تحريها إلي كلفة و مئونة، فإن بعد الاكتفاء بالصلاة مع الحدث حينئذ ارتكازا لعدم الحاجة له موجب لانصراف كلماتهم عنه بقرينة ورودها مورد العذر و الاضطرار، و لا سيما مع ندرة الصورة المذكورة.

و من ثمَّ لا يبعد انصراف النصوص عنها أيضا، بخلاف ما لو لم تكن الفترة معلومة كذلك، كما هو الغالب، حيث يصعب الالتزام بمانعيتها من جريان الأحكام الآتية، بحيث يجب تدارك الصلاة لو وقعت مع الحدث في أول الوقت لتخيل عدم الفترة ثمَّ صادف تحققها في آخره- كما التزم به في العروة الوثقي و جملة من شروحها و حواشيها- لصعوبة حمل النصوص علي ذلك، كما عرفت، و خروجه عن محل الكلام بين الأصحاب غير ظاهر بنحو يرفع به اليد عن مقتضي النصوص.

فلاحظ.

ثمَّ إنه بناء علي انصراف النصوص عن صورة ضبط الفترة قدرا و وقتا، يتجه الاكتفاء فيها بما يسع الصلاة الاضطرارية ببعض المراتب التي يلزم الإخلال فيها

ص: 113

و الوضوء و الصلاة فيها (1).

الثانية أن لا تكون له فترة أصلا

الثانية: أن لا تكون له فترة أصلا، أو تكون له فترة يسيرة لا تسع الطهارة و بعض الصلاة. و حكمه الوضوء و الصلاة، و ليس عليه الوضوء لصلاة أخري (2)،

______________________________

بما يعلم من الشارع الأقدس أنه دون الطهارة في الأهمية، كالسورة و نحوها مما يتعين تركه في غير المسلوس و المبطون ممن يستمر منه الحدث عند مزاحمته للطهارة.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك، بالإضافة إلي الطهارة المائية.

فلو دار الأمر بين الصلاة بطهارة ترابية لا حدث فيها و الصلاة بطهارة مائية يتخللها الحدث تعينت الأولي، عملا بالقواعد العامة.

نعم، لا يبعد عدم جواز الإخلال بالقيام أو الركوع و السجود الاختياريين لأجل ذلك، لأن دخل ذلك في منع الحدث مما يحتمل حتي في مورد النصوص، فعدم التعرض فيها له ظاهر في عدم سقوطها، كما هو ظاهر الأصحاب.

و منه يظهر حال ما في كشف اللثام و عن السرائر من أنه إن أمكنه التحفظ من الحدث إذا اختصر الصلاة أو جلس أو اضطجع أو أومأ للركوع و السجود، وجب.

فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) فلو لم يصلّ فيها وجب عليه الصلاة فيما بعدها بالنحو اللازم علي مستمر العذر، لدخوله في موضوع النصوص حتي بناء علي اختصاصها بصورة الاضطرار، لتحقق الاضطرار و إن كان مستندا إليه، سواء كان ترك الصلاة تقصيرا أو عن عذر، و إن لزم الإثم في الأول، بناء علي بقاء ملاك الواجب الاختياري في حال الاضطرار.

(2) اختلفت كلمات الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في حكم هذه الصورة، فإن تصويرها بهذا الوجه و إن لم يذكره القدماء، بل ذكره جمع من

ص: 114

______________________________

المتأخرين- كما في الحدائق- إلا أنه قد يستفاد حكمها عند غيرهم من إطلاق كلماتهم أو قرائن فيها.

و يستفاد من مجموع كلماتهم أن فيها أقوالا ثلاثة.

الأول: ما ذكره في المتن من الاكتفاء بوضوء واحد للصلوات المتعددة، و سبقه إليه في العروة الوثقي، و أمضاه جماعة من محشيها.

و اختاره في خصوص المسلوس في المبسوط، و عن كشف الرموز الميل إلي موافقته، و عن شرح الإرشاد لكاشف الغطاء أنه قوي جدا.

و ربما يكون عدم تعرضهم له في المبطون لعدم فرضهم الاستمرار فيه بالنحو المذكور، لا للفرق بينه و بين المسلوس في ذلك.

الثاني: وجوب الوضوء لكل صلاة، كما هو المصرح به في المعتبر و النافع و الإرشاد و القواعد و الروض و جامع المقاصد و كشف اللثام، و محكي التذكرة و المختلف و الدروس و الذكري و غيرها، و في جامع المقاصد أنه المشهور، و ذكر ذلك في خصوص السلس في الخلاف مدعيا في ظاهر كلامه الإجماع عليه، و خصصه في المنتهي بالبطن.

الثالث: جمع الظهرين بوضوء و العشائين بوضوء و يتوضأ لكل صلاة غيرها، كما ذكره في السلس في المنتهي، و مال إليه في المدارك و الحدائق، و عن مجمع البرهان نفي البعد عنه.

و أما القول في المبطون بوجوب الوضوء في أثناء الصلاة و البناء علي ما مضي منها علي من دخل فيها متطهرا ثمَّ فجأه الحدث، فلا يبعد ابتناؤه علي فرض تحصيل الطهارة لتمام الصلاة بذلك، لفرضهم الفترة التي تسع الطهارة و بعض الصلاة، كما في الصورتين الآتيتين، لا في هذه الصورة.

نعم، ظاهر من قيد الحدث المفاجئ بالاستمرار- كما في المعتبر و المنتهي- وجوبه مرة واحدة لتخفيف الحدث نظير الوضوء من مستمر الحدث لكل صلاة قبل الدخول فيها، الذي تقدم عن المشهور.

ص: 115

______________________________

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في أن مقتضي عموم تقييد الصلاة بالطهارة و عموم ناقضيته الأحداث المعهودة للطهارة هو سقوط الصلاة تبعا لتعذر قيدها.

و توهم قصور عموم الناقضية عن الفرض و اختصاصه بالخروج المعهود المبني علي الاختيار، و الذي يصدق معه التبول و التغوط، موهون بملاحظة ما سبق في أول فصل النواقض. فراجع.

نعم، بعد فرض مشروعية الصلاة بالإجماع و النصوص، فلا بد إما من سقوط شرطية الطهارة رأسا، أو تبعيضها بلحاظ الأحداث، بأن يكون كل فرد من الحدث ناقضا لمرتبة من الطهارة، و الساقط هو المرتبة التي يستند ارتفاعها لاستمرار الحدث، أو عدم ناقضية الحدث المستمر للطهارة، تخصيصا لعموم ناقضية الحدث.

و علي الأول يحتاج وجوب الوضوء للصلاة إلي دليل، و مع عدمه فالأصل البراءة من اعتباره فيها بعد فرض تخصيص عموم شرطية الطهارة لها.

أما علي الثاني، فهو مقتضي العموم المذكور المقتصر في الخروج عنه علي المتيقن.

كما أنه علي الثالث، يكون وجوب الوضوء مقتضي عموم ناقضية الحدث المقتصر في الخروج عنه علي المتيقن من الحدث المستمر.

لكن لا مجال للأول، بعد ما هو المفروغ عنه بينهم من عدم جواز الصلاة مع غير الحدث المستمر من أفراد الحدث، لارتكاز كونه من صغريات اعتبار الطهارة في الصلاة، لا اعتبارا لأمر آخر بدلا عنها. و لذا لم يحتج إلي تكلف الاستدلال علي عمومه لجميع أفراد الأحداث الأخر، بل أوكل لما هو المعلوم من عموم ناقضية تلك الأحداث، حيث يكشف عن مفروغية ابتنائه علي اعتبار الطهارة و انتقاضها بالحدث.

كما لا إشكال ظاهرا في كونه من الأركان مع اختصاص حديث: «لا تعاد.»

بالطهور، دون الوضوء الذي ليس طهورا.

ص: 116

______________________________

بل عدم التنبيه عليه في نصوص المقام لا بد أن يكون بسبب وضوح اعتباره، و لا منشأ لوضوح ذلك إلا عموم اعتبار الوضوء في الصلاة، الراجع لاعتبار الطهارة فيها، و لو كان واجبا تعبديا مع عدم حصول الطهارة به لمصاحبته للحدث لاحتاج للتنبيه، لمخالفته للأصل.

بل الإنصاف أن قوة ارتكاز كون جميع أفراد الوضوء مؤثرة للطهارة مغن عن تكلف الاستدلال لذلك.

و ما في بعض الكلمات من كون الوضوء في المقام مبيحا لا رافعا، مبني علي قوة ارتكاز عموم ناقضية الحدث شرعا، لصعوبة التفكيك بين أفراده جدا، لعدم دخل الضرورة في التسبيبات ارتكازا، و لا ينافي الوجه الثاني المبني علي ملاحظة العمومين بالتزام تبعض الطهارة بلحاظ مراتبها و وجوب تحصيل الميسور منها.

فكأنه مبني علي عدم تحقق الرفع التام به.

و منه يظهر ضعف الوجه الثالث، و لا سيما بعد قوة ارتكاز نقصان العمل في المقام و بقاء الملاك للفائت، و لذا لا إشكال ظاهرا في وجوب المبادرة للطهارة التامة لو علم المكلف من نفسه أنه سيبتلي باستمرار الحدث، و وجوب انتظار الفترة لو كانت مضبوطة قدرا و وقتا، و لو كان الاضطرار في المقام مانعا من ناقضية الحدث و موجبا لتبدل الموضوع نظير صيرورة المسافر حاضرا لم يكن وجه لذلك.

و من ثمَّ كان الأظهر هو الوجه الثاني، و قد سبق في ذيل الكلام في نية الرفع و الاستباحة أنه المناسب لارتكاز كون الأحداث من سنخ القذرات العرفية القابلة للتعدد و التأكد.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من ظهور كلماتهم في وحدة الحدث و أنه عبارة عن انتقاض الوضوء غير القابل للتعدد و التأكد، و أن وجوب الوضوء في المقام بعد فرض وجود الحدث محض تعبد مستفاد من الإجماع.

لا مجال للتعويل عليه بعد ما ذكرنا هنا و هناك، و لا سيما مع صراحة كلماتهم في المقام في أن وجه وجوب الوضوء هو عدم استباحة الصلاة مع

ص: 117

______________________________

الحدث إلا بقدر الضرورة، لكشفه عن مفروغيتهم عن رافعية الوضوء للحدث الذي لا يضطر للصلاة معه، و عدم ابتناء الإجماع علي محض التعبد، بل علي اعتبار الطهارة في الجملة، الذي عرفت مناسبته للمرتكزات.

إذا عرفت هذا، ظهر لك أن القول الثاني أقرب الأقوال لمقتضي العمومين المتقدمين، مع تأيده بما ورد في المستحاضة.

و أنه لا مجال لما في المبسوط من أن حمل المسلوس علي المستحاضة قياس، و لا دليل علي وجوب الوضوء عليه لكل صلاة.

لكفاية العمومين المذكورين في إثبات ذلك.

بل لو احتمل وجوب الوضوء عليه في أثناء الصلاة تخفيفا للحدث الواقع فيها لكان مطابقا لهما، إلا أنه لا مجال لاحتماله بعد ظهور التسالم علي عدم وجوبه، كما ادعاه صريحا في المعتبر، بل لا ينبغي التأمل فيه بعد النظر في كلماتهم، إذ لو كان واجبا لم يخف عليهم عادة بعد ابتنائه علي كلفة خارجة عن الوضع المتعارف، و عدم الضابط الارتكازي لعدده و موقعه من الصلاة كي يمكن إيكاله إليه.

بل سكوت النصوص الواردة في المسلوس عن التنبيه عليه مع ذلك موجب لظهورها في عدمه، و ليس هو كالوضوء لكل صلاة و يأتي تمام الكلام في ذلك في آخر الكلام في هذه الصورة إن شاء اللّه تعالي. فليس الإشكال إلا في كفاية الوضوء الواحد لأكثر من صلاة واحدة، الذي عرفت أنه مخالف للعمومين المذكورين.

و قد يستدل لما في المبسوط بغير واحد من النصوص.

منها: النصوص الكثيرة الواردة في سقوط القضاء عن المغمي عليه و من يستمر به العذر بين رمضانين «1»، المتضمنة لقولهم عليهم السّلام: «كلما غلب اللّه عليه فهو أولي بالعذر»، و نحوه مما يتضمن معذورية المغلوب.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب 3 من أبواب قضاء الصلوات و باب 25 من أبواب أحكام الصوم.

ص: 118

______________________________

فإن سوقها لبيان عدم وجوب القضاء الذي هو عبارة عن تكليف جديد بسبب عدم الإتيان بالواجب في وقته، أو بقاء التكليف بأصل الواجب لذلك- كما هو الظاهر- كاشف عن أنه ليس المراد بالعذر فيها ما يقابل المؤاخذة من العقاب و ما هو من سنخه شرعا كالكفارة، بل ما يعم عدم حدوث التكليف أو سقوطه، و عموم ذلك يقتضي في المقام عدم وجوب الوضوء علي المكلف بسبب البول و نحوه إذا غلب اللّه عليه، إما لعدم ناقضيته أو عدم وجوب الطهارة منه.

و فيه- مع أن لازمه عدم وجوب الوضوء للقطرات المذكورة مع وجود الفترة المضبوطة بل حتي بعد الشفاء، بل في سائر موارد العجز عن تجنب الحدث، و لا يظن التزامه من واحد-: أن الكبري المذكورة لا تخلو عن إجمال، بسبب تطبيقها في المورد المذكور، لأن ظاهر العذر عدم المؤاخذة، فتطبيقه علي القضاء موقوف إما علي تنزيل القضاء منزلة المؤاخذة، لأنه عرفا من سنخ التدارك و فيه نحو من الثقل و الكلفة تزيد علي ابتداء التكليف، فيقتصر فيه علي مورده و نحوه مما ثبت فيه التنزيل المذكور. أو حمل العذر علي ما يعم عدم التكليف أو سقوطه- كما ذكر في وجه الاستدلال- لينفع فيما نحن فيه.

و ليس الثاني بأولي من الأول، لو لم يكن الأول أولي، لما فيه من المحافظة علي ارتكازية الكبري، و لا سيما مع لزوم كثرة التخصيص علي الثاني، خصوصا لو حمل علي ما يعم بقاء التكليف، لكثرة موارد بقائه مع غلبة اللّه تعالي في الترك، بل لم نعهد في المؤقت موردا لسقوط التكليف في الوقت مع الترك في أوله.

بل قد يدعي أن ذلك لازم حتي علي الأول لكثرة موارد وجوب القضاء بالترك مع غلبة اللّه تعالي، و هو مما يوجب إجمال هذه النصوص و يلزم بالاقتصار علي موردها، و إن صرح في بعضها بالعموم بمثل قوله عليه السّلام: «هذا من الأبواب التي يفتح كل باب منها ألف باب» «1». لا يخلو عن إشكال أو منع علي ما يأتي في حكم فاقد الطهورين من مباحث التيمم. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 9.

ص: 119

______________________________

و منها: صحيح منصور بن حازم: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يعتريه البول و لا يقدر علي حبسه. فقال لي: إذا لم يقدر علي حبسه فاللّه أولي بالعذر يجعل خريطة» «1».

و صحيح الحلبي عنه عليه السّلام: «سئل عن تقطير البول. قال: يجعل خريطة» «2».

بدعوي: أن الاقتصار في بيان الوظيفة علي جعل الخريطة ظاهر في عدم وجوب الوضوء، و لا سيما مع التنبيه في الأول للمعذورية بسبب العجز، حيث يدل علي عدم الأثر للقطرات في وجوب الوضوء، للعجز عن حبسها.

و أما عدم التنبيه للوضوء لغير القطرات المذكورة من أفراد الحدث، فلأنه خارج عن مورد السؤال، و لا سيما مع ما في الأول من المعذورية بسبب العجز عن الحبس، حيث يناسب عدمها مع القدرة عليه.

و فيه: أن الاقتصار علي جعل الخريطة قد يكون مسببا عن انصراف السؤال لخصوص جهة الخبث، مع استيضاح حكم الحدث، بل هو الظاهر من الأول بسبب التمهيد لجعل الخريطة ببيان المعذورية لظهوره في كون المعذورية من جهة الخبث التي اهتم الإمام عليه السّلام بعلاجها.

علي أن الأمر بجعل الخريطة منصرف لحال الصلاة، لأجل منع التنجس بما يتقاطر حين إرادتها بالقدر الممكن، فلو دلّ علي العفو عن الحدث المسبب عنها فالمتيقن منه العفو عنه بالإضافة للصلاة الواقعة حينه، و لا يدل علي العفو عنه بالإضافة لصلاة أخري.

و لا سيما مع أن التعبير بأولوية اللّه تعالي بالعذر ظاهر في المفروغية عن تحقق موضوعه عرفا، و هو لا يعم ما عدا الصلاة الواقع حينها، حيث لا عذر في الصلاة معه مع تيسر رفعه قبل الدخول فيها. فلاحظ.

و منها: موثق سماعة: «سألته عن رجل أخذه تقطير من قرحة [فرجه. يب] إما دم و إما غيره. قال: فليصنع خريطة و ليتوضأ و ليصل، فإنما ذلك بلاء ابتلي به،

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 5.

ص: 120

______________________________

فلا يعيدن إلا من الحدث الذي يتوضأ منه» «1».

بدعوي: أنه ظاهر في عدم وجوب الوضوء إلا للحدث المتعارف، دون الذي ابتلي به من التقطير.

و فيه: أن الأقرب من ذلك جعل الجواب قرينة علي المراد بغير الدم في السؤال مثل القيح و الصديد، دون الحدث الذي يتوضأ منه، كما هو المتعين علي نسخة الوسائل، المتضمنة ل «قرحة» بدل «فرجه».

و منها: خبر عبد الرحيم [2]: «كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام في الخصي يبول فيلقي من ذلك شدة و يري البلل بعد البلل. قال: يتوضأ و [ثمَّ. في، فقيه] ينتضح [3] في النهار مرة واحدة» «4».

و فيه: أن الاستدلال إن كان بلحاظ قوله عليه السّلام: «مرة واحدة». فالمتيقن رجوعه

______________________________

[2] رواه الصدوق مرسلا عن الكاظم عليه السّلام. و رواه الشيخ في التهذيب في موضعين بسندين عن سعدان ابن مسلم عن عبد الرحيم. و الأول لم يصرح أحد من القدماء بتوثيقه، و إنما ذكر الشيخ في الفهرست أن له أصلا. لكن رواية غير واحد من أجلاء أصحابنا عنه و رواية جماعة لكتابة- كما ذكره النجاشي- و نحوهما مقرب لوثاقته جدا. و لا سيما مع قرب كونه قائد أبي بصير الذي روي عنه في كامل الزيارة، بل عن السيد الداماد: أنه شيخ كبير القدر جليل المنزلة. و الثاني هو القصير علي الظاهر، كما صرح به في أحد الموضعين من التهذيب. و يشترك مع سابقة في عدم التوثيق الصريح و في رواية بعض الأجلاء عنه. و قد يظهر من بعض الروايات أن له منزلة.

أما الكليني فقد رواه عن سعدان بن عبد الرحمن، كما في الوسائل. لكن في الطبعة الحديثة من الكافي: «سعدان عبد الرحمن» فيكون هو سعدان بن مسلم، بناء علي ما في جامع الرواة من أن اسمه عبد الرحمن و لقبه سعدان، و قد يؤيد بكون الراوي عنه أحمد بن إسحاق الذي هو يروي عن سعدان ابن مسلم. بل قد يعينه عدم ذكر سعدان بن عبد الرحمن في كتب الرجال.

و كيف كان، فمن القريب اعتبار الخبر و لا سيما مع رواية المشايخ الثلاثة له و ظهور حال الصدوق و الكليني في الاعتماد عليه.

[3] كذا في الكافي و أحد الموضعين من التهذيب، و في الموضع الآخر منه و في الفقيه: «ينضح ثوبه».

و منه يتضح الإشكال في الاستدلال به علي العفو عن نجاسة ثوب من تواتر بوله.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

(4) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 8.

ص: 121

______________________________

للانتضاح، و لا قرينة علي رجوعه للوضوء أيضا، لو لم يكن مخالفا للظاهر، و لا سيما علي تقدير العطف ب «ثمَّ» كما في بعض طرق الحديث. كيف و لا إشكال ظاهرا في وجوب الوضوء عليه لغير البول من الأحداث، و لا وجه لفرض وقوعه مرة واحدة في اليوم؟

بل ظاهر الخبر ناقضية البول في المرة الأولي فقط، و هو لا يناسب القول بعدم وجوب الوضوء للبول مطلقا- كما يظهر من المتن- أو لخصوص المتقاطر منه- كما يظهر من بعضهم- إذ علي الأول لا يجب الوضوء للبول حتي في المرة الأولي، و علي الثاني يجب الوضوء للبول غير المتقاطر لو تكرر.

و إن كان بلحاظ إطلاق الوضوء، بدعوي ظهوره في وجوب الوضوء للبول، و الانتضاح للبلل من دون وضوء.

فهو لا يخلو عن إشكال، إذ لا يبعد عن تركيب الكلام رجوع كلا الأمرين للبلل، و لم يتعرض للوضوء للبول، اتكالا علي المفروغية عن وجوبه له، كما لم يتعرض للغسل منه بالاستنجاء لذلك أيضا.

نعم، لو أريد من البلل ما لم يحكم عليه بالبولية تعين الحمل علي الاستحباب. و لعله المتعين بلحاظ الأمر بالنضح الذي ورد الأمر به استحبابا في غير مورد من موارد اشتباه النجاسة و غيره، كالثوب يصيبه المذي «1»، أو الكلب و الخنزير الجافان «2»، و أثر الفأرة إذا لم ير «3»، و ما يشك في إصابة النجاسة له من الجسد أو الثوب «4»، كثياب المجوس «5» و بيوتهم «6» و معاطن الإبل و مرابض البقر

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب النجاسات.

(2) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب النجاسات.

(3) الوسائل باب: 33 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 2، و باب 40 منها حديث 3.

(5) الوسائل باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(6) راجع الوسائل باب: 14 من أبواب مكان المصلي.

ص: 122

______________________________

و الغنم «1» لمن أراد أن يصلي فيها، و الندي و الصفرة تخرج ممن به جرح في مقصدته «2»، و لا قائل بالاكتفاء به لإصابة البول في مورد النص، بل غاية ما قيل به وجوب غسل الثوب مرة في اليوم لمن تواتر بوله، و لا ينهض به الخبر.

هذا و لا أقل من عدم التصريح في السؤال بكون البلل بولا، لينفع فيما نحن فيه لو تمَّ الوجه المذكور.

إلا أن يستفاد ذلك من ظهور السؤال في الضيق من الحال المذكورة و شدة التحير بسببها، مع وضوح الحكم ظاهرا بالطهارة و عدم الناقضية في المشتبه مع الاستبراء. كما يشكل لأجله الحمل علي الاستحباب، لأن ضيق الحال يناسب التخفيف ببيان السعة أو الاقتصار علي ما لا بد منه.

اللهم، إلا أن يكون منشأ السؤال هو الاضطراب النفسي الحاصل من قوة احتمال البولية، و لو مع السعة ظاهرا، فيكون الجواب مسوقا لبيان الوظيفة الاستحبابية حال الشك، لرفع الاضطراب المذكور بأداء وظيفة مقررة، نظير ما في صحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المذي يصيب الثوب.

قال: لا بأس به، فلما رددنا عليه قال: ينضحه بالماء» «3». فتأمل جيدا.

و قد ظهر مما تقدم أنه لا مجال لما في المبسوط.

و لا ينهض شي ء مما تقدم للخروج عن القاعدة المعتضدة بصحيح حريز المتقدم في حكم تحري الفترة، المتضمن للأمر بالجمع بين الصلاتين، لقرب كونه إرشادا للمحافظة علي الوضوء، فيدل علي انتقاضه بالحدث المتخلل بينهما علي تقدير التفريق، كما أمر به في بعض أقسام المستحاضة إرشادا، للمحافظة علي الغسل.

و أما احتمال أن يكون إرشادا لتجنب زيادة الخبث، فلا يخلو عن بعد، لعدم

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب مكان المصلي.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 123

______________________________

ملازمة التفريق لزيادة موضع الملاقاة من البدن مع وضع الكيس المفروض فيه، بل لا يتنجس معه غالبا إلا الذكر.

و لو خرج البول عن الكيس لكثرته و نجّس موضعا من البدن، كان التنبيه علي وضع الكيس كافيا في بيان وجوب التطهير منه بلا حاجة للأمر بالجمع. و أما زيادة خروج البول في الكيس فهو غير قادح للعفو عن نجاسة الكيس لعدم تمامية الصلاة به.

علي أن أهمية الوضوء ارتكازا من الخبث توجب انصراف الأمر بالجمع في الصحيح له. فلاحظ.

و لأجله يقوي ما في المنتهي من جواز الجمع بين الظهرين و بين العشائين بوضوء واحد، لقوة ظهور الصحيح في ذلك، بسبب عدم تعرضه للوضوء بين الصلاتين و التصريح بجمعهما في أذان واحد، الظاهر في عدم الفصل بينهما.

و دعوي: سقوط الصحيح عن الحجية بسبب إعراض المشهور عنه.

ممنوعة، لاختصاص ذلك بشهرة القدماء، و لم يتضح حكم المسألة بينهم، لقلة المتعرضين منهم لها، كما ذكرت في كلمات بعضهم عرضا، مع اضطراب بعضهم في حكمها، كالشيخ في المبسوط و الخلاف.

بل يظهر من ذكر الصدوق قدّس سرّه للصحيح في الفقيه الاعتماد عليه و العمل به.

بل الطبقة الوسطي المخالفة لمضمون الصحيح ليست من الكثرة بنحو يعتد به، إذ عمدتهم ابن إدريس و الفاضلان و الشهيدان و المحقق الثاني في بعض كتبهم، و لا مجال لإهمال الصحيح لأجلهم، و لا سيما مع ظهور كلام بعضهم في المنع من دلالته، و قرب كون إعراض بعضهم عنه لقوة استحكام عموم مانعية الحدث في نفوسهم بنحو يتجلي لهم شذوذه، أو لعدم حجيته بنظره ذاتا، كما يناسبه مسلك ابن إدريس في الأخبار، و ظهور التردد من بعضهم في بعض كتبه كالمحقق في الشرائع، و العمل بالصحيح من آخر، كالعلامة في المنتهي.

و بالجملة: لم يتضح إعراض الأصحاب عن الصحيح بنحو يكشف عن

ص: 124

______________________________

وضوح بطلان مضمونه عندهم ليسقطه عن الحجية، فالعمل عليه متعين.

بقي في المقام أمران.

الأول: أن الصحيح مختص بالسلس، و عليه اقتصر العلامة في المنتهي، و رجع في البطن للقاعدة المقتضية لوجوب الوضوء لكل صلاة، و هو المتعين، إذ لا مجال للتعدي للبطن بإلغاء خصوصية المورد عرفا، و لا بتنقيح المناط بعد مخالفة الحكم للقاعدة، و لما ورد في المستحاضة، التي هي من أفراد مستمر الحدث.

و ما قد يظهر من المشهور من اتفاق المسلوس و المبطون في أحكام الصور لو تمَّ، مختص بما يطابق القاعدة بنظرهم، لتنزيل دليل كل منهما علي الصورة الملائمة لها، حيث نزلوا ما ورد في المبطون من الوضوء و البناء علي صورة الفترة لتحصيل الطهارة التامة في مجموع الصلاة، و ما دل في السلس علي عدم الوضوء في الأثناء علي صورة الاستمرار الذي تتعذر معه الطهارة التامة، فلا مجال للتسوية بينهما في مثل هذا الحكم المخالف للقاعدة.

و منه يظهر أنه لا مجال للتعدي لغير الظهرين و العشائين في جواز الجمع، اقتصارا فيما خرج عن القاعدة علي المتيقن.

الثاني: لو دخل ذو السلس و البطن في الصلاة بطهارة تامة ثمَّ فجأه الحدث مستمرا بنحو لا يسعه الوضوء لتمام الصلاة و لو بنحو التقطيع، فهل يمضي في صلاته، كما قد يظهر ممن أطلق الاكتفاء بوضوء واحد للصلاة الواحدة لمن ليس له فترة يمكن إيقاع الصلاة معها بطهارة تامة و لو بنحو التقطيع، أو يتوضأ و يبني علي ما مضي منها، كما ذكره في المعتبر و المنتهي في المبطون، حيث تقدم في عرض الأقوال أن فائدته تخفيف الحدث الواقع في الأثناء، نظير الوضوء قبل الصلاة لمستمر الحدث؟ وجهان:

استدل علي ثانيهما في المعتبر و المنتهي بالنصوص المتقدمة الواردة في المبطون و المتضمنة أنه يتوضأ و يبني علي صلاته، و يشكل بعدم ظهورها في الاستمرار، بل هي منصرفة لصورة تحصيل تمام الصلاة بطهارة المستلزم لوجود

ص: 125

______________________________

فترات، كما يأتي في الصورة الثالثة.

و دعوي: استفادة الاستمرار من تفسير البطن بالغالب في بعض تلك النصوص.

ممنوعة، لظهور الوصف المذكور في الكناية عن ذهاب الماسكة، لأن البطن قد لا يكون كذلك، فإنه عبارة عن داء البطن، كما يأتي في ذيل الكلام في الصورة الثالثة، و هو أعم من ذلك.

نعم، قد لا يكون مرادهما الاستمرار الحقيقي بل الاستمرار المانع من الإتيان بتمام الصلاة بطهارة، فيرجع القيد المذكور إلي اعتبار تحري الفترة الذي تقدم الكلام فيه، و يخرج عما نحن فيه.

و كيف كان، فالوضوء لتخفيف الحدث في الأثناء- الذي هو محل الكلام- هو المناسب، للقاعدة المتقدمة، مع خروجه عن المتيقن من الإجماع علي الاكتفاء بوضوء واحد للصلاة الواحدة، و لا سيما بملاحظة ما تقدم من أن عدم الضابط الارتكازي لعدد الوضوء في الصلاة الواحدة و موقعه منها موجب لكون سكوتهم عن التعرض لذلك كاشفا عن وضوح عدم وجوبه في الأثناء، و هو لا يجري في الفرض، لأن الحدث المفاجئ مثير لاحتمال وجوب الوضوء بعده.

و أما ما دل علي بطلان الصلاة بالحدث في أثنائها «1»، فهو غير شامل للمقام، للقطع بعدم بطلانها بالحدث المذكور، و إنما الكلام في وجوب الوضوء من الحدث المذكور لإكمالها.

و مثله ما دل علي مبطلية الفعل الكثير، لما يأتي في الصورة الثالثة.

نعم، قد يشكل في المرأة، لاستلزام الوضوء منها الإخلال بالستر المعتبر في الصلاة غالبا، فمع عدم الدليل علي العفو عنه- كما يأتي في الصورة الثالثة- يقع التعارض بين عموم اعتباره و عموم اعتبار الطهارة.

لكن سبر أدلة الحكمين شاهد بأقوائية عموم اعتبار الطهارة و أهميته،

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة.

ص: 126

______________________________

فيتعين تقديمه لو كان المقام من صغريات التعارض- كما هو الظاهر- و ترجيحه لو كان من صغريات التزاحم، و لذا لا يظن بأحد التوقف في جريان حكم الصورة الثالثة في المرأة، لأن النسبة بين دليل العفو عن الفعل الكثير و دليل التستر لها العموم من وجه.

بل لا يبعد ورود عموم اعتبار الطهارة في الصلاة علي عموم اعتبار الستر، لظهوره في عدم اجتماع الصلاة مع الحدث، بحيث يكون الحدث موجبا لانقطاع الصلاة و عدم صدق التلبس بها، و ليس إكمالها في المبطون بعد الوضوء إلا عودا إليها بعد الانقطاع لا استمرارا فيها، و ظهور عموم اعتبار الستر في اعتباره حال الانشغال بالصلاة و التلبس بها عرفا، و إن كان حال السكون المتعارف المتخلل بين الأجزاء. فتأمل.

هذا، و لكن لا بد من رفع اليد عن القاعدة المذكورة بالنصوص الواردة في المسلوس، خصوصا صحيح حريز المتقدم، لشمولها لصورة وجود الفترة التي لا تسع الطهارة و الصلاة مع انضباطها، فضلا عن عدمه، لأن ما تقدم من انصرافها عن صورة ضبط الفترة التي تسع الطهارة و الصلاة ناش من ورودها مورد العذر العرفي لإيقاع الصلاة مع الحدث، و هو حاصل في الفرض.

و إنما الإشكال في المبطون الذي لا وجه للاكتفاء في صلاته مع استمرار الحدث إلا الإجماع أو نصوص المسلوس مع إلغاء خصوصية موردها أو الإجماع.

و الأول لا يخلو في نفسه عن إشكال، كما تقدم في نظير المقام.

و الثاني غير ظاهر الشمول للمقام.

بل يشكل تحقق الإجماع في المبطون، لأن ظاهر جمهور الأصحاب فرضهم له- كالنصوص- في صورة عدم الاستمرار، بنحو يمكن تحصيل الصلاة بطهارة تامة و لو بنحو التقطيع، و من صرح بجريان حكم المسلوس له مع الاستمرار ليس من الكثرة بنحو يحقق الإجماع الكاشف عن الحكم الشرعي. و دعوي إرادة

ص: 127

إلا أن يحدث حدثا آخر، كالنوم و غيره (1)، فيجدد الوضوء لها.

الثالثة أن تكون له فترة تسع الطهارة و بعض الصلاة

الثالثة: أن تكون له فترة تسع الطهارة و بعض الصلاة (2)،

______________________________

الكل لذلك خالية عن الشاهد.

نعم، يبعد جدا- بعد النظر في نصوص المقام و المستحاضة- سقوط الصلاة عنه في الصورة المذكورة. و تكليفه فيها بالوضوء في الأثناء، مما يقطع بعدمه بعد ما سبق في تقرير مقتضي القاعدة، و هو مما يقرب مشروعية الصلاة له بوضوء واحد قبلها. و لعل التشكيك فيه ملحق بالوسواس.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) كما احتمل غير واحد لكونه مراد الشيخ في المبسوط، كما احتملوا أيضا إرادته عدم ناقضية خصوص ما يتقاطر مع ناقضية ما يسانخه إذا خرج بالوجه المتعارف، كما جري عليه في العروة الوثقي، و أمضاه غير واحد من محشيها.

و الأول مبني علي أن يكون منشأ الاكتفاء بالوضوء الواحد للصلوات المتعددة سقوط اعتبار الطهارة، و أن وجوب الوضوء محض تعبد للإجماع، حيث يلزم الاقتصار فيه علي المتيقن.

أما لو كان منشؤه عدم ناقضية الحدث مع اعتبار الطهارة فيتعين الثاني، و هو المناسب للاستدلال بنصوص قاعدة: «كلما غلب اللّه عليه.»، و صحيح منصور، و موثق سماعة، و ثاني وجهي الاستدلال بخبر عبد الرحيم.

أما علي الوجه الأول فيكفي وضوء واحد في النهار، و الظاهر عدم القائل به.

فراجع.

(2) يعني: فيستطيع تحصيل الصلاة كاملة بطهارة تامة بنحو التقطيع، فلو تعذر ذلك، لعدم تكرر الفترة بالمقدار المذكور، بل لا يستطيع إلا تحصيل بعض الصلاة بطهارة تامة، خرج عن مفروض هذه الصورة و لحقه ما تقدم في ذيل الكلام

ص: 128

و لا يكون عليه في تجديد الوضوء في الأثناء مرة أو مرات حرج، و حكمه الوضوء و الصلاة في الفترة، و كلما فاجأه الحدث جدد الوضوء و بني علي صلاته (1)،

______________________________

في الصورة الثانية و يأتي في الصورة الرابعة. فلاحظ.

(1) لا يخفي أن هذه الصورة كسابقتها لم تحرر بهذا الوجه في كلام متقدمي الأصحاب- و إنما حررت في كلام بعض المتأخرين- إلا أنه يمكن استفادة رأيهم فيها من إطلاق كلماتهم أو من قرائن فيها.

و الكلام. تارة: في وجوب الوضوء قبل الدخول في الصلاة، و عدم الاكتفاء بالوضوء المتعقب بالحدث القهري الحاصل قبلها.

و أخري: في وجوب تكرار الوضوء في أثناء الصلاة للحدث المفاجئ، لتحصيل الصلاة بطهارة تامة بنحو التقطيع.

أما الأول، فهو مقتضي إطلاق من أوجب الوضوء لكل صلاة علي المبطون و المسلوس، ممن تقدم التعرض له في الصورة الثانية.

و يستفاد أيضا ممن أوجب الوضوء عليه في الأثناء لو فجأه الحدث، علي ما يأتي التعرض لهم، لابتناء ذلك منهم علي وجوب تحصيل الطهارة لتمام الصلاة مع القدرة.

نعم، قد يظهر الخلاف فيه في المسلوس من الشيخ قدّس سرّه في المبسوط و غيره ممن حكم بجواز الجمع له بين صلوات كثيرة بوضوء واحد، بناء علي شمول كلامهم لصورة الفترات بالنحو الذي هو محل الكلام، أما لو كان منصرفا عن الصورة المذكورة، فلا يكون خلافا فيها.

و كيف كان، فتقتضيه القاعدة، بالتقريب المتقدم في الصورة الثانية، و النصوص الواردة في المبطون، لظهورها في لزوم المحافظة علي الطهارة في تمام الصلاة.

ص: 129

______________________________

فلو فرض عدم تمامية القاعدة- كما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه- و إهمال النصوص أو الاقتصار فيها علي موردها- و هو المبطون- يكون وجوب الوضوء مبنيا علي التفكيك بين أجزاء الصلاة في اعتبار الطهارة، و يأتي الكلام فيه في الصورة الرابعة إن شاء اللّه تعالي.

و أما الثاني، فقد صرح به في المبطون في المبسوط و النهاية و النافع و اللمعتين و الروض، و حكي عن الوسيلة و السرائر و كشف الرموز و الذكري و الدروس و البيان و التنقيح و مجمع البرهان و غيرها، و تقدم في ذيل الكلام في الصورة السابقة احتمال حمل ما تقدم من المعتبر و المنتهي من التقييد بالاستمرار عليه، و في جامع المقاصد و عن البيان و حاشية النافع أنه المشهور، و في المدارك أنه قول المعظم، و عن الذكري أنه قول الجماعة، و عن الدروس أنه الأشهر.

و أما المسلوس، فمقتضي مقابلته في كلام غير واحد بالمبطون و الحكم فيه بوجوب الوضوء لكل صلاة، أو الجمع بوضوء واحد بصلاتين أو أكثر، عدم جريان ذلك فيه عندهم.

لكن عن السرائر و الوسيلة و الذكري و البيان و الدروس أنه إذا كان له فترات ساوي المبطون، و استقربه في الجواهر.

و ربما يظهر من بعضهم حمل ما تقدم من المشهور علي خصوص صورة الاستمرار، و يأتي الكلام فيه.

و كيف كان، فيقتضيه في المبطون النصوص المتقدمة عند الكلام في وجوب تحري الفترة.

منها: صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنه قال: صاحب البطن الغالب يتوضأ و يبني علي صلاته» «1»، لظهور البناء علي الشي ء في إبقائه و عدم رفع اليد عنه كالأساس، بل هو كالصريح من قوله عليه السّلام في خبره: «ثمَّ يرجع

______________________________

(1) الفقيه باب: 50 حديث: 11 ج: 1 ص: 273 طبع النجف الأشرف.

ص: 130

______________________________

في صلاته فيتم ما بقي» «1».

و تأويلها بحملها علي استئناف الصلاة بعد الوضوء لوجود الفترة الكافية لهما، أو إتمامها بلا وضوء، أو الوضوء بعد إكمال الصلاة لما بقي من الصلوات- كما يظهر من بعضهم، علي اختلاف نصوص المقام- بعيد جدا عن مجموع النصوص، كما تقدم هناك.

فالمتعين العمل بالنصوص بعد وضوح دلالتها، و اعتبار أسانيد غير واحد منها، و عمل الأصحاب بها، بل شهرتها بينهم- كما في اللمعة- خصوصا المتقدمين، كما في الروضة.

و منه يظهر ضعف ما في القواعد و الإرشاد و جامع المقاصد و كشف اللثام و عن التذكرة و المختلف و نهاية الاحكام و المقتصر و حاشية الشرائع، من عدم وجوب الوضوء في الأثناء. قال في محكي المختلف: «و الوجه عندي أن عذره إن كان دائما لا ينقطع، فإنه يبني علي صلاته من غير أن يجدد وضوءه، و إن كان يتمكن من تحفظ نفسه بمقدار زمان الصلاة فإنه يتطهر و يستأنف الصلاة. و يدل علي التفصيل أن الحدث المتكرر إن نقض الطهارة أبطل الصلاة، لأن شرط صحة الصلاة استمرار الطهارة».

إذ فيه: أنه مجال للبناء علي عدم نقض الحدث للطهارة، لمنافاته لعموم الناقضية الذي يصعب تخصيصه، كما تقدم في الصورة الثانية، و لنصوص المقام.

بل مقتضي الجمع بينها و بين أدلة اعتبار الطهارة في الصلاة، و نصوص بطلانها بتجدد الحدث فيها «2»، كون الشرط في الصلاة أمران: الطهارة حين الانشغال بالأجزاء الصلاتية، و استمرارها من أولها لآخرها من دون تخلل الحدث بينها، و أن الإخلال بالثاني لطروء العذر في المقام يسقطه دون الأول، و هو المناسب لأهمية شرطية الطهارة، بمقتضي ارتكازيات المتشرعة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4 و في الباب المذكور بقية أحاديث المسألة.

(2) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة.

ص: 131

______________________________

و من ثمَّ كان قريبا في نفسه مقبولا ارتكازا.

خلافا لما في الروضة من غرابته و استبعاده، و إن لم يرفع اليد عن النصوص لأجل ذلك. إلا أن يريد به قلة النظير له، لا غرابته عن مقتضي المرتكزات.

و مثله الإشكال بمنافاته لما دل علي قادحية الفعل الكثير في الصلاة، لعدم الدليل علي قادحيته إلا الإجماع، و هو لا ينهض بتحديد الكثرة بنحو ينطبق علي الوضوء، و لا سيما مع ورود النصوص بجواز الإتيان فيها بما قد لا يقصر عنه عرفا، كغسل الثوب من الدم «1»، و الأنف من الرعاف «2»، و إحراز الصبي و الدابة «3»، و إرضاع الصبي و تسكيته «4»، و شرب الماء في الوتر لمن يريد الصيام «5»، و المشي لمن ركع بعيدا عن الجماعة حتي يلحق بها «6»، و ضم المرأة المحللة «7» علي أنه لو فرض ثبوت قادحية مثله، كان المقام من دوران الأمر بين شرطية الطهارة و قادحية الفعل الكثير. و لو لم يحرز أهمية الأولي بنحو يقطع بتنازل الشارع عن الثانية فلا أقل من التوقف الراجع للعلم الإجمالي بوجوب الاستمرار في الصلاة مع الحدث، أو تجديد الوضوء لما بقي منها، فيلزم الاحتياط بتكرار الصلاة بالوجهين. و لو فرض العلم بعدم تكليف الشارع بالاحتياط لزم التخيير بينهما أو ترجيح محتمل الأهمية.

و منه يظهر ضعف ما في كشف اللثام من تأييد عدم وجوب الوضوء في الأثناء- مع قطع النظر عن النصوص- بالاحتياط لكون الوضوء أفعالا كثيرة، إذ لا معني للاحتياط بترك محتمل الشرطية، و كذا تأييده بالأصل و الحرج، لأن الأصل

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 44 من أبواب النجاسات.

(2) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب قواطع الصلاة.

(3) راجع الوسائل باب: 21 من أبواب قواطع الصلاة.

(4) راجع الوسائل باب: 24 من أبواب قواطع الصلاة.

(5) راجع الوسائل باب: 23 من أبواب قواطع الصلاة.

(6) راجع الوسائل باب: 46 من أبواب صلاة الجماعة.

(7) راجع الوسائل باب: 22 من أبواب قواطع الصلاة.

ص: 132

______________________________

محكوم لعموم شرطية الطهارة، و الحرج الشخصي غير مطرد، مع أنه لا ينهض بتشريع الاكتفاء بالناقص، بل يقتضي سقوط الأداء و انتظار القضاء، فتأمل.

و النوعي بالنحو الكاشف عن عدم تشريع مثل هذا الحكم ممنوع.

هذا كله مع قطع النظر عن نصوص المقام، و أما بملاحظتها فهي تنهض بإثبات عدم قادحية الوضوء و إن كان فعلا كثيرا، و الخروج عن مقتضي الأصل.

و عدم مانعية مثل هذا الحرج النوعي- لو فرض لزومه- من تشريعه.

نعم، هي محكومة لعمومات رفع الحرج بالإضافة للحرج الشخصي الذي عرفت حاله، و يأتي تمام الكلام فيه في الصورة الرابعة.

و أما في المسلوس فقد يستدل له.

تارة: بنصوص المبطون لفهم عدم الخصوصية لموردها أو لتنقيح المناط.

و اخري: بعموم اعتبار الطهارة في الصلاة، فإن سقوط اعتبار الاستمرار فيها للعذر لا يستلزم سقوط شرطية الطهارة لها، و قد تقدم نهوض ما دل علي قادحية الفعل الكثير برفع اليد عنه.

لكن الأول ممنوع، كما تقدم في نظائره غير مرة. و لا سيما مع عموم نصوص المسلوس لصورة وجود الفترة بالنحو المذكور، إذ لا قرينة علي حملها علي خصوص المستمر الذي لا فترة له، إن لم يكن حملا علي الفرد النادر، كما تقدم في أول الكلام في وجوب تحري الفترة التي تسع الطهارة و الصلاة بلا حدث.

غاية ما تقدم هو انصرافها- كجميع نصوص المقام بقرينة ورودها مورد العذر- عن صورة وجود فترة مضبوطة تسع الطهارة و تمام الصلاة، و لا موجب لخروج ما عدا ذلك عنها.

كما لا موجب للانصراف المذكور في كلام الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) و إن ادعي لتوجيه اتفاقهم علي مشاركة المسلوس للمبطون في الحكم المذكور.

و منه يظهر ضعف الثاني، لأن نصوص المسلوس تكفي في رفع اليد عن العموم المذكور بعد كونها أخص منه. فتأمل جيدا، و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

ص: 133

______________________________

بقي في المقام أمور.

الأول: أنه استدل غير واحد في المقام بصحيح الفضيل بن يسار: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أكون في الصلاة فأجد غمزا في بطني أو أذي أو ضربانا. فقال:

انصرف ثمَّ توضأ و ابن علي ما مضي من صلاتك ما لم تنقض الصلاة [بالكلام.

فقيه] متعمدا، و إن تكلمت ناسيا فلا شي ء عليك فهو بمنزلة من تكلم في الصلاة ناسيا. قلت: و إن قلب وجهه عن القبلة؟ قال: نعم و إن قلب وجهه عن القبلة» «1»، و خبر أبي سعيد القماط: «سمعت رجلا يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل وجد غمزا في بطنه أو أذي أو عصرا من البول، و هو في صلاة المكتوبة. فقال: إذا أصاب شيئا من ذلك فلا بأس بأن يخرج لحاجته تلك فيتوضأ ثمَّ ينصرف إلي مصلاه الذي كان يصلي فيه فيبني علي صلاته من الموضع الذي خرج منه لحاجته ما لم ينقض الصلاة بالكلام. قلت: و إن التفت يمينا أو شمالا أو ولي عن القبلة. قال: نعم كل ذلك واسع.» «2».

لكنهما غير ظاهرين في المبطون، بل فيمن يستطيع إمساك الحدث و إن طرأت له حاجة إليه.

و الجمع بينهما و بين نصوص مبطلية الحدث و إن كان ممكنا في الجملة، و لو بالاقتصار علي صورة الحاجة للحدث توسعا في العذر.

إلا أنه يصعب الاعتماد عليهما مع ظهور إعراض الأصحاب عنهما.

و ظاهر الصدوق و إن كان هو الاعتماد علي الأول، لذكره له في الفقيه، إلا أن إدراجه له في باب: «صلاة المريض و المغمي عليه و الضعيف و المبطون و الشيخ الكبير و غير ذلك» قد يظهر في عدم عمله به فيما هو ظاهر فيه، بل تنزيله علي المبطون، الذي هو ليس عملا به في الحقيقة، نظير ما حكي عن الشيخ من حمل الخبرين و نحوهما علي بعض المحامل البعيدة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 11.

ص: 134

______________________________

علي أنه لا يكفي عمل الصدوق وحده مع إعراض بقية الأصحاب.

و لا سيما في مثل هذا الحكم الذي يكثر الابتلاء به.

و ربما يأتي في قواطع الصلاة إن شاء اللّه تمام الكلام في ذلك.

الثاني: أن سوق بعض نصوص المقام لبيان عدم وجوب الاستئناف- كما تقدم عند الكلام في وجوب تحري الفترة- موجب لظهوره في توقع استمرار الطهارة بعد الحدث بنحو لا يحتاج الاستئناف فضلا عن البناء علي ما مضي من الصلاة إلي الوضوء أكثر من مرة، و لا ينعقد له إطلاق شامل لما لو احتاج للتكرار.

إلا أن إلغاء الخصوصية المذكورة و استفادة جواز التكرار قريب جدا، لظهورها في الاهتمام بمقارنة أجزاء الصلاة للطهارة و إن لم تستمر.

بل هو مقتضي إطلاق الصحيح المتقدم: «صاحب البطن الغالب يتوضأ و يبني علي صلاته».

كما هو أيضا مقتضي إطلاق بعض الأصحاب و صريح آخر.

نعم، لو لزم الحرج من ذلك دخل في الصورة الرابعة.

الثالث: أن النصوص حيث دلت علي عدم قادحية الوضوء من حيثية كونه فعلا كثيرا فهي تدل أيضا علي عدم قادحية مقدماته المتعارفة، كالخروج للموضع المعدّ له بالوجه المتعارف و رفع الأكمام لغسل اليدين و نحوهما، لأن عدم التنبيه علي تجنب ذلك مع الغفلة عنه موجب لظهور النصوص تبعا في عدم قدحه.

أما المقدمات الطويلة كاستقاء الماء من البئر و نحوه، مما يتعارف تهيئته قبل الصلاة لمثل هذا الشخص، فيشكل العفو عنها لو فرض قيام الدليل علي قادحيتها من حيثية كونها فعلا كثيرا.

و أشكل منه ما لو استلزم الإخلال ببعض الشروط المنصوصة، كالتستر و الاستقبال.

لكن أشرنا في ذيل الكلام في الصورة الثانية إلي العفو عن الإخلال بالستر بالمقدار الذي يقتضيه الوضوء.

ص: 135

______________________________

بل تقدم احتمال قصور أدلة شروط الصلاة عن مثل حال الحدث المتخلل، حيث يظهر من الأدلة عدم اجتماعه معها، و أن البناء علي ما مضي منها بعد الوضوء عود فيها بعد انقطاعها، لا استمرار فيها.

و يؤيده ما تضمنه صحيح الفضيل و خبر القماط من جواز ترك الاستقبال.

نعم، يشكل البناء علي ذلك في القواطع، كالكلام و القهقهة و الضحك، لظهور أدلتها في نقضها لو تخللت بين أجزاء الصلاة.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك، بالإضافة للكلام، لكثرة النصوص الدالة علي نقضه للصلاة و إن وقع في حال الاشتغال ببعض الأفعال في أثنائها- كغسل النجاسة و نحوه- و منها صحيح الفضيل و خبر القمّاط. فتأمل جيدا.

الرابع: أنه لا ظهور لنصوص المقام في وجوب المبادرة للوضوء بعد الحدث، و لا للصلاة بعد الوضوء، بل قد يدعي أن مقتضي إطلاقها جواز التأخير.

لكن الظاهر عدم انعقاد إطلاق لها من هذه الجهة، لعدم ورودها لتشريع الوضوء و الصلاة، بل لبيان جواز البناء و عدم وجوب الاستئناف مع المفروغية عن وجوب الصلاة التامة بمقتضي أصل التشريع و وجوب الوضوء بمقتضي ارتكاز عموم شرطية الطهارة. فهي لا تنهض ببيان عدم وجوب المبادرة بالمقدار اللازم لتحقيق الموالاة المعتبرة في الصلاة عندهم، و لا طريق لإثبات سقوط الموالاة إلا بالمقدار المتعارف لتحقيق الوضوء، نظير ما سبق في العفو عن الفعل الكثير.

الخامس: ألحق في المنتهي و المستند بالمبطون من يستمر منه الريح، بل ظاهر جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة أنه من أفراده.

و في جامع المقاصد: «و في الرواية تنبيه عليه»، و كأنه يشير إلي صحيح الفضيل و خبر القمّاط المتقدمين.

لكنهما- مع أنهما أجنبيان عما نحن فيه، كما تقدم- إنما يدلان علي جريان حكم المبطون المتقدم عند خروج الريح، لا عموم المبطون له مفهوما.

نعم، هو مقتضي عموم المعني المذكور له في الصحاح و مختاره و نهاية ابن

ص: 136

______________________________

الأثير و مفردات الراغب و لسان العرب و القاموس، حيث عرّفوه بعليل البطن أو من يشتكي بطنه. كما عرّفوا البطن بدأ البطن، و هو المناسب للاشتقاق. لكن في مجمع البحرين: «و المبطون من به اسهال أو انتفاخ في بطن، أو من يشتكي بطنه».

و قد يظهر منه تردده بين المعاني المذكورة، فيكون المتيقن منه في المقام من به الإسهال، كما هو المناسب لما عن التذكرة و جماعة من تعريفه بالذرب.

و الذي ينبغي أن يقال: اشتقاق الكلمة يناسب عموم البطن لكل داء في البطن مرتبط بالأكل و الطعام الذي هو أظهر خواص البطن.

و تخصيصه ببعض الأدواء، كالإسهال أو الانتفاخ، موقوف علي ثبوت وضع آخر له غير ما يقتضيه الاشتقاق. و لعله مخالف للأصل، المؤيد بكلام من عرفت من اللغويين.

نعم، ورود النصوص في مورد الوضوء و الصلاة موجب لانصرافه فيها لخصوص عدم إمساك الحدث، من دون فرق بين الغائط و الريح، و تخصيصه بالأول بلا وجه.

هذا، و لو غض النظر عن ذلك و بني علي ورود النصوص في ذي الإسهال- و لو لأنه المتيقن من المبطون- فلا ينبغي التأمل في عموم الحكم للمبتلي بالريح، إما لاستفادته من نصوص المقام بالفحوي، أو بفهم عدم الخصوصية لموردها، أو بتنقيح المناط، أو تبعا لغلبة التلازم بين الريح و الغائط، و إما لأنه مقتضي عموم شرطية الطهارة، بعد عدم الإشكال ظاهرا في عدم مبطلية الحدث للصلاة و عدم سقوط الصلاة في حق الشخص المذكور.

نعم، الثاني قاصر عمن له فترة تسع الوضوء و الصلاة و إن لم تكن مضبوطة، إذ لا إجماع علي عدم انقطاع الصلاة معها، فالبناء علي صحة الصلاة حينئذ موقوف علي إلحاقه بالمبطون موضوعا أو حكما- كما هو غير بعيد- حيث تقدم عموم نصوصه لصورة وجود فترة غير مضبوطة. و كذلك الحال في التوسع من

ص: 137

و إذا أحدث بعد الصلاة توضأ للصلاة الأخري.

الرابعة الصورة الثالثة لكن يكون تجديد الوضوء في الأثناء حرجا عليه

الرابعة: الصورة الثالثة، لكن يكون تجديد الوضوء في الأثناء حرجا عليه. و حكمه الاجتزاء بالوضوء الواحد لكل صلاة (1).

______________________________

حيثية كثرة مقدمات الوضوء و الخلال بالموالاة و غيرهما، حيث يتوقف التسامح بالمقدار المتعارف فيها علي إلحاقه بالمبطون، و بدونه يتعين الاقتصار علي أقل الممكن.

ثمَّ إن ما عن التذكرة من ذكر ذي الريح مع المسلوس، كأنه مبني علي عدم الفرق بين المسلوس و المبطون في الحكم، و إلا فلا مناسبة بينهما.

(1) كما ذكره في العروة الوثقي و تبعه غير واحد من محشيها، و سبقهم إليه في الحدائق و الجواهر، و جعله في مفتاح الكرامة احتمالا في كلمات الأصحاب، قال- بعد التنبيه للزوم الحرج من الوضوء في الأثناء لو كانت الفترات قصيرة-: «إلا أن يستثنوا مثل هذا الحرج، كما في شرح المفاتيح».

و قد استدل عليه في كلام غير واحد بقاعدة رفع الحرج، لكنها تقتضي سقوط وجوب الصلاة الأدائية بالطهارة بالنحو المذكور، لا الاكتفاء بالصلاة الفاقدة لها، كما هو الحال في سائر موارد لزوم الحرج من فعل الطهارة أو تعذرها.

نعم، لو كان منشأ الحرج المرض، لقصر الفترات المستلزم لكثرة التكرار، لم يبعد استفادة عدم سقوط الأداء المستلزم للاكتفاء بالصلاة الناقصة من نصوص المبطون و المسلوس و المستحاضة و غير ذلك مما يظهر منه اكتفاء الشارع من المريض بالميسور له، نظير ما تقدم في المبطون الذي لا فترة له أصلا.

و هذا بخلاف ما إذا كان الحرج لطارئ خارجي لا دخل له بالمرض من برد أو نحوه، حيث لا طريق للعلم بعدم سقوط الأداء فيه من بين موارد تعذر الطهارة.

و لعل هذا خارج عن مفروض كلامهم، بل يختص بالأول، كما هو ظاهر من ذكر الحرج في صورة التكرار أو عدم سعة الفترة.

ص: 138

______________________________

ثمَّ إنه بناء علي العفو عن الحدث المتخلل، فوجوب الوضوء لكل صلاة ظاهر، بناء علي ما تقدم في الصورة الثانية في تقريب القاعدة المقتضية لتخفيف الحدث.

أما بناء علي عدم تماميتها، فقد علله سيدنا المصنف قدّس سرّه بأنه إذا أمكن إيقاع أول الصلاة بطهارة وجب.

و هو مبني علي التفكيك بين أجزاء الصلاة في اعتبار الطهارة، لملاحظتها بنحو تعدد المطلوب، الذي هو خلاف ظاهر دليل شرطيتها، لظهوره في شرطيتها لمجموع الصلاة.

و لا دليل عليه من نصوص المقام، لعدم التعرض في نصوص المسلوس للوضوء، و اختصاص نصوص المبطون بما إذا أمكن تحصيل الطهارة لتمام الصلاة و بنحو التقطيع، فبعد فرض سقوط شرطية الطهارة للمجموع يكون المرجع أصل البراءة من شرطيتها لبعض الأجزاء، فيجوز الجمع بين أكثر من صلاة بالوضوء الواحد، و لا ينتقض الوضوء إلا بالحدث الآخر، كما سبق منه قدّس سرّه في الصورة الثانية.

اللهم إلا أن يقطع بذلك بمعونة الارتكازيات أو نحوها.

بقي شي ء، و هو أنه قال في الجواهر بعد فرض لزوم الحرج من التكرار:

«فهل يترك التكرير من أول الأمر، أو إلي أن يصل إلي حدّ الحرج؟ وجهان، منشؤهما: تقدير الضرورة بقدرها و احتمال وجوب تقليل الحدث مهما أمكن، و من أن التكليف الحرجي لا يلحظ فيه نحو ذلك كما في كثير من أفراده».

و لا يخفي أنه لما كان دليل المسألة قاعدة رفع الحرج تعين الوجه الثاني، لأن موضوعها الحرج الشخصي الفعلي غير الحاصل من أول الأمر.

و ما ذكره من عدم ابتناء كثير من أفراد الحرج علي ذلك إنما يتم في الموارد التي يكون الحرج النوعي فيها مانعا من جعل الحكم، و هو محتاج إلي دليل، و لا تنهض به القاعدة المذكورة.

و حينئذ يتمسك لوجوب المقدار الذي لا يلزم منه الحرج بالقاعدة

ص: 139

مسألة 92 الأحوط في الصورة الثالثة أن يكرر الصلاة بلا تجديد

مسألة 92: الأحوط في الصورة الثالثة أن يكرر الصلاة بلا تجديد (1).

مسألة 93 الأحوط وجوبا لمستمر الحدث الاجتناب عما يحرم علي المحدث

مسألة 93: الأحوط وجوبا لمستمر الحدث الاجتناب عما يحرم علي المحدث (2).

______________________________

المتقدمة المقتضية وجوب تخفيف الحدث مهما أمكن، إذ هي كما تقتضي وجوب التخفيف برفع ما يقع قبل الصلاة تقتضي وجوبه برفع ما يقع في أثنائها.

هذا كله في المبطون، و أما المسلوس فلا يجب عليه الوضوء في الأثناء مع عدم الحرج، فضلا عما لو لزم، كما تقدم في الصورة الثالثة.

(1) يعني: للوضوء في الأثناء، بل يقتصر علي الوضوء قبل الصلاة، خروجا عن شبهة قدح الوضوء في الأثناء، لكونه فعلا كثيرا.

و حيث تقدم ضعفها يكون الاحتياط المذكور استحبابيا، كما هو ظاهر المتن، لأنه مسبوق بالفتوي، و إن لم يتضح وجه تخصيصه بالذكر من بين غيره من الاحتمالات الموافقة للاحتياط.

(2) كما في العروة الوثقي، و تبعه جملة من محشيها، و ظاهر الجواهر البناء علي المنع في حال الصلاة فضلا عن غيرها.

و لا ينبغي التأمل في المنع مع عدم الوضوء من الحدث الخارج بالوجه المتعارف، لعدم الإشكال في ناقضيته و عدم الدليل عن العفو عنه في المقام.

و أما مع الوضوء منه و الابتلاء بما يخرج قهرا فالاجتناب مقتضي ضم عموم الناقضية لعموم مانعية الحدث من الفعل المذكور، علي ما يتضح بملاحظة ما تقدم في تقريب مقتضي القاعدة في الصورة الثانية.

و العفو في الصلاة عن الحدث المذكور في الجملة لا يستلزم العفو في غيرها مما يحرم تكليفا مع الحدث، إلا أن يرجع إلي عدم انتقاض الطهارة في محل

ص: 140

______________________________

الكلام، و قد سبق المنع منه.

و أما إلحاق ما نحن فيه بالصلاة في العفو عن الحدث، فهو و إن لم يكن بعيدا، و لا سيما بلحاظ ما ذكرنا من عمومه لصورة وجود الفترة غير المضبوطة، حيث يقرب ابتناؤه علي الإرفاق و الامتنان في حق المريض، لعجزه عن تجنب الحدث.

إلا أن في بلوغ ذلك حدا يقتضي إلغاء خصوصية المورد و فهم عموم الحكم لما نحن فيه عرفا، أو القطع بالعموم له لتنقيح المناط إشكال، بل منع، لعدم المقتضي للفعل المذكور، و ليس هو كالصلاة الراجحة في نفسها.

نعم، لو لزم الحرج من المنع سقط، كما يسقط مع الحدث المتعارف، و كذا لو زوحم بتكليف آخر، كما لو توقف منع هتك حرمة الكتاب علي مسه، حيث تجري حينئذ قواعد التزاحم من الترجيح بالأهمية و التخيير مع عدمها.

و مما ذكرنا يظهر الإشكال في العفو عن الحدث في الطواف الواجب، حيث يعتبر في صحته الطهارة، بل ظاهر الشيخ قدّس سرّه في التهذيب و المبسوط و النهاية عدم صحة الطواف منه، بل يطاف عنه و يصلي هو الركعتين، و إن كان ظاهر بعضهم المفروغية عن مشروعيته للمسلوس، بل للمبطون لو لا النصوص المتضمنة أنه يطاف عنه «1»، التي وقع الكلام في مفادها. و تمام الكلام في محله.

و أما الوضوء من المسلوس و المبطون لما يعتبر في كماله الطهارة- كقراءة القرآن- فلا يبعد استحبابه، بعد استفادة قابلية الحدث للتخفيف من أدلة المقام، و إن كان ظاهر الجواهر التوقف فيه، و لا أقل من رجحان الإتيان به برجاء المطلوبية.

هذا، و الظاهر عموم العفو عن الحدث لجميع الصلوات من الفرائض و النوافل الراتبة و غيرها، لأنه- مضافا إلي ظهور مفروغية الأصحاب عنه- مقتضي إطلاق نصوص المبطون، بل بعض نصوص المسلوس أيضا، و هو: صحيحا منصور و الحلبي، لأنهما و إن لم يتعرضا للوضوء و الصلاة، إلا أن تعرضهما لوضع الخريطة

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 49 من أبواب الطواف.

ص: 141

______________________________

ظاهر في المفروغية عن فرض إرادة الصلاة، و لا خصوصية- ارتكازا- لبعض الصلوات دون بعض، بل المناسبة الارتكازية تقتضي التعميم و تبعد التخصيص باليومية جدا، و إن كان قد يظهر من الجواهر نحو تردد فيه.

نعم، قيّد سيدنا المصنف قدّس سرّه في حاشيته علي العروة الوثقي جواز الجمع بين أكثر من صلاة بوضوء واحد في الصورة الثانية بما إذا كانت الصلوات مضيقة، و كأن مراده بالمضيقة ما يلزم فوته لو انتظر به حال الشفاء و القدرة علي الطهارة التامة.

فيبتني علي ما تقدم منه في وجه اعتبار عدم الفترة التي تسع الصلاة و الطهارة من أن ورود الحكم مورد الاضطرار موجب لانصراف أدلته عن صورة القدرة علي الصلاة التامة في بعض الوقت، و هو يقتضي عدم الفرق بين جميع صور المسألة في المنع عن الصلاة الموسعة، حتي الصورة الثالثة المبنية علي تحصيل الصلاة بطهارة تامة بنحو التقطيع، لأن مشروعية التقطيع و عدم بطلان الصلاة بالحدث للعذر أيضا.

و أما بناء علي ما ذكرنا من أنه مع عدم وجود الفترة المضبوطة يجوز التعجيل و إن كانت هناك فترة واقعا، فيجوز للمبطون الإتيان بكل صلاة مع احتمال استمرار العذر احتمالا معتدا من دون أمارة علي ارتفاعه، لإطلاق نصوصه.

بل قد يدعي شموله لما إذا كان الشفاء بعيد الأمد، لأن ما ذكرنا من الوجه لانصراف الإطلاق عن صورة وجود الفترة المضبوطة- و هو عدم العذر لإيقاع الصلاة حين الحدث عرفا- غير جار فيه.

نعم، إذا كان المبطون مستمر الحدث بنحو تتعذر عليه الصلاة مع الطهارة و لو بنحو التقطيع خرج عن موضوع النصوص، و انحصر الدليل فيه بالإجماع، و المتيقن منه الصلاة التي يتعذر إيقاعها بالطهارة، لاستمرار العذر في تمام وقتها.

ص: 142

مسألة 94 حكم صلاة الاحتياط و الأجزاء المنسية حكم أبعاض الصلاة

مسألة 94: حكم صلاة الاحتياط و الأجزاء المنسية حكم أبعاض الصلاة في عدم لزوم تجديد الوضوء مع الحرج و لزوم تجديده بدونه (1).

______________________________

و كذا الحال في المسلوس، لاختصاص صحيح حريز بالصلاة الأدائية، لتضمنه التعجيل و التأخير، و عدم التعرض في صحيحي منصور و الحلبي للصلاة، و هو يناسب الاتكال فيهما علي المفروغية عن جوازها من حيثية الحدث.

و لا مجال لإحراز عموم المفروغية للصلاة الموسعة، لأن فرض العذر يناسب احتمال الاختصاص بالمضيقة، المضطر لإيقاعها مع الحدث، فرارا من محذور فوئها، و ليس هو كالاختصاص باليومية- مما لا مناسبة ارتكازية تقتضيه- كما سبق، فتأمل جيدا.

(1) هذا يتجه في صورة وجود الفترة التي يمكن إيقاع الوضوء و بعض الصلاة فيها، بناء علي ما سبق من أن المعيار في عدم وجوب التجديد في الأثناء و وجوبه هو الحرج و عدمه.

أما بناء علي عدم وجوبه مطلقا، بل يكتفي بالوضوء لكل صلاة- كما سبق منا في المسلوس- فالوجه في عدم وجوب التجديد لقضاء الأجزاء المنسية أن القضاء عين الأداء و إن تغير محله، فيلحقه حكمه، فتأمل.

مع أنه حيث كان من توابع الصلاة الواحدة كان الاجتزاء بوضوئها له مستفادا من نصوص المسلوس تبعا، كسجود السهو لو استفيد وجوب الوضوء، لأنه من توابع الصلاة.

و منه يظهر عدم وجوب التجديد لصلاة الاحتياط، فتأمل.

مع أن ظاهر نصوصها ترددها بين أن تكون متممة للصلاة التي وقع السهو فيها، و أن تكون نافلة مستقلة، و علي الأول يلحقها حكمها من الاجتزاء بوضوئها، و علي الثاني لا يضر بطلانها بالحدث بصحة الصلاة التي وقع السهو فيها.

ص: 143

______________________________

و دعوي: لزوم الجزم بمشروعيتها، خالية عن الشاهد.

نعم، لو أراد إحراز صحتها علي كلا التقديرين، انحصر بالوضوء لها لو غض النظر عما ذكرنا من فهم العفو فيها تبعا.

و لا يضر احتمال تتميم الصلاة بها، المستلزم لاحتمال الفصل بالوضوء بين المتمّم و المتمّم، الذي قيل: إنه فعل كثير، لعدم ثبوت قادحية مثل الوضوء- كما سبق- و لا سيما مع وقوعه بين صلاتين تتمم إحداهما الأخري، لا في أثناء صلاة واحدة، و يأتي ما ينفع في المقام في المستحاضة.

و منه يظهر الحال في صورة استمرار الحدث، التي تقدم أن مقتضي القاعدة فيها وجوب الوضوء لكل صلاة، و أنه لم يخرج عن ذلك إلا الجمع بين الظهرين و بين العشائين بوضوء واحد، فإن تبعية كل من قضاء الأجزاء المنسية و صلاة الاحتياط للصلاة التي وقع فيها السهو موجب لاستفادة العفو عن الحدث فيها تبعا لها أيضا.

نعم، يشكل في المبطون، الذي انحصر دليل الاكتفاء بالوضوء الواحد لكل صلاة فيه بالإجماع، حيث قد يستشكل في شموله لذلك- و إن كان قريبا جدا- بلحاظ كون وجوب الوضوء لها مغفولا عنه بسبب تبعيتها لصلاتها ارتكازا، فعدم التنبيه منهم علي وجوبه ظاهر في مفروغيتهم عنه.

هذا، و أما بناء علي ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه من الاجتزاء مع استمرار الحدث بوضوء واحد للصلوات الكثيرة، فاللازم عدم تجديد الوضوء و لو مع عدم الحرج، كما نبه له في مستمسكه، و لعل صورة الاستمرار خارجة عن مفروض كلامه هنا.

ثمَّ إن الظاهر وجوب الوضوء لكل صلاة من النوافل الرواتب- كغيرها من النوافل- و لا يجتزأ لها بوضوء فريضتها، لعدم الوجه في الإلحاق، بل عدم التعرض لها في صحيح حريز مع التعرض فيه للأذان و الإقامة ظاهر في عدمه.

ص: 144

مسألة 95 يجب علي المسلوس و المبطون التحفظ من تعدي النجاسة إلي بدنه و ثوبه

مسألة 95: يجب علي المسلوس و المبطون التحفظ من تعدي النجاسة إلي بدنه و ثوبه (1)

______________________________

(1) كما صرح به في المسلوس في المعتبر و المنتهي و موضع من المبسوط و غيرها، و نسبه في الجواهر لجماعة من الأصحاب، و ذكره في جامع المقاصد في المبطون و المسلوس معا ناسبا للأصحاب التصريح به.

و كأنه لفهم عدم خصوصية المسلوس من كلماتهم.

و كيف كان، فهو مقتضي اعتبار الطهارة من الخبث في الصلاة، حيث يجب تحصيل الشرط مع القدرة.

مضافا إلي صحاح حريز و منصور و الحلبي المتقدمة «1» الواردة في المسلوس المتضمنة وضع الكيس و الخريطة.

و منه يظهر ضعف ما في النهاية و موضع من المبسوط من التعبير بالاستحباب لو أراد منه ما يقابل الوجوب.

إلا أن يكون مراده صورة عدم اليقين بخروج النجاسة، حيث لا دليل علي وجوب الاحتياط حينئذ، و لا إطلاق في النصوص المتقدمة يشمل صورة الشك، لظهورها في علاج أمر النجاسة في ظرف وجودها، لا بيان الحكم الظاهري في ظرف احتمالها.

و حينئذ لو خرجت النجاسة لحقه حكم من ابتلي بالنجاسة في أثناء الصلاة من وجوب التطهير و الإتمام.

نعم، لو فرض لزوم محذور من التطهير ككشف العورة، فلا دليل علي العفو عنه، بل هو مخالف لمرتكزات المتشرعة جدا، كما لا دليل علي العفو عن النجاسة، بل نصوص المسلوس ظاهرة في اختصاص العفو بما من شأنه أن

______________________________

(1) عند الكلام في لزوم تحري الفترة و في الصورة الثانية، و هي مذكورة في الوسائل باب: 19 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 1، 2، 5.

ص: 145

______________________________

يتنجس مع وضع الخريطة، دون ما زاد عليه، و هو راجع لوجوب الاحتياط بالتحفظ.

لكن قد يستشكل في المبطون، لعدم اشتمال نصوصه علي وجوب التحفظ مع العلم، فضلا عن الشك، و لا في العفو عن نجاسة الموضع، فضلا عن غيره، و مقتضي القاعدة لزوم التطهير عليه في الأثناء مطلقا مع التحفظ و عدمه، كما هو الحال في كل من يبتلي بالنجاسة في الأثناء.

ففائدة التحفظ سهولة التطهير لقلة موضع النجاسة، من دون أن يكون له أثر في صحة الصلاة.

و فيه: أن الاقتصار في بعض نصوص المبطون علي الوضوء ظاهر في عدم وجوب التطهير من الخبث، و لا سيما مع إباء مرتكزات المتشرعة عنه، مع ما يستلزمه- عادة- من كشف العورة.

بل لا ينبغي التأمل فيه بملاحظة ظهور مفروغية الأصحاب عنه، لاكتفائهم بالتحفظ.

و المتيقن منه العفو عن خصوص ما لا بد منه مع التحفظ، لأن التحفظ هو مقتضي الوضع الطبيعي لمن يتعرض لخروج النجاسة قهرا، و لا يحتاج إلي تنبيه، فعدم التنبيه علي تطهير الخبث الزائد بسبب عدم التحفظ لا يدل علي العفو عنه، فلاحظ.

هذا، و قد قال في الجواهر: «نعم، الظاهر المنع بالممكن بوضع القطن، فلا يتعين نحو الكيس، و إن أمكن القول بوجوبه مع إمكانه، لاحتمال أنه أقرب إلي صيرورته من قبيل الأجزاء الباطنة، إلا أني لم أقف علي كلام لهم في وجوب خصوص ذلك، بل أوجبوا الاستظهار الشامل له و لغيره»، و قد سبقه في الحدائق إلي احتمال كون خصوصية الخريطة، لأنها كالجزء من البدن، و إن لم يظهر منه تعينها.

ص: 146

مهما أمكن بوضع كيس أو نحوه، و لا يجب تغييره لكل صلاة (1).

______________________________

لكن لا منشأ للاحتمال المذكور عرفا، فلا يمنع من فهم عدم الخصوصية للكيس و الخريطة من النصوص، تبعا لعموم الجهة الارتكازية لها، و هي التحفظ.

(1) كما في المعتبر و المنتهي، و نسبه في الجواهر «1» لجماعة، لعدم الدليل علي وجوب التبديل، خلافا لما عن السرائر من الجزم بوجوبه، و عن الذكري أنه أحوط، و كأنه لعموم مانعية النجاسة المقتصر في الخروج عنه علي المتيقن، و هو صلاة واحدة.

لكن العموم المذكور لا يقتضي وجوب تبديل مثل الخريطة مما لا تتم به الصلاة، و تلوثه بعين النجاسة غير قادح، كما تشهد به نصوص العفو عن مثله.

علي أنه لا يبعد استفادة عدم وجوب التبديل من عدم التنبيه عليه في صحيحي منصور و الحلبي بعد ورودهما لعلاج مشكلة النجاسة، فإن المستفاد منهما أن المهم عدم تعدي النجاسة.

و أظهر منهما في ذلك صحيح حريز، لأن الحكم فيه بالجمع بين الصلاتين كالصريح في عدم وجوب التبديل، و إن كان قاصرا عن إثبات العفو في أكثر من صلاتين.

و منها يظهر عدم وجوب تطهير موضع النجاسة من البدن، و إن كان هو مقتضي العموم لو كان ينفع في تقليل مقدار المتنجس منه حين الصلاة، و لو احتمالا.

نعم، يشكل تعميم ذلك للمبطون، لتوقفه علي فهم عدم الخصوصية لمورد النصوص المذكورة، أو تنقيح المناط، و قد تكرر الإشكال في الأمرين.

كما أنه يلزم التبديل في المسلوس و المبطون لو كان التحفظ بما تتم به

______________________________

(1) ذكره هو و من قبله في أحكام المستحاضة.

ص: 147

______________________________

الصلاة، عملا بالعموم بعد قصور النصوص عن إثبات العفو عنه، لانصراف الخريطة و الكيس عنه.

بل مقتضي ذلك عدم جواز التحفظ به، و اختيار ما لا تتم به الصلاة مع الإمكان.

فرعان.

الأول: صرح في العروة الوثقي بأنه لو تبين في أثناء الصلاة العذرية أو بعدها وجود الفترة الواسعة للصلاة الاختيارية وجب استئنافها فيها، و عليه جري جماعة من محشيها.

خلافا للمستند، فإنه- مع حكمه بوجوب تحري الفترة مع احتمالها- ذكر أنه لو فجأه الحدث في الأثناء في زمان الفترة توضأ و بني علي صلاته و لم ينتظر فترة أخري لو كانت له.

و الظاهر أن وجوب الإعادة مبني علي اختصاص النصوص بصورة عدم الفترة واقعا، و قد تقدم المنع عنه، و أنها تشمل وجود الفترة إذا لم تكن مضبوطة، كما لعله مفروض الكلام.

فاللازم البناء علي عدم وجوب الاستئناف في مورد النصوص، و هو المسلوس مطلقا، و المبطون الذي يصلي بطهارة تامة بنحو التقطيع، و أما في غيرهما، كالمبطون المستمر الحدث، و ذي الريح مطلقا- بناء علي عدم إلحاقه بالمبطون موضوعا أو حكما- فالمتعين الاستئناف، لاختصاص الدليل علي مشروعية الصلاة العذرية فيه بالإجماع و نحوه مما يكون المتيقن منه صورة عدم الفترة و إن لم تكن مضبوطة، كما جرينا علي التفصيل المذكور في غير موضع.

الثاني: هل يجب معالجة السلس و البطن مع القدرة علي ذلك أو لا؟ ظاهر محكي شرح المفاتيح الأول. و يقتضيه إطلاق التكليف بالصلاة التامة، المقتضي لوجوب تحصيل القدرة عليها و حفظها في المقام بالعلاج مع التمكن منه قبل

ص: 148

______________________________

الوقت، فضلا عما بعده.

لكن استشكل في ذلك في العروة الوثقي و تبعه جملة من محشيها، بل قرّب سيدنا المصنف قدّس سرّه عدم الوجوب بعد الاعتراف بما ذكرنا. قال: «إلا أنه يمكن دعوي استقرار السيرة علي خلافه، لا سيما مع عدم الأمر بالعلاج في النصوص».

و فيه: أن عدم الأمر في النصوص قد يكون لغلبة اهتمام المكلف بالعلاج مع التمكن بنحو لا يحتاج للتنبيه، بل ورود النصوص مورد العذر مانع من استفادة عدم الوجوب منها.

نعم، ذلك مختص بما إذا كان العلاج سهلا، أما مع صعوبته أو ضعف احتمال القدرة عليه بنحو يترتب عليه الشفاء، فقرينة العذر لا تصلح لإيجابه في المقام، لأن تركه مورد للعذر عرفا، و هو المتيقن من السيرة علي عدم الاهتمام بالعلاج، و لا طريق لإحرازها مع سهولته.

اللهم إلا أن يقال: ظهور النصوص في عدم وجوب تحري الفترة كاشف عن كون طروء المرضين رافعا لملاك وجوب الصلاة بطهارة تامة من دون أن يتخللها الحدث، و مع ذلك لا موجب لحفظ القدرة علي الصلاة المذكورة بالعلاج في مورد النصوص، و إنما يتجه في غيره مما ينحصر دليله بالإجماع، حيث لا طريق لاستكشاف قصور الملاك في مورده، نظير ما تقدم في الفرع السابق.

هذا، و لو أمكن منع الحدث مقدار أداء الصلاة من دون حرج وجب- كما صرح به في العروة الوثقي و جري عليه جملة من محشيها- سواء كان باستعمال دواء أم بتقليل غذاء أم بالتحفظ الخارجي منه، لانصراف النصوص عن صورة القدرة علي الفترة المضبوطة، نظير انصرافها عن صورة وجودها.

و كأن ما ذكره بعض مشايخنا من عدم وجوب ذلك كعدم وجوب علاج أصل المرض مع التزامه بوجوب تحري الفترة، مبني علي عدم ناقضية الحدث القهري في المقام بنظره، و قد سبق في الصورة الثانية المنع من ذلك، فلاحظ، و اللّه سبحانه و تعالي العالم، و له الحمد.

ص: 149

الفصل السابع في غايات الوضوء
اشارة

الفصل السابع لا يجب الوضوء لنفسه (1).

______________________________

(1) كما صرح به جماعة، و ظاهر غير واحد ممن اقتصر علي بيان ما يجب أو يستحب له الوضوء المفروغية عنه، و في المدارك: أنه المعروف من مذهب الأصحاب، و في الجواهر: «بل هو المشهور نقلا و تحصيلا، بل عن العلامة و الكركي نقل الإجماع عليه»، و ربما يلوح دعوي الإجماع من محكي البيان و قواعد الشهيد، بل هو صريح مجمع الفوائد.

و لا ينبغي التأمل في ذلك، إذ لو كان واجبا لكثر السؤال عنه من حيثية السعة و الضيق و أمدهما و فروع ذلك و احتيج لبيانه، فعدم التعرض في النصوص و الفتاوي لذلك و اقتصارها علي بيان وجوبه و استحبابه للغايات الخاصة كاشف عن وضوح عدم وجوبه نفسيا بين المتشرعة من الصدر الأول، كما هو الحال في عصورنا، و هو مما يجعله من الضروريات.

و بذلك يستغني عن الاستدلال بمفهوم الشرط في الآية الشريفة، و في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: قال: «إذا دخل الوقت وجب الطهور و الصلاة، و لا صلاة إلا بطهور» «1».

علي أنه لا يخلو عن إشكال، لأن الأمر بالوضوء في الآية ظاهر في الإرشاد لبيان شرطيته للصلاة، لأنه المناسب للتعليق علي نفس فعل الصلاة و إرادة

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 150

______________________________

إيجادها، دون الأمر المولوي كي ينهض المفهوم بالاستدلال، لوضوح أن الأمر به مولويا نفسيا وجوبا أو استحبابا تابع للحدث، و الأمر به غيريا تابع لدخول الوقت، و لذا يشمل جميع أفراد الصلاة حتي ما لا يستحب في حق المباشر لو فرض تحققه، كما قد يقال به في النيابة بجعالة، و في النيابة عن الأبوين الناصبيين، لبعض النصوص «1».

هذا، و أما بناء علي ما في موثق ابن بكير من أن المراد بالآية هو القيام من النوم «2» فالأمر أظهر، لأنه يكون مسوقا لبيان ناقضية النوم للطهارة و شرطيتها للصلاة.

و أما الصحيح، فهو و إن كان ظاهرا في الوجوب المولوي، إلا أن المتيقن منه تعليق وجوب الأمرين معا بنحو الارتباط المسبب عن شرطية الطهارة في الصلاة التي صرح بها في ذيله، و لا ظهور له في تعليق وجوب كل منهما منفردا و بنحو الانحلال، لينفع فيما نحن فيه.

و لذا لا يكون ما دل علي وجوب الوضوء لغير الصلاة منافيا للشرطية المذكورة في الآية و الصحيح عرفا، بنحو يكون مخصصا لعموم مفهومها. فتأمل.

هذا، و في الذكري بعد أن ذكر الخلاف في أن وجوب الغسل نفسي أو غيري قال: «و ربما قيل بطرد الخلاف في كل الطهارات، لأن الحكمة ظاهرة في شرعيتها مستقلة» قال في مفتاح الكرامة بعد نقل كلامه هذا: «و يحتمل أن يكون ذلك احتمالا منه، لأني قد تتبعت فلم أعثر علي هذا القول للعامة [3] أيضا».

و لعل ما في الذكري هو المنشأ لما حكاه عنه في المدارك من حكاية قول بوجوب الطهارات أجمع بحصول أسبابها وجوبا موسعا لا يتضيق إلا بظن الوفاة أو

______________________________

[3] لكن ذكر الرازي في تفسيره أن لهم قولين في ذلك و ذكر احتجاج الطرفين. كما نسب الشهيد في القواعد إلي القاضي أبي بكر العنبري القول بالوجوب النفسي و أنه يتضيق بضيق وقت الصلاة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 8 و باب: 20 من أبواب النيابة في الحج حديث:

1 و باب: 25 من الأبواب المذكورة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 151

______________________________

تضيق وقت العبادة المشروطة بها.

و قد استدل قدّس سرّه عليه بإطلاق الآية، و كثير من الأخبار، كصحيح ابن الحجاج المتضمن لقوله عليه السّلام: «من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فقد وجب عليه الوضوء» «1»، و صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يواقع أهله أ ينام علي ذلك؟ قال: إن اللّه يتوفي الأنفس في منامها و لا يدري ما يطرقه من البلية، إذا فرغ فليغتسل.» «2»، و صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة، فإن خرج فيها شي ء فلا تغتسل، و إن لم تر شيئا فلتغتسل، و إن رأت بعد ذلك فلتوضّ و لتصل» «3».

لكن لا يخفي ضعف الاستدلال بما عدا صحيح ابن الحجاج، إذ لا إطلاق للآية بعد تقييد الأمر بالوضوء فيها بالقيام للصلاة.

و مثله ما عن بعض العامة من الاستدلال بقوله تعالي في ذيلها وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ، لأن ذلك مسوق لتعليل التنزل عن الوضوء و الغسل للصلاة إلي التيمم لها عند تعذرهما، و من الظاهر أن تعليل ذلك بإرادة التطهير انما يحسن لو أريد به إرادتها للصلاة لا إرادتها لنفسها.

و أما صحيح عبد الرحمن، فهو وارد للتعجيل، و لا بد من حمله علي الاستحباب، لجواز النوم للجنب بالنص و الإجماع حتي من القائل بالوجوب النفسي.

و أما ما تضمنه من تعليل التعجيل بخوف الموت، فهو لا يدل علي حرمة إبقاء الجنابة للموت بعد كون الحكم المعلل به غير إلزامي.

و أما صحيح محمد بن مسلم، فهو ظاهر في بيان مشروعية الغسل بانقطاع الدم في مقابل ما تضمّنه صدره من عدم مشروعيته حال خروجه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 152

______________________________

و نحوه في ذلك ما في موثق سماعة من قول الصادق عليه السّلام: «و غسل الحائض إذا طهرت واجب، و غسل المستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف و جاز الدم الكرسف، فعليها الغسل لكل صلاتين.» «1».

نعم، صحيح ابن الحجاج لا يخلو عن ظهور في نفسه في وجوب الوضوء بمجرد حصول النوم و لو قبل وجوب غاياته المستلزم لكونه نفسيا.

و مثله في ذلك جملة من النصوص الواردة في نواقض الوضوء المتضمنة للتعبير بأنه يجب بها، أو بأن من حصلت منه فعليه الوضوء، و كذا ما تضمن التعبير بالوجوب في بعض الأغسال من دون تقييد بدخول وقت الغايات، كموثق سماعة المتقدم.

إلا أنه لا مجال للخروج بها عما تقدم من ظهور المفروغية عن عدمه، فيتعين حملها علي بيان تحقق موضوع الوضوء و الغسل ممن يبتلي بحدثهما، لا علي الوجوب النفسي، و لا سيما بالوجه المذكور، حيث لا ريب في عدمه بملاحظة عدم التنبيه من المعصومين عليهم السّلام لوجوب الطهارة أو الوضوء علي المحتضر و المحارب و نحوهما ممن يتعرض للموت، مع غلبة الابتلاء بالحدث، خصوصا الأصغر حينه، و إهمال أهل الفتوي و سائر المتشرعة لذلك، كما نبه له غير واحد.

و أما ما أشار إليه في الذكري من ظهور الحكمة في شرعيتها مستقلة.

فهو لا يستلزم الوجوب، بل يقتضي مشروعيتها و لو بنحو الاستحباب النفسي المطابق لارتكاز حسن الطهارة عند المتشرعة، تبعا للنصوص و نحوها مما يأتي الكلام فيه.

و مثله ما ذكره قدّس سرّه في قواعده من أن الذي ألجأ للقول بالوجوب النفسي ما عبر عنه بالإشكال اليسير، و هو الناشئ من أن الطهارة و الستر و القبلة معدودة من واجبات الصلاة، مع الاتفاق علي فعلها قبل الوقت، و الاتفاق في الأصول علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 153

و تتوقف صحة الصلاة واجبة (1) كانت أو مندوبة (2) عليه. و كذا أجزاؤها المنسية (3).

______________________________

عدم إجزاء غير الواجب عن الواجب.

لاندفاع ذلك: بأنه لا مانع من إجزاء غير الواجب عن الواجب، و لا سيما الغيري منه، بل بناء علي ما هو الظاهر من أن الشرط هو الطهارة التي هي أثر الأفعال الخاصة فتقديم الأفعال المذكورة علي الوقت لا يستلزم تقديم الواجب، لوضوح أن الواجب هو بقاء الطهارة حين الصلاة، الذي هو بعد الوقت. و كذا الحال في الستر و الاستقبال، فتأمل.

(1) بلا ريب و لا إشكال. و يقتضيه الكتاب المجيد، و السنة الشريفة المتواترة، و الإجماع المنقول مستفيضا، بل هو من الضرورات الفقهية، بل الدينية، كما صرح به بعضهم.

نعم، يخرج من ذلك الصلاة علي الميت، إما لأن إطلاق الصلاة عليها مجازي- كما صرح به بعضهم- أو للأدلة الخاصة المخرجة عن العموم المذكور، التي يأتي التعرض لها في محلها إن شاء اللّه تعالي.

(2) الكلام فيها كما سبق، لعموم كثير من الأدلة المتقدمة، و خصوص بعضها.

(3) كما ذكره في القواعد في قضاء السجدة المنسية، و حكي عن نهاية الاحكام و التحرير و الألفية و شروحها الأربعة.

و قد يظهر من نزاعهم في جواز تخلل الحدث بينها و بين الصلاة المفروغية عن لزوم إيقاعها بطهارة.

و كيف كان، فيقتضيه عموم دليل شرطيتها في الصلاة، إذ لا يراد به إلا شرطيتها لأجزائها، و المقضي جزء صلاتي و إن تبدل محله، فدليل القضاء موسع

ص: 154

بل سجود السهو (1) علي الأحوط وجوبا.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 155

______________________________

عرفا للمقضي من حيثية المحل، من دون أن يقتضي التوسع فيه من سائر الجهات من الأجزاء و الشروط، و ليس هو كدليل الكفارة و الضمان و نحوهما من التداركات بالأمور المباينة.

و لذا لا يظن بأحد التوقف في وجوب اشتمال السجود المقضي علي الذكر الواجب في سجود الصلاة، مع خلو النصوص عنه.

و كأن وضوح ذلك ارتكازا هو الذي أوجب غفلة الأكثر عن التنبيه عليه بالخصوص، من دون خلاف منهم فيه.

(1) فقد ذهب إلي اعتبارها فيه في الروضة و محكي السرائر و الألفية و الهلالية و الدرة، و عن المقاصد العلية أنه أقوي، و عن نهاية الاحكام أنه الأقرب.

و لعله ظاهر من أطلق أنه يعتبر فيه ما يعتبر في سجود الصلاة، كما في اللمعة و محكي الذكري و الدروس و البيان و الجعفرية و الغرية و شرح الألفية للكركي و غيرها. بل ربما يستفاد من قدماء الأصحاب، لعدم تنبيههم علي عدم اعتبارها، مع تنبيههم إلي عدم اعتبار القراءة و الركوع، كما أشار إليه في مفتاح الكرامة.

لكن تنظر في القواعد و محكي التذكرة، و هو مقتضي الاقتصار في المدارك و محكي التنقيح و المفاتيح و الذخيرة علي أنه أحوط، بل حكي في مفتاح الكرامة عن الجواهر عدم اعتبارها، و عن التحرير أنه الأقرب.

و يقتضيه- مضافا إلي الأصل، بناء علي التحقيق من جريان البراءة مع الشك في تقييد المكلف به- إطلاق الأمر بهما المعتضد بإطلاق ما تضمن الأمر لمن نسيهما بالإتيان بهما متي ذكر «1».

و منه يظهر ضعف الاستدلال لاعتبار الطهارة بأنه مقتضي الاحتياط.

و مثله الاستدلال بأنهما مكملتان و جابرتان للصلاة التي يشترط فيها

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2.

ص: 155

______________________________

الطهارة، لمنعه صغري و كبري، إذ لا دليل علي إكمال الصلاة و جبرها بهما، بل هو خلاف ظاهر ما تضمنه بعض النصوص من أنهما المرغمتان للشيطان «1»، كما لا دليل علي لزوم موافقة الجابر للمجبور في الشروط إذا لم يكن جزءا منه.

و منه يظهر أنه لا مجال لدعوي كون ذلك منشأ لانصراف إطلاق الخطاب بهما لصورة الطهارة.

علي أنه لو سلم فهو لا يقتضي نهوض الإطلاق باعتبار الطهارة، غاية الأمر قصوره عن نفي اعتبارها و إجماله من هذه الجهة، فيكون المرجع أصل البراءة منها.

هذا، و لكن الإنصاف أن النظر في جميع نصوص سجود السهو مقرب لأصالة تبعيته للصلاة في الاحكام- كما سبق من بعضهم- و أنه ليس المراد به مطلق السجود بنحو يكون ما زاد عليه قيودا أو واجبات تحتاج إلي دليل، كما يناسبه الأمر به متصلا بها في حال الجلوس قبل الكلام «2» و النهي عن الإتيان به قبل ذهاب شعاع الشمس «3» و الأمر بالسلام فيه «4» الذي هو للتحليل، فإن الأحكام المذكورة تناسب كونه عملا قائما بنفسه ملحقا بالصلاة في الاحكام، إذ هي غير دخيلة في إرغام الشيطان الذي شرع له السجود.

و ذلك و إن لم يصلح للاستدلال، إلا أنه مقرب لفهم إلحاقه بالصلاة من فحوي الأدلة و مساقها. و لا سيما مع التنبيه في النصوص علي أنه لا ركوع فيه و لا قراءة «5»، إذ لو لا أصالة الإلحاق بالصلاة التي ترتبط السجدتان فيها بالقراءة و الركوع

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2، و باب: 19 منها حديث: 9، و باب:

32 منها حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب التشهد حديث: 4، 5 و باب: 9 منها حديث: 3 و باب: 5 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 3 و باب: 11 منها حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 32 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 5 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2 و باب: 11 منها حديث: 8 و باب: 14 منها حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 7 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2 و باب: 14 منها حديث: 4 و باب: 26 منها حديث: 2.

ص: 156

و مثل الصلاة الطواف الواجب (1)،

______________________________

لم يحتج للتنبيه علي عدم وجوبهما فيه، و لو لم تعتبر فيه الطهارة و نحوها من الشروط لكان أولي بالتنبيه.

و لعل هذا هو المنشأ لإغفال قدماء الأصحاب التعرض لذلك و ظهور بنائهم علي اعتبار الطهارة، و عدم ظهور الخلاف فيه حتي بدأ به العلامة، علي اضطراب منه في المسألة، فإن ما نقله في مفتاح الكرامة عن الجواهر لم أجده في جواهر القاضي بل هو لا يناسب مسلكه فيه، لإكثاره من الاستدلال بالاحتياط.

و لأجل ذلك كله يشكل التعويل علي الإطلاق أو أصالة البراءة بنحو يجتزأ بالسجود الفاقد لجميع شروط الصلاة و الفاقد لموانعها و قواطعها، بل هو مما يصعب جدا بالنظر لمرتكزات المتشرعة.

و أما إطلاق ما تضمن أن الناسي يأتي به متي ذكر، فلا يراد به إلا الإتيان به بشروطه، كما ورد نظيره في الصلاة.

نعم، في بلوغ ذلك حدا ينهض بإثبات الحكم الشرعي المخالف للأصل إشكال. و لا سيما مع أن الأمر بالإتيان به متصلا بالصلاة قبل الكلام راجع لوجوب المبادرة تكليفا لا لمانعية الكلام وضعا. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) بلا خلاف ظاهر، بل الإجماع بقسميه عليه، كما في الجواهر، و بالإجماع صرح في الخلاف و الغنية و المنتهي و المسالك، و نسب في مفتاح الكرامة دعواه إلي خمسة عشر موضعا.

و يقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح معاوية بن عمار: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

لا بأس أن يقضي المناسك كلها علي غير وضوء إلا الطواف بالبيت. و الوضوء أفضل» «1».

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 1.

ص: 157

______________________________

و صحيح محمد بن مسلم: «سألت أحدهما عليهما السّلام عن رجل طاف طواف الفريضة و هو علي غير طهور. قال: يتوضأ و يعيد طوافه. و إن كان تطوعا توضأ و صلي ركعتين» «1».

و غيرهما مما ورد فيمن طاف علي غير وضوء أو أحدث في أثناء الطوف «2».

و بها يجمع بين إطلاق خبر زيد الشحام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل طاف بالبيت علي غير وضوء. قال: لا بأس» «3» و إطلاق صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «. و سألته عن رجل طاف ثمَّ ذكر أنه علي غير وضوء. قال: يقطع طوافه و لا يعتد به» «4» و خبر الواسطي عن أبي الحسن عليه السّلام: «قال: إذا طاف الرجل بالبيت و هو علي غير وضوء فلا يعتد بذلك الطواف، و هو كمن لم يطف» «5».

نعم، في معتبرة أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنه سئل أ ينسك المناسك و هو علي غير وضوء؟ فقال: نعم، إلا الطواف بالبيت، فإن فيه صلاة» و مثله صحيح جميل «6»، و قريب منهما صحيحا معاوية بن عمار و رفاعة بن موسي «7».

و مقتضي التعليل المذكور أن اعتبار الوضوء لأجل الصلاة دون الطواف فاعتبارها فيه بالعرض و المجاز.

لكنه- مع وهنه في نفسه بإعراض الأصحاب- مخالف لتلك النصوص، لإبائها عن الحمل علي ذلك جدا، و لا سيما مثل صحيح محمد بن مسلم المتقدم.

فلا بد من طرحه، أو تنزيله علي كون ذلك حكمة في اعتبار الوضوء في نفس الطواف، و لعله لذا استدل غير واحد بالنصوص المذكورة في المقام. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الطواف حديث: 3.

(2) راجع الوسائل باب: 38، 40 من أبواب الطواف.

(3) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 11.

(6) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 6 و ملحقة.

(7) الوسائل باب: 15 من أبواب السعي حديث: 1، 2.

ص: 158

و هو ما كان جزءا من حجة أو عمرة (1)،

______________________________

هذا، و مقتضي ما سبق بطلان الطواف لو وقع مع الحدث و لو نسيانا أو جهلا، كما صرح به غير واحد منهم الشيخ في المبسوط، و نفي في الجواهر الخلاف فيه و الإشكال.

لكن قد يظهر من الشيخ قدّس سرّه في موضع من التهذيب الخلاف فيه، حيث قال عند التعرض لخبر زيد المتقدم: «فأما ما رواه زيد الشحام. فمحمول علي من طاف ناسيا أو ساهيا، فأما إذا كان متعمدا فعليه الإعادة، و قد بينا الكلام في هذا المعني فيما تقدم» «1». و هو كما تري، لضعف الخبر في نفسه.

و حمله علي طواف النافلة أولي من حمله علي ذلك، لخلوه عن الشاهد، بل هو لا يناسب صحيح علي بن جعفر المتقدم الوارد في النسيان، لأنه و إن ورد في التذكر في الأثناء، إلا أن إلغاء خصوصيته قريب جدا.

بل ظاهر الشيخ قدّس سرّه نفسه في الموضع الذي أشار إليه من التهذيب «2» البناء علي الإعادة حتي مع النسيان، حيث استدل عليها بصحيح علي بن جعفر.

(1) كما صرح به بعضهم و يظهر من آخرين، بل يظهر منهم أن ذلك هو المراد بطواف الفريضة في سائر الموارد و الاحكام.

و يقتضيه النصوص المتقدمة المشتملة علي عنوان المناسك، لوضوح أن المراد بها أفعال الحج و العمرة و إن كانا مندوبين.

و أما ما في نهاية ابن الأثير و مفردات الراغب و لسان العرب و مجمع البحرين من اختصاصها بأفعال الحج، فكأنه مبني علي التغليب و إرادة ما يعم أفعال العمرة.

و قد علل إطلاق الفرض علي ذلك و قرب الاستدلال بالنصوص المتضمنة له في المقام بأن وجوب إكمال الحج و العمرة المندوبين إجماعا- كما في المنتهي-

______________________________

(1) التهذيب ج: 5 ص: 470.

(2) التهذيب ج: 5 ص: 116.

ص: 159

دون المندوب (1) و إن وجب بالنذر (2)، نعم، يستحب له (3).

______________________________

يقتضي وجوب الطواف الذي هو جزء منهما بالشروع فيهما.

لكن مقتضاه شمول الفرض للوجوب العرضي- و هو في المقام الناشئ من الشروع- و لازمه شموله للمنذور، و لا يظن منهم البناء عليه، بل هو خلاف صريح بعضهم.

و من هنا لم يبعد أن يكون إطلاق الفرض بلحاظ فرضه بعنوان الخاص و لو من جهة جزئيته في الحج و العمرة، لا التكليف به، فلا يشمل المنذور و المستأجر عليه و نحوهما، لعدم كونه مفروضا بعنوانه، بل بعنوان آخر يتحقق به، كالوفاء بالعقد و النذر.

و بعبارة أخري: المستفاد من النصوص و كلمات الأصحاب في الموارد المتفرقة أن الفرض و النقل عنوانان منوعان لا متوردان علي شي ء واحد.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب (رضي اللّه عنهم)، للنصوص الكثيرة المتقدم بعضها.

خلافا لما عن أبي الصلاح الحلبي و العلامة في النهاية من اشتراطه فيه أيضا، لإطلاق بعض النصوص المتقدمة و عموم تنزيله منزلة الصلاة المستفاد من النبوي: «الطواف بالبيت صلاة» «1».

و يتعين رفع اليد عنهما بما تقدم، و لا سيما مع عدم العثور علي رواية النبوي من طرقنا.

بل ربما يدعي كون التنزيل بلحاظ الثواب، لا الاحكام، فتأمل.

(2) كما في الجواهر، و يظهر وجهه مما تقدم.

(3) كما ذكره غير واحد، بل يظهر من بعضهم المفروغية عنه، و نفي الريب

______________________________

(1) عن سنن البيهقي ج: 5 ص: 87 و كنز العمال: ج 3 ص: 10 رقم 206. و ذكره مرسلا في الخلاف و المسالك.

ص: 160

______________________________

فيه في الجواهر، و في مفتاح الكرامة أنه اتفاقي.

و قد استدل عليه في كلام غير واحد بإطلاق بعض النصوص المتقدمة، و بعموم التنزيل الذي تضمنه النبوي المتقدم.

لكن النصوص ظاهرة في الشرطية و بعد حملها علي طواف الفريضة لا مجال لاستفادة الاستحباب منها في غيره.

بل صحيح معاوية و نحوه مما ورد في المناسك يقصر عن الطواف المندوب تخصصا، لعدم كونه منها، فالاستدلال به في الجواهر غريب.

و منه يظهر الحال في عموم التنزيل- لو تمَّ في نفسه- لوضوح أن الوضوء شرط في صحة الصلاة المندوبة لا في كمالها، فلا ينهض العموم بإثبات شرطيته في كمال الطواف المندوب دون صحته.

و كأن منشأ استدلالهم به اختلاط الاستحباب الشرطي بالاستحباب الكمالي، لاهتمامهم بتمييز موارد وجوب الوضوء من موارد استحبابه، من دون نظر لسنخ الاستحباب، فيتوجه حينئذ تخيل أن مقتضي عموم التنزيل استحباب الوضوء للطواف المندوب، كما يستحب للصلاة المندوبة.

علي أن عموم التنزيل بين شيئين إنما يقتضي الاشتراك بينهما في الأحكام العامة، لا الاشتراك بين أنواعهما المتشابهة في الأحكام الخاصة بكل منها، فعموم تنزيل الطواف منزلة الصلاة إنما يقتضي ثبوت أحكام ماهية الصلاة له بعمومه، لا مشاركة الواجب منه للواجب منها و المندوب منه للمندوب منها في أحكامهما المختصة بكل منهما.

نعم، لو كان كل من الصلاة و الطواف ماهية واحدة و الوجوب و الاستحباب حالتين لهما، تمَّ ذلك.

لكنه خلاف الظاهر، بل الفرض و النفل ماهيتان من كل منهما.

هذا، و قد يستدل بموثق ابن فضال أو صحيحه: «قال أبو الحسن عليه السّلام: لا

ص: 161

مسألة 96 لا يجوز للمحدث مس كتابة القرآن

مسألة 96: لا يجوز للمحدث مس كتابة القرآن (1)،

______________________________

تطوف و لا تسعي إلا بوضوء» «1».

و حمله علي النهي عن مجموع الأمرين ليبقي علي ظهوره في الإلزام و يختص بطواف الفريضة- كما في التهذيب و احتمله في الاستبصار- لا يناسب تكرار: «لا» جدا، بل يتعين حمله علي الاستحباب- كما احتمله في الاستبصار- فيشمل بإطلاقه الطواف المندوب.

لكن حمله علي الاستحباب بالإضافة للسعي لا يقتضي الخروج عن ظاهره بالإضافة للطواف، الملزم بحمله علي طواف الفريضة الذي هو المنصرف منه في نفسه بمقتضي جمعه مع السعي، لأنه مثله من المناسك. فلاحظ.

و من هنا كانت إقامة الدليل علي استحباب الوضوء للطواف بخصوصيته في غاية الإشكال.

نعم، المناسبات الارتكازية المتشرعية تقضي بأولوية إيقاع الطواف المندوب عن طهارة، بما أنه عبادة، لأن الطهارة دخيلة في أهلية العبد للاتصال به تعالي، و لو بلحاظ ما تضمن أن الوضوء مخفف للذنوب و سبب لغفرانها، حيث يكون أقرب لقبول العمل، و أولي بالعبادية. فتأمل جيدا.

(1) كما في الفقيه و التهذيب و الخلاف و الشرائع و المعتبر و النافع و القواعد و المنتهي و مجمع البيان و جامع المقاصد و الروض و ظاهر التبيان و عن الحلبي و ابن سعيد و الراوندي و الدروس و الذكري و غيرها، بل هو المعروف من مذهب الأصحاب، و في المعتبر و المدارك و المفاتيح و عن المقتصر و الذخيرة و الكفاية و غيرها أنه المشهور، و عن كشف الرموز أنه الظاهر بين الطائفة، و ادعي في الخلاف الإجماع عليه، و هو ظاهر مجمع البيان، بل التبيان.

خلافا لما في المبسوط و عن ابني البراج و إدريس من الحكم بالكراهة، بل

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب السعي حديث: 7.

ص: 162

______________________________

هو مقتضي ما عن ابن الجنيد من الحكم بها للجنب، و تبعهم بعض متأخري المتأخرين، و إن لم يبعد كون مراد القدماء من الكراهة الحرمة، و لا سيما الشيخ في المبسوط، لظهور اهتمامه بالحكم، حيث فرع عليه أنه ينبغي منع الصبيان من المس، و أطال في ذلك.

و كيف كان، فعمدة الدليل علي الحرمة موثق أبي بصير أو صحيحه [1]:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمن قرأ في المصحف و هو علي غير وضوء. قال: لا بأس و لا يمس الكتاب» «2»، إذ ليس المراد بالكتاب إلا القرآن الكريم المحكي بالخط، كما هو المتبادر منه في عرف المسلمين و به استعمل في الكتاب و السنة، لا المصحف، كي يتعين حمله علي الكراهة، كيف و إلا كان المناسب أن يقول: «و لا يمسّه». بل فرض القراءة في المصحف من دون مس له بعيد جدا. و لا سيما و قد روي في الاستبصار هكذا: «و لا يمس الكتابة»، حيث قد يكون الاختلاف بينهما ناشئا من النقل بالمعني. فتأمل.

هذا، و يعضد الصحيح خبر إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السّلام:

«قال: المصحف لا تمسه علي غير طهر و لا جنبا، و لا تمس خطه و لا تعلقه، إن اللّه تعالي يقول لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «3».

و صحيح حريز عمن أخبره: «قال: كان إسماعيل بن أبي عبد اللّه عليه السّلام عنده.

______________________________

[1] إذ ليس في طريقه من وقع الكلام فيه إلا الحسين بن المختار الذي رماه الشيخ في موضع من كتابه بالوقف.

لكنه من رجال كامل الزيارة، و قد حكي عن ابن عقدة عن علي بن الحسن أنه ثقة، و عده الشيخ المفيد قدّس سرّه في الإرشاد ممن روي النص علي الرضا عليه السّلام من خاصة أبيه عليه السّلام و ثقاته و أهل الورع و العلم و الفقه من شيعته، و قد روي عنه جماعة من الأعيان. و كفي بذلك في إثبات وثاقته، بل ما فوقها. بل كلام المفيد موجب للتشكيك فيما صدر من الشيخ من نسبة الوقف له، و لا سيما مع عدم تعرضه له في موضع آخر من كتابه و لا في الفهرست عند ذكره له.

______________________________

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 163

______________________________

فقال: يا بني اقرأ في المصحف، فقال: إني لست علي وضوء. فقال: لا تمس الكتاب و مس الورق و اقرأه» «1».

و إن أشكل استقلالهما بالحجية علي ذلك، لضعف سندهما في الجملة و عدم وضوح انجبارهما بعمل الأصحاب مع إمكان اعتمادهم علي غيرهما و سوقهم لهما مؤيدا لا دليلا.

مضافا إلي أن السياق في الأول قد يمنع من حمله علي التحريم، لعدم الحرمة فيما قبله و ما بعده، و لا سيما مع روايته في الاستبصار هكذا: «و لا تمس خيطه»، و أن النهي في الثاني مسوق للإرشاد، لتجنب المرجوحية المتوهم منعها من القراءة، و لا قرينة علي كون منشئها الحرمة، و ليس ابتدائيا مولويا ليكون ظاهرا في الحرمة، كما نبه له الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

هذا، و قد اشتهر بين الأصحاب الاستدلال بقوله تعالي إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ.

فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ. لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ «2» بحمل المس فيه علي المس بالبدن، لأنه المعني الحقيقي له أو الظاهر منه، و إرجاع الضمير للقرآن المذكور بالأصل، لا للكتاب المذكور تبعا، و حمل «لا» علي النهي أو النفي المساوق له [3]، و «المطهرون» علي من يكون طاهرا و لو بأن يتطهر.

لكنه مخالف للظاهر جدا، لإباء سياق الكلام عن الحمل علي بيان أمر جعلي تشريعي، بل هو ظاهر في وصف القرآن الكريم بذلك، كوصفه بأنه فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ، و أنه تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ.

كما أن الظاهر من «المطهرين» ليس هم المتطهرين من الحدث، و لا كل طاهر، بل خصوص من طهرهم اللّه تعالي، الملزم بحمله علي من طهرهم بعصمته

______________________________

[3] لأن ضم الفعل كما يجتمع مع رفعه لكون «لا» نافية يجتمع مع جزمه لكونها ناهية، لما في التصريح علي التوضيح من أن الفعل المضاعف المجزوم إذا اتصل به ضمير الغائب وجب ضمه، و أجاز الكوفيون فيه الفتح و الكسر. و بالوجهين صرح بعض من تعرض لإعراب الآية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) سورة الواقعة: 77- 80.

ص: 164

حتي المد و التشديد و نحوهما (1)،

______________________________

لهم عن الذنوب، فيحمل المس علي مس الملائكة له و هو في اللوح المحفوظ، أو علي الكناية عن إحاطة المعصومين عليهم السّلام بعلمه و غوصهم في معانيه و استجلائهم لغامضه.

و أما خبر إبراهيم المتقدم، فربما لا يكون الاستشهاد فيه بالآية للاستدلال علي ما تضمنه من النهي عن المس، بل للتنبيه علي أن تعظيمه تعالي للقرآن بذلك مناسب للأحكام المذكورة فيه، بل لعل هذا هو الأظهر بلحاظ اشتماله علي غير المس، كما نبه له غير واحد. و كذا ما في مجمع البيان من قوله في تفسير الآية:

«و قيل: المطهرون من الأحداث و الجنابات. و قالوا [و قيل. خ ل]: لا يجوز للجنب و الحائض و المحدث مس المصحف عن محمد بن علي الباقر عليهما السّلام»، لعدم ظهوره في نسبة التفسير المذكور له عليه السّلام، بل نسبة الحكم- المناسب للتفسير المذكور- له عليه السّلام.

هذا، و قد يستدل للجواز بما تضمن جواز مس الجنب الدراهم البيض، و التي عليها اسم اللّه تعالي و اسم رسوله صلّي اللّه عليه و آله «1».

لكن لا مجال للخروج به عما تقدم، فلو أمكن العمل به لزم الاقتصار علي مورده و نحوه مما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي، لاحتمال خصوصيته و لو من جهة الحرج.

(1) قال في جامع المقاصد: «و يراد بالكتابة الرقوم الدالة علي مواد الكلمات، كما يسبق إلي الأفهام، فالإعراب لا يعدّ منها، بخلاف نحو الهمزة و التشديد. مع احتمال عدّ الجميع. و العدم، لخلوّ الكتابة السابقة عن الجميع».

و قال في الروضة في مبحث الجنابة: «و هو كلماته و حروفه المفردة و ما قام مقامها، كالتشديد و الهمزة».

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 18 من أبواب الجنابة.

ص: 165

______________________________

و عن اللوامع نسبة تحريم مس المد و التشديد للأكثر و اختاره في المستند، و زاد عليه الفقيه الهمداني الإعراب، و قوّي ذلك صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم قدّس سرّهما.

خلافا للحدائق، فاختار الجواز في الجميع، تبعا لما حكاه عن بعض مشايخه المحققين.

هذا، و لما كان موضوع حديث أبي بصير الكتاب- و هو القرآن المجيد- فالظاهر منه رسمه برسم مواد كلماته، و هي حروفه، كما ذكره في جامع المقاصد، لتقوّمه بها، أما الهيآت الإعرابية فلما لم تكن جزءا منه، فلا يكون رسمها رسما له، بل لكيفية النطق به، و هي مباينة للقرآن، فإن القرآن هو المنطوق لا هيئة النطق، و لذا لا يعد الرسم الخالي عنها نقصا في رسم القرآن.

و أما ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أنها حين وجودها تكون جزءا من القرآن و إن لم تكن حين عدمه نقصا فيه، نظير كثير من المركبات الصادقة علي بعض أجزائها ما دامت متصلة بها مع عدم نقصها لو لم تتصل بها أو انفصلت عنها، كزيد بالإضافة لمثل الشعر و الظفر و السن.

ففيه- مع أن المسمي في الإنسان ليس هو الجسم القابل للزيادة و النقص، بل الذات غير القابلة لهما و إن كانت متحدة معه نحو اتحاد-: أن ذلك قد يتم في بعض الماهيات الاعتبارية، حيث قد تتقوم بنحو من الاتصال بين الأجزاء من دون أن يؤخذ فيها كم خاص، كالدار الصادقة علي الواجدة للحمام و الفاقدة له، و علي ذات الغرف الكثيرة و القليلة، و لا مجال لذلك في مثل القرآن الشريف من الماهيات الحقيقية، فإنه مشتمل علي مادة و هيئة، فإن أريد بخطه رسمهما معا كان الفاقد لرسم الهيئة ناقصا، و إن أريد به رسم المادة وحدها خرج عنه رسم الهيئة، و لم تلحقه أحكامه، و هو الظاهر، كما عرفت.

و لا بد أن يبتني صدق رسم القرآن علي المجموع حين وجوده علي التغليب لتبعيته له، أو علي إرادة الكتابة المعهودة المعروفة في العصور المتأخرة،

ص: 166

______________________________

حيث قد يصدق بلحاظها علي بعض النقوش الخارجة عن المادة و الهيئة، كعلامات الوقف و نحوها، و مثل ذلك لا يكفي في ترتب الحكم.

نعم، لو كانت هذه الأمور موجودة معروفة في مورد النص، لم يبعد دلالته علي حرمة مسّها تبعا، لغفلة العرف عن استثنائها مع ذلك، و لا يكفي في ذلك وجودها في العصور المتأخرة.

و من ذلك يظهر الإشكال في المدّ و التشديد، لأنهما ليسا رسما لحرف منطوق، بل إشارة لكيفية النطق بالحرف المرسوم.

و كذا مثل ألف واو الجماعة، فإنها بيان حقيقة المنطوق، فضلا عما يتمحض في الزيادة، كألف يَتَفَيَّؤُا ظِلٰالُهُ «1».

اللهم إلا أن يستفاد حرمة مسها تبعا، لوجودها في المصاحف القديمة مع غفلة العرف عن استثنائها. فتأمل.

هذا، و الظاهر حرمة مس الهمزة المكتوبة علي الألف، فضلا عن غيرها، خلافا لما تقدم من الحدائق، لأنها رسم للحرف المنطوق، و إن أمكن الاستغناء عنها برسم الألف.

و كذا ألف الوصل و الحروف، لأنها رسم لجزء من القرآن و إن لم ينطق به في بعض الحالات أو دائما.

نعم، لا مجال لذلك في علامة التنوين، لعدم كونه جزءا قرآنيا، بل هو من لوازم النطق به.

بقي في المقام شي ء، و هو أن مقتضي إطلاق النص حرمة مس الكتابة مع الخطأ الإملائي، لصدق القرآن عليها. و لا سيما مع استحداث القواعد الإملائية في العصر المتأخر، و قد رسم الكتاب الشريف مخالفا لها في الصدر الأول و بقي علي ذلك.

و أما الخطأ في الكتابة بزيادة حرف أو نقصه أو تبديله، فإن قصد رسم كلمة

______________________________

(1) سورة النحل: 48.

ص: 167

و لا مس اسم الجلالة و سائر (1)

______________________________

غير قرآنية لتخيل قرآنيتها، كما لو كتب «إذا» بدل «إذ» للخطإ في تشخيص ما تضمنه القرآن، فلا إشكال في عدم جريان حكم القرآن، لمباينة المكتوب له، و إن قصد رسم كلمة قرآنية و أخطأ في رسمها، فالظاهر حرمة مس ما يتم به رسم الكلمة القرآنية من الحروف دون الزائد، إذا لم تختل هيئة رسم الكلمة، كالألف و الذال من:

«إذا» إذا قصد بها كتابة «إذ» القرآنية.

بل لا يبعد ذلك في النقيصة إذا رجع إلي الاجتهاد في وجه النقص الراجع للخطإ في الإملاء، نظير حذف همزة الوصل لعدم النطق بها، أو ألف عمران قياسا علي ألف رحمن.

و أما في النقيصة غير الراجعة لذلك، أو الزيادة المخلة بالهيئة أو التبديل، فالأمر لا يخلو عن إشكال، بل لا يبعد جواز المس، لعدم صدق رسم القرآن علي ذلك، و إن قصد به. فلاحظ.

(1) كما قواه في الجواهر و يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه و هو المحكي عن الموجز الحاوي و كشف الالتباس، و عن الذكري حكايته عن أبي الصلاح.

و كأنه لاستفادته مما تضمن حرمة مس الكتاب بالأولوية، لأنه أحق بالتعظيم من سائر ألفاظ القرآن، لأنه خير الأسماء، و لذا اختص به تعالي، كذا في الجواهر.

لكنه غير ظاهر، لاحتمال خصوصية القرآن في التعظيم الخاص، كما اختص بكراهة قراءة الجنب و الحائض له في الجملة، بل حرمة قراءتهما للعزائم منه، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و مثله الاستدلال بعموم التعليل في الآية الكريمة، بناء علي تمامية الاستدلال بها علي حرمة المس، بدعوي: ظهور قوله تعالي إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ في تعليل حرمة مسه بكرامته.

لاندفاعه: بعدم سوق ذلك لتعليل الحكم المذكور، بل هو أمر آخر في قباله.

ص: 168

أسمائه (1) و صفاته (2)، علي الأحوط وجوبا. و الأقوي عدم إلحاق أسماء الأنبياء و الأوصياء و سيدة النساء- صلوات اللّه عليهم أجمعين- به (3)، و إن كان أحوط استحبابا (4).

______________________________

علي أنه لو تمَّ فلا مجال للاستدلال بعمومه، لاستلزامه كثرة التخصيص المستهجن الموجب لإجماله و الاقتصار فيه علي المتيقن.

و لعله لهذا و نحوه لم يتعرض له كثير من الأصحاب أو أكثرهم، بل عن بعض المتأخرين- كالمحقق الخوانساري- إنكاره.

نعم، لا مجال للاستدلال علي جواز مسه بما دل علي جواز مس الدراهم للجنب، لما تقدم في مس الكتاب.

هذا، و قد يستدل للحرمة بصحيح داود بن فرقد الآتي في الفرع التاسع من الفروع الملحقة منا بهذه المسألة، المتضمن النهي عن مس الحائض للتعويذ. و هو لا يخلو عن إشكال.

(1) إما خصوص المختصة به تعالي- كما قيدها بذلك صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم- أو مطلقا- كما هو مقتضي إطلاق غيرهما- مع كون المدار في النسبة له تعالي علي قصد الكاتب، كما يأتي في المسألة التاسعة و التسعين.

(2) الظاهر أن غير لفظ الجلالة من أسمائه تعالي منتزع من صفاته فيكون العطف تفسيريا، و إن كان هو خلاف ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

(3) إذ لا دليل علي ذلك إلا توهم عموم التعليل في الآية الشريفة، و قد سبق ضعفه.

(4) خروجا عن الاحتمال الذي يظهر من الجواهر و شيخنا الأعظم التوقف لأجله، و عن كشف الالتباس و الموجز و شرحه البناء علي مقتضاه، و إن لم يتعرض فيها لسيدة النساء عليها السّلام، و لا لمن عدا الأئمة عليهم السّلام من الأوصياء، بل لم يتعرض في محكي كشف الالتباس لمن عدا النبي صلّي اللّه عليه و آله من الأنبياء عليهم السّلام.

ص: 169

مسألة 97 لا يجوز جعل المس غاية للوضوء

مسألة 97: لا يجوز جعل المس غاية للوضوء (1)،

______________________________

(1) أما مع عدم الأمر به لا وجوبا و لا استحبابا، فلعدم رجوع قصده حين الوضوء إلي امتثال أمر بالوضوء ليقع عبادة، و أما مع الأمر به وجوبا- كما لو توقف تخليصه من الهتك عليه- أو استحبابا- لتوقف تعظيمه بمثل التقبيل عليه- فلما ذكره قدّس سرّه من أن المتوقف علي الوضوء جواز المس، لا نفس المس الواجب، فلا يكون الأمر بالوضوء غيريا مولويا، بل عقليا من باب لزوم الجمع بين غرضي الشارع، و هو لا يكفي في تشريع الوضوء المصحح لعباديته.

و بعبارة أخري: كل من التكليفين لا يدعو للوضوء لتحقق الغرض من المس الواجب- كمنع هتك القرآن- بالمس مع الحدث، و تحقق غرض تحريم المس علي المحدث بترك المس رأسا، و إنما يلزم الوضوء للجمع بين التكليفين في الامتثال الذي هو واجب عقلا، لا شرعا.

و قد يستشكل في ذلك بوجهين.

الأول: ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن مقدمة الواجب التي تجب غيريا تبعا لوجوبه النفسي كما تكون أمرا يتوقف عليه الواجب تكون أمرا يرتفع به المانع عنه، من دون فرق بين المانع الشرعي و العقلي، و حيث كانت الحرمة في المقام مانعا شرعيا من المس الواجب، فيجب الوضوء الرافع لها مقدمة له.

و يندفع: بأن المانع الشرعي الذي هو كالمانع العقلي هو الذي تنتزع مانعيته من شرطية عدمه شرعا للواجب، كالحدث بالإضافة للصلاة، حيث يتعذر الواجب واقعا بدونه بسبب الجعل الشرعي، لا التكليف التحريمي في مثل المقام، فإن مرجع مانعيته إلي قبح معصيته مع القدرة علي الواجب معه من دون أن يكون دخيلا في القدرة علي الواجب، ليجب رفعه غيريا و يكون الإتيان به شروعا في امتثاله.

و إن شئت قلت: الواجب الغيري هو الذي يجب بملاك الواجب النفسي

ص: 170

______________________________

و في طوله لعدم القدرة عليه بدونه، و هو إنما يتم فيما يتوقف عليه ذات الواجب أو قيده الشرعي، دون مثل رفع الحرمة في المقام مما لا دخل له في القدرة علي الواجب، فإنه إنما يجب لأجل وجوب امتثاله عقلا بعد فرض جعله بملاك مستقل.

الثاني: أن الجمع بين غرضي الشارع لما كان مرغوبا له أيضا لزم رجوع الغرضين إلي غرض واحد مركب منهما، فيلزمه تقييد متعلق كل منهما بما يلائم الآخر، و يمتنع إطلاق متعلق كل منهما و إن كان وافيا بغرضه، لاستلزامه تفويت الغرض الآخر.

فإذا تعلق الغرض بتكريم زيد الحاصل بزيارته و بالسلام عليه و بالتنويه باسمه، و تعلق الغرض أيضا بعدم إيذائه، و استلزمت زيارته إيذاءه، رجع ذلك إلي غرض واحد مركب من الغرضين متعلق بالتكريم بغير الزيارة، و لم يبق التكريم المطلوب علي إطلاقه، لئلا يلزم الإخلال بالغرض الثاني، فإذا وجب مس الكتاب تخليصا له من الهتك مثلا و كان المس مع الحدث محرما لزم تقييد المس الواجب بما يكون عن طهارة، فيكون الوضوء مقدمة للمس الواجب، فيجب غيريا و إن لم يكن مقدمة لذات المس الذي هو ليس واجبا علي إطلاقه، نظير مقدميته للصلاة الواجبة مع عدم مقدميته لذات الصلاة.

و كأنه إلي هذا يرجع ما ذكره بعض مشايخنا من أن الوضوء و إن لم يكن مقدمة لذات المس، إلا أنه مقدمة للحصة الواجبة منه.

و إلا فهو مدفوع: بأن المفروض أن الواجب مطلق المس، لا المقيد بالطهارة منه، لعدم دخلها في ملاكه. غاية ما في الأمر دخلها في جواز المس، كما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و كيف كان، فيندفع الوجه المذكور بأن الجمع بين الغرضين و إن كان مرغوبا للآمر إلا أنه لا يرجع إلي وحدة الغرض، و لا إلي تقييد متعلقه، بل إلي تزاحم الغرضين من دون تقييد لمتعلق كل منهما، كما هو الحال في سائر موارد التزاحم،

ص: 171

______________________________

و لا يلزم من ذلك تفويت أحد الغرضين بعد صلوح التكليف الآخر- كتحريم مس المحدث- لحفظه.

بل التقييد المذكور لا يطابق الغرض، لاستلزامه عدم إجزاء الفاقد للقيد مع اقتضاء الغرض إجزاءه.

و دعوي: أن المقام من صغريات مسألة اجتماع الأمر و النهي، فبناء علي الامتناع و تقديم النهي يتعين خروج المس حال الحدث عن حيز الأمر و اختصاص المأمور به بالمس عن طهارة، فيجب الوضوء، لأنه مقدمة له.

مدفوعة. أولا: بأن المس في كثير من صغريات المقام لا يكون مأمورا به نفسيا لا بعنوانه الأولي، و لا بعنوان ثانوي، بل يكون مقدمة لأمر لازم كإنقاذ الكتاب عن الهتك، أو راجح، كالتقبيل و نحوه مما يكون مباينا للمس حال الحدث وجودا، و لا يتحد معه ليكون من صغريات مسألة الاجتماع، نظير ما لو كان للوصول لإنقاذ الغريق طريقان أحدهما مغصوب.

و ثانيا: بأن قصور متعلق الأمر في مسألة الاجتماع لا يقتضي تقييده بنحو يدعو للقيد و يجب تحصيل القيد مقدمة، لتبعية التقييد للغرض، و المفروض عدم تعلقه بالقيد، و ليس قصور الأمر عن مورد الاجتماع إلا لوجود المانع منه نظير قصوره عن مورد العجز. فلاحظ.

نعم، ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه مبني علي ثبوت الأمر الغيري، و أن عبادية الوضوء عند قصد غاياته تابعة لقصده.

أما بناء علي التحقيق من عدم ثبوته، بل ليس هناك إلا الأمر النفسي بذي المقدمة، و وجوب المقدمة عقلي لتوقف الامتثال عليها، فلا بد من البناء علي كون قصد الغاية في الوضوء راجعا إلي التقرب بأمرها النفسي، لكون الإتيان به شروعا في امتثالها، و حينئذ كما يتجه ذلك في قصد الغاية المأمور بها مقيدة بالطهارة، لكونه شروعا في امتثال أمرها، كذلك يتجه في المقام، فإن الوضوء يكون شروعا في امتثال كلا التكليفين- و هما الأمر بالمس، و النهي عن المس حال الحدث-

ص: 172

______________________________

لتوقف امتثالهما معا عليه، و إن لم يتوقف عليه امتثال كل واحد منهما وحده، فهو و إن لم يدع إليه كل من التكليفين وحده، إلا أنهما معا يدعوان إليه.

و الفرق في العبادية بين انفراد التكليف في الداعوية و اجتماع تكليفين أو أكثر عليها لا تساعد عليه المرتكزات جدا.

هذا كله، بناء علي أن عبادية الطهارات علي حدّ عبادية سائر العبادات راجعة إلي لزوم التقرب بالأمر أو بما يلازمه من الملاك، و قد سبق في المسألة الواحدة و السبعين في فصل شرائط الوضوء إنكار ذلك، و أن مرجع عباديته إلي لزوم إيقاعه بوجه قربي و لو لا بقصد أمر أصلا لا نفسي و لا غيري.

و من الظاهر أن قصد تجنب حرمة المس علي المحدث في ظرف الإتيان به كاف في التقرب و إن لم يكن المس مأمورا به، فضلا عما إذا كان مأمورا به. فالبناء علي صحة الوضوء بقصده متعين، و لا سيما مع ما يأتي من أن الوضوء بقصد غاية أخري مخالف للإطلاقات المقامية لبعض النصوص الواردة فيما يشبه المقام.

بقي شي ء، و هو أنه لا إشكال في عدم وجوب المس لنفسه بعنوانه الأولي.

و أما وجوبه بالنذر، فهو موقوف علي رجحانه ذاتا، و هو غير ثابت، و إن نسب لجماعة.

نعم، قد يجب باليمين بناء علي عدم اعتبار الرجحان في متعلقها. كما يستحب لانطباق عنوان راجح عليه كالتبرك. و قد يجب أو يستحب غيريا لمقدميته لأمر واجب- كإنقاذه من الهتك- أو راجح- كالتقبيل- كما أشرنا إليه، و ذكرنا عدم تقييده حينئذ بالطهارة، لعدم دخلها في ترتب غرضه.

و لو نذر في هذا الحال لم يبعد عدم انعقاد النذر، إلا أن ينصرف المنذور لخصوص ما يكون منه بطهارة، لأنه الراجح و غيره مرجوح و الجامع بينهما غير راجح، فتجب الطهارة غيريا، لتوقف المس المنذور عليها، فتأمل.

و أظهر من ذلك ما لو قيد المنذور بها صريحا، فيخرج عن محل الكلام السابق.

ص: 173

فإن أراد المس توضأ لغاية أخري (1)، و كذا غيره من الغايات التي لم يؤمر بها مقيدة (2) به، سواء لم يكن مأمورا بها أصلا (3)، أم كانت مأمورا بها لكنها غير مقيدة به (4)،

______________________________

(1) هذا موقوف علي صلوح تلك الغاية للداعوية استقلالا، لتوقف العبادية علي ذلك، و هو قد يتعذر أو يحتاج إلي مئونة شديدة.

(2) كما هو مقتضي الوجه المتقدم منه قدّس سرّه.

هذا، و نظير ذلك الوضوءات المستحبة للكون علي الطهارة في حال خاص، كالوضوء للنوم من الجنب و غيره، و للسعي في الحاجة و لجماع الحامل و معاودة الجماع و نحوها مما كان ظاهر أدلتها استحباب الطهارة حال الأمور المذكورة، لا استحباب الأمور المذكورة مقيدة بها، فإن إيقاع الوضوء قبل الانشغال بها لا يستند لأمر فعلي، لعدم فعلية الأمر به قبل الانشغال بها، فلا مجال لقصد امتثاله.

و حسن الإتيان به قبل تحقق الأمور المذكورة، لتوقف حصول الطهارة حينها علي ذلك، كسائر المقدمات المفوتة، لا يقتضي الأمر به شرعا، بل عقلا، لتوقف تحصيل الغرض عليه، نظير ما سبق.

لكن الإتيان بالوضوء للأمور المذكورة بغاية أخري لما كان محتاجا لعناية فهو لا يناسب إطلاق أدلتها المقامية جدا، حيث لم ينبه فيها إليه مع الغفلة عنه.

و هو شاهد بما سبق منا من أن عبادية الوضوء ليست علي حدّ عبادية سائر العبادات.

و يناسب ما ذكرنا ما يأتي في أحكام الجنب من وجوب التيمم للمحتلم في أحد المسجدين الشريفين للخروج منهما، كما ننبه عليه هناك إن شاء اللّه تعالي.

(3) كمس حواشي الكتاب بعنوانه الأولي، بناء علي كراهة مسها للمحدث.

(4) كمس حواشي الكتاب لو توقف عليه إنقاذه من الهتك.

ص: 174

أما الغايات المأمور بها مقيدة به فيجوز الإتيان به لأجلها، و يجب (1) إن وجبت و يستحب إن استحبت، سواء أتوقف عليه صحتها (2) أم كمالها (3).

مسألة 98 لا فرق في جريان الحكم المذكور بين الكتابة بالعربية و الفارسية

مسألة 98: لا فرق في جريان الحكم المذكور بين الكتابة بالعربية و الفارسية و غيرهما (4)،

______________________________

(1) يعني: غيريا.

(2) كالصلاة المستحبة.

(3) كدخول المساجد.

(4) لإطلاق النص، سواء كان التعميم بلحاظ أنواع الخط العربي، كالكوفي و النسخي و الفارسي، أم بلحاظ أسناخ الخطوط، كما لو كتب المصحف بالخط الانكليزي أو الصيني، لصدق المصحف في الجميع.

و إن كان الأمر في الأول أظهر، لصعوبة التفكيك عرفا بين أفراده، و لا سيما مع تأخر تصنيف الخطوط العربية عن عصر صدور النص.

نعم، لا يبعد اعتبار تعارف الخط في الثاني، و لا تكفي الكتابة المصطلحة لشخص خاص، لعدم وضوح صدق الكتابة عليها عرفا، بل هي من سنخ الإشارة عندهم.

و لعله إليه يرجع ما في المستند من التنظر في التعدي للخطوط المجعولة، و إلا فجميع الخطوط مجعولة مصطلحة بعد العدم.

و أما تنظره في الكتابة المقطعة، فإن كان مراده بها ما يتعارف في كتابة كثير من اللغات من عدم اتصال حروف الكلمة، فهو ضعيف، لصدق المصحف مع الكتابة بها.

و إن كان مراده بها الخروج عما هو المتعارف في الكتابة العربية من اتصال حروف الكلمة غالبا، فهو لا يخلو عن وجه بلحاظ ما سبق من عدم الاعتداد بالخط الشخصي غير المتعارف، و إن كان لا يخلو عن إشكال بلحاظ صدق الكتابة هنا،

ص: 175

و لا بين الكتابة بالمداد و الحفر و التطريز و غيرها (1).

______________________________

و التقطيع أشبه بالخطإ الإملائي الذي سبق عدم قادحيته. فلاحظ.

(1) و ما في المستند من الإشكال في حرمة مس الكتابة البارزة- كالتطريز- ضعيف بعد شمول الإطلاق لها، لصدق المصحف مع الكتابة بها.

و منه يظهر أنه لا مجال للإشكال في الكتابة المجوفة، الحاصلة من إحاطة الخط الأسود بصورة الكلمة.

هذا، و قد استشكل شيخنا الأعظم قدّس سرّه في حرمة مس الكتابة المحكوكة- التي يراد بها ظاهرا الكتابة بالحفر- لعدم قابلية الكتابة للمس، بل منع منه في المستند، لخروجه عن المتعارف. لكن التعارف لا يصلح لتقييد الإطلاق.

و يتحقق مس الكتابة المذكورة بمس القعر.

نعم، لا يتحقق مع عدم الوصول للقعر، كما لا يتحقق في التخريم الذي لا قعر له، فيتوقف التعدي لهما علي فهم عدم الخصوصية من النص، بحمل المس فيه علي ما يعم وضع البدن علي موضع الكتابة، و هو لا يخلو عن إشكال.

و أشكل منه رسم الكتابة الحاصل من تخلل النور في الكتابة بالتخريم أو التجسيم، لوضوح أن المس ملازم لانعدام رسم الكتابة فيها، فلا يصدق المس لعدم الموضوع، و إن ادعي سيدنا المصنف قدّس سرّه شمول الإطلاق لها، و لا سيما مع أن مورد النص المصحف الذي لا تتحقق كتابته في مثل ذلك.

علي أن من القريب انصراف الكتابة عن مثل ذلك مما لا استقرار له في الوجود، فيجوز تنجيس الموضع و إن حرم تنجيس القرآن.

و أما الكتابة المقلوبة فقد يشكل الأمر فيها، لا لما في المستند من خروجها عن المتعارف، لما سبق من عدم الخروج عن الإطلاق بذلك، بل لعدم وضوح صدق المصحف بالكتابة بها. إلّا أن يدعي إلغاء خصوصيته عرفا، و أن المعيار علي مس كتابة القرآن الصادقة بها.

ص: 176

كما لا فرق في الماس بين ما تحله الحياة و غيره (1).

______________________________

و لا يبعد جريان ما تقدم في الكتابة المقطعة هنا.

و أما الكتابة بما لا يظهر و إن ظهر أثره بعد عمل- كالكتابة بماء البصل التي تظهر بمقابلة النار- فلا يبعد قصور النص عنها قبل الظهور، فيجوز مسها حينئذ، لا لخروجها عن المتعارف- كما في المستند- لما سبق، بل لانصراف الكتابة لما يكون له نحو من الوجود العرفي، و إلا لزم شمولها لما لا يظهر أصلا، كالكتابة بالماء بعد الجفاف و إن اشتمل علي بعض الأجزاء التي لا تتبخر و لا تظهر.

(1) كما صرح به غير واحد من المتأخرين، و هو مقتضي إطلاق المشهور.

و يقتضيه إطلاق النص، لصدق المس بالأمرين عرفا.

خلافا لما عن بعضهم- بل ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه المحكي عن جماعة- من الاختصاص بما تحله الحياة. إما لعدم شمول أحكام البدن له، حيث لا يتنجس بالموت- كما أشار إليه في الحدائق- أو لاختصاص المس بما تحله الحياة انصرافا أو وضعا. و لعله لذا تردد شيخنا الأعظم قدّس سرّه في السن و الظفر.

لكن الأول قياس. و الثاني ممنوع، بل لم يظهر دعواه من أحد.

نعم، عن التذكرة و المهذب البارع التردد في اختصاص المس بباطن الكف أو عمومه لأجزاء البدن.

و كأن منشأه ما في بعض كلمات اللغويين، ففي النهاية: «و يقال: مسست الشي ء أمسه مسا إذا لمسته بيدك، ثمَّ أستعير للأخذ و الضرب لأنهما باليد، و أستعير للجماع لأنه لمس.»، و في لسان العرب: «و المس مسك الشي ء بيدك.

و يقال: مسست الشي ء.» إلي آخر ما تقدم من النهاية، و في القاموس فسر المس باللمس و فسر اللمس بالمس باليد، و في مجمع البحرين و الدر النثير للسيوطي:

«المس اللمس باليد».

لكنه- مع عدم اختصاصه بباطن الكف- يشكل الخروج به عن ظهور المس

ص: 177

نعم، لا يجري الحكم في المس بالشعر (1).

______________________________

عرفا في العموم، المؤيد بإطلاقه و لو مجازا علي غير المس باليد، كالجماع، و المس بالعذاب و الطيب و الماء، و مس الشيطان أو الجنون، و الرحم الماسة، و نحو ذلك مما يناسب عمومه لمطلق الملاقاة للشي ء، بل في مجمع البحرين أيضا:

«و يقال: مسسته إذا لاقيته بأحد جوارحك»، و في المنتهي أن العموم أقرب من حيث اللغة و ظاهر المعتبر و الروض أنه المتعين لغة.

علي أن التعدي لغير اليد بفهم عدم الخصوصية قريب جدا، و لذا لا يظن منهم الاقتصار عليه في مس الميت.

نعم، لو فرض الشك في ذلك جاز المس، للشك في أصل التكليف الذي هو مورد البراءة.

و ما في الجواهر من وجوب الاجتناب عما يشك في صدق المس عليه، للمقدمة، ضعيف جدا.

(1) كما في مفتاح الكرامة و المستند و الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم و غيرها، كما ذكروا ذلك أيضا في مس الميت.

و العمدة فيه عدم وضوح شمول المس له، بل الظاهر عدمه، لخروجه عن البدن عرفا، بل هو نظير الحاجب و إن كان نابتا فيه.

من دون فرق بين الشعر الكثيف و الخفيف، خلافا لبعض مشايخنا في الثاني، لدعوي صدق المس بالعضو المشتمل عليه، كاليد و الوجه.

و هي ممنوعة، إلا أن يكون المراد به ما يعم المس به مع الحاجب، في قبال الشعر الكثيف، حيث قد لا يصدق معه المس بالعضو و لو مع الحاجب، بل مس الشعر لا غير، كما لو أخذ بنفسه و جعل علي الممسوس.

لكن صدق المس مع الحاجب لا يكفي في التحريم، لظهور دليله في المس بدونه.

ص: 178

مسألة 99 الألفاظ المشتركة يعتبر فيها قصد الكاتب

مسألة 99: الألفاظ المشتركة يعتبر فيها قصد الكاتب (1)،

______________________________

مع أنه لا يقتضي التفصيل بين الكثيف و الخفيف، بل بين نحوي المس للشعر، لتوقف صدق مس العضو و لو مع الحاجب علي نحو من التضام بينه و بين الممسوس، و هو غير لازم في المس بالشعر الخفيف و الكثيف معا.

(1) كما في الجواهر و مصباح الفقيه و غيرهما، لعدم صدق كتابة القرآن بغير ذلك، لأن إضافتها للقرآن ليست بأولي من إضافتها لغيره بعد فرض الاشتراك، كما هو الحال في القراءة و التصور في الذهن.

هذا، و في الجواهر: «و هل يجري نحو ذلك منه في الكلمات و الحروف و أبعاضها؟ إشكال، سيما في الأخيرين، و سيما مع العدول عنه و جعله جزء كلمة أخري أو كلام آخر».

و كأن مراده ما أشار إليه الفقيه الهمداني من الإشكال في صدق القرآن علي الكلمة التي وجدت من كاتبها بقصد كتابة القرآن من دون أن ينضم إليها ما يمحّضها للقرآنية.

و الظاهر تمامية ما ذكره بالإضافة لجزء الحرف لعدم حكايته عن شي ء، بل و كذا بالإضافة لجزء الكلمة من حروف المباني، لعدم استقلال المحكي به، بحيث يصدق عليه أنه جزء من القرآن عرفا.

نعم، لا مجال لذلك في الكلمة التامة لاستقلالها و قيامها بنفسها، فلا وجه لعدم صدق القرآن عليها، سواء رجع إلي دعوي توقف صدق القرآن علي الانضمام أم إلي دعوي انسلاخه عنه بعد صدقه عليه بمجرد الإعراض عن الانضمام.

إلا أنه قد يستشكل في عموم النص له، لاختصاص مورده بالمصحف.

و التعدي عنه لأبعاض القرآن بفهم عدم الخصوصية بقرينة وروده مورد التعظيم لو تمَّ- كما سيأتي- مختص بما إذا كان البعض جملة قرآنية ذات معني

ص: 179

بل كذا المختصة علي إشكال ضعيف (1)

______________________________

مستقل، لأنه المتيقن من القرينة المذكورة، دون الكلمات المتفرقة.

و أما ما أشير إليه في ذيل كلامه من العدول بالمكتوب عن القرآنية و جعله جزء كلام آخر، فليس المعيار فيه علي قلة المكتوب و كثرته، بل علي أن المدار في إضافة الكتابة لما تحكي عنه علي قصده منها حين حدوثه، كما في القراءة، أو يكفي قصده منها بعد ذلك إذا ضم إليه التغيير فيها بما يناسبه من إضافة أو حذف.

و لا يبعد الثاني، لأن حكاية الكتابة عما تضاف إليه استمرارية، تبعا لاستمرار وجودها، فمع التغيير فيها تتبدل إضافتها تبعا لتبدل حكايتها، بخلاف القراءة، فإنها حيث لا يكون لها استمرار تكون إضافتها تابعة لحال حدوثها، و لا تنقلب عما وقعت عليه.

و عليه، فكما يجوز مس ما عدل به عن القرآن لغيره لا يجوز مس ما عدل به إلي القرآن عن غيره، و إن لم يخل عن الإشكال مع كثرته، فلاحظ.

(1) لعله يرجع إلي أنه مع فرض الاختصاص بالقرآن تتعين الكتابة له، من دون تعيين.

و لعله لذا خص اعتبار القصد بالمشترك في الجواهر و العروة الوثقي، بل صرح بعض مشايخنا بعدم اعتباره في المختص.

لكنه إنما يتم لو قصد بالكتابة الحكاية عن كلام متقرر، لفرض عدم التقرر لغير القرآن بمقتضي فرض الاختصاص، و هو راجع لقصد القرآن إجمالا، فيخرج عن محل الكلام، أما لو لم يقصد ذلك، بل قصد محض كتابة الكلام، فلا وجه لتعينه للقرآن، بل يكون كتابة للمماثل، كما هو الحال في القراءة أيضا.

و بعبارة أخري: لا يكفي في صدق القراءة للكلام المتقرر في نفسه محض التماثل بين الألفاظ، كما لا يكفي في صدق الكتابة له محض رسم الحروف المطابقة له، بل لا بد مع ذلك من قصد الحكاية عنه به بحيث تجعل الألفاظ

ص: 180

و إن شك في قصد الكاتب جاز المس (1).

______________________________

و النقوش أداء له، فإن هذا هو المعيار في صحة إضافة القراءة و الكتابة له عرفا، بحيث تكون من أنحاء وجوده، و إن كانت مباينة له حقيقة، و بدونه يكون المقروء و المكتوب مباينا له و إن كان مماثلا، كما يظهر بملاحظة الفرق بين إنشاد شعر الغير و إنشاء مثله لتوارد الخاطر.

و لا خصوصية للاشتراك في ذلك، بل يجري مع الاختصاص أيضا.

و قد تعرض لذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه في مسائل القراءة في الصلاة.

و أما ما ذكره في المقام من صدق القراءة و الكتابة للكلام مع عدم قصده إذا كانت الإضافة بمعني اللام و توقف صدقهما علي القصد إذا كانت بنحو إضافة الفعل للمفعول، و أن جواز المس مع عدم القصد لعدم ثبوت إرادة الإضافة بالمعني الأول من النص.

فهو غير ظاهر، بل الظاهر توقف الإضافة بالمعنيين علي القصد لخصوصية في المورد- كما سبق- و إلا فإضافة الفعل للمفعول لا تتوقف علي القصد كالإضافة بمعني اللام. و ليس الفرق بينهما في المقام إلا في لحاظ القراءة و الكتابة في الأولي مصدرا، و في الثانية بمعني الألفاظ و النقوش المقروءة و المكتوبة، و مرجع تحريم القراءة و الكتابة أو كراهتهما إلي الأول، كما أن موضوع المس في المقام هو الثاني.

(1) كما في الجواهر، لأصالة البراءة، بل لاستصحاب عدم كون المكتوب قرآنا، بناء علي جريان استصحاب العدم الأزلي.

و أما استصحاب عدم قصد الكاتب القرآن إلي حين الكتاب، فهو من الأصل المثبت.

بقي في المقام فروع أهملها سيدنا المصنف قدّس سرّه، و لم نجد فيما تقدم مناسبة لذكرها، فالمناسب اختتام الكلام في المس بها.

الأول: لا فرق بين المس ابتداء و استدامة، فيزداد العصيان باستمرار المس،

ص: 181

______________________________

و لو مس الغافل أو المتطهر ثمَّ التفت أو أحدث وجبت المبادرة برفع اليد، لأن النص و إن تضمن النهي عن أن يمس، و المتيقن من مدلول هيئة الفعل الحدوث، إلا أن المنصرف من النهي كون منشئه مبغوضية نتيجة المصدر القابلة للاستمرار من دون خصوصية لحال الحدوث، و لا سيما في المقام، بلحاظ مناسبته لارتكاز كون منشأ الحكم هو التعظيم.

الثاني: لا فرق في التحريم بين كون الممسوس جزءا من القرآن مكتوبا في ضمن المصحف التام و كونه جزءا مكتوبا في ضمن كتاب آخر أو مستقلا علي قرطاس أو ثوب أو ستر أو غيرها، لأن النص و إن اختص بالأول، إلا أن المناسبات الارتكازية قاضية بإلغاء الخصوصية المذكورة و أن المدار علي مس القرآن.

لكن عن الشهيد في الذكري أنه يجوز للجنب مس كتب الحديث و الدراهم المكتوب عليها القرآن، لعدم صدق المصحف، و للحرج، و لبعض النصوص الواردة في مس الجنب للدراهم.

و يعتبر ضعف الأول مما سبق.

و الحرج الشخصي غير مطرد، و النوعي- لو تمَّ- غير صالح للرفع.

و أما النصوص، فهي- لو تمت- أخص من المدعي، لورودها في الدراهم، و هي مورد للابتلاء الشائع، حيث يكون التحريم فيها منشأ للحرج النوعي، و معه لا مجال لإلغاء خصوصية موردها. غاية الأمر التعدي للدنانير لصعوبة التفكيك بينها و بين الدراهم عرفا، بل تفهم من النصوص تبعا.

اللهم إلا أن يقال: احتمال خصوصية الدراهم و إن كان معتدا به بنحو يمنع من استفادة عموم الترخيص لكل ما يكون في غير المصحف من نصوصها، إلا أنه قد يمنع أيضا من إلغاء خصوصيته مورد نصوص المنع، فلا يستفاد منها العموم لغير المصحف، فتأمل.

و كيف كان، فاللازم النظر في النصوص الواردة في الدراهم، و هي صحيح [1]

______________________________

[1] بناء علي ما تقدم في بحث تحديد العدالة من وثاقة احمد بن محمد بن يحيي العطار.

ص: 182

______________________________

إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه السّلام: «سألته عن الجنب و الطامث يمسان أيديهما [بأيديهما. يب، صا] الدراهم البيض. قال: لا بأس» «1».

و ما رواه في المعتبر، قال: و في جامع البزنطي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته هل يمس الرجل الدرهم الأبيض و هو جنب؟ فقال: و اللّه إني لأوتي بالدرهم فآخذه و إني لجنب. و ما سمعت أحدا يكره من ذلك [شيئا إلا. ظ] ان عبد اللّه بن محمد كان يعيبهم عيبا شديدا يقول: جعلوا سورة من القرآن في الدرهم، فيعطي الزانية و في الخمر و يوضع علي لحم الخنزير». و في كتاب الحسن بن محبوب عن خالد عن أبي الربيع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في الجنب يمس الدراهم و فيها اسم اللّه و اسم رسوله. فقال: لا بأس ربما فعلت ذلك» «2».

و حملها علي ما إذا خلت الدراهم عما يحرم مسه علي الجنب و الحائض- مع امتناعه في الأخيرين- بعيد في نفسه جدا، إذ لا منشأ لتوهم حرمة مسها حينئذ ليكون مثارا للسؤال و يحتاج للدفع، بل الظاهر اشتمال جميع الدراهم الإسلامية الرائجة في عصر صدور الروايات علي شي ء من القرآن و علي بعض أسمائه تعالي و أن الدراهم البيض في قبال الدراهم السود غير الإسلامية.

و مثله حملها علي مس ما عدا الكتابة منه، لأن إهمال التنبيه علي ذلك مع ما فيه من المؤنة عملا، بل الظاهر كونه المنشأ للسؤال، موجب لقوة ظهورها في جواز مس الكتابة، بل هو كالمتيقن منها.

و أما معارضتها بموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يمس الجنب درهما و لا دينارا عليه اسم اللّه تعالي، و لا يستنجي و عليه خاتم و فيه اسم اللّه، و لا يجامع و هو عليه، و لا يدخل المخرج و هو عليه» «3» فهي غير قادحة في الاستدلال بها، لإمكان الجمع بينه و بينها بحمله علي الكراهة المناسبة لسياقه لتعينها في بقية

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) المعتبر ص: 50 راجع الوسائل باب: 18 من أبواب الجنابة حديث 36، 4.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

ص: 183

______________________________

ما اشتمل عليه من الاحكام.

نعم، قد يوهن الاستدلال بها بلحاظ ظهور إعراض الأصحاب عنها، لعدم تعرضهم لاستثناء موردها من عموم حرمة المس، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

لكن بعض الأصحاب قد أهمل ذكر حرمة المس، و بعضهم لم يطلق حرمته كي يحتاج للاستثناء، بل اقتصر علي ذكر المصحف، كما هو ظاهر الكليني و الصدوق.

و لعل عدم تنبيه بعضهم علي الاستثناء للغفلة عنه بسبب السيرة التي سيأتي الكلام فيها، و لم يظهر التعميم إلا من بعض القدماء و المتأخرين كالشيخين في المقنعة و التهذيب و غيرهما، و لعله يبتني علي الاستدلال بالموثق أو العمومات، لتخيل لزوم تقديمها علي النصوص المتقدمة، و مثل ذلك لا يكفي في تحقق الإعراض الموهن للنصوص، و لا سيما مع قرب كون المس مقتضي سيرة المتشرعة، لاشتمال جميع الدراهم و الدنانير في أكثر عصور الأئمة عليهم السّلام علي ما يحرم مسه علي المحدث، فلو كان البناء علي الاجتناب لزم الهرج و المرج و ناسب كثرة الأسئلة عن ذلك و عن فروعه، فمن القريب جدا البناء علي الجواز و استثنائها من عموم حرمة المس لو تمَّ.

ثمَّ إن الكلام في بعض الفروع الآتية و المتقدمة يبتني علي ثبوت العموم المذكور.

الثالث: الظاهر حرمة مس الصورة الفتوغرافية لكتابة القرآن الكريم، لصدق الكتاب عليها، الذي هو موضوع النهي في حديث أبي بصير الذي هو عمدة أدلة المقام، و إن فرض عدم صدق الكتابة، بل لا يبعد استفادة ذلك مما تضمن عنوان الكتابة و لو بإلغاء خصوصيتها عرفا، لمناسبته لاحترام القرآن الذي هو المنشأ للحكم ارتكازا.

الرابع: لا إشكال في ارتفاع موضوع المس المحرم بانعدام مادة الكتابة حقيقة بالمحو، أو عرفا بتلويث الموضع بالحبر بنحو يستولي علي

ص: 184

______________________________

الكتابة و يستوعبها.

بل و كذا في الشطب بنحو يضيع الكتابة، لكثرة الخطوط الواردة عليها، لعدم وضوح صدق الكتاب عرفا، و لأن مورد النص هو الكتابة المقروءة.

و لا مجال لاستصحاب حرمة مسه، لتعدد الموضوع، و هو المس، لمباينة المس حال اليقين للمس حال الشك، و لا ينفع فيه اتحاد الممسوس حقيقة، لأنه ليس موضوعا للمستصحب و هو الحرمة.

نعم، الظاهر عدم كفاية الشطب بخطوط قليلة تتميز معها الكتابة القرآنية، لشمول النص لذلك.

و أما انعدام هيئة الكتابة بتقطيع الجسم الذي كتب عليه و تفريق أجزائه فلا يبعد جواز المس معه أيضا، لخروجه عن المتيقن من النص، كما تقدم في المشطوب.

و منه يظهر جواز مس الباقي بعد محو البعض، لانعدام الهيئة بانعدام بعض المادة.

نعم، المدار في زوال الهيئة المسوغ للمس علي ارتفاع هيئة ما يحرم مسه إما الحرف أو الكلمة أو الجملة علي ما تقدم في أول المسألة التاسعة و التسعين.

الخامس: يحرم المس اللازم من محو القرآن بالبدن، لإطلاق دليله.

نعم، يجوز محو الباقي مما قد محي بعضه إذا كان بالمقدار الذي يجوز مسه، علي ما تقدم التنبيه عليه في الفرع السابق.

السادس: في جواز كتابة المحدث القرآن بإصبعه بمثل الخط في الرمل و عدمه وجهان لم يستبعد الأول منهما في العروة الوثقي و جزم به في المستند، لدعوي: أن الخط يوجد بعد المس. و منع من ذلك بعض مشايخنا، لدعوي التقارن بينهما، و أن الترتب بينهما ليس زمانيا، بل رتبيا، و لا عبرة به.

هذا و لا يخفي أن وضع الإصبع علي الأرض يحقق جزءا من الكلمة، فيتحقق المس له متأخرا عن حدوثه آنا ما ثمَّ تتمم الكلمة بإمراره فيها مماسا لكل

ص: 185

______________________________

جزء منها بعد حدوثه، فإن عمم موضوع حرمة المس لأجزاء الحرف كان البدء بالكتابة محرما، و إن اعتبر فيه تمامية الحرف حرم إتمامه، و إن اعتبر فيه تمامية الكلمة حرم إتمامها، و هكذا، فيبتني الكلام في ذلك علي ما تقدم في أول المسألة التاسعة و التسعين.

اللهم إلا أن يدعي خروج المس المذكور عن المتيقن من النص، و لا سيما مع اختصاصه بمس المصحف المكتوب، و إلغاء خصوصيته بنحو يشمل محل الكلام غير ظاهر.

السابع: الظاهر جواز كتابة القرآن و نحوه علي بدن المحدث له و لغيره، لعدم صدق المس بها، إذ لا يراد به إلا مس موضع الكتابة بما يباينه من الجسد، و هو غير حاصل فيه. و التعدي له من النص بفهم عدم الخصوصية أو بتنقيح المناط غير ظاهر.

الثامن: الظاهر عدم وجوب منع غير المكلف من المس حال الحدث، كما صرح به في الروض و الجواهر و حكي عن جماعة من المتأخرين.

خلافا للمعتبر و المنتهي و محكي السرائر و التذكرة و التحرير و الذكري و غيرها، و أصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و قد يستدل لهم- كما في كلام غير واحد- بظهور الآية في تكليف الكل تكليفا كفائيا بعدم تحقق مس المحدث المستلزم لوجوب منع المكلفين له من المس و إن لم يكن مكلفا بنفسه، و كأنه لإطلاق المكلف المستفاد من حذف المتعلق، و إطلاق المس المكلف به، و عدم توجيه الخطاب لكل شخص بتحريم مس نفسه بنحو الانحلال.

و فيه- مضافا إلي ما سبق من منع الاستدلال علي أصل الحكم بالآية الشريفة- أن لازمه وجوب منع من لم يتنجز عليه التحريم من المكلفين، كالمحدث المستصحب للطهارة، أو المعتقد بها، أو بعدم كون الممسوس قرآنا، أو بعدم تحقق المس منه، بل وجوب منع من يكون التكليف بحرمة المس في حقه حرجيا أو

ص: 186

______________________________

يكون مضطرا للمس و لو برفع ضرورته، و لا يظن منهم البناء علي ذلك، و ما ذلك إلا لظهور كون التحريم انحلاليا عينيا في حق كل مكلف بالإضافة لخصوص مسه، فلا يجب عليه منع غيره إلا من باب النهي عن المنكر، المشروط بفعلية التكليف و تنجزه في حق الغير.

و ليس تنزيل الآية علي ذلك بعيدا، بل لعله المنصرف من التكليف بالماهية التي يختص كل مكلف بفرد منها، لاحتياج تكليف الإنسان بفعل غيره لعناية يبعد حمل الإطلاق عليها، نظير قوله تعالي وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «1» حيث لا يراد بها تكليف الكل بتحقيق الحج من المستطيع، بل تكليف كل مستطيع أن يحج بنفسه.

و أما الاستدلال بمنافاته للتعظيم، فضعفه ظاهر، لعدم وضوح منافاة مس الحدث للتعظيم عرفا، مضافا إلي عدم وجوب التعظيم، بل تحرم الإهانة غير الحاصلة بذلك، و هو لا ينافي ابتناء أصل الحكم علي التعظيم، بل تحرم الإهانة غير الحاصلة بذلك، و هو لا ينافي ابتناء أصل الحكم علي التعظيم ارتكازا، إذ يراد به نحو من التعظيم الذي يدركه الشارع، و لا طريق لنا لتحديده إلا من طريق الحكم، و لا مجال لإدراك الحكم من طريقه.

و مثله ما في الحدائق من أن عدم توجه التكليف للصبي لا ينافي توجهه لوليه، لاندفاعه بعدم الدليل علي قيام الولي مقامه في التكليف، بل يقطع بعدمه في سائر الموارد، و لا يقتضيه دليل المقام الظاهر في تكليف الماس نفسه.

و من هنا تعين عدم وجوب المنع لا علي الولي و لا علي غيره، كما تناسبه السيرة، لكثرة الابتلاء من الصدر الأول بتعليم الصبيان القرآن المستلزم لتعرضهم للمس، فلو وجب منعهم لزم الهرج و المرج، و لكثر السؤال عن ذلك و عن فروعه بنحو لا يخفي.

كما أن الظاهر جواز التسبيب لمسهم بتحقيق الإمساس- فضلا عن تحقيق بعض مقدماته، كمناولة المصحف- لظهور دليل المقام في تحريم المس علي

______________________________

(1) سورة آل عمران: 97.

ص: 187

______________________________

المحدث، لا إمساسه، و عدم الدليل علي حرمة التسبيب لإيقاع الحرام بالذات ممن لم يخاطب به.

التاسع: صرح غير واحد بجواز مس غير الخط من ورق المصحف و جلده و حمله من غير وضوء، و ظاهر غير واحد المفروغية عنه، بل ادعي الإجماع عليه في المعتبر و المنتهي و استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه.

و قد يظهر جواز المس من موثق أبي بصير، لأن العدول فيه عن النهي عن المصحف مع تضمن السؤال القراءة فيه إلي النهي عن مس الكتاب قد يظهر في إرادة خط القرآن و اختصاص التحريم به. بل هو صريح مرسل حريز.

و من هنا يتعين حمل خبر إبراهيم بن عبد الحميد علي الكراهة.

هذا، و في صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «أنه سأله عن الرجل أ يحل له أن يكتب القرآن في الألواح و الصحيفة و هو علي غير وضوء؟ قال: لا» «1».

و يظهر من بعضهم- كالعلامة في المنتهي- حمل النهي علي كونه عرضيا بلحاظ ملازمة الكتابة غالبا للمس، حيث استدل به علي حرمة مس الكتابة علي المحدث.

فإن أمكن ذلك، و إلا تعين حمله علي الكراهة، لظهور المفروغية عن عدم تحريم كتابته علي المحدث.

مضافا إلي صحيح داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن التعويذ يعلق علي الحائض. فقال: نعم لا بأس. قال: و قال: تقرؤه و تكتبه و لا تصيبه بيدها» «2» و نحوه مرسله «3»، لتعذر حمله علي التعويذ بغير القرآن، لندرته.

العاشر: لا ينبغي التأمل في جواز مس ترجمة القرآن، لقصور النص عنها، بل هي كتفسيره باللغة العربية.

كما أن الظاهر عموم حرمة مس اسمه تعالي- لو تمت- لأسمائه بغير العربية

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 37 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 188

مسألة 100 يجب الوضوء إذا وجبت إحدي الغايات المذكورة آنفا

مسألة 100: يجب الوضوء إذا وجبت إحدي الغايات المذكورة آنفا، و يستحب إذا استحبت (1).

______________________________

بالنظر للأدلة المتقدمة.

نعم، لو كانت مستفادة من دليل لفظي فقد يدعي انصرافه للاسم العربي، و إن لم يخل عن الإشكال.

الحادي عشر: بناء علي حرمة مس المحدث اسمه تعالي فقد يدعي تعميمه لما يقع في ضمن أسماء الأعلام المركبة تركيبا إضافيا، كعبد اللّه و عبد الرحمن، لعدم انسلاخها عن الحكاية عن ذاته المقدسة في الحال المذكور في طول حكايتها عن المسمي بها، لعدم تجريد التركيب المذكور عن معناه، و لذا ابتنت التسمية علي الإشارة لمضمونه، و ليست كالتسمية بأسماء المعصومين عليهم السّلام حيث لا يراد بها إلا التبرك بمشابهة أسمائهم مع تجريدها عن معانيها الاولي.

و يشكل: بأن المعني الأصلي للتركيب المذكور إنما يلحظ داعيا للتسمية، نظير التسمية بمثل (فرح) بلحاظ الفرح بولادة المسمي، لا علي أن يبقي المعني الأصلي معني للاسم بعد التسمية، بحيث يحكي عنه في طول حكايته عن المسمي، فيطلقه من لا يعرف المعني الأصلي بالنحو الذي يطلقه من يعرفه.

نعم، قد يقال: إن الاسم الشريف و إن لم يحك عن الذات المقدسة حال الاستعمال إلا أن الاستعمال لما ابتني علي الوضع، و كان مبني الواضع علي تعيين الاسم الشريف من حيثية كونه اسما له تعالي، فهو لا ينسلخ عن العنوان المذكور بالاستعمال، بل يصدق عليه أنه اسمه تعالي، فيلحقه حكمه، كما يناسبه الارتكاز، فتأمل، و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

الثاني عشر: لا يجوز مس المحدث قبل إكمال الوضوء حتي بالعضو الذي غسل، كما صرح به غير واحد، لإطلاق النص، لعدم صدق كونه علي وضوء إلا بالتمام، كما هو ظاهر.

(1) الوجوب و الاستحباب المذكوران غيريان مولويان، بناء علي ثبوت

ص: 189

و قد يجب بالنذر و شبهه (1). و يستحب للطواف المندوب (2) و لسائر أفعال الحج (3)،

______________________________

الأمر الغيري بالمقدمة، و بناء علي عدم ثبوته- كما هو الظاهر- فهما عقليان من شؤون إطاعة الأمر النفسي.

بل سبق منه قدّس سرّه في المسألة السابعة و التسعين في توجيه عدم جواز جعل المس غاية للوضوء أن الأمر بالمس لا يقتضي الأمر الغيري بالوضوء، لعدم كونه مقدمة له، بل يكون مأمورا به عقلا للجمع بين غرضي المولي.

و كيف كان، فيكفي قصد التقرب بأمر الغاية في عبادية الوضوء مطلقا، علي ما سبق هناك.

(1) و هما العهد و اليمين.

لكن لا يخفي أنها لا تصلح لتشريع ما ليس بمشروع في نفسه، و حيث يأتي منه قدّس سرّه إن شاء اللّه تعالي عدم مشروعية الوضوء لنفسه، بل للغايات المترتبة عليه، فلا يتعلق النذر و شبهه به، إلا أن يرجع لنذر إحدي غاياته، فيجب تبعا لها عقلا أو شرعا.

اللهم إلا أن يقال: تعلق أحد هذه الأمور بالوضوء لإحدي الغايات يقتضي وجوبه ذاتا و وجوبها عرضا لتحقيق قيد الواجب، أما إذا تعلق بالغايات فهو يقتضي وجوبها ذاتا و وجوبه عرضا، لأنه مقدمة الواجب، و الفرق بينهما ظاهر.

لكن الفرق المذكور- لو تمَّ جمودا علي اللفظ- إنما يتجه فيما لا يعتبر في متعلقه الرجحان- كما قيل به في اليمين- أما ما يعتبر في متعلقه الرجحان- كالنذر- فلا مجال لتعلقه بالوضوء ذي الغاية، لعدم رجحانه إلا عرضا، و ليس الراجح إلا غايته، فلا ينعقد إلا إذا تعلق بها، كما ذكرنا.

(2) كما تقدم في أول الفصل.

(3) فيكون شرطا لكمالها، لا مستحبا مستقلا حينها، لأنه المنسبق من

ص: 190

و لطلب الحاجة (1)،

______________________________

صحيح معاوية بن عمار: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا بأس أن يقضي المناسك كلها علي غير وضوء إلّا الطواف بالبيت، و الوضوء أفضل» «1» و خبر يحيي الأزرق: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: رجل سعي بين الصفا و المروة، فسعي ثلاثة أشواط أو أربعة ثمَّ بال ثمَّ أتم سعيه بغير وضوء. فقال: لا بأس. و لو أتم مناسكه بوضوء لكان أحب إلي» «2» و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يصلح أن يقضي شيئا من المناسك و هو علي غير وضوء؟ قال: لا يصلح إلا علي وضوء» «3» و ما ورد في السعي و الرمي «4». فراجع.

(1) كما صرح به غير واحد. ففي صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سمعته يقول: من طلب حاجة و هو علي غير وضوء فلم تقض فلا يلومن إلا نفسه» «5».

و مرسل الصدوق: قال الصادق عليه السّلام: «إني لأعجب مما يأخذ في حاجة و هو علي وضوء كيف لا تقضي حاجته» «6».

و عن بعض المتأخرين طعن الاستدلال بذلك بأنه إنما يدل علي عدم قضاء الحاجة بدون الوضوء، لا استحبابه له.

و دفعه في الحدائق و غيرها بأن الظاهر من ذلك الحث عليه شرعا، نظير ما ورد في التحنك من بيان فوائده، حيث يستفاد منه حث الشارع عليه و استحبابه.

لكن لا يخفي أن التنبيه علي الأثر الوضعي للشي ء إنما يكشف عن الأمر

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب السعي حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب السعي حديث: 8.

(4) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب السعي و باب: 2 من أبواب رمي جمرة العقبة.

(5) الوسائل باب: 6 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(6) الوسائل باب: 6 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 191

______________________________

المولوي به أو النهي، بلحاظ خروج بيان الآثار الوضعية عن وظيفة الشارع، فالمناسب حمل بيانها منه علي اهتمامه بالشي ء بإحداث الداعي الدنيوي له أو بيان الحكمة المقتضية للأمر به مولويا، و كلاهما لا ينفع في المقام بعد الأمر بالوضوء للكون علي الطهارة، حيث لا طريق معه لإحراز خصوصية السعي للحاجة في الأمر زائدا علي الكون علي الطهارة، بل لعل بيان الأثر المذكور لبيان حكمته أو لتأكيد الداعي له كما هو الظاهر.

و بعبارة أخري: لعل غرض الشارع الحث علي الكون علي الطهارة- المعلوم مطلوبيته له- ببيان أثره الدنيوي، و هو تيسر الحاجة معه، لا الحث علي خصوصية كون طلب الحاجة عن وضوء ببيان الأثر المذكور له، و ليس هو كطلبه حال السعي للحاجة ظاهرا في خصوصية الحال المذكور في المحبوبية، و تميزه عن بقية الأحوال التي يستحب فيها الكون علي الطهارة.

هذا، و قد يستشكل في الوضوء بداعي قضاء الحاجة، لعدم كونه داعيا قريبا محققا لعبادية الوضوء، بل لا بد من استقلال الأمر الشرعي بالداعوية، و هو الأمر به للكون علي الطهارة أو للسعي في الحاجة علي الكلام في ذلك و إن انضم إليه قصد انقضاء الحاجة علي ما سبق في مبحث النية.

لكن ظاهر النص دافع للإشكال المذكور، لظهور أن الغرض من التنبيه فيه علي قضاء الحاجة إحداث الداعي للوضوء، و مع حدوث الداعي المذكور يحتاج استقلال غيره في الداعوية إلي عناية لو كانت لازمة كان المناسب جدا التنبيه عليها.

و ربما يوجه ذلك بأن المناسبات الارتكازية لا تساعد علي كون قضاء الحاجة أثرا وضعيا للوضوء لا دخل فيه للقرب منه تعالي، نظير تأثير الغسل للتنظيف، و شرب الماء رفع العطش، بل هو ارتكازا من سنخ الفيض الإلهي علي العبد جزاء لتطهره الذي هو محبوب له تعالي.

فهو من سنخ الثواب الدنيوي الذي هو كالثواب الأخروي كاف في العبادية

ص: 192

و لحمل المصحف الشريف (1)، و لصلاة الجنائز (2)،

______________________________

علي ما تقدم في مباحث النية. فراجع و تأمل.

و لو لا ذلك أشكل قصده، لعدم كناية قصد الفائدة الدنيوية في العبادية، و إن أمكن أن يكون منشأ للثواب لو رجع إلي تصديق الشارع في ترتبه و التسليم له ثقة بمعرفته و شفقته، الذي هو حسن كحسن الظن به في قضائه و معرض لرحمته و لطفه بعبده.

(1) يظهر مما تقدم في الفرع التاسع وجه كراهة حمله و مس غير الخط منه و كتابته للمحدث، لا استحباب الوضوء لهذه الأمور، لتضمن النص النهي عنها حينه.

و ما في الجواهر من تبادر الاستحباب من عبارته، غير ظاهر.

(2) فقد صرحوا باستحباب الطهارة لها، بل في الخلاف و الغنية و عن ظاهر التذكرة دعوي الإجماع عليه.

و استدل عليه غير واحد بخبر عبد الحميد: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: الجنازة يخرج بها و لست علي وضوء، فإن ذهبت أتوضأ فاتتني الصلاة، أ يجزيني أن أصلي عليها و أنا علي غير وضوء؟ فقال: تكون علي طهر أحب إلي» «1».

لكنه لا يخلو عن اضطراب، إذ مع فرض فوت الصلاة بالوضوء لا فائدة في بيان محبوبية الطهارة.

إلا أن يحمل علي بيان محبوبيته في الصلاة ذاتا مع قطع النظر عن التعذر.

أو أفضلية الكون علي الطهارة من الصلاة بدونها- كما ذكرهما في الجواهر.

أو أفضلية الطهارة للصلاة و لو بتيمم، حيث يشرع لها مطلقا أو مع استلزام الوضوء فوتها.

و الأول- مع أنه لا يطابق السؤال- مستغني عنه، لظهور السؤال في

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 193

و تلاوة القرآن (1)،

______________________________

المفروغية عن رجحان الوضوء لصلاة الجنازة.

و الثاني- مع عدم مناسبته للاستدلال بالخبر علي استحباب الطهارة لصلاة الجنازة- لا يناسب السؤال عن إجزاء الصلاة بلا طهارة.

و الثالث تكلف ظاهر، إذ لو أريد ذلك كان الأمر بالتيمم أخص و أفود.

فالأولي الاستدلال بما تضمن الأمر بالتيمم عند تعذر الوضوء، كصحيح الحلبي: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل تدركه الجنازة و هو علي غير وضوء، فإن ذهب يتوضأ فاتته الصلاة. قال: يتيمم و يصلي» «1» و غيره.

لظهور أن الأمر بالتيمم لكونه موجبا للطهارة في عرض الوضوء أو في طوله- علي النزاع في ذلك الموكول إلي محله- فيدل علي استحباب الوضوء و لو تخييرا.

نعم، في الرضوي: «و إن كنت جنبا و تقدمت للصلاة عليها فتيمم أو توضأ و صل عليها. و قد أكره أن يتوضأ إنسان عمدا للجنازة، لأنه ليس بالصلاة، إنما هو التكبير، و الصلاة هي التي فيها الركوع و السجود» «2».

لكن لا بد من حمله بقرينة النص و الفتوي علي قصد الوجوب، مع إرادة الحرمة التشريعية من الكراهة، كما هو المناسب لصدره و للتعليل الذي تضمنه.

(1) ففي خبر محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام: «سألته: أقرأ المصحف ثمَّ يأخذني البول، فأقوم فأبول و أستنجي و أغسل يدي و أعود إلي المصحف، فأقرأ فيه؟ قال: لا حتي تتوضأ للصلاة» «3».

و لعل المراد به كوضوء الصلاة في مقابل غسل اليدين الذي تضمنه السؤال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 6.

(2) مستدرك الوسائل باب: 8 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب قراءة القرآن من كتاب الصلاة حديث: 1.

ص: 194

و للكون علي الطهارة (1)،

______________________________

و في حديث الأربعمائة الذي لا يخلو سنده عن اعتبار: «لا يقرأ العبد القرآن إذا كان علي غير طهور حتي يتطهر» «1».

و مرسل ابن فهد: «لقارئ القرآن بكل حرف يقرؤه. متطهرا في غير صلاة خمس و عشرون حسنة، و غير متطهر عشر حسنات.».

و الظاهر عدم ورود النهي في الأولين لبيان الكراهة المولوية، بل للإرشاد إلي أفضل الأفراد- كما هو الحال في النهي عن العبادة- مع استحباب القراءة مطلقا كما هو صريح الثالث، فيكون الوضوء مستحبا، لأنه شرط في كمالها لا رافعا لكراهتها مع عدم استحبابه. و يناسبه الحث علي القراءة في كل حال «2»، و في حال الحدث الأصغر في مرسل حريز المتقدم «3» و للحائض في وقت الصلاة «4».

بل هو المنسبق من النصوص الكثيرة المرخصة للجنب و الحائض و النفساء في قراءة القرآن «5» المتضمن بعضها قراءتهم ما شاؤوا منه مع عطف الذكر عليه، لوضوح أنهم يقرؤونه لاستحبابه كما يذكرون اللّه تعالي، خصوصا مع كثرة المقروء منه، فهو ظاهر في إقرارهم علي قصد الاستحباب.

(1) الوضوء مأخوذ من الوضاءة، و هي الحسن و النظافة، كما صرح به غير واحد من اللغويين قال الشاعر:

مراجيح و أوجههم وضاء

و قد أطلق شرعا علي الأفعال المخصوصة، و هي غسل الوجه و اليدين

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب قراءة القرآن حديث: 2.

(2) راجع الوسائل باب: 11 من أبواب قراءة القرآن.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 40 من أبواب الحيض حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة و باب: 28 من أبواب الحيض.

ص: 195

______________________________

و مسح الرأس و الرجلين، كما تضمنته النصوص الكثيرة الشارحة له بذلك، و عليه جري استعمال المتشرعة.

و كأنه بلحاظ كونها سببا توليديا للطهارة النفسية و النظافة الشرعية، كما قد يطلق علي مثل غسل اليدين من الطعام، بلحاظ ترتب النظافة الخارجية عليه، فهو من عناوين الفعل المنتزعة من الأثر المترتب عليه.

و بلحاظ الأثر المذكور صح التوسع و فرض الاستمرار فيه بفرض كون المكلف علي وضوء، و فرض نقض الحدث له في النصوص و استعمالات المتشرعة، و إلا فالأفعال المذكورة لا تقبل الاستمرار و لا النقض، فالاستمرار في الحقيقة ليس للوضوء، بل لأثره.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من تفسير الوضوء بنفس الغسلتين و المسحتين، و أنه بالمعني المذكور شرط في الصلاة و غيرها و مورد للأحكام، و يكون أحد الطهارات الثلاث، لدعوي كشف النصوص المذكورة عن أن الغسلتين و المسحتين- لا بالمعني المصدري الإيجادي- أمران مستمران.

فهو جمود علي عبارة النصوص لا يمكن البناء عليه، حيث لا بد من تنزيلها علي ما ذكرنا. بل هو أولي من تنزيل الغسلتين و المسحتين علي غير المعني المصدري الإيجادي، الذي هو فعل المكلف بالمباشرة، و به يكون تقربه، و هو المراد من نصوص تحديده بها قطعا، لعدم تعقل المعني المذكور.

إلا أن يرجع إلي الأثر الحاصل من الغسلتين و المسحتين، كما ذكرنا، و لكنه يقطع بعدم إرادته من نصوص تحديده بها.

هذا، و من الظاهر أن مرجع شرطية الوضوء في الصلاة و غيرها من الواجبات و المستحبات إلي شرطية الأثر المذكور، و هو الطهارة، لأنها المناسبة للشرطية ارتكازا، و لأن ذلك مقتضي الجمع بين أدلة شرطيته و أدلة شرطية الطهارة و مانعية الحدث، و لأنه القابل للاستمرار حين الإتيان بالمشروط، و للانتقاض بالحدث، إلي غير ذلك مما يوجب وضوحه.

ص: 196

______________________________

و لولاه صعب إثبات عموم مانعية الحدث الحاصل بعد أفعال الوضوء من إيقاع المشروط به.

و أما أفعال الوضوء فليست إلا محصلة للشرط و مقدمة له، و لذا كان المرجع الاشتغال عند الشك في اعتبار شي ء في الوضوء، كما تكرر التنبيه له في هذا الشرح.

إذا عرفت هذا، فقد صرح غير واحد من الأصحاب باستحباب الوضوء للكون علي الطهارة، بل في كشف اللثام: «كأنه لا خلاف فيه»، و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و عن الطباطبائي دعوي الإجماع عليه».

و يقتضيه- مضافا إلي المرتكزات المتشرعية- عموم قوله تعالي إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «1»، و قوله سبحانه فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «2».

و ما تضمنته جملة من النصوص «3» من نزول الآية الاولي في الاستنجاء بالماء، و مرسل مجمع البيان عن الصادقين عليه السّلام من نزول الثانية فيه أيضا، لا يمنع من الاستدلال بعمومهما الشامل للمقام، فإن المورد لا يخصص الوارد، و لا سيما مثل هذا العموم الارتكازي.

و مثلهما النصوص الكثيرة المتضمنة الحث علي استمرار الطهارة، كخبر أنس: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: يا أنس أكثر من الطهور يزيد اللّه في عمرك، و إن استطعت أن تكون بالليل و النهار علي طهارة فافعل، فإنك تكون إذا مت علي طهارة شهيدا» «4» و غيره مما ذكره في مستدرك الوسائل «5».

مضافا إلي ما تضمن الأمر بالوضوء علي ما يأتي الكلام فيه.

______________________________

(1) سورة البقرة: 222.

(2) سورة التوبة: 108.

(3) راجع الوسائل باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة.

(4) الوسائل باب: 11 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(5) في باب: 11 من أبواب أحكام الوضوء. و قد ذكر جملة من النصوص المتضمنة لذلك.

ص: 197

______________________________

و قد يستدل أيضا بما تضمن استحباب التجديد بالأولوية العرفية، بناء علي عمومه لغير حال الصلاة، علي ما يأتي الكلام فيه، من دون فرق بين ما تضمن الوضوء و الطهور، لأن نسبته التجديد للوضوء إنما تصح بلحاظ بقاء أثر الوضوء الأول و تأكده بالوضوء التجديدي، و كذا عنوان الوضوء علي الوضوء.

هذا، و قد استدل في المستند بصحيحة ابن عمار: «الوضوء أفضل علي كل حال». قال: «فإن الظاهر منها الكون علي الوضوء، لا الإتيان به، لمكان قوله: «علي كل حال».

لكن لم أعثر علي الصحيحة المذكورة في الوسائل و لا في غيرها بعد التتبع فيما خطر بالبال من المواضع المناسبة، و إنما الموجود صحيح معاوية بن عمار المتقدم في مسألة استحباب الوضوء لجميع أفعال الحج، و لم يتضمن قوله: «علي كل حال».

و لو فرض تضمنه له أشكل عمومه لغير أفعال الحج من الأحوال، بملاحظة صدره المتضمن جواز ترك الوضوء في المناسك كلها إلا الطواف. فهو ظاهر في بيان دخل الطهارة في كمال أفعال الحج، لا استحبابها في نفسها.

كما أنه لو فرض إرادته حديثا آخر خاليا عن الصدر المذكور، أمكن حمله علي استحباب إيقاع الوضوء علي كل حال و لو للتجديد، فيلحقه ما يأتي في النصوص المتضمنة للحث علي الوضوء، و لا ملزم بحمله علي ما ذكره من إرادة كون المكلف علي وضوء الذي هو كناية عن الطهارة.

فالعمدة ما سبق، الذي لا إشكال معه في استحباب الكون علي الطهارة.

و إنما الإشكال في استحباب الوضوء بنفسه، كما مال إليه في العروة الوثقي، و جري عليه بعض مشايخنا بل أرجع إليه استحباب الكون علي الطهارة، بناء علي ما سبق منه، و قد عرفت حاله.

نعم، قد يستدل له بما تضمن الحث علي الوضوء، كموثق السكوني عن أبي

ص: 198

______________________________

عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الوضوء شطر الإيمان» «1».

و ما أسند عن الكاظم عليه السّلام عن السجاد عليه السّلام: «أخبرني أبي أن أصحاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كانوا إذا بالوا توضؤوا أو تيمموا مخافة أن تدركهم الساعة» «2».

و مرسل الديلمي في الإرشاد: «قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: يقول اللّه تعالي: من أحدث و لم يتوضأ فقد جفاني، و من أحدث و توضأ و لم يصل ركعتين فقد جفاني. و قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: من أحدث و لم يتوضأ فقد جفاني.» «3».

و مرسل عبد اللّه بن سلام: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: من توضأ لكل حدث و لم يكن دخالا علي النساء في البيوتات و لم يكن يكتسب مالا بغير حق رزق من الدنيا بغير حساب» «4» و نحوها.

لكن المراد باستحبابه نفسيا إن كان هو عدم استحباب أثره و هو الطهارة، بل هو نظير الملاك الملحوظ غرضا للآمر مع التكليف بذي الملاك لا غير. فلا مجال له، بعد ما عرفت من أدلة استحباب الكون علي الطهارة.

و كذا لو كان المراد به استحبابه بالملاك المذكور مع استحباب الكون علي الطهارة أيضا، لأن وحدة الغرض تستلزم وحدة التكليف، لعدم الأثر للتكليف الآخر في حفظ الغرض بعد فرض وحدة المكلّف و المكلّف.

فلا بد من حمل دليل استحبابه لذلك علي استحبابه عرضا لأجل استحباب الطهارة جمعا بينه و بين دليل استحبابها، لبعض ما تقدم في وجه تعين الطهارة للشرطية.

و إن كان المراد به استحبابه لملاك آخر غير الكون علي الطهارة، فالأدلة المتقدمة لا تنهض به، لأن إطلاق الأمر إنما يقتضي التكليف النفسي إذا استلزم التكليف الغيري تقييد الخطاب، لاختصاص مطلوبية ذي المقدمة ببعض

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2) مستدرك الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 8.

ص: 199

______________________________

الأحوال، لا في مثل المقام مما كان فيه ذو المقدمة- كالطهارة- مطلوبا مطلقا، حيث تكون المقدمة مطلوبة كذلك فلا يكون الوجوب الغيري منافيا للإطلاق.

غاية ما قد يدعي حينئذ أن أخذ الشي ء بعنوانه موضوعا للحث مناسب لتعلق الغرض به بنفسه، لا بلحاظ إيصاله لأمر آخر.

إلا أن ذلك لو بلغ مرتبة الظهور الحجة لا مجال له في المقام، لأن عنوان الوضوء و إن كان حاكيا عن نفس الأفعال، إلا أنه منتزع من ترتب الطهارة عليها، كما سبق، و ظاهر أخذ العناوين الانتزاعية في موضوع الحكم تعلق الغرض بمنشإ انتزاعها، و لا سيما مع اقتضاء المناسبات الارتكازية العرفية و الشرعية محبوبية الطهارة بنفسها.

بل الحديث الأول و نحوه منصرف للوضوء للطهارة بلحاظ دخله في الصلاة التي هي عمود الدين، حيث يناسب ذلك الأهمية التي تضمنها، دون ما يقع منه لمحض الكون علي الطهارة، فضلا عن الوضوء لنفسه و إن كان مستحبا.

و الثاني حيث لم يتضمن الحث علي الوضوء إلا ببيان فعل الصحابة فهو مجمل من حيثية الغرض منه، كإجمال الفعل المحكي به.

بل التعليل فيه بخوف إدراك الساعة ظاهر في أن الغرض منه الطهارة، لأنها القابلة للاستمرار إلي حين الموت المخوف، و التي يظهر من بعض النصوص الآمرة بالكون علي الطهارة و الناهية عن النوم علي الجنابة «1» رجحان تحققها حينه.

كما أن الثالث حيث تضمن تعقيب الوضوء بالصلاة فهو يناسب إرادة الوضوء لأجل الطهارة التي تقدم أنها الشرط فيها و في غيرها.

و كذا الحال في الرابع، لأن المنصرف من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «من توضأ لكل حدث» ليس مجرد الوضوء عقيب الحدث، بل من حيثية إزالته له، التي هي عبارة عن الطهارة. و من هنا كان ظاهر بعضهم اشتراك هذه النصوص و نصوص الكون علي الطهارة في المفاد، حيث سيقت في مساقها.

و لعل ما ذكرنا هو المنشأ لإهمال الأصحاب استحباب الوضوء لنفسه مع

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة، حديث 40، و قد سبق ذكره في أول هذا الفصل.

ص: 200

و لغير ذلك (1).

______________________________

قطع النظر عن الكون علي الطهارة.

بل صرح بعضهم بعدم مشروعيته، و ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه المفروغية عن ذلك، قال: «و هنا قسم خامس [سادس. خ ل] و هو ما لو نوي المحدث بالأصغر وضوءا مطلقا. ذكره الفاضلان و الشهيد في الذكري مقابلا للوضوء للغايات- حتي الكون علي الطهارة- و حكموا فيه بالبطلان، و لم يعلم مرادهم منه. و لو أريد به الوضوء المأتي به لا لغاية و لا للكون علي الطهارة خرج عن المقسم- و هو الوضوء المندوب- لكونه علي هذا الوجه تشريعا محرما».

ثمَّ إنه بناء علي اعتبار قصد الأمر في صحة الوضوء، يتعين بطلانه مع قصد الأمر النفسي- كما سبق عن الفاضلين و الشهيد، لعدم ثبوته، بل لا بد من قصد أمر الكون علي الطهارة أو نحوه و لو إجمالا بقصد الأمر الفعلي.

أما بناء علي ما سبق منا «1» من الاكتفاء بالتقرب و لو بقصد أمر غير متحقق، فيتجه صحة الوضوء بقصد الأمر النفسي.

إلا أن يدعي رجوع الإجماع علي عبادية الوضوء إلي الإجماع علي اعتبار التقرب بتحصيل الطهارة.

أو يرجع قصد الأمر المذكور إلي قصد التقرب بالأفعال الخاصة بعناوينها الأولية، لا بعنوان كونها وضوءا.

لكن الأول غير ثابت.

و الثاني خروج عن الفرض. فلاحظ. و اللّه سبحانه العالم.

(1) فقد ذكروا استحبابه لأمور غير ما سبق.

منها: دخول المساجد، حيث صرح به جماعة من الأصحاب، بل في مفتاح

______________________________

(1) في الفصل الثالث في شروط الوضوء في المسألة الواحدة و السبعين و تقدمت الإشارة إليه في المسألة السابعة و التسعين في هذا الفصل.

ص: 201

______________________________

الكرامة أن عليه الإجماع المنقول في مواضع.

و يقتضيه صحيح مرازم عن الصادق عليه السّلام: «أنه قال: عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت اللّه في الأرض، من أتاها متطهرا طهره اللّه من ذنوبه، و كتب من زواره» «1» و غيره مما يقاربه في اللسان.

بل قد يظهر كراهة الجلوس في المسجد بغير طهارة من مرسل العلاء بن فضيل عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا دخلت المسجد و أنت تريد أن تجلس فلا تدخله إلا طاهرا» «2»، و مثله خبر جابر عنه عليه السّلام «3».

و لا يبعد كون الجلوس كناية عن مطلق البقاء المعتد به دون العبور أو وضع شي ء فيه أو أخذه منه أو نحوها، و إن استلزم الجلوس قليلا.

كما أن الظاهر قصور نصوص استحباب الطهارة عن مثل الدخول المذكور، بقرينة تضمنها عنوان الزيارة المنصرفة عن مثل ذلك.

نعم، في مرسل جامع الأخبار: «قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: لا تدخل المساجد إلا بالطهارة» «4». و مقتضاه كراهة مطلق الدخول بلا طهارة.

هذا، و عمم في الوسيلة الحكم لكل موضع شريف. و في محكي كشف الغطاء: «و يقوي القول برجحانه للدخول في كل مكان شريف علي اختلاف المراتب بقصد تعظيم الشعائر، من قباب الشهداء و محال العلماء و الصلحاء من الأموات و الأحياء».

لكنه غير ظاهر، لعدم ظهور النصوص في كون استحباب التطهر لدخول المساجد لأجل شرفها، بل لعله لأجل انتسابها له تعالي، حيث يكون إتيانها زيارة له سبحانه، فيندب التطهر لمناسبته لزيارته، و لا طريق لتعميم ذلك لغيرها من

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الوضوء حديث: 2.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 202

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل باب: 10 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 1.

(4) مستدرك الوسائل باب: 10 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 4.

ص: 202

______________________________

الأماكن الشريفة غير المنتسبة له تعالي.

نعم، لزيارة المعصومين عليهم السّلام و نحوهم آداب خاصة مروية مذكورة في كتب المزار قد يستفاد من بعضها استحباب الطهارة لا مجال لإطالة الكلام فيها، بل قد يستفاد استحباب الوضوء من الأمر في بعض النصوص بالغسل بالأولوية.

كما أنه ذكر غير واحد و حكي عن جماعة استحباب الطهارة لزيارة قبور المؤمنين.

و يستفاد مما في المدارك و عن الذكري و محكي الدلائل أنه مروي.

لكن في الحدائق بعد أن نسب عدّ زيارة المقابر للمشهور، قال: «و لم أقف بعد الفحص علي مستنده».

و منها: الدعاء، كما نسب للمشهور، و ظاهر العروة الوثقي استفادته مما تضمن الوضوء لطلب الحاجة، بحمل طلب الحاجة عليه.

و هو مخالف للظاهر جدا. بل طلب الحاجة ظاهر في السعي الخارجي لتحصيلها. مع أنه لا ينهض باستحباب الوضوء، لما تقدم.

نعم، ربما يستفاد من بعض نصوص الدعاء، و هو محتاج لنحو من التتبع لا يسعه المقام.

و منها: تغسيل الجنب للميت، و جماع المغسل للميت قبل أن يغتسل، ففي صحيح شهاب بن عبد ربه «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: عن الجنب أ يغسل الميت؟

و من غسل الميت أ يأتي أهله ثمَّ يغتسل؟ فقال: هما سواء لا بأس بذلك إذا كان جنبا غسل يديه و توضأ و غسل الميت و هو جنب، و إن غسل ميتا توضأ ثمَّ أتي أهله، و يجزيه غسل واحد لهما» «1».

و منها: ورود المسافر علي أهله، فيستحب قبله، كما ذكره في الحدائق، قال:

«لما رواه الصدوق في المقنع، قال: و روي عن الصادق عليه السّلام قال: من قدم من سفر فدخل علي أهله و هو علي غير وضوء و رأي ما يكره فلا يلومن إلا نفسه»، و نقل

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 203

______________________________

الرواية في المستند دون أن ينسبها للصدوق.

لكن ذكر محققا الحدائق و المستمسك في طبعتهما الحديثة أنهما لم يعثرا علي الرواية في مظانها من المقنع. و كذلك لم أعثر أنا عليها فيه و لا في الوسائل و مستدركها.

مضافا إلي أنها لا تنهض بإثبات استحباب الوضوء لخصوصية القدوم من السفر، لنظير ما تقدم في الوضوء للسعي في الحاجة.

و منها: النوم، لغير واحد من النصوص، كخبر محمد بن كردوس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من تطهر ثمَّ آوي إلي فراشه بات و فراشه كمسجده» «1».

و ما في حديث الأربعمائة الذي لا يخلو سنده عن اعتبار: «لا ينام المسلم و هو جنب، و لا ينام إلا علي طهور، فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد، فإن روح المؤمن تروح إلي اللّه عز و جل.» «2»، و غيرهما.

و منها: سجدة الشكر، ففي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال: «من سجد سجدة الشكر لنعمة و هو متوضئ كتب اللّه له بها عشر صلوات و محا عنه عشر خطايا عظام» «3».

و منها: سجود التلاوة، كما في العروة الوثقي، و لم أقف له علي مستند.

و لا مجال لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه ربما يستفاد من نحو قوله عليه السّلام في رواية أبي بصير: «فاسجد و إن كنت علي غير وضوء» «4»، لظهور ذلك في دفع توهم اعتبار الطهارة قياسا علي سجود الصلاة، لا في كون السجود مع الحدث أقل فضلا، لأن مدخول «إن» الوصلية الفرد الخفي، لا الضعيف. و لعله لذا أمر قدّس سرّه بالتأمل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب سجدتي الشكر حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 42 من أبواب قراءة القرآن حديث: 2.

ص: 204

______________________________

هذا، و العمل علي الاستحباب- لو تمَّ- إنما يكون بقراءة آية السجدة عن طهارة، و عدم الحدث بعدها قبل السجود، لا بالوضوء بعد قراءتها قبل السجود، لإخلاله بالفورية المعتبرة عندهم.

و منها: جلوس القاضي في مجلس القضاء، كما عن النزهة، و صرح في كشف اللثام و الحدائق بعدم العثور علي نص فيه بخصوصه.

و منها: تكفين الميت لمن غسله، كما ذكره غير واحد من القدماء و المتأخرين مخيرين بينه و بين الغسل.

و لم يتضح مستنده- كما اعترف به غير واحد- سواء أريد به تقديم ما يجب بالمس- اللازم من التغسيل غالبا- من وضوء و غسل علي التكفين، أم مشروعية وضوء و غسل آخر له.

و إنما علل في بعض كلماتهم بوجوه استحسانية تقصر عن إفادة المطلوب، و لا سيما مع التصريح في غير واحد من النصوص بتأخير غسل المس و الأمر بغسل اليدين إلي المرفقين و الرجلين إلي الركبتين، كما في موثق عمار «1»، أو بغسل اليدين إلي المنكبين، كما في صحيحي يعقوب بن يقطين «2» و محمد بن مسلم «3».

فراجع.

و منها: دفن الميت، كما صرح به بعضهم. بل في المدارك أنه مروي.

و كأنه لخبر الحلبي و محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام أنه قال: «توضأ إذا أدخلت الميت القبر» «4». لكنه غير ظاهر في استحباب الوضوء قبل الدفن بل بعده، كما يظهر من الوسائل.

نعم، في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام في حديث: «قلت له:

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 35 من أبواب التكفين حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 31 من أبواب الدفن حديث: 7.

ص: 205

______________________________

من أدخل الميت القبر عليه وضوء؟ قال: لا، إلا أن يتوضأ من تراب القبر إن شاء» «1».

و كما يمكن الجمع بينهما بحمل الأول علي الاستحباب، يمكن بحمل الوضوء فيه علي الغسل للتنظيف من التراب.

لكن لا يبعد أولوية الأول، لظهور الثاني في أن الغسل للتنظيف راجع لرغبة المكلف، لا مستحب شرعا، فلا يناسب الأمر بالوضوء في الأول. فلاحظ.

و منها: معاودة الجماع. خصوصا مع تتعدد الموطوءة، بل في المبسوط نفي فيه الخلاف حينئذ.

ففي خبر الوشاء: «قال فلان بن محرز: بلغنا أن أبا عبد اللّه عليه السّلام كان إذا أراد أن يعاود أهله للجماع توضأ وضوء الصلاة، فأحب أن تسأل أبا الحسن الثاني عليه السّلام عن ذلك. قال الوشاء: فدخلت عليه فابتدأني من غير أن أسأله، فقال: كان أبو عبد اللّه عليه السّلام إذا جامع و أراد أن يعاود توضأ وضوء الصلاة، و إذا أراد أيضا توضأ للصلاة» «2».

و في مرسل عثمان بن عيسي [3] عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا أتي الرجل جاريته ثمَّ أراد أن يأتي الأخري توضأ» «4». و ربما يجمع بينهما بحمل المرسل علي التأكد في فرض تعدد الموطوءة.

هذا، و في المنتهي و عن غير واحد استحباب الوضوء للمحتلم إذا أراد الجماع، و في المدارك و عن الذكري أنه مروي و لعله راجع لما في النهاية و عن الوسيلة و الشرائع و النافع و القواعد و عن المهذب و غيره من كراهة الجماع له قبل الغسل و الوضوء.

______________________________

[3] كذا في الوسائل عن التهذيب لكن الموجود في التهذيب و الحدائق و الجواهر و محكي الوافي أنه مرسل ابن أبي نجران.

______________________________

(1) الوسائل باب: 53 من أبواب الدفن حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 155 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

ص: 206

______________________________

لكن لم أعثر في المحتلم علي الرواية المتضمنة لذكر الوضوء، كما صرح به غير واحد.

و استفادته من خبر الوشاء المتقدم بإلغاء خصوصية مورده و حمله علي مطلق الجنب- كما قد يظهر من العروة الوثقي. في غير محلها، بعد ظهور النص في تعين الغسل لخصوصية في الاحتلام يخشي منها علي الولد تقتضي كراهة الجماع حال الجنابة، لا استحباب الطهارة له، كما هو مفاد خبر الوشاء، ففي خبر حماد بن عمر: «يكره أن يغشي الرجل المرأة و قد احتلم حتي يغتسل من احتلامه الذي رأي، فإن فعل فخرج الولد مجنونا فلا يلومن إلا نفسه» «1»، و نحوه غيره.

اللهم إلا أن يقال: المستفاد من نصوص المقام أن في المقام جهتين.

الأولي: تقتضي كراهة الجماع حال الجنابة، و هي التي يخشي منها علي الولد.

الثانية: تقتضي استحباب الوضوء للجنب إذا أراد الجماع. لكن الوضوء لا يزيل الجهة الأولي، خلافا لما يظهر من الأصحاب.

أما الأولي، فالنص المتقدم إنما يكشف عنها في خصوص الاحتلام، بل في كشف اللثام: أنه فرق في الخبر بأن الاحتلام من الشيطان، بخلاف الجماع.

لكن لم أعثر علي الخبر المذكور، و في الرسالة الذهبية المنسوبة للرضا عليه السّلام:

«و الجماع بعد الجماع من غير فصل بينهما بغسل يورث للولد الجنون» «2».

نعم، هو لا يناسب ما تضمنه خبر الوشاء المتقدم و غيره «3» من عود المعصوم عليه السّلام للجماع من غير غسل. إلا أن يحمل علي صورة توقع الولد.

و أما الثانية، فدليلها و إن كان مختصا بالجماع بعد الجماع، إلا أن إلغاء خصوصية مورده و التعدي لغيره من أفراد الجنب- ممن ينزل بالاحتلام أو الملاعبة

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل باب: 117 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 19.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 207

______________________________

أو غيرهما- غير بعيد.

بل لعل المستفاد من النصوص و المناسب لمرتكزات المتشرعة أولوية غير الجماع منه، لاستحبابه و بركته المناسب لضعف حدثيته من بين أفراد الجنابة، خصوصا الاحتلام، فتأمل.

و مما ذكرنا يظهر ضعف ما عن ابن سعيد و استحسنه في كشف اللثام من تقييد الوضوء للمحتلم بصورة تعذر الغسل، إذ لا دليل علي رافعية الوضوء في حقه لكراهة الجماع مع الجنابة حتي مع تعذر الغسل، بل الأنسب التنزل مع الضرورة للتيمم بدلا عن الغسل.

كما أنه لو تمَّ ما ذكرنا في وجه استحباب الوضوء له، فلا وجه لتقييده بتعذر الغسل.

و منها: الوضوء لجماع الحامل، كما ذكره غير واحد. لما في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: «يا علي إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلا و أنت علي وضوء، فإنه إن قضي بينكما ولد يكون أعمي القلب بخيل اليد» «1».

و منها: الوضوء في ليلة الزفاف للزوجين، كما ذكره غير واحد. و استدل له بصحيح أبي بصير: «سمعت رجلا و هو يقول لأبي جعفر عليه السّلام: إني رجل قد أسننت و قد تزوجت امرأة بكرا صغيرة و لم أدخل بها، و أنا أخاف إذا دخلت علي أن تكرهني لخضابي و كبري، فقال أبو جعفر عليه السّلام: إذا دخلت فمرهم قبل أن تصل إليك أن تكون متوضئة ثمَّ أنت لا تصل إليها حتي توضأ، و صلّ ركعتين، ثمَّ مجّد اللّه و صلّ علي محمد و آله، ثمَّ ادع اللّه و مر من معها أن يؤمنوا علي دعائك، و قل.» «2».

لكنه- مع اختصاصه بصورة الصلاة و الدعاء- غير ظاهر في الاستحباب، بل في محض بيان الفائدة. و لا مجال لما تقدم في الوضوء للسعي في الحاجة من أن

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 55 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

ص: 208

______________________________

بيان الفائدة قد يظهر في الأمر المولوي، لأن ذلك مختص بما إذا كان بيان فائدة الشي ء في مقام الحث عليه، لا ما إذا تمحض الكلام في بيان الفائدة، كما في المقام، حيث سيق السؤال لأجل الفائدة المذكورة.

و منها: التهيؤ للصلاة قبل وقتها، كما في الوسيلة و المنتهي و عن نهاية الاحكام و الجامع و النزهة و الدروس و البيان و النفلية و الذكري و غيرها.

و قد يستدل عليه بأمور.

الأول: ما دل علي استحباب الصلاة في أول وقتها من النصوص الكثيرة و عمومات المسارعة للخير [1]، و هو لا يمكن إلا بتقديم الطهارة، كما أشار إليه في المنتهي و غيره.

لكن المراد بذلك إن كان هو استحباب الوضوء قبل الوقت غيريا، لتوقف التعجيل المستحب عليه- كما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه فيندفع- بعد تسليم ثبوت الأمر الغيري بالمقدمة- بأن فعلية الخطاب بتعجيل الصلاة فرع مشروعية أصل الصلاة، فحيث لا تشرع الصلاة قبل الوقت لا يكون الخطاب فعليا، لتجب مقدمته.

و لا مجال للتفكيك بين الأمر النفسي و الغيري في الإطلاق و الاشتراط، كما حقق في محله، فلا يكون الأمر بتعجيل الصلاة مشروطا بالوقت، و الأمر بالوضوء فعليا قبله.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه في المقام- و يجري في سائر المقدمات المفوتة- من إمكان التفكيك بينهما في نحو الإناطة بالشرط، بأن يكون الوقت مثلا مأخوذا في الأمر النفسي بتعجيل الصلاة بنحو الشرط المقارن، و في الأمر الغيري بالوضوء بنحو الشرط المتأخر.

______________________________

[1] كقوله تعالي وَ سٰارِعُوا إِليٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمٰاوٰاتُ وَ الْأَرْضُ. [آل عمران:

133]، و للنصوص المتضمنة الحث علي تعجيل فعل الخير و كراهة تأخيره، التي ذكر بعضها في الباب السابع و العشرين من أبواب مقدمة العبادات من الوسائل.

ص: 209

______________________________

فهو- لو تمَّ في نفسه- مستلزم لوجوب الوضوء غيريا قبل الوقت، تبعا لوجوب الصلاة نفسيا بعده، فيكون الوضوء قبل الوقت للتعجيل بالصلاة في أوله، كالوضوء في أول الوقت للتعجيل بها في تاليه واجبا غيريا، لأنه مقدمة لأفضل أفراد الواجب المقدورة، لا مستحبا كما هو المدعي.

و دعوي: أن التفكيك المذكور مخالف للأصل، و إنما التزم به في استحباب التعجيل لتوقف المطلوب النفسي علي تقديم المقدمة علي الوقت، كما يلتزم به في سائر المقدمات المفوتة.

مدفوعة: بأن نحو تبعية الأمر الغيري للنفسي غير مستفاد من عموم لفظي، ليقتصر في الخروج عنه علي المتيقن، بل هو تابع للمرتكزات العقلائية، فإن لم تمنع المرتكزات من التفكيك في المقدمات المفوتة لم تمنع منه في غيرها.

و خصوصية المقدمات المفوتة في توقف المطلوب النفسي علي تقديمها إنما تقتضي تضيق وقت المقدمة المفوتة و قصره علي ما قبل وقت ذيها مع السعة لما قبل الوقت و بعده في غيرها، لا التخصيص فيه بما بعد الوقت.

هذا، مضافا إلي أنه لا مجال لإيقاع الوضوء بقصد الأمر الغيري المذكور إلا إذا قصد التعجيل بالصلاة في أول الوقت الحقيقي، أما إذا أريد إيقاعها بعد ذلك بمقدار يسع الوضوء أو أكثر فالأمر بالتعجيل بالإضافة إليه لا يقتضي الوضوء قبل الوقت، كما لا يقتضيه الأمر بأصل الصلاة، مع أن ظاهر القائلين بالأمر التهيّئي الإطلاق.

و إن كان هو استحباب الوضوء نفسيا قبل الوقت لأجل القدرة علي التعجيل المستحب، بل تكون القدرة عليه ملحوظة للشارع غرضا و ملاكا للاستحباب النفسي المذكور- كما لعله ظاهرهم في المقام، لجعلهم التهيؤ في قبال الغايات الأخر، لا من صغريات غائية الصلاة.

ففيه: أنه لا وجه لاستكشاف الاستحباب المولوي المذكور، غاية الأمر حسن التهيؤ عقلا، لتوقف امتثال استحباب التعجيل عليه، و ليست إرادة الشارع له

ص: 210

______________________________

إلا كإرادته للامتثال لا تصلح لانتزاع التكليف.

و دعوي: تعذر الطهارة قبل الوقت بدون الأمر المولوي المذكور، لأنها من العبادات المتوقفة صحتها علي التقرب بقصد الأمر، و ليست كسائر المقدمات التوصلية.

مدفوعة. أولا: بما سبق منا في المسألة الواحدة و السبعين من عدم توقف الطهارة علي قصد أمر فعلي بها، بل لا يعتبر فيها إلا التقرب، و هو حاصل في المقام بقصد التهيؤ لامتثال الأمر بتعجيل الصلاة، لأنه نحو من الانقياد، بل يكفي قصد التهيؤ لامتثال الأمر بأصل الصلاة و لو بدون التعجيل، و إن لم يتوقف امتثاله علي تقديم الطهارة علي الوقت، إذ لا يعتبر في التقرب و الانقياد بأحد أفراد المقدمة توقف الامتثال عليه، بل يكفي دخله فيه و لو مع عدم الانحصار به.

و ثانيا: بأنه لو غض النظر عن ذلك، فتطبيق العموم في مورد إذا توقف علي إعمال عناية زائدة علي مفاده لم ينهض العموم بإثباتها، فمفاد العمومات المذكورة إنما هو تعجيل الخير في ظرف مشروعيته و القدرة عليه، لا بنحو يقتضي مشروعيته و الإقدار عليه بتشريع ما يقتضي ذلك.

نعم، إذا كان عدم إعمال العناية مستلزما للغوية العام عرفا، لعدم المورد له، أو لندرة موارده، كشف عن إعمال العناية المذكورة.

و قد لا يكون لذلك مجال في المقام، لإمكان تطبيق عموم التعجيل علي أول الوقت في حق من حصلت له الطهارة قبله بأحد الوجوه المشروعة السابقة، و علي أول أزمنة الإمكان في حق من لم تحصل له.

إن قلت: هذا إنما يتم بالإضافة لعمومات المسارعة، لإمكان حملها علي ما لا يتوقف علي هذا النحو من المقدمات، دون نصوص الأمر بتعجيل الصلاة و الحث علي الإتيان بها في أول الوقت، لوضوح أن الغرض منها إحداث الداعي لتحقيق مفادها.

و حملها علي خصوص من صادف منه الطهارة قبل الوقت، من دون أن

ص: 211

______________________________

تدعو لتقديم الطهارة، بعيد جدا عن مساقها، بل هو نظير الحمل علي الفرد النادر.

و مثله حملها علي إحداث الداعي لتقديم الطهارة بداع آخر مطلوب في نفسه، كالكون علي الطهارة، لأن استقلال الداعي الآخر في الداعوية- كما هو المعتبر في العبادية- في ظرف التوجه لداعي امتثال أمر التعجيل محتاج إلي عناية مغفول عنها، فعدم التنبيه عليها ظاهر في صلوح الخطاب بالتعجيل للداعوية للطهارة قبل الوقت بنفسه، بلحاظ توقفه عليها.

و من ذلك يظهر الإشكال فيما في كشف اللثام من أن الوضوء المتقدم للمحافظة علي الصلاة في أول الوقت هو الوضوء للكون علي الطهارة، و لا معني للتأهب للفرض إلا ذلك.

وجه الإشكال: أن مجرد قصد الكون علي الطهارة في طول قصد الصلاة لا يكفي في المقربية المعتبرة في العبادية، بل لا بد من استقلال أمره في الداعوية، و هو غير حاصل في محل الكلام غالبا، و لا مراد للقائلين باستحباب الوضوء التهيّئي.

قلت: هذا- مع توقفه علي قوة ظهور نصوص التعجيل في الحث علي الأول الحقيقي، بحيث يكون من أفرادها المتيقنة، كما هو غير بعيد في بعضها، و إلا كفي صلوحه للداعوية بالإضافة للأول في الجملة بنحو لا يخل به الوضوء بعد الوقت- لا يقتضي داعوية الأمر النفسي المذكور، ليستلزم تشريعه، بل داعوية نفس الأمر بالتعجيل للتهيؤ لامتثاله بتقديم الطهارة، و هو راجع لما سبق منا من الاكتفاء في الطهارة بالتقرب الحاصل بقصد التهيؤ المذكور و عدم توقفها علي قصد أمر فعلي بها نفسي أو غيري.

الثاني: بعض النصوص الخاصة، ففي المدارك و عن نهاية الاحكام نسبة الحكم للخبر.

و في الذكري: روي: «ما وقّر الصلاة من أخر الطهارة لها حتي يدخل

ص: 212

______________________________

وقتها» [1]، و في صحيح أبي بصير الوارد في ذم الاشتغال بالتجارة عن الصلاة في قصة رجل اسمه سعد: «و كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إذا أقام بلال الصلاة يخرج و سعد مشغول بالدنيا لم يتطهر و لم يتهيأ كما كان يفعل قبل أن يتشاغل بالدنيا.».

لكن الاستدلال بالمراسيل يبتني علي قاعدة التسامح في أدلة السنن، التي هي غير تامة في نفسها، و إنما يحسن متابعتها برجاء المطلوبية، الذي لا يحرز صحة الوضوء معه بناء علي اعتبار قصد الأمر فيه، كما تقدم و يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و أما الصحيح فهو- مع توقفه علي كون المراد بعدم التهيؤ بالطهارة عدم التهيؤ قبل الوقت، لا بعده قبل الإقامة حين مرور النبي صلّي اللّه عليه و آله للصلاة- غير وارد للحث علي التهيؤ ليكون ظاهرا في طلبه شرعا لإحداث الداعي له، بل لحكاية حال سعد بنحو يدل علي المفروغية عن حسن التهيؤ، و لعله بلحاظ حسنه عقلا، لما سبق من أنه نحو من الانقياد.

ثمَّ إن ظاهر مرسل الذكري المفروغية عن صلوح الصلاة لأن تكون غاية للطهارة قبل الوقت، كما ذكرنا، لأنه وارد للحث علي الطهارة للصلاة، لا علي كون المكلف علي طهارة حين دخول الوقت.

غاية الأمر أنه يقتضي الحث عليه شرعا، لا محض حسنه عقلا، كما ذكرنا.

الثالث: ما ذكره في الجواهر من أن المعروف من السلف التأهب للفريضة و المحافظة علي نوافل الزوال و الفجر.

لكن من الظاهر أن المحافظة علي نوافل الزوال و الفجر لا تتوقف علي الوضوء قبل الوقت، بل تتيسر للمتوضئ بعده، لعدم احتياج الوضوء لزمان طويل.

نعم، لا ينبغي التأمل في قيام سيرة المسلمين علي الوضوء قبل الوقت،

______________________________

[1] الوسائل باب: 4 من أبواب الوضوء حديث: 5. و رواه في الذكري في التنبيه الثالث من المسألة الخامسة من الفصل الأول من الباب الثالث في المواقيت و في المطبوع منها: «من أخر الوقت لها.»

و صححناه علي نسخة خطية كما هو الموجود في غير واحد من الكتب الفقهية التي نقلت الحديث.

ص: 213

______________________________

خصوصا في الصدر الأول حين كان الالتزام بصلاة الجمعة و حضور الجماعة شائعا معروفا، لوضوح عدم تيسر حضور الجمع الغفير لذلك مع وضوئهم بعد الوقت، كما هو المناسب أيضا لما تضمن الحث علي الحضور في المسجد قبل الوقت و انتظار الصلاة فيه «1».

و احتمال إتيانهم به لغاية أخري، كالكون علي الطهارة، إنما يتجه في حق قليل منهم ممن يهتم بمراعاة السنن و المستحبات، دون عامة الناس، حيث لا همّ لهم إلا أداء الفريضة.

و دعوي: قصدهم الكون علي الطهارة في طول قصد الفريضة، لارتكاز أنها هي الشرط في الفريضة.

مدفوعة: بأن قصد الكون علي الطهارة لا يكفي في المقربية، إلا مع استقلال الأمر به في الداعوية، و هو لا يحصل لعامة الناس، و إنما يتيسر لبعض الخاصة بإعمال روية و عناية، إذ مع الاندفاع لأجل الصلاة و التوجه لذلك يصعب التجرد لغاية أخري، كما سبق في الوجه الثاني.

و بالجملة: السيرة المذكورة من الوضوح بحد يلحقها بالضروريات.

إلا أنه لا مجال للاستدلال بها علي استحباب الوضوء التهيئي، لأن مرتكزات المتشرعة في السيرة المذكورة علي الإتيان بالوضوء للصلاة، لا لأمر شرعي مولوي آخر بعنوان التأهب للفرض، فالتأهب غاية للمكلف من تقديم الوضوء للصلاة، لا عنوان للوضوء المأتي به، علي أنه موضوع لتكليف مستقل في قبال التكليف به في الصلاة.

و هو شاهد بما سبق منا من الاكتفاء في التقرب المعتبر في الوضوء بقصد التأهب و إن لم يقصد به امتثال أمر فعلي به.

و قد تحصّل من جميع ما تقدم: انحصار وجه صحة تقديم الوضوء للصلاة قبل الوقت بذلك، و لا ينبغي التأمل فيه بعد ما سبق في المسألة الواحدة و السبعين،

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 2 من المواقيت من كتاب الصلاة.

ص: 214

______________________________

و ذكرناه هنا.

بقي في المقام أمران.

الأول: أن الدليل علي الوضوء التهيئي إن كان هو الوجه الأول اختص بما يؤتي به لإدراك الصلاة في أول الوقت الحقيقي، كما ذكرناه آنفا، و إن كان هو أحد الوجهين الأخيرين لم يختص به و عمّ كل وضوء مأتي به قبل الوقت لأجل التهيؤ للصلاة في وقتها، لأن ظاهر المرسل هو استحباب كون المكلف حين دخول وقت الصلاة علي طهارة لها، كما هو مقتضي السيرة المشار إليها أيضا، بل لعل المتيقن منها عدم الصلاة في أول الوقت الحقيقي، لما هو المعلوم من غلبة تأخر صلاة الجمعة و الجماعة العامة قليلا لأجل تكامل الناس.

الثاني: أن الأدلة المتقدمة لو نهضت بإثبات مشروعية الوضوء التهيئي، فلا يعتبر فيه أن يكون قريبا من الوقت، خلافا لما في العروة الوثقي.

و لا مجال لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن ذلك مقتضي عنوان التهيؤ المذكور في كلمات الأصحاب، لعدم مناسبته للاستعمالات العرفية في مثل التهيؤ للضيوف و للموت و للسفر و غيرها.

و منها: التجديد، كما ذكره جماعة، بل في كشف اللثام نفي الخلاف فيه، للنصوص الكثيرة، كمعتبر محمد بن مسلم و أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الوضوء بعد الطهور عشر حسنات، فتطهروا» «1».

و حديث المفضل عنه عليه السّلام: قال: «من جدد وضوءه لغير حدث جدد اللّه توبته من غير استغفار» «2».

و موثق سماعة: «كنت عند أبي الحسن عليه السّلام فصلي الظهر و العصر بين يدي، و جلست عنده حتي حضرت المغرب، فدعا بوضوء فتوضأ للصلاة. ثمَّ قال لي:

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6 و رواه عن محمد بن مسلم في باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 7.

ص: 215

______________________________

توضّ. فقلت: جعلت فداك أنا علي وضوء. فقال: و إن كنت علي وضوء، إن من توضأ للمغرب كان وضوؤه ذلك كفارة لما مضي من ذنوبه في يومه إلا الكبائر، و من توضأ للصبح كان وضوؤه ذلك كفارة لما مضي من ذنوبه في ليلته إلا الكبائر» «1».

و خبر أبي قتادة عن الرضا عليه السّلام: «تجديد الوضوء لصلاة العشاء يمحو لا و اللّه و بلي و اللّه» «2».

و مرسل الفقيه: «و كان النبي صلّي اللّه عليه و آله يجدد الوضوء لكل فريضة و كل صلاة» «3» و غيرها.

و مقتضي إطلاق الأولين و غيرهما عموم مشروعية التجديد للصلاة و غيرها، كما هو صريح بعضهم و مقتضي إطلاق آخرين، بل الأكثر علي ما حكي.

و ما في مفتاح الكرامة من احتمال كون مراد من أطلق التقييد بالصلاة، غير ظاهر، بل ظاهرهم- كإطلاق النصوص- مشروعيته في كل مورد يشرع فيه الوضوء و لو للكون علي الطهارة.

نعم، اقتصر في المنتهي و المفاتيح علي التجديد للصلاة، و زاد في محكي التذكرة سجود الشكر و التلاوة، و أنكرهما عليه في محكي الذكري، و احتمل شرعيته للطواف، و في مفتاح الكرامة أنه لا يبعد عدم استحبابه لنفسه، بل للعبادة.

لكن الجميع لا وجه له مع الإطلاق المذكور. و مجرد اختصاص بعض النصوص بالتجديد للصلاة لا ينافيه، ليلزم تنزيله عليه، غايته البناء علي تأكده للصلاة، و لا سيما الغداة و المغرب و العشاء- كما في الجواهر- لإشعار النصوص المتقدمة بخصوصيتها في الحث عليه. فلاحظ.

كما أن مقتضي إطلاق أكثر النصوص المتقدمة و غيرها عدم اعتبار فاصل

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 9.

ص: 216

______________________________

فعلي- كصلاة و نحوها- و لا زماني في مشروعيته، كما ذكره في الجواهر، و بعدم اعتبار الأول صرح في محكي التذكرة و الذكري.

نعم، ما تضمن منها عنوان التجديد قد يختص بصورة الفصل الزماني، كما أشار إليه في الجملة في مفتاح الكرامة. لكنه لا ينافي المطلق، ليلزم تنزيله عليه.

و منه يظهر ضعف ما عن بعضهم من اعتبار أحد الأمرين.

و أضعف منه ما عن آخرين من التفصيل بين من يحتمل صدور حدث منه و غيره، فيشترط أحد الأمرين في الثاني، دون الأول، لعدم المأخذ له من النصوص.

و الوضوء لاحتمال الحدث ليس تجديديا، بل احتياطيا، و لا دليل علي استحبابه شرعا، بل هو خلاف ظاهر مثل موثق بكير: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا استيقنت أنك قد أحدثت فتوضأ، و إياك أن تحدث وضوءا أبدا حتي تستيقن أنك قد أحدثت» «1».

ثمَّ إنه صرح غير واحد بمشروعية تكرار الوضوء التجديدي، و هو مقتضي إطلاق الأكثر، تبعا لإطلاق بعض النصوص المتقدمة و غيرها.

خلافا لظاهر الصدوق في الفقيه، حيث نزّل نصوص تثنية الوضوء علي التجديد، ثمَّ قال: «و الخبر الذي روي: «أن من زاد علي مرتين لم يؤجر» يؤكد ما ذكرته، و معناه أن تجديده بعد التجديد لا أجر له، كالأذان: «من صلي الظهر و العصر بأذان و إقامتين أجزأه، و من أذن للعصر كان أفضل، و الأذان الثالث بدعة لا أجر له»».

لكن ظاهر نصوص التثنية و التثليث تعدد الغسل في الوضوء الواحد، فهي أجنبية عن التجديد.

نعم، عن الذكري عدم مشروعية تكرار التجديد للصلاة الواحدة، و كأنه لقصور النصوص المتقدمة الواردة في التجديد للصلاة عن إثبات مشروعية

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 217

______________________________

التجديد لها أكثر من مرة لكفايتها في الامتثال.

إلا أنه إنما يقتضي عدم تحقق خصوصية التجديد لها بما زاد علي ذلك، لا عدم مشروعية الزائد من حيثية التجديد الذي تضمنته النصوص الأخر المطلقة.

بقي شي ء، و هو أن التجديد في الطهارة.

تارة: يكون بالوضوء بعد الوضوء.

و اخري: بالوضوء بعد الغسل المجزئ عنه، كغسل الجنابة.

و ثالثة: بالغسل بعد الغسل.

و المتيقن من النص و الفتوي مشروعية الأول.

و عن المجلسي في البحار استظهار مشروعية الثاني، إذا فصل بصلاة، لمعتبر محمد بن مسلم و أبي بصير المتقدم. كما يمكن الاستدلال عليه بإطلاق موثق سماعة المتقدم، لأنه مسوق لدفع توهم قصور العموم المذكور فيه عن المتوضئ، لا لبيان اختصاصه به، و من الظاهر شمول العموم في نفسه للمغتسل.

بل قد يستفاد مما تضمن الحث علي تجديد الوضوء أو الوضوء علي الوضوء، لأن المستفاد منه ارتكازا قابلية الطهارة المسببة عن الوضوء التجديد و التأكيد، مع إلغاء خصوصية سبب حدوثها، و هو الوضوء.

و عن بعضهم احتمال مشروعية الثالث، لإطلاق مرسل سعدان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الطهر علي الطهر عشر حسنات» «1».

و قوّي في الجواهر و غيرها عدم المشروعية فيهما معا. قال: «لظاهر الفتوي»، و كأنه راجع إلي وهن النصوص بإعراض الأصحاب، ففي الحدائق أن ظاهرهم الاختصاص بالأول.

لكن لا مجال لذلك في الثاني، لما أشرنا إليه في وجه الاستدلال بنصوص تجديد الوضوء من قرب إلغاء خصوصية سبب حدوث الأثر الأول، حيث يجري

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 218

______________________________

ذلك في كلامهم، و لا أقل من عدم إحراز بنائهم مع ذلك علي عدم مشروعيته، ليتحقق الإعراض الموهن للنصوص، و لا سيما مع قرب غفلتهم عن ظهور النصوص في العموم، لمأنوسية أذهانهم بالنصوص الواردة في الوضوء بعد الوضوء.

علي أن إعراض الأصحاب في المندوبات و المكروهات لا يصلح غالبا لتوهين النصوص، كما لا يكون عملهم جابرا لضعفها، لبنائهم علي التسامح في بيانها، و في أدلتها.

و أما ما تضمن أن الوضوء بعد الغسل بدعة، فلا ينهض بإثبات عدم مشروعية التجديد، لا لما عن المجلسي من تبادره لصورة عدم الفصل بالصلاة، بل لظهوره في عدم الحاجة له من حيثية الحدث الأكبر، و لا ينافي مشروعيته للتجديد.

و منه يظهر عدم الحاجة للفصل بصلاة، بناء علي ما سبق.

كما ظهر عدم صلوح الإعراض المذكور لتوهين المرسل و رفع اليد عنه لو نهض بإثبات مشروعية الثالث.

فالعمدة وهنه. أولا: بعدم التعرض فيه لما يحقق الطهر إلا بحمله علي العهد، و المتيقن إرادة الوضوء من العهد، و لا طريق لإحراز إرادة جميع الطهارات منه، و لا سيما مع ظهور المفروغية عن عدم إرادة الطهارة من الخبث منه. فلاحظ.

و ثانيا: بضعف السند و ابتناء العمل به علي قاعدة التسامح في أدلة السنن منه، التي سبق غير مرة عدم تماميتها، و إن حسنت متابعتها برجاء المطلوبية.

هذا، و لو نهض المرسل بإثبات مشروعية التجديد بالغسل، فالمتيقن منه مشروعيته للطاهر من الحدث الأصغر، لأن مقتضي إطلاق الطهر الطهر من جميع الأحداث، و يحتاج إثبات مشروعيته مع الحدث الأصغر لفهم ابتناء التجديد

ص: 219

______________________________

بالإضافة للطهارة علي الانحلال.

و لا مجال لتوهم إجزائه عن الوضوء حينئذ، لأن المتيقن من إجزاء الغسل عن الوضوء إجزاؤه إذا ورد علي الحدث الأكبر، لا ما يعم التجديد.

إلا أن يبني علي إجزاء كل غسل عن الوضوء، لكن لا يظن من أحد البناء علي ذلك في الغسل التجديدي.

ثمَّ ان التجديد بالتيمم عند تعذر الوضوء مبني علي عموم بدلية التيمم للتجديد، و هو غير بعيد.

و أما عند تعذر الغسل، فهو مبني علي الكلام في مرسل سعدان المتقدم.

نعم، لا ينبغي التوقف في إمكان التجديد بالوضوء بعد التيمم بدلا عن الغسل المجزئ عن الوضوء، بناء علي ما سبق في التجديد بالوضوء بعد الغسل، لكن لم أعثر علي من تعرض لذلك. فلاحظ.

هذا ما تيسر لنا ذكره في المقام من الوضوءات المستحبة.

و بقي منها ما يأتي التعرض له في محل آخر، كالوضوء لنوم الجنب و أكله و شربه و مع غسله، الذي يأتي الكلام فيه في مبحث الجنابة، و الوضوء لذكر الحائض في وقت الصلاة الذي يأتي الكلام فيه في مبحث الحيض، كما يأتي فيه الكلام في الوضوء للحدث الأكبر غير الجنابة، الذي هو راجع للكلام فيما يستحب منه الوضوء، لا ما يستحب له، و توضئة الميت مع تغسيله، الذي يأتي الكلام فيه في مبحث تغسيل الميت، و الوضوء للأذان و الإقامة، الذي يأتي الكلام فيه في كتاب الصلاة إن شاء اللّه تعالي.

كما أن بعض ما ذكره من الوضوءات المستحبة راجع إلي ما يستحب الوضوء منه، الذي تقدم الكلام فيه في النواقض.

و ربما فاتنا التنبيه علي بعض الوضوءات المستحبة، و نسأله سبحانه العون و التوفيق.

ص: 220

______________________________

تنبيهان:

الأول: الوضوءات المذكورة إن كان دليلها معتبرا في نفسه، فلا إشكال في البناء علي صحتها و ترتب الأثر عليها، و إلا كان استحبابها مبنيا علي قاعدة التسامح في أدلة السنن، التي تقدم عدم تماميتها، و لا مجال لدعوي انجبار ضعف الدليل بعمل الأصحاب لو تمَّ، لما أشرنا إليه آنفا من عدم صلوح عملهم لذلك في المستحبات و المكروهات.

و حينئذ لا مجال للبناء علي صحة الوضوء و ترتب الأثر عليه بناء علي اعتبار التقرب فيه بقصد الأمر، بل لا بد في ترتيب الأثر عليه من الإتيان به لغاية أخري معلومة المشروعية، بنحو تكون مستقلة في الداعوية، و إنما يتجه البناء علي الاكتفاء فيه بقصد الغايات المتقدمة بناء علي ما سبق منا من الاكتفاء في عبادية الوضوء بقصد القربة بأي وجه اتفق، علي ما سبق التعرض له في المسألة الواحدة و السبعين في الفصل الثالث. فراجع.

الثاني: أن الوضوءات المتقدمة إن كانت مستحبة لاستحباب غاياتها- كالوضوء للكون علي الطهارة أو في المسجد و لقراءة القرآن- فلا إشكال في مقربيتها و الاكتفاء في عباديتها بقصدها.

و إن كانت رافعة لكراهة بعض الأمور- كما لعله ظاهر النص الوارد في الوضوء لجماع الحامل- ابتنت الصحة مع قصدها علي ما سبق في الوضوء للمس في المسألة السابعة و التسعين.

و كذا لو كانت مستحبة لاستحباب الطهارة في حال أمر لاحق غير مأمور به حين إيقاع الوضوء، فقد تقدم هناك الكلام فيه.

ص: 221

مسألة 101 إذا دخل وقت الفريضة يجوز الإتيان بالوضوء بقصد فعل الفريضة

مسألة 101: إذا دخل وقت الفريضة يجوز الإتيان بالوضوء بقصد فعل الفريضة (1)، كما يجوز الإتيان به بقصد الكون علي الطهارة، و كذا يجوز الإتيان به بقصد الغايات المستحبة الأخري (2).

______________________________

كما أن ما يكون مطلوبا للمكلف بلحاظ الأثر الوضعي يبتني قصد أثره علي ما سبق في الوضوء لقضاء الحاجة. فراجع.

(1) و هو المتيقن منهم و من النصوص و السيرة، لتحقق التقرب المعتبر في الوضوء بقصدها، لما فيه من الانقياد بالشروع في امتثال التكليف بالفريضة.

و هو ظاهر، بناء علي ما سبق منا في المسألة الواحدة و السبعين من عدم اعتبار قصد أمر فعلي في عبادية الوضوء.

و أما بناء علي اعتبار ذلك، فلا بد من رجوع قصد فعل الفريضة إلي قصد الأمر الغيري الناشئ من قبل الأمر بالفريضة، بناء علي ثبوت الأمر الغيري بالمقدمة، و أما بناء علي عدمه- كما هو التحقيق- فلا بد من كون مرجع اعتبار قصد الأمر في الوضوء إلي ما يعم الأمر النفسي له عقلا بسبب مقدميته لامتثاله، لما ذكرناه من عدم الإشكال بقصد الفريضة.

هذا، و قد سبق في الوضوء التهيئي الاكتفاء بقصد فعل الفريضة حتي في الوضوء المأتي به قبل الوقت.

كما أن الكلام في غير الفريضة من الغايات الواجبة عند اجتماعها مع الغايات المستحبة هو الكلام فيها.

و أما تعدد الغايات الواجبة، فيظهر الحال فيه مما يأتي في قصد الغايات المستحبة.

(2) من الظاهر أن فعلية وجوب الفريضة بعد الوقت لا تنافي فعلية استحباب الغايات المذكورة، لتعدد الموضوع، فلا يلزم اجتماع الضدين، كما لا تلازم بينها بنحو يستلزم لغوية استحبابها مع وجوب الصلاة، أما في غير الكون

ص: 222

______________________________

علي الطهارة من الغايات المذكورة- كقراءة القرآن و دخول المساجد- فظاهر، و أما فيه فلأن الصلاة و إن كانت مستلزمة له في الجملة، إلا أنها تستلزمه بقدرها في بعض أجزاء الوقت، و المستحب منه هو الكون علي الطهارة في كل آن، فلا يلغو استحبابه بالنحو المذكور مع وجوبها.

نعم، قد يتوجه ذلك في آخر الوقت لمن لم يصل، حيث يتعين عليه فعل الصلاة حينئذ، و هو مستلزم للكون علي الطهارة فيه، كما يتوجه في غير الكون علي الطهارة مما يزاحم الفريضة، و يظهر الحال فيه مما يأتي. و الكلام فعلا في غيره.

فنقول: لا ينبغي التأمل في صحة الوضوء بقصد الغاية المستحبة، بناء علي عدم اعتبار قصد الأمر به- كما تقدم- لكفاية ذلك في التقرب، لما فيه من الانقياد بالشروع في امتثال الغاية المستحبة.

و كذا بناء علي اعتبار قصد الأمر الفعلي، لما سبق من أن المراد بالأمر ما يعم الأمر النفسي بما يتوقف عليه، و قد عرفت فعلية الأمر بالغاية المستحبة في وقت الفريضة.

و أما بناء علي لزوم قصد أمره، و أن قصد الغاية المأمور بها نفسيا عند الوضوء راجع إلي قصد الأمر الغيري المترشح عليه منها، فقد يدعي امتناع قصد الغاية المستحبة بعد دخول وقت الفريضة، لصيرورة الوضوء مجمعا للأمرين الغيريين، الوجوبي و الاستحبابي، تبعا للأمرين النفسيين بالفريضة و الغاية المستحبة، و حيث يمتنع اجتماع الأمرين المذكورين في موضوع واحد، لتضادهما، تعين اندكاك الأمر الاستحبابي بالوجوبي، و لا يكون الأمر الفعلي بالوضوء إلا الوجوبي، و لا مجال مع ذلك لقصد الغاية المستحبة الراجع لقصد أمرها، لعدم ثبوته.

لكنه يندفع. أولا: بأنه موقوف إما علي القول بعدم اختصاص الأمر الغيري بالمقدمة الموصلة، أو علي فرض إيقاع الصلاة بالوضوء المذكور، أما بناء علي ما

ص: 223

______________________________

هو التحقيق من اختصاصه بالموصلة فلو لم تترتب الصلاة علي الوضوء المأتي به فهو غير واجب غيريا، بل مستحب لا غير.

بل لا يظن بأحد البناء علي عدم جواز قصد الاستحباب بالوضوء الذي لا يعلم بترتب الفريضة عليه و لا تقصد منه، بل يراد به الغايات المستحبة.

و إلا لزم تعذر الغايات المذكورة لتعذر الوضوء، لأنه و إن كان متصفا بالوجوب الغيري، بناء علي اتصاف غير الموصلة به، إلا أنه لا يصلح للمقربية المعتبرة فيه، لأن مقربية امتثال الأمر الغيري مشروطة بقصد التوصل به لامتثال الأمر النفسي بلا إشكال.

و ثانيا: بأن اندكاك الاستحباب بالوجوب مختص بما إذا اتفق موضوعاهما في الإطلاق و التقييد، أما إذا اختلفا فلا مجال له، لتعدد الموضوع حقيقة، بلحاظ أن المطلق بحده مباين للمقيد، و كذا المقيدان مع اختلاف قيديهما سعة و ضيقا، و هو الحال في كثير من فروض المقام، لوضوح أن وجوب الوضوء غيريا المترشح من وجوب الصلاة راجع إلي التكليف به موسعا في تمام أجزاء الوقت.

أما استحبابه الغيري المترشح من الغايات المستحبة، فلا بد أن يكون بالنحو المناسب لها، إما مضيقا في الآن الأول فالأول، كما في استحبابه للكون علي الطهارة أو في المسجد، و لقراءة القرآن و نحوها، أو بنحو آخر من التضييق، كما في استحبابه للنافلة التي وقتها أضيق من وقت الفريضة، أو للنوم، أو غير ذلك.

و إلا فلا مجال للالتزام بأن نتيجة اجتماع الاستحباب المضيق و الوجوب الموسع في المقام ثبوت الوجوب فقط، إذ لو كان مضيقا لم يناسب ملاكه، و إن كان موسعا لزم عدم اقتضاء استحباب الغاية المضيقة- الذي عرفت فعليته- فعل مقدمتها.

إن قلت: يمكن الالتزام بوجوب الوضوء موسعا لا غير، مع استحباب تعجيله، لا استحباب نفسه، ليتجه قصد الاستحباب به.

قلت: الحكم تابع للملاك، و من الظاهر أن ملاك الأمر الغيري هو المقدمية

ص: 224

______________________________

للمأمور به النفسي، و ما هو المقدمة للغاية المستحبة ليس هو التعجيل، بل نفس الوضوء المعجل به، حيث تترتب عليه الغاية المستحبة، كما تترتب عليه الغاية الواجبة.

إن قلت: المطلق و إن كان مباينا للمقيد بحده، إلا أنهما متحدان في الخارج، و حيث كان الوضوء الواقع بعد الوقت فردا للواجب الغيري لإمكان ترتب الفريضة عليه امتنع استحبابه مع ذلك.

قلت: امتناع اجتماع الأحكام التكليفية لتضادها إنما هو بلحاظ مقام الجعل و الخطاب، حيث ترد علي الماهيات الكلية القابلة للإطلاق و التقييد، لا بلحاظ مقام الامتثال بالفعل الخارجي، فإنه ظرف سقوط التكليف لا ثبوته.

و ليست هي كالأحكام الوضعية و الأعراض الخارجية، كالزوجية و الرقية و البياض و الحرارة، العارضة علي الأفراد الخارجية دون الماهيات الكلية.

فغاية ما يلزم في المقام امتثال كلا الحكمين بالوضوء الخارجي الواحد، لا اتصافه بهما.

و تمام الكلام في ذلك في مبحث اجتماع الأمر و النهي، و قد أشرنا إلي طرف منه في مبحث تداخل الأغسال في المسألة الثالثة و السبعين، فراجع و تأمل.

و ثالثا: بأن الوجوب و الاستحباب لما كانا مشتركين في الاقتضاء و الطلب و مختلفين في الإلزام و عدمه، فاندكاك الاستحباب بالوجوب عند اجتماعهما إنما هو بمعني ارتفاع عدم الإلزام الذي به امتياز الاستحباب، مع بقاء الطلب و الاقتضاء الناشئ من قبله، لعدم التنافي بينه و بين الطلب و الاقتضاء الناشئ من الوجوب، بل يتأكد أحدهما بالآخر، كما لو اجتمعت جهتان للوجوب أو للاستحباب.

و من الظاهر أن منشأ التقرب بالاستحباب مع انفراده هو الطلب و الاقتضاء، لا عدم الإلزام، فلا يكون اندكاك الاستحباب بالوجوب في المقام مانعا من التقرب به، لبقاء منشأ التقرب معه، كما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و ربما يرجع إليه ما عن السلطان من استحباب الوضوء في كل وقت حتي

ص: 225

______________________________

وقت الفريضة، كما يحتمل رجوعه لما سبق في الوجه الثاني.

نعم، لو قصد التقرب بالاستحباب مقيدا بوجوده الاستقلالي و بحده غير المندك في الوجوب، اتجه البطلان مع الغض عن الوجهين السابقين.

لكنه محتاج إلي عناية خاصة- كما سبق نظيره في المسألة الواحدة و السبعين- و خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في قصد الغاية المستحبة من حيث هو.

و من هنا ظهر الحال فيما لو ضاق وقت الفريضة حيث يكون استحباب الكون علي الطهارة لغوا، كما سبق، فإن لغوية الاستحباب حينئذ إنما هي بمعني لغوية الحكم بعدم الإلزام، لا بمعني لغوية الطلب و الاقتضاء، الذي هو ملاك التقرب فيه، بل هو باق مع وجوب الفريضة، غير لاغ، لأنه موجب لتأكيد الداعوية نحو الفعل.

و أما الغايات المستحبة المزاحمة للفريضة، و التي عرفت سقوط أمرها، فتبتني صحة الوضوء بقصدها إما علي الأمر الترتبي، أو إمكان التقرب بالملاك، و كلاهما تام، علي ما حرر في مسألة الضد.

هذا كله مع الالتفات للحال، أما مع الغفلة عن وجوب الفريضة و تخيل فعلية الغاية المستحبة لا غير، فلا يتوقف تصحيح الوضوء علي ما تقدم، لما سبق في المسألة الواحدة و السبعين من الاكتفاء في الوضوء بالتقرب و لو بقصد أمر متخيل لا واقع له، فراجع.

ثمَّ إن ما سبق مبني علي عدم اعتبار نية الوجوب و الندب في الوضوء، و أما بناء علي اعتبار نية أحد الأمرين، فظاهر القائلين به إرادتهم من الندب هو الندب غير المجامع للوجوب- كما فيما قبل الوقت- أما المجامع له- مع الاندكاك أو بدونه، علي الكلام السابق- فلا يكفي قصده، لظهور كلامهم في التفصيل القاطع للشركة، فلا يجوز مع الوجوب نية الندب و إن كان ثابتا في الجملة.

لكن أدلتهم المتقدمة قد تقصر عن ذلك، بل تناسب الاكتفاء بنية الندب في

ص: 226

______________________________

محل الكلام.

و الأمر سهل بعد ما سبق في مباحث النية من عدم تمامية المبني المذكور و أنه يكفي التقرب، الذي عرفت حصوله بقصد الغاية المندوبة في المقام.

بقي في المقام شي ء، و هو أنه وقع الكلام بين الأصحاب في أن الوضوء المأتي به لغاية هل يجوز الدخول به في بقية الغايات، أو لا؟ و قد اضطربت كلماتهم في ذلك و كثرت الأقوال المنقولة فيه بما لا مجال لاستقصائه و إطالة الكلام فيه، بل ينبغي التعرض لأمرين يتضح منهما الحال في ذلك.

الأول: الظاهر أن كل وضوء وارد علي الحدث الأصغر مع الطهارة من الأكبر موجب للطهارة من الحدث الأصغر، بأي غاية وقع، فإن أدلة كثير من وضوءات الغايات قد تضمنت إفادتها الطهارة، و من القريب جدا إلغاء خصوصية مواردها، كما هو المناسب للمرتكزات، و لا سيما بملاحظة ما تقدم في استحباب الكون علي الطهارة من أن تسمية الأفعال المخصوصة بالوضوء إنما هو بلحاظ سببيتها للطهارة.

مضافا إلي أنه المستفاد من سبر النصوص الكثيرة.

منها: ما تضمن انتقاض الوضوء بالنواقض المذكورة و عدم انتقاضه بغيرها، لوضوح أنه لا يصح نسبة الانتقاض للوضوء إلا بلحاظ أثره القابل للاستمرار، و ليس أثره المقصود إلا الطهارة، كما يظهر بأدني نظر في النصوص و بالتأمل في المرتكزات.

و لا سيما مع التصريح بأن أثره الطهارة منها فيما عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام بسند لا يخلو عن اعتبار من قوله: «إنما وجب الوضوء مما خرج من الطرفين. لأن الطرفين هما طريق النجاسة. فأمروا بالطهارة عندما تصيبهم تلك النجاسة من أنفسهم.» «1».

و منها: ما تضمن إطلاق الموجب علي النواقض، لوضوح أنه لا يراد به

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 227

______________________________

وجوبه بها تكليفا، بل تحقق موضوعه و هو الحدث المرتفع به، فتأمل.

و منها: ما تضمن التعبير بكون المكلف علي وضوء، لظهور أن ما هو القابل للاستمرار هو الأثر، الذي عرفت أنه الطهارة.

و مثله ما تضمن التعبير عنه بأنه متوضئ، لوضوح عدم إرادة صدور الوضوء منه و لو تعقبه الحدث، بل كونه علي وضوء و طهارة.

و منها: ما تضمن إطلاق الطهور و الطهارة علي الوضوء، و هي نصوص كثيرة لا مجال لاستقصائها كقوله عليه السّلام: «الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهروا» «1»، و هو الذي أشير إليه في ذيل آية الوضوء و الغسل و التيمم بقوله تعالي:

وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ «2»، و غير ذلك.

فإن بعضها و إن ورد في موارد خاصة إلا أن استفادة العموم من مجموعها قريب جدا، بل هو الظاهر من الطائفة الأولي، لظهورها في انتقاض كل وضوء به الملازم لكونه ذا أثر قابل للانتقاض.

فلا ينبغي التأمل بلحاظ جميع ما تقدم في العموم المذكور.

إن قلت: هذا قد يتم في الوضوء المأتي به للغايات المعلومة المشروعية، دون ما لم تثبت مشروعيته و إنما يؤتي به برجاء المطلوبية أو بتخيل أمر لا واقع له، حيث لا طريق لإثبات ترتب الطهارة عليه، لاختصاص ما تقدم بالوضوء المشروع.

قلت: عدم مشروعية الوضوء بالخصوصية المقصودة حين الإتيان به لا ينافي مشروعيته للكون علي الطهارة أو غيره من الغايات المشروعة، و مقتضي العموم المتقدم ترتب الطهارة عليه و إن لم يقصد أمر تلك الغايات به، لعدم الدليل علي اعتبار قصده في ترتب الطهارة عليه.

علي أن مقتضي أدلة النواقض مشروعيته و تحقق موضوعه و إن لم يكن مأمورا به، و مقتضي أدلة شرحه و تحديده بالغسلتين و المسحتين تحققه و ترتب

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

(2) سورة المائدة: 6.

ص: 228

______________________________

أثره و هو الطهارة بها.

غاية ما دل عليه الإجماع اعتبار القربة فيه، و هي لا تتوقف علي اعتبار الأمر به، فضلا عن إحرازه، بل يكفي فيها احتماله و الاعتقاد به و لو خطأ.

فمشروعيته التي لا بد منها هي تحقق موضوعه المعلوم في المقام، لا ورود الأمر به، ليقدح عدم إحرازه.

و مما ذكرنا يظهر تحقق الطهارة بالوضوء الوارد علي الطهارة من الحدث الأصغر، و هو التجديدي، لأنه وضوء أيضا منتقض بالحدث، كما ينتقض غيره بمقتضي إطلاق أدلة النواقض، كما يناسبه التطهر عليه في معتبر محمد بن مسلم و أبي بصير المتقدم، و قد سبق في أواخر المسألة الواحدة و السبعين أن الوضوء الرافع و التجديدي ماهية واحدة مشتركة في أثر واحد قابل للتأكد، فراجع.

بل الظاهر أن الوضوء الوارد علي الحدث الأكبر إما موجب للطهارة من الحدث المقارن له، كالوضوء لمعاودة الجماع و لنوم الجنب، أو لتخفيفه، كما في وضوء الحائض وقت الفريضة- نظير وضوء المسلوس- و لذا لا إشكال ظاهرا في انتقاضه بالحدث، بنحو يمنع من ترتب الأثر المقصود منه عليه، كما هو مقتضي إطلاق نصوص النواقض. و هو المناسب للتعبير عنه في بعض نصوصه بالتطهر.

الثاني: أن تشريع الوضوء لجميع الغايات المأمور بها و غيرها ليس بلحاظ نفسه، بل بلحاظ أثره- و هو الطهارة- عليه، كما هو الظاهر من الأمر بالطهارة في بعضها، و بكون المكلف علي وضوء أو متوضئا في آخر، و بكلا الأمرين في ثالث، و هو الغالب في الغايات المذكورة، بل الظاهر- كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه- أن جميع أدلة الوضوءات المأمور بها في حال الحدث الأصغر دون الأكبر التي وصلتنا قد تضمنت ذلك.

نعم، بعض النصوص الواردة في الوضوء حال الحدث الأكبر لم تتضمن إلا الأمر بالوضوء، كما ورد في الوضوء لتغسيل الجنب للميت و جماع المغسل له،

ص: 229

مسألة 102 من سنن الوضوء وضع الإناء الذي يغترف منه علي اليمين

مسألة 102: سنن الوضوء- علي ما ذكره العلماء رضي اللّه عنهم- وضع الإناء الذي يغترف منه علي اليمين (1)،

______________________________

و معاودة الجماع.

إلا أن الظاهر رجوعه له أيضا، لأنه المنصرف منه ارتكازا، و لعدم الإشكال ظاهرا في استيناف الوضوءات المذكورة بالحدث الأصغر قبل فعل غاياتها، كما هو مقتضي إطلاق أدلة النواقض.

و قد تقدم في الوضوء للكون علي الطهارة ما له نفع في المقام، فراجع.

إذا عرفت هذا، ظهر أن الوضوء المأتي به لغاية يجوز الدخول به في غيرها من الغايات، من دون فرق بين الصلاة و غيرها، و لا بين الغاية الواجبة و غيرها، لأنه إذا كان الوضوء موجبا للطهارة، و كانت هي الشرط في جميع الغايات، تعين جواز إيقاع تلك الغايات بذلك الوضوء ما لم ينتقض بالحدث.

نعم، لا بد من عدم مانع آخر من إيقاع الغاية، كالحدث الأكبر المانع من كثير من غايات الوضوء، و إن شرع الوضوء حينه لبعض الغايات، حيث لا ينفع الوضوء المذكور إلا للغايات المشروعة حينه، فلو توضأ الجنب للجماع اكتفي به للجماع أو النوم، دون الصلاة.

و بما ذكرنا يظهر ضعف الخلاف في عموم ذلك من بعضهم، كما يظهر ضعف أدلتهم بالنظر فيها.

و لا يسعنا التعرض لأدلتهم و إطالة الكلام فيها بعد ما ذكرنا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم، و منه نستمد العون و التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

(1) فقد أطلق جماعة من الأصحاب استحباب وضع الإناء علي اليمين، و في المدارك أنه المشهور، بل في المعتبر و عن الذكري أنه مذهب الأصحاب.

لكن في المعتبر أن المراد به الإناء الذي يغترف منه باليد، لا الذي يصب منه، بل في المدارك و عن نهاية الاحكام و جملة من الأصحاب تخصيصه بذلك،

ص: 230

______________________________

و أنه إذا كان ضيق الرأس فالمستحب وضعه علي اليسار، و في الجواهر: «و لعل إطلاق كثير منهم استحباب وضعه علي اليمين مبني علي استحباب كون إناء الوضوء مما يغترف منه».

و كيف كان، فقد يستدل عليه.

تارة: بالنبوي المرسل في المعتبر و غيره: «قال صلّي اللّه عليه و آله: إن اللّه يحب التيامن في كل شي ء» «1»، و ما روته العامة عن عائشة: «كان النبي يعجبه التيمن في تنعله و ترجله و طهوره و في شأنه كله» «2».

و اخري: بأنه أمكن في الاستعمال و أدخل في الموالاة، و لا سيما بناء علي ما يأتي من استحباب الاغتراف باليمين. و لعله لذا خصه بعضهم بما يغترف منه، دون ما يصب منه، حيث يكون الأسهل وضعه علي اليسار، كما قيل.

و يشكل الأول: بظهور التيامن و التيمن في العمل باليمين و البدء بها، كما في التطهير و الترجل و التنعل، لا ما يعم وضع الشي ء علي اليمين.

و الثاني- مع عدم اطراده-: بعدم وضوح الدليل علي استحباب الأسهل و الأمكن، و إن ذكر ما في المعتبر من أنه نوع من تدبير.

نعم، في الجواهر: «و كأنه إشارة إلي ما ورد في الأخبار- علي ما قيل-: إن اللّه يحب ما هو الأيسر و الأسهل». لكن لم نطلع علي الأخبار المذكورة ليتضح مفادها.

و أما ما في المدارك و عن الأردبيلي من أن الأولي العمل بما تضمنه صحيح زرارة الحاكي لوضوء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: «فدعا بقعب فيه شي ء من ماء فوضعه بين يديه» «3».

فيشكل: بأن الصحيح وارد لبيان نفس الوضوء الواجب، دون آدابه

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 30 من أبواب الوضوء حديث: 3 و المعتبر ص 43.

(2) عن صحيح البخاري باب التيمن في الوضوء.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 231

______________________________

و مقارناته، فلا يكون وضع الإناء بين اليدين دالا علي استحبابه، فضلا عن أن ينافي استحباب وضعه علي اليمين أو يخصصه بما يناسب الأمرين.

و منه يظهر ضعف ما في الجواهر من الاستدلال بنصوص الوضوءات البيانية علي استحباب كون الإناء مما يغترف منه، الذي تقدم منه توجيه إطلاق الأصحاب به.

هذا، و لو لم يكن الوضوء من الإناء، بل من نهر أو حوض أو حنفية أو غيرها، كان استحباب جعلها في جانب اليمين أو الاغتراف منها من الجانب المذكور أشكل، و إن احتمله في الجواهر.

و اعلم أنهم كما ذكروا استحباب وضع الإناء علي اليمين ذكروا استحباب الاغتراف بها، بل في المعتبر و عن الذكري نسبته للأصحاب.

و يقتضيه- مضافا إلي النبويين المتقدمين، بناء علي ما سبق فيهما- ما في صحيح ابن أذينة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث المعراج: «فدنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من صاد، و هو ماء يسيل من ساق العرش الأيمن، فتلقي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الماء بيده اليمني، فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين» «1».

فما حكاه في مفتاح الكرامة عن المجمع من عدم الدليل علي استحبابه في غير محله.

نعم، ربما يدعي قصور ما تقدم عن الاغتراف لغسل اليمني، لأن النبويين إنما ينهضان بترجيح اليمين عند الدوران في العمل الواحد بينها و بين اليسار، لا في مثل المقام، حيث لا بد من أخذ الماء باليسار، و إنما الشك في استحباب زيادة عمل، و هو أخذه أولا باليمين و إفراغه فيها.

و أما الصحيح، فهو إنما ينهض باستحباب أخذ الماء باليمني للوجه، دون غيره، لأنه التناول الأول الذي حكي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و فرض كونه منشأ للاستحباب.

فلا مجال للبناء علي استحباب الاغتراف باليمني لغسلها، و لا سيما مع اشتمال

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 232

______________________________

غير واحد من نصوص الوضوءات البيانية «1» علي الاغتراف له باليسري.

و يشكل: بأن أخذ الماء باليسري لا يكون عملا بها عرفا إذا كان بنحو الصب فيها، بل يختص بما إذا كان بنحو التناول أو الاغتراف، فمع دوران الأمر بين الاغتراف باليمني و الصب باليسري و الاغتراف باليسري رأسا، يكون مقتضي النبويين استحباب الأول.

كما أن ظاهر الصحيح استحباب أخذ الماء باليمين لجميع أجزاء الوضوء، و إلا كان المناسب التنبيه علي خلاف ذلك في بعضها لمسيس الحاجة لذلك، و ليكن ذلك قرينة علي كون عمله صلّي اللّه عليه و آله كذلك، و إن لم ينبه صريحا لغير تناوله الأول. و أما نصوص الوضوءات البيانية، فهي لا تنهض دليلا في المقام، لما تقدم.

و لا سيما مع ما في صحيح محمد بن مسلم من قوله: «ثمَّ أخذ كفا آخر بيمينه فصبه علي يساره فغسل به ذراعه الأيمن» [2]. فإن تعمده عليه السّلام لذلك مع مخالفته لمقتضي الطبيعة ظاهر جدا في رجحانه، فيتعين الخروج به عن النصوص المتضمنة الاغتراف باليسري لو فرض ظهورها في استحباب ذلك بدوا، و حملها علي الجري علي الوضع الطبيعي من دون تصد لبيان المستحب في ذلك، بل الواجب لا غير.

و من ثمَّ كان استحباب ما تضمنه قويا جدا، كما نسبه في جامع المقاصد للأصحاب.

هذا، و مقتضي صحيح ابن أذينة عموم استحباب أخذ الماء باليمني لغير

______________________________

[2] الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 7. و نقل نحوه سيدنا المصنف قدّس سرّه في صحيح زرارة و بكير. لكنه مروي في الكافي هكذا: «ثمَّ غمس كفه اليسري فغرف بها غرفة فأفرغ علي ذراعه اليمني.» [الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3].

و في التهذيب و الاستبصار هكذا: «ثمَّ غمس كفه اليمني في الماء فاغترف بها من الماء فغسل يده اليمني من المرفق.». [الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 11].

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء الأحاديث: 22، 3، 4، 6، 10.

ص: 233

و التسمية (1)،

______________________________

الاغتراف، و لا سيما مع كون مورده التلقي.

فلا مجال لما يظهر من جامع المقاصد من اختصاصه بصورة الأخذ بالاغتراف، و إن اقتصر الأصحاب عليه.

(1) كما ذكره جماعة كثيرة، بل في الغنية و المعتبر و المنتهي و عن الذكري و غيرها الإجماع عليه.

للنصوص المستفيضة «1»، و في كثير منها أن من سمّي طهر جسده كله و كان كمن اغتسل، و من لم يسم لم يطهر منه إلا ما أصابه الماء.

بل مقتضي ما تضمنه بعضها من أن من لم يسم علي وضوئه و غيره من عمله كان للشيطان فيه شرك، كراهة تركها.

هذا، و في مرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إن رجلا توضأ و صلي، فقال له رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: أعد وضوءك و صلاتك، ففعل و توضأ و صلي، فقال له النبي: أعد وضوءك و صلاتك، ففعل و توضأ و صلي، فقال له النبي صلّي اللّه عليه و آله:

أعد وضوءك و صلاتك، فأتي أمير المؤمنين عليه السّلام فشكا ذلك إليه، فقال له: هل سميت حيث توضأت؟ قال: لا. قال: سمّ علي وضوئك، فسمي و توضأ و صلي، فأتي النبي فلم يأمره أن يعيد» «2». و مقتضي الأمر بالإعادة فيه شرطية التسمية.

و لا مجال للإشكال فيه بالإرسال، لما تقدم في تحديد الكر من حجية مراسيل ابن أبي عمير.

و كذا حمل التسمية فيه علي النية- كما صنعه الشيخ في التهذيب و الاستبصار- لمخالفته للظاهر جدا، بل يمتنع عادة عدم تحقق النية من الرجل المذكور.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 6.

ص: 234

______________________________

كما أن حكاية الصادق عليه السّلام له لا تناسب كونه منسوخا، و إن احتمله في الوسائل.

نعم، هو لا ينهض بإثبات الشرطية بعد ظهور تسالم الأصحاب علي عدمها، المطابق للسيرة القطعية، و للنصوص المتضمنة أن من لم يسم لا يطهر منه إلا ما أصابه الماء، فإنه صريح في ترتب الأثر علي طهارته و عدم فسادها.

و من ثمَّ يقرب حمله علي الاستحباب، بل لعله الأنسب بلسانه في نفسه، لأن المهتم بالامتثال لا يترك الشرط إلا غفلة عن شرطيته، فيكفي تنبيهه عليها بأيسر طريق، أما تارك المستحب فكثيرا ما يتركه تسامحا فيه أو استهوانا له، فيناسبه إظهار شدة الاهتمام به بمثل هذا البيان الذي ليس من شأنه أن يغفل عنه.

و لا موجب مع ذلك لحمله علي التقية- حيث حكي عن بعض العامة القول بالوجوب- و إن جعله في الجواهر أولي و استشكل في العمل بمضمونه بالنسبة لمشروعية إعادة الوضوء و الصلاة لترك هذا المستحب.

بقي في المقام أمران.

الأول: حكي عن الذكري أنه لو ترك التسمية ابتداء عمدا أو سهوا أتي بها متي ذكر، و عن التذكرة و نهاية الاحكام التردد مع العمد، و في المنتهي: «لو فعلها خلال الطهارة لم يكن قد أتي بالمستحب».

أما النصوص، فهي مختلفة الألسنة، ففي جملة منها التعبير بالتسمية علي الوضوء، و في صحيح معاوية بن عمار: «فإذا توضأت فقل: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، اللهم.» «1»، و في مرسل ابن أبي عمير: «إذا سميت في الوضوء.» «2»، و في خبر أبي بصير و مرسل الصدوق: «من توضأ فذكر اسم

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 235

______________________________

اللّه.» «1».

و لا إشكال في شمول ما عدا الأول للتسمية في الأثناء، بل لا يبعد شمول الأول لها، و معه لا مجال لما سبق من المنتهي، و لا سيما مع ما ورد في آداب المائدة من مشروعية تدارك التسمية في الأثناء «2»، و هو المناسب للارتكاز هنا.

نعم، تضمن غير واحد من النصوص التسمية حين وضع اليد في الماء عند الاستنجاء مقدمة للوضوء «3»، و عند الوضوء «4»، و بعد الشروع في غسل الوجه «5» و في أول الوضوء «6»، بل في حديث الأربعمائة: «لا يتوضأ الرجل حتي يسمي، يقول قبل أن يمس الماء: بسم اللّه و باللّه.» «7».

إلا أنها لا تنافي الإطلاق المتقدم، بل تحمل علي الفضل، كما هو المناسب للارتكاز، و لما تضمن أن من لم يسم علي عمله كان للشيطان فيه شرك «8»، لأن حجز التسمية للشيطان عن الاشتراك في العمل إنما يكون من حين وجودها لا قبله، فإذا وقعت في الأثناء كان شريكا في أول العمل، فلاحظ.

الثاني: أن مقتضي إطلاق ذكر اسم اللّه تعالي في الوضوء الذي تضمنه غير واحد من النصوص الاكتفاء بذكر أحد أسمائه تعالي و لو مفردا، و إن لم يبعد انصرافه لخصوص ذكره في جملة تناسب تعظيمه، كالاستعانة به و الثناء عليه و تمجيده.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 4، 8.

(2) راجع الوسائل باب: 56، 58 من أبواب آداب المائدة.

(3) الوسائل باب: 16 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 12، و باب: 26 من الأبواب المذكورة حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 21.

(7) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(8) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 12، 13.

ص: 236

و الدعاء بالمأثور (1)،

______________________________

و لا يعتبر خصوص الاستعانة بمثل: بسم اللّه، و إن تضمنته جملة من النصوص، و لعله المنصرف من عنوان التسمية في غير واحد منها، لعدم التنافي بين المطلق و المقيد في المستحبات، و لا سيما مع ما تقدم في صحيح معاوية بن عمار من الاكتفاء بالشهادة و الدعاء.

(1) يعني: للوضوء بجملته، أما الدعاء لأجزائه و مندوباته فسيأتي منه قدّس سرّه التعرض له.

و قد تضمنت ذلك جملة من النصوص علي اختلافها في كيفية الدعاء.

ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «إذا وضعت يدك في الماء فقل: بسم اللّه و باللّه. اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين» «1».

و نحوه حديث الأربعمائة «2»، إلا أنّه تضمن أن ذلك قبل وضع اليد في الماء.

و صحيح معاوية بن عمار «3»، إلا أنه أبدل التسمية بالشهادة- كما تقدم- و أضاف في ذيله: «و الحمد للّه ربّ العالمين».

و في مرسل الصدوق: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام إذا توضأ قال: بسم اللّه و باللّه و خير الأسماء للّه و أكبر الأسماء للّه، و قاهر لمن في السماء و قاهر لمن في الأرض.

الحمد للّه الذي جعل من الماء كل شي ء حي و أحيا قلبي بالإيمان. اللهم تب علي و طهرني و اقض لي بالحسني و أرني كل الذي أحب و افتح لي بالخيرات من عندك يا سميع الدعاء» «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 7.

ص: 237

و غسل (1) اليدين (2)

______________________________

و يأتي حديث وضوء أمير المؤمنين عليه السّلام عند التعرض لأدعية أجزاء الوضوء إن شاء اللّه تعالي.

(1) كما صرح به جمع كثير من القدماء و المتأخرين، بل في الخلاف و الغنية و المعتبر دعوي الإجماع عليه.

و تقتضيه جملة من النصوص، كصحيح الحلبي [عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: سئل كم. كافي]: «سألته عن الوضوء كم يفرغ الرجل علي يده اليمني [يده. في] قبل أن يدخلها في الإناء؟ قال: واحدة من حدث البول، و اثنتان من حدث الغائط [الغائط.

في] و ثلاث من الجنابة» «1»، و صحيح عبد الكريم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يبول و لم يمس يده اليمني شي ء أ يدخلها في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال:

لا، حتي يغسلها. قلت: فإنه استيقظ من نومه و لم يبل أ يدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال: لا، لأنه لا يدري حيث باتت يده، فليغسلها» «2»، و غيرهما.

و هي محمولة علي الاستحباب أو كراهة ترك غسل اليد، لتسالم الأصحاب علي عدم الوجوب، و للنصوص كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «ثمَّ غمس فيه كفه اليمني، ثمَّ قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة» «3»، و صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليه السّلام: «سألته عن الرجل يبول و لا يمس يده اليمني شيئا أ يغمسها في الماء؟ قال: نعم و إن كان جنبا» «4»، و غيرهما.

(2) كما هو المصرح به في كلام الأصحاب و معاقد إجماعاتهم.

و يقتضيه- مضافا إلي تثنية اليدين في غير واحد من نصوص الجنابة «5» -

______________________________

(1) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 28 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(5) راجع الوسائل باب: 26، 44 من أبواب الجنابة.

ص: 238

______________________________

إطلاق اليد في ذيل صحيح عبد الكريم المتقدم، و في حديث حريز عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: يغسل الرجل يده من النوم مرة، و من الغائط و البول مرتين، و من الجنابة ثلاثا» «1»، و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يتوضأ في الكنيف بالماء يدخل يده فيه أ يتوضأ من فضله للصلاة؟ قال: إذا أدخل يده و هي نظيفة فلا بأس، و لست أحب أن يتعود ذلك، إلا أن يغسل يده قبل ذلك» «2» و مرسلي الصدوق الآتيين «3».

و لا ينافيه التقييد باليمني في صدر صحيح عبد الكريم و في صحيح الحلبي علي رواية التهذيب و الاستبصار- كما سبق- لوقوعه في كلام السائل.

علي أن إلغاء خصوصيتها عرفا قريب جدا.

فما في الحدائق و الجواهر من التأمل في استحباب غسلهما معا من النصوص في غير محله.

و مثله توجيهها الاقتصار علي اليمني بأنها هي التي تدخل في الماء يغترف بها لجميع أعضاء الوضوء، لوضوح أنه لا أثر لذلك مع عموم استحباب غسل اليد لصورة عدم الاغتراف بها، و مع تقييده بالاغتراف لا يستحب غسل اليد بدونه و إن كانت اليمني، و يستحب معه و إن كانت اليسري.

و كذا ما في الحدائق من أن ما تضمنته رواية عبد الرحمن الآتية الحاكية لوضوء أمير المؤمنين عليه السّلام من قوله عليه السّلام: «فأتاه محمد بالماء فأكفاه فصبه بيده اليسري علي يده اليمني» «4» ظاهر في الاقتصار علي غسل اليمني، لاندفاعه بأن صب الماء عليها لا يستلزم تخصيصها بالغسل، لتعارف غسلهما معا بالصب علي إحداهما. علي أنها لم تتضمن كون الصب لغسل اليد، بل لعله للاستنجاء المذكور

______________________________

(1) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الماء المضاف و المستعمل حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 4، 5.

(4) الوسائل باب: 16 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 239

من الزندين (1)

______________________________

بعد ذلك، فلاحظ.

(1) كما في المنتهي و جامع المقاصد و الروضة و كشف اللثام و المدارك و عن الذكري، و إليه يرجع ما في القواعد من الاقتصار علي الكفين.

و هو الظاهر من النصوص المتقدمة- بعد القطع بعدم إرادة المعني الحقيقي منها، و هو تمام العضو إلي الكتف- لأن الكف هو المعد للاستعمال و به يكون تناول الماء من الإناء، و لذا كان هو المنصرف من إطلاق غسل اليد للأكل، و إرادة ما زاد عليه مع ذلك تحتاج للبيان.

بل لم يعهد إطلاق اليد علي ما زاد علي ذلك مما دون الذراع، و إطلاقها علي ما ينتهي بالمرفق- كما في الوضوء- من دون تقييد لو ورد لا مجال للجري عليه هنا، لبعد إرادة ذلك في نفسه بعد كونه هو الواجب في الوضوء، فلا يمكن الاعتماد علي الإطلاق في بيانه، بل يتعين للكفين.

و لعله لذا نسب في الحدائق التحديد بالزندين للأصحاب، مع عدم التحديد به قبل العلامة، و إنما اقتصر الأكثر علي التعبير باليدين، بل هو المنسوب للأصحاب في كشف اللثام و مفتاح الكرامة، و هو مورد جل دعاوي الإجماعات المتقدمة أو كلها.

نعم، ورد الأمر بغسل الذراع في بعض نصوص الجنابة «1»، و نصفه في آخر «2»، و ما دون المرفق في ثالث «3». و هو لا ينافي ظهور الإطلاق في الكفين.

و بهما صرح في جملة منها «4»، و يتعين الجمع باختلاف مراتب الفضل أو بغير ذلك

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 6، 16، و باب: 44 من الأبواب المذكورة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 44 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(4) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

ص: 240

قبل إدخالهما في الإناء الذي يغترف منه (1)

______________________________

علي ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يتجه بناء علي استحباب غسل اليدين تعبدا مطلقا، أما بناء علي اختصاصه بما إذا أريد غمسهما في الماء فالأقرب الحمل علي المقدار الذي يغمس و يغترف به، و إن زاد علي الكف، لأنه المناسب لارتكاز كون الغسل فرارا عن انفعال الماء بأثر الحدث المذكور، حيث يصلح ذلك لأن يكون قرينة عرفا علي تعيين المقدار المغسول بعد تعذر الحمل علي المعني الحقيقي.

(1) كما هو المصرح به في كلام الأصحاب و معاقد إجماعاتهم المتقدمة.

و يقتضيه إطلاق ما تقدم في صحيح عبد الكريم صدرا و ذيلا.

مضافا في النوم لحديث حريز المتقدم و مرسل الصدوق عن الصادق:

«قال عليه السّلام: اغسل يدك من النوم مرة» «1».

و في البول لصحيح الحلبي المتقدم، و مرسل الصدوق الآخر: «قال الصادق عليه السّلام: اغسل يدك من البول مرة، و من الغائط مرتين، و من الجنابة ثلاثا» «2».

نعم، تقدم في حديث حريز أن الغسل من الغائط و البول مرتين.

و قد حمله غير واحد علي إرادة اجتماعهما فيكتفي بالأكثر- الذي هو حكم الغائط- للتداخل، لا علي صورتي انفراد كل منهما، لينافي ما تقدم، و إلا كان الأنسب الفصل بينهما ب «من»، كما فصل بها بين الصور الثلاث.

لكنه مستلزم لخلو ذكر البول عن الفائدة و إهمال حكمه مع شدة الحاجة لبيانه، لشيوع صورة انفراده.

و لعل عدم الفصل بينهما ب «من» لاتحاد حكمهما، لا لإرادة صورة اجتماعهما. و من ثمَّ لم يبعد الجمع بينه و بين صحيح الحلبي و مرسل الصدوق

______________________________

(1) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 241

لحدث النوم أو البول مرة (1)،

______________________________

بالحمل علي بيان الأفضل.

و لعله الوجه فيما عن المجمع من أن المرة أقل الاستحباب، و إلا فيستحب مرتان في البول و النوم.

نعم، يشكل في النوم، لعدم الدليل.

و أشكل منه ما في اللمعة من إطلاق استحباب المرتين في الوضوء الشامل للوضوء من الريح و بقية النواقض، بل للوضوء التجديدي، مع عدم الدليل علي استحباب غسل اليدين فيهما، فضلا عن كونه مرتين.

(1) فلو لم يكن الوضوء بالاغتراف لم يستحب الغسل، كما هو ظاهر جل الأصحاب، لاشتمال فتاواهم و معاقد إجماعاتهم علي القيد المذكور.

و كأنه لظهور صحيحي الحلبي و عبد الكريم و خبر علي بن جعفر في خصوصية الإدخال في الإناء.

لكن قرّب في كشف اللثام و غيره العموم، لإطلاق حديث حريز و مرسلي الصدوق، لدعوي عدم نهوض النصوص الأول بتخصيصها، و كأنه لأن التقييد به فيها وقع في كلام السائل، و لعدم التنافي بين المطلق و المقيد في المستحبات، كما سبق.

و يشكل: بأن ظاهر النصوص الاولي خصوصية الإدخال في استحباب الغسل، و أنه إنما يكون لأجله، لا مجرد ثبوته معه، فلا بد من الجمع بينها و بين الثانية إما بتأكد الاستحباب لأجل الغمس، أو بحمل الثانية علي صورة إرادة الإدخال، و الثاني أقرب، لقرب عدم صدور الثانية لبيان استحباب الغسل، ليستفاد منه العموم، بل لبيان عدده مع المفروغية عن استحبابه في الجملة من دون تحديد لمورده، و لذا لم يقيد حتي بالوضوء، و بل لو بني علي إطلاقه كان من أحكام نفس الحدث و لو مع العلم بتجدده قبل الطهارة، و هو بعيد جدا، و لذا لم يشر الأصحاب

ص: 242

و الغائط مرتين (1).

______________________________

لذلك في أحكام الخلوة، بل جعلوه من سنن الوضوء.

إن قلت: لما كان الغسل قبل الاغتراف لتجنب تأثير اليد في الماء ارتكازا، فالمناسب عمومه لصورة عدم الاغتراف، لتجنب تأثيرها في الماء المصبوب بها لغسل الوجه.

قلت: ربما لا ينفعل الماء بوضعه في اليد لأجل غسل الوجه بها، بل تنغسل هي به مع الوجه، كما في وضعه فيها عند غسل اليد الأخري، فإن المتعارف غسلهما معا بصب الماء في إحداهما، و ليس هو كوضعها في الماء المستقر في الإناء، فتأمل جيدا.

و من ذلك يظهر اختصاص الاستحباب بالاغتراف بالقليل، كما صرح به في المنتهي و غيره، دون الكثير خصوصا مثل النهر، لا لأن منشأه احتمال النجاسة، لما يأتي، بل لقصور صحيحي الحلبي و عبد الكريم و خبر علي بن جعفر عنه بعد التعبير في الأول بالإناء، و في الثاني بوضوئه- الذي يراد به ما يتوضأ به من الماء، لا ما يتوضأ منه- و في الثاني بفضله، لظهور العناوين المذكورة في القليل العرفي، و لا تنطبق علي الكر، بل و لا علي بعض المراتب التي دونه، و إنما يعمم الحكم لها بفهم عدم الخصوصية، أو بظهور تسالم الأصحاب علي ذلك.

و منه يظهر ضعف ما في كشف اللثام من التعميم للكثير، لابتنائه علي العمل بالمطلقات.

و أضعف منه ما في الروضة من التعميم له مع الجري علي التقييد بالاغتراف، مع أن التقييد به يبتني علي إهمال المطلقات و الرجوع لنصوص التقييد الظاهرة في خصوص القليل.

(1) كما هو المصرح به في كلام الأصحاب و معاقد إجماعاتهم.

و يقتضيه صحيح الحلبي، و حديث حريز سواء حمل علي صورتي انفراد

ص: 243

______________________________

كل من البول و الغائط أم صورة اجتماعهما مع البناء علي التداخل.

لكن عن النفلية و البيان استحباب المرة فيه أيضا. و ردّ بعدم الدليل عليه.

اللهم إلا أن يستدل له بإطلاق خبر علي بن جعفر الشامل لصورة الاستنجاء بعد حدث الغائط، حيث يكون الجمع بينه و بين ما تقدم بالحمل علي الأفضل، لا بالتقييد، لعدم التنافي بين المطلق و المقيد في المستحبات.

و أما الاستدلال عليه بخبر حريز بحمله علي صورة الاجتماع مع البناء علي عدم التداخل، فهو كما تري، لما سبق من منع حمله علي صورة الاجتماع، و لأن الظاهر في المقام التداخل، لتفرع الاستحباب ارتكازا علي سببية الأحداث المذكورة لأثر يرتفع بالغسل، و قد سبق عند الكلام في اعتبار طهارة الأعضاء عند غسلها للوضوء أن مقتضي الإطلاق في الأسباب التداخل، و هو يقتضي في المقام الاكتفاء بغسل واحد لجميع آثار الأحداث.

مضافا إلي بعد عدم التداخل في نفسه جدا، لكثرة تكرر الحدث بنحو يلزم كثرة التكرار في الغسل و هو مغفول عنه، و لا سيما مع التداخل في نفس الوضوء، فعدم التنبيه عليه في النصوص موجب لوضوح التداخل، كما هو ظاهر الأصحاب لذلك أيضا، بل هو المصرح به في المنتهي و غيره.

بقي في المقام أمور.

الأول: الظاهر أن غسل اليدين ليس لتوهم النجاسة، فيستحب مع اليقين بعدمها، كما في المنتهي و نسبه الوحيد للأصحاب. و كأنه لإطلاق كلامهم.

و هو مقتضي إطلاق النصوص، بل هو متيقن منها، لغلبة اليقين بالطهارة بعد الاستنجاء، و للتصريح بعدم الإمساس في صحيح عبد الكريم و بنظافة اليد في خبر علي بن جعفر، حيث يبعد معهما الحمل علي خصوص صورة احتمال النجاسة، بل هو المناسب لاستحباب الغسل من البول مرة و من الغائط مرتين، مع أن التطهير منهما بالعكس.

و منه يظهر لزوم حمل التعليل في صحيح عبد الكريم بأنه لا يدري حيث

ص: 244

______________________________

باتت يده إما علي بيان الحكمة و لو بلحاظ إمكان خطأ يقين المكلف بالطهارة، أو علي جهله بتحقق ما يقتضي غسلها من مس الشيطان و نحوه، لا خصوص احتمال المكلف التنجس.

كيف و كثيرا ما يقطع المكلف بعدم تنجس يده حال النوم بنحو لا يمكن حمل الصحيح علي خصوص صورة احتماله، إذ لا يحسن إطلاق التعليل بالعلل غير الغالبة.

الثاني: لو لم يقصد الوضوء فهل يستحب غسل اليدين للاغتراف أو لا؟

وجهان، اختار ثانيهما في المنتهي. قال: «لعموم الأمر بالغسل لمريد الغمس».

لكن العموم المذكور غير ظاهر، لأن حديث حريز و مرسلي الصدوق لم يتعرض فيها للغمس، و المتيقن من صحيحي الحلبي و عبد الكريم صورة الغمس للوضوء، للسؤال في أولهما عنه، و في الثاني عن الغمس في الوضوء الذي هو الماء الذي يتوضأ منه.

فلعل الأولي أن يقال: الظاهر من الأمر بالغسل قبل إدخال اليد في الإناء لتجنيب الماء أثر الحدث الذي لا ينبغي معه استعماله، فمرجعه إلي كراهة الاستعمال بإدخال اليد قبل غسلها، و لا أثر في ذلك ارتكازا لنية الوضوء به، كما هو الظاهر من خبر علي بن جعفر، لظهوره في كراهة الوضوء بفضل ماء الاستنجاء مع إدخال اليد فيه للاستنجاء من غير غسل، غاية ما قد يدعي أن المتيقن من الاستعمال الذي يكره هو الوضوء، لأنه مورد النصوص المشار إليها.

و منه يظهر أن الغسل من آداب ماء الوضوء، لا من آداب الوضوء، كما قد يستظهر من الأصحاب و جزم به في الجواهر، فضلا عن أن يكون من أجزائه المستحبة، كما قد يظهر مما صرح به جماعة و حكي عن المشهور و الأكثر من جواز مقارنة نية الوضوء له، بناء علي ما هو ظاهرهم من إرادة النية التفصيلية التي ذكروا لزوم مقارنتها لأول العمل.

ص: 245

و المضمضة و الاستنشاق (1)،

______________________________

كما أنه ليس من آداب مطلق الماء، مع قطع النظر عن الوضوء به، كما هو مقتضي إطلاق ما حكاه في الجواهر عن بعضهم و استضعفه.

و لا من السنن المطلقة، كما احتمله في المنتهي، لدعوي كون منشئه توهم النجاسة التي عرفت ضعفها.

نعم، لو تمت الإطلاقات المتقدمة كان من سنن الأحداث المذكورة، كما سبق، و سبق عدم تماميتها.

الثالث: الظاهر عدم اعتبار النية في غسل اليدين، كما صرح به في المنتهي و محكي التحرير، لا لتعليله بتوهم النجاسة التي لا تعتبر النية في التطهير منها حتي مع العلم بها- و إن ذكره في المنتهي- لما سبق من عدم التعويل علي التعليل المذكور، بل لإطلاق أدلته المتقدمة، كما ذكره في المنتهي أيضا.

و دعوي: لزوم النية فيه، لأنه من سنن الوضوء، أو من أجزائه المستحبة.

مدفوعة: بما سبق من منع كونه من سنن الوضوء، فضلا عن أن يكون من أجزائه المستحبة.

مع أن الدليل علي اعتبار النية في الوضوء منحصر بالإجماع، و المتيقن منه الوضوء الواجب، دون أجزائه المستحبة، فضلا عن سننه و آدابه الخارجة عنه، فلاحظ.

(1) كما ذكره غير واحد، و في المدارك: أنه المعروف من المذهب، و نسبه في المنتهي و محكي التذكرة إلي علمائنا، و ادعي في الناصريات و الخلاف و الغنية الإجماع عليه.

للنصوص المستفيضة، كموثق سماعة: «سألته عنهما، قال: هما من السنة، فان نسيتهما لم يكن عليك إعادة» «1»، و غيره.

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 246

______________________________

و عن ابن أبي عقيل أنهما ليسا بفرض و لا سنة، و كأنه لخبر زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: ليس المضمضة و الاستنشاق فريضة و لا سنة، إنما عليك أن تغسل ما ظهر» «1».

لكنه محمول- بقرينة النصوص المذكورة- علي أنه ليس مما دلت السنة علي وجوبه، كما هو المناسب للذيل المسوق لحصر ما يجب فعله، بل ربما يحمل كلام ابن أبي عقيل علي ذلك.

و به يجمع بين ما تضمن أنهما من الوضوء، كحديث أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عنهما، فقال: هما من الوضوء، فإن نسيتهما فلا تعد» «2» و ما تضمن نفي كونهما منه كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: المضمضة و الاستنشاق ليسا من الوضوء» «3»، و غيره.

و كأنها تعريض بما عن بعض العامة من البناء علي وجوبهما، للسنة، كالنبوي المذكور عنهم في المعتبر: «المضمضة و الاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه» «4».

و أما الجمع بين النصوص بما أشار إليه في الحدائق من أنهما من السنن المطلقة، لا من سنن الوضوء المرتبطة به، و نسب لصاحب رياض المسائل نصرة ذلك و الاستدلال عليه بالوضوءات البيانية، مع استضعاف النصوص الدالة علي ارتباطهما بالوضوء و حمل بعضها علي التقية، لاشتماله علي أحكام أخر تناسبها.

فيدفعه: إباء جملة من نصوصهما الحمل علي ذلك و فيها المعتبر السند، كموثق سماعة المتقدم المتضمن عدم وجوب الإعادة بتركهما، و لا مجال للحمل

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(4) المعتبر ص: 44.

ص: 247

______________________________

علي التقية مع إمكان الجمع العرفي، بمجرد اشتمال الخبر علي ما يوافقها، و لا سيما مع تسالم الأصحاب علي ذلك.

و لا ينافيه خلو النصوص البيانية عنهما، لسوقها لبيان الوضوء الواجب، كما سبق.

بقي في المقام أمران.

الأول: قال في المنتهي: «المضمضة إدارة الماء في الفم، و الاستنشاق اجتذابه في الأنف»، و هو المطابق لما ذكره بعض اللغويين.

لكن الظاهر الاكتفاء عرفا في المضمضة بتحريك الماء في الفم، كما ذكره في مجمع البحرين، لكن مع نحو من الشدة و الدفع و إن لم تتحقق الإدارة.

و لعله لذا قال في المبسوط عند الكلام في المضمضة و الاستنشاق: «و لا يلزم أن يدير الماء في لهواته، و لا أن يجذبه بأنفه» و في مفتاح الكرامة: «و في المجمع أنه يمكن أن يكون ذلك- يعني الإدارة- لتحصيل الكمال، لا لتحصيل نفس الاستحباب». و إلا فلا إشكال في عدم صدق المضمضة بمجرد إدخال الماء أو دخوله في فضاء الفم، بل هما مقدمة له.

و ربما حمل ما سبق من المبسوط علي الإدارة في جميع الفم و الجذب للخياشيم، حيث لا إشكال ظاهرا في عدم اعتبارهما في مفهوم المضمضة و الاستنشاق.

نعم، لا يبعد استحبابهما فيهما، لأنهما من المبالغة فيهما التي ورد الأمر بها في موثق السكوني، ففيه أنه صلّي اللّه عليه و آله قال: «ليبالغ أحدكم في المضمضة و الاستنشاق، فإنه غفران لكم و منفرة للشيطان» «1».

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 248

ثمَّ إن الظاهر أنه يعتبر في المضمضة أن يكون تحريك الماء بقوة الفم، و لا يكفي التحريك بالأصابع، خلافا لما في مجمع البحرين.

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 11.

ص: 248

و تثليثهما (1)،

______________________________

الثاني: أنه لا إشكال في خروج المج و الاستنثار عن المضمضة و الاستنشاق، كما صرح بالأول في المنتهي و محكي نهاية الاحكام، و بالثاني في غيرهما، خلافا لما عن ظاهر التذكرة و الذكري في الأول، و عن بعضهم فيهما معا.

و ربما جعلا مستحبا آخر. و لعله للاستقذار، أو للتعارف، كما في الجواهر، فتأمل.

(1) كما هو صريح اللمعة و عن غيرها و عن ظاهر التذكرة و غيرها، بل التثليث في الجملة مما ذكره جماعة كثيرة، و ادعي عليه الإجماع في الغنية، و نسبه في الجواهر لفتوي الأصحاب.

و لا وجه لما عن بعض متأخري المتأخرين من إنكار مستنده بعد ما في خبر أبي إسحاق الحاكي لعهد أمير المؤمنين عليه السّلام لمحمد بن أبي بكر، من قوله عليه السّلام:

«و انظر إلي الوضوء، فإنه من تمام الصلاة، تمضمض ثلاث مرات، و استنشق ثلاثا.» «1».

و أما ما في كتاب الإمام الكاظم عليه السّلام لعلي بن يقطين «2» من الأمر بالتثليث فيهما، فلا مجال للاستدلال به بعد صدور الكتاب للتقية و عدم ذكره في الكتاب الثاني بعد زوال سببها.

بل قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «ترك الأمر بهما عند زوال التقية شاهد بالخلاف، إلا أن يكون المراد به بيان الوضوء الواجب. لكن ذكر فيه الإسباغ، فلاحظ».

لكن لما كان المتروك هو المضمضة و الاستنشاق رأسا لا خصوص تثليثهما فلا يدل علي عدم استحباب تثليثهما لو ثبت استحبابهما.

و كيف كان، فالعمدة في المقام خبر أبي إسحاق الذي يكون الجمع بينه

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 19.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 249

و تقديم المضمضة (1)،

______________________________

و بين المطلقات بالحمل علي الأفضل، لأنه الذي يقتضيه الجمع بين المطلق و المقيد في المستحبات، و لا مجال للبناء علي التقييد، بحيث لا يشرع الاكتفاء بالمرة، و إن كان قد يستظهر من جماعة، بل في المبسوط و النهاية: «و لا يكونان أقل من ثلاث».

هذا، و في الجواهر: «ما ذكره بعضهم من كون الثلاث بثلاث أكف، و مع إعواز الماء يكفي الكف الواحدة لم أقف له علي مستند بالخصوص، بل عن مصباح الشيخ و مختصره و نهايته و المقنعة و الوسيلة و المهذب و الإشارة الاقتصار علي كف لكل منهما، و عن ظاهر الاقتصاد و الجامع الاكتفاء بكف لهما، كما هو مقتضي الإطلاقات. مع التأيد بالنهي عن السرف في ماء الوضوء، و في المبسوط: لا فرق بين أن يكونا بغرفة واحدة أو بغرفتين».

لكن تحقق المضمضة ثلاثا بكف واحدة لا يخلو عن تكلف، لاحتياجها لمقدار معتد به من الماء، و لا تصدق مع قلته، إلا أن يراد تكرار المضمضة بتمام ما في الكف بمجه ثمَّ إرجاعه، و هو بعيد جدا.

و لزوم السرف في ماء الوضوء ليس محذورا إذا لم يزد علي المدّ، و الظاهر عدم زيادته بتعدد الغرفات، فلاحظ.

(1) كما في الوسيلة و المنتهي و الروضة و التذكرة و محكي التحرير و نهاية الاحكام و الذكري و النهاية. و قد يستفاد ممن عطف الاستنشاق ب «ثمَّ»، كما عن المقنعة و البيان و غيرهما. و إن أمكن إرادتهم شرطية الترتيب، كما هو المصرح به في المبسوط و حكي عن جماعة، كما لعله ظاهر من ذكر أنه لو عكس استحب إعادة الاستنشاق.

و قد يستدل لاستحباب الترتيب أو شرطيته.

تارة: بالترتيب بينهما في الذكر في جميع النصوص.

ص: 250

و الدعاء بالمأثور عندهما (1)،

______________________________

و اخري: بوروده في خبر عبد الرحمن الحاكي لوضوء أمير المؤمنين عليه السّلام الآتي في بيان الأدعية المأثورة، بل هو مقتضي السيرة.

و هو كما تري! لاحتمال كون منشأ الجميع الترتيب بينهما طبعا، لأنه الأنسب بالتنزه عن قذر الأنف. علي أنه يأتي رواية الكافي للخبر بعكس الترتيب.

و من ثمَّ تنظر في كشف اللثام في الشرطية.

ثمَّ لو تمَّ الدليل علي الترتيب اقتضي الترتيب بين المضمضة أجمع و الاستنشاق، و لا وجه لما عن نهاية الاحكام من تقريب الاكتفاء بالمضمضة مرة ثمَّ الاستنشاق كذلك و هكذا ثلاثا.

(1) كما تضمنه خبر عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام الحاكي لوضوء أمير المؤمنين عليه السّلام، و فيه: «فأتاه محمد بالماء فأكفاه فصبه بيده اليسري علي يده اليمني، ثمَّ قال: بسم اللّه و باللّه و الحمد للّه الذي جعل الماء طهورا و لم يجعله نجسا. ثمَّ تمضمض فقال: اللهم لقني حجتي يوم ألقاك و أطلق لساني بذكراك، ثمَّ استنشق فقال: اللهم لا تحرّم علي ريح الجنة، و اجعلني ممن يشم ريحها و روحها و طيبها» «1».

و حذف في الفقيه و التهذيب من التسمية قوله: «و باللّه» و أبدلا قوله في دعاء المضمضة: «بذكراك» بقوله: «بذكرك»، و زاد فيه في الفقيه قوله:

«و شكرك».

و عن أربعين البهائي عن بعض الكتب ذكر دعاء الاستنشاق هكذا: «اللهم لا تحرمني طيبات الجنان و اجعلني ممن.».

و روي الحديث في الكافي هكذا: «فأتاه به فصبه بيده اليمني علي يده اليسري، ثمَّ قال: الحمد للّه الذي جعل الماء طهورا و لم يجعله نجسا. ثمَّ استنشق

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 251

و عند غسل الوجه (1) و اليدين (2) و مسح الرأس (3) و الرجلين (4).

______________________________

فقال: اللهم لا تحرّم علي ريح الجنة و اجعلني ممن يشم ريحها و طيبها و ريحانها» «1».

(1) ففي خبر عبد الرحمن المذكور: «ثمَّ غسل وجهه فقال: اللهم بيض وجهي يوم تسود فيه الوجوه و لا تسود وجهي يوم تبيض فيه الوجوه»، و في بعض نسخ الكافي حذف «فيه» في الموضعين.

(2) ففي الخبر المذكور: «ثمَّ غسل يده اليمني فقال: اللهم أعطني كتابي بيميني و الخلد في الجنان بيساري و حاسبني حسابا يسيرا، ثمَّ غسل يده اليسري فقال: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي [بيساري. فقيه] و لا تجعلها مغلولة إلي عنقي، و أعوذ بك من مقطعات النيران»، و اقتصر في الكافي في دعاء اليمني علي قوله:

«اللهم أعطني كتابي بيميني و الخلد بيساري».

(3) ففي الخبر المذكور: «ثمَّ مسح رأسه فقال: اللهم غشني برحمتك و بركاتك و عفوك»، و حذف في التهذيب و الحدائق قوله: «و عفوك».

(4) ففي الخبر المذكور: «ثمَّ مسح رجليه فقال: اللهم ثبتني علي الصراط يوم تزل فيه الأقدام، و اجعل سعيي فيما يرضيك عني، ثمَّ رفع رأسه فنظر إلي محمد، فقال: يا محمد من توضأ مثل وضوئي و قال مثل قولي خلق اللّه له من كل قطرة ملكا يقدسه و يسبحه و يكبره، فيكتب له ثواب ذلك إلي يوم القيامة» و رواه في الكافي هكذا، إلا أنه قال في الدعاء: «اللهم ثبت قدمي [علي الصراط. خ] يوم.».

ثمَّ إن مقتضي عطف الأدعية علي الأفعال في الخبر بالفاء كونها بعد الفراغ منها متصلة بها، و لا سيما في مسح الرجلين المذكور لهما دعاء واحد، بناء علي الترتيب بينهما، بل هو المقطوع به في دعاء المضمضة و الاستنشاق، لتعذر الكلام

______________________________

(1) فروع الكافي باب النوادر من كتاب الطهارة حديث: 6 ص 70 ج 1.

ص: 252

و تثنية الغسلات (1).

______________________________

حين الانشغال بهما.

فما يظهر من المتن و غيره من كون الدعاء عند الانشغال بالأفعال، محتاج لقرينة صارفة للخبر عن ظاهره.

إلا أن يكون مرادهم من كونه عنده أنه بعده متصل به، كما هو المتعين في المضمضة و الاستنشاق، لما ذكرنا.

هذا، و في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «فإذا فرغت فقل: الحمد للّه ربّ العالمين» «1».

و في حديث الأربعمائة: «فإذا فرغ من طهوره قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله صلّي اللّه عليه و آله» «2».

و عن تفسير العسكري عليه السّلام دعاء طويل بعد الفراغ أيضا «3».

كما ذكر في مستدرك الوسائل «4» نصوصا كثيرة تتضمن أدعية أخر بعده، و سورة القدر و آية الكرسي و بعض الآيات الأخر، و لا مجال لاستقصاء ذلك.

(1) أما الاكتفاء في الفرض بالمرة، فهو مقتضي إطلاق الكتاب المجيد و كثير من النصوص، بل هو المقطوع به من جملة منها و من كلمات الأصحاب و معاقد إجماعاتهم، و في الاستبصار: «لا خلاف بين المسلمين أن الواحدة هي الفريضة و ما زاد عليها سنة» و في المنتهي: «و هو مذهب علماء الأمصار، إلا ما نقل عن الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز، فإنهما قالا: ثلاثا ثلاثا إلا الرجلين».

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 21.

(4) راجع باب: 24 من أبواب أحكام الوضوء.

ص: 253

______________________________

و أما استحباب التثنية، فهو المصرح به في كلام جملة من الأصحاب القدماء منهم و المتأخرين، بل هو المعروف من مذهبهم المدعي عليه الإجماع في الانتصار و الاستبصار- فيما تقدم- و الغنية.

و استدل له بجملة من النصوص:

كصحيح معاوية بن وهب: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوضوء، فقال: مثني مثني» «1». و نحوه صحيح صفوان «2».

و صحيح يونس بن يعقوب: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الوضوء الذي افترضه اللّه علي العباد لمن جاء من الغائط أو بال! قال: يغسل ذكره و يذهب الغائط، ثمَّ يتوضأ مرتين مرتين» «3».

و رواية زرارة عنه عليه السّلام: «قال: الوضوء مثني مثني من زاد لم يؤجر عليه.

و حكي لنا وضوء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فغسل وجهه مرة واحدة و ذراعيه مرة واحدة.» «4».

و رواية بكير عنه عليه السّلام: «قال: من لم يستيقن أن واحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر علي الثنتين» «5».

و مرسل الأحول عنه عليه السّلام: «قال: فرض اللّه الوضوء واحدة واحدة و وضع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله للناس اثنتين اثنتين» «6».

و رواية داود الرقي: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: جعلت فداك، كم عدّة الطهارة؟ فقال: ما أوجبه اللّه فواحدة، و أضاف إليها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله واحدة لضعف الناس.» ثمَّ ذكر فتوي الإمام عليه السّلام لداود بن زربي بالتثليث للتقية و أنه بعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 28.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 29.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 15.

ص: 254

______________________________

ارتفاع سبب التقية قال له: «يا داود بن زربي توضأ مثني مثني، و لا تزدن عليه.» «1».

و خبر أبي المقدام: «حدثني من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إني لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ اثنتين اثنتين و قد توضأ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله اثنتين اثنتين» «2».

و مرسل الصدوق: «و روي: أن مرتين أفضل» «3».

و مرسل القطب الراوندي قال: «و قد توضأ صلّي اللّه عليه و آله مرة مرة، و قال: هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به، فمن ترك شيئا منه اختيارا فلا صلاة له، ثمَّ توضأ مرتين مرتين فقال: هذا وضوء من أتي به يضاعف له الأجر مرتين، فمن زاد أو نقص فقد تعدي و ظلم» «4».

و ما تضمن جعلها من الإسباغ- الذي ورد الندب له «5» - مثل ما في كتاب الكاظم عليه السّلام لعلي بن يقطين: «و توضأ كما أمرك اللّه تعالي: اغسل وجهك مرة فريضة و اخري إسباغا، و اغسل يديك من المرفقين كذلك» «6».

و رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام: «إن الوضوء مرة فريضة و اثنتان إسباغ» «7» و غيرهما.

لكنها معارضة بجملة أخري من النصوص ظاهرة في أفضلية المرة أو في عدم الفضل في الزيادة عليها، كصحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إن اللّه وتر يحب الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات واحدة للوجه و اثنتان للذراعين.» «8».

و موثق ابن أبي يعفور المروي في مستطرفات السرائر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 16.

(3) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 19.

(4) مستدرك الوسائل باب: 28 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 7.

(5) راجع الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء.

(6) الوسائل باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(7) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 23.

(8) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 255

______________________________

«قال: اعلم أن الفضل في واحدة واحدة و من زاد علي اثنتين لم يؤجر» «1».

و مرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الوضوء واحدة فرض و اثنتان لا يؤجر و الثالث بدعة» «2».

و مرسل الصدوق: «و قال الصادق: من توضأ مرتين لم يؤجر» «3».

و مثلها ما تضمن أن وضوء النبي و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما و آلهما كان مرّة مرّة، كموثق عبد الكريم بن عمرو: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوضوء، فقال: ما كان وضوء علي إلا مرة مرة» «4».

و مرسل الصدوق: «قال الصادق عليه السّلام: و اللّه ما كان وضوء رسول اللّه إلا مرة مرة» «5».

لظهورهما في مداومتهما صلّي اللّه عليه و آله علي ذلك، و هو لا يناسب استحباب المرتين جدا، و لا سيما مع حكاية الإمام عليه السّلام له الظاهر في الحث عليه.

نعم، لا مجال لمعارضتها بنصوص الوضوءات البيانية، بلحاظ الاقتصار فيها- مع كثرتها- علي المرة، لقرب الجمع بينها و بين نصوص التثنية بحملها علي بيان كيفية وضوئه صلّي اللّه عليه و آله من دون نظر لعدد الغسل، في مقابل العامة الذين زادوا و بدلوا في المغسول و الممسوح.

و مثلها ما تضمن اقتصارهم عليهم السّلام في وضوءاتهم المروية علي المرة، كصحيح أبي عبيدة: «وضأت أبا جعفر عليه السّلام بجمع و قد بال، فناولته ماء فاستنجي، ثمَّ صببت عليه كفا فغسل به وجهه [و كفا غسل به ذراعه الأيمن] و كفا غسل به ذراعه الأيسر.» «6».

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 27.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 14.

(4) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 7.

(5) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(6) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 256

______________________________

و صحيح حماد بن عثمان: «كنت قاعدا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدعا بماء فملأ به كفه فعم به وجهه، ثمَّ ملأ كفه فعمّ به يده اليمني، ثمَّ ملأ كفه فعم به يده اليسري، ثمَّ مسح علي رأسه و رجليه، و قال: هذا وضوء من لم يحدث حدثا، يعني التعدي في الوضوء» «1».

و خبر عبد الرحمن بن كثير المتقدم في الأدعية المأثورة، الحاكي لوضوء أمير المؤمنين عليه السّلام و غيرها.

لأن استحباب التثنية لا ينافي اقتصارهم عليهم السّلام علي المرة في بعض الموارد، و إنما ينافي اعتيادهم عليها.

نعم، لا بد من حمل قوله عليه السّلام في صحيح حماد: «هذا وضوء من لم يحدث حدثا.» علي الإشارة لذات الوضوء و كيفيته، لا بقيد المرة، و لو للجمع بينه و بين نصوص التثنية، و إلا فهو ظاهر في حرمة الزيادة، و لا سيما بضميمة ما في موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من تعدي في الوضوء كان كناقضه» «2»، مع أن نصوص التثنية و كثير من نصوص المرة صريحة أو ظاهرة في عدم حرمتها.

و كذا الحال فيما تضمن أن الوضوء مرة، كرواية ميسر عن أبي جعفر عليه السّلام:

«قال: الوضوء واحد» «3»، لإمكان الجمع بينه و بين نصوص التثنية بحمله علي بيان خصوص الواجب.

فالعمدة في معارضة نصوص استحباب التثنية ما تقدم.

و لعل الأقرب في الجمع بين الطائفتين حمل نصوص التثنية علي محض المشروعية من باب التخيير بين الأقل و الأكثر، الذي لا مانع منه علي التحقيق، من دون أن تكون أفضل، كما هو مضمون خبر الأعمش الآتي، بل مع أفضلية المرة، عملا ببعض نصوصها الظاهر أو الصريح في ذلك، كصحيح زرارة و موثق بن أبي

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 24.

(3) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 257

______________________________

يعفور و ما تضمن أنّ وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام كان عليها، بعد عدم إباء أكثر نصوص التثنية عن الحمل علي ذلك، و لو للجمع العرفي بين الطائفتين.

أما ما تضمن أن الوضوء مثني مثني- كصحاح معاوية و صفوان و يونس و رواية زرارة- فلقرب حملها علي محض بيان الحد من طرف الكثرة، نظير ما سبق من حمل ما تضمن أنه واحدة علي بيان الفرض و الحد من طرف القلة، من دون أن يراد بها الحث علي ذلك.

بل لعل ذلك هو الأنسب بلسانها بعد تعذر حملها علي التحديد التام الظاهر منها بدوا، حيث لا يبعد أن تكون المحافظة علي ظهورها في تحديد الوضوء المعهود مع رفع اليد عن تمامية التحديد، أقرب من حملها علي مجرد الحث، أو علي تحديد الفرد الأفضل من الوضوء.

و لا سيما رواية زرارة، فإن تعقيب تحديد الوضوء فيها بأنه مثني مثني بقوله عليه السّلام: «من زاد عليه لم يؤجر» و بحكاية وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله بالمرة، مناسب لسوقها لبيان محض التحديد من طرف الكثرة لبيان عدم مشروعية الزيادة علي الثنتين.

و أما مرسل الأحول و رواية داود، فلأن إضافة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الثانية لا يستلزم استحبابها، بل لعله لمجرد السعة أو الاحتياط، بلحاظ ما قد يتفق من عدم حصول الاستيعاب الواجب أو الإسباغ المستحب بالواحدة، أو ما قد يختلج في ذهن المتوضئ من التشكيك في حصولهما، كما هو المناسب للتعليل في الثانية بضعف الناس.

و لأجله يتعين حمل الأمر في ذيل الثانية بالتثنية علي محض الترخيص لبيان أكثر المشروع، كما هو المناسب لتعقيبه بالنهي عن الزيادة عليها.

و أما خبر أبي المقدام، فلا يأبي الحمل علي إرادة استنكار الرغبة عن الثنتين لاعتقاد عدم مشروعيتهما، لا لأجل أفضلية الاقتصار علي المرة، بل هو المناسب

ص: 258

______________________________

للتعليل بأنه صلّي اللّه عليه و آله توضأ مرتين مرتين، لوضوح أن وقوع ذلك منه لا يقتضي إلا مشروعيته، و لا يكفي في استحبابه ما لم يكن بنحو الالتزام و الاستمرار، و لم يتضمن التعليل ذلك.

و أما ما تضمن أن الثانية للإسباغ، فهو لا يدل علي توقف الإسباغ المندوب له عليها، و إنما يدل علي أن تشريعها لأجله و لو بلحاظ الإقدار عليه بها لو لم يتحقق بالأولي يقينا أو احتمالا.

و لعله المراد بضعف الناس الذي تضمنته رواية داود- كما سبق- و إلا فالإسباغ لغة و عرفا الإتمام و الاستيفاء، و هو يحصل مع كثرة الماء و لو بمرة، فمن البعيد جدا إرادة خصوص المرتين من إطلاقاته الكثيرة من دون تنبيه، كيف و قد سبق في غير واحد من النصوص الاكتفاء منهم عليهم السّلام في وضوءاتهم بالمرة، و من البعيد جدا تساهلهم في الإسباغ، مع شدة حثهم عليه «1» حتي ورد أنهم قد أمروا به «2».

بل لعله مقتضي الجمع بين ما في صحيح ابن أذينة الوارد في المعراج في وضوئه صلّي اللّه عليه و آله من ماء صاد من قوله عليه السّلام: «ثمَّ أوحي اللّه إليه أن اغسل وجهك، فإنك تنظر إلي عظمتي، ثمَّ اغسل ذراعيك اليمني و اليسري، فإنك تلقي بيديك كلامي.» «3»، و ما في صحيح الحسين بن أبي العلاء من قوله عليه السّلام: «أوحي إليه و أمره أن يدنو من صاد فيتوضأ، و قال: أسبغ وضوءك و طهر مساجدك» «4»، و ما في خبر إسحاق من قوله عليه السّلام: «فدنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من صاد فتوضأ و أسبغ وضوءه» «5»، لقوة ظهور صحيح ابن أذينة في أنه لم يؤمر بالمرتين، فلا بد من تحقق الإسباغ منه صلّي اللّه عليه و آله بالمرة.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء.

(2) الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(5) الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 259

______________________________

بل هو كالصريح من قول الصادق عليه السّلام في خبر الأعمش الوارد في بيان شرائع الدين: «إسباغ الوضوء كما أمر اللّه في كتابه الناطق: غسل الوجه و اليدين إلي المرفقين و مسح الرأس و القدمين إلي الكعبين مرة مرة و مرتان جائز» «1». فتأمل جيدا.

و لا أقل من لزوم حمل النصوص المذكورة علي ذلك لأجل نصوص المرة جمعا.

نعم، لا مجال لذلك في مرسلي الصدوق و القطب الراوندي [2]، لصراحتهما في أفضلية المرتين.

لكن من القريب أن يكون مرسل الصدوق منقولا بالمعني، بلحاظ تحصيله من نصوص التثنية المتقدمة، و أن يكون مرسل الراوندي جزءا من روايات العامة، لروايتهم ما يقارب ألفاظه مع إضافة أنه صلّي اللّه عليه و آله توضأ ثلاثا ثلاثا و قال: «هذا وضوئي و وضوء الأنبياء قبلي» «3».

علي أنه لا مجال للخروج بهما عن نصوص استحباب المرة مع كثرتها و قوة أسانيد جملة منها. و اعتضادها بنصوص الوضوءات البيانية الواردة مورد الحث علي سهولة الوضوء و خفته، و التي يقوي احتمال ورودها لبيان اقتصاره علي المرة أيضا في مقابل رواية العامة المتقدمة و نحوها في حكاية وضوئه صلّي اللّه عليه و آله، و بالاقتصار في الوضوءات المحكية عنهم عليهم السّلام علي المرة، و لا سيما وضوء أمير المؤمنين عليه السّلام المحكي في خبر عبد الرحمن بن كثير المتقدم، المبني علي تحري الفضيلة بكثير من الآداب. و بعدم التنبيه علي التثنية في كثير من النصوص الواردة لبيان فضيلة الوضوء و ثواب أفعاله.

______________________________

[2] و أيضا ذكر الوحيد قدّس سرّه في حاشية المدارك ان في كتاب الرضا عليه السّلام للمأمون أن الثانية استحباب، و لم أعثر علي ذلك في كلام غيره، و إنما الموجود رواية الفضل المتضمنة أنها إسباغ، فيلحقها ما تقدم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 18.

(3) نقله في هامش الحدائق الحديثة عن سنن البيهقي ج: 1 ص: 80.

ص: 260

______________________________

و لا مجال لترجيح المرسلين بشهرة الفتوي بمضمونهما بين الأصحاب، لعدم وضوح اعتمادهم عليهما بل المظنون عدمه، و ابتناء فتواهم علي اشتباه وضع النبي صلّي اللّه عليه و آله الثانية بسنته المرغوب اتباعها.

علي أن الانجبار بالشهرة في الآداب غير ظاهر، لما هو المعلوم من تساهلهم فيها.

و من هنا كان الأقوي عدم استحباب التثنية، كما هو صريح من حكم بعدم الأجر فيها، و لا يأباه كلام غيرهم ممن يأتي التعرض له، و إليه مال في كشف اللثام.

بل الأفضل الاقتصار علي المرة، كما هو صريح ما عن البزنطي من التعبير بعبارة موثق ابن أبي يعفور المتقدم.

نعم، لا ينبغي التأمل في مشروعية الثانية، كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، حتي القائلين بعدم استحبابها، علي ما يأتي، لأنها مقتضي مجموع النصوص الواردة في المقام.

لكن في الخلاف: «و في أصحابنا من قال: إن الثانية بدعة»، و نسب القول المذكور في السرائر للصدوق، و هو الذي استظهره في الروض و الحدائق من حكمه بعدم الأجر فيها، كما في المقنع و الهداية و الفقيه، بدعوي: أن عدم الأجر عليها مستلزم لخروجها عن الوضوء الذي هو عبادة، لأن العبادة إما واجبة أو مستحبة.

إلا أنه تقدم إمكان التخيير بين الأقل و الأكثر فلا مانع من حمل كلامه عليه، كما هو المناسب لما في المقنع و الهداية من التفريق بينها و بين الثالثة بعدم الأجر عليها، و كون الثالثة بدعة، لظهوره في جوازها مع عدم الأجر عليها و ليست بدعة كالثالثة، كما هو صريحه في المجالس في بيان دين الإمامية إجمالا.

نعم، كلامه في الفقيه آب عن الحمل علي ذلك، علي ما سيأتي.

و أضعف من ذلك ما في الحدائق من استظهار القول بحرمة الثانية من الكليني قدّس سرّه، لقوله بعد أن ذكر موثق عبد الكريم المتقدم المتضمن أن وضوء أمير

ص: 261

______________________________

المؤمنين عليه السّلام ما كان إلا مرة مرة: «هذا دليل علي أن الوضوء إنما هو مرة مرة، لأنه صلوات اللّه عليه كان إذا ورد عليه أمران كلاهما للّه طاعة أخذ بأحوطهما و أشدهما علي بدنه [1]، و إن الذي جاء عنهم عليهم السّلام: أنه قال: «الوضوء مرتان» إنما هو [لمن.

ظ.] لم يقنعه مرة و استزاده فقال: «مرتان»، ثمَّ قال: «و من زاد علي مرتين لم يؤجر»، و هذا أقصي غاية الحد في الوضوء، الذي من تجاوزه أثم، و لم يكن له وضوء، و كان كمن صلي خمس ركعات. و لو لم يطلق عليه السّلام في المرتين لكان سبيلهما سبيل الثلاث».

بحمل المرة و المرتين علي الغرفة و الغرفتين في غسلة واحدة، و الثلاث علي الغرفة الثالثة للغسلة الثانية بعد الغسلة الأولي بالغرفتين.

و هو كما تري! لبعد حمل المرة و المرتين علي الغرفة و الغرفتين مع تكرارهما و سوقهما خبرا عن الوضوء، لوضوح أن المتحد مع الوضوء هو الغسلة بعد الغسلة، لا الغرفة و الغرفتان، بل هي مقدمة له، فلو أريدت لكان المناسب أن يقول: الوضوء بمرة، أو مرتين.

مضافا إلي ابتناء التفكيك بين الثانية و الثالثة بحمل الثانية علي الغرفة المنضمة للأولي في غسلة واحدة، و الثالثة علي الغرفة المستقلة لغسلة ثانية، علي تكلف ظاهر لا ينبغي التأمل في عدم جري الكليني قدّس سرّه عليه، بل كلامه كالصريح فيما ذكرناه من التخيير بين الغسلة و الغسلتين، و أن إضافة الثانية سعة لملاحظة حال الناس، كما تضمنته رواية داود المتقدمة.

و منه يظهر ضعف ما اعتمده من الجمع بذلك بين النصوص، بحملها علي تحريم الغسلة الثانية بغرفة ثالثة و التخيير في الغسلة الأولي بين الغرفة و الغرفتين.

و مثله ما يظهر من الوسائل و المدارك و احتمله في كشف اللثام، من حمل

______________________________

[1] لعله يشير بذلك إلي ما في صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام الوارد في وصف أمير المؤمنين عليه السّلام و فيه: «و ما ورد عليه أمران كلاهما للّه رضا إلا أخذ بأشدهما علي بدنه.». [الوسائل باب:

20 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 12].

ص: 262

______________________________

النصوص علي إرادة حكم تعدد الغرفة في الغسلة الواحدة.

و كيف كان، فلا يظهر الخلاف من القدماء في مشروعية الثانية إلا من الصدوق في الفقيه، لمناسبة استدلاله لذلك، و قد تبعه في ذلك بعض المتأخرين صريحا- كصاحب الحدائق- أو ظاهرا بمقتضي استدلالاتهم و تأويلاتهم السابقة و الآتية لنصوص التثنية.

و قد يستدل علي ذلك.

تارة: بما أشار إليه في الحدائق من النصوص المتضمنة نفي الأجر عليها، لدعوي: امتناع الإباحة في العبادة.

و يظهر الجواب عنه مما تقدم من إمكان التخيير بين الأقل و الأكثر، فيكون المراد بعدم الأجر عليها عدم زيادة الأجر لأجلها و إن كانت حين تحققها مشاركة للأولي في الوفاء بالغرض و في انطباق عنوان الوضوء عليها، بحيث تترتب آثاره، كجواز المسح بمائها و نحوه.

و يشهد بذلك الحكم في الثالثة بأنها بدعة، حيث يظهر منه مخالفتها للثانية في ذلك، و أنه لا يلزم من عدم الأجر عليها كونها بدعة.

و إرجاعهما لمعني واحد- كما احتمله في الحدائق- تكلف ظاهر.

و اخري: بما في الفقيه، حيث قال: «و توضأ النبي صلّي اللّه عليه و آله مرة مرة فقال: هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به».

و فيه- مع إرسال الحديث، و احتمال كونه قطعة من الحديث العامي المتقدم- أنه يقرب حمله علي الإشارة للوضوء الصادر منه بذاته، لا بقيد كونه مرة، لبيان عدم جواز إنقاصه،- نظير مرسل القطب الراوندي- لأن ذلك لو لم يكن هو الظاهر منه في نفسه فلا أقل من كونه مقتضي الجمع بينه و بين نصوص مشروعية التثنية.

و ثالثة: بما أشار إليه فيه أيضا من أنها من التعدي في الوضوء، الذي هو كنقضه، كما تقدم في موثق السكوني. و أنه إذا كان الفرض من اللّه تعالي المرة- كما

ص: 263

______________________________

تظافرت به النصوص- يمتنع جعل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الثانية، لأنه من تجاوز حدود اللّه و التعدي فيها، و قد قال تعالي وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ «1». قال قدّس سرّه:

«و قد فوّض عز و جل إلي نبيه أمر دينه و لم يفوض إليه تعدي حدوده».

و فيه: أن دليل مشروعية الثانية وارد علي دليل حرمة التعدي في الوضوء.

كما أن فرضه تعالي الوضوء مرة مرة إنما هو بمعني إيجابها، لا بمعني منعه من الزيادة عليها، فلا تكون التوسعة منه صلّي اللّه عليه و آله بوضع الثانية تعديا لحده تعالي، نظير ما ورد من إضافته صلّي اللّه عليه و آله الركعة و الركعتين في الثلاثية و الرباعية «2».

و منه يظهر أنه لا ملزم لما ذكره قدّس سرّه و احتمله في كشف اللثام من حمل مرسل الأحول المتضمن ذلك علي الإنكار دون الإخبار، مع مخالفته لظاهره و صريح رواية داود الرقي.

كما أن غير واحد من وجوه الجمع المذكورة في كلمات الأصحاب بين النصوص مورد للإشكال:

الأول: ما ذكره الصدوق قدّس سرّه من حمل نصوص التحديد بالمرتين، و أنهما أفضل، و أنهما إسباغ، علي التجديد، و احتمله في كشف اللثام، بل عن جماعة من محققي المتأخرين متابعته في الأخير.

و يندفع- مضافا إلي عموم دليل مشروعية التجديد لما زاد علي ذلك- بأنه لم يعهد إرادة التجديد من الاستعمالات المذكورة، بل هو لا يناسب تكرار «مرتين» و «مثني» و «اثنتين» في بعض النصوص، و توصيف الغسل نفسه بذلك دون الوضوء في آخر، كمكاتبة الكاظم عليه السّلام لعلي بن يقطين.

و لو بني علي الحمل علي ما ذكره لزم حمل نصوص المرة علي نفي مشروعية التجديد، و لا وجه لحملها علي نفي مشروعية الغسلة الثانية، و إلا كان الجمع بين النصوص بذلك تبرعيا.

______________________________

(1) سورة الطلاق: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها.

ص: 264

______________________________

الثاني: ما عن الوافي من حمل نصوص المرة علي الغسلة و نصوص المرتين علي الغرفتين، فيكون المراد أن الفرض غسلة واحدة، و وضع النبي صلّي اللّه عليه و آله لها غرفتين، و هو موهون في نفسه جدا بملاحظة ما سبق في تعقيب كلام الكليني و غيره، مع أنه جمع تبرعي.

و لا مجال للاستشهاد له بما في صحيح زرارة: «فقلنا: أصلحك اللّه فالغرفة الواحدة تجزي للوجه، و غرفة للذراع؟ قال: نعم إذا بالغت فيها، و الثنتان تأتيان علي ذلك كله» «1»، لعدم الإشعار فيه، بالنظر لمضمون نصوص المقام.

الثالث: ما احتمله في كشف اللثام و الحبل المتين و غيرهما من حمل نصوص التثنية علي أن الوضوء غسلتان و مسحتان في مقابل قول العامة بأنه ثلاث غسلات و مسحة واحدة.

و يظهر الإشكال فيه بملاحظة مجموع النصوص. علي أنه أشبه بالتخرص.

و لا مجال للاستشهاد له برواية زرارة المتقدمة المتضمنة لقوله عليه السّلام:

«الوضوء مثني مثني من زاد عليه لم يؤجر» ثمَّ حكاية وضوء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله مرّة مرّة، لعدم صلوحها للقرينية علي ذلك، بل هو لا يناسب قوله عليه السّلام: «من زاد عليه لم يؤجر»، إذ ما عليه العامة هو إبدال المسح بالغسل، لا الزيادة، كما لا يناسب التعرض لحكاية الغسل دون المسح. بل المتعين فيها ما تقدم.

الرابع: ما عن المنتقي من حمل نصوص التثنية علي التقية. لأن العامة تنكر الوحدة و تروي في أخبارهم التثنية.

و فيه: أنه فرع استحكام التعارض و تعذر الجمع العرفي، و قد سبق إمكانه.

مع أن المحكي عن جمهور العامة- عدا شاذ منهم- الاكتفاء في الفرض بالمرة- كما سبق- و عن أبي حنيفة و الشافعي و أحمد أن المرتين أفضل و السنة الثلاث، و اختلف النقل عن مالك، ففي الخلاف أنه ذهب إلي أن المرة أفضل، و في المنتهي أنه لم يستحب ما زاد علي الفرض، و عن ابن حجر أن مالك قال في

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 265

______________________________

المدونة: «لا أحب الواحدة»، و عن ابن رشد دعوي اتفاق العلماء علي أن الاثنتين و الثلاث مندوب إليهما، فكيف يمكن حمل نصوص التثنية علي التقية مع اختلافهم و اشتمال كثير منها علي ما هو خلاف المشهور بينهم من عدم مشروعية الثالثة.

هذا، مضافا إلي أنه لا مجال لذلك مع معروفية مشروعية التثنية عندنا، بل استحبابها، و لو كانت من مختصات العامة و مبتدعاتهم التي أنكرها أئمتنا عليهم السّلام لما خفيت علي أصحابنا عادة، لقوة أسباب ظهور ذلك.

و من جميع ما سبق يظهر شدة اضطراب الأصحاب و لا سيما المتأخرين منهم، حتي قال في الجواهر: «و اضطرب الأمر علي متأخري المتأخرين، حتي لا يدري أحدهم كيف يصنع، فأكثروا من الكلام بما هو بعيد من الصواب في المقام».

و الظاهر أن ما ذكرناه مناسب للمهم من نصوص المقام و المتعين عرفا في مقام الجمع بينها، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم، و هو ولي العصمة و السداد.

بقي في المقام أمور.

الأول: الظاهر أن المعيار في تعدد الغسلة علي النية، فلو كرر احتياطا بنية غسلة واحدة لم تحسب إلا واحدة، و كان الزائد خارجا عن الوضوء، نظير غسل ما خرج عن الحد من باب المقدمة العلمية.

نعم، يجوز ترتيب أثر ماء الوضوء عليه- من جواز المسح به و كون بقائه معيارا في تحقق الموالاة- إذا كان التكرار بالمسح من دون تجديد ماء، إما لعدم خروجه عن ماء الوضوء عرفا و إن خرج الغسل به عن غسله، أو للسيرة القطعية عن التسامح في ذلك، بخلاف ما إذا كان التكرار بتجديد الماء.

و قد تقدم في وجوب المسح ببلة الوضوء ما له نفع في المقام، فراجع.

الثاني: قال في المنتهي: «لو غسل بعض أعضائه مرة و بعضها مرتين جاز،

ص: 266

______________________________

لأنه لما جاز في الكل جاز في الواحدة».

و لا يخفي ضعف التعليل بذلك بعد اختصاص النصوص بصورة اتفاق الأعضاء في العدد، كما يظهر من نسبة المرة و المرتين للوضوء المتحد مع الكل، و من تكرار لفظهما.

نعم، لا تبعد دعوي إلغاء الخصوصية المذكورة عرفا، و لا سيما بناء علي ما يظهر من بعض الأخبار من أن تشريع الثانية للسعة علي المكلفين.

الثالث: لو توضأ مرتين، مرتين بانيا علي وجوب ذلك أو استحبابه للجهل بالحال قصورا أو تقصيرا، فإن رجع إلي تقييد الامتثال بذلك، أو إلي الخطأ في اعتقاد مشروعية وضوء آخر غير ما هو المشروع، تعين البطلان، لتخلف الامتثال بتخلف قيده في الأول، و عدم قصد امتثال ما هو المشروع في الثاني، و إن رجع إلي قصد الوضوء المشروع مع الخطأ في كيفيته- كما هو الغالب- فالظاهر الصحة، لإطلاق الأدلة.

و أما رواية بكير المتقدمة المتضمنة نفي الأجر علي الثنتين لمن لم يستيقن بإجزاء الواحدة، فهي- مع ضعف سندها، و اختصاصها بصورة عدم الاستيقان بالإجزاء- منصرفة لصورة عدم الخضوع للتشريع الأولي في ظرف العلم برأي أهل البيت عليهم السّلام فيه، لارتكاز كون عدم الأجر من سنخ العقوبة.

علي أن نفي الأجر لا يستلزم البطلان، لأن الأجر علي الامتثال تفضل منه تعالي من دون أن يكون حقا للعبد، فنفيه لا يستلزم عدم تحقق الامتثال.

و أما لو ابتني علي التشريع بقصد الوجوب أو الاستحباب، فلا إشكال في البطلان لو رجع إلي تشريع وضوء آخر غير ما هو المشروع، و إن رجع للتشريع في كيفية الوضوء المشروع فلا ينبغي التأمل في الصحة لو كان القصد لذلك بعد الغسلة الأولي، لعدم الدليل علي بطلانها بعد صحتها.

غاية الأمر عدم ترتب آثار الوضوء علي الغسلة الثانية لبطلانها بقصد التشريع المانع من التقرب.

ص: 267

______________________________

و إن كان القصد إليه من أول الأمر، لم يبعد البناء علي البطلان لكون الأولي مقدمة للتشريع المحرم، فتكون مبعدة غير صالحة للتقرب المعتبر في العبادة، كما تقدم نظيره في الرياء، فلاحظ.

الرابع: لا إشكال ظاهرا بين الأصحاب في عدم استحباب الثالثة، بل صرحوا بأنها بدعة، كما في المقنع و الهداية و أمالي الصدوق و المبسوط و الخلاف و النهاية و المعتبر و الشرائع و المنتهي و محكي السرائر و غيرها، و هو المنسوب للأكثر في محكي المختلف و للمشهور في محكي الذكري، بل ظاهر محكي التذكرة الإجماع.

و الظاهر أنه إليه يرجع الحكم بالتحريم في الكافي- علي ما تقدم- و جامع المقاصد و محكي الذكري و الدروس و التنقيح و غيرها، لأن ظاهر غير واحد و صريح آخرين إرادة الحرمة التشريعية.

و يقتضيه مرسل ابن عمير المتقدم، و ما في رواية داود الرقي من أن من توضأ ثلاثا فلا صلاة له، بل هو مقتضي نصوص التحديد بالمرتين، بناء علي ما سبق من أن مقتضي الجمع بينها و بين بقية النصوص الحمل علي بيان الحدّ من طرف الكثرة دون الاستحباب.

خلافا لظاهر المحكي عن المفيد في المقنعة من قوله: «التثليث تكلف، فمن زاد علي ثلاث فقد أبدع و كان مأزورا». و ربما يحمل عليه ما عن العماني و سبق عن البزنطي من أن من زاد علي المرتين لم يؤجر، و عن الكاتب أن الثالثة زيادة غير محتاج إليها.

و قد يستدل لهم. تارة: بإطلاق الأمر بالغسل، بناء علي ما هو التحقيق من عدم اقتضاء الأمر المرة، و أن سقوط الأمر بها لتحقق الامتثال بصرف الوجود، حيث يختص ذلك بالأمر الاستقلالي بالماهية، دون الضمني الارتباطي الذي لا يسقط إلا بسقوط الأمر الاستقلالي بتمام المركب، فقبل سقوطه لعدم تمامية المركب تصدق الماهية علي المتعدد بعين صدقها علي الواحد،

ص: 268

______________________________

و يكون الامتثال بالمجموع.

و اخري: بما تقدم في موثق ابن أبي يعفور من الاقتصار علي نفي الأجر، من دون تنبيه علي الحرمة.

لكن الإطلاق مقيد بما سبق. و به يخرج عن موثق ابن أبي يعفور، إذ ليس هو نصا في مشروعيتها، بل و لا ظاهرا فيها، غاية ما يدعي أنه مشعر بها، و لا سيما مع عدم اختصاصه بالثالثة، بل يشمل ما زاد عليها، و لا إشكال ظاهرا في كونه بدعة.

ثمَّ إنه لا ينبغي التأمل في بطلان الوضوء بها لو تحقق المسح بمائها، لخروجه عن ماء الوضوء بعد فرض عدم مشروعيتها، كما صرح به في المنتهي و جامع المقاصد و المدارك و عن نهاية الاحكام و الذكري و الدروس.

خلافا للمحقق في المعتبر، حيث قال: «الوجه الجواز، لأن يديه لا تنفك عن ماء الوضوء الأصلي»، و قد سبق في المسألة الثالثة و العشرين ضعفه.

و أما لو لم يتحقق المسح بمائها، لعدم التثليث في اليسري مثلا، فظاهر من سبق عدم بطلان الوضوء، أخذا بظاهر تقييدهم و تعليلهم بما سبق، بل هو صريح الدروس.

و مقتضي إطلاق إشارة السبق و ما سبق من الكليني و عن أبي الصلاح و ظاهر مصباح الشيخ [1] البطلان فيه أيضا. كما ربما يستظهر من الصدوق في الفقيه في الغسلة الثانية، حيث قال: «و قول الصادق عليه السّلام: «من توضأ مرتين لم يؤجر». يعني به: أنه أتي بغير الذي أمر به و وعد الأجر عليه، فلا يستحق الأجر.»، إلا أن يكون مراده نفي الأجر علي الثانية، لا علي تمام الوضوء.

و كيف كان، فالبطلان و إن كان مخالفا لإطلاق الأدلة- كما ذكره في محكي الذكري- إلا أنه مقتضي قوله عليه السّلام في موثق السكوني المتقدم: «من تعدي في

______________________________

[1] قال في مفتاح الكرامة: و عن مصباح الشيخ أن ما زاد علي اثنتين تكلف غير مجز. و الظاهر أنه أراد أنها مفسدة.

ص: 269

______________________________

الوضوء كان كناقضه» «1».

و حمله علي مجرد نفي الأجر، نظير ما في صحيح داود بن فرقد من قوله عليه السّلام: «إن للوضوء حدا من تعداه لم يؤجر.» «2» مخالف لإطلاق التنزيل.

اللهم إلا أن يقال: لازم ذلك بطلان الوضوء بالزيادة و لو مع العذر، كالخطإ في الاجتهاد، و لا يظن من أحد البناء علي ذلك.

و حمله علي خصوص صورة التشريع الذي هو نحو من العدوان الشرعي لا يناسب ظهور كونه تعريضا بالعامة الذين لا تبتني الزيادة منهم غالبا علي التشريع، بل علي الخطأ في الاجتهاد و لو تقصيرا.

و من ثمَّ لم يبعد حمله علي مجرد نفي الأجر، أو علي استحقاق العقاب للتقصير في مقدمات الاجتهاد، و إن لم يبطل الوضوء، فتأمل جيدا.

و أشكل من ذلك الاستدلال بما في رواية داود الرقي المتقدمة من أن من توضأ ثلاثا فلا صلاة له، لظهورها في التثليث في تمام الوضوء المستلزم للمسح بماء الغسلة الثالثة، الذي هو خارج عن محل الكلام.

و كذا ما في الحدائق من التأييد بصحيح زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إنما الوضوء حد من حدود اللّه، ليعلم اللّه من يطيعه و من يعصيه، و إن المؤمن لا ينجسه شي ء إنما يكفيه مثل الدهن» «3» قال: «فإنه صريح- كما تري- في عصيان من زاد علي الوضوء المحدود، و من الظاهر أن العصيان إنما نشأ هنا من مخالفة الأمر في العبادة المستلزمة للإبطال».

إذ فيه- مع أن لازم ذلك جعله دليلا لا مؤيدا-: أن ظاهر الصحيح كون الوضوء بنفسه حدا تلزم المعصية بتركه، لا أن له حدا تحرم الزيادة عليه، و إلا فلا ريب في جواز الزيادة فيه علي مثل الدهن.

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 24.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 270

______________________________

الخامس: الظاهر عدم التقيد في الغسلة الواحدة بعدد معين من الغرفات، بناء علي ما سبق من ضعف حمل نصوص التثنية و التثليث عليها.

و أما ما في صحيح زرارة و بكير: «فقلنا: أصلحك اللّه فالغرفة الواحدة تجزي للوجه و غرفة للذراع؟ قال: نعم إذا بالغت فيها، و الثنتان تأتيان علي ذلك كله» «1».

فهو إنما يقتضي الإجزاء لا التحديد.

نعم، بناء علي حمل التثنية و التثليث علي الغرفات يلزم البناء علي الاقتصار علي ما دون الثلاث، حتي في الغسلة الأولي، كما احتمله في الحدائق- و إن كان المناسب له الجزم به- أخذا بإطلاق ما تضمن بدعية الثلاث.

و لا وجه لما في المدارك، حيث قال: «و لو حملت الثالثة علي الغرفة الثالثة فالظاهر عدم التحريم تمسكا بالإطلاق».

السادس: المعروف المصرح به في كلام جملة من القدماء و المتأخرين و الظاهر من آخرين أنه لا تكرار في المسح، و هو المدعي عليه الإجماع في الانتصار و المنتهي و المدارك و كشف اللثام و محكي التذكرة و التحرير، و في المعتبر أنه مذهب الأصحاب، و في الخلاف دعوي الإجماع علي أن التكرار في مسح الرأس بدعة. و لعله إليه يرجع ما عن الدروس و محكي البيان من أنه مكروه.

و بهذا يخرج عن إطلاق نصوص التثنية، و ظاهر خبر الأعمش «2» المتقدم، بل و كذا خبر الفضل بن شاذان المتقدم أيضا، لأن ظاهر عيون أخبار الرضا عليه السّلام أن ذكر المرة و المرتين فيه بعد شرح الوضوء فيه بالغسل و المسح معا، حيث ذكر فيه أولا الحديث بسنده عن الفضل بن شاذان في بيان شرائع الإسلام هكذا: «. ثمَّ الوضوء، كما أمر اللّه في كتابه: غسل الوجه و اليدين و مسح الرأس و الرجلين مرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب الوضوء حديث: 18.

ص: 271

______________________________

واحدة.» «1» ثمَّ ذكر له سندا آخر، و قال: «و ذكر فيه: أن الوضوء مرّة مرّة فريضة و اثنتان إسباغ» «2».

و كيف كان، فتسالم الأصحاب قديما و حديثا علي عدم مشروعية التكرار في المسح ملزم بإرجاع التثنية في جميع ذلك لخصوص الغسل، كما اقتصر عليه في بعض النصوص. و هو الأنسب بتشريعها للإسباغ.

لكن عن ابن الجنيد أنه قال في مسح الرجلين: «يبسط كفه اليمني علي قدمه الأيمن و يجذبها من أصابع رجله إلي الكعب ثمَّ يرد يده من الكعب إلي أطراف أصابعه، فمهما أصابه المسح من ذلك أجزأه و إن لم يقع علي جميعه، ثمَّ يفعل ذلك بيده اليسري علي رجله اليسري»، و ظاهره وجوب التكرار بالنكس و عدمه.

و هو غريب جدا، بعد مخالفته لإطلاق الكتاب و السنة و النصوص البيانية و ما عليه الأصحاب.

و أما الاستدلال له بمرسل يونس: «أخبرني من رأي أبا الحسن عليه السّلام بمني يمسح ظهر القدمين من أعلي القدم إلي الكعب، و من الكعب إلي أعلي القدم، و يقول: الأمر في مسح الرجلين موسع، من شاء مسح مقبلا و من شاء مسح مدبرا، فإنه من الأمر الموسع إن شاء اللّه» «3».

فيندفع بظهور ذيله في إرادة المسح بكل من الوجهين في وضوئين، لا الجمع بينهما في وضوء واحد. مع أنه حكاية حال لا تقتضي الوجوب، بل و لا الاستحباب.

و من ثمَّ فقد يحمل ذلك منه علي التكرار لمحض الاستظهار و الاحتياط في الاستيعاب الطولي- كما احتمله في الجواهر- لا للمشروعية، فضلا عن الوجوب

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الوضوء حديث: 22. عيون أخبار الرضا عليه السّلام ج: 2 ص: 121. طبع النجف الأشرف.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 23، عيون أخبار الرضا عليه السّلام ج 2 ص: 126 طبع النجف الأشرف.

(3) الوسائل باب: 20 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 272

______________________________

أو الاستحباب الشرعي.

هذا، و في جامع المقاصد: «و لا يبطل به الوضوء قطعا»، و هو المصرح به في كلام غير واحد، و نفي الخلاف فيه في السرائر، و ادعي الإجماع عليه في المدارك. و يجري فيه ما سبق في الغسلة الثالثة إذا لم يلزم المسح بمائها.

نعم، يشكل في مسح الرأس لو استلزم اختلاط ماء اليمني بما علي الرأس من المسحة الاولي، لاعتبار خلوص البلة في مسح الرجل، فلاحظ.

السابع: لو أغفل لمعة في الغسلة الأولي فانغسلت في الثانية فهل يبطل الوضوء أو لا؟ وجهان، اختار أولهما في القواعد و جامع المقاصد و عن التذكرة و البيان و غيرهما، و كأنه مبني منهم علي اعتبار نية الرفع أو الوجوب، لدعوي عدم تحققها في الثانية. و يظهر الإشكال فيه مما سبق في النية من عدم اعتبارهما، و مما سبق هنا من عدم استحباب الثانية، بل التثنية طرف التخيير في الواجب، بل ذلك هو الظاهر حتي بناء علي استحبابها، فهي أفضل فردي الواجب، لا أن الثانية مستحبة خارجة عن الوضوء. فليس المقصود بها إلا تحقيق الوضوء المشروع بأحد وجهيه المشروعين علي خلاف ما قصد، لأن ما اعتقده ثانية ليس في الواقع إلا متمما للأولي، و مثل هذا الخطأ لا يخل بالامتثال إلا إذا رجع للتقييد، و قد سبق غير مرة أنه يحتاج لعناية يبعد تحققها.

هذا، مضافا إلي قرب رجوع قصدها علي وجهها إلي قصد التدارك بها لو فرض النقص في الأولي، لقرب كون تشريعها لدفع وهم قصور الاولي، كما هو المناسب للتعليل بضعف الناس في رواية داود الرقي، و بالإسباغ في مكاتبة الكاظم عليه السّلام لعلي بن يقطين و رواية الفضل بن شاذان المتقدمة.

و لعله لذا مال إلي الصحة في كشف اللثام، و تردد في الذكري و المنتهي و محكي نهاية الاحكام و الإيضاح و الدروس.

ص: 273

و الأحوط استحبابا عدم التثنية في اليسري احتياطا (1) للمسح بها (2)، و كذلك اليمني إذا أراد المسح بها من دون أن يستعملها في غسل اليسري (3)، و كذلك الوجه لأخذ البلل منه عند جفاف بلل اليد.

و يستحب أن يبدأ الرجل بظاهر ذراعيه في الغسلة الاولي و الثانية، و المرأة تبدأ بالباطن فيهما (4).

______________________________

(1) كأنه للخروج عن شبهة الخلاف المتقدم في مشروعية الغسلة الثانية من الصدوق في الفقيه و صاحب الحدائق و غيرهما، إذ مع عدم مشروعيتها لا يجوز المسح بمائها.

(2) بل و باليمني أيضا لو غسلها بها في الثانية.

(3) كما لو غسل اليسري بالارتماس. أما لو غسلها مرة واحدة باليمني، فلا إشكال في المسح باليمني، إذ المعتبر هو المسح ببلتها بعد غسل اليسري بها.

(4) كما قد يستظهر من المقنعة و التهذيب و النهاية و المراسم و الوسيلة و المعتبر و النافع و المنتهي و غيرها، و نسب للأكثر في الروضة و محكي الذكري و لأكثر القدماء في المدارك.

و استدل له: بخبر محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه السّلام: «قال: فرض اللّه علي النساء في الوضوء للصلاة أن يبتدئن بباطن أذرعهن و في الرجل بظاهر الذراع» «1». و نحوه مرسل الصدوق «2»، بل لعله عينه. و في خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام الوارد في أحكام النساء: «و تبدأ في الوضوء بباطن الذراع و الرجل بظاهره» «3».

______________________________

(1) الوسائل باب: 40 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 40 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 122 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

ص: 274

______________________________

و لا إشكال في حملها علي الاستحباب، للسيرة القطعية و ظهور مفروغية الأصحاب عنه، بل ادعي عليه الإجماع في الغنية و المعتبر و المنتهي و محكي التذكرة، فلا بد من حمل الفرض في الأول علي مطلق الجعل و التشريع.

لكنها ظاهرة في التفصيل بين الرجل و المرأة في الغسلة الأولي، لصدق البدء بها في الوضوء، دون الثانية، بل هي مسكوت عنها- كما نبه له بعضهم- و لم تتضمن جعل موضوع التفصيل غسلة الوضوء، ليكون مقتضي الإطلاق التفصيل في كلتا الغسلتين.

و من ثمَّ لا يبعد حمل كلام جملة ممن تقدم و غيرهم علي إرادة ذلك، حيث أطلقوا استحباب البدء بالظاهر للرجل و بالباطن للمرأة، و نسب للأكثر في كلام غير واحد، و ادعي عليه الإجماع في المنتهي، و إن فهم منهم الشهيد- فيما حكي عنه- التفصيل في كلتا الغسلتين.

هذا، و في المبسوط خص التفصيل المذكور بالغسلة الاولي مع العكس في الثانية، و وافقه علي ذلك في الغنية و إشارة السبق و الشرائع و القواعد و الإرشاد و اللمعة و محكي السرائر و الإصباح و الكيدري و أكثر كتب العلامة و الدروس و البيان، و في الغنية و عن التذكرة دعوي الإجماع عليه. و قد صرح غير واحد بعدم الوقوف علي مستنده.

قال في الروض: «و جماعة من الأصحاب لم يفرقوا بين الغسلتين، لإطلاق الخبر، غير أن الشيخ في المبسوط ذكر الفرق، و تبعه عليه جماعة. و لم يثبت الوجه فيه».

لكن في الجواهر: «قد يحمل قوله عليه السّلام: «يبدأن» علي إرادة البدأة بالنسبة للغسلتين، فيدل حينئذ علي كون الثانية بعكسها، و إلا لم تكن بدأة».

و هو لا يخلو عن غموض، لوضوح أن صدق البدء بالنسبة إلي الظاهر أو الباطن يقتضي سبقه علي غيره في الغسل، و هو يتحقق بالسبق به في الغسلة الاولي.

ص: 275

______________________________

و مثله ما عن شرح المفاتيح من احتمال أن وجهه حملهم البدء في النص علي البدء في صب الماء، لا في الغسل، لتعذر استيعاب أحد الجانبين بالغسل قبل الآخر، بل لا بد من انغسال شي ء من الآخر معه، و لعدم التصريح بالغسل في النص.

و حينئذ فتعدد الصب لا يكون إلا بالغسلة الثانية.

إذ فيه- مع إمكان تعدد الصب في الغسلة الواحدة، و أن لازمه عدم تحقق موضوع هذه الوظيفة لمن اقتصر علي غسلة واحدة، و لا يظن من أحد البناء علي ذلك-: أن الوضوء لما كان هو نفس الغسل كان ظاهر البدء فيه- الذي تضمنه النص- هو البدء بالغسل لا بالصب، و المتعذر إنما هو التقديم مع الاستيعاب دقة لا عرفا، و المتعين حمل النص علي الثاني، كما سيأتي.

و أما ما أشير إليه في مصباح الفقيه من احتمال توجيه الحكم المذكور بأن التعاكس بين الغسلتين ادعي في تحقق الإسباغ و في ملاحظة ضعف الناس الذين أشير إليهما في تعليل تشريع الغسلة الثانية، ليتحقق استيلاء الماء بالنحو الكامل علي كل من الظاهر و الباطن بالصب عليه.

ففيه- مع أنه لا يجري مع تعدد الصب في الغسلة الواحدة، كما لا يقتضي تقييد البدء المطلوب في المقام بالتعاكس، كما هو ظاهرهم، بل مطلوبية التعاكس في قباله-: أن تشريع الغسلة الثانية للإسباغ و ضعف الناس لا يقتضي إلا الاهتمام باستيلاء الماء في الجملة، لا مطلوبيته بالوجه الأكمل.

إلا أن يرجع إلي محض الاستحسان و الاعتبار، الذي يبعد اعتمادهم عليه جدا، لكونه مغفولا عنه، كالوجهين المتقدمين، كما يبعد اطلاعهم علي أدلة تعبدية خفيت علي غيرهم، أو وجوه اعتبارية بعد كون أصل الحكم تعبديا.

و من ثمَّ كان الحكم منهم بذلك في غاية الغرابة.

ثمَّ إن ظاهر البدء بظاهر الذراع أو باطنه هو تقديمه بتمامه عرفا علي الآخر و إن لم يستوعبه دقّة، أو استلزم غسل شي ء من الجانب الآخر له تبعا، لتعذر غسل

ص: 276

______________________________

تمام أحد الجانبين دون غسل شي ء من الآخر عادة، كما سبق.

و أما ما في الجواهر من دعوي صدق البدء بأحد الجانبين عرفا بتقديم جزء منه، فهو غير ظاهر، و إنما يتجه لو عبّر بالبدء فيه أو منه.

كما أن موضوع النصوص هو الذراع، و حمله علي تمام اليد بنحو يشمل الكف يحتاج إلي قرينة، و إلحاقه به للتبعية غير ظاهر.

هذا، و أما الخنثي المشكل، فإن كان قسما ثالثا غير الرجل و المرأة خرج عن موضوع الوظيفتين واقعا، و إلا كان مرددا بين الوظيفتين و أمكنه الاحتياط بتكرار صورة الوضوء بالوجهين ناويا الوضوء بما يطابق وظيفته الواقعية منهما.

و أما ما في الجواهر من احتمال تحصيله الوظيفة بالغسلتين مخالفا بينهما بناء علي عدم التعاكس بين الغسلتين واقعا، الذي سبق أنه مقتضي النص.

ففيه: أنه مع نية الوضوء بكلتا الغسلتين لا يحرز مطابقة الوظيفة، و مع نيته بخصوص الغسلة المطابقة لوظيفته، بحيث لا تكون الأخري وضوءا، و إنما جي ء بها لمحض الاحتياط يلزم عدم إحراز كون البلة الباقية بلة وضوء، يجوز المسح بها.

بقي في المقام أمور أخر ذكرها الأصحاب في مستحبات الوضوء، أو تضمنتها النصوص.

منها: كون الوضوء بمدّ، كما صرح به الأصحاب، و نسبه إلي علمائنا في المنتهي، و إلي إجماعهم في الحدائق و محكي التذكرة، و نفي عنه الخلاف في كشف اللثام، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه، بل حكي عليه جماعة الإجماع».

و تقتضيه النصوص الكثيرة المتضمنة أن وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله كان بمدّ و غسله بصاع، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يتوضأ بمدّ و يغتسل بصاع. و المدّ رطل و نصف، و الصاع ستة أرطال» «1» و غيره.

و فعله صلّي اللّه عليه و آله و إن لم يستلزم الاستحباب إلا أن نقل الإمام عليه السّلام بنحو ظاهر في

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 277

______________________________

مداومته صلّي اللّه عليه و آله عليه ظاهر في الحث عليه، و لا سيما مع وقوعه في بعضها جوابا عن السؤال عن الوضوء- كصحيح أبي بصير «1» - و في آخر جوابا عن السؤال عما يجزي في الغسل- كموثق سماعة «2» - لظهورهما في بيان الموظف، لا محض الجائز.

و منه يظهر أنه لا مجال لحملها علي مجرد بيان الرخصة في صرف المد، تنبيها علي أنه لا ينبغي الزيادة عليه تعريضا بالعامة.

نعم، لا مجال لحملها علي الوجوب بعد مفروغية الأصحاب عن عدمه و صراحة جملة من النصوص في إجزاء الماء القليل.

هذا، و المد علي ما صرح به الأصحاب ربع الصاع- كما تضمنه صحيح زرارة المتقدم- و رطل و نصف بالمدني و رطلان و ربع بالعراقي.

و حيث كان الرطل العراقي واحدا و تسعين مثقالا- كما تقدم في تحديد الكر- يكون المدّ مائتين و خمسة مثاقيل إلا ربعا.

و حيث كان المثقال أربعة غرامات و ربع تقريبا- كما تقدم هناك أيضا- يكون المد ثمانمائة و سبعين غراما تقريبا، و هو يزيد عما اشتهر في عصورنا كثيرا.

و من الغريب ما عن المفيد في الأركان من قوله: «من توضأ بثلاث أكف مقدارها مد أسبغ، و من توضأ بكف أجزأه»، لوضوح أن الكف لا يبلغ ثلث المدّ مهما كان كبيرا. فلا بد من حمل نصوص المقام علي ما يزيد علي الثلاث أكف.

و لعل الملحوظ فيه الإتيان بآداب الوضوء المقارنة له بالوجه المتعارف من غسل اليدين مرة أو مرتين و المضمضة بثلاث أكف و الاستنشاق كذلك و تعدد الغرفة لكل عضو إما في غسلة واحدة أو في غسلتين، أو مل ء الكف بالغرفة الواحدة، لتحقيق الإسباغ، فإن ذلك مع ما يقارنه عادة من سقوط شي ء من الماء عند اغترافه أو صبه في الكف يقارب المد.

و لو فرض الاقتصار علي غسل الأعضاء المفروضة لم يبعد عدم استحباب صرف المد لها بتكثير الغرفات، لأن نصوص المد قد تضمنت وضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله به، و وضوؤه الغالب وقوعه منه بحيث ينسب إليه كان مشتملا علي المستحبات

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 278

______________________________

المذكورة ظاهرا، فيكون المتيقن من نصوص المد ما يشتمل عليها. فتأمل.

و بالجملة: لا بد من حمل نصوص المدّ علي عدم الاقتصار علي ثلاث أكف، إما لاختصاص استحبابه بصورة الإتيان بآداب الوضوء الخارجة عنه، أو بالالتزام باستحباب تكرار الغرفات لأعضاء الوضوء بالنحو المستوعب للمد إذا اقتصر عليها.

و لا وجه مع ذلك لما عن الشهيد من حمله علي ما يعم ماء الاستنجاء، مع خروجه عنه حقيقة.

و مجرد اشتمال خبر عبد الرحمن بن كثير المتقدم في أدعية الوضوء و صحيح أبي عبيدة المتقدم في أوائل الكلام في تثنية الغسلات علي ذكر الاستنجاء مع أن موضوع كلام الراوي فيهما الوضوء، لا يصلح شاهدا لإرادته من نصوص المقام، و إن استشهد به قدّس سرّه.

و مثله ما في الجواهر من احتمال تأيده بما تضمن المبالغة في قلة ماء الوضوء، و النهي عن السرف فيه «1».

لاندفاعه بأن نصوص المبالغة في قلة الماء ظاهرة في إجزائه «2» لا في الحث عليه، كما هو صريح صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: أسبغ الوضوء إن وجدت ماء، و إلا فإنه يكفيك اليسير» «3».

و أما دليل النهي عن السرف، فهو مورود لنصوص المدّ، لأن مقتضاها عدم تحقق السرف به، و إنما يكون السرف بالزيادة عليه من دون أن يكون مطلق الزيادة سرفا علي ما يأتي في مستحبات الغسل.

و منها: إسباغ الوضوء، كما تضمنته النصوص الكثيرة «4»، كصحيح علي بن

______________________________

(1) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الوضوء حديث: 2 و راجع باب: 52 من الأبواب المذكورة.

(3) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(4) راجع الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء.

ص: 279

______________________________

جعفر المتضمن لقوله صلّي اللّه عليه و آله: «من أسبغ وضوءه و أحسن صلاته. فقد استكمل حقيقة الإيمان» «1».

و دعوي: أن الإسباغ لغة لما كان هو الإتمام و الاستيفاء كان المراد به في النصوص المتقدمة استيعاب الأعضاء بالوضوء الذي هو الفرض فيه.

مدفوعة: بأن مقتضي صحيح الحلبي المتقدم و ما تضمن تطبيقه علي الغسلة الثانية حمل الإسباغ في نصوصه علي تكثير الماء زائدا علي القدر المجزي، و هو استيفاء له بالوجه الأكمل.

و لا سيما مع ظهور بعض تلك النصوص في كونه كمالا في الوضوء، كقوله صلّي اللّه عليه و آله: «إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة، و أمرنا بإسباغ الوضوء، و أن لا ننزي حمارا علي عتيقة» «2»، فإن اختصاصهم عليهم السّلام بذلك لا يناسب إرادة إتمام الوضوء المفروض جدا.

و منه يظهر أنه لا وجه لإهمال الأصحاب ذكر الإسباغ في مستحبات الوضوء، حيث لم أعثر عاجلا علي من ذكره عدا الشيخ في النهاية مصرحا بأن من توضأ بمدّ فقد أسبغ، كما ذكره في المستند مستدلا عليه بأدلة المد، و قد يومي إليهما في الرياض حيث جعل المستحب هو إسباغ الوضوء بمد.

و كأن إهمال من أهمله مبني علي الاكتفاء عنه بذكر المد، لكنه أعم منه، و أنه يمكن تحصيله بما دونه بالاقتصار علي الوضوء المفروض لكل عضو غرفتان أو غرفة وافية، و هو لا يبلغ المدّ كما سبق.

و منها: السواك، كما في الغنية و إشارة السبق و الوسيلة و القواعد و جامع المقاصد و كشف اللثام و الروضة و الحدائق و عن التذكرة و الذكري، و اقتصر في المراسم علي قوله: «و السواك في وضوء صلاة الليل من وكيد السنن»، و في الحدائق أن الظاهر عدم الخلاف فيه، بل صرح بالإجماع عليه في الغنية و كشف

______________________________

(1) الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 54 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 280

______________________________

اللثام.

و يقتضيه جملة من النصوص، كصحيح معاوية بن عمار في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: «و عليك بالسواك عند كل وضوء» «1» و غيره، و ظاهره- كغيره مما تضمن كونه عند الوضوء- إرادة إيقاعه قبله بعد معلومية عدم إرادة إيقاعه عند الانشغال به.

و أظهر من ذلك ما تضمن الأمر به للوضوء «2»، بل هو صريح الصحيح عن المعلي بن خنيس: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السواك بعد الوضوء. فقال: الاستياك قبل أن يتوضأ. قلت: أ رأيت إن نسي حتي يتوضأ. قال: يستاك ثمَّ يتوضأ ثلاث مرات» «3».

هذا، و لا ريب نصا «4» و فتوي في استحباب السواك مطلقا، و أنه من السنن المؤكدة، فاستحبابه للوضوء إنما هو بمعني تأكد استحبابه حينه، كما يتأكد لبعض الأمور الأخر، و به صرح بعضهم.

و إهمال جملة منهم له في آداب الوضوء في غير محله، بعد ما سبق.

ثمَّ إن في موثق السكوني: «إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: التسوك بالإبهام و المسبحة عند الوضوء سواك» «5».

و في صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «عن الرجل يستاك مرة بيده إذا قام إلي صلاة الليل و هو يقدر علي السواك. قال: إذا خاف الصبح فلا بأس به» «6».

و عن علي بن إبراهيم بإسناده: «أدني السواك أن تدلكه [تدلك. في]

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب السواك حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب السواك حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(4) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب السواك.

(5) الوسائل باب: 9 من أبواب السواك حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 9 من أبواب السواك حديث: 1.

ص: 281

______________________________

بإصبعك» «1».

و في خبر سدير عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: شكت الكعبة إلي اللّه عز و جل ما تلقي من أنفاس المشركين فأوحي اللّه إليها: قرّي كعبة، فإني مبدلك بهم قوما يتنظفون بقضبان الشجر، فلما بعث اللّه محمدا صلّي اللّه عليه و آله أوحي إليه مع جبرئيل بالسواك و الخلال» «2».

و عن مكارم الأخلاق: «و كان صلّي اللّه عليه و آله يستاك بالأراك أمره بذلك جبرئيل عليه السّلام» «3».

و عن الرسالة الذهبية للرضا عليه السّلام: «و اعلم يا أمير المؤمنين أن أجود ما استكت به ليف الأراك، فإنه يجلو الأسنان و يطيب النكهة و يشد اللثة، و هو نافع من الحفر إذا كان باعتدال، و الإكثار منه يرق الأسنان و يزعزعها و يضعف أصولها» «4».

و في مرسل القطب الراوندي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أنه قال: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة و يطيب الفم، و يذهب بالحفر، و هي سواكي و سواك الأنبياء قبلي» «5».

و مقتضي الجمع بينها أفضلية قضبان الأراك و ليفه و الزيتون، ثمَّ مطلق قضبان الشجر- و لعله المراد بالغصن الأخضر في الروضة- ثمَّ الإصبع.

نعم، ذلك مبني علي التسامح في أدلة السنن، لضعف سند أكثر النصوص المتقدمة، فلاحظ.

و منها: صب الماء علي أعلي كل عضو، كما ذكره في العروة الوثقي، و قد يستدل له بصحيح زرارة الحاكي لوضوء النبي صلّي اللّه عليه و آله و المتضمن لوضع

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب السواك حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب السواك حديث: 13.

(3) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب السواك حديث: 5.

(4) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب السواك حديث: 6.

(5) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب السواك حديث: 7.

ص: 282

______________________________

الماء علي الجبهة و المرفقين «1»، و الآخر المتضمن لإسداله علي أعلي الوجه «2»، بل بغيرهما من نصوص الوضوءات البيانية الظاهرة في تحقق الغسل بمجرد صب الماء «3» بناء علي وجوب الابتداء بالأعلي.

و يظهر الإشكال فيه مما تقدم غير مرة من أن مجرد صدور شي ء منه صلّي اللّه عليه و آله أو حكايته بالنصوص المذكورة لا يدل علي استحبابه.

و قد تقدم في مسألة وجوب الابتداء بأعلي الوجه توضيحه.

و منها: أن يكون الغسل بصب الماء علي العضو لا برمسه فيه، كما في العروة الوثقي. و لا وجه له إلا نصوص الوضوءات البيانية، التي أشرنا إلي إشكال الاستدلال بها.

نعم، لو تمَّ ما يأتي من استحباب الغسل بمسح العضو يتعين مرجوحية الارتماس.

و منها: إمرار اليد علي العضو المغسول، كما ذكره في المستند و نسبه للمشهور، مستدلا عليه بخبر الرقاشي: «قلت لأبي الحسن موسي عليه السّلام: كيف أتوضأ للصلاة؟ فقال: لا تعمق في الوضوء و لا تلطم وجهك بالماء لطما و لكن اغسله من أعلي وجهك إلي أسفله بالماء مسحا، و كذلك فامسح الماء علي ذراعيك و رأسك و قدميك» «4». لكنه لو تمَّ اقتضي استحباب المسح بالنحو الذي لا يلزم التعميق.

و أما الاستدلال له بالاستظهار و نصوص الوضوءات البيانية، فلا يخلو عن إشكال، لعدم الدليل علي استحباب الاستظهار شرعا في المقام، بل يجب عقلا مع الشك.

و عدم ظهور النصوص المذكورة في الاستحباب، علي ما تقدم، و لا سيما

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 6، 7.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 22.

ص: 283

______________________________

مع ظهور بعضها في عدمه و الاكتفاء بالصب «1»، للاقتصار فيه علي مسح الجانب الذي لا صب عليه.

و منها: فتح العينين عند الوضوء، كما هو ظاهر الصدوق في الفقيه و الهداية و صريحه في المقنع، و حكي عن جماعة، لما أرسله قدّس سرّه في الكتب الثلاثة و أسنده في ثواب الأعمال إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله من طريق ابن عباس من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «افتحوا عيونكم عند الوضوء لعلها لا تري نار جهنم» «2»، و ما عن نوادر الراوندي و دعائم الإسلام و الجعفريات من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «أشربوا أعينكم [عيونكم. خ. ل] الماء لعلها لا تري نارا حامية» «3».

و استظهر في الحدائق- تبعا لما حكاه عن جملة من مشايخه- أن المراد باستحباب ذلك مجرد فتحهما استظهارا لغسل نواحيهما، دون غسلهما، لما فيه من المشقة و المضرة، حتي أنه روي أن ابن عمر كان يفعله فعمي لذلك.

و قريب منه ما حكاه في المستند عن والده، محتجا أيضا بدعوي الشيخ في الخلاف الإجماع علي عدم وجوب الغسل و لا استحبابه.

لكنه مخالف لظاهر الخبرين، خصوصا الثاني، لظهوره في الحث علي إدخال الماء فيهما بنحو يصدق معه الإشراب. و تحقق الضرر بذلك غير معلوم.

و عمي ابن عمر- لو تمَّ- لعله ناش عن تعميقه في ذلك.

و إجماع الخلاف- لو تمَّ- يقتضي عدم استحباب غسل العينين حتي لغسل نواحيهما، فلا يكون شاهدا علي الحمل المذكور.

و مثله ما استقربه و حكي عن بعض مشايخه احتماله من حمله علي التقية بلحاظ نسبته للشافعي لأن رواه الأول من العامة، و الثاني ضعيف السند.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 6، 10.

(2) الوسائل باب: 53 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل باب: 45 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 2، 3. و البحار ج: 80 ص: 331 الطبعة الحديثة، و مجلد 18 ص: 80 الطبعة القديمة، كتاب الطهارة باب: 6 من أبواب الوضوء حديث:

9.

ص: 284

______________________________

لاندفاعه بأن ذلك وحده لا يكفي في الحمل علي التقية، بل لا مجال لها في الخبرين بعد كونهما نبويين.

بل يتعين البناء علي الاستحباب بناء علي قاعدة التسامح في أدلة السنن التي جروا عليها في أمثال المقام.

و أما الإجماع المتقدم عن الخلاف، فهو- لو تمَّ سوقه لنفي الاستحباب الذي تعرض له في عنوان المسألة، لا لنفي الوجوب الذي تعرض له في ذيلها- لا يوجب القطع، ليكون مانعا من جريان قاعدة التسامح المذكورة.

و منها: صفق الوجه بالماء، كما يظهر من الصدوق في الفقيه و حكي عن أبيه، لمرسل عبد اللّه بن المغيرة عن الصادق عليه السّلام: «قال: إذا توضأ الرجل فليصفق وجهه بالماء، فإنه إن كان ناعسا فزع و استيقظ، و إن كان البرد فزع فلم يجد البرد» «1».

لكن في موثق السكوني: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا تضربوا وجوهكم بالماء إذا توضأتم، و لكن شنوا الماء شنا» «2» و تقدم في خبر الرقاشي قول الكاظم عليه السّلام: «لا تعمق في الوضوء و لا تلطم وجهك بالماء لطما، و لكن اغسله من أعلي وجهك إلي أسفله بالماء مسحا» «3».

و قد جمع الشيخ في التهذيب بحمل الأول علي الإباحة و ما بعده علي الندب، و قال في الاستبصار: «فالوجه في الجمع بينهما أنا نحمل أحدهما علي الندب و الاستحباب و الآخر علي الجواز، و الإنسان مخير في العمل بهما».

و هو مخالف لظاهر النصوص المتقدمة لظهورها في الحث لا في محض الجواز و الإباحة.

و احتمل في الحدائق حمل الأول علي الناعس و البردان، و ما بعده علي ما عداهما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 22.

ص: 285

______________________________

و يشكل: بظهور الأول في الاستحباب مطلقا، و إن اختصت الفائدة المبينة فيه بالناعس و البردان.

و لعل الأقرب حمل الأول علي البدء بصفق الوجه، و حمل ما بعده علي الاقتصار في غسل الوجه علي ضربه بالماء، فيكون المستحب ضرب الوجه أولا بالماء، ثمَّ تفريقه علي الوجه بالمسح و نحوه، كما لعله المناسب لمقابلته في الثاني بالشن الذي هو الصب المتفرق، و في الثالث بالمسح المستلزم لتفريق الماء علي الوجه.

و لعله إليه يرجع ما حكاه في الحدائق عن بعض الأصحاب من احتمال حمل الصفق في الأول علي كونه فعلا سابقا علي الوضوء لا غسلا وضوئيا، فلاحظ.

و منها: حضور القلب حين الوضوء، كما ذكره في العروة الوثقي. و استدل له بما عن أمير المؤمنين و الحسن و زين العابدين عليهم السّلام من تغير حالهم حينه خوفا منه تعالي. بل هو أوضح من أن يحتاج للاستدلال، لما هو المعلوم من كمال العمل العبادي بحضور القلب و كثرة ثوابه بذلك.

و منها: الاستقبال حين الوضوء، لما روي من قولهم عليهم السّلام: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» «1».

و عدم الجلوس في مظان النجاسة، لما فيه من تجنب احتمالها.

و قد ذكرهما في المستند. لكن قال: «في عدّهما من مستحبات الوضوء بخصوصه- كما فعله بعضهم- نظر».

هذا ما عثرت عليه عاجلا في كلماتهم من مستحبات الوضوء، و ربما فاتنا بعض الأمور الأخر، كما ربما يستفاد استحباب بعض الأمور مما تقدم في أفعال الوضوء و شرائطه، فلاحظ.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 47 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 4، 5، 7، 8. و البحار مجلد: 10 ص 93، و مناقب ابن شهرآشوب ج 3 ص: 180، 289، طبع النجف الأشرف.

ص: 286

و يكره الاستعانة بغيره في المقدمات القريبة (1).

______________________________

(1) كما في العروة الوثقي و ظاهر جامع المقاصد و الجواهر. و اقتصر علي صب الماء في المبسوط و النهاية و المنتهي و كشف اللثام و المستند. و أطلق كراهة الاستعانة في الوسيلة و الشرائع و النافع و المعتبر و القواعد و الإرشاد، بل صرح في الروض و المدارك بعمومها لمثل إحضار الماء و تسخينه، خلافا لما في كشف اللثام و الرياض و المستند و الجواهر من عدم عمومها لذلك، بل نفاهما في المستند عن مثل رفع الثوب عن العضو.

و الدليل علي أصل الحكم في كلماتهم موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عن آبائه عن علي عليهم السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: خصلتان لا أحب أن يشاركني فيها أحد: وضوئي، فإنه من صلاتي، و صدقتي، فإنها من يدي إلي يد السائل، فإنها تقع في يد الرحمن» «1».

و خبر شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «كان أمير المؤمنين إذا توضأ لم يدع أحدا يصب عليه الماء، فقيل له: يا أمير المؤمنين لم لا تدعهم يصبون عليك الماء؟ فقال: لا أحب أن أشرك في صلاتي أحدا، و قال اللّه تبارك و تعالي:

فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «2» و خبر الوشاء: «دخلت علي الرضا عليه السّلام و بين يديه إبريق يريد أن يتهيأ منه للصلاة فدنوت منه لأصب عليه فأبي ذلك فقال: مه يا حسن، فقلت له: لم تنهاني أن أصب علي يديك تكره أن أوجر؟ قال: تؤجر أنت و أوزر أنا! فقلت: و كيف ذلك؟

فقال: أما سمعت اللّه عز و جل يقول فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً و ها أنا ذا أتوضأ للصلاة،

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 287

______________________________

و هي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد» «1».

و مرسل الإرشاد في بيان وعظ الرضا عليه السّلام للمأمون و تخويفه باللّه تعالي و قبوله منه علي مضض و غيظ: «و دخل الرضا عليه السّلام يوما فرآه يتوضأ للصلاة و الغلام يصب علي يده الماء. فقال عليه السّلام: لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربك أحدا، فصرف المأمون الغلام و تولي تمام وضوئه بنفسه، و زاد ذلك في غيظه و وجده» «2».

و يتعين حملها علي الكراهة، لظهور مفروغية الأصحاب عن عدم الحرمة، و لما تقدم في مسألة اعتبار المباشرة.

و ربما ادعي أن ذلك مقتضي الجمع بينها و بين صحيح أبي عبيدة الحذاء:

«وضأت أبا جعفر عليه السّلام يجمع و قد بال، فناولته ماء فاستنجي ثمَّ صببت عليه كفا فغسل به وجهه [و كفا غسل به ذراعه الأيمن] و كفا غسل به ذراعه الأيسر.» «3»

و خبر عبد الرزاق قال: «جعلت جارية لعلي بن الحسين عليهما السّلام تسكب الماء عليه و هو يتوضأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية علي وجهه فشجه.» «4».

لكن الإنصاف أنهما لا يناسبان شدة الكراهة التي دلت عليها نصوص المقام، بمقتضي تضمنها تطبيق الإشراك في العبادة، و التعبير بالوزر في خبر الوشاء، كما يناسبها نهي الرضا عليه السّلام للمأمون و الإقدام علي إغاظته في مرسل الإرشاد، إذ يبعد مع ذلك جدا خروج الإمامين السجاد و الباقر عليهما السّلام عنها.

و دعوي: صدور ذلك منهما لبيان الجواز.

مدفوعة: ببعد خفاء الحال في ذلك إلي حين صدوره منهما. و بعد التعويل في البيان عليه مع كونه معرضا للخفاء و الضياع.

فلعل الأولي حمل الصحيح علي الوضوء لغير الصلاة، لأنه حاك لقضية

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الإرشاد ص 354 طبع النجف الأشرف سنة 1392 ه و قد ذكره في الوسائل في باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 4. مع تغيير بسيط و لم يذكر الذيل.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 8.

(4) مستدرك الوسائل باب: 41 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 3.

ص: 288

______________________________

خارجية لا إطلاق لها، و قصر الحكم بالكراهة علي الوضوء للصلاة، كما هو مورد نصوص المقام المناسب للتعليل الذي تضمنته، لظهورها في تطبيق العبادة علي الصلاة، لا علي الوضوء.

و لعل إطلاق الأصحاب مبني علي غفلتهم عن الخصوصية المذكورة أو التغافل عنها، لتسامحهم في أدلة السنن.

و أما خبر عبد الرزاق، فربما ينزّل علي الضرورة، أو علي إرادة سكب الماء في الإناء مقدمة للوضوء لا الصب علي اليد الذي هو مورد نصوص المقام، و لا سيما مع قرب نقل الراوي الحال من دون مشاهدة، حيث قد يشتبه عليه بعض الخصوصيات فلا يحسن نقلها أو التعبير عنها، لانصراف غرضه لبيان حلم الإمام عليه السّلام و سمو خلقه.

ثمَّ إنه قد استشكل في المدارك في الحكم، لضعف النصوص، فلا تنهض بالخروج عن ظاهر صحيح أبي عبيدة.

و كأنه مبني علي عدم التعويل علي قاعدة التسامح في أدلة السنن، حيث لا مجال لدعوي انجبار ضعف النصوص بعمل الأصحاب، لقرب جريهم علي قاعدة التسامح، كما أشرنا إليه غير مرة.

و أما موثق السكوني فسيأتي الكلام فيه.

نعم، لا يبعد تعاضد النصوص بعضها ببعض، فتأمل.

هذا، و قد يستفاد عموم الكراهة لمطلق الاستعانة من نصوص المقام، خصوصا موثق السكوني، لأنه و إن لم يتضمن عنوان الاستعانة إلا أنه تضمن عنوان المشاركة، و لا يراد بها المشاركة في نفس الوضوء، بل في مقدماته، و مقتضي إطلاقه مرجوحية المشاركة حتي في المقدمات البعيدة، فلا وجه لقصر الحكم علي الاستعانة في المقدمات القريبة، فضلا عن خصوص الصب، و لا سيما مع ما ورد في سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله من أنه كان يضع طهوره بالليل بيده «1»، و في سيرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 5.

ص: 289

______________________________

السجاد عليه السّلام من أنه كان لا يحب أن يعينه علي طهوره أحد، و كان يستقي الماء لطهوره و يخمره قبل أن ينام «1».

و يشكل: بأن الموثق و إن كان يعم المقدمات البعيدة إلا أن المناسبات الارتكازية تقتضي حمله علي محض قلة الثواب، بلحاظ أن أفضل الأعمال أحمزها، و لكل مقدمة أجرها إذا اتي بها بداعي التوصل لذيها، و لا يظن من أحد إنكار ذلك أو التشكيك فيه.

و إنما الكلام في المرجوحية المساوقة للكراهة الشديدة المناسبة للتنفير، و لا ينهض الموثق بها، بل ينحصر الدليل عليها بخبري شهاب و الوشاء و مرسل الإرشاد، لما سبق، و حيث كانت مختصة بصب الماء لزم الاقتصار عليه.

و دعوي: أن تطبيق الإشراك في العبادة فيها علي الصب قرينة علي أن المراد به ما يعم الاستعانة بمقدمات العبادة، فيدل علي عموم كراهة ذلك.

مدفوعة: بأن التطبيق المذكور لما لم يكن عرفيا بل تعبديا لم ينهض بتفسير الإشراك، بل يتعين الجمود عليه.

بل الالتزام بعموم الكراهة بالنحو المذكور للمقدمات البعيدة جدا في الوضوء فضلا عن غيره من العبادات، بحيث لو دار الأمر بين الاستعانة فيها و الاستعانة بالصب لم يفرق بينهما بعيد جدا لا تناسبه المرتكزات المتشرعية، و سيرة المعصومين عليهم السّلام و مواليهم. فالمتعين الاقتصار علي الصب.

هذا، و الظاهر عدم توقف الكراهة علي طلب الإعانة من المتوضئ. و ما عن بعضهم من توقفها علي ذلك، و أنه به يجمع بين نصوص المقام و صحيح أبي عبيدة، كما تري، لقوة ظهور بعض نصوص المقام في عدم طلب المتوضئ الصب.

و دعوي: عدم صدق الاستعانة بدونه، لأن هيئة الاستفعال تفيد طلب المادة، كما في الاستغفار.

ممنوعة، فإن الهيئة المذكورة قد تصدق من دون طلب، كما في

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 41 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 2.

ص: 290

______________________________

الاستصحاب و الاستخراج، مضافا إلي عدم اشتمال نصوص المقام علي عنوان الاستعانة، و إنما هي مذكورة في كلمات الأصحاب.

ثمَّ إنه بعد أن عمم في الروض الحكم لطلب إحضار الماء و تسخينه قال:

«كل ذلك بعد العزم علي الوضوء، أما لو استعان لا له ثمَّ عرض له إرادة الوضوء لم يكره قطعا».

و لم يتضح الوجه فيما ذكره بعد إطلاق النصوص المتقدمة، حيث يصدق الإشراك حينئذ، فتأمل.

بقي الكلام في بعض الأمور الأخر التي ذكرها الأصحاب (رضي اللّه عنهم) في مكروهات الوضوء.

منها: التمندل، كما في المعتبر و الشرائع و النافع و الإرشاد و القواعد و الروض و عن جمل الشيخ و التذكرة و الدروس و غيرها، بل في الروض و عن الدروس و غيره أنه المشهور.

و استدل عليه بخبر محمد بن حمران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من توضأ و تمندل كتبت له حسنة، و من توضأ و لم يتمندل حتي يجف وضوؤه كتب له ثلاثون حسنة» «1».

لكنه لا يدل علي كراهته، بل أفضلية تركه، و لعله لذا عبّر بذلك في المبسوط و النهاية و الخلاف و محكي الذكري، و هو ظاهر الصدوق، حيث اقتصر في الفقيه علي ذكر الحديث، و في المقنع علي التعبير بمضمونه، بل ربما كان هو المراد مما في إشارة السبق و الوسيلة من جعل ترك التمندل من السنن و الآداب.

و أما تنزيل كلام المشهور علي ذلك، فقد يشكل بلحاظ ما في كلام بعضهم من جعل كلام الشيخ خلافا في المسألة.

هذا، و قد ينافي الخبر المذكور موثق إسماعيل بن الفضل: «رأيت أبا عبد اللّه عليه السّلام توضأ للصلاة ثمَّ مسح وجهه بأسفل قميصه، ثمَّ قال: يا إسماعيل افعل

______________________________

(1) الوسائل باب: 45 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 291

______________________________

هكذا فإني هكذا أفعل» «1». و صحيح منصور ابن حازم: «رأيت أبا عبد اللّه عليه السّلام و قد توضأ و هو محرم، ثمَّ أخذ منديلا فمسح به وجهه» «2».

و غير واحد من النصوص المتضمنة أنه كان لأمير المؤمنين عليه السّلام خرقة يتمندل بها «3». فإن ذلك لا يناسب أفضلية الترك جدا.

و لا مجال لحمل هذه النصوص علي التقية بعد ما حكاه الشيخ في الخلاف عن أكثر فقهاء العامة من موافقتهم له في الحكم المذكور، و عن مالك و الثوري و ابن عباس من أنه لا بأس به في الغسل دون الوضوء، و عن ابن أبي ليلي و ابن عمر من أنه مكروه في الوضوء و الغسل معا. و حكي عن كتبهم ما يدل علي اختلافهم في ذلك.

و ما في الجواهر من مداومتهم علي التمندل، غير واضح المأخذ، بنحو يصح التعويل عليه في الإعراض عن هذه النصوص الكثيرة.

كما لا مجال لدعوي وهن هذه النصوص بإعراض الأصحاب، لما تكرر منا من عدم صلوح عملهم و إعراضهم للجبر و التوهين في المندوبات و المكروهات غالبا. و ربما نزّلت علي بعض الوجوه التي لا تخلو عن إشكال أيضا.

و من ثمَّ كان التوقف هو الأنسب بالنظر للأدلة. و لعله لذا حكي عن ظاهر المرتضي في شرح الرسالة و الشيخ في أحد قوليه عدم الكراهة. بل قد يكون الأنسب بها رجحان التمندل. فلاحظ.

هذا، و هل يختص الحكم بالمسح بالمنديل- كما هو ظاهر التمندل في كلام جملة من الأصحاب و صريح بعضهم- أو يعم مطلق المسح و لو بمثل الكم- كما هو ظاهر الشرائع- أو يعم مطلق إزالة البلل و لو بتجفيفه بمثل التعرض للنار- كما

______________________________

(1) الوسائل باب: 45 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 45 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 45 من أبواب الوضوء حديث: 7، 8، 9.

ص: 292

______________________________

استظهره في الروض- وجوه.

مقتضي الجمود علي النص الأول، و إن كان الظاهر الثالث، لإلغاء خصوصية مورد النص عرفا، لانسباق كون الغرض بقاء بلل الوضوء، كما يشير إليه قوله عليه السّلام:

«و لم يتمندل حتي يجف وضوؤه». و أضعفها الثالث.

و منها: الوضوء في مكان الاستنجاء، كما ذكره في العروة الوثقي. و كأنه لما عن جامع الأخبار: «قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: عشرون خصلة تورث الفقر، أوله القيام من الفراش للبول عريانا. و غسل الأعضاء في موضع الاستنجاء» «1».

لكنه لا يختص بالوضوء، نظير ما تقدم في استحباب تجنب مواضع النجاسة.

و أما دعوي معارضته برواية عبد الرحمن بن كثير الحاكية لوضوء أمير المؤمنين «2» عليه السّلام، و المتقدمة في أدعية الوضوء و صحيح أبي عبيدة الحاكي لوضوء الباقر «3» عليه السّلام، بجمع المتقدم عند الكلام في الاستعانة. فهي ممنوعة، لأنهما إنما تضمنا الوضوء بعد الاستنجاء، لا في موضعه، لإمكان الانتقال عنه قليلا.

و منها: الوضوء في المسجد من حدث البول و الغائط، كما في الحدائق و المستند، و نسب في الأول إلي جملة من الأصحاب.

لكن في النهاية في أحكام المساجد: «و لا يجوز التوضؤ من الغائط و البول في المساجد، و لا بأس بالوضوء فيها من غير ذلك»، و نحوه عن السرائر.

و قد حمل في الحدائق كلام النهاية علي الاستنجاء.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 293

و قد يناسبه عدم تعرضه لذلك في أحكام الوضوء مع ما عن المبسوط من المنع عن الاستنجاء فيها و التصريح بجواز الوضوء، بل إطلاق التوضؤ علي التطهر

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 29 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 293

______________________________

من الخبث غير بعيد، و ليس هو كإطلاق الوضوء.

نعم، هو لا يناسب ذيله المتضمن جواز الوضوء بها من غير الغائط، إذ لو أريد به التطهير لكان محرما أيضا، لنجاسة ماء الغسالة، بل هو أولي من ماء الاستنجاء الذي قال بعضهم بطهارته و آخر بعدم تنجيسه.

و كيف كان، فيدل علي الكراهة صحيح رفاعة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوضوء في المسجد فكرهه من البول و الغائط» «1» المحمول علي الكراهة، لظهور المفروغية عن ذلك بين الأصحاب و قيام السيرة عليه.

و بذلك يظهر ضعف ما تقدم من النهاية و السرائر لو كان مما نحن فيه.

و أما حمله علي الاستنجاء- كما استقر به في الحدائق- فهو مخالف للظاهر، بل حمل الوضوء فيه علي خصوص الاستنجاء لا يناسب تقييده بالبول و الغائط، لانحصاره بهما مفهوما.

و حمله علي مطلق التطهير لا يناسب تقييد الكراهة بهما، بل يعم غيرهما من النجاسات، لنجاسة ماء الغسالة نظير ما سبق من النهاية.

هذا، و في صحيح بكير عن أحدهما عليهما السّلام: «قال: إذا كان الحدث في المسجد فلا بأس في الوضوء بالمسجد» «2». و في حمله علي غير البول و الغائط، بلحاظ غلبة عدم وقوعهما في المسجد، مع الكراهة فيهما مطلقا، عملا بإطلاق الأول. أو حمله علي العموم و حمل البأس فيه علي الحرمة مع تجريده عن المفهوم. أو إبقائه علي إطلاقه مع ثبوت المفهوم له و حمل البأس فيه علي ما يعم الكرهة، بأن يكون المدار في الكراهة علي وقوع الحدث في غير المسجد، حتي في البول و الغائط، و يكون إطلاق الأول منزلا علي الغالب.

وجوه، أقربها الأول، لقوة ظهور صحيح رفاعة في خصوصية البول و الغائط،

______________________________

(1) الوسائل باب: 57 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 57 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 294

______________________________

المستلزم لضعف الوجه الثالث، و قوة ظهور صحيح بكير في المفهوم، المستلزم لضعف الوجه الثاني.

و ربما يبقي كل منهما علي إطلاقه، و يجمع بينهما بتعدد جهة الكراهة، فيكره الوضوء في المسجد من الغائط و البول مطلقا، و تتأكد الكراهة مع وقوعهما خارج المسجد، كما هو الغالب، و لا يكره الوضوء من غيرهما إلا مع وقوعه خارج المسجد، فلاحظ.

و منها: الوضوء من الإناء المفضض و المذهّب و المنقوش بالصور، و كذا الوضوء فيه، فقد صرح الأصحاب (رضي اللّه عنهم) بكراهة استعمال الإناء المفضض، بل لعله لا خلاف ظاهر فيه، كما صرح بعضهم بإلحاق المذهب به عندهم و إن خلت عنه أكثر الفتاوي، لدعوي إرادتهم له تبعا أو بالأولوية، كما صرح بكراهة الوضوء من الإناء المنقوش بالصور في المستند.

و كيف كان، فيقتضيه موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «عن الطست يكون فيه التماثيل أو الكوز أو التور يكون فيه التماثيل أو فضة، لا يتوضأ منه و لا فيه» «1».

مضافا إلي ما دل علي كراهة استعمال المفضض، بناء علي عمومه لمطلق الاستعمال، علي ما يأتي الكلام فيه في آخر كتاب الطهارة إن شاء اللّه تعالي. و كأن الحكم في المذهّب للإلحاق بالمفضض، لما سبق، فلاحظ.

و منها: نفض المتوضئ يده، كما في المستند، قال: «للنبوي العامي: «إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم». و كونه عاميا غير ضائر للمسامحة».

و كأن المراد به نفض اليد بعد الوضوء لإزالة الماء عنها، فيساوق ما تقدم في التمندل، بناء علي كون الملحوظ فيه مطلق إزالة البلل.

و منها: الوضوء بالماء المشمس، كما صرح به جماهير الأصحاب، علي ما في مفتاح الكرامة، بنحو يظهر منهم التسالم عليه في الجملة- و إن اختلفوا

______________________________

(1) الوسائل باب: 55 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 295

______________________________

فيه سعة و ضيقا، علي ما يأتي- بل ادعي في الخلاف الإجماع علي ذلك مع القصد إليه.

و يقتضيه خبر إبراهيم بن عبد الحميد، بل موثقه عن أبي الحسن عليه السّلام: «قال:

دخل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله علي عائشة و قد وضعت قمقمها في الشمس، فقال: يا حميراء ما هذا؟ قالت: أغسل رأسي و جسدي. قال: لا تعودي، فإنه يورث البرص» «1».

و خبر إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

الماء الذي تسخنه الشمس لا تتوضؤوا به و لا تغتسلوا به و لا تعجنوا به، فإنه يورث البرص» «2». و مرسل الفتال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: خمس خصال يورث البرص:

النورة يوم الجمعة و يوم الأربعاء، و التوضي و الاغتسال بالماء الذي تسخنه الشمس» «3».

و هي محمولة علي الكراهة للسيرة القطعية، و ظهور المفروغية بين الأصحاب عن عدم الحرمة التكليفية و لا الوضعية. و لمرسل محمد بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا بأس بأن يتوضأ الإنسان بالماء الذي يوضع بالشمس» «4».

علي أن النهي عن العود في الأول دون استعمال الماء المذكور ظاهر في الكراهة، بل في خفتها و عدم أهميتها بالنحو المقتضي لإراقته.

بل التعليل يناسب الكراهة التي تضعف داعويتها و يحتاج معها لتأكيد الداعي ببيان الضرر الدنيوي.

بل احتمل بعضهم حمل النهي لأجله علي محض الإرشاد، دون الكراهة المولوية. و إن لم يخل عن الإشكال، لسوق النهي مساق الزجر و لو بلحاظ اهتمام

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المضاف حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 40 من أبواب آداب الحمام: حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 6 من أبواب الماء المضاف: حديث: 3.

ص: 296

______________________________

الشارع الأقدس بتجنب احتمال الضرر المذكور، كما يهتم بسائر الملاكات التي اقتضت جعل الأحكام المولوية.

هذا، و مقتضي إطلاق الأخيرين عدم توقف الكراهة علي قصد التشميس بوضع الماء في الشمس، و لا قصد استعماله بعده.

بل هو المستفاد من الأول بإلغاء خصوصية القصد عرفا. و من ثمَّ صرح بالتعميم من حيثية قصد التشميس في جامع المقاصد و الروض و محكي نهاية الاحكام و البيان و المسالك. و لعله المراد من التعميم من حيثية القصد و عدمه في المبسوط، كما هو مقتضي إطلاق الصدوق في الهداية و العلامة في المنتهي و غيرهما ممن عبر بما أسخنته الشمس، بل بالشمس في كلام جملة منهم، بناء علي توقف صدقه علي القصد.

خلافا لظاهر الخلاف و محكي السرائر و الجامع، حيث قيدوه بما إذا قصد ذلك، و ربما كان هو المتيقن ممن عبر بالتشميس أو بإسخان الماء في الشمس.

و كأنه للجمود علي مورد الحديث الأول، الذي تقدم ضعفه.

كما أن مقتضي إطلاق الأخيرين أيضا عدم الفرق بين وضعه في الإناء و عدمه. و اختصاص الأول بالإناء لا ينافيه، و لا سيما مع قرب إلغاء خصوصيته عرفا. و لعله لذا أطلق في المبسوط و الهداية، بل صرح في محكي المسالك بعدم الفرق.

و منه يظهر ضعف ما يظهر ممن خص الحكم بما كان في الآنية، كما في النهاية و كتب المحقق و العلامة- علي ما حكي عن بعضها- و عن السرائر و البيان و جملة من كتب الفقهاء.

و أضعف منه ما في المنتهي قال: «الظاهر عموم النهي. و يحتمل عدمه و اختصاصه بما يخاف منه المحذور، كالشمس في البلاد الحارة، دون المعتدلة، أو فيما يشبه آنية الحديد و الرصاص، دون الذهب و الفضة، لصفاء جوهرهما»، و نحوه عن نهاية الاحكام.

ص: 297

______________________________

لعدم وضوح اختصاص المحذور بما ذكره، و إن ظهر من جامع المقاصد و الروض التسليم به، لأنهما ذكرا أن المحذور المذكور حكمة لا يلزم اطرادها.

و كذا التقييد بما دون الكر، كما لم يستبعده في محكي مجمع البرهان و استظهره الوحيد في حاشية المدارك قال: «لأن الرواية وردت عن الرسول صلّي اللّه عليه و آله و الماء الكثير في ذلك الزمان كان نادرا».

إذ فيه: أن غلبة الابتلاء بالماء القليل لا تمنع من شمول الإطلاق لغيره.

نعم، عن العلامة أنه لا كراهة في المشمس بالأنهار الكبار و الصغار و المصانع [1] و البرك و الحياض إجماعا.

و هو أعلم بما قال، لعدم تيسر ثبوت الإجماع لنا. و السيرة علي عدم الاجتناب لا تكشف عن عدم الكراهة، لإمكان ابتنائها علي الغفلة عنها أو التسامح فيها، بسبب صعوبة الاجتناب في الجملة.

نعم، النصوص المتقدمة بمقتضي ظاهر بعضها و المتيقن من الآخر إنما تدل علي الكراهة مع تأثير الشمس في الماء حرارة معتدا بها يصدق بها التسخين، لا مجرد انكسار برودة الماء و خفتها، و الظاهر ندرة حصول ذلك في ماء الأنهار و المصانع الكبار، خصوصا في البلاد المعتدلة.

بقي في المقام أمور.

الأول: الظاهر توقف استناد تسخين الماء للشمس،- الذي تضمنه خبر إسماعيل و مرسل الفتال- علي وضع الماء فيها- كما هو مورد حديث إبراهيم- و لا يكفي مجاورته لها، كما لا يكفي إصابته لمثل الإناء المسخن بها.

______________________________

[1] قال في القاموس: «المصنعة كالحوض يجمع فيها ماء المطر، و تضم نونها كالمصنع. و المصانع الجمع».

ص: 298

______________________________

نعم، يكفي إصابة شعاعها للإناء حين وجود الماء فيه، و لا يعتبر إصابته للماء مباشرة، لصدق تسخينها له بذلك عرفا، بل لعله الفرد الشائع المتيقن من الإطلاق.

الثاني: المصرح به في جامع المقاصد و الروض و محكي الذكري و غيرها بقاء الكراهة مع ارتفاع السخونة، و استظهره في المنتهي و كشف اللثام.

و لا مجال للاستدلال عليه بالاستصحاب- و إن ذكره غير واحد- بناء علي ما هو التحقيق من عدم جريانه في الأحكام التكليفية غالبا لتعدد الموضوع، و هو فعل المكلف، و إن اتحد متعلقه، و هو الماء في المقام.

كما لا مجال للاستدلال عليه بحديث إبراهيم، لعدم [شمول] الإطلاق له، و المتيقن منه بقاء السخونة التي هي الغرض من وضع الماء في الشمس.

بل ينحصر الدليل عليه بإطلاق خبر إسماعيل و مرسل الفتال، لا لصدق المشتق مع ارتفاع المادة، لمنعه صغري و كبري، بل لصدق هيئة الفعل- التي تضمنها الخبر و المرسل- مع الانصرام.

إلا أن يدعي انصراف الإطلاق لصورة بقاء الحرارة، لأنها الغرض من التسخين، فتأمل.

الثالث: لا ينبغي التأمل في وفاء النصوص المتقدمة بإثبات كراهة جميع أفراد الغسل بالماء المذكور. كما أن مقتضي النهي عن العجن في الثاني عمومها لبقية استعمال الماء المتعلقة بالطعام و الشراب، كطبخ الطعام به و شربه وحده أو ممزوجا بغيره، لإلغاء خصوصيته عرفا. و لعل اقتصار بعضهم علي كراهة الطهارة لاهتمامهم ببيان أحكامها.

نعم، لا مجال لإحراز كراهة غسل الطعام به من دون مزج، فضلا عن غيره مما يتعلق بالبدن كغسل الثياب.

الرابع: أن الكراهة المذكورة لا ترجع إلي نقص في الطهارة، بل هي كراهة تكليفية بلحاظ جهة خارجة عنها، لأن ذلك هو المناسب للتعليل، و لعموم كراهة

ص: 299

______________________________

الاستعمال لمثل الغسل غير الشرعي و العجن مما لا يقصد لأثره، حيث يكشف عن عدم دخل جهة النهي بالأثر المقصود من الماء من الطهارة الحدثية و الخبثية.

و منها: الوضوء بالماء الآجن، كما في الحدائق و غيره. لصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الماء الآجن يتوضأ منه، إلا أن تجد غيره فتنزه منه» «1» بناء علي أن: «فتنزه» فعل أمر- كما لعله مقتضي الأصل- أو مضارع قد حذفت من أوله إحدي التائين مسوق للطلب، لا لمحض الإخبار عن حال المكلف. و الحديث المروي في مجمع البحرين: «نهي عن الوضوء في الماء الآجن».

و منها: الوضوء بالمياه المكروهة الاستعمال غير ما سبق، كماء البئر الملاقية للنجاسة قبل النزح- بناء علي عدم انفعالها و حمل الأمر بالنزح علي كراهة الاستعمال بدونه- و الأسآر المكروهة التي تقدم التعرض لها في آخر مباحث المياه.

و ربما فاتنا التنبيه لبعض الأمور، و نسأله سبحانه العصمة و السداد.

تذنيب:

روي الكليني و الشيخ قدّس سرّهما بسند معتبر عن الصفار أنه كتب إلي أبي محمد عليه السّلام: «هل يجوز أن يغسل الميت و ماؤه الذي يصب عليه يدخل إلي بئر كنيف، أو الرجل يتوضأ وضوء الصلاة ينصب ماء وضوئه في كنيف؟ فوقع عليه السّلام:

يكون ذلك في بلاليع» «2». و هو محمول علي الكراهة، للسيرة القطعية، و ظهور مفروغية الأصحاب عن الجواز بمقتضي عدم اهتمامهم بالتنبيه علي الحكم المذكور. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 56 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 300

______________________________

إلي هنا انتهي الكلام في مباحث الوضوء شرحا لما ذكره سيدنا الجد الفقيد قدّس سرّه في كتابه (منهاج الصالحين).

و كان ذلك في النجف الأشرف بيمن الحرم المشرف علي مشرّفه أفضل الصلاة و السلام.

ليلة الاثنين، التاسع من شهر جمادي الأولي، سنة ألف و ثلاثمائة و ثمان و تسعين لهجرة سيد المرسلين عليه و آله أفضل الصلوات و أزكي التحيات.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة الجليل حجة الإسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

و الحمد للّه علي توفيقه و تسهيله و حسن صنيعه، و نسأله بلطفه و كرمه أن يتم نعمته علينا بالعون علي إتمام ذلك و تيسير النفع به مع قبول العمل و غفران الزلل و العصمة في القول و العمل، إنه ولي التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل، نعم المولي و نعم النصير، و لا حول و لا قوة إلا به عليه توكلت و إليه أنيب.

و انتهي تبييضه بعد تدريسه بقلم مؤلفه الفقير عفي عنه، في النجف الأشرف، صباح الجمعة، الثالث عشر من شهر جمادي الأولي، سنة ألف و ثلاثمائة و ثمان و تسعين للهجرة.

و الحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 301

ص: 302

المبحث الرابع في الغسل

اشارة

المبحث الرابع في الغسل (1) و الواجب منه لغيره (2): غسل الجنابة و الحيض و الاستحاضة

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السلام علي سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين، و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

ربّ اشرح لي صدري و يسّر لي أمري و أحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

و تقبل مني و زكّ عملي و اغفر زللي، إنك أنت أرحم الراحمين و ولي المؤمنين، و لا حول و لا قوة إلّا بك، عليك توكلت و إليك أنيب.

(1) و هو- بالضم- لغة، مصدر غسل، أو اسم مصدر منه، أو خصوص غسل تمام الجسد، و اختص في عرف المتشرعة- تبعا للاستعمالات الشرعية- بغسل تمام البدن الذي يشرع للطهارة من الحدث، أو لكمالها.

و الاغتسال عندهم مصدر مأخوذ منه، و إن كان لغة عبارة عن غسل تمام البدن، كما صرح به بعض اللغويين.

(2) من الصلاة و غيرها مما يأتي الكلام فيه في أحكام هذه الأغسال. هذا، و لم يعرف القول منا بوجوب أحد هذه الأغسال لنفسه، و إنما ذكر الشهيد في محكي الذكري وجوب الأغسال لنفسها وجها في المسألة يبتني علي القول بوجوب الوضوء لنفسه، و نسب لبعض العامة القول بذلك، علي ما سبق في

ص: 303

و النفاس و مسّ الأموات (1). و الواجب لنفسه: غسل الأموات (2).

فهنا مقاصد:

______________________________

أول فصل غايات الوضوء، و سبق ما يصلح دليلا لبطلان القول المذكور.

و ربما يأتي عند الكلام في هذه الأغسال ما ينفع في المقام.

(1) يأتي الدليل علي وجوب كل غسل في محله إن شاء اللّه تعالي. كما يأتي في المقصد السابع التعرض لوجه عدم وجوب بعض الأغسال الأخر، كغسل الجمعة و غيره، إن شاء اللّه تعالي.

(2) الظاهر أنّ غسل الأموات إنما يجب بلحاظ ترتب الطهارة الحدثية و الخبثية عليه، فهو واجب لغيره، كالوضوء للكون علي الطهارة، الذي هو مستحب لغيره.

فكأنّ عدّه واجبا نفسيا بلحاظ عدم مقدميته لفعل واجب، بل لمسبب توليدي يترتب قهرا عليه و يكون منشأ لانتزاع عنوان ثانوي له.

و أما مقدميته للصلاة علي الميت التي هي فعل مستقل عنه، فهو لا ينافي كونه واجبا نفسيا، لأن المراد به ما يجب لنفسه و إن كان مقدمة لواجب آخر، في قبال ما يتمحض للوجوب الغيري، لا ما يتمحض للوجوب النفسي، و لذا يعد منه الواجبات المترتبة- كالظهر و العصر- مع كون المتقدم شرطا في صحة المتأخر.

ثمَّ إنّ من المعلوم من النص و الفتوي وجوب الغسل المنذور و إن كان مستحبا بالذات، و من ثمَّ عده في العروة الوثقي.

و كأنّ إهمال سيدنا المصنف قدّس سرّه له لأنه بصدد بيان الأغسال الواجبة و المستحبة بالأصل، و وجوب النذور مستفاد مما يأتي منه قدّس سرّه في كتاب النذر.

ص: 304

المقصد الأول في غسل الجنابة
اشارة

المقصد الأول في غسل الجنابة و فيه فصول:

الفصل الأول في سبب الجنابة
اشارة

الفصل الأول سبب الجنابة (1) أمران.

الأول خروج المني
اشارة

الأول: خروج المني (2)

______________________________

(1) و هي مأخوذة في الأصل من جنب إذ انحي و أبعد، و منه قوله تعالي:

وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنٰامَ «1».

و يراد بها لغة و عرفا و شرعا الحدث الخاص المسبب عما يأتي، لا نفس السبب، و لذا صح الوصف بها، فيقال: فلان جنب، إذا كان محدثا، و لو انصرم السبب.

و من ثمَّ كان الغسل مطلوبا للطهارة من الحدث المذكور، و عد من الطهارات الثلاث.

(2) إجماعا، كما في الخلاف و الغنية و المعتبر و المنتهي و كشف اللثام و عن التذكرة و الذكري، و في الجواهر «بلا خلاف أجده فيه، بل حكي الإجماع عليه

______________________________

(1) سورة إبراهيم: 35.

ص: 305

______________________________

جماعة حكاية تقرب إلي التواتر»، و في بعضها نسبته لإجماع المسلمين.

و تقتضيه النصوص المستفيضة بل المتواترة، كصحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: ثلاث يخرجن من الإحليل، و هنّ: المني، و فيه الغسل.» «1»،

و غيره.

فلا ينبغي إطالة الكلام في ذلك، بل المناسب الكلام في أمور.

الأول: أن مقتضي إطلاق معاقد الإجماعات و عموم بعضها- كالنصوص- عدم الفرق بين القليل و الكثير، كما صرح به بعضهم.

و ربما يستفاد من بعض النصوص الاختصاص بالكثير في الجملة، كخبر عنبسة بن مصعب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: كان علي عليه السّلام لا يري في شي ء الغسل إلا في الماء الأكبر» «2»، و صحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عن الرجل احتلم فلما انتبه وجد بللا قليلا، قال: ليس بشي ء، إلا أن يكون مريضا، فإنه يضعف، فعليه الغسل» «3».

لكن الأول- مع ضعف سنده- لا ظهور له في التقييد، بل ظاهر الوصف فيه الإشارة للمني، في قبال غيره، كالاحتلام و سائر ما يخرج من الإحليل، باعتبار غلبة الكثرة في المني، كما هو مقتضي خبر عنبسة بن مصعب الآخر: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كان علي عليه السّلام لا يري في المذي وضوء و لا غسلا ما أصاب الثوب منه، إلا في الماء الأكبر» «4»، و نحوه ما ورد من الاستشهاد بقول علي عليه السّلام فيمن رأي في المنام شيئا و لم ير بعد الانتباه بللا أو رأي بللا قليلا «5»، و إلا لزم وجوب الغسل من غير المني مع الكثرة.

و أما الثاني، فلو كان المفروض فيه كون البلل القليل منيا لم يكن التعليل في

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 14، و باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 9 من أبواب الجنابة حديث: 1، 2.

ص: 306

______________________________

ذيله بأنه «يضعف» مناسبا لوجوب الغسل عليه، بل الظاهر وروده- كغيره مما ورد في البلل القليل- في فرض الشك في حال البلل، ليكون التعليل بالضعف مناسبا لإحراز كونه منيا، بلحاظ أن الضعف قد يوجب خروج المني من دون دفق، فيكون قليلا و لا تكون القلة أمارة علي عدم كونه منيا، ليخرج بها عن أمارية الاحتلام.

أما قلة الخارج من غير المريض، فهي أمارة علي عدم كونه منيا، لملازمة المني غالبا للدفق المستلزم للكثرة، كما هو المناسب لما في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا كنت مريضا فأصابتك شهوة، فإنه ربما كان هو الدافق، لكنه يجي ء مجيئا ضعيفا ليست له قوة، لمكان مرضك، ساعة بعد ساعة، قليلا قليلا، فاغتسل منه» «1»، فالصحيح المذكور علي عموم ناقضية المني القليل أدلّ.

علي أنّ الكليني رواه بسند آخر عن معاوية بن عمار بحذف قوله: «قليلا» و قوله: «فإنه يضعف»، فيخرج عن محل الكلام.

هذا، و يدل علي عموم ناقضية المني القليل ما ورد من وجوب الغسل من البلل المشتبه الخارج قبل البول «2»، لغلبة قلته، فلو لم يجب الغسل واقعا من المني القليل لم يجب ظاهرا من البلل المشتبه به.

الثاني: المصرح به في كلام جملة من الأصحاب تحقق الجنابة بخروج المني من دون شهوة، و هو مقتضي إطلاق بعض معاقد الإجماعات المتقدمة، و صريح جملة منها، كإجماع الخلاف و الغنية و المنتهي و كشف اللثام و محكي التذكرة و الذكري.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق جملة من النصوص- ما ورد في البلل المشتبه «3»، لغلبة خروجه من دون شهوة، و ما ورد فيمن يجد بثوبه منيا و لم يكن رأي في

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة.

(3) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة.

ص: 307

______________________________

منامه أنه احتلم «1».

نعم، قد ينافيه صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يلعب مع المرأة و يقبلها فيخرج منه المني، فما عليه؟ قال: إذا جاء الشهوة و دفع و فتر لخروجه فعليه الغسل، و إن كان إنما هو شي ء لم يجد له فترة و لا شهوة فلا بأس» «2».

لكن لا مجال للخروج به عما تقدم، و لا سيما مع موافقته للمحكي عن أبي حنيفة و مالك و أحمد.

و قد حمله في التهذيب و الاستبصار علي صورة اشتباه حال الخارج، و عن المنتقي: «إنّ التصريح بكون الخارج منيا بناه السائل علي الظن فجاء الجواب مفصلا للحكم دافعا للوهم». لكنه خلاف ظاهر السؤال جدا.

نعم، يقرب حمله علي اشتباه حال الخارج- مضافا إلي استبعاد جهل مثل علي بن جعفر بحكم المني- روايته في كتاب علي بن جعفر و محكي قرب الإسناد بإبدال «المني» ب «الشي ء»، كما قد يناسبه قوله في الجواب: «و إن كان إنما هو شي ء لم يجد له فترة و لا شهوة.»، لظهوره في سوق الفترة و الشهوة وصفا للشي ء الناقض لا شرطا في ناقضيته.

هذا، و قد تظافرت النصوص بإناطة جنابة المرأة بخروج مائها عن شهوة «3» و يأتي الكلام فيه في الأمر الخامس إن شاء اللّه تعالي.

الثالث: ذكر في المقنعة و المبسوط و النهاية و المراسم أنّ سبب الجنابة خروج الماء الدافق، و حكي ذلك عن المرتضي و أبي الصلاح و غيرهما. و قد يظهر من ذلك اعتبار الدفق في تحقق الجنابة.

لكن في محكي السرائر أن التقييد في كلماتهم بالدفق مبني علي غلبة اتصافه به.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(3) راجع الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة.

ص: 308

______________________________

و كأنه راجع إلي حمله علي محض التوصيف للإشارة به للمني، لا لكونه قيدا في ثبوت الحكم له، و هو المناسب لجعلهم الدفق وصفا للماء لا للمني، و لقوله في المبسوط: «إنزال الماء الدافق الذي هو المني»، كما هو المناسب لما تقدم في صحيح زرارة.

نعم، كلام الوسيلة يأبي الحمل علي ذلك. لكنه ظاهر في كون الدفق علامة علي كون الخارج منيا، لا قيدا في ناقضيته.

و كيف كان، فيدل علي عدم اعتبار الدفق- مضافا إلي إطلاق أو عموم معاقد الإجماعات المتقدمة، و إطلاق جملة من النصوص- ما ورد في البلل المشتبه «1»، حيث يغلب خروجه من دون دفق، فتأمل. و ما ورد فيمن يجد بثوبه منيا و لم يكن رأي في منامه أنه احتلم «2»، حيث لا دافع لاحتمال عدم الدفق.

بل لا ينبغي التأمل في عدم اعتبار الدفق في الجملة، بلحاظ ما ورد في المريض، كصحيحي معاوية بن عمار و زرارة المتقدمين و غيرهما.

بل هي ظاهرة في عموم ناقضية المني، و أنّ الدفق من لوازمه الخارجية التي يعرف بها في الصحيح دون المريض، من دون أن يكون قيدا في ناقضيته، فلاحظ.

الرابع: لا ينبغي التأمل في أنّ الناقض هو خروج المني عن الجسد لا تحركه عن محله، كما صرح به جملة من الأصحاب، و هو الظاهر من آخرين ممن ادعي الإجماع و غيرهم.

و يقتضيه- مضافا إلي ظاهر جملة من النصوص المشتملة علي عنوان الخروج و الإنزال و الإمناء و غيرها- ما ورد في البلل المشتبه «3»، لوضوح أنّ ما يخرج بعد الغسل قبل البول هو ما تبقي في المجري، مما تحرك عن محله قبل الغسل، فلو كان النقض بالتحرك عن المحل كان الغسل رافعا له، و لم ينتقض

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة.

(3) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة.

ص: 309

______________________________

بخروجه خارج الجسد.

الخامس: قال في المدارك: «و لا فرق في وجوب الغسل بالإنزال بين الرجل و المرأة بإجماع علماء الإسلام»، و ذلك هو الظاهر من معقد إجماع المسلمين المدعي في المعتبر و المنتهي، كما أنه مقتضي إطلاق معقد الإجماع في غيرهما.

و تقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح محمد بن إسماعيل: «سألت الرضا عليه السّلام عن الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج و تنزل المرأة، هل عليها غسل؟

قال: نعم» «1».

و موثق معاوية بن حكيم: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا أمنت المرأة و الأمة من شهوة، جامعها الرجل أو لم يجامعها في نوم كان ذلك أو في يقظة، فإن عليها الغسل» «2»، و غيرهما.

لكن قال في المقنع: «و إن احتلمت المرأة فأنزلت، فليس عليها غسل، و روي أنّ عليها الغسل إذا أنزلت، فإن لم تنزل فليس عليها شي ء».

و يقتضيه صحيح عمر بن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يضع ذكره علي فرج المرأة فيمني، عليها غسل؟ فقال: إن أصابها من الماء شي ء فلتغسله فليس عليها شي ء إلا أن يدخله، قلت: فإن أمنت هي و لم يدخله؟ قال: ليس عليها الغسل» «3».

و صحيحه الآخر: «اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة و لبست ثيابي و تطيبت فمرت بي وصيفة لي ففخذت لها فأمذيت أنا و أمنت هي، فدخلني من ذاك ضيق، فسألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك، فقال: ليس عليك وضوء و لا عليها غسل» «4».

و صحيح ابن أذينة: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام المرأة تحتلم في المنام فتهريق

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 14.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 18.

(4) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 20.

ص: 310

______________________________

الماء الأعظم، قال: ليس عليها غسل» «1».

بل يظهر استنكار ذلك من مرسل نوح بن شعيب عن عبيد بن زرارة، قال:

«قلت له: هل علي المرأة غسل من جنابتها إذا لم يأتها الرجل؟ قال: لا، و أيكم يرضي أن يري أو يصبر علي ذلك أن يري ابنته أو أخته أو أمه أو زوجته أو أحدا من قرابته قائمة تغتسل، فيقول: مالك؟ فتقول: احتلمت و ليس لها بعل. ثمَّ قال: لا ليس عليهن ذلك و قد وضع اللّه ذلك عليكم. قال وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا و لم يقل ذلك لهن» «2».

بل تظهر المفروغية عن ذلك للسؤال عن علته من صحيح محمد بن مسلم:

«قلت لأبي جعفر عليه السّلام: كيف جعل علي المرأة إذا رأت في النوم أنّ الرجل يجامعها في فرجها الغسل، و لم يجعل عليها الغسل إذا جامعها دون الفرج في اليقظة فأمنت؟

قال: لأنها رأت في منامها أنّ الرجل يجامعها في فرجها فوجب عليها الغسل، و الآخر إنما جامعها دون الفرج فلم يجب عليها الغسل، لأنه لم يدخله، و لو كان أدخله في اليقظة وجب عليها الغسل أمنت أو لم تمن» «3».

نعم، ما تضمنه من وجوب الغسل عليها بالاحتلام إن أريد به صورة الإنزال كان مرجعه التفصيل في تحقق الجنابة منها بالإنزال بين الاحتلام و اليقظة، و هو غريب لم يعرف القول به من أحد.

و إن أريد به صورة عدم الإنزال- كما هو مقتضي الإطلاق المناسب للتعليل- فهو أغرب. و من ثمَّ لم يخل عن الاضطراب، و العمدة ما قبله، فلاحظ.

و أما ما في المنتهي من أن اختلاف صحيحي عمر بن يزيد في المتن كاشف عن عدم الضبط. فهو كما تري! موقوف علي وحدة الأمر المحكي بهما، و متنهما يأبي ذلك جدا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 21.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 32.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 19.

ص: 311

______________________________

و مثله ما ذكره الشيخ قدّس سرّه من احتمال التصحيف في بعض هذه النصوص بإبدال المذي بالمني، أو خطأ السائل بتخيل كون الخارج منيا و صدور الجواب علي ما يطابق الواقع دون السؤال، لمخالفة الأول لأصالة عدم الخطأ المعول عليها عند العقلاء، و الثاني لظهور الكلام في مطابقة الجواب للسؤال.

و كذا ما في الوسائل من حملها علي الشك في كون الخارج منيا، أو انتقال المني عن محله إلي الرحم من دون أن يخرج، أو أنها رأت في النوم أنّ المني قد خرج منها، فلما انتبهت لم تر شيئا، أو حمل نفي الغسل فيها علي الإنكار.

فإنّ ذلك كله لا يناسب مفاد النصوص جدا، بل هو خلاف المقطوع به من أكثرها.

و كذا حملها علي صورة الإنزال من دون شهوة، جمعا بينها و بين إطلاق نصوص ثبوت الغسل، بقرينة التقييد بالشهوة، في غير واحد من نصوصه، لإباء غير واحد منها عن الحمل علي ذلك عرفا، بسبب ما فرض فيها مما يسبب إثارة الشهوة غالبا.

بل بناء علي ما يظهر من الأصحاب من ناقضية خروج المني مطلقا، و أنّ الرجوع للشهوة إنما هو عند الشك في حال الخارج، فلا مجال لذلك في صحاح عمر بن يزيد و محمد بن مسلم التي فرض فيها كون الخارج منيا، بل هو الظاهر من صحيح ابن أذينة، لأن الماء الأعظم كناية عن المني ظاهرا.

و بالجملة: الظاهر استحكام التعارض بين الطائفتين بالنظر لأنفسهما. و ربما يجمع بينهما بالنظر لأمر خارج عنهما بأحد وجهين.

الأول: ما قربه في الوسائل و غيره من حمل نصوص نفي الغسل علي التقية، لموافقتها لبعض العامة، لتحقق الخلاف منهم فيها، و إجماع المسلمين المدعي مختص بالرجل. و قرينة التقية فيها التعليل المجازي الذي تضمنه صحيح محمد ابن مسلم، و الاستدلال الظاهري الإقناعي في خبر عبيد بن زرارة.

و فيه: أنّ الأولي بالحمل علي التقية نصوص وجوب الغسل، لموافقتها

ص: 312

______________________________

للمذهب المشهور بين العامة، حيث لم ينقل الخلاف في وجوبه إلا عن النخعي.

و أما التعليل و الاستدلال المذكوران، فهما يبعدان احتمال التقية، في نصوص نفي الغسل، فإنّ الذي يهتم بالإقناع به هو الحكم الواقعي المخالف لهم، حيث يكون خلافهم فيه مثارا للتساؤل عنه و سببا للتشكيك فيه، فيهتم بتعليله و الاستدلال عليه كي يقبله السامع و يحسن الدفاع عنه عند التخاصم، أما الحكم الموافق لهم فلا غرض غالبا في تأكيده بالتعليل و الاستدلال، خصوصا بمثل هذا الوجه العملي الارتكازي، و لا سيما مع ورود بعض نصوص نفي الغسل في وقائع خارجية مورد للابتلاء الفعلي.

الثاني: ما أشير إليه في كلام غير واحد من حمل نصوص نفي الغسل علي عدم وجوب الإعلام به أو حرمته أو كراهته، لئلا يتخذنه علة، كما تضمنه صحيح أديم بن الحر: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تري في منامها ما يري الرجل، عليها غسل؟

قال: نعم، و لا تحدثوهن فيتخذنه علة» «1».

لكنه- مع مخالفته لظاهر النصوص المذكورة جدا- بعيد في نفسه، لبعد تخصيص عموم وجوب الإعلام بالأحكام، و لا سيما في مثل هذا الحكم الذي هو من الأهمية بمكان بسبب شرطية الغسل في الصلاة و غيرها.

و لعل الأقرب من ذلك، جعل ذيل صحيح أديم و نصوص نفي الغسل قرينة علي تنزيل وجوب الغسل الذي تضمنته النصوص الكثيرة علي أنه حكم اقتضائي قد منعت الجهة التي أشير إليها في صحيح أديم و خبر عبيد من فعليته.

لكن الإنصاف أنّ ذلك و إن كان قريبا في نفسه جدا، إلا أنه ليس مقتضي الجمع العرفي بين النصوص، بل هو محض ظن لا يعول عليه في استنباط الحكم الشرعي، كاستبعاد تخصيص عموم وجوب الإعلام بالأحكام في المقام.

فالبناء علي عدم وجوب الإعلام بالحكم المذكور- لو كان ثابتا في نفسه- عملا بصحيح أديم هو الأنسب بالقاعدة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 12.

ص: 313

______________________________

و مجرد عدم تعرض الأصحاب لذلك- كما ادعاه في الجواهر- لا يستلزم الإعراض الموهن للصحيح و المسقط له عن الحجية، لعدم وضوح بنائهم علي التصدي لمثل ذلك في المقام، حيث أهملوا فروع المسألة و تفاصيلها، و لا سيما مع قرب قيام السيرة علي عدم الإعلام بهذا الحكم و تشخيص موضوعه.

نعم، لا ريب في أنّ هذا موهن لنصوص وجوب الغسل و مقرب لحملها علي التقية، الذي عرفت أنها أولي به من نصوص عدم وجوبه، لقرب تذرعهم عليهم السّلام بذلك لإبطال الحكم من دون تصريح بمخالفة العامة فيه.

إلا أنّ ذلك كله فرع حجية نصوص عدم وجوب الغسل، و هو في غاية الإشكال، بلحاظ ظهور إعراض الأصحاب عنها من أهل الحديث و الفتوي قديما و حديثا، حيث لم يعرف القول بمضمونها من غير الصدوق في كلامه المتقدم في المقنع، المشعر بنحو تردد منه فيه، لتعقيبه برواية وجوب الغسل، مع ظهور عدوله عنه في الفقيه، لاقتصاره علي الرواية المتضمنة لوجوب الغسل، كما هو الحال في الكليني أيضا، حيث اقتصر علي نصوص وجوب الغسل، مع ظهور حاله- كحال الصدوق في الفقيه- في الاقتصار علي الأخبار المعتمدة الصالحة لأن يعمل بها، و لم يتعرض لها إلا الشيخ في التهذيب و الاستبصار، حيث ذكرها مؤولا لها دافعا لظاهرها.

و مع ذلك تشكل حجية النصوص المذكورة، و لا سيما مع كون نصوص وجوب الغسل أكثر عددا و أشهر رواية، فإنّ الترجيح بذلك مقدم علي الترجيح بمخالفة العامة.

اللهم إلا أن يقال: المراد بذلك ترجيح المشهور علي الشاذ النادر، لا الترجيح بالأشهرية. و لا مجال لدعوي شذوذ نصوص عدم وجوب الغسل مع تعددها و وقوع أجلّاء الرواة في أسانيدها و تدوين قدماء الأصحاب لها في الكتب المعتمدة.

و أما إعراض الأصحاب عنها في مقام الفتوي، فهو إنما يكون موهنا لها إذا لم

ص: 314

______________________________

تطابق السيرة العملية، و إلا كشفت السيرة عن كون الهجر لشبهة في مقام الاستدلال، مع الغفلة عن السيرة المعينة لصدقها.

و ربما يمكن تحصيل السيرة علي مضمونها من عدم الاهتمام بتحديد مني المرأة و تشخيصه و لا بالفحص عن هذا الحكم بالنحو المناسب لأهميته، كما هو ديدنهم في الحيض و نحوه.

إلا أن يكون منشأ ذلك قلة الابتلاء به بالنحو الذي يترتب عليه العمل- لندرة حصول الإنزال لها من دون جماع- و شدة حياء النساء منه حتي قد يصعب عليهن إبداؤه للأزواج، لمناسبته لشدة الشهوة بالنحو المنافي للتعفف الذي يحاولنه، حيث يبدين أنفسهن مطلوبات غير طالبات.

و لعل ذلك هو المنشأ لتكثر الأسئلة عن ناقضيته في كلتا الطائفتين من النصوص و غيرها، مع عدم السؤال عن ناقضية مني الرجل، لوضوح حاله بسبب كثرة الابتلاء به، و إنما تضمنته تبعا النصوص الواردة لبيان أمور أخر، كعدم ناقضية غيره مما يخرج من الإحليل، و عدم ناقضية الاحتلام أو التفخيذ من دون إنزال.

و قد تحصل مما ذكرنا: أن نصوص عدم وجوب الغسل إن سقطت عن الحجية بالإعراض كان المرجع نصوص وجوبه، و إلا كان العمل عليها و لزم حمل نصوص الوجوب علي التقية.

و الأمر في غاية الإشكال، و اللّه سبحانه و تعالي العالم بحقيقة الحال.

بقي الكلام في تحديد مني المرأة الموجب للغسل، فقد ذكر العلامة في المنتهي أنه رقيق أصفر، في قبال مني الرجل الذي هو غليظ أبيض، و سبقه إليه ابن سعيد في محكي الجامع في كلامه الآتي عند ذكر اشتباه المني.

و كأنهما استندا في ذلك للنصوص الواردة من طرقنا و من طرق العامة، ففي معتبرة أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: إنّ الرجل ربما أشبه أخواله و ربما أشبه أباه و ربما أشبه عمومته. فقال: إنّ نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة، فإن غلبت نطفة الرجل نطفة المرأة أشبه الرجل أباه و عمومته، و إن غلبت نطفة

ص: 315

______________________________

المرأة نطفة الرجل أشبه الرجل أخواله» «1»، و قريب منه خبر ثوبان «2» و ما يأتي من رواية مسلم في صحيحه.

لكن من القريب أن يراد بنطفة المرأة و مائها البويضة التي يتكون منها الولد بعد تلقيحها بمني الرجل، لا مني المرأة الذي هو سبب جنابتها، إذ لا إشكال ظاهرا في عدم توقف تكوّن الولد علي إنزال المرأة.

نعم، لا مجال لذلك فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أم سليم من أنها سألت النبي صلّي اللّه عليه و آله عن احتلام المرأة، فأوجب به الغسل فقالت: «و استحييت من ذلك، قالت: و هل يكون هذا؟ فقال نبي اللّه صلّي اللّه عليه و آله: نعم، فمن أين يكون الشبه؟ إنّ ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه» «3».

إلا أنه ليس حجة، فلا مجال للتعويل عليه، و لا سيما بعد ما عرفت، حيث يكون النص المتضمن لذلك بسببه من المشكل الذي يرد علمه لأهله.

أما نصوص المقام، فهي بين مطلق- كصحيح محمد بن إسماعيل المتقدم- و مقيد بالشهوة- كموثق معاوية بن حكيم المتقدم- و هو الأكثر.

و ظاهر الأصحاب كصريح بعضهم، حمل الثانية علي كون الشهوة علامة علي المني يرجع إليها عند الاشتباه، مع عموم ناقضية المني، عملا بإطلاق الطائفة الأولي.

و لم يتضح الوجه في ذلك مع قوة ظهور النصوص في التقييد للتأكيد عليه في بعضها في الجواب بعد ذكره في السؤال، و ظاهرها بيان موضوع وجوب الغسل الواقعي من دون إشعار فيها بفرض الشك في نوع الخارج.

نعم، لا يبعد أن يكون منشأ التقييد هو ملازمة الشهوة للمني بنحو تكون من خواصه المميزة له، لا توقف ناقضيته عليها مع إمكان انفكاكه عنها، فإنه و إن كان

______________________________

(1) علل الشرائع ج: 1 ص: 94 باب: 85 حديث: 1 طبع النجف الأشرف.

(2) علل الشرائع ج: 1 ص: 96 باب: 85 حديث: 5. طبع النجف الأشرف.

(3) صحيح مسلم ج: 1 ص: 250 حديث: 311 باب: وجوب الغسل علي المرأة بخروج المني منها.

ص: 316

______________________________

خلاف ظاهر مثل موثق معاوية بن حكيم المتقدم، لتضمنه تقييد الإمناء بالشهوة و الأصل في التقييد الاحتراز، إلا أنه المناسب لمفروغية الأصحاب عن عموم ناقضية المني، و قد تدل عليه بعض النصوص.

و كيف كان، فلا أهمية لذلك بعد دوران الناقضية مدار الشهوة وجودا و عدما بمقتضي التقييد في النصوص المذكورة، الذي يلزم تنزيل المطلقات عليه، و لا سيما مع قرب انصرافها لصورة الشهوة، لانصراف الإنزال إليه، و لا سيما مع اشتمالها علي فرض مهيجاتها، كمجامعتها فيما دون الفرج و رؤيتها في الحلم الجماع.

ثمَّ إنّ نزول الماء من المرأة حال الشهوة علي نحوين.

الأول: النزول الهادي بنحو الرشح، و يستمر باستمرار حالة الشهوة عندها.

الثاني: النزول بنحو من الكثرة و الدفع عند بلوغ الشهوة قمتها، نظير إنزال الرجل و يتعقبه الفتور.

و في اتحاد حقيقة الماء النازل في الحالين أو اختلافها، وجهان، ربما نقل عن بعض الأطباء الأول، و لا يهم تحقيق ذلك، و إنما المهم عموم الناقضية للحالين و إن كانا مختلفي الحقيقة، أو اختصاصها بالثاني و إن اتحدت حقيقتهما.

غاية ما يلزم عليه دخل الحالة في صدق عنوان المني، بناء علي انحصار الناقض به و عموم ناقضيته، كما يظهر من الأصحاب المفروغية عنه، و قد يستفاد من النصوص، و ليس ذلك محذورا إذا ساعدت عليه الأدلة.

قد يستدل علي الاختصاص بالثاني بقوله تعالي خُلِقَ مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ.

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرٰائِبِ «1» بدعوي: ظهوره في كون ماء المرأة الذي يخرج من ترائبها دافقا، كماء الرجل.

و فيه: أنّ حمل الترائب علي ترائب المرأة لإرادة مائها، و إن ذكر في مجمع البيان وجها في تفسير الآية الشريفة، بل اقتصر عليه علي بن إبراهيم في تفسيره، و عليه يبتني ما في كشف اللثام من الاستدلال بالآية لاعتبار الدفق عند اشتباه حال ماء

______________________________

(1) سورة الطارق: 7، 8.

ص: 317

______________________________

المرأة، إلا أنّ تركيب الآية لا يناسبه- كما نبّه له سيدي الوالد دامت بركاته- لظهورها بمقتضي لفظة بَيْنَ في إرادة ماء واحد يخرج من بين الصلب و الترائب، لا مائين يخرج أحدهما من الصلب و الآخر من الترائب.

علي أن ذلك إنما يدل علي دفق ماء المرأة الذي يتكون منه الولد، لا الذي هو سبب لجنابتها، نظير ما تقدم عند الكلام في النصوص.

نعم، في خبر الجعفريات عن علي عليه السّلام: «سمعت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يقول:

ثلاثة أشياء: مني و وذي و ودي. إلي أن قال: و أما المني فهو الماء الدافق الذي يكون منه الشهوة ففيه الغسل» «1».

و عنه عليه السّلام: «سئل عن الرجل يجامع امرأته و أهله مما دون الفرج فيقضي شهوته. قال: عليه الغسل و علي المرأة أن تغسل ذلك الموضع إذا أصابها، فإن أنزلت من الشهوة كما أنزل الرجل فعليها الغسل» «2».

و ظاهر الأول حصر الغسل بالمني، و أنه لا يكون إلا دافقا منه الشهوة، و مقتضي إطلاقه عدم الفرق بين الرجل و المرأة.

و ظاهر الثاني إرادة إنزالها كانزال الرجل الذي يكون به قضاء الشهوة.

لكن سندهما لا يخلو عن إشكال. و من ثمَّ قد يدعي أنّ مقتضي إطلاق ما تضمن وجوب الغسل علي المرأة بإنزالها من شهوة عموم الحكم لكلا الحالين المتقدمين و عدم اختصاصها بالثاني.

اللهم إلا أن يقال: المتيقن من الإطلاقات المذكورة هو الماء النازل في الحال الثاني، لأنه المستند للشهوة، و أما الأول فهو مصاحب لها لا مسبب عنها عرفا.

و لا سيما مع ظهور بعض النصوص في كون الشهوة الموجبة لنزول الماء حالة خاصة تطرأ علي المرأة حال ملاعبتها مع الرجل، ففي صحيح محمد بن الفضيل:

«سألت أبا الحسن عليه السّلام عن المرأة تعانق زوجها من خلفه فتحرك علي ظهره، فتأتيها

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 4 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل باب: 4 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 318

من الموضع المعتاد و غيره (1)،

______________________________

الشهوة فتنزل الماء عليها الغسل، أو لا يجب عليها الغسل؟ قال: إذا جاءتها الشهوة فأنزلت الماء وجب عليها الغسل» «1»، و نحوه صحيحه الآخر «2».

فإنهما ظاهران في أنّ الشهوة الموجبة لنزول الماء حالة طارئة قاهرة غير الشهوة التي لأجلها تتحرك علي ظهر الزوج و التي تسيطر المرأة عليها.

بل لا يبعد كون ذلك هو المنصرف من إطلاق الإنزال في جملة من النصوص، بسبب كون ذلك هو المعهود من إنزال الرجل، كما هو مقتضي التشبيه به في خبر الجعفريات المتقدم، أما الأول فهو بسبب تدريجيته غير ملتفت إليه، بل قد يشتبه برطوبات الفرج الأخري، بل هو حيث كان كثيرا فمن البعيد خفاء حكمه، بنحو يناسب كثرة الأسئلة عنه.

كما أنّ ما يظهر من بعض الأخبار من جهل بعض النساء بتحقق الإنزال من المرأة، و كتمان أخر له و استحيائهن منه، إنما يناسب إرادة الثاني، لا ما يعم الأول الذي هو من التعارف و الكثرة بنحو لا يقبل الكتمان و الجهل من الرجال فضلا عن النساء.

بل عموم حصول الجنابة بالمائين معا مستلزم للحرج الشديد، لكثرة الابتلاء بالماء الأول، و صعوبة التوقي منه، و السيطرة عليه مع تهيؤ المرأة للرجل و تجاوبها معه، بخلاف الثاني الذي يقل حصوله و تسهل السيطرة عليه بالتوقي عما يستتبع الشهوة العارمة، كما في الرجل.

و ذلك كله يشرف بالفقيه علي القطع باختصاص الناقضية بالماء الثاني، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) كما لعله مقتضي إطلاق غير واحد، بل هو الظاهر من العلامة في المنتهي،

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 13.

ص: 319

______________________________

حيث قال: «لو خرج المني من ثقبة في الإحليل غير المعتاد أو في خصيتيه أو في صلبه، فالأقرب وجوب الغسل، لقوله عليه السّلام: إنما الماء من الماء»، فإن استدلاله بالحديث ظاهر في العموم لغير الفروض المذكورة في كلامه، و هو المحكي عن التذكرة و نهاية الاحكام.

لكن في جامع المقاصد: «أما لو خرج من غير ذلك، فاعتبار الاعتياد حقيق بأن يكون مقطوعا به». و في القواعد: «لو خرج المني من ثقبة في الصلب فالأقرب اعتبار الاعتياد و عدمه». و عن الذكري: «لو خرج المني من ثقبة، اعتبر الاعتياد و الخروج من الصلب فما دونه. و من فوقه وجه، عملا بالعادة»، و نحوه عن البيان.

و ربما قيل بابتناء الكلام هنا علي الكلام في نواقض الوضوء، و عن نهاية الاحكام: «فإن اعتبرنا هناك المعدة، فالأقوي اعتبار الصلب هنا، فقد قيل: إنه يخرج من الصلب».

و عن الإيضاح عدم وجوب الغسل مطلقا، حملا علي الغالب و عملا بالأصل.

هذا، و قد تكرر منا عدم صلوح الغلبة و لا الاعتياد لتقييد المطلقات، فلا بد- في محل الكلام- من النظر في مفاد الأدلة عموما و خصوصا. و قد سبق من المنتهي الاستدلال بقوله عليه السّلام: «إنما الماء من الماء». لكن لم نعثر علي الحديث من طرقنا، و إنما ورد من طرق العامة فيما حكي «1».

نعم، في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلّي اللّه عليه و آله فقال: ما تقولون في الرجل يأتي أهله فيخالطها و لا ينزل. فقالت الأنصار: الماء من الماء، و قال المهاجرون: إذا التقي الختانان فقد وجب عليه الغسل.» «2»، فلو كان مراد الأنصار الإشارة لحديث نبوي فالمتيقن وروده لبيان عدم وجوب الغسل بدون الماء و لا إطلاق له في وجوب الغسل به.

______________________________

(1) حكي عن كنز العمال ج: 5 ص: 90 برقم: 1917.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 320

______________________________

و مثله ما ورد في جملة من النصوص من أنّ عليا عليه السّلام كان لا يري الغسل إلا في الماء الأكبر «1» لوروده لبيان عدم النقض بغيره من الاحتلام المجرد عنه أو المذي و نحوه. كما أنّ صحيح عبد اللّه بن سنان المتقدم في أول الفصل و مرسل ابن رباط المتضمنين ناقضية المني حيث وردا في بيان ما يخرج من الإحليل فلا إطلاق لهما يشمل صورة خروجه من غير الإحليل.

نعم، قد يتجه الإطلاق في خبر الجعفريات المتقدم في آخر الكلام في مني المرأة.

لكن لا مجال للتعويل عليه مع ضعف سنده.

فلم يبق في المقام إلا إطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالإنزال، و الظاهر عدم صدقه علي خروج المني من محل تكونه رأسا لثقبة فيه مع الدفق فضلا عن عدمه، بل لا بد من سيره في مجري في الجسد و خروجه مما دونه بنحو الدفع.

نعم، لا يعتبر خروجه من المجري المعتاد، فلو خرج من ثقبة قبله صدق الإنزال مع اعتياد الخروج منه و عدمه و مع انسداد المجري المعتاد و بدونه.

بل لا يبعد عموم الناقضية لما يخرج منه بدون دفق لإلغاء خصوصيته عرفا بالإضافة إليه، و لو بقرينة ما تضمن عدم اعتبار الدفق مع الخروج من المجري الطبيعي.

و أما التعدي لما يخرج من نفس محل تكون المني لثقبة فيه، فهو يحتاج إلي دليل.

هذا كله في الرجل، و أما المرأة فالظاهر إناطة النقض فيها بالشهوة بالنحو المتقدم، حيث يصدق معها الإنزال من دون خصوصية لموضع معين، عملا بإطلاق النصوص المتقدمة.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 6، 11، و باب: 9 من الأبواب المذكورة حديث: 1، 2، 3.

ص: 321

و إن كان الأحوط استحبابا عند الخروج من غير المعتاد الجمع بين الطهارتين إذا كان محدثا بالأصغر (1).

مسألة 1 إن عرف المني فلا إشكال

مسألة 1: إن عرف المني فلا إشكال (2)، و إن لم يعرف (3) فلا يبعد أن يكون كل من الشهوة و الدفق و فتور الجسد أمارة عليه (4)،

______________________________

(1) الظاهر أنّ الاحتياط المذكور يضعف جدا إذا كانت الثقبة في الإحليل، لبعد خصوصية الخروج من طرف الذكر عرفا.

(2) هذا في الرجل في محله، لما سبق من عموم ناقضية المني.

و أما في المرأة، فقد سبق أنّ المدار علي الشهوة الخاصة، إما لملازمتها للمني، أو لكونها قيدا في الناقضية به و بغيره.

(3) قد يظهر من كلام غير واحد وجوب الاختبار بالوجه الآتي، و لم يتضح وجهه، بل الظاهر جواز الرجوع قبله لاستصحاب الطهارة، بل لاستصحاب عدم خروج المني، لعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إلا بدليل.

(4) كما عن المسالك.

و في جامع المقاصد و الروض الاكتفاء بأحد هذه الأوصاف و بالرائحة، بل نفي في جامع المقاصد الخلاف في الاكتفاء بالرائحة وحدها.

و في المعتبر و الشرائع و المنتهي و الإرشاد و عن ظاهر التحرير و نهاية الاحكام و غيرها اعتبار اجتماع الأوصاف الثلاثة المذكورة في المتن.

و اكتفي في القواعد بالدفق و الشهوة، و في النافع و الوسائل بالدفق و فتور البدن، و لعله للتلازم بين الشهوة و فتور البدن بنظرهم.

و جعل في النهاية المدار علي الدفق وحده، و ربما ينسب لجميع من جعل سبب الغسل هو الماء الدافق و قد سبق التعرض لبعضهم عند الكلام في ناقضية المني، لكنه لا يناسب ظهور كلام أكثرهم في بيان موضوع الناقضية ثبوتا، لا علامة الناقض عند اشتباهه إثباتا. و قد سبق توجيه كلامهم.

ص: 322

______________________________

و ذكر في الجواهر أنّ التأمل في عبارة السرائر قد يقضي بذهابه إلي عدم اعتبار شي ء من العلامات، و أنّ المدار علي العلم بكونه منيا، و ربما ينسب لجملة من القدماء ممن علق وجوب الغسل علي خروج المني و لم يتعرض لفرض اشتباه الخارج، و إن استظهر في الجواهر عدم الخلاف في الرجوع إليها في الجملة، و في الحدائق الاتفاق علي ذلك.

و كيف كان، فقد وجه في جامع المقاصد الاكتفاء بكل واحدة من الصفات المذكورة في المتن و بالرائحة بتلازم الصفات الأربع إلا لعارض.

فإن أراد تلازمها عند خروج المني، لم ينفع شي ء منها في إحراز كون الخارج منيا عند الشك في حاله.

و إن أراد تلازمها و لزوم المني لها، فإن أراد بالعارض المرض الذي يأتي الكلام في حكمه، كان مرجع كلامه إلي أمارية الصفة الواحدة علي تحقق بقية الصفات في الصحيح و يمتنع فرض انفكاك بعضها فيه.

لكن لم يتضح الوجه في التلازم المدعي، خصوصا لو أريد منه الصحيح العرفي المقابل للمريض العرفي، الذي هو المراد من المريض فيما يأتي، لوضوح أنه لا يراد به مطلق من فيه نقص حقيقة و إن لم يكن مدركا، و إلا لم يكن فرضه عمليا.

و إن أراد بالعارض غير المرض، كان مرجع كلامه إلي أنّ غلبة التلازم بين الصفات موجب للاكتفاء بواحدة منها عند الشك، لاحتمال العارض.

و يشكل بعدم الدليل علي حجية الغلبة بالنحو المذكور بعد فرض تسليمها.

بل يلزم الرجوع للنصوص، و حيث كانت خالية عن ذكر الرائحة فلا وجه لعدها أمارة مستقلة- كما في كلام من سبق- و لا بشرط الانضمام إلي غيرها من الصفات، كما عن التذكرة و الذكري و الدروس، علي ما نبه له في المدارك.

و مثله ما عن ابن سعيد في الجامع، حيث قال: «و علامة مني الرجل بياضه و ثخانته و ريحه ريح الطلع و البيض جافا، و قد يخرج رقيقا أصفر كمني المرأة»، لعدم ورود النصوص بشي ء مما ذكره.

ص: 323

______________________________

إلا أن يكون مراده بيان خواصه الخارجية التي قد يوجب وجودها العلم به، لا أماراته الشرعية عند الاشتباه، كما هو ظاهر القواعد في الرائحة، و قد يحمل عليه كلام بعض من تقدم.

أما النصوص، فهي:

صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يلعب مع المرأة و يقبلها فيخرج منه المني، فما عليه؟ قال: إذا جاءت الشهوة و دفع و فتر لخروجه فعليه الغسل، و إن كانا إنما هو شي ء لم يجد له فترة و لا شهوة فلا بأس» «1».

و صحيح ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: الرجل يري في المنام و يجد الشهوة فيستيقظ فينظر فلا يجد شيئا ثمَّ يمكث الهون بعد فيخرج، قال: إن كان مريضا فليغتسل و إن لم يكن مريضا فلا شي ء عليه، قلت: فما فرق بينهما؟ قال: لأن الرجل إذا كان صحيحا جاء الماء بدفقة قوية [يدفقه بقوة]، و إن كان مريضا لم يجئ إلا بعد [بضعف]» «2».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا كنت مريضا فأصابتك شهوة فإنّه ربما كان هو الماء الدافق لكنه يجي ء مجيئا ضعيفا ليست له قوة لمكان مرضك ساعة بعد ساعة قليلا قليلا، فاغتسل منه» «3».

و صحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل احتلم فلما انتبه وجد بللا قليلا. قال: ليس بشي ء إلا أن يكون مريضا، فإنّه يضعف فعليه الغسل» «4».

و ما في مرسل ابن رباط: «فأما المني، فهو الذي تسترخي له العظام و يفتر منه الجسد» «5».

و ما في خبر الجعفريات المتقدم: «و أما المني، فهو الماء الدافق الذي يكون

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 17.

ص: 324

______________________________

منه الشهوة» «1».

و ظاهر صحيح ابن جعفر هو أمارية الصفات الثلاث علي المني و لزوم اجتماعها في الحكم به، فالاكتفاء ببعضها محتاج إلي دليل يخرج به عنه.

و قد استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه علي طريقية الشهوة وحدها بظهور صحيحي ابن أبي يعفور و زرارة في أنّ الفرق بين الصحيح و المريض ليس هو قصور الشهوة عن الطريقية في الأول دون الثاني، بل أمارية عدم الدفق في الأول علي عدم المني فتعارض أمارية الشهوة فيه، بخلاف الثاني، فلا معارض فيه لأمارية الشهوة، فيدلان علي المفروغية عن عموم أمارية الشهوة.

و يشكل بظهور صحيح زرارة في أنّ وجوب الغسل في المريض ليس لأمارية الشهوة علي المني، بل لمحض احتماله معها من دون أمارة نافية له و لا مثبتة.

و لعل التعبد به بمحض الاحتمال في المريض لأمر يختص به، و هو عدم تيسر حصول الأمارة التامة، بخلاف الصحيح.

و عليه يحمل صحيح ابن أبي يعفور، لأن نسبته إليه نسبة المجمل للمبين، بل صحيح ابن أبي يعفور ظاهر في أنّ البناء في الصحيح علي عدم المني مع عدم الدفق لكون عدم الدفق أمارة علي عدمه، لا لتعارض الأمارتين الموجب لسقوطهما و الرجوع للأصل، فتأمل.

كما أنه قدّس سرّه استدل علي أمارية الفتور وحده بما سبق في مرسل ابن رباط، و علي أمارية الدفق وحده، بما تضمن أنّ المني هو الماء الدافق.

و يشكل الأول بضعف سند المرسل، و الثاني بعدم العثور علي هذا المضمون، و إنما تعرضت الآية الكريمة لتوصيفه بالدافق، و اشتمل صحيح زرارة المتقدم علي الإشارة إليه به بنحو التعريف العهدي، و هما لا يدلان علي انحصار الدفق به، ليكون من خواصه الواقعية الموجبة للعلم به، و لا علي أماريته عليه

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 4 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 3.

ص: 325

______________________________

شرعا، ليحرز به ظاهرا.

و أما الاستدلال علي أمارية كل من الشهوة و الفتور بمفهوم الذيل في صحيح علي بن جعفر، فلا مجال له، لعدم سوقه للمفهوم، بل للتصريح بمفهوم الصدر، فلا يصلح لرفع اليد عن ظاهره في لزوم اجتماع الصفات الثلاث.

و أما ما سبق من القواعد من الاكتفاء بالدفق و الشهوة، فيدل عليه خبر الجعفريات، إلا أنّ ضعفه مانع من التعويل عليه.

نعم، ظاهر صحيحي ابن أبي يعفور و معاوية بن عمار المفروغية عن وجوب الغسل مع الدفق في المحتلم، مع أنه قد لا يحرز فتور الجسد، فلا بد أن يكون ذلك للتلازم بين الفتور و اجتماع الدفق و الشهوة، فلا ينافي صحيح ابن جعفر، أو لإلغاء قيدية الفتور في المحتلم، الذي لا يتيسر الاطلاع عليه فيه غالبا، نظير إلغاء قيدية الدفق في المريض، و لا دليل علي إلغاء قيديته في المنتبه الذي يتيسر له غالبا الاطلاع عليه.

و أما الاكتفاء بالدفق و فتور الجسد- كما تقدم من النافع و الوسائل- فلم يتضح وجهه.

ثمَّ إنه ليس المراد بالشهوة الشهوة الاستمرارية المصاحبة للملاعبة و نحوها، بل الشهوة الطارئة المصاحبة لخروج الماء، كما هو ظاهر صحيح علي بن جعفر المتضمن للتقييد بمجيئها مع فرض السائل الملاعبة و التقبيل المصاحبين للشهوة بالمعني الأول، و لقوله في ذيله: «لم يجد له شهوة».

و هو الظاهر من صحيح ابن أبي يعفور الذي فرض فيه وجدان الشهوة في الاحتلام، و من صحيح زرارة الذي فرض فيه أصابه الشهوة، الظاهرة في طروئها، و من خبر الجعفريات الظاهر في سببية خروج المني للشهوة.

هذا، و النصوص السابقة مختصة بما إذا شك في كون الخارج منيا، و تقصر عن إثبات الأمارية فيما إذا شك في أصل خروج المني، فيرجع معه للأصل و إن تحققت الصفات المتقدمة.

ص: 326

و عدمها أمارة علي عدمه (1) في الصحيح، فمع تعارضها يبني علي عدمه (2)، و مع اجتماعها أو حصول واحدة منها مع الشك في ثبوت غيرها يبني علي وجوده (3)،

______________________________

(1) بناء علي ما تقدم من اعتبار اجتماع الصفات في البناء علي المني فبتخلّف إحداها لا يحكم بأن الخارج مني، لعدم تمامية الطريق إليه، فلا يجب الغسل و لو بحكم الأصل.

أما كون تخلف الصفة طريقا علي عدم كون الخارج منيا، فهو الذي يقتضيه في الدفق صحيحا ابن أبي يعفور و زرارة، بل صحيح معاوية بن عمار أيضا، بناء علي ما سبق في توجيهه عند الكلام في عموم ناقضية المني للقليل، و خبر الجعفريات، لظهوره في ملازمة كل من الدفق و الشهوة للمني، و عدم اللازم دليل علي عدم الملزوم.

و بذلك يكون دالا علي أمارية عدم الشهوة أيضا، كما يدل مرسل ابن رباط علي أمارية عدم الفتور، لكن ضعف سند الخبرين مانع من التعويل عليهما.

و أما ما في ذيل صحيح ابن جعفر من الحكم بعدم البأس مع عدم الشهوة و الفتور معا، فهو لا يدل علي أمارية فقدهما معا، لإمكان ابتنائه علي الرجوع للأصل عند فقد أمارة المني.

و قد تحصل أنّ الأمارة علي عدم المني منحصرة بعدم الدفق.

نعم، مقتضي صحيح معاوية بن عمار أنّ قلة البلل أمارة علي عدم الدفق علي ما تقدم توضيحه عند الكلام في عموم ناقضية المني القليل، فلاحظ.

(2) لاستصحاب الطهارة، بل عدم خروج المني.

(3) أما مع اجتماعها، فظاهر.

و أما مع وجود بعضها و الشك في الباقي، فقد وجهه قدّس سرّه بأنه لا اعتبار بالشك في وجود المعارض، كما وجه قدّس سرّه في مباحث الاجتهاد و التقليد عدم الاعتبار بالشك

ص: 327

______________________________

في المعارض بأنه مقتضي إطلاق أدلة حجية الحجة المحرزة، فإنّه و إن خرج عنه صورة وجود المعارض، فيكون التمسك بالإطلاق مع الشك فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إلا أنه لا محذور فيه بعد كون دليل التخصيص لبّيا، و هو حكم العقل بامتناع التعبد بالنقيضين.

و فيه- مضافا إلي ما سبق في المسألة الثامنة من مباحث الاجتهاد و التقليد من عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية حتي لو كان المخصص لبيا، و لا سيما إذا كان جليا بنحو يعد من القرائن المحيطة بالكلام المانعة من انعقاد ظهور العام في العموم، كما في المقام-: أن ذلك إنما يتم في الشك المجرد عن الأصل المحرز لوجود المعارض، و إلا فلا ينبغي التأمل في جريان الأصل المذكور- كاستصحاب عدالة الشاهد- و إن لم يكن الأثر المترتب عليه فعلية الحجية في المعارض، بل سقوط حجية المعارض.

فيجري في المقام استصحاب عدم وجود الصفة المشكوكة، الذي هو أمارة علي عدم المني، فيعارض به أمارة وجوده، و هي الصفة المتيقنة.

و منه يظهر أنه لا ينفع الاستدلال علي عدم الاعتناء باحتمال المعارض ببناء العقلاء علي ذلك في العمل بالحجج المتيقنة، الذي هو دليل علي استثناء الشك في المعارض من قاعدة عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، علي ما سبق التعرض له في مباحث الاجتهاد و التقليد، فإنه و إن تمَّ في نفسه لا ينفع في مثل المقام مما يحرز فيه وجود المعارض بالأصل.

اللهم إلا أن يستشكل في جريان استصحاب عدم الصفة بتوقفه علي كون الأمارة هي العدم المحمولي، الذي هو عبارة عن محض عدم وجودها، حيث يمكن استصحابه بلحاظ اليقين به قبل خروج الماء، و لا طريق لاستفادة ذلك من النصوص المتقدمة، فإنها حيث كانت واردة لتشخيص حال الماء فربما يراد بها أنّ الصفات المذكورة لما كانت من خواص المني ففقدها في الماء كاشف عن عدم كونه منيا، فلا بد من إحراز أنّ الماء فاقد للصفة، نظير قوله عليه السّلام في ذيل صحيح علي بن وفي

ص: 328

المريض يرجع إلي الشهوة أو الفتور (1)،

______________________________

جعفر: «و إن كان إنما هو شي ء لم يجد له شهوة و لا فترة» بناء علي أنه من أدلة المقام، و لا مجال لإحراز ذلك بالاستصحاب، لعدم اليقين به حتي بلحاظ حال ما قبل خروج الماء.

هذا، مضافا إلي أن جريان الاستصحاب المذكور مستلزم للغوية إطلاق أمارية الصفة الواحدة علي المني، لعدم ترتب العمل عليها، إلا أن يحرز وجود غيرها الراجع للزوم اجتماع الصفات كلها في الحكم بالمني، و هو لا يناسب الإطلاق المذكور، فيكشف الإطلاق بدلالة الاقتضاء عن إلغاء الشارع استصحاب عدم الصفة المشكوكة، بنحو يرفع لأجله اليد عن أمارية الصفة المتيقنة.

(1) بل أو الدفق أيضا بناء علي ما ذكره من أمارية كل من الصفات الثلاث، لإطلاق أدلتها الشامل للمريض، و نصوص المريض إنما دلت علي عدم توقف الحكم بالمني علي الدفق و عدم أمارية عدمه علي عدمه، لا علي عدم أماريته علي المني، لتنافي الإطلاقات المذكورة.

إلا أن يكون مراده ذلك، فلاحظ.

أما بناء علي ما سبق من اعتبار اجتماع الصفات الثلاث في الصحيح، فلا ينبغي التأمل في عدم لزوم الدفق في المريض، فضلا عن كون عدمه أمارة علي عدم المني، لصراحة صحيحي زرارة و ابن أبي يعفور في ذلك، و ظهور صحيح معاوية بن عمار فيه، بناء علي ما تقدم في توجيهه عند الكلام في عموم ناقضية المني للقليل.

بل الظاهر أنه لا يعتبر فيه الفتور أيضا، أخذا بإطلاق النصوص المذكورة.

و لا يعارضها صحيح ابن جعفر بعد حمله علي الصحيح، كما لا مجال للبناء علي أمارية الفتور وحده لما سبق في الصحيح.

ثمَّ إنّ ظاهر النصوص المتقدمة أنّ الشهوة أمارة المني عند اشتباه الخارج، لا عند الشك في خروج الماء، بل مقتضي الأصل معه الطهارة و إن تحققت الشهوة،

ص: 329

و في النساء يرجع إلي الشهوة (1)، و في الفتور وحده إشكال (2).

______________________________

نظير ما تقدم في الصحيح.

لكن قد يدل علي أمارية الشهوة حينئذ خبر محمد بن مسلم: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: رجل رأي في منامه فوجد اللذة و الشهوة ثمَّ قام فلم ير في ثوبه شيئا. قال:

فقال: إن كان مريضا فعليه الغسل، و إن كان صحيحا فلا شي ء عليه» «1»، بناء علي حمله علي صورة الشك في خروج شي ء، لأن عدم الرؤية لا يستلزم اليقين بالعدم، و لعدم ذهاب أحد من الأصحاب إلي ناقضية الاحتلام من دون إنزال في المريض- كما صرح به في الحدائق و الجواهر- بل هو لا يناسب التعليل المتقدم في صحيح ابن أبي يعفور الظاهر في المفروغية عن اعتبار خروج المني في وجوب الغسل.

إلا أنّ ما ذكر لا يكفي في حمله علي صورة الشك في الخروج مع ظهوره في بيان الحكم الواقعي، و لا سيما مع قرب حصول اليقين بالعدم من الفحص عند القيام من النوم قبل مضي فترة يمكن فيها جفاف الخارج.

علي أنه لم يعرف القول بأمارية الشهوة عند الشك في أصل الخروج لا في الصحيح و لا في المريض.

و ليس حمله علي ذلك بأقرب مما ذكره بعضهم من حمله علي صورة وجود شي ء من البلل القليل علي جسده، و إن كان ذلك بعيدا أيضا.

فالمتعين طرح الخبر، و لا سيما مع ضعف سنده و عدم ظهور عامل به.

(1) تقدم أنّ المدار عليها واقعا.

(2) بل منع، لظهور نصوصها في إناطة وجوب الغسل عليها- واقعا أو ظاهرا- بالإنزال عن شهوة.

و به يخرج عن إطلاق أمارية الفتور لو تمَّ الدليل عليه، فضلا عما إذا لم يتم، لما سبق.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 330

______________________________

بقي شي ء: و هو أنه صرح جملة من الأصحاب بعدم وجوب الغسل علي المرأة بخروج مني الرجل منها، و هو المدعي عليه الإجماع في كشف اللثام و عن ظاهر التذكرة.

و يقتضيه صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه أو موثقه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تغتسل من الجنابة ثمَّ تري نطفة الرجل بعد ذلك هل عليها غسل؟ فقال: لا» «1»، و غيره مما يأتي.

فما في السرائر من إطلاق وجوب الغسل عليها إن علمت بأن الخارج مني، ضعيف، أو محمول علي العلم بأنه منيها.

هذا، و مقتضي الأصل عدم وجوب الغسل عليها لو احتملت أنّ الخارج منيها، أو مختلط به، كما صرح بالثاني في القواعد و غيره.

لكن عن نهاية الاحكام وجوبه مع الظن بالاختلاط، كما إذا كانت ذات شهوة جومعت جماعا حصلت به شهوتها، لغلبة الظن بالاختلاط. انتهي.

و عن الدروس أنها لو شكت فالأقرب الغسل، و عن البيان أنه حينئذ الأولي، و في جامع المقاصد في حكم الشك: «و قيل: يجب، إذ الأصل في الخارج من المكلف أن يتعلق حكمه به إلي أن يتحقق المسقط له، و لا بأس به، لما فيه من الاحتياط و تحقق البراءة معه».

لكن لا أصل لأصالة تعلق حكم الخارج من الإنسان به.

و الاحتياط- مع أنه إنما يجب بالإضافة إلي ما يشترط فيه الطهارة، كالصلاة، دون ما يحرم بدونها، كالمكث في المسجد- مورد لاستصحاب عدم خروج المني منها.

بل قد يدعي أنّ الأصل في الخارج منها أن يكون مني الرجل، لصحيح سليمان بن خالد أو موثقه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول فخرج منه شي ء، قال: يعيد الغسل، قلت: فالمرأة يخرج منها بعد الغسل، قال: لا تعيد

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 331

مسألة 2 من وجد منيا و علم أنه منه بجنابة لم يغتسل منها وجب عليه الغسل

مسألة 2: من وجد علي بدنه أو ثوبه منيا و علم أنه منه بجنابة لم يغتسل منها (1) وجب عليه الغسل،

______________________________

[الغسل. خ] قلت: فما الفرق بينهما؟ قال: لأن ما يخرج من المرأة إنما هو من ماء الرجل» «1»، و نحوه صحيح منصور «2».

لكنه لا يخلو عن إشكال، لعدم ظهوره في بيان حكم الشك، بل في بيان واقع الخارج منها، فلا بد أن يراد به الصورة المتعارفة المعهودة التي لا يثأر فيها الشك.

و مما سبق يظهر ضعف ما تقدم عن نهاية الاحكام، لعدم الدليل علي حجية الظن بنحو يخرج به عن الاستصحاب.

و توهم: أنّ وجوب الغسل في مورد كلامه- و هو سبق حصول الشهوة لها- مقتضي إطلاق النصوص المتضمنة إناطة الغسل بالشهوة.

مدفوع: بظهور النصوص المذكورة في إناطة وجوب الغسل عليها واقعا في ظرف الإنزال منها بالشهوة، للتفصيل في النازل منها، لا في إناطة وجوبه ظاهرا بها عند الشك في الإنزال منها للتفصيل في الخارج منها مما يحتمل كونه منها.

(1) أما لو علم أنه منه و احتمل كونه من جنابة اغتسل منها، فقد جزم في الجواهر بعدم وجوب الغسل، لاستصحاب الطهارة.

و ذكر أنه لا يجري فيه ما ذكروه فيمن تيقن بالطهارة و الحدث و شك في المتأخر منهما من وجوب الغسل، لقاعدة الاشتغال بعد تعارض الاستصحابين، أو عدم جريانهما ذاتا، للفرق بينه و بين ما نحن فيه بالعلم هناك بكل من الحدث و الطهارة و الجهل بالسبق و اللحوق، أما هنا فلم يعلم بحدوث جنابة غير الأولي- المتيقنة الارتفاع- فضلا عن التردد بين السبق و اللحوق، فالأصل عدم الجنابة

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 332

______________________________

الجديدة، كما هو الحال في كل ما شك في تعدده و اتحاده.

و قد يستشكل فيه: بأنه لا أثر لإحراز الاتحاد و التعدد في جريان الاستصحاب، بل المعيار فيه علي اليقين و الشك، و هما حاصلان في المقام، لليقين بالجنابة حين خروج المني و الشك في ارتفاعها.

و من هنا ذكر سيدنا المصنف و شيخنا الأستاذ قدّس سرّهما أن المقام من موارد تعاقب الحالتين المتضادتين مع الجهل بالمتأخر منهما.

نعم، حيث لم يعلم بتكرر سبب الجنابة، بل احتمل كونه عين السبب الأول الذي وقع الغسل منه كان منشأ الشك في التقدم و التأخر الجهل بتأريخ الجنابة المعلومة حين خروج المني مع العلم بتأريخ الغسل، فجريان الاستصحاب فيه مبني علي جريان استصحاب مجهول التاريخ من الحالتين المتعاقبتين و معارضته لاستصحاب معلوم التاريخ منهما، كما ربما ينسب للمشهور، و حيث كان التحقيق عدم جريانه فلا معارض لاستصحاب الطهارة في المقام، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه أيضا.

لكنه مندفع بأنّ للفرق المذكور أثرا في جريان الاستصحاب، إذ مع إحراز تعدد الفرد لا يحتمل انطباق الفرد المتيقن المشكوك الانتقاض علي الفرد المعلوم الانتقاض، غاية الأمر أنه يحتمل انتقاضه بانتقاضه، لاحتمال تأخر الرافع عنهما و رفعه لهما معا، فيستصحب، و يبتني علي الكلام في تعاقب الحالتين.

أما مع عدم إحراز التعدد، فيحتمل انطباق المتيقن المشكوك الانتقاض علي المتيقن المعلوم الانتقاض و الذي يستحيل التعبد ببقائه، و حيث كان مقتضي الاستصحاب التعبد بالمستصحب مطلقا و علي كل حال، فلو جري في الفرد المذكور كان مقتضاه التعبد ببقائه و إن انطبق علي المتيقن الارتفاع، الذي يمتنع التعبد ببقائه، فيمتنع جريان الاستصحاب، علي ما ذكرناه في غير مورد من نظائره، منها الشبهة العبائية.

و دعوي: جريان نظير ذلك في القسم الثاني من استصحاب الكلي، لتردد

ص: 333

______________________________

المستصحب بين مقطوع البقاء و مقطوع العدم و الارتفاع.

مدفوعة: بالفرق بينهما، بأنّ التردد هناك بلحاظ الخصوصيتين الخارجتين عن موضوع الأثر، أما بلحاظ الفرد بما هو فرد للكلي الذي هو موضوع الأثر فهو مشكوك البقاء لا غير، و ليس القطع ببقائه أو ارتفاعه إلا تقديريا معلقا علي اتحاده مع إحدي الخصوصيتين الخارجتين عن موضوع الأثر.

أما هنا، فالتردد بلحاظ واقع المستصحب بما هو فرد من موضوع الأثر، لوضوح أنّ الجنابة حين خروج المني الخاص التي يراد استصحابها ليست هي الجنابة المقيدة بخروجه، علي نحو يكون عنوانا تقييديا مأخوذا في المستصحب، لعدم دخله في موضوع الأثر، بل الأثر قائم بالجنابة من حيث هي، و ليس كونها حين خروج المني إلا حاكيا محضا عن واقع الجنابة الذي يحتمل اتحاده مع الجنابة التي يقطع بارتفاعها بالاغتسال منها.

فلا مجال لاستصحاب الفرد المذكور علي ما هو عليه من إجمال و ترديد، بل ليس في المقام إلا فرد متيقن علم بارتفاعه، و آخر مشكوك الحدوث مقتضي الاستصحاب عدمه، كما ذكره في الجواهر.

و مما ذكرنا يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من جريان الاستصحاب المذكور و معارضته لاستصحاب الطهارة بعد الغسل المتيقن، و أنه من استصحاب الكلي، لاستصحاب كلي الجنابة حين خروج المني المردد بين معلوم الارتفاع و مشكوك الحدوث، و ذكر أنه من صغريات القسم الرابع الذي جعله لاستصحاب الكلي.

وجه الإشكال: ما أشرنا إليه من عدم كون حين خروج المني عنوانا تقييديا للمستصحب، لعدم دخله في ترتب الأثر، بل ليس هو إلا حاكيا محضا عن واقع الجنابة الخاص، فهو من استصحاب الفرد المردد بالنحو المتقدم لكلي الجنابة ذات الآثار المعهودة، و ليس من استصحاب الكلي المقيد، فضلا عن أن يكون من القسم المذكور، الذي لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، بل يوكل لمحله.

ص: 334

و يعيد كل صلاة لا يحتمل سبقها علي الجنابة المذكورة، دون ما يحتمل سبقها عليها (1)،

______________________________

كيف و لو بني علي جريان الاستصحاب في مثل ذلك انتقض بجميع موارد الشك في تجدد العارض بعد العلم بارتفاعه، لإمكان الاستصحاب بفرض عنوان صالح للانطباق علي الوجود المتيقن المنتقض و الوجود المتجدد المحتمل، و لا أقل من عنوان آخر وجود يعلمه اللّه تعالي، فيعارض استصحابه باستصحاب نقيضه أو ضده المتيقن عند ارتفاع الوجود السابق، و هو راجع لسد باب الاستصحاب.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في جريان استصحاب الطهارة في المقام و عدم معارضته باستصحاب الجنابة.

نعم، قد يستشكل فيه بأنه و إن أحرز معه عدم الجنابة إلا أنه لو طرأ سبب الحدث الأصغر لا يحرز ارتفاع كلي الحدث بالوضوء، بل مقتضي استصحاب الكلي المذكور ترتب أثره و إن لم يترتب أثر خصوص الجنابة.

و قد تعرضنا في الأصول لاندفاع ذلك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، لاختلاف وجوه الدفع باختلاف المباني في اجتماع الحدث الأصغر مع الأكبر.

مضافا إلي ما يظهر من حديث أبي بصير الآتي من ظهور المفروغية عن عدم الحاجة للغسل مع الشك في الجنابة حتي بلحاظ كلي الحدث، و الاجتزاء مع طروء سبب الأصغر بالوضوء، بل هو المتيقن بلحاظ فتاوي الأصحاب و سيرة المتشرعة، فلاحظ.

(1) كما هو المصرح به في المعتبر و المنتهي و القواعد و جامع المقاصد و الروض و عن التذكرة و الدروس و البيان و غيرها.

و هو ظاهر فيما يجري استصحاب عدم خروج المني حينه، و هو ما علم بتأريخه مع الجهل بتأريخ خروج المني، و أما في غيره فلقاعدة الفراغ.

لكن قال في المبسوط: «فينبغي أن نقول: يجب أن يقضي كل صلاة صلاها

ص: 335

و إن علم تأريخ الجنابة و جهل تأريخ الصلاة (1)، و إن كانت الإعادة لها أحوط استحبابا (2).

______________________________

عند آخر غسل اغتسل.»، و علل بالاحتياط: و هو كما تري! إذ لا مجال لوجوبه بعد ما سبق.

علي أنه لا وجه لتخصيصه بما يقع بعد الغسل، بل يجري فيما يقع قبله إذا احتمل حصول الجنابة المتيقنة قبل ذلك، كما لا يتجه فيما يقع بعد الغسل السابق قبل طروء الجنابة المتيقنة.

إلا أن ينزل كلامه علي غير ذلك، كما هو غير بعيد.

(1) لأنه و إن لم يجر حينئذ استصحاب عدم خروج المني إلي حين الصلاة، بناء علي ما هو الظاهر من أنه مع العلم بتأريخ أحد الحادثين لا يجري استصحاب عدمه إلي حين وجود الآخر- كما لا يجري مع الجهل بالتأريخين معا- إلا أنه لا يجري استصحاب عدم الصلاة إلي حين خروج المني، لعدم إحرازه بطلانها، لتوقف بطلانها علي وقوعه بعده، و لا يحرزه الاستصحاب المذكور إلا بناء علي الأصل المثبت.

بل لو فرض جريانه في نفسه كانت قاعدة الفراغ مقدمة عليه، كما أنها واردة علي قاعدة الاشتغال بالصلاة عند الشك في شرطها.

(2) لم يتضح الوجه في تخصيص هذه الصورة بالاحتياط المذكور، إذ لا مميز لها عن صورة الجهل بالتأريخين معا بعد عدم جريان الاستصحاب المحرز للصحة.

نعم، تمتاز عنهما بجريان الاستصحاب المذكور صورة العلم بتأريخ الصلاة و الجهل بتأريخ الجنابة.

إلا أنّ قاعدة الاشتغال كما تكون مورودة للاستصحاب المذكور، كذلك هي مورودة لقاعدة الفراغ الجارية في الصورتين المذكورتين، و من ثمَّ لا يبعد أن يكون

ص: 336

و إن لم يعلم أنه منه لم يجب عليه شي ء (1).

______________________________

مراده تعميم الاحتياط لجميع الصور، كما ألزم به الشيخ فيما تقدم، فلاحظ.

(1) كما في المدارك و ظاهر كشف اللثام و عن الذخيرة و شرح الدروس و الوافي و غيرها، عملا بالاستصحاب.

و قد صرح جماعة من الأصحاب بوجوب الغسل إذا كان الثوب مختصا به، بل عن التذكرة الإجماع عليه.

و استدل عليه بموثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل ينام و لم ير في منامه أنه احتلم فوجد في ثوبه و علي فخذه الماء هل عليه غسل؟ قال: نعم» «1».

و موثقة الآخر عنه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يري في ثوبه المني بعد ما يصبح و لم يكن رأي في منامه أنه قد احتلم قال: فليغتسل و ليغسل ثوبه و يعيد صلاته» «2».

و أما ما في حديث أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصيب بثوبه منيا و لم يعلم أنه احتلم. قال: ليغسل ما وجد بثوبه و ليتوضأ» «3»، فقد حمله الشيخ علي الثوب المشترك.

و يشكل بأنّ الموثق الأول كالصريح في صورة العلم بكون المني منه، كما هو مقتضي فرض رؤية الماء علي فخذه، بل هو الذي يشعر به في الثاني فرض رؤية المني بعد ما يصبح، حيث يشعر بفرض خروج المني ليلا، المستلزم للعلم بكونه منه، و إلا فلا خصوصية لوقت الرؤية مع الشك في كون المني منه. و لا أقل من كون ذلك مقتضي ظهور الخبرين سؤالا و جوابا في إرادة الحكم الواقعي، فيكون منشأ السؤال ما أشير إليه في الموثقين من احتمال اعتبار الاحتلام في ناقضية المني و لو لتخيل اعتبار الشهوة حين خروجه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 337

______________________________

و أما حديث أبي بصير، فلا إشعار فيه بإرادة الثوب المشترك، بل ظاهر الإضافة الاختصاص.

و لعل الأقرب حمله علي صورة الشك في خروج المني منه بالنحو الموجب لفعلية الجنابة، كما هو مقتضي فرض نفي العلم بالاحتلام فيه، لا نفي الاحتلام واقعا، كما تضمنه الموثقان، فيكون عاضدا لمقتضي القاعدة التي يتعين العمل بها، لعدم المخرج عنها.

و لعل ذلك هو مراد غير واحد من الأصحاب ممن خص وجوب الغسل باختصاص الثوب، فإنّ التفصيل بينهما و إن كان موهما لإرادتهم فيهما معا الحكم الظاهري عند الشك في خروج المني منه الذي هو المراد مع اشتراك الثوب.

بل هو الذي يشعر به اهتمام بعضهم بتحقيق معيار الاشتراك، و كلامهم في اعتبار كون رؤية المني عقيب الانتباه بلا فصل، و غير ذلك مما لا ينبغي إطالة الكلام فيه لو كان المدار علي العلم، لأن التحويل عليه أيسر.

بل هو الظاهر من جامع المقاصد و الروض، و كالصريح مما عن الموجز الحاوي، و ما في الرياض من خروج الحكم عن عموم عدم نقض اليقين بالشك، و ما عن نهاية الاحكام من توجيهه بالعمل بالظاهر.

إلا أنّ ظاهر بعضهم أنّ تخصيص الحكم بصورة اختصاص الثوب لاختصاص العلم بكون المني منه بها، كما يناسبه ظهور كلامهم في العلم بجنابة أحد الشريكين في فرض الاشتراك المناسب لفرض العلم بجنابة صاحب الثوب في فرض الاختصاص، و هو مقتضي تعليله في المبسوط بتحقق خروجه منه و في المعتبر و المنتهي و محكي التذكرة و التحرير بأنه منه، و أنه لا يحتمل خروجه من غيره، بل هو صريح ما عن المرتضي و ابن إدريس من اعتبار عدم احتمال كون المني من غير صاحب الثوب و أن المدار علي العلم.

فلا بد أن يكون تحريرهم للمسألة لدفع توهم اعتبار الاحتلام في ناقضية المني- كما يظهر من التذكرة- أو اعتبار العلم بخروجه حين خروجه- كما يظهر من

ص: 338

مسألة 3 إذا دار أمر الجنابة بين شخصين لم يجب الغسل علي أحدهما

مسألة 3: إذا دار أمر الجنابة بين شخصين يعلم كل منهما أنها من أحدهما لم يجب الغسل علي أحدهما (1)،

______________________________

المنتهي- أو لمتابعة النصوص أو لغير ذلك.

(1) كما هو ظاهر الأصحاب، حيث ذكروا ذلك في واجدي المني في الثوب المشترك، المفروض عندهم العلم بجنابة أحدهما، بل في مفتاح الكرامة أنه قطع به كل من تعرض له، و ادعي في المدارك و الحدائق الاتفاق عليه، و في الجواهر: «لم أعثر فيه علي خلاف بين أصحابنا، بل لعله إجماعي، كما عساه يظهر من المنقول في السرائر من خلاف المرتضي و به صرح بعض متأخري المتأخرين، كصاحب المدارك و غيره».

و يقتضيه الاستصحاب الجاري في حق كل منهما، بناء علي ما هو الظاهر من عدم مانعية العلم الإجمالي من عموم أدلة الأصول لأطرافه ذاتا، و إنما يمنع من جريانها إذا كان منجزا، لامتناع الترخيص في المعصية المعلومة أو المحتملة، أما مع عدم منجزيته فلا يمنع من فعلية جريان الأصل.

بل الظاهر أنّ من يقول بمانعية العلم الإجمالي من جريان الأصل ذاتا إنما يقول بمانعيته من جريان كلا الأصلين في حق شخص واحد، لا من جريان كل من الأصلين في حق شخص، كما في المقام، لفرض عدم ابتلاء أحدهما بتكليف الآخر، ليرجع للأصل الجاري في حقه.

هذا، و لا فرق في عملهما بين مخالفتهما احتمال الجنابة دفعة و تدريجا، حيث لا تحصل المخالفة من كل منهما في الصورتين إلا من دون منجز مانع من جريان الأصل، خلافا لما عن الصيمري في شرح الالتباس، فمنع من دخولهما المسجد أو قراءتهما العزائم دفعة، و أنكر ذلك في جامع المقاصد حتي نسبه إلي بعض القاصرين.

هذا، و لا ينبغي التأمل في حسن الاحتياط بالغسل، و لعله إليه يرجع الحكم

ص: 339

لا من حيث تكليف نفسه (1)، و لا من حيث تكليف غيره (2)

______________________________

باستحباب الغسل في المبسوط و المعتبر و المنتهي و جامع المقاصد و الروض و جملة غيرها، بل عن شرح الدروس نسبته للأصحاب، و إن كان ظاهر بعضهم الاستحباب شرعا، للاحتياط لكنه غير ظاهر.

و العمدة حسن الاحتياط عقلا مع ما هو التحقيق من إمكانه في العبادات.

نعم، لا بد من ضم الوضوء إليه مع الحدث الأصغر، و كأن إهمالهم له لوضوح توقف الاحتياط عليه.

و ينوي بالغسل الاحتياط، لا الوجوب، خلافا لجامع المقاصد و الروض من أنهما ينويان به الوجوب، كما في كل احتياط، إذ لا معني لنيته مع عدم الجزم به، إلا أن يراد نيته رجاء، أو وصفا لتعيين نوع المأتي به، لا غاية له.

ثمَّ إنّ في جامع المقاصد: «و لو علم المجنب منهما بعد ذلك فالوجه وجوب الإعادة»، و كأنه للاقتصار في ترك الجزم بالنية علي حال التعذر.

لكن تنظر فيه في الروض و استظهر في المدارك الإجزاء.

و لا ينبغي التأمل فيه، إذ انكشاف بطلان الغسل من حين وقوعه لا يناسب مشروعية الاحتياط، و بطلانه بانكشاف الحال- مع غرابته- مدفوع بالاستصحاب.

(1) فلا يحتاج للغسل في بنائه علي صحة صلاته الواجبة عليه و جواز المكث له في المسجد و غيرهما.

(2) فيبني ولي الميت علي صحة الصلاة التي تبرع بها الشخص المذكور عن الميت، كما يبني المقتدي به أو من يقتدي هو به علي صحة الجماعة، بنحو تترتب آثارها من سقوط القراءة، و العفو عن الزيادة العمدية للمتابعة، و إلغاء حكم الشك من الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر، و غير ذلك مما يتعلق بالغير من أحكام جنابة الشخص المذكور.

ص: 340

إذا لم يعلم بالفساد، أما لو علم به (1) و لو إجمالا (2) لزمه الاحتياط، فلا يجوز الائتمام لغيرهما بأحدهما (3) إن كان كل منهما موردا للابتلاء (4)، فضلا عن الائتمام بكليهما (5)،

______________________________

(1) أو بتكليف فعلي في حق أحدهما أو في حق ثالث، كما لو علم أحدهما بحرمة المكث عليه في المسجد أو حرمة تمكينه لصاحبه من ذلك أو التسبيب لوقوعه منه، بناء علي حرمة تمكين الجنب من ذلك أو التسبيب لوقوعه منه و إن كان معذورا، أو علم شخص ثالث بحرمة تمكين أحد الشخصين من ذلك أو التسبيب لوقوعه من أحدهما.

و كذا لو علم بأحد الأمرين من الفساد و التكليف الفعلي.

(2) بناء علي ما هو المشهور من منجزية العلم الإجمالي.

(3) بناء علي مانعية جنابة الشخص الواقعية من الائتمام به و إن لم تكن منجزة عليه، علي ما يأتي الكلام فيه في حكم ائتمام أحدهما بالآخر، حيث يقتضي العلم الإجمالي تنجز الاحتمال في جميع الأطراف بنحو يمنع من المخالفة الاحتمالية.

(4) بأن كان واجدا لشرائط الائتمام الأخري بنظر الشخص المذكور، و كان قادرا علي الائتمام به شرعا و تكوينا في بعض الصلوات المكلف بها فعلا أو التي يعلم بتجدد التكليف بها، و لم تكن هناك صوارف نفسية أو خارجية عن الائتمام به، بنحو يكون المنع منه منشأ للمسؤولية بنظر العقلاء لاستتباعه نحوا من الحرج و الضيق، علي ما حقق في محله من موانع منجزية العلم الإجمالي.

و ربما يخص عدم الابتلاء بالأخير، إلا أنّ المتعين التعميم لما قبله، إما لدخوله فيه موضوعا، أو لمشاركته معه حكما.

(5) للزوم المخالفة القطعية الإجمالية، التي لا إشكال في منع العلم الإجمالي منها.

ص: 341

أو ائتمام أحدهما بالآخر (1)،

______________________________

و ما في الجواهر من عدم ظهور الخلاف في جواز الائتمام بكل واحد منهما بفرضين، لم يتضح بنحو معتد به في الخروج عن القواعد المقررة للعلم الإجمالي.

نعم، هو متجه مع عدم الابتلاء بأحدهما عند الابتلاء بالآخر.

(1) كما في المعتبر و جامع المقاصد و الروض و كشف اللثام و عن الإيضاح و البيان و حاشية الشرائع و المسالك و غيرها.

للعلم تفصيلا ببطلان الائتمام، إما لبطلان صلاة الإمام أو المأموم بعد تردد الجنابة بينهما، فلا يجوز ترتيب آثار الائتمام من المأموم بالاكتفاء بقراءة الإمام و الزيادة للمتابعة و غيرهما، و لا من الإمام بالرجوع للمأموم في الشك، و لا من ثالث بالاتصال بالإمام من طريق المأموم المذكور.

لكن في القواعد: «و لكل منهما الائتمام بالآخر علي إشكال»، و عن الذكري التردد فيه، و ظاهر المنتهي الميل للجواز، و استظهره في المدارك و الرياض، و هو المحكي عن التذكرة و التحرير و نهاية الاحكام و الذخيرة و شرح الدروس، و إليه جنح في الحدائق في صدر كلامه و إن رجع عنه أخيرا إلي المنع أو التوقف.

و استدل عليه في كلماتهم.

تارة: بسقوط أحكام هذه الجنابة بنظر الشارع، و لذا يجوز لكل منهما في نفسه ترتيب أحكام الطاهر، من دخول المساجد و قراءة العزائم و غيرهما.

و أخري: بصحة صلاة كل منهما شرعا، فتصح جماعتهما، لتحقق شرطها.

و ثالثة: بأنّ التكاليف منوطة بالظاهر لا بالواقع، و كل منهما طاهر ظاهرا.

و رابعة: بالمنع من حصول الحدث إلا مع تحقق الحدث من شخص بعينه.

و خامسة: بأنّ صلاة الإمام صحيحة قطعا حتي لو بطل الائتمام، و المأموم قد ائتم في صلاة يعلم صحتها فصح ائتمامه.

و هذه الوجوه- كما تري- مبنية علي اختلاط الحكم الواقعي بالظاهري، و إلا

ص: 342

______________________________

فلا ينبغي التأمل في عموم سببية خروج المني للجنابة، و عموم مانعية الجنابة من الصلاة، و عموم شرطية صحة كل من صلاة الإمام و المأموم في صحة الائتمام، لعموم أدلة الأحكام المذكورة، و لذا لو تعين بعد ذلك من خرج منه المني فلا يظن من أحد التوقف في انكشاف جنابته من أول الأمر و بطلان صلاته و جماعته.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 343

غاية الأمر أنّ الجهل عذر مسوغ للرجوع للأصول الظاهرية المحرزة لصحة العمل، و لا مجال لها مع العلم بالبطلان إجمالا، فضلا عن العلم به تفصيلا- كما هو محل الكلام- و لذا لا إشكال ظاهرا في عدم جواز ائتمام المكلف بمن يعلم هو بخروج المني منه و إن كان الإمام متعبدا ظاهرا بصحة عمل نفسه.

و ما في الرياض من عدم العبرة بالواقع و إن علم به إجمالا، و لذا تصح صلاتهما و تسقط أحكام الجنابة عنهما قطعا و وفاقا.

خلط بين العلم الإجمالي المنجز الذي يبتني عليه الكلام و غيره الذي هو مورد القطع و الوفاق المشار إليهما في كلامه.

علي أنه لو تمَّ لا مجال فيما إذا لزم منه العلم التفصيلي بالبطلان، كما في المقام، بل هو نظير ما لو علم زيد إجمالا بنجاسة مائه أو ثوب جاره ثمَّ لاقي الثوب الماء.

و أما ما تضمن عدم وجوب الإعادة علي المأمومين بانكشاف بطلان صلاة الإمام لعدم الطهارة، أو الكفر، أو عدم الاستقبال، أو عدم النية «1»، فهو لا يدل علي صحة الجماعة واقعا مع الجهل بالحال، لإمكان الاجتزاء بالصلاة الناقصة مع العذر، كما في موارد حديث: «لا تعاد.».

و لذا كان مورد بعضها صورة علم الإمام بالفساد، و لا يظن من أحد البناء علي ذلك في المقام و غيره.

فلا مخرج عما عرفت من القاعدة.

ثمَّ إنّ ذلك يجري في غير الائتمام مما يبتني فيه الصحة من أحدهما علي الصحة من الآخر، كصلاة الجمعة التي يعتبر فيها عدد معين، كما ذكره في جامع

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 36، 37، 38، 39 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 343

كما لا يجوز لغيرهما استنابة أحدهما في صلاة أو غيرها مما يعتبر فيه الطهارة (1).

______________________________

المقاصد و محكي الإيضاح.

(1) كأنه للعلم الإجمالي المانع من الاجتزاء بفعل كل منهما.

و ربما يكون هو المراد مما في الجواهر من عدم جواز استئجارهما للعلم بفساد صلاة أحدهما.

لكن فعل كل منهما لما لم يكن اختياريا للمستنيب فلا يكون موردا لابتلائه الفعلي قبل تحققه، بل يتوقف الابتلاء به علي تحققه، حيث يكون أثر صحته براءة ذمة المنوب عنه و ليس الابتلاء به قبله إلا تعليقيا غير كاف في منجزية العلم الإجمالي، فإذا استأجر أحدهما بعينه و ملك العمل في ذمته لقدرته عليه و لو بتجديد الغسل، كان له البناء علي صحة عمله بعد وقوعه عملا باستصحاب طهارته، لعدم الابتلاء بعمل الآخر.

و لا مجال لقياس ذلك بالائتمام بأحدهما، لأن الصلاة مع الائتمام فرد من الصلاة التي يقع بها امتثال الأمر الفعليّ بالصلاة، فهو مورد للابتلاء بمجرد التكليف بالصلاة إذا كان مقدورا للمكلف.

أما الاستئجار في المقام، فهو نظير ما لو علم إجمالا بنجاسة بعض ما في السوق أو غصبيته، حيث يجوز الشراء من شخص بعينه و يبني علي صحة الشراء و طهارة المشتري، لعدم الابتلاء قبل الشراء بشي ء مما في السوق و عدم الابتلاء بعده إلا بما اشتراه.

نعم، لو أتي الآخر بما يتوقف علي الطهارة بنحو النيابة أيضا بإجارة أو تبرع صار فعل كل منهما موردا للابتلاء الموجب لمنجزية العلم الإجمالي ببطلان أحدهما، نظير ما لو اشتري من جملة أشخاص يعلم بغصبية ما أخذه من بعضهم أو بنجاسته. و لعله إليه يرجع ما سبق من الجواهر.

ص: 344

مسألة 4 البلل المشكوك الخارج قبل الاستبراء منه بالبول بحكم المني ظاهرا

مسألة 4: البلل المشكوك الخارج بعد خروج المني و قبل الاستبراء منه بالبول بحكم المني ظاهرا (1).

الثاني الجماع
اشارة

الثاني: الجماع، و لو لم ينزل (2)،

______________________________

بقي في المقام أمر، و هو أنه لو كان أحد الشخصين خارجا عن الابتلاء فرتب أثر الطهارة في العمل المتعلق بالثاني ثمَّ ابتلي بالأول.

فإن كان مرجع اعتبار الطهارة في العمل الواقع إلي بطلانه واقعا بحيث يجب تداركه بعد ظهور الحال، وجب تداركه بمجرد الابتلاء بالأول، كما هو الحال في الاستنابة، فلو استناب أحدهما لعدم الابتلاء بالآخر و بعد إتيانه بالعمل ابتلي بالآخر بائتمام أو عمل نيابي، وجب تدارك العمل الأول، للعلم الإجمالي ببطلانه أو بحرمة الائتمام بالآخر أو بطلان العمل النيابي الواقع منه آخرا، فيجب الاحتياط بإعادة العمل الأول و ترك الائتمام بالآخر أو إعادة العمل الواقع منه أيضا.

و إن كان مرجعه إلي عدم جواز الإقدام عليه إلا أنه لا يجب تداركه لو وقع إما لعدم قابليته للتدارك أو لصحته لو وقع بدون الطهارة عن عذر، لم يجب تداركه، كما لا يمتنع العمل المتعلق بالآخر، لعدم الأثر للعلم الإجمالي بعد عدم منجزيته بالإضافة لما وقع، لعدم وجوب تداركه علي كل حال، كما لو سبق الائتمام، بناء علي عدم وجوب الإعادة علي المأمومين مع ظهور بطلان صلاة الإمام.

(1) الأنسب إيكال الكلام في ذلك للمسألة الثامنة و العشرين، لأنها أوسع بيانا و أكثر فروعا.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب المتسالم عليه بينهم، و في الجواهر:

«بلا إشكال و لا خلاف فيه. بل عليه الإجماع محصلا و منقولا نقلا مستفيضا كاد يكون متواترا، بل هو كذلك.».

و تقتضيه النصوص المستفيضة، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام:

ص: 345

و يتحقق بدخول الحشفة في القبل (1)،

______________________________

«سألته متي يجب الغسل علي الرجل و المرأة؟ فقال: إذا أدخله فقد وجب الغسل و المهر و الرجم» «1».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلّي اللّه عليه و آله فقال: ما تقولون في الرجل يأتي أهله فيخالطها و لا ينزل؟ فقالت الأنصار:

الماء من الماء، و قال المهاجرون: إذا التقي الختانان فقد وجب عليه الغسل، فقال عمر لعلي عليه السّلام: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال علي عليه السّلام: أ توجبون عليه الحد و الرجم و لا توجبون عليه صاعا من الماء؟! إذا التقي الختانان فقد وجب عليه الغسل. فقال عمر:

القول ما قال المهاجرون و دعوا ما قالت الأنصار» «2».

و أما ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام من حصر سبب الغسل بالماء الأكبر «3»، فلا بد من حمله علي الحصر الإضافي بلحاظ إنزال غير المني، أو الاحتلام من غير إنزال، كما يناسبه مورد نصوصه.

(1) لأن بعض النصوص و إن تضمن الإدخال أو الإيلاج الظاهرين بدوا في إدخال تمام الذكر و إيلاجه، إلا أنه لا بد من الخروج عنه بما تضمن الاكتفاء بالتقاء الختانين، بحمله علي إرادة تحاذيهما لبيان مقدار ما يعتبر إدخاله، لا علي تلاصقهما، للفاصل بين موضع ختان المرأة و موضع الإدخال منها، كما ذكره غير واحد من الفقهاء و اللغويين، منهم الشيخ قدّس سرّه في المبسوط، بل في مفتاح الكرامة أنه ذكره جماهير الأصحاب.

و لا مجال لجعل التقاء الختانين بمعني تلاصقهما سببا آخر غير الإدخال، لظهور كلتا الطائفتين في تحديد السبب الواحد الذي ينحصر به الغسل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الجنابة و باب: 7 منها حديث: 6، 11.

ص: 346

______________________________

و لصحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع: «سألت الرضا عليه السّلام عن الرجل يجامع المرأة قريبا من الفرج متي يجب الغسل؟ فقال: إذا التقي الختانان فقد وجب الغسل، قلت: التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة؟ قال: نعم» «1».

و علي هذا، يمكن توجيه خبر محمد بن عذافر: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام متي يجب علي الرجل و المرأة الغسل؟ فقال: يجب عليهما الغسل حين يدخله، و إذا التقي الختانان فيغسلان فرجيهما» «2»، بناء علي ما هو الظاهر من كون الذيل جملة مستأنفة لبيان حكم التقاء الختانين في مقابل حكم الإدخال، فيدل علي انفكاك أحدهما عن الآخر و عدم وجوب الغسل بالتقاء الختانين بالمعني الحقيقي- كما ذكرنا- و ليس معطوفا عطفا تفسيريا، لعدم مناسبته لتركيب الكلام و بعد الاهتمام ببيان غسل الفرج بعد ذكر وجوب الغسل.

و لا مجال لجعل القرينة عليه ذكر الفاء في قوله: «فيغسلان» بدعوي عدم كون المورد من موارد دخولها علي جزاء الشرط، إذ لا محل للفاء حتي علي تقدير العطف.

نعم، قد ينافي ما ذكرنا صحيح علي بن يقطين: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يصيب الجارية البكر لا يفضي إليها و لا ينزل عليها أ عليها غسل؟ و إن كانت ليست ببكر ثمَّ أصابها و لم يفض إليها أ عليها غسل؟ قال: إذا وقع الختان علي الختان فقد وجب الغسل، البكر و غير البكر» «3».

و صحيح الحلبي: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصيب المرأة فلا ينزل، أ عليه غسل؟ قال: كان علي عليه السّلام يقول: إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل. قال:

و كان علي عليه السّلام يقول: كيف لا يوجب الغسل، و الحد يجب فيه؟! و قال: يجب عليه

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 347

أو الدبر (1)،

______________________________

المهر و الغسل» «1».

فإنّ التعبير بوقوع الختان علي الختان في الأول و مسه له في الثاني لا يناسب إرادة المحاذاة جدا، و لا سيما مع فرض عدم الإفضاء في الأول، حيث يبعد الاتكال في بيان الحكم المسؤول عنه علي المفهوم دون المنطوق.

لكن حمل الثاني علي إرادة المس الحقيقي دون الإدخال، لا يناسب ما تضمنه السؤال فيه من فرض إصابة الرجل المرأة الظاهرة في الإدخال، الذي لا إشكال في وجوب الغسل به، فلو لم يحمل الجواب عليه لزم عدم بيان الحكم المسؤول عنه.

علي أنه لا مجال للتعويل علي الصحيحين مع مفروغية الأصحاب عن انحصار السبب بالإدخال، كما هو ظاهر نصوصه، بل هو كالصريح من صحيح عمر ابن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يضع ذكره علي فرج المرأة فيمني، عليها غسل؟ فقال: إذا أصابها من الماء شي ء فلتغسله و ليس عليها شي ء إلا أن يدخله» «2»، لوضوح أنّ وضع الذكر علي الفرج كثيرا ما يستتبع التقاء الختانين.

فلا بد من طرح الصحيحين أو حملهما علي ما يناسب ذلك، و لو كان بعيدا بلحاظ قلة الفاصل بين الختانين حين الإدخال، فلاحظ.

(1) أما في المرأة، فهو المنسوب للمشهور في كشف اللثام و الحدائق و المفاتيح، و للمعظم في المدارك، بل عن المرتضي أنه قال: «لا أعلم خلافا بين المسلمين في أن الوطء في الموضع المكروه من ذكر أو أنثي يجري مجري الوطء في القبل مع الإيقاب و غيبوبة الحشفة في وجوب الغسل علي الفاعل و المفعول به و إن لم يكن أنزل، و لا وجدت من [في خ ل] الكتب المصنفة لأصحابنا الإمامية إلا ذلك، و لا سمعت من [ممن خ ل] عاصرني منهم من شيوخهم نحوا من ستين سنة

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 7.

ص: 348

______________________________

يفتي إلا بذلك، فهذه مسألة إجماع من الكل، و لو شئت أن أقول: إنه معلوم بالضرورة من دين الرسول صلّي اللّه عليه و آله أنه لا خلاف بين الفرجين في هذا الحكم، و إنّ داود و إن خالف في أن الإيلاج في القبل إذا لم يكن معه إنزال لا يوجب الغسل، فإنه لا يفرق بين الفرجين، كما لا تفرق باقي الأمة بينهما في وجوب الغسل بالإيلاج في كل واحد منهما»، و عن السرائر نسبته لإجماع المسلمين.

لكن ظاهر الكليني، و الشيخ في طهارة التهذيب عدم وجوب الغسل، لاقتصارهما في الباب المناسب علي ذكر مرفوع البرقي الآتي الصريح في عدمه، كما أنه الظاهر من النهاية أيضا، حيث اقتصر علي التقاء الختانين، و كذا المراسم، حيث قيد به، بل هو صريح الاستبصار، و عن المرتضي أنه قال بعد الكلام السابق: «و اتصل لي في هذه الأزمان عن بعض الشيعة الإمامية أن الوطء في الدبر لا يوجب الغسل، تعويلا علي أن الأصل عدم الوجوب، أو علي خبر يذكر أنه في منتخبات سعد أو غيرها.».

و ربما نسب الخلاف لغيرهم ممن اقتصر علي ذكر الجماع في الفرج- كالمفيد في المقنعة- أو علي الرواية المتضمنة عدم وجوب الغسل بالجماع فيما دونه- كالصدوق في الفقيه- بناء علي اختصاص الفرج بالقبل.

لكنه لا يخلو عن إشكال.

نعم، ظاهر طهارة المبسوط و الخلاف التردد تبعا لاختلاف الرواية، و هو الظاهر من المدارك و الحدائق و المفاتيح و محكي كشف الرموز.

إلا أنّ المحكي عن الشيخ في صوم التهذيب و صوم المبسوط و نكاحه [1]

______________________________

[1] كلامه في صوم التهذيب شاهد بصدق النسبة، لأنه صرح بعدم التعويل علي الخبر النافي للغسل، و أما كلامه في صوم المبسوط و نكاحه فظاهر في التردد، لأنه و إن حكم بعموم أحكام الجماع للوطء من جميع الجهات حتي الوطء في الدبر، إلا أنه عقبه بأنه روي عدم وجوب الغسل و لا الإفطار بالوطء فيه، بنحو يظهر منه استثناؤه من عموم الحكم للتردد، و لا سيما مع ما ذكره في كتاب الصوم من أنّ الأول أحوط، حيث يظهر منه أنّ مرجع الجزم بالعموم للاحتياط لا لعدم التعويل علي الخبر النافي، و أما الحائريات فلم يتيسر لي العثور عليها.

ص: 349

______________________________

و الحائريات وجوب الغسل.

و من ذلك يظهر أنه لا مجال لدعوي الإجماع، فضلا عن الاستدلال به.

فلا بد من النظر في الأدلة اللفظية التي استدل أو يستدل عليها به، و هي أمور.

الأول: قوله تعالي أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ «1»، حيث خرج منه الملامسة في غير الفرجين بالإجماع و النصوص و تبقي الملامسة في الدبر داخلة في إطلاقه.

بل هو مقتضي تفسيرها في بعض النصوص «2» بالوقاع و الجماع، و في صحيح أبي مريم أو موثقه «3» بالمواقعة في الفرج، بناء علي عموم الفرج للدبر، كما صرح به بعض اللغويين، بل عن المرتضي عدم الخلاف فيه بين أهل اللغة و الشرع.

لكن الآية الشريفة ليست واردة لبيان سببية الملامسة للجنابة، ليكون لها إطلاق في ذلك، بل لبيان بدلية التيمم عن الغسل عند فقد الماء في ظرف الحاجة إليه بسبب الملامسة، للمفروغية عن سببيتها للجنابة، من دون أن يكون لها إطلاق في ذلك.

علي أنّ الملامسة ليست من المطلق الذي ثبت تقييده، ليقتصر في التقييد علي المتيقن، و إلا لزم تخصيص الأكثر، بل إلغاء موضوعيتها مطلقا، لأن السبب هو الجماع لا الملامسة المقارنة له، بل هي كناية عن الجماع في الجملة، فإجماله موجب لإجمالها و لزوم الاقتصار فيها علي المتيقن منه، و هو الجماع في القبل.

و لا مجال للاعتماد في العموم للدبر علي نصوص تفسيرها بالجماع، حتي بناء علي ما لعله الظاهر من عمومه للوطء في الدبر، لضعف أكثرها و ليس فيها ما هو معتبر السند إلا صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن قول اللّه عز و جل:

______________________________

(1) سورة المائدة: 6.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 11، 12، 13، 14 و باب: 67 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 9 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 4.

ص: 350

______________________________

أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فقال: هو الجماع، و لكن اللّه ستير يحب الستر فلم يسم كما تسمون» «1»، و لا يبعد أن يجري فيه ما يأتي.

و لا علي حديث أبي مريم المفسر لها بالمواقعة في الفرج، لعدم وروده لتفسيرها به ابتداء، بل للردع عن حمل العامة للملامسة علي المعني الحقيقي، و بيان الكناية بها عن الجماع من دون اهتمام بتحديده ليؤخذ بإطلاقه و يحمل علي الجنس دون العهد للفرد الشائع.

علي أنه لم يتضح عموم الفرج للدبر، فإنّ اللغويين و إن ذكروا أنه العورة التي هي شاملة له، إلا أنه ذكر في لسان العرب أنه أيضا شوار الرجل و المرأة، و ردد في شوار الرجل بين خصوص قبله و ما يعمه و الدبر.

علي أنه لا مجال للتعويل علي اللغويين في خصوصيات المعاني، و لا سيما في مثل هذا المعني مما كان كنائيا لا حقيقيا، و لا سيما و قد اشتهر إطلاقه علي خصوص القبل عرفا، حتي قال في محكي المصباح: «و الفرج من الإنسان القبل و الدبر، و أكثر استعماله في العرف في القبل»، بل نسبه في مجمع البحرين للعرب، حيث قال: «و الفرج من الإنسان- كفلس- قبله و دبره، لأن كل واحد منهما منفرج، و كذا استعمله العرب في القبل.».

و عليه جري استعماله في مرسل علي بن إبراهيم: «قال الصادق عليه السّلام في قوله تعالي فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰي شِئْتُمْ أي: متي شئتم في الفرج، و الدليل علي قوله في الفرج قوله تعالي نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، فالحرث: الزرع، في الفرج: في موضع الولد» «2».

و خبر الحسين بن علي بن يقطين: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن إتيان الرجل المرأة من خلفها، فقال: أحلتها آية من كتاب اللّه، قول لوط:

______________________________

(1) الوسائل باب: 67 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 72 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 6.

ص: 351

______________________________

هٰؤُلٰاءِ بَنٰاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ و قد علم أنهم لا يريدون الفرج» «1».

و ما تضمن الأمر بالاحتياط في الفرج، لأن منه الولد «2»، كما قد يستفاد من معتبرة يونس الواردة في تغسيل الميت، حيث كرر فيها ذكر الفرج مطلقا غير مقيد، ثمَّ قال عليه السّلام في كيفية وضع القطن: «فضعه علي فرجه قبل و دبر [قبلا و دبرا]» «3»، لإشعارها باحتياج التعميم للقرينة.

بل لعل بعض ما مضي يراد منه خصوص قبل المرأة، كما لعله المراد مما تضمن النهي عن ركوب الفروج السروج، معللا بأنه يهيجهن «4».

و هو الظاهر مما تضمن كراهة النظر لباطن فرج المرأة «5»، لوضوح أنّ ما يمكن النظر لباطنه هو القبل، بل لعله المراد مما تضمن كراهة النظر له حين الجماع «6»، فتأمل.

و بالجملة: بالنظر في مجموع الاستعمالات يتضح استعمال الفرج.

تارة: في مطلق العورة.

و أخري: في خصوص القبل.

و ثالثة: في قبل المرأة.

و لعل الأخيرين أشهر من الأول.

و لا طريق مع ذلك للبناء علي عمومه في مثل هذا الحديث للدبر، و لا سيما مع مناسبة مورده للاختصاص بالقبل، لأنه المعهود في الجماع المناسب للذة و طلب الولد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 73 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 3.

(2) راجع الوسائل باب: 157 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(4) راجع الوسائل باب: 93 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه.

(5) الوسائل باب: 60 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 60 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 4.

ص: 352

______________________________

و مثله كثير من الإطلاقات، كإطلاق الأمر بغسل الفرج في غسل الجنابة «1» و تغسيل الميت «2»، و إطلاق النهي عن النظر لفرج المرأة «3»، و نحوها.

بل ربما كان في بعضها خصوصيات معينة لإرادة القبل منه، فتؤيد ما ذكرنا.

و من ذلك يظهر أنه لا مجال لما في الجواهر من الاستدلال بإطلاق ما دل علي وجوب الغسل بالإدخال و الإيلاج و غيبوبة الحشفة في الفرج.

علي أنّ المضمون المذكور لم يرد فيما بأيدينا من النصوص، عدا ما في خبر دعائم الإسلام: «و قالوا عليهم السّلام: إن التقاء الختانين هو أن تغيب الحشفة في الفرج، فإذا كان ذلك وجب الغسل، كان به إنزال أو لم يكن» «4».

لكنه حيث ورد لتحديد المراد بالتقاء الختانين، فهو ظاهر في خصوص القبل محافظة علي المناسبة بين المفسّر و المفسّر، لوضوح أنّ ختان المرأة فيه، و محاذاة ختان الرجل له لا تكون إلا بغيبوبة الحشفة فيه.

و بذلك يتضح أنه لا مجال لما في كشف اللثام من الاستدلال بإطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالتقاء الختانين، بناء علي أنّ المراد تحاذيهما.

علي أنّ تحاذيهما ليس بنفسه سببا للغسل، لعدم الإشكال في عدم سببيته مع عدم الجماع، بل هو وارد لتحديد مقدار الإدخال المعتبر في السبب- كما تقدم- فلا ينهض بإثبات عموم السبب.

الثاني: إطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالإدخال و الإيلاج و غيبوبة الحشفة «5».

و يشكل، بأنّ حذف متعلق الإدخال و الإيلاج و الغيبوبة لا يوجب إطلاقها، لوضوح عدم إرادة تحققها و لو في الفم أو بين الفخذين أو الثديين، بل الإشارة

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت.

(3) راجع الوسائل باب: 59 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه.

(4) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(5) تراجع الإطلاقات المذكورة في باب: 6 من أبواب الجنابة من الوسائل.

ص: 353

______________________________

لمتعلق معهود، و المتيقن منه القبل.

و لا سيما مع ورود غيبوبة الحشفة، تفسيرا لالتقاء الختانين المختص بالوطء في القبل، و ورود بعض نصوص الإدخال في فرض وضع الذكر علي الفرج الذي تقدم أنّ المتيقن منه القبل، و غيرهما مما قد يمنع من الإطلاق.

الثالث: إطلاق التعليل المستفاد من صحيحي زرارة و الحلبي المتقدمين و غيرهما، الراجع إلي ملازمة وجوب الغسل لوجوب الحد و الرجم، بناء علي ما هو المفروغ عنه بينهم ظاهرا من وجوب الحدّ بالوطء في الدبر.

و قد استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن وروده مورد الاحتجاج و الإلزام و إن كان يدل علي تسليم الخصم للملازمة بين الوجوبين ثبوتا أو إثباتا لاتحاد لسان دليليهما، إلا أنه لا إطلاق له يشمل المقام و نحوه مما هو خارج عن مورده، و لا سيما بملاحظة عدم إمكان الالتزام بالملازمة بين الوجوبين في كثير من الموارد.

و فيه: أنه لو سلم ظهوره في الملازمة بملاك اتحاد لسان دليلي الوجوبين، فبعد فرض عدم اختصاص وجوب الحد بالوطء في القبل و عمومه للوطء في الدبر المستلزم لشمول دليل الحد لمطلق الجماع، لوضوح أنهما حد واحد لا حدان، فلا بد من شمول دليل الجنابة أيضا لمطلق الجماع، الذي كما يتحقق من غير إنزال يتحقق بالوطء في الدبر، و لا يهم اختصاص مورده بالوطء في القبل بقرينة ذكر التقاء الختانين فيه.

نعم، يقصر التعليل عن إثبات الملازمة في مورد الحد الثابت بدليل آخر غير دليل وجوبه في الوطء في القبل، كحد اللواط، فضلا عن مثل حد القذف، كما أشار إليه في الجواهر.

فالعمدة في الإشكال، أنه لا مجال لاحتمال ابتناء الملازمة المسلمة عند الخصم علي اتحاد لسان الدليلين بعد دعوي الأنصار أنّ الماء من الماء و أنّ التقاء الختانين بنفسه لا يوجب الغسل خلافا للمهاجرين مع أنه هو الموجب للحد و الرجم بلا إشكال، فلا بد من ابتناء الملازمة علي الأولوية أو نحوها، و حيث لا

ص: 354

______________________________

إشكال في انفكاك الحد و الرجم عن الغسل في كثير من الموارد، فلا مجال للبناء علي عموم التعليل، بل يكون مجملا يقتصر فيه علي مورده، و هو الوطء في القبل، لما سبق.

الرابع: ما رواه ابن أبي عمير، عن حفص بن سوقة، عمن أخبره قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يأتي أهله من خلفها، قال: هو أحد المأتيين فيه الغسل» «1».

و يشكل بضعف السند، و عدم وضوح انجباره بعمل المشهور و إن وافقته فتواهم، لاحتمال اعتمادهم علي العمومات لا عليه، و لا سيما مع عدم ثبوت الشهرة قبل عصر الشيخ.

كما لا يلحقه حكم مراسيل ابن أبي عمير من الحجية، لعدم إرساله منه، بل من حفص.

و من هنا يصعب إقامة الدليل علي سببية الوطء في الدبر لوجوب الغسل.

نعم، قد يدعي تعاضد ما سبق في إثباته، و عمدتها صحيح الحلبي المتقدم المتضمن لتفسير الملامسة بالجماع، لعدم وضوح ما سبق من المناقشة فيه، و التعليل بوجوب الحد و الرجم الذي يصعب عدم تعميمه للوطء في الدبر، و المرسل الذي يحتمل انجباره بعملهم.

و لا سيما مع تأيد ذلك بفتوي المشهور، و ببناء الأصحاب علي مشاركة الوطء في الدبر للوطء في القبل في وجوب الحد و الرجم، و ترتب أحكام الدخول من ثبوت تمام المهر، و تحقق التحريم بالإضافة لبنت الموطوءة، و التحليل بعد الطلاق الثالث و غيرها، فإن ذلك بمجموعه قد يكشف عن عموم الحاكم.

و لذا فالظاهر أنه لو لا النصوص النافية له صريحا لم يقع الإشكال في المسألة من أحد، فتأمل.

هذا، و قد استدل علي عدم وجوب الغسل بالوطء في الدبر.

تارة: بما تضمن عدم وجوب الغسل بإصابة المرأة فيما دون الفرج، كصحيح

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 355

______________________________

الحلبي: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصيب المرأة فيما دون الفرج، أ عليها غسل إن هو أنزل و لم تنزل هي؟ قال: ليس عليها غسل، و إن لم ينزل هو فليس عليه غسل» «1».

و صحيح محمد بن مسلم الوارد في مجامعة المرأة دون الفرج «2»، المتقدم في جنابة المرأة بالإنزال، و غيرهما.

و أخري: بالنصوص النافية له صريحا، كمرفوع البرقي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: إذا أتي الرجل المرأة في دبرها فلم ينزلا فلا غسل عليهما، و إن أنزل فعليه الغسل و لا غسل عليها» «3».

و مرفوع بعض الكوفيين عنه عليه السّلام: «في الرجل يأتي المرأة في دبرها و هي صائمة، قال: لا ينقض صومها و ليس عليه غسل» «4».

و مثله مرسل علي بن الحكم عنه عليه السّلام.

لكن الأول مبني علي اختصاص الفرج بالقبل، و هو غير ظاهر بنحو معتد به، و مجرد انصرافه إليه أو كونه المتيقن منه لا يكفي في الاستدلال ما لم يبلغ مرتبة الظهور في الاختصاص.

علي أنّ ما دون الفرج ظاهر في التفخيذ و نحوه و منصرف عن الوطء في الدبر، لأنه أمر يسأل عنه بعنوانه الخاص، لما له من الخصوصية الارتكازية عن سائر ما هو دون الفرج.

و منه يظهر أنه لا مجال لجعل ذكر الإصابة و الجماع في الصحيحين قرينة علي إرادة خصوصه، لأنهما لا يصدقان إلا فيه و في القبل، فإنّ ما ذكرنا ملزم بحملهما علي مثل التفخيذ مما لا يستلزم الإدخال، كما أشير إليه في صحيح محمد بن مسلم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الجنابة حديث: 19.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 12 من أبواب الجنابة حديث: 3 و به الحق مرسل علي بن الحكم.

ص: 356

______________________________

و أما الثاني، فهو موقوف علي حجية النصوص المذكورة- و إن ضعفت سندا- بتعاضدها و انجبارها بعمل من عرفت، و هو لا يخلو من إشكال.

فلعل الأولي الاستدلال له بصحيح ابن بزيع المتقدم المسؤول فيه عما يوجب الغسل بعد فرض المواقعة قريبا من الفرج فيه. و فيه: «فقال: إذا التقي الختانان فقد وجب الغسل، قلت: التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة؟ قال: نعم» «1»، فإنه حيث لم يفرض فيه حصول سبب خاص للجنابة فظاهر السؤال فيه السؤال عن جميع أسبابها، فيكون ظاهر الجواب انحصار السبب بالتقاء الختانين، الذي هو مختص بالوطء في القبل.

و قريب منه في ذلك صحيح علي بن يقطين المتقدم «2»، المتضمن اعتبار وقوع الختان علي الختان، بناء علي حمله علي التحاذي بينهما، لما سبق، حيث يقاربه في لسان السؤال، بخلاف صحيح زرارة المتضمن سؤال عمر من الصحابة، لأنه حيث كان المفروض فيه المخالطة من دون إنزال فإناطة الغسل بالتقاء الختانين في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام لا ظهور له في المفهوم المستلزم للحصر، لسوقه لبيان عدم اعتبار الإنزال مع المخالطة، و لعل التعبير فيه بالتقاء الختانين موجب لانصراف المخالطة المفروضة فيه للوطء في القبل.

و مثله في ذلك صحيح الحلبي المتقدم «3»، المتضمن اعتبار مس الختان الختان- بناء علي حمله علي محاذاته له- لتشابه لساني السؤال فيهما.

فالعمدة ما عرفت من صحيح ابن بزيع و صحيح ابن يقطين، و بهما يخرج عما سبق في تقريب استفادة وجوب الغسل من مجموع الأدلة و القرائن، لأنه بالإضافة إليهما كالعام بالإضافة إلي الخاص، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

بقي في المقام أمران.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 357

______________________________

الأول: أنّ صريح كلام المرتضي المتقدم و محكي السرائر وجوب الغسل علي كل من الفاعل و المفعول به، و هو ظاهر كل من قال بوجوب الغسل به، و إن ظهر من المنتهي و محكي الوافي نوع تردد في وجوبه علي المرأة، بل قد يظهر من المفاتيح الميل لعدمه، لكنه في غير محله، إذ لو كان دليله إطلاقات الجماع و الإدخال و نحوهما فهي تقتضي وجوب الغسل عليهما معا.

و كذا مرسل حفص المتقدم، لإطلاق وجوب الغسل فيه من دون تقييد بأحدهما، بل تفريعه علي كونه أحد المأتيين ظاهر في العموم لهما، كما في المأتي الآخر، لظهوره في كون وجوب الغسل به من صغريات وجوبه بإتيان المرأة و مجامعتها المعلوم اشتراكهما فيه.

و ما في الحدائق بعد التنبيه لذلك من عدم خلوه عن شوب الإشكال، في غير محله.

الثاني: ظاهر الأصحاب، بل صريح بعضهم- كالسيد المرتضي في كلامه المتقدم و المتن- أنّ المقدار المعتبر من الدخول في الوطء في الدبر هو المعتبر في الوطء في القبل، و هو غيبوبة الحشفة.

و قد يستدل له بإطلاق التحديد به في صحيح ابن بزيع، لكنه حيث كان واردا لبيان المراد بالتقاء الختانين، فهو مختص بالوطء في القبل.

نعم، لو حمل التحديد بالتقاء الختانين علي تحديد الدخول المعتبر في مطلق الجماع و الإدخال إنما عبر به بلحاظ غلبة الوطء في القبل المستلزم له، اتجه التمسك بالإطلاق، لكنه مبني علي تكلف لا مجال له في فهم النصوص.

فلا بد من توجيهه بمحض الإلحاق بالوطء في القبل، لتنقيح المناط، أو لفهم عدم الخصوصية للقبل بعد اشتراكهما في الدخول تحت سبب واحد عرفا، و هو الجماع و الإتيان و نحوهما مما أشير إليه في أدلة وجوب الغسل، بدعوي: ظهورها في التعميم من طرف محل الفعل مع المحافظة علي تمام ما يعتبر في الفعل. و إن لم يخل عن الإشكال، و لا سيما مع أنّ مقتضي إطلاق النص- بل الفتوي، كما في كشف

ص: 358

______________________________

اللثام- تحقق اللواط الذي هو موضوع الحد بمجرد الإيقاب، فإنّ التفريق بينه و بين وطء المرأة في الدبر في ثبوت الحد حد الزنا باعتبار غيبوبة الحشفة في الثاني دونه بعيد، كالتفريق في وطء المرأة في الدبر بين وجوب الحد و وجوب الغسل، باعتبار غيبوبتها في الثاني دون الأول.

و أما اعتبار غيبوبة الحشفة مطلقا حتي في حد اللواط- كما في القواعد- لما دل علي التحديد به في الوطء في قبل المرأة بالإضافة لوجوب الغسل و الحد معا، فهو في غاية الإشكال، مع ما عرفت من إطلاق النص و الفتوي بالإيقاب.

نعم، قد يقال: لا إطلاق في المقام يقتضي الاكتفاء بإدخال بعض الحشفة، لأن الإدخال و الإيلاج- مع ورودهما في الوطء في القبل، كما سبق- ظاهران بدوا في إدخال تمام الذكر، و معلومية عدم اعتبار ذلك يقتضي الاكتفاء بإدخال البعض في الجملة بمقدار يصدق معه إتيان المرأة و مجامعتها و نحو ذلك، مما لا يعلم صدقه بدخول بعض الحشفة، و المتيقن منه- و لو بضميمة نصوص التقاء الختانين و نحوها- هو دخول تمام الحشفة، حيث لا قائل باعتبار ما زاد علي ذلك ظاهرا، و مقتضي الأصل عدم تحقق الجنابة بما دونه، فتأمل.

هذا كله في الوطء في دبر المرأة، و أما الوطء في دبر الغلام، فقد سبق في كلام المرتضي التصريح بعموم السببية له، و هو المنسوب للمشهور في كشف اللثام، و للأكثر في الحدائق، بل عن السرائر دعوي إجماع المسلمين عليه.

و أشار في المعتبر و الشرائع إلي استدلال المرتضي بالإجماع المركب، لأن كل من قال بوجوب الغسل بوطء المرأة دبرا قال به في الغلام.

و كلام المرتضي المتقدم ظاهر في دعوي الإجماع المركب من المسلمين في مطلق الوطء في الدبر، الراجع للملازمة بينه و بين الوطء في القبل، لذهاب بعض العامة لعدم سببية الوطء في القبل من غير الإنزال.

نعم، قد يظهر من العلامة في المختلف دعوي الإجماع المركب، الراجع للملازمة بين المرأة و الغلام، لأنه ذكر أنّ الخلاف فيه كالخلاف فيها، و هو صريح الذكري.

ص: 359

______________________________

لكن لا مجال له مع تصريح المحقق في المعتبر بالعدم و تردده في الشرائع و النافع.

كما لا مجال لدعوي الإجماع البسيط قبله بعد ما سبق في دبر المرأة من الخلاف و التردد من غير واحد، لظهور كلام بعضهم في العموم للغلام و صراحة آخر فيه، بل هو الظاهر من الكل، إذ من البعيد ممن قال بعدم الوجوب أو تردد فيه هناك القول بالوجوب هنا، عدا ما يأتي من الحدائق.

و كيف كان، فقد يستدل عليه- مضافا إلي ما سبق في الوجه الثاني و الثالث لو تمّا في المرأة- بصحيح أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: من جامع غلاما جاء يوم القيامة جنبا لا ينقيه ماء الدنيا و غضب اللّه عليه و لعنه و أعدّ له جهنم و ساءت مصيرا.» «1».

بدعوي: أنّ حمله علي التغليظ في حكم الجنابة أقرب من حمله علي إرادة سنخ آخر منها غير محل الكلام لا يرتفع بالماء.

و من ثمَّ قوي في الحدائق وجوب الغسل هنا مع تردده في المرأة، و إن كان هو غير خال من الغرابة.

لكن الاستدلال بالوجه الثاني هنا أضعف منه هناك، لاختصاص نصوص الإدخال و الإيلاج و غيبوبة الحشفة بالمرأة.

و كذا الوجه الثالث، لمباينة حد اللواط لحد الوطء في دبر المرأة دليلا، و ليس هو كحد الوطء في دبرها، المشترك مع حد الوطء في قبلها في دليل حرمة الزنا، و ذلك دخيل في صحة الاستدلال، كما سبق.

و أما الصحيح، فيشكل الاستدلال به بلحاظ أنه و إن كان ظاهرا في مسانخة الجنابة الحاصلة منه للجنابة- التي هي محل الكلام- إلا أنّ شدتها بنحو لا ينقّي منها ماء الدنيا مانع من وجوب الغسل لها، لعدم الأثر له.

و وجوبه تعبدا و إن لم يرفعها أو لتخفيفها، يحتاج إلي دليل لا ينهض به الصحيح.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب النكاح المحرم حديث: 1.

ص: 360

بل مقدارها من مقطوعها (1)، بل الأحوط وجوبا الاكتفاء بمجرد الإدخال منه.

______________________________

و حمل الحكم فيه بعدم ارتفاعها علي محض الادعاء للتنفير ليس بأولي من حمل الحكم بثبوتها عليه.

اللهم إلا أن يكون وجه الاستدلال ظهوره في المفروغية عن استعمال الماء في الدنيا، من دون أن يرد للردع عن ذلك، بل الحكم بعدم النقاء به للتنفير عن الجماع المذكور.

فلعل الأولي الإشكال فيه بأنه حيث لم يكن واردا لبيان سببية الوطء للجنابة و الغسل، بل للتغليظ فيها مع المفروغية عن ثبوتها بنحو يتبعه الغسل، فلا إطلاق له يشمل الإدخال من دون إنزال، الذي لا يبعد كونه فردا نادرا غير ملتفت إليه.

نعم، لو ثبت ذلك في المرأة كان إلحاق الغلام بها قريبا جدا، لإلغاء خصوصيتها عرفا و إن اختصت الأدلة بها.

و من هنا لم يبعد التعميم في وجوب الغسل للمفعول به لو قيل به في الفاعل، و إلا فصحيح الحضرمي لا ينهض بذلك حتي لو تمَّ الاستدلال به في الفاعل.

كما أنه بناء علي الاستدلال بالصحيح المذكور يشكل اعتبار دخول تمام الحشفة، لقرب العموم فيه لذلك، و لو بملاحظة وروده للتنفير عن الإيقاب الذي هو موضوع الحد بمقتضي إطلاق نصوصه، علي ما سبق.

و أما بناء علي الاستدلال بالوجوه الأخر الراجعة للإلحاق بالمرأة، فالإلحاق بها في اعتبار غيبوبة الحشفة و إن كان هو الأنسب بذلك، إلا أنه قد يبعد بلحاظ استبعاد التفكيك بين موضوع الغسل و موضوع الحد، فلاحظ.

(1) كما في المنتهي و القواعد و التحرير و الدروس و الروض و عن نهاية

ص: 361

______________________________

الاحكام و البيان، و جعله أقوي الاحتمالين في محكي التذكرة، و الأحوط في جامع المقاصد و الحدائق، و نسبه في المدارك للأصحاب، و في الحدائق لتصريحهم مستظهرا عدم الخلاف فيه، و في مفتاح الكرامة أنه المعروف من مذهب الأصحاب، و في الجواهر: «صرح به غير واحد من الأصحاب، بل نسبه بعضهم إليهم مشعرا بدعوي الإجماع، بل في شرح الدروس: الظاهر الاتفاق عليه، كما قد يظهر من آخر نفي الخلاف فيه».

لكن لم يتضح ذلك بعد عدم ظهور تحرير المسألة قبل العلامة، و عدم ظهور القول بذلك إلا منه و من الشهيدين و بعض المتأخرين عنهم.

فما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنّ العمدة كون الحكم المذكور مظنة الإجماع، ممنوع صغري، كما هو ممنوع كبري.

و قد يستدل له.

تارة: بإطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالإدخال و الإيلاج، بحمله علي إدخال البعض مع القطع بعدم وجوبه بإدخال ما دون مقدار الحشفة، كما هو مقتضي جعل القول المذكور أحوط في جامع المقاصد و الحدائق.

و أخري: بما دل علي اعتبار التقاء الختانين و غيبوبة الحشفة بحمله علي التقدير بها، و أنّ ما يعتبر دخوله من كل شخص هو مقدار حشفته.

و يندفع الأول، بأنّ الإطلاق ظاهر بدوا في إدخال الجميع، و القطع بعدم إرادته للزوم التخصيص في الفرد الغالب لا يقتضي الاكتفاء بالبعض مطلقا، بل قد يكون المراد به بيان اعتبار الإدخال في الجملة في مقابل عدمه، من دون نظر لبيان مقدار ما يدخل، بل هو موكول لأدلة التحديد الأخري، أو يكون المراد به الإشارة للإدخال المعهود بإدخال الحشفة.

و لو سلم، فلا وجه للقطع بعدم وجوبه بإدخال ما دون مقدار الحشفة.

و يشكل الثاني، بأنّ الحمل علي التقدير بالنحو المذكور مخالف للظاهر، بل

ص: 362

______________________________

هو لا يناسب ما عن التذكرة [1] و الموجز من الاكتفاء بغيبوبة الحشفة المقطوع بعضها، و ما في الروض و عن الذكري من الاكتفاء به إذا لم يذهب المعظم، حيث يلزمهم علي ذلك اعتبار إتمام المقدار من غيرها.

و هو لا ينافي ما هو المعروف من وجوب الغسل بغيبوبة الحشفة في الدبر مع عدم التقاء الختانين، لأنّ التنازل عن خصوصية التقاء الختانين لا يستلزم التنازل عن خصوصية غيبوبة الحشفة التي كان مقتضي الجمع بين النصوص الكناية به عنها.

غايته قصور إطلاق دليلها عن شمول الوطء في الدبر، فيحتاج الإلحاق للدليل من الإجماع أو غيره مما سبق الكلام فيه، و أين هذا من حمل التحديد بهما علي بيان المقدار، بحيث يكون دليلا في مقطوع الحشفة؟! و مما سبق يظهر ضعف ما في كشف اللثام، و مال إليه في المدارك من الاكتفاء بدخول ما دون ذلك.

لابتنائه. أولا: علي حمل إطلاق الإدخال علي إدخال البعض.

و ثانيا: علي الاقتصار في التقييد بغيبوبة الحشفة علي واجدها.

و قد سبق منع الأول.

و أما الثاني، فقد استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأنه خلاف إطلاق التقييد.

و هو لا يخلو عن إشكال بناء علي ما هو المشهور المختار له من وجوب الغسل بالوطء في الدبر، لاختصاص دليل اعتبار غيبوبة الحشفة بغيبوبتها في القبل- كما سبق- و التقييد به لا يلائم ذلك، بل لا بد من تنزيله علي بيان مجرد الاكتفاء بدخولها و عدم الاجتزاء، بدخول طرفها من دون أن يدخل آخرها.

و كما لا يمنع من وجوب الغسل بدخولها في غير القبل لا يمنع من وجوبه بدخول غيرها فيه أو في غيره عند عدم وجود شي ء منها.

نعم، بناء علي ما سبق منا من الاستدلال بالتقييد المذكور لعدم وجوب الغسل بالوطء في الدبر، يتجه الاستدلال بإطلاق التقييد في المقام.

______________________________

[1] حكاه عنها في كشف اللثام، و في مفتاح الكرامة: «لم أجده فيها».

ص: 363

______________________________

و منه يظهر أنه لا مجال للاستدلال علي القول المذكور بإطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالجماع مطلقا أو في الفرج، حيث يلزم الخروج عن ذلك بدليل التقييد المذكور.

علي أن وجود الإطلاق المذكور لا يخلو عن إشكال، فراجع ما تقدم في الوطء في الدبر.

كما ظهر مما سبق أيضا ضعف القول بوجوب الغسل بدخول تمام الذكر- كما جعله في محكي التذكرة أضعف الاحتمالين- إذ لا دليل عليه إلا إطلاق نصوص الإدخال و الإيلاج، و لو بلحاظ أن المتيقن منها إدخال الجميع، مع الاقتصار في اعتبار غيبوبة الحشفة علي واجدها، و قد سبق أنّ حمل الإطلاق علي دخول الجميع مستلزم للتخصيص في الفرد الأغلب، و أنّ حمل التقييد علي خصوص واجد الحشفة مخالف لإطلاق دليله.

مع أنه قد يتأمل في صدق إدخال تمام الذكر بدخول الذكر المقطوع بعضه.

فالإنصاف أنه يصعب إقامة الدليل علي وجوب الغسل في محل الكلام، و احتمال عدم وجوبه مطلقا هو الأنسب بإطلاق دليل التقييد بدخول الحشفة، و إن كان ظاهر محكي التذكرة أنه أضعف الاحتمالات.

و لا أقل من كونه مقتضي الأصل، حيث يتضح مما سبق عدم المخرج عنه من إجماع أو غيره، و لا سيما مع ما قد تشعر به بعض النصوص الواردة في دية قطع الذكر «1»، لظهورها في أنّ المدار في دية قطعه علي قطع الحشفة فما دون، لإشعار ذلك بأن المعيار في قيامه بوظيفته علي وجودها، فتأمل.

بقي في المقام أمران.

الأول: سبق عن التذكرة و الموجز الاكتفاء فيمن قطعت حشفته بإدخال الباقي منها، و من الروض و محكي الذكري تقييده بما إذا لم يذهب المعظم، و قيده في جامع المقاصد بما إذا كان الباقي بمقدار يتحقق معه إدخال

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب ديات الأعضاء.

ص: 364

______________________________

شي ء عرفا.

و لعلهما راجعان لشي ء واحد، و أنّ المعيار علي صدق الإدخال- كما يظهر من كشف اللثام- بل الظاهر رجوع الإطلاق إليه، لأن المفروض فيه تحقق إدخال الباقي.

و اعتبر في الجواهر إدخال ما يتم به مقدار الحشفة، إلا أن يكون الذاهب شيئا لا يعتد به، و هو المناسب لما سبق من غير واحد من حمل دليل اعتبار غيبوبة الحشفة علي بيان المقدار المعتبر إدخاله من الذكر.

لكن سبق ضعفه.

و أما الأول، فهو يبتني علي التمسك بإطلاق ما تضمن اعتبار التقاء الختانين و غيبوبة الحشفة.

إلا أنه بعد تفسير التقاء الختانين في صحيح ابن بزيع بغيبوبة الحشفة يكون المعيار عليها، و في صدقها بغيبوبة البعض إشكال، لتوقفه علي حمل الحشفة علي الموجود منها، أو حمل غيبوبتها علي الكناية عن دخول آخرها المحقق لتحاذي الختانين، و كلاهما مشكل.

الثاني: تعرض الأصحاب لحكم إدخال الذكر ملفوفا بخرقة، و نحوه ما تداول في عصورنا من إلباسه المطاط المانع من وصول المني للرحم، و ما لو جعل الحاجب في موضع الإدخال من من المرأة.

و قد استقرب في المنتهي و جامع المقاصد وجوب الغسل بإدخاله، و هو المحكي عن التذكرة و الإيضاح و الذكري و البيان و الدروس و الذخيرة و شرح المفاتيح، بل عن الأخير نسبته للفقهاء.

و تنظر فيه في القواعد.

و عن نهاية الاحكام: «لو لفّ علي ذكره خرقة و أولج احتمل حصول الجنابة، لحصول التحاذي، و عدمه، لأن استكمال اللذة إنما يحصل مع ارتفاع الحجاب، و اعتبار الخرقة إن [فإن ظ] كانت لينة لا تمنع وصول بلل الفرج إلي الذكر و حصول الحرارة من أحدهما إلي الآخر حصلت الجنابة، و إلا فلا».

ص: 365

مسألة 5 إذا تحقق الجماع تحققت الجنابة للفاعل و المفعول به

مسألة 5: إذا تحقق الجماع تحققت الجنابة للفاعل و المفعول به (1)،

______________________________

و لا يخفي ضعف ما أشار إليه في وجه المنع، إذ ليس المدار في الجنابة علي اللذة، و لا علي وصول البلل و الحرارة، ليخرج بها عن الإطلاق الصادق بالتحاذي، كما أشار إليه.

إلا أن يريد الإشارة إلي وجه انصراف إطلاق الإدخال و الإيلاج و التقاء الختانين و غيبوبة الحشفة عن محل الكلام، للتنبيه علي خروجه عن الفرد المألوف.

لكن الانصراف بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق.

و مثله ما أشار إليه في كشف اللثام من قصور الإطلاق، بناء علي أن المراد من التقاء الختانين التقاؤهما حقيقة، مع حمل ختان المرأة علي موضع دخول الذكر منها، لضعف المبني المذكور، لعدم المناسبة المصححة لاستعماله في ذلك.

مضافا إلي أنه بعد تفسير التقاء الختانين بغيبوبة الحشفة يكون المدار عليها، و لا إشكال في صدقها.

و من هنا يتعين الرجوع للإطلاق.

نعم، نبه سيدنا المصنف قدّس سرّه علي التفصيل بين ما إذا كان الحاجب تابعا عرفا لأحد العضوين بحيث يصدق إدخال الذكر المحجوب، أو الإدخال في الفرج المحجوب، فتحصل الجنابة، و ما إذا كان مستقلا بحيث يصدق إدخاله حال كون الذكر فيه أو الإدخال فيه حال كونه في الفرج، فلا تحصل الجنابة، لانصراف الإطلاق عنه.

و ما ذكره لا يخلو عن قرب، فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) بلا إشكال، و لا خلاف فيه في الجملة، بل عليه الإجماع محصلا و منقولا نقلا مستفيضا كاد يكون متواترا، كما في الجواهر و يقتضيه النصوص المتضمن بعضها وجوب الغسل علي الرجل، و بعضها وجوبه علي المرأة، و بعضها وجوبه من

ص: 366

غير فرق بين الصغير و الكبير (1)،

______________________________

عليهما، و قد تقدم بعضها.

(1) ففي المعتبر أنه أشبه، و في المنتهي أنه أقوي، بل نفي شيخنا الأعظم قدّس سرّه الخلاف فيه، و إن نقل عن محكي التذكرة و التحرير و الذكري و الذخيرة التوقف فيه.

و كيف كان، فقد يستدل عليه بإطلاق أدلة سببية الجماع للجنابة مما تقدم و غيره، و لا ينافي ذلك التعبير فيها بوجوب الغسل، الذي لا يثبت في حق الصبي و نحوه ممن رفع عنه القلم، إذ لا يراد به الوجوب الفعلي، بل الكناية عن الجنابة التي هي الموضوع له و إن لم يكن فعليا إلا مع اجتماع شرائط التكليف، و لذا لا ينبغي التأمل في إفادة الإطلاق المذكور تحقق الجنابة للعاجز عن الغسل و نحوه ممن لا يكلف به فعلا.

كما لا مجال لدعوي حكومة حديث الرفع علي الإطلاق المذكور، لاختصاصه برفع المؤاخذة المناسب لارتفاع الإلزام في الأحكام التكليفية، و ارتفاع الأحكام الوضعية المبتنية علي المؤاخذة و المحاسبة للشخص علي فعله، كنفوذ العقود و نحوها، و الحدود، و الكفارة لو فرض ابتناؤها علي انشغال الذمة، لا علي محض التكليف بالدفع، دون مثل الجنابة من الأحكام الوضعية و المسببات المحضة غير المبتنية علي المحاسبة و المؤاخذة.

نعم، قد يستشكل في ثبوت الإطلاق المذكور، لأن ما تضمن وجوب الغسل بالجماع غير تام سندا أو غير ظاهر في الإطلاق، علي ما تقدم في مسألة الوطء في الدبر.

و غير ذلك مما تضمن وجوبه بالإدخال و الإيلاج و التقاء الختانين و غيبوبة الحشفة بالإضافة للفاعل مختص بالرجل، و بالإضافة للمفعول به إما مختص بالمرأة،

ص: 367

______________________________

أو منصرف إليها، كصحيح زرارة الوارد في مخالطة الرجل أهله «1»، و صحيح الحلبي الوارد في الجارية البكر و غير البكر «2».

لوضوح أنّ الأهل و إن كان كناية عن الزوجة إلا أن المتيقن منه عشيرة الرجل التي يسكن إليها، و لا سيما مع فرض المخالطة فيها التي لا تجوز بالصغيرة.

كما أنّ الجارية و إن أطلقت علي الأمة عرفا، و نص عليه في مجمع البحرين فتشمل الصغيرة، إلا أنّ فيه أيضا: «و الجارية من النساء من لم تبلغ الحلم»، و في لسان العرب و القاموس: أنها الفتية من النساء، و هما مختصان بالكبيرة، لاختصاص النساء بذلك، و لا سيما مع وروده في فرض خارج لا يؤلف فيه الاستمتاع بالصغيرة.

و من هنا كان البناء علي العموم موقوفا علي إلغاء خصوصية مورد النصوص عرفا، كما هو غير بعيد، و يناسبه إهمال الأصحاب التنبيه علي التقييد بالكبيرين، حيث يظهر من ذلك المفروغية عن العموم لاحتياج التقييد للتنبيه.

و كأن التوقف فيه ممن تقدم لرفع القلم عن الصغير- كما يناسبه توقفهم في المجنون أيضا- أو لعدم تحقق اللذة له، الذي سبق من بعضهم نظيره فيما إذا لفّ الذكر بخرقة، أو لنحو ذلك من الشبه التي قد يتخيل منعها من عموم الحكم، فمع بطلانها لا ينبغي التوقف في العموم.

نعم، في صحيح أبي عبيدة الحذاء: «سئل أبو جعفر عليه السّلام عن خصي تزوج امرأة و هي تعلم أنه خصي، قال: جائز، قيل له: إنه مكث معها ما شاء اللّه ثمَّ طلقها، هل عليها عدة؟ قال: نعم، أ ليس قد لذّ منها و لذّت منه؟ قيل له: فهل كان عليها فيما يكون منها و منه [كان منه و منها] غسل؟ قال: إن كان إذا كان ذلك منه أمنت فإن عليها غسلا. قيل:

فله أن يرجع بشي ء من الصداق إذا طلقها؟ قال: لا» «3».

و لا يخفي تمامية إطلاق أدلة سببية الجماع للجنابة في مورده، فهو مقيد

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب العيوب و التدليس من كتاب النكاح حديث: 4.

ص: 368

______________________________

للإطلاق المذكور لو كان حجة في نفسه، و إنما الإشكال في حجيته بعد إهمال الأصحاب له و عدم تعرضهم لمضمونه، مع بعد غفلتهم عنه بعد رواية الكليني و الصدوق له بسندهما عن ابن محبوب.

بل لم يعقبه في الحكم المذكور حتي المجلسي في تحف العقول و الكاشاني في الوافي، و إنما عقباه في بعض الأحكام الأخر، حيث يظهر من ذلك التسالم علي إهماله في هذا الحكم.

و لا يكشف إثبات الكليني و الصدوق له في كتابيهما عن عملهما به في الحكم المذكور، لأنّ ظاهرهما و إن كان هو الفتوي بمضمون النصوص المودعة فيهما، إلا أنّ ذلك يختص بالباب المناسب، و حيث قد أهملاه في أبواب الجنابة، و إنما ذكره الكليني في باب عدّة المرأة من الخصي، و الصدوق في باب ما أحل اللّه عزّ و جلّ من النكاح و ما حرم منه، فظاهرهما عدم العمل به في هذا الحكم.

و لعله ناشئ من عدم ظهور خصوصية للخصي مع فرض الإيلاج في عدم وجوب الغسل إلا عدم الإنزال منه، الذي ادعت الأنصار عدم وجوبه معه، و تضمن غير واحد من النصوص الردع عنه و الإنكار له، بنحو يصعب الخروج عن عمومه، لقوته و لو بسبب التعليل بوجوب الحد و الرجم، فهو أشبه بالشاذ النادر و المشكل الذي يردّ لهم عليهم السّلام و يتعذر العمل به، فتأمل جيدا.

ثمَّ إنه صرح في المعتبر بأنّ مقتضي جنابة الصغير منعه مما يحرم علي الجنب كدخول المساجد و مس الكتاب و صلاة التطوع إلا بالغسل.

لكن لا دليل علي وجوب منعه من دخول المساجد و مس الكتاب بعد عدم حرمتهما عليه، إذ ليس التكليف بحرمة الدخول و المس من الجنب كفائيا ليرجع إلي تكليف كل أحد بمنعه، بل هو عيني، فلا يجب المنع منه علي غير الجنب إلا من باب النهي عن المنكر، الموقوف علي فعلية التكليف في حق المباشر و تنجزه.

و قد سبق في الفرع الثامن من الفروع التي ألحقناها بالمسألة التاسعة

ص: 369

و العاقل و المجنون (1)، و القاصد و غيره (2)، بل الظاهر ثبوت الجنابة للحي إذا كان أحدهما ميتا (3)،

______________________________

و التسعين المتعلقة بمس المحدث للكتاب، و يأتي في المسألة الثالثة عشرة ما ينفع في المقام.

نعم، لا تصح منه الصلاة، لإطلاق دليل شرطية الطهارة فيها.

و أما تأثير الغسل في رفع ذلك، فهو موقوف علي شرعية الغسل له- كما هو الظاهر- أما لو كان تمرينيا- كما في جامع المقاصد- فلا مجال له.

و أشكل منه ما ذكره من وجوب إعادته عليه بعد البلوغ، إذ مع بطلانه لا يترتب الأثر عليه، و مع صحته لا وجه لإعادته.

(1) كما هو ظاهر إطلاق الأصحاب، و نفي شيخنا الأعظم قدّس سرّه الخلاف فيه.

و يقتضيه إطلاق النصوص، بناء علي ما سبق في تقريب شموله لغير المكلف، كما سبق قرب كون منشأ التوقف فيه عن التذكرة و التحرير و الذكري و الدروس و الذخيرة احتمال مانعية رفع القلم من شمول الإطلاق، و قد سبق ضعفه.

(2) الكلام فيه كما في سابقة، و انصراف الإطلاق للقاصد بدوي لا يعتد به.

مع أنه مختص بما تضمن التعبير بالإدخال و الإيلاج، دون ما تضمن التعبير بالتقاء الختانين و غيبوبة الحشفة و نحوهما.

(3) فقد استظهر في الخلاف وجوب الغسل علي الرجل بوطء الميتة، و جعله الأصح في جامع المقاصد، و به صرح في المبسوط و الوسيلة و الشرائع و المنتهي و المختلف و الدروس و الروض و الروضة، و هو ظاهر المعتبر و كشف اللثام و المحكي عن السرائر و الجامع و الذكري و الدروس، و ظاهر كشف اللثام أنه المشهور، بل نفي الخلاف فيه شيخنا الأعظم و ادعي الإجماع عليه في الرياض، بل ربما استظهر دعوي الإجماع من الاقتصار في نسبة الخلاف علي أبي حنيفة في

ص: 370

______________________________

الخلاف و المنتهي و محكي التذكرة، حتي ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنّ العمدة فيه الإجماع المنقول المؤيد بإرسال الحكم في لسان جماعة إرسال المسلمات.

لكن في بلوغ ذلك حد الإجماع الصالح للاستدلال إشكال، بل منع.

فإنّ الإجماع إنما يكشف عن الحكم الشرعي إذا كان مبنيا علي وضوح مورده في العصور المتقدمة المقاربة لعصور الأئمة عليهم السّلام، و هو لا يناسب إهمال الحكم في مثل المقنعة و النهاية و المراسم و الغنية و غيرها، بل لا يناسب عدم دعوي الإجماع في الخلاف، مع كثرة دعواه فيه في المسائل، و انما استظهره- كما في المبسوط- من بعض الإطلاقات بعد الاعتراف بعدم النص فيه.

و نسبته فيه لظاهر المذهب لا يرجع إلي نسبته للأصحاب، بل استظهاره من الأدلة التي ينبغي التعويل عليها بنظره.

و عليه جري الحال في أكثر الكتب التي تيسر العثور عليها، فلم يرسل الحكم فيها إرسال المسلمات، بل تشبثوا له بوجوه من الاستدلال محتاجة إلي نحو من الكلفة و التأمل، من دون أن يشيروا للإجماع كدليل أو مؤيد للمسألة.

حيث يظهر من مجموع ذلك عدم معروفية تحرير المسألة و لا التنبيه إليها قبل الشيخ قدّس سرّه إلا من العامة، و أنّ الشيخ و من تبعه جروا فيها علي التثبت ببعض الأدلة النظرية من دون وضوح و لا إجماع.

و من هنا قد يظهر من العلامة في القواعد التردد فيه، حيث قال: «و غيبوبة الحشفة في فرج آدمي، قبل أو دبر، ذكر أو أنثي، حي أو ميت، أنزل معه أو لا، فاعلا أو مفعولا علي رأي»، كما تنظّر فيه في الحدائق و ناقش فيه في محكي شرح الدروس.

إذا عرفت هذا، فقد استدل لتحقق الجنابة بوطء الميتة.

تارة: بما ورد عنهم عليهم السّلام من أنّ حرمة الميت كحرمة الحي «1»، كما في

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 51 من أبواب الدفن، و باب: 19 من أبواب حد السرقة، و باب: 2 من أبواب نكاح البهائم و وطء الأموات و الاستمناء من كتاب الحدود و التعزيرات، و باب: 25 من أبواب دية الأعضاء.

ص: 371

______________________________

المبسوط و الخلاف.

و أخري: باستصحاب الحكم الثابت حال الحياة.

و يندفع الأول، بأنّ ثبوت الجنابة بوطء المرأة الحية مبني علي محض تسبيبه لذلك، من دون أن يبتني علي احترامها ليكون مشمولا للحديث، لوضوح اختصاصه بالأحكام الثابتة من جهة الاحترام، و لذا طبق علي وجوب تعطيل البئر التي يسقط فيها المسلم فيموت و جعلها قبرا له، و ثبوت الحد علي النباش السارق للأكفان، و الدية بقطع عضو من الميت.

و أما ما في حديث الجواد عليه السّلام من قوله: «سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها، فقال أبي: يقطع يمينه للنبش، و يضرب حدّ الزنا، فإنّ حرمة الميتة كحرمة الحية» «1»، و في خبر عبد اللّه الجعفي عن الباقر عليه السّلام في ذلك أيضا: «أنّ حرمة الميت كحرمة الحي، تقطع يده لنبشه و سلبه الثياب، و يقام عليه الحد في الزنا.» «2»، من تطبيق العموم علي حد الزنا الذي لا يتضح كونه من أحكام الاحترام.

فهو لا يخلو عن إشكال، و لا مجال للتعدي منه إلي غيره من الاحكام غير المبنية علي الاحترام.

و لا مجال لكشفه عن كون المراد بالعموم محض تنزيل الميت منزلة الحي في الاحكام من دون خصوصية للأحكام المبنية علي الاحترام، بحمل الحرمة علي مجرد الموضوعية للحكم، دون الاحترام.

إذ هو لا يناسب ما في خبر العلاء بن سيابة من تطبيقه علي وجوب تعطيل البئر و جعلها قبرا إذا مات فيها مسلم «3»، لوضوح عدم كون الإقبار من أحكام الحي، ليصح إطلاق التنزيل بلحاظه، بل هو من شؤون الاحترام الثابت للحي، فتأمل جيدا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب حد السرقة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب حد السرقة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 51 من أبواب الدفن حديث: 1.

ص: 372

______________________________

و أما الثاني، فهو يبتني علي حجية الاستصحاب التعليقي، التي هي خلاف التحقيق، علي ما أوضحناه في الأصول.

فالعمدة في المقام إطلاق أدلة سببية الجماع للجنابة، لصدق الإدخال و الإيلاج و التقاء الختانين و غيبوبة الحشفة و غيرها، كما ذكره في الخلاف و المعتبر و المنتهي و غيرها.

فإنّ الإطلاقات و إن كانت تنصرف عرفا عن حال الموت، كما لو قيل: رأيت رجلا أو امرأة أو ضربتهما أو قطعت يدهما لو ألبستهما ثوبا أو غير ذلك، إلا أنه يمنع منه في إطلاقات الأدلة الشرعية ملاحظة عموم غير واحد من الأحكام المتعلقة بالجسد لحال الموت، كحرمة النظر و الأحكام المبنية علي الاحترام و نحوهما، و لا سيما حدّ الزنا الذي هو من أحكام الوطء، فإنّه مقرب جدا لعموم سائر أحكام الوطء و منها الجنابة لحال الموت، لا من باب قياسه عليه، بل من باب كشفه عن إطلاق دليله، خلافا لمقتضي الانصراف العرفي.

خصوصا مع ما تضمنته النصوص من التلازم بين الحدّ و الغسل، فإنّ عدم البناء علي التعدي عن موردها لا يمنع من إلغاء خصوصية موردها و استفادة عمومها لحال الموت من ثبوت الحدّ فيه، بحيث يكون مانعا من الانصراف عنه.

و كأنّ هذا هو الوجه في فهم الأصحاب من الأدلة العموم، بل هو الظاهر من غيرهم ممن وافقهم، بل حتي من خالفهم- و هو أبو حنيفة- إذ المحكي عنه في وجه عدم وجوب الغسل ليس هو دعوي قصور أدلته، بل وجود المخرج عنه، ككونه وطءا غير مقصود.

و لعل التأمل في مجموع ذلك كاف في ثبوت الحكم، و لا سيما مع تأيده- كما في الجواهر- بما ورد فيمن نبش امرأة ميتة و استخرجها و أخذ أكفانها و فجر بها من أنه نودي: «يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين يوم يقفني و إياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتي و نزعتني من حفرتي و سلبتني أكفاني و تركتني أقوم جنبة إلي

ص: 373

______________________________

حسابي فويل لشبابك من النار» «1»، فإنّ جنابتها كاشفة عن سببية وطئها للجنابة كوطء الحية، فيوجب جنابة الرجل أيضا.

ثمَّ إن مقتضي الاستدلال المذكور جنابة الميتة الموطوءة أيضا- كما هو مقتضي إطلاق الدروس و احتمله في الجواهر- لأن الوطء سبب لجنابة الفاعل و المفعول به معا.

و أما دعوي: أنه موقوف علي قابلية الميت للاتصاف بالجنابة، و هي غير محرزة، فلا ينفع معها تمامية السبب.

فهي مدفوعة بأنّ إلغاء خصوصية الحياة في أدلة السبب يقتضي إلغاءها في الموضوع القابل للجنابة، لوحدة الدليل في المقامين، و لا سيما مع تأيده بالخبر السابق.

مضافا إلي ما سبق في أوائل المسألة الثالثة و السبعين من مباحث الوضوء عند الكلام في تداخل الأغسال من تقريب قابلية الميت للاتصاف بالجنابة و ارتفاعها بالتغسيل. و عليه يجب ترتيب أحكام الجنب عليها، فلا يجوز إدخالها المسجد، بناء علي حرمة إدخال الجنب له.

نعم، لا دليل علي وجوب تغسيل الميت من الجنابة لو حصلت بعد التغسيل- كما صرح به في المنتهي و جامع المقاصد و غيرهما- و كذا لو كان ممن لا يغسل بعد الموت، كالشهيد و المقتول بحد أو قصاص، لاختصاص الأدلة بغسل الميت.

و ما دل علي أنّ الميت الجنب يجزيه غسل واحد للجنابة و لغسل الميت، معللا بقوله عليه السّلام: «لأنهما حرمتان اجتمعا في حرمة واحدة» «2»، إنما يدل علي شرعية غسل الجنابة له، و هي أعم من الوجوب، و التعبير بالحرمة لا يقتضي تحريم الإبقاء، بل لعله كناية عن تحقق الموضوع.

______________________________

(1) أمالي الصدوق مجلس: 11 ص: 39 طبع النجف الأشرف.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 374

بل هو الأحوط وجوبا في وطء البهيمة (1).

______________________________

اللهم إلا أن يستفاد من النصوص الظاهرة في أنّ غسل الميت لأجل رفع حدث الموت، كي يلقي ربه و هو طاهر، بل ظاهر جملة منها أنه مسانخ لحدث الجنابة أو من أفراده «1».

و لازم ذلك تقديم غسل الجنابة علي الصلاة عليه، كما يقدم عليها غسل الميت.

لكنه- لو تمَّ- لا يجري في الشهيد، حيث يظهر من نصوصه الاهتمام بعدم تغيير حاله بالتغسيل، بل قد يستظهر ذلك في المقتول بحد أو قصاص، و الأمر محتاج للتأمل.

هذا، و المفروض في كلام الأكثر وطء الميتة دون عكسه، و هو استدخال ذكر الميت في الحي، و إنما نبه له في جامع المقاصد و الروضة و بعض متأخري المتأخرين، فذكروا أنه بحكم الأول.

و هو مقتضي الوجه المتقدم المذكور في كلام الأكثر، و من ثمَّ لا يبعد استفادته منهم تبعا.

(1) فقد ذهب إلي عدم وجوب الغسل به في طهارة المبسوط و الخلاف و الشرائع و القواعد، و استحسنه في المعتبر، و قوّاه في المنتهي و كشف اللثام، و هو المحكي عن كشف الرموز و المهذب، كما هو الظاهر من كل من قيد الفرج بالآدمي، كما في الوسيلة و الإرشاد و محكي السرائر و الموجز و الجامع، و كذا من أناط الحكم بالتقاء الختانين، كما في النهاية و المراسم و إشارة السبق و غيرها، بل هو الظاهر من كل من لم ينبه إليه.

و لعله لذا استظهر في الحدائق أنه المشهور، و نسبه في المدارك و محكي شرح المفاتيح للأكثر.

لكن في الذكري و عن التذكرة و البيان التردد فيه، بل ظاهر صوم المبسوط

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

ص: 375

______________________________

إيجاب الغسل، حيث جعله مفسدا للصوم [1]، و عليه جري في الروضة و ظاهر الروض و محكي المختلف و المسالك و غيرها.

بل قد يظهر من المرتضي الإجماع عليه، إذ المحكي عنه أنه قال في تعقيب كلامه المتقدم في الوطء في الدبر: «و أما الأخبار المتضمنة لإيجابه عند التقاء الختانين فليست مانعة من إيجابه في موضع آخر لا التقاء فيه لختانين. علي أنهم يوجبون الغسل بالإيلاج في فرج البهيمة و في قبل المرأة و إن لم يكن هناك ختان، فقد عملوا بخلاف ظاهر الخبر.».

و قد يستدل له- مضافا إلي ذلك- بإطلاق ما تضمن وجوب الغسل بالجماع، أو الجماع في الفرج. و بعموم التعليل بوجوب الحد.

و بالخبر المروي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما أوجب الحد أوجب الغسل» «2»، إما لعمومه الشامل للمقام، حيث يلزم الاقتصار في تخصيصه علي المتيقن، كالقذف، أو لحمله علي خصوص الوطء، فلا تخصيص فيه، كما قيل.

لكن لا مجال لدعوي الإجماع، و لا سيما بعد ما عرفت من شهرة الخلاف.

و إطلاق وجوب الغسل بالجماع- مع أنه لا يبعد انصرافه أو قصوره عن وطء البهيمة- غير ثابت، علي ما تقدم عند الكلام في الوطء في الدبر.

كما سبق هناك الإشكال في الاستدلال بعموم التعليل.

و مثله الخبر، لعدم ثبوته من طرقنا، و إنما روي مرسلا في بعض كتب الفقهاء و في كتب العامة، و لعله راجع إلي نقل مفاد التعليل.

علي أنّ حمله علي العموم متعذر عرفا بعد كثرة تخصيصه، و حمله علي خصوص الوطء ليس بأولي من حمله علي خصوص التقاء الختانين، لبيان عدم اعتبار الإنزال، كما تضمنه ما اشتمل علي التعليل.

مضافا إلي توقف الاستدلال به و بالتعليل علي ثبوت الحد في وطء البهيمة،

______________________________

[1] إنما لم نجزم بنسبته إليه لأنه صرح في الخلاف بوجوب القضاء به دون الغسل و الكفارة، فراجع المسألة الثانية و الأربعين من كتاب الصوم. (منه عفي عنه).

______________________________

(2) كنز العمال ج: 5 ص: 132 رقم الحديث: 2714.

ص: 376

مسألة 6 إذا خرج المني بصورة الدم وجب الغسل

مسألة 6: إذا خرج المني بصورة الدم وجب الغسل (1)، بعد العلم بكونه منيا (2).

______________________________

كما تضمنته بعض النصوص، و هو لا يخلو عن إشكال بلحاظ ما في بعضها من أنّ الثابت فيها التعزير دون الحد «1». و تمام الكلام في محله.

هذا، و المتيقن من كلام أكثر الأصحاب ما إذا كانت البهيمة موطوءة، أما لو كانت واطئة فظاهر الروضة و محكي الذكري مساواتها للموطوءة في تحقق الجنابة، و استقرب في الجواهر العدم مع تردده في الأول.

و هو في محله لو كان الدليل في الأول الإجماع، لعدم وضوح شموله للثاني.

و كذا لو كان دليله عموم التعليل و إطلاق الخبر، لعدم الدليل علي ثبوت الحد بالثاني بعد اختصاص نصوصه بالأول.

و أما لو كان الدليل هو عموم سببية الجماع للجنابة، فالظاهر عدم الفرق بين المقامين في صدقه و عدم صدقه.

(1) كما استقربه في المدارك و محكي الذكري، لإطلاق ما دل علي سببية خروج المني للجنابة.

و استشكل في ذلك في جامع المقاصد، و احتمل العدم في النهاية، لأن المني دم في الأصل فلما لم يستحل ألحق بالدماء، و هو في محله في فرض كلامه من عدم استحالة الخارج، بحيث لا يصدق عليه المني، و مجرد مشابهته للمني في كيفية الخروج من مقارنته للدفق و نحوه لا يكفي في جريان حكمه فيه.

و مفروض الكلام ما لو كان الخارج منيا، كما يظهر من المدارك، و إن كان غير معلوم الحصول.

(2) أما لو شك، فمقتضي ما سبق في المسألة الأولي الرجوع للصفات

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب نكاح البهائم و وطء الأموات و الاستمناء من كتاب الحدود و التعزيرات.

ص: 377

مسألة 7 إذا تحرك المني و لم يخرج إلي الخارج لا يجب الغسل

مسألة 7: إذا تحرك المني عن محله بالاحتلام و لم يخرج إلي الخارج لا يجب الغسل (1).

مسألة 8 يجوز للشخص إجناب نفسه

مسألة 8: يجوز للشخص إجناب نفسه (2)

______________________________

لتمييز حاله.

إلا أن يدعي انصراف أدلتها إلي صورة مشابهة الخارج للمني عرفا، بحيث يشتبه به، و لذا أطلق عليه المني في صحيح علي بن جعفر «1» الذي هو عمدة أدلة الاعتبار بالصفات، و لا يشمل ما لو كان بصورة الدم و جهلت حقيقته، فتأمل.

هذا، إذا كان الشك بنحو الشبهة الموضوعية كما لو كان محل تكون المني أو مخرجه موؤفا بجرح أو نحوه فخرج السائل بصورة الدم و تردد بين كونه دما و كونه منيا مختلطا به.

و الظاهر أنه خارج عن محل كلامهم، إنما الكلام فيما إذا خرج السائل من محل تكون المني علي نحو خروجه قبل أن يستكمل صفاته، كما ينقل عن بعض من يكثر منه المواقعة.

و الظاهر عدم صدق المني عليه، بل هو عرفا دم بعد لم يستحل- كما سبق من النهاية- فلا يجري عليه حكم المني.

و لو فرض الشك فيه، فهو راجع إلي إجمال مفهوم المني، فيلزم الاقتصار فيه علي المتيقن و الرجوع في غيره لاستصحاب الطهارة.

و أما الصفات، فمنصرف دليلها الشبهة الموضوعية، دون الحكمية المفهومية، فلاحظ.

(1) تقدم الكلام فيه في الأمر الرابع من الأمور التي ذكرناها في أول الكلام في سببية خروج المني للجنابة.

(2) الظاهر اختصاصه بالجماع، دون غيره حتي لو كان مباحا ذاتا،

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 378

و لو لم يقدر علي الغسل (1)

______________________________

كالاحتلام لو كان مقدورا، لاختصاص الأدلة الآتية بالجماع.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنّ احتمال الفرق بين الجماع و غيره موهون جدا غير ظاهر مع قرب خصوصية الجماع لاستحبابه في نفسه، المناسب لاهتمام الشارع به و عدم تعجيزه عنه لأجل الطهارة المائية.

نعم، لو لزم الضرر أو الحرج من ترك الإجناب اتجه جوازه.

(1) إجماعا، كما في المعتبر.

لصحيح إسحاق بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يكون معه أهله في سفر لا يجد الماء، يأتي أهله؟ قال: ما أحب أن يفعل إلا أن يخاف علي نفسه، قلت:

فيطلب بذلك اللذة أو يكون شبقا إلي النساء، فقال: إن الشبق يخاف علي نفسه، قال:

قلت: طلب بذلك اللذة. قال: هو حلال.» «1».

و رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام عن أبي ذر رضي اللّه عنه: «أنه أتي النبي صلّي اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه هلكت، جامعت علي غير ماء، قال: فأمر النبي صلّي اللّه عليه و آله بمحمل فاستترت به و بماء فاغتسلت أنا و هي، ثمَّ قال: يا أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين» «2».

لظهور قوله صلّي اللّه عليه و آله: «يكفيك.» في الردع عن اعتقاد الهلكة بالجماع من غير ماء، فيكشف عن جوازه و إن فاتت بسببه الطهارة المائية.

من دون فرق بين أن يكون اعتقاد الهلكة بسبب تفويت الطهارة المائية، و أن يكون لتخيل تفويت الصلاة للغفلة عن تشريع التيمم، إذ لا يحسن الردع عن تخيل الهلكة في الثاني مع لزوم الهلكة في الأول من دون تنبيه عليها.

و بذلك يخرج عن مقتضي القاعدة من وجوب حفظ القدرة علي الواجب الاختياري، و منه الصلاة بطهارة مائية، لأن تشريع البدل الاضطراري لا ينافي عموم

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 12.

ص: 379

______________________________

موضوع الواجب الاختياري لحال الاضطرار و سعة ملاكه، كما هو مقتضي إطلاق دليله، فيقبح تفويته عقلا بالتعجيز، كالواجب الذي ليس له بدل اضطراري، و لا يكون العجز المستند للاختيار عذرا عنه، و إن كان مسقطا لفعليته، و موضوعا لتشريع البدل الاضطراري المفروض عدم وفائه بتمام ملاكه.

و بالجملة: الجمع بين إطلاق دليلي التكليفين الاختياري و الاضطراري ليس بتقييد الأول بالثاني، بنحو يقصر عن مورده موضوعا و ملاكا، كي لا يقبح التعجيز عنه المحقق لموضوع الاضطراري، بل بحمل الثاني علي كونه الميسور في ظرف تعذر الأول، مع تمامية ملاك الأول تبعا لإطلاق دليله، كالتكليف الذي لا بد له، فيقبح التعجيز عنه، و إن كان سببا لتشريع البدل الاضطراري.

و عليه يبتني ما يأتي من عدم جواز نقض الوضوء، و تحريم إراقة مائه و ماء الغسل و غير ذلك مما يذكر في محله.

و لا فرق في قبح التعجيز بين دخول الوقت و عدمه، لوجوب المحافظة علي غرض المولي و قبح تفويته مطلقا مع العلم بتحقق موضوعه في وقته.

و عليه يبتني وجوب تحصيل المقدمات المفوتة و تنجز العلم الإجمالي في التدريجيات و نحو ذلك.

أما لو دل الدليل علي جواز التعجيز مطلقا أو من بعض الجهات- كما في المقام- كشف عن كون التعجيز رافعا لملاك الإلزام، و كان مقيدا لإطلاق دليله، و إن أمكن معه بقاء المشروعية من دون إلزام، فيكون التعجيز مرجوحا غير محرم.

و قد سبق في المسألة الواحدة و الأربعين في أحكام الجبائر ما له نفع في المقام، فراجع.

هذا، و ينسب لظاهر الإسكافي التحريم، و استدل له بما تضمن وجوب الغسل علي من أجنب متعمدا و إن كان مضرا به «1». و كأنه بلحاظ كشفه عن اهتمام الشارع بالطهارة المائية بنحو لا يرضي بتفويتها عند عدم الماء.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب التيمم.

ص: 380

و كان بعد دخول الوقت (1).

______________________________

لكنه لو تمَّ في نفسه لا ينهض بمعارضة ما سبق مع كونه أصح سندا و أوضح دلالة.

(1) كأنه لإطلاق معقد الإجماع و الخبرين السابقين.

و ظاهر جامع المقاصد أنه يحرم بعد الوقت، لأنه بعد أن تعرض لعدم وجوب القضاء علي من صلي بتيمم حتي لو تعمد الجنابة قال: «و يجب أن يستثني منه ما إذا تعمد الجنابة بعد دخول الوقت و هو غير طامع في الماء للغسل، فإنّه بمنزلة من أراق الماء في الوقت، و قد سبق في كلام المصنف قدّس سرّه وجوب الإعادة عليه»، بضميمة ما سبق منه من تحريم الإراقة في الوقت.

و فصّل في المنتهي بين ما إذا كان علي طهارة، أو كان محدثا بالأصغر و كان معه ما يكفي للوضوء فقط، و ما إذا كان محدثا بالأصغر و ليس معه ماء أصلا، فيحرم الجماع بعد الوقت في الأول، لتفويت الواجب، دون الثاني، لتعذر الطهارة المائية عليه، و كما يجتزأ بالترابية من الحدث الأصغر يجتزأ بها من الحدث الأكبر، و هو الذي احتمله في محكي نهاية الاحكام.

لكن سبق أنه لا يفرق في وجوب المحافظة علي الواجب الاختياري بين دخول الوقت و عدمه، كما أنّ أهمية الطهارة الكبري من الصغري- و لو لاشتمال الحدث الأكبر علي الأصغر- بمقتضي المرتكزات المتشرعية تقتضي لزوم حفظ الأولي عند الدوران بينها و بين الثانية.

هذا، مع قطع النظر عن النص، أما معه فاللازم البناء علي الجواز مطلقا.

و دعوي: اختصاص صحيح إسحاق بصورة عدم الماء، و لا تشمل صورة وجود الماء الكافي للوضوء وحده.

مدفوعة- مضافا إلي عدم الاستفصال فيه عما إذا كان علي وضوء قبل الجماع- بأن الظاهر من عدم الماء هو الماء الذي يقتضيه الجماع و هو الكافي للغسل،

ص: 381

______________________________

لا مطلقا و لو لزم صرفه للشرب أو التطهير من الخبث أو كان نجسا أو قليلا يكفي للوضوء أو لا.

نعم، قد يقال: ظاهر صحيح إسحاق أنّ جواز الجماع ليس لعدم اقتضاء ملاك الطهارة المائية للحفظ، بل لصلوح مقتضي الجماع- و هو الشبق و طلب اللذة- لمزاحمته، بنحو يرفع فعلية الإلزام به تخفيفا و منّة، فلا يجري مع إمكان الجمع بينهما عرفا، كما هو الحال في الوقت أو قريبا منه، حيث لا يكون تأخير الجماع عن الصلاة غالبا منافيا عرفا لداعيه، و هو الشبق و طلب اللذة، إلا أن يتعذر إيقاع الصلاة في أول الوقت، أو يكون الشبق شديدا بحيث يكون التأخير بقدر الصلاة منافيا لمقتضاه و مزاحما له عرفا، فيتجه جواز الجماع عملا بإطلاق الصحيح، و هو فرض نادر.

و أما خبر السكوني، فلا إطلاق له، لوروده في قضية خارجية، بل من البعيد جدا من أبي ذر رضي اللّه عنه تقديم الجماع علي الصلاة في الوقت أو قريبا منه.

و أما الاستدلال بقوله صلّي اللّه عليه و آله فيه: «يكفيك الصعيد.» بدعوي: أنّ المورد لا يخصص الوارد.

فيدفعه أنه بعد ارتكاز كون التراب بدلا اضطراريا، و عدم جواز تفويت الطهارة المائية بإراقة الماء و نحوها، فلا بد من حمله علي الكفاية في ظرف الحاجة المزاحمة للطهارة المائية لوجود المقتضي للجماع، لدفع توهم عدم صلوح مقتضية لمزاحمتها، كما هو مقتضي قوله: «هلكت.» و لا إطلاق له يشمل صورة عدم المزاحمة لسهولة تأخيره عن الصلاة لحضور وقتها أو قربه.

و أما الإجماع، فلا مجال لإثبات عموم الجواز به بعد خلاف من عرفت، و عدم تحرير المسألة في كلمات أكثر الأصحاب، و إنما قد تستفاد منهم تبعا، مما ذكروه في مسألة وجوب الإعادة علي المتيمم مع تعمد الجنابة.

فالاقتصار في الخروج عن مقتضي القاعدة الذي عرفته علي المتيقن هو المتعين، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

ص: 382

نعم، إذا لم يتمكن من التيمم لا يجوز ذلك (1).

و أما في الوضوء، فلا يجوز لمن كان متوضئا و لم يتمكن من الوضوء لو أحدث أن يبطل وضوءه (2) إذا كان بعد دخول الوقت (3).

مسألة 9 إذا شك في أنه هل حصل الدخول أم لا لا يجب عليه الغسل

مسألة 9: إذا شك في أنه هل حصل الدخول أم لا، لا يجب عليه الغسل (4). و كذا لا يجب لو شك في أنّ المدخول فيه فرج أو دبر أو غيرهما (5).

______________________________

(1) لا قبل الوقت و لا بعده، عملا بالقاعدة المانعة من التعجيز عن الواجب، بعد قصور الأدلة المتقدمة عنه.

لظهور قوله في صحيح إسحاق: «لا يجد الماء» في الإشارة لموضوع التيمم، و هو مورد خبر السكوني لذلك أيضا. مضافا إلي قوله صلّي اللّه عليه و آله: «يكفيك الصعيد»، و كذا الحال في الإجماع المدعي.

نعم، لو لزم الحرج كان مقتضي قاعدة نفيه الجواز. فتأمل.

(2) عملا بالقاعدة المتقدمة مع عدم المخرج عنها، إلا أن يلزم الحرج أو الضرر.

(3) بل قبله، لما عرفت من القاعدة.

و يأتي تمام الكلام في ذلك في المسألة الواحدة و الأربعين من مبحث التيمم، كما يأتي هناك الكلام في إراقة ماء الوضوء و الغسل إن شاء اللّه تعالي.

(4) لاستصحاب الطهارة من الحدث الأكبر، بل لاستصحاب عدم الدخول الحاكم عليه.

(5) لما سبق، و لا مجال لاستصحاب عدم كون المدخول فيه فرجا أو دبرا من باب استصحاب العدم الأزلي، لاختصاص استصحاب العدم الأزلي بلواحق الوجود، دون الأمور و اللوازم التابعة لماهية الموضوع، التي لا يمكن نفيها عنه حتي

ص: 383

مسألة 10 الوطء في دبر الخنثي موجب للجنابة دون قبلها

مسألة 10: الوطء في دبر الخنثي موجب للجنابة (1)، دون قبلها (2)، إلا مع الإنزال فيجب عليه الغسل دونها، إلا أن تنزل هي أيضا (3).

______________________________

بلحاظ ما قبل وجوده.

(1) بناء علي عموم سببية الوطء في الدبر للجنابة، للقطع حينئذ بتحقق السبب، سواء كانت رجلا أم امرأة.

أما بناء علي عدم سببيته مطلقا فلا جنابة قطعا.

كما أنه بناء علي اختصاصه بدبر المرأة أو الغلام، فيكون نظير ما لو أولج في قبلها.

(2) كما صرح به جماعة، لاحتمال كونها رجلا، فيكون المدخول فيه ثقبا لا فرجا، و استصحاب عدم الإيلاج في فرج المرأة محكم في حق الفاعل، كاستصحاب الطهارة من الحدث الأكبر في حق المفعول به.

و عن التذكرة احتمال تحقق الجنابة، أخذا بإطلاق سببية التقاء الختانين.

و يشكل بأن ورود نصوصه في الرجل و المرأة موجب لانصرافها لختانيهما، دون ما يشبههما، بل لعلّه لا يسمي ختانا، لأن الختان هو موضع القطع من ذكر الرجل و فرج المرأة لا مما يشبههما، فلاحظ.

(3) فيجب عليها الغسل بالإنزال.

هذا، إذا لم يكن إنزالها من الفرج علامة علي كونها امرأة مع القول بعموم سببية الإنزال للإنزال من غير الذكر في الرجل و الفرج في المرأة، إذ لو كان إنزالها من الفرج علامة علي كونها امرأة كان الإيلاج فيه سببا للجنابة بلا حاجة للإنزال، و لو اختصت سببية الإنزال بإنزال الرجل من الذكر و المرأة من الفرج لم يكن إنزالها من الفرج سببا لجنابتها ظاهرا، لاحتمال عدم كونه فرج امرأة.

نعم، لو أنزلت من الفرجين معا أو من الذكر حكم بجنابتها، للعلم إجمالا

ص: 384

و لو أدخلت الخنثي في الرجل أو الأنثي مع عدم الإنزال، لا يجب الغسل علي الواطئ و لا علي الموطوء (1). و إذا أدخل الرجل بالخنثي و تلك الخنثي بالأنثي وجب الغسل علي الخنثي (2) دون الرجل و الأنثي (3).

______________________________

بسببية أحد الإنزالين في الأول، و بسببية الإنزال أو الإيلاج في الثاني.

(1) لنظير ما تقدم فيما لو أولج الرجل فيها.

(2) للعلم بجنابتها، إما لأنها فاعل أو مفعول به.

(3) لعدم إحراز سبب الجنابة في حق كل منهما.

نعم، يعلم إجمالا بجنابة أحدهما، فيلحقه ما تقدم في المسألة الثالثة.

هذا كله، بناء علي عدم خروج الخنثي عن أحد القسمين، و إلا اختلف الحال في المقام بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

تنبيه:

من الظاهر أنه في موارد الاحتياط بالغسل لا مجال للاكتفاء به عن الوضوء، لعدم إحراز مشروعيته للجنابة كي يجزئ عنه، فلا بد من ضم الوضوء إليه مع الحدث الأصغر برجاء المشروعية، بل يمكن الجزم بها مرددا بين الوضوء الرافع و التجديدي، بناء علي ما سبق في فصل غايات الوضوء من مشروعية الوضوء التجديدي مع غسل الجنابة.

و قد ذكر في العروة الوثقي أنّ الأولي أن يفصل بين الوضوء و الغسل بالحدث الأصغر، لعدم جواز الوضوء مع غسل الجنابة المفروض احتماله في الغسل المذكور.

لكن لو جي ء بالوضوء احتياطا برجاء المشروعية، فعلي تقدير كون الغسل

ص: 385

______________________________

مشروعا لتحقق الجنابة لا يكون الوضوء حقيقيا، بل صوريا، فلا يضر جمعه مع الغسل، كما لو اغتسل للجنابة، ثمَّ احتمل صدور الحدث الأصغر منه فتوضأ احتياطا.

و جعل مجرد المشابهة منشأ للأولوية غير ظاهر.

بل الأولي الإتيان بالوضوء مع الجزم بالمشروعية مرددا بين الرافع و التجديدي، كما ذكرنا.

ص: 386

الفصل الثاني فيما يتوقف صحته أو جوازه علي غسل الجنابة
اشارة

الفصل الثاني فيما يتوقف صحته أو جوازه علي غسل الجنابة و هو أمور.

الأول الصلاة

الأول: الصلاة (1) مطلقا، عدا صلاة الجنائز (2)،

______________________________

(1) بلا ريب، بل هو بديهي، كما في مفتاح الكرامة.

و يقتضيه الكتاب المجيد، و السنة المستفيضة المتضمنة شرطية الصلاة بالطهارة «1»، و وجوب إعادتها مع عدمها «2»، و عدم الغسل «3» و تبين نقصه «4»، و وجوب التيمم لها بدلا عنه «5»، و غير ذلك.

بل هو مقتضي ما دل علي اعتبار الوضوء في الصلاة، إما للأولوية، أو لما تقدم من ناقضية الجنابة للوضوء.

(2) إما لأن إطلاق الصلاة عليها مجازي- كما صرح به بعضهم- أو للأدلة الخاصة المخرجة عن عموم اعتبار الطهارة في الصلاة التي يأتي التعرض إليها في محلها إن شاء اللّه تعالي.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب الوضوء و باب: 14 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب الوضوء.

(3) راجع الوسائل باب: 10، 29 من أبواب الجنابة، و باب: 1 من أبواب قضاء الصلوات.

(4) راجع الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة.

(5) راجع الوسائل باب: 14، 16، 19، 21، 24، 25 و غيرها من أبواب التيمم.

ص: 387

و كذا أجزاؤها المنسية (1)، بل سجود السهو علي الأحوط وجوبا (2).

الثاني الطواف

الثاني: الطواف الواجب (3)

______________________________

(1) يظهر الوجه فيه مما تقدم في غايات الوضوء.

(2) يظهر الكلام فيه مما تقدم في غايات الوضوء.

(3) بالإجماع، كما في المفاتيح و عن نهاية الاحكام و الذخيرة و محكي الدلائل، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده، بل الإجماع بقسميه عليه»، و هو مقتضي إطلاق معقد الإجماع في الخلاف و الغنية و المنتهي.

و يقتضيه- مضافا إلي ما دل علي اشتراط الوضوء فيه، بضميمة ما سبق من الأولوية، و أنّ الجنابة من نواقضه- صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن رجل طاف بالبيت و هو جنب، فذكر و هو في الطواف. قال: يقطع الطواف و لا يعتد بشي ء مما طاف. و سألته عن رجل طاف ثمَّ ذكر أنه علي غير وضوء، قال: يقطع طوافه و لا يعتد به» «1».

هذا، و التقييد بالواجب هو المصرح به في النهاية و المبسوط و التهذيب، و هو مقتضي إطلاق ما في الشرائع و المنتهي و القواعد من عدم اعتبار الطهارة في المندوب، و صريح جملة من الأصحاب في مقام الاستدلال.

لكن لا يخفي أن إطلاق صحيح ابن جعفر يعم المندوب.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من ظهوره في الواجب بقرينة ذيله، غير ظاهر، لقرب كون كل من الصدر و الذيل كلاما مستقلا، بل لعله الظاهر من تكرار قوله:

«و سألته»، كما ذكرناه في نظائره.

علي أن تقييد حكم الذيل بالواجب ليس مستفادا من نفس الكلام، ليصلح للقرينية علي الصدر، بل من دليل منفصل، و تقييد أحد الحكمين في الكلام الواحد لا يقتضي تقييد الآخر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 4.

ص: 388

______________________________

و أما ما دل علي صحة الطواف المندوب علي غير وضوء، فهو لا يقتضي صحته مع الجنابة، ليخرج عن مقتضي الإطلاق المذكور، و إن كان ظاهر غير واحد جريهما علي نهج واحد، منهم الشيخ في التهذيب، حيث استدلوا بالنصوص المذكورة علي صحة طواف النافلة من الجنب و نحوه ممن هو محدث بالأكبر، و كأنه لفهم عدم الخصوصية منها، للمفروغية عن عدم الفرق بين مراتب الطهارة. و هو لا يخلو عن إشكال، فلاحظ.

هذا، و لا يخفي أنّ الأثر إنما يظهر في الجاهل و الناسي، كما ذكره غير واحد، حيث يصح منه الطواف المستحب بناء علي عدم اشتراطه بالغسل، فتشرع له صلاته بعد الغسل.

أما العامد، فحيث يحرم منه الكون في المسجد الحرام مطلقا، يتعذر عليه الطواف المستحب أيضا، لامتناع التقرب منه به مع ذلك.

و دعوي: أنّ الطواف إن كان متحدا مع الكون في المسجد كان تحريم الكون في المسجد علي الجنب مستلزما لخروج طوافه عن عموم استحباب الطواف، فلا يصح حتي مع الجهل و الغفلة عن الجنابة، لحرمة الكون في المسجد واقعا، و إن كان مباينا للكون المذكور ملزوما له- كما هو الظاهر- فتحريمه لا يمنع من التقرب بالطواف حتي مع العمد.

مدفوعة بأنّ الشروع في الطواف لما كان مبنيا علي قصد إكماله بالاستمرار في الكون المحرم، كان مبنيا علي التجرؤ بقصد الكون المذكور، فيمتنع التقرب به لمبعدية التجرؤ، نظير ما سبق منا في الوضوء من الإناء المغصوب تدريجا في المسألة الستين من مباحث الوضوء.

نعم، لو التفت الجاهل أو الناسي في أواخر الطواف، بحيث لا ينافي إكماله فورية الخروج أمكن إكماله، بناء علي عدم اعتبار الغسل في الطواف المستحب.

ص: 389

بالإحرام مطلقا (1)، كما تقدم في الوضوء.

الثالث الصوم

الثالث: الصوم، بمعني: أنه لو تعمد البقاء علي الجنابة حتي طلع الفجر بطل صومه. و كذا صوم ناسي الغسل علي تفصيل يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي (2).

الرابع مس كتابة القرآن

الرابع: مس كتابة القرآن الشريف (3)،

______________________________

(1) يعني: ما يكون جزءا من حج أو عمرة، بلحاظ وجوب إكمالهما بالشروع فيهما بالإحرام و إن كانا مستحبين بالأصل، فيكون الإحرام سببا لوجوب الطواف المذكور.

و قد سبق في غايات الوضوء أنّ ذلك هو المراد من الواجب في مقابل الطواف المبتدأ، الذي هو مستحب في الأصل و إن وجب بنذر أو إجارة أو نحوهما.

و قد سبق الكلام في استحباب الوضوء له، و هو جار في الغسل، فراجع.

(2) كما يأتي بعونه تعالي الكلام في دليله.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 390

(3) إجماعا، كما في الخلاف و الغنية و الروض، و ظاهر مجمع البيان، بل التبيان، و عن الموجز، بل في المعتبر و المنتهي أنّ عليه إجماع علماء الإسلام، و عن التذكرة أنّ عليه إجماعهم إلا داود.

خلافا لما عن ابن الجنيد من الحكم بالكراهة، و حكاه في المدارك و الرياض عن المبسوط، و عن المقداد نسبته للقاضي. لكن الموجود في المبسوط عده في المحرمات، و في الجواهر: أنّ المنقول من عبارة القاضي في المهذب صريح في الحرمة. إلا أن يكون في غيره، و لم ينقل عنه أحد غير المقداد ذلك. انتهي. و عن الذكري احتمال إرادة ابن الجنيد من الكراهة الحرمة، لكثرة ذلك منه.

و مما سبق في فصل غايات الوضوء يظهر انحصار الدليل عليه بموثق

ص: 390

______________________________

أبي بصير أو صحيحه، المتضمن النهي عن مس الكتاب علي غير وضوء «1»، بضميمة ما أشرنا إليه قريبا من أولوية الغسل من الوضوء، و ناقضية الجنابة للوضوء.

مع اعتضاده بخبر إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السّلام: «قال:

المصحف لا تمسّه علي غير طهر و لا جنبا، و لا تمس خطه، و لا تعلقه، إنّ اللّه تعالي يقول لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «2»، علي كلام تقدم هناك.

و بحديث محمد بن مسلم: «قال أبو جعفر عليه السّلام: الجنب و الحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب و يقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة.» «3».

و بالنبوي المروي مرسلا في المعتبر و المنتهي: «لا يمس القرآن إلا طاهر» «4».

و الرضوي: «و لا تمس القرآن إذا كنت جنبا أو علي غير وضوء، و مس الأوراق» «5».

و لا يهم مع ذلك عدم نهوض الآية بالاستدلال علي ما تقدم هناك.

و منه يظهر ضعف ما في المدارك من أنّ المتجه القول بالكراهة، لأن الأخبار المستدل بها لا تخلو عن ضعف في السند أو الدلالة، و الآية محتملة لمعان، إلا أنّ المنع أحوط و أنسب بالتعظيم. انتهي.

هذا، و قد تقدم في غايات الوضوء الكلام في فروع المس بما يغني عن الكلام فيها هنا.

نعم، سبق هناك نقل الإجماع من المعتبر و المنتهي علي جواز مس غير المتوضئ ما عدا الخط من المصحف، و الاستدلال عليه.

أما هنا، فقد حكي في المنتهي عن المرتضي تحريم مس المصحف للجنب، مستدلا عليه بخبر إبراهيم بن عبد الحميد المتقدم، و هو الظاهر من الصدوق في المقنع، حيث قال: «و لا يجوز لك أن تمس المصحف و أنت جنب،

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(4) المعتبر ص: 49، و المنتهي ج: 1 ص: 87.

(5) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الوضوء حديث: 1.

ص: 391

و مس اسم اللّه تعالي (1)،

______________________________

و لا بأس أن يقلب لك الورق غيرك و تنظر فيه و تقرأ».

و فيه: أنّ الخبر- مع ضعف سنده- محمول علي الكراهة كما تقدم هناك، و التفكيك في ذلك بين الجنب و من هو علي غير وضوء لا يناسب السياق.

و أما حديث محمد بن مسلم المتقدم، فلو تمَّ سنده غير صريح في حرمة مس ما عدا الكتابة، لوضوح عدم وجوب الفتح من وراء الثوب ذاتا، بل لتجنب المس المحرم و كما يمكن أن يكون الفرض منه تجنب مس تمام المصحف يمكن أن يكون الغرض منه تجنب خصوص مس الكتابة للتعرض لها بدونه.

مع أنّ كثرة الابتلاء بذلك تمنع من خفاء الحرمة عادة علي الأصحاب، حتي أهملوا التنبيه عليها، بل صرح بعضهم بالكراهة بنحو يظهر منه المفروغية عنه، فلاحظ.

(1) كما في المقنعة و التهذيب و المبسوط و النهاية و الغنية و المراسم و الوسيلة و إشارة السبق و الشرائع و المنتهي و القواعد و الإرشاد و التحرير و اللمعتين و الروض، و عن السرائر و المهذب و الإصباح و الجامع و أحكام الراوندي و التذكرة و الدروس و البيان و غيرها، بل في الحدائق و عن نهاية الاحكام نفي الخلاف فيه، و في المنتهي- بعد الاعتراف بضعف الرواية- أنّ عمل الأصحاب يعضدها، بل في الغنية الإجماع عليه.

لكن في المدارك و عن الأردبيلي و الكفاية التوقف في دليله، بل قد يظهر من المعتبر، لأنه و إن حكم بالحرمة في صدر كلامه و استدل عليه بالموثق الآتي، إلا أنه قال: «الرواية ضعيفة السند، لكن مضمونها مطابق لما يجب من تعظيم اللّه سبحانه، و روي البزنطي.» ثمَّ ذكر حديثي محمد بن مسلم و أبي الربيع الظاهرين في الجواز.

بل أنكره في المستند، و هو الظاهر من النافع، حيث اقتصر علي تحريم مس القرآن، و مثله الصدوق في الفقيه و الهداية و المقنع، و قريب منه الكليني، حيث

ص: 392

______________________________

اقتصر في أحكام الجنب علي الخبر المتضمن تحريم مس الكتاب، بل في مفتاح الكرامة أنه لم ينقل القول بالتحريم عمن تقدم علي الشيخين، و في كشف اللثام أنّ ظاهر من تقدم عليهما عدمه.

و كيف كان، فقد استدل له بموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يمس الجنب درهما و لا دينارا عليه اسم اللّه تعالي، و لا يستنجي و عليه خاتم و فيه اسم اللّه، و لا يجامع و هو عليه، و لا يدخل في المخرج و هو عليه» «1».

لكن لما كان واردا في الدراهم و الدنانير، فمن القريب جدا حمله علي الكراهة- كما هو المناسب لسياقه- جمعا بينه و بين صحيح إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه السّلام: «سألته عن الجنب و الطامث يمسان أيديهما [بأيديهما يب، صا] الدراهم البيض؟ قال: لا بأس» «2».

و ما في المعتبر قال: و في جامع البزنطي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته هل يمس الرجل الدرهم الأبيض و هو جنب؟ فقال: و اللّه إني لأوتي بالدرهم فآخذه و إني لجنب» و ما سمعت أحدا يكره من ذلك [شيئا إلا. ظ] أنّ عبد اللّه بن محمد كان يعيبهم عيبا شديدا يقول: جعلوا سورة من القرآن في الدرهم فيعطي الزانية و في الخمر و يوضع علي لحم الخنزير، و في كتاب الحسن بن محبوب عن خالد عن أبي الربيع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الجنب يمس الدراهم و فيها اسم اللّه و اسم رسوله، فقال: لا بأس، ربما فعلت ذلك» «3».

و حملها علي ما إذا خلت الدراهم عما يحرم مسه علي الجنب- مع امتناعه في الأخيرين- بعيد جدا، لأن ذلك هو المنشأ للسؤال، و لاشتمال جميع الدراهم الإسلامية الرائجة في عصر صدور النصوص المذكورة علي شي ء من القرآن و أسمائه تعالي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 18 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) المعتبر ص: 50 راجع الوسائل باب: 18 من أبواب الجنابة حديث: 3، 4.

ص: 393

______________________________

و مثله حملها علي مس ما عدا الكتابة، علي ما تقدم في غايات الوضوء في الفرع الثاني من فروع المس التي استدركناها.

كما تقدم هناك دفع الإشكال في النصوص المذكورة بإعراض الأصحاب عنها.

بل تقدم اعتضادها بسيرة المتشرعة لاشتمال جميع الدراهم و الدنانير في أكثر عصور الأئمة عليهم السّلام علي شي ء من القرآن و علي اسم اللّه تعالي و اسم النبي صلّي اللّه عليه و آله فلو كان البناء علي الاجتناب للزم الهرج و المرج و ناسب كثرة الأسئلة عن ذلك و عن فروعه.

و لذا استقربنا استثناءها من عموم حرمة مس الكتاب و أسمائه تعالي لو تمَّ، كما حكي عن كشف الالتباس و الموجز، و يظهر من الروض الميل إليه.

ثمَّ إنه سبق في غايات الوضوء أنه لا مجال لاستفادة حرمة مس أسمائه تعالي مما تضمن حرمة مس الكتاب بالأولوية، لاحتمال خصوصية القرآن في التعظيم الخاص، كما اختص بكراهة قراءة الجنب و الحائض له في الجملة، بل حرمة قراءتهما للعزائم منه، مع أنّ ذكره تعالي حسن علي كل حال. كما سبق هناك بعض وجوه الاستدلال و دفعها، و لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، فراجع.

و أما الاستدلال له بمطابقته لما يجب من تعظيم اللّه سبحانه- كما سبق من المعتبر- فيندفع: بعدم الدليل علي وجوب التعظيم لو تمَّ منافاة المس له في المقام، بل غاية الأمر رجحانه، و إنما الثابت بالمرتكزات حرمة التوهين، و هو غير لازم من مس الجنب عرفا.

لكن دافع عن ذلك في الجواهر.

تارة: بأنّ العرف و إن لم يدركوا بأنفسهم التوهين بالجنابة، إلا أنهم يحكمون به بمؤانسة الشرع، بلحاظ منع الجنب من دخول المساجد و مس القرآن و نحوهما.

و أخري: بدعوي أنه يمكن استفادة وجوب التعظيم من قوله تعالي:

ص: 394

علي ما تقدم في الوضوء (1).

______________________________

وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ «1» غاية الأمر عدم وجوب زيادة التعظيم للأصل و السيرة و عدم تناهي أفراده.

و يندفع الأول، بأنّ العرف بعد عدم إدراكه التوهين بالجنابة لا معني لحكمه به بمؤانسة الشرع، إلا أن يرجع إلي فهمه من سليقة الشارع ملازمته له بنظره الشريف، و لا مجال لاستفادته من الأحكام المذكورة، لإمكان ابتنائها علي وجوب مراتب خاصة من التعظيم في مواردها لا دليل علي وجوبها في المقام.

و لذا أمكن التفكيك بين اللبث في المساجد و الاجتياز بها من دون أن يدرك العرف فرقا بينهما في التوهين.

كما يندفع الثاني- مضافا إلي عدم وضوح منافاة مس الجنب لأدني مراتب التعظيم- بعدم خلو الشعائر في الآية عن الإجمال، و قرب كون المراد من التعظيم فيها التعظيم النفسي المستلزم المحافظة عليها و القيام بمقتضاها، لا التعظيم الخارجي، و عدم ملازمة كون الشي ء من تقوي القلوب لوجوبه، لأن المستحب من شؤون التقوي أيضا، و لذا لو كانت الآية فيما نحن فيه كانت دالة علي الحث علي أعلي مراتب التعظيم مع اعترافه بعدم وجوبه.

بل لا يظن من أحد دعوي عموم وجوب أدني مراتب التعظيم لكل ما ينتسب له تعالي، فلا يصلح ما ذكره للاستدلال. و اللّه سبحانه و تعالي العالم بحقيقة الحال.

(1) فقد سبق منه أن ترك مس الاسم الشريف مقتضي الاحتياط الوجوبي، و تقدم منا هنا و هناك ما يضعف معه الاحتياط، كما سبق كثير من الفروع المتعلقة بالمقام، التي يغني الرجوع لما سبق عن النظر فيها هنا.

و الذي ينبغي التعرض له في المقام أمران:

______________________________

(1) سورة الحج: 32.

ص: 395

______________________________

الأول: أنّ المذكور في المتن حرمة مس الاسم الشريف، و به صرح في المقنعة و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و المراسم و المعتبر و المنتهي و اللمعة و جامع المقاصد و كشف اللثام و محكي السرائر و التذكرة و التحرير و غيرها.

لكن في المبسوط و النهاية حرمة مس ما عليه الاسم الشريف، و به عبر في الشرائع و القواعد و الإرشاد و محكي نهاية الاحكام و الدروس و البيان و غيرها، بل نسبه في كشف اللثام للأكثر، و هو الموافق للسان الموثق.

إلا أنه استظهر غير واحد أنه راجع للأول و لو لحمل ما عليه الاسم علي خصوص موضعه و ظرفه- كما احتمله في كشف اللثام- دون تمام الجسم الذي كتب عليه و إن كان أوسع منه.

و ما ذكروه قريب، بلحاظ المناسبات الارتكازية الموجبة لانصراف كلماتهم لذلك، خصوصا مع تصريحهم بجواز مس أوراق القرآن مع عدم خلوها عن اسمه تعالي غالبا.

كما أنّ ذلك هو المنصرف من الموثق أيضا، بلحاظ المناسبات الارتكازية المذكورة، خصوصا مع كون مورده الدرهم و الدينار اللذين يستلزم مسّهما غالبا مس ما عليهما من الكتابة لصغرهما، و إلا فمن البعيد جدا حرمة مس اللوح العظيم الذي عليه الاسم الشريف، بل لا ينبغي التأمل في جوازه، كما صرح به بعضهم.

نعم، لا مجال للاستدلال عليه بما تضمن جواز مس أوراق المصحف، لا بالإطلاق، لورود المهم من دليله اللفظي فيمن هو علي غير وضوء، و المنصرف منه غير الجنب، و لا بالأولوية- كما قد يظهر من جامع المقاصد- لعدم ثبوتها.

و غاية ما يدل عليه الرضوي المتقدم الذي لا يصلح للاستدلال.

الثاني: ألحق الشيخ في المبسوط و محكي الجمل و المصباح و مختصره باسمه تعالي أسماء الأنبياء و الأئمة صلوات اللّه عليهم، و وافقه علي ذلك في الغنية و الوسيلة و الإرشاد و التبصرة و اللمعتين و جامع المقاصد، و ربما يقتضيه إطلاق الأسماء الشريفة في إشارة السبق، و هو المحكي عن السرائر و المهذب و الإصباح

ص: 396

______________________________

و الجامع و أحكام الراوندي و الذكري، بل سائر كتب الشهيدين و المحقق الثاني، بل حكاه في كشف اللثام عن المقنع، و في المعتبر و المنتهي و غيرهما عن المفيد، لكن لم أجده في المقنع و المقنعة، و في الروضة أنه المشهور، و نسبه إلي الأصحاب في محكي الجعفرية، و إلي أكثرهم تارة و إلي كبرائهم أخري في جامع المقاصد، بل ادعي في الغنية الإجماع عليه.

و به استدل في الجواهر، كما استدل غير واحد بمناسبته للتعظيم.

لكن لا مجال لدعوي الإجماع، فضلا عن الاستدلال به، مع ظهور الخلاف ممن يأتي.

و مناسبته للتعظيم لا تنهض بإثبات التحريم، كما سبق نظيره.

و من ثمَّ لم يحكم به في المعتبر و المنتهي و التحرير، و هو ظاهر كشف اللثام و غير واحد ممن لم يتعرض له في أحكام الجنب و اقتصر علي مس الكتاب- كمن سبق- أو علي إضافة اسم اللّه تعالي إليه، كما في المقنعة و النهاية و المراسم و الشرائع، و قد يظهر من الروض التوقف في دليله.

بل في صلوح التعظيم لإثبات الكراهة إشكال، و إن رجحه في المعتبر و المنتهي و التحرير و ظاهر كشف اللثام.

هذا، و في مفتاح الكرامة: «و كذا اسم الزهراء عليها الصلاة و السلام، لأنها كالأنبياء و الأئمة عليهم السّلام و قد صرح بذلك بعض الأصحاب كصاحب الروض».

و ما ذكره هو المناسب للاستدلال بالتعظيم، لكن لم أجده في الروض.

ثمَّ إنه قيد الحكم في الروضة بما إذا قصد بالاسم أحدهم عليهم السّلام.

و في الجواهر: أنه الأولي، فلا يجري بالنسبة لأسماء الناس و إن قصد بها التشرف.

مع احتمال التعميم- كما يقتضيه إطلاق الباقين- و جعله كاسم اللّه. انتهي.

لكن التعميم بعيد جدا.

و الظاهر قصور إطلاقهم عنه، لظهور الإضافة في الاختصاص، و لا مصحح له

ص: 397

الخامس اللبث في المساجد

الخامس: اللبث في المساجد، بل مطلق الدخول فيها (1)،

______________________________

مع الاشتراك إلا بالقصد. و كذا الحال في اسم اللّه.

و أما لفظ الجلالة، فلا اشتراك فيه، لعدم بناء أحد علي التسمية به، بل لا يبعد بناؤهم علي حرمته.

نعم، قد يجري ذلك في الأسماء المضافة له، كعبد اللّه، علي ما سبق الكلام في غايات الوضوء، و لو تمَّ قد يتجه البناء عليه فيما يضاف لأسمائهم عليهم السّلام.

(1) اختلفت عباراتهم في بيان موضوع الحكم، حيث عبر عنه.

تارة: بالإتيان، كما في المقنع.

و اخري: بالقرب، كما في المقنعة.

و ثالثة: باللبث، كما في الخلاف و التحرير و اللمعة و مبحث أحكام الجنب من المنتهي و الإرشاد و المسالك، و عن نهاية الاحكام و الألفية و الكفاية و غيرها.

و رابعة: بالاستيطان، كما في التذكرة و المختلف و عن المهذب البارع و المقتصر و شرح الموجز.

و خامسة: بالجلوس، كما في مبحث أحكام الجنب من الشرائع و القواعد، و عن السرائر.

و سادسة: بالدخول، كما في الفقيه و الهداية و المبسوط و النهاية و الغنية و الوسيلة و إشارة السبق و النافع و المعتبر و مبحث ما يجب له الغسل من الشرائع و القواعد و الإرشاد و المنتهي و المسالك و عن غيرها.

و الظاهر رجوع الكل لأمر واحد، كما يناسبه عدم تنبيه كثير منهم علي الفرق بين العناوين المذكورة، و ظهور حال من نبه له في المفروغية عن الاتفاق في الفتوي و أنّ القصور في التعبير لا غير، و اختلاف التعبير من الشخص الواحد، و في الكتاب الواحد، و استدلالهم بما لا يتضمن عبارة الفتوي، و غير ذلك مما يظهر بسبر كلماتهم، و ملاحظة المناسبات الارتكازية الصالحة للقرينية عليها.

ص: 398

______________________________

كما أن المحرم عندهم هو مطلق الكون- عدا ما استثني- بالمعني الاسم المصدري و إن لم يصدق معه شي ء من العناوين المذكورة [1]، كما لو أوقف المكان الذي يمشي فيه الجنب مسجدا، فيجب عليه المبادرة بالخروج منه، كما يجب لو لم يكن الدخول محرما لاضطرار أو إجبار أو إكراه، كما أنه لو كان محرما كان عدم المبادرة بالخروج موجبا لزيادة الإثم.

و هو الظاهر من جامع المقاصد، حيث عبر باللبث ثمَّ ألحق به التردد و قال:

«لأن الجواز مقصور علي الاجتياز» و نحوه ما في المسالك و عن المقتصر لابن فهد، و هو المناسب لما يظهر منهم من احتياج المستثنيات للدليل.

و كيف كان، فأصل الحكم هو المعروف بين الأصحاب، و قد تكرر نقل الشهرة عليه في كلماتهم، بل في الخلاف و الغنية و مبحث ما يجب له الغسل من الروض دعوي الإجماع عليه، لكن في مبحث أحكام الجنب منه نقل الخلاف عن سلّار، كما نقله عنه غير واحد، و هو المطابق لما في المراسم من عدّه من التروك المندوبة، و في المنتهي و عن كشف الرموز أنه لا يعرف الخلاف عن غيره، بل استظهر في الحدائق انحصار الخلاف به.

و يشهد للمشهور قوله تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ. وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا. «2»، فإنّ صدره و إن كان ظاهرا في إرادة القرب من نفس الصلاة و إخلال الكسر بها بالنحو الموجب لعدم تمييز ما يقال فيها، إلا أنّ الاستثناء في ذيله يناسب إرادة مكانها، و هو المسجد.

و من ثمَّ، لا يبعد التفكيك فيها بين السكر و الجنابة بجعل الأول مانعا من الصلاة وضعا، و الثاني من الكون في المسجد تكليفا، نظير الاستخدام.

______________________________

[1] لا يبعد مطابقة الكون في المسجد بالمعني الاسم المصدري للّبث لغة، إلا أنّ ظهور كلمات بعضهم في مباينة الاجتياز له و عدم كونه من أفراده موجب لظهور إرادتهم منه الاستقرار، كما هو الظاهر مما يأتي من جامع المقاصد. (منه عفي عنه).

______________________________

(2) سورة النساء: 43.

ص: 399

______________________________

أو يحملان معا علي المانعية من الصلاة وضعا، و يحمل الاستثناء علي التوسع بتقدير مستثني منه مناسب له، فكأنه قيل: لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ- وَ لٰا جُنُباً، بل لا تقربوا مكانها جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ، نظير الاستثناء المنقطع.

و لعل الثاني أقرب للمرتكزات الاستعمالية، و الأول أقرب بالنظر للنصوص الواردة في تفسير الآية المتضمن بعضها النهي عن السكر في الصلاة، و بعضها النهي عن دخول المسجد للجنب إلا اجتيازا.

فمن الأولي، صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: و لا تقم إلي الصلاة متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا، فإنّها من خلال النفاق، فإنّ اللّه سبحانه نهي المؤمنين أن يقوموا إلي الصلاة و هم سكاري، يعني: سكر النوم.» «1».

و صحيح زيد الشحام أو موثقه: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قول اللّه عز و جل لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ، قال: سكر النوم» «2» و غيرهما «3».

و من الثانية، صحيح زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلنا له: الحائض و الجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال: الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين، إنّ اللّه تبارك و تعالي يقول وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا. «4».

و نحوه مراسيل القمي في تفسيره عن الصادق عليه السّلام «5»، و العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «6» و الطبرسي في مجمع البيان عنه عليه السّلام «7».

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب أفعال الصلاة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 3.

(3) تفسير العياشي في تفسير الآية ج: 1 ص: 242.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(5) تفسير علي بن إبراهيم القمي ج: 1 ص: 139 طبع النجف الأشرف، و أشار إليه في الوسائل في ذيل صحيح زرارة و محمد بن مسلم.

(6) تفسير العياشي في تفسير الآية ج: 1 ص: 243.

(7) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 20.

ص: 400

______________________________

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في الاستدلال بالآية في المقام و لو بضميمة تفسيرها في النصوص المذكورة.

مضافا للنصوص الكثيرة الواردة في المقام الناهية عن الجلوس في المساجد و القعود فيها و إتيانها، و قد عقد لها في الوسائل الباب الخامس عشر من أبواب الجنابة.

و منه يظهر ضعف ما تقدم من المراسم من جعله من التروك المندوبة، فإنّه خروج عن ظاهر ما تقدم، و لا سيما مع استثناء الاجتياز فيها، فإنّه مكروه، لما تضمن النهي عن اتخاذ المساجد طرقا «1».

و لا ينافيه التعبير عنه بالكراهة و لا سياقه في جملة من المكروهات في غير واحد من النصوص «2»، بل في الآية، بناء علي تفسير السكر بما يعم النعاس، كما هو ظاهر صحيح زرارة السابق، لعدم صلوح ذلك للخروج عن ظاهر ما تقدم بعد مألوفية حمل الكراهة علي ما يعم الحرمة، و التفكيك بين فقرات الكلام الواحد في الحرمة و الكراهة.

و ربما يحمل الإتيان في النصوص المذكورة علي الاجتياز، فلاحظ.

و أشكل من ذلك الاستدلال له بما في حديث محمد بن القاسم: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الجنب ينام في المسجد؟ فقال: يتوضأ و لا بأس أن ينام في المسجد و يمر فيه» «3».

لأن التنبيه فيه بعد الحكم بجواز النوم علي جواز المرور المستثني في الآية و النصوص من عموم الحرمة، ظاهر في حرمة ما عداهما علي الجنب، لظهوره في المفروغية عن منافاة الجنابة للكون في المسجد، و أنّ الغرض بيان المستثنيات منه، فلا يصلح شاهدا لما في المراسم، بل هو علي خلافه أدل.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 67 من أبواب أحكام المساجد.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 7، 8، 9، 15، 16.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 18.

ص: 401

______________________________

و يأتي الكلام فيه عند الكلام في المستثنيات إن شاء اللّه تعالي.

علي أن كثرة الابتلاء بالحكم مانع عادة من خفائه علي الأصحاب من القدماء و المتأخرين الذين يظهر منهم التسالم علي الحرمة.

هذا، و نصوص المقام قد تضمنت النهي عن الجلوس و القعود، كما تضمنت جواز المشي و المرور و الاجتياز.

ففي معتبرة جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: للجنب أن يمشي في المساجد كلها و لا يجلس فيها إلا المسجد الحرام و مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله» «1».

و في صحيحه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يجلس في المساجد؟ قال:

لا و لكن يمر فيها كلها إلا المسجد الحرام و مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله» «2».

و نحوه صحيح محمد بن حمران عنه عليه السّلام «3»، و غيره مما تضمن النهي عن الجلوس و تحليل المرور.

و في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام أنه قال في الحائض و الجنب:

«و يدخلان المسجد مجتازين و لا يقعدان فيه، و لا يقربان المسجدين الحرمين» «4».

و الظاهر أنّ المراد بالاجتياز هو اجتياز نفس المسجد باختراقه و جعله طريقا، لأن ذلك هو المنصرف منه، دون الاجتياز فيه بالمرور من مكان منه إلي مكان آخر منه، فهو إشارة لعبور السبيل الذي تضمنته الآية الشريفة، و التي استدل بها عليه في صحيح زرارة و محمد بن مسلم المتقدم، كما أنّ ذلك هو ظاهر المرور في النصوص أيضا، لانصرافه منه، و ظهور كون المراد منها الإشارة للاجتياز و عبور السبيل الذي تضمنته الآية و بقية النصوص.

و حينئذ فالنصوص لما تضمنت النهي عن الجلوس و القعود و تحليل

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 17.

ص: 402

______________________________

الاجتياز و المرور، فالظاهر عدم خصوصية الجلوس و القعود في الحرمة، و عمومها لكل ما لا يكون مرورا و اجتيازا، لأنه المناسب للتعظيم الذي هو منشأ التحريم ارتكازا، في مقابل الاجتياز الذي تخفّ فيه جهة المنافاة للتعظيم من حيثية الجنابة، لابتناء الكون في المسجد معه علي نحو من العرضية غير المخلة به، فإلغاء خصوصية الجلوس و القعود في التحريم أقرب ارتكازا من إلغاء خصوصية الاجتياز في التحليل.

و لا سيما بملاحظة صحيحي جميل و محمد بن حمران المتقدمين، فإنّ استدراك المرور فيهما بعد النهي عن الجلوس ظاهر في اختصاص التحليل به، لأنه إنما يحسن مع عموم المستدرك منه، المبتني علي إلغاء خصوصية الجلوس في التحريم، نظير الاستثناء المنقطع.

هذا، مضافا إلي صحيح زرارة و محمد بن مسلم المتقدم المتضمن النهي عن دخول المسجد إلا اجتيازا، و الاستدلال بالآية الناهية عن قربه إلا بنحو العبور، لقوة ظهور الاستثناء في عموم الحرمة لكل ما لا يكون عبورا و لا اجتيازا.

و منه يظهر لزوم رفع اليد عن إطلاق جواز المشي في معتبرة جميل المتقدمة، تقييدا له بما سبق، أو جعل ما سبق قرينة علي الكناية بالمشي عن الاجتياز، فإنّه أهون من رفع اليد عن ظهور ما سبق في انحصار الجواز بالاجتياز.

و يأتي في فروع مسألة وجوب التيمم علي المحتلم في أحد المسجدين ما له نفع في المقام.

ثمَّ إنّ المناسبات الارتكازية تقضي بحمل القرب و الدخول المنهي عنهما في الآية و النصوص علي القرب و الدخول بالمعني الاسم المصدري، لا بالمعني المصدري، لأنه المنافي للتعظيم، و المناسب لاستثناء الاجتياز، لأنه من أفراده، و لو أريد منهما المعني المصدري لكان مرجع استثنائه إلي استثناء حال الأول إليه أو قصده، و كلاهما خلاف الظاهر.

كما أنه مقتضي الجمع بين النهي عنهما و النهي عن الجلوس في المسجد،

ص: 403

و إن كان لوضع شي ء فيها (1).

نعم، يجوز الدخول لأخذ شي ء منها (2)،

______________________________

لوضوح أنّ الجلوس من القرب و الدخول بالمعني الاسم المصدري، و هو أولي من حملهما علي المعني المصدري و الالتزام بكون الجلوس محرما آخر مترتبا عليهما، أو بكون مرجع حرمته إلي حرمة مقدمته و هو الدخول و القرب بالمعني المصدري.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل، بعد النظر في مجموع أدلة المسألة، فيما ذكرنا من عموم موضوع التحريم لمطلق الكون في المسجد من دون خصوصية للعناوين المذكورة في بعض النصوص و كلمات الأصحاب، و لذلك سبق حمل كلماتهم عليه.

(1) فقد صرح الأصحاب بتحريم وضع شي ء في المسجد علي الجنب، و ادعيت الشهرة عليه من غير واحد، بل في الغنية و عن ظاهر كشف الرموز الإجماع عليه، و عن التنقيح أنه لا يعرف الخلاف فيه من غير سلار، بل نفاه عن غيره صريحا في المنتهي و المدارك و الحدائق، مشيرين بذلك إلي ما في المراسم من جعله من التروك المندوبة.

فإن كان محل كلامهم الدخول في المسجد لوضع شي ء فيه من دون اجتياز كان مما نحن فيه، و إن كان محل كلامهم وضع الشي ء و لو بدون الدخول كان تحريم الدخول للوضع مستفادا من عدم استثنائهم له من عموم حرمة الدخول.

و منه يظهر الوجه في الحكم المذكور، لأن ذلك جار في النصوص الناهية عن وضع شي ء في المسجد، التي يأتي الكلام فيها إن شاء اللّه تعالي، فيستفاد التحريم منها، أو من عموم حرمة الدخول، الذي سبق الدليل عليه.

(2) صرح جملة من الأصحاب بجواز أخذ الشي ء من المسجد للجنب، و في الجواهر: «بلا خلاف أعرفه فيه»، بل ادعي في الرياض و المستند الإجماع عليه، و هو غير بعيد بعد شيوع الفتوي منهم بحرمة وضع شي ء في المسجد، مع اتحاد دليلهما،

ص: 404

______________________________

و لعل عدم ذكر جماعة له- كما يأتي- لأنهم بصدد بيان ما يحرم علي الجنب، دون ما يحل له.

و كيف كان، فظاهر المعتبر جواز الأخذ من المسجد و إن استلزم المكث، كما هو مقتضي استثنائه له مع الاجتياز من تحريم الدخول، و مثله المهذب، لأن عبارته- كما قيل- كالصريحة في استثناء المسجدين الشريفين من جواز الأخذ، مع وضوح انحصار دليل استثنائهما بما دل علي حرمة قربهما، بل يظهر ذلك من المنتهي أيضا، لمقابلته له بتحريم الوضع، و ظاهره إرادة الوضع المستلزم للبث، لاستدلاله عليه بعموم الآية، كما يظهر من كل من يظهر منه أنّ تحريم الوضع بلحاظ استلزامه اللبث، علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي، و كذا من الصدوق في الفقيه و المقنع و الهداية، لتعليله الفرق بين الأخذ من المسجد و الوضع فيه بما تضمنه النص الآتي الظاهر في ذلك.

بل حيث كان مستند الحكم هو النص المذكور و غيره فقد يستظهر ذلك ممن أطلق جواز الأخذ، كما في النهاية و التذكرة و التحرير و الدروس و الذكري.

و لعله لذا ذكر في الجواهر أنّ ظاهر النص و الفتوي جواز الأخذ و إن استلزم اللبث.

لكن في الحدائق أنّ ظاهرهما جواز الأخذ بنفسه لا بنحو يجوز لأجله اللبث، و كأنه للجمود علي عنوان الأخذ فيهما، إلا أنه يجب الخروج عنه بما تقدم.

نعم، عدم جواز اللبث للأخذ هو الظاهر من كل من أطلق حرمة اللبث في المسجد و لم يتعرض لجواز الأخذ منه، سواء لم يتعرض لحرمة الوضع أيضا- كما في المقنعة و الخلاف- أم تعرض لها فقط- كما في المبسوط و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و الشرائع و النافع و المختلف و القواعد و الإرشاد و اللمعة و جامع المقاصد و المسالك و الروض و غيرها- إذ لو كان جواز الأخذ عندهم يشمل ما لو استلزم اللبث لاحتاج للاستثناء من عموم حرمة اللبث.

بل قد يظهر ذلك أيضا ممن تعرض لجواز الأخذ و حرمة الوضع معا، لكن بنحو يظهر منه كون الوضع محرما مستقلا في مقابل اللبث- كما في الروضة

ص: 405

______________________________

و المستند- فإنّ مقتضي المقابلة بينهما كون الأخذ مباحا في نفسه أيضا لا بلحاظ مقارنته للبث.

و من ثمَّ كان عدم جواز اللبث للأخذ ظاهر أكثر ما اطلعنا عليه من كلماتهم، و إن كان التأمل فيها قد يشهد باضطراب بعضها و عدم توجه أصحابها لهذه الجهة، كي يوضحوا نظرهم فيها.

أما الدليل علي الحكم، فهو صحيح عبد اللّه بن سنان: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب و الحائض، يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟ قال: نعم و لكن لا يضعان في المسجد شيئا» «1».

و ما في ذيل صحيح زرارة و محمد بن مسلم المتقدم المتضمن للاستدلال بالآية من قوله عليه السّلام: «و يأخذان من المسجد و لا يضعان فيه شيئا. قال زرارة: قلت له:

فما بالهما يأخذان منه و لا يضعان فيه؟ قال: لأنهما لا يقدران علي أخذ ما فيه إلا منه، و يقدران علي وضع ما بيدهما في غيره» «2».

و مقتضي الجمود عليها و إن كان هو جواز الأخذ في مقابل الوضع مع قطع النظر عن اللبث، إلا أنّ المنصرف في السؤال في الصحيح الأول هو السؤال بلحاظ استلزام الأخذ الدخول في المسجد المعلوم حرمته ذاتا، فيكون منشؤه احتمال كون الحاجة للأخذ نوعا مسوغة له، كما هو المناسب للاستدراك بالنهي عن الوضع فيه، لدفع توهم مشاركته له في الحلية بسبب مشاركته له في الحاجة النوعية، و إلا فلا منشأ ارتكازي لاحتمال حرمة الأخذ من المسجد علي الجنب، لتكون منشأ للسؤال، و لو فرض له منشأ تعبدي، لتوهم ورود النهي عنه شرعا اختص به و لا يجري في الوضع، ليحتاج للاستدراك بالمنع عنه، فتأمل.

كما أنّ ذلك هو المناسب لسوقه في الصحيح الثاني بعد بيان حرمة الدخول، و لتعليله فيه الفرق بين الأخذ و الوضع، الراجع لوجود العذر المسوغ للأخذ دون

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 406

______________________________

الوضع، إذ هو إنما يحسن مع المفروغية عن وجود المقتضي للمنع فيهما معا، و لا منشأ له ارتكازي إلا حرمة الدخول غير الاجتيازي الذي تضمنه صدره.

مضافا إلي أنّ حمل إطلاق الجواز علي خصوص الأخذ غير المستلزم للبث بعيد جدا، لانحصاره بما لا يستلزم الكون في المسجد أصلا، لكون المأخوذ في باب المسجد مثلا، و ما يكون حال الاجتياز، و الأول نادر جدا، و الثاني محتاج لعناية مغفول عنها، لابتناء الاجتياز بطبعه علي قصد الاستطراق و إغفال غيره.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الصحيحين في جواز اللبث المستلزم للأخذ و لو تبعا.

نعم، في مرسل علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام أنه قال بعد تحريم الدخول للمسجد علي الجنب و الحائض إلا مجتازين و الاستدلال عليه بالآية:

«و يضعان فيه الشي ء و لا يأخذان منه، قلت: فما بالهما يضعان فيه و لا يأخذان منه؟

فقال: لأنهما يقدران علي وضع الشي ء فيه من غير دخول، و لا يقدران علي أخذ ما فيه حتي يدخلا» «1».

و ظاهره حرمة الأخذ المستلزم للدخول.

لكن لا مجال للتعويل عليه بعد ضعفه، و ظهور إهمال الأصحاب له، لعدم إشارتهم لمضمونه، بل مبناهم في التفصيل علي خلافه، و مع مخالفته للصحيحين في كيفية التفصيل، بل لا يبعد كونه تصحيفا لصحيح زرارة و محمد بن مسلم المتقدم، فلاحظه.

هذا و مقتضي إطلاق الصحيحين جواز الدخول للأخذ المكث و الاستقرار، لثقل الشي ء المأخوذ أو نحوه.

نعم، لو لزم المكث المعتد به في مقدمات الأخذ من دون أن يقتضيه الأخذ نفسه، كفتح الصندوق و الاستقاء من بئر المسجد و نحوهما أشكل جوازه، لخروجه عن المتيقن من الصحيحين.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الجنابة حديث: 3. تفسير علي بن إبراهيم القمي ج: 1 ص: 139.

ص: 407

و الاجتياز فيها (1)

______________________________

ثمَّ إنّ مقتضي إطلاق النص و الفتوي عدم الفرق فيما يأخذه الجنب من المسجد بين كونه مالا له و غيره.

لكن اقتصر في التحرير علي أخذ ماله.

و لعله لدعوي ظهور المتاع في صحيح عبد اللّه بن سنان في ذلك.

أو للبناء علي كون الحكم المذكور مستثني من حرمة الدخول بملاك الحاجة، كما يناسبه التعليل في صحيح زرارة و محمد بن مسلم، و الإنسان إنما يحتاج لأخذ ماله لحفظه.

و يندفع الأول- مضافا إلي عدم انحصار الدليل بالصحيح المذكور- بعدم اختصاص المتاع بالمملوك، بل هو مطلق ما ينتفع به، فحمله علي المملوك موقوف علي جعل اللام بدلا عن الإضافة، نظير: زيد حسن الوجه، لا للجنس، و هو خلاف الأصل.

كما يندفع الثاني بأنّ الحاجة لا تختص بالمملوك، و لا سيما مع ظهور التعليل في الحكمة، المناسب لإرادة الحاجة النوعية.

نعم، قد يدعي انصراف الصحيحين إلي ما إذا تعلق الغرض بالأخذ فاحتيج للدخول مقدمة له، دون ما إذا تعلق الغرض بالدخول و قصد الأخذ لتسويغه، فليس الأخذ رافعا لحرمة الدخول، بل حرمة الدخول لا تمنع من الأخذ و ترتفع لأجله، فتأمل.

(1) الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم- كما في الجواهر- بل هو داخل في معقد إجماع الخلاف و الغنية، فإنهم بين من صرح بحرمة المكث في المساجد و الاجتياز بالمسجدين، و من صرح بحرمة الدخول أو القرب من المساجد مع استثناء الاجتياز.

نعم، أطلق في المقنع النهي عن إتيان الجنب للمسجد، كما أطلق غير واحد في بيان وجوب الغسل وجوبه لدخول المساجد.

ص: 408

بالدخول من باب و الخروج من آخر (1)،

______________________________

لكن لا يبعد انصراف كلام المقنع لصورة المكث، لأنه لم يذكر ذلك في أحكام الجنب، بل في باب دخول المسجد، و الظاهر منه إرادة الدخول المستحب ذي الآداب الخاصة.

كما أنّ الظاهر أنّ إطلاقهم في باب ما يجب له الغسل للإشارة إلي موضوع الوجوب في الجملة مع إيكال التفصيل إلي محله.

و كيف كان، فيقتضيه الاستثناء في الآية الشريفة و في بعض النصوص و التصريح بجواز المرور و الاجتياز و المشي في كثير منها «1»، و قد تقدم بعضها.

و لا بد معه من تقييد إطلاق كراهة إتيان المساجد جنبا في غير واحد من النصوص «2» بذلك لو حملت الكراهة فيها علي الحرمة، أما لو حملت علي ما يعم الكراهة المصطلحة- كما يناسبه سياقها في عداد المكروهات- فلا تنافي ذلك.

و أما صحيح أبي حمزة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم و لا يمر في المسجد إلا متيمما، و لا بأس أن يمر في سائر المساجد، و لا يجلس في شي ء من المساجد» «3».

فلا مجال لحمل المسجد في قوله: «و لا يمر في المسجد» علي الجنس، لعدم مناسبته لذيله و لبقية النصوص، بل يحمل علي العهد للمسجد الذي نام فيه من المسجدين الشريفين.

(1) حيث تقدم رجوع العناوين المذكورة في النصوص من المشي و المرور و الاجتياز إلي عبور السبيل الذي تضمنته الآية الشريفة، فالظاهر توقفه مع تعدد

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 7، 9، 15، 16.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 409

______________________________

الباب علي اختلاف طريقي البابين، لعدم صدق السبيل و الطريق مع شروع البابين في طريق واحد يطرق من دون دخول للمسجد، كما اعترف به قدّس سرّه في مستمكه.

و الظاهر أنه لا بد فيه من عدم التردد في جوانب المسجد بالنحو الذي لا يقتضيه العبور، بل يقتصر علي ما يقتضيه عرفا، و إن لم يجب التدقيق في تقصير المسافة.

و الظاهر أن ذكر الباب لمحض المثال، إذ لا إشكال في صدق العبور مع انكشاف المسجد و عدم تسويره.

بل الظاهر صدقه مع وحدة الباب لو امتنع الاستطراق من دون دخول فيها لقطع الطريق بتراب و نحوه، بحيث انحرف الطريق و مرّ في المسجد.

و بالجملة: المدار علي صدق الاستطراق و عبور السبيل، و إن كان تحديده قد يخفي للغفلة عن بعض الخصوصيات المعتبرة فيه.

هذا، و في الفقيه- بعد أن ذكر أن الجنب و الحائض لا يدخلان المسجد إلا مجتازين- قال: «و لا بأس بأن يختضب الجنب. و ينام في المسجد و يمر فيه، و يجنب أول الليل و ينام.»، و قريب منه في المقنع، و ظاهره استثناء النوم في المسجد كالمرور.

و كأن الوجه فيه حديث محمد بن القاسم «1» المتقدم في الاستدلال لسلار، حيث حكم بكراهة اللبث في المسجد للجنب، فقد سبق ظهوره في استثناء النوم كالمرور.

و لعل عدم ذكر الصدوق للوضوء مع ذكره في الحديث، لحمله علي الاستحباب، و لو بقرينة ذكر المرور الذي لا يعتبر فيه الوضوء قطعا.

لكن لما كان الترخيص في النوم مستلزما لتأثير الداعي له، فهو يدل علي جواز المكث السابق علي النوم لمريده، لتوقفه عليه عادة، بل يدل علي جواز اللاحق له في الجملة، لعدم تعارف المبادرة بالخروج بمجرد الانتباه فلو وجبت لاحتاجت للتنبيه،

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 18.

ص: 410

إلا في المسجدين الشريفين: المسجد الحرام، و مسجد النبي صلّي اللّه عليه و آله (1).

______________________________

بل يلزم عدم الإثم في الدخول لإرادة النوم، و إن لم يتيسر له بعد ذلك لأرق و نحوه.

و تخصيص دليل المنع عن المكث في المسجد في جميع ذلك بالحديث المذكور صعب جدا، و لعله لذا أهمله الأصحاب، بنحو يظهر منهم الإعراض عنه بالنحو المسقط له عن الحجية، قال في المعتبر: «لكن الرواية متروكة بين الأصحاب، لأنها منافية لظاهر التنزيل».

و ربما حمل علي النوم حال عدم الجنابة الذي يحتمل عروضها فيه بالاحتلام، و يراد بالمرور المرور بعد الاحتلام، لكنه بعيد.

و لعل الأقرب حمله علي السؤال عما ينبغي للجنب إذا أراد النوم في المسجد، بعد المفروغية عن جوازه له، لضرورة و نحوها، لا عن حكم النوم.

و أما حمله علي التقية، لموافقته لما عن أحمد و إسحاق من أن الجنب إذا توضأ جاز له أن يقيم في المسجد كيف شاء، كما ذكره غير واحد.

فيشكل: بما أشرنا إليه عند الاستدلال به لسلار، من ظهوره في استثناء النوم و المرور من عموم الحرمة، فهو علي خلافهما أدل. فلاحظ.

(1) فلا يجوز الاجتياز فيهما علي المعروف من مذهب الأصحاب المصرح به في كلام كثير منهم، بل في المعتبر و الغنية و المدارك و عن التذكرة الإجماع عليه.

و تقتضيه النصوص الكثيرة المتضمنة لاختصاص المسجدين الشريفين بالنهي عن المرور و الاجتياز و المشي.

و بها يخرج عن عموم الآية و صحيح زرارة و محمد بن مسلم المتضمنين استثناء العبور و الاجتياز من عموم الحرمة.

لكن أطلق في المراسم كراهة دخول المسجد إلا اجتيازا، كما أطلق في الفقيه و الهداية و المقنعة و الخلاف حرمة ذلك إلا اجتيازا من دون استثناء للمسجدين، بل هو الظاهر من التهذيب لإقراره إطلاق استثناء الاجتياز في المقنعة و استدلاله له.

ص: 411

______________________________

و هو المحكي عن الصدوق الأول و الشيخ في الجمل و الاقتصاد و المصباح و مختصره، و الكيدري، بل هو مقتضي إطلاق معقد إجماع الخلاف.

و في كشف اللثام أنّ ظاهر عبارة المبسوط الكراهة، و ذلك لأنه بعد أن ذكر المحرمات علي الجنب، و منها دخول المساجد إلا عابر سبيل، قال: «و المكروهات:

الأكل و الشرب إلا بعد المضمضة و الاستنشاق، و النوم إلا بعد الوضوء، و الخضاب.

و المسجد الحرام و مسجد النبي صلّي اللّه عليه و آله لا يدخلهما علي حال، و إن كان في واحد منهما فأصابه احتلام خرج منهما بعد أن يتيمم من موضعه. و يكره من مس المصحف غير الكتابة.».

و من هنا نسب القول بالحرمة في كشف اللثام للمعظم، و لم يدّع الإجماع عليها.

نعم، في الجواهر احتمل كون الإجماعات المنقولة علي الحرمة ممن تقدم قرينة علي عدم الخلاف ممن سبق و عدم إرادتهم الإطلاق.

و ما في المبسوط قد يظهر منه الحرمة، بلحاظ تخصيصه بالنهي و عدم عطفه علي المكروهات.

و لا يخلو ما ذكره عن إشكال، إذ لا طريق لمعرفة آرائهم إلا ظهور كلامهم، الذي منه الإطلاق في مقام البيان.

و لعل دعوي الإجماع ممن عرفت مبنية علي تخيل عملهم بظاهر النصوص التي هي المستند لهم فيما صرحوا به من تحريم المكث في المساجد.

و لا سيما مع مطابقته لارتكاز أهمية المسجدين الشريفين، مع الغفلة عن احتمال حملهم تخصيص المسجدين في النصوص علي الكراهة تحكيما لإطلاق الآية الشريفة، و لو لاستبعاد حملها علي غير المسجدين الشريفين، مع كون مسجد النبي صلّي اللّه عليه و آله هو الفرد الظاهر الذي يكثر الابتلاء به في وقت نزولها.

كما أنّ حمل كلام المبسوط علي التحريم يشكل، بلحاظ منافاته للسياق.

نعم، كلامه في النهاية ظاهر في الحرمة جدا، لذكره نظير عبارة المبسوط

ص: 412

______________________________

مستثني من عموم جواز الاجتياز، و هو المناسب لما في الفقيه و الهداية من الأمر للمحتلم فيهما بالتيمم للخروج.

و كيف كان، فلا مجال للخروج عن ظاهر النصوص بعد عدم ظهور الإعراض الموهن لها، لعمل الشيخ بها- و لو في بعض كتبه- و متابعة من تأخر عنه له، و إمكان تحكيمها علي الآية، إما لكشفها عن نسخ إطلاقها في المسجدين، أو عن احتفافها بقرائن حالية أو مقالية تقضي باستثنائهما، و لو كانت هي ظهور اهتمامه صلّي اللّه عليه و آله بمسجده و نهيه عن إتيان الجنب له، حتي أخرج منه أصحابه و أقر فيه أهل بيته الطاهرين عليهم السّلام.

ففي صحيح أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ اللّه أوحي إلي نبيه أن طهر مسجدك، و أخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل، و مر بسدّ الأبواب من كان له في مسجدك باب، إلا باب علي عليه السّلام و مسكن فاطمة عليها السّلام و لا يمرن فيه جنب» «1»، فلاحظ.

و أما الدخول لأخذ شي ء من المسجدين، فمن قال بعدم جوازه في سائر المساجد، و أنّ الجائز هو الأخذ بنفسه فعدم جوازه عنده فيهما أولي، كما أنه الظاهر ممن عبر بعدم الدخول فيهما علي حال، كما في النهاية و المبسوط- بناء علي حمله فيه علي الحرمة- و الغنية و محكي السرائر و الموجز لابن فهد، بل في الجواهر أنّ عبارة ابن البراج في المهذب كالصريحة في عدم جواز الدخول للأخذ.

و أما من يظهر منه جوازه في سائر المساجد ممن سبق، فهم بين من يظهر منه مشاركته للاجتياز في استثناء المسجدين منه، كالمحقق في المعتبر بل هو كالصريح منه- و من يظهر منه مشاركته له في عدم استثنائهما كالصدوق، و من يتدافع الإطلاقان في كلامه، كالعلامة في المنتهي، حيث أطلق عدم جواز الدخول للمسجدين، و أطلق جواز الأخذ من المساجد.

لكن في الجواهر أنّ استثناءهم المسجدين من جواز الاجتياز الذي لا إشكال

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 413

و يجوز وضع شي ء فيها في حال الاجتياز (1)،

______________________________

في حليته يفيد استثناءهما من جواز الدخول للأخذ بالأولوية.

و كيف كان، فمقتضي إطلاق جواز الأخذ و إن كان هو جوازه فيهما، إلا أنه معارض بإطلاق ما تضمن النهي عن قرب المسجدين الشريفين، كصحيح محمد ابن مسلم المتقدم، و غيره مما تضمن النهي عن المرور فيهما و المشي و غير ذلك من العناوين، لقوة ظهورها بمجموعها في خصوصيتهما بتحريم مطلق الكون فيهما حال الجنابة لا خصوص عبور السبيل، فيكون مقدما علي إطلاق جواز الأخذ، كما يناسبه ما تضمن وجوب التيمم للخروج منهما علي من احتلم فيهما، مع وضوح عدم كونه عابر سبيل، و أنّ اضطراره للمرور أولي بتجويزه حال الجنابة من الأخذ الذي يظهر من صحيح زرارة و محمد بن مسلم كون جوازه بملاك الحاجة النوعية.

و لو فرض تكافؤ الإطلاقين كان الترجيح للثاني، لموافقته لعموم الكتاب المجيد، القاضي بعدم جواز قرب المسجد لغير عابر السبيل، فلاحظ.

(1) فإنه و إن تقدم دعوي الاتفاق ممن عدا سلار علي حرمة وضع شي ء في المسجد، إلا أنّ ظاهر غير واحد كون حرمته بلحاظ حرمة الدخول المقارن له، كما أنّ جواز الأخذ بلحاظ جواز الدخول المقارن له، علي ما سبق التعرض له عند الكلام في جواز الأخذ، فلا يحرم بنفسه إذا لم يستلزم الدخول المحرم، كما هو صريح ابن فهد، حيث قال في محكي المقتصر: «المراد بالوضع المستلزم للدخول و اللبث، لأن الرخصة في الاجتياز خاصة»، كما أنه الظاهر ممن اقتصر في بيان ما يجب له الغسل علي دخول المساجد.

لكن سبق أنّ ظاهر جماعة جواز الأخذ و حرمة الوضع في نفسهما مع قطع النظر عن الدخول، و مقتضاه حرمة الوضع و إن لم يستلزم اللبث، كما هو المصرح به في جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و المستند و غيرها.

و قد سبق أنه مقتضي الجمود علي عبارة الصحيحين، و أنّ التأمل فيهما قاض

ص: 414

و من خارجها (1).

و الأحوط وجوبا إلحاق المشاهد المشرفة بالمساجد في الأحكام المذكورة (2).

______________________________

بخلافه، و إرادة جواز الدخول للأخذ دون الوضع، فلا يدلان علي حرمة الوضع بنفسه حال الاجتياز أو حال الدخول لأخذ شي ء أو من الخارج، بل مرسل علي بن إبراهيم المتقدم صريح فيه في الجملة، و إن سبق عدم صلوحه للاستدلال.

و منه يظهر اندفاع ما أورده في الروض من أنّ لازمه عدم الفائدة لذكر الوضع، إذ يكفي في الفائدة له بيان عدم الاستثناء من عموم الحرمة لأجله كالأخذ.

و أشكل من ذلك ما في العروة الوثقي من التفكيك بين الأخذ و الوضع، حيث حكم بجواز الدخول للأخذ، و بعدم جواز الوضع مطلقا و لو حال الاجتياز، و لا مجال له مع المقابلة بينهما في دليل واحد.

اللهم إلا أن يكون موضوع التحليل و التحريم بنظره هو الأخذ و الوضع بنفسيهما مع استفادة تحليل الدخول للأخذ من دليل حليته تبعا، لتعذر حمله عرفا علي الأخذ غير المستلزم للدخول و المكث، كما سبق، فراجع.

(1) الكلام فيه هو الكلام في سابقة، إلا أنه في المستند مع تصريحه بحرمة الوضع و لو من غير دخول قال: «و أما الطرح فيه من الخارج فلا بأس به، لعدم ثبوت صدق الوضع عليه، و لو صدق فالشهرة الجابرة فيه غير معلومة»، و هو كما تري، لتدافع كلامه، و لصدق الوضع، و عدم الحاجة للانجبار بالشهرة مع صحة السند و عدم الإعراض الموهن.

(2) كما مال إليه في الحدائق، و قواه في الجواهر، و حكي عن جملة من المتأخرين، منهم الشهيدان، بل عن الذكري أنه حكاه عن المفيد في الغرية و ابن الجنيد، و استحسنه.

لكن لم يشر في الذكري لذلك في أحكام الجنب عند التعرض لحرمة المكث

ص: 415

______________________________

في المسجد، و إنما قال في فروع حكم الحائض و النفساء: «الثاني: يكره الاجتياز في المساجد للجنب و الحائض مع أمن التلويث، للتعظيم. و كذلك السلس و المبطون و المجروح و الصبي المنجس و الدابة التي لا تؤكل. و لو علم التلويث حرم الجميع.

و ألحق المفيد في الغرية المشاهد المشرفة بالمساجد، و هو حسن، لتحقق معني المسجدية فيها و زيادة» «1».

و ظاهره استحسان إلحاق المشاهد بالمساجد في كراهة الاجتياز، و حرمة التلويث بالنجاسة، لأهليتها للتعظيم مثلها، و نقل ذلك عن المفيد، لا مشاركتها لها في جميع أحكامها. و أما الشهيد الثاني فلم أعثر علي تعرضه لذلك في الروض و الروضة و المسالك.

و كيف كان، فقد استدل أو يستدل عليه بمناسبته للتعظيم، و بفحوي ثبوته في المسجد، لثبوت معناه فيها و زيادة، و بالنصوص المتضمنة إنكار الدخول حال الجنابة عليهم عليهم السّلام و أنّ بيوت الأنبياء و أولادهم لا يدخلها جنب، بضميمة أنّ حرمتهم أمواتا كحرمتهم أحياء، بل هم أحياء عند ربهم يرزقون، و التعبير عن مشاهدهم بأنها بيوتهم في بعض الزيارات:

ففي خبر أبي بصير: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا أريد أن يعطيني من دلالة الإمامة مثل ما أعطاني أبو جعفر عليه السّلام فلما دخلت و كنت جنبا فقال: يا أبا محمد ما كان ذلك [لك. ظ] فيما كنت فيه شغل، تدخل علي و أنت جنب! فقلت: ما عملته إلا عمدا. قال: أو لم تؤمن؟ قلت: بلي و لكن ليطمئن قلبي. و قال: يا أبا محمد قم فاغتسل فقمت و اغتسلت. و قلت إنه إمام» «2».

و في خبره الآخر: «دخلت المدينة و كانت معي جويرية لي فأصبت منها، ثمَّ خرجت إلي الحمام، فلقيت أصحابنا الشيعة و هم متوجهون إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام فخفت أن يسبقوني و يفوتني الدخول إليه، فمشيت معهم حتي دخلت

______________________________

(1) الذكري ص: 34.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 416

______________________________

الدار، فلما مثلت بين يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام نظر إلي ثمَّ قال: يا أبا بصير أ ما علمت أنّ بيوت الأنبياء و أولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب؟.» «1».

و نحوهما غيرهما، و في بعضها: أنه قال: «أعوذ باللّه من غضب اللّه و غضبك، استغفر اللّه و لا أعود» «2».

لكن مما تقدم في مس الجنب اسم اللّه تعالي يظهر وهن الاستدلال بمناسبة التعظيم، كوهن الاستدلال عليه بالآية الشريفة.

و تحقق معني المسجدية غير ظاهر، إلا أن يرجع إلي أهلية التعظيم الذي ذكرنا عدم كونه مناطا للحكم في أمثال المقام.

و ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من استفادته مما في بعض الأخبار- و هو مرسل ابن أبي عمير- من أنّ سبب صيرورة بعض البقاع مسجدا أنه قد أصابها شي ء من دم نبي أو وصي نبي، فأحب اللّه أن يعبد في تلك البقعة «3».

كما تري! لرجوع ذلك إلي بيان السبب التكويني للمسجدية لا إلي ملاك تشريع أحكامها، و لذا يجوز للجنب المكث في الأرض التي يعلم بأنها ستوقف مسجدا، كما لا تترتب بقية أحكام المسجد علي المشاهد.

و أما النصوص المذكورة، فهي ببيان الآداب أنسب، و إلا فمن البعيد خفاء هذا الحكم الذي هو مورد الابتلاء في تلك العصور أو تسامح مثل أبي بصير المرادي فيه، و هو من أصحاب الباقر فيفعله مع الصادق عليه السّلام مع ما هو عليه من جلالة الشأن و العلم بالحلال و الحرام.

و دعوي: إقدامه عليه للامتحان شكا في إمامته عليه السّلام، مدفوعة بظهور بعضها في عدم كون الغرض الامتحان، بل الإسراع بالتشرف بخدمة الإمام عليه السّلام، و ظهور ما ورد للامتحان في عدم شكه بإمامته عليه السّلام و إنما طلبه ليطمئن قلبه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 21 من أبواب أحكام المساجد حديث: 1.

ص: 417

______________________________

علي أنه يقصر عن إفادة الحرمة، لورود كلام الإمام عليه السّلام مورد المعجز بالإشارة للحكم المفروغ عنه، لا لبيان الحرمة.

بل ظهور النصوص بمجموعها في تكرر ذلك من أبي بصير لا يناسب الحرمة جدا.

و ليس غضب الإمام عليه السّلام الذي تضمنه بعضها قرينة علي الحرمة، لإمكان غضبه عليه السّلام من مخالفة الأدب معه في المورد المناسب له، و استغفار أبي بصير لعله بلحاظ إغضاب الإمام عليه السّلام أو لمخالفة الأولي.

و ذلك هو المناسب لما يكاد يقطع به من عدم تجنب أولاد الأئمة عليهم السّلام و نسائهم و خدمهم و جواريهم، و نحوهم ممن تكثر مخالطته لهم عن الدخول عليهم حال الجنابة، لما في ذلك من الحرج النوعي و الضيق بنحو لو كان التحريم معه ثابتا لبان و لم يخف علي إنسان، و لو كانوا خارجين تخصيصا لاحتيج لبيان مقدار الخارج و كثر السؤال عنه.

فإنّ هذا يناسب كون الحكم أدبيا يختلف باختلاف الناس و باختلاف الطوارئ و الدواعي المزاحمة له، و لذا أقدم أبو بصير علي مخالفته لأجل تحصيل المعجز تارة، و لئلا يفوته التشرف بخدمة الإمام عليه السّلام أخري.

علي أنّ تنزيل دخول مشاهدهم عليهم السّلام منزلة الدخول في بيوتهم بمجرد أنّ حرمتهم أمواتا كحرمتهم أحياء أو لإطلاق البيوت في بعض الزيارات علي مشاهدهم.

لا يخلو عن إشكال، بل منع، لأن بيت بدن الإمام عليه السّلام هو لحده و قبره، لا المشهد المبني فوقه، كيف و لا إشكال ظاهرا في عدم ترتب بعض أحكام بيوتهم عليها، كوجوب الاستئذان.

مضافا إلي أنه يكفي في وهن الاستدلال بهذه النصوص ضعفها سندا، مع عدم انجبارها بعمل الأصحاب، بل ظهور الإعراض الموهن لها- لو كانت حجة في نفسها- من الأصحاب طبقة بعد طبقة، لعدم ذكرهم هذا الحكم في كتبهم المعروفة

ص: 418

______________________________

المعدة للفتوي، مع كثرة الابتلاء به و شدة الحاجة لبيانه، بل ظاهر من حكي عنه من المتأخرين عدم التعويل عليها، لعدم مطابقتهم لمفادها، كما سيأتي.

بل ذلك وحده كاف في الوثوق بعدم ثبوته و رفع اليد عن النصوص لو كانت ناهضة به في نفسها، و لا سيما بملاحظة حال قبورهم عليهم السّلام في العصور السابقة من الانكشاف و عدم التشييد و التمييز عن غيرها في مثل البقيع، حيث يغفل عن تمييزها في الحكم المذكور، بل يحتاج إلي عناية في مقام العمل، فلو كان البناء عليها لكانت موردا للسؤال و لم تخف علي أحد، فضلا عن أعاظم الأصحاب (رضوان اللّه عنهم).

بقي في المقام أمران.

الأول: أنّ المتيقن من موضوع الحكم هو البيوت المشتملة علي القبور، و هي الروضات المطهرة، دون الأروقة المتصلة بها- كما صرح به بعضهم- لأن ذلك هو المتيقن من وجوه الاستدلال السابقة.

نعم، المناسبة للتعظيم لا تختص بها، لما هو الظاهر من أنّ تجنب الأروقة أنسب بالتعظيم، و أنسب منه تجنب الصحون الشريفة، إلا أنه لا إشكال في عدم وجوب أعلي مراتب التعظيم، كما سبق من بعض من استدل به علي حرمة مس الاسم الشريف.

الثاني: أنّ مقتضي النصوص المتقدمة- التي هي عمدة أدلة المقام- حرمة مطلق الدخول للمشاهد المشرفة، و إن كان بنحو الاجتياز، بمنزلة المسجدين الشريفين، كما اعترف به في الحدائق، و هو خلاف ظاهرهم، و لذا كان ظاهرهم عدم الاعتماد عليها في الحكم المذكور، و لو لحملها علي الحكم الأدبي الذي يمكن البناء عليه حتي في المساجد، كما هو المطابق لما تقدم عن المفيد.

و إلحاقها بسائر المساجد في استثناء الاجتياز أو الدخول لأخذ شي ء منها موقوف علي كون دليل الحكم تنزيلها منزلتها أو فحوي أدلتها، و لا مجال له، كما سبق.

ص: 419

السادس قراءة آية السجدة
اشارة

السادس: قراءة آية السجدة من سور العزائم (1)،

______________________________

(1) الظاهر عدم الإشكال في حرمة قراءة العزائم في الجملة، و قد ادعي الإجماع عليها في الغنية و المعتبر و المنتهي و الروض و محكي الذكري و السرائر و شرح الموجز و أحكام الراوندي و غيرها، و في التذكرة أنّ عليه إجماع أهل البيت عليهم السّلام.

و يقتضيه صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام- في حديث-: «قلت له: الحائض و الجنب، هل يقرءان من القرآن شيئا؟ قال: نعم ما شاءا إلا السجدة، و يذكران اللّه علي كل حال» «1».

و حديث محمد بن مسلم- الذي لا يبعد صحته-: «قال أبو جعفر عليه السّلام: الجنب و الحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب و يقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة» «2».

و في المعتبر: «يجوز للجنب و الحائض أن يقرءا ما شاءا من القرآن إلا سور العزائم الأربع. روي ذلك البزنطي في جامعه عن المثني عن الحسن الصيقل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام» «3».

و في الرضوي: «و لا بأس بذكر اللّه و أنت جنب، إلا العزائم التي تسجد فيها، و هي: الم تنزيل، و حم السجدة، و النجم، و سورة اقرأ باسم ربك» «4».

و دعوي: عدم صراحة الأولين في التحريم، لإمكان كون الاستثناء فيهما من الاستحباب لا من الجواز، كما في المستند.

مدفوعة بكفاية ظهورهما في ذلك، لظهور المستثني منه في أصل الجواز

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الجنابة حديث: 11. و المعتبر ص: 49.

(4) مستدرك الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

ص: 420

______________________________

لبيان عدم مانعية الجنابة و الحيض من قراءة القرآن، لا في خصوص الاستحباب.

و الكلام إنما هو في أنّ موضوع التحريم تمام السورة بنحو الانحلال، فيحرم قراءة بعضها و إن لم يكن آية السجدة، أو بنحو المجموع، فلا يحرم قراءة بعضها و إن كان آية السجدة، أو خصوص آية السجدة، وجوه:

صرح بالأول في الشرائع و القواعد و الإرشاد و المنتهي و التذكرة و الدروس و الروض و الروضة و غيرها.

و هو الظاهر ممن صرح بحرمة قراءة سور العزائم، كما في المقنعة و النهاية و الخلاف و المراسم و المعتبر و غيرها، لقضاء المناسبة الارتكازية بكون حرمة قراءة السورة بنحو الانحلال، لابتنائها علي نحو من الاحترام الذي لا دخل لإتمامها به ارتكازا، و لا سيما مع استثناء بعضهم ذلك من جواز قراءة القرآن التي يراد بها ما يعم قراءة بعضه.

بل ذلك هو الظاهر ممن صرح بحرمة قراءة العزائم أو عزائم السجود، كما في الفقيه و المقنع و الهداية و الانتصار و المبسوط و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و النافع و اللمعة و غيرها، لظهور العزائم في تمام السور لا خصوص آية السجدة منها، كما يظهر من جملة من النصوص «1»، و من كثير من عباراتهم، بل صريح بعضها، و إن كان ظاهر بعض النصوص «2» إرادة نفس آية السجدة.

و من هنا قد تستفاد دعوي الإجماع عليه ممن تقدم منه نقل الإجماع في المقام، لأن معقده في كلماتهم العزائم و سورها.

و لعله لذا ادعي في الروض و محكي الذكري و ظاهر شرح الدروس الإجماع علي حرمة قراءة البعض، و في المدارك- بعد أن استشكل في دلالة النصوص علي تحريم قراءة ما عدا آية السجدة- قال: «إلا أنّ الأصحاب قاطعون بتحريم السور كلها، و نقلوا عليه الإجماع، و لعله الحجة، و علي هذا فيحرم قراءة أجزائها المختصة بها

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 42، 44، 45 من أبواب قراءة القرآن من كتاب الصلاة.

(2) راجع الوسائل باب: 42، 43 من أبواب قراءة القرآن، من كتاب الصلاة.

ص: 421

______________________________

مطلقا و المشتركة بينها و بين غيرها مع النية».

لكن قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «نعم، ظاهر ما عن الفقيه و الهداية و الغنية و الانتصار: - إلا العزائم التي يسجد فيها، و هي: سجدة لقمان و حم السجدة و النجم و سورة اقرأ. انتهي- إرادة السجدة لا غير»، و قريب مما حكاه عن هؤلاء ما في المقنع و محكي الجامع.

و يشكل بأنّ ظاهرهم إرادة السورة من السجدة، لوضوح عدم اشتمال سورة لقمان علي آية السجدة [1]، فلا بد أن تكون إضافة السجدة إليها للمجاورة، الكاشف عن إرادة السورة منها، و لذا عبر بذلك من تصدي لبيان سور العزائم، كما في النهاية و الخلاف و المراسم و التذكرة و الروض و المدارك، بل عن المقنعة: «و هي: سورة سجدة لقمان، و حم السجدة.».

فلا ينبغي التأمل في ظهور كلامهم في إرادة السورة و تأييد الإجماع المدعي به، و يأتي تمام الكلام في ذلك عند الاستدلال بالإجماع.

و أما الوجه الثاني، فلم أعثر علي مصرح به، بل قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «لا أظن أحدا التزم به».

نعم، قال في الجواهر: «لو لا الإجماع المتقدم علي حرمة البعض لأمكن تخصيص التحريم بقراءة السورة خاصة لا البعض، لكون السورة اسما للمجموع، و بقراءة البعض لا يتحقق الصدق، و لا سيما إذا كان المقصود من أول الأمر البعض».

بل جزم في المستند باختصاص النصوص بتمام السورة، و عدم حرمة قراءة بعضها، إلا آية السجدة لدعوي الإجماع علي حرمتها.

و أما الوجه الثالث، فهو المحكي عن بعض المتأخرين، و احتمله في كشف اللثام، بل احتمل غير واحد إرادته من جملة ممن عبر بالعزائم أو عزائم السجود، و لم يصرح بسورها، لكن سبق ظهوره في إرادة السور- كما هو صريح بعضهم- و لذا عبر

______________________________

[1] و أما ما في المطبوع من المنتهي و نسخة من الخلاف من قوله: «و هي سورة لقمان.»، فلا ينبغي التأمل في أنّه تصحيف و أنّ الصحيح: (سجدة لقمان).

ص: 422

______________________________

بذلك من صرح بالتعميم لبعض السورة، و من فسر العزائم بالسور الأربع.

و أما النصوص المتقدمة، فظاهر حديثي زرارة و محمد بن مسلم اختصاص التحريم بآية السجدة، لظهور السجدة في ذلك، كما يظهر بملاحظة نصوص قراءة العزيمة في الصلاة «1» و نصوص وجوب سجود العزيمة «2»، حيث تضمن كثير منها التعبير بالسجدة عن آية السجود، و لم يتضمن شي ء منها التعبير بها عن تمام السورة، عدا ما قد يظهر من قوله عليه السّلام في خبر علي بن جعفر: «و لا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة» «3».

بل هو الظاهر منها في نفسه، لظهور كون السجدة اسما للآية من باب تسمية السبب باسم المسبب.

و ليست باقية علي معناها الأصلي مع تقدير مضاف، ليتردد المقدر بين السورة و الآية، و لعل الأول أولي، لاشتهار التعبير عن السور بنحو ذلك من الألفاظ المشهورة، كالبقرة و آل عمران و الأنعام و الرحمن، و لموافقته لفهم الأصحاب و إجماعاتهم، كما في الجواهر.

علي أنه لو كان مبنيا علي التقدير، فالظاهر أنّ المقدر هو الآية- كما في النصوص الكثيرة المشار إليها- لأنه المناسب للسببية المذكورة، و لا سيما مع مناسبة السببية المذكورة ارتكازا للحكم، لأن اهتمام الشارع بتجنب السجود المفروض حال الجنابة بتجنب سببه مناسب للارتكاز.

أما خصوصية سور العزائم من بين سور القرآن- مع قطع النظر عن ذلك- فهي مبنية علي تعبد محض، فلا ينصرف المقدر إليها من دون قرينة.

و اشتهار التعبير عن السور بالألفاظ المشهورة لا يبتني علي تقدير مضاف، بل علي تسميتها بها، و لذا تكون إضافتها للسورة بيانية، و لم يعرف تسمية سور

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 37، 38، 39، 40 من أبواب القراءة في الصلاة.

(2) راجع الوسائل باب: 42، 43، 46، 49 من أبواب قراءة القرآن.

(3) الوسائل باب: 40 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 4.

ص: 423

______________________________

العزائم بالسجدة.

و أما تتميم ذلك بفهم الأصحاب و إجماعاتهم، فهو لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح اتصال إجماعهم بعهد صدور الحديثين، بل يقرب جري من لم يتصد من القدماء لتحرير الفتاوي إلا بطريق إثبات النصوص علي مقتضي الظهور الذي ذكرناه.

و لا سيما مع ما في المقنعة من تعليل الحكم بقوله: «لأن في هذه السور سجودا واجبا، و لا يجوز السجود إلا لطاهر من النجاسات بلا خلاف»، و تبعه علي ذلك في التهذيب، و احتمله في الانتصار، لظهور ذلك منهم في أنّ تحريم قراءة سور العزائم ليس أصليا بل عرضيا بلحاظ اشتمالها علي آية السجود، و أنّ المحرم الحقيقي هو الآية المذكورة الملزمة به.

و لازمه كون موضوع كلامهم قراءة سور العزائم بنحو المجموع، و به يخرج عما سبق من القرينة الارتكازية القاضية بحملها علي الانحلال، إذ لا أقل من التوقف لأجل ذلك عن استفادته من إطلاق كلامهم.

بل قد يتوقف لأجله عن استفادته من غيرهم ممن لم يصرح به، و لا سيما مع ظهور دليلهم في خصوص آية السجدة، حيث قد يكون ذلك قرينة علي إرادتهم قراءة سورة العزيمة بمجموعها، و يكون تحريمها عرضيا بلحاظ اشتمالها علي الآية المذكورة، و لا أقل من كشف ذلك عن نحو من الاضطراب في كلمات الأصحاب بالنحو المانع عن صلوحها لتفسير الحديثين و حملها علي السورة التي هي خلاف المتيقن، بل خلاف الظاهر الذي ذكرناه، المقتضي لجواز قراءة ما عدا آية السجدة من العزائم.

و من ذلك يظهر أنه لا مجال للاستدلال علي حرمة قراءة جميع السور بالإجماع، كما سبق من المدارك الميل إليه، و من الجواهر الجزم به في دفع احتمال اختصاص التحريم بقراءة تمام السورة.

و أما خبر الحسن الصيقل الذي ذكره في المعتبر، فلا مجال للخروج به عن ظاهر الحديثين.

ص: 424

______________________________

أولا: لضعف سنده، لأنه و إن أمكنت استفادة توثيق المثني من رواية البزنطي عنه، لما قيل من أنه لا يروي إلا عن ثقة، المحمول علي كونه ثقة حين تحمّل الرواية عنه- كما سبق عند الكلام في تحديد الكر بالوزن- الموجب للبناء علي وثاقته ما لم يثبت جرحه و خروجه عن الوثاقة بعد تلبسه بها، إلا أنه لا مجال لاستفادة توثيق الحسن الصيقل من ذلك، لعدم رواية البزنطي عنه، و عموم الكلام المتقدم لكل من وقع في طريق روايته لا يخلو عن إشكال، فتأمل.

و دعوي: انجباره بعمل المشهور.

ممنوعة، لعدم وضوح فتوي من سبق المحقق بمضمونه، لأنه أول من صرح بحرمة قراءة أبعاض السور، و أطلق من قبله حرمة قراءة السور، و ربما يحمل إطلاقهم علي حرمة قراءة المجموع بلحاظ اشتمالها علي الآية، كما سبق.

و لو سلم فتواهم بمضمونه، فلم يتضح اعتمادهم عليه، لاقتصار الأكثر علي الحديثين السابقين، و لم يشر إليه إلا المحقق و بعض المتأخرين عنه مع ذكرهم للحديثين أيضا، و ذلك لا يصلح للجبر.

و أظهر منه في ذلك الرضوي، لعدم ثبوت كونه رواية عن الإمام عليه السّلام.

و ثانيا: لأنه لا يظهر من كلام المحقق قدّس سرّه أنّ ما ذكره أولا عين ألفاظ الرواية، بل فتوي منه بمضمونها، لأنه بصدد تحرير الفتاوي و استقصاء الأقوال، و أشار بقوله:

(روي ذلك.) إلي ما يدل عليها بنظره من دون ذكر لفظ الرواية، كما وقع منه نظيره في بعض الموارد الأخر، و من الممكن تضمّن الرواية استثناء السجدة لا غير، نظير ما ذكره بعد ذلك بقوله: «فأما تحريم العزائم فمستنده ما نقل عن أهل البيت عليهم السّلام و قبله الأصحاب، من ذلك: ما رواه محمد بن مسلم.»، و ذكر حديث محمد بن مسلم المتقدم.

و ثالثا: لأن مقتضي الجمع بينه و بين الحديثين السابقين حمله علي قراءة تمام العزيمة بنحو المجموع، و يكون تحريمها بلحاظ اشتمالها علي آية السجدة، إذ لا

ص: 425

______________________________

يبعد كونه أولي من حمل السجدة فيهما علي تمام السورة.

و لا أقل من التوقف و الرجوع للأصل المقتضي لجواز قراءة ما عدا آية السجدة من العزائم، فلاحظ.

و بما ذكرنا يظهر الإشكال فيما سبق من الجواهر، من أنه لو لا الإجماع لكان المتعين الاقتصار علي تمام العزيمة دون أبعاضها.

إذ لو تمَّ الإجماع المدعي، فالنصوص إن حملت علي تمام السورة فهي ظاهرة في الانحلال المقتضي لحرمة قراءة أبعاضها، بالقرينة المتقدمة في كلام الأصحاب، إذ لا مخرج عنها إلا ما يقتضي حملها علي خصوص آية السجدة، و أنّ تحريم تمام السورة عرضي بلحاظ اشتمالها عليها.

و أشكل منه ما تقدم من المستند، لعدم الكاشف عن الإجماع علي حرمة قراءة آية السجدة وحدها إلا ظهور كلماتهم- لو فرض بلوغها حدّ الإجماع- في أنّ تحريم قراءة سورة العزيمة بنحو الانحلال، المستلزم لحرمة قراءة البعض و لو لم يكن آية السجدة، فلو لم يتم كان مرجع الإجماع إلي تحريم قراءة آية السجدة في ضمن قراءة المجموع، لا مطلقا.

ثمَّ إنّه لو اختص التحريم بآية السجدة، فهل يحرم قراءة بعضها، أو يختص التحريم بقراءتها بتمامها؟ وجهان، يبتني الأول منهما علي أنّ منشأ التحريم احترام الآية، و الثاني علي أنّ منشأه تجنب السجود الواجب حال الجنابة، بناء علي ما لعله الظاهر من اختصاص وجوب السجود بقراءة تمام الآية.

و لعل التعبير عن الآية بالسجدة مشعر بالثاني.

و لا ينافيه عدم اعتبار الطهارة في سجود التلاوة، و لا عدم حرمة استماع السجدة الموجب للسجود علي الجنب، لإمكان خصوصية القراءة بنظر الشارع في التحريم من الجهة المذكورة.

و لا أقل من الشك، الموجب للرجوع للبراءة من حرمة قراءة البعض.

ص: 426

و هي الم السجدة، و حم السجدة، و النجم، و العلق (1). و الأحوط وجوبا إلحاق تمام السورة بها حتي بعض البسملة (2).

مسألة 11 لا فرق في حرمة دخول الجنب في المساجد

مسألة 11: لا فرق في حرمة دخول الجنب في المساجد بين المعمور منها و الخراب، و إن لم يصل فيه أحد و لم تبق آثار المسجديّة (3)،

______________________________

(1) الظاهر عدم الإشكال فيه، و النصوص به متظافرة.

و تمام الكلام فيه في ذيل مبحث السجود من كتاب الصلاة إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما صرح به غير واحد، و في الروض: «و كذا يحرم عليه قراءة أبعاضها حتي البسملة إذا قصدها منها، بل لفظة (بسم)، و هو إجماع».

نعم، سبق الإشكال في الإجماع.

(3) كل ذلك لإطلاق نصوص المقام، بناء علي ما هو الظاهر من عدم خروجها بذلك عن المسجدية، كما نفي عنه الخلاف في الجواهر، بل ادعي الضرورة عليه، و ظاهر المدارك عدم الريب فيه.

لأن الظاهر عدم تقوم المسجدية بالانتفاع، لتبطل بتعذره بسبب الخراب و ارتفاع الآثار، بل هي متقومة بالعنوان الخاص غير الزائل بذلك، كما قد يدل عليه ما ورد في مسجد الكوفة، الظاهر قيام عمارته الإسلامية في موضع ليس فيه آثار المسجدية مع ظهور النصوص في سبق مسجديته و بقائها «1».

و لا أقل من كونه مقتضي الاستصحاب، كما أشار إليه في الخلاف في ردّ ما حكاه عن محمد بن الحسن من عوده بخرابه و خراب القرية أو المحلة إلي ملك الواقف، قياسا علي الكفن حيث يعود إلي ملك الوارث إذا ذهب السيل بالميت أو أكله السبع.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 44 من أحكام المساجد في كتاب الصلاة.

ص: 427

و كذلك المساجد في الأراضي المفتوحة عنوة إذا ذهبت آثار المسجدية بالمرة (1).

______________________________

(1) المعروف من مذهب الأصحاب المدعي عليه إجماعهم، أنّ الأرض المفتوحة عنوة ملك للمسلمين تبقي عينها لهم و يصرف نماؤها في مصالحهم، علي ما يذكر في محله.

و من هنا صرح غير واحد بعدم جواز بيعها و هبتها و وقفها و غير ذلك مما يتوقف علي الملك، و إنما تضمنت بعض النصوص «1» جواز بيع حق الاختصاص أو الآثار التي أقيمت فيها، علي ما فصّل في محله.

و لازم ذلك عدم صحة جعلها مسجدا، كما صرح به في المبسوط و عن غيره.

لكن في كتاب الجهاد من المسالك: «أما لو فعل ذلك بها تبعا لآثار المتصرف من بناء و غرس و زرع، فجائز علي الأقوي، فإذا باعها بائع مع شي ء من هذه الآثار دخلت في البيع علي سبيل التبع، و كذا الوقف و غيره، و يستمر كذلك ما دام شي ء من الآثار باقيا، فإذا ذهبت أجمع انقطع المشتري و الموقوف عليه و غيرهما عنها. هكذا ذكره جمع من المتأخرين و عليه العمل».

و رتب علي ذلك في كتاب الوقف خروج المسجد في الأرض المفتوحة عنوة عن المسجدية بزوال آثاره.

و لا يخفي أنّ ما ذكره- مع توقفه علي سلطنة صاحب الأثر علي إقامته في الأرض المذكور و لو بإذن الولي بنحو يكون باقيا علي ملكه مستحقا لإبقائه و الانتفاع به و بالأرض تبعا له- إنما يتم في البيع و الهبة و غير المسجدية من جهات الوقف مما يقبل التعلق بالأثر دون الأرض، و لا مجال له في مثل المسجدية مما يقوم بالأرض و لا يكون في غيرها إلا تبعا لها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 71 من أبواب جهاد العدو حديث: 1.

ص: 428

______________________________

و دعوي: أنّ المبيع و الموقوف و نحوهما هو الأرض تبعا للأثر المملوك، و بزوال الأثر تخرج الأرض نفسها عن الملكية و الوقفية و نحوهما، لا أنّ موضوع البيع و الوقف و نحوهما هو الأثر وحده و التصرف في الأرض تبعا له قياما بمقتضي الحق فيه، كي لا تكون موضوعا للمسجدية.

مدفوعة بأنّ فرض ملكية الأرض للمسلمين مانع من فرض وقوع التصرفات المذكورة عليها، لأنها مشروطة بملك المتصرف.

إلا أن يبني علي ملكية المتصرف لها تبعا للآثار.

و هو- مع منافاته لما تضمن أنها ملك للمسلمين و لا تباع بنفسها، بل يباع الحق فيها- يستلزم نفوذ التصرفات المذكورة و بقاءها حتي بعد ارتفاع الآثار، و لو للاستصحاب، لأن إناطة بقاء الملكية بالآثار- لو تمت- لا يستلزم إناطة بقاء ما يترتب عليها من التصرفات.

و منافاة ذلك لحق المسلمين- لو تمَّ- يقتضي بطلان التصرفات المذكورة رأسا، لا ارتفاعها بعد نفوذها تبعا لارتفاع الآثار، نظير بيع العين المشتراة بخيار الشرط، بناء علي أنّ مرجع اشتراط الخيار إلي اشتراط كون العين بنحو يمكن استرجاعها بنفسها عند الفسخ، حيث يكون منافيا للشرط فيبطل رأسا، لا حين فسخ صاحب الخيار.

نعم، لو فرض قابلية بعض التصرفات للتوقيت- نظير النكاح المنقطع- و قصد عند إيقاعها تبعيتها للآثار و توقيتها بها، اتجه ارتفاعها بارتفاع الآثار.

لكن التصرفات المذكورة غير قابلة لذلك، و لا سيما المسجدية التي صرحوا بأنها مبنية علي التأبيد، و أنها فكّ ملك و لا ترتفع بزوال الآثار و تعذر الانتفاع.

و كأنّ منشأ البناء منهم علي ذلك، ما أشار إليه في كتاب الوقف من الجواهر من السيرة القطعية، بل المعلوم من الشرع من جريان أحكام المساجد علي مساجد العراق و نحوه من البلاد المفتوحة عنوة.

لكنه ذكر في كتاب الجهاد أنّ العمل المستمر علي الوقف- مساجد و مدارس

ص: 429

______________________________

و نحوهما- محمول علي الأرض التي لا يعلم حالها بيد من يجري عليها حكم الأملاك، و له وجوه من الصحة يحمل عليها حتي في المعلوم كونها معمورة حال الفتح، إذ يمكن كونها من الخمس و قد باعها الإمام عليه السّلام و غير ذلك.

و هو كما تري، لأن إمكان كونها من الخمس المبيع عقلي، لا احتمالي ليصح بلحاظه إجراء أصالة الصحة، لما هو المعلوم من قصور يد الأئمة عليهم السّلام في أغلب الأوقات و عدم تصدّيهم لإعمال سلطنتهم.

علي أنه موقوف علي تعلق الخمس بالأرض المفتوحة عنوة، و هو لا يخلو عن إشكال أو منع، علي ما يذكر في محله.

فالأولي ابتناء ذلك علي صحة وقف الأرض المفتوحة عنوة مسجدا أو غيرها، بل تملكها بالشراء أو الإقطاع من قبل الولي أو بإذنه، و أنّ للولي السلطنة علي ذلك بمقتضي ولايته علي المسلمين، لاختصاص ما تضمن المنع علي منع من تكون الأرض بيده من الأفراد، لعدم ولايته عليها، و إنما له حق الاختصاص فيها و أولوية التصرف لا غير، مع البناء علي نفوذ تصرف سلاطين الجور، كما ينفذ تصرفهم في الخراج، لما هو المعلوم من تصدّيهم لذلك بالإقطاع و إحداث المساجد و غيرها، و قيام السيرة علي ترتيب الأثر علي تصرفهم من غير نكير.

فإنّ كشف السيرة المذكورة عن نفوذ تصرفهم أولي من كشفها عن تبعية المسجدية و نحوها للآثار، لما هو المعلوم من أنّ مبني جعل المسجد و نحوه فيها علي التأبيد و الدوام كجعله في غيرها.

و لعله إلي هذا يرجع ما في الجواهر من دعوي السيرة القطعية علي اتخاذ المساجد في الأراضي الخراجية من غير مدخلية للآثار في ذلك، لاقتضاء المسجدية الدوام و التأبيد.

بل القيام بما ينافي المسجدية من التصرفات في الأرض المذكورة بعد خراب المسجد و ذهاب آثاره من المستنكرات المتشرعية التي لا يقدم عليها إلا المتسامحون و إن كثروا، كما هو الحال في المساجد الواقعة في غير الأرض

ص: 430

مسألة 12 ما يشك في كونه جزءا من المسجد لا تجري عليه أحكام المسجدية

مسألة 12: ما يشك في كونه جزءا من المسجد- من صحنه و حجراته و منارته و حيطانه و نحو ذلك- لا تجري عليه أحكام المسجدية (1).

مسألة 13 لا يجوز أن يستأجر الجنب لكنس المسجد في حال الجنابة

مسألة 13: لا يجوز أن يستأجر الجنب لكنس المسجد (2) في حال الجنابة (3)،

______________________________

المفتوحة عنوة مما يكون ملكا طلقا للواقف حين الوقف.

و علي هذا، لو شك في حال بعض المساجد و أنها أقيمت في أرض مملوكة أو مفتوحة عنوة بإذن الولي الحق أو السلطان الجائر أو بدون إذن، تعيّن البناء علي الصحة، لأن يد المتصرف في الأرض بجعلها مسجدا تكون حجة علي ملكيته لها لو شك فيها، و علي نفوذ تصرفه فيها لو علم بعدم ملكيته لها.

(1) لاستصحاب عدم مسجديته.

نعم، لو كان هناك أمارة علي جزئيته من المسجد عمل عليها، كما صرح به قدّس سرّه في مستمسكه.

و الظاهر أنّ من الأمارات قول صاحب اليد ممن يتولي أمر المسجد و يدير شؤونه، بل لا يبعد ذلك في مثل كتابة اسم المسجد علي سور المسجد إذا كان مستندا لصاحب اليد، لا مثل كتابة عابر السبيل، لظهور الكتابة المذكورة في كون تمام ما أحاط به السور مسجدا.

(2) يعني: تكليفا، لما فيه من الحث علي الحرام و الترغيب فيه، الذي هو محرم بفحوي ما تضمن وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

نعم، هو مختص بما إذا كان الأجير عالما بالجنابة، و إلا فلا دليل علي حرمة التشجيع علي الحرام الواقعي غير المنجز في حق الفاعل.

إلا أن نقول بحرمة إدخال الجنب للمسجد و وجوب منعه، فيكفي في تنجز الحرمة علم المستأجر بجنابة الأجير.

(3) بأن يكون الحال المذكور قيدا في العمل المستأجر عليه بعنوانه، أو

ص: 431

______________________________

بعنوان آخر، كما لو قيده بزمان خاص، و كان الأجير عاجزا عن الغسل حينئذ، لا ظرفا للإجارة مع إطلاق العمل، و إلا لم يكن محرما و تصح الإجارة و يجب علي الأجير الغسل للوفاء بها، كما لو حدثت الجنابة بعد الإجارة قبل العمل.

و الظاهر جواز كون الوفاء بالإجارة داعيا، و كفايته في التقرب المعتبر في الغسل، نظير ما سبق في المسألة السابعة و التسعين من مبحث الوضوء من جواز جعل المس غاية للوضوء.

و لو جاء بالعمل المستأجر عليه- و هو الكنس- حال الجنابة نسيانا أو جهلا أو عصيانا لم يبعد استحقاقه الأجرة المسماة، لصحة الإجارة، و انطباق المستأجر عليه علي المأتي به.

و دعوي: أنّ بطلان الإجارة علي الكنس حال الجنابة مانع من إطلاق متعلق الإجارة، بل لا بد من تقييده لبّا بما يقع حال الطهارة، فلا ينطبق علي المأتي به، ليستحق اجرة المثل، فضلا عن المسمي.

ممنوعة، إذ لا موجب لبطلان الإجارة علي المطلق، بعد عدم حرمته في نفسه، و إمكان الأمر به و تمليكه للقدرة عليه بالقدرة علي بعض أفراده و هو الكنس حال الطهارة، فلا يشمله ما يأتي في وجه بطلان الإجارة مع التقييد، و لا يعتبر في صحة الإجارة علي المطلق، القدرة علي تمام أفراده.

و أما ما في العروة الوثقي من عدم استحقاق الأجرة مع العصيان، لحرمة العمل فلا اجرة له.

فهو كما تري، لأن نفس الكنس ليس محرما، بل المحرم هو المكث الموقوف عليه، كما اعترف به قدّس سرّه بعد ذلك.

علي أنّ ذلك لو تمَّ يجري مع الجهل و النسيان، لأنهما لا يرفعان الحرمة واقعا، و قد اعترف قدّس سرّه بعدم استحقاق الأجرة علي العمل المحرم- كالمكث في المقام- حتي مع الجهل و النسيان، و إن لم يبعد استحقاق اجرة المثل مع عدم تنجز الحرمة، لبطلان الإجارة و قصور دليل عدم استحقاق الأجرة علي الحرام من الإجماع و نحوه عن ذلك، و تمام الكلام في محله.

ص: 432

بل الإجارة فاسدة (1)،

______________________________

(1) بلا إشكال ظاهر.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «إذ الكنس و إن كان في نفسه مباحا إلا أنّ تحريم كون الجنب في المسجد يوجب سلب القدرة عليه شرعا، و لا بدّ في صحة الإجارة من القدرة علي العمل المستأجر عليه عقلا و شرعا، من دون فرق بين كون انتفاء القدرة الشرعية ناشئا من تحريم نفس العمل المستأجر عليه، و بين كونه ناشئا من تحريم مقدّمته أو لازمه أو ملازمه. و العمدة في هذا التعميم هو الإجماع، كما يظهر من كلماتهم في كتاب الإجارة».

لكن الاعتماد في تعميم القدرة للقدرة الشرعية بأقسامها علي الإجماع راجع إلي الاعتماد علي الإجماع علي بطلان الإجارة مع حرمة العمل المستأجر عليه أو حرمة مقدمته أو لازمه أو ملازمه، و إلا فاعتبار القدرة لم يؤخذ من أدلة لفظية قابلة للعموم و الخصوص، ليمكن شرح الإجماع لها و كشفه عن عمومها، كما يمكن كشفه عن خصوصها، لاطلاع المجمعين علي قرائن تقتضي العموم أو الخصوص قد خفيت علينا.

و بعبارة أخري: دليل اعتبار القدرة لمّا لم يكن لفظيا، فهو إن عمّ القدرة الشرعية بأقسامها كان اللازم الاستدلال به، و إن قصر عنها لم يصلح الإجماع لتعميمه، بل يكون دليلا في مقابله علي اعتبار القدرة الشرعية في مقابل القدرة العقلية.

و كيف كان، فقد يستدل عليه- مضافا إلي الإجماع المشار إليه المعتضد بالمرتكزات المتشرعية القطعية- تارة: بما تضمن حرمة أكل المال بالباطل، لأن من أظهر أفراده عرفا المعاملة بالوجه المقتضي لتحصيل الأمور المستنكرة التي لا ينبغي حصولها، فاقتضاء المعاملة تحصيل الحرام و الوقوع فيه موجب لصدقه عليها.

ص: 433

______________________________

و أخري: بما تضمّن بطلان الشرط المحلل للحرام و المحرم للحلال، لما هو الظاهر من أنّ الشرط يصدق علي الالتزام المبني علي التزام آخر، فيشمل العقود المبنية علي الالتزام من كل من المتعاقدين مبنيا علي التزام الآخر.

كما لا فرق في التحليل للحرام بين تحليله بالمباشرة- كما لو كان العمل المستأجر عليه محرما بنفسه- و تحليله بالتبع- كما لو كان الحرام مقدمة للعمل المستأجر عليه أو لازمه أو ملازمه- و لذا لا إشكال ظاهرا في بطلان اشتراط ذلك في ضمن عقد آخر، كما لو استأجره علي خياطة ثوبه بشرط أن يكنس المسجد حال الجنابة.

و مما ذكرنا، ظهر أنّ بطلان الإجارة في المقام و نحوه لارتفاع موضوع نفوذ الإجارة بسبب الحرمة، فهي واردة عليه، و ليست مزاحمة لنفوذها، و لا لوجوب تسليم العمل المستأجر عليه، ليبتني بطلان الإجارة علي أهمية الحرمة المفروضة.

و لذا كان مبناهم علي مانعية الحرمة مطلقا من دون نظر لأهميتها.

مع أنّ نفوذ الإجارة الراجع لملكية العمل علي الأجير حكم وضعي لا يقع طرفا للمزاحمة مع التكليف، لعدم السنخية بينهما.

و عدم وجوب تسليم العمل المستأجر عليه للمزاحمة لا يستلزم بطلان الإجارة، بل يمكن معه صحتها بلحاظ بقية آثارها، كصلوح العمل لو أتي به جهلا أو نسيانا أو عصيانا لأن يكون وفاء بها، بحيث يستحق به الأجرة المسماة و وجوب ضمانه علي الأجير لو لم يأت به و نحوهما.

نعم، قد تتجه المزاحمة فيما لو كان المستأجر عليه مطلق الكنس من دون تقييد بحال الجنابة لا بعنوانه و لا بعنوان آخر، و كان المكلف قادرا علي الإتيان به حال الطهارة فلم يبادر إليها حتي تجدد له العجز عنها بحيث لا يستطيع الكنس إلا جنبا إما بتفريط منه أو بدونه، فإنّ الإجارة حيث وقعت صحيحة و ملك المستأجر العمل علي الأجير لم يبعد وقوع التزاحم بين حرمة المكث في المسجد و وجوب تسليم العمل المستأجر عليه و يكون المعيار علي الأهمية، من دون أن تبطل الإجارة

ص: 434

و لا يستحق الأجرة المسماة (1)، و إن كان يستحق أجرة المثل (2)،

______________________________

لارتفاع موضوع صحتها بسبب الحرمة، فتأمل.

(1) كما هو مقتضي بطلان موجب استحقاقها، و هو الإجارة.

(2) أما أصل استحقاق الأجرة، فهو من صغريات قاعدة: ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، المشهورة بين الأصحاب، خصوصا المتأخرين منهم، و إن وقع الكلام في دليلها.

و لا يبعد كون دليلها في المقام و نحوه مما يتعلق بالأعمال، المرتكزات العرفية علي احترام عمل الغير و ضمانه بالاستيفاء، إذا لم يبتن علي المجانية، كما هو المفروض في المقام، لصدور العمل بطلب من المستأجر مبنيا علي الضمان منه و من الأجير، و بطلان الإجارة لا ينافي ذلك.

و أما ما يظهر من العروة الوثقي من عدم استحقاق الأجرة مع العلم بالجنابة، فكأنه لدعوي: أنّ حرمة العمل مانعة من استحقاق الأجرة عليه، نظير ما تقدم منه فيما لو استؤجر علي الكنس المطلق فأوقعه حال الجنابة عامدا. و قد سبق ضعفه.

و مثله ما عن بعض من أنّ علم العامل ببطلان العقد مانع من ضمان عمله، لإقدامه علي هدر حرمته و إيقاعه مجانا.

لاندفاعه بأنّ العلم بعدم استحقاق الأجرة المسماة شرعا أو عرفا لا يقتضي الإقدام علي المجانية، بل هو مقدم علي الوفاء بالعقد و علي الاستحقاق بمقتضاه و لو تشريعا، و ذلك كاف في الضمان له.

نعم، لو أعرض عن العقد بسبب العلم ببطلانه و لم يأت بالعمل مبنيا عليه، اتجه عدم استحقاقه أجرة عليه. و لعله خارج عن مفروض كلامهم، فلاحظ.

و أما تعيين أجرة المثل، فلأنها الأصل في الضمان بعد فرض بطلان الضمان بالمسمي، تبعا لبطلان الإجارة، و لذا كان هو ظاهر إطلاق من عبر بالضمان.

لكن لا يبعد الاقتصار علي أقل الأمرين من المثل و المسمي:

ص: 435

هذا، إذا علم الأجير بجنايته، أمّا إذا جهل بها فيشكل حرمة استئجاره (1)،

______________________________

أما مع زيادة المسمي، فلأنه لا موجب لاستحقاقه إلا العقد المفروض بطلانه، فيرجع لمقتضي الأصل المذكور في الضمان.

و أما مع زيادة المثل، فلأن الإقدام بمقتضي العقد الباطل علي الضمان بما دونه و هو المسمي، موجب لهدر حرمته بالإضافة إلي الزائد عليه، كما تهدر حرمته رأسا بالإقدام علي مجانيته، فلا يبني العرف علي ضمان الزائد، و لا أقل من عدم وضوح بنائهم عليه، ليخرج به عن مقتضي الأصل الأولي من عدم الضمان.

و تمام الكلام في محله من مباحث المكاسب.

(1) بل تقدم في أول المسألة عدم حرمته تكليفا. و أما عدم حرمته وضعا الراجع لصحة الإجارة فقد أصر عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه.

بدعوي: أن المدار في بطلان الإجارة هو تنجز حرمة العمل علي الأجير حتي يخرج عن قدرته و ملكه تشريعا، و مع عدم تنجز الحرمة عليه و بقاء العمل تحت قدرته لا مانع من صحة إجارته.

و هو مبني علي أن منشأ بطلان الإجارة مع تنجز الحرمة للعلم بالجنابة هو عدم قدرة الأجير علي العمل و لا ملكيته له.

و هو في حيز المنع، لأن تحريم العمل لا يوجب سلب القدرة عليه، كما أن عمل الإنسان غير مملوك له لا قبل الإجارة و لا بعدها.

و إرادة الحجر الشرعي من سلب القدرة و الملكية راجع للاستدلال علي الدعوي بها، فيكون عمومها لحال عدم التنجز و قصورها عنه مساوقا لعموم الدعوي و قصورها.

فالعمدة في وجه الاستدلال ما سبق من حرمة أكل المال بالباطل، و عدم نفوذ الشرط المحلل للحرام. و لو شك في صدق الأول مع الجهل فلا إشكال

ص: 436

و إن كان الأظهر ذلك، و كذلك الصبي و المجنون الجنب (1)،

______________________________

في صدق الثاني.

مع أن نفوذ الإجارة إن اقتضي وجوب تسليم العمل علي الأجير واقعا، كان رافعا لحرمة دخول الجنب للمسجد واقعا، و لا يظن من أحد البناء علي ذلك، بل هو خلاف إطلاق دليل التحريم.

و تحكيم عموم نفوذ العقود و وجوب القيام بمقتضاها عليه موقوف علي أقوائيته منه، و هو مستلزم لتقدمه عليه حتي مع العلم بالحال.

و إن لم يقتض وجوب تسليمه فلا طريق لإثباته، لانحصار الدليل عليه بعموم وجوب الوفاء بالعقود الظاهر في وجوب ترتيب آثارها المستلزم عرفا لنفوذها فمع فرض عدم وجوب تسليم العمل المستأجر عليه و لا ترتيب أثر الإجارة لا طريق لإثبات نفوذها.

و من هنا كان الظاهر بطلان الإجارة في المقام، فلا يجوز للمستأجر إجبار الأجير علي العمل.

كما لا يضمنه لو أوقعه بالمسمي، بل بالمثل أو بأقل القيمتين.

لكن هذا موقوف علي ما إذا لم يستلزم الجهل إطلاق متعلق الإجارة، كما لو استأجره علي الكنس في زمن يعجز عن الغسل فيه، اما لو كان الزمن يسع الغسل ثمَّ الكنس فإطلاق متعلق الإجارة ممكن في نفسه، بل هو الظاهر من الإطلاق.

و مجرد وقوع الكنس حال الجنابة بسبب الجهل لا يوجب التقييد بها، فتصح الإجارة و يستحق بالعمل الأجرة المسماة و إن جاء بالكنس حال الجنابة، نظير ما سبق منا في أول المسألة.

بل الظاهر جواز الإجبار علي الكنس و إن استلزم الوقوع في الحرام لفرض استحقاق الكنس و لا دليل علي عدم جواز الإجبار مع عدم تنجز الحرمة في حق الفاعل. فلاحظ.

(1) بناء علي وجوب إخراجهما من المسجد، حيث يكون دخولهما محرما

ص: 437

بل الأظهر وجوب إخراجهم من المسجد (1).

______________________________

علي المستأجر، فضلا عن وليهما، فيكون الاستئجار علي العمل المستلزم له- في فرض عجزهما عن الغسل- محرما تكليفا و باطلا، كاستئجار المكلف الجنب لذلك.

أما بناء علي عدم وجوب إخراجهما، فلا وجه لحرمة استئجارهما بعد فرض عدم الحرمة عليهما بمقتضي رفع القلم.

و ما عن الأردبيلي من وجوب إجراء أحكام المكلفين علي الصبي و المجنون غير ظاهر.

و منه يظهر أنه لا مجال لتخيل التحريم بملاك التسبيب للحرام، فإنّه- مضافا إلي عدم تمامية كبري حرمة التسبيب له- لا حرمة في حق المباشر في المقام.

(1) يعني: الجاهل بالجنابة و الصبي و المجنون.

و قد سبق من المعتبر عند الكلام في جنابة الصغير وجوب منعه مما يحرم علي الجنب، كدخول المساجد.

و هو متجه، بناء علي أنّ تحريم دخول الجنب للمسجد كفائي، راجع إلي تكليف الكل بعدم تحقق ذلك من كل أحد، بحيث يعصي الكل بتمكين الجنب من الدخول كما يعصي هو.

و لا طريق لإثبات ذلك، لظهور الآية في توجيه الخطاب للمكلفين بعدم قربهم المساجد حال جنابتهم، لا بعدم قرب غيرهم ممن يكون جنبا.

و كذا معتبرة جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: للجنب أن يمشي في المساجد كلها و لا يجلس فيها إلا المسجد الحرام و مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله» «1»، فإنّ ظاهرا المقابلة فيه بين المشي و الجلوس حرمة الثاني علي الجنب نفسه، كما كان الأول محللا له.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 438

مسألة 14 إذا علم إجمالا جنابة أحد الشخصين لا يجوز استئجارهما

مسألة 14: إذا علم إجمالا جنابة أحد الشخصين و كان الجنب منهما عالما بجنابته لا يجوز استئجارهما (1)،

______________________________

و كذا قوله صلّي اللّه عليه و آله في حديث الريان: «ألا إنّ هذا المسجد لا يحل لجنب» «1».

و في حديث عبد اللّه بن محمد: «لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد» «2».

و باقي النصوص و إن تضمّن النهي عن دخول الجنب للمسجد من دون توجيه الخطاب به لأحد، إلا أنّ المنصرف منها تحريمه علي الجنب نفسه، لا علي غيره- كما اعترف به سيدنا المصنف قدّس سرّه- لاحتياج تكليف الإنسان بفعل غيره إلي عناية يبعد حمل عليها، و لا سيما بملاحظة الاستشهاد في بعضها بالآية الشريفة.

بل ارتكازيات المتشرعة قاضية بعدم منع من لم يتنجز عليه التحريم من المكلفين لاجتهاد أو تقليد، كالجنب المعتقد بالطهارة و الشاك المستصحب لها و المغتسل غسلا ناقصا أو باطلا معتقدا بتماميته و الجاهل بمسجدية الأرض، و كذا من سقط في حقه التحريم لحرج أو ضرورة، و لو برفع منشأ حرجه أو ضرورته، بل من البعيد بناء الفقهاء علي منع هؤلاء كلهم.

و ما ذلك إلا لارتكاز كون التحريم انحلاليا عينيا في حق كل جنب بالإضافة لدخوله، فلا يجب عليه منع غيره من أفراد الجنب إلا من باب النهي عن المنكر المشروط بفعلية التكليف و تنجزه في حق الغير، و لا مجال له في مثل المقام مما يتنجز فيه التكليف أو لا يكون فعليا في حقه.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 439

و قد تقدم التعرض لذلك عند الكلام في جنابة الصغير، كما تقدم نظيره في الفرع الثامن من فروع مس المحدث للكتاب في ذيل المسألة التاسعة و التسعين من مسائل الوضوء.

(1) أما تكليفا، فللعلم الإجمالي بحرمة استئجار أحدهما، لما فيه من الحث

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 12.

ص: 439

______________________________

علي الحرام المنجز.

نعم، لا مجال له مع جهل الأجير بالجنابة، لما سبق من عدم الدليل علي حرمة الحث علي الحرام غير المنجز.

و أما وضعا، فللعلم ببطلان إحدي الإجارتين المانع من ترتيب الأثر عليهما.

لكن ذلك لا يختص بصورة علم الأجير بالجنابة، لما سبق منه و منا من بطلان الإجارة مع الجهل بحرمة مقدمة العمل المستأجر عليه، فضلا عن حرمة نفس العمل المستأجر عليه.

ثمَّ إنّ أثر العلم الإجمالي المذكور عدم جواز إجبار كل منهما علي العمل لو امتنعا، بل و كذا لو امتنع أحدهما لما يأتي في استئجار أحدهما.

و أما بالإضافة إلي استحقاق الأجرة، فلا أثر له، لأن لكل منهما المطالبة بالأجرة تمسكا باستصحاب الطهارة في حقه، لعدم الأثر لجنابة الآخر في حقه، و لا مجال لامتناع المستأجر بسبب علمه بعدم استحقاق أحدهما، لأن علم أحد المتخاصمين ليس حجة له في مقام التخاصم، بل مقتضي علمه إجمالا باستحقاق أحدهما وجوب إرضائهما معا.

بل لو فرض علم الحاكم أيضا بجنابة أحد الأجيرين لم يمنعه من الحكم علي طبق الأصل الجاري في حق كل منهما، لعدم ابتلائه بالطرف الآخر الذي لا خصومة له.

بل لو تخاصما معا مع المستأجر لم يمنع أيضا، نظير حكمه علي من أقر بعين لشخص ثمَّ أقر بها لآخر، بلزوم دفعها للأول و ضمانها للثاني، مع العلم بكذب أحد الإقرارين.

غاية الأمر، أنه يحرم علي العالم منهما في نفسه أخذ الأجرة، لا المسمي و لا المثل، لأنه لا أجرة للعمل المحرم إجماعا، لأنها أكل للمال بالباطل.

نعم، لا يبعد استحقاق أجرة المثل أو أقل الأمرين منها و من المسمي- علي ما سبق الكلام فيه- مع عدم تنجز الحرمة علي العامل، لخروجه عن المتيقن من دليل

ص: 440

و لا استئجار أحدهما (1) لقراءة العزائم أو دخول المساجد أو نحو ذلك مما يحرم علي الجنب.

مسألة 15 مع الشك في الجنابة لا يحرم شي ء من المحرمات المذكورة

مسألة 15: مع الشك في الجنابة لا يحرم شي ء من المحرمات المذكورة (2)، إلا إذا كانت حالته السابقة هي الجنابة.

______________________________

المنع، بل يناسبه ما تضمن أنه لا مهر لبغي مع ثبوت المهر بوطء الشبهة، فلاحظ.

(1) لمنجزية العلم الإجمالي لأحد أطرافه مع الابتلاء بتمامها، و بتحقق الجنابة يعلم بحرمة استئجاره تكليفا، لأنها تشجيع علي المحرم المنجز.

و أما وضعا، فليس أثر بطلان الإجارة- كما سبق- إلا حرمة إجبار الأجير علي العمل، و هي منجزة قبل الإجارة بتنجز احتمال حرمة التشجيع، لأنه مرتبة عالية منه.

و من هنا يتضح الفرق بين الإجارة علي الأمور المذكورة و الإجارة للصلاة عن ميت، التي سبق في المسألة الثالثة عدم تنجزها بالإضافة إلي أحدهما.

نعم، مع جهل الجنب بالجنابة حيث لا يحرم تشجيعه و حثه علي العمل، فعدم جواز الإجبار لا يكون موردا للابتلاء إلا بعد الإجارة، فيشكل تنجزه، لعدم الابتلاء بالطرف الآخر، لفرض عدم استئجاره، نظير ما تقدم في المسألة المذكورة.

(2) أما مع العلم بأنّ الحالة السابقة هي الطهارة، فلاستصحابها المحرز لعدم عدم ترتب أحكام الجنابة.

و أما مع الجهل بالحالة السابقة، فلأصالة البراءة من تحريم الأمور المذكورة.

نعم، لا مجال لذلك فيما تكون الطهارة شرطا فيه، كالصلاة و الطواف، لأصالة الاشتغال بالمأمور به مع الشك في تحقق شرطه.

أما الصوم، فحيث كان المانع منه تعمد البقاء علي الجنابة، فهو لا يتحقق مع الشك بالنحو المذكور، كما أنه لو انكشف بعد ذلك مقارنته للجنابة لم يجب قضاؤه، لأن مورد النص نسيان الغسل، و لا يشمل تعمد تركه لعدم تنجز احتمال الجنابة.

بقي في المقام فروع أهملها سيدنا المصنف قدّس سرّه ينبغي التعرض لها، كما

ص: 441

______________________________

جرينا عليه في كثير من المباحث المتقدمة.

الأول: صرح في الفقيه و الهداية و النهاية و الغنية و المعتبر و النافع و مبحث الغسل من المنتهي و محكي التحرير بوجوب التيمم علي من احتلم في أحد المسجدين الشريفين، و أنه لا يمر فيهما إلا متيمما، و هو المحكي عن السرائر و الجامع و غيرهما، و هو المتيقن من إطلاق من يأتي.

و لذا نسب للمشهور في كلام غير واحد، بل في الغنية و المعتبر و المنتهي دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه صحيح أبي حمزة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم و لا يمر في المسجد إلا متيمما، و لا بأس أن يمر في سائر المساجد، و لا يجلس في شي ء من المساجد» «1»، و نحوه مرفوعة الآتي.

و منه يظهر ضعف ما في الوسيلة من عدّه مستحبا، و قد عدّ الخلاف في المفاتيح شاذا و إن كان قد يستفاد من المبسوط، بناء علي ذهابه لكراهة المرور في المسجدين للجنب، و قد تقدم كلامه في تلك المسألة، فراجع.

هذا، و مقتضي الجمود علي عبارة من عرفت، اختصاص الحكم بالاحتلام دون غيره من أفراد الجنابة الاضطرارية، فضلا عن الاختيارية.

لكن عن القاضي الإطلاق في الجنابة الاضطرارية.

و قد يستفاد التعميم لها و للاختيارية من الاستدلال عليه في المعتبر و المنتهي بأنه مقتضي حرمة المرور في المسجدين للجنب، بضميمة ما تضمن وجوب التيمم عند تعذر الغسل، بل هو مقتضي إطلاق وجوب التيمم للخروج من المسجدين إذا أجنب فيهما في المنتهي و محكي التحرير- في بيان ما يجب له التيمم- و الشرائع و التذكرة و القواعد- في أحكام غسل الجنابة- و عن غيرها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 442

______________________________

بل مقتضي الاستدلال المذكور وجوبه لمن دخلهما جنبا عصيانا أو جهلا، كما هو مقتضي إطلاق وجوبه لخروج الجنب من المسجدين في الشرائع و القواعد و التذكرة و الإرشاد و الدروس- في بيان ما يجب له التيمم- و عن غيرها، و به صرح في الروض و كشف اللثام.

و كيف كان، فيستدل للتعميم.

تارة: بإطلاق أدلة بدلية التيمم عن الغسل، مثل ما تضمن أنه أحد الطهورين، و يكفيك عشر سنين و نحوهما، لظهورها في مشروعيته في كل مورد يحتاج فيه للطهارة، و منه المقام، بلحاظ حرمة الكون في المسجدين حال الجنابة.

نعم، يختص ذلك بما إذا لم يستلزم التيمم زيادة في المكث و لو قليلا، و إلا كان تحريم الزيادة المذكورة مزاحما لتحريم المرور حال الجنابة، فيتوقف وجوب التيمم علي إحراز أهمية الثاني، فتأمل.

و أخري: بالصحيح المتقدم بإلغاء خصوصية مورده عرفا، لقضاء ارتكازيات المتشرعة بعدم كون وجوب التيمم تعبدا محضا، بل لتجنب الكون في المسجدين حال الجنابة، بلحاظ بدلية التيمم عن الغسل، فهو جار علي مقتضي العمومات السابقة و كاشف عن أهمية حرمة الكون حال الجنابة من المكث الذي يقتضيه التيمم.

و لذا صرحوا بوجوب اختيار أقرب الطرق، بل لا إشكال ظاهرا في وجوب المبادرة للتيمم و للخروج بعده، مع أنّ الصحيح لم يتضمن إلا وجوب كون المرور حال التيمم.

و كأنّ هذا هو مراد من عبّر بعدم تعقل الفرق بين مورد الصحيح و غيره من الموارد المذكورة، و إلا فالفرق ممكن عقلا.

و منه يظهر ضعف ما في جامع المقاصد من أنه رجوع إلي ظن لا يفيده النص، و ما في المدارك من أنّ النص إنما يكون حجة في غير مورده في مفهوم الموافقة و منصوص العلة، و ما عداهما داخل في القياس الممنوع عنه.

ص: 443

______________________________

فإنّ إلغاء خصوصية مورد النص عرفا بملاحظة المناسبات الارتكازية راجع إلي استفادة العموم من ظهور النص الحاصل من القرائن المحيطة بالكلام، و هو حجة، و ليس من القياس في شي ء.

ثمَّ إنه قد ناقش في الجواهر في إلغاء خصوصية المورد و استفادة جريه علي القاعدة بلحاظ بعض الفروع الآتية التي يظهر من الكلام فيها حال ما ذكره.

هذا، و قد يستدل للتعميم لغير الاحتلام من أفراد الجنابة في المسجد بالصحيح المتقدم، بناء علي ما عن المعتبر من روايته هكذا: «فاحتلم أو أصابته جنابة».

لكن الموجود في المطبوع منه: «فاحتلم و أصابته جنابة»، و ظاهره كون العطف تفسيريا لبيان كون المراد بالاحتلام هو المصاحب للجنابة، لا من عطف العام علي الخاص.

و لا أقل من الإجمال الملزم بالاقتصار علي المتيقن، كما هو اللازم بلحاظ اختلاف رواية الحديث أيضا.

كما قد يستدل للتعميم لجميع أفراد الجنب حتي من كانت جنابته خارج المسجد، باحتمال رجوع الضمير في قوله عليه السّلام: «و لا يمر في المسجد إلا متيمما» للجنب، المستفاد من قوله عليه السّلام: «فأصابته جنابة»، لا للمحتلم.

لكن الاحتمال المذكور مخالف للظاهر.

و مثله ما في كشف اللثام من دعوي أولوية الموارد المذكورة في وجوب التيمم من الاحتلام الذي هو مورد النص، لعدم وضوح وجه الأولوية مع عدم التعمد، و أما مع التعمد فهو إنما يقتضي العقاب، و ليس وجوب التيمم من سنخه، بل هو تكليف محض، لا يتضح وجه أولويته.

فالعمدة ما سبق.

و يلحق بالكلام في ذلك الكلام في أمور.

أولها: مقتضي ما ذكرناه في توجيه النص، الاكتفاء بالتيمم الاضطراري بالغبار

ص: 444

______________________________

و نحوه و عدم جواز انتظار الأرض إذا استلزم زيادة معتدا بها في المكث، لأن تحريم البقاء في المسجد حال الجنابة موجب لصدق الاضطرار للتيمم المذكور، فيشرع و يجب بمقتضي دليل بدليته، كما يشرع أصل التيمم بمقتضي دليل بدليته عن الغسل.

ثانيها: المنساق من الصحيح إيقاع التيمم لأجل المرور في المسجد، لا إيقاعه لغاية أخري مشروطة بالطهارة، لابتناء ذلك علي عناية تفتقر للتنبيه، بل هو لا يشرع لها، لعدم صدق الاضطرار بالإضافة إليها في فرض التمكن من الغسل خارج المسجد.

و ذلك هو المناسب لما تقدم منا في المسألة السابعة و التسعين من مباحث الوضوء من جواز جعل المس غاية للوضوء و إن كان مبيحا له لا شرطا فيه، فيصلح للاستدلال عليه.

ثالثها: إنما يجب الخروج علي الجنب بعد التيمم إذا كان قادرا علي الغسل خارج المسجد، أما إذا تعذر عليه فيجوز له المكث فيه، بناء علي ما هو الظاهر من استباحة دخول المساجد بالتيمم، لإطلاق أدلة بدليته، علي ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي، و به صرح في الروض و المدارك و غيرهما.

و ليس في الصحيح ما ينافي ذلك، لوروده لبيان اعتبار التيمم في الخروج، لا لبيان وجوب الخروج.

بل لو نهض إطلاقه ببيان الخروج، كان محكوما لأدلة بدلية التيمم و طهوريته في فرض مصادفته العجز المطلق عن الماء حتي خارج المسجد.

لكن في جامع المقاصد: «و الظاهر أنّ هذا التيمم لا يبيح و إن صادف فقد الماء، و إلا لم يجب الخروج عقيبه بلا فصل متحريا أقرب الطرق، و التالي باطل. فعلي هذا لا ينوي فيه البدلية».

و هو- كما تري- مخالف للمنساق من النص.

و إنما يجب الخروج عقيبه بغير فصل لأن بدليته اضطرارية، و لا اضطرار لإيقاع المكث الزائد به، لإمكان إيقاعه عن غسل، فمع فرض تعذر الغسل حتي

ص: 445

______________________________

خارج المسجد لا موجب للخروج، لتحقق الاضطرار بالإضافة أيضا.

و منه يظهر جواز إيقاع سائر الغايات الموقوفة علي الطهارة به لو صادف عدم الماء، فلاحظ.

رابعها: تقدم من جامع المقاصد وجوب اختيار أقرب الطرق، و سبقه إليه في التذكرة و الدروس، و ظاهر الروض المفروغية عنه، و قد أشرنا إلي وجهه.

إلا أنّ الظاهر عدم وجوب المداقّة في ذلك و لا الإسراع في المشي بالوجه الخارج عن المتعارف، لظهور عدم التنبيه عليه في الصحيح في عدم وجوبه.

خامسها: الظاهر عدم وجوب التيمم إذا كان زمانه مساويا لزمان الخروج أو أقصر منه، كما عن الأردبيلي في شرح المفاتيح، بل لا يجوز إذا استلزم زيادة في المكث، لعموم حرمة الكون في المسجدين حال الجنابة.

خلافا لما عن الذكري و قربه في محكي الدلائل من وجوب التيمم لعموم النص.

لكنه منصرف عن ذلك بناء علي ما سبق من ظهوره في الجري علي مقتضي العمومات.

و دعوي: ظهوره في خصوصية المرور في الحرمة حال الجنابة و العفو عن المكث للتيمم.

مدفوعة بأنّ المنساق من ذكر المرور دفع توهم جوازه في المسجدين من غير تيمم كما جاز في غيرهما، لا أهميته من المكث، فالمحرم في المسجدين مطلق الكون في المسجدين حال الجنابة، و إنما عفي عن المكث لأجل التيمم لقلة زمانه غالبا.

و ما في كشف اللثام من التسليم بذلك في غير الاحتلام و وجوب التيمم مع الاحتلام اقتصارا علي مورد النص و الإجماع، مبني علي الرجوع في غير الاحتلام للعمومات، و الجمود فيه علي النص بعد حمله علي محض التعبد الملزم بالتمسك بإطلاقه.

ص: 446

______________________________

و قد سبق المنع من ذلك، و تنزيل النص علي العمومات.

كما أنّ الإجماع لم يثبت بعد قرب انصراف كلمات كثير عنه، كما انصرف عنه إطلاق النص.

سادسها: إذا كان زمان الغسل مساويا لزمان التيمم أو أقصر منه وجب الغسل بمقتضي ما سبق من تنزيل الصحيح علي القاعدة، لأن بدلية التيمم اضطرارية، فلا يشرع مع القدرة علي الغسل، كما صرح بذلك في التذكرة و الدروس و الروض و المسالك و محكي الذكري و غيرها.

بل لعل عدم تعرض جملة من الأصحاب بذلك للغفلة عنه لندرة إمكان الغسل في الزمان المذكور من دون تلويث بالنجاسة، خصوصا في مورد النص، و هو الاحتلام الذي اقتصر عليه جماعة منهم، و لا سيما من استدل بالعمومات، كالمعتبر و المنتهي و محكي نهاية الاحكام.

و كأنه لذلك نزّل في مفتاح الكرامة كلام من أطلق وجوب التيمم علي غير الصورة المذكورة.

و ما في كلام بعضهم- كالدروس و الروض- من عدّ الخروج من المسجدين من الغايات التي يختص بها التيمم عن الغسل، لا ينافي ذلك، لأن الغسل الذي ذكرناه ليس للخروج، بل لمطلق الكون في المسجدين الشريفين الذي صرحوا بوجوب الغسل له، و لذا صرح به من حكم بوجوب الغسل في الفرض.

و منه يظهر أنّ عدم تنبيه جماعة لوجوب الغسل في الفرض لا يدل علي فهمهم التعبد من النص و الخروج به عن القاعدة.

كما ظهر ضعف ما في جامع المقاصد و المدارك و محكي الدلائل من وجوب التيمم حينئذ، عملا بإطلاق النص.

فإنّه يبتني علي الجمود علي عبارة النص، و قد سبق ضعفه، و تنزيله علي العمومات.

و ما في المدارك من عدم الوقوف علي دليل يقتضي اعتبار عدم الماء في

ص: 447

______________________________

جواز التيمم لغير الصلاة، غريب، فإنّ وضوح ذلك يغني عن الاستدلال له، و لذا لا ريب في عدم جواز التيمم لدخول المساجد أو قراءة العزائم أو نحوها مع التمكن من الماء، فتأمل.

و ما في الجواهر من أنّ اشتراط فقدان الماء في التيمم صار من قبيل الأصول و القواعد التي يكفي في الخروج عنها رائحة الدليل، كما تري لا يرجع إلي محصل.

و أما دعوي: أنّ مقتضي العمومات وجوب الغسل مع القدرة عليه و إن زاد زمانه علي زمان التيمم، و لا قائل بذلك، كما لا يمكن تنزيل الصحيح عليه، لندرة تعذر الغسل في المسجد و إن طال زمانه كثيرا، فيكشف عن عدم جريان الصحيح علي العمومات، و لزوم تحكيمه عليها.

فهي مدفوعة، بأنّ المانع من التيمم ليس هو مطلق القدرة علي الغسل، بل لا بد معها من عدم لزوم محذور منه، كالكون المحرم في المسجد، و هو لا يلزم مع قصر زمان الغسل أو مساواته لزمان التيمم، للاضطرار للكون بالمقدار المذكور حال الجنابة الرافع لحرمته.

و منه يظهر أنه لا حاجة لما في الروض من التسمك في المنع عن الغسل مع طول زمانه بالإجماع المشار إليه.

علي أنّ الجمود علي الصحيح لا يقتضي المنع عن الغسل، لظهوره في أنّ الأمر بالتيمم ليس نفسيا، بل لأجل المرور، و من الظاهر أنّ المراد به المرور حال الجنابة لا بعد ارتفاعها، و لذا لو اغتسل غفلة صح غسله و لم يجب التيمم، فلا ينافي جواز رفع الجنابة بالغسل، بل وجوبه بمقتضي العمومات المتقدمة، لأن التكليف لا يقتضي حفظ موضوعه.

هذا كله في مورد الصحيح و هو المحتلم.

و أما غيره، فالأمر فيه أظهر، لعدم المخرج عن العمومات القاضية بوجوب الغسل.

و من ثمَّ جزم في الجواهر بوجوب الغسل فيه لو أبي عنه في المحتلم، جمودا

ص: 448

______________________________

علي الصحيح.

سابعها: ألحق في المنتهي و الدروس و محكي التحرير و الذكري و البيان و الألفية و غيرها الحائض بالجنب.

قال في مفتاح الكرامة: «و خلا عن ذلك كلام القدماء، إلا أبا علي، فإنّه ألزم الجنب و الحائض التيمم إذا اضطرا إلي الدخول، نقله عنه في الذكري».

و قد يستدل علي الإلحاق.

تارة: بمرفوع محمد بن يحيي عن أبي حمزة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا كان الرجل نائما في المسجد [أو مسجد] [1] الحرام أو مسجد الرسول صلّي اللّه عليه و آله فاحتلم فأصابته جنابة، فليتيمم و لا يمرّ في المسجد إلا متيمما حتي يخرج منه ثمَّ يغتسل، و كذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك. و لا بأس أن يمرّا في سائر المساجد و لا يجلسان فيها» «2».

و اخري: بما في المنتهي، قال: «و لأن الاجتياز فيهما حرام إلا مع الطهارة، و هي متعذرة، و التيمم يقوم مقامها في جواز الصلاة، فكان قائما مقامها في قطع المسجد، و إن لم يكن التيمم هاهنا طهارة».

و يشكل الأول: بضعف السند. و ما في الجواهر من قوة الظن باتحاد سنده مع الصحيح السابق، و لا سيما مع روايته في الكافي الذي هو أضبط كتب الأخبار.

كما تري! إذ لا منشأ لتخيل الاتحاد إلا رواية محمد بن يحيي له مرفوعا إلي أبي حمزة و روايته للصحيح مسندا إليه، و هو قد يوجب الظن باتحاد الخبرين لا باتحاد السندين، فمع الاختلاف في المتن لا مجال للتعويل علي المرفوع.

و روايته في الكافي لا يكفي في الوثوق المعتبر في الحجية.

و عمل العلامة و بعض من تأخر عنه لا يكفي في الانجبار، كقوله في المنتهي:

إنّ الرواية مناسبة للمذهب، فإنّ مناسبتها للمذهب إن كانت بمعني الإجماع علي

______________________________

[1] هذه الزيادة موجودة في الطبعة الحديثة من الوسائل، و هي غير موجودة في الكافي.

______________________________

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 449

______________________________

مضمونها- كما قد يظهر من بعضهم- فلا مجال له بعد ما سبق من خلوّ كلام القدماء عنه، و إن كانت بمعني الموافقة لأصول المذهب و قواعده- كما هو الظاهر- كانت اجتهادا منه لا يكفي في الحجية. و لذا استشكل هو قدّس سرّه في التذكرة.

و يندفع الثاني، بما أشار إليه في المعتبر و غيره من أنّ التيمم إنما يقوم مقام الغسل عند تعذره مع قابلية المكلف للطهارة و تكليفه بها، كما في الجنب، دون الحائض المستمرة الحدث، و لذا لا تشرع منها بقية الغايات بالتيمم.

و وجوب تخفيفها للحدث بالغسل أو التيمم و إن أمكن- كما في المسلوس و المبطون و المستحاضة- و قد يناسبه استحباب الوضوء لها في بعض الموارد، إلا أنه محتاج إلي دليل، و لا تكفي فيه العمومات.

نعم، لو كان الخبر السابق حجة، صلح دليلا علي ذلك، و أمكن بلحاظه تنزيله علي القواعد من وجوب الغسل ذاتا و بدلية التيمم عنه اضطرارا، خلافا لما في الجواهر من منافاة اشتمال الخبر علي إلحاق الحائض للبدلية و كشفه عن أنّ وجوب التيمم تعبد محض لا ينزل علي القواعد.

لكن ضعف الخبر مانع من الخروج به عن الوجه الذي ذكرناه.

و منه يظهر ضعف ما عن الذكري من الإشكال في الوجه المذكور بأنه اجتهاد في مقابل النص، إذ لا بأس بالاجتهاد المبتني علي القواعد و الأصول العامة في قبال النص الضعيف.

نعم، ينهض الخبر بإثبات الاستحباب بناء علي قاعدة التسامح في أدلة السنن، و لعله لذا لم يمنع عنه في المعتبر.

لكنه مختص بما إذا لم يستلزم مكثا زائدا علي ما يقتضيه المرور اللازم.

و أما إلحاق النفساء، فهو المحكي عن المحقق الثاني، و هو يبتني علي إلحاقها بالحائض في الاحكام- كما قيل، بل قيل: إنّها حائض في المعني- بعد المفروغية عن إلحاق الحائض بالجنب.

هذا كله في المرور قبل النقاء، أما بعده قبل الغسل، فهي بحكم غير المحتلم

ص: 450

______________________________

من أفراد الجنب- كما في حاشية المدارك و محكي الذكري- و قد سبق أنه يجب عليه التيمم.

ثامنها: قال المحقق الثاني في محكي شرح الألفية: «إنما خص الحكم بالمسجدين، لأن الاجتياز في غيرهما غير مشروط بالطهارة، فيبادر إلي الخروج»، و وافقه علي الحكم في المدارك و غيرها.

و قد يشكل ما ذكره من الوجه بأنّ الاجتياز إنما يكون بالعبور من جهة لأخري في طريق يمر بالمسجد، و لا يصدق علي العبور من وسط المسجد إلي خارجه، كما لا يصدق علي العبور من خارجه إلي وسطه. و لذا كان الظاهر تحقق العصيان بالدخول إلي آخر المسجد ثمَّ الرجوع و الخروج من باب واحد في تمام زمن الكون في المسجد، كما لو جلس في المدة المذكورة في بابه، لا في خصوص زمن الدخول مع إباحة الخروج، لأنه اجتياز.

و لازم ذلك أن تكون حلية الخروج للمحتلم في سائر المساجد للاضطرار لا لخروجه عن موضوع الحرمة، و هو يقتضي مشروعية التيمم له بمقتضي العمومات بالتقريب المتقدم في المسجدين الشريفين.

فالعمدة في الحكم، ظهور الصحيح في تخصيص وجوب التيمم للخروج بالمسجدين الشريفين، حيث يكون هو المخرج عن العمومات المقتضية لمشروعية التيمم، و ليس عدم وجوبه، لاحتياج العبادة عن التوقيف مع قصور الصحيح عن إثباته، كما في المدارك.

كما أنّ ظاهر الصحيح أنّ عدم وجوب التيمم للمحتلم ليس تخصيصا للعمومات المذكورة، بل تخصصا، لقصورها عن المرور المذكور، لأن ظاهر المقابلة فيه بين المرور و الجلوس في بقية المساجد بضميمة ما تضمن اختصاص الحل بالاجتياز و عبور السبيل كون الخروج من المسجد كالعبور به من جهة لأخري، و أنّ المراد من الاجتياز و عبور السبيل المأخوذين عنوانا لموضوع الحل ما يعمهما، و إن كان هو خلاف ظاهرهما بدوا.

ص: 451

______________________________

لكن المتيقن من ذلك ما إذا كانت الجنابة في المسجد، حيث لا يكون المكلف موضوعا للخطاب بعدم القرب إلا حينئذ، فهو في خروجه يشبه عابر السبيل في عدم كون قربه للمسجد إلا مارا به في طريق الخروج منه، من دون أن يكون منظورا بنفسه، دون غيره من أفراد الخروج، بل تحرم بمقتضي العمومات، كما سبق.

و لذا ليس لمن دخل مجتازا من جهة لأخري العدول عن ذلك و الخروج من نفس الجهة التي دخل منها.

و لازم ما ذكرنا جواز إجناب المكلف نفسه في المسجد إذا لم يستلزم المكث بعد الجنابة، كما يكون له ذلك حال الاجتياز الحقيقي به بالدخول من جهة و الخروج من أخري.

كما أنّ لازم الاختصاص المذكور، الاقتصار في عدم وجوب التيمم علي الجنابة الاختيارية أو الاضطرارية في المسجد، دون الجنابة خارجه إذا صادف دخول الجنب للمسجد عصيانا أو نسيانا و أراد الخروج منه، فإنّه حيث لا يكون خروجه اجتيازا و لا داخلا في مفاد الصحيح كان مقتضي عموم حرمة الكون في المسجد للجنب مشروعية التيمم له في فرض تعذر الغسل، نظير ما سبق في المسجدين الشريفين.

نعم، يلزم الاقتصار علي ما إذا لم يستلزم التيمم مكثا زائدا في المسجد، فإنّ مشروعية التيمم موقوفة علي أهمية الطهارة حين الخروج من حرمة المكث الزائد، و لا طريق لإحراز الأهمية المذكورة، و مجرد ثبوتها في المسجدين بالصحيح المتقدم لا يقتضي ثبوتها في غيرهما.

لكن الإنصاف أنّ وجوب التيمم للخروج علي من دخل جنبا عمدا أو معذورا لا يناسب سيرة المتشرعة، بل لا يناسب إهمال الأصحاب التنبيه عليه مع كثرة الابتلاء به بنحو يبعد جدا خفاء الحكم فيه، فلا بد من البناء علي عدم وجوبه، و لو تخفيفا من الشارع الأقدس، أو لعدم أهمية الحرمة بالنحو المقتضي لتشريع التيمم،

ص: 452

______________________________

و إن كان الخروج محرما ذاتا كالدخول، فلا يجوز العدول عن الاجتياز في الأثناء، كما ذكرنا، فتأمل جيدا.

ثمَّ إنّ مقتضي العمومات وجوب التيمم للمكث في سائر المساجد لو اضطر إليه. و يؤيده الصحيح الوارد في المسجدين، لأن المكث في سائر المساجد كالعبور في المسجدين في الحرمة.

هذا، و عن الذكري استحباب التيمم للمحتلم في بقية المساجد، للقرب من الطهارة، و استضعفه في المدارك و محكي الدلائل.

و هو مناسب لما تقدم منه في حكم المشاهد المشرفة من كراهة الاجتياز في المسجد للجنب، لأن مقتضي الكراهة المذكورة استحباب الطهارة الترابية عند الاضطرار للمرور و تعذر الغسل.

لكن في مفتاح الكرامة: «و قطع الأستاذ بالعدم، لأن قطع المساجد الباقية غير محظور، فكيف يباح الحرام- أعني اللبث- لإصابة المندوب. قال: نعم، لو اتفق له ماشيا كان احتمالا»، و هو متين جدا، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

تاسعها: قال في مفتاح الكرامة: «و احتمل في النهاية اشتراط تراب غير المسجد لو وجده، و لعل ذلك لما في بدن المجنب من الخبث، فلا يمس تراب المسجد، أو لأنه يعلق منه بعض الشي ء فيلزم إخراجه منه، فتأمل».

و لعله أشار بالأمر بالتأمل إلي اندفاع الأول إن كان في مواضع التيمم برطوبة مسرية نجس تراب المسجد فلا يصح التيمم به و لو مع الانحصار، كما يكون تحريم تنجيس المسجد مزاحما لوجوب التيمم مع الانحصار، فلا يجب التيمم، لعدم إحراز أهميته، و إلا فلا منشأ لاحتمال مانعيته.

و الثاني بأنّ العالق من الغبار الذي لا أهمية له تقتضي تحريم إخراجه، بل هو كالعالق بالخف و البدن و الثوب عند وضعها علي أرض المسجد.

علي أنه يكفي في جوازه الصحيح، لأن حمله علي التيمم من غير المسجد حمل له علي الفرد النادر، كما أنه لا يناسب التفصيل بين الانحصار و عدمه، للغفلة

ص: 453

______________________________

عنه جدا.

عاشرها: قال في مفتاح الكرامة أيضا: «و في حاشية علي الدروس: أنه يستوي تمام الجنب و أبعاضه و سطح المسجد و أرضه، و في الأول تأمل».

و كأنه لقصور العناوين التي تضمنتها النصوص من الدخول و الجلوس و المشي و المرور عن بعض البدن.

لكن يكفي فيه النهي عن القرب في الآية و صحيح محمد بن مسلم «1»، لظهوره- بعد تعذر حمله علي المعني الحقيقي- في النهي عن أدني ملابسة و لزوم كمال المباينة، بنحو لا يناسب جواز كون بعض بدن الجنب في المسجد.

و منه يظهر عموم المنع في بقية المساجد.

الثاني- من الفروع التي أهملها سيدنا المصنف قدّس سرّه-: المتيقن من موضوع أحكام المسجدين الشريفين ما كان منهما أصليا دون الزيادات الحادثة فيهما.

نعم، قد يستفاد من نصوص أحكامهما إلحاق الزيادات الموجودة في عصر صدورها لو لم تكن متميزة عن الموضع الأصلي منهما، لأن عدم التنبيه علي استثنائها مع غفلة العامة عنه موجب لظهورها فيما يعمها.

و لا مجال لاستفادة العموم للزيادات الحادثة بعد ذلك، لأن عنوان المسجدين في نصوص أحكامهما ليس من سنخ الكلي غير المحدود الأفراد ليمكن صدقه في زمان علي ما لم يصدق عليه في عصر صدورها، بل هو جزئي محدد الأجزاء لا ينطبق علي ما لم ينطبق عليه حين صدورها.

نعم، لو كان دليل إلحاق الزيادات مستقلا أمكن حمله علي القضية الحقيقية بنحو يشمل كل زيادة تعرض.

كما أنه لو فرض القطع بعدم الفرق بين الزيادات، تعين بضميمة ما ذكرنا العموم لجميعها، لكن لا طريق له، خصوصا مع تميز الزيادة خارجا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 17.

ص: 454

______________________________

الثالث: لو انحصر الماء الذي يغتسل به من الجنابة في المسجد، فإن لم يستلزم استعماله الدخول المحرم علي الجنب- كما لو أمكن أخذه بالاجتياز، أو بدونه بناء علي جواز الدخول في المسجد للأخذ- فلا إشكال، حيث يجب أخذه بلا تيمم.

و إن استلزم الدخول المحرم- كما لو كان في المسجدين الشريفين أو في غيرهما و توقف علي المكث الزائد علي ما يقتضيه الأخذ، كالاستقاء من بئر المسجد، حيث سبق تحريمه، أو انحصر مكان الغسل بالمسجد- جاز الدخول بالتيمم- كما استظهره في الفرض الأخير في الجواهر- بل وجب، جمعا بين وجوب الغسل و حرمة الدخول حال الجنابة، و بدلية التيمم عن الغسل.

و مثله ما لو انحصر مكان الغسل بالمسجد مع أخذ الماء من خارجه.

و قد أشار في الجواهر و غيره للإشكال في ذلك، بأنّه يلزم من صحة التيمم عدمها، لأن صحته توجب جواز الدخول للمسجد و القدرة علي الغسل، و مع القدرة عليه يبطل التيمم، فيحرم الدخول للمسجد و يتعذر الغسل، فيلغو تشريع التيمم في هذا الحال، لعدم الأثر، بل تشريع التيمم في هذا الحال و لو لم يوجد بعد و لم يصح يستلزم عدم تشريعه، لأن تشريعه، بنفسه موجب للقدرة علي الغسل الرافع لمشروعيته.

و لعل هذا هو مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه من قوله: «و ما يلزم من وجوده عدمه محال».

و إلا فلا محالية في كون وجود الأمر الاعتباري في المرتبة السابقة علة لارتفاعه في المرتبة اللاحقة، إذ اقتضي ذلك دليل جعله و اعتباره، كما قد يكون حدوث الأمر التكويني في الزمان السابق علة لارتفاعه في الزمان اللاحق، بأن يكون علة لما يمنع من استمراره. و نظيره ما تضمن أنّ من ملك أباه عتق عليه، و إن فارق ما نحن فيه يترتب الأثر علي جعل الملكية في المرتبة السابقة، و هو العتق، فلا يلغو جعلها، بخلاف صحة التيمم و مشروعيته في المقام.

ص: 455

______________________________

و كيف كان، فقد ذكر غير واحد اندفاع الإشكال المذكور بأنه يكفي في صحة التيمم لغاية عدم الوجدان بالنسبة إليها، و إن تحقق الوجدان بالنسبة لغيرها، فالدخول في المسجد الخاص حيث يتعذر إيقاعه عن غسل شرع التيمم له، و لا يبطل تيممه لعدم القدرة به علي الغسل للدخول المذكور، أما بقية الغايات فحيث يمكن الغسل لها و لو بعد الدخول للمسجد بالتيمم فلا يجوز إيقاعه بالتيمم المذكور، و لا بالتيمم له.

فالمقام نظير تيمم المحتلم للخروج من المسجدين مع وجدان الماء خارجهما، حيث لا يشرع به غير الخروج من الغايات، و كالتيمم للصلاة التي ضاق وقتها، الذي لا يشرع به غيرها.

و لازم ذلك تشريع التيمم من أول الأمر للدخول المذكور دون غيره من الغايات، و بقاؤه علي ذلك من دون أن يبطل.

و مثله الإشكال بأنّ وجوب التيمم لما كان في طول وجوب الغسل فلا مجال له في المقام، لعدم وجوب الغسل للدخول للمسجد، لارتفاع موضوع وجوب الدخول بالغسل قبله، لأن الدخول إنما يجب لتحصيل الغسل، فمع تحقق الغسل قبله يرتفع وجوبه.

لاندفاعه بأنّ وجوب التيمم في المقام ليس غيريا و لا شرعيا، لعدم توقف الدخول و لا الغسل علي التيمم، بل عقلي بملاك وجوب إطاعة تكليفي المولي من تحصيل الغسل و اجتناب الدخول حال الجنابة، نظير تيمم المحتلم للخروج من المسجدين، الذي هو واجب عقلا، فرارا من الوقوع في المرور المحرم من دون أن يكون واجبا غيريا.

و ليس المجعول الشرعي في المقام إلا ارتفاع حرمة الدخول للمسجد علي الجنب بالتيمم، و التيمم في ذلك في طول الغسل، و قد سبق في المسألة السابعة و التسعين من أحكام الوضوء أنّ اللزوم العقلي بالملاك المذكور كاف في التقرب المعتبر في الطهارة، كما سبق في التنبيه الثاني من

ص: 456

______________________________

الفرع الأول ما يصلح شاهدا له في المقام.

نعم، لا بد من البناء علي جواز الدخول للمسجد بالتيمم، و علي كونه من الغايات التي يجوز إيقاع التيمم لأجلها- كما هو الظاهر- أما بناء علي عدم تسويغ التيمم الدخول للمسجد- كما عن الفخر- فيكون الغسل متعذرا شرعا، فيجب التيمم لجميع ما يعتبر فيه الطهارة من الصلاة و غيرها.

و كذا الحال بناء علي تسويغ التيمم له، إلا أنه لا يجوز إيقاع التيمم لأجله، بل يسوغ بعد التيمم المأتي به لغاية أخري مشروطة بالطهارة، كما عن بعض الأعاظم قدّس سرّه، حيث لا بد من إيقاع التيمم للغايات الأخر لتعذر الغسل لها، لعدم المسوغ للدخول للمسجد.

لكن قد يشكل ذلك بأنّ تعذر الغسل للغايات المذكورة و إن اقتضي مشروعية التيمم لها إلا أنه بعد إيقاع التيمم لها حيث يجوز له الدخول للمسجد و استعمال مائه يكون قادرا علي إيقاع تلك الغايات بالغسل، فيجب الغسل لها، و لا يشرع إيقاعها بالتيمم، و إنما يبقي التيمم مسوغا للدخول للمسجد، لعدم القدرة علي الغسل له.

و قد أجيب عنه.

تارة: بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه في المسألة الخامسة و الثلاثين من فصل مسوغات التيمم، و أشار إليه شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من لزوم الخلف، لفرض قصد الغايات المذكورة بالتيمم، فكيف يكون مانعا من إيقاعها به و موجبا لوجوب الغسل لها؟! و أخري: بما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من لزوم كون التيمم الناشئ من تعذر الغسل رافعا لتعذره، فيرجع إلي كون المعلول رافعا لعلته.

و لعله لذا قال بعض الأعاظم قدّس سرّه في حاشيته علي المقام من العروة الوثقي:

«الأظهر كونه من فاقد الماء، و لا يباح له الاغتسال في المسجد، و لا الدخول فيه لأخذ الماء، و لا يستباح بهذا التيمم شي ء من ذلك»، و تابعه علي ذلك شيخنا الأستاذ بناء

ص: 457

______________________________

علي عدم جواز التيمم للدخول للمسجد.

أما سيدنا المصنف قدّس سرّه، فقد ذكر أنّ البناء علي ذلك يقتضي جواز الدخول للمسجد و عدم وجوب الغسل.

و كأنّ الفرق بينهما للفرق في وجه المنع، فإن كان هو الوجه الأول- أعني لزوم الخلف- كان اللازم الاقتصار علي عدم بطلان التيمم للغايات المأتي بها لأجلها و عدم وجوب الغسل لها، مع جواز الدخول للمسجد، أخذا بما دل علي جوازه للمتيمم، و إن كان هو امتناع رفع المعلول لعلته، فحيث كانت علة التيمم هي تعذر الغسل المسبب عن حرمة الدخول للمسجد استحال رفعه للحرمة المذكورة.

هذا، و حيث كان الالتزام بعدم وجوب الغسل مع جواز الدخول، أو مع حرمته، مخالفا للعمومات المقتضية لوجوب الغسل علي القادر عليه، و لجواز دخول المسجد بالتيمم المأتي به لغاية أخري، لزم الاقتصار فيهما علي مورد المحذور المانع من العمل بالعمومات.

فيقتصر في عدم وجوب الغسل- علي تقدير جواز الدخول- علي خصوص الغاية التي تيمم لها، فلو تيمم لصلاة الظهر أوقعها به، دون صلاة العصر، فضلا عن الطواف و قراءة العزائم، بل يجب الغسل لها بعد فرض التمكن منه بسبب التيمم المذكور، و ليس له التيمم لكلتا الصلاتين، لاختصاص المحذور في الغسل بالأولي منهما، بعد فرض عدم المحذور من وجوب الغسل للثانية بسبب التيمم للأولي، و فرض القدرة عليه به.

كما أنه يقتصر في حرمة الدخول علي خصوص المسجد الذي يقدر علي الغسل بالدخول فيه، دون غيره، و لو كان أهم منه كالمسجدين الشريفين.

بل يقتصر فيه علي خصوص ما إذا كان الدخول فيه مستلزما للقدرة علي الغسل، فلو ذهب الماء منه أو امتنع الأخذ منه جاز الدخول و لو عاد حرم، و هكذا.

بل يقتصر في حرمة الدخول علي خصوص الغاية التي أوقع التيمم لها، كصلاة الظهر في الفرض، لأن المصحح للتيمم لها هو تعذر الغسل لها، لا تعذره

ص: 458

______________________________

لغيرها، فلا مانع من رفعه تعذر الغسل لغيرها، فيجوز الدخول للمسجد، بل يجب لأجل الغسل لبقية الغايات، لكن بعد الإتيان بالغاية التي أوقع التيمم لها، كي لا يرفع تعذر الغسل لها.

و من الظاهر أنّ التفصيل بأحد النحوين المذكورين- لو فرض التزامهم به- بعيد في نفسه جدا، كبعد أصل المطلب و عدم مناسبته للأذواق المتشرعية، بنحو يطمأن بخلل في مبني الحكم، و هو عدم جواز الدخول للمسجد بالتيمم له، بل بالتيمم لغاية أخري، و أنه يجوز التيمم لدخول المسجد- كما سبق منا- أو لا يجوز الدخول له بالتيمم مطلقا- كما عن الفخر- أو بخلل في الوجهين العقليين المذكورين المستلزمين لأحد التفصيلين، بنحو يصعب الخروج بهما عن مقتضي العمومات.

و كيف كان، فقد يدفع الأول بأنّ الخلف إنما يلزم في الأمور التكوينية، أو الشرعية الاعتبارية إذا لم يتبدل الموضوع، أما مع تبدله فلا خلف، و لا محذور، فلا مانع في المقام من حكم الشارع أولا بوجوب التيمم دون الغسل لمثل الصلاة، لتحقق موضوعه، و هو تعذر الغسل لها، ثمَّ بعد وقوعه يتبدل الحكم إلي وجوب الغسل لها و عدم الاجتزاء بالتيمم، لارتفاع موضوعه للقدرة علي الغسل بسبب التيمم.

غايته أنّ تشريع التيمم و القدرة عليه تكوينا قبل الإتيان به لا تقتضي القدرة علي الغسل بالنحو الرافع لمشروعيته قبل الإتيان به، لئلا يلزم من تشريعه عدمه فيلغو تشريعه، بل لا بد في ارتفاع مشروعيته من فعلية القدرة علي الغسل التابعة للإتيان بالتيمم، فيلزم عدم جواز إيقاع الصلاة به بعد وقوعه، و إن ساغ به دخول المسجد و ارتفع به تعذر الغسل للصلاة، ليكون ذلك رافعا للغوية تشريعه.

و دعوي: أنه مع العلم بارتفاع مشروعية الصلاة بالتيمم بعد وقوعه لا مجال لقصدها منه غاية له.

مدفوعة: بأنّ قصدها غاية إنما هو للتقرب بها، بلحاظ أنّ قصد الغاية من ذي الغاية موجبا لكونه شروعا في امتثال أمرها، لدعوة الأمر بها إليه في طول دعوته إليها،

ص: 459

______________________________

و هو حاصل في المقام، لأن التيمم شروع في امتثال الأمر الفعلي بالصلاة مثلا، لدعوة الأمر بها إليه قبل الإتيان به.

و العلم بانقلاب الحال لتبدل الموضوع بعد ذلك، لا ينافي التقرب المتفرع علي الداعوية، و ليس هو كالعلم بعد ترتب ذي المقدمة علي بعض أفراد المقدمة في عدم إمكان التقرب بها بقصده منها في سائر الموارد، لعدم داعوية الأمر بالشي ء إلي المقدمة غير الموصلة من أول الأمر.

بل هو نظير العلم بنسخ التقييد بعد الإتيان بالمقدمة، كما لو علم بأنّ تحمله الزحمة في الوضوء موجب لنسخ الشارع وجوب الطهارة للصلاة و تقييدها بها، حيث يكون الأمر بالصلاة قبل النسخ داعيا للوضوء و إن علم بعدم شرطيته فيها حين الإتيان بها، فتأمل.

و أما الثاني، فيندفع بأنّ استحالة رفع الشي ء لعلته إنما هي بلحاظ افتقاره إليها، و هو في كل آن إنما يفتقر إلي وجود علته في ذلك الآن، لا فيما بعده بل هو ليس علة في الحقيقة، فلا مانع من رفعه لها في الآن اللاحق، فإن كانت علة له بحدوثها و بقائها ارتفع بتبعها، و إن كانت علة بحدوثها، و كان بقاؤه لاستعداد ذاته أو لعلة أخري باقية معه لم يرتفع.

و في المقام، حيث كانت صحة التيمم الواقع مسببة عن مشروعيته المسببة عن حرمة الدخول للمسجد و تعذر الغسل للصلاة قبل التيمم، فلا مانع من رفع التيمم بعد وقوعه للحرمة و التعذر المذكورين، بنحو يستلزم وجوب الغسل للصلاة و بطلان التيمم لها في الرتبة اللاحقة لحدوثه مع بقائه صحيحا بالإضافة لدخول المسجد، لبقاء تعذر الغسل بالإضافة إليه.

نعم، لو كان بطلان التيمم بالإضافة للصلاة بسبب رفعه لتعذر الغسل لها مستلزما لبطلانه بالإضافة لدخول المسجد أيضا حتي مع بقاء تعذر الغسل بالإضافة إليه، اتجه امتناع رفعه لحرمة دخول المسجد و تعذر الغسل للصلاة، لاستلزامه لغوية تشريع التيمم من أول الأمر، لعدم الأثر له.

ص: 460

______________________________

لكن الوجه المتقدم لا يفي بذلك و لا يشير إليه، كما لا مجال لتحقيقه، لبطلان ما يبتني عليه، و هو عدم جواز التيمم بداعي دخول المسجد، كما سبق.

و لا بد من التأمل فيما ذكرناه جيدا، فإنّ المسألة من المشكلات، و منه سبحانه نستمد العون و التوفيق. و هو حسبنا و نعم الوكيل.

بقي في المقام أمران.

الأول: ظهر مما سبق أنه لا مجال للإشكال في وجوب الغسل للصلاة في الفرض بناء علي جواز التيمم لدخول المساجد، للقدرة معه علي الصلاة بالغسل، فلا يشرع لها التيمم من أول الأمر، و إنما يشرع لدخول المسجد لتعذر الغسل له.

و هو ظاهر، بناء علي ما سبق منا من جواز التيمم لرفع حرمة ما يحرم علي المحدث لو تحقق الداعي له، كقراءة العزائم و مس الكتاب، علي ما تقدم نظيره في المسألة السابعة و التسعين من مباحث الوضوء.

و أما بناء علي ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه من منع ذلك و أنه لا بد في التقرب بالطهارة من قصد أمر شرعي بها و لو كان مقدميا بلحاظ شرطيتها لواجب أو مستحب، فقد حاول قدّس سرّه توجيه وجوب الغسل للصلاة.

تارة: باستحباب التيمم لدخول المسجد علي طهارة.

و أخري: باستحبابه للكون علي طهارة مطلقا و لو في غير المسجد، فيجب اختيار أحدهما لتحصيل الغسل للصلاة المقدور بسبب القدرة عليهما.

لكن من الظاهر أنّ كليهما محتاج إلي عناية في حق كثير من الناس، إذ لا بد في مقربية الأمر من صلوحه للداعوية الاستقلالية، و هو لا يتسني في حقهم، لعدم اهتمامهم بالأمرين المذكورين، و لا يدعوهم إلا ما يهمهم من وجوب الصلاة و حرمة الدخول للمسجد.

و لا مجال للاكتفاء بقصد أحدهما لأجل توقف الغسل للصلاة مع تجنب الحرمة عليه من باب داعي الداعي، لأن الداعي الحقيقي في الباب المذكور هو الداعي الأخير لا الداعي الطولي المباشر، فمع فرض عدم صلوح داعي الداعي

ص: 461

______________________________

للمقربية المعتبرة لا تصح العبادة بذلك.

فلا بد من البناء علي تكليفهم بحمل أنفسهم علي الاهتمام بأحد الأمرين المذكورين بالوعظ و الترغيب و الترهيب حتي يستقل بالداعوية، فإن تيسر لهم ذلك، و إلا تعذر منهم الغسل للصلاة، فيشرع لهم التيمم لها، كما لو لم يستحب التيمم بأحد الوجهين المذكورين.

علي أنه قد يشكل الاعتماد علي الأمر الثاني، و هو الأمر بالكون علي الطهارة، لوضوح أنه كما يقدر علي الغسل للصلاة بالتيمم للكون علي الطهارة يقدر علي الغسل للكون علي الطهارة بالتيمم للصلاة، لما سبق منا من أنه بناء علي تمامية المحذورين المتقدمين إنما يمتنع بطلان التيمم بالإضافة إلي الغاية التي أتي به لأجلها دون غيرها من الغايات، بل يتعين الغسل لها، و لذا حكم قدّس سرّه بوجوب الغسل للصلاة لو تيمم للكون علي الطهارة، فحلّ له دخول المسجد.

و حينئذ كما يكون الأمر بالصلاة عن غسل داعيا للتيمم للكون علي الطهارة، يكون الأمر بالكون علي الطهارة عن غسل داعيا للتيمم للصلاة، فيتعين التخيير.

و دعوي: أنّ أهمية أمر الصلاة لكونه وجوبيا تقتضي ترجيحه عند التزاحم.

مدفوعة: بأنّ المقام ليس من صغريات التزاحم، و لذا يجوز عنده قدّس سرّه ترك الغسل للصلاة مع القدرة عليه لو شرع له التيمم لها، حيث يجوز له حينئذ دخول المسجد و يقدر به علي الغسل، بل هو من صغريات التوارد، حيث يكون امتثال كل من الأمرين رافعا للتكليف بالآخر، و لا ترجيح فيه بالأهمية.

و هذا بخلاف الأمر بدخول المسجد عن طهارة، لوضوح تعذر الغسل له علي كل حال، فالأمر به لا يدعو للتيمم للصلاة، بل الأمر بالصلاة يدعو للتيمم له لا غير، فيجب.

و دعوي: أنّ الكون علي الطهارة مطلقا و لو في غير المسجد مستحب في كل آن و زمان، و حيث يتعذر الغسل له في الأزمنة الأولي- كالدخول للمسجد- كان الأمر به فيها داعيا للتيمم لا غير، فلا يدعو للتيمم للصلاة.

ص: 462

______________________________

مدفوعة: بأنّ التعذر الذي يشرع به التيمم في مثل الكون علي الطهارة من الغايات غير المؤقتة هو التعذر في أمد معتد به، بحيث يصدق به عرفا عدم وجدان الماء، لا التعذر في الزمن القليل، كما في الفرض.

و قد اعترف قدّس سرّه بذلك في الجملة في المسألة الواحدة و الثلاثين من فصل مسوغات التيمم من مستمسكه.

و لذا لا إشكال ظاهرا في عدم جواز التيمم مع قصر أمد تعذر الغسل، لاستحباب قراءة سور العزائم و الدخول للمسجد عن طهارة، مع وضوح استحبابهما في كل آن و زمان.

و من هنا ينحصر علي مبناه قدّس سرّه التخلص عن الإشكال بالأمر الأول، و هو استحباب الدخول للمسجد عن طهارة، لتعذره حقيقة و عرفا في محل الكلام.

و من الظاهر أنه لا مجال لنظيره فيما لو توقف الغسل أو الوضوء علي مس الكتاب المجيد، حيث لا يستحب المس عن طهارة، و إنما يحرم علي المحدث لا غير، فيجوز، بل يجب التيمم للصلاة، و يحل به المس الموجب للقدرة علي الغسل، و لكن له تأخيره بعد الصلاة بالتيمم المذكور، فرارا عن محذور الخلف.

و هو من الغرابة بمكان.

الثاني: بناء علي وجوب التيمم لدخول المسجد ثمَّ الغسل للصلاة، فلو تيمم هل يجب عليه المبادرة للغسل أو أخذ الماء أولا؟ صرح بالثاني سيدنا المصنف قدّس سرّه قال: «لعدم المقتضي له بعد كونه بالتيمم بحكم الطاهر».

لكن لما كانت الطهارة اضطرارية، فلا مجال لاستباحة المكث في المسجد بالمقدار الزائد علي الحاجة، لعدم صدق عدم الوجدان بالإضافة إليه.

و عليه يبتني وجوب المبادرة للخروج من المسجدين علي المحتلم فيهما إذا تيمم، كما سبق.

و من هنا صرح في العروة الوثقي بالاقتصار علي مقدار الحاجة، فلو فرط بالتأخير في المسجد احتاج لتجديد التيمم، لتجدد التعذر بالإضافة للزيادة فلا يكفي

ص: 463

______________________________

لها التيمم السابق علي التعذر، كما لو دخل المسجد في الفرض و أراق الماء، حيث لا يكفيه التيمم الأول للصلاة، لسبقه علي تعذر الغسل لها.

نعم، لا يبعد عدم وجوب المبادرة بعد التيمم بالدخول للمسجد- للغسل أو أخذ الماء- لأن التيمم إنما يشرع للمكث في المسجد بمقدار الحاجة، لتعذر الغسل له، من دون فرق بين أزمنته.

و ربما يحمل عليه ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه، و إن كان بعيدا بملاحظة تعليله و مساق كلامه، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

ص: 464

الفصل الثالث فيما يكره علي الجنب

الفصل الثالث قد ذكروا أنه يكره للجنب الأكل و الشرب (1)،

______________________________

(1) كما هو المصرح به في كلام جماعة كثيرة، بل في الغنية دعوي الإجماع عليه، و في التذكرة و عن فوائد الشرائع نسبته إلي علمائنا، و ظاهر غير واحد المفروغية عنه.

و ما في كلام بعض من دعوي الشهرة أو نحوها راجع لارتفاع الكراهة ببعض الأمور الآتية، لا بلحاظ أصل الكراهة، ليدل علي مخالف فيها و قائل بالحرمة.

لكن أطلق في المقنع و محكي المهذب النهي عنهما، من دون تنبيه علي الكراهة، بل في الهداية في بيان غسل الجنابة: «و إن شئت أن تتمضمض و تستنشق فافعل، و ليس ذلك بواجب، لأن الغسل علي ما ظهر لا علي ما بطن، غير أنك إذا أردت أن تأكل أو تشرب قبل الغسل لم يجز لك إلا أن تغسل يديك و تمضمض و تستنشق، فإنك إن أكلت أو شربت قبل ذلك خيف عليك من البرص»، و نحوه في الأمالي و الفقيه، و زاد فيه: «و روي: أنّ الأكل علي الجنابة يورث الفقر».

لكن لا يبعد ظهور التعليل في كلامه في الكراهة، بل يتعين حمله عليها، بلحاظ ما يأتي من المفروغية عن عدم الحرمة.

و لعله لذا نسب إليه القول بها في المعتبر و ظاهر جامع المقاصد و كشف اللثام، بل لم ينسب الخلاف إليه أحد ممن تيسر لي العثور علي كلامه.

ص: 465

______________________________

و كيف كان، فيدل علي الكراهة- مضافا إلي مرسل الفقيه «1» المتقدم الذي رواه مسندا عن أمير المؤمنين عليه السّلام في الخصال «2» و نحوه حديث المناهي «3»، و مرسلا جامع الأخبار عنه صلّي اللّه عليه و آله و مشكاة الأنوار عن أمير المؤمنين عليه السّلام «4» و إلي مرسل الفتال المتضمن أنّ الأكل علي الجنابة يورث البرص «5» - موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «لا يذوق الجنب شيئا حتي يغسل يديه و يتمضمض، فإنّه يخاف منه الوضح» «6».

و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه قال: «إذا كان الرجل جنبا لم يأكل و لم يشرب حتي يتوضأ» «7».

بل قد يحمل عليها صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: الجنب إذا أراد أن يأكل و يشرب غسل يده و تمضمض و غسل وجهه و أكل و شرب» «8».

و صحيح عبد الرحمن: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ يأكل الجنب قبل أن يتوضأ؟ قال: إنا لنكسل، و لكن ليغسل يده، فالوضوء أفضل» «9».

لأن الأمر فيهما و إن كان ظاهرا بدوا في استحباب الأمور المذكورة قبل الأكل، لا كراهته بدونها، إلا أنّ تنزيله علي الكراهة جمعا مع ما سبق قريب جدا.

بل الظاهر تنزيله عليها مع قطع النظر عما سبق، لأن الاستحباب إنما يكون لتحصيل مرتبة من الكمال، و اختصاص ذلك بالجنب بعيد جدا، بل المناسب

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(4) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 3 و 4.

(5) الوسائل باب: 40 من أبواب آداب الحمام حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(7) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(8) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(9) الوسائل باب: 20 من أبواب الجنابة حديث: 7.

ص: 466

إلا بعد الوضوء أو المضمضة و الاستنشاق (1)،

______________________________

ورود الأمر بالأمور المذكورة لتجنب نقص يختص به الجنب، و هو معني كراهة الأكل بدونها، بل هو الظاهر من السؤال في صحيح عبد الرحمن.

و مما سبق يظهر ضعف ما في المدارك من انحصار الدليل بالصحيحين المذكورين، و أنّ الأول منهما تضمن الأمر بالأمور المذكورة فيه، و الثاني تضمن استحباب الوضوء أو غسل اليد، و ليس فيهما دلالة علي كراهة الأكل و الشرب بدون ذلك.

و قريب منه ما في جامع المقاصد من استحباب ما عدا المضمضة و الاستنشاق مع زوال الكراهة بهما، و ما في المسالك من ابتناء الكراهة مع الاقتصار عليهما علي كراهة ترك المستحب.

لابتناء جميع ذلك علي غض النظر عن ظاهر بقية النصوص، و إغفال ما ذكرناه في الصحيحين.

هذا، و كأنّ وجه حمل النهي و الأمر في النصوص علي الكراهة دون الحرمة مناسبتها للتعليل الذي تضمنته النصوص، و ظهور شدة اختلافها في رافع النهي في عدم أهميته، مضافا إلي ظهور المفروغية عن عدم الحرمة بين الأصحاب، مع سيرة المتشرعة القطعية، حيث لا يحتمل خفاء مثل هذا الحكم الذي يشيع الابتلاء به.

و أما موثق ابن بكير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب، يأكل و يشرب و يقرأ القرآن؟ قال: نعم يأكل و يشرب و يقرأ و يذكر اللّه عز و جل ما شاء» «1»، ففي صلوحه للقرينية علي حمل النصوص المتقدمة علي الكراهة إشكال، لإمكان حمله علي الجواز من حيثية الجنابة مع التوقف علي أحد الأمور المذكورة في تلك النصوص.

(1) كما في المنتهي و الدروس و الروض و الروضة و عن التحرير و نهاية الاحكام. و اقتصر علي المضمضة و الاستنشاق في المبسوط و النهاية و إشارة السبق

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 467

______________________________

و الغنية و الوسيلة و الشرائع و النافع و التذكرة و القواعد و الإرشاد و اللمعة و محكي الاقتصاد و المصباح و مختصره و السرائر و فوائد الشرائع، و نسبه في المعتبر للصدوقين و الشيخين و المرتضي و أتباعهم، و ظاهر كشف اللثام أنّه المشهور، بل ظاهر الغنية و التذكرة و محكي فوائد الشرائع الإجماع عليه.

و زاد عليهما الصدوق فيما تقدم غسل اليدين.

و جعله في المسالك الأفضل. قال: «و أكمل من الجميع الوضوء».

و زاد في محكي النفلية علي المضمضة و الاستنشاق غسل الوجه.

و اقتصر في المعتبر و محكي شرح الجعفرية علي غسل اليد و المضمضة.

و ذكر في المقنع غسل الفرج و الوضوء.

لكن لم يتضح الوجه لغسل الفرج، و في كشف اللثام أنه لم يظفر له بسند.

كما أنّ الاستنشاق لم تتضمنه النصوص السابقة.

و استفادته منها تبعا من ذكر المضمضة، للتلازم بينهما غالبا، ممنوعة، و لا سيما في المقام، لأن المناسب للأكل هو المضمضة دون الاستنشاق.

نعم، في الرضوي: «و إذا أردت أن تأكل علي جنابتك فاغسل يديك و تمضمض و استنشق ثمَّ كل و اشرب، فإن أكلت أو شربت قبل ذلك أخاف عليك البرص، و لا تعد إلي ذلك» «1».

لكن من البعيد اعتماد من سبق عليه.

و أما بقية الأمور المذكورة في كلماتهم، فقد تضمنتها النصوص المتقدمة علي اختلاف ألسنتها من حيثية الاقتصار علي بعضها، و الجمع بينه و بين غيره، و بيان الأفضلية لبعضها علي بعض، كالوضوء علي غسل اليدين.

و لا وجه للعمل ببعض هذه النصوص دون بعض، كما يظهر من جملة منهم، فضلا عن الاقتصار علي بعض مضمون النص الواحد، كالمشهور حيث لم يذكروا غسل اليدين مع اشتمال نصوص المضمضة عليه، و المحقق في المعتبر حيث لم

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 12 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 2.

ص: 468

______________________________

يذكر غسل الوجه مع استدلاله علي مختاره بصحيح زرارة، بل كان الأولي له الاستدلال بموثق السكوني.

و الذي يقتضيه الجمع العرفي بين النصوص في أمثال المقام هو أفضلية الزيادة مع الاختلاف في الأقل و الأكثر، و استحباب كل من الأمرين مع أفضلية الجمع بينهما لو كانا متباينين، دون التخيير، لظهور النص في استحباب ما تضمنه تعيينا.

و لا مجال لقياسه علي الواجبات، حيث قد يجمع فيها بالتخيير، لمعارضة الظهور المذكور فيها بظهور أدلتها أيضا في إجزاء ما تضمنته بنحو ينافي وجوب غيره فقد يقدم عليه، بخلاف المستحبات، إذ لا ظهور لأدلتها في الإجزاء بنحو ينافي استحباب أمر آخر.

و الذي يتحصل من جميع النصوص المتقدمة: استحباب غسل اليدين- عملا بصحيح عبد الرحمن- و أفضل منه الوضوء- كما تضمنه الصحيح المذكور أيضا، و عليه يحمل صحيح الحلبي- أو غسل اليدين و المضمضة- كما يحمل عليه موثق السكوني- ثمَّ إضافة غسل الوجه لها- كما يحمل عليه صحيح زرارة- أو الاستنشاق- كما يحمل عليه الرضوي- و الأفضل من الكل غسل اليدين و المضمضة و الاستنشاق و الوضوء.

و لا يجزئ الوضوء عن غسل اليدين مع المضمضة و الاستنشاق، لأن المنصرف من نصوصهما استحباب تقديم غسل اليدين عليهما.

نعم، لو تقدم الوضوء عليهما أمكن الاجتزاء بغسل اليدين الذي تضمنه، لكن لا يبعد استحباب تقديمهما، ليجمع بين الوظائف المذكورة و كمال الوضوء.

هذا كله بلحاظ أصل الكراهة.

و أما خصوصية الكراهة من حيثية خوف الوضح- الذي هو البرص- فظاهر موثق السكوني عدم ارتفاعها إلا بغسل اليدين و المضمضة، و ظاهر الرضوي لزوم ضم الاستنشاق إليهما، فليحمل علي كونه أدفع لاحتماله.

ص: 469

______________________________

و لا ينافيهما بقية النصوص، ليتعين الجمع بينهما و بينها بما سبق، لإمكان كون المنظور فيها الكراهة من جهات أخر.

بقي في المقام أمران.

الأول: ظاهر النصوص و كلمات جملة من الأصحاب ارتفاع الكراهة بما تضمنته من الأمور. لكن أطلق في الشرائع كراهة الأكل و الشرب للجنب و خفتها بالمضمضة و الاستنشاق، و هو الظاهر مما عن الاقتصاد و المصباح و مختصره من أنه يكره الأكل و الشرب إلا عند الضرورة، و عند ذلك يتمضمض و يستنشق. بل قد يظهر مما في النهاية و عن السرائر من إطلاق كراهتهما، و أنه لو أرادهما فليتمضمض و ليستنشق.

و في جامع المقاصد أنّ منشأه اختلاف الأخبار، لاشتمالها علي غيرهما أيضا.

و لأجله بني- كما في المسالك أيضا- علي زوالها بهما، و أنّ الإتيان بغيرهما أفضل، كما سبق و سبق الكلام فيه.

لكنه خلاف ظاهر الشرائع، إذ لو كان يري زوال الكراهة بشي ء لناسب ذكره، بل مقتضي إطلاقه بقاء الكراهة حتي مع فعل جميع الوظائف السابقة.

و كأنه لإطلاق ما سبق مما تضمن أنّ الأكل علي الجنابة يورث الفقر، إذ لا يصلح الأمر بالوظائف المتقدمة للخروج عنه، لإمكان خفة الكراهة بها.

كما لا ينافيه ظهور موثق السكوني و الرضوي في زوال الكراهة من حيثية خوف البرص.

الثاني: قال في جامع المقاصد: «و ينبغي أن يراعي في الاعتداد بهما عدم تراخي الأكل و الشرب عنهما كثيرا في العادة، بحيث لا يبقي بينهما ارتباط عادة، و تعدد الأكل و الشرب و اختلاف المأكول و المشروب لا تقتضي التعدد إلا مع تراخي الزمان، لصدق الأكل و الشرب علي المتعدد باعتبار كونهما مصدرين»، و نحوه في المدارك. و عن المجمع احتمال التعدد إذا طال الزمان أو تخلل الحدث.

ص: 470

______________________________

لكن لم يتضح الوجه لاعتبار الاتصال العرفي و عدم الفصل الطويل، إذ لم تتضمن النصوص إلا تقديم الوظائف المذكورة علي الأكل و الشرب لا كونها عندهما.

كما أنّ ما ذكروه من التعدد بتعدد الأكل و الشرب مبني علي كون الأمر بالوظائف المذكورة عند الأكل و الشرب بنحو الانحلال، بمعني ثبوتها عند كل أكل أو شرب.

و هو مخالف لظاهر النصوص المتقدمة، بل مقتضي إطلاقها الاجتزاء بها مرة واحدة و لو مع تعدد الأكل و الشرب، كما هو المناسب لارتكاز كون الغرض منها إزالة بعض آثار الجنابة و الطهارة منها، و من شأن الطهارة البقاء لو لا الرافع. كيف و لازم ذلك التعدد مع الجمع بين الأكل و الشرب في مجلس واحد، لتعدد المصدر؟! نعم، قد يوهم التعدد صحيح زرارة، لأن مقتضي الجمود عليه تبعية الوظيفة المذكورة فيه لإرادة الأكل و الشرب، فتتعدد بتعددها.

لكن الجمود عليه يقتضي عدم الاجتزاء بها لو أتي بها لا لأجل الأكل و الشرب، بل تجددت إرادتهما بعدها بلا فاصل، و لا يظن الالتزام به من أحد، فالمنصرف من ذكر الإرادة لمحض بيان توقف متعلقها- و هو الأكل و الشرب- علي الإتيان بالوظيفة، و مقتضي الإطلاق الاجتزاء بها مرة واحدة، و لو مع تعدد الأكل و الشرب.

و أما تكرار الوظيفة مع تجدد سبب الجنابة، فهو لا يخلو عن وجه، لقضاء المناسبات الارتكازية بأنّ الاحتياج لها مسبب عنه، لتحصيل مرتبة من الطهارة عما سببه من الحدث، فتنتقض بتكرره، و إن لم تتجدد الجنابة، لاستمرارها من السبب الأول.

كما لا يبعد البناء علي إعادة الوضوء بالحدث الأصغر، لإطلاق أدلة ناقضيته له.

ص: 471

و يكره قراءة ما زاد علي سبع آيات (1)

______________________________

(1) استيفاء فروع المسألة يتم بالكلام في أمور.

الأول: يجوز للجنب قراءة القرآن في الجملة، علي المعروف من مذهب الأصحاب.

و يشهد به النصوص الكثيرة، كموثق ابن بكير «1» المتقدم في الأكل و الشرب و غيره مما يأتي.

لكن في الذكري: و عن سلار في الأبواب تحريم القراءة مطلقا. لاشتهار النهي عن قراءة القرآن للجنب و الحائض في عهد النبي صلّي اللّه عليه و آله بين الرجال و النساء، و من ثمَّ تخلص عبد اللّه بن رواحة من تهمة امرأته بأمته بشعر موهما القراءة، فقالت:

صدق اللّه و كذب بصري، فأخبر النبي صلّي اللّه عليه و آله، فضحك حتي بدت نواجذه. و عن علي عليه السّلام: «لم يكن يحجب النبي صلّي اللّه عليه و آله عن قراءة القرآن شي ء سوي الجنابة» «2» و عنه: «لا يقرأ الجنب و الحائض شيئا من القرآن».

لكن الاشتهار بالنحو المذكور ممنوع، و لا يثبت بالرواية المذكورة مع ضعف سندها، بل دلالتها، لإمكان كون النهي للكراهة، لعدم وروده في مقام الحث علي العمل، و اقتناع المرأة لعله مستند لاعتقاد أنه للتحريم، أو تجنب زوجها للمكروه.

و احتجاز النبي صلّي اللّه عليه و آله لا يكشف عن الحرمة.

و أما النهي، فيظهر الحال فيه مما يأتي.

نعم، في موثق السكوني عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «سبعة لا يقرأون القرآن: الراكع و الساجد و في الكنيف و في الحمام

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) روي ذلك في مستدرك الوسائل بسندين عن ابن أبي الدنيا عن أمير المؤمنين عليه السّلام باب: 11 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 2، 3.

ص: 472

______________________________

و الجنب و النفساء و الحائض» «1».

و في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله له عليه السّلام التي رواها الصدوق بإسناده إلي أبي سعيد الخدري: أنه قال: «يا علي من كان جنبا في الفراش مع امرأته فلا يقرأ القرآن، فإني أخشي أن تنزل عليهما نار من السماء فتحرقهما» «2».

و في موثق عبد الرحمن أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الحائض، هل تقرأ القرآن و تسجد سجدة إذا سمعت السجدة؟ قال: [لا تقرأ] و لا تسجد» «3». بناء علي اتحادهما في الحكم.

لكن الموثق لا ينهض بالخروج عن النصوص الكثيرة الدالة علي الجواز في المقام و غيره من الموارد التي تضمنها مع كثرتها و قوة دلالتها، و عمل الأصحاب بها، بل مفروغيتهم عن الجواز، حتي صرح به سلار نفسه في المراسم، لامتناع خفاء مثل هذا الحكم الذي يكثر الابتلاء به عليهم، فلا بد من حمله علي الكراهة أو علي عدم الاستحباب أو خفته، أو طرحه.

و منه يظهر الحال في الأخيرين و مرسل الذكري المتقدم.

علي أنّ حديث عبد الرحمن و إن روي هكذا في الاستبصار، إلا أنه روي في التهذيب: «تقرأ و لا تسجد». و الآخران ضعيفان.

و حديث أبي سعيد الخدري أخص من المدعي، محتمل للنسخ، لما حققناه في محله من أنه لا دافع لاحتمال النسخ فيما روي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله من غير طرق الأئمة عليهم السّلام، فلا ينهض بصرف نصوص المقام عن ظاهرها لو اقتضاه الجمع العرفي، فضلا عن معارضتها و إسقاطها عن الحجية لو كان التعارض مستحكما.

و أما حملها علي خصوص العزائم- كما عن الصدوق في بعضها- أو علي ما

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب قراءة القرآن و لو في غير الصلاة حديث: 1. و رواه في الخصال في باب السبعة حديث: 42 ص: 326 طبع النجف الأشرف.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 36 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 473

______________________________

زاد علي السبع آيات، فبعيد جدا.

الثاني: مقتضي اقتصار جملة من الأصحاب علي بيان كراهة ما زاد علي سبع آيات عدم كراهة ما دونها، بل عن تلخيص التلخيص الإجماع علي عدم الكراهة فيها كما قد يستظهر من الغنية، حيث قال: «و يحرم عليه قراءة العزائم الأربع. و ما عداها داخل تحت قوله تعالي فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ.»، ثمَّ ذكر بقية المحرمات و المكروهات و قال: «كل ذلك بدليل الإجماع».

لكن مقتضي إطلاق الصدوق في الخصال عموم الكراهة، حيث قال بعد ذكر موثق السكوني المتقدم: «هذا علي الكراهة، لا علي النهي، و ذلك لأن الجنب و الحائض مطلق لهما قراءة القرآن إلا العزائم الأربع.»، كما حكي الإطلاق أيضا عن ابن سعيد، و إليه يرجع ما في المراسم من جعله من التروك المندوبة.

و يقتضيه النصوص المتقدمة التي يصعب حملها علي ما زاد علي السبع آيات، كما تقدم.

و لا ينافيها ما تضمن إطلاق قراءته لهما من النصوص الكثيرة، لورودها لبيان الجواز، و لا سيما بلحاظ استثناء العزائم فيها.

كما لا يمنع منه موثق سماعة: «سألته عن الجنب، هل يقرأ القرآن؟ قال: ما بينه و بين سبع آيات» «1»، قال الشيخ قدّس سرّه: «و في رواية زرعة عن سماعة: سبعين آية» «2»، لإمكان حمله علي شدة الكراهة فيما زاد علي السبع أو السبعين.

و مثله ما تضمن الحث علي قراءة القرآن علي كل حال، كصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في وصية النبي لعلي: «و عليك بتلاوة القرآن علي كل حال» «3»، لإمكان تخصيصه بالنصوص المتقدمة، كما يخصص بما تضمن كراهة القراءة حال التغوط، علي ما تقدم في آداب التخلي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب قراءة القرآن و لو في غير الصلاة حديث: 1.

ص: 474

______________________________

نعم، قد ينافيه صحيح معاوية بن عمار عنه عليه السّلام: «قال: تتوضأ الحائض إذا أرادت أن تأكل، و إذا كان وقت الصلاة توضأت و استقبلت القبلة و هللت و كبرت و تلت القرآن و ذكرت اللّه عز و جل» «1»، لظهوره في الحث علي القراءة للحائض، بل كونها من المستحبات الموظفة لها.

لكنه أخص من النصوص المتقدمة، فيقتصر علي مورده، و يرجع في غيره لإطلاق النصوص المذكورة.

و أما توهينها.

تارة: بمخالفتها لفتوي المشهور، كما في الجواهر.

و اخري: بموافقتها للعامة، لدوران أقوالهم بين الحرمة و الكراهة، فيلزم حملها علي التقية، كما في الحدائق.

فهو كما تري! لأن الانجبار و التوهين بالشهرة في الفتوي إنما يتجه في الأحكام الإلزامية، دون الاستحباب و الكراهة، لظهور شدة تسامحهم في أدلتهما سندا و دلالة، بنحو يمنع غالبا من الركون إلي إجماعهم، فضلا عن شهرتهم.

كما أنّ موافقة العامة إنما تقتضي الحمل علي التقية مع استحكام التعارض بين النصوص، لا مع إمكان الجمع العرفي.

علي أنّ العامة مختلفين في ذلك أشد الاختلاف، كما اختلف النقل عنهم، و منهم من أطلق الجواز للجنب، كداود، و حكاه بعضهم عن قوم منهم، و آخر عن الشافعي و ثالث عن مالك، كما حكي عنه الإطلاق للحائض مع الاقتصار في الجنب علي الآية و الآيتين أو الآيات القليلة، كما اشتهر عن الشافعي إطلاق المنع. إلي غير ذلك مما يظهر بمراجعة الكتب المتعرضة لأقوالهم.

الثالث: المعروف من مذهب الأصحاب كراهة قراءة ما زاد علي سبع آيات، و به صرح جملة منهم، و في الحدائق و محكي المختلف و تلخيص التلخيص أنه

______________________________

(1) الوسائل باب: 40 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 475

______________________________

المشهور. بل في الانتصار دعوي الإجماع علي جواز قراءة الجنب و الحائض ما شاءا من القرآن إلا العزائم، و قد يستفاد من كلام الغنية المتقدم، كما حكيت دعواه علي الإباحة عن الخلاف و المعتبر و المنتهي و نهاية الاحكام و أحكام الراوندي.

لكن لا يبعد كون مراد الخلاف الإجماع علي الرجوع للبراءة، كيف و قد صرح بوجود القائل منا بحرمة ما زاد علي السبع، بل لا يظهر منه البناء علي عموم الإباحة، لأنه حوّل الكلام في اختلاف الأخبار في مقدار ما يقرءانه علي التهذيب و الاستبصار، كما أشار إلي القول المذكور في المعتبر و صرح في المنتهي بوجود القائل بحرمة ما زاد علي السبعين.

و كأن منصرف معقد الإجماع في كلام بعضهم عدم التقييد ببعض السور، نظير العزائم، لا ما يعم الكمية.

و كيف كان، فقد حكي القول بالحرمة عن القاضي، و قد عرفت حكايته في الخلاف عن بعض أصحابنا، و قد يظهر من المقنعة، لقوله: «فإذا أجنب الإنسان. فلا يقرب المساجد إلا عابري سبيل. و لا يمس اسما من أسماء اللّه تعالي. و لا يمس القرآن، و لا بأس أن يقرأ من سور القرآن و آية ما بينه و بين سبع آيات ما شاء إلا أربع سور منه.»، و قريب منه في النهاية، بل هو ظاهر التهذيب، حيث استدل لما في المقنعة بأنه مقتضي الجمع بين الأخبار، و جعله أحد وجهي الجمع في الاستبصار، و في المبسوط: «و الاحتياط أن لا يزيد علي سبع آيات أو سبعين آية».

كما أنّ ظاهر المدارك و الحدائق الجواز و عدم الكراهة، كما قد يشعر به ما عن المختلف، و ربما يستشعر من إطلاق نفي البأس عن قراءة القرآن كله عدا العزائم في الفقيه و المقنع و الهداية، و من عدم التعرض للكراهة في الانتصار و الخلاف و محكي السرائر و غيرها.

لكن نفي البأس محمول علي نفي الحرمة، و لا سيما مع استثناء العزائم، و عدم التعرض للكراهة لا يستلزم البناء علي عدمها.

و الوجه في الحرمة موثق سماعة المتقدم.

ص: 476

______________________________

لكن لا مجال لرفع اليد به عما دل علي جواز قراءة الجنب و الحائض ما شاءا من القران، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: الحائض و الجنب هل يقرءان من القرآن شيئا؟ قال: نعم ما شاءا إلا السجدة، و يذكران اللّه علي كل حال» «1»، و نحوه حديث محمد بن مسلم «2» فيهما، و صحيح الحلبي فيهما و في المتغوط «3»، و خبر عبد الغفار في الحائض «4»، و قريب منها موثق ابن بكير فيها و في الجنب، و قد تقدم في الأكل و الشرب.

لبعد حمل ذلك علي خصوص السبع آيات، بل يتعين حمل الموثق علي الكراهة فيما زاد علي السبع، بل شدتها، كما سبق.

و أما ما في الحدائق من حمل الموثق علي التقية و احتمله في الوسائل لتشديد العامة في ذلك.

فلا مجال له، لا لعدم قول للعامة بالتفصيل المذكور- و إن ذكره في الحدائق- لأنه يناسب ما سبق عن مالك، بل لما سبق من عدم الحمل علي التقية إلا مع تعذر الجمع العرفي، و لا سيما مع معروفية الكراهة بين الأصحاب.

و مثله ما في المعتبر، حيث قال: «و زرعة و سماعة واقفيان مع إرسال الرواية، و روايتهما هذه منافية لعموم الروايات المشهورة الدالة علي إطلاق الإذن عدا السجدة، و إنما اخترنا ما ذهب إليه الشيخ تفصّيا من ارتكاب المختلف فيه»، و قريب منه في المنتهي.

و من ثمَّ استشكل في المدارك في الكراهة.

وجه اندفاعه: أنّ الوقف لا يمنع من العمل بالرواية مع الوثاقة، و الإرسال في أحد طريقي الرواية لا يمنع من الاحتجاج بها مع روايتها أيضا بطريق معتبر، كما

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 19 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 477

______________________________

أنها لا تنافي عموم الإذن بعد حملها علي الكراهة بمقتضي الجمع العرفي اللازم.

الرابع: نقل في المنتهي و محكي التحرير عن بعض أصحابنا القول بتحريم ما زاد علي السبعين آية، بل عن نهاية الاحكام حكايته عن القاضي، كما سبق من المبسوط الإشارة لاحتماله.

و اقتصر في الوسيلة و محكي المختلف في الكراهة علي المقدار المذكور.

و هما مبنيان علي معارضة رواية زرعة عن سماعة لموثقته، الموجب للاقتصار علي المتيقن منهما، و هو السبعين، إما للعلم بصدق أحد النقلين، أو للبناء علي حجية المتعارضين في القدر المشترك بينهما مطلقا، أو في أمثال المقام مما يبتني فيه الخلاف علي الاشتباه و الخطأ في أحد النقلين، للاطمئنان بكونهما رواية واحدة قد وقع الخطأ في أحد نقليها، نظير اختلاف النسخ، علي ما ذكرناه في مبحث التعارض من الأصول.

و يشكل بعدم صلوح رواية زرعة عن سماعة للمعارضة، لعدم حجيتها في نفسها، لانقطاع سندها بين الشيخ و زرعة.

و أشكل من ذلك ما في الشرائع و التذكرة و القواعد و الإرشاد و عن التحرير و البيان و مجمع البرهان، من شدة الكراهة و تأكدها بما زاد علي السبعين.

لابتنائه علي أنّ رواية زرعة- مع حجيتها في نفسها- رواية أخري غير الموثقة، ليمكن الجمع بينهما عرفا بالحمل علي ذلك.

لكن الظاهر أنها رواية واحدة قد وقع الاختلاف في نقلها، كما سبق، فلا موضوع للجمع العرفي بينهما، لاختصاصه بالكلامين الصادرين عن المعصوم و لو بمقتضي دليل الحجية، و لا يجري في الاختلاف في نقل الكلام الواحد المستلزم لتكاذب النقلين و سقوطهما بذلك عن الحجية في إثبات مضمونه.

و من هنا لا مجال لابتناء حكمهم بشدة الكراهة علي قاعدة التسامح في أدلة السنن، المصححة للاعتماد علي رواية السبعين و إن لم تبلغ مرتبة الحجية

ص: 478

______________________________

بنفسها، لأن مضمون الرواية المذكورة- علي ما ذكرنا- ثبوت أصل الكراهة بالزيادة علي السبعين، لا شدتها.

نعم، لو كان مبني الكراهة عندهم علي رجحان الاحتياط بالترك لاحتمال الحرمة لوجود القول بها لا للاعتماد علي الرواية- كما يظهر من المعتبر- اتجه تأكدها فيما زاد علي السبعين، لأقوائية احتمال الحرمة فيه منه فيما دونه مما زاد علي السبع.

ثمَّ إنّ ظاهر الموثقة أنّ النهي عن الزيادة علي السبع بنحو الانحلال المستلزم لشدة الكراهة، تبعا لزيادة الكمية و إن لم تبلغ السبعين، فضلا عما إذا زادت عليها.

فلا بد أن يكون مرادهم من شدة الكراهة بالزيادة علي السبعين تجدد عنوان بها غير عنوان الزيادة علي السبع موجب للكراهة، زائدا علي الكراهة الناشئة منه.

فلاحظ.

الخامس: الظاهر أنه لا يعتبر في العدد من السبع أو السبعين التوالي و لا اتحاد المجلس، بل المعيار علي وقوعه في تمام مدة الجنابة، كما صرح به في المسالك و الروضة، عملا بإطلاق النص.

كما أنّ مقتضي إطلاقه عدم الفرق بين الآية الطويلة و القصيرة، كما في جامع المقاصد.

السادس: حكي في الروض عن بعضهم صدق العدد بتكرار الآية الواحدة، و تردد فيه في الروضة، و احتمله في كشف اللثام، و جزم به في المسالك.

و هو مخالف لظاهر النص. و حمله علي مجرد التقدير لبيان كمية القراءة، دون المقروء، لا شاهد له. و كذا التعدي لذلك بفهم عدم الخصوصية أو بتنقيح المناط. فيتعين البناء علي عدم كراهة التكرار، كما صرح به في جامع المقاصد.

نعم، لو أكمل السبع فقد يدعي كراهة تكرارها، لتحقق غاية الترخيص في

ص: 479

______________________________

قراءة القرآن الصادقة علي التكرار المذكور.

اللهم إلا أن يدعي انصراف- بقرينة الجواب- لتحديد المقروء، لا لتحديد مطلق قراءة القرآن، فتأمل جيدا.

السابع: قال في كشف اللثام: «و في نهاية الاحكام: لو قرأ السبع أو السبعين، ثمَّ قال: سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين، علي قصد إقامة سنة الركوب لم يكن مكروها، لأنه إذا لم يقصد القرآن لم يكن فيه إخلال بالتعظيم، قال: و كذا لو جري علي لسانه آيات من العزائم لا بقصد القرآن لم يكن محرما. و عندي في ذلك نظر».

و الذي ينبغي أن يقال: إن أريد بقصد القرآن تمحض القراءة لقصد تلاوته، في مقابل قصد التعوذ أو التبرك أو أداء السنة الخاصة به، فهو غير معتبر في صدق القرآن علي المقروء، و لا في الدخول في إطلاق النصوص السابقة و غيرها. و عدم منافاة التعظيم بدونه- لو تمَّ- لا يصلح للخروج عنه.

و إن أريد به قصد حكايته، في مقابل قصد حكاية غيره أو قصد إنشاء المضمون، فلا إشكال في اعتباره في صدق قراءة القرآن علي المقروء- كما تقدم في المسألة التاسعة و التسعين من مباحث الوضوء- فيخرج عن إطلاق النصوص المذكورة.

إلا أنّ في تأدي السنن به إشكال، لظهور جملة من نصوصها في إرادة قراءة القرآن، مثل ما تضمن عنوان القراءة، لظهوره في عدم الاستقلال بالإنشاء، بل هو كالصريح مما تضمن إضافتها لمثل الآية أو نحوها مما يضاف للقرآن.

و كذا ما تضمن قول المضامين القرآنية التي ليس من شأن المكلف الاستقلال بإنشائها، كقوله تعالي قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. «1»، حيث يتعين انصراف الأمر بقوله إلي حكاية القرآن به.

كما أنه الظاهر من بعض النصوص الأخر، كخبر عبد الحميد عن أبي

______________________________

(1) سورة الكهف: 110.

ص: 480

______________________________

الحسن عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: من قال إذا ركب الدابة: بسم اللّه لا حول و لا قوة إلّا باللّه الحمد للّه الذي هدانا لهذا و ما كنا لنتهدي لو لا أن هدانا اللّه الآية، سبحان الذي سخر لنا.» «1»، فإنّ مقتضي قوله صلّي اللّه عليه و آله: «الآية» المفروغية عن قصد القرآن بما سبق، و مقتضي السياق إرادته فيما بعده.

بل لا يبعد انصراف جميع نصوص السنن الواردة في التعويذ و التبرك بمضامين القرآن الكريم إلي صورة حكايته، فيدخل في باب التعويذ و التبرك بالقرآن، لا بالمضمون نفسه، مع الاستقلال بإنشائه من دون قصد الحكاية.

هذا، و قد يدعي أنّ إطلاق دليل كراهة قراءة القرآن للجنب مطلقا أو فيما زاد علي السبع أو السبعين معارض بإطلاق أدلة السنن المذكورة، و حيث كان بينهما عموم من وجه يتساقطان و يرجع لعموم ما دل علي استحباب قراءة القرآن، لو لم نقل بمرجحية العموم المذكور لإطلاق أدلة السنن المذكورة.

و فيه: أنّ مرجع كراهة قراءة القرآن حال الجنابة ليس إلي مانعية الجنابة من استحباب قراءته، تخصيصا لعموم استحبابها علي كل حال أو استحباب أداء السنن المذكورة، بل إلي خروج القراءة حال الجنابة عن أفراد المستحب، مع بقاء الاستحباب حال الجنابة، و لذا يستحب للجنب الغسل لتلاوة القرآن أو لأداء السنن المذكورة، كما يجب الوضوء للصلاة أو يستحب للطواف المستحب.

و مرجع ذلك إلي أنه يستحب في حق الجنب و غيره القراءة في غير حال الجنابة، و مع تعذر الغسل لا يسقط استحباب القراءة لعدم الموضوع له، بل لتعذر القراءة المستحبة، كما تتعذر سائر المستحبات التي تمنع الجنابة عنها كالصلاة و نحوها.

و هكذا الحال في الحائض، لأن السياق و المناسبات الارتكازية تقضي بأنّ حدث الحيض كالجنابة مانع من تحقق المستحب، لا من استحبابه، و أنّ سقوط استحبابه للتعذر، لا لعدم الملاك، و لذا يستحب للحائض بعد انقطاع الدم المبادرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب آداب السفر و غيره حديث: 2.

ص: 481

من غير العزائم (1)، بل الأحوط استحبابا عدم قراءة شي ء من القرآن (2) ما دام جنبا. و يكره أيضا مس ما عدا الكتابة من المصحف (3)، و النوم جنبا (4)،

______________________________

بالغسل، لأداء المستحب، كالجنب.

و عليه يكون دليل كراهة قراءة القرآن للجنب و الحائض حاكما علي أدلة السنن المذكورة، لأنه شارح لموضوعها، نظير ما دل علي اعتبار الطهارة في الصلاة مع دليل وجوبها أو استحبابها في بعض الموارد، فيتعين تقديمه عليها و إن كان بينهما عموم من وجه، فلاحظ.

(1) بناء علي أنّ المحرم عليه تمام السور. أما بناء علي اختصاص التحريم بآية السجدة، فحكم باقي السور حكم سائر القرآن.

(2) و يشتد رجحان الاحتياط المذكور فيما زاد علي السبع، و أشد منه ما زاد علي السبعين.

(3) كما في المبسوط و الخلاف و المراسم و الوسيلة و الشرائع و المنتهي و التذكرة و غيرها، و حكاه في المعتبر عن المقنعة و النهاية و الصدوقين.

لكن لم أعثر في المقنعة علي ذلك، و لا في الفقيه و الهداية و النهاية إلا علي التصريح بالجواز، و لا في المقنع إلا علي ما يظهر منه التحريم، حيث قال: «و لا يجوز لك أن تمس المصحف و أنت جنب، و لا بأس أن يقلب لك الورق غيرك، و تنظر فيه و تقرأ»، و هو الذي حكاه في المعتبر و المنتهي عن المرتضي، و قد تقدم عند الكلام في حرمة المس الكلام في دليله، و أنّ اللازم البناء علي الكراهة.

هذا، و ألحق به في المنتهي و التذكرة حمل المصحف، و الوجه فيه خبر إبراهيم بن عبد الحميد «1» المتقدم في حرمة المس.

(4) كما هو المعروف بين الأصحاب المصرح به في كلام جماعة كثيرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 482

______________________________

منهم، المدعي عليه الإجماع في الغنية و المنتهي و ظاهر المعتبر و التذكرة.

و عدم التعرض له في الفقيه و المقنع و الهداية و المقنعة لا يكشف عن الخلاف فيه.

و يقتضيه صحيح الحلبي: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل، أ ينبغي له أن ينام و هو جنب؟ فقال: يكره ذلك حتي يتوضأ» «1».

و ما في حديث الأربعمائة: «لا ينام المسلم و هو جنب، و لا ينام إلا علي طهور، فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد» «2».

و صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يواقع أهله أ ينام علي ذلك؟ قال: إنّ اللّه يتوفي الأنفس في منامها و لا يدري ما يطرقه من البلية، إذا فرغ فليغتسل» «3».

و هي محمولة علي الكراهة، جمعا مع صحيح سعيد الأعرج: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ينام الرجل و هو جنب و تنام المرأة و هي جنب» «4».

و موثق سماعة: «سألته عن الجنب يجنب ثمَّ يريد النوم. قال: إن أحب أن يتوضأ فليفعل، و الغسل أحب إلي و أفضل من ذلك، و إن هو نام و لم يغتسل فليس عليه شي ء إن شاء اللّه» «5».

و منه يظهر ضعف ما عن المهذب من إطلاق النهي عن نوم الجنب حتي يغتسل أو يتمضمض و يستنشق.

إلا أن يحمل علي الكراهة، لبعد مخالفته لما عرفت، المعتضد بالسيرة القطعية التي لا يمكن خطؤها في مثل هذا الحكم الذي يكثر الابتلاء به.

نعم، قد ينافي ذلك خبر النهدي: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ثلاثة لا

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 483

إلا أن يتوضأ (1)،

______________________________

يقبل اللّه لهم صلاة: جبار كفار، و جنب نام علي غير طهارة، و المتضمخ بخلوق» «1».

و خبر الجعفريات بسنده عن الصادق عليه السّلام: «سمعت أبي عليه السّلام يقول: إني لأجنب أول الليل فما اغتسل حتي آخر الليل عمدا حتي أصبح» «2».

لعدم مناسبة الأول للجواز، و لا الثاني للكراهة.

لكنه سهل بعد ضعفهما و غرابة مضمون الأول، و إمكان حمل الثاني علي صورة إرادة العود، نظير ما في الفقيه: «و في حديث آخر: أنا أنام علي ذلك حتي أصبح، و ذلك أني أريد أن أعود» «3»، و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

(1) مقتضاه ارتفاع الكراهة به، كما هو ظاهر أكثر الأصحاب و معاقد إجماعاتهم المتقدمة، لجعلهم الوضوء غاية للنهي و الكراهة.

و استظهر في كشف اللثام خفتها بالوضوء، و هو المناسب لما عن الاقتصاد من إطلاق كراهة النوم للجنب، و مثله ما في النهاية و عن السرائر، لكن مع الأمر بالوضوء لو أراد النوم.

و صحيح الحلبي و إن كان ظاهرا في ارتفاع الكراهة بالوضوء، فيصلح لتقييد إطلاق النهي عن نوم الجنب في حديث الأربعمائة و نحوه، إلا أنّ التعليل في صحيح عبد الرحمن أظهر في العموم منه، فيصلح قرينة علي حمله علي خفة الكراهة به.

و هو الظاهر من موثق سماعة، لأن الأمر فيه بالوضوء و الحكم بأفضلية الغسل للإرشاد إلي تجنب نقص يحصل من النوم علي الجنابة بدونهما، لا إلي تحصيل

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 16 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل باب: 16 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 484

______________________________

مرتبة من الكمال به، إذ هو بالغسل يكون كسائر الناس، نظير ما سبق في وجه الاستدلال بصحيحي زرارة و عبد الرحمن علي كراهة الأكل و الشرب للجنب.

و لا أقل من لزوم حمله علي ذلك بقرينة بقية النصوص المتضمنة للنهي عن النوم.

نعم، ظاهر التعليل في صحيح عبد الرحمن أنّ التعجيل بالغسل و النهي عن النوم بدونه للاحتياط من محذور الموت جنبا، لا لخصوصية في النوم، و ظاهر صحيح الحلبي ارتفاع كراهة النوم بخصوصيته بالوضوء، و لا تنافي بينهما.

و به يجمع بين نصوص المقام، كما ربما يجمع به بين كلمات الأصحاب.

بقي في المقام أمور.

الأول: الظاهر أنّ الوضوء في المقام مخفف للحدث و مقتض لمرتبة من الطهارة، لتقوّم عنوان الوضوء بذلك. كما أنّ الظاهر انتقاضه بأسباب الحدث الأصغر، لإطلاق أدلة ناقضيتها له، نظير ما تقدم في الوضوء للأكل و الشرب.

الثاني: أنّ ما سبق عن المهذب من عطف المضمضة و الاستنشاق علي الغسل غير ظاهر المنشأ، إذ لم نعثر علي ما يقتضي خفة الكراهة بهما، فضلا عن ارتفاعها.

الثالث: سبق في مرسل الصدوق تعليل نوم الإمام عليه السّلام جنبا بأنه يريد العود، و ظاهره إرادة العود للوطء، كما فهمه منه غير واحد، و لذا كان ظاهر الوسائل عدم الكراهة حينئذ.

و استوضح في الحدائق بطلان ذلك و نزّل الخبر علي إرادة العود للانتباه، لعلمه عليه السّلام بوقت موته، فترتفع في حقه علة الكراهة التي تضمنها صحيح عبد الرحمن، فلا ينافي بقاء الكراهة في حق سائر الناس ممن لا يعلم وقت موته.

لكن ما ذكره تكلف مخالف لظاهر قوله عليه السّلام: «أريد أن أعود»، لأن بقاء الحياة و العود في الانتباه ليسا متعلقا للإرادة. و ما سبق هو الأظهر.

مضافا إلي ما سبق من أنّ التعليل بخوف الموت وارد لبعض جهات الكراهة

ص: 485

أو يتيمم (1) بدل الغسل (2).

______________________________

غير الكراهة في خصوصية النوم، فتأمل.

نعم، مناسبة الحكم و الموضوع قاضية بأنّ إرادة العود من سنخ المزاحم الداعي له عليه السّلام للإقدام علي المكروه، لا الرافع لموضوع الكراهة، فالخبر يكشف عن خفة الكراهة بنحو يصلح لمزاحمتها مثل الداعي المذكور، لا عن عدم الكراهة معه.

و لا موجب لاستبعاد إقدام الإمام عليه السّلام علي المكروه لبعض الدواعي، فإنّ اللّه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، كما في الخبر «1».

مضافا إلي أنّ إرسال الخبر مانع من التعويل عليه في الخروج عن الإطلاقات المتقدمة.

(1) يعني: إن كان عاجزا عن الطهارة المائية، كما هو مقتضي عمومات البدلية و حديث الأربعمائة المتقدم.

(2) و هو ظاهر مع تعذره و القدرة علي الوضوء، لعدم مشروعية التيمم بدلا عن الوضوء حينئذ.

و أما مع تعذرهما معا، فمقتضي عمومات البدلية جواز نية بدليته عن كل منهما، و إن كان إيقاعه بدلا عن الغسل أفضل، لأفضلية مبدله، كما في الجواهر.

كما أنّ الظاهر أنه مع الإتيان به بدلا عن الغسل لا يشرع الوضوء و إن كان مقدورا، لأنه إنما يشرع للجنب، و التيمم رافع لجنابته حكما.

و بقي من المكروهات التي تضمنتها النصوص و ذكرها الأصحاب ما لم يذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه، و هي أمور.

الأول: الخضاب، علي المعروف بين الأصحاب المدعي عليه الإجماع في الغنية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

ص: 486

______________________________

و أما ما في التذكرة و الحدائق من نسبته للمشهور، فهو بلحاظ نسبة الخلاف في الأول للصدوق.

و كأنه لعده له في الفقيه و المقنع في جملة الأمور التي لا بأس بها للجنب.

لكن المتيقن منه إرادة أصل الجواز، فلا ينافي الكراهة.

و قد علله في المقنعة في الحائض و النفساء بأنه يمنع من وصول الماء إلي ظاهر مواضع الخضاب. قال في المعتبر: «و لعله نظر إلي أنّ اللون عرض، و هو لا ينتقل، فيلزم حصول أجزاء من الحناء في محل اللون ليكون وجود اللون بوجودها.

لكنها حقيقة لا تمنع منعا تاما، فكرهت لذلك».

و فيه- مع أنه تكلف غير صالح للحكم بالكراهة بعد فرض وصول الماء-:

أنّ لازمه كراهة الخضاب قبل تحقق سبب الحدث أيضا، مع أنه صرح بعدم الكراهة فيه.

فالعمدة في المقام النصوص الكثيرة الناهية عن الخضاب للحائض و الجنب، كمعتبرة عامر بن جذاعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سمعته يقول: لا تختضب الحائض و لا الجنب، و لا تجنب و عليها خضاب، و لا يجنب هو و عليه خضاب، لا يختضب و هو جنب» «1».

و خبر أبي سعيد: «قلت لأبي إبراهيم عليه السّلام: أ يختضب الرجل و هو جنب؟

قال: لا. قلت: فيجنب و هو مختضب؟ قال: لا، ثمَّ مكث قليلا، ثمَّ قال: يا أبا سعيد ألا أدلك علي شي ء تفعله؟! قلت: بلي، قال: إذا اختضبت بالحناء و أخذ الحناء مأخذه فحينئذ فجامع» «2» و نحوهما غيرهما.

و في بعضها: «لا أحب ذلك» «3»، و في آخر: أنه لو فعله لم يؤمن عليه أن

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 487

______________________________

يصيبه الشيطان بسوء «1».

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 488

و هي محمولة علي الكراهة، لغير واحد من النصوص المصرحة بالجواز، كموثق سماعة: «سألت العبد الصالح عن الجنب و الحائض يختضبان؟ قال: لا بأس» «2»، و نحوه صحيح أبي المغراء «3» و غيره.

بل الظاهر المفروغية عن الجواز، لعدم إشارتهم للخلاف فيه، بل في الرياض دعوي الإجماع عليه، و في الجواهر: «بل قد يدعي إمكان تحصيله، فما في المهذب من النهي عنه يراد منه الكراهة قطعا، كما يرشد إليه تعبيره عن سائر المكروهات بذلك. و من هنا لم ينقل عنه القول بالحرمة».

ثمَّ إنّ النصوص كما تضمنت النهي عن اختضاب الجنب و الحائض كذلك تضمنت النهي عن الجنابة حين الاختضاب. و استوجهه في التذكرة و ظاهر المعتبر، بل صرح به جماعة فيما حكي.

و نفي البأس عنه في الفقيه و المقنع لا يدل علي الخلاف، نظير ما سبق.

نعم، قيده في جامع المقاصد و كشف اللثام بما إذا لم يأخذ الخضاب مأخذه. و يقتضيه خبر أبي سعيد المتقدم و مرسل الكليني «4».

و دعوي: ظهور الخبر في خفة الكراهة، غير ظاهرة المأخذ، بل ظاهره الإرشاد إلي ارتفاع المحذور الذي نهي لأجله.

و علي ذلك حمل غير واحد قول المفيد في المقنعة: «فإن أجنب بعد الخضاب لم يحرج بذلك، و كذلك لا حرج علي المرأة أن تختضب قبل الحيض ثمَّ يأتيها الدم و عليها الخضاب، و ليس الحكم في ذلك كالحكم في استئنافه مع الحيض و الجنابة».

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 488

______________________________

لكن ظاهر قوله: «و عليها الخضاب» عدم إرادة الأثر، بل المؤثر، و هو الشي ء الذي يختضب به، و مقتضي إطلاقه العموم لما لو كان قبل أن يأخذ مأخذه.

و في المعتبر: «و هو محمول علي اتفاق الجنابة، لا علي فعلها اختيارا، لأن تعليله الأول يقتضي المنع هنا».

لكن مقتضي تعليله كراهة الخضاب لمن هو معرض للجنابة و الحيض، و لا يظن منه و لا من غيره الالتزام به.

هذا، و مقتضي إطلاق الأصحاب و تصريح بعضهم عدم الفرق بين مواضع الخضاب، و لا بين الخضاب بالحناء و غيره، و هو مقتضي إطلاق النصوص.

و لا ينافيه اختصاص خبر أبي سعيد بالحناء، كما لا يخفي.

لكن اقتصر في المقنعة علي خضاب الأيدي و الأرجل، و في المراسم علي الخضاب بالحناء، فإن لم يكن جاريا مجري التمثيل كان مدفوعا بالإطلاق.

و دعوي انصرافه في المقامين ممنوعة.

نعم، لو كان الوجه فيه عدم مانعيته من وصول الماء للبشرة- كما تقدم من المقنعة- كان قاصرا عن الشعر الذي لا يجب غسله، فلاحظ.

الثاني: الادهان، كما في المنتهي، مستدلا بخبر حريز: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الجنب يدهن ثمَّ يغتسل؟ قال: لا» «1».

لكن لا يبعد انصرافه إلي الادهان قبل الغسل بنحو يبقي أثره حينه. فيناسب الاستظهار بوصول الماء للبشرة، كما أشار إليه في المنتهي أيضا.

و إنما يحمل علي الكراهة، لعدم تنبيه الأصحاب علي المنع و اكتفائهم بوصول الماء للبشرة، بنحو يظهر معه مفروغيتهم عن جواز الادهان غير المانع من وصول الماء لها.

مضافا إلي ضعف سند الخبر، لأن في طريقه عبد اللّه بن بحر الذي لم يثبت توثيقه، بل ضعفه ابن الغضائري- فيما حكي عنه- و العلامة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 489

______________________________

و لم يتضح وجه عدّ الخبر صحيحا في المنتهي.

نعم، في موثق السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و لا بأس بأن يتنور الجنب و يحتجم و يذبح، و لا يدهن و لا يذوق شيئا حتي يغسل يديه و يتمضمض» «1».

و هو ظاهر في النهي عن الادهان من حيثية الجنابة مع قطع النظر عن الغسل.

فيحمل علي الكراهة أيضا، لظهور مفروغية الأصحاب عن عدم الحرمة، لعدم تنبيههم لها.

لكن- مع إمكان رجوع الغاية له أيضا- إنما رواه هكذا في الاستبصار، أما في التهذيب «2» فقد أسقط قوله: «و لا يدهن»، فلا مجال للتعويل عليه مع ظهور كونه في الكتابين في مقام نقل تمام الحديث، و لا سيما مع انتهاء أحد طريقيه للكليني الذي روي الحديث في الكافي خاليا عن الزيادة المذكورة أيضا.

الثالث: الجماع للمحتلم، كما في المعتبر و التذكرة و المنتهي، و في الأخير نسبته إلي أصحابنا.

و يقتضيه خبر الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله- في حديث- و كره أن يغشي الرجل امرأته و قد احتلم حتي يغتسل من احتلامه الذي رأي، فإن فعل و خرج الولد مجنونا فلا يلومنّ إلا نفسه» «3»، و نحوه غيره.

و التعليل فيه يناسب الكراهة.

و لا أقل من لزوم حمله عليها، جمعا مع خبر الجعفريات عنه عليه السّلام: «إنّ عليا عليه السّلام سئل عن رجل يحتلم إلي جانب امرأته، هل له أن يجامعها قبل أن

______________________________

(1) الاستبصار ج: 1 ص: 117 طبع النجف الأشرف.

(2) التهذيب ج: 1 ص: 130 طبع النجف الأشرف.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب مقدمات النكاح حديث: 3.

ص: 490

______________________________

يغتسل؟ قال: نعم ليجامعها حتي يكون غسلا حقا» «1»، لاشتراكهما في ضعف السند.

بل لا ينبغي التأمل في الجواز مع ظهور مفروغية الأصحاب عنه.

نعم، تقدم عند الكلام في الوضوء لمعاودة الجماع من الوضوءات المستحبة الكلام في ارتفاع الكراهة المذكورة بالوضوء.

و أما الجماع بعد الجماع، فقد صرح في المعتبر و المنتهي و التذكرة بعدم كراهته، بل في الأول أنه ذكره جماعة من أصحابنا، مستدلا عليه- كالمنتهي- بما عن النبي صلّي اللّه عليه و آله من أنه كان يطوف علي نسائه بغسل واحد.

و لم أعثر عاجلا علي الحديث المذكور، بل تقدم في الوضوء لمعاودة الجماع عن الرسالة الذهبية ما ينافيه، و تمام الكلام هناك، فراجع.

و قد تضمنت كثير من النصوص بيان كثير من الأوقات و الحالات التي يكره فيها الجماع، و لا مجال لإطالة الكلام فيها، لخروجها عن محل الكلام- و هو ما يكره للجنب- و هي بمباحث النكاح أنسب.

و اللّه سبحانه و تعالي ولي التوفيق و التسديد، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

انتهي الكلام في فصل أحكام الجنب ليلة السبت، الثالث من شهر ذي الحجة الحرام سنة 1398 ه.

و انتهي تبييضه بعد تدريسه ليلة الاثنين الخامس من الشهر المذكور.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 35 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 491

الفصل الرابع في واجباته
اشارة

الفصل الرابع في واجباته

النية

فمنها: النية (1) و لا بد فيها من الاستدامة إلي آخر الغسل، كما تقدم تفصيل ذلك كله في الوضوء (2).

غسل ظاهر البشرة

و منها: غسل ظاهر البشرة (3)

______________________________

(1) تقدم الكلام في حقيقتها و شروطها و دليلها في الوضوء.

(2) و تقدم هناك في المسألة الثالثة و السبعين الكلام في تداخل الأغسال، و كيفية النية مع تعدد أسبابها.

(3) يعني: من تمام البدن، حيث لا إشكال ظاهرا في وجوب استيعابه بالغسل، كما يظهر مما يأتي.

و يقتضيه- مضافا إلي الإطلاق المقامي في قوله تعالي وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «1»، لأن عدم بيان كيفية التطهر ظاهر في إيكاله للعرف الحاكم بالاستيعاب تبعا لقيام الجنابة بتمام البدن- ظاهر الاغتسال، و الغسل، و إطلاق غسل البدن و الجسد في السنة المستفيضة.

و عموم قوله عليه السّلام في صحيح محمد بن مسلم: «ثمَّ تصب علي سائر جسدك» «2».

______________________________

(1) سورة المائدة: 6.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 492

علي وجه يتحقق به مسماه (1)، فلا بد من رفع الحاجب (2)،

______________________________

و في صحيح زرارة: «ثمَّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلي قدميك» «1».

و في موثق سماعة: «ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله» «2».

و غيرها مما يأتي بعضه، و يأتي بعض الكلام في ذلك.

(1) تقدم الكلام في المقدار المعتبر من إيصال الماء في أول فصل أجزاء الوضوء، و أنّ الظاهر الاكتفاء بوصول الماء للبشرة.

و أما ما في غير واحد من النصوص من الأمر بقدر معين، كالصب ثلاثا، بل في صحيح ربعي بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: يفيض الجنب علي رأسه الماء ثلاثا لا يجزيه أقل من ذلك» «3».

فهو محمول علي الاستحباب بلا إشكال.

(2) كما هو مقتضي وجوب استيعاب تمام البدن، و قد تقدم تفصيل الكلام في ذلك في المسألة السادسة من فصل أجزاء الوضوء، كما تقدم الكلام في حكم الشك في وجود الحاجب و حاجبية الموجود.

نعم، في صحيح إبراهيم بن أبي محمود: «قلت للرضا عليه السّلام: الرجل يجنب فيصيب جسده و رأسه الخلوق و الطيب و الشي ء اللكد [4] [اللزق]، مثل علك الروم و الظرب [و الطراز. و الطرار. و الطراد] [5] و ما أشبه ذلك فيغتسل، فإذا فرغ وجد شيئا

______________________________

[4] قال في لسان العرب: «لكد الشي ء بغيه، إذا أكل شيئا لزجا فلزق بغيه من جوهرة أو لونه. و لكد به لكدا و التكد: لزمه فلم يفارقه. و يقال: لكد الوسخ بيده، و لكد شعره، إذا تلبّد. الأصمعي: لكد عليه الوسخ- بالكسر- لكدا، أي لزمه و لصق به».

[5] قال في القاموس: «ظرب فيه كفرح: لصق» و قال بعضهم: «الطرار: نوع من الطين اللزج».

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 40 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 493

______________________________

قد بقي في جسده من أثر الخلوق و الطيب و غيره. قال: لا بأس» «1».

و في موثق السكوني عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: «قال: كنّ نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب علي أجسادهن، و ذلك أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله أمرهن أن يصببن الماء صبا علي أجسادهن» «2».

و موثق عمار عنه عليه السّلام: «في الحائض تغتسل و علي جسدها الزعفران لم يذهب به الماء، قال: لا بأس» «3».

لكن لا ظهور للموثقين في الحاجب، لأن بقاء لون الطيب قد يكون مع عدم كثافته بنحو يمنع من وصول الماء بالصب مع كثرته و استيلائه علي المحل.

نعم، صحيح إبراهيم لا يخلو الأمر فيه عن إشكال، لأن فرض بقاء الشي ء اللزق و اللكد و خصوصا العلك لا يناسب احتمال وصول الماء لما تحته، فضلا عن العلم به، فلا مجال لما ذكره غير واحد من حمله علي صورة عدم الحجب، أو علي الشك فيه بعد الفراغ.

و مثله ما في كشف اللثام من حمله علي صورة تعسر إزالة الأثر، حيث لا يجب إزالته في التطهير من النجاسات فهنا أولي، لعدم وضوح ما ذكره في المقيس عليه.

إلا أن يريد به ما ورد في العفو عن أثر النجاسة كاللون و الريح «4».

لكنه مختص بما لا يمنع من وصول الماء للمحل النجس عرفا، دون مثل العلك.

و لعله لذا حكي عن المحقق الخوانساري في شرح الدروس الاستدلال

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(4) راجع الوسائل باب: 5 من أبواب النجاسات.

ص: 494

و تخليل ما لا يصل الماء معه إلي البشرة إلا بالتخليل (1).

______________________________

بالصحيح علي عدم الاعتداد ببقاء شي ء يسير لا يخل عرفا بغسل جميع البدن، إما مطلقا أو مع النسيان، و أنه لا يبعد الالتزام بذلك لو لم يكن الإجماع علي خلافه.

لكن الأولي أن لا يجترئ عليه. انتهي.

لكن المتيقن من مفاد الصحيح العفو عن وجود المانع مع الالتفات إليه بعد الفراغ، فلا مجال لتعميمه لصورة الالتفات إليه قبله، فضلا عما إذا كان عدم الغسل من دون وجود مانع.

و تحصيل الإجماع الكافي في الخروج عن مفاد الصحيح لا يخلو عن إشكال، كتحصيل الإعراض الموهن له، لعدم تحرير ذلك في كلماتهم بالنحو الكاشف عن ذلك، و قرب كون إهماله ممن أهمله لصعوبة رفع اليد به عن العموم، القاضي بوجوب الاستيعاب. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) قال في الجواهر: «مقدمة لحصول غسل البشرة، المدلول علي وجوب غسلها- نفسها- في الغسل بالسنة و الإجماع المحصل و المنقول مستفيضا، بل كاد يكون متواترا».

و ظاهر غير واحد المفروغية عن وجوب التخليل، و في المدارك أنه مذهب الأصحاب، و في الرياض دعوي الإجماع عليه.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق ما تضمن وجوب غسل الجسد، بل عموم بعضه، كما تقدم- ما تضمن أمر المرأة بالمبالغة في الماء في رأسها، و أنه لا بد أن ترويه و تعصره «1»، كما يأتي بعضه، لوضوح أنّ غسل ظاهر الشعر لا يحتاج إلي ذلك.

لكن عن الأردبيلي في مجمع الفائدة التأمل في ذلك، لما دل علي إجزاء الغرفتين أو الثلاث علي الرأس، حيث يظن بعدم وصول هذا المقدار تحت كل

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة.

ص: 495

______________________________

شعرة، و لا سيما مع كثرة شعر الرأس- كما في الأعراب و النساء- و كثافة اللحية، فيمكن الاكتفاء بالظاهر. كما يدل عليه أيضا ما دل علي عدم وجوب حل الشعر علي النساء مما يأتي «1»، و ما في صحيح محمد بن مسلم: «الحائض ما بلغ بلل الماء من شعرها أجزأها» «2».

و هو كما تري، لأن غسل الظاهر لا يحتاج للمقدار المذكور، بل تكفي فيه صبة واحدة، كما تكفي للوضوء مع كثافة اللحية، بل قد تكفي لغسل البشرة أيضا مع التخليل، و من ثمَّ تقدم حمله علي الاستحباب، فهو بظاهره علي خلاف مطلوبه أدل.

كما أنّ عدم حل الشعر لا ينافي وصول الماء للبشرة مع كثرته و نفوذه في الأعماق، الذي تضمنته النصوص المشار إليها آنفا.

و أما الصحيح، فهو مسوق لبيان الاكتفاء بالبلل و عدم اعتبار كثرة الماء، و لا دلالة فيه علي إجزاء وصول الماء للشعر علي وصوله للبشرة.

هذا، و ظاهر البهائي في الحبل المتين الإشكال في عدم وجوب غسل الشعر إن لم يتم الإجماع عليه، بل مال في الحدائق لوجوب غسله، و حكي عن بعض مشايخه المحققين من متأخري المتأخرين أنه قواه لو لم يتم الإجماع علي عدمه، و ربما استفيد مما سبق من المقنعة من الأمر بحل الشعر.

لكن لا ريب ظاهرا في عدم وجوب الحل، كما هو صريح النصوص السابقة، و نفي الخلاف فيه في المنتهي، فكما يمكن أن يكون الأمر بالحل مقدمة لإيصال الماء للشعر، يمكن أن يكون مقدمة لإيصاله للبشرة، كما حمله عليه الشيخ فيما سبق، و هو أعلم بمراده.

كما لا مجال للاستدلال عليه بما تضمن وجوب المبالغة في الماء للمرأة و ري الرأس منه لمكان المشطة مما تقدم بعضه، لوضوح إمكان كونه لأجل إيصال الماء للبشرة، لعدم وصوله إليها مع قلته لمنع المشطة.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 496

______________________________

بل سبق ظهور النصوص المذكورة في ذلك و في عدم وجوب غسل الشعر.

نعم، قد يستدل علي ذلك.

تارة: بأنه من توابع البدن، فيفهم وجوب غسله مما دل علي وجوب غسله تبعا و إن لم يكن منه، و لذا قد يستظهر من المشهور وجوب غسله في الوضوء.

و اخري: ببعض النصوص الظاهرة فيه، كصحيح محمد بن مسلم المتقدم في وجوب التخليل، لأن ظاهر الحكم بإجزاء بلوغ البلل للشعر المفروغية عن كونه مما يغسل.

و صحيح حجر بن زائدة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من ترك شعرة من الجنابة متعمدا فهو في النار» «1».

و ما في خبر محمد بن سنان الوارد في بيان العلل من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «إنّ آدم عليه السّلام لما أكل من الشجرة دبّ ذلك في عروقه و شعره و بشره، فإذا جامع الرجل أهله خرج الماء من كل عرق و شعرة في جسده، فأوجب اللّه عز و جل علي ذريته الاغتسال من الجنابة إلي يوم القيامة» «2»، لأن مناسبة التعليل تقتضي وجوب غسل كل ما خرج منه الماء، و منه الشعر.

و النبوي: «تحت كل شعرة جنابة، فبلّوا الشعر و أنقوا البشرة»، و عن بعض الكتب: «فاغسلوا الشعر.» «3».

لكن تقدم في الوضوء إنكار التبعية في وجوب الغسل، و إنما دلت الأدلة الخاصة في الوضوء علي بدلية غسل الشعر المحيط عن غسل ما تحته في الوجه، و علي الاجتزاء بمسح شعر الرأس عن مسح بشرته، و لا يتعدي من ذلك للمقام.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) نقل الحديث في بعض كتب أصحابنا الفقهية مرسلا، و حكيت روايته عن المغني ج: 1 ص: 288 و عن سنن ابن ماجه ج: 1 ص: 207.

ص: 497

و لا يجب غسل الشعر (1)،

______________________________

و أما صحيح محمد بن مسلم، فحيث كان واردا لبيان الاجتزاء بالبلل و عدم اعتبار كثرة الماء لا لبيان ما يغسل، فلعل ذكر بلّ الشعر فيه ليس لوجوبه بنفسه، بل مقدمة لبلّ ما تحته من البشرة.

علي أنه وارد في الحائض التي قد يلتزم فيها باستحباب الاستظهار بغسل الشعر، عملا بصحيح الكاهلي المتقدم.

كما أنه لا يبعد ظهور صحيح حجر في إرادة ترك مقدار شعرة مبالغة في القلة.

و أما خبر محمد بن سنان، فالتعليل فيه لو تمَّ يقتضي وجوب غسل أطراف الشعر لإتمامه، و لا يبعد حمله علي الخروج من منابت الشعر، لأنها المتصلة بالبدن القابلة لخروج الماء ارتكازا، فلا يقتضي إلا غسل البشرة.

كما أنّ المناسب للتعليل في النبوي بأنّ تحت كل شعرة جنابة كون بلّ الشعر و غسله مقدمة لوصول الماء لما تحته من البشرة.

و الأمر فيهما سهل بعد ضعف سندهما.

علي أنه لا بد من الخروج عن ظاهر هذه النصوص لو تمَّ و حملها علي ما ذكرنا أو نحوه، لأجل نصوص عدم نقض الشعر المتقدمة.

هذا كله مضافا إلي أنّ شيوع الابتلاء بالحكم يمنع- عادة- من خفائه علي الأصحاب، فيجب غسل الشعر واقعا و يخفي عليهم حتي يكون المعروف بينهم عدمه، بل قد يظهر من بعضهم المفروغية عنه، كما سبق، فتأمل، و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب المصرح به في كلام جملة منهم، و نفي عنه الخلاف في كشف اللثام، و ظاهر المعتبر و محكي الذكري دعوي الإجماع عليه لنسبته فيهما إليهم، بل قد يظهر من التهذيب المفروغية عنه، حيث حمل ما في المقنعة من الأمر بحل الشعر علي أنّ مراده ما إذا توقف عليه وصول الماء للبشرة.

ص: 498

______________________________

و يستدل عليه.

تارة: بما تضمن من نصوص تعليم الغسل غسل الجسد، ففي صحيح زرارة:

«ثمَّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلي قدميك» «1» و نحوه غيره. لخروج الشعر عن الجسد عرفا.

و دعوي: دخوله فيه و لو مجازا، كما في الحدائق.

كما تري، إذ لا يمنع احتمال المجاز من الاستدلال.

و مثلها ما ذكره من دخوله في الرأس و الجانب الأيمن و الجانب الأيسر.

للمنع من دخوله في الرأس، و عدم تضمن النصوص عنوان الجانب الأيمن و الأيسر، بل صب الماء علي المنكب الأيمن و المنكب الأيسر، لبيان هيئة الغسل، من دون تعرض لما يغسل، للمفروغية عنه، و إنما يستفاد من بقية الأدلة غير الشاملة للشعر.

و اخري: بما تضمن عدم وجوب نقض الشعر علي المرأة، ففي رواية غياث بن إبراهيم و مرسل الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عن علي عليه السّلام: «قال: لا تنقض المرأة شعرها إذا اغتسلت من الجنابة» «2».

و نحوهما ما تضمن الأمر بالمبالغة في ماء غسل الرأس لتبدل المشطة [3] عما كانت عليه في الصدر الأول، حيث يظهر منها المفروغية عن إرادة الغسل من دون نقض المشطة.

لظهور أنه يصعب جدا إحراز استيلاء الماء علي تمام سطوح الشعر مع عدم نقضه، و لا سيما مع المحافظة علي مشطته، خصوصا مع ابتناء المشطة علي نحو من العناية و التعقد، كما يظهر من صحيح الكاهلي: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

إنّ النساء اليوم أحدثن مشطا، تعمد إحداهن إلي الصوف تفعله الماشطة

______________________________

[3] قال في لسان العرب: «و المشطة: ضرب من المشط كالركبة و الجلسة. و المشطة واحدة».

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 3، 4.

ص: 499

______________________________

تصنعه مع الشعر ثمَّ تحشوه بالرياحين، ثمَّ تجعل عليه خرقة رقيقة، ثمَّ تخيطه بمسلة، ثمَّ تجعلها في رأسها، ثمَّ تصيبها الجنابة. فقال: كان النساء الأول إنما يمتشطن المقاديم، فإذا أصابهن الغسل تغدر [1]. مرها أن تروي رأسها من الماء و تعصره حتي يروي، فإذا روي فلا بأس عليها. قال: قلت: فالحائض؟ قال: تنقض المشطة نقضا» «2».

و مجرد كثرة الماء لا تكفي في ذلك ما لم يحل الشعر أو يغمس في الماء أو نحو ذلك مما يعرض مشطته للخلل بنحو لا ينفع معه إبقاؤها.

و لا سيما مع تحديد الكثرة بثلاث حفنات، ففي موثق عمار أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تغتسل و قد امتشطت بقرامل و لم تنقض شعرها، كم يجزيها من الماء؟ قال: «مثل الذي يشرب شعرها، و هو ثلاث حفنات علي رأسها.» «3»

و قريب منه ما في خبر الجعفريات «4»، لوضوح أنّ المقدار المذكور لا يستولي علي تمام الشعر مع المحافظة علي مشطته، و إنما يحصل به غسل البشرة بسبب صلابتها و سهولة الاستيلاء عليها و الإحساس ببلل الماء الذي يصيبها.

علي أنّ ظاهر صحيح الكاهلي أنّ المدار علي إرواء الرأس، و هو يكون بدخول الماء في أعماق الشعر و استيلائه علي البشرة، و إن لم يستول علي أطرافه، كما أنّ ظاهر خبر الجعفريات الآخر أنّ المهم وصول الماء للبشرة «5».

______________________________

[1] كذا في الوسائل، و لعله من المغادرة و هي الترك، و منه الغدير الذي ذكر غير واحد من اللغويين أنّه القطعة من الماء يتركها السيل، فيراد به في المقام أنّ الماء لا يسقط عن الرأس، بل يبقي فيه. و في نسخ الكافي علي ما قيل: «بقذر» و «تقذر» و في بعض الكتب نقل الحديث: «بعذر» و في آخر: «بقدر» و الكل غامض المعني.

______________________________

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(4) مستدرك الوسائل باب: 27 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

(5) مستدرك الوسائل باب: 27 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 2.

ص: 500

إلا ما كان من توابع البدن، كالشعر الرقيق (1). و لا يجب غسل الباطن أيضا (2).

______________________________

(1) كما تقدم منه قدّس سرّه نظير ذلك في المسألة الثانية من الوضوء، و سبقه إليه هنا في الجواهر، مع الاعتراف بأنه خلاف ظاهر بعض متأخري المتأخرين، بل خلاف إطلاق معقد الإجماع المدعي من بعضهم.

و تقدم الكلام في وجهه في الوضوء، و أنّ الظاهر عدم وجوب غسله.

(2) كما صرح به غير واحد من الأصحاب، و هو الظاهر ممن خصّ وجوب الغسل بالظاهر، كما في التذكرة، بل نفي الخلاف فيه في المنتهي و الحدائق.

بل لا ريب في بعض أفراده، كباطن الفم و الأنف لاستفاضة نقل الإجماع علي عدم وجوب المضمضة و الاستنشاق.

و أما ما في المقنعة و التذكرة من الأمر بغسل باطن الأذنين، فالمراد به باطن الاذن الظاهرة المرئي، لا باطن الصماخ، كما هو مقتضي الأمر في المقنعة بإدخال السبابتين و التصريح في التذكرة بعدم إدخال الماء في باطن الصماخ.

و كيف كان، فيقتضيه النصوص المعتبر بعضها في نفسه، الدالة علي عدم وجوب المضمضة و الاستنشاق، و منها ما يدل علي العموم لغيرهما من أفراد الباطن، كحديث عبد اللّه بن سنان- الذي لا يخلو سنده عن اعتبار-: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا يجنب الأنف و الفم، لأنهما سائلان» «1».

و صحيح أبي بكر الحضرمي عنه عليه السّلام: «قال: ليس عليه مضمضة و لا استنشاق، لأنهما من الجوف» «2».

و حسن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: ليس المضمضة و الاستنشاق فريضة

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 10.

ص: 501

______________________________

و لا سنة، إنما عليك أن تغسل ما ظهر» «1».

و خبر الواسطي عمّن حدثه: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الجنب يتمضمض و يستنشق؟ قال: لا إنما يجنب الظاهر»، و زاد فيه في محكي العلل: «و لا يجنب الباطن، و الفم من الباطن» «2». قال: و روي في حديث آخر أنّ الصادق قال في غسل الجنابة: «إن شئت أن تتمضمض و تستنشق فافعل و ليس بواجب، لأن الغسل علي ما ظهر لا علي ما بطن» «3».

و مقتضي إطلاق الثلاثة الأخيرة العموم لجميع أفراد الباطن، فلا يهم قصور غيرهما عن بعض أفراده، كباطن الاذن و داخل الجرح العميق المنطبق، لعدم كونهما سائلين، و عدم وضوح صدق الجوف عليهما.

و أما استدلال سيدنا المصنف قدّس سرّه بما تضمن الاجتزاء بالارتماس، فهو إنما ينفع في البواطن الطبيعية التي لا يصل الماء إليها عادة بالارتماس، كالإحليل و باطن الاذن الذي لا يري، دون مثل باطن الفم بل الأنف، حيث لا يمنع دليل الارتماس من وجوب فتح الفم و الاستنشاق حينه.

كما يجب تخليل ما يتوقف وصول الماء للبشرة علي تخليله كالشعر و ثديي المرأة المتدليين.

و كذا البواطن غير الطبيعية، كداخل الجرح العميق الذي لا يمكن تخليله حين الارتماس، حيث لا مانع من البناء علي تعذر الارتماس علي صاحبها، كما يتعذر في حق من يتعذر عليه لطارئ تخليل ما يجب تخليله حين الارتماس.

و مثله الاستدلال بإطلاق ما تضمن وجوب غسل الجسد و البدن، حيث يصدق مع عدم غسل الباطن.

لأن ذلك إنما يتضح في مثل الباطن الطبيعي كالفم و الإحليل، دون

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 6، 7.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 502

نعم، الأحوط وجوبا غسل ما يشك في أنّه من الباطن أو الظاهر، و إن علم سابقا أنّه من الباطن ثمَّ شك في تبدله (1).

الإتيان بالغسل علي إحدي كيفيتين
اشارة

و منها: الإتيان بالغسل علي إحدي كيفيتين

الترتيب

أولاهما: الترتيب، بأن يغسل أولا تمام الرأس (2)،

______________________________

المستحدث، كداخل الجرح العميق، إذ ربما يستشكل في صدق البدن بدونه.

فالعمدة ما ذكرنا من النصوص الظاهرة في دوران الحكم مدار صدق الظاهر.

و منه يظهر ضعف ما في المسالك و عن الكركي في حاشية الشرائع من وجوب غسل الثقب الحادث في الاذن و نحوها.

إلا أن يحمل علي ما يري بحيث يعد من الظاهر، دون ما إذا انطبق الثقب فلا يري باطنه، فلا يجب غسله، كما في المدارك و غيره و حكي عن الأردبيلي.

(1) تقدم في المسألة السادسة عشرة و التاسعة عشرة من مباحث الوضوء تفصيل الكلام في ذلك، حيث يظهر بمراجعته أنّ عمدة الإشكال في جريان استصحاب عدم كون المحل من الظاهر في المقام عدم وضوح كون الظاهر بعنوانه موضوعا للحكم بسببية غسله للطهارة شرعا.

بل من القريب أن يكون وجوب غسله لتوقف صدق غسل البدن عليه، فليس الواجب إلا ما يصدق معه غسل البدن، و تحديده بغسل الظاهر لبيان حدّه الخارجي، لا لأخذ المفهوم المذكور في موضوع الحكم الشرعي، ليمكن إحرازه أو إحراز عدمه بالاستصحاب.

و حينئذ يتعين الرجوع في جميع صور الشك لقاعدة الاشتغال التي تكرر أنها المرجع في الطهارات. و تمام الكلام في المسألتين المذكورتين، فراجع.

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، المصرح به في كلام جماعة كثيرة منهم، كالشيخين و أتباعهما و الفاضلين و الشهيدين و غيرهم، المدعي عليه الإجماع في الانتصار و الخلاف و الغنية و التذكرة و الذكري و الحدائق و محكي

ص: 503

______________________________

السرائر و شرح الجعفرية، كما هو الظاهر من المعتبر و المنتهي و محكي المختلف، و في الجواهر أنه يمكن دعوي الإجماع المحصل عليه.

و قد استدل عليه بجملة من النصوص مختلفة الألسنة.

منها: ما قدّم فيه الرأس في بيان كيفية غسل الجنابة و عطف غيره عليه ب «ثمَّ» الظاهرة في الترتيب:

ففي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن غسل الجنابة، فقال: تبدأ بكفيك فتغسلهما ثمَّ تغسل فرجك، ثمَّ تصب علي رأسك ثلاثا، ثمَّ تصب علي سائر جسدك مرتين، فما جري عليه الماء فقد طهر» «1».

و قريب منه صحيح زرارة «2».

و في موثق سماعة بعد ذكر بعض المستحبات: «ثمَّ ليصب علي رأسه ثلاث مرات مل ء كفيه، ثمَّ يضرب بكف من ماء علي صدره و كف بين كتفيه، ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله.» «3».

و فيه: أنها إنما تضمنت العطف المذكور في صب الماء علي الأعضاء لا في غسلها، و من الظاهر عدم كفاية الصب في استيعاب غسل العضو، بل لا بد فيه من إجراء الماء بمعونة اليد و نحوها، و مقتضي إطلاق قوله عليه السّلام: «فما جري عليه الماء.» عدم اعتبار الترتيب، و يكون الترتيب في الصب طبعيا لا شرعيا، كتوزيع الماء علي الأعضاء، الموجب لتساوي نسبة الماء إليها.

بل قوله عليه السّلام في موثق سماعة: «ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله» كالصريح في عدم الترتيب بناء علي ما هو غير بعيد من دخول الرأس في الجسد عند عدم التقابل بينهما، حيث يكشف عن أنّ الصب السابق لترطيب الجسد ليسهل استيعاب الماء له بإفاضته عليه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 504

______________________________

و منها: صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: من اغتسل من جنابة فلم يغسل رأسه ثمَّ بدا له أن يغسل رأسه لم يجد بدا من إعادة الغسل» «1»، و نحوه صحيح حريز عنه عليه السّلام «2» لو لم يكن عينه.

و فيه: أنّ المنع من تقديم الجسد بتمامه علي الرأس لا يستلزم وجوب تقديم الرأس، بل يمكن جواز غسلهما معا بغسل واحد عرفي، كما تضمنته النصوص السابقة بالتقريب المتقدم و غيرها مما يأتي.

و دعوي: عدم الفصل بينهما، ممنوعة، كما يظهر مما يأتي عند التعرض للاستدلال بالإجماع.

علي أنّ مجرد عدم القول بالفصل لا يكفي ما لم يثبت الإجماع علي الملازمة بين الأمرين و عدم الفصل بينهما، و لا طريق لإثباته.

و منها: صحيح حريز، الذي هو مضمر في التهذيب و الاستبصار، و في الذكري أنّ الصدوق رواه في كتاب مدينة العلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الوضوء يجف. قال: قلت: فإن جفّ الأول قبل أن أغسل الذي يليه؟ قال: جفّ أو لم يجفّ اغسل ما بقي. قلت: و كذلك غسل الجنابة؟ قال: هو بتلك المنزلة و ابدأ بالرأس ثمَّ أفض علي سائر جسدك، قلت: و إن كان بعض يوم؟ قال: نعم» «3».

و يشكل بأنّ السؤال فيه لمّا كان عن تفريق الغسل بالنحو المستلزم لجفافه قبل إكماله، فالمتيقن منه الأمر بتقديم الرأس لأجل عدم قدح التفريق، و لا يدل علي وجوب تقديمه مع وحدة الغسل عرفا، فيناسب ما قبله.

علي أنّ اشتماله علي جواز التفريق في الوضوء قد يوهنه، فلاحظ.

و منها: ما تضمّن وجوب الترتيب في غسل الميت «4»، بضميمة ما تضمن أنّ

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 33 من أبواب الوضوء حديث: 4.

(4) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت.

ص: 505

______________________________

غسل الميت غسل الجنابة أو مثله «1».

و فيه. أولا: أنه لم يتضح بعد وجوب الترتيب في غسل الميت، لاضطراب نصوصه، علي ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي.

و ثانيا: ما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنّ تطبيق غسل الجنابة علي غسل الميت إن كان حقيقيا- كما قد يستفاد من النصوص المتضمنة أنّ الميت يجنب «2» - فدليل وجوب الترتيب فيه لا يقتضي وجوبه في غيره من أفراد غسل الجنابة، لإمكان اختلاف غسل الحي عن غسل الميت، و إن كان ادعائيا تنزيليا كان مفاده ثبوت أحكام غسل الجنابة لغسل الميت، لا العكس.

و دعوي: أنه حيث فرض قيام الدليل علي اعتبار الترتيب في غسل الميت، فإن كان الترتيب غير معتبر في غسل الجنابة، كان الدليل المذكور مخصصا لعموم التنزيل، و إن كان معتبرا فيه لم يكن مخصصا له، بل مطابقا، فمقتضي أصالة عدم التخصيص في عموم التنزيل البناء علي اعتبار الترتيب في غسل الجنابة.

مدفوعة: بأن أصالة عدم التخصيص إنما تجري مع الشك في حكم بعض أفراد العنوان الذي سيق العام لبيان حكمه، لا مع العلم به و الشك من جهة أخري، كما في المقام، حيث يعلم بحكم غسل الميت، الذي سيق عموم التنزيل لبيانه، و يشك في حكم غسل الجنابة، نظير ما قيل من عدم حجية العام في عكس نقيضه.

نعم، لو استفيد من قوله عليه السّلام في صحيح محمد بن مسلم: «غسل الميت مثل غسل الجنب، و إن كان كثير الشعر فرد عليه [الماء] ثلاث مرات» «3» خصوص المماثلة في الكيفية، كان نصا في اعتبار الترتيب في غسل الجنابة، بضميمة ما دل علي اعتبار الترتيب في غسل الميت، لكن لا مجال لذلك مع إمكان حمله علي

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

(2) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 506

______________________________

المماثلة في اعتبار الاستيعاب أو في الاكتفاء بالماء القليل، كما قد يناسبه قوله عليه السّلام: «و إن كان كثير الشعر.»، فلاحظ.

هذه تمام النصوص التي استدل بها في كلماتهم علي اعتبار الترتيب بين الرأس و الجسد، و قد ظهر عدم نهوضها بذلك.

و لو فرض نهوضها به في الجملة، كان الأقرب حملها علي الاستحباب، كبعض ما تضمنته من خصوصيات، لإباء كثير من الإطلاقات عن الحمل علي وجوب الترتيب، لورودها في مقام تعليم الغسل و اشتمالها علي الآداب و المستحبات بنحو لا يناسب إهمال الترتيب لو كان واجبا.

و لا سيما مثل قوله عليه السّلام في صحيح حكم بن حكيم: «ثمَّ اغسل فرجك و أفض علي رأسك و جسدك فاغتسل» «1»، لظهوره في ترتب الاغتسال علي الإفاضة علي الرأس و الجسد معا، حيث يناسب كون المراد بالاغتسال تعميم الماء إلي ما لم يصل إليه بالإفاضة.

و قوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «ثمَّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلي قدميك، ليس قبله و لا بعده وضوء، و كل شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته. و لو أنّ رجلا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك و إن لم يدلك جسده» «2»، لقوة ظهوره في أنّ تمام البدن عضو واحد من القرن إلي القدم، و أنّ المدار علي إمساس الماء.

بل التنبيه فيه علي عدم الحاجة للدلك مع الارتماس و عدم الإشارة لسقوط الترتيب معه ظاهر جدا في عدم الاهتمام به بالنحو المقتضي للتنبيه.

و قوله عليه السّلام في صحيح يعقوب بن يقطين، المسؤول فيه عن الوضوء مع غسل الجنابة: «ثمَّ يصب علي رأسه و علي وجهه و علي جسده كله، ثمَّ قد قضي الغسل و لا وضوء عليه» «3»، لأن عطف الوجه علي الرأس لما لم يكن لأجل الترتيب

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 34 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 507

______________________________

بينهما فمن البعيد جدا كون عطف الجسد لأجله، بل هو كاشف عن أنّ المراد بالرأس موضع الشعر المقابل للوجه لا تمام العضو، فضلا عما يعم الرقبة.

و يقرب منه في ذلك قوله عليه السّلام في صحيح أبي بصير: «و تصب علي رأسك الماء ثلاث مرات و تغسل وجهك و تفيض علي جسدك» «1».

و أظهر من الكل في عدم وجوب تقديم الرأس موثق عمار: «أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تغتسل و قد امتشطت بقرامل و لم تنقض شعرها كم يجزيها من الماء؟ قال: مثل الذي يشرب شعرها، و هو ثلاث حفنات علي رأسها و حفنتان علي اليمين و حفنتان علي اليسار، ثمَّ تمر يدها علي جسدها كله» «2»، لصراحته في أنّ استيعاب الجسد- و منه الرأس- بالغسل بعد الصب. و حمله علي الصب لا بنية الغسل، مع الشروع في الغسل بإمرار اليد الذي يمكن حمله علي الترتيب بعيد جدا.

و دعوي: أنّ الترتيب لو لم يكن واجبا فهو مستحب فإهماله في الإطلاقات مع التعرض فيها للمستحبات لا بد أن يكون لنكتة، و لعلها من جهة أنّ السؤال لم يكن عن كيفية غسل الجنابة، بل عما يتعلق به أو عن الآداب، فلا يدل عدم ذكر الترتيب علي عدم وجوبه.

مدفوعة: بإمكان أهمية المستحبات المذكورة في النصوص المطلقة من الترتيب لو كان مستحبا، لأنها زيادة في الغسل موجبة لتأكد الطهارة، بخلافه، فعدم ذكره لا يكون قرينة صارفة عن ظهور السؤال فيما يعم الكيفية، كما هو المناسب للجواب أيضا.

علي أنّ الحكم المذكور لما كان مخالفا للإطلاقات، بل لسيرة العرف، لما هو المعلوم من ثبوت غسل الجنابة قبل الإسلام و يبعد تقيدهم سابقا فيه بالترتيب، فلو كان ثابتا لم يكن المناسب بيانه بهذه الصورة العابرة غير الموضحة، بل ينبغي

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 508

______________________________

بيانه بصورة متعمدة جلية مؤكدة، مع التنبيه إلي حكم الإخلال به عمدا أو سهوا ابتداء أو بعد السؤال عن ذلك، نظير ما سبق في الوضوء.

بل هو أولي من الوضوء بذلك، لأن الوضوء ماهية مخترعة للشارع مبينة في الكتاب المجيد و قد جرت به سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله الظاهرة و أخذ منه، حيث قد يستفاد من استمراره صلّي اللّه عليه و آله فيه علي الترتيب طبقا للترتيب الذكري في الكتاب اعتباره بلا حاجة إلي تكلف البيان بالوجه المذكور.

و من هنا يشكل استفادة الترتيب من النصوص.

و لعله لأجل ذلك ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنّ العمدة في وجوب تقديم الرأس الإجماع، لما تقدم من استفاضة نقله في كلماتهم، بنحو يظهر في شيوع ذلك بينهم، حتي عدّه في الانتصار و غيره من متفردات الإمامية، حيث قد يستكشف به اطلاعهم علي ما يقتضي اعتبار الترتيب مما يخرج به عن مقتضي الإطلاقات و سيرة العرف المشار إليها.

لكن يشكل الاعتماد علي الدعاوي المذكورة مع ظهور كلام الصدوقين في عدم اعتباره، فقد حكي الصدوق في الفقيه قول أبيه في كيفية الغسل في رسالته إليه:

«ثمَّ ضع علي رأسك ثلاث أكف من ماء و ميز الشعر بأناملك حتي يبلغ الماء إلي أصل الشعر كله، و تناول الإناء بيدك و صبه علي رأسك و بدنك مرتين، و أمرر يدك علي بدنك كله، و خلل أذنيك بإصبعيك، و كلما أصابه الماء فقد طهر، فانظر أن لا تبقي شعرة من رأسك و لحيتك إلا و يدخل الماء تحتها.»، و اكتفي في الفقيه بذلك في بيان الغسل، و ذكر نحوه في الهداية، و قريب منه في المقنع و الأمالي.

و ظاهر ذلك عدم اعتبار تقديم الرأس بتمامه، و أنّ الصب عليه أولا لأجل استيعاب أصول الشعر، لاحتياجه إلي مئونة زائدة علي أمر اليد، لا لأجل غسله بتمامه حتي الوجه فضلا عن الرقبة، و لذا أمر بعد ذلك بالصب علي الرأس و الجسد معا، و ذكر تخليل الأذنين بعد ذكر إمرار اليد علي تمام البدن.

نعم، حكي في الفقيه في آخر الكلام في غسل الجنابة قول أبيه في رسالته إليه:

ص: 509

______________________________

«لا بأس بتبعيض الغسل، تغسل يديك و فرجك و رأسك و تؤخر غسل جسدك إلي وقت الصلاة، فإن أحدثت. فأعد الغسل من أوله، فإذا بدأت بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل علي جسدك بعد غسل رأسك».

و قد فهم منه غير واحد البناء علي الترتيب، و أنه قرينة مخرجة عن مقتضي الإطلاق المتقدم.

و هو غير ظاهر، بل مقتضي الجمع بين كلامه أنه مع وحدة الغسل عرفا يجوز غسل الرأس مع البدن، و الممنوع منه إنما هو تقديم تمام الجسد علي تمام الرأس مطلقا أو مع تفريق الغسل.

و قد يستفاد ذلك من الكليني، حيث ذكر في باب صفة الغسل صحيحي محمد بن مسلم و زرارة المتقدمين في أدلة الترتيب- و اللذين سبق عدم ظهورهما فيه- و صحيح زرارة المانع من تقديم الجسد علي الرأس، و من ثمَّ سبق منع الاستدلال بعدم الفصل عند التعرض للصحيح المذكور.

كما أنّ المنقول عن ابن الجنيد لا يناسب وجوب الترتيب، لأنه اجتزأ مع قلة الماء بالصب علي الرأس و إمرار اليد علي البدن تبعا للماء المنحدر من الرأس علي الجسد، لوضوح أنّ انحدار الماء علي الجسد بمجرد صبه قبل إكمال غسل الرأس به.

و احتمال كون إمرار اليد لترطيب البدن و تسهيل غسله بالصب عليه، الذي تعرض له بعد ذلك، خلاف الظاهر جدا.

و من هنا يشكل تحصيل الإجماع الكاشف عن رأي المعصومين عليهم السّلام، و لا سيما مع بعد اطلاعهم علي دليل خفي علينا، مع كثرة ما وصل إلينا من الأخبار في كيفية الغسل و خلوها عن الدلالة بالوجه المناسب للحكم المذكور، علي ما سبق، و قرب ذهاب القدماء قبل عصر تدوين الفتاوي المجردة عن النصوص إلي مفاد النصوص التي رووها و دونوها و عرفت أقوالهم منها، و احتمال التباس الآداب الشرعية و الكيفيات العرفية بالفروض و الواجبات في أوائل عصور تدوين الفتاوي

ص: 510

______________________________

المجردة، كما التبست في كثير من الموارد، لإيهام عباراتهم خلاف المقصود، و جاء من تأخر عن ذلك فحاول الاستدلال لما استفاده بالنصوص الموهمة له و تتميم دلالتها ببعض التشبثات التي لم تتضح لنا.

هذا، و قد يستدل علي عدم وجوب الترتيب بما في صحيح هشام بن سالم قال: «كان أبو عبد اللّه عليه السّلام فيما بين مكة و المدينة و معه أم إسماعيل فأصاب من جارية له، فأمرها فغسلت جسدها و تركت رأسها، و قال لها: إذا أردت أن تركبي فاغسلي رأسك، ففعلت ذلك، فعلمت بذلك أم إسماعيل فحلقت رأسها، فلما كان من قابل انتهي أبو عبد اللّه عليه السّلام إلي ذلك المكان، فقالت له أم إسماعيل: أي موضع هذا؟ قال لها: هذا الموضع الذي أحبط اللّه فيه حجك عام أول» «1» لكن في صحيحه الآخر عن محمد بن مسلم: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فسطاطه و هو يكلم امرأة فأبطأت عليه، فقال: ادنه، هذه أم إسماعيل جاءت و أنا أزعم أنّ هذا المكان الذي أحبط اللّه فيه حجها عام أول، كنت أردت الإحرام، فقلت: ضعوا لي الماء في الخباء، فذهبت الجارية بالماء فوضعته، فاستخففتها فأصبت منها، فقلت: اغسلي رأسك و امسحيه مسحا شديدا لا تعلم به مولاتك، فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك و لا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك، فدخلت فسطاط مولاتها فذهبت تتناول شيئا فمست مولاتها رأسها فإذا لزوجة الماء، فحلقت رأسها و ضربتها، فقلت لها: هذا المكان الذي أحبط اللّه فيه حجك» «2».

و احتمال تعدد الواقعة بعيد جدا.

و من هنا قرب في الاستبصار أن يكون الأول وهما من الراوي، بل ظاهر التهذيب الجزم به.

إلا أنه لا وجه لتعين الوهم به، بل مضمون الثاني أقرب للوهم، لأن المستحب

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 511

و منه العنق (1) ثمَّ بقية البدن.

______________________________

للإحرام الغسل التام، فإن كان متوقعا من الجارية فلا ملزم بتقديم غسل الرأس منها، و إلا كان غسل الجسد مريبا أيضا و لم ينفع تقديم غسل الرأس، بخلاف مضمون الأول، لعدم ظهور أثر غسل الجسد و لا سيما بعد لبس الثياب، بخلاف غسل الرأس لظهور بلله، فإذا وقع قبيل الركوب أو حاله لا تطلع عليه أم إسماعيل، لعدم ملاقاتها، للجارية بعده.

نعم، يبعد الوهم فيه بلحاظ ما اشتمل عليه من الخصوصيات الدقيقة، كالأمر بالمبالغة في مسح الرأس و مس أم إسماعيل له صدفة، و التفاتها للزوجة الماء فيه، حيث يبعد جدا الوهم في هذه الأمور.

و من هنا كان التعارض بين الصحيحين مستحكما، بل لا يخلو اختلافهما عن غرابة.

و قد تحصّل من جميع ما سبق: أنّ الذي يمكن إثباته من النصوص هو عدم جواز تأخير الرأس بتمامه عن تمام البدن، لصحيحي زرارة و حريز، و وجوب تقديم الرأس عند إرادة التفريق لصحيح حريز الآخر. مع جواز غسل الرأس مع البدن بغسل واحد عرفا، للمطلقات المتقدمة المطابقة لسيرة العرف في كيفية الغسل، و التي يشكل تحصيل الدليل المخرج عنها. و من ثمَّ مال في المدارك إلي عدم وجوب الترتيب. فتأمل جيدا.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم، و منه نستمد العون و التوفيق.

(1) كما لعله الظاهر ممن عطف الميامن و المياسر علي الرأس، كما في الانتصار و المبسوط و الخلاف و النهاية و المراسم و الوسيلة و الشرائع و النافع و المعتبر و الإرشاد و القواعد و التذكرة و المنتهي و محكي السرائر و غيرها، لعدم دخول الرقبة في الميامن و المياسر عرفا، بحيث يحتاج دخولها فيهما للتنبيه، و لا سيما مع سبق التصريح بإلحاقها بالرأس في المقنعة و الغنية و محكي الكافي

ص: 512

______________________________

و المذهب و التحرير، و هو المصرح به أيضا في الدروس و الذكري و اللمعة و جامع المقاصد و المسالك و الروضة و الروض و كشف اللثام و محكي البيان و حاشية الشرائع و الجعفرية و غيرها، بنحو يناسب المفروغية عنه من غير واحد منها.

و في الذكري: «نص عليه المفيد و الجماعة»، و عن شرح المفاتيح أنّ الظاهر اتفاق الفقهاء عليه، و في الحدائق: «من غير خلاف يعرف بين الأصحاب، و لا إشكال يوصف في هذا الباب إلي أن انتهت النوبة إلي جملة من متأخري المتأخرين. فاستشكلوا في الحكم».

و لعله لذا يحمل ما في إشارة السبق من وجوب غسل الرأس و الجانب الأيمن من رأس العنق إلي تحت القدم و كذلك الأيسر علي رأسه الأسفل المتصل بالجسد، لا الأعلي المتصل بالرأس.

و كيف كان، فقد يستدل عليه بعموم الرأس للرقبة شرعا، أو عرفا بنحو الاشتراك، لكن الظاهر خروجها عنه عرفا، و عدم تصرف الشارع في مفهوم الرأس، و أنّ وجوب غسل الرقبة معه لو تمَّ مستفاد من قرينة خارجية.

فالأولي الاستدلال له من نصوص الترتيب بقوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «ثمَّ صب علي رأسه ثلاث أكف، ثمَّ صب الماء علي منكبه الأيمن مرتين، و علي منكبه الأيسر مرتين» «1».

و في موثق سماعة المتقدم: «ثمَّ ليصب علي رأسه ثلاث مرات مل ء كفيه، ثمَّ يضرب بكف من ماء علي صدره و كف بين كتفيه» «2».

لظهورهما في أنّ ابتداء الجسد المتأخر في الغسل عن الرأس بالمنكبين و الصدر و بين الكتفين، و العنق خارج عنها، فيتعين إلحاقه بالرأس و لو لتبعيته له بسبب نزول الماء من الرأس له، فإنه أقرب عرفا من إلحاقه بالمنكبين و الصدر و بين الكتفين مع كونه أعلي منهما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 513

______________________________

نعم، مقتضاهما تقديمها علي الجسد كالرأس، أما عدم وجوب تأخيرها عن الرأس فضلا عن جواز تقديمها عليه فهما لا ينهضان به، بل مقتضي فرض الصب فيهما علي الرأس وجوب البدء به و لو بتقديم بعضه.

لكن يظهر منهم المفروغية عن عدم وجوب ذلك و أنهما عضو واحد.

و مما سبق يظهر ضعف ما يظهر من المستند و عن جملة من متأخري المتأخرين- منهم صاحبا الذخيرة و رياض المسائل و المحدث الشيخ عبد اللّه البحراني- من الإشكال في الحكم، لخروج الرقبة عن الرأس لغة و عرفا، و فقد النص الصريح بإلحاقها به، بل تقدم ظهور صحيحي أبي بصير و يعقوب بن يقطين في خروجها عنه.

وجه الضعف: أنّ ظهور الحديثين كاف في إلحاق الرقبة بالرأس و إن كانت خارجة عنه لغة و عرفا، و لا يحتاج معه إلي صريح النص، و صحيحا أبي بصير، و يعقوب ليسا من أدلة الترتيب ليهمّ ظهورهما في عدم الإلحاق.

هذا كله بناء علي أنّ الصحيح و الموثق من أدلة الترتيب، و أما بناء علي عدم نهوضهما به و أنّ دليله صحاح زرارة و حريز المتقدمة، فالبناء علي إلحاق الرقبة بالرأس لا يخلو عن إشكال، لما عرفت من عدم دخولها فيه عرفا، فينحصر الأمر بالإجماع الذي حكيت دعواه عن بعضهم، و هو و إن لم يكن بعيدا بناء علي نهوض الإجماع بالترتيب، لما سبق من كلماتهم، إلا أنه تقدم الإشكال في الاستدلال به عليه.

اللهم إلا أن يقال: بناء علي استفادة الترتيب من الصحاح المذكورة يصلح صحيح زرارة و موثق سماعة لبيان أنّ ما يجب تقديمه علي الجسد ما يعم الرقبة، حيث تصلح تلك الصحاح للقرينية علي أنّ الترتيب بالصب فيهما لأجل اعتبار الترتيب في الغسل، فتلحق الرقبة بالرأس، لما سبق، و إلا فمن البعيد جدا إرادة غسل الأعضاء مرتبا بعد إكمال الصب علي الجميع.

نعم، بناء علي عدم استفادة الترتيب بالنحو المذكور منها و الجمود علي

ص: 514

و الأحوط وجوبا أن يغسل أولا تمام النصف الأيمن، ثمَّ تمام النصف الأيسر (1).

______________________________

مفادها- كما سبق- يتعين عدم إلحاق الرقبة بالرأس، فمن غسل الرقبة و البدن و ترك الرأس وجب عليه إعادة غسل الرقبة مع البدن بعد غسل الرأس، عملا بصحيحي زرارة و حريز المتقدمين، فلاحظ.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب المدعي عليه الإجماع صريحا و ظاهرا في كلام من تقدم منه دعواه علي تقديم الرأس، لجعلهم لهما في عرض واحد، عدا صاحب الحدائق، و في المعتبر بعد أن ذكر ذلك و ناقش في دلالة النصوص عليه قال: «لكن فقهاءنا اليوم بأجمعهم يفتون بتقديم اليمين علي الشمال و يجعلونه شرطا في صحة الغسل، و قد أفتي بذلك الثلاثة و أتباعهم».

بل في التذكرة و المنتهي و الروض و حاشية المدارك و محكي الذكري و نهاية الاحكام أنّ كل من أوجب تقديم الرأس أوجب تقديم الجانب الأيمن، و في الانتصار و الروض و محكي الذكري أنّ كل من قال بوجوب الترتيب في الوضوء قال به في الغسل علي النحو المذكور، فالتفريق بينهما خروج عن الإجماع و من ثمَّ قال في الجواهر: «و يمكن دعوي تحصيل الإجماع».

لكن لا مجال لذلك مع ما سبق من الصدوقين و ابن الجنيد، بل كلامهم في نفي الترتيب بين الجانبين أظهر منه في نفيه بين الرأس و الجسد، و لا سيما مع ما عن ابن الجنيد من قوله بعد ذلك: «و يضرب كفين من ماء علي صدره و سائر بطنه و عكنه، ثمَّ يفعل مثل ذلك علي كتفه الأيمن، و يتبع يديه كل مرة جريان الماء حتي يصل إلي أطراف الأصابع اليمني و تحت إبطيه و أرفاغه [1]، و لا ضرر في نكس غسل اليد هنا،

______________________________

[1] قال في لسان العرب: «الرّفغ و الرّفغ أصول الفخذين من باطن، و هما ما اكتنفا أعالي جانبي العانة عند ملتقي أعالي بواطن الفخذين و أعلي البطن، و هما أيضا أصول الإبطين. و قال ابن الأعرابي:. و الأرفاغ المغابن من الآباط و أصول الفخذين و الحوالب و غيرها من مطاوي الأعضاء و ما يجتمع فيه الوسخ و العرق.».

ص: 515

______________________________

و يفعل مثل ذلك بشقه الأيسر. و لو لم يضرب صدره و بين كتفيه بالماء إلا أنه أفاض بقية مائه بعد الذي غسل به رأسه و لحيته ثلاثا علي جسده من الماء ما يعلم أنه قد مرّ علي سائر جسده أجزأ.»، و عن ابن أبي عقيل أنه عطف الأيسر علي الأيمن بالواو، و عن الكافي أنه قال بعد ذكر الترتيب بين الأعضاء الثلاثة: «و يختم بغسل الرجلين. فإن ظن بقاء شي ء من صدره أو ظهره لم يصل الماء إليه فليسبغ بإراقة الماء علي صدره و ظهره»، و قال في محكي الذكري بعد نقل ذلك عنه: «و كذا قاله بعض الأصحاب»، و في المراسم: «و يغسل رأسه أولا مرة و يخلل شعره حتي يصل الماء تحته ثمَّ يغسل ميامنه مرة و مياسره مرة، ثمَّ يفيض الماء علي جسده و لا يترك منه شعرة و ليمر يده علي بدنه، و الترتيب واجب»، لظهور كلامهما في تحقق غسل الميامن و المياسر المطلوب في الجملة مع عدم استيعاب البدن بنحو يحتاج للإفاضة علي جميع البدن بعده.

و ما حاوله غير واحد من تأويل هذه الكلمات و إرجاعها لما يطابق المشهور تكلف لا داعي له، و لا سيما مع احتمال مطابقة مضامينها لبعض الأخبار.

و لعله لذا جعله المشهور في كشف اللثام و المفاتيح و الحدائق، بل ذكر في المدارك ذلك في أصل الترتيب.

و كيف كان، فينحصر الدليل علي الترتيب بين الجانبين بما تضمن وجوبه في غسل الميت بضميمة ما دل علي أنّ غسل الميت غسل الجنابة أو مثله، المؤيد بصحيح زرارة- المتقدم في إلحاق الرقبة بالرأس- لإشعاره بتثليث أعضاء الغسل المستلزم لوجوب الترتيب بينهما، لأن كل من قال بتثليثها أوجبه، أو لظهور الواو في الترتيب مطلقا، أو في خصوص المقام بقرينة الإجماعات المتقدمة، و ببعض الروايات العامية المتضمنة أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله كان إذا اغتسل بدأ بالشق الأيمن ثمَّ الأيسر «1»، بل قد يدعي انجبارها بفتوي الأصحاب، و لا سيما مع تعرض جملة منهم

______________________________

(1) حكي عن صحيح البخاري كتاب الغسل باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل.

ص: 516

______________________________

لها في مقام الاستدلال.

و الكل كما تري، لما سبق من عدم صلوح نصوص غسل الميت للاستدلال علي تقديم الرأس فضلا عن تقديم الجانب الأيمن.

و مثلها صحيح زرارة، لأن تثليث الأعضاء لو تمَّ قد يكون بلحاظ استحباب الترتيب بينها و عدم القائل به غير ظاهر.

و لا دلالة في الواو علي الترتيب، و قول المشهور به لا يصلح قرينة متممة لدلالتها عليه.

و أخبار العامة غير ظاهرة الدلالة علي وجوب الترتيب، لأن فعله صلّي اللّه عليه و آله أعم منه، و لم يتضح وروده في مقام التعليم ليكون ظاهرا فيه. بل مقتضاه البدء بالميامن حتي في الرأس الذي لا إشكال في عدم وجوبه.

كما لا مجال لانجبارها بعمل الأصحاب، لأن ذكرهم لها قد يكون للاحتجاج علي العامة لا للاعتماد عليها في نفسها.

علي أنه لو تمَّ شي ء من ذلك فلا مجال للخروج به عن الإطلاقات، حيث تقدم قوة ظهورها في عدم وجوب الترتيب.

بل هي في المقام أكثر منها في الرأس و أظهر.

و لا سيما مع ما في موثق سماعة المتقدم من قوله عليه السّلام: «ثمَّ يضرب بكف من ماء علي صدره و كف بين كتفيه، ثمَّ يفيض الماء علي جسده كله» «1»، و قريب منه الرضوي «2».

و ما في موثق عمار المتقدم أيضا من قوله عليه السّلام في بيان مقدار الماء لغسل المرأة التي لا تنقض شعرها: «مثل الذي يشرب شعرها، و هو ثلاث حفنات علي رأسها و حفنتان علي اليمين و حفنتان علي اليسار، ثمَّ تمر يدها علي جسدها كله» «3»،

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(2) كتاب الرضوي آخر ص: 3.

(3) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 517

و لا بد في غسل كل عضو من إدخال الشي ء من الآخر، نظير باب المقدمة (1).

______________________________

لصراحته في أنّ استيعاب الجسد بالماء بعد إكمال الصب علي أطرافه الذي يكون به الشروع في غسلها، كما تقدم.

و ما في صحيح زرارة فيمن ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة من قوله عليه السّلام: «و إن كان استيقن رجع فأعاد عليهما» «1»، لأن مقتضي ترك الاستفصال فيه الاكتفاء بتدارك ما تركه و إن كان من الميامن، و عدم وجوب إعادة الجانب الأيسر بعده، فتأمل.

و قد تقدم في حكم تقديم الرأس علي الجسد ما له نفع في المقام.

و من هنا كان الأظهر عدم وجوب الترتيب بين الجانبين، كما يظهر من أصحاب المدارك و المفاتيح و الحبل المتين و المستند و محكي الذخيرة و الوافي، و المجلسي، و يظهر أيضا من بعض مشايخنا.

بل لا يبعد كونه المختار لسيدنا المصنف قدّس سرّه، حيث سئل- بحضوري- عمن عكس الترتيب بينهما مدة طويلة جهلا بالحكم، فلم يأمره بالإعادة، و اقتصر علي نهيه عن العود لذلك، مع عدم الإشكال ظاهرا في أنّ شرطية الترتيب لو تمت واقعية تشمل حال الجهل، كما صرح به هو قدّس سرّه في مستمسكه، بل ظاهره دخوله في معقد إجماع الأصحاب المدعي علي الترتيب.

(1) و هو المعروف عندهم بالمقدمة العلمية، و هي التي يتوقف عليها العلم بالامتثال.

و التي يقتضي وجوبها في المقام قاعدة الاشتغال، التي هي المرجع مع الشك في الامتثال، و لا سيما في مثل الطهارات، التي تكرر أنّ مرجع الشك فيها إلي الشك في المحصل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 518

______________________________

و قد تقدم في الوضوء ما له دخل في المقام.

و علي هذا، فالحد المشترك بين العضوين الذي لا يتميز لحوقه بكل منهما يجب غسله مع كل منهما، بل هو مقتضي العلم الإجمالي بوجوب غسله مع أحدهما.

و بذلك صرح في جامع المقاصد و المسالك و غيرهما.

و دعوي: أنّ ذلك موقوف علي وجوب الترتيب بين الأعضاء الثلاثة بتمامها حقيقة، و لا دليل عليه، لأن النصوص المتقدمة إنما تضمنت الصب علي الرأس ثمَّ الجسد، و الصب علي المنكبين، و المتيقن من ذلك الاستيعاب العرفي لكل عضو، و لا يخل به غسل الحدّ المشترك مع أحد الجانبين.

مدفوعة: بأن الجمود علي مفاد النصوص المطابقي لا يقتضي حتي الاستيعاب العرفي، و حمله علي الكناية عن الترتيب بين الأعضاء يقتضي استيعابها الحقيقي الذي لا يحرز إلا بغسل الحد المشترك مع كل من الجانبين.

و منه يظهر ضعف ما عن الذكري من إجزاء غسل الحد المشترك و العورتين مع أحد الجانبين.

و أما ما ذكره من امتناع إيجاب غسلهما مرتين، فهو كما تري، إذ أي مانع من وجوب تكرار غسل الجزء المذكور عقلا للاحتياط بتحصيل الواجب الواقعي، و هو غسل كل من الجانبين بتمامه مرتبا مرة واحدة.

علي أنه لا مجال لذلك في العورتين مع إمكان التنصيف فيهما، و إن جزم بالتخيير المذكور فيهما في محكي الألفية أيضا، كما جزم به فيهما و في السرّة في جامع المقاصد و محكي الجعفرية.

و ما في جامع المقاصد من أنها أعضاء مستقلة و ليست كالحد المشترك فلا ترجيح لغسلها مع أحد الجانبين.

كما تري، لأن كونها أعضاء عرفا لا ينافي دخول كل من نصفيها في كل من

ص: 519

______________________________

الجانبين فيغسل معه- علي ما صرح به في كشف اللثام- كما يغسل كل من الثديين و اليدين مع جانبه و إن كانت أعضاء عرفا.

غاية الأمر أنّ اشتباه الحد المشترك بينها يقتضي غسله مع كل منهما.

و مثله ما عن بعض الأصحاب من وجوب غسل العورتين منفردتين، لأن العورة عضو رابع.

إذ فيه: أنّ عدد الأعضاء في الغسل تابع لأدلته، و المفروض ظهورها في تثليثها لا غير.

نعم، تضمنت جملة من النصوص تقديم غسل الفرج.

إلا أنّ الظاهر حمله عندهم علي تطهيره من الخبث، كما يناسبه التعبير بالإنقاء في بعضها «1»، و الأمر بغسل تمام البدن بعده في آخر «2».

هذا، و في المسالك بعد أن ذكر غسل كل من الأليتين مع جانبها قال: «و يدخل في ذلك غسل الدبر، و كذا قبل المرأة. و أما الذكر، فالأولي غسله مع الجانبين»، و عن رسالة صاحب المعالم و شرحها: «فيغسل الرجل قبله من الجانبين استظهارا، لعدم تشخص كونه من واحد بعينه»، بل في الحدائق ذكر ذلك في العورتين معا.

و ربما يحمل عليه ما في الروضة من تبعية العورة للجانبين، و إن كان الأظهر حمله علي تبعيتها لهما بالتنصيف الذي سبق أنه المتعين.

و قد وجّه في الحدائق ما ذكره بظهور الأخبار في وجوب استيعاب كل من الجانبين بالغسل، فلو كانت العورة عضوا زائدا لكانت متروكة الذكر في الأخبار.

و هو كما تري، لأن استيعاب كل من الجانبين لا يقتضي إلا غسل نصف العورة معه، من دون فرق بين القبل و الدبر، بل وجوب غسل تمامها مرتين واقعا أو احتياطا محتاج إلي عناية في البيان لا تناسبها النصوص المتقدمة.

فالمتعين ما سبق من التنصيف، و الاقتصار في التكرار علي الحدّ المشترك الذي يحتمل إلحاقه بكل منهما، فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5، 8.

ص: 520

و لا ترتيب هنا بين أجزاء كل عضو (1)،

______________________________

(1) كما هو مقتضي إطلاق جماعة من الأصحاب و تصريح آخرين، و عن المهذب البارع أنه المشهور، بل قد يظهر منه شذوذ المخالف، لأنه بعد أن حكي عن أبي الصلاح الحلبي إيجاب البدء بأعلي العضو قال: «و هو متروك».

نعم، في مفتاح الكرامة أنّ ذلك ظاهر الغنية و إشارة السبق و السرائر، بل ظاهر الغنية الإجماع عليه.

لكن الموجود في الغنية: «ثمَّ غسل جميع الرأس إلي أصل العنق، علي وجه يصل الماء إلي أصول الشعر، ثمَّ الجانب الأيمن من أصل العنق إلي تحت القدم كذلك، ثمَّ الجانب الأيسر كذلك، فإن ظن بقاء شي ء من صدره أو ظهره لم يصل الماء إليه غسله»، و في إشارة السبق: «و غسل الرأس إلي أن يبلغ الماء أصول شعره، و غسل الجانب الأيمن من رأس العنق إلي تحت القدم، و كذلك الجانب الأيسر و ترتبه، فإن لم يعم الماء صدره و ظهره غسلهما».

و المتيقن منهما إرادة تحديد الأعضاء المغسولة، لا كيفية الغسل.

بل ظاهر ذيل كلاميهما جواز الاقتصار علي ما لم يصل إليه الماء و عدم وجوب إعادة غسل ما تحته لأجل الترتيب في نفس العضو.

و في السرائر: «و الترتيب واجب فيه، و هو أن يقدم غسل رأسه ثمَّ ميامن جسده ثمَّ مياسره، فإن أخر مقدما أو قدم مؤخرا رجع فتداركه. إلي أن قال بعد كلام طويل: - و إن ارتمس الجنب ارتماسة واحدة أجزأه و يسقط الترتيب. و المستحب أن يفيض علي رأسه ثلاث أكف من الماء و يغسل رأسه بها و ما يليه من عنقه. ثمَّ يأخذ ثلاث أكف لجانبه الأيمن فيغسل بها من عنقه إلي تحت قدمه الأيمن، ثمَّ يأخذ ثلاث أكف لجانبه الأيسر فيفعل فيه كما فعل بالجانب الأيمن.».

و لو كان ما في ذيل كلامه لبيان كيفية الغسل، لا لتحديد المغسول- كما لعله الأظهر- فهو في الكيفية المستحبة لا الواجبة، بل خلوّ ما ذكره في الترتيب الواجب

ص: 521

______________________________

عن ذلك ظاهر في عدم وجوبه.

و من ثمَّ ينحصر الخلاف بما حكي عن أبي الصلاح، الذي لا يحضرني كلامه.

و كيف كان، فقد يستدل لوجوب البدء بالأعلي بقوله عليه السّلام في صحيح زرارة:

«ثمَّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلي قدمك» «1».

و في صحيحه الآخر: «ثمَّ صبّ علي رأسه ثلاث أكف ثمَّ صب علي منكبه الأيمن مرتين و علي منكبه الأيسر مرتين» «2».

لكن ظاهر الأول تأكيد وجوب الاستيعاب، لتعارف التعبير بذلك عنه، و لذا سبق الاستدلال به لعدم وجوب الترتيب حتي بين الأعضاء الثلاثة، و إلا فلا يجب الختم بالقدمين معا قطعا، بل المدعي وجوب الختم بالقدم في كل جانب، و هو لا يناسب العبارة المذكورة لو حملت علي ترتيب الغسل.

و الثاني محمول علي بيان الكيفية المتعارفة التي يسهل معها استيعاب البدن بالماء، و إلا فالمنكب هو الأعلي في بعض الجانب، فلا بد من غسل ما سامته منه بإمرار اليد المبتلة، و هو قد يكون بعد غسل ما تحته بجريان الماء المسبب عن صبه علي المنكب.

بل الترتيب بالنحو المذكور لمّا كان محتاجا إلي عناية، كان المناسب التنبيه عليه ببيان موضح، و هو لا يناسب كمية الماء المذكورة في النصوص، و لا ما تضمنه غير واحد منها من الاكتفاء في كل موضع بإمساس الماء له أو جريانه عليه.

نعم، لو أريد مجرد البدء بالأعلي و لو مع عدم الترتيب فيما بعده لم يكن بهذه العناية، إلا أنّ الصحيح الثاني لا ينهض به أيضا، لما ذكرناه من عدم كون المنكب هو الأعلي لتمام الجانب.

كما أنّ المطلقات تأباه جدا، و لذا سبق الإشكال في الخروج عنها بالبناء

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 522

______________________________

علي الترتيب بين الأعضاء الثلاثة فضلا عن الترتيب فيها، فلاحظ.

بقي شي ء: و هو أنه لو أخل بغسل بعض الجسد لا عن عمد فلا إشكال ظاهرا في لزوم التدارك، لما تضمن وجوب الاستيعاب في الغسل.

و لصحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: اغتسل أبي من الجنابة فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما كان عليك لو سكت؟! ثمَّ مسح تلك اللمعة بيده» «1».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة. فقال: إذا شك و كانت به بلة و هو في صلاته مسح بها عليه، و إن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلة، فإن دخله الشك و قد دخل في صلاته فليمض في صلاته و لا شي ء عليه، و إن استيقن رجع فأعاد عليه الماء، و إن رآه و به بلة مسح عليه و أعاد الصلاة باستيقان» «2». و غيرهما.

و لا يضر طول الزمان، بناء علي ما يأتي من عدم اعتبار الموالاة في الغسل.

نعم، مقتضي وجوب الترتيب فيه بين الأعضاء الثلاثة الاكتفاء بغسله إذا كان في الجانب الأيسر، و وجوب غسل الأيسر بعده إذا كان في الجانب الأيمن، و وجوب غسل كلا الجانبين بعده إذا كان في الرأس أو الرقبة، كما هو ظاهر الأصحاب، لعدم استثنائهم ذلك من شرطية الترتيب، بل في الجواهر أنه صرح به جماعة، و نسبه في الحدائق لتصريح الأصحاب، مشعرا بدعوي الإجماع عليه.

بل لو قيل باعتبار الترتيب في نفس الأعضاء كان مقتضي القاعدة لزوم غسل ما تحته من العضو أيضا.

لكن لا مجال لحمل النصوص المتقدمة علي ذلك، إذ هي كالصريحة في الاكتفاء بغسل الموضع المتروك، مع فرضه فيها في أعالي العضو، لا في أسفله.

و من هنا يتعين البناء علي سقوط الترتيب في نفس الأعضاء مع الإخلال

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 523

فله أن يغسل الأسفل منه قبل الأعلي. كما أنه لا كيفية مخصوصة للغسل هنا، بل يكفي المسمي كيف كان (1)،

______________________________

بالجزء لا عن عمد لو قيل باعتباره في نفسه.

بل مال في الحدائق إلي الاكتفاء به مطلقا حتي لو كان في غير الجانب الأيسر و سقوط الترتيب بين الأعضاء أيضا.

و هو لا يخلو عن قرب، لأن حمل الصحيحين الأولين علي ما لا ينافي الترتيب و إن كان ممكنا لورودهما في قضية خارجية لا إطلاق لها، فتحمل علي ما إذا كانت اللمعة في الجانب الأيسر، أو في الأيمن قبل الشروع في غسل الجانب الأيسر، لتخيل غفلة الإمام عليه السّلام عنها- كما قد يحمل عليه محافظة علي العصمة- إلا أنه لا مجال له في الثالث بعد ترك الاستفصال فيه بنحو يبعد حمله علي خصوص الأيسر.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنّ السؤال فيه من حيثية وجوب الإعادة علي المتروك و عدمه لا من هذه الحيثية، فلا مجال لرفع اليد به عن أدلة الترتيب لو تمت.

فهو كما تري! لأن الخصوصيات المذكورة في الجواب تناسب التصدي لبيان كيفية التدارك، لا لأصل وجوبه فقط، فلا مجال لإنكار قوة ظهوره في سقوط الترتيب لو كان واجبا في نفسه.

و من ثمَّ سبق منا سوقه مؤيدا لعدم وجوب الترتيب بين الجانبين رأسا، فلاحظ.

(1) كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب و تصريح جملة منهم بالاكتفاء بمسمي الغسل.

و أما ذكر الصب و الإفاضة و نحوهما في عبارات جملة من القدماء الواردة لبيان الغسل الترتيبي، فالظاهر عدم جمودهم عليها، و أنّ ذكرهم لها تبعا للنصوص أو لبيان الكيفية المتعارفة، لقضاء المناسبات الارتكازية بأنها من سنخ المقدمات

ص: 524

______________________________

الخارجية التي لا دخل لخصوصياتها، و أنّ المهم ما يتسبب عنها، و هو الغسل و وصول الماء للبشرة، كما يشهد به اختلاف العناوين المأخوذة في كلماتهم و خلوّ كلام بعضهم عنها مع عدم نسبة الخلاف إليهم من هذه الجهة.

فما يظهر من المستند من استفادة اعتبار ذلك من كلماتهم في غير محله.

و أضعف من ذلك ما ذكره من عدم الريب في اعتبار الصب في الترتيبي، و حكاه عن بعض أجلة المتأخرين في شرحه علي القواعد، لانحصار أدلة الترتيب في الصب، فلا وجه للتعدي منها.

وجه الضعف: أنّ النصوص المذكورة و إن اشتملت علي ذلك في الجملة، إلا أنّ المستفاد منها بيان الكيفية المتعارفة، لإلغاء خصوصية السبب ارتكازا، و أنّ المهم وصول الماء للبشرة، كما يشهد به قوله عليه السّلام في صحيح محمد بن مسلم: «فما جري عليه الماء فقد طهر» «1»، و في صحيح زرارة: «فما جري عليه الماء فقد أجزأه» «2» و في صحيحه الآخر: «و كل شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته» «3».

و لا سيما مع اختلاف العناوين التي تضمنتها من صب الماء و إفاضته و ضرب الصدر و ما بين الكتفين به.

و مع ما في صحيح ابن جعفر الوارد في الاغتسال بالمطر من قوله عليه السّلام: «إن كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه» «4»، لظهوره في أنّ المدار علي الغسل، من دون خصوصية لمقدمته.

إلي غير ذلك مما لا ينبغي التأمل معه في إلغاء خصوصية الأمور المذكورة.

و قد تقدم في أول فصل أجزاء الوضوء الكلام في اعتبار الجريان و في تحديده لو كان معتبرا بما يغني عن الإعادة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 10.

ص: 525

فيجزي رمس الرأس بالماء أولا (1)، ثمَّ الجانب الأيمن ثمَّ الجانب الأيسر، كما يكفي رمس البعض و الصب علي الآخر. بل يكفي تحريك العضو المرموس في الماء (2)

______________________________

(1) كما حكاه في المستند عن والده و بعض مشايخه و جمع ممن عاصره، بل هو الظاهر من إطلاق الأصحاب، بناء علي ما سبق من إلغاء خصوصية الصب في كلام جماعة منهم.

و لذا تقدمت نسبته لهم في الوضوء في كلام غير واحد مع عدم تصريح معتد به منهم.

و الوجه فيه: تحقق الواجب به، و هو وصول الماء للبشرة، حتي بناء علي اعتبار الجريان فيه، إذ لا يراد به إلا انتقال أجزاء الماء علي أجزاء البدن، و هو يحصل بالارتماس.

و قد تقدم في المسألة الثالثة عشرة من فصل أجزاء الوضوء ما له نفع في المقام.

(2) ظاهره لزوم التحريك و عدم الاكتفاء بنية الغسل بدونه، و هو ظاهر، بناء علي اعتبار الجريان- بالمعني المتقدم- و أما بناء علي عدمه و الاكتفاء في صدق الغسل باستيلاء الماء علي البشرة- كما هو مختار سيدنا المصنف قدّس سرّه- فقد يتجه الاكتفاء بذلك، كما نبه له قدّس سرّه في مستمسكه، و يناسبه ما يأتي منه في الغسل الارتماسي.

لكن سبق في المسألة الثالثة عشرة من فصل أجزاء الوضوء أنّ المتيقن من الأدلة اعتبار إيصال الماء و إمساسه بما هو معني مصدري، و لا تكفي نتيجة المصدر و هي التماس بين الماء و البشرة، الحاصل مع سكون العضو المرموس في الماء و إن استند للمكلف بسبب إبقائه العضو فيه، لعدم تحقق الغسل به- بناء علي ما تقدم في أول الفصل المذكور من معناه- و عدم الدليل علي الاكتفاء به.

ص: 526

بلا حاجة إلي إخراجه ثانيا (1).

ثانيهما الارتماس
اشارة

ثانيهما: الارتماس (2)،

______________________________

نعم، يتجه عدم وجوب التحريك إذا كان الماء متحركا حال سكون العضو فيه، و نوي غسله بمرور الأجزاء المائية عليه، لتحقق الإمساس بالمعني المصدري حينئذ، و استناده للمكلف بإبقائه العضو في الماء، نظير قيامه تحت المطر الموجب لإصابة مائه له، كما تقدم في المسألة المذكورة من الوضوء.

(1) لا إشكال ظاهرا في عدم دخل إخراج العضو المرموس في صدق الغسل و تحقق الامتثال، و لا يحتاج إلي تنبيه.

و الظاهر أنه أشار قدّس سرّه بما ذكره إلي عدم لزوم إخراج العضو المرموس غسله و تجديد رمسه في مقابل دعوي عدم الاكتفاء بتحريكه حال ارتماسه.

و قد تقدم في المسألة الثالثة عشرة من فصل أجزاء الوضوء توجيه الدعوي المذكورة بأنّ الواجب هو إحداث الغسل لا ما يعم البقاء و الاستمرار، و دفعها بإطلاق الأدلة، كما هو المطابق للارتكازيات في مطهرية الماء المشار إليها بالمضامين التي اشتملت عليها نصوص المقام، فراجع.

(2) فلا يجب معه الترتيب قطعا، كما في الذكري، و به صرح الأصحاب، و نفي الخلاف فيه في الحدائق و محكي شرح رسالة صاحب المعالم، بل ادعي الإجماع عليه في السرائر و الروض و كشف اللثام و المدارك و المفاتيح و المستند و الرياض و الجواهر.

و يقتضيه ما في صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و لو أنّ رجلا جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك و إن لم يدلك جسده» «1».

و صحيح الحلبي: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا ارتمس الجنب في

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 527

______________________________

الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله» «1»، و نحوه مرسله «2».

و موثق السكوني عنه عليه السّلام: «قلت له: الرجل يجنب فيرتمس في الماء ارتماسة واحدة و يخرج، يجزيه ذلك من غسله؟ قال: نعم» «3».

و بها يخرج عن إطلاق نصوص الترتيب- لو تمت دلالتها عليه في نفسها- المقتضي لعدم الاجتزاء بغيره، و حملها علي ما يتعارف من الغسل بغيره.

نعم، أطلق اعتبار الترتيب من دون استثناء الارتماس في جمل العلم و العمل للمرتضي و الوسيلة و معقد إجماع الانتصار و الخلاف و الغنية.

لكن يبعد خلافهم فيه- فضلا عن دعوي الإجماع علي بطلانه- بعد ما سبق.

و لعله لذا لم ينسب لهم الخلاف فيه، و إنما اقتصر في مفتاح الكرامة علي التنبيه لعدم ذكره في الغنية، مع أنه ذكر أنّ الأصحاب ذكروه قاطعين به.

و ربما يكون نظرهم في ذكر الترتيب إلي صورة الغسل التدريجي المتعارف.

كما قد يكون نظر بعضهم إلي عدم منافاته لوجوب الترتيب، لما احتمله في الاستبصار من أنّ المرتمس يترتب حكما و إن لم يترتب فعلا، و أنه إذا خرج من الماء حكم له أولا بطهارة رأسه ثمَّ جانبه الأيمن ثمَّ جانبه الأيسر، فيكون علي هذا التقدير مرتبا، و حكاه في المبسوط و السرائر عن بعض أصحابنا. و سيأتي ما يتعلق بذلك من غيرها.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في مشروعية الغسل الارتماسي. كما أنّ الظاهر البناء علي سقوط الترتيب معه، كما صرح به غير واحد من الأصحاب، و في المختلف أنه المشهور، أخذا بظاهر النصوص المتقدمة.

و أما الترتب الحكمي بالمعني المتقدم من الاستبصار، فهو- مع عدم منافاته لسقوط الترتيب- محتاج إلي دليل، و لا تشهد به نصوص المقام: أما نصوص

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 15.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 13.

ص: 528

______________________________

الارتماس فظاهر، بل قد يستظهر منها عدمه، و أما نصوص الترتيب، فلأنّها سيقت للترتيب الفعلي، فلا تدل علي الترتيب الحكمي إلا تبعا له، فمع فرض سقوط الترتيب الخارجي بالارتماس لا تنهض بإثبات الترتيب الحكمي بدونه، و لا ظهور لها في الترتيب الحكمي مطلقا، لتنفع فيه مع الارتماس.

و منه يظهر ضعف ما تقدم من الاستبصار من ارتفاع التنافي البدوي بين نصوص الترتيب و الارتماس بالحمل علي الترتيب الحكمي.

نعم، قد يظهر من المعتبر و التذكرة أنّ مرجع القول المذكور إلي اعتبار نية الترتيب حال الارتماس، بل هو كالصريح من المختلف، بل يظهر منه نسبته لسلار لقوله: «و ارتماسة واحدة يجزيه عن الغسل و ترتيبه»، و إن لم يتضح وجه استظهاره ذلك منه.

و كيف كان، فهو راجع للترتيب الفعلي، إذ لا يراد به إلا الترتيب في الغسل الشرعي المنوي، لا في وصول الماء للبشرة الذي لا ترتيب فيه حال الارتماس، فلو حملت عليه نصوص الارتماس كانت موافقة لإطلاقات الترتيب و ارتفع التنافي بينها، لكنه مناف لإطلاقها.

و دعوي: أنّ بين إطلاقها و إطلاق نصوص الترتيب عموما من وجه، فيرجع في مورد التعارض إلي أصالة الفساد و استصحاب الحدث.

مدفوعة: بأنّ تنزيل نصوص الترتيب علي غير صورة الارتماس النادرة أقرب عرفا من تنزيل نصوص الارتماس علي صورة نية الترتيب المحتاجة لمزيد عناية، بل هو إلغاء لخصوصية الارتماس، حيث لا يكون هو المجزئ عن الغسل، بل الغسل المنوي حينه، و النصوص تأباه جدا.

علي أنّ المرجع مع تساقط الإطلاقين إطلاقات الغسل القاضية بعدم الترتيب المقدمة علي الأصل المتقدم.

ثمَّ إنّ مقتضي إطلاق جماعة من الأصحاب و تصريح آخرين ارتفاع الحدث بمجرد الارتماس قبل الخروج من الماء.

ص: 529

و هو تغطية البدن في الماء (1)

______________________________

و يقتضيه إطلاق صحيح زرارة و صحيح الحلبي و مرسله، المناسب لإطلاقات مطهرية الغسل و ارتكاز مطهرية الماء. و لا ينافيه اشتمال موثق السكوني علي الخروج، إذ لا ظهور له في التقييد مع ذكره في السؤال.

نعم، ما تقدم من الاستبصار في بيان الترتب الحكمي قد يوهم اعتبار الخروج، لكن يبعد إرادته له.

(1) لأن ذلك هو المفهوم منه عرفا، المناسب لتفسيره في كلمات اللغويين تبعا للاستعمالات بالإخفاء و الدفن و طمس الأثر و نحوها و عليه جري الأصحاب في المقام.

و عليه، فهو أمر آني لا تدريجي، و غمس بعض البدن شيئا فشيئا بنحو التدريج ليس مبدأ لحدوثه، بل مقدمة له، و لا يتحقق إلا برمس الجزء الأخير في ظرف رمس ما قبله، و ليس هو كغسل البدن يبدأ بغسل أول جزء و ينتهي بغسل آخر جزء منه.

و يترتب علي ذلك أن تبدأ نية الغسل برمس الجزء الأخير.

و قد صرح بما ذكرنا سيدنا المصنف قدّس سرّه و في الجواهر: لعله أقوي الوجوه و أحوطها.

و لازمه اعتبار استيعاب الماء للبدن حين رمس تمامه، و لا يكفي استيلاؤه علي بعض أجزائه قبل ذلك إذا لم يستول عليه حين الارتماس، كالرجل تنزل علي الأرض حين رمس تمام البدن.

إن قلت: لا فرق بين الغسل و الرمس، بل هما كسائر ما يتعلق بالبدن، إن نسبا إليه بمجموعه كانا آنيّين و لم يصدقا إلا بعروضهما علي الجزء الأخير في ظرف عروضهما علي ما قبله، و إن نسبا إليه بنحو الانحلال تبعا لتعلقهما بأجزائه كانا تدريجيين، لتدرج الأجزاء في الاتصاف بهما، و حيث كان المناسب لارتكاز مطهرية

ص: 530

______________________________

الماء الثاني لزم الحمل عليه، كما يحمل عليه الغسل غير الارتماسي.

و لذا كان ظاهر المنقول عن الأصحاب جواز ابتداء النية عند رمس أول جزء من البدن، و إن وقع الكلام بينهم في وجوب ذلك و عدمه، و في اعتبار التتابع و عدمه.

قلت: لا مجال لحمل الرمس علي الانحلال، إذ لازمه الاكتفاء في تحققه برمس أجزاء البدن تدريجا و إن لم يستوعبه في زمان واحد، لخروج الأجزاء المرموسة أولا قبل رمس الباقي، كما هو الحال في الغسل و ليس بناؤهم عليه، لعدم صدق رمس البدن معه عرفا، و ليس هو كالغسل و التدهين و نحوهما مما يتعارف وقوعه علي الأجزاء تدريجا و يقل أو يتعذر استيعابه للبدن آن واحد و يقصد لأثره الباقي بعده، حيث يكون ذلك قرينة عرفية عامة علي إرادة ما يعم الانحلال منه و يكون هو المفهوم منه عند الإطلاق.

و منه يظهر أنه لا مجال للتشبث بارتكاز مطهرية الماء لإثبات طهارة كل جزء بارتماسه حين الشروع في رمس أجزاء البدن مقدمة لرمسه بتمامه، لأن المناسب للارتكاز المذكور عدم الحاجة لبقاء العضو مرموسا، فلزوم بقائه مرموسا- لتحقيق ارتماس تمام البدن- مناسب لعدم طهارته إلا حين رمس تمام البدن، كما هو مقتضي الجمود علي ما تضمنته النصوص من إجزاء الارتماس عن الغسل، و ليس الغسل الارتماسي جاريا علي مقتضي ارتكاز مطهرية الماء ليكون صالحا علي تفسيره و صالحا لبيان مبدئه.

اللهم إلا أن يقال: الجمود علي عنوان الارتماس و إن اقتضي عدم طهارة الأجزاء المرموسة إلا بعد تحقق رمس تمام البدن، إلا أنّ ذلك أمر مغفول عنه بسبب ارتكاز مطهرية الماء، حيث ينسبق الذهن لأجله إلي الاكتفاء بغسل الأجزاء حين رمسها، و لعله لذا سبق ظهور كلمات الأصحاب في أنّ ابتداء النية بالابتداء في رمس الأجزاء، فعدم التنبيه مع ذلك علي خلافه موجب لفهمه من الإطلاق و لو تبعا.

و من هنا كان من القريب طهارة كل جزء برمسه و إن لزم إبقاؤه مرموسا

ص: 531

تغطية واحدة (1)، بنحو يحصل غسل تمام البدن فيها (2)،

______________________________

مقدمة لرمس المجموع الذي تضمنته النصوص، فيكون رمس المجموع شرطا في سقوط الترتيب، لا محققا لطهارة تمام البدن، بحيث لا يطهر شي ء منه قبله، و إن كان الأمر محتاجا للتأمل.

(1) كما ذكره غير واحد، و نسب لكثير من عباراتهم، و في حاشية المدارك:

«الظاهر اتفاق الأصحاب علي اشتراط الواحدة المذكورة في الارتماس، كاتفاقهم علي اشتراط الترتيب في الترتيبي».

و هو مقتضي التقييد بها في النصوص المتقدمة. و يأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما هو ظاهر الأصحاب بل صريح جملة منهم.

لكن عن الذخيرة كفاية الارتماسة الواحدة و إن لم يتحقق شمول الماء لجميع البدن، بعد ما خرج، و غسل تلك اللمعة خارج الماء و إن طال الزمان.

فإن كان الوجه فيه ما تضمن الاكتفاء بتدارك ما فات من غسل الجنابة من النصوص المتقدمة في آخر الكلام في الغسل الترتيبي، فسوف يأتي الكلام فيه بعد الفراغ عن كيفية الغسل الارتماسي إن شاء اللّه تعالي.

و إن كان الوجه فيه إطلاق نصوص الارتماس، المتضمنة الاكتفاء بالارتماسة الواحدة، لصدق الارتماس عرفا لو كان ما لم يستوعبه الماء جزءا قليلا.

فيدفعه أنّ البناء علي شمول الإطلاق لذلك يقتضي عدم وجوب إيصال الماء لذلك الجزء بعد الخروج، لأن مفاده تحقق الطهارة بالارتماس لا بعده، و حيث لا يمكن البناء علي ذلك، للإجماع، و لظهور كون الغسل الارتماسي من أفراد الغسل المستوعب، لزم حمله علي الارتماسة التي يستوعب معها الماء لتمام البدن، كما هو المنسبق منها عرفا، كما هو المشار إليه في صحيح زرارة، لأن تعقيب الأمر بغسل الجسد من القرن إلي القدم بكفاية الارتماسة و لو مع عدم الدلك ظاهر في

ص: 532

فيخلل شعره فيها إن احتاج إلي ذلك، و يرفع قدمه عن الأرض إن كانت موضوعة عليها. و لا يجب أن يحصل جميع ذلك في زمان واحد عرفا (1)،

______________________________

مساواة الارتماسة المذكورة للغسل المذكور أولا في استيعاب الماء للجسد و عدم افتراقهما إلا في الدلك، و هو أولي عرفا من إبقاء الارتماسة علي إطلاقها مع تقييد حصول الطهارة بها بغسل ما لم يغسل فيها بعدها، و لا سيما مع نسبة الإجزاء في النصوص للارتماسة نفسها، لا مجرد الحكم به معها.

و لو فرض التردد بين الوجهين، كان المرجع عموم اعتبار الترتيب، المقتضي لبطلان الغسل في المقام، فلاحظ.

(1) ظاهره المفروغية عن عدم اعتبار حصوله في زمان واحد حقيقة، و إن كان يوهمه ما عن الألفية من أنّ مرجع وحدة الارتماسة إلي شمول الماء البدن كله في زمان واحد، بحيث يحيط بالأعالي و الأسافل جملة.

قال في مفتاح الكرامة: «و قطع الشارحون بأنه غير مراد للشهيد، و أخذوا يتأولون كلامه، لأن الأصحاب يكتفون بالدفعة العرفية»، و عن المحقق الثاني في شرح الألفية: «إنّ ما يظهر منها لا يقول به أحد من المسلمين»، و عنه أيضا أنه مخالف لإجماع المسلمين، و بالغ في التشنيع عليه فيه و في جامع المقاصد، و عن الدرة السنية [1] أنه مخالف لسائر المذاهب، فلا بد من تأويله.

نعم، في جامع المقاصد أنه ربما توهمه بعض الطلبة، بل جعله في كشف اللثام أحد الوجوه المحتملة في المقام.

و كأنّ الوجه فيه: تخيل أنّ الرمس في المقام عبارة عن استيلاء الماء علي تمام البدن، إما لأنه معناه الحقيقي، أو للزوم حمله عليه في المقام بلحاظ توقف

______________________________

[1] ذكر في مفتاح الكرامة أنّ صاحبه متقدم علي الشهيد الثاني.

ص: 533

بل يجب أن يحصل في تغطية واحدة مستمرة و لو كان حصولها فيه تدريجيا (1).

______________________________

الطهارة عليه، و لذا تقدم اعتباره، فمع عدم استيلائه علي تمام البدن في زمان واحد لوجود مانع في أبعاضه بنحو التعاقب لا يصح نسبة الرمس للبدن، بل لبعضه.

و يندفع بعدم أخذ استيلاء الماء علي البدن في مفهوم الرمس لا لغة و لا عرفا، بل هو تغطيته له- كما سبق- و إن لم يصل لبعضه للتماس بين أجزاء البدن، أو لمانع خارجي، كالوقوف علي أرض الحوض المانع من وصول الماء للرجلين.

و توقف الطهارة علي وصول الماء لتمام البدن إنما يقتضي اعتبار حصوله و لو تدريجا في الرمسة الواحدة، لا كون المراد بالرمس ذلك.

بل لمّا لم يكن ذلك مناسبا لارتكاز مطهرية الماء- و لذا تقدم الشروع بالغسل بالشروع في رمس أجزاء البدن- كان المفهوم من إطلاق النصوص خلافه، و لا سيما مع ابتنائه علي عناية عملية في كثير من المكلفين، بل قد يتعذر في بعضهم، كمن يتوقف وصول الماء إلي بعض بدنه إلي تخليله حال الارتماس، كالبدين ذي المغابن و نحوه، و المرأة التي لا تنقض شعرها، أو ذات الأثداء الكبيرة المترهلة و نحوهم، كما نبه له غير واحد.

(1) يعني: مع طول الفاصل، بحيث لا يعد في زمان واحد عرفا.

بيان ذلك: أنه حيث سبق لزوم وحدة الارتماسة، فالمصرح به في كلام جماعة أنّ المرجع في الوحدة إلي العرف.

و الظاهر أنّ مرادهم بالوحدة العرفية، الدفعة العرفية، لأنهم ذكروه في مقابل وجوب وصول الماء لتمام البدن في زمان واحد، الذي سبق الكلام فيه، و لذا عطف الدفعة علي الوحدة في جامع المقاصد عطفا تفسيريا، و ذكر في كشف اللثام أنّ اعتبار التتابع و الدفعة هو المشهور بين المتأخرين، و نسبه

ص: 534

______________________________

في الحدائق للأصحاب.

و حيث كان مبدأ الغسل و نيته عندهم غمس أول جزء من البدن، كان مرجع اعتبار الدفعة العرفية إلي لزوم تتابع الأجزاء في الرمس و في وصول الماء إليها بالتخليل و نحوه، بحيث يكون وصول الماء لتمام البدن في زمان واحد عرفي.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 535

و يظهر من كلماتهم أنّ الوجه فيه ما تضمنته النصوص من تقييد الارتماسة بالوحدة.

و أجاب عنه في الحدائق بأنّ الوحدة هنا احتراز عن التعدد المعتبر في الغسل الأصلي، لا بمعني الدفعة، قال: «و حينئذ فلو حصل فيها تأنّ ينافي الدفعة العرفية لم يضر بصحة الغسل»، و هو الذي احتمله في كشف اللثام في مقابل القول السابق، و حكاه في المستند عن بعض معاصريه.

و هو متين جدا، مطابق لمعني الوحدة الحقيقي. و استعمالها بمعني الدفعة في مثل قولهم: حملوا عليه حملة واحدة، مجاز مبني علي تنزيل جماعتهم منزلة الرجل الواحد الذي تكون حملته واحدة، فلا مجال للحمل عليه في المقام من دون قرينة.

هذا، و أما ما في المستند من كفاية الارتماسة الواحدة عرفا، بأن لا يتخلل بين غمس الأعضاء سكون محسوس، و إن لم يكن في آن واحد حقيقة أو عرفا، بل كان بحركة بطيئة.

فكأنه مبني علي ملاحظة الرمس بما أنه أمر استمراري متصرم الأجزاء يتدرج بتدرج تعلقه بأجزاء البدن، حيث تكون وحدته بتعاقب أجزائه و عدم تخلل العدم بينها، نظير وحدة القراءة و الكلام باستمرارها من دون انقطاع بالسكوت، فكما يكون السكوت في أثناء القراءة و الكلام موجبا لتعددهما يكون التوقف عن رمس أجزاء البدن موجبا لتعدد الرمس.

لكنه يشكل بأنّ ذلك إنما يتم في الأمور الاستمرارية إذا أريد بها صرف الوجود الصادق علي القليل و الكثير، كما لو اعتبرت الوحدة في القراءة أو الكلام أو

ص: 535

______________________________

المشي أو الجلوس.

أما إذا أريد بها كم خاص، فظاهر الوحدة فيها ما يقابل تكررها بالكم المذكور و لو مع التقطع فيه، كما لو وجبت قراءة الفاتحة مرة واحدة أو المشي من البيت إلي المسجد كذلك.

و منه الرمس في المقام، لأن المراد به رمس تمام البدن، لا الانشغال برمس أجزاء البدن بالنحو الصادق علي رمس أي مقدار منها.

ثمَّ إنه لو سلم حمل الوحدة علي الدفعة، أو علي المعني الذي سبق لتوجيه ما في المستند، فاللازم اعتبار التوالي في رمس أجزاء البدن في الماء، لا في تخليل البدن بعد الارتماس و إيصال الماء لما لم يصل إليه به، لخروجه عن الارتماس.

اللهم إلا أن يستفاد ذلك من اعتبار التوالي في الارتماس بفهم عدم الخصوصية، حيث يفهم منه أنّ الغرض هو عدم الفصل في وصول الماء لأجزاء البدن.

هذا كله بناء علي أنّ ابتداء الغسل بالشروع في رمس الإجزاء، أما بناء علي ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره من أنّ ذلك مقدمة له و أنّ الغسل و الرمس لا يتحققان إلا برمس الجزء الأخير في ظرف رمس غيره، فهو أمر آني لا استمرار له، و يتعين حمل الوحدة فيه علي ما يقابل التعدد، و يكون اعتبار التتابع في إيصال الماء لأجزاء البدن حال الارتماس بالتخليل و نحوه خاليا عن الدليل، و يتعين ما في المتن.

بقي في المقام أمران.

الأول: لو بقي شي ء من بدنه لم يستوعبه الماء حال الارتماس، ففيه وجوه أو أقوال.

أولها: وجوب استئناف الغسل:

صرح به في الدروس، و حكي عن الذكري و البيان و جملة من متأخري المتأخرين، و في المنتهي بعد أن تنظر فيه و حكاه عن والده ذكر أنّ فيه قوة.

ص: 536

______________________________

و كأنه لعدم صحة الغسل الارتماسي، لما سبق من لزوم حمل أدلته علي الارتماس الذي يتحقق به استيلاء الماء علي تمام البدن، فيتعين البطلان للإخلال بالترتيب أيضا. و سيأتي توضيح حاله.

ثانيها: الاجتزاء بغسل الموضع المذكور:

جعله في القواعد أقوي الوجوه، و حكي عن الإيضاح، و اختاره في المستند.

و لعله مطابق لما تقدم عن الذخيرة من عدم وجوب استيعاب البدن بالماء حال الارتماس، و إن كان المتيقن من كلماتهم عدم تعمد ذلك و قصد الاستيعاب بالارتماسة و ظهور ما عن الذخيرة في جواز تعمده.

و كيف كان، فقد تقدم ضعف الاستدلال له بإطلاق أدلة الارتماس، لاختصاصها بالارتماس الذي يستوعب فيه البدن بالماء.

و منه يظهر ضعف الاستدلال له في القواعد بسقوط الترتيب، و في المنتهي بأنّ الترتيب يسقط في حقه و قد غسل أكثر بدنه فأجزأه، لقوله عليه السّلام: «فما جري عليه الماء فقد أجزأه» «1».

لوضوح أنّ المسقط للترتيب هو الارتماس الخاص غير المتحقق في المقام، لا قصده و لا غسل أكثر البدن، و الخبر المذكور قد تضمن صدره الترتيب، و غيره من المطلقات مقيد به.

نعم، استدل في المستند بصحيح زرارة فيمن ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة، و قد تقدم في آخر الكلام في الغسل الترتيبي، لأن ترك الاستفصال فيه يقتضي العموم للغسل الارتماسي.

لكنه منصرف إلي الغسل الترتيبي المتعارف، لظهور أنه هو الذي ينسب فيه للمكلف عرفا غسل كل جزء جزء من البدن أو تركه، و أما الارتماسي فالمنسوب فيه للمكلف رمس تمام البدن و غسله، و المناسب معه التعبير بعدم انغسال بعض

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 537

______________________________

الأجزاء أو عدم وصول الماء إليه، لا بتركه.

و مثله نصوص اللمعة، لورودها في قضية خارجية لا إطلاق لها.

ثالثها: ما في جامع المقاصد و عن الجعفرية من لزوم الإعادة مع طول الزمان و الاكتفاء بغسل الموضع المتروك مع عدمه، و عليه حمل ما في كشف اللثام إطلاق ما سيق من القواعد. و علل في كلماتهم باعتبار وحدة الارتماسة بعد ما سبق منهم من تنزيلها علي الدفعة العرفية.

و هو مبني علي أنّ المراد بالرمس وصول الماء للبشرة، و قد سبق المنع منه عند الكلام في عدم وجوب استيعاب الماء لتمام البدن في زمان واحد حقيقي.

رابعها: الاجتزاء بغسل الموضع المتروك و ما بعده من الأعضاء، كما ذكروه في الترتيبي:

احتمله في محكي التذكرة و نهاية الاحكام، و جعله في القواعد أقوي من وجوب الاستئناف.

و صرح في جامع المقاصد بابتنائه علي أنّ الغسل الارتماسي يترتب حكما، كما هو الظاهر من كل من جعل ذلك ثمرة للترتب الحكمي، علي الكلام المتقدم في تفسيره.

لكنه إنما يتم بناء علي تفسير الترتب الحكمي بنية الترتيب، أما بناء علي تفسيره بحكم الشارع بطهارة الأعضاء مرتبا فلا يصلح وجها له، كما ذكره في الجواهر، لأن موضوع الترتب الحكمي هو الارتماس الخاص المفروض عدمه في المقام، فيبطل الغسل بمقتضي إطلاق أدلة الترتيب.

و لعل الأولي البناء علي الصحة بما يطابق الترتيب، فيصح غسل الرأس مطلقا بتمامه أو مع إتمامه لو كان المتروك بعضا منه و يقتصر علي غسل الجانبين، عملا بإطلاق أدلة الترتيب.

ص: 538

______________________________

و دعوي: أنّ غسل أكثر الأعضاء دفعة يبطل رأسا لعدم واجديته لشرط الترتيبي و لا الارتماسي.

ممنوعة، بل يصح علي ما لا ينافي الترتيب، لأن اقتران المترتبات لا يقتضي إلا بطلان المتأخر، لعدم تحقق شرطه، و هو سبق المتقدم عليه، أما المتقدم فهو غير فاقد للشرط، إما لعدم رجوع اعتبار الترتيب إلي اشتراطه بالتقدم علي المتأخر، أو لتحقق الشرط المذكور، لفرض بطلان المتأخر المأتي به معه علي كل حال، فلا اعتداد به ليخل بشرط المتقدم، و لا يكون المتأخر مشروعا إلا بالوجود الثاني المتأخر عنه زمانا.

و قد تقدم توضيح ذلك في فروع اعتبار الترتيب في الوضوء، فراجع.

هذا كله مع عدم تقدم غسل الرأس بتمامه علي البدن بالارتماس، أما مع تقدمه عليه لنية الغسل بالشروع في الرمس- بناء علي جوازه- مع تقدم رمس الرأس و كون المتروك من غيره، فاللازم صحة غسل الجانب أيضا بتمامه أو مع إتمامه، بل لو فرض تقدم رمس الأيمن و غسله بتمامه علي الأيسر- و إن كان نادرا أو متعذرا- تعين الاكتفاء بغسل المتروك من الأيسر، كل ذلك عملا بإطلاق أدلة الترتيب.

و قد نبه له في الجملة في كشف اللثام، بل احتمل كون عدم تقييد الحكم بالإعادة في كلامهم بذلك لوضوحه، و إن كان المناسب له الالتزام بما ذكرناه أولا أيضا.

و أما الإشكال في الجميع بأنه لما كان المقصود هو الغسل الارتماسي فلا مجال لوقوع الترتيبي، بل ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

فهو مدفوع بأنّ توقف الغسل الترتيبي علي قصده خلاف إطلاق أدلته، و المتيقن اعتبار قصد الغسل في صحة غسل كل عضو، و هو متحقق بقصد الغسل الارتماسي، لتضمنه قصد غسل العضو بنية الغسل.

نعم، لو كان مرجع قصده إلي تقييد نية الغسل به اتجه البطلان، لتخلف

ص: 539

______________________________

الامتثال بتخلف قيده.

لكنه محتاج إلي عناية خاصة، و ليس قصده غالبا إلا من سنخ الداعي أو القصد المقارن للامتثال اللذين لا يضر تخلفهما به، كما سبق نظيره في المسألة الواحدة و السبعين في فصل شرائط الوضوء، فراجع.

الثاني: حيث سبق سقوط الترتيب مع الارتماس، فقد وقع الكلام بينهم في ثبوت ذلك في غيره مما يبتني علي استيعاب الماء لمجموع البدن، و قد اختلفت كلمات القائلين به في سعته، فقد اقتصر في ظاهر النهاية و عن محكي الكاتب علي المطر، و زاد عليه في المبسوط و محكي المختلف الوقوف تحت المجري، و قيدهما في المسالك بالغزارة، و ذكر في محكي الاقتصاد المطر و الميزاب، و زاد عليهما في المنتهي المجري، و ذكر في التذكرة المطر و الميزاب و شبهه، و عن بعض الأصحاب إلحاق صب الماء الشامل للبدن، و ذكر في القواعد و الروض و الروضة شبه الارتماس، و مثل له في الأولين بالوقوف تحت المجري و المطر الغزيرين.

و كيف كان، فقد يستدل عليه بوجوه.

الأول: ما في كشف اللثام من دخوله في الارتماس حقيقة، لأنه إحاطة الماء بجميع البدن و انغماسه فيه.

فإن أراد أنه من أفراده الحقيقية، كان مبنيا علي أنّ الارتماس هو استيلاء الماء علي البدن، و قد سبق المنع من ذلك، و أنه تغطيته بالماء، بل لا ينبغي التأمل في خروجه عن الارتماس، كما في جامع المقاصد و قطع به في المدارك.

و إن أراد ترتب الغرض الحقيقي من الارتماس عليه، و هو استيلاء الماء، فهو مبني علي إلغاء خصوصية الارتماس في نصوصه، و جعل الموضوع استيلاء الماء، و لا قرينة عليه.

الثاني: إطلاقات الغسل بعد قصور أدلة الترتيب عن المورد.

إما لاشتمال نصوصه علي مثل الصب. أو لأن عمدة نصوصه ما تضمن المنع

ص: 540

______________________________

من تأخير الرأس عن البدن غير الحاصل في محل الكلام. أو لأن عمدة دليله الإجماع الذي يقصر عن مورد الخلاف.

و فيه: أنّ الجمود علي نصوص الصب يقتضي وجوبه، و حيث لا يمكن البناء علي ذلك- كما تقدم- فلا بد إما من رفع حمل النصوص علي بيان الكيفية المتعارفة، فلا تكون دليلا علي الترتيب، أو إلغاء خصوصية الصب مع المحافظة علي وجوب الترتيب، فتكون دليلا علي عموم وجوبه لغير صورة الصب، لا تقييد وجوبه بالصب.

كما أنّ ما تضمن المنع من تأخير الرأس عن البدن ليس من أدلة الترتيب- علي ما سبق- و لو فرض تتميم دلالته عليه بضميمة عدم الفصل بينه و بين وجوب الترتيب كان دليلا عليه مع الغسل بالمطر و شبهه أيضا، لشمول إطلاقه له.

و أما الإجماع علي الترتيب، فإنما لا يصح الاستدلال به في المقام لو كان مبني دعواه علي وجوب الترتيب في الجملة، بحيث يكون عدم وجوبه في الارتماس و نحوه، لعدم الدليل علي وجوبه، لا مع ظهور كلام مدعيه في عموم وجوبه بنحو يحتاج الخروج عنه إلي دليل، كما هو الحال في المقام، حيث أطلقوا اعتبار الترتيب و استدلوا بنصوصه، و اقتصروا في الخروج عنه علي الارتماس و شبهه، مما هو في الجملة مورد النصوص المعتبرة، بنحو يظهر منهم سقوط الترتيب فيها للدليل، لا عدم وجوبه لعدم الدليل.

بل يظهر من نزاعهم في الترتيب الحكمي قوة عموم الترتيب عندهم، بحيث يحاول تنزيل نصوص الارتماس عليه، فلاحظ.

الثالث: النصوص الواردة في المطر، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام:

«أنه سأله عن الرجل يجنب، هل يجزيه من غسل الجنابة أن يقوم في المطر حتي يغسل رأسه و جسده و هو يقدر علي ما سوي ذلك؟ فقال: إن كان يغسله

ص: 541

______________________________

اغتساله بالماء أجزأه ذلك» «1».

و زاد في خبره: «و سألته عن الرجل تصيبه الجنابة و لا يقدر علي الماء فيصيبه المطر، أ يجزيه ذلك أو عليه التيمم؟ فقال: إن غسله أجزأه، و إلا تيمم» «2».

و مرسل محمد بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل أصابته جنابة فقام في المطر حتي سال علي جسده، أ يجزيه ذلك من الغسل؟ قال: نعم» «3».

لكنها- مع اختصاصها بالمطر، و ظهور الثاني منها في الاجتزاء بإصابة المطر من دون دخل للمكلف- ظاهرة في إجزائه من حيثية حصول الغسل به، في مقابل عدم إجزائه رأسا- لقصور في استيلائه علي البدن، أو لعدم استناد نزوله للمكلف، أو لنحوهما- الموجب لاختيار غيره من أفراد الغسل مع القدرة عليه، و الانتقال للتيمم مع عدمها، فلا ينافي اعتبار الترتيب فيه كما يعتبر في الغسل بالماء.

و لو كان الملحوظ عدم اعتبار الترتيب فيه بعد الفراغ عن تحقق الغسل به، كان الأنسب التنبيه علي التعميم المذكور، لا علي تحقق الغسل به.

و منه يظهر أنه لا مجال لدعوي: أنّ النسبة بينها و بين إطلاقات الترتيب لمّا كانت هي العموم من وجه كان المرجع بعد التساقط إطلاقات الغسل، لاندفاعها بأنّ صحته من حيثية الغسل إنما تستلزم صحته مطلقا مع إطلاق صحة الغسل، أما مع تقييدها بالترتيب فيلزم تقييد صحته به أيضا.

و لا أقل من كون ظهور إطلاقات الترتيب في خصوصيته أقوي من ظهورها في خصوصية المطر، فتقيد بها.

بل قد يدعي أنّ قوله عليه السّلام: «إن كان يغسله اغتساله بالماء.» مشير للتقييد

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 14.

ص: 542

مسألة 14 النية في هذه الكيفية يجب أن تكون مقارنة لتغطية تمام البدن

مسألة 14: النية في هذه الكيفية يجب أن تكون مقارنة لتغطية تمام البدن (1).

______________________________

المذكور، إذ لا بد في الاغتسال بالماء مع عدم الارتماس من الترتيب.

و إن كان الظاهر اندفاع ذلك بأنّ القدر المشترك بين غسل المطر للمكلف و اغتساله بالماء هو استيلاء الماء علي البدن، و أما الترتيب فهو فعل المكلف بالمباشرة، لاستناده لنيته، لا للمطر، كي ينسب إليه.

نعم، يتجه ذلك لو كان التعبير هكذا: إن كان يغتسل به اغتساله بالماء. فتأمل جيدا.

و بالجملة: لا تنهض هذه النصوص- كبقية الوجوه المذكورة- بإثبات سقوط الترتيب في محل الكلام، فلا بد- بناء علي تمامية أدلة الترتيب- من البناء عليه فيه، وفاقا للسرائر و المعتبر و الدروس و جامع المقاصد و غيرها، كما هو الظاهر من الاقتصار علي الارتماس في جملة من الكتب، كالمقنعة و إشارة السبق و المراسم و الشرائع و النافع و الإرشاد و اللمعة و غيرها.

ثمَّ إنّ مقتضي الوجهين الأولين التعميم لغير المطر مما يشبهه في الاستيلاء علي عموم البدن، و إن اختلفا في اعتبار الغزارة في المطر و غيره علي الأول، دون الثاني.

أما النصوص، فهي مطلقة من حيثية الغزارة.

نعم، لا يبعد انصرافها إلي المطر المعتد به. كما أنها مختصة بالمطر، إلا أن تعمم لغيره لإلغاء خصوصيته عرفا و لو بضميمة نصوص الارتماس، حيث قد يدعي أنّ الموضوع هو استيلاء الماء علي مجموع البدن، و إن كان ذلك في غاية الإشكال، بل المنع.

(1) يعني: لا بالشروع في رمس الأجزاء، بنحو يكون غسل الأجزاء تدريجيا تبعا لرمسها، و قد تقدم الكلام في ذلك عند الكلام في حقيقة الارتماس، و أنّ الأظهر

ص: 543

مسألة 15 لا يعتبر خروج البدن كلّا

مسألة 15: لا يعتبر خروج البدن كلّا (1)

______________________________

جواز النية بالشروع في الارتماس.

ثمَّ إنّ الظاهر أنّ المنوي عند الشروع في الارتماس أو بعد رمس تمام البدن- علي الكلام في ذلك- هو غسل تمام المرموس، فليس له أن ينوي عند رمس تمام البدن غسله تدريجا، و لا عند رمس بعضه غسل ذلك البعض تدريجا.

أما الأول، فلأنه المنصرف من تعليق الأجزاء علي الارتماسة، لظهوره في تحققه بمجردها، غاية الأمر أنه لا بد من استثناء ما يتعارف تأخيره، كمواضع التخليل و نحوها.

و أما الثاني، فلما سبق من أنّ الجمود علي لسان الأدلة لا يقتضي جوازه، و إنما يستفاد منها بضميمة ارتكاز مطهرية الماء تبعا، و المتيقن من ذلك ما ذكرنا، فلاحظ.

(1) كما هو ظاهر الأصحاب، لعدم تنبيههم عليه مع الغفلة عنه، بل يأتي ما يظهر منه المفروغية عنه و الإجماع عليه.

و لا ينافي ذلك ما سبق من بناء المشهور علي لزوم الدفعة العرفية في الارتماس و عدم جواز الفصل المعتد به في رمس أجزاء البدن- كما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه.

لأن مرادهم بذلك لزومها في الارتماس المنوي به الغسل، لا المنع من رمس البعض لا بنيته، ثمَّ نية غسل المرموس حين إكمال الرمس أو بعده، فلو نوي الغسل بالشروع في رمس أجزاء البدن لزم التتابع في رمس الباقي بنيته، و لو فصل بينها لزم تجديد نية غسل ما رمسه أولا و هو مرموس، لا إخراجه ثمَّ رمسه.

و كيف كان، فالمحكي عن جملة من متأخري المتأخرين- منهم الخراساني في الكفاية و الشيخ عبد اللّه البحراني- اعتبار خروج تمام البدن قبل الارتماس.

ص: 544

أو بعضا (1) عن الماء ثمَّ رمسه بقصد الغسل،

______________________________

و كأنه لما تقدمت الإشارة إليه عند الكلام في الغسل الترتيبي بالارتماس من أنّ المعتبر هو إحداث الغسل، لا ما يعم البقاء و الاستمرار. أو لأنه مع رمس بعض البدن لا يكون رمس الباقي، بل إتماما للارتماس، و ظاهر الأدلة كون المطهر هو الارتماس.

لكن تقدم اندفاع الأول. و أما الثاني، فلا مجال له، بناء علي ما سبق من أنّ الارتماس هو تغطية البدن بنحو المجموع بالماء، و أنه إنما يكون برمس الجزء الأخير في ظرف ارتماس غيره، و رمس بعض أجزاء البدن مقدمة له لا شروع فيه.

و أما بناء علي أن تغطيته بنحو الانحلال، و أنه أمر تدريجي يكون الشروع فيه برمس الجزء الأول، فقد ذكر غير واحد أنه يصدق عرفا الارتماس برمس الباقي من البدن، و كأنه لتعارف تعلق الغرض بالارتماس و تجدد إرادته بعد رمس بعض أجزاء البدن، مع احتياج إخراج البدن حينئذ إلي عناية، فعدم التنبيه عليه في النصوص أوجب الغفلة عنه و فهم العرف العموم منها لذلك.

أو لما يأتي في نية الغسل بعد ارتماس تمام البدن.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم اعتبار خروج تمام البدن، و لا سيما مع إغفال الأصحاب التنبيه علي ذلك مع كثرة الابتلاء به و غرابته، لاحتياجه إلي عناية خاصة، خصوصا علي مذهب المشهور من لزوم الدفعة العرفية في الارتماس، لغلبة صعوبتها مع خروج تمام البدن في مثل الحياض الصلبة و شواطئ الأنهار غير العميقة.

فلو كان لازما لاحتيج للتنبيه عليه بنحو لا يخفي، كما أطال في ذلك في محكي الدر المنظوم و المنثور للشيخ علي سبط الشهيد الثاني، و كما شدد النكير علي القول باعتبار خروج البدن، و نسبه للتوهم و الوسواس.

(1) يظهر مما ذكره غير واحد في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر

ص: 545

بل لو ارتمس في الماء لغرض و نوي الغسل بعد الارتماس كفي إذا تحقق انغسال جميع البدن و هو تحت الماء. و الأحوط استحبابا أن يحرك بدنه (1).

و منها إطلاق الماء و طهارته و إباحته و إباحة الآنية

و منها: إطلاق الماء (2)، و طهارته (3)، و إباحته، و إباحة الآنية،

______________________________

و في نية الصائم الغسل بالارتماس المفروغية عنه، بل عن ابن فهد في المقتصر الإجماع علي أنه لو انغمس في ماء قليل و نوي بعد تمام انغماسه فيه أجزأه، كما ادعي الإجماع علي الإجزاء في المقام النراقي الكبير علي ما حكاه عنه ولده في المستند.

و هو مبني علي حمل الارتماس في النصوص علي ما يعم المعني الاسم المصدري له، كما هو المناسب لارتكاز مطهرية الماء، و ما عرفت من شمول إطلاق الغسل لبقائه و استمراره.

و كأنه بلحاظ ذلك استظهر في الجواهر و احتمل في محكي الدر المنظوم و المنثور صدق الارتماس علي من نوي الغسل و هو تحت الماء، و إلا فلا ريب في عدم صدق الارتماس بالمعني المصدري بذلك حتي بقاء.

و كيف كان، فلا مجال لما في المستند من اعتبار خروج الرأس و الرقبة، بل الأحوط خروج بعض آخر، حتي يصدق أنه ارتمس بعد ما لم يكن كذلك، فإنه هو الظاهر المتبادر من الحديث. انتهي.

(1) بل الظاهر لزومه، علي ما تقدم نظيره في الغسل الترتيبي بالارتماس، بل تقدم منه قدّس سرّه ما يظهر منه لزومه، فراجع.

(2) بلا إشكال، و قد تقدم في المسألة الواحدة و العشرين من مبحث المياه الوجه فيه. و لا بد من بقائه علي الإطلاق إلي أن يتحقق مسمي الغسل الواجب.

(3) بلا إشكال، و قد تقدم في الوضوء الإشارة لدليله و بعض ما يتعلق بذلك، كما تقدم في الفصل الثالث من مباحث المياه الكلام في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، و أنّ الظاهر عدم جواز استعماله في رفع الحدث.

ص: 546

و المصب (1)، و المباشرة (2) اختيارا (3)، و عدم المانع من استعمال الماء من مرض و نحوه (4)، و طهارة العضو المغسول، علي نحو ما تقدم في الوضوء (5).

و قد تقدم فيه أيضا حكم الجبيرة (6) و الحائل (7)

______________________________

(1) تقدم الكلام في ذلك في الوضوء، كما تقدم الكلام في فروعه، و في اعتبار إباحة المكان و الفضاء، و في الوضوء من إناء الذهب و الفضة. و يأتي بعض ما يتعلق بذلك.

(2) كما صرح به غير واحد، و في مفتاح الكرامة أنّ الأصحاب لا يختلفون في ذلك إلا ما عن ظاهر ابن الجنيد. و يظهر الوجه فيه مما تقدم في الوضوء.

(3) أما مع العجز، فالظاهر جواز التولية، كما صرح به بعضهم، بل الظاهر أنه مفروغ عنه بينهم. و قد تقدم في الوضوء الاستدلال له ببعض النصوص الواردة في الغسل. كما تقدم أنّ النية تكون من المتطهر لا من الغاسل. و قد تقدم أيضا بعض الفروع المتعلقة بذلك، فراجع.

(4) مما لا يجوز معه صرف الماء في الغسل، حيث يحرم الغسل، فيمتنع التقرب به، لا مطلق ما يشرع معه التيمم، لما يأتي في مبحث التيمم إن شاء اللّه تعالي من أنّ مشروعيته لا تمنع من صحة الطهارة المائية. و قد تقدم في الوضوء ما له نفع في المقام.

(5) لأنهما من باب واحد، بل سبق أنّ الأصحاب إنما تعرضوا لذلك في الغسل، كما أنّ النصوص التي استدل بها في المسألة واردة فيه.

(6) لجريانها في الغسل، علي ما سبق في المسألة التاسعة و الثلاثين من الفصل الثاني من مبحث الوضوء.

(7) فقد تقدم الكلام في جواز المسح علي الحائل اللاصق اتفاقا، في المسألة السادسة و الثلاثين من الفصل الثاني من مبحث الوضوء، حيث يظهر منه عدم الفرق بين الوضوء و الغسل.

ص: 547

و غيرهما من أفراد الضرورة (1) و حكم الشك (2) و النسيان (3)

______________________________

نعم، تقدم في المسح علي الرجلين جواز المسح علي الحائل غير اللاصق، لضرورة من برد أو نحوه، و يشكل جريانه في المقام، لاختصاص دليله بالمسح الوضوئي علي الرجلين، و التعدي منه لمسح الرأس- لو تمَّ- لا يقتضي التعدي للغسل الوضوئي، فضلا عن المقام، فلاحظ.

(1) تقدم في أحكام الجبائر التعرض للجرح المكشوف و نحوه مما يضر معه استعمال الماء، و يشترك الغسل مع الوضوء في ذلك، كما يظهر بمراجعة دليل المسألة.

نعم، تقدم في الفصل السادس من مبحث الوضوء الكلام في المسلوس و المبطون، و قد تقدم الإشكال في التعدي لغيرهما من أفراد مستمر الحدث الأصغر.

و أولي بالإشكال: التعدي لمستمر الحدث الأكبر، بل اللازم الرجوع فيه لما تقتضيه القاعدة، و قد سبق توضيحه في أول الفصل المذكور.

(2) فيبني علي عدم حصول سبب الجنابة مع الشك فيه، و علي عدم الغسل مع الشك فيه، كما يجب الغسل مع العلم به و بالجنابة و الشك في المتأخر منهما، مع الاجتزاء بالصلاة الواقعة قبل حصول الشك في الفرضين الأخيرين. كما يبني علي صحة الغسل لو شك فيها بعد الفراغ منه.

و يظهر الوجه في جميع ذلك و في بعض الفروع المترتبة عليه مما تقدم في الفصل الرابع في أحكام الخلل من مبحث الوضوء. و يأتي في المسألة السابعة و الثلاثين ما يتعلق بذلك.

(3) فيجب تدارك المنسي من أجزاء الغسل، كما في الوضوء، لإطلاق أدلة اعتبارها، و لخصوص صحيحي أبي بصير و عبد اللّه بن سنان الواردين في اللمعة «1»،

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 548

و ارتفاع السبب المسوغ للوضوء الناقص في الأثناء و بعد الفراغ منها (1)، فإنّ الغسل كالوضوء في جميع ذلك (2).

نعم، يفترق عنه في جواز المضي مع الشك بعد التجاوز و إن كان في الأثناء (3)، و في عدم اعتبار الموالاة فيه (4)،

______________________________

و صحيح زرارة الوارد فيمن ترك بعض ذراعه أو بعض جسده «1»، و قد تقدمت في آخر الكلام في الغسل الترتيبي.

(1) فقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الواحدة و الأربعين من الفصل الثاني، في أحكام الجبائر من مبحث الوضوء.

(2) أشرنا إلي عدم اشتراكهما في حكم المسح علي الحاجب غير اللاصق، و في حكم المسلوس و المبطون.

و ربما كان هناك بعض الفوارق الأخري لا أستحضرها فعلا، فاللازم النظر في أدلة الأحكام المذكورة، لأنها المعيار في التعميم.

(3) يأتي الكلام في ذلك في المسألة السابعة و الثلاثين إن شاء اللّه تعالي.

(4) كما هو المعروف بين الأصحاب، و في الحدائق أنّ ظاهر كلامهم عدم الخلاف فيه و الاتفاق عليه، بل صرح بالإجماع عليه في جامع المقاصد و كشف اللثام و محكي التحرير و نهاية الاحكام و شرح الجعفرية، و هو الظاهر من نسبته لعلمائنا في التذكرة و المنتهي، و في المدارك أنّ الأصحاب قاطعون به.

لكن ظاهر نسبته في الروضة للمشهور وجود المخالف فيه، و لم أعثر علي من أشار إليه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 549

______________________________

و كيف كان، فيقتضيه صحيحا محمد بن مسلم «1» و هشام بن سالم «2» المتقدمان في آخر الكلام في وجوب تقديم الرأس علي البدن، و صحيح حريز المتقدم في تلك المسألة «3».

و صحيح إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إنّ عليا عليه السّلام لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه غدوة و يغسل سائر جسده عند الصلاة» «4»، و قريب منه ما عن الصدوق في كتاب عرض المجالس «5».

و لا يخفي أنّ النصوص المذكورة إنما تنهض بنفي اعتبار الموالاة بين الأعضاء- بناء علي وجوب الترتيب- لا في العضو الواحد.

و قد يستدل فيه- مضافا إلي إطلاقات الغسل- بصحيح زرارة، الوارد فيمن ترك بعض ذراعه أو بعض جسده «6»، و الصحيحين الواردين في اللمعة «7»، و قد تقدمت في آخر الكلام في اعتبار الترتيب.

لكن تشكل الإطلاقات بصلوح نصوص تعليم غسل الجنابة- المتقدمة في الاستدلال علي الترتيب- لتقييدها، بناء علي ورودها لبيان الكيفية الواجبة- كما هو مبني الاستدلال بها علي الترتيب- لظهورها في غسل تمام كل عضو بالصب الذي تضمنته.

و يشكل صحيح زرارة بظهوره في عدم تعمد الترك.

كما أنه لا إطلاق للصحيحين الواردين يشمل فوت الموالاة و لا العمد، لورودهما في قضية خارجية.

فالعمدة ظهور اتفاق الأصحاب علي الحكم مع كثرة الابتلاء به بالنحو

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(7) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 550

______________________________

المانع من خفاء الحكم فيه، و قد يوجب ذلك فهم عدم خصوصية الموالاة بين الأعضاء من النصوص المتقدمة، و عدم خصوصية عدم التعمد من الصحاح الأخيرة.

و لأجل ذلك يلزم رفع اليد عن ظهور نصوص تعليم غسل الجنابة في الوجوب، لو تمَّ في نفسه، فلاحظ.

بقي شي ء، و هو أنّ عدم وجوب الموالاة إنما هو بالنظر لأصل الغسل، و قد تجب لعارض، كما فيمن يفجؤه الحدث الأصغر لو أراد تفريق أجزاء الغسل، بناء علي بطلان الغسل بتخلله في أثنائه.

و كذا في مثل المستحاضة ممن يستمر منه الحدث الأكبر، حيث قد يقال بوجوب الموالاة في الغسل و المبادرة للصلاة بعده، و إلا بطل الغسل و وجب استئنافه، لعدم العفو عما سوي القدر الضروري من الحدث، كما نبه له في الجملة في جامع المقاصد.

لكن العفو عن مقدار الضرورة محتاج لدليل، و بدونه يتجه عدم صحة الغسل، كما نبهنا لنظيره في أول الكلام في المسلوس و المبطون.

نعم، لا إشكال في العفو المذكور في المستحاضة، و يأتي تمام الكلام فيها في محله إن شاء اللّه تعالي.

ثمَّ إنّ الموالاة قد تجب تكليفا، لضيق الوقت، أو للعلم بفقد الماء، كما نبه له في جامع المقاصد و غيره، بل قال فيه: «أما إذا خاف فجأة الأكبر فيجب، محافظة علي سلامة العمل من الإبطال، مع احتمال العدم، إذ الإبطال غير مستند إليه»، و نحوه في الحدائق.

و ظاهرهما المفروغية عن حرمة إبطال الغسل بتعمد الحدث.

و لم يتضح وجهه، لعدم ثبوت عموم حرمة إبطال العمل، علي ما ذكرناه في لواحق مبحث الأقل و الأكثر الارتباطيين من الأصول، و عدم الدليل الخاص علي حرمة إبطال الغسل.

بل لا يظن من أحد البناء علي وجوب إكمال الغسل قبل إرادة الحدث الأكبر أو الأصغر، بناء علي إبطاله له، و وجوب إتمامه في الارتماسة الواحدة بنحو لا يجوز

ص: 551

لا في الترتيبي و لا في الارتماسي (1).

مسألة 16 الغسل الترتيبي أفضل من الغسل الارتماسي

مسألة 16: الغسل الترتيبي أفضل من الغسل الارتماسي (2).

______________________________

الخروج من الماء قبله، و نحو ذلك مما يكشف عدم تنبيههم عليه مع عموم الابتلاء به عن تسالمهم علي عدمه، فلاحظ.

(1) تقدم الكلام في ذلك عند الكلام في حقيقة الغسل الارتماسي.

(2) كما نسبه في الحدائق إلي بعض محدثي متأخري المتأخرين، و به صرح في العروة الوثقي و أمضاه جملة من محشيها، و نسبه سيدنا المصنف قدّس سرّه إلي كثير ممن عاصره أو قارب عصره.

و استدل عليه في الحدائق بظهور أخبار الارتماس في أنه رخصة و تخفيف، و أنّ الأصل الترتيب.

كما استدل عليه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأنه مقتضي الجمع بين الأمر بالترتيب في نصوصه و الحكم بإجزاء الارتماس في نصوصه.

و يشكل الأول: - مضافا إلي عدم الدليل علي أفضلية الأصل من الرخصة- بأنّ النصوص لم تتضمن إجزاء الارتماس عن الغسل الترتيبي لتوهم ما ذكر، بل عن أصل الغسل، فلا تدل إلا علي شمول الغسل المطلوب له.

و الثاني: بأنه لا يناسب استفادة وجوب الترتيب في غير الارتماسي من النصوص المذكورة عندهم، إذ عليه لا مخرج عن الإطلاقات المقتضية لصحة الغسل بدونه.

بل لا بد في استفادته منها إما من حملها علي إرادة الغسل بالماء القليل تدريجا- كما هو المتعارف- مع إبقائها علي ظهورها في الوجوب، أو علي الوجوب التخيير، الذي يكون طرفه الآخر الارتماسي.

و علي كلا الوجهين لا تنهض بإثبات أفضلية الغسل الترتيبي.

نعم، لورود الأمر بالترتيبي و إجزاء الارتماسي، مع المفروغية عن

ص: 552

مسألة 17 يجوز العدول من الترتيبي إلي الارتماسي

مسألة 17: يجوز العدول من الترتيبي إلي الارتماسي (1).

______________________________

مشروعيتهما في الجملة و عدم مشروعية غيرهما، كان الجمع بالوجه المذكور متجها، فلاحظ.

(1) كما صرح به في العروة الوثقي، و صرح بعكسه أيضا، و هو مبني علي إمكان تحقق الارتماسي تدريجا، ليمكن العدول عنه في أثنائه.

كما أنّ محل الكلام العدول عنه حال الارتماس قبل إكماله بالتخليل و نحوه، أما لو كان بعد إبطاله بالخروج قبل إكماله، فلا إشكال في جواز الاستئناف ترتيبا أو ارتماسا.

هذا، و قد قال في العروة الوثقي بعد ذكر الوجهين: «بمعني رفع اليد عنه و الاستئناف علي الوجه الآخر»، و أراد بذلك دفع توهم احتساب من وقع من المعدول عنه المعدول إليه، نظير نية العدول من صلاة لأخري في الأثناء.

و قد تابعه علي ما ذكره جملة من المحشين.

لكن لا يبعد البناء علي احتساب غسل الرأس في الارتماس لو عدل منه للترتيبي، لما سبق فيما لو لم يستوعب الماء في الارتماس بعض البدن من شمول إطلاق نصوص الترتيب للغسل الواقع بنية الارتماس، فلاحظ.

و كيف كان، فقد استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه لجواز العدول من أحد الغسلين للآخر بإطلاق الأدلة.

و قد يشكل بظهور أدلة الترتيب في طهارة كل موضع بوصول الماء إليه بنحو الانحلال، فمع طهارة بعض البدن بالشروع في الترتيبي لا يبقي موضوع للغسل الارتماسي، لظهور أدلته في إجزاء الارتماس عن تمام الغسل لا عن بعضه، و لا دليل علي مبطلية نية الارتماسي لما وقع من الغسل الترتيبي، ليتحقق موضوع الارتماسي و يصح.

نعم، قد يتجه ذلك في العدول من الارتماسي للترتيبي، لعدم الدليل علي

ص: 553

مسألة 18 يجوز الارتماس فيما دون الكر

مسألة 18: يجوز الارتماس فيما دون الكر (1)،

______________________________

ترتب شي ء من الأثر علي الارتماسي قبل إكماله، فيبقي موضوع الترتيبي و يصح لإطلاق أدلته.

اللهم إلا أن يقال: لمّا كان موضوع كل من الغسلين هو الجنب، فهو لا يرتفع بطهارة بعض البدن بالشروع في أحد الغسلين، و لا ينافي ظهور نصوص الارتماسي في إجزاء الارتماس عن تمام الغسل، لإمكان تحقق تمام الغسل به حتي بالإضافة إلي ما طهر من البدن، لقابلية الطهارة للتأكد، فيكون الغسل الحاصل بالارتماس موجبا لأصل الطهارة بالإضافة لما لم يطهر، و لتأكدها بالإضافة لما طهر.

و لو لا ذلك أشكل أيضا العدول من الارتماسي للترتيبي قبل بطلانه بالخروج من الماء، لما أشرنا إليه عند الكلام في حقيقة الغسل الارتماسي من أنّ مقتضي ارتكاز مطهرية الماء طهارة كل جزء من البدن بوصول الماء إليه بنحو الانحلال. فلا مخرج عن إطلاق الأدلة، و لا سيما مع غفلة العرف عن وجه المنع المذكور، فلاحظ.

(1) لإطلاق النصوص، سواء نوي الغسل بالشروع في رمس أجزاء البدن، أم برمس الجزء الأخير منه، أم بتحريكه تحت الماء بعد رمسه فيه، كما سبق في الفرع الأول من فروع الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر في الفصل الثالث من مباحث المياه.

و دعوي: أنه بناء علي عدم جواز رفع الحدث بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر لا يصح الغسل الارتماسي به إذا كان تدريجيا، لأنه بغسل الجزء الأول يصير الماء مستعملا في رفع الحدث الأكبر، فلا يجوز إكمال الغسل به، كما لو اغتسل فيه ترتيبا بنحو الارتماس.

مدفوعة: بأنّ توقف غسل كل جزء من البدن في الارتماسي علي غسل بقية الأجزاء مانع من صدق الماء المستعمل قبل إكمال الغسل، بخلاف الغسل الترتيبي.

ص: 554

______________________________

بل لا بد في امتناع الترتيبي بنحو الارتماس من تعدد الغسل عرفا، لتحقق الفصل بين أجزائه، بنحو يصدق علي الماء حين استعماله للعضو المتأخر أنه غسالة العضو الأسبق، و لا يجري مع وحدة الغسل و استمراره علي الأعضاء بالترتيب، بإجراء الماء عليه من أعلاه لأسفله، علي ما يتضح بمراجعة ما سبق في الفرع المشار إليه.

و منه يظهر أنه بناء علي عدم اعتبار الترتيب في غير الارتماس أيضا و الاكتفاء بمطلق الغسل حيث لا ارتباطية بين أجزاء البدن في الارتماس، يتعين البناء علي صحة الغسل حال الارتماس في الماء إذا وقع دفعيا أو تدريجيا من دون فصل معتد به. أما لو فصل بين أجزائه و انفصل الماء الذي غسل به بعض البدن و اختلط ببقية الماء، فلا مجال لإكمال الغسل به. فلاحظ.

هذا، و في المقنعة: «و لا ينبغي له أن يرتمس في الماء الراكد، فإنه إن كان قليلا أفسده و لم يطهر به، و إن كان كثيرا خالف السنة بالاغتسال فيه»، و في التهذيب:

«فالوجه فيه: أن الجنب حكمه حكم النجس إلي أن يغتسل، فمتي لاقي الماء الذي يصح فيه قبول النجاسة فسد».

و هو كما تري لا يمكن البناء عليه بظاهره، بل لا يظن منهما الالتزام به، لما هو المعروف من مذهب الإمامية من طهارة بدن الجنب و عدم فساد الماء بملاقاته، و لذا حكموا باستحباب غسل اليد قبل الاغتراف بها من الإناء، مع المفروغية عن جواز مسها للماء قبل غسلها، فضلا عما بعده.

و من هنا، ربما يحمل كلام المقنعة علي الدعوي المتقدمة التي سبق اندفاعها، أو علي صورة تلوث بدن الجنب بالنجاسة.

لكن ظاهر المعتبر و التذكرة و المنتهي و غيرها حمل الإفساد فيه علي سلب الطهورية عنه من الحدث بعد إكمال الغسل به، لا بنحو يمنع من صحة الغسل به، بل ظاهر المنتهي و غيره حمل كلام التهذيب علي ذلك أيضا.

و هو قد يتم في كلام المقنعة بناء علي نقله في كلامهم بحذف قوله: «و لم يطهر به» المثبت في المطبوع منها، و لا يتم في كلام التهذيب، لظهوره في فساد الماء بمجرد ملاقاة بدن الجنب، كما لو لاقي النجس.

ص: 555

و إن كان يجري علي الماء حكم المستعمل في رفع الحدث الأكبر (1).

مسألة 19 إذا اغتسل باعتقاد سعة الوقت فتبين ضيقه

مسألة 19: إذا اغتسل باعتقاد سعة الوقت فتبين ضيقه، فإن قصد الأمر الأدائي بالصلاة (2) فغسله باطل (3)،

______________________________

ثمَّ إنه ربما يستدل لعدم صحة الغسل الارتماسي في الماء القليل بما عن الدعائم من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم» «1»، و قريب منه النبوي العامي «2».

و مرسلة الذكري: «الارتماس في الجاري و فيما زاد علي الكر من الواقف «3» و لا فيما قل» «4».

لكن لا مجال للتعويل عليها مع ضعفها، و لا سيما مع كون المرسلة بعبارة الفقهاء أشبه، و النبويان مطلقان يشملان الماء الكثير، و ليس تنزيلهما علي القليل بأولي من حملهما علي الكراهة.

(1) و هو ما استظهرناه آنفا من عدم جواز رفع الحدث به، لإطلاق ما دل علي عدم رفعه بالماء الذي يغتسل به من الجنابة.

و توهم: أنّ الماء المذكور قد اغتسل فيه لا به.

مدفوع: بأنّ المراد من الاغتسال بالماء كونه آلة الغسل، و هو حاصل مع الارتماس فيه، كما يحصل مع الصب و الدلك.

(2) يعني: فإن قصد بغسله الشروع في امتثال الأمر الأدائي بالصلاة، فقوله:

(بالصلاة) متعلق ب (الأمر) لا ب (قصد)، لأن معيار صحة الغسل و بطلانه ما يقصد به لا ما يقصد بالصلاة.

(3) لانكشاف عدم تحقق الامتثال بالغسل، فيبطل، لأنه من العبادات المعتبر

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 35 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 15.

(2) الجواهر ج: 3 ص: 100 طبعة النجف الأشرف، و حكيت عن كنز العمال ج: 5 ص: 85 برقم: 1794.

(3) الظاهر زيادة الواو.

(4) الذكري: في مبحث واجبات غسل الجنابة.

ص: 556

______________________________

فيها أن تقع امتثالا.

لكنه مبني. أولا: علي مباينة الأمر الأدائي للأمر القضائي، كي لا يقع ما قصد به امتثال أحدهما امتثالا للآخر.

و ثانيا: علي أنّ مرجع عبادية الغسل إلي اعتبار وقوعه امتثالا لأمره أو أمر ما يتوقف عليه- كالصلاة- كي يلزم من فرض عدم وقوعه امتثالا في المقام- لعدم تحقق الأمر المقصود به امتثاله- بطلانه.

و كلاهما ممنوع.

أما الأول، فلأن مقتضي الجمع بين الأمرين عرفا حمل الأمر الأدائي علي تعدد المطلوب، و القضائي علي وحدته، فالماهية المطلقة المنطبقة علي ما بعد الوقت مطلوبة فيما قبل الوقت و فيما بعده، و خصوصية الوقت مطلوب آخر، فتخلف خصوصية الأداء لا يوجب مباينة ما وقع لما قصد، بل تخلف بعض ما قصد مع تحقق البعض الآخر، فيقع امتثالا لأمره، كما لو نوي الائتمام فظهر تخلف بعض شروطه، حيث لا إشكال ظاهرا في صحة الصلاة فرادي.

نعم، لو رجع قصد الخصوصية إلي إناطة امتثال أمر الصلاة بها، بحيث تكون قيدا له- كما هو مفاد الشرطية- اتجه البناء علي عدم تحقق الامتثال تبعا لتخلف شرطه.

لكنه بعيد جدا، لابتنائه علي عناية خاصة، كما سبق في المسألة الواحدة و السبعين في فصل شروط الوضوء، فراجع.

و أما الثاني، فلعدم كون أمر الغسل و غيره من الطهارات عباديا يتوقف سقوطه علي قصد امتثاله- كما هو الحال في سائر العبادات- بل غاية ما دل عليه الدليل لزوم وقوعه بوجه قربي، و لو بقصد الامتثال به خطأ أو رجاء أو بقصد التهيؤ لامتثال أمر غير فعلي أو غير ذلك، علي ما أوضحناه في المسألة الواحدة و السبعين من الفصل المذكور.

و من هنا يتعين البناء علي صحة الغسل في المقام، و كذا الحال في بقية الطهارات.

ص: 557

و إن قصد الأمر المتعلق به (1) فغسله صحيح (2).

مسألة 20 ماء غسل المرأة عليها لا علي الزوج

مسألة 20: ماء غسل المرأة من الجنابة أو الحيض أو نحوهما عليها لا علي الزوج (3).

______________________________

(1) يعني: بنحو ينطبق علي الأمر القضائي، أو أمر الكون علي الطهارة، أو نحوهما، و إن أخطأ في اعتقاد كونه أدائيا.

(2) لانطباق ما قصد علي ما وقع، فيصح امتثاله به، و يكون مقربا بلا إشكال. و مجرد الخطأ في اعتقاد خصوصية الأداء لا ينافي التقرب بعد عدم دخله في الامتثال المقصود.

نعم، سبق في المسألة الثالثة و الستين التنبيه إلي أنّ التقرب قد يكون بلحاظ الملاك أو بلحاظ الأمر الترتبي، فراجع.

(3) لما كانت المرأة هي المكلفة بالغسل كان الواجب عليها تحصيل مقدمته ببذل عوض الماء و غيره، و لذا لا ريب في وجوب ذلك عليها لو لم يقم به الزوج قصورا أو تقصيرا.

غاية ما في الأمر أنه لو كان من النفقات الواجبة لوجب عليه بذله و انشغلت به ذمته كما تنشغل بسائر نفقاتها، و هو الذي وقع الكلام فيه بينهم.

فعن الذكري وجوب بذله علي الزوج، و في مبحث الحيض من جامع المقاصد: «ماء الغسل علي الزوج علي الأقرب، لأنه من جملة النفقة، فيجب نقله إليها، و لو احتاجت إلي الحمام أو إلي إسخان الماء لم يبعد القول بوجوب العوض، دفعا للضرر. مع احتمال العدم، نظرا إلي أن ذلك من مؤن التمكين الواجب عليها، و هو ظاهر في غير الجنابة، خصوصا إذا كان السبب من الزوج»، و ظاهره وجوب البذل علي الزوج في الجنابة دون غيرها، أو دون الحيض و إن حكي عنه وجوب البذل مطلقا.

و في المنتهي: «هل يجب علي الزوج ثمن الماء الذي تغتسل به المرأة؟

ص: 558

______________________________

للحنفية فيه تفصيل: قال بعضهم: لا يجب مع غناها، و مع الفقر يجب علي الزوج تخليتها لينقل [لتنتقل ظ] إلي الماء أو ينقل الماء إليها، و قال آخرون: يجب عليه كما يجب عليه ماء الشرب، و الجامع: أنّ كل واحد منهما مما لا بد منه. و الأول عندي أقوي»، و هو ظاهر في عدم وجوبه علي الزوج غنية كانت أو فقيرة، و أنه مع غناها لا يجب علي الزوج التخلية بينها و بين الماء، بل يجب عليها تحصيله بالثمن، و مع فقرها يحرم عليه منعها من الخروج للماء، بل يخلي بينها و بينه أو ينقله إليها.

و لا وجه لاستفادة التفصيل منه في بذل الثمن لها بين فقرها و غناها، ثمَّ الإشكال عليه بعدم مناسبته لحكم نفقة الزوجة.

و كيف كان، فقد أشار في جامع المقاصد و غيره للاستدلال علي وجوب بذل ثمن الماء علي الزوج بأنه من جملة نفقتها، و هو موقوف علي ثبوت عموم وجوب نفقة المرأة علي زوجها بنحو يشمل ذلك.

و قد يستدل عليه بقوله تعالي وَ عٰاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ «1» بدعوي: أنّ بذل النفقة المتعارفة من حيثية الزوجية- و منها ماء الغسل- لا بد منه في تحقق المعاشرة بالمعروف.

و قوله تعالي لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا مٰا آتٰاهٰا «2».

بدعوي: أنه لما لم يمكن حمله علي مسمي الإنفاق بنحو صرف الوجود، و لا علي إنفاق كل شي ء، كان الظاهر مع حذف متعلق الإنفاق إرادة النفقة المتعارفة من حيثية الزوجية- كما في الجواهر- أو النفقة المحتاج إليها، لابتناء النفقة علي سدّ الحاجة و انصرافها لذلك.

و صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: خمسة لا يعطون من الزكاة شيئا: الأب و الام و الولد و المملوك و المرأة، و ذلك أنهم عياله

______________________________

(1) سورة النساء: 19.

(2) سورة الطلاق: 7.

ص: 559

______________________________

لازمون له» «1»، فقد ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنّ المناسب لارتكازية التعليل كون مانعية عيالته بهم و لزومهم له من إعطائهم الزكاة بلحاظ كونهما موجبين لغناهم، أو لارتكاز امتناع تكليفه بالإنفاق عليهم من جهتين الزكاة و العيلولة معا، لعدم التداخل، و مقتضي ذلك كون اللازم عليه أن ينفق عليهم كل ما يحتاجون إليه مما تقوم به الزكاة.

و عليه يجب بذل ماء الغسل، لدخوله في ذلك.

و الكل لا يخلو عن إشكال أو منع.

أما الآية الأولي، فلعدم دخل الإنفاق بالمعاشرة، بل الظاهر منها ما يعود للأخلاق، كما يناسبه سياقها أيضا، لقوله تعالي قبل ذلك وَ لٰا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مٰا آتَيْتُمُوهُنَّ.

نعم، بعد ثبوت وجوب النفقة قد يكون بذلها مقتضي المعاشرة بالمعروف شرعا، نظير ما في مرسل العياشي من تفسير الإمساك بالمعروف بكف الأذي و إحباء النفقة «2». إلا أنّ ذلك يقتضي توقف المعاشرة بالمعروف علي بذل النفقة الشرعية من دون تعيين لها، لا النفقة المتعارفة، ليكشف عن وجوبها شرعا.

و أما الثانية، فلعدم ظهورها في تشريع وجوب الإنفاق علي الزوجة، ليتجه احتمال حملها علي ما سبق، بل في إلحاق المطلّقة بالزوجة في وجوب النفقة المفروغ عنها، من دون نظر لتحديدها، لورودها في سياق أحكام الطلاق.

اللهم إلا أن يقال: التعرض فيها لتحديد الإنفاق بحسب الطاقة ظاهر في عدم كونها بصدد مجرد إلحاق المطلقة بالزوجة في النفقة المفروغ عنها، بل في مقام تشريع وجوب الإنفاق علي المطلقة، فيتجه حمل إطلاقها علي ما سبق، و يتعدي منها للزوجة بعدم الفصل أو الأولوية العرفية، لارتكاز كون الإنفاق عليها لأجل بقاء شي ء من علقة الزوجية و عدم بينونتها منه.

نعم، يأتي الإشكال في حملها علي ما سبق من وجه آخر، كما يأتي من

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 13.

ص: 560

______________________________

النصوص ما ظاهره ورودها في الزوجة و اختصاص النفقة فيها بالأكل و اللباس، فلا تنهض بالاستدلال.

و أما التعليل في الصحيح، فلا قرينة علي ابتنائه علي أحد الوجهين، لوضوح عدم كون وجوب الإنفاق علي شخص موجبا لغناه مع إمكان فقر المكلف بنفقته و إن كان واجدا للنصاب الزكوي. و عدم وضوح كون عدم التداخل ارتكازيا، بعد عدم كون استحقاق النفقة من كل من الجهتين ملازما لحصولها منهما معا، لإمكان عدم تهيؤ الزكاة، و عدم بذل المكلف النفقة لها قصورا أو تقصيرا.

فلا يصح التعليل بأحد الأمرين، إلا بلحاظ كونه غالبيا راجعا إلي كونه حكمة لا علة يتبعها الحكم سعة و ضيقا، و حينئذ يمكن أن تكون الحكمة هي استحقاق بعض النفقة التي تقوم بها الزكاة لا كلها، كما يمكن أن تكون الحكمة كون دفع الزكاة إلي الزوجة التي تنشغل الذمة بنفقتها مع الفقر موجبا لملكها مقدار النفقة الواجبة مرتين، و إلي من تجب نفقته من الأقارب و المملوك موجبا لعود نفعها لصاحبها، حيث له أن يتكل عليها في ترك الإنفاق عليهم، لاشتراط استحقاقهم للنفقة بحاجتهم، و لا يتعين المدفوع منها للنفقة غير الواجبة علي صاحبها، لعدم المعين له بعد عدم مشروعية اشتراط نوع المصرف علي الفقير.

علي أنه لا يمكن البناء علي كون النفقة الواجبة هي التي يجوز دفع الزكاة لها، مع وضوح سعة جهة الزكاة، و كون المعيار فيها النفقة التي تناسب شأن الفقير من نفقة شخصه و نفقة عياله الشرعيين و العرفيين، كما تعم النفقات الراجعة للمعاش و الجاه و المعاد من الديون و الكفارات و نحوها حتي بعض المستحبات كالحج و الصدقة كما تضمنته النصوص.

و دعوي: أنّ ذلك لا يمنع من استفادة العموم من التعليل، غايته أنه يكون مخصصا فيما ثبت عدم وجوبه، مع الرجوع له في مورد الشك، كالمقام و نحوه.

مدفوعة: بأنّ ظهور كثرة التخصيص مانع من استفادة العموم من التعليل و حجيته فيه، و كاشف عن كون التعليل حكمة أو بلحاظ جهات أخر خفيت علينا.

ص: 561

______________________________

و لا سيما مع أنّ لزوم كون التعليل ارتكازيا يدور الحكم مداره، إنما هو بلحاظ الحكم المعلل الذي سيق التعليل له و قصد به التنبيه لوجهه، و هو في المقام عدم إعطاء الزكاة للأشخاص المذكورين.

فيحمل علي ما يناسب التعليل، لا ما هو محل الكلام من تحديد النفقة الواجبة، لابتناء التعليل علي المفروغية عنه من دون أن يكون علة له.

فلو أمكن حمل المنع من إعطاء الزكاة للأشخاص المذكورين علي الإعطاء للنفقة الواجبة، أو علي حال قدرة المعيل علي الإنفاق عليهم مثلا، لأجل التعليل، كان أولي من حمل النفقة الواجبة علي ما يجوز دفع الزكاة له.

و مما سبق يظهر الإشكال في حمل الآية الثانية و نحوها مما يتضمن إطلاق الإنفاق من دون تعيين النفقة- لو فرض وجوده- علي الإنفاق بمقدار الحاجة- لو فرض أنه اللازم بمقتضي الإطلاق- لما سبق من عدم إمكان الالتزام بذلك علي عمومه، بل لزوم كثرة التخصيص مانعة من استفادة العموم منه.

و مثله حملها علي المتعارف، إذ لو أريد به التعارف وقت نزول الآية، فهو مما لا طريق لمعرفته، و لا يتضح بناء العقلاء علي أصالة تشابه الأزمان في التعارف.

و إن أريد به التعارف في كل زمان بحسبه، فهو- مع بعده في نفسه- موقوف علي كون التعارف بعنوانه قيدا في موضوع الحكم، و هو خلاف الإطلاق، و الوجه المتقدم- لو تمَّ- يقتضي كونه قرينة حالية عامة لتعيين المراد من إطلاق الإنفاق، بحيث يحرز به كون المراد منه إنفاق ما يتعارف إنفاقه بواقعة لا بعنوان كونه متعارفا.

و من الظاهر أنّ الصالح للقرينية هو التعارف حين ورود الإطلاق، لا حين العمل به.

و قد تحصّل من جميع ما تقدم، عدم ثبوت الإطلاق بالنحو الشامل للمقام.

علي أنه لا مجال للتعويل علي الإطلاق و لا علي مفاد التعليل- لو تمَّ ما سبق في تقريبهما- مع ظهور النصوص الكثيرة في انحصار النفقة بالإطعام و الكسوة.

ص: 562

______________________________

منها: الصحيح عن جميل: «قال: لا يجبر الرجل إلا علي نفقة الأبوين و الولد.

قال ابن أبي عمير: قلت لجميل: و المرأة؟ قال: قد روي عنبسة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كساها ما يواري عورتها و يطعمها ما يقيم صلبها أقامت معه و إلا طلقها. قلت: فهل يجبر علي نفقة الأخت؟ فقال: لو اجبر علي نفقة الأخت لكان ذلك خلاف الرواية» «1».

و خبر يونس بن عمار: «زوجني أبو عبد اللّه عليه السّلام جارية كانت لإسماعيل ابنه فقال: أحسن إليها. قلت: و ما الإحسان إليها؟ قال: أشبع بطنها و اكس جثتها و اغفر ذنبها» «2».

و منها: النصوص الواردة في بيان حق الزوجة، كصحيح إسحاق بن عمار:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما حق المرأة علي زوجها الذي إذا فعله كان محسنا؟ قال:

يشبعها و يكسوها، و إن جهلت غفر لها» «3»، و غيره.

و منها: النصوص الواردة في تفسير الآية الثانية المتقدمة، كصحيح ربعي و الفضيل بين يسار عنه عليه السّلام: «في قوله تعالي وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ قال: إن أنفق عليها ما يقيم ظهرها [صلبها. خ ل] مع كسوة و إلا فرق بينهما» «4».

فإنّ الاقتصار في الطائفة الأولي علي الأمرين، و ذكرهما في الثانية في بيان حق الزوجة، و في الثالثة في تفسير آية النفقة ظاهر في انحصار النفقة الواجبة بهما.

و دعوي: أنّ اشتمال جملة منها علي وجوب الطلاق بتخلف النفقة المذكورة شاهد بورودها في بيان النفقة التي يجب الطلاق بتخلفها، نظير صحيح أبي بصير: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها و يطعمها ما يقيم صلبها كان حقا علي الإمام أن يفرق بينهما» «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب النفقات حديث: 2.

ص: 563

______________________________

كما تري! لعدم التنافي بين انحصار النفقة الواجبة بالإطعام و الكسوة و وجوب الطلاق بتخلفهما، بل المناسب للمرتكزات كون وجوب الطلاق بتخلفهما متفرعا علي وجوبهما، و لذا ساق جميل رواية عنبسة في مقام بيان وجوب نفقة الزوجة.

و دعوي: أنّ عدم ذكر الإسكان الواجب قطعا في هذه النصوص شاهد بعدم ورودها في مقام الحصر.

مدفوعة: بأنّ الأولي جعل ذلك شاهدا علي انصراف النفقة في هذه النصوص عن الإسكان و أنّ المراد بها ما يتجدد صرفه و تتلف عينه، دون الإسكان المبني علي الانتفاع بالعين مع بقائها، للمفروغية عن وجوبه لابتناء الزوجية علي تكوين البيت للزوجين بنحو لا يحتاج للتنبيه، و لذا قوبل بالنفقة في جملة من النصوص الواردة في المطلقة، كقوله عليه السّلام في صحيح سعد: «و لها النفقة و السكني حتي تنقضي عدتها» «1».

هذا، و في حديث شهاب: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما حق المرأة علي زوجها؟ قال: يسد جوعتها و يستر عورتها و لا يقبح لها وجها، فإذا فعل ذلك فقد و اللّه أدي إليها حقها. قلت: فالدهن؟ قال: غبا يوم و يوم لا. قلت: فاللحم؟ قال: في كل ثلاثة، فيكون في الشهر عشر مرات لا أكثر من ذلك، و الصبغ في كل ستة أشهر، و يكسوها في كل سنة أربعة أثواب ثوبين للشتاء و ثوبين للصيف، و لا ينبغي أن يقفر بيته من ثلاثة أشياء: دهن الرأس و الخل و الزيت [الخل و الزيت و دهن الرأس. خ ل] و يقوتهن بالمد، فإني أقوت به نفسي، و ليقدر لكل إنسان منهم قوته، فإن شاء أكله و إن شاء وهبه و إن شاء تصدق به. و لا تكون فاكهة عامة إلا أطعم عياله منها، و لا يدع أن يكون للعيد عندهم فضل [للعيدين من عيدهم خ ل] فضل في الطعام أن يسني لهم [ينيلهم خ ل] ما لم يسني لهم [لا ينيلهم خ ل] في سائر الأيام» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب النفقات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب النفقات حديث: 1.

ص: 564

______________________________

و مقتضي قوله عليه السّلام: «فقد و اللّه أدي إليها حقها» كون ما ذكر بعد ذلك شرحا لأحد الأمور المذكورة أو مستحبا، فلا يصلح لمعارضة ما سبق من النصوص، بل يتعين العمل عليها.

و دعوي: عدم حجية النصوص المذكورة لهجرها عند الأصحاب، حيث ذكروا أمورا كثيرة غير ما تضمنته كالفراش و آلة التنظيف و الادهان و الإخدام، كما هو مقتضي سيرة المتشرعة.

مدفوعة: بعدم وضوح هجرهم لها بالنحو المسقط لها عن الحجية، بعد ذكرها في كلام قدماء الأصحاب بنحو يظهر منهم التعويل عليها كالكليني و الصدوق، كما اقتصر علي مضمونها في بعض كتب الفتاوي كالمقنعة و الغنية، كما هو ظاهر النهاية و السرائر حيث اقتصر فيهما علي النفقة و الكسوة، لظهور مقابلة النفقة بالكسوة في عدم إرادة مطلق ما يحتاج إليه من النفقة، بل خصوص الإطعام المقابل بالكسوة في الأخبار.

و لعل توسع جملة منهم في تحديد النفقة لا يبتني علي هجر هذه النصوص، بل علي العمل ببعض العمومات مع تخيل عدم منافاة النصوص لها لرفع اليد عن ظهورها في الحصر، فإنّ ظاهر الشيخ في المبسوط أنّ وجه وجوب الإخدام هو الأمر بالمعاشرة بالمعروف في الآية المتقدمة.

و أما السيرة، فلم تتضح بنحو معتد به، لاختلاف الناس في الإنفاق كثيرا، و احتمال كون قيام كثير منهم بكثير من النفقات لذهاب بعض الأصحاب لوجوبها، أو للمحبة، أو التعارف، أو غيرها من الدواعي المانعة من إفادتها القطع بالوجوب.

و من هنا لا مجال للإعراض عن مفاد النصوص، و لا سيما مع كثرتها و قوة ظهورها، بنحو يبعد جدا عدم مطابقتها للواقع و الاتكال في بيان الواقع علي أدلة أخر قد اختفت علينا و اطلعوا عليها.

هذا، و يظهر من بعضهم أنّ المتحصل من مجموع الأدلة كون الواجب هو

ص: 565

______________________________

القيام بما تحتاجه المرأة، لا بما أنها صاحبة دين، بل بما هي متعيشة بحسب شأنها و زمانها و مكانها، و منه رفع ما لا يتحمل عادة من الوسخ و نحوه مما يحتاج تنظيفه إلي مئونة، و منه الجنابة و الحيض، لتنفّر المسلم منهما، بحيث يثقل عليه تحملهما كالوسخ.

لكنه غير ظاهر، لعدم وفاء النصوص المتقدمة به، و شمول العمومات- لو تمت- لما هو أوسع منه.

نعم، لا يبعد البناء علي وجوب بذل مئونة التنظيف و الزينة علي الزوج لو أرادهما، و لا يجب عليها القيام بهما مع عدم البذل منه.

و ما قد يظهر من جامع المقاصد في كلامه المتقدم من أنّ مئونة الحمام عليها، لأنها من مئونة التمكين الواجب عليها.

غير ظاهر، لأن المتيقن مما دل علي وجوبهما عليها وجوب المعني المصدري في ظرف وجود مقدمته، لا تكلف مقدمته لتحصيله، ففي خبر العزرمي الوارد في بيان حق الزوج علي الزوجة: «و عليها أن تتطيب بأطيب طيبها و تلبس أحسن ثيابها و تزين بأحسن زينتها.» «1».

و هو المطابق لقاعدة نفي الضرر، لأن تكليفها بالتنظيف و التزين بالنحو المستلزم لصرف المال ضرر ظاهر، بل لا ينبغي التأمل في عدم وجوب ذلك بعد ملاحظة سيرة المتشرعة.

و ربما كان مراد بعض الأصحاب من وجوب بذل آلات الزينة علي الزوج ذلك، لا بذلها مطلقا و لو لم يردها.

كما لا يبعد البناء علي جواز تكسب المرأة لسد حاجاتها الأخر و إن لزم خروجها من بيت الزوج أو تفويت بعض حقوقه، لقاعدة نفي الضرر في حقها.

و ليس له منعها إلا إذا قام بحاجتها و أرادت الاستزادة في المال مع التفريط بحقه، و هو لا ينافي ما سبق في النصوص، لأنها بصدد بيان النفقة الواجبة بمقتضي

______________________________

(1) الوسائل باب: 79 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 2.

ص: 566

مسألة 21: إذا خرج من بيته بقصد الغسل في الحمام كفي ذلك في نية الغسل

مسألة 21: إذا خرج من بيته بقصد الغسل في الحمام، فجاء إلي الحمام و اغتسل و لم يستحضر النية تفصيلا كفي ذلك في نية الغسل (1)،

______________________________

الزوجية لا لطوارئ خارجية.

و كيف كان، فلا بد في إثبات وجوب ما زاد علي ما تضمنته النصوص المتقدمة من دليل، و لا يبعد وجوب بذل ماء الشرب، لإلحاقه بالطعام، بل أولويته منه عرفا.

أما ماء الغسل و نحوه مما يجب استعماله تكليفا، فلا وجه لوجوبه، و ما سبق من المنتهي عن بعضهم من قياسه علي ماء الشرب في غير محله.

لكن شيخنا الأستاذ قدّس سرّه احتمل التفصيل بين ما إذا كان الغسل مقدمة للوطء كغسل الحيض بناء علي حرمة الوطء قبله، أو نتيجة له و هو غسل الجنابة، فيجب بذل مائه علي الزوج، و ما إذا لم يكن كذلك كسائر الأغسال، فلا يجب بذل مائه. و ذكر أنّ ذلك غير بعيد عن السليقة، و إن خلا عن الدليل.

و ما ذكره في الغسل الذي يكون مقدمة للوطء، لا يخلو عن قرب، لأن المتيقن من وجوب التمكين ما يقابل الامتناع الخارجي و نحوه، دون ما يرجع إلي بذل المال لرفع المانع الشرعي، بل يتعين عليه بذله لو أراد الوطء، و لو لم يرده لا يجب عليه بذله، بل يكون كسائر الأغسال غير المتعلقة به، حيث لا دليل علي وجوب بذله المال لها، كما ذكرنا و ذكره قدّس سرّه.

و أما ما ذكره في الغسل الذي يكون نتيجة للوطء، فلا يخلو عن إشكال، لما اعترف به من عدم الدليل عليه.

اللهم إلا أن يستبعد عدم تكليفه به و وجوب تحملها له مع كون الوطء بيده، لما فيه من الإضرار بها و تعريضها بسبب وجوب التمكين معه للخسارة الكثيرة، فتأمل. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) لما سبق في مباحث النية من الوضوء من الاكتفاء بالنية الإجمالية الارتكازية، و عدم لزوم استحضار صورة العمل أو عنوانه تفصيلا حين الشروع فيه.

و ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أنّ النية السابقة نية للخروج من البيت

ص: 567

إذا كان بحيث لو سئل: ما ذا تفعل؟ لأجاب بأنه يغتسل (1)، أما لو كان يتحيّر في الجواب بطل، لانتفاء النية (2).

مسألة 22 إذا كان قاصدا عدم إعطاء العوض للحمامي

مسألة 22: إذا كان قاصدا عدم إعطاء العوض للحمامي، أو كان بناؤه علي إعطاء الأموال المحرمة، أو علي تأجيل العوض مع عدم إحراز رضا الحمامي، بطل غسله (3)،

______________________________

و الذهاب للحمام لا نية الغسل، بل يكون الغسل بدون نية.

ممنوع، لأن الجري علي نية الخروج من البيت بالنحو المذكور إلي حين الغسل تستلزم النية الارتكازية للغسل حين الانشغال به.

إلا أن يرجع ما ذكره إلي دعوي اعتبار إخطار العمل حين الشروع فيه، الذي عرفت منعه.

(1) لكشف ذلك عن النية الإجمالية الارتكازية للغسل.

(2) إنما تنتفي النية إذا لم يبتن حصول الغسل منه علي استمرار الداعي الأول، بل لداع آخر.

أما مع استناده لاستمرار الداعي الأول، فهو مستلزم لحصول النية الارتكازية، و لا بد أن يستند التحير في الجواب لارتباك الوجدان بنحو تقصر النفس عن استيضاح مرادها و بيانه.

نعم، مع الشك لا بد من البناء علي البطلان، لأصالة عدم وقوع الغسل. و لا مجال لقاعدة الصحة، لأنها فرع إحراز الدخول في العمل بنية عنوانه.

(3) أما إذا كان قاصدا عدم إعطاء العوض، فلإحراز عدم رضا الحمامي بالغسل، فيحرم و يمتنع التقرب.

لكنه يختص بما إذا ابتني وضع الحمام علي الإباحة بالضمان بشرط دفع العوض، كما هو محل الكلام ظاهرا.

أما لو ابتني علي الإباحة بالضمان و لو مع العصيان بعدم دفع العوض، فيكون متجريا بالقصد المذكور مع إباحة الغسل لفعلية الرضا من المالك.

ص: 568

و إن استرضاه بعد ذلك (1).

______________________________

و كذا لو ابتني علي الاستئجار بين المغتسل و الحمامي- إما اللفظي أو المعاطاتي- فيستحق المغتسل الغسل و الحمامي الأجرة بالعقد المذكور قبل تحقق الغسل، لأن نية عدم دفع الأجرة لا توجب حرمة الغسل المستحق.

و أما إذا كان قاصدا إعطاء الأموال المحرمة، فهو موقوف علي كون شرط الإباحة بالضمان دفع العوض المملوك مع التفات المغتسل إلي عدم انطباق ما يقصد دفعه علي ما هو المشروط، أما مع غفلته عن ذلك، أو كان شرط الإباحة مطلق دفع العوض و لو كان محرما، لتسامح الحمامي أو لاعتقاده حلية العوض الذي يرضي بالدفع منه، فلا وجه لبطلان الغسل، غايته أنه يكون متجريا في نية دفع العوض المذكور، و لا يبرأ من الضمان به.

و أما إذا كان قاصدا تأجيل العوض، فهو متجه لو ابتني وضع الحمام علي الإباحة بالضمان بشرط دفع العوض- الذي عرفت أنه محل الكلام ظاهرا- أو ابتني علي الإجارة المعاطاتية، لعدم إحراز تحقق شرط الإباحة في الأول، و عدم إحراز التطابق بين الإيجاب و القبول في الثاني.

أما لو ابتني علي الإجارة نقدا باتفاق الطرفين و نوي المغتسل تأخير دفع الأجرة فلا يبطل الغسل، نظير ما تقدم.

كما أنه لا بد في البطلان في الصورتين الأوليين من الالتفات إلي عدم إحراز رضا الحمامي، أما مع الغفلة عنه فيصح الغسل، لتحقق التقرب به.

ثمَّ إنه يكفي مع إحراز رضا الحمامي الرضا الباطني، بل التقديري الحاصل مع الغفلة، الذي هو عبارة عن كونه بحيث لو التفت لرضي، لكفايتهما في حل التصرفات الخارجية، علي ما ذكرناه في المسألة الثالثة من مباحث أحكام الخلوة.

نعم، لا يكفيان في نفوذ التصرفات الاعتبارية كالإجارة المعاطاتية في المقام، بل لا بد فيه من إعمال السلطنة، علي ما ذكر في محله من مباحث شروط العقد.

(1) لأن تعقب الرضا مع العلم به لا يسوغ التصرف حين وقوعه، فضلا عن

ص: 569

مسألة 23 إذا ذهب إلي الحمام ليغتسل ثم شك بني علي العدم

مسألة 23: إذا ذهب إلي الحمام ليغتسل و بعد الخروج شك في أنه اغتسل أم لا، بني علي العدم (1)، و لو علم أنه اغتسل لكن شك في أنه اغتسل علي الوجه الصحيح أم لا، بني علي الصحة (2).

مسألة 24 إذا كان ماء الحمام مباحا لكن سخن بالمغصوب يجوز الغسل منه

مسألة 24: إذا كان ماء الحمام مباحا لكن سخن بالحطب المغصوب، لا مانع من الغسل فيه (3).

______________________________

انقلابه عما وقع عليه من المبعدية، لعدم إحراز الرضا حينه.

(1) لاستصحاب عدم الغسل. و لا أثر للعادة في ذلك، إلا بناء علي كفاية مضي المحل العادي في جريان قاعدة التجاوز، الذي هو خلاف التحقيق، بل يبعد القول به من أحد في مثل المقام.

(2) لقاعدة الفراغ. و يأتي إن شاء اللّه تعالي في المسألة السابعة و الثلاثين الكلام في الشك في أجزاء الغسل.

(3) لبقائه علي ملك صاحبه، من دون أن يكون لصاحب الحطب حقا فيه بعد عدم حمله لجزء من الحطب. و ليس أثر العين كنمائها تابعا لها، ليدعي ملكية صاحب الحطب للحرارة بنحو لا يجوز التصرف في الماء تصرفا منافيا لملكيتها، لعدم الدليل علي ذلك، غاية الأمر ضمان الحطب بالإتلاف.

نعم، قد يتخيل ذلك فيما لو غصب عمل العامل المسخن للماء بأن أجبر علي ذلك أو نحوه، حيث قد يدعي ملكية العامل لأثر عمله، و هو الحرارة، و لا يجوز لكل من مالك العين و الأثر الاستقلال في التصرف، كما لو صبغ المشتري الثوب أو صاغ الذهب، ثمَّ فسخ البيع، حيث قد يدعي ملكية المشتري لأثر عمله، فله منع البائع من الاستقلال في العين و إن ملكها بعد الفسخ.

لكن ذلك لو تمَّ فالمتيقن منه ما لو كان العمل في العين حين ملكيته لها، حيث يقع في محله. أما إذا كان حين ملكية غيره لها- كما في الفرض- فلا دليل علي اقتضائه حقا فيها، بل غاية الأمر ضمان قيمة عمله لمن أجبره عليه أو طلبه منه، فتأمل جيدا.

ص: 570

مسألة 25 الغسل في حوض المدرسة غير صحيح لأهلها و لغيرهم

مسألة 25: الغسل في حوض المدرسة غير صحيح لأهلها و لغيرهم، إلا إذا علم بعموم الوقفية أو الإباحة (1).

مسألة 26 الماء الذي يسبلونه لا يجوز الوضوء و لا الغسل منه

مسألة 26: الماء الذي يسبلونه لا يجوز الوضوء و لا الغسل منه، إلا مع العلم بعموم الإذن (2).

مسألة 27 الغسل بالمئزر الغصبي باطل

مسألة 27: الغسل بالمئزر الغصبي باطل، إذا كان دخول الماء إلي البشرة موجبا للتصرف فيه (3) أو متحدا معه (4).

______________________________

(1) لاستصحاب عدم الوقف للغسل، أو عدم الإذن فيه.

و قد تقدم تمام الكلام في ذلك في المسألة الرابعة من مبحث أحكام الخلوة.

كما تقدم الكلام في قبول خبر المتولي أو بعض أهل المدرسة بعموم الوقف أو جريان العادة بإيقاع التصرف.

(2) لاستصحاب عدم الإذن فيه، أو عدم التصدق بالماء له.

(3) كما إذا استلزم وصول الماء للبشرة انفصاله عنها و وقوعه علي المئزر، حيث يكون إيصال الماء للبشرة سببا توليديا للحرام، فيكون مبعدا، و يمتنع التقرب به المعتبر في عباديته.

(4) التصرف في المئزر مباين خارجا لوصول الماء للبشرة، و يمتنع اتحادهما مع اختلاف موضوعيهما.

إلا أن يراد بذلك تحققهما معا بحركة واحدة كما لو كان المئزر مبتلا و غسلت البشرة بدلكه بها، فتحرم الحركة المذكورة و يمتنع التقرب بها.

كما يبطل الغسل أيضا لو كان التصرف في المئزر سببا توليديا لوصول الماء للبشرة، بأن لا يكون من المكلف إلا وضع الماء علي المئزر ثمَّ ينفذ الماء منه للبشرة، حيث يمتنع التقرب بالوضع المذكور الذي يستند له الغسل.

و كذا لو توقف إيصال الماء للبشرة تدريجا علي إيصاله بحركة أخري للمئزر، علي تفصيل سبق نظيره عند الكلام في الوضوء من الإناء المغصوب تدريجا.

فراجع أوائل الفصل الثالث من مبحث الوضوء.

ص: 571

الفصل الخامس في آداب الغسل
اشارة

الفصل الخامس قد ذكر العلماء (رضوان اللّه عليهم) أنه يستحب غسل (1)

______________________________

(1) كما صرح به جمع من الفقهاء المتقدمين و المتأخرين، و صرح بالإجماع عليه في الخلاف و المعتبر و المنتهي و الحدائق، و نفي الخلاف فيه في السرائر.

و يشهد به النصوص الكثيرة الآتي بعضها، المحمولة علي الاستحباب، للإجماع علي عدم انفعال الماء بإدخال الجنب يده فيه من دون غسل، و عدم كون غسلها جزءا من الغسل، و للنصوص المصرحة بعدم البأس بإدخال الجنب يده في الماء إذا لم يكن أصابها شي ء، و الظاهرة في عدم كونه جزءا من غسل الجنابة.

فمن الأول: صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن الرجل يبول و لا يمس يده اليمني شيئا، أ يغمسها في الماء؟ قال: نعم و إن كان جنبا» «1».

و من الثانية: صحيح زرارة: «قلت: كيف يغتسل الجنب؟ فقال: إن لم يكن أصاب كفه شي ء غمسها في الماء ثمَّ بدأ بفرجه فأنقاه [بثلاث غرف] ثمَّ صب علي رأسه ثلاث أكف.» «2».

و ما ورد في الغسل بالمطر «3» و الغسل الارتماسي «4»، بناء علي شمول الأمر

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الوضوء حديث: 1 و في الباب المذكور و غيره أحاديث أخر.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 2، 3.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 10، 11، 14.

(4) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 12، 13، 15.

ص: 572

اليدين (1) أمام الغسل (2)

______________________________

بغسل اليدين لهما، كما هو غير بعيد لو كان غسلهما من آداب الغسل، لإطلاق بعض نصوصه و قرب إلغاء خصوصية موارد الباقي منها مما ورد في الغسل بالصب و نحوه.

(1) كما هو المذكور في كلمات الأصحاب و معاقد إجماعاتهم، و تقتضيه جملة من النصوص الآتية و غيرها.

و لا ينافيه الاقتصار علي اليمني في بعضها، لإمكان الجمع باختلاف مرتبة الفضل، كما يظهر من الحدائق.

و ربما يحمل ما تضمن الاقتصار علي اليمني علي صورة الاقتصار عليها في الاغتراف من الإناء و باقي النصوص علي صورة إدخالهما معا، أو علي كونه من آداب الغسل مع قطع النظر عن إدخال اليد في الإناء، علي ما سيأتي الكلام فيه.

(2) المذكور في الخلاف و السرائر و الشرائع و التذكرة و الإرشاد و القواعد و الحدائق أنّ الغسل قبل إدخال اليد الإناء، بنحو يظهر منهم الاختصاص بما إذا أريد إدخالها فيه للاغتراف أو غيره، و هو الظاهر من المعتبر و المنتهي، لأنهما و إن أطلقا ذكره في آداب الغسل، إلا أنّ التحويل فيهما علي ما سبق منهما في الوضوء ظاهر في ذلك.

نعم، أطلق في النافع استحبابه للغسل، من دون إشارة للقيد المذكور، كما قرب التعميم في كشف اللثام و غيره.

و يشهد للأول صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الوضوء، كم يفرغ الرجل علي يده اليمني قبل أن يدخلها في الإناء؟ قال: واحدة من حدث البول و اثنتان من حدث الغائط و ثلاث من الجنابة» «1».

و صحيح يعقوب بن يقطين عن أبي الحسن عليه السّلام: «قال: الجنب يغتسل يبدأ

______________________________

(1) الوسائل باب: 27 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 573

______________________________

فيغسل يديه إلي المرفقين قبل أن يغمسهما في الماء.» «1».

و صحيح العيص: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام هل يغتسل الرجل و المرأة من إناء واحد؟ قال: نعم، يفرغان علي أيديهما قبل أن يضعا أيديهما في الإناء» «2».

و قد يحمل عليه صحيح البزنطي: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن غسل الجنابة؟ فقال: تغسل يدك اليمني من المرفق [المرفقين] إلي أصابعك و تبول إن قدرت علي البول، ثمَّ تدخل يدك في الإناء، ثمَّ اغسل ما أصابك منه.» «3» و قريب منه موثق سماعة «4» و حديث أبي بصير «5»، حيث لا يبعد ظهور تعقيب الغسل بإدخال اليد في الإناء في كون الغسل لأجله.

بل قد يحمل عليه قوله عليه السّلام في صحيح حكيم: «أفض علي كفك اليمني من الماء فاغسلها، ثمَّ اغسل ما أصاب جسدك من أذي» «6»، لقرب كون تخصيص اليمني بالغسل بلحاظ غلبة إدخالها في الإناء، إذ يبعد اختصاصها في الغسل الذي هو من آداب الغسل.

و يشهد بالثاني: إطلاق صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن غسل الجنابة، فقال: تبدأ بكفيك فتغسلهما ثمَّ تغسل فرجك.» «7».

و قوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «تبدأ فتغسل كفيك ثمَّ تفرغ بيمينك علي شمالك فتغسل فرجك.» «8».

و قوله عليه السّلام في حديث الأربعمائة: «إذا أراد أحدكم الغسل فليبدأ بذراعيه

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 32 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(5) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(6) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(7) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(8) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 574

من المرفقين (1)

______________________________

فليغسلهما» «1».

و قد تقدم نظير ذلك في الوضوء، و قربنا هناك حمل المطلق علي المقيد، لقرب ورود المطلق لبيان عدد الغسل، لا لتشريعه، ليتم إطلاقه من هذه الجهة، فراجع.

و لا مجال لذلك هنا، لظهور النصوص الأخيرة في تشريع استحباب غسل اليد من حيثية الغسل، لا من حيثية أخري.

و لا سيما قوله عليه السّلام في حديث يونس الوارد في غسل الميت: «ثمَّ اغسل يديه ثلاث مرات، كما يغسل الإنسان من الجنابة إلي نصف الذراع» «2»، لظهوره في عدم دخل إدخال اليد في الإناء في استحباب الغسل المذكور، و لذا ثبت في غسل الميت الذي لا يقع منه ذلك، فتأمل.

فيتعين الجمع بتأكد الأمر بغسل اليد مع إرادة إدخالها في الإناء.

و الأولي حمل الأمر بالغسل في النصوص الاولي علي الإرشاد لتجنيب الماء أثر الحدث، نظير ما تقدم في الوضوء، و في الأخيرة علي كونه من آداب الغسل.

(1) كما في جامع المقاصد و عن النفلية، و جعله أولي في الروضة و المسالك و المدارك، و الأكمل في الحدائق، و عن محكي الجعفي استحباب الغسل من نصف الذراع أو إلي المرفقين، و اقتصر جماعة علي الكفين، و لعله المنصرف من إطلاق اليدين في كلام جملة من الأصحاب، و لا سيما من ذكر أنه يكون قبل إدخال اليد في الإناء، لأن الاغتراف إنما يكون بالكف.

و لعله لذا نسبه للمشهور في المدارك.

أما النصوص، فهي مختلفة، حيث اقتصر في جملة ما تقدم و غيره علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 44 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 575

ثلاثا (1)،

______________________________

الكفين، و حدد في حديث يونس بنصف الذراع، و في صحيحي يعقوب و البزنطي بالمرفق، و إليه يرجع ما في حديث الأربعمائة، بل قد يرجع إليه قوله عليه السّلام في موثق سماعة: «و ليغسلهما دون المرفق» «1»، أو يحمل علي إرادة ما قارب المرفق، فيكون حدا رابعا. و يتعين الجمع باختلاف مراتب الفضل، كما جري عليه غير واحد علي اختلاف بينهم في عدد المراتب.

و في الجواهر: «و لو لا مخافة الخروج عن كلام الأصحاب لأمكن دعوي: أنه يتحصل من الأخبار أن استحباب غسل الكفين إنما هو من حيث مباشرة ماء الغسل، لمكان توهم النجاسة، و لذا كان في بعضها: أنه إن لم يكن أصاب كفه شي ء غمسها في الماء:. إلي آخره. و أما الغسل من المرفق، فهو مستحب من حيث الغسل، فيكون كالمضمضة مثلا».

لكن الخروج عن كلام الأصحاب لأجل النصوص ليس محذورا في المستحبات، لبنائهم علي التسامح فيها، و المهم عدم وفاء النصوص بما ذكره، لأن بعض نصوص الكفين ظاهر في استحباب غسلهما من حيثية الغسل مع قطع النظر عن إدخالهما في الإناء، كصحيحي محمد بن مسلم و زرارة، و بعض نصوص التحديد بالمرفق ظاهر في استحباب الغسل لأجل الإدخال، كصحيحي يعقوب و البزنطي، و لا مانع من استحباب كون الغسل المذكور للمرفق للاستظهار. مع أنه أهمل حديث يونس.

و ما أشار إليه من النص- و هو صحيح زرارة الأول- أجنبي عما نحن فيه، لوروده لنفي وجوب الغسل مع عدم القذر، لا لنفي استحبابه. فلا مخرج عن الجمع بين النصوص بما سبق.

(1) كما صرح به الأصحاب، و هو داخل في معقد إجماع الخلاف و المعتبر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 8.

ص: 576

______________________________

و يقتضيه صحيح الحلبي المتقدم، و حديث حريز عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال:

يغسل الرجل يده من النوم مرة و من الغائط و البول مرتين، و من الجنابة ثلاثا» «1» و نحوه مرسل الصدوق.

و مقتضي الجمع بينها و بين المطلقات المتقدمة البناء علي اختلاف مراتب الفضل، لأن ذلك هو الأظهر في المستحبات، لعدم التنافي فيها بين المطلق و المقيد ليتعين التقييد، كما استقربه في الحدائق، و لا سيما مع قوة ظهور المطلق، لوروده في مقام التعليم.

نعم، الظاهر اختصاص أفضلية التثليث بالغسل لتجنيب الماء أثر الحدث، لاختصاص نصوصه بذلك، دون الغسل الذي هو من آداب الغسل.

و دعوي: استفادته فيه من حديث يونس، لا تخلو عن إشكال، لاحتمال اختصاص التثليث بغسل الميت، و كون التشبيه بغسل الجنابة في مقدار المغسول لا عدد الغسل، بأن يكون قوله عليه السّلام: «كما يغسل الإنسان من الجنابة» صفة أخري غير كونه ثلاثا، لا بدلا منه.

و أما إطلاق حديث حريز و مرسل الصدوق، فقد تقدم في الوضوء عدم نهوضه بالاستدلال.

ثمَّ إنه تقدم في الوضوء الكلام في بعض الفروع التي تجري في المقام، يغني الكلام فيها هناك عن الكلام فيها هنا.

هذا، و في جملة من النصوص المتقدمة و غيرها ذكر غسل الفرج ابتداء أو بعد غسل اليدين، قبل المضمضة و الاستنشاق، و لم أعثر علي من تعرض له في آداب الغسل إلا في النهاية، و قد يظهر من السرائر، حيث قال: «ثمَّ يغسل فرجه و ما يليه و يزيل ما لعله تبقي من النجاسة»، فإنّ فرض احتمال النجاسة قد يظهر في استحباب الغسل للاستظهار، لا وجوبه للتطهير.

و كأنّ إهمال المعظم له لأنهم فهموا من نصوصه إرادة التطهير من المني أو البول المأمور به في صحيح البزنطي المتقدم و غيره، كما يظهر من الفقيه و المقنع

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 577

ثمَّ المضمضة (1)

______________________________

و الهداية، حيث عبر فيها بالاستنجاء.

و قد يناسبه التعبير في بعض النصوص بالإنقاء، كصحيح زرارة الأول و غيره «1».

إلا أنّ الاكتفاء بذلك في الخروج عن ظاهر الأمر في النصوص الأخر لا يخلو عن إشكال، و لا سيما مع ما تكرر منا من عدم صلوح بناء الأصحاب غالبا للقرينية في المستحبات.

(1) فقد صرح باستحبابها جماعة كثيرة من القدماء و المتأخرين، و نفي في السرائر الخلاف فيه، و ادعي في الخلاف و المنتهي و المدارك و ظاهر المعتبر و محكي نهاية الاحكام الإجماع عليه.

و لا ينافيه عدم ذكرها في المقنع و محكي الكافي، إذ قد لا يتعلق الغرض باستيفاء المندوبات.

و يقتضيه غير واحد من النصوص، كصحيح زرارة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الجنابة. فقال: تبدأ فتغسل كفيك ثمَّ تفرغ بيمينك علي شمالك فتغسل فرجك، ثمَّ تمضمض و استنشق، ثمَّ تغسل جسدك» «2».

و قريب منه في ذلك حديث أبي بصير «3» و موثق سماعة: «سألته عنهما، فقال: هما من السنّة، فإن نسيتهما لم يكن عليك إعادة» «4».

و هي محمولة علي الاستحباب، للإجماع المذكور، و للنصوص، كحديث

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 32 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 578

ثلاثا (1)، ثمَّ الاستنشاق ثلاثا (2)،

______________________________

عبد اللّه بن سنان: «قال أبو عبد اللّه: لا يجنب الأنف و الفم، لأنهما سائلان» «1». و مرسل الواسطي: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الجنب يتمضمض و يستنشق؟ قال: لا، إنما يجنب الظاهر» «2» و غيرهما.

هذا، و تأخير المضمضة و الاستنشاق عن غسل اليدين هو مقتضي كلام جماعة، و تقتضيه بعض النصوص المتقدمة. و أطلق في الغنية و الوسيلة و المراسم و المعتبر و الشرائع و النافع و القواعد و الإرشاد و الدروس و غيرها، بل في المراسم أخّر غسل اليدين في الذكر.

(1) كما في المقنعة و النهاية و السرائر و الوسيلة و التذكرة و المنتهي و عن الذكري و البيان و غيرها.

و لم نعثر علي ما يدل عليه عدا الرضوي: «و قد روي: أن يتمضمض و يستنشق ثلاثا. و روي: مرّة مرّة يجزيه. و قال: الأفضل الثلاثة. و إن لم يفعل فغسله تام» «3».

و إلا فمقتضي الإطلاقات الاجتزاء بالمرة، و لا سيما ما ورد في مقام التعليم، كصحيح زرارة و حديث أبي بصير. و لعله لذا أطلق جماعة، كما في المبسوط و الخلاف و الغنية و إشارة السبق و المراسم و الشرائع و النافع و المعتبر و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و غيرها.

(2) الكلام فيه هو الكلام في سابقة. و قد صرح في التذكرة و المنتهي و غيرهما باستحباب الترتيب بين المضمضة و الاستنشاق.

و مقتضي إطلاق جماعة كثيرة عدمه. و هو الذي يقتضيه إطلاق النصوص.

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(3) مستدرك الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 579

و إمرار اليد علي ما تناله من الجسد (1)،

______________________________

و الترتيب بينهما في الذكر لا يقتضي استحباب الترتيب، فضلا عن شرطيته- كما سبق عن بعضهم في الوضوء- و لا سيما مع احتمال كونه للترتيب الطبعي بينهما، للتنزه عن قذر الأنف، كما تقدم نظيره في الوضوء، و تقدم بعض الفروع التي تتعلق بالمقام.

(1) قال في السرائر: «و إمرار اليد عندنا غير واجب، بل مستحب»، و في المعتبر: «و إمرار اليد علي الجسد مستحب، و هو اختيار فقهاء أهل البيت عليهم السّلام»، و في المنتهي: «إمرار اليد ليس بواجب في الطهارتين لكنه مستحب، و هو مذهب أهل البيت عليهم السّلام»، و في التذكرة- في تعداد المستحبات-: «الرابع: إمرار اليد علي الجسد، و ليس واجبا، ذهب إليه علماؤنا أجمع».

و كلامهم- كما تري- يعم جميع البدن و لا يختص بما تنال اليد منه، كما في المتن.

أما النصوص، فهي مختلفة في ذلك، و هي:

موثق عمار: «أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تغتسل و قد امتشطت بقرامل و لم تنقض شعرها، كم يجزيها من الماء؟ قال: مثل الذي يشرب شعرها، و هو ثلاث حفنات علي رأسها و حفنتان علي اليمين و حفنتان علي اليسار، ثمَّ تمر يدها علي جسدها كله» «1».

و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «أنه سأله عن الرجل يجنب، هل يجزيه من غسل الجنابة أن يقوم في المطر حتي يغسل رأسه و جسده و هو يقدر علي ما سوي ذلك؟ فقال: إن كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلك، إلا أنه ينبغي له أن يتمضمض و يستنشق و يمر يده علي ما نالت من جسده.» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 26.

ص: 580

______________________________

و الرضوي الوارد في بيان الغسل بصب الماء علي البدن: «ثمَّ تمسح سائر بدنك بيدك» «1».

و ما عن الدعائم عنهم عليهم السّلام: «أنهم قالوا في الغسل من الجنابة:. ثمَّ يمر الماء علي الجسد كله، و يمر اليدين علي ما لحقناه [لحقتاه. ظ]، و لا يدع منه موضعا إلا أمرّ الماء عليه و أتبعه بيده، و بلّ الشعر و أنقي البشرة، و ليس في قدر الماء شي ء موقت، و لكنه إذا أتي علي البدن كله و أمرّ يديه عليه، و غسل ما به من لطخ و بلّ الشعر حتي يصل الماء إلي البشرة و توضأ قبل ذلك فقد طهره. و في صفة الغسل عن الأئمة عليهم السّلام روايات كثيرة هذا جماعها و تمام المراد فيها» «2».

لكن خبر الدعائم- مع اضطرابه- ظاهر في وجوب إمرار اليد و توقف الطهر عليه، فهو- لو صدر عنهم عليهم السّلام- محمول علي التقية كالأمر فيه بالوضوء.

و موثق عمار وارد في صورة صب حفنات معدودة علي مواضع خاصة لا يعلم معها بالاستيلاء الماء علي تمام البدن من دون إمرار اليد، خصوصا علي المواضع التي لا تنالها بنفسها.

فينحصر الدليل علي إمرار اليد علي تمام البدن بالرضوي.

اللهم إلا أن يستفاد من خبر علي بن جعفر بإلغاء خصوصية مورده عرفا، لارتكاز كون الغرض منه تبليغ الماء للبشرة و نفوذه في أعماقها، و حمل التخصيص علي ما تناله لأجل التسامح في المستحب، فلا يتكلف له بفعل ما يحتاج إلي عناية، فتأمل جيدا.

و أما تعليله في كلام غير واحد بالاستظهار، فلا يخلو عن إشكال، إذ لو أريد به استظهار المكلف فالمفروض علمه بوصول الماء للبشرة بدونه، و إلا كان واجبا و لو لكونه مقدمة علمية، و لو أريد استظهار الشارع حذرا من خطأ المكلف في اعتقاد وصول الماء بمجرد الصب فهو محتاج إلي دليل.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 17 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل باب: 17 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 7.

ص: 581

خصوصا في الترتيبي (1)، بل ينبغي التأكد في ذلك (2)، و في تخليل ما يحتاج إلي التخليل (3)،

______________________________

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في وجوب إمرار اليد مع توقف وصول الماء عليه ثبوتا أو إثباتا، و في عدم وجوبه بدونه، للإجماع المدعي ممن تقدم و من الخلاف و محكي الذكري، خلافا لما عن بعض العامة، و للنصوص الكثيرة المصرحة بالاكتفاء بجريان الماء و إمساسه و إفاضته و صبه «1»، حتي تضمن بعضها بقاء صفرة الطيب علي الجسد «2»، و غيرها.

(1) لا يخفي أنّ مورد خبر علي بن جعفر الغسل بالمطر، و مورد موثق عمار و الرضوي صورة الغسل بصب الماء القليل، دون ما إذا كان الماء المصبوب كثيرا يفيض علي البشرة، فضلا عن الغسل الترتيبي بالارتماس، و عن الغسل الارتماسي.

فالتعدي لها يبتني علي إلغاء خصوصية موارد النصوص، و هو غير ظاهر، لنفوذ الماء بوجه معتد به مع كثرته و استيعابه و لو مع عدم إمرار اليد.

(2) الظاهر أنّ المراد المبالغة في ذلك بالدلك و نحوه، و لم يتضح وجهه.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 582

نعم، لو أراد به التأكد من تحقق الإمرار في مقام الإثبات كان مطابقا للقاعدة، لكنه بعيد عن مساق كلامه جدا.

(3) كأنه ليتحقق الغرض من الإمرار به، لأن المبالغة في التخليل توجب شدة نفوذ الماء فيما تحت الحاجب. و إلا فقد عرفت ضعف التعليل بالاستظهار.

و لا مجال لاستفادته مما تضمن أمر النساء بالمبالغة في الماء و الغسل لرؤوسهن بسبب المشطة «3»، لظهوره في وجوب ذلك، لتوقف وصول الماء لبشرة

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب: 30 من أبواب الجنابة.

(3) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 1، 2.

ص: 582

و نزع الخاتم (1) و نحوه (2)، و الاستبراء بالبول قبل الغسل (3).

______________________________

الرأس ثبوتا أو إثباتا عليه، فيخرج عن محل الكلام.

(1) و لا يكتفي بتحريكه و إن تأدي به الواجب. لصحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخاتم إذا اغتسلت. قال: حوّله من مكانه. و قال: في الوضوء تدره، فإن نسيت حتي تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة» «1»، فإنّ الأمر بتحويل الخاتم في الغسل و عدم الاكتفاء بتحريكه كما في الوضوء ظاهر في مطلوبية رفع الحاجب في الغسل و عدم الاكتفاء بتخليله.

لكنه موقوف علي وحدة الكلام، أما مع تعدده- كما هو الظاهر- فالأقرب حمل كل منهما علي بيان الفرد المجزئ، فلاحظ.

(2) مما يحيط بالبدن و يحتاج إلي التخليل كالعصابة، لإلغاء خصوصية الخاتم في الصحيح السابق، فتأمل.

هذا، و قد ذكر في المعتبر و المنتهي استحباب تخليل الأذنين مع وصول الماء إليهما معللا في الثاني بالاحتياط، كما أطلق في الشرائع و النافع استحباب تخليل ما يصل إليه الماء بدونه، معللا في الأول بالاستظهار، و حكم في التذكرة باستحباب تحريك الخاتم مع وصول الماء بدونه.

و يظهر حال ما ذكروه مما سبق.

(3) كما في السرائر و المعتبر و الشرائع و التذكرة و القواعد و غيرها، و نسبه في التذكرة إلي أكثر علمائنا، و في المدارك و الحدائق إلي المشهور بين المتأخرين، و يقتضيه إطلاق استحباب الاستبراء في الإرشاد و اللمعة، كما نسب للمرتضي في كلام غير واحد، بل للناصريات، لكن كلامه في الناصريات غير ظاهر في الاستحباب، بل في مجرد عدم الوجوب، كما هو المناسب لعدم ذكره له في جمل العلم و العمل في بيان غسل الجنابة، و لعدم ذكر الصدوق له في المقنع.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 583

______________________________

و صرح بالوجوب في المبسوط و إشارة السبق و الغنية و المراسم و الوسيلة و محكي الجمل و العقود و المصباح و مختصره و الكامل و الإصباح و ظاهر الكافي و الجامع و المهذب و غيرها، كما حكي عن الجعفي، علي خلاف بينهم في الاقتصار علي البول، و التخيير بينه و بين الاجتهاد، و الجمع بينهما، و التنزل للثاني مع تعذر الأول، كما قد يستظهر من الأمر به في أمالي الصدوق و هدايته و ما حكاه في الفقيه عن رسالة أبيه و أقره، و في المقنعة و النهاية، بل نسبه في جامع المقاصد و محكي الذكري لمعظم الأصحاب، و ظاهر الغنية الإجماع عليه.

و جعله في الدروس و جامع المقاصد و محكي حاشية الشرائع و التنقيح أحوط.

و ظاهر الدروس إرادة الاحتياط بفعله لاحتمال التكليف به، لا لاحتمال شرطيته في الغسل، حيث حكم بأنّ من لم يستبرئ و خرج منه بلل مشتبه بعد الغسل فهو جنب من حين الرؤية، و يأتي الكلام في ذلك.

هذا، و قد أشار في كشف اللثام إلي إمكان انتفاء النزاع، بأن يكون مراد القائلين بالوجوب بطلان الغسل بخروج البلل المشتبه بدونه، فيكون الأمر به للإرشاد لحفظ الغسل من البطلان بعد صحته في قبال احتمال عدم بطلانه به، كما قد يظهر من بعضهم تبعا لبعض النصوص، لا لشرطيته في صحة الغسل رأسا.

و يناسبه تنبيه بعضهم للأثر المذكور، كما في المبسوط و المراسم و محكي المهذب و الجامع، بل لم يذكر في الاستبصار في باب وجوب الاستبراء من الجنابة بالبول إلا النصوص المتعرضة لهذا الأثر و النافية له، و من الظاهر أنه لا موضوع له مع بطلان الغسل رأسا، حيث يجب إعادته و لو لم يخرج البلل.

و منه يظهر قرب حمل الأمر به في الفقيه و الهداية و المقنعة و النهاية علي الاستحباب أو الإرشاد لتجنب بطلان الغسل واقعا بخروج المني المحتمل أو ظاهرا بخروج البلل المشتبه، لتنبيههم علي الأثر المذكور بنحو يظهر منه مفروغيتهم عن صحة الغسل بدونه.

ص: 584

______________________________

و من هنا يشكل وجود القائل من القدماء بالوجوب الوضعي الراجع لشرطيته في الغسل.

نعم، قد يحمل كلامهم لأجل ذلك علي الوجوب التكليفي، الذي اختاره في المستند، بل استبعد فيه حمل كلامهم علي الوجوب الشرطي، و استظهر في الجواهر حمله علي الوجوب التكليفي، قال: «بل يمكن ادعاء الإجماع علي الصحة، لما في المختلف بعد نقل القولين: أنّهم اتفقوا علي أنه لو أخل به حتي وجد بللا بعد الغسل، فإن علم أنه مني أو اشتبه عليه وجب الغسل، و إن علم أنه غير مني فلا غسل. انتهي. و نحوه غيره في استظهار ذلك»، و بالإجماع المحكي عن المختلف صرح في الخلاف.

لكن الإنصاف أنّ ذلك خلاف المنصرف من ذكرهم البول عند بيان الغسل، و سوقهم له في مساق شرائطه، كتطهير البدن من الخبث، و لا سيما مع ما في الاستبصار من الاستدلال علي الوجوب بالنصوص المشار إليها، و ما في المعتبر و أشار إليه في التذكرة من الاستدلال لعدم الوجوب بقوله تعالي وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا «1»، فإنّه إنما ينفي الوجوب الوضعي، لا التكليفي.

و ليس تنزيل كلامهم علي الوجوب التكليفي لأجل تعرضهم للأثر المذكور بأولي من تنزيله علي ما ذكرنا من الإرشاد لتجنب بطلان الغسل.

و كيف كان، فالذي يدل علي مطلوبية البول قبل الغسل صحيح البزنطي:

«سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن غسل الجنابة، فقال: تغسل يدك اليمني من المرفق [المرفقين] إلي أصابعك، و تبول إن قدرت علي البول، ثمَّ تدخل يدك في الإناء ثمَّ اغسل ما أصابك منه.» «2».

و مضمر أحمد بن هلال [3]: «سألته عن رجل اغتسل قبل أن يبول، فكتب:

______________________________

[3] تقدم في مبحث الماء المستعمل في صحة رفع الحدث الأكبر تقريب الاعتماد علي حديث أحمد ابن هلال.

______________________________

(1) سورة النساء: 43.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 585

______________________________

إن الغسل بعد البول، إلا أن يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل» «1».

و الرضوي: «إذا أردت الغسل من الجنابة فاجتهد أن تبول حتي تخرج فضلة المني في إحليلك، و إن جهدت و لم تقدر علي البول فلا شي ء عليك» «2».

و لا يخفي أنّ منصرف الصحيح عدم كون مطلوبية البول تكليفية، بل بلحاظ دخله في الجملة في الغسل المسؤول عنه، كما هو الظاهر من المضمر، لجعله حدا للغسل بنحو يصح نفيه بدونه، كما هو المناسب للتنبيه فيه علي عدم الإعادة مع النسيان.

كما أنّ ذلك هو المنصرف من الرضوي، لوروده في مقام بيان الغسل الذي يريده المكلف، بل التعليل فيه مناسب ارتكازا لإرادة الإرشاد لتجنب بطلان الغسل بخروج المني المحتمل بقاؤه، دون الوجوب الوضعي، فضلا عن التكليفي.

و منه يظهر ضعف ما في المستند من الاستدلال بالرضوي، مدعيا انجباره بالشهرة بين القدماء و الإجماع و الشهرة المحكيين في الذكري و الغنية.

مضافا إلي ما سبق من عدم ظهور كلمات القدماء في الوجوب التكليفي.

و لو سلم، فلا مجال لدعوي انجباره بذلك، لقرب عدم اعتمادهم عليه، لعدم معروفيته بينهم.

و مجرد مطابقة بعض عباراته لعبارات رسالة الصدوق الأول لا تكشف عن اعتماده عليه، لاحتمال كونه كتاب فتاوي مشتمل علي الروايات.

مع أنّ اعتماد الصدوق وحده لا يكفي في جبر الضعف، و لا سيما مع قرب عدم إرادته الوجوب الشرطي أو التكليفي، بل الإرشادي، كغيره ممن سبق.

هذا، و أما الوجوب الوضعي، فهو مقتضي الجمود علي الصحيح و المضمر، لو لا اشتمال الأول علي التقييد بالقدرة علي البول، و الثاني علي عدم الإعادة

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 12.

(2) مستدرك الوسائل باب: 17 من أبواب كيفية الغسل من الجنابة حديث: 2.

ص: 586

______________________________

بنسيانه، فإنّ المناسب للشرطية تأخير الغسل حتي يتأتي البول، لا سقوطها بالعجز عنه حين الغسل، كما لا يعهد سقوط شروط الغسل و غيره من الطهارات بنسيانه، بل لم يستند أحد من القائلين بوجوب البول.

و من هنا يقرب حملهما علي الاستحباب، أو الإرشاد لتجنب بطلان الغسل واقعا بخروج المني المحتمل، أو ظاهرا بخروج البلل المشتبه.

بل هو المتعين بلحاظ النصوص الواردة في بيان فائدة البول، لظهورها في المفروغية عن عدم إعادة الغسل قبل خروج البلل و لو مع عدم البول، فلاحظ.

بقي في المقام أمور.

الأول: أشرنا آنفا إلي اختلاف القائلين بالوجوب في الاقتصار علي البول، و التخيير بينه و بين الاجتهاد، و الجمع بينهما، و التنزل للثاني مع تعذر الأول، كما أنّ القائلين بالاستحباب اختلفوا علي هذه الوجوه أو بعضها، بل اقتصر في المنتهي علي الاجتهاد، و هو غريب.

و لا يسعنا استقصاء كلماتهم، إلا أنّ المهم خلو ما عدا الأول- و هو الاقتصار علي البول- عن الدليل، لاختصاص النصوص المتقدمة بالبول.

نعم، لو كانت مطلوبية البول للتخلص من فضلة المني في المجري أمكن استفادة استحباب الاجتهاد مع تعذر البول، بلحاظ وفائه بالغرض المذكور و لو ببعض مراتبه.

كما أنه لا يبعد كون مراد من جمع بين البول و الاجتهاد الاستبراء من البول لا من المني، بلحاظ ما تقدم في آداب التخلي من تصريح جملة منهم بمطلوبية الاستبراء من البول، فيكون من آداب البول، لا من آداب الغسل، كما هو ظاهر بعضهم، كالغنية.

و إلا كان مقتضي إطلاقهم تأدي الوظيفة بالاستبراء بالخرطات من المني ثمَّ البول، و يبعد التزامهم به.

هذا، و في ترتب أثر البول علي الاستبراء من المني بالخرطات كلام يأتي في

ص: 587

______________________________

المسألة الثامنة و العشرين إن شاء اللّه تعالي.

الثاني: خص في القواعد و غيره استحباب البول بالمنزل، و في الجواهر: «و به صرح جماعة و نسب للمشهور»، و هو مخالف لإطلاق الصحيح و المضمر، و لا ينافيه الرضوي، لأن اختصاص التعليل فيه بالمنزل إنما يوجب قصوره، و لا ينافي عموم الاستحباب لعلة اخري، علي أنّ ضعفه مانع من صلوحه للتقييد.

و دعوي: أنّ قوله عليه السّلام في الصحيح: «ثمَّ اغسل ما أصابك منه» ظاهر في فرض خروج المني و إصابته للجسد.

مدفوعة: بقرب رجوع الضمير للبول المصرح به، لا للمني غير المذكور ليكشف عن فرضه.

فالظاهر ابتناء التقييد في كلامهم علي أنّ الغرض من البول تنقية المجري من المني، كما هو المصرح به في كلام غير واحد.

و هو- و إن كان قريبا في نفسه- محتاج إلي دليل، لإمكان كون الغرض التخلص من الخبث و التهيؤ لبقاء الطهارة.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يقتضي البول عند إرادة الغسل، كما تضمنه الصحيح، لا تأخير الغسل عن البول، و لو كان الفاصل بينهما طويلا، كما هو مقتضي إطلاق المضمر، بل المناسب للإطلاق المذكور كون الغرض تنقية المجري.

بل لما لم يشتمل المضمر علي بيان الحكم ابتداء، بل بعد السؤال، الذي لا بد فيه من مثير للشبهة في نفس السائل، فمن القريب جدا أن يكون المثير له خصوص احتمال دخل تنقية المجري في صحة الغسل أو في بقائه بعد خروج البلل، لأنه الأمر الارتكازي، و لو بسبب النصوص الكثيرة الواردة في فائدة البول، و مذاهب العامة فيه، حيث لا يتأمل بعد النظر فيها في كونها منشأ للسؤال.

بل لعل ذلك صالح لانصراف الصحيح أيضا، كما يظهر منهم.

و أما ما عن الذخيرة من منع انتفاء الفائدة المذكورة، إذ قد ينزل المني و لم يطلع عليه أو احتبس شي ء في المجاري، لكون الجماع مظنة نزول الماء.

ص: 588

______________________________

فهو كما تري، إذ بعد التسليم بكون فائدة البول تنقية المجري ينصرف النص للمنزل، فلا طريق لإثبات الاستحباب لغيره. و تشريع استحباب البول للاستظهار يحتاج إلي دليل، و إنما يصلح ما ذكره لتوجيه العموم، لو تمَّ الدليل عليه.

نعم، لو احتمل المكلف خروج المني، حسن منه البول احتياطا لاحتمال استحبابه.

و لعله إليه يرجع ما عن البيان و احتمله في محكي الذكري من الاستحباب مع احتمال الإنزال.

و كأنّ ما في الروض من منع الاستحباب راجع إلي عدمه ظاهرا، لعدم المحرز له، و إن كان محتملا.

الثالث: صرح باختصاص مطلوبية البول قبل الغسل بالرجل في المبسوط و الغنية و إشارة السبق و الوسيلة و المراسم [1] و السرائر و التذكرة و القواعد، و هو ظاهر الهداية و ما حكاه في الفقيه عن رسالة أبيه و أقره، و الشرائع و المعتبر و غيرها مما هو كثير.

و صرح بالعموم للمرأة في المقنعة و النهاية و محكي النفلية، و قد يستفاد ممن أطلق كالمتن و غيره، إن لم نقل بانصرافه للرجل، لما يأتي.

و هو مقتضي إطلاق المضمر و إن ورد في الرجل، لأن المورد لا يخصص الوارد. و لا ينافيه الصحيح، لأن وروده في الرجل لا يدل علي الاختصاص به، بل كثيرا ما تلغي خصوصيته في النصوص. و لا الرضوي، لما سبق في غير المنزل.

و كأنّ مبني التقييد في كلام من عرفت ما سبق من كون الغرض من البول تنقية المجري من المني، و هو لا يتم في المرأة، لاختلاف المخرجين، كما ذكره غير واحد.

و أما احتمال أنّ اختلافهما لا ينافي كون خروج البول موجبا لتنقية مجري المني منهما، لضغطه عليه.

______________________________

[1] كما في المطبوع منه. لكن حكي في مفتاح الكرامة عن بعض نسخه التعميم للمرأة، و لا يناسبه مساق كلامه.

ص: 589

مسألة 28 الاستبراء بالبول ليس شرطا في صحة الغسل

مسألة 28: الاستبراء بالبول ليس شرطا في صحة الغسل (1)، لكن إذا تركه و اغتسل ثمَّ خرج منه بلل مشتبه بالمني (2).

______________________________

فهو- مع بعده في نفسه- لا ينافي انصراف النص عن المرأة، للغفلة عن ذلك عرفا، و مع انصرافه لا مجال لإثبات العموم لها، و إنما يصلح ذلك لتوجيه العموم لها بعد فرض ظهور النص فيه.

هذا كله مع إنزالها، أما مع عدمه فالكلام يبتني علي ما تقدم.

(1) لما تقدم في وجه عدم وجوبه وضعا.

(2) أما لو علم بكونه منيا، فلا إشكال في وجوب الغسل مطلقا، و تكرر نقل الإجماع عليه في كلماتهم، و في الجواهر: «عليه الإجماع محصلا فضلا عن المنقول، خلافا لبعض العامة».

و يقتضيه ما دل علي عموم ناقضية خروج المني، و أنّ المعيار فيه علي الخروج عن باطن البدن، لا عن محل تكونه، و قد تقدم.

كما لا إشكال في عدم وجوب الغسل مطلقا لو علم أنّ الخارج ليس منيا و لا مستصحبا لشي ء منه، لعدم الموجب له.

و النصوص الآتية ظاهرة في أنّ وجوب الغسل بخروج البلل مع عدم البول قبله ظاهري، لاحتمال خروج المني، لا واقعي، لناقضية البلل رأسا في قبال المني.

و أما لو علم بعدم كونه منيا لكن احتمل استصحابه لشي ء من المني، فقد يظهر من السيد المرتضي قدّس سرّه في الناصريات عدم وجوب الغسل به و لو مع عدم البول قبل الغسل، لأنه إنما أوجب حينئذ إعادة الغسل بالبول إذا خرج معه مني مشاهد، و إليه ذهب في الجواهر و سيدنا المصنف قدّس سرّه بل قال قدّس سرّه: «يظهر من نفي غير واحد الإشكال في وجوب الوضوء لو علم كون الخارج بولا الاتفاق عليه».

خلافا لما يظهر من كشف اللثام، حيث قال: «لاتفاق الكل علي أنّ الخارج من

ص: 590

______________________________

غير المستبرئ إذا كان منيا أو اشتبه به لزمته إعادة الغسل، و لا شبهة في بقاء أجزائه في المجري إذا لم يستبرئ، فإذا بال أو ظهر منه بلل تيقن خروج المني أو ظنه، فوجبت إعادة الغسل»، كما قد يستظهر من كل من علل وجوب الغسل ببقاء شي ء من المني في المجري، و أنّ الظاهر خروجه.

و كيف كان، فالظاهر عدم وجوب إعادة الغسل في الفرض، لضعف التعليل المذكور، لأن عدم البول إنما يستلزم غالبا احتمال بقاء المني في المجري، لا الظن به، فضلا عن اليقين، كما أنه لا بد من إقامة الدليل علي حجية الظهور المذكور بنحو يخرج به عن مقتضي الأصل.

و أما النصوص الآتية، فالظاهر قصورها عما نحن فيه- بل ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنه لا ينبغي التأمل فيه- لظهور أنّ المراد من البلل فيها ما يشتبه نوعه، لا ما يعلم نوعه و يحتمل ناقضيته لاستصحابه للناقض.

و يظهر وجهه مما تقدم في نظيره في آخر فصل كيفية الاستبراء من البول، كما تقدم هناك بعض الفروع التي يجري نظيرها في المقام، فراجع.

و أما الاستدلال علي وجوب الغسل هنا بمضمر أحمد بن هلال المتقدم:

«سألته عن رجل اغتسل قبل أن يبول، فكتب: إنّ الغسل بعد البول، إلا أن يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل» «1».

بدعوي: رجوع الضمير في «منه» إلي البول الذي بعد الغسل المستفاد ضمنا من فرض الغسل قبل البول، فيدل علي وجوب الغسل بالبول بعد الغسل مع تركه قبله عمدا لا نسيانا، و ما ذلك إلا لأجل لزوم استصحابه لأجزاء منوية أو احتماله.

ففيه: أنّ الظاهر رجوع الضمير المذكور إلي ترك البول قبل الغسل المذكور صريحا في السؤال. و من ثمَّ تقدم ظهوره بدوا في بطلان الغسل بذلك رأسا.

و مثله الاستدلال بصحيح محمد بن مسلم: «قال أبو جعفر عليه السّلام: من اغتسل

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 12.

ص: 591

جري عليه حكم المني ظاهرا، فيجب الغسل له (1)

______________________________

و هو جنب قبل أن يبول ثمَّ وجد بللا فقد انتقض غسله، و إن كان بال ثمَّ اغتسل ثمَّ وجد بللا فليس ينقض غسله، و لكن عليه الوضوء، لأن البول لم يدع شيئا» «1».

بدعوي: أنّ مقتضي التعليل فيه كون وجوب الغسل لاحتمال خروج المني، و هو حاصل في مفروض الكلام.

لاندفاعه: بأنّ التعليل مسوق لعدم وجوب الغسل بخروج البلل علي من بال قبل الغسل، لا لوجوبه به علي من لم يبل، ليتمسك بعمومه. غاية ما يدل عليه التعليل كون المفروض في وجوب الغسل مع عدم البول عدم العلم بنقاء المجري من المني، من دون أن يتضمن عموم وجوبه مع ذلك، بل هو مختص بخروج البلل، الذي ذكرنا انصرافه إلي ما لا يعلم نوعه.

و بالجملة: الظاهر اختصاص وجوب الغسل بالبلل المشتبه نوعه.

نعم، لا فرق بين كون الاشتباه بعد الفحص عنه و بدونه، لتعذره أو لتعمد تركه، لإطلاق النص و الفتوي.

(1) كما صرح به جمهور الأصحاب، و في المدارك أنه المعروف من مذهبهم، و نفي في السرائر الخلاف فيه، و ادعي في الخلاف، و جامع المقاصد و كشف اللثام و محكي العلامة و الشهيد الإجماع عليه، و إن كان المتيقن من معقده فيما عدا الخلاف ترك البول و الاستبراء معا، و في الجواهر أنّ عليه الإجماع المحصل و المنقول.

للنصوص الكثيرة الدالة عليه بمنطوقها أو مفهومها، كصحيح محمد بن مسلم المتقدم، و صحيح الحلبي: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يغتسل ثمَّ يجد بعد ذلك بللا و قد كان بال قبل أن يغتسل، قال: ليتوضأ، و إن لم يكن بال قبل الغسل فليعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 7.

ص: 592

______________________________

الغسل» «1» و غيرهما.

نعم، يعارضها خبر جميل، الذي لا يخلو سنده عن اعتبار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يصيبه الجنابة فينسي أن يبول حتي يغتسل ثمَّ يري بعد الغسل شيئا، أ يغتسل أيضا؟ قال: لا قد تعصرت و نزل من الحبائل» «2».

و خبر عبد اللّه بن هلال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجامع أهله ثمَّ يغتسل قبل أن يبول ثمَّ يخرج منه شي ء بعد الغسل، قال: لا شي ء عليه، إنّ ذلك مما وضعه اللّه عنه» «3».

و خبر زيد الشحام عنه عليه السّلام: «سألته عن رجل أجنب ثمَّ اغتسل قبل أن يبول ثمَّ رأي شيئا، قال: لا يعيد الغسل ليس ذلك الذي رأي شيئا» «4».

و مرسل الفقيه و المقنع «5» الآتي.

و قد يجمع بينها و بين النصوص الأول.

تارة: بحمل تلك النصوص علي الاستحباب، كما يظهر من الصدوق في الفقيه، لقوله بعد ذكر صحيح الحلبي: و روي في حديث آخر: «إن كان قد رأي بللا و لم يكن بال فليتوضأ، و لا يغتسل، إنما ذلك من الحبائل». قال مصنف هذا الكتاب:

إعادة الغسل أصل و الخبر الثاني رخصة. و نحوه في المفاتيح، و ربما مال إليه الأردبيلي فيما حكي عنه، و قد يظهر من المقنع، لأنه أشار للمرسل المذكور.

و اخري: بحمل هذه النصوص علي النسيان، بقرينة خبر جميل و مضمر أحمد بن هلال المتقدم.

و ثالثة: بحملها علي تعذر البول أو علي الاستبراء أو عليهما.

و يندفع الأول بإباء خبر جميل عن ذلك، لظهور ذيله في إحراز عدم كون

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 13.

(4) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 14.

(5) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 2، 4.

ص: 593

______________________________

الخارج منيا و أنه من الحبائل، بنحو لا يحتاج للاحتياط و لو استحبابا، و لا يناسب تلك النصوص، خصوصا صحيح محمد بن مسلم الظاهر في أنّ إحراز عدم كون الخارج منيا يستند للبول، بل مضمون خبر جميل لا يخلو في نفسه عن إشكال، لعدم ظهور المنشأ للحكم بكون الخارج من الحبائل.

و أما بقية هذه النصوص، فضعفها مانع من صلوحها لصرف النصوص الأول عن ظهورها في الوجوب.

كما يندفع الثاني بإباء ذيل خبر جميل أيضا عن خصوصية النسيان في عدم وجوب الغسل، لعدم دخله في كون الخارج من الحبائل. و مضمر أحمد بن هلال أجنبي عما نحن فيه، لظهوره في شرطية البول للغسل و بطلانه بدونه رأسا و لو لم يخرج البلل، كما تقدم.

فيكون الجمع المذكور بلا شاهد، كالجمع بالوجه الثالث.

و من هنا لا مجال لرفع اليد بهذه النصوص عن النصوص الأول، التي هي صحيحة السند، و كثيرة العدد، و معول عليها بين الأصحاب، و لا سيما مع عدم ظهور عامل بالنصوص الأخيرة غير من عرفت، مع أنّ الصدوق نفسه قد اقتصر في الهداية علي مضمون النصوص الأول.

و لذا قد توهن النصوص الأخيرة بإعراض الأصحاب.

هذا، و أما ما تضمنه مرسل الفقيه و المقنع من الأمر بالوضوء، فهو لا يناسب التعليل فيه بأنه من الحبائل، إلا أن يحمل علي الاستحباب، بناء علي استحباب الوضوء من الحبائل، كالمذي و نحوه.

بقي في المقام أمور.

الأول: أنّ النص و الفتوي قد تضمنا الأمر بالغسل، و هو يكون.

تارة: لأمارية عدم البول علي كون الخارج منيا.

و اخري: لأصالة كونه منيا مع عدم البول من دون أن يكون أمارة عليه.

و ثالثة: لمجرد الاحتياط، لاحتمال كون الخارج منيا.

ص: 594

______________________________

و ظاهر غير واحد من الأصحاب الأول، لدعوي: لزوم بقاء شي ء من المني في المجري أو غلبة ذلك.

لكنه كما تري! لقوة احتمال خروج ما تبقي من المني بطول المدة أو شدة الحركة أو نحوهما، كما تقدم نظيره في الاستبراء من البول.

كما أنّ الثالث لا يناسب ظهور النص و الفتوي في كون الغسل المأمور به غسل جنابة، و لذا كان ظاهر إطلاقها المقامي إجزاؤه عن الوضوء، بل هو مقتضي التعبير في صحيح محمد بن مسلم بناقضية البلل للغسل، لظهوره في التعبد بانتقاضه، لا في مجرد وجوب إعادته احتياطا.

و حيث كان التعبد بالانتقاض ملازما عرفا للتعبد بكون الخارج منيا ناقضا، كان الظاهر هو الوجه الثاني.

و عليه يترتب نجاسة البلل الخارج و نحوها من أحكام المني.

الثاني: الظاهر عدم الإشكال بينهم في اختصاص وجوب الغسل بخروج البلل بالرجل المنزل، كما صرح به بعضهم، و يستفاد من تعليلهم له ببقاء شي ء من المني في المجري.

و يقتضيه انصراف النصوص إليه بسبب التعرض فيها للبول، لقضاء المناسبات الارتكازية بأنّ الغرض منه تنقية المجري التي تختص به، علي ما تقدم عند الكلام في استحباب البول، و صحيح سليمان بن خالد أو موثقه: «سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول، فخرج منه شي ء. قال: يعيد الغسل. قلت: فالمرأة يخرج منها شي ء بعد الغسل؟ قال: لا تعيد. قلت: فما الفرق بينهما؟ قال: لأن ما يخرج من المرأة إنما هو ماء الرجل» «1».

الثالث: ظاهر الأصحاب، بل صريح جملة منهم أنّ خروج البلل ناقض للغسل، لا كاشف عن بطلانه، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده في ذلك بين أصحابنا، بل قد يظهر من بعضهم الإجماع عليه». و الوجه فيه: أنّ سبب الجنابة لمّا كان هو

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 595

______________________________

الخروج إلي الظاهر تعين تجددها بخروج البلل، و لا دليل علي اشتراط نقاء المجري في صحة الغسل و ارتفاع الجنابة.

مضافا إلي ظهور ترتيب وجوب الغسل في أكثر النصوص علي خروج البلل في كونه سببا له لا كاشفا عن سبقه، بل هو كالصريح من صحيح محمد بن مسلم المتضمن ترتب الانتقاض عليه.

و لا ينافيه التعبير في أكثر النصوص بإعادة الغسل، لعدم أخذ بطلان العمل في مفهوم الإعادة، بل هي لغة فعل الشي ء مرة بعد اخري، و إنما استعملت في عرف المتشرعة معه بلحاظ نحو علاقة بين الفعلين متقومة بعدم وفاء الأول بما قصد به، فيتدارك بالثاني، و هو حاصل في المقام، لأن غرض المكلف من الغسل الأول إزالة أثر الإنزال الأول من دون توقع لخروج البلل و مع الغفلة عن حكمه، فمع بطلانه بالبلل المتخلف من الإنزال لا يتحقق تمام ما قصد به، و لا يتدارك ذلك إلا بإعادة الغسل.

و يترتب علي ذلك صحة العمل المشروط بالطهارة- كالصلاة- إذا وقع بعد الغسل قبل خروج البلل.

إلا أنّ في السرائر أنه قد يوجد في بعض الكتب وجوب إعادة الصلاة، و حكاه في المنتهي عن بعض علمائنا في فرض كون الخارج منيا، و لم يعرف القائل بذلك.

و استدل له في المنتهي بأنّ هذا المني من بقايا الأول، فالجنابة واحدة لم تزل بالغسل الأول. و يظهر ضعفه مما تقدم.

و يظهر من السرائر دلالة بعض النصوص عليه، و كأنه صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يخرج من إحليله بعد ما اغتسل شي ء، قال: يغتسل و يعيد الصلاة. إلا أن يكون بال قبل أن يغتسل فإنه لا يعيد غسله» «1».

لكن حيث لم يتضمن السؤال فرض وقوع الصلاة منه، فلا بد من كون

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 596

______________________________

التعرض لها في الجواب إما لقرينة في السؤال علي فرض وقوعها لم تصل إلينا، أو للتفضل منه عليه السّلام ببيان حكمها ابتداء في فرض وقوعها، و لا معيّن للثاني ليدعي أنّ مقتضي الإطلاق وجوب إعادتها مطلقا و لو وقعت قبل خروج البلل، بل يمكن الأول الذي لا يتم معه الإطلاق، لإجمال مفاد القرينة الدالة علي فرض وقوعها، إذ يحتمل فرض وقوعها بعد خروج البلل.

و دعوي: أنّ أصالة عدم القرينة تقضي بالأول.

مدفوعة: بأن الأول مخالف للأصل أيضا، لظهور كلام الإمام عليه السّلام في كون وجوب إعادة الصلاة كوجوب إعادة الغسل فعليا، لفعلية الصلاة، لا معلقا علي فعلها، كما يقتضيه الأول، فالأمر دائر بين مخالفة الظاهر في الجواب بحمله علي بيان حكم تعليقي لا فعلي، و اختفاء القرينة علي فرض الصلاة في السؤال، و لا معيّن للأول.

و لو تمَّ ظهور الرواية في الإطلاق، كان اللازم حمله علي الصلاة الواقعة بعد خروج البلل، لأجل ما سبق.

الرابع: مقتضي إطلاق نصوص المقام لزوم البناء علي كون الخارج منيا، و إن تردد بينه و بين البول و قطع بعدم كونه من الحبائل، فيكتفي به بالغسل له، كما هو مقتضي إطلاق الأكثر و صريح بعضهم، خلافا لما قد يظهر من الشهيد في محكي تمهيد القواعد من إطلاق لزوم الجمع بين الغسل و الوضوء مع التردد بين البول و المني.

و دعوي: أنه مقتضي العلم الإجمالي.

مدفوعة: بانحلال العلم الإجمالي بالتعبد بالتكليف في بعض أطرافه- كما حقق في الأصول- فينحل في المقام بالتعبد بكون الخارج منيا موجبا للجنابة و الغسل.

نعم، لو علم بنقاء المجري من المني قبل خروج البلل، و كان تردد البلل بين المني و البول لاحتمال إنزال جديد كان العلم الإجمالي منجزا، لقصور نصوص

ص: 597

______________________________

المقام عن التعبد بكون البلل منيا.

بل مقتضي التعليل في صحيح محمد بن مسلم المتقدم البناء علي عدمه، فلا ينحل العلم الإجمالي.

و كذا لو كان بال ثمَّ استبرأ بالخرطات، لأن البول أمارة علي عدم المني، و الاستبراء أمارة علي عدم البول فلا منجز لأحد طرفي العلم الإجمالي، بل يكون منجزا لكلا طرفيه.

و ربما يحمل إطلاق الشهيد المتقدم علي ذلك، و قد تقدم عند الكلام في فائدة الاستبراء من البول من مباحث أحكام الخلوة ما ينفع في المقام.

الخامس: لا إشكال ظاهرا في عدم وجوب الغسل من البلل مع سبق البول، بل يبني علي عدم خروج المني، و قد ذكره الأصحاب قاطعين به، كما في مفتاح الكرامة، و تكرر نقل الإجماع عليه في كلامهم.

و يقتضيه- مضافا إلي الأصل- النصوص المتقدمة و غيرها.

و هي و إن اختصت بالبول قبل الغسل، إلا أنّ الظاهر عموم الحكم للبول المتأخر عنه لو خرج البلل بعده- بناء علي ما سبق من عدم وجوب الغسل بمجرد البول- لتنقيته للمجري من بقايا المني، فيدخل في العلة الارتكازية المصرح بها في صحيح محمد بن مسلم المتقدم.

و أما الوضوء، فلا إشكال أيضا في عدم وجوبه مع الاستبراء من البول، و في الجواهر: «حكي عليه الإجماع جماعة نصا و ظاهرا».

و تقدم وجهه في مباحث الخلوة.

و أما مع عدمه، فيجب علي المعروف من مذهب الأصحاب، و في الجواهر:

«بل يظهر من بعضهم دعوي الإجماع عليه، كما هو صريح بعضهم».

و يقتضيه أيضا ما تقدم في مباحث الخلوة، فإنّ المقام من صغريات ما تقدم هناك من وجوب الوضوء مع عدم الاستبراء من البول، كما صرح به في مفتاح

ص: 598

كالمني، سواء استبرأ بالخرطات لتعذر البول أم لا (1)،

______________________________

الكرامة، و عليه يحمل صحيح محمد بن مسلم المتقدم، و نحوه موثق سماعة «1» و حديث معاوية بن ميسرة «2».

لكن قد يظهر من المقنعة عدم وجوبه، لأنه بعد أن ذكر في آداب الغسل الاستبراء بالبول، فإن لم يتيسر فالاجتهاد بالخرطات قال: «و إذا وجد المغتسل من الجنابة بللا علي رأس إحليله أو أحس بخروج شي ء منه بعد اغتساله، فإنه إن كان قد استبرأ بما قدمنا ذكره من البول أو الاجتهاد فيه فليس عليه وضوء و لا إعادة الغسل، لأن ذلك ربما كان وديا أو مذيا».

و قد يظهر أيضا من الشيخ في الاستبصار حيث قال: «فأما ما يتضمن خبر سماعة و محمد بن مسلم من ذكر إعادة الوضوء، فمحمول علي الاستحباب. و يجوز أن يكون المراد بما خرج بعد البول و الغسل ما ينقض الوضوء، فحينئذ يجب عليه الوضوء»، و قريب منه في التهذيب معللا بأنه بعد تحقق الطهارة فلا يجب إعادتها إلا بدليل قاطع.

و لا وجه له بعد ما تقدم.

(1) كما هو ظاهر من أطلق وجوب الغسل مع عدم البول، كالصدوق في الهداية و الشيخ في الخلاف، مدعيا عليه الإجماع، و غيرهما، و حكاه في الجواهر عن جماعة من متأخري المتأخرين.

و يقتضيه إطلاق النصوص المتقدمة، المؤيد بعدم التنبيه للاستبراء بالخرطات في النصوص مع الحاجة له و الإشارة للعجز عن البول في صحيح البزنطي و غيره مما تقدم في استحباب البول قبل الغسل.

خلافا لظاهر المبسوط و الشرائع و النافع من عدم وجوب إعادة الغسل معه

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 9.

ص: 599

______________________________

مطلقا، و قد يظهر من الإرشاد، لأنه أطلق فيه الاستبراء.

و كأنه لدعوي الجمع بذلك بين النصوص المذكورة و النصوص الأخر المتقدمة الدالة علي عدم وجوب الغسل.

أو لدعوي: فهمه من نصوص الاستبراء بها من البول بإلغاء خصوصية البول عرفا، لما هو المرتكز من أنّ الغرض منها تنقية المحل الذي هو المطلوب هنا أيضا.

أو لشمول إطلاق تلك النصوص لما إذا تخلل خروج المني بين البول و الخرطات، فيكون مقتضاه عدم الاعتناء حينئذ بما خرج و إن بلغ السوق، كما في بعض النصوص «1»، بل يبني علي أنه من الحبائل، كما في آخر «2».

و الكل كما تري، لأن الجمع المذكور تبرعي، كما تقدم.

و تنقية الخرطات للمجري من البول لا تستلزم تنقيتها له من المني مع كونه أغلظ منه، و قد يختلف معه في بعض خصوصيات المجري، علي أنّ العلم بتنقيتها له من البول غير حاصل، و اكتفاء الشارع بها في تنقيته منه لا يستلزم اكتفاءه بها في تنقيته من المني.

كما أنّ إطلاق نصوص الاستبراء بالخرطات ظاهر في نفي احتمال البول، دون غيره من نواقض الوضوء، فضلا عن نواقض الغسل.

و لذا لا إشكال في الاعتناء باحتمال المني لو خرج بعد الخرطات و لم يستبرأ منه لا بالبول و لا بالخرطات. مع معارضته بإطلاق نصوص المقام الذي هو أقوي منه في مورد الاجتماع.

هذا، و قد قيد كفاية الخرطات بما إذا تعذر البول في المقنعة و المراسم و السرائر و التذكرة و القواعد و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و محكي الجامع و الذكري و البيان و غيرها، و نسبه في الحدائق لظاهر الأكثر، و في جامع المقاصد و محكي الذكري للأصحاب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 600

______________________________

و يظهر من بعضهم أنه مقتضي الجمع بين الطائفتين المشار إليهما من النصوص.

لكنه تبرعي كسابقه، بل هو أبعد منه، لما في التفصيل بين القدرة علي البول و العجز عنه من العناية التعبدية، حيث لا يفرق بينهما في تنقية الخرطات للمجري من المني.

و مثله ما في الروض و عن الذكري من الاستدلال له بقوله عليه السّلام في خبر جميل: «قد تعصرت و نزل من الحبائل» «1».

لأنه إن ابتني علي حمل التعصر فيه علي التعصر المخرج للبلل- كما هو الظاهر- فهو أجنبي عن الاستبراء، و إن ابتني علي حمله علي عصر المجري الذي هو عبارة عن الخرطات، فهو- مع بعده في نفسه، و لا سيما مع عدم الإشارة إليه في السؤال- لا يقتضي التقييد بحال تعذر البول، بل لعل ظاهر فرض نسيانه التمكن منه، و لا أقل من كونه كالصريح في عدم إحراز تعذره.

و مثلهما في الضعف ما في النهاية من الاكتفاء بتعذر البول في عدم وجوب الغسل بخروج البلل، و إن لم يستبرأ بالخرطات.

و في التهذيب أنه مقتضي الجمع بين نصوص وجوب الغسل و خبري عبد اللّه بن هلال و زيد الشحام المتقدمين في نصوص عدم وجوبه، و احتمله في الاستبصار. و هو كما تري تبرعي أيضا.

نعم، قد يستدل بقوله عليه السّلام في صحيح البزنطي المتقدم في استحباب البول عند الغسل: «و تبول إن قدرت علي البول» «2».

لكن عدم الأمر بالبول مع تعذره لا يستلزم عدم وجوب الغسل بخروج البلل المشتبه حينئذ.

هذا، و في الاستبصار الجمع بحمل نصوص عدم إعادة الغسل علي صورة

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 601

إلا إذا علم بذلك أو بغيره عدم بقاء شي ء من المني في المجري (1).

مسألة 29 إذا بال بعد الغسل و لم يكن قد بال قبله لم تجب إعادة الغسل

مسألة 29: إذا بال بعد الغسل و لم يكن قد بال قبله لم تجب إعادة الغسل، و إن احتمل خروج شي ء من المني مع البول (2).

مسألة 30 إذا دار أمر المشتبه بين البول و المني

مسألة 30: إذا دار أمر المشتبه بين البول و المني (3)،

______________________________

نسيان البول، بشهادة خبري جميل و أحمد بن هلال المتقدمين في نصوص عدم وجوب الغسل. و تقدم هناك المنع من ذلك، فراجع.

(1) لما أشرنا إليه آنفا من انصراف نصوص المقام عن التعبد بكون البلل منيا في الفرض، بل هي بصدد التعبد بخروج المني من المجري مع احتمال وجوده فيه، لأنه الذي يرفعه البول، فيتعين البناء في الفرض علي عدم خروج المني بإنزال جديد وفقا للأصل، بل لعموم التعليل في صحيح محمد ابن مسلم المتقدم.

نعم، قد يدعي عدم نقاء المجري من المني بالخرطات و نحوها لغلظه و لزوجته، و لا يرتفع إلا بالبول الغاسل للمجري.

و فيه: أنه لو سلم بقاء شي ء منه، فهو قد يستهلك في البلل الخارج لقلته، كما قد سبق أنه مع العلم بنوع البلل و عدم ناقضيته لا أثر لاحتمال اختلاطه بشي ء من المني، فلا بد في وجوب إعادة الغسل من احتمال بقاء شي ء معتد به من المني، ليحتمل كونه تمام الخارج أو بعضه بنحو لا يستهلك فيه، بل بنحو لا يصدق علي الخارج غيره و إن احتمل اختلاطه به، فلاحظ.

(2) لما تقدم في أول المسألة السابقة من عدم وجوب الغسل مع معرفة نوع الخارج و أنه غير ناقض للغسل و إن احتمل استصحابه لشي ء من المني.

(3) الظاهر أنّ مراده بالدوران بينهما ليس مجرد العلم الإجمالي بأحدهما، بل لا بد معه من الدوران بينهما بلحاظ التعبد الشرعي، لعدم تعبد الشارع بأحدهما، كما لو خرج البلل بعد الاستبراء من البول بالخرطات مع سبق خروج

ص: 602

فإن كان متطهرا من الحدثين وجب عليه الغسل و الوضوء معا (1)، و إن كان محدثا بالأصغر وجب عليه الوضوء فقط (2).

مسألة 31 يجزي غسل الجنابة عن الوضوء

مسألة 31: يجزي غسل الجنابة عن الوضوء (3) لكل ما اشترط به.

______________________________

المني أو بدونه، حيث يكون البول مانعا من التعبد بأنّ الخارج مني، و الخرطات مانعة من التعبد بكونه بولا، و كذا لو علم بدونهما بنقاء المجري من البول و المني معا، و احتمل نزول البول أو المني من مقرهما، حيث تقصر نصوص المقام عن التعبد بأحد الأمرين، كما ذكرناه غير مرة.

أما مع تعبد الشارع بأنه مني، كما لو خرج قبل الاستبراء منه بالبول، أو بأنه بول، كما لو خرج قبل الاستبراء منه بالخرطات، فينحل العلم الإجمالي و يكتفي بالاقتصار علي ما يقتضيه التعبد الشرعي من الوضوء أو الغسل، كما نبه له قدّس سرّه في مستمسكه، و تقدم منه في المتن في فائدة الاستبراء من البول بالخرطات من مباحث أحكام الخلوة، و تقدم منا هناك و هنا في التنبيه الرابع من تنبيهات فائدة الاستبراء من المني بالبول.

(1) كما هو مقتضي العلم الإجمالي بوجوب أحدهما من دون أن يجزئ عنه الآخر.

(2) لاستصحاب الحدث الأصغر و عدم الحدث الأكبر.

و لا مجال لاستصحاب كلي الحدث معه، علي ما تقدم عند الكلام في فائدة الاستبراء من البول بالخرطات من مباحث أحكام الخلوة، فراجع.

(3) كما صرح به الأصحاب من دون خلاف ظاهر بينهم، بل تظافرت دعوي نفي الخلاف فيه و الإجماع عليه من جملة منهم، كالشيخ و السيدين و الفاضلين و ابن إدريس و غيرهم. و في الجواهر: «للإجماع محصلا و منقولا، مستفيضا غاية الاستفاضة».

ص: 603

______________________________

و يقتضيه- مضافا إلي عمومات إجزاء الغسل عن الوضوء «1» - النصوص الكثيرة الواردة فيه، كقوله عليه السّلام في صحيح زرارة الوارد في بيان غسل الجنابة: «ليس قبله و لا بعده وضوء» «2».

و في المرسل عن محمد بن مسلم: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ أهل الكوفة يروون عن علي عليه السّلام أنه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة، قال: كذبوا علي علي عليه السّلام ما وجدوا ذلك في كتاب علي عليه السّلام قال اللّه تعالي وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» «3».

أما دلالة الآية المذكورة فيه، و التي استدل بها في الخلاف و المعتبر و غيرهما، فهي موقوفة علي كون الجملة المذكورة استثناء من الأمر بالوضوء لمن يقوم للصلاة، لا لبيان واجب آخر معه في حق الجنب، و لا قرينة علي أحد الأمرين في الآية.

نعم، لا يبعد انصراف قوله تعالي فَاطَّهَّرُوا للتطهر التام من الجنابة دون الناقص، فمع فرض كون المراد به الغسل- كما نسبه في المعتبر لإجماع المفسرين- يكون مقتضاه ارتفاع تمام أثر الجنابة بالغسل، و حيث تضمنت الأدلة أنّ الجنابة من نواقض الوضوء، كان مقتضاه إجزاؤه عنه، و خصوصية الانتقاض الحاصل منها غير دخيلة في إجزائه إجماعا.

مضافا إلي أنّ الاقتصار في ذيل الآية الشريفة علي التيمم الواحد مع الجنابة مشعر بعدم الحاجة معها إلا إلي طهارة واحدة يكون ذلك التيمم بدلا عنها، فتأمل جيدا.

علي أنه يكفينا تفسيرهم عليهم السّلام المستفاد من الحديث الشريف، لو تمَّ سنده، لأنهم أعدال الكتاب و تراجمته.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 34 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 604

______________________________

كما أنه استدل في المعتبر و غيره بقوله تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ حَتّٰي تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا «1»، و دلالته موقوفة علي شمول الغاية لقرب الصلاة و عدم اختصاصها بالعبور في المساجد التي هي محالّ الصلاة.

و لا تظهر لنا فعلا القرينة علي أحد الأمرين. و قد تقدم بعض ما يتعلق بالآية عند الكلام في الاستدلال بها علي حرمة دخول الجنب للمسجد، فراجع.

هذا، و في كشف اللثام عن الشيخ قدّس سرّه: «و سمعت أنّ ظاهره- كما في المصباح و مختصره و عمل يوم و ليلة- الوجوب، و لعله لم يرده».

و لا ينبغي التأمل في عدم إرادته له، بعد ما عرفت، فليحمل علي الاستحباب، كما هو المناسب للكتب المذكورة، و الظاهر منه في التهذيب و الاستبصار، لأنه أكّد فيهما علي كونه المراد من صحيح أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته كيف أصنع إذا أجنبت؟ قال: اغسل كفك و فرجك و توضأ وضوء الصلاة ثمَّ اغتسل» «2».

لكن ظاهر غيره من الأصحاب عدم استحبابه، لعدم ذكرهم له في الوضوءات المستحبة و عدم تنبيههم لاستحبابه في المقام، بل هو صريح جماعة منهم، و في الروض و الرياض و عن المختلف و الكفاية و الذخيرة أنه المشهور.

و قد يستظهر من قوله في المنتهي: «لا يستحب الوضوء عندنا، خلافا للشيخ» انفراد الشيخ به عن الأصحاب، و لذا نسب عدم الاستحباب للأصحاب في محكي مجمع الفوائد، بل عن الدلائل: «الظاهر أنه اتفاقي، و ما ذكره الشيخ تأويلا لرواية الحضرمي فغير صريح في أنه مذهب له».

لكن الإنصاف قوة ظهور كلام الشيخ في البناء علي الاستحباب، كما يظهر من قول العلامة في التذكرة «من توضأ معتقدا أنّ الغسل لا يجزيه كان

______________________________

(1) سورة النساء: 43.

(2) الوسائل باب: 34 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 605

______________________________

مبدعا» مشروعيته في الجملة و عدم كونه بدعة لو جي ء به مع اعتقاد إجزاء الغسل عنه.

و كيف كان، فالاستحباب هو الأنسب بالجمع بين الأدلة، و لا مجال مع ذلك لحمل صحيح الحضرمي علي التقية، و إن ذكره غير واحد.

و ما تضمنه بعض النصوص من أنّ الوضوء بعد الغسل بدعة «1» - مع عدم منافاته للصحيح، لأنه تضمن تقديم الوضوء علي الغسل- لا يختص بغسل الجنابة.

و مثله قوله عليه السّلام: «و أي وضوء أطهر من الغسل» «2» و نحوه مما يظهر منه عدم مشروعية الوضوء مع الغسل، لعدم الفائدة فيه.

و أما حمل الطائفتين علي خصوص غسل الجنابة لما تضمنته بعض النصوص من مشروعية الوضوء في بقية الأغسال «3»، فليس هو بأولي من العكس للصحيح المذكور، بل قد يكون العكس أولي، لأنه أبعد عن كثرة التخصيص.

و أما الشهرة و عمل الأصحاب، فقد تكرر منا أنه لا أثر لهما غالبا في المستحبات و المكروهات.

فالأولي حمل هاتين الطائفتين علي بيان عدم وجوب الوضوء، و أنه إنما يكون بدعة إذا اتي به باعتقاد عدم إجزاء الغسل عنه، و إنما يكون غير مفيد بلحاظ الطهر الواجب.

نعم، بناء علي حمل ما تضمن الأمر بالوضوء في بقية الأغسال علي الاستحباب، فحيث استثني منه غسل الجنابة يكون ظاهرا في عدم استحبابه معه، فيعارض الصحيح المذكور و يتعين حمل الصحيح علي التقية، لموافقته للعامة.

اللهم إلا أن يجمع بينهما باختلاف مراتب الفضل، فالوضوء مع غير غسل الجنابة أفضل منه معه.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة.

(2) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(3) راجع الوسائل باب: 35 من أبواب الجنابة.

ص: 606

مسألة 32 إذا خرجت رطوبة مشتبهة بعد الغسل

مسألة 32: إذا خرجت رطوبة مشتبهة بعد الغسل و شك في أنه استبرأ بالغسل أم لا، بني علي عدمه (1)، فيجب عليه الغسل (2).

مسألة 33 لا فرق في جريان حكم الرطوبة المشبهة بين أن يكون الاشتباه بعد الفحص و الاختبار

مسألة 33: لا فرق في جريان حكم الرطوبة المشبهة بين أن يكون الاشتباه بعد الفحص و الاختبار، و أن يكون لعدم إمكان الاختبار من جهة العمي أو الظلمة أو نحو ذلك (3).

______________________________

أو يحمل الصحيح علي كون الوضوء من آداب الغسل، كالمضمضة و الاستنشاق، لا مستحب أجنبي عنه، بخلاف الوضوء لغيره من الأغسال، فتأمل.

1) للاستصحاب.

(2) يعني: ظاهرا، لأنه الأثر الشرعي لعدم البول.

(3) لما تقدم منا في أول المسألة الثامنة و العشرين من أنه مقتضي إطلاق النصوص.

و أما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أنّ مثل التعريض للضياء لا يعد فحصا، فيجب و لا يجوز بدونه البناء علي مقتضي التعبد الظاهري، كما يجب في سائر موارد الرجوع للأصول في الشبهات الموضوعية، و إن اشتهر عدم وجوب الفحص فيها، و الذي لا يجب فيها هو الفحص بالمقدار المعتد به.

ففيه: أنّ الفحص لم يؤخذ بعنوانه في الأدلة كي يهتم بتحقيق صدقه في المقام، بل ليس موضوعها، بقرينة كون التعبد ظاهريا، إلا الشك الحاصل بدون الفحص المذكور في المقام و نحوه من موارد الشبهات الموضوعية.

بل وجوب الفحص المذكور مما لا تناسبه أدلة كثير منها، كأصالة الطهارة و قاعدة اليد و غيرهما.

و منه يظهر عدم وجوب الفحص بالمقدار المذكور حتي مع القدرة عليه، و الظاهر أنّ ذكر عدم التمكن من الاختبار في المتن ليس للتقييد.

ص: 607

مسألة 34 لو أحدث بالأصغر في أثناء الغسل أتمه و توضأ

مسألة 34: لو أحدث بالأصغر في أثناء الغسل أتمه و توضأ (1).

______________________________

(1) كما في الشرائع و النافع و المعتبر و الروضة و المدارك و المفاتيح و كشف اللثام، و مال إليه البهائي في الحبل المتين و حكاه عن والده، كما حكاه في المبسوط عن بعض أصحابنا، و في المعتبر و غيره عن المرتضي، كما حكي عن اليوسفي و صاحب المعالم و الأردبيلي و الشيخ نجيب الدين و غيرهم.

أما الإتمام و عدم البطلان، فهو مقتضي إطلاق ما دل علي وجوب غسل الجنابة، لأنه و إن لم يرد لبيان كيفية الغسل بل وجوبه، إلا أنّ الغسل لغة لما كان هو غسل تمام البدن، و كان غسل الجنابة معهودا عند العرف قبل الإسلام و لم يكن من مخترعات هذه الشريعة المأخوذة منها، كان مقتضي الإطلاق اللفظي و المقامي الاكتفاء فيه بما هو المعروف عند العرف المعهود للناس، و كل شرط زائد عليه محتاج للبيان، و لا أثر لأسباب الحدث الأصغر فيه، لأن الالتفات لتأثيرها تابع لحكم الشارع بوجوب الوضوء منها مع غفلة العرف عنه.

مضافا إلي إطلاقات النصوص الشارحة لغسل الجنابة، لظهورها في بيان تمام ما يعتبر في الغسل، لا خصوص أجزائه.

لكن ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه: أنها إنما تنفي احتمال المانعية، و الظاهر التسالم علي عدمها، و إنما الشك في كونه ناقضا لما وقع من أجزاء الغسل، كالحدث الأكبر الواقع في الأثناء أو بعد الإتمام، و النصوص البيانية الشارحة غير متعرضة لهذه الجهة.

و فيه: أنّ الناقضية في المقام إنما هي بالإضافة إلي طهارة الأجزاء الواقعة التي أشير إليها في مثل قوله عليه السّلام: «فما جري عليه الماء فقد طهر» «1» و قوله عليه السّلام: «و كل شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 608

______________________________

و أما الإضافة إلي رفع الجنابة المترتب علي طهارة مجموع الأجزاء، فالشك إنما هو في المانعية، لأن انتقاض طهارة ما وقع من الأجزاء مانع من ارتفاع الجنابة بإتمام الغسل.

و من الظاهر أنّ النصوص الشارحة واردة لبيان الغسل الرافع للجنابة ذي الآثار المعهودة، لا لبيان ما يحقق طهارة كل جزء جزء بنحو الانحلال، فعدم التعرض فيها لناقضية الحدث الأصغر في الأثناء لما وقع و مانعيته من ارتفاع الجنابة بإتمام الغسل ظاهر في عدمهما بمقتضي الإطلاق، و لذا لا ينبغي التأمل في صلوح النصوص المذكورة للاستدلال علي عدم ناقضية مثل الكلام في الأثناء.

و إنما لم يتعرض فيها للانتقاض بتخلل الحدث الأكبر لوضوحه بسبب عموم ناقضيته و وجوب الغسل له.

نعم، يتجه ما ذكره قدّس سرّه بالإضافة إلي النواقض المتأخرة عن تمامية الغسل، لعدم منافاتها لما وردت النصوص لبيانه، و هو الغسل التام الرافع للجنابة ذي الآثار المعهودة، و إنما توجب ارتفاعه بعد تحققه، و ليست النصوص واردة لبيان أمد بقائه.

و بالجملة: الظاهر نهوض الإطلاقات بالمطلوب، و هي معتضدة بما دل علي جواز تفريق الغسل، كصحيح حريز، و فيه- بعد الحكم بجواز إتمام الوضوء و إن جف-: «قلت: و كذلك غسل الجنابة؟ قال: هو بتلك المنزلة، و ابدأ بالرأس، ثمَّ أفض علي سائر جسدك، قلت: و إن كان بعض يوم؟ قال: نعم» «1» و صحيح إبراهيم بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إنّ عليا عليه السّلام لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه غدوة و يغسل سائر جسده عند الصلاة» «2».

و ما ورد في قصة أم إسماعيل «3»، لتوقع حصول الحدث الأصغر مع طول

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 28 من أبواب الجنابة حديث: 4 و باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 609

______________________________

المدة، فلو كان مبطلا للغسل لكان التنبيه له مناسبا جدا، بل جعله في الجواهر كالصريح في المطلوب.

و إن كان الإنصاف عدم صلوحه للاستدلال، لوروده لبيان جواز التفريق، لا لبيان كيفية الغسل، ليكون له إطلاق من هذه الجهة.

نعم، لو كان عدم تخلل الحدث نادرا كان دالا علي المطلوب تبعا.

لكنه ليس كذلك قطعا، بل لعل المغتسل بطبعه الأولي يتحرز عن الحدث الأصغر، لما فيه من الإخلال ببعض فائدة الغسل، بل قد يتعمد المغتسل المحافظة عليه ليصلي به، كما قد يشعر به صحيح إبراهيم، فتأمل.

ثمَّ إنه قد تمسك سيدنا المصنف قدّس سرّه للمطلوب بأصالة عدم الانتقاض.

و يشكل بأنّ ذلك إن كان أصلا عقلائيا لا يبتني علي الاستصحاب، فهو ممنوع، لعدم وضوح بناء العقلاء عليه.

و إن أراد به استصحاب عدم الانتقاض، فمن الظاهر عدم أخذ الانتقاض موضوعا لأثر شرعي، ليصح استصحابه بلحاظه.

و إن رجع إلي استصحاب طهارة الأجزاء المغسولة، فالظاهر أنّ موضوع الأحكام هي الطهارة من الجنابة، التي هي قائمة بالمكلف و منوطة خارجا بطهارة بدنه بمجموعه، فليست طهارة الأجزاء موضوعا لأثر شرعي يصحح استصحابه.

و ليس مرجع موضوعية الطهارة من الجنابة للأحكام إلي موضوعية كل جزء من أجزاء البدن بنحو الانحلال، و مع قطع النظر عن غيره، ليصح استصحابه، كالطهارة من الخبث القائمة بأجزاء البدن، و التي كان اعتبارها انحلاليا راجعا إلي اعتبار طهارة كل جزء جزء، فيصح استصحاب طهارة الجزء مع قطع النظر عن غيره.

و دعوي: أنّ استصحاب طهارة الجزء من الحدث ليس بلحاظ أحكام الطهارة من الجنابة، بل بلحاظ نفس الطهارة من الجنابة، لترتبها علي طهارة أجزاء البدن بغسلها.

ص: 610

______________________________

مدفوعة: بأنّ الطهارة من الجنابة قد رتبت شرعا علي الغسل بنحو المجموع، لا علي طهارة أجزاء البدن المترتبة عليه بنحو الانحلال، بل هي مقارنة لطهارة الأجزاء أو مترتبة عليها خارجا لا شرعا.

و مثله ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من التمسك باستصحاب صحة الأجزاء السابقة، الذي هو بمعني ترتيب آثارها الشرعية الثابتة لها قبل عروض ما يشك في ناقضيته، و هي كونها مؤثرة في حصول الطهارة بشرط لحوق سائر الأجزاء بها.

إذ فيه: أنّ المستصحب إن كان نفس الأثر المذكور لم يجر الاستصحاب، لأنه تعليقي، و إن كان هو أمر فعلي يستتبع الأثر المذكور فلا نتعقله، و لا دليل عليه، إلا أن يرجع إلي طهارة الأجزاء التي عرفت حالها.

هذا كله في عدم بطلان الغسل بالحدث.

و أما وجوب الوضوء و عدم إجزاء الغسل المذكور عنه، فهو لإطلاق ما دل علي سببية أسباب الحدث الأصغر للوضوء، لشموله للسبب الواقع في أثناء الغسل، من دون فرق بين القول بوحدة الحدث- و أنه يستند لمجموع الأسباب مع تقارنها و لأسبقها وجودا مع تعاقبها- و القول بتعدده تبعا لتعدد السبب- و إن ارتفع الكل بالوضوء أو الغسل الواحد.

أما علي الثاني، فظاهر لعدم صلوح الغسل لرفع الحدث المتجدد في أثنائه، لاختصاص أدلة إجزاء الغسل عن الوضوء و رافعيته للحدث الأصغر بالغسل التام الواقع بعد الحدث الموجب للوضوء، دون بعض الغسل المتمم لما وقع منه قبله.

و أما علي الأول، فلأن السبب المتجدد و إن لم يؤثّر حدثا جديدا، لعدم ارتفاع الحدث السابق قبل إكمال الغسل، إلا أنّ المستفاد ارتكازا من أدلة ناقضية سبب الحدث لسبب الجنابة ناقضيته لجزء السبب أيضا.

بل يأتي من بعضهم دعوي أولويته منه في ذلك، و لذا لو وقع الحدث الأصغر في أثناء الوضوء أو الأكبر في أثناء الغسل أبطله بلا إشكال، و هو مقتضي إطلاق ما دل علي وجوب الوضوء بأسباب الحدث الأصغر و الغسل بأسباب

ص: 611

______________________________

الحدث الأكبر، لأن مقتضاه وجوب الوضوء و الغسل التأمين، لا إتمامهما، فإذا كان من شأن الحدث المذكور إيجاب الوضوء في المقام فلا غسل مجز عنه، لأن المجزي عنه هو الغسل التام، و المفروض وقوع بعض الغسل قبل تحقق سبب وجوب الوضوء، يتعين الوضوء، لانحصار الرافع به.

و منه يظهر ضعف ما في جواهر القاضي و في السرائر و جامع المقاصد و عن الداماد و الخراساني و الشيخ سليمان البحراني من عدم الحاجة للوضوء.

بدعوي: أنه بعد فرض صحة الغسل لما سبق يتعين إجزاؤه عن الوضوء.

حيث ظهر قصور دليل الإجزاء عن المقام.

و دعوي: أنه لما لم ترتفع الجنابة قبل تمام الغسل فلا أثر لأسباب الحدث الأصغر، لاختصاص تأثيرها بحال الطهارة منها.

مدفوعة: بعدم الدليل علي ذلك، إلا ما دل علي إجزاء الغسل عن الوضوء، و هو لا يقتضي عدم تأثير السبب المذكور في حال الجنابة، ليرفع به اليد عن إطلاق ما دل علي اقتضائه الوضوء، بل إجزاء الغسل عن الوضوء في طول تحقق المقتضي له، فمع ما عرفت من قصور دليل الإجزاء في المقام يتعين البناء علي وجوب الوضوء.

هذا، و قد ذهب لوجوب استئناف الغسل بالحدث الأصغر في أثنائه في الهداية و المبسوط و النهاية و المنتهي و التذكرة و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و الروض، و حكاه في الفقيه عن رسالة أبيه و أقره، كما حكي عن الإصباح و الجامع و نهاية الاحكام و التحرير و المختلف و البيان و الذكري و المقتصر و غاية المرام و التنقيح، و نسبه في محكي حاشية الألفية للمحقق الثاني للمتأخرين، و في محكي حاشية المدارك للمشهور.

و استدل له.

تارة: بما في المنتهي و غيره من أنّ الحدث الأصغر ناقض للطهارة الكبري بكمالها فلأبعاضها أولي، و مع الانتقاض إن كان جنبا اغتسل و إلا توضأ، و حيث كان

ص: 612

______________________________

جنبا- لعدم إكمال الغسل- تعين الغسل.

و كأنّ المراد من ناقضيته للطهارة الكبري ناقضيته لها في الجملة، و لو بنحو يمتنع معه ترتيب بعض آثارها مما يناط بالطهارة من الحدث الأصغر.

لكن فيه: أنّ ناقضيته للطهارة الكبري التامة إنما هي بلحاظ رفعها للحدث الأصغر، و لذا يكتفي بالوضوء لو وقع الحدث بعد إكمال الغسل، و انتقاض أبعاضها بلحاظه إنما يقتضي عدم إجزائها عن الوضوء، لا بطلانها رأسا بحيث لا ترفع الحدث الأكبر.

و ما ذكره من اختصاص وجوب الوضوء بغير الجنب ممنوع علي إطلاقه، لانحصار الدليل عليه بما دل علي إجزاء الغسل عن الوضوء، فمع عدم إجزائه عنه في المقام- لما سبق- يتعين وجوب الوضوء و إن كان المحدث جنبا.

و مثله ما في الروض من دعوي الإجماع علي عدم الوضوء مع غسل الجنابة، إذ لا معني لشمول معقد الإجماع للمقام مع ما عرفت من الخلاف.

و اخري: بما أشار إليه في كشف اللثام من أنّ من شأن غسل الجنابة الصحيح رفعه للأحداث الصغار، و هذا الغسل إن أتمه لا يرفع ما تخلله، و نحوه ما فيه أيضا من أنه لا غسل من الجنابة غير مبيح للصلاة، و ما عن الفخر من أنّ إبطال الحدث للغسل في إباحة الصلاة مستلزم لإبطاله في رفع الحدث.

و يندفع بأنّ المتيقن رافعية الغسل للأحداث الصغار الواقعة قبله و إباحته للصلاة من حيثيتها، فعدم رافعيته للحدث المتخلل في أثنائه و عدم إباحته للصلاة من جهته لا يستلزم بطلانه.

و التلازم بين رافعية الغسل للحدث و إباحته للصلاة من جميع الجهات ممنوع.

و ثالثة: بما في المدارك عن كتاب عرض المجالس للصدوق عن الصادق عليه السّلام: «قال: لا بأس بتبعيض الغسل، تغسل يدك و فرجك و رأسك و تؤخر غسل جسدك إلي وقت الصلاة ثمَّ تغسل جسدك إن أردت ذلك، فإن أحدثت

ص: 613

______________________________

حدثا من بول أو غائط أو ريح أو مني بعد ما غسلت رأسك من قبل أن تغسل جسدك فأعد الغسل من أوله» «1».

و عن الذكري: «و قد قيل: إنّه مروي عن الصادق عليه السّلام في كتاب عرض المجالس للصدوق.»، و في الوسائل- بعد روايته عن المدارك-: «و رواه الشهيدان و غيرهما من الأصحاب»، و نحوه الرضوي «2».

لكن في الجواهر: «إنّ ما نقل من رواية المجالس- مع عدم ثبوتها، كما نقل عن جماعة من المتأخرين عدم العثور عليها في هذا الكتاب، و يشعر به نسبة الشهيد له إلي القيل- فاقدة لشرائط الحجية، و لا شهرة محققة، حتي تجبرها، مع ظهور عدم كونها منشأ لفتوي كثير منهم، و لذا لم تقع الإشارة إليها قبل الشهيد».

نعم، قد يؤيده الرضوي، و وجود مضمونه في رسالة الصدوق الأول، التي قيل: إنها متون أخبار، حتي كانوا يرجعون إليها إذا أعوزتهم النصوص.

بل يبعد استناد فتوي الصدوقين لوجوه استنباطية كالوجوه السابقة، لما هو الظاهر من حالهما من الفتوي بمضامين النصوص، فتكون جابرة للرواية المذكورة، و لذا توقف شيخنا الأستاذ قدّس سرّه أو مال للقول المذكور، كما مال إليه في الحدائق.

لكن في بلوغ ذلك مرتبة الحجية أو التوقف عن العمل بالقواعد العامة إشكال ظاهر.

نعم، قد يستدل بإطلاق قوله تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ. وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «3»، فإنه بعد حمل ذيل الآية علي إرادة اجتزاء الجنب بالتطهر- الذي هو الغسل- لا ضمه للوضوء و لو بقرينة النصوص و الإجماع، يكون مقيدا لإطلاق أدلة وجوب الوضوء علي المحدث بالأصغر، و قرينة علي قصوره عن حال الجنابة، و أنّ عليه الغسل حينئذ، لا

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) مستدرك الوسائل باب: 20 من أبواب أحكام غسل الجنابة حديث: 1.

(3) سورة المائدة: 6.

ص: 614

______________________________

الوضوء، و لازم ذلك وجوب الغسل علي المحدث بالأصغر في المقام، لأنه جنب.

و من هنا ذهب بعض مشايخنا إلي وجوب استئناف الغسل و الاجتزاء به.

لكنه يشكل.

أولا: بأنه موقوف علي كون الجنب الذي تضمن الذيل حكمه من أفراد ما تضمن الصدر حكمه، و هو المحدث بالأصغر- لأنه المناسب للأمر بالوضوء- أو خصوص القائم من النوم- كما تضمنه موثق ابن بكير «1» - إذ لو كان في قباله فالآية بصدرها و ذيلها تدل علي حكم كل من الحدث الأصغر و الأكبر، كسائر الإطلاقات الواردة فيهما، من دون أن تتصدي لحكم اجتماعهما، و لا تدل علي كفاية الغسل لرفعهما حينئذ.

و الإجماع و النصوص و إن اقتضت ذلك إلا أنها لا تكون قرينة علي حمل الآية علي الأول، و قد سبق أنّ المتيقن من النصوص و الإجماع الاجتزاء بغسل الجنابة للحدث الأصغر الواقع قبله من دون نظر لما يقع منه في أثناء الغسل، بل مقتضي الإطلاقات فيه صحة الغسل و وجوب الوضوء للحدث المتجدد.

كما لا قرينة أخري علي حمل الآية علي الأول، حتي مرسل محمد بن مسلم المتقدم في المسألة الواحدة و الثلاثين، المتضمن الاستدلال علي عدم وجوب الوضوء مع غسل الجنابة بذيل الآية، لإمكان كون الاستدلال به بلحاظ ناقضية الجنابة للوضوء، فالاكتفاء فيها بغسلها كاشف عن قيامه بفائدة الوضوء.

و ثانيا: بأنه لو تمَّ كون فرض الجنابة من أفراد فرض الحدث الأصغر في الآية، فالمفهوم عرفا إلغاء خصوصيته و حمله علي بيان حكم الجنابة و مانعيتها من الصلاة، مع قطع النظر عن الحدث الأصغر، و لذا كان عندهم من المطلقات الدالة علي وجوب غسل الجنابة، لا علي بيان حكم النوم أو أسباب الحدث الأصغر بخصوصيتها، و أنّ الصلاة لا تجوز بعده مع الجنابة إلا بالغسل، إما لتوقف رفعه حين

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 615

______________________________

الجنابة علي الغسل، أو لتوقف رفع الجنابة معه عليه، لبيان مبطليته للغسل- مع المفروغية عن مانعية الجنابة و توقف رفعها علي الغسل- فإنّ ذلك خلاف المنصرف من الإطلاق في المقام، و إن كان هو مقتضي الجمود عليه، فالمفهوم من الإطلاق أنّ وجوب الغسل مع الجنابة لمانعية الجنابة من الصلاة، لا للزوم الغسل بعد النوم حال الجنابة.

و لذا يستدل بإطلاق الآية عندهم علي وجوب الغسل بعد الجنابة و لو مع عدم النوم و غيره من أسباب الحدث الأصغر.

و هو المناسب لحمل التطهر علي الغسل مع عدم كونه مختصا به لغة و لا عرفا و لا شرعا، حيث لا وجه له إلا المفروغية عن مطهرية الغسل من الجنابة من دون خصوصية للحدث الأصغر.

و حينئذ يكون مقتضي الإطلاق المذكور- كسائر الإطلاقات- الاجتزاء بالغسل الذي يقع الحدث الأصغر في أثنائه، و تحمل الآية علي صورة النوم قبل الشروع في الغسل، كما هو المنصرف منها علي تقدير كون فرض الجنابة في الآية من أفراد فرض النوم، لعدم المناسبة لذلك عرفا إلا بلحاظ كثرة مقارنة النوم للاحتلام.

و من هنا كان الاستدلال بإطلاق الآية لإثبات مبطلية النوم للغسل في غاية الإشكال.

بقي شي ء: و هو أنه بناء علي ما سبق، فالظاهر جواز إيقاع الوضوء قبل إكمال الغسل، لإطلاق أدلته، خلافا لما قد يظهر من العروة الوثقي من وجوب كونه بعد إكمال الغسل، و ربما ينصرف إليه إطلاق غيره.

و عدم صحة الوضوء الرافع للحدث من الجنب غير ظاهر، و لا سيما مع ما تضمنه بعض النصوص من استحبابه منه للنوم و الجماع و الأكل و الشرب.

و عدم مشروعية الوضوء مع غسل الجنابة للنصوص و الإجماع، لا يستلزم عدم صحته حالها في مورد مشروعيته، كما في المقام، فلاحظ.

ص: 616

و لكن لا يترك الاحتياط بالاستئناف بقصد ما عليه من التمام أو الإتمام (1)، و يتوضأ (2).

______________________________

(1) جمعا بين المحتملين. و لو جاء به بنية التمام لتخيل بطلان ما سبق، فالاجتزاء به موقوف علي عدم قصده بنحو التقييد، إذ معه لا يتحقق الإتمام به علي تقدير عدم البطلان، لعدم قصده، فلا يتأدي به الاحتياط.

(2) لعدم إحراز مشروعية الغسل المستأنف ليجزي عن الوضوء. لكن عن السيد علي الصائغ في شرح الإرشاد: «و غير بعيد الاكتفاء باستئنافه إذا نوي قطعه، و كان الحدث متقدما علي الغسل».

و يشكل بعدم الدليل علي بطلان الغسل بنية القطع، بل مقتضي إطلاق نصوصه عدمه، كما أشار لذلك في المدارك و حكي عن الشيخ نجيب الدين.

نعم، قد يتجه الاجتزاء باستئناف الغسل ارتماسا لو كان الحدث في أثناء الغسل الترتيبي- كما جزم بذلك بعض مشايخنا، بناء علي عدم بطلان الغسل بالحدث الأصغر- لما سبق في المسألة السابعة عشرة من بقاء موضوع كل من الغسلين قبل إكمال الآخر، فيصح بتمامه- و إن لم يبطل الأول- و يجزئ عن الوضوء، لتأخره عن الحدث الأصغر.

أما لو كان الحدث في أثناء الغسل الارتماسي- لو كان تدريجيا قابلا لتخلل الحدث- اجتزأ قبل إبطاله باستئناف الغسل ترتيبا، لما ذكرنا، كما يجتزأ بعد إبطاله باستئناف الغسل مطلقا.

لكن ذلك كله موقوف علي ثبوت نوعي الغسل، الذي هو فرع اعتبار الترتيب في غير الارتماسي، إذ لو لم يعتبر الترتيب فيه- كما هو الأظهر- يكون الغسل عبارة عن وصول الماء لتمام البدن من دون خصوص كيفية، و لا يكون العدول من كيفية لأخري في الأثناء إلا متمما لما وقع- علي تقدير عدم بطلانه- لا غسلا تاما مستأنفا، فلا يجزئ عن الوضوء، فلاحظ.

ص: 617

مسألة 35 حكم سائر الأغسال حكم غسل الجنابة في عدم بطلانها بالحدث الأصغر

مسألة 35: حكم سائر الأغسال حكم غسل الجنابة في عدم بطلانها بالحدث الأصغر في أثنائها، بل يتمها و يتوضأ (1).

______________________________

بقي شي ء: و هو أنّ الغسل لو كان آنيا- كما في بعض صور الارتماسي- فقارنه الحدث، أو تدريجيا قارن الحدث إتمامه بحيث لم يقع شي ء من الحدث في أثنائه، فلا إشكال في صحته و لزوم الوضوء لو قيل بذلك في تخلل الحدث للغسل.

و أما لو قيل بصحته و إجزائه عن الوضوء مع التخلل، فيشكل إجزاؤه عنه في المقام، لأن تأثير الحدث في رتبة متأخرة عنه عن حصول سببه مقارنا لارتفاع الأكبر فلا مانع من ترتبه، و لا مجال لارتفاعه بالغسل السابق عليه، بل لا بد فيه من الوضوء.

كما أنه لو قيل ببطلان الغسل مع التخلل، يشكل البناء عليه في المقام، لقصور ما استدل به عليه هناك عنه، كما يظهر بملاحظته.

و استفادته من بعضها، كالمرسل و إطلاق الآية بإلغاء خصوصية موردها لا يخلو عن إشكال، بل منع.

فالمتعين البناء علي صحة الغسل و لزوم الوضوء علي جميع مباني تلك المسألة.

(1) كما قواه في مبحث غسل الحيض من محكي البيان، و جزم به في الروض، مع بنائهما علي البطلان في غسل الجنابة، و نفي الإشكال فيه في المسالك، و جعله قطعيا في الروضة، و في المدارك: «لو تخلل الحدث لغير غسل الجنابة من الأغسال الواجبة و المندوبة، فإن قلنا بإجزائها عن الوضوء اطرد الخلاف، و إلا تعين إتمامه».

أقول: لا إشكال في صحة الغسل و لزوم الوضوء في غسل غير الجنابة لو حكم بذلك في غسل الجنابة، لعين الوجه المتقدم فيه.

كما أنه بناء علي الاكتفاء في غسل الجنابة بإتمامه من دون حاجة للوضوء،

ص: 618

______________________________

فوجوب الوضوء في غيره من الأغسال مبني علي الاحتياج للوضوء معها و عدمه.

و أما بناء علي البطلان في غسل الجنابة، فإما أن نقول بإجزاء هذه الأغسال عن الوضوء أو بعدمه.

أما علي الأول، فإن كان وجه البطلان في غسل الجنابة امتناع تكليف الجنب بالوضوء- كما هو مرجع الوجهين الأولين من وجوه البطلان المتقدمة- تعين البناء علي البطلان هنا.

و إن كان وجهه مرسل الصدوق أو إطلاق الآية، توقف الاستدلال بهما للبطلان هنا علي إلغاء خصوصية موردهما، و هو لا يخلو عن إشكال.

و لذا كان الأوفق بالقاعدة الإتمام، و صحة الغسل، مع ضم الوضوء.

و أما علي الثاني، فلا ينبغي التأمل في عدم مبطلية الحدث للغسل و وجوب الوضوء به، لإطلاق دليل كل منهما، و عدم ورود شي ء من الوجوه المستدل بها هناك علي البطلان.

لكن عن التحرير و مبحث غسل الجنابة من البيان الحكم بالبطلان كغسل الجنابة، و في حاشية المدارك أنّ الخلاف المتقدم مطرد فيه.

و كأنه لما أشار إليه في الروض من دعوي: أنّ الطهارة المطلقة في الأحداث الكبري غير الجنابة تستند لمجموع الغسل و الوضوء، من دون أن يستقل منهما بأثر، كما تستند في الجنابة للغسل وحده، فمع صدور الحدث الأصغر حيث يمتنع ترتب ذلك عليهما فلا بد من بطلان الغسل، لعدم ترتب أثره.

بل عمم في محكي التنقيح احتمال الخلاف للحدث الواقع بعد الغسل قبل الوضوء، لأن الوضوء جزء.

و فيه. أولا: أنّ ذلك إنما يقتضي بطلان الغسل مع تقديم الوضوء عليه أو تأخيره عنه مع وقوع الحدث في أثناء الوضوء، حيث لا يترتب عليهما حينئذ الطهارة المطلقة مع فرض تأثير الحدث، أما مع تأخره عنه فلا مانع من ترتب الطهارة المطلقة علي الغسل و الوضوء اللاحق، سواء كان الحدث في أثناء الغسل

ص: 619

______________________________

أم بعد إكماله قبل الوضوء.

و ثانيا: أنّ ترتب الطهارة المطلقة علي الغسل و الوضوء ليس بنحو المجموعية، بل الانحلال، فيترتب علي الغسل الطهارة من الحدث الأكبر، و علي الوضوء الطهارة من الحدث الأصغر، للإجماع- كما في الروض- علي الاكتفاء بالغسل لترتب ما يمنع منه الحدث الأكبر، كجواز الصوم و قراءة العزائم و دخول المساجد.

و قد تقدم في مسألة تداخل الأغسال من مباحث الوضوء ما ينفع في ذلك.

و حينئذ لا ملزم بالبناء علي مبطلية الحدث الأصغر للغسل، لعدم منافاته لترتب أثره، غاية الأمر كونه مبطلا للوضوء لو قدم علي الغسل.

نعم، لو كان الحدث الأصغر ناقضا للغسل بعد تمامه، كان ناقضا لأبعاضه و مبطلا له لو وقع في أثنائه، كما تقدم نظيره.

و ربما قيل بذلك في بعض الأغسال المستحبة، و يأتي الكلام في ذلك عند الكلام فيها في المقصد السابع إن شاء اللّه تعالي. و هو خارج عن محل الكلام.

هذا، و عن بعضهم صحة الغسل مع لزوم وضوئين، أحدهما لإكمال أثر الغسل، و الآخر للحدث المتجدد.

و كأنه لعدم الدليل علي كون الوضوء المكمل لأثر الغسل رافعا للحدث المتجدد، بل الأصل عدم التداخل.

و يندفع بما تكرر منا في غير مورد- منها الكلام في اعتبار طهارة أعضاء الوضوء قبل غسلها- من أنّ الأصل في الأسباب التداخل، لإطلاق أدلتها بعد عدم المانع من قيام السبب الواحد بأثرين.

و إنما كان الأصل عدم التداخل في التكاليف لامتناع تعلق تكليفين استقلاليين بالماهية المطلقة، الصادقة بصرف الوجود.

نعم، لو انتقض الوضوء المكمل بالحدث المتجدد لتأخره عنه أو وقوعه في

ص: 620

مسألة 36 إذا أحدث بالأكبر في أثناء الغسل

مسألة 36: إذا أحدث بالأكبر في أثناء الغسل، فإن كان مماثلا للحدث السابق، كالجنابة في أثناء غسلها أو المس في أثناء غسله، فلا إشكال في وجوب الاستئناف (1)،

______________________________

أثنائه، تعين إعادة الوضوء له، كما سبق.

(1) فقد ادعي في كشف اللثام الاتفاق علي الإعادة في صورة تجدد الجنابة في أثناء غسلها، و في مفتاح الكرامة أنه مما لا كلام فيه، و في الجواهر: «و لعله لا ريب فيه في كل حدث تخلل في أثناء رافعه».

أقول: أما عدم الاكتفاء بإتمام الغسل الذي وقع الحدث في أثنائه و وجوب استئناف غسل جديد، فهو مقتضي إطلاق ما تضمن سببية السبب للغسل، لأن مقتضاه الإتيان بتمام الغسل، لا الاكتفاء بإتمامه.

و دعوي: أنّ ذلك إنما يتم بناء علي تعدد الحدث أو تأكده تبعا لتعدد أفراد سببه، لانحصار الرافع للحدث المتجدد بالغسل التام.

أما بناء علي وحدة الحدث و عدم قابليته للتأكد، فهو يستند لأسبق الأسباب، و حيث لا يرتفع الحدث قبل إكمال الغسل فلا أثر للسبب المتجدد، ليحتاج للغسل الرافع.

مدفوعة: بأنّ عدم ارتفاع الحدث قبل إكمال الغسل لا يستلزم عدم الأثر للسبب المتجدد، بل حيث كان مقتضي الإطلاق لزوم غسل تام بعده فلا بد أن يكون أثره إبطال ما وقع من أجزاء الغسل، لكون أثره انحلاليا- كما هو مقتضي ما تضمن طهارة كل جزء من البدن بوصول الماء إليه- فيلزم استئنافه. و لا تظهر ثمرة الوجهين المذكورين بذلك، بل بما يأتي.

و أما بطلان الغسل الأول و عدم مشروعية إتمامه لرفع الحدث السابق، فهو يبتني علي ما سبق من تعدد الحدث أو تأكده بتعدد أفراد السبب الواحد و عدمهما، فعلي الأول يتجه مشروعية إتمام الغسل لرفع الحدث السابق، الراجع

ص: 621

______________________________

لتخفيف الحدث، لعدم الدليل علي مبطلية الحدث لما وقع من أجزاء الغسل، و لا علي ارتباطية الأحداث المجتمعة في الارتفاع، بحيث لا يكفي تتميم الغسل السابق في رفع الحدث السابق، بل لعل مقتضي الإطلاق عدمهما و مشروعية الإتمام.

و علي الثاني يتعين بطلانه، كما سبق، فلا يشرع إتمامه، كما ذكره في المتن.

قال في الجواهر: «لعدم تصور التبعيض في المتجانس، علي ما هو الظاهر».

لكن مما سبق يظهر أنه ممكن في نفسه، بل لعله أقرب للمرتكزات و أنسب بالأدلة، و إن كان محتاجا للتأمل.

و قد تقدم الكلام فيه في ذيل الكلام في نية الرفع و الاستباحة من مباحث نية الوضوء، فراجع.

و أما الإجماع علي البطلان، فيشكل التعويل علي دعواه في المقام لو تمت، لإمكان حمل كلام بعضهم علي إرادة عدم الاكتفاء بإكمال الغسل في مقابل ما سبق عن بعضهم في تخلل الحدث الأصغر من الاكتفاء بالإتمام، و ما يأتي من بعضهم من الاكتفاء بذلك في الحدث الأكبر المخالف أيضا.

علي أنه لا يتضح كونه إجماعا تعبديا صالحا للاستدلال، بل لعل منشأه بعض الوجوه الاعتبارية التي لا تخلو عن إشكال.

كما أنّ ما تقدم في مرسل الصدوق من وجوب الإعادة بخروج المني قبل إكمال غسل الجنابة أعم من بطلان الغسل.

نعم، قد يقال: لازم ذلك وجوب إكمال الغسل لو تعذر استئنافه تخفيفا للحدث و عدم مشروعية التيمم لرفعه للقدرة علي الماء بالإضافة إليه و إن تعذر بالإضافة للحدث الجديد و شرع التيمم لأجله، و من البعيد جدا بناؤهم عليه.

اللهم إلا أن يقال: كما يمكن أن يكون ذلك لعدم قابلية الحدث للتأكد و التعدد يمكن أن يكون لأجل أنّ الطهارة المعتبرة ليست انحلالية بالإضافة للأحداث، بل مجموعية، بمعني أنّ المعتبر هو الطهارة من مجموعها، لا الطهارة من كل منها، فمع

ص: 622

و إن كان مخالفا له فالأقوي عدم بطلانه (1)،

______________________________

تعذر الطهارة من المجموع تسقط رأسا، و يكون ذلك كافيا في مشروعية التيمم للطهارة من المجموع.

نعم، لو دل الدليل علي مطلوبية التخفيف تعين البناء عليه، كما في المسلوس و المبطون- علي الكلام المتقدم- و المستحاضة، فتأمل جيدا.

(1) كما في الجواهر، و يقتضيه إطلاق أدلة الأغسال، لظهورها في تباين ماهية الأحداث الموجبة لها و ارتفاع كل حدث بغسله، بل صريح بعضها التفكيك بين الأحداث في الارتفاع، كموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن المرأة يجامعها زوجها ثمَّ تحيض قبل أن تغتسل. قال: إن شاءت أن تغتسل فعلت، و إن لم تفعل فليس عليها شي ء، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض و الجنابة» «1».

و لأجله يتعين حمل ما تضمن نهيها عن غسل الجنابة علي بيان عدم وجوبه، كما هو المناسب للتعليل فيه بقوله عليه السّلام: «قد جاءها ما يفسد الصلاة» «2».

و حينئذ يحتاج بطلان الغسل بطروء الحدث في أثنائه إلي دليل، و الإطلاق يدفعه.

بل موثق عمار ظاهر في عدم الإبطال، لأن الحائض مستمرة الحدث، فيصدر منها الحدث في أثناء الغسل.

و أما ما عن بعضهم من دعوي الإجماع علي فساد غسل الجنابة لو تخلل في أثنائه حدث أكبر.

فغير ثابت، بل استبعد في الجواهر دعوي الإجماع في غير المجانس، و ربما يحمل علي إرادة عدم الاجتزاء بإتمامه، كما ذكرناه في الحدث المماثل.

نعم، ما سبق في وجه بطلان غسل الجنابة بطروء الحدث الأصغر من

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 7. و باب: 22 من أبواب الحيض حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 623

______________________________

استلزام ناقضية الحدث الطارئ بطلان الغسل، لعدم التكليف مع صحته بالوضوء بعد فرض إجزاء غسل الجنابة عنه، لو تمَّ اقتضي البطلان في المقام، لما تقدم من إجزاء كل غسل عن غيره، فعدم إجزاء الغسل الذي تخلله الحدث عن غسل ذلك الحدث مستلزم لبطلانه، لعين الوجه المذكور.

و لعله لذا صرح غير واحد بجريان الخلاف السابق في تخلل الحدث الأصغر هنا. لكن سبق ضعف الوجه المذكور.

و أما مرسل الصدوق المتقدم هناك، فهو- مع ضعفه- مختص بخروج المني دون غيره من أسباب الأحداث الكبري.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من لزوم التعدي إليها، كما يتعدي من البول و أخويه إلي غيرهما.

غير ظاهر، بل غاية الأمر التعدي للجماع الذي هو مثله سبب للجنابة. مضافا إلي ما سبق من أنّ وجوب إعادة الغسل أعم من بطلان الغسل السابق.

هذا، و في الجواهر: «و لو كان العارض الحيض، فالظاهر من كثير من الأصحاب النقض، بل صرح به بعضهم بالنسبة إلي غسل الجنابة، و لعله لقوله عليه السّلام:

«قد جاءها ما يفسد الصلاة» و نحوه».

لكن سبق منا لزوم حمله علي عدم وجوب غسل الجنابة، لا عدم مشروعيته.

نعم، قد يشكل إكمال الغسل حال الحيض بأنه لما كان عبادة فلا بد فيه من الأمر و لو كان غيريا، و لا مجال لذلك مع مانعية الحيض من التكليف بما يتوقف علي الغسل أو الترخيص فيه.

و يندفع بكفاية الابتلاء بذلك بعد الحيض، إذ لا يتوقف التقرب المعتبر في الطهارة علي الأمر الفعلي، بل يكفي فيه التهيؤ لامتثال الأمر في وقته، كما سبق في الوضوء التهيّئي و غيره.

علي أنّ ذلك كما يمنع من إكمال الغسل لو وقع الحيض في أثنائه يمنع من

ص: 624

فيتمه و يأتي بالآخر (1)، و يجوز الاستئناف بغسل واحد لهما (2)،

______________________________

الإتيان بتمامه لو وقع الحيض قبله مع صراحة موثق عمار المتقدم في جواز غسل الجنابة حال الحيض.

و من ذلك يظهر عدم توقف مشروعية الإكمال علي ثبوت الأمر بالكون علي طهارة من الجنابة و لو ندبا حال الحيض، كي يشكل بعدم الدليل علي ذلك، و المتيقن استحباب الكون علي الطهارة المطلقة غير المتيسرة في المقام، كما يظهر من الجواهر.

(1) لقصور أدلة التداخل و نصوص إجزاء الغسل الواحد عن الأغسال المتعددة عن غسل الحدث الواقع في أثناء الغسل، نظير ما تقدم في وقوع الحدث الأصغر في أثناء غسل الجنابة من قصور نصوص إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء عنه.

نعم، لو قيل هناك بالإجزاء تعين البناء عليه هنا، و لعله عليه يبتني ما صرح به غير واحد من جريان الخلاف السابق هنا.

(2) كما في العروة الوثقي، و استدل له سيدنا المصنف قدّس سرّه بإطلاق أدلة تداخل الأغسال.

لكنه إنما يتجه بناء علي بطلان الغسل بتخلل الحدث في أثنائه- المفروض عدمه- أو علي جواز استئناف الغسل بعد الشروع فيه، كالعدول من الترتيبي للارتماسي- الذي لم يفرض في كلامهم في المقام، بل تقدم المنع منه في المسألة الرابعة و الثلاثين- و أما في غير ذلك، فهو موقوف.

إما علي جواز العدول عن غسل كل حدث قبل إكماله إلي غسله مع غيره في ضمن غسل واحد، بأن يكون الغسل الواحد بتمامه لكلا الحدثين، و لو بأن يتضمن التأكيد في الطهارة من الحدث الأول في الأعضاء التي سبق غسلها، نظير ما سبق منا في العدول من الترتيبي للارتماسي.

ص: 625

______________________________

و إما علي التداخل في أبعاض الغسل، بأن يكون الغسل الواحد مختصا بالحدث الثاني فيما غسل من الأعضاء، و مشتركا بين الحدثين فيما لم يغسل منها، فالاستئناف للحدث الثاني و الإتمام لهما معا، و كلا الأمرين محتاج إلي دليل، و لا يكفي فيه البناء علي تداخل الأغسال.

نعم، قد يستفاد من دليل تداخل الأغسال مشروعية التداخل في بعض الغسل تبعا، لغفلة العرف عن التفكيك بينه و بين موردها، لأن المنسبق لهم ابتناء التداخل في تمام الغسل علي التداخل في أبعاضه من دون خصوصية للمجموعية فيه، لارتكاز أنّ منشأه ابتناء الطهارة علي إزالة كل ما يقبل الإزالة من الحدث، و لذا أهمل الأصحاب الإشارة لذلك أو الكلام فيه.

كما يشير إلي مشروعية التداخل في بعض الغسل قوله عليه السّلام في الصحيح:

«فإذا اجتمعت عليك حقوق [اللّه] أجزأها عنك غسل واحد» «1»، و التعليل في الصحيح الآخر بقوله عليه السّلام: «لأنهما حرمتان اجتمعا في حرمة واحدة» «2»، حيث قد يصدق الحق و الحرمة عرفا علي بعض الغسل.

كما قد يستفاد الاجتزاء في المقام بالغسل الواحد من إطلاق قوله عليه السّلام في موثق زرارة: «إذا حاضت المرأة و هي جنب أجزأها غسل واحد» «3»، لعدم ارتفاع الجنابة قبل إكمال الغسل.

و بالجملة: لا ينبغي التوقف بعد النظر في نصوص التداخل و الالتفات لمرتكزات العرف و المتشرعة و ملاحظة حال الأصحاب في التداخل في المقام و الاجتزاء بالغسل الواحد.

لكن لا علي أن يكون من تداخل الغسلين، بل قد يكون من التداخل في بعض الغسل، كما هو مقتضي أكثر الوجوه المتقدمة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 626

و يجب الوضوء بعده إن كانا غير الجنابة (1).

مسألة 37 إذا شك في غسل عضو من الأعضاء الثلاثة أو في شرطه قبل الدخول

مسألة 37: إذا شك في غسل عضو من الأعضاء الثلاثة أو في شرطه قبل الدخول في العضو الآخر رجع و أتي به (2)،

______________________________

و من هنا كان الأولي أو اللازم الإتيان بالغسل بنية رفع الحدثين بالوجه المشروع علي إجماله، من دون تعيين أحدهما بخصوصه، خلافا لما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من الإشكال في مشروعية التداخل في بعض الغسل و الالتزام بالتداخل في تمامه.

(1) بناء علي لزوم الوضوء مع غير غسل الجنابة من الأغسال، حيث يحتاج للغسل علي كل حال.

أما لو كان الأول جنابة، فالإجزاء عن الوضوء يبتني علي كون الاجتزاء بغسل واحد في المقام من باب التداخل في تمام الغسل أو في بعضه، فعلي الأول يتجه الإجزاء، لما تقدم في المسألة الثالثة و السبعين من مباحث الوضوء من إجزاء الغسل المأتي به للأحداث المتعددة عن الوضوء إذا كان فيها جنابة.

أما علي الثاني، فيكون المقام نظير الحدث الأصغر في أثناء غسل الجنابة، الذي تقدم لزوم الوضوء معه، و حيث عرفت عدم ثبوت الأول كان المتعين وجوب الوضوء.

و اما لو كان الثاني جنابة، فلا إشكال في الإجزاء عن الوضوء، سواء كان المقام من التداخل في تمام الوضوء أم في بعضه، لأن ذلك إنما هو بالإضافة للأول الذي وقع الحدث في أثناء غسله، أما بالإضافة للثاني فهو غسل تام له، فيجزئ بناء علي ما سبق في المسألة المذكورة.

هذا، و أما بناء علي إجزاء جميع الأغسال عن الوضوء فالمتعين الإجزاء عنه في المقام مطلقا، كما هو ظاهر.

(2) أما مع الشك في غسل العضو، فلعموم ما تضمن وجوب الاعتناء بالشك

ص: 627

______________________________

في المحل المعتضد بعموم الاستصحاب و قاعدة الاشتغال.

و كذا الحال مع الشك في الشرط المقوم لعنوان العمل، كنية كونه غسلا، لعدم صدق المضي بالإضافة لجزء العمل ذي العنوان الخاص بعدم فرض عدم إحرازه، و لا بالإضافة لنفس الشرط- و هو النية- لأن مضي الشرط بمضي المشروط المفروض عدم إحراز مضيه.

بل لا يبعد ذلك في المباشرة أيضا، لعدم كونها شرطا زائدا في العمل المطلوب، بل مقومة له عرفا، فالشك فيها شك في تحقق الفعل المطلوب، و حيث فرض عدم مضيه و عدم التجاوز عنه لزم الاعتناء بالشك.

و كذا الحال في استيعاب العضو بالغسل و عدم الحاجب، لوضوح رجوع الشك فيهما للشك في الجزء، فيلحقه ما سبق.

نعم، لو تحقق الفراغ بالإضافة إلي تمام العضو بإنهاء المكلف غسله له لم يبعد البناء علي التمامية فيه، لما دل علي عدم الاعتناء بالشك في العمل بعد الفراغ عنه و مضيه، بناء علي ما هو الظاهر من عمومه لجزء العمل و عدم اختصاصه بالعمل التام.

و كذا الحال لو شك في النية بمعني التقرب في مقابل الرياء و نحوه، لكونها شرطا شرعيا زائدا علي عنوان العمل، فتجري فيه القاعدة المذكورة بناء علي التحقيق من جريانها في الشروط و تحقق موضوعها بمضي العمل المشروط بها.

و مثلها سائر الشروط الزائدة علي عنوان العمل، كطهارة الأعضاء و الماء، بل لا يبعد ذلك في إطلاق الماء أيضا، لصدق مضي العمل مع الشك فيه.

ثمَّ إن الظاهر اختصاص محل الكلام بالشروط المعتبرة بوجودها الواقعي التي يكون تخلفها و لو جهلا مبطلا للعمل، حيث يكون الشك فيها موجبا للشك في صحته.

و أما ما يكون معتبرا بوجوده العلمي- كإباحة الماء- فهو خارج عن محل الكلام، حيث لا يقدح العلم بتخلفه بعد مضي محله، فضلا عن الشك، بل يكفي

ص: 628

و إن كان بعد الدخول فيه، لم يعتن به، و يبني علي الإتيان به علي الأقوي (1).

______________________________

إحرازه ظاهرا حين العمل في صحته واقعا.

و قد تقدم نظير ذلك في المسألة الرابعة و الستين من مباحث الوضوء، فراجع.

هذا، و التعبير بالرجوع لا يخلو عن تسامح، لعدم صدقه إلا مع التجاوز عن المشكوك، و المفروض عدمه.

(1) كما في الجواهر، لعموم ما تضمن عدم الاعتناء بالشك في الشي ء بعد التجاوز عنه و مضي محله، الذي هو مرجع قاعدة التجاوز و الفراغ التي استوفينا الكلام فيها في خاتمة الاستصحاب من الأصول.

خلافا للعلامة في ظاهر القواعد و صريح التذكرة و المحقق الثاني في جامع المقاصد، و نسبه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في طهارته إلي أكثر من تأخر عن العلامة كالفخر و الشهيدين و غيرهم، بل ذكر في فرائده أنه يظهر من بعض كونه من المسلمات، و نسبه في الرياض لظاهر الأصحاب.

و كأنه لذكرهم ذلك في الوضوء من دون تعرض لأحكام الشك في الغسل و التيمم، حيث يظهر منهم التحويل في أحكامهما علي الوضوء، و لا سيما مع تعبير بعضهم فيه بالطهارة، و لعله لذا نسب فيه دعوي الإجماع عليه للمدارك، مع أنه إنما ادعاه في مبحث الوضوء بعد قول المحقق: «و إن شك في شي ء من أفعال الطهارة و هو علي حاله أتي بما شك فيه ثمَّ بما بعده»، و استدل عليه بعد ذلك بصحيح زرارة الوارد في الوضوء.

و من الغريب- مع ذلك- ما في الجواهر من عدم عثوره علي ذلك لغير صاحب الرياض.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 3، ص: 629

و كيف كان، فالوجه فيه ظاهر، بناء علي ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه و ذكر

ص: 629

______________________________

احتمالا في كلام جملة منهم من اختصاص قاعدة التجاوز الجارية في أجزاء المركب بالصلاة دون غيرها من المركبات، و أنّ قاعدة عدم الاعتناء بالشك في العمل بعد مضيه راجعة إلي قاعدة الفراغ و مختصة بالعمل التام دون أجزاء العمل الواحد.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك، و أنّ القاعدة المذكورة كما تجري في العمل التام تجري في أجزاء العمل الواحد مع مضي محل الشك فيها، من دون فرق بين الصلاة و غيرها، سواء كانت قاعدة واحدة- كما هو الظاهر- أم راجعة إلي قاعدتين إحداهما قاعدة التجاوز و الأخري قاعدة الفراغ. و تمام الكلام في محله.

فلا بد في الخروج عن العموم المذكور في الغسل و التيمم من مخرج.

و من هنا، فقد يستدل له بما تضمن الاعتناء بالشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ منه، بتعميمه لسائر الطهارات، لفهم عدم الخصوصية للوضوء عرفا، أو لتنقيح المناط و لو بلحاظ اشتراكها في كون المطلوب بها أمرا بسيطا، و هو الطهارة، حيث تكون لأجل ذلك عملا واحدا بنظر الشارع الأقدس، لا يمضي محل الشك فيه إلا بالفراغ عن تمام المركب، و ليست أفعالا متعددة يصدق المضي و التجاوز عن كل منها بالدخول فيما يترتب عليه، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في توجيه عدم منافاة الحكم المذكور في الوضوء لقاعدة عدم الاعتناء بالشك مع مضيه و التجاوز عنه.

لكن فهم عدم الخصوصية عرفا بالنحو الموجب لاستفادة العموم من ظاهر الدليل، مقطوع البطلان.

كما لا مجال لتنقيح المناط بالنحو الموجب للظن بالحكم، فضلا عن اليقين به.

و كون المطلوب بالطهارات أمرا بسيطا، لا يستلزم ملاحظة الشارع الأقدس لها فعلا واحدا مع تركبها في نفسها، و ترتب ذلك الأمر البسيط عليها شرعا، إذ ليس المدعي جريان القاعدة في نفس ذلك الأمر البسيط، بل في سببه الشرعي المركب، و الذي يصدق المضي و التجاوز في كل جزء منه بالدخول في غيره.

ص: 630

______________________________

نعم، قد يصلح ذلك احتمالا لتوجيه ما دل علي الاعتناء بالشك المذكور في الوضوء، من دون أن يقطع بكونه مناطا للحكم، ليتعدي لغيره مما يشاركه فيه.

و لذا اعترف شيخنا الأعظم قدّس سرّه في طهارته بأنّ الوجه المذكور لا يكفي في إلحاق التيمم و الغسل بالوضوء، لعدم القطع بالمناط، بل لا بد فيه من دليل آخر.

و أما الاستدلال عليه بعموم موثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكك بشي ء، إنما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه» «1» بدعوي: أنه بعد تعذر حمل الصدر فيه علي الشك في جزء الوضوء بعد الدخول فيما يترتب عليه، لقيام الدليل علي الاعتناء بالشك المذكور، يتعين حمله علي الشك في الوضوء مع الدخول في غيره، بجعل «من» تبعيضية بلحاظ الوحدة النوعية، التي يكون البعض فيها فردا من الكلي- كما سبق في المسألة التاسعة و السبعين من مباحث الوضوء- فيحمل لأجل ذلك الذيل علي الشك في العمل التام مع عدم الفراغ منه بتمامه، فينفع فيما نحن فيه بعمومه.

فيندفع. أولا: بأنه لم يتضح كون حمل الموثق علي ذلك مقتضي الجمع العرفي بينه و بين ما دل علي الاعتناء بالشك قبل الفراغ من الوضوء، ليرجع إلي ظهوره الثانوي فيه و يكون حجة يتمسك بعمومه، كما أشرنا إليه في المسألة المذكورة.

و ثانيا: بأنّ حمل الشي ء في الصدر علي الفرد من الوضوء لا يستلزم حمل الشي ء في الذيل علي العمل التام، بل لا مانع من عمومه للجزء أيضا، كما هو مقتضي إطلاقه، فيدل علي عدم إهمال الشك في الجزء إلا إذا جازه و إن لم يكمل المركب و يخرج عنه، كما هو مقتضي بقية المطلقات المقتضية عدم الاعتناء بالشك في المقام.

و هو لا ينافي شموله للعمل التام أيضا و اقتضاءه الاعتناء بالشك فيه قبل

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 631

______________________________

الفراغ عنه، و منه الشك في المقام، لأن اجتماع الجهتين في الشك الواحد تقتضي فعلية تأثير الأولي منهما و منعها من تأثير الثانية، لحكومتها عليها، لأن الشك في المركب التام مسبب عن الشك في الجزء، فيقدم التعبد بالصحة من حيثية الشك في الجزء علي التعبد بعدمها من حيثية الشك في المركب بملاك تقديم الأصل السببي علي المسببي.

و ثالثا: بأنّ مفاد الذيل وجوب الاعتناء بالشك في الجملة، في مقابل ما تضمنه الصدر من عدم الاعتناء به رأسا، لأن نقيض السلب الكلي الإيجاب الجزئي، لا الكلي.

و لا أقل من لزوم حمله علي ذلك، جمعا مع ما تضمن عدم الاعتناء بالشك في الجزء مع التجاوز عنه و الدخول في غيره و لو قبل إكمال المركب، أو حمل الشي ء في الذيل علي خصوص الفرد من الوضوء، كما حمل عليه في الوضوء، فيكون أجنبيا عما نحن فيه، فتأمل جيدا.

و أما الإجماع، فلا مجال للتعويل عليه في المقام، لما سبق من قلة من صرح بذلك من الأصحاب، بل لم ينقل عن أحد من متقدميهم، و إنما تعرضوا لذلك في الوضوء، و ادعي الإجماع فيه، غاية الأمر استفادة ذهابهم للتعميم من قرائن لا توجب اليقين بانعقاد الإجماع فيه، فضلا عن اليقين بالحكم الشرعي بسببه.

و من هنا يتعين الاقتصار في الاعتناء بالشك علي الوضوء، و لا يتعدي لغيره من الطهارات، بل يكون المرجع فيه عموم عدم الاعتناء بالشك في الشي ء مع مضي محله و التجاوز عنه.

هذا، و لم يستبعد في الجواهر إلحاق التيمم بالوضوء مع بنائه علي عدم إلحاق الغسل.

و كأنّ وجهه أنّ بدلية التيمم عن الوضوء تقتضي مشاركته له في الاحكام.

لكنه- مع اختصاصه بالتيمم الذي يكون بدلا عن الوضوء- ممنوع، لأن بدليته عنه إنما هي في التكليف به لتحقيق الطهارة، و هي لا تقتضي

ص: 632

______________________________

مشاركته له في سائر أحكامه.

ثمَّ إنه حيث كان موضوع القاعدة مضي محل الشك الذي لا يكون في فرض الشك في أصل الفعل إلا بالدخول فيما يترتب عليه، فلا بد في تحققه في المقام و غيره من ثبوت الترتب بينهما شرعا بقيام الدليل عليه أو الأصل التعبدي، و لا يكفي لزوم الترتيب بقاعدة الاشتغال، إذ لا يحرز بها تحقق موضوع القاعدة، فيكون التمسك بعمومها في المورد المذكور تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي لا كلام في امتناعه.

بل يكون مقتضي قاعدة الاشتغال لزوم تدارك المشكوك.

و دعوي: كفاية وجوب الترتب عقلا في تحقق التجاوز و المضي، فيتم موضوع القاعدة به و تكون قاعدة الاشتغال واردة علي القاعدة المذكورة.

مدفوعة: بأنّ مقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة القاعدة حمل المضي و التجاوز فيها علي خصوص ما يكون بلحاظ الترتب الشرعي، دون العقلي و الاعتباري، علي ما حقق في محله.

نعم، تتأدي الوظيفة في محل الكلام بتدارك المشكوك، و لا يجب إعادة ما بعده، محافظة علي الترتيب الذي تقتضيه قاعدة الاشتغال، حيث يعلم مع الاقتصار عليه بموافقة أحد الأمرين من الواقع الثابت لو لم يكن الترتيب معتبرا واقعا، و الوظيفة الظاهرية الثابتة علي تقدير اعتبار الترتيب، لما سبق من جريان قاعدة عدم الالتفات للشك مع مضي محله.

غاية الأمر أنه يحسن الاحتياط بإعادة ما بعده محافظة علي الترتيب، لتحصيل العلم بإصابة الواقع علي كل حال، الذي هو حسن في جميع موارد الوظائف الظاهرية المؤمّنة، و إن لم يكن لازما.

و منه يظهر لزوم التدارك مطلقا، بناء علي ما سبق منا من عدم وجوب الترتيب بين الأعضاء الثلاثة في الغسل، عملا بالإطلاقات من دون مخرج.

و لا ينافيه ما سبق من عدم جواز تقديم تمام الجسد علي تمام الرأس، لأن

ص: 633

______________________________

ذلك إنما يقتضي البناء بعد إكمال الجسد علي غسل شي ء من الرأس، و هو لا ينافي وجوب تدارك كل ما شك في غسله منه، لعدم تعيين ما ثبت التعبد بغسله منه.

كما يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من تعميم القاعدة للجانب الأيمن، حيث لا يناسب ما سبق منه من التوقف في الترتيب بينه و بين الجانب الأيسر.

و أما ما حكي عنه قدّس سرّه من توجيهه- عند مذاكرته في ذلك- بوجوب الترتيب بينهما عقلا بسبب التوقف المذكور.

فيظهر حاله مما سبق من عدم كفاية الترتب العقلي في تحقق موضوع قاعدة عدم الاعتناء بالشك.

علي أنّ مرجع توقفه ليس إلي استيضاح حكم العقل بالترتيب، بل إلي عدم وضوح الحال عنده و احتمال حجية الإطلاق في نفي الترتيب و رفعه لموضوع حكم العقل، فليس مرجعه إلي الفتوي بالاحتياط و تخطئة القائل بعدم الترتيب، بل إلي الاحتياط عن الفتوي، و لذا لا يجب متابعته فيه علي مقلديه، بل لهم الرجوع لغيره.

نعم، لو تعذر لهم الرجوع لغيره تمَّ حكم العقل بالترتيب في حقهم، لأن المورد من موارد قاعدة الاشتغال علي تقدير فقد الدليل، فلاحظ.

بقي شي ء: و هو أنه عمم في التذكرة وجوب الالتفات للشك في الغسل لما بعد الخروج عن حاله، إلا في المرتمس و معتاد الموالاة فلا التفات عليهما بعد الانتقال عن حال الغسل علي إشكال فيهما. و لا يبعد رجوع ما في القواعد إليه.

و وافقه في جامع المقاصد و كشف اللثام، مع الجزم في الأول بعد الالتفات علي المرتمس و المعتاد، و مع الاستثناء في الثاني صورة الشك في غير الجزء الأخير، حيث حكم فيها بعدم الالتفات إذا انصرف عن الجزء الأخير.

و عن بعض فوائد الشهيد اختصاص الإشكال بالمعتاد خاصة، و عن بعض

ص: 634

______________________________

آخر منها أنه لا إشكال، بل إن ظن بالإيقاع بني عليه، و إلا فلا فرق بينه و بين غيره.

و أطلق في العروة الوثقي الالتفات للشك في الجزء الأخير، و وافقه غير واحد من محشيها، مصرحا بعضهم بضعف احتمال عدم الالتفات مع اعتياد الموالاة، الذي ذكره في العروة الوثقي غير جازم به.

و صرح في كشف اللثام بأنّ إيقاع المشروط بالطهارة بحكم اعتياد الموالاة.

و ظاهر هذه الكلمات عدم جريان قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، التي هي مرجع قاعدة الفراغ مع الشك في الغسل في الجملة.

و حيث يبعد بناؤهم علي تخصيص القاعدة في مورد الشك في الغسل، لعدم المخصص لها ظاهرا، فمن القريب ابتناء جل كلماتهم المتقدمة أو كلها علي قصور القاعدة تخصصا.

و كأنه لأن عدم وجوب الموالاة في الغسل مستلزم لمشروعية الاقتصار علي بعضه اختيارا من دون أن يبطل، فمع الشك في ذلك لا تنهض قاعدة الفراغ بإحراز تمامية الغسل، لأنها إنما تقتضي التعبد بصحة العمل، دون تماميته لو لم تتوقف عليها صحته، كما قد يظهر من التذكرة. أو لعدم إحراز موضوع القاعدة، و هو الفراغ، بالإضافة لتمام الغسل حينئذ، بل المتيقن الفراغ عن بعضه، و لا سيما مع احتمال عدم الإتيان بالجزء الأخير.

لكن يندفع الأول بأنه مخالف لإطلاق عدم الاعتناء بالشك في نصوص القاعدة، و لذا لا إشكال ظاهرا في نهوضها بالتعبد بالتمامية لو شك في فوت بعض الأجزاء القابلة للقضاء أو الموجبة لمثل سجود السهو من دون أن يخل بصحة العمل المأتي به.

و أما الثاني، فيظهر الحال فيه مما ذكرناه عند الكلام في القاعدة من الأصول، و أشرنا إليه في المسألة التاسعة و السبعين من مباحث الوضوء، من أنّ المراد من الفراغ الذي هو موضوع القاعدة هو الفراغ الحقيقي عن عمل المكلف الذي انشغل

ص: 635

______________________________

به، و هو العمل الخارجي المأتي به بعنوانه الخاص من غسل أو وضوء أو صلاة أو نحوها، فإذا أحرز انشغال المكلف بالغسل و أنه قد فرغ عما أتي به بعنوان كونه غسلا تاما بني علي تمامية غسله و إن لم تعتبر فيه الموالاة و لم يكن من عادته المحافظة عليها و كان الشك في الجزء الأخير، لإطلاق القاعدة.

و يشهد بجريان القاعدة حينئذ في الجملة، ما في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة، فقال: إذا شك و كانت به بلة و هو في صلاته مسح بها عليه، و إن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلة. فإن دخله الشك و قد دخل في صلاته فليمض في صلاته و لا شي ء عليه، و إن استيقن رجع فأعاد عليه الماء، و إن رآه و به بلة مسح عليه و أعاد الصلاة باستيقان، و إن كان شاكا فليس عليه في شكه شي ء، فليمض في صلاته» «1»، فإنّه شامل للشك في الجزء الأخير، فالحكم فيه بعدم الاعتناء بالشك و المضي في الصلاة إذا لم يكن عليه بلة مطابق للقاعدة المذكورة ملزم بحمل الأمر بالمسح بالبلة مع وجودها علي الاستحباب، بنحو لا ينافي جريان القاعدة، و لذا لم يؤمر معه باستئناف الصلاة كما أمر به مع اليقين بالنقص.

مضافا للإشكال علي مثل العلامة قدّس سرّه بأنّ دليل وجوب الاعتناء بالشك في العمل قبل الخروج عن حاله و عدم الاعتناء به بعد الخروج عن حاله لما كان واردا في الوضوء، فإن بني علي الجمود علي مورده كان اللازم جريان قاعدة التجاوز في الغسل، فلا يعتني بالشك في الجزء السابق منه بعد الدخول في اللاحق، و يختص الشك الذي يعتني به بالشك في الجزء الأخير، كما سبق من كشف اللثام، و إن بني علي إلحاق بقية الطهارات بالوضوء لزم إلحاقه به في عدم الاعتناء بالشك فيه بعد الانتقال عن حاله، فتأمل.

هذا، و لو لم يحرز الفراغ بالمعني المتقدم، إما لعدم البناء من أول الأمر علي إتمام الغسل، أو لاحتمال العدول عنه بعد البناء عليه، بحيث لم يحرز الفراغ إلا

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الجنابة حديث: 2.

ص: 636

مسألة 38 إذا صلي ثمَّ شك في أنه اغتسل للجنابة أم لا بني علي صحة صلاته

مسألة 38: إذا صلي ثمَّ شك في أنه اغتسل للجنابة أم لا، بني علي صحة صلاته (1) و يغتسل للأعمال الآتية (2)،

______________________________

عن بعض الغسل، لم تجر القاعدة، لعدم تمامية موضوعها، من دون فرق بين الغسل الارتماسي و الترتيبي، مع اعتياد الموالاة في الثاني و بدونه، مع الدخول فيما يعتبر فيه الطهارة و عدمه.

و أما الاعتماد في بعض ذلك علي ظهور الحال- كما قد يظهر من التذكرة- أو علي الظن بالتمامية- كما تقدم عن بعض فوائد الشهيد- فلا مجال له، لعدم ثبوت حجية أحد الأمرين.

و مثله الاستدلال لعدم الالتفات للشك بعد الدخول فيما يعتبر فيه الطهارة حينئذ بصحيح زرارة المتقدم، لاندفاعه بانصراف قوله: «ترك بعض ذراعه أو بعض جسده» إلي الترك السهوي في ظرف القصد للغسل التام الذي ذكرنا تحقق موضوع القاعدة معه، دون ما إذا كان الترك لعدم البناء علي إتمام الغسل- الذي فرض احتماله في المقام- و إلا كان الأنسب التعبير بقوله: رجل صلي قبل إكمال غسل الجنابة.

نعم، لو بني علي أنّ الدخول في مثل الصلاة موجب لمضي محل الشك في الطهارة، اتجه البناء علي تحققها في المقام.

لكن سبق في المسألة السابعة و السبعين من مباحث الوضوء المنع من ذلك، و يأتي في المسألة اللاحقة نظيره.

(1) لقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله، القاضية بالبناء علي صحة الصلاة لمضي الشك فيها بمضيها.

نعم، لو أحدث بالأصغر بعدها قبل الغسل، أشكل البناء علي ذلك، للعلم الإجمالي إما ببطلان صلاته أو وجوب الغسل عليه، أو بصحتها و وجوب الوضوء عليه، كما نبه إليه غير واحد.

(2) لاستصحاب الحدث، و لو لم يجر لتعاقب الحالتين كفت قاعدة الاشتغال بعد عدم جريان القاعدة المتقدمة بالإضافة إلي الأعمال الآتية، لعدم

ص: 637

و لو كان الشك في أثناء الصلاة بطلت و وجب الغسل لها (1).

مسألة 39 إذا اجتمع عليه أغسال متعددة

مسألة 39: إذا اجتمع عليه أغسال متعددة واجبة أو مستحبة أو بعضها واجب و بعضها مستحب، فقد تقدم حكمها في المسألة «73» (2)، فراجع.

مسألة 40 إذا كان يعلم إجمالا أنّ عليه أغسالا لكنه لا يعلم بعضها بعينه

مسألة 40: إذا كان يعلم إجمالا أنّ عليه أغسالا لكنه لا يعلم بعضها بعينه، يكفيه أن يقصد جميع ما عليه (3)، و إذا قصد البعض المعين (4) كفي عن غير المعين، و إذا علم أنّ في جملتها غسل

______________________________

مضيها، و ليست كالأعمال الماضية.

و قد أشرنا في المسألة السابقة قريبا إلي أنّ الدخول في مثل الصلاة لا يوجب مضي محل الشك في الطهارة بنحو يقتضي البناء علي تحققها ليترتب عليه جواز الدخول فيما تعتبر فيه، كما تقدم أيضا في المسألة السابعة و السبعين من مباحث الوضوء.

هذا، و في الاكتفاء بالغسل المذكور عن الوضوء إشكال.

(1) إذ غاية ما تقتضيه قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله هو البناء علي صحة الأجزاء السابقة من الصلاة و واجديتها للشرط، من دون أن تحرز تحقق الغسل، لينفع في إتمام الصلاة.

و قد تقدم تمام الكلام في ذلك في المسألة الثامنة و السبعين من مباحث الوضوء.

(2) و هو الاجتزاء بغسل واحد ينوي به بعضها أو جميعها.

(3) كما هو مقتضي ما سبق من الاكتفاء مع اجتماع الأغسال بغسل واحد لها، و مجرد الجهل بعناوينها الخاصة لا يقدح في ذلك مع قصدها إجمالا.

(4) هذا خلاف فرض عدم العلم ببعضها بعينه.

إلا أن يكون قصده برجاء ثبوته، و حينئذ يشكل الاجتزاء بالغسل المذكور

ص: 638

الجنابة و قصده في جملتها أو بعينه لم يحتج إلي الوضوء (1)، و إذا لم يعلم أنه في جملتها احتاج إليه (2)،

______________________________

عن الباقي، لعدم إحراز مشروعيته بعد احتمال عدم الموضوع له.

إلا أن يكون قصد السبب الخاص لا بنحو التقييد، مع قصد الغسل المشروع علي كل حال و لو بلحاظ غيره من الأسباب المفروض العلم بوجودها إجمالا.

و ربما يكون مراده قدّس سرّه بعدم العلم ببعضها بعينه هو الجهل بخصوص بعضها مع العلم بالباقي، و حينئذ لو قصد البعض المعلوم، فلا إشكال في الإجزاء بناء علي ما سبق.

أما لو قصده وحده مع قصد عدم غيره من الأسباب، فإن كان بنحو التقييد أشكل صحة الغسل، لعدم تحقق قيد الامتثال، بناء علي ما سبق من الإجزاء.

و إن كان بنحو الاعتقاد المقارن أو الخطأ في الحكم أو التشريع فيه مع القصد للغسل المشروع علي كل حال أجزأ، و وجهه واضح. و قد تقدم نظيره في ذيل الكلام في نية الرفع و الاستباحة في الوضوء.

(1) لما تقدم في المسألة الثالثة و السبعين من مباحث الوضوء من أنه مع اجتماع الجنابة مع غيرها يجزئ الغسل المنوي به الجنابة وحدها أو مع غيرها عن الوضوء.

بل تقدم منه و منا إجزاء الغسل عن الوضوء إذا كان أحد الأحداث جنابة، و إن لم تقصد وحدها و لا مع غيرها.

(2) بناء علي عدم إجزاء غسل غير الجنابة عن الوضوء، لأصالة عدم الجنابة فيحرز موضوع وجوب الوضوء.

أو لاستصحاب الحدث الأصغر، بناء علي اجتماعه مع الحدث الأكبر و أنّ الوضوء لأجله.

و أما بناء علي عدم اجتماعه معه و أنّ الوضوء لتتميم رفع الحدث الأكبر،

ص: 639

علي الأحوط وجوبا (1).

______________________________

فلاستصحاب الحدث الأكبر.

و لو فرض عدم جريان الاستصحاب لتعاقب الحالتين، كان الوضوء مقتضي قاعدة الاشتغال.

(1) الظاهر أنّ منشأه عدم جزمه قدّس سرّه بالحاجة للوضوء مع غسل غير الجنابة.

تتميم:

أهمل سيدنا المصنف قدّس سرّه بعض آداب الغسل، المذكورة في النصوص و الفتاوي، و المناسب التعرض لها تتميما للفائدة.

منها: التسمية، كما في الغنية، و نسبه في الحدائق لجملة من الأصحاب، و في المقنعة: «و يسمّي اللّه تعالي عند اغتساله و يمجّده و يسبّحه، فإذا فرغ من غسله فليقل: اللهم طهر قلبي و زكّ عملي و اجعل ما عندك خيرا لي، اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين»، و عن الذكري أنه بعد أن نسب نحو ذلك لابن البراج في المهذب، و استحباب التسمية للجعفي قال: «و الأكثر لم يذكروها في الغسل، و الظاهر أنهم اكتفوا بذكرها في الوضوء تنبيها بالأدني علي الأعلي».

و ظاهر التذكرة التردد في استحبابها.

و يستدل للاستحباب بما تضمن استحبابها لكل أمر ذي بال، كالنبوي المروي عن تفسير العسكري: «كل أمر ذي بال لم يذكر فيه باسم اللّه فهو أبتر» «1»، و الآخر: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم فهو أقطع» «2».

و بالنبوي المروي عن لب اللباب: «إذا اغتسلتم فقولوا: بسم اللّه اللهم استرنا

______________________________

(1) عن سفينة البحار ج: 1 ص: 663.

(2) عن عمدة القارئ ج: 1 ص: 25 و الجامع الصغير ج: 1 ص: 91.

ص: 640

______________________________

بسترك» «1».

و عن الذكري الاستدلال له بإطلاق صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: قال:

«إذا وضعت يدك في الماء فقل: بسم اللّه و باللّه اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين، فإذا فرغت فقل: الحمد للّه ربّ العالمين» «2».

و استشكل سيدنا المصنف قدّس سرّه في إطلاقه بنحو يشمل الغسل، و في الحدائق:

«و هذا الخبر إنما أورده الأصحاب في الوضوء».

لكن إيرادهم له في الوضوء لا يكشف عن وروده فيه، فضلا عن اختصاصه به، بل هو خلاف إطلاقه.

و أما الرضوي: «و تذكر اللّه، فإنه من ذكر اللّه علي غسله و عند وضوئه طهر جسده كله، و من لم يذكر اللّه طهر من جسده ما أصاب الماء» «3».

فهو- مع اضطراب متنه، لعدم مناسبة التعليل لاستحباب الذكر حين الغسل- إنما يقتضي استحباب مطلق الذكر، لا خصوص التسمية التي تضمنتها النصوص الأخر و فتاوي الأصحاب.

ثمَّ إنّ مقتضي صحيح زرارة استحباب التسمية قبل الشروع في الغسل، و أما النصوص الأخر فقد تحمل علي ذلك أو علي استحبابها حين الشروع فيه أو الانشغال به.

كما أنّ مقتضي الجمع بينها استحباب الصور المتباينة التي تضمنتها، و أفضلية ما تضمن الزيادة منها، فلاحظ.

و منها: الدعاء حين الغسل، كما في إشارة السبق و الوسيلة، و يأتي عن المصباح.

أو بعده، كما سبق من المقنعة و عن المهذب.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الوضوء حديث: 2.

(3) مستدرك الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

ص: 641

______________________________

أو فيهما معا، كما عن النفلية و مال إليه في محكي الذكري.

و أطلق في الغنية و الدروس، و كذا في المنتهي مستدلا بموثق عمار: «إذا اغتسلت من جنابة فقل: اللهم طهر قلبي و تقبل سعيي و اجعل ما عندك خيرا لي.

اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين، و إذا اغتسلت للجمعة فقل:

اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق ديني و تبطل به عملي. اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين» «1».

و في خبر محمد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: تقول في غسل الجمعة: اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق بها ديني و تبطل بها عملي، و تقول في غسل الجنابة: اللهم طهر قلبي و زكّ عملي و تقبل سعيي و اجعل ما عندك خيرا لي» «2».

قال الشيخ: «و في حديث آخر: «اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين» «3»»، و لا يبعد ظهور الموثق في استحباب الدعاء بعد الغسل و ظهور الخبر في استحبابه حينه.

و قد تقدم ما في صحيح زرارة و النبوي المروي عن لب اللباب.

و عن مصباح الشيخ: يستحب أن يقول عند الغسل: «اللهم طهرني و طهر [لي] قلبي و اشرح لي صدري و أجر علي لساني مدحتك و الثناء عليك. اللهم اجعله لي طهورا و شفاء و نورا، إنك علي كل شي ء قدير» «4».

و عن النفلية: و يستحب أن يقول في أثناء كل غسل: «اللهم طهر قلبي و اشرح لي صدري و أجر علي لساني مدحتك و الثناء عليك. اللهم اجعله لي طهورا و شفاء و نورا، إنك علي كل شي ء قدير. و يقول بعد الفراغ: اللهم طهر قلبي و زك عملي

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 37 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 3.

ص: 642

______________________________

و تقبل سعيي و اجعل ما عندك خيرا لي اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين» «1». و قد تقدم ما في المقنعة.

و منها: التثليث في غسل الرأس، كما في النهاية، بناء علي ما هو الظاهر من حمله علي الاستحباب، لعدم نسبة القول بالوجوب إليه و لا لغيره من أحد- أو في الأعضاء الثلاثة، كما في المراسم و اللمعة، و نسبه في المستند إلي جماعة، بل قال فيه:

«و الإسكافي استحب للمرتمس ثلاث غوصات يخلل شعره و يمسح جسده في كل منها، و نفي عنه الشهيد البأس، و استظهره والدي. و لا بأس به لذلك».

هذا، و لم أعثر في النصوص علي ما يقتضي تعدد الغسل.

و الاستدلال عليه بما تضمن استحباب التثليث في كل غسل من أغسال الميت «2» بضميمة ما تضمن أنّ غسل الميت كغسل الجنابة «3»، يظهر ضعفه مما سبق في نظيره من الاستدلال علي وجوب تقديم الرأس في غسل الجنابة.

نعم، تضمنت جملة من نصوص غسل الجنابة تعدد الصب فيه، ففي بعضها الاقتصار فيه علي الصب علي الرأس ثلاثا «4»، و في آخر الصب عليه ثلاثا و علي الجسد أو الجانبين مرتين «5»، و في ثالث الصب عليه و علي كل من الجانبين ثلاثا «6»، علي اختلاف بين هذه النصوص في أنفسها و بينها و بين غيرها في بعض الخصوصيات.

و مقتضي استدلالهم فيما تقدم علي الترتيب بين الأعضاء في الغسل بنصوص الترتيب بينها في الصب، فهمهم الغسل من الصب.

و لأجل ذلك قد يستفاد من نصوص تعدد الصب تعدد الغسل، فتكون هي

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 26 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 2.

(2) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت.

(3) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت.

(4) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 4، 8، 9.

(5) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 1، 3. و باب: 38 منها حديث: 6.

(6) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 643

______________________________

الدليل في المقام، بل قد يعمم للارتماسي لإلغاء خصوصية مورد النصوص.

لكن تقدم منع الاستدلال المذكور في ذلك المقام، فالاستدلال في المقام أولي بالمنع- كما صرح به غير واحد- و لا سيما في الارتماسي المبني علي كثرة الماء و سبوغه في المرة الواحدة.

و لعله لذا جعل في إشارة السبق المندوب الصب علي كل من الرأس و الجانبين ثلاثا.

ثمَّ إنه قد تضمنت الهداية و المقنع و الفقيه و المقنعة و غيرها بعض الخصوصيات في الصب من العدد و غيره، لا يبعد سوقها لمحض بيان بعض كيفيات الغسل التي يتيسر بها استيعاب الماء لتمام البدن، من دون أن تكون واجبة و لا مندوبة، لعدم مطابقتها للنصوص التي بأيدينا.

بل لا يبعد حمل النصوص المشار إليها علي ذلك، لاختلافها فيما بينها و مع غيرها اختلافا فاحشا، و ظهور بعضها في خصوصية مورد، ككثرة الشعر المقتضية لكثرة الماء «1»، و ظهور آخر في أنّ ذكر الكيفية لبيان سهولة الغسل و قلة الحاجة فيه للماء، كما يناسبه التعليل في بعضها بقوله عليه السّلام: «إنما يكفيك مثل الدهن» «2».

نعم، لا يبعد استحباب الإفاضة علي الرأس ثلاثا، لتظافر النصوص بالأمر به، و لا سيما بملاحظة صحيح ربعي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «يفيض الجنب علي رأسه ثلاثا لا يجزيه أقل من ذلك» «3».

و منها: الموالاة، كما في إشارة السبق و الغنية [4] و الدروس و اللمعة [5] و جامع

______________________________

[4] كذا في المطبوع منها و نسبه إليها في كشف اللثام، لكن في مفتاح الكرامة: «و لقد تتبعتها في مظانها حرفا حرفا فما وجدته ذكر ذلك و لعله سقط من نسختي».

[5] كذا في المطبوع منها و صرح في مفتاح الكرامة بوجوده في نسختين صحيحتين منها، لكن استثناها في كشف اللثام من كتب الشهيد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 644

______________________________

المقاصد و كشف اللثام و الروضة، و عن المهذب و نهاية الاحكام و باقي كتب الشهيد، و نسبه في الحدائق إلي الأصحاب تارة، و إلي جمع منهم اخري- كما نسبه إليهم في المستند أيضا- و إلي جملة من متأخريهم ثالثة.

و استدل له، أو قد يستدل له.

تارة: بما هو المعلوم من سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله و ذريته المعصومين عليهم السّلام عليها، كما عن الذكري، و زيد عليها سيرة السلف و الخلف من الفقهاء و العلماء علي مرور الأعصار.

و اخري: بالتحفظ من طروء المفسد.

و ثالثة: بما دل علي الأمر بالمسارعة للخير من الآيات «1» و الروايات «2».

و رابعة: بما تضمن الأمر بالكون علي الطهارة، مما تقدم في الوضوءات المستحبة، حيث يستفاد منه استحباب الطهارة من الجنابة نصا أو بالإطلاق أو بالأولوية، و حيث يراد به استحباب الكون علي الطهارة منها في كل آن، كان مقتضاه التعجيل في الغسل و المبادرة في إكماله.

لكن يندفع الأول- بعد تسليم سيرتهم علي الموالاة- بأنّ سيرتهم لا تفيد رجحان الموالاة شرعا، بل قد يكون منشؤها أسهلية جمع الغسل من تفريقه، كما هو المقطوع به من وجه سيرة أكثر المتشرعة.

و يشكل الثاني بأنّ رجحان التحفظ و الاحتياط من طروء المفسد فرع مرجوحية فساد الغسل، و هي في حيز المنع كمرجوحية الإفساد، و إن سبق عند الكلام في عدم وجوب الموالاة من جامع المقاصد ما ظاهره المفروغية عن حرمته.

كما أنّ الثالث إنما يتجه فيما لا يستلزم التعجيل فيه الزيادة منه، كالصلاة.

أما مثل الكون علي الطهارة الذي يستحب في كل آن، فالتعجيل فيه ليس

______________________________

(1) سورة البقرة: 148، آل عمران: 114، 33، المائدة: 48، الأنبياء: 90، المؤمنون: 61، الحديد: 21.

(2) راجع الوسائل باب: 27 من أبواب مقدمة العبادات.

ص: 645

______________________________

من المسارعة في الخير، بل من الازدياد فيه، الذي لا إشكال في رجحانه عقلا تبعا لرجحان ذات الخير شرعا، كما هو مرجع الوجه الرابع.

و من هنا كان هو العمدة في المقام.

لكنه- مع عدم اقتضائه الموالاة بأحد المعنيين المتقدمين في الوضوء، بل بمعني التعجيل بكل جزء مهما أمكن- لا يقتضي كون الموالاة من آداب الغسل المقتضية لكماله، كسائر الآداب المتقدمة، بل رجحانها مقدمة للكون علي الطهارة في أول أزمنة الإمكان.

علي أنه إنما يقتضي المحافظة عليها لو كانت مستلزمة لتعجيل الكون علي الطهارة، أما لو تعذر تعجيله و دار الأمر بين المبادرة في الشروع في الغسل من دون موالاة، و تأخيره مع الموالاة، فلا يقتضي رجحان الثاني، بل لعل الأول أرجح، لما فيه من المبادرة إلي بعض الطهارة، فتأمل جيدا.

و منها: الابتداء بالأعلي في كل من الأعضاء في الترتيبي، كما ذكره في العروة الوثقي، و استظهره في محكي الذكري، لأنه أقرب إلي التحفظ من النسيان، و لأن الظاهر من صاحب الشرع فعله. انتهي.

لكن الأول ممنوع صغري و كبري.

و الثاني يظهر ضعفه مما سبق في الموالاة.

و أما تأييده- كما في كشف اللثام- بما تضمن الأمر بالصب علي المنكبين، بل قد يستدل عليه بذلك و بما تضمن الأمر بالصب علي الرأس، فهو لا يخلو عن إشكال، لأن الأمر المذكور لما كان مسوقا عندهم لبيان وجوب الترتيب بين الأعضاء أشكل استفادة البدء بالأعلي منه، لعدم تعدد الأمر في المقام.

و أما بناء علي عدم سوقه لذلك، فلا يبعد حمله علي بيان الكيفية المتعارفة التي يسهل معها استيلاء الماء القليل علي البدن، لا الكيفية المندوبة، و قد تقدم في تثليث الغسل ما قد ينفع في المقام.

و منها: أن يكون الغسل بصاع، كما ذكره الأصحاب، و ادعي عليه الإجماع في

ص: 646

______________________________

الخلاف و المنتهي و المدارك و المفاتيح و الحدائق، و نفي الخلاف فيه في المعتبر، و في الجواهر: «إجماعا محصلا و منقولا».

للنصوص الكثيرة، كصحيح معاوية بن عمار: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يغتسل بصاع، و إذا كان معه بعض نسائه يغتسل بصاع و مدّ» «1».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يتوضأ بمدّ و يغتسل بصاع. و المد رطل و نصف، و الصاع ستة أرطال» «2»، و زاد فيه في المعتبر و التذكرة- في زكاة الغلات-: «بأرطال المدينة يكون تسعة أرطال بالعراقي».

و صحيح الفضلاء عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهم السّلام أنهما قالا: «توضأ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بمد و اغتسل بصاع، ثمَّ قال: اغتسل هو و زوجته بخمسة أمداد من إناء واحد. و كان الذي اغتسل به النبي صلّي اللّه عليه و آله ثلاثة أمداد، و الذي اغتسلت به مدين، و إنما أجزأ عنهما لأنهما اشتركا فيه جميعا، و من انفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع» «3».

و ما في صحيح زرارة المتقدم في أسباب الجنابة من قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «أ توجبون عليه الحدّ و الرجم، و لا توجبون عليه صاعا من ماء» «4».

و غيرها.

و لا بد من حمل الوجوب في الأخير علي الثبوت شرعا و لو ندبا، و حمل اللابدية فيما قبله علي اللابدية بلحاظ أداء الوظيفة الاستحبابية، بقرينة الإجماع القطعي و النصوص الكثيرة الصريحة في الاكتفاء بأكفّ قليلة، و جري الماء و لو كان قليلا، و ما بلّ اليمين منه أو ملأها، و بإمساسه للبدن و مسحه به و لو بمثل الدهن و غير ذلك «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 32 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 6 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(5) راجع الوسائل باب: 26، 31 من أبواب الوضوء و غيرهما.

ص: 647

______________________________

بقي في المقام أمور.

الأول: أنه ذكر في إشارة السبق و الوسيلة و المعتبر و المنتهي أنّ المستحب هو الغسل بصاع فما زاد، و هو المحكي عن جمل الشيخ و المهذب و التحرير و التبصرة، بل هو معقد الإجماع المدعي في المنتهي و نفي الخلاف في المعتبر.

فإن كان المراد بذلك التخيير في المستحب بين الصاع و الأكثر، بحيث يستند أداء الوظيفة مع الزيادة للمجموع، لا للصاع وحده.

فهو مخالف لظاهر النصوص السابقة، كسائر أدلة التحديد، لأن مقتضي إطلاقها أداء الوظيفة بالحد مطلقا، و مثله ما لو كان المراد أفضلية الزيادة، لعدم الدليل عليه بعد قصور النصوص السابقة عنه.

و إن كان المراد به عدم إخلال الزيادة بأداء الوظيفة بالصاع، أو عدم كراهة الزيادة عليه- كما لعله الظاهر ممّن صرح بذلك.

فهو في محله، لعدم الدليل علي الكراهة، و لأن مقتضي إطلاق النصوص السابقة أداء الوظيفة بالصاع مطلقا و إن كان مع الزيادة بعد أن كان المنصرف من التحديد بالصاع في النصوص و الفتاوي التحديد من طرف القلة فقط، لبيان مطلوبية عدم الاكتفاء بما دون الصاع، لا من طرف الكثرة فقط، لمطلوبية عدم الزيادة عليه، و لا من الطرفين معا.

بل التحديد من طرف الكثرة فقط مما تأباه جميع النصوص، و لا سيما ما تضمن جواز النقيصة عنه مع الاشتراك، و من الطرفين معا لا يناسب ما هو المعلوم من احتياج ضبط مقدار الصاع من الماء خارجا و في مقام العمل بنحو لا يزيد و لا ينقص إلي عناية يصعب تنزيل الإطلاقات عليها.

و لعله إلي هذا يرجع ما في النهاية من جواز الزيادة علي الصاع، و مثله المنتهي، و إن لم يبعد كون مراده الجواز المقابل للحرمة.

و لا ينافي ذلك ما في مرسل الفقيه: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: الوضوء مد، و الغسل صاع، و سيأتي أقوام بعدي يستقلّون ذلك فأولئك علي خلاف سنتي،

ص: 648

______________________________

و الثابت علي سنتي معي في حظيرة القدس» «1».

إذ ليس مفاده إلا النهي عن استقلال الصاع المقتضي للالتزام بالزيادة عليه، لا النهي عن الزيادة في مقام العمل لطوارئ خاصة من دون التزام و لا بناء علي قلة الصاع.

و منه يظهر ضعف ما في الروضة من الاستدلال للتقييد بعدم الزيادة بالمرسل المذكور.

و أما ما دل علي النهي عن السرف مطلقا «2»، و في خصوص الوضوء، كخبر حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إنّ للّه ملكا يكتب سرف الوضوء كما يكتب عدوانه» «3»، فمقتضاه الحرمة و لا يظن الالتزام بها من أحد فيما زاد علي الصاع.

و قد تقدم في الكبائر من مباحث التقليد أنّ الإسراف عرفا هو صرف ما زاد علي الاعتدال في الإنفاق و القصد فيه بلحاظ الجهات العقلائية، كما تشهد به النصوص أيضا، و أنه لا يمكن الالتزام بحرمته علي إطلاقه، بل المتيقن هو حرمة ما أضرّ به بالمال و أفسده عرفا من دون غرض عقلائي، فلو فرض لزومه في الزيادة علي الصاع لم يكن بالالتزام بحرمته بأس.

كما أنّ ظاهر النصوص الكثيرة كراهة مطلق الإسراف و استحباب القصد، و هو الاعتدال بين الإسراف و التقتير بلحاظ جميع الجهات العقلائية، و ذلك جار في المقام.

لكنه لا يقتضي كراهة الزيادة علي الصاع مطلقا، إذ قد لا يكون الماء مالا في بعض الحالات، أو لا يلزم تلفه بالغسل، كمن اغتسل قرب النهر أو عليه، كما قد يكون في الزيادة غرض عقلائي مصحح لإتلاف المال، كسهولة استيلاء الماء علي البشرة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 6.

(2) راجع الوسائل باب: 25، 27، 29 من أبواب النفقات.

(3) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 649

______________________________

و لعله علي ما ذكرنا يبتني قول الشهيد قدّس سرّه في الذكري: «و الشيخ و جماعة ذكروا استحباب الغسل بصاع فما زاد. و الظاهر أنه مقيد بعدم أدائه إلي السرف المنهي عنه».

الثاني: أنّ الجمود علي لسان أكثر النصوص يقتضي صرف الصاع بتمامه في الغسل، دون ما خرج عنه من آدابه كالمضمضة و الاستنشاق، فضلا عن مقدماته، كتطهير مواضع النجاسة من البدن، إلا أنّ الظاهر دخول الآداب في ذلك، لاستفادتها تبعا من إطلاق النصوص، بلحاظ تعارف تهيئة الماء الذي يغتسل به قبل الشروع في الآداب، و لا التفات إليها حينئذ كي يزاد الماء لأجلها، بل يؤتي بها مع الغسل و بمائه، كما لا يبعد استفادتها أيضا من نصوص بيان الآداب و المقدمات الواردة في تعليم الغسل و بيان كيفيته عند السؤال عنه «1»، فإنّ عدم التعرض فيها لزيادة الماء لأجلها ظاهر في إرادة الإتيان بها من الماء المعد للغسل المسؤول عن كيفيته.

بل لا يبعد ذلك في تطهير الفرج، من الجنابة أو البول السابق علي الغسل، حيث يتعارف تأخيره إلي حين الغسل و تعرضت له نصوص كيفية الغسل.

و هو صريح صحيح الفضلاء المتقدم، لقوله عليه السّلام فيه في حكاية غسل النبي صلّي اللّه عليه و آله: «بدأ هو فضرب بيده الماء قبلها فأنقي فرجه، ثمَّ ضربت هي فأنقت فرجها، ثمَّ أفاض هو و أفاضت هي.».

نعم، هو خال عن ذكر آداب الغسل، إلا أنّ من البعيد تركه صلّي اللّه عليه و آله لها، فلعل إهمالها في الحديث، لعدم الغرض في ذكرها.

علي أنّ عدم اشتمال غسله صلّي اللّه عليه و آله المحكي بالحديث عليها لا يمنع من استفادة دخولها في الصاع من الإطلاقات تبعا، كما ذكرنا.

هذا، و قد اقتصر في المدارك علي الاستنجاء، و زاد في المنتهي غسل الذراعين، مستدلّين بالصحيح المذكور، و يحتمل كلا منهما ما في كشف

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب الجنابة و غيرها.

ص: 650

______________________________

اللثام.

و لا يخفي عدم اشتمال الصحيح علي غسل الذراعين، كما أنّ قصوره عن جميع الآداب لا ينافي استفادتها من الآداب، كما سبق.

الثالث: صرحت جملة من النصوص مما تقدم و غيره بأنه مع اغتسال الرجل و زوجته في إناء واحد يجزئ صاع و مد، و لم ينقل استثناء ذلك عن غير ابن سعيد في الجامع من القدماء فيما وصلت إليه عاجلا.

و في الجواهر: «ظاهره الاقتصار علي الرجل و المرأة. و لعل الأولي خلافه، لعدم ظهور الخصوصية. بل التعليل بالشركة و مفهوم قوله عليه السّلام: (من انفرد) يدلان علي خلافه».

لكن عدم ظهور الخصوصية لا يكفي في التعميم، بل لا بد من ظهور عدمها و إلغائها عرفا، و لا مجال له مع مخالفة الحكم للقاعدة و اشتماله علي القسمة بنحو غير عرفي، لأن المرأة أولي بكثرة الماء، بسبب كثرة شعرها غالبا.

و التعليل بالشركة لا يقتضي التعميم بعد أن كان تعبديا غير ارتكازي.

و لا مفهوم للشرطية، لأنها مسوقة لتحقيق الموضوع، إذ ليس الموضوع لها المغتسل، ليكون مقتضي إناطة الحكم فيها بالانفراد عدمه مع عدمه، بل المنفرد بالغسل، و لا يلزم مع انتفائه فرض الغسل، ليتحقق الموضوع للحكم بلزوم الصاع، فتأمل.

علي أنّ القسمة بين الرجل و المرأة مع الاشتراك لما لم تكن بالتناصف، فلا طريق لمعرفة ما يحتاجه كل من الشريكين أو الشركاء غيرهما، لإمكان دخل خصوصيتهما في القسمة.

و من هنا كان الرجوع لإطلاق استحباب الصاع في غير مورد النص أنسب.

و الظاهر أنّ المراد بالاشتراك في النصوص هو الاشتراك في الماء الواحد مع تقارن الغسلين عرفا، لا مع تعاقبهما و اغتسال أحدهما بفضلة الآخر، لانصراف الاشتراك عن مثل ذلك، كالاشتراك في الأكل.

ص: 651

______________________________

هذا، و قد يظهر من الجواهر الميل إلي أنّ استثناء الاشتراك رخصة لا تنافي عموم استحباب الصاع لحال الاشتراك- كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب- لأن فعله صلّي اللّه عليه و آله أعم من ذلك.

و كأنّ مراده به أنّ الاجتزاء بما دون الصاع مع الاشتراك تخفيف مع ثبوت ملاك الصاع. و هو غير بعيد عن مساق النصوص، فلاحظ.

الرابع: المعروف من مذهب الأصحاب أنّ الصاع أربعة أمداد، و قد ادعي الإجماع عليه في الخلاف و الغنية و المعتبر و التذكرة و المنتهي، و ظاهر بعضهم إجماع المسلمين عليه، و إنما الخلاف بينهم فيه للخلاف في مقدار المد.

و كيف كان، فيقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح زرارة المتقدم، و صحيح معاوية بن عمار المتقدم، حيث تضمن اغتسال النبي صلّي اللّه عليه و آله و زوجته بصاع و مد، بضميمة ما تضمن أنه صلّي اللّه عليه و آله اغتسل بخمسة أمداد، كصحيح الفضلاء و غيره. و ما في صحيح الحلبي الوارد في زكاة الفطرة من قوله عليه السّلام: «و الصاع أربعة أمداد» «1»، و نحوه معتبرتا الفضل بن شاذان «2» و مرسل تحف العقول «3»، و حديث الأعمش «4»، و قد يستفاد من غيرها.

نعم، ينافيها موثق سماعة: «سألته عن الذي يجزي من الماء للغسل، فقال:

اغتسل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بصاع و توضأ بمد، و كان الصاع علي عهده خمسة أمداد، و كان المدّ قدر رطل و ثلاث أواق» «5».

و مرسل المروزي: «قال أبو الحسن موسي بن جعفر عليهما السّلام: الغسل بصاع من ماء و الوضوء بمدّ من ماء، و صاع النبي صلّي اللّه عليه و آله خمسة أمداد، و المدّ وزن مائتين و ثمانين

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب زكاة الغلات حديث: 13. و باب: 6 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 18.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب زكاة الغلاة حديث: 9.

(4) الوسائل باب: 6 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 20.

(5) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 4.

ص: 652

______________________________

درهما.» «1».

بل قد يحمل عليه ما عن أبي القاسم الكوفي: «أنه جاء بمدّ، و ذكر أنّ ابن أبي عمير أعطاه ذلك المد، و قال: أعطانيه فلان رجل من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام و قال: أعطانيه أبو عبد اللّه عليه السّلام و قال: هذا مدّ النبي صلّي اللّه عليه و آله، فعيّرناه فوجدناه أربعة أمداد و قفيز و ربع بقفيزنا هذا» «2» حيث قد يحمل مدّ النبي صلّي اللّه عليه و آله علي صاعه، لأن الذي تضمنته النصوص هو اختصاص النبي صلّي اللّه عليه و آله بصاع لا بمد، بل من البعيد شدة اختلاف المد المشهور عن مدّ النبي صلّي اللّه عليه و آله.

و ظاهر الفقيه التعويل علي مرسل المروزي، و لذا نسب في كشف اللثام تحديد الصاع بأربعة أمداد للمشهور، و لم يدّع عليه الإجماع، و قال في الجواهر:

«و المراد بالصاع علي المشهور- بل كاد يكون لا خلاف فيه، و ربما حكي الإجماع عليه، و هو الأصح- أربعة أمداد».

لكن حديث أبي القاسم- لو تمَّ سنده- لا يكفي في تنزيله علي الصاع ما سبق، بل غاية الأمر أن يكون مضطربا متروكا.

و مرسل المروزي- مع ضعفه في نفسه- قد تضمن تحديد المدّ بما لا مجال للبناء عليه، و لا يوافقه فيه حتي الموثق، لأن الثلاث أواق التي تضمنها الموثق مائة و عشرون درهما، فإذا أسقطت من المائتين و ثمانين درهما التي تضمنها المرسل يبقي مائة و ستون، و هي لا تطابق الرطل الذي تضمنه الموثق، سواء حمل علي المدني أم العراقي.

فالعمدة الموثق، و هو لا يدل علي تحديد الصاع، لأنه تضمن تحديد المد علي خلاف القدر المعروف، فلعله بتقديره له يقارب ما عليه الأصحاب، بحمل الرطل فيه علي العراقي، فيزيد الصاع عليه عما عليه الأصحاب ثمانين درهما، لا أنه يزيد عليه بمقدار الربع، و إنما يخالف ما عليه الأصحاب في نسبة ماء الوضوء لماء

______________________________

(1) الوسائل باب: 50 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 6.

ص: 653

______________________________

الغسل.

علي أنه لا ينهض بالخروج عن النصوص السابقة مع كثرتها و اعتبار جملة منها و تعويل الأصحاب عليها.

و لعله لذا رمي في المعتبر الرواية المخالفة للمشهور بالشذوذ، فقال: «و الصاع أربعة أمداد باتفاق العلماء، إلا في رواية شاذة لنا».

و أما حمل الموثق و نحوه علي الصاع الذي كان يغتسل به النبي صلّي اللّه عليه و آله مع زوجته، فلا ينافي النصوص السابقة. فهو مخالف للظاهر جدا.

علي أنّ هذه النصوص لما تضمنت تقدير المد علي خلاف ما تضمنته النصوص الأخر، فحمله علي ذلك لا يرفع التنافي بينها.

و مثله حمله علي خصوص صاع الماء الذي هو أثقل من غيره، فإنّ الصاع كيل يختلف وزنه باختلاف الأجسام المكيلة.

لوضوح منافاته لصريح صحيح زرارة المتقدم الوارد في تقدير الصاع في الماء.

علي أنّ الصاع و إن كان كيلا، إلا أنّ إطلاق تحديده بالوزن يقتضي الاكتفاء بالوزن الخاص في جميع الأجناس، نظير ما تقدم في الرطل في مباحث الكر.

فالعمدة ما ذكرنا من عدم التعويل علي الموثق و نحوه في قبال غيرها.

ثمَّ إنّ النصوص كما تضمنت ذلك تضمنت تحديد الصاع بأنه ستة أرطال، و المد بأنه رطل و نصف، و هو محمول علي الرطل المدني الذي هو رطل و نصف بالعراقي، كما صرح به في ذيل صحيح زرارة الذي زاده في المعتبر و التذكرة.

و في صحيح محمد بن أحمد بن يحيي عن جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني الذي لا تبعد وثاقته [1] قال: و كان معنا حاجا، قال: «كتبت إلي أبي

______________________________

[1] حيث قد تستفاد وثاقته من رواية الصدوق بإسناده عنه مترضيا عنه و مترحما عليه، علي ما حكي، و من عدم استثناء القميين له من رجال كتاب نوادر الحكمة، و رواية الكشي أنّ أباه الذي هو من وكلاء الإمام الهادي عليه السّلام كتب إليه عليه السّلام مع جعفر ابنه هذا، لظهور أنّ ظاهر هذا اعتماد أبيه عليه. بل لو صدر من مثل هذا ما ينافي الوثاقة لهجره الأصحاب، و لما كان المناسب من مثل محمد بن أحمد بن يحيي صاحب كتاب نوادر الحكمة مرافقته في طريق الحج و روايته عنه و إيداع روايته في كتابه.

ص: 654

______________________________

الحسن عليه السّلام علي يد أبي: جعلت فداك إنّ أصحابنا اختلفوا في الصاع. فكتب إليّ:

الصاع بستة أرطال بالمدني و تسعة أرطال بالعراقي. قال: و أخبرني أنه يكون بالوزن ألفا و مائة و سبعين وزنة» «1».

و في خبر إبراهيم بن محمد الهمداني الذي لا يخلو عن اعتبار [2]: «أنّ أبا الحسن صاحب العسكر كتب إليه:. الفطرة عليك و علي الناس كلهم. تدفعه وزنا ستة أرطال برطل المدينة و الرطل مائة و خمسة و تسعون درهما، يكون الفطرة ألفا و مائة و سبعين درهما» «3».

و خبر علي بن بلال: «كتبت إلي الرجل عليه السّلام أسأله عن الفطرة، و كم تدفع؟

فكتب: ستة أرطال من تمر بالمدني و ذلك تسعة أرطال بالبغدادي» «4».

نعم، قد ينافيها ما في صحيح محمد بن الريان: «كتبت إلي الرجل أسأله عن الفطرة و زكاتها، كم تؤدي؟ فكتب: أربعة أرطال بالمدني» «5»، بضميمة ما هو المعلوم من أنّ الفطرة صاع. لكن كما يمكن ابتناؤه علي مخالفة النصوص السابقة في قدر الصاع يمكن ابتناؤه علي مخالفة نصوص الصاع في الفطرة، كما خالفتها جملة من النصوص المتضمنة الاكتفاء بنصف الصاع في بعض الأصناف «6» و بأربعة

______________________________

[2] فقد رواه الشيخ عن المفيد و ابن عبدون عن الحسين بن علي بن شيبان- الذي هو من مشايخ الإجازة- عن علي بن حاتم القزويني- الذي وثقه النجاشي- عن محمد بن عمر- الذي لا يبعد كونه ابن سعيد الزيات الثقة العين، لتمييزه برواية علي بن حاتم عنه- عن الحسين بن الحسن الحسيني- الذي ترحم عليه الكليني في باب مولد علي بن الحسين عليه السّلام و قال فيه الشيخ: (فاضل)- عن إبراهيم ابن محمد الذي هو من وكلاء الإمام الهادي عليه السّلام، فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 5.

(6) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب زكاة الفطرة.

ص: 655

______________________________

أرطال من اللبن «1»، فلا مجال للخروج به عما سبق. بل قد يحمل علي الفقير الذي يجزيه أقل من صاع- كما احتمله في الوسائل- أو علي خصوص اللبن، أو أنّ الأرطال تصحيف الأمداد- كما ذكرهما الشيخ- أو أنّ الأربعة تصحيف الستة- كما عن الوافي- أو غير ذلك.

ثمَّ إنّ في كشف اللثام عند الكلام في تحديد الصاع قال: «و عن البزنطي: هو خمسة أرطال. قال: و بعض أصحابنا ينقل ستة أرطال برطل الكوفة. قال: و المد رطل و ربع. قال: و الطامث تغتسل بتسعة أرطال».

لكن ما ذكره غير ظاهر المأخذ، مخالف لجميع النصوص السابقة.

نعم، حكم الطامث مطابق لخبر الحسن الصيقل «2». و يمكن تنزيله علي ما سبق في الجنب بتنزيله علي الرطل العراقي، الذي قيل: إنّه المنصرف من إطلاق الرطل- و إن لم يثبت كما سبق في مباحث الكر- كما يمكن حمله علي الرطل المدني، لاستحباب الزيادة للحائض، كما يأتي.

و أما ما تضمن مماثلة غسل الحيض لغسل الجنابة، فهو- لو تمَّ- إنما يقتضي استحباب إيقاعه بالصاع، و لا يمنع من أفضلية إيقاعه بالأكثر.

كما أنّ ما حكاه عن بعض الأصحاب يبتني علي حمل الرطل في صحيح زرارة علي العراقي، الذي لا مجال له بعد ما سبق، أو علي مرسلة الصفار، ففي مكاتبته إلي أبي محمد عليه السّلام: «كم حدّ الماء الذي يغسل به الميت، كما رووا أنّ الجنب يغسل بستة أرطال من ماء، و الحائض بتسعة، فهل للميت حدّ من الماء الذي يغسل به؟.» «3».

بدعوي: أنّ سوق أرطال الجنب مساق أرطال الحائض ظاهر في اتحادها قدرا، فتحمل علي العراقي الذي قيل: إنه المنصرف من إطلاق الرطل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب زكاة الفطرة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الحيض.

(3) الوسائل باب: 27 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 656

______________________________

لكن يشكل: بأنّ سوقها في كلام الصفار إنما يدل علي اتحاد قدرها بنظره، و هو لا يكشف عن وحدة سياقها في كلام الإمام عليه السّلام.

علي أنّ دعوي: انصراف الرطل للعراقي قد عرفت هنا عدم ثبوتها.

فربما تحمل التسعة أرطال للحائض علي المدني، للأمر بزيادة الماء لها، حيث ورد في بعض النصوص تحديده بالفرق «1» الذي قيل: إنه بلا اختلاف بين الناس ثلاثة أصوع، و ربما قيل: إنه أكثر من ذلك.

هذا، و حيث ظهر أنّ الصاع أربعة أمداد و ستة أرطال بالمدني و تسعة بالعراقي، و كان الرطل المدني مائة و خمسة و تسعين درهما، و هي تساوي مائة و ستة و ثلاثين مثقالا و نصفا، و كان الرطل العراقي مائة و ثلاثين درهما، و هي تساوي واحدا و تسعين مثقالا- علي ما سبق في تحديد الكر- يكون الصاع ثمانمائة و تسعة عشر مثقالا.

و حيث كان المثقال أربعة غرامات و ربعا تقريبا، يكون الصاع ثلاثة كيلو غرامات و أربعمائة و واحدا و ثمانين غراما إلا ربعا تقريبا، و هو يزيد عما اشتهر في عصورنا كثيرا، كما سبق نظيره في المد عند الكلام في مستحبات الوضوء، حيث ذكرنا هناك أنه يكون ثمانمائة و سبعين غراما تقريبا.

و بملاحظة ما سبق في مباحث الكر يتضح أنّ منشأ الاختلاف، الاختلاف في قدر المثقال.

و منها: عدم اغتسال الرجل بفضل المرأة، ففي المقنع: «و لا بأس أن تغتسل المرأة و زوجها من إناء واحد، و لكن تغتسل بفضله و لا يغتسل بفضلها».

و لم أعثر عاجلا في غيره علي مثل ذلك.

و قد يحمل علي الكراهة، كنهيه عن الوضوء بفضل الجنب و الحائض، بقرينة تصريحه في الهداية بجواز الوضوء بفضلهما، و كذا في الفقيه لكن مع عدم وجود غيره.

و كيف كان، فإن كان المراد حرمة سؤر الجنب، فلا مجال له بعد صراحة

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 657

______________________________

النصوص بطهارته «1» و جواز استعماله، و إن كان المراد كراهته، فقد سبق في سؤر الحائض اختصاص كراهة سؤر الجنب بما إذا لم تكن مأمونة، و لذا صرحت النصوص المتقدمة و غيرها باغتسال النبي صلّي اللّه عليه و آله مع زوجته، بل بعدها بفضلها معللا بقوله صلّي اللّه عليه و آله: «ليس الماء جنابة» «2».

و منه يظهر أنه لا مجال للبناء علي خصوصية الغسل في الكراهة لو كان مراده ذلك.

نعم، تقدم كراهة سؤر الحائض مطلقا.

و منها: عدم الاستعانة فيه في المقدمات القريبة، كما في العروة الوثقي، و كأنّ الوجه فيه ما سبق في الوضوء، و هو قوله صلّي اللّه عليه و آله في موثق السكوني: «خصلتان لا أحب أن يشاركني فيها أحد: وضوئي، فإنه من صلاتي.» «3».

و النصوص المتضمنة «4» الاستدلال بقوله تعالي فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «5».

حيث لا يراد بكون الوضوء من الصلاة في الموثق إلا مقدميته لها، كما أنها هي الملحوظة في النصوص المذكورة المتضمنة تطبيق الإشراك في العبادة علي الإعانة في الوضوء، و الغسل يشارك الوضوء في المقدمية المذكورة.

لكن سبق أنّ المناسبات الارتكازية تقتضي حمل الموثق إلي الإرشاد لزيادة الثواب، بلحاظ أنّ أفضل الأعمال أحمزها، و لكل مقدمة أجرها إذا أتي بها بداعي التوصل لذيها، و لا يظن من أحد إنكار ذلك أو التشكيك فيه في الغسل و غيره حتي في المقدمات البعيدة.

و إنما الكلام في المرجوحية المساوقة للكراهة الشديدة المناسبة للتنفير الذي تضمنته النصوص المذكورة المستشهد فيها بالآية الكريمة، و الواردة في

______________________________

(1) الوسائل باب: 7، 8 من أبواب الأسآر، و باب: 32 من أبواب الجنابة و غيرها.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الأسآر حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 3.

(4) تقدمت هذه النصوص و مصادرها في مكروهات الوضوء.

(5) سورة الكهف: 110.

ص: 658

______________________________

النهي عن صب الماء للوضوء، و قد ذكرنا أنّ ما تضمنته من تطبيق الإشراك في العبادة- و هي الصلاة- علي الصب لما لم يكن عرفيا أشكل التعدي منه لغير الصب من مقدمات الوضوء القريبة، فضلا عن البعيدة، فالتعدي من الوضوء فيه للغسل أولي بالإشكال.

هذا، و قد تقدم في الوضوء ما ينفع في المقام لو فرض عموم الحكم له، فلا نطيل بذكره.

ثمَّ إنه ربما يذكر للغسل آداب أخر، لا مجال لإطالة الكلام فيها، إما لسبق التعرض لها، كأفضلية الغسل الترتيبي من الارتماسي. أو لعدم اختصاصها بالغسل، بل ترجع إلي خصوصية الماء أو المكان أو نحوهما، كالغسل بالمياه المكروهة- المتقدم التعرض لبعضها في الأسآر و غيرها، و منها الغسل بالماء المشمّس، الذي يظهر حاله مما تقدم في مكروهات الوضوء- أو تحت السماء عاريا. أو لخروجها عن آداب الغسل حقيقة، كتأخير الغسل مطلقا أو بعد النوم، لرجوعه إلي كراهة البقاء علي الجنابة، و لا دخل له بكمال الغسل.

و من هنا، لنكتف بهذا المقدار من الكلام في غسل الجنابة. و الحمد للّه ربّ العالمين، و له الشكر علي تسهيله و تيسيره، و نسأله أن يتم علينا نعمه بقبول الأعمال و ترتيب الثمرة عليها. إنه أرحم الراحمين، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

و كان الفراغ من ذلك ليلة الثلاثاء، الثامن عشر من شهر جمادي الآخرة، سنة ألف و ثلاثمائة و تسع و تسعين، لهجرة سيد المرسلين، عليه و آله أفضل الصلوات و أزكي التحيات، في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرّف علي صاحبه الصلاة و السلام.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة الجليل حجة الإسلام و المسلمين السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته. و منه سبحانه نستمد العون و التوفيق.

كما انتهي تبييضه بقلم مؤلفه الفقير ضحي اليوم المذكور بعد تدريسه، حامدا مصليا مسلما.

ص: 659

المجلد 4

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة كتاب الطهارة

تتمة المبحث الرابع في الغسل

المقصد الثاني في غسل الحيض
اشارة

المقصد الثاني

في غسل الحيض (1)

و فيه فصول:

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام علي سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

(1) ظاهر جملة من الأصحاب أن الحيض اسم عين جامد، و هو عبارة عن الدم الخاص، حيث عرف به أو وصف بصفاته في المبسوط و السرائر و المراسم و الوسيلة و المعتبر و الشرائع و النافع و التذكرة و المنتهي و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و الروض و الروضة و غيرها، فيكون اشتقاق الفعل و الوصف منه، حيث يقال:

حاضت المرأة، و هي حائض، بلحاظ خروجه منها، نظير قولنا: بال الصبي و باضت الدجاجة بلحاظ خروج البول و البيضة منهما، مع أن كلا من البول و البيض اسم جنس جامد.

و قد يظهر من غير واحد أن منشأ تسميته بذلك سيلانه من الرحم، أو سيلانه بدفع، أو اجتماعه فيه، لأن هذه الامور معاني الحيض بحسب أصل اللغة، و إن احتمل في المعتبر كون تسميته بذلك ابتدائية بلحاظ خصوصية الدم، قال: «كما يقال: حاضت الأرنب إذا رأت الدم و حاضت السمرة إذا خرج منها الصمغ الأحمر».

و كيف كان، فظاهر أكثرهم كون ذلك معناه لغة أو عرفا من دون أن يكون معني شرعيا أو اصطلاحيا و به صرح في الجواهر مدعيا أنه الذي يظهر بعد إمعان

ص: 5

______________________________

النظر و التأمل في كلمات أهل اللغة و غيرها. قال: «و ليس له نقل شرعي إلي معني جديد. و احتماله كاحتمال أن الحيض في اللغة اسم من أسماء المعاني و هو السيل أو سيل دم مخصوص- و هو الذي رتب الشارع علي خروجه الأحكام- ضعيفان».

لكن كلمات جملة من اللغويين شاهدة بكونه من أسماء المعاني، مصدرا لحاضت، فقد ساقه كذلك كالمحيض في الصحاح و التبيان و مجمع البيان و نهاية ابن الأثير و لسان العرب و القاموس و مجمع البحرين و حكاه في مفتاح الكرامة عن المغرب، و في لسان العرب عن غير واحد.

كما حكي عن الأزهري قوله: «و المحيض و الحيض اجتماع الدم إلي ذلك المكان»، و في التبيان: «و أصل الباب الحيض: مجي ء الدم لأنثي علي عادة معروفة»، و في مجمع البحرين: «و الحيض اجتماع الدم … و الحيضة المرة الواحدة من الحيض»، و في نهاية ابن الأثير: «فأما الحيضة بالفتح فالمرة الواحدة من دفع الحيض و نوبه»، و نحوه في لسان العرب، مع وضوح أن المرة و الدفعة و النوبة من صفات الأفعال، لا الأعيان، و لم يشر في شي ء منها إلي مجيئه بمعني الدم بنحو الاشتراك- كما ذكروا ذلك في البول- فضلا عن الاختصاص.

نعم، في مفردات الراغب: «الحيض الدم الخارج من الرحم علي وجه مخصوص في وقت مخصوص، و المحيض الحيض … ». لكن لا مجال للخروج به عمّا سبق، و لا سيما مع مطابقته للمعني العرفي و مناسبته لهيئة الحيض و اشتقاقاته المختلفة من اسم الزمان و المكان و المصدر و غيرها.

كما لا مجال مع ذلك لدعوي: أنه بمعني الدم شرعا، و إن صرّح به في التذكرة و المنتهي و الروض، لعدم الدليل علي خروج الشارع عن المعني اللغوي و العرفي، بل هو خلاف الأصل و بعيد في نفسه، لخلوه عن الفائدة المصححة له، و مخالفته لظاهر إضافة الدم إليه في النصوص، حيث يبعد كونها من إضافة العام للخاص.

و مجرد إطلاقه في بعض النصوص علي الدم لا يكشف عن نقله إليه، لأن

ص: 6

______________________________

الاستعمال أعم من الحقيقة، بل الظاهر ابتناؤه علي التسامح في إطلاق الشي ء علي متعلقه، كما هو كثير في استعمالات العرف و الشرع.

و مثله ما يظهر من المدارك و احتمله في كشف اللثام من كونه المعني الاصطلاحي له. فإنه و إن لم يكن في الاصطلاح مشاحة، إلا أن ثبوت الاصطلاح بتصريح من عرفت لا يخلو عن إشكال مع إهمال جملة من الأصحاب التعرض لذلك، و شيوع إضافة الدم إليه في كلماتهم- حيث يبعد كونها من إضافة العام للخاص، كما سبق- و تصريح بعضهم- كالحلبي في إشارة السبق- بأنه خروج الدم المخصوص. فلا يبعد كون مبني تعريفه بالدم في كلام من سبق علي التسامح أو الخطأ في تشخيص المعني اللغوي و العرفي لا تحديد معني اصطلاحي له مخترع.

و أشكل من ذلك: الاقتصار في التذكرة و المنتهي و الروض و المدارك في بيان المعني اللغوي علي السيل أو الاجتماع أو نحوهما مما سبق التعرض له في بيان منشأ التسمية.

حيث يظهر من ذلك عدم معهودية الحيض بالمعني الخاص في اللغة و العرف السابق، و أنه من مستحدثات الشارع، أو الفقهاء، لتعلق الغرض به بسبب أحكامه الشرعية، كالإسلام و الوضوء و الأذان و الإقامة و نحوها مما كانت تسميتها بلحاظ مناسبتها لمفاهيم لغوية عامة من دون أن تكون معهودة قبل الشريعة لأهل اللغة، مع وضوح أن الحيض ليس كذلك، بل هو معروف بين الناس بما له من المعني الخاص مع قطع النظر عن أحكامه الشرعية، كما يشير اليه قوله تعالي: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذيً «1»، و لذا كان موردا للأحكام و الآثار العملية في كثير من الأعراف و الأديان غير المرتبطة بالإسلام، فهو كسائر المفاهيم العرفية التي أخذت موضوعا للأحكام الشرعية، كالجنابة و المني و البول و غيرها.

و أما تصدي الشارع الأقدس لتمييزه بالصفات و تحديد مدته و شروطه و نحو ذلك، فليس مبنيا علي اختراعه لمفهومه، بل لتحديد مصاديقه دفعا للاشتباه أو الخطأ

______________________________

(1) سورة البقرة: 222.

ص: 7

______________________________

فيها، كذكر صفات المني، و لذا لم يرد السؤال عن مفهومه في النصوص.

و منه يظهر أن ما في المبسوط و الشرائع من أخذ ثبوت الحد لقليله في تعريفه ليس حدا شارحا لمفهومه بل رسما لتحديد مصاديقه، كما أن ما في الشرائع و غيره من أخذ بعض الأحكام الشرعية في تعريفه- كدخله في انقضاء العدة- ليس صالحا لتحديد مصاديقه أيضا، لأن تشخيص الحكم فرع تشخيص مصداق موضوعه، فلا يكون علامة له، بل هو إشارة لمفهومه إجمالا بسبب معهودية أخذه في موضوع الحكم المذكور.

و قد تحصل مما سبق: أن الحيض و إن كان له مفهوم عام بحسب أصل اللغة- كالسيلان أو الاجتماع أو نحوهما- إلا أنه بما له من المعني المعهود الخاص معروف بين الناس قبل الإسلام مع قطع النظر عن أحكامه.

و بذلك المفهوم صار موضوعا للأحكام الخاصة ككثير من المفاهيم العرفية، من دون أن تكون أحكامه سببا في معروفيته، فضلا عن أن تكون مأخوذة فيه، و هو عبارة عن خروج الدم الخاص من المرأة فهو اسم معني و مصدر لحاضت المرأة، و لم يثبت خروج الشارع أو الفقهاء عن المعني المذكور و إرادتهما منه الدم الخاص ليكون اسما جامدا.

ص: 8

الفصل الأول في سببه
تحديد مصاديق الحيض

الفصل الأول في سببه و هو خروج دم الحيض الذي تراه المرأة في زمان مخصوص غالبا (1)،

______________________________

(1) الظاهر عدم سوق الوصف المذكور للتقييد و الاحتراز، لأن غلبة الاعتياد في الزمان من لوازم الحيض غير المفارقة له، و إنما المفارق له فعلية الاعتياد، بل هو للتوضيح و الإشارة لماهية الحيض بالوصف المعهود له، كما جري عليه في المنتهي و التذكرة و القواعد، كما أن ذكره للإشارة لماهية الحيض إجمالا، لا للرجوع إليه في مقام تشخيص فعلية أحكام الحيض أو عدمها واقعا أو ظاهرا عند الشك للعمل عليها، لعدم صلوح الغلبة بنفسها لذلك.

و مثله في ذلك توصيفه فيها و في السرائر و الغنية و الشرائع و المعتبر و غيرها بغلبة ثبوت الصفات الخاصة له، من السواد أو شدة الحمرة و الغلظ و الحرارة و الدفع علي اختلافهم في بيانها.

نعم، مقتضي إطلاق ذكر هذه الصفات له من دون تنبيه علي كونها غالبية في المقنعة و المبسوط و النهاية و المراسم و الوسيلة و غيرها، الإرجاع إليها في مقام العمل و اناطة معرفة الحيض بها وجودا و عدما.

إلا إن ذلك- مع أنه لا مجال له في نفسه، كما يظهر مما يأتي إن شاء اللّه تعالي- مخالف لظاهر بعض كلماتهم، لفرض اشتباه الدم فيها مع ذلك و الإرجاع لمميزات أخر، مع عدم اشتباه هذه الصفات غالبا، فلا يبعد إرادتهم غلبة اتصاف الحيض بهذه الصفات- كما صرح به من سبق- فيجري فيه ما تقدم.

ص: 9

سواء خرج من الموضع المعتاد أم من غيره (1)، و إن كان خروجه بقطنة (2)، و إذا انصب من الرحم إلي فضاء الفرج و لم يخرج منه أصلا ففي جريان حكم الحيض عليه إشكال (3).

______________________________

غاية الأمر كون الصفات المذكورة مرجعا عند الاشتباه في بعض الموارد حسبما دلت عليه النصوص، علي ما يتضح في محله إن شاء اللّه تعالي.

(1) لإطلاق ما دل علي سببية الحيض للغسل كأدلة سائر أحكامه، و قد سبق أن الحيض من الأمور العرفية، و هو متقوم بنوع الدم و كيفية خروجه، فهو عبارة عن خروج الدم المتجمع في الرحم و المندفع منه بمقتضي طبيعة مزاج المرأة، من دون خصوصية لموضع الخروج المعتاد. و لذا طبق علي السلقلقية- كما في لسان العرب- أو السلقلق- كما في القاموس- و هي التي تحيض من دبرها.

و قد تضمن بعض أخبار فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام: أنه جبه بعض النساء بذلك و نحوه «1»، و لا مجال لجريان ما تقدم في ناقضية البول و الغائط لاختلاف المقامين في الأدلة. فراجع.

(2) بلا إشكال ظاهر. لصدق الحيض في المقام عرفا، كما يناسبه ما في غير واحد من النصوص من التعبير عنه برؤية الدم.

نعم، قد ينافيه تعريف الحيض في كلام غير واحد من اللغويين بسيلان الدم، لما تقدم من بعضهم من أن أصله السيلان، لظهور السيلان في نزول الدم و خروجه بنفسه. لكن لا يبعد ابتناؤه علي غلبة ذلك فيه كسائر الصفات المذكورة في كلامهم، أو علي أن المراد سيلانه من الرحم.

و كيف كان، فلا مجال للخروج به عما ذكرنا.

(3) كما في العروة الوثقي و محكي نجاة العباد و جملة من حواشيهما.

______________________________

(1) راجع الاختصاص طبع النجف الاشرف صفحة 296- 300، مستدرك الوسائل باب: 37 من أبواب الحيض.

ص: 10

______________________________

و كأنه لعدم وضوح صدق الحيض به، ليرفع اليد عن أحكام الطاهر الثابتة بالعمومات- كجواز الاستمتاع بها- أو بالأصل- كجواز دخولها المساجد- حيث لا بد في الخروج عن العموم و الأصل من دليل قاطع.

و أما استصحاب عدم الحيض فلا مجال له، لأنه من استصحاب المفهوم المردد الذي لا يجري علي التحقيق.

و أما دعوي: أن المأخوذ في نصوص التحيض هو الخروج و الرؤية، و مقتضاه عدم التحيض مع عدمهما.

فمندفعة بعدم العثور علي ما يظهر منه إناطة التحيض بخروج الدم و إنما وصف بالخروج عند التعرض لمخرجه و لمنبعه، كقوله عليه السّلام: «إن دم الاستحاضة و الحيض ليس يخرجان من مخرج واحد» «1»، و هو أجنبي عما نحن فيه.

و أما الرؤية فهي و إن ورد إناطة التحيض بها، إلا أنه ليس لبيان حد التحيض بالدم ليكون له مفهوم صالح للاستدلال، بل لبيان وجوب التحيض بالدم، كقوله عليه السّلام: «كلما رأت المرأة في أيام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض، و كلما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض» «2».

مع أنه بعد معلومية عدم توقف التحيض علي الرؤية لا بد من حملها علي الطريقية إما لخروج الدم للظاهر أو لخروجه لباطن الفرج، و لو كان الأول أنسب في نظائر المقام لم يبعد كون الثاني أنسب في المقام لما يأتي، و لا سيما بملاحظة ورود ذلك في الطهر «3».

مع أن المراد به الطهر في باطن الفرج لما يأتي من الاكتفاء في بقاء الحيض ببقاء الدم فيه. فتأمل جيدا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 3.

(3) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض، و باب: 27 منها حديث 5، 6، و باب 49 منها و غيرها.

ص: 11

و إن كان هو الأظهر (1)

______________________________

(1) كما حكاه قدّس سرّه عن شيخه الجواهري. و قد يوجه بصدق الحيض عرفا، لأنه أمر تقتضيه طبيعة المزاج و ما تقتضيه طبيعة المزاج هو اندفاع الدم من الرحم لباطن الفرج، و ليس خروجه للظاهر إلا لأن مقتضي طبع السائل النزول للسافل.

و يؤيد ذلك نصوص الاستبراء «1» الدالة علي بقاء الحيض ما دام الدم في باطن الفرج، لإلغاء خصوصية البقاء في ذلك و فهم عدم الفرق بينه و بين الحدوث عرفا.

و لا سيما مع ظهور بعض نصوصه في مفروغية السائل عن بقاء الحيض ببقاء الدم في باطن الفرج، لفرضه الشك في الطهر مع فرض انقطاع الدم «2»، فلو كان الحيض عرفا منوطا بظهور الدم لم يكن وجه لفرضه ذلك، بل كان المناسب له فرض الطهر تبعا لانقطاع الدم، و إن حكم الشارع ببقاء الحيض تعبدا.

كما يؤيد أيضا بما ورد في الاستحاضة التي لا تثقب الكرسف، مع وضوح كون استمرار خروج الدم فيها حدثا جديدا، لا بقاء للحدث الأول، و لذا يجب له تجديد الوضوء أو الغسل، حيث يظهر من ذلك أن المناط في تحقق الحدث خروج الدم لباطن الفرج، فجعل ذلك قرينة علي نظيره في الحيض قريب جدا.

و دعوي: ورود ذلك في بقاء الاستحاضة لا في حدوثها، كما هو الحال في نصوص الاستبراء من الحيض، فلو لم يتعد من البقاء للحدوث لم تنفع نصوص الاستحاضة، و لو تعدي له كفت نصوص الاستبراء.

مدفوعة بأن الاستئناس بنصوص الاستحاضة ليس بلحاظ دلالتها علي بقاء الاستحاضة بخروج الدم لفضاء الفرج لإثبات صدق الحيض في المقام ليتوجه عليه ما ذكر، بل بلحاظ دلالتها علي أن خروج الدم لفضاء الفرج سبب لحدث جديد، و لذا

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 2، 3، 4.

ص: 12

______________________________

يجدد له الغسل أو الوضوء، كما ذكرنا، و ينفع ذلك في تجدد حدث الحيض.

علي أنه يبعد جدا الالتزام بأنه مع انقطاع الاستحاضة لحظة لو وضعت المرأة الكرسف ثم توضأت أو اغتسلت كان لها أن تصلي بذلك الوضوء صلوات كثيرة و إن علمت رجوع الدم لها و إصابته للكرسف ما لم يثقبه و يخرج للظاهر، بل هو خلاف المستفاد من مجموع أدلتها عرفا، مع وضوح أن خروج الدم المتجدد استحاضة جديدة، لأن النقاء المتخلل بين الدميين في الاستحاضة طهر، و ليس كالنقاء المتخلل بين الدميين في الحيض.

و بالجملة: البناء علي تحقق الحيض بمجرد نزول الدم من الرحم لفضاء الفرج قريب جدا، و إن كان الأمر محتاجا للتأمل.

لكن في موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في المرأة تكون في الصلاة فتظن أنها قد حاضت. قال: تدخل يدها فتمس الموضع، فإن رأت شيئا انصرفت، و إن لم تر شيئا أتمت صلاتها» «1»، فإن الاكتفاء في الفحص بمس الموضع الذي يراد به ظاهر الفرج و عدم طلب إدخال الإصبع و نحوه لباطنه ظاهر في توقف التحيض علي خروج الدم للظاهر. و به يخرج عما سبق لو تم في نفسه.

ثم إن المصرح به في محكي نجاة العباد بعد استشكاله في الحكم هو أن مقتضي الاحتياط ترتيب أحكام الحائض. و الظاهر أن مراده الجمع بينها و بين أحكام غير الحائض، لأن لها أحكاما إلزامية لا يعلم سقوطها، و مقتضي الاحتياط ترتيبها.

و لذا صرح في العروة الوثقي و محكي حاشية المحقق الخراساني قدس سرّه علي نجاة العباد و غيرهما بأن الاحتياط بالجمع بين أحكام الطاهر و الحائض. لكن عن بعض حواشي نجاة العباد لزوم الاحتياط بالجمع بين أحكام الحائض و المستحاضة.

و قد احتمل شيخنا الأستاذ قدّس سرّه كون المراد به ما لو خرج بعد استقراره في باطن الفرج بنحو لا يحكم عليه وحده بالحيضية، كما لو نقص زمانه عن أقل الحيض،

______________________________

(1) الوسائل باب: 44 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 13

و لا إشكال في بقاء الحدث ما دام باقيا في باطن الفرج (1).

مسألة 1: إذا افتضت البكر فسال دم كثير و شك في أنه من دم الحيض أم من دم العذرة أو منهما

(مسألة 1): إذا افتضت البكر فسال دم كثير و شك في أنه من دم الحيض أم من دم العذرة (2) أو منهما (3) فإن كانت مطوقة بالدم فهو من العذرة و إن كانت مستنقعة فهو من الحيض (4).

______________________________

و كان بضميمة زمان استقراره في باطن الفرج بقدره أو أكثر، حيث يتردد الخارج للظاهر بين أن يكون بعض الحيض و ان يكون استحاضة.

و أما احتمال كون زمان مكثه في باطن الفرج محكوما بالاستحاضة فلا وجه له. و كأنه لأن الخروج للظاهر إن كان معتبرا في الحكم بالحيض كان معتبرا في الحكم بالاستحاضة، لأنهما من باب واحد.

لكن سبق شدة استبعاد اعتبار خروج الدم للظاهر في الاستحاضة. مع أنه لا مجال لترتيب أحكام الاستحاضة مع خروج الدم للظاهر، لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن المفروض العلم بكونه دم الحيض الخلقي في المرأة.

و أما ما ذكروه من أن كل دم غير محكوم بالحيضية فهو استحاضة فالمتيقن منه ما إذا شك في نوعه، لا ما إذا علم نوعه و لم يحكم عليه بالحيضية لعدم خروجه للظاهر في بعض مدة أقل الحيض لضعف دفع أو لحبس أو نحوهما.

اللهم إلا أن يفرض في المقام الشك في نوع الدم حيث يحكم بأنه حيض مع اجتماع شروطه- و لو لقاعدة الإمكان- و بأنه استحاضة مع فقدها. فتأمل.

(1) كما يظهر من نصوص الاستبراء علي ما سبق.

(2) و هي بضم العين البكارة.

(3) احتمال كون الدم منهما غير مذكور في النصوص و لا في الفتاوي- فيما تيسر لي من فحص- و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

(4) كما في الفقيه و المقنع و المبسوط و النهاية و الوسيلة و التذكرة و المنتهي و عن

ص: 14

______________________________

الذكري و غيرها. و لعله إليه يرجع قوله في الدروس: «و يتميز من العذرة بتلوث القطنة فيه لا بتطوقها».

و يشهد به ما في صحيح خلف بن حماد عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليهما السّلام و قد دخل عليه بمني: «فقلت له: إن رجلا من مواليك تزوج جارية معصرا لم تطمث فلما افتضها سال الدم، فمكث سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيام، و إن القوابل اختلفن في ذلك فقال بعضهن دم الحيض، و قال بعضهن دم العذرة، فما ينبغي لها أن تصنع؟ قال: فلتتق اللّه فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتي تري الطهر و ليمسك عنها بعلها، و إن كان من العذرة فلتتق اللّه و لتتوضأ و لتصلّ و يأتيها بعلها إن أحب ذلك. فقلت له: و كيف لهم أن يعلموا ما هو حتي يفعلوا ما ينبغي؟ قال:

فالتفت يمينا و شمالا في الفسطاط مخافة ان يسمع كلامه أحد، قال: ثم نهد إلي، فقال:

يا خلف سر اللّه فلا تذيعوه و لا تعلموا هذا الخلق اصول دين اللّه، بل ارضوا لهم ما رضي اللّه لهم من ضلال. قال: ثم عقد بيده اليسري تسعين، ثم قال: تستدخل قطنة ثم تدعها مليا ثم تخرجها إخراجا رقيقا «رفيقا» فان كان الدم مطوقا في القطنة فهو من العذرة، و إن كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض … » «1».

و صحيحه الآخر: «قلت لأبي الحسن الماضي عليه السّلام: جعلت فداك، رجل تزوج جارية أو اشتري جارية طمثت او لم تطمث أو في أول ما طمثت، فلما افترعها غلب الدم، فمكث [فمكثت. يب] أياما و ليالي فأريت القوابل، فبعض قال من الحيضة و بعض قال من العذرة. قال: فتبسم فقال: إن كان من الحيض فليمسك عنها بعلها و لتمسك عن الصلاة و إن كان من العذرة فلتتوضأ و لتصلّ و يأتيها بعلها إن احب.

قلت: جعلت فداك و كيف لها ان تعلم من الحيض هو أم من العذرة؟ فقال: يا خلف سر اللّه فلا تذيعوه، تستدخل قطنة ثم تخرجها، فإن خرجت القطنة مطوقة بالدم فهو من العذرة، و إن خرجت مستنقعة بالدم فهو من الطمث» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 15

______________________________

و صحيح زياد بن سوقة: «سئل ابو جعفر عليه السّلام عن رجل افتض امرأته فرأت دماء [دما. في يب] كثيرا لا ينقطع عنها يوما [يومها. يب] كيف تصنع بالصلاة؟ قال:

تمسك الكرسف فإن خرجت القطنة مطوقة بالدم فإنه من العذرة تغتسل و تمسك معها قطنة و تصلي، فإن خرج الكرسف منغمسا بالدم فهو من الطمث تقعد عن الصلاة أيام الحيض» «1».

و منه يظهر ضعف ما عن الأردبيلي، حيث قال في شرح الإرشاد بعد التعرض لصفات الحيض: «و أما كونه من اليمني أو اليسري عند الاشتباه بغيره يتميز بذلك، و امتيازه عن العذرة بالطوق و غيره فغير واضح و إن ورد به النص مع اختلافه، كما حكي، لكن ليس بحيث يعمل عليه و لا ينظر إلي غيره. فالمرجع حينئذ الصفات المذكورة لا مجرد الطوق و إلا فالمرجع هو الأصل و الاحتياط واضح، و يحمل الرواية علي ذلك».

إذ لا وجه للتوقف في ذلك مع ورود الروايات المتقدمة به. كما لا وجه لتنزيلها علي خصوص الواجد للصفات، بل اشتباه الواجد لها بدم العذرة بعيد.

و أما الاختلاف فلم ينقله أحد في نصوص المقام، بل في نصوص الاختبار بالجانب عند الاشتباه بدم القرحة، كما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

بقي في المقام امور..

الاول: أول من تعرض لكيفية ادخال القطنة و إخراجها الشهيد الثاني، قال في المسالك: «و طريق معرفة التطوق و عدمه أن تضع قطنة بعد أن تستلقي علي ظهرها و ترفع رجليها ثم تصبر هنيئة ثم تخرج القطنة إخراجا رقيقا»، و قال في الروض:

«و مستند ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام لكن في بعضها الأمر باستدخال القطنة من غير تقييد بالاستلقاء، و في بعضها إدخال الاصبع مع الاستلقاء. و طريق الجمع حمل المطلق علي المقيد، و التخيير بين الاصبع و الكرسف، لأن الكرسف أظهر في الدلالة».

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 16

______________________________

و في المدارك بعد نقل ذلك عنه قال: «و ما ذكره رحمه اللّه لم اقف عليه في شي ء من الاصول، و لا نقله ناقل في كتب الاستدلال. و الذي وقفت عليه في هذه المسألة روايتا زياد بن سوقة و خلف بن حماد المتقدمتان، و هما خاليتان عن قيد الاستلقاء و إدخال الإصبع. فالأظهر الاكتفاء بما تضمنته الرواية الثانية من وضع القطنة و الصبر هنيئة، ثم إخراجها برفق».

و يتجه ما ذكره بملاحظة النصوص السابقة، لصلوح صحيح خلف الاول لتقييد إطلاق إدخال القطنة و إخراجها في الصحيحين الأخيرين، و لا سيما مع قرب انصرافه إلي ما تضمنه الصحيح لمناسبته لمقام الفحص و استكشاف الحال.

و دعوي: عدم حجّية صحيح خلف الاول في ذلك لقرب اتحاد الواقعة التي تضمنها مع الواقعة التي تضمنها صحيحه الثاني، فالاختلاف بينهما كالاختلاف في نسخ الرواية الواحدة مسقط لكل منهما عن الحجية فيما ينفرد به، و يكون المرجع صحيح زياد بن سوقة الذي هو مطلق من هذه الجهة.

مدفوعة: بأن الاختلاف بين الصحيحين لما كان بالاجمال و التفصيل فهو لا يوجب عرفا استحكام تعارضهما المسقط لهما عن الحجية، بل الجمع بينهما عرفا بحمل إهمال القيد في الثاني علي غفلة الراوي عنه أو تسامحه فيه، لتخيل وضوحه بسبب مناسبته لمقام الفحص- كما سبق- أو لعدم الغرض ببيانه، كما هو الحال في كثير من موارد النقل بالمعني، فيبقي الاول حجة في بيان القيد، و لا سيما مع بعد الخطأ في نقله، لما فيه من العناية و الدقة.

ثم إنه لو فرض ورود النصوص التي أشار إليها في الروض كان مقتضي الجمع بينها التخيير بين الإصبع مع الاستلقاء و الكرسف مطلقا و لو بدونه، لا اعتبار الاستلقاء فيهما معا. فلاحظ.

الثاني: جعل في الإرشاد الحكم بالحيض منوطا بعدم التطوق، لا بخصوص الاستنقاع، و هو لا يناسب ما تقدم من النصوص و الفتاوي. و لعله لذا حمله في الروض

ص: 17

______________________________

علي خصوص الاستنقاع.

و ربما يوجه الإطلاق المذكور بقاعدة الامكان، حيث تقتضي البناء علي الحيض عند فقد الاستنقاع الذي هو امارته و فقد التطوق الذي هو إمارة عدمه.

لكنه- مع ابتنائه علي عموم القاعدة للمقام، و يأتي الكلام فيها إن شاء اللّه تعالي- لا يناسب النصوص المتقدمة الظاهرة في ملازمة الحيض للاستنقاع و البكارة للتطويق، و لذا اقتصر فيها عليهما في مقام التقسيم و التمييز عند التردد بينهما، و لم يشر لغيرهما، و هو المناسب لما يرتكز عرفا من كونهما من لوازمهما التكوينية، حيث يكون عدم الاستنقاع حينئذ دليلا علي عدم الحيض فيخرج عن موضوع قاعدة الإمكان.

اللهم إلا أن يقال: الاستنقاع في النصوص المتقدمة و إن كان ظاهرا بدوا في استيلاء الدم علي تمام سطوح القطنة و نفوذه لباطنها، إلا أنه لا مجال للجمود عليه مع ما هو المعلوم من خروج دم الحيض من الرحم المتصل ببعض جوانب فضاء الفرج، فلا يغمس تمام القطنة إلّا مع كثرته، و بدونها لا ينفذ إلا في بعض جوانبها، بل قد لا ينفذ أصلا لقلّته في بعض أوقاته، و حيث لا يحتمل خصوصية حال الافتضاض في كيفية خروج دم الحيض لا بد من حمل النصوص المتقدمة علي صورة كثرة الدم، كما صرح به في الصحيحين الأخيرين. و يكون ما هو علامة للحيض في غيره مجرد عدم التطويق الملازم للبكارة حتي مع قلة الدم.

و لا أقل من خروج صورة قلة الدم التي لا يحصل معها الاستنقاع و التطويق عن مورد النصوص، فمع الحكم فيها بعدم البكارة لفرض عدم التطويق يحكم بالحيض، إما لانحصار الأمر به- لو لم يحتمل دم ثالث- أو لقاعدة الإمكان. فلاحظ.

نعم، لا يبعد الاكتفاء في البناء علي البكارة بالتطويق من بعض الجوانب- كما عن كشف الغطاء- لإمكان عدم استيعاب التشقق في البكارة لبعض الجوانب أو لسرعة التئام الجرح منه، فيختص نبع الدم بالباقي، و يتميز بذلك عن الحيض، لأن نبع الدم فيه من داخل الفرج لا من أوله كما لا يخل بذلك تلطخ القطنة من رأسها من دون أن

ص: 18

______________________________

ينفذ الدم فيه لأنه قد يحصل بمجرد إدخال القطنة من البكارة بسبب انطباق المدخل.

و بالجملة: بعد الالتفات إلي كيفية خروج الدم في البكارة و في الحيض و تنبيه النصوص لذلك و جريها عليه، يتعين عدم الجمود علي الاستنقاع الظاهر في استيعاب القطنة، و لا علي التطويق الظاهر في الكامل، بل التعدي إلي ما يناسبه الأمران مما يختلف باختلاف كثرة الدم و لا خفاء به غالبا.

الثالث: قال في السرائر: «فإن اشتبه دم الحيض بدم العذرة في زمان الحيض فلتدخل المرأة قطنة … »، و قد يظهر منه اختصاص الاختبار المذكور بالدم الخارج في العادة دون غيره مما يخرج ممن لم تطمث، أو ممن لا عادة لها. و لا يظهر الوجه في ذلك بعد اختصاص الصحيح الأول بمن لم تطمث و صراحة الثاني في العموم لها، و شمول إطلاق الثالث لها، كإطلاق الفتاوي.

و قريب منه ما يأتي من المعتبر من الاقتصار علي ما إذا كان الدم بصفات دم الحيض، فإنه مخالف لإطلاق النصوص المتقدمة، بل يبعد جدا اشتباه الدم بدم العذرة إذا كان بصفات دم الحيض، خصوصا الحرقة و الدفع، لما هو المعلوم من خلو دم العذرة عنهما، فالظاهر كون منشأ الاشتباه في مورد النصوص هو استمرار الدم علي خلاف الغالب في دم العذرة مع خلوه من الحرارة و الدفق الغالبين في دم الحيض.

الرابع: قال في المعتبر عند الكلام في دم الحيض: «و لو جاء بصفة دم الحيض و اشتبه بدم العذرة حكم أنه للعذرة إن خرجت القطنة مطوقة بالدم. روي ذلك زياد ابن سوقة عن أبي جعفر عليه السّلام و خلف بن حماد عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام … و لا ريب أنها إذا خرجت مطوقة كانت من العذرة، أما إذا خرجت منتقعة فهو محتمل. فإذا يقضي بأنه من العذرة مع التطوق قطعا. فلهذا اقتصر في الكتاب علي الطرف المتيقن».

و مراده بالكتاب المختصر النافع، حيث اقتصر فيه علي الحكم بأن الدم من العذرة مع التطوق و لم يذكر الحكم بالحيض مع الاستنقاع، و نحوه في الشرائع و القواعد و عن الموجز و البيان، و هو- كما تري- إهمال للنصوص المتقدمة الحاكمة

ص: 19

______________________________

بالحيضية مع الاستنقاع من دون وجه.

و قد حمله غير واحد علي ما إذا اشتبه بدم ثالث غير دم الحيض و العذرة لدعوي اختصاص النصوص المتقدمة بما إذا تردد الدم بين الحيض و العذرة لا غير.

لكن فيه- مع أنه مخالف لظاهر كلامه- أن صحيح زياد بن سوقة شامل لصورة الاشتباه بدم ثالث. و مجرد السؤال فيه عن الصلاة لا يكشف عن الاشتباه بالحيض فقط، لأن للاستحاضة دخلا في الصلاة أيضا. غاية ما يدعي تخصيص إطلاقه بادلة الصفات، و هو يقتضي البناء علي الحيضية مع كون الدم بصفات الحيض كما هو مفروض كلامه.

بل قال قدّس سرّه بعد ذلك بأربع مسائل: «و ما تراه المرأة بين الثلاثة إلي العشرة حيض إذا انقطع، و لا عبرة بلونه ما لم يعلم أنه لقرح أو لعذرة. و هو إجماع. و لأنه زمان يمكن أن يكون حيضا، فيجب أن يكون الدم فيه حيضا». فان مقتضاه البناء علي الحيضية في المقام.

و مثله ما ذكره شيخنا الاستاذ قدّس سرّه من احتمال حمله علي صورة كثرة الدم لدعوي تعذر الفحص المذكور معه، لتلوث القطنة بمجرد ادخالها حتي لو كان من البكارة.

إذ فيه- مع عدم إشعار كلامه بذلك، بل هو لا يناسب فرض التردد بين التطويق و الاستنقاع- أن التلوث بسبب إدخال القطنة لا يمنع من الاختبار المذكور، إذ مع كثرة نبع الدم إن كان نفوذه في القطنة بنحو التطويق كان من البكارة، و إن كان بغمس تمام القطنة كان من الحيض، كما يظهر مما سبق. و لذا تضمن صحيح زياد الاختبار المذكور في فرض كثرة الدم إلا أن تكون الكثرة فاحشة بنحو توجب نفوذ الدم في القطنة بمجرد مماستها للفرج عند إدخالها من دون مهلة معتد بها يكون فيها الاختبار. و هو فرض نادر أو غير واقع خارج عن مفاد النصوص، لظهورها في أن نفوذ الدم في القطنة بعد إدخالها بزمان معتد به. و ربما يرجع إليه ما عن كشف الغطاء

ص: 20

______________________________

من قوله: «و يشترط أيضا أن لا يكون الدم كثيرا مستوليا علي القطنة بمجرد دخولها، فلا يمكن الاختبار».

الخامس: من الظاهر اختصاص الصحيحين الأولين بما إذا تردد سبب الدم بين الحيض و العذرة، دون ما إذا احتمل كونه منهما معا، لأنه المناسب لاختلاف القوابل المذكور فيهما.

أما الصحيح الثالث فهو و إن لم يتعرض فيه لذلك، بل للسؤال عن حكم الصلاة المتجه حتي مع احتمال كونه منهما معا، إلا أن الاقتصار فيه علي الحكم بالحيضية تارة و بالبكارة اخري ظاهر في انصراف السؤال عن الاحتمال المذكور. كما أن الفتاوي قاصرة عنه، كما أشرنا إليه عند التعرض في المتن.

هذا و حيث لا يحتمل دخل خصوصية حال الحيض في استلزام البكارة للتطويق، و لا حال الافتراع في استلزام الحيض للاستنقاع أمكن مع الاحتمال المذكور إحراز اجتماعهما عند اجتماع الأمرين باستنقاع القطنة في بعض جوانبها الملاصق لداخل فضاء الفرج و تطويقها فيما يلاصق منها أوله، الذي هو موضع البكارة. كما يمكن إحراز انفراد أحدهما بتحقق ما يناسبه فقط.

كما قد يشتبه الأمر بأن يكون الدم كثيرا يغمس تمام القطنة، حيث يتردد الأمر معه بين انفراد الحيض و اجتماعه مع البكارة من دون أن يتميز موضع التطويق. لكن لا أثر للاشتباه المذكور بعد ترتب أحكام الحيض علي كل حال، حيث لا أثر معه للبكارة.

السادس: النصوص المتقدمة مختصة باحتمال مفاجأة الحيض بعد الافتراع، دون ما إذا كان الافتراع حال الحيض ثم تردد استمرار الدم بين الحيض و البكارة، و قوله في صحيح خلف الثاني: «أو في أول ما طمثت» لا يراد به فعلية الطمث، بل بلوغها مبالغ النساء بطمثها، مع كون الافتراع حال طهرها، كما يناسبه تفريع غلبة الدم علي الافتراع.

و من هنا كان الفرض المذكور خارجا عن النصوص. لكن لا ينبغي التأمل في التمييز معه بالاستنقاع و التطويق، لإلغاء خصوصية موارد النصوص من هذه الجهة.

ص: 21

______________________________

و إنما الإشكال في وجوب الفحص حينئذ، كما يجب في مورد هذه النصوص، و نصوص الاستبراء، حيث قد يدعي إلغاء خصوصية الموردين المذكورين، و استفادة وجوب الفحص في كل مورد يشك في الحيض من نصوصهما.

لكنه ممنوع، لإمكان اهتمام الشارع بالاحتياط لاحتمال الحيض، دون احتمال الطهر، و لذا شرع الاستظهار بيوم أو يومين أو أكثر عند استمرار الدم في أثناء العشرة «1»، و نهي عن اختبار المرأة نفسها عند انقطاع الدم ليلا «2»، و من الظاهر أن اللازم في مورد النصوص المذكورة لو لا الفحص هو البناء علي عدم الحيض، لاستصحاب الطهر في مورد نصوص المقام، و لظهور انقطاع الدم فيه في مورد نصوص الاستبراء، بخلاف محل الكلام، حيث يلزم البناء فيه علي الحيض لاستصحابه، فلا دليل علي وجوب الفحص فيه احتياطا لاحتمال الطهر.

و قد تعرض غير واحد للكلام في ذلك، علي اختلاف بينهم فيه، مع غموض كلماتهم في أن المقصود حجية الاختبار لو حصل، أو وجوبه مع الفراغ عن حجيته.

و مثله في ذلك ما لو شك في الافتضاض، حيث لا تخلو كلماتهم فيه عن غموض من هذه الجهة، و الظاهر حجية الاختبار المذكور فيه، و إن كان خارجا عن مورد النصوص المتقدمة، إلغاء لخصوصيتها عرفا، و عدم وجوبه لعدم وضوح إلغاء خصوصيتها من هذه الجهة. فلاحظ.

السابع: لو تردد الدم بين العذرة و غير الحيض لم يبعد اعتبار التطويق و عدمه في إثبات العذرة و نفيها، لأنه و إن خرج عن مورد النصوص المتقدمة إلا أن إلغاء خصوصية موردها قريب جدا، كما ذكرناه في نظائره.

نعم، ثبوت الاستحاضة مع عدم التطويق موقوف علي أصالة كون دم غير الحيض و العذرة دم استحاضة. كما أن وجوب الفحص المذكور موقوف علي

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض و يأتي الكلام فيه في المسألة التاسعة.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الحيض. و يأتي الكلام فيه في أوائل الفصل السادس في ذيل الكلام في وجوب الاستبراء.

ص: 22

و لا يصح عملها بدون ذلك ظاهرا (1).

______________________________

وجوب الفحص عن دم الاستحاضة عند الشك في حدوثها. و هو موكول إلي مبحث الاستحاضة.

الثامن: ذكر الصدوق في المقنع أن دم العذرة لا يتجاوز الشفرين، و نحوه ذكر في الفقيه حاكيا له عن رسالة والده. و مقتضي ذلك مانعية سيلان الدم للخارج من الحكم بأنه من العذرة و إن تطوقت القطنة، إذ لا أقل من تنافي الامارتين و تعارضهما المسقط لهما عن الحجية، أو الحكم بأن السائل دم آخر غير المطوق للقطنة.

لكن لم نعثر علي نص بذلك عدا الرضوي «1» الذي لا مجال للتعويل عليه في نفسه، فضلا عن الخروج به عن إطلاق النصوص المتقدمة، و لا سيما مع التعبير فيها بسيلان الدم و كثرته و غلبته، بل يتعين العمل عليها. و ربما يحمل ما في الرضوي و كلام الصدوق علي بيان الوصف الغالبي، لسوقه فيهما مساق وصف دم الحيض بأنه يخرج بحرارة شديدة، و دم الاستحاضة بأنه بارد يسيل من المرأة و هي لا تعلم. فلا ينافي خروجه عن ذلك و اشتباهه بغيره بنحو يحتاج تمييزه للاختبار المذكور.

(1) لظهور النصوص المتقدمة في وجوب الفحص المذكور، و المنسبق منها كون وجوبه طريقيا لترتيب أحكام الطاهر أو الحائض المشار اليها فيها، فيكون رادعا عن الرجوع لاستصحاب الطهر المقتضي لصحة العمل من دون فحص. و ليس وجوبه نفسيا كي لا يمنع من الرجوع لاستصحاب الطهر و إن كانت عاصية بتركه، و لا إرشاديا لشرطيته في عملها، ليبطل العمل بدونه واقعا، فإن كلا منهما خلاف ظاهر النصوص.

و بذلك يفترق المقام عن سائر الشبهات الموضوعية حيث يجوز الرجوع فيها للأصول من دون فحص.

و بذلك يتضح أيضا تنجز احتمال أحكام كل من الطاهر و الحائض التكليفية في

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب 2 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 23

إلا أن تعلم بمصادفته للواقع (1).

______________________________

حقها قبل الفحص كوجوب الصلاة، و تمكين الزوج من الوطء، و حرمة تمكينه منه، و دخول المساجد عليها و غير ذلك. لأن ذلك مقتضي كون وجوب الفحص طريقيا، بل هو مقتضي العلم الإجمالي بثبوت أحد التكليفين بعد عدم جريان استصحاب الطهر المسقط له عن المنجزية.

و من ذلك يظهر أنه لو تأخرت في الاختبار في الزمان المشتبه الذي ينبغي لها الاختبار فيه حتي مضي زمان يحتمل فيه مجي ء الحيض و انتهاؤه ثم اختبرت فظهرت القطنة مطوقة تعين عليها الاحتياط بغسل الحيض، لعدم المؤمن لاحتمال وجوبه بعد عدم كشف الفحص عن عدم وجوبه، و عدم جريان استصحاب الطهر.

ثم إن النصوص المتقدمة و إن اختصت بصورة العلم بالافتضاض، إلّا أنه لا يبعد التعدي منها لما لو شك فيه، لأن منجزية احتمال حيضية الدم بنحو تقتضي وجوب الفحص و تمنع من الرجوع لاستصحاب الطهر مع العلم بالافتضاض تقتضي منجزيته مع الشك فيه بالأولوية العرفية.

بل لا يبعد التعدي في وجوب الفحص لغير البكارة مما يعلم أو يحتمل وجوده في الفرج و خروج الدم منه، لقوة ظهور النصوص المذكورة في أهمية احتمال الحيض. فتأمل.

(1) بأن ينكشف كون الدم من العذرة حين العمل، إما بالقطع أو بالاختبار في وقت يعلم بأنه إن كان الدم منها فيه كان منها حين العمل. و الوجه في صحة العمل حينئذ ما أشرنا إليه من أن ظاهر النصوص كون الأمر بالاختبار طريقيا لتحصيل الواقع، لا إرشاديا لشرطيته لعملها، فمع فرض إصابة الواقع لا وجه لبطلانه.

و قد نبه سيدنا المصنف قدّس سرّه إلي أن عدم تعرض الامام عليه السّلام في صحيح خلف الأول لما ذكره الفقهاء من الفتوي بالاحتياط لا يكشف عن عدم مشروعية الاحتياط من دون فحص و بطلان العمل المطابق للواقع الأولي بدونه، لأن السائل لم يشر في سؤاله له عليه السّلام إلي فتواهم المذكورة، ليكشف إعراض الإمام عليه السّلام عنها عن ردعه

ص: 24

مسألة 2: إذا تعذر الاختبار المذكور فالأقوي الاعتبار بحالها السابق من حيض أو عدمه
اشارة

(مسألة 2): إذا تعذر الاختبار المذكور فالأقوي الاعتبار بحالها السابق من حيض أو عدمه (1).

______________________________

عن مضمونها. كما ان اقتصاره عليه السّلام علي بيان الاختبار لا ينافي مشروعية الاحتياط و تحصيل الواقع بدونه، إذ قد يكون منشؤه سهولة الاختبار و صعوبة الاحتياط.

و مما ذكرنا ظهر أنه لا مجال لما في الجواهر من أن مقتضي ظهور النص و الفتوي في وجوب الاختبار توقف صحة عملها علي وقوعه بوجه تعذر فيه، و ما في طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن مقتضاه توقف الصحة علي الغفلة عن وجوب الاختبار.

نعم، يتجه ذلك بناء علي اعتبار الجزم بالنية في العبادة مع القدرة عليه الذي هو خلاف التحقيق.

كما يتجه بناء علي أن حرمة العبادة علي الحائض ذاتية لا تشريعية، و أن المحرم يعم الإتيان بها برجاء المشروعية، حيث تكون العبادة دون فحص محتملة للتحريم المنجز فيتعذر التقرب بها و إن قيل بعدم استحقاق العقاب علي التجري. و هو محل إشكال. و تمام الكلام فيه في محله.

ثم إن أثر الحكم المذكور إنما يظهر فيما يجب إعادته أو قضاؤه علي تقدير الحيض، كقضاء الصلوات السابقة و أداء الصلاة التي يحتمل الحيض في اثناء وقتها و الصوم، دون مثل أداء صلاة اليوم التي يحتمل الحيض في تمام وقتها، حيث يعلم ببراءة الذمة مع الإتيان بها من دون اختبار و لو لم ينكشف الحال، لعدم وجوبها مع الحيض، و صحتها مع عدمه.

(1) أما مع سبق الحيض فلاستصحابه، حيث سبق في الأمر السادس جريانه حتي مع التمكن من الاختبار. كما أن المرجع مع سبق الطهر هو استصحابه، الذي لا مانع منه إلا الخطاب بالاختبار في النصوص السابقة الذي لا مجال له مع تعذره.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من انه لا يبعد شمول إطلاق النصوص المتقدمة لصورة العجز عن الاختبار، فيمتنع معه الرجوع للاستصحاب كما يمتنع

ص: 25

______________________________

الرجوع له مع التمكن منه. فهو غير ظاهر، لأن دلالة النصوص علي امتناع الرجوع للاستصحاب إنما هي بسبب الأمر فيها بالاختبار، و حيث يقصر الأمر به عن صورة تعذره كان امتناع الرجوع للاستصحاب تابعا له في ذلك، فكيف يكون إطلاق النصوص شاملا لصورة التعذر؟!.

نعم، لو كان الأمر بالاختبار مسوقا لبيان امتناع الرجوع للاستصحاب و كناية عنه فقد يتوجه الإطلاق المدعي، لإمكان امتناع الرجوع له في ظرف تعذر الاختبار، نظير استفادة إطلاق الجزئية و الشرطية من إطلاق الأمر بالجزء و الشرط المسوق للكناية عنهما، لإمكان عمومهما لحال تعذر الجزء و الشرط. لكن لا مجال لدعوي ذلك في المقام، لعدم التوجه في مورد النصوص للاستصحاب المذكور، لتكون مسوقة لبيان عدم جريانه، و إنما استفيد امتناع الرجوع إليه تبعا من الأمر بالاختبار المسوق للحث الفعلي عليه و الذي يقصر عن حال تعذره.

إن قلت: الأمر في صحيحي خلف بترتيب أحكام الحائض و الطاهر ظاهر في تنجز تلك الأحكام قبل الاختبار، و أن الاختبار إنما هو لأجل تنجزها، و من الظاهر إمكان تنجز الأحكام المذكورة مع تعذر الاختبار، بل هو مقتضي إطلاق الأمر بها، و لازمه امتناع الرجوع لاستصحاب الطهر.

«قلت»: لم تتضمن النصوص الأمر بترتيب أحكام كل من الحيض و الطهر عند احتماله، ليكون لها إطلاق شامل لحال تعذر الاختبار، بل الأمر بترتيب أحكام الثابت من الأمرين و الاقتصار عليه، و ذلك لا يكون إلا مع تيسر معرفة الحال بالاختبار و نحوه و يتعين قصوره عن صورة تعذرها لتعذر الاختبار و غيره، بل يتعين الرجوع فيه للقواعد الأخر، و منها استصحاب الطهر مع اليقين بسبقه.

بقي في المقام امور..

الأول: الرجوع لاستصحاب الطهر موقوف علي قصور قاعدة الامكان عن المقام و نحوه مما يحتمل فيه عدم نزول الدم من الرحم، و هو غير بعيد، و إن كان الجزم

ص: 26

و إذا جهلت الحال السابقة فالأحوط وجوبا الجمع بين عمل الحائض و الطاهرة (1).

______________________________

فيه موقوفا علي النظر في أدلة القاعدة، و هو ما يأتي إن شاء اللّه تعالي في المسألة الرابعة.

الثاني: لو أمكن الاختبار بعد العمل لاستكشاف حاله احتمل وجوبه، إلغاء لخصوصية موارد النصوص، و إن لم يخل عن الاشكال أو المنع، و يأتي نظيره عند التعرض لكلام الجواهر.

الثالث: لو أمكن معرفة الحال بغير الاختبار المذكور لم يبعد وجوبه و عدم الرجوع لاستصحاب الطهر، لإطلاق الأمر في صحيحي خلف بترتيب أحكام الثابت من الأمرين، الظاهر في تنجزها مع إمكان معرفة الحال. فتأمل جيدا.

(1) للعلم الإجمالي بثبوت أحد الحكمين، فيتنجز الإلزامي من كل منهما، كوجوب الصلاة و الصوم من أحكام الطهر، و حرمة دخول المساجد و وجوب قضاء الصوم و بطلان قضاء الصلاة من أحكام الحيض. لكنه يقتضي الفتوي بلزوم الاحتياط بالجمع المذكور- كما هو ظاهر المستمسك و بعض حواشي العروة الوثقي- بنحو لا يجوز لمقلديه الرجوع لمن يفتي بتعيين أحدهما، لا التوقف عن الفتوي المستلزم لجواز رجوع مقلديه لغيره ممن يفتي بتعيين أحدهما، كما هو ظاهر المتن.

هذا و قد ذكر السيد قدّس سرّه في العروة الوثقي أنها تبني حينئذ علي الطهارة، و أمضاه بعض الأعاظم و غيره. و قد يرجع إليه ما عن نجاة العباد و جملة من حواشيها من الحكم بأولوية الاحتياط المذكور من دون إلزام به.

و كأن ما في العروة الوثقي مبني علي مسلكه من حجية العام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص، لأن أحكام الطاهر هي مقتضي العمومات، و أدلة أحكام الحائض مخصصة لها، فمع الشك في تحقق الحيض و عدم إحراز وجوده و لا عدمه يتعين البناء علي مقتضي العمومات بترتيب أحكام الطاهر. لكن تحقق في محله ضعف المسلك المذكور.

ص: 27

______________________________

و مثله الاستدلال علي ذلك..

تارة: بقاعدة المقتضي، بدعوي: أن المستفاد من الأدلة كون أحكام الطهارة من مشروعية العبادة للمرأة و جواز وطئها و صحة طلاقها مقتضي طبعها الأولي، و الحيض من سنخ المانع عنها، و مع إحراز المقتضي لا يعتني باحتمال المانع.

و اخري: بما قد ينسب لبعض الأعاظم من أن تعليق الحكم علي عنوان وجودي يقتضي عدم ترتبه مع عدم إحراز العنوان المذكور، و لما كانت أحكام الحيض معلقة في الأدلة علي عنوانه فلا ترتب مع عدم إحرازه، بل لا يترتب إلّا نقائضها التي هي أحكام الطهارة، لأنها لم تعلق علي عنوان الطهارة بما أنها أمر وجودي، بل استفيد اختصاصها بها من الجمع بين إطلاقاتها و أدلة أحكام الحيض.

لاندفاعه- بعد تسليم كون المقام من صغريات إحدي الكبريين المذكورتين- بأن الكبريين غير تامتين، كما تقدم عند الكلام في الشك في الكرية من مباحث المياه. فراجع.

نعم، قد يوجه ذلك بانحلال العلم الإجمالي المذكور بالاستصحاب، حيث قد يقرب بأحد وجهين:

أولهما: استصحاب عدم خروج الدم من الرحم، بناء علي أن معني الحيض خروج الدم من الرحم بحيث يكون هو الموضوع لأحكامه، فباستصحاب عدمه يثبت لها أحكام الطهارة، لعموم أدلتها.

ثانيهما: استصحاب عدم كون هذا الدم حيضا من باب استصحاب العدم الأزلي، بناء علي ما هو غير بعيد من أن حيضية الدم من لواحق وجوده- كما ذكره شيخنا الأستاذ- خلافا لما احتمله سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنها من لوازم ماهيته. بل لا يبعد عدم كونه من استصحاب العدم الأزلي، لأن الحيضية تابعة لخروج الدم المتأخر عن وجوده زمانا. و عن بعض مشايخنا الاعتماد علي هذا الوجه في الاكتفاء بأعمال الطاهرة.

و يشكل الأول بأنه لا طريق لإحراز مطابقة خروج الدم من الرحم لمفهوم الحيض، بل هو أعم منه، فيشاركه فيه النفاس و الاستحاضة، غاية ما يدعي أن

ص: 28

______________________________

الأصل في الدم الخارج من الرحم الحيضية، فاستصحاب عدم الخروج من الرحم لا ينفي الحيضية، إلّا بناء علي الأصل المثبت، لأن انتفاء العام يستلزم انتفاء الخاص.

مضافا إلي أن المستصحب ان كان هو عدم خروج مطلق الدم من الرحم فهو خلاف فرض الجهل بالحالة السابقة، و إن كان عدم خروج الدم الخاص فمن الظاهر أن الحيض لما كان يتحقق بخروج مطلق الدم من الرحم فانتفاء خروج الدم الخاص منه لا يقتضي انتفاء الحيض، لأن انتفاء الخاص لا يستلزم انتفاء العام، إلا بضميمة العلم بعدم خروج غيره من أفراد الدم منه، فيكون من أظهر أفراد الأصل المثبت، كما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و منه يظهر الحال في الثاني، لوضوح أنه يكفي في تحيض المرأة حيضية أي دم خرج منها، لا خصوص الدم الخاص، فعدم حيضية الدم الخاص لا يستلزم عدم حيضيتها إلّا بضميمة العلم بعدم خروج دم آخر منها محتمل للحيضية. علي أن موضوع الأحكام هو المرأة الحائض و حيضية الدم ليست مقومة لحيضيتها شرعا و لا عرفا، بل هما متلازمان خارجا، لوضوح أن خروج النوع الخاص من الدم يصحح انتزاع الحيضية له و لها، من دون ترتب بينهما في الاتصاف بها. بل ليس فائدة الأصل المذكور إلا عدم ترتيب أحكام دم الحيض علي الدم المذكور، كعدم العفو عن قليله في الصلاة، كما نبه له سيدنا المصنف و شيخنا الأستاذ (قدس سرهما).

و لو لا ما ذكرنا لامتنع الرجوع لاستصحاب الحيض عند العلم بسبقه، لكونه محكوما للاستصحابين المذكورين مسببيا بالإضافة إليهما، لوضوح ان الشك في بقاء الحيض يكون مسببا عن الشك في خروج الدم من الرحم، و في حيضيته. فتأمل جيدا.

هذا و في الجواهر: «أما إذا لم تتمكن من الاختبار المذكور … فيحتمل البناء علي الحيضية، لأصالتها عندهم، و عدمها. و الأقوي الفرق بين الصور، بسبق الحيض، أو العذرة، و حيث لا سبق فالظاهر وجوب العمل عليها ثم الاختبار بعد ذلك. فتأمل جيدا».

لكن من الظاهر أن سبق العذرة لا أثر له في المقام، لعدم كون موضوع الآثار هي العذرة، بل عدم الحيض، فيكفي استصحابه مع اليقين به سابقا و لو مع عدمها.

ص: 29

______________________________

كما أن وجوب العمل عليها مع فرض عدم جريان الاستصحاب ثم الاختبار بعد ذلك، إن أريد به العمل جمعا بين أحكام الحائض و الطاهر- للعلم الإجمالي المذكور- لم يحتج للاختبار بعد ذلك، و إنما يحتاج للاختبار فيما بعد للعمل اللاحق، و هو خارج عن محل الكلام، لعدم كونه بالإضافة للمذكور متعذرا.

و إن أريد به العمل علي طبق أحكام الطاهرة أشكل- مضافا إلي ما عرفت من عدم الوجه للاقتصار عليه- بأن وجوب الاختبار بعد القدرة لاستكشاف حال العمل السابق المفروض وقوعه مطابقا للأصل الجاري حينه محتاج إلي دليل، لظهور النصوص في كون الاختبار للعمل اللاحق الذي لا يشرع بدونه، و قد سبق الإشكال في التعدي منه لما نحن فيه.

تنبيه

الاحتياط في حق المرأة لا يقتضي منع الزوج عن الوطء، بل حيث يدور الأمر فيه بين الحرمة لاحتمال الحيض و الوجوب لاحتمال الطهر يتعين تخييرها بينهما. نعم، لو أمكنها إقناع الزوج بترك الوطء لم يبعد وجوبه عليها، للعلم معه بعدم مخالفة الوظيفة المعلومة إجمالا. و أظهر من ذلك حرمة طلبها الوطء من الزوج، لتنجزه عليها بمقتضي العلم الإجمالي المذكور.

كما أنه لا ملزم للزوج باجتناب وطئها لعدم منجزية العلم الإجمالي في حقه بعد خروج بعض أطرافه عن مورد عمله. بل مقتضي أصالة البراءة في حقه جواز الوطء.

و انقلاب الأصل في الفروج- لو تم- مختص بما إذا كان احتمال الحرمة لاحتمال عدم الزوجية أو ملك اليمين، لا لاحتمال مثل الحيض مع إحراز الزوجية، كما في المقام.

نعم، لو كان الاحتياط في العمل بسبب توقف المجتهد عن الفتوي للشبهة الحكمية فقد يكون مشتركا بين الزوجين. و حينئذ لو طالب الزوج تخيرت المرأة بين التمكين و الامتناع مع تعذر معرفة الوظيفة عليها، لانسداد طريق العلم بالمجتهد الذي يجوز الرجوع اليه. أما مع تيسر معرفتها فاللازم عليها الرجوع اليها و العمل بها، كما يجب في سائر موارد تعذر الاحتياط. فتأمل جيدا.

ص: 30

تتميم

______________________________

تعرض جمهور الأصحاب من القدماء و المتأخرين إلي مسألة اشتباه دم الحيض بدم القرحة و اختلفوا فيها علي أقوال:

الأول: أن الدم إن خرج من الجانب الأيسر فهو من الحيض، و إن خرج من الجانب الأيمن فهو من القرحة. و به صرح في المقنع و الفقيه و المبسوط و النهاية و السرائر و الوسيلة و القواعد و التذكرة و المنتهي- في صدر كلامه و ان ذكر بعد ذلك منافاة الرواية له- و جامع المقاصد، و هو المناسب لما في الإرشاد من جعل الخروج من الأيسر من صفات الحيض، كما أنه المحكي عن المفيد و القاضي و الإصباح و الجامع و البيان و جميع كتب العلامة و الجعفرية و غيرها.

و جعله الأشهر في التذكرة، و نسبه للأكثر في جامع المقاصد و الروض و محكي شرح الجعفرية، و للمشهور في جامع المقاصد أيضا و المسالك و حاشية المدارك و محكي فوائد الشرائع و شرح المفاتيح.

الثاني: عكس الأول، و به صرح في الدروس و الذكري و حكي عن ابن الجنيد و ابن طاوس، و لعله ظاهر الكليني، لأنه اقتصر علي الخبر الدال عليه في باب معرفة دم الحيض و العذرة و القرحة.

الثالث: عدم اعتبار الجانب، و إليه ذهب في المعتبر و المدارك و ظاهر المسالك، و حكي عن الأردبيلي.

و كأن منشأ اختلاف القولين الأولين الاختلاف في الرواية الواردة في المقام، و هي مرفوعة محمد بن يحيي عن ابان، فقد رويت في التهذيب هكذا: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: فتاة منا بها قرحة في جوفها «1» و الدم سائل لا تدري من دم الحيض

______________________________

(1) كذا في المطبوع في النجف الاشرف من التهذيب و حكاه غير واحد من الفقهاء عنه و عن الكافي، و هو الموجود في بعض نسخ الكافي علي ما حكي. و ظاهر الوسائل ان الموجود في التهذيب و الكافي (فرجها) بدل (جوفها) و هو الموجود في بعض نسخ الكافي أيضا.

ص: 31

______________________________

أو من دم القرحة. فقال: مرها فلتستلق علي ظهرها ثم ترفع رجليها و تستدخل اصبعها الوسطي، فإن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض، و إن خرج من الجانب الأيمن فهو من القرحة» «1». و كذا رويت في الكافي إلا أنه قال: «فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من الحيض، و إن خرج من الجانب الأيسر فهو من القرحة» «2».

و قد صرح غير واحد بترجيح الأولي، لأن الشيخ اعرف بوجوه الحديث و أضبط، و لانجبارها بعمل المشهور، و اعتضادها بفتوي الصدوق ناقلا له عن رسالة والده التي قيل إنها متون أخبار كنهاية الشيخ، و بالرضوي «3».

و قال في الجواهر: «بل المحكي عن كثير من النساء العارفات أن الحيض مخرجه من ذلك». كما قد يعتضد ببعض نصوص الاستبراء من أنها تعمد برجلها اليسري علي الحائط «4»، حيث يناسب كون مخرج الحيض من الجانب الأيسر.

لكن رفع الرجل اليسري لا يكشف عن كون مخرج الحيض من الجانب الأيسر، بل قد يكون لاستلزامه الضغط علي الجانب الأيمن. علي أن في مرسل يونس في الاستبراء أيضا: «و ترفع رجلها اليمني» «5». و شهادة النساء العارفات لم تتضح بنحو تثبت صحة الرواية المذكورة. و الرضوي قد سبق عدم وضوح كونه من كلام المعصوم عليه السّلام بل لسان بعضه لا يناسب ذلك، و لا يبعد كونه كتاب فتوي مقارب في اللسان للروايات فلا يزيد علي موافقة الرواية لفتوي الصدوق. و موافقتها لرسالة علي بن بابويه لم تثبت، لأن الصدوق إنما نسب لأبيه ما أفتي به بعد فقرات كثيرة من هذا الكلام فلعل نسبته لا تشمله، بل تختص بتلك الفقرات.

علي أن موافقة الرواية لفتاوي هؤلاء إنما يكشف عن وجودها و لا ينافي اشتباههم في مضمونها، إذ ليس الاشتباه عليهم بأبعد من الاشتباه علي الكليني و ابن الجنيد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب الحيض حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 32

______________________________

و مثله الحال في فتوي المشهور فإنها إنما توجب انجبار الرواية مع الشك في صدورها، لا في تصحيفها، إذ اتفاق النقلين في السند و اللسان شاهد بعدم كونهما روايتين إحداهما مهجورة عند الاصحاب و الاخري معتمدة لهم، بل ليس هناك إلا رواية واحدة اختلف الكليني و الشيخ في كيفية نقل محمد بن يحيي لها، و مرجحية عمل المشهور في مثل ذلك غير ظاهرة، و لا سيما مع اضطراب كلماتهم و قرب كون منشأ عملهم الأنس بكتب الشيخ و ترجيح فتاواه، لأن الشهرة لو كانت فهي بعده.

كما ان الترجيح بأضبطية الشيخ و أعرفيته غير ظاهر، بل قال المجلسي في مرآة العقول بعد ذكر الترجيح بهما: «و فيهما معا نظر بيّن يعرفه من يقف علي احوال الشيخ و وجوه فتاواه … و يمكن ترجيح رواية الكليني بتقدمه و حسن ضبطه، كما يعلم من كتابه الذي لا يوجد مثله» و أشار غيره لذلك، بل اغرق فيه صاحب الحدائق.

علي انه صرح في الوافي بأن ما سبق من التهذيب إنما هو في بعض نسخه، و قال في الذكري بعد نقل رواية الكافي: «و في كثير من نسخ التهذيب الرواية بلفظها بعينه. قال الصدوق و الشيخ في النهاية الحيض من الايسر. قال ابن طاوس: و هو في بعض نسخ التهذيب الجديدة، و قطع بأنه تدليس … » بل لم ينقل في المنتهي و المختلف عن التهذيب إلا ما يوافق رواية الكليني، و لذا جعل في المنتهي الرواية منافية لفتوي الصدوق و الشيخ، كما ذكر ذلك في التحرير أيضا.

نعم، نبه للاختلاف بين الكافي و التهذيب في التذكرة. و منه يظهر أنه لا مجال لما عن شرح المفاتيح من استبعاد الاختلاف المذكور في نسخ التهذيب لاتفاق النسخ التي بين ايدينا علي ما يخالف الكافي، كما لم يشر إليه المحشون مع أن ديدنهم نقل النسخ حتي النادرة، بل اعترف المحققون باتفاقها علي ذلك، و يناسبه عدول الشهيد في البيان المتأخر تأليفا إلي ما يوافق المشهور، حيث يكشف عن اطلاعه علي خطأ ما ذكره سابقا.

إذ فيه: انه لا مجال لرفع اليد عن نقل هؤلاء الأعاظم بذلك و إن كان هذا

ص: 33

______________________________

الاضطراب غريبا. و قد يكون عدول الشهيد في البيان لمرجّحية الشهرة بنظره حينئذ، لا لظهور خطأ ما ذكره سابقا.

نعم، قد ترجح النسخ المخالفة للكافي بموافقتها لفتاوي الشيخ نفسه، كما نبه له غير واحد، إلّا أن خطأ الشيخ و غفلته عن مخالفة فتواه للسان دليله ليس بأبعد كثيرا من خطئه أو خطأ الكليني في نقل الرواية، لما عرفت من وحدة الرواية.

و من هنا كان مقتضي القاعدة سقوط رواية التهذيب باختلاف نسخه، و أما الكافي فحيث لم نعثر فيه و لم ينقل عنه الاختلاف، بل صرح في الوافي باتفاق نسخه، فروايته هي الحجة بعد انجبار ضعف سندها باعتماد المشهور عليها و لو في المضمون الآخر، لأن انجبار الرواية بالشهرة ليس لكونها أمارة علي صحة مضمونها، كي لا يتم مع مخالفتهم لها، بل لكونها موجبة للوثوق بصدورها، و كشفها عن اطلاعهم علي قرائن موجبة له، و حيث سبق وحدة الرواية فاعتمادهم علي نسخة التهذيب مستلزم لانجبار نسخة الكافي و إن أخطئوا في تشخيص مفادها.

لكن الإنصاف أن الاكتفاء بذلك في حجّية رواية الكافي لا يخلو عن إشكال، لأن اختلافها مع الرضوي، و مخالفة الصدوق و الشيخين و أتباعهم في فتاواهم لها موجب للريب فيها، و لا سيما مع هذا الاضطراب في نقل التهذيب لها. و من هنا كان المتعين طرحها و الرجوع للقواعد الأخر، بعد عدم وجود قدر مشترك بين النقلين ليخرج عن القواعد المذكورة فيه بعد انجبار الرواية لما سبق.

نعم، قد يدعي أن ذلك يقتضي التوقف عن القواعد، للعلم الإجمالي بتخصيصها بأحد وجهي الرواية.

لكن لا مجال له بعد اختلاف نقل الرواية من جهة اخري قد يختلف فيها مفاد القاعدة، فلا تكون مخالفة للقاعدة علي أحدهما، و هي تعيين موضع القرحة و أنها الفرج أو الجوف، علي ما أشرنا إليه عند نقلها. و لم ينبه الاصحاب لذلك بل أطلق بعضهم من هذه الجهة و اقتصر الصدوق علي القرحة في الفرج، و يظهر من بعضهم

ص: 34

______________________________

إرادة القرحة في الجوف. و الكل لا مجال له بعد اختلاف نقل الرواية. كما قد يظهر من الصدوق إرادة الاشتباه و لو للشك في وجود القرحة و هو مطابق في ذلك للرضوي، و إلّا فالمرفوعة المتقدمة ظاهرة في فرض العلم بها.

و من هنا كان اللازم تنقيح مفاد القاعدة فاعلم: أن القرحة إن علم أو احتمل وجودها في الفرج جاز البناء علي الحالة السابقة من حيض أو عدمه، و مع عدمها يتعين الجمع بين عمل الطاهر و الحائض، بناء علي قصور قاعدة الإمكان عن شمول الدم الذي يحتمل نزوله من الفرج، نظير ما تقدم في المسألة السابقة.

و إن احتمل أو علم وجودها في الجوف فالظاهر عموم قاعدة الإمكان و لزوم البناء علي الحيض.

و يقتضيه في الجملة مرسلة يونس القصيرة- التي لا تخلو عن اعتبار، بناء علي ما سبق في مبحث الكر من حجّية مراسيل يونس- عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «فإذا رأت المرأة الدم في ايام حيضها تركت الصلاة، و إن انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت وصلت و انتظرت … و إن مرّ بها من يوم رأت الدم عشرة أيام، و لم تر الدم فذلك اليوم و اليومان الذي رأته لم يكن من الحيض، إنما كان من علّة، إما قرحة في جوفها و إما من الجوف … » «1».

فإن ظاهره عدم الاعتناء باحتمال خروج الدم من القرحة إذا لم يحرز فقده لشروط الحيض، و إنما يبني علي عدم كونه حيضا عند فقده لشروطه.

نعم، هو قاصر عما لو علم بوجود القرحة أو خرج الدم في غير ايام العادة، و العمدة فيه قاعدة الامكان. فلاحظ.

بقي في المقام أمران:
الأول: أنه بناء علي اعتبار الجانب و لزوم العمل بالرواية علي أحد الوجهين المتقدمين فالظاهر وجوب الفحص عليها

و عدم الرجوع إلي ما تقتضيه القواعد إذا

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 35

______________________________

كان مخالفا للاحتياط من بعض الوجوه، لأمر الامام عليه السّلام بالفحص الظاهر في لزومه و تنجز الواقع بدونه.

الثاني: بناء علي اعتبار الجانب فمورد الرواية ما لو علم بوجود القرحة و تردد الدم بينها و بين الحيض.

و أطلق غير واحد الرجوع إليه عند اشتباه دم الحيض بدم القرحة، بنحو يشمل ما لو شك في وجود القرحة، بل ظاهر بعضهم و صريح آخرين عموم اعتباره لما إذا لم تكن هناك قرحة، بحيث يكون من علامات الحيض، لدعوي:

أن الجانب إن كان من شئون الحيض فلا خصوصية لوجود القرحة فيه، خلافا لما صرح به بعضهم من الاقتصار علي مورد الرواية، لإمكان خصوصية وجود القرحة في مخرج دم الحيض.

و الإنصاف أن الاحتمال المذكور غير عرفي، فالتعميم أنسب. بل لا يبعد البناء علي وجوب الفحص مع تيسره لو شك في وجود القرحة و إن خرج عن مورد الرواية، لنظير ما تقدم في العذرة عند الكلام في وجوب الفحص. بل مقتضي ما تقدم هناك وجوب الفحص عن الحيض مع العلم بوجود القرحة في الفرج أو احتمالها و إن لم يعتمد علي المرفوعة في المقام.

ص: 36

الفصل الثاني في تحديد وقت الحيض
لا حيض قبل البلوغ

الفصل الثاني كل دم تراه الصبية قبل بلوغها تسع سنين و لو بلحظة لا تكون له أحكام الحيض (1).

______________________________

(1) كما صرح به الأصحاب، و نفي فيه الخلاف في الحدائق، بل ادعي الإجماع عليه في المعتبر و كشف اللثام و الجواهر، و عن مجمع البرهان: «الذي يقتضيه النظر في الحيض و العلامات هو الحكم بكون الدم حيضا إن لم يكن إجماع، لكن الظاهر أنهم أجمعوا عليه».

و يقتضيه موثقة عبد الرحمن بن الحجاج: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ثلاث يتزوجن علي كل حال: التي قد يئست من المحيض و مثلها لا تحيض- قلت: و متي تكون كذلك؟ قال إذا بلغت ستين سنة فقد يئست من المحيض و مثلها لا تحيض- و التي لم تحض و مثلها لا تحيض- قلت: و متي يكون كذلك؟ قال: ما لم تبلغ تسع سنين- و التي لم يدخل بها» «1».

و معتبرته: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ثلاث يتزوجن علي كل حال: التي لم تحض و مثلها لا تحيض- قال: قلت: و ما حدها؟ قال: إذا أتي لها أقل من تسع سنين- و التي لم يدخل بها، و التي قد يئست من المحيض و مثلها لا تحيض. قلت: و ما حدها؟ قال:

إذا كان لها خمسون سنة» «2».

و حديث عبد اللّه بن سنان عنه عليه السّلام: «قال إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب العدد من كتاب الطلاق حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب العدد من كتاب الطلاق حديث: 4.

ص: 37

______________________________

كتبت له الحسنة و كتبت عليه السيئة و عوقب، و إذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك، و ذلك أنها تحيض لتسع سنين» «1».

و منها يظهر ضعف ما تقدم عن مجمع البرهان فإنها تنهض لرفع اليد عن إطلاق أدلة العلامات لو تم، كما لا يخفي.

بقي في المقام امور..

الأول: أن ظاهر الأصحاب بل صريح بعضهم عدم الاكتفاء بالدخول في التاسعة، بل لا بد من إكمالها، و ادعي عليه الإجماع في كشف اللثام.

و يقتضيه النصوص المتقدمة، أما الثاني فظاهر، حيث يصدق علي من لم تكمل التاسعة أن لها أقل من تسع سنين. و أما الأول و الثالث فلأن بلوغ الشي ء و إن كان قد يصدق بالدخول فيه إلا أنه يعلم بعدم إرادته في المقام، لأنه لا يتوقف علي الدخول في التاسعة، لأن التسع مجموع السنين و الدخول فيها يكون بالدخول في السنة الأولي.

نعم، لو عبر ببلوغ التاسعة فقد يتوجه الاحتمال المذكور.

الثاني: ظاهر النص و الفتوي كون التحديد بذلك تحقيقيا لا تقريبيا، كما هو الحال في سائر التحديدات الشرعية، و به صرح في التذكرة لكن في الروض: «و الأقرب أنه تحقيق لا تقريب مع احتماله، فلو قلنا به فإن كان بين رؤية الدم و استكمال التسع ما لا يسع الحيض و الطهر كان الدم حيضا» و حكي نحوه عن نهاية الأحكام. و لا مجال للاحتمال المذكور بعد ظهور النص و الفتوي في خلافه. كما انه لا شاهد بتحديد التقريب بما ذكراه من عرف أو غيره.

الثالث: الظاهر أن المراد بالسنين الهلالية، لأن ذلك مقتضي الاطلاقات المقامية لأدلة التحديدات الشرعية، تبعا للعرف الذي وردت فيه.

و قد يدل عليه قوله تعالي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ «2»،

______________________________

(1) الوسائل باب: 44 من كتاب الوصايا حديث: 12.

(2) سورة البقرة: 189.

ص: 38

______________________________

لظهوره في أن فائدتها بنظر الشارع توقيت الناس بها، فيكون حاكما علي أدلة التوقيتات. فتأمل.

كما أن الظاهر الاكتفاء بالتلفيق فيكتفي بمرور نفس اليوم من شهر الولادة في الدور التاسع، و لا يهم نقيصة الأشهر، لاكتفاء العرف بذلك في تطبيق التسع سنين.

الرابع: صرح في المبسوط و الوسيلة و الغنية و وصايا السرائر و محكي نوادر قضائها و الجامع و التحرير بأن الحيض بلوغ في المرأة، و في الغنية الإجماع علي ذلك.

و ذكر في الشرائع أنه لا يكون بلوغا، بل قد يكون دليلا عليه، و بدليليته عليه صرح في القواعد و الروضة و المسالك و غيرها، و عن مجمع البرهان استظهار الإجماع عليها، و نفي في المسالك الخلاف في كونه دليلا علي سبق البلوغ، و في كونه بلوغا بنفسه.

و قد يستدل علي كونه بلوغا بموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الغلام متي تجب عليه الصلاة؟ قال: إذا أتي عليه ثلاث عشرة سنة، فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة و جري عليه القلم. و الجارية مثل ذلك إذا أتي لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة و جري عليها القلم» «1».

و في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: لا يصلح للجارية إذا حاضت إلا أن تختمر، إلا أن لا تجده» «2»، و في صحيح يونس بن يعقوب الوارد في اللباس في الصلاة: «و لا يصلح للحرة إذا حاضت إلا الخمار» «3». و في خبر أبي بصير:

«علي الصبي إذا احتلم الصيام و علي الجارية إذا حاضت الصيام و الخمار … » «4»، و في مرسل الصدوق: «علي الصبي اذا احتلم الصيام و علي المرأة اذا حاضت الصيام» «5»، و غيرها مما يناسب ألسنتها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 126 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 28 من أبواب لباس المصلي حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 29 من أبواب لباس المصلي حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 4 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 10.

ص: 39

______________________________

و أما حديث عبد اللّه بن سنان المتقدم فهو بضميمة العلم بعدم ملازمة الحيض للتسع محمول علي إرادة أن علة البلوغ بالتسع أنها وقت إمكانه، و مرجعه إلي أن سبب البلوغ إمكان الحيض لا فعليته، فيكون من نصوص البلوغ بالتسع لا بالحيض، و إن عده من نصوص المقام سيدنا المصنف قدّس سرّه.

هذا و قد استشكل في سببية الحيض للبلوغ بأن الحيض حيث لا يكون إلا بعد إكمال تسع سنين، التي بها يتحقق البلوغ فلا يستند البلوغ إليه. قال في كتاب الصوم من السرائر بعد ذكر الحيض و الحبل من علامات البلوغ- بعد ذكر بلوغ التسع و الاحتلام و الإنبات-: «هكذا يذكر في الكتب و المحصّل من هذا بلوغ التسع سنين، لأنها لا تحيض قبل ذلك، و لا تحمل قبل ذلك، فعاد الأمر إلي بلوغ التسع سنين، و إنما أوردنا ما أورده غيرنا من المصنفين».

و قد تصدي غير واحد لتوجيه ذلك بحمله علي أن الحيض أمارة علي البلوغ عند الشك في بلوغ المرأة تسع سنين، لا سبب له في قبال بلوغها تسع سنين.

فإن اريد لزوم البناء علي ذلك في نفسه مع قطع النظر عن النصوص المتقدمة، فهو متجه بناء علي أن امتناع الحيض قبل التسع واقعي دلت عليه النصوص، لا شرعي راجع إلي عدم ترتيب أحكام الحيض قبلها و إن كان الدم حيضا واقعا- و يأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالي- و علي اليقين بكون الدم الخارج ممن لا يعلم ببلوغها حيضا، حيث يعلم بسببه ببلوغ التسع من باب الانتقال من الملزوم للازم، و لا يكون أمارة عليه شرعا.

أما لو كان امتناعه قبل التسع شرعيا فاليقين بكون الدم حيضا لا يكفي في البناء علي البلوغ، لأنه اعم منه. و اليقين بكونه الحيض الواجد للأحكام موقوف علي اليقين ببلوغ التسع، فلا يكون سببا له. كما أنه لو لم يتيقن بكون الدم حيضا فالرجوع للصفات أو لقاعدة الإمكان في البناء علي حيضيته موقوف علي إطلاق دليليتهما للأمارية عليه و التعبد به عند الشك فيه من حينية البلوغ. و هو قريب في أدلة الصفات

ص: 40

______________________________

و لا يخلو عن إشكال أو منع في قاعدة الامكان، و يبتني علي ما يأتي في المسألة الرابعة من الكلام فيها.

هذا بناء علي امتناع الحيض واقعا قبل التسع، أما بناء علي امتناعه شرعا فلا ينفع إطلاق أدلة الصفات أيضا، لظهورها في بيان صفات الحيض الواقعي، و قد ذكرنا أن العلم به لا يكفي في البناء علي بلوغ التسع علي المبني المذكور، فإحرازه بالصفات أولي بذلك.

و ان اريد لزوم البناء علي ذلك بلحاظ النصوص المتقدمة، حيث يلزم حملها عليه بعد تعذر حملها علي سببية الحيض للبلوغ ثبوتا- لما تقدم- فلا مجال له، لندرة الجهل ببلوغ المرأة تسع سنين مع حيضها، ليحتاج لنصب الامارة شرعا، لغلبة تأخر الحيض عن التسع كثيرا، فيلزم حمل هذه النصوص علي الفرد النادر.

بل لا بد من طرح هذه النصوص أو الجمع بينها و بين نصوص البلوغ بالتسع و نصوص تأخر الحيض عن التسع بوجه آخر.

أما موثق عمار فحيث كان صريحا في أن سن البلوغ هو الثلاث عشرة سنة، فهو لا ينافي أدلة عدم الحيض قبل التسع، بل هي حاكمة أو واردة عليه، و إنما ينافي أدلة البلوغ بالتسع، فإن أمكن الجمع بينهما بحمل الثانية علي الاستحباب و إلا تعين طرحه.

و أما صحيح محمد بن مسلم فالأقرب حمله علي عدم وجوب الخمار بالتسع، إما لعدم البلوغ بها أو لجواز تأخيره عن البلوغ إلي الحيض، و لو بحمله علي الخمار في الصلاة، الذي هو المراد في صحيح يونس و غيره، و التي يلزم حملها علي ذلك أيضا.

و اما خبر أبي بصير و مرسل الصدوق فحيث كانا ظاهرين في تحقق البلوغ بالحيض، و كان الحيض قبل التسع ممتنعا- كما قد يظهر من نصوص المقام- أو نادرا كانا منافيين لما دل علي تحقق البلوغ بالتسع، و جري فيهما ما تقدم في موثق عمار، لأن مضمونهما مقارب لذيله.

ص: 41

و إن علمت أنه حيض واقعا (1).

______________________________

(1) سبق عند الكلام في مفهوم الحيض أنه من الامور العرفية، و لازم ذلك إدراك العرف له بأنفسهم مع قطع النظر عن التحديدات الشرعية، و إمكان القطع به علي خلافها، كما يمكن مع الجهل بها.

و حينئذ لو فرض العلم به فما ذكره قدّس سرّه من عدم ترتيب أحكام الحيض مبني علي ما ذكره في مستمسكه من أن الأدلة التي تضمنت تحديدات الشارع الأقدس للحيض و إن كانت ظاهرة في أنفسها في بيان الحدود الواقعية له، إلا أنه بعد تعذر البناء علي ظاهرها، لفرض العلم بحيضية الدم الفاقد للحد، يتعين حملها علي بيان نفي أحكام الحيض عن الفاقد للحد بلسان نفي الموضوع و إن كان حيضا واقعا.

خلافا لما قرّ به أستاذه المحقق الخراساني قدّس سرّه من حملها علي نفي أحكامه عند الشك فيه، فلو علم به تعين ترتيب أحكامه لعموم أدلتها، بعد امتناع التعبد الظاهري علي خلاف العلم.

و قد ساق قدّس سرّه تبعا لأستاذه المذكور الكلام في جميع التحديدات في مساق واحد. و لعل الاولي الكلام في كل منها عند التعرض له و النظر في أدلته لإمكان اختلاف ألسنة أدلتها.

فالكلام هنا في حد السن من طرفي القلة و الكثرة لتشابه ألسنة أدلته في الطرفين.

و لم يذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه ما يقتضي الحمل علي الوجه المذكور فيه إلا استبعاد عدم ترتيب أحكام الحيض شرعا علي ما علم أنه حيض واقعا. قال: «و لا أظن أن يلتزم به أحد» مضافا إلي أنه ليس لسان الأخبار بيان حدود تعبدية و قيود شرعية لما هو موضوع لأحكام خاصة شرعا، بل لبيان أن الحيض كذلك واقعا، غاية الأمر يكون ذلك غالبيا، للقطع بالتخلف أحيانا.

و فيه: ان مجرد البعد- لو سلم- لا يجدي. و عدم التزام أحد به غير ظاهر، بل

ص: 42

______________________________

استظهر سيدنا المصنف قدّس سرّه التسالم علي خلاف ما ذكره قدّس سرّه بالنظر لظاهر كلماتهم، بل صريح بعضها. كما أن حمل الأدلة الظاهرة في القضية الواقعية الكلية علي القضية الواقعية الغالبية إنما يقتضي حجية الغلبة عند الشك إذا كانت واردة في مقام الأمر أو النهي عن ترتيب الأحكام في مقام العمل، و من الظاهر عدم ورود نصوص المقام للنهي عن ترتيب أحكام الحيض، بل لبيان عدم وجوب العدة، فغاية ما تدل عليه أن السن الذي تسقط فيه العدة لا يمتنع فيه الحيض، بل يغلب عدمه فيه. و هو لا يستلزم حجية الغلبة المذكورة علي نفي الحيض في السن المذكور عند الشك فيه.

نعم، لا مجال لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من إنكار الغلبة بملاحظة أحوال النساء. قال: «و كيف يصح دعوي كون الغالب ذلك مع ان الفرق بين المشتمل علي الحد و غيره بمحض الآنات اليسيرة».

لاندفاعه بأن ذلك لا يمنع من استفادة الغلبة من بيانات الشارع الأقدس المطلع علي دقائق الأمور. غاية الأمر مانعيته من إدراك العرف لها بأنفسهم، لصعوبة التمييز عليهم معه.

بل الانصاف أنه لا يمنع من إدراكهم لها في خصوص المقام، حيث كان الحد لامتناع الحيض في مقابل إمكانه، لا لعدمه في مقابل وجوده، إذ يسهل الاطلاع علي الغلبة مع كون زمان إمكان الحيض المذكور في الحد أوسع من زمان تحققه غالبا، لغلبة تأخر الحيض عن التسع و انقطاعه قبل سن اليأس.

بل لو لم يكن الحد المذكور دائميا فلا ريب في أنه غالبي، ثم إن كون الحيض من المفاهيم العرفية التي يستقل العرف بتشخيصها بنحو قد يقطع بها علي خلاف التحديدات الشرعية، لا يستلزم رفع اليد عن ظهور النصوص المتقدمة في القضية الواقعية الكلية، بل يكون مرجع القضية المذكورة إلي تخطئة العرف في تشخيص الحيض علي خلافها من دون أن تقتضي التصرف في مفهومه، لاستناد العرف في تشخيصه إلي علامات معهودة له في الدم الخاص الطبيعي للمرأة الذي هو دم الحيض عندهم، و يمكن اطلاع الشارع الأقدس علي أن العلامات أعم من الدم المذكور، و أنه لا يخرج

ص: 43

______________________________

إلا في السن الخاص و الخارج في غيره ليس منه و إن كان واجدا للعلامات. و ليس تشخيص العرف له مبنيا علي البداهة غير القابلة للخطأ، كتشخيصه للرضاع و البياض.

و عليه تكون القضية المذكورة بعد الاطلاع عليها مانعة من العلم بالحيض علي خلافها.

هذا و لو فرض عدم مانعية القضية المذكورة من العلم بالحيض علي خلافها فالعلم المذكور مساوق للعلم بعدم تماميتها، فهل يتعين ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من حملها علي القضية الواقعية الغالبية- و إن لم تكن حجة عند الشك لما سبق- من دون أن تقتضي رفع اليد عن عموم أحكام الحيض في المخالف للغالب، أو ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من المحافظة علي ما هي ظاهرة فيه من الكلية و حملها علي النفي التشريعي الراجع إلي نفي أحكام الحيض عما خرج عن الحد الشرعي بلسان نفي الموضوع- الذي هو مفاد الحكومة العرفية- وجهان، أظهرهما الأول، لقوة ظهورها في القضية الواقعية في مقام تحديد الحيض بما هو أمر خارجي. و لا سيما مع عدم ورود النصوص في مقام نفي الحيض عمّا خرج عن الحد ابتداء، بل في مقام آخر.

فقد وردت جملة منها «1» - و منها حديثا عبد الرحمن بن الحجاج- في مقام تحديد موضوع خارجي أخذ في سقوط العدة، و هو اليائس من المحيض أو التي لا تحيض و هي في سن من لا تحيض، و من الظاهر أن مقام السؤال و الجواب يناسب إرادة تحديد زمان الحيض واقعا، لا تحديد موضوع أحكامه شرعا.

كما أن حديث عبد اللّه بن سنان قد تضمن تعليل وضع القلم ببلوغ التسع بأنها قابلة للحيض حينئذ من دون نظر لأحكامه بل المناسب للبلوغ هو القابلية للحيض بنفسه، لا ثبوت أحكامه علي تقدير تحققه.

بل قوله عليه السّلام: في مرسلة ابن أبي عمير: «إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة إلا أن تكون امرأة من قريش» «2». كالصريح في إرادة نفس الحيض بالكناية عنه

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 31 من أبواب الحيض.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 44

و كذا المرأة بعد اليأس. و يتحقق اليأس ببلوغ خمسين سنة في غير القرشية، و فيها ببلوغ ستين (1).

______________________________

بالحمرة، إذ لم يعهد الكناية بها عن أحكامه.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في قوة ظهور النصوص في بيان القضية الواقعية، و أنه يتعذر حملها علي قضية تشريعية تنزيلية بلحاظ أحكام الحيض.

و دعوي: أن ورودها في مقام تحديد تعذر الحيض و اليأس منه لا يناسب حملها علي القضية الغالبية، لابتناء اليأس و التعذر علي السلب الكلي، كما هو صريح مرسلة ابن أبي عمير المتضمنة تأكيد نفي الحيض بقوله: «قط».

مدفوعة: بأن الغلبة إنما هي بلحاظ الشذوذ في الخلقة مع ارادة الكلية في الوضع الطبيعي للمرأة. و علي هذا لا مجال لرفع اليد عن عموم أحكام الحيض في الفرد الشاذ لو تحقق.

و أما ما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه من ظهور تسالمهم علي خلاف ذلك، فهو ممنوع، لأنهم- تبعا للنصوص- في مقام تحديد نفس الحيض، و لا نظر لهم إلي فرض خروج الحيض عن الحد المذكور في كلماتهم، ليعلم رأيهم فيه، بل الفرض المذكور ممتنع عندهم كما قد يظهر مما ذكروه في امارية الحيض علي البلوغ و إن كان قد يظهر من كلام المفيد الآتي في تحديد سن اليأس للنبطية إمكان الحيض بعد سن اليأس. لكنه ظاهر في ترتب أحكامه.

نعم، في المعتبر: «و لو رأت دما لما كان حيضا، بمعني: انه لا تمتنع مما يمنع منه الحائض». و هو مشعر بأن مرجع نفي الحيضية الي نفي أحكامها و إن كانت موجودة حقيقة. لكنه- مع عدم بلوغه مرتبة الظهور في صدق الحيض حقيقة- لا يكفي في إثبات التسالم بنحو ينهض بتخصيص العمومات.

في سن اليأس

(1) قال في مفتاح الكرامة: «لم يختلفوا- كما في مجمع الفائدة- في عدم اليأس

ص: 45

______________________________

قبل الخمسين و تحققه في الستين مطلقا، كما اتفقوا- كما في شرح المفاتيح و ظاهر المجمع- علي أنه إذا لم يكن خمسين يكن [يكون: ظ] ستين».

هذا، و الأقوال المعروفة للأصحاب في المقام أربعة:

الأول: ما ذكره في المتن، و هو ظاهر الفقيه، لاقتصاره فيه علي مرسلة ابن أبي عمير المتقدمة، و المبسوط، لقوله فيه: «و تيأس المرأة من الحيض إذا بلغت خمسين سنة إلا إذا كانت امرأة من قريش، فانه روي أنها تري دم الحيض إلي ستين سنة»، و المعتبر و الروضة، و مال إليه في المسالك و نسبه إلي أصحابنا في التبيان و مجمع البيان، و عن الراوندي في الأحكام أنه قطع به في الهاشمية خاصة.

الثاني: التفصيل المذكور، لكن مع إلحاق النبطية بالقرشية، كما في المراسم و الوسيلة و التذكرة و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و عن غيرها، و نسب للمشهور في جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك.

الثالث: تحديد اليأس بالخمسين مطلقا، كما في النهاية و ظاهر طلاق السرائر و الشرائع و في المدارك و عن جمل الشيخ و الاستبصار و المهذب و كشف الرموز، و في النافع أنه أشهر الروايتين، و قيده في كتاب الطهارة و العدد من السرائر بما إذا تغيرت عادتها.

الرابع: تحديده بالستين مطلقا كما في طهارة الشرائع و ظاهر المنتهي، و جنح إليه في محكي المختلف.

و الأقوي الأول جمعا بين ما دل علي التحديد بالستين- و هو موثقة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في أول المسألة المؤيدة بمرسلة الكليني «1» - و ما دل علي التحديد بالخمسين- كمعتبرة عبد الرحمن المتقدمة هناك أيضا، و صحيحته عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: حد التي قد يئست من المحيض خمسون سنة» «2»، و قريب منها مرسلة البزنطي «3» - بقرينة مرسلة بن أبي عمير المتقدمة قريبا، بناء علي ما سبق في مباحث

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الحيض حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 31 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 46

______________________________

الكر من حجّية مراسيله، و لا سيما مع ظهور فتوي الصدوق بمضمونها و اعتماد غيره من اجلّة الأصحاب عليها و تأيدها بمرسلة المبسوط المتقدمة في كلامه و مرسلة المقنعة الآتية «1».

و الإشكال فيها تارة: بعدم اشتمالها علي حد اليأس في القرشية، و لا يكفي ذكره في مرسلتي المبسوط و المقنعة لضعفهما. و اخري: بأن الحمرة أعم من الحيض، فبقاء الحمرة في القرشية بعد الخمسين لا ينافي انقطاع الحيض بها.

مدفوع بظهور المفروغية بين الأصحاب عن أن الحد إذا زاد علي الخمسين فهو الستون، كما تقدم من مفتاح الكرامة. و بأن الظاهر كون الحمرة كناية عن الحيض، كما فهمه الأصحاب بطبعهم، و لا سيما مع أنه هو الذي يهتم بمعرفة حده، و إلا فمن المعلوم عدم امتناع غيره من أنواع الدم في السن المذكور. علي أنه يكفي في ذلك رواية الستين المتقدمة.

نعم، قد يشكل الاستدلال برواية الستين- كما عن بعض مشايخنا- تارة: بضعف رواية عبد الرحمن، لرواية الشيخ لها بسنده عن علي بن الحسن بن فضال، و طريقه اليه منحصر بأحمد بن عبدون عن علي بن محمد بن الزبير، و لا نص علي توثيقهما. و عدم التعويل علي مرسلة الكليني.

و اخري: بأن حملها علي القرشية حمل علي الفرد النادر.

و ثالثة: بأنه بعد عدم التعويل علي مرسلة الكليني ينحصر الأمر برواية عبد الرحمن، و الظاهر اتحادها مع معتبرته المتقدمة المتضمنة للتحديد بالخمسين، لتقارب لسانيهما و اشتراكهما في بعض رجال السند فتكون رواية مضطربة غير حجة علي أحد الوجهين، و يكون المرجع غيرهما مما تضمن التحديد بالخمسين.

و لو فرض كونهما روايتين متعارضتين تعين طرح رواية الستين، لأنها أشبه بقول العامة، لقول بعضهم بالخمس و خمسين، و آخر باثنتين و ستين، و ثالث بسبعين، و لم ينقل القول بالخمسين إلا عن الحنابلة الذين هم جماعة قليلة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الحيض حديث: 9.

ص: 47

______________________________

و يندفع الأول: بأنه يكفي في إثبات وثاقة احمد بن عبدون كونه شيخ النجاشي و قد روي عنه غير مرة منها في ترجمة أبان بن تغلب، مع ظهور حاله في أنه لا يروي بلا واسطة إلا عن ثقة، كما يظهر مما ذكره في غير موضع منها في ترجمة أبي المفضل محمد بن عبد اللّه بن محمد بن عبيد اللّه الشيباني. و لذا وثقه بعض مشايخنا نفسه في معجم رجال الحديث.

و أما ابن الزبير فتشهد القرائن بجلالته حيث صرح الشيخ بأنه روي جميع كتب ابن فضال و أكثر الأصول و روي عنه التلعكبري، الذي ذكر عنه الشيخ أيضا أنه جليل القدر عظيم المنزلة واسع الرواية عديم النظير روي جميع الأصول و المصنفات، و ذكر النجاشي أنه كان وجها في أصحابنا ثقة معتمدا لا يطعن عليه، مع أن من جملة طعون القدماء التي اشار إليها النجاشي و غيره في ترجمة بعضهم أنه يروي عن الضعفاء.

بل طريق الشيخ إلي كتب ابن فضال منحصر به، مع أهمية تلك الكتب و فتوي الشيخ و غيره بكثير من رواياتها، حيث يظهر من مجموع ذلك معروفية الرجل بين الأصحاب و جلالته و أنه من مشايخ الإجازة الذين يهتم باتصال السند من طريقهم، كما يناسبه تنبيه النجاشي في ترجمة احمد بن عبدون علي لقائه إياه و روايته عنه. علي أن الظاهر معروفية كتب ابن فضال في عصر الشيخ، و ذكر السند له لمحض التبرك و الجري علي سيرة الأصحاب في ذكر الاسناد، و من ثم ذكر بعضهم عدم الحاجة لتوثيق مشايخ الإجازة. فإن ذلك بمجموعه كاف في الاعتماد علي الرواية و الوثوق بصدورها عن ابن فضال الذي هو موثق.

و يندفع الثاني: بأن مرسلة ابن أبي عمير لا تكون قرينة علي حمل رواية الستين علي خصوص القرشية، بل علي ورودها لبيان أقصي حد سن اليأس في المرأة و لو بلحاظ بعض النساء، فمرجع الجمع إلي حملها علي قضية نوعية، لا انحلالية كلية ليلزم تخصيصها بالقرشية و يرد ما سبق.

و أما الثالث: فهو و إن كان لا يخلو عن قرب، إلا أن في بلوغه حدا يسقط

ص: 48

______________________________

الروايتين عن الحجيّة و يخرج عن أصالة الصدور في كل منهما إشكالا أو منعا، لاختلاف متن الروايتين في بعض الألفاظ و في ترتيب الثلاث اللاتي يتزوجن علي كل حال.

و لا مجال لدعوي استحكام التعارض بينهما لو كانا روايتين بعد إمكان الجمع بينهما بقرينة مرسلة ابن أبي عمير التي عرفت حجيتها. و لو سلم لم تصلح مشابهة فتوي العامة لتعيين رواية الستين للسقوط، للمنع من ذلك صغري و كبري. فتأمل.

هذا و قد أشار في الروض إلي ذهاب بعضهم إلي البناء علي الخمسين بالنسبة إلي العبادة، و علي الستين بالنسبة للعدة. فإن كان مبتنيا علي الجمع بين النصوص بذلك، فهو- مع خلوه عن الشاهد- لا يناسب معتبرة عبد الرحمن من نصوص الخمسين، لورودها في نفي العدة.

و ان كان مبتنيا علي طرح النصوص و الاحتياط في مقام العمل، أشكل بعدم الوجه لطرحها مع إمكان الجمع بينها بما سبق. مع أنه لا يقتضي الاحتياط، بل يكون المرجع بعد الخمسين عموم ما دل علي إحراز الحيض بالعادة أو الصفات أو قاعدة الإمكان.

علي أن البناء علي ثبوت العدة ينافي الاحتياط من حيثية جواز الرجوع بالمرأة في بعض الموارد من دون تجديد العقد عليها. و المتحصل: أن الأقوي هو القول الأول.

و أما ما تقدم عن الراوندي من القطع بالستين في خصوص الهاشمية. فهو إن رجع إلي التوقف في ثبوت ذلك في غيرها من أفراد القرشية، فلا وجه له مع إطلاق دليل التفصيل. و إن رجع إلي عدم تيسر إحراز قرشية غيرها لضياع الأنساب- كما ذكره غير واحد- فهو يختلف باختلاف الأشخاص في تيسر طريق إثبات النسب و عدمه، و ليس المرجع فيه الفقيه، و ربما يختص تيسر إحراز القرشية ببعض أفراد الهاشمية كالطالبية و العباسية في الجملة، كما ذكره غير واحد.

و في الجواهر: «نعم، لا يبعد إلحاق الحكم علي القبيلة المعروفة الآن بقريش» و كأن مراده القبيلة القاطنة في أواسط العراق التي بعض أفرادها في النجف الأشرف.

ص: 49

______________________________

فإن كان وجه إلحاقها ثبوت كونها من قريش عنده قدّس سرّه فهو حجة عليه. و ان كان لظهور حال التسمية أشكل بأن مجرد الاشتراك بالاسم لا يكفي في الإلحاق ما لم يبتن علي ادعاء الانتساب للقبيلة المعهودة و شياع ذلك بالنحو المعتبر في ثبوت النسب، و هو غير ظاهر في القبيلة المذكورة، بل ادعي بعض المؤلفين رجوعها إلي ربيعة.

ثم إنه من جميع ما تقدم يظهر ضعف القولين الآخرين، لابتنائهما علي العمل ببعض نصوص المقام دون بعض، و لا سيما القول الرابع المبتني علي العمل برواية الستين، و إهمال نصوص الخمسين مطلقها و مقيدها، مع أنها أكثر عددا، و معول عليها عند جمهور الأصحاب و إن اختلفوا بين الإطلاق و التقييد.

نعم، قال في المنتهي: «و لو قيل: اليأس يحصل ببلوغ ستين أمكن، بناء علي الموجود، فإن الكلام مفروض فيما إذا وجد من المرأة دم في زمن عادتها علي ما كانت تراه قبل ذلك، فالوجود هاهنا دليل الحيض كما كان قبل الخمسين دليلا. و لو قيل:

ليس بحيض، مع وجوده و كونه علي صفة الحيض، كان تحكما لا يقبل. اما بعد الستين فالإشكال زائل، للعلم بأنه ليس بحيض، لعدم الوجود و لما علم من أن للمرأة حالا يبلغها يحصل معها اليأس، لقوله تعالي: وَ اللّٰائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ «1».

كما تري، لأن عدم الوجود بعد الستين خلاف الفرض أيضا. و ليس في الآية تعرض لسن اليأس. و فرض اليأس لا يستلزم تحديده بسن خاص، بل مقتضي الإطلاق المقامي إيكاله للإحراز الشخصي، و هو يختلف باختلاف أحوال النساء.

بل المراد باليأس في الآية هو اليأس من دون بلوغ السن الخاص، لتقييدها بالريبة، و الحكم بوجوب العدة عليها، فهي خارجة عما نحن فيه. و ليس وجه التحديد بالسن إلا النصوص التي يرفع بها اليد عن قاعدة الإمكان- لو تمت- أو عن بناء العرف علي حيضية الدم الخارج في عادة مستمرة و لو مع تبدلها، خصوصا إذا كان بالصفات، و لا وجه معه للاقتصار علي نصوص الستين.

اللهم إلا أن يبتني ما ذكروه علي إهمال النصوص لتعارضها، و الاعتماد علي

______________________________

(1) سورة الطلاق: 4.

ص: 50

______________________________

الإجماع الذي تقدم من مفتاح الكرامة دعواه في المقام. لكن لا وجه لإهمال النصوص مع إمكان الجمع بينها بما سبق.

و أشكل منه ما تقدم من السرائر- في الطهارة و العدد- من تقييد التحديد بالخمسين بما إذا تغيرت عادة المرأة. لعدم الدليل عليه من النصوص، بل لا يقتضيه الاعتبار أيضا، إذ ليس تغير العادة غريبا في النساء، فإن كان البناء علي العمل بالنصوص لزم التحديد بالسن مطلقا، و لو مع بقاء العادة، و إن كان البناء علي إهمالها- لتعارضها، أو عدم حجّية أخبار الآحاد عنده- لزم البناء علي الحيضية بعد الخمسين و لو مع اختلاف العادة، و لا إجماع هنا علي دخل بقاء العادة، بل لا يعرف القول به من غيره.

و مثله في الإشكال ما قد يظهر من كلام المفيد الآتي من اختصاص الاعتبار بسن اليأس بما إذا انقطع الحيض، و أنه يمكن بقاء الحيض بعده، فانه مخالف لظاهر نصوص تحديد اليأس بالسن، بل مقتضاها البناء علي عدم حيضية الدم لو خرج بعده و إن كان بصفات الحيض، كما سبق.

و أما القول الثاني فقد اقتصر في التذكرة في الاستدلال عليه علي مرسلة ابن أبي عمير المختصة بالقرشية و في المدارك: «و اما النبطية فذكرها المفيد و من تبعه معترفين بعدم النص عليها ظاهرا». لكن المفيد قد نسبه للرواية، حيث قال في مبحث العدد من المقنعة: «و إن كانت قد استوفت خمسين سنة و ارتفع عنها الحيض و أيست منه لم يكن عليها عدة من طلاق. و قد روي أن القرشية و النبطية تريان الدم إلي ستين سنة. فإن ثبت ذلك فعليها العدة حتي تجاوز الستين». نعم، لا مجال للتعويل علي الرواية في الخروج عن اطلاقات الخمسين مع إرسالها.

و أما ما في الجواهر من دعوي: انجبارها بالشهرة، بل في جامع المقاصد نسبة ذكر النبطية للأصحاب، فيدفعه أن الشهرة لو تمت فهي بين المتأخرين، كما يظهر من الروض، بل من جامع المقاصد أيضا لأنه عقب نسبة ذكره للأصحاب بنقل ما في الذكري من انه ذكرها المفيد و من تبعه رواية. و إلا فلم يعرف القول بها من أحد من

ص: 51

______________________________

القدماء حتي المفيد، لظهور ذيل كلامه المتقدم في عدم الجزم بها، كما هو المناسب لما تقدم من البيان و التبيان من نسبة التحديد بالخمسين في غير القرشية للأصحاب.

بل قد يكون التأمل في مجموع كلام بعض من نسب له الفتوي من المتأخرين شاهدا بتردده تبعا لضعف دليلها. كما ربما لا تكون فتوي بعضهم بمضمونها لاعتمادهم عليها، كما يناسبه عدم الإشارة إليها في التذكرة، بل هو صريح جامع المقاصد، حيث قال بعد الاعتراف بضعف المستند سوي الشهرة: «و يمكن أن يستأنس له بأن الأصل عدم اليأس، فيقتصر فيه علي موضع الوفاق. و في بعض الأخبار الصحيحة عن الصادق عليه السّلام حدّ التي يئست من المحيض خمسون سنة، و في بعضها استثناء القرشية.

و الأخذ بالاحتياط في بقاء الحكم بالعدة و توابع الزوجية- استصحابا لما كان، لعدم القطع بالمنافي- أولي. و الأمر في العبادة أسهل. فالوقوف مع المشهور أوجه». فلا ينبغي التأمل في عدم حجّية الرواية.

و أما ما في جامع المقاصد فضعفه ظاهر. لأن أصالة عدم اليأس و إن كانت مقتضي إطلاق بعض النصوص بحيضية الدم الذي تراه المرأة، علي ما يأتي الكلام فيه في قاعدة الإمكان، إلا أنه لا مجال لها و لا للاحتياط مع اطلاقات التحديد بالخمسين.

علي أن أهمية الاحتياط في بقاء العدة من الاحتياط في العبادة- لو تمت و كانت صالحه للترجيح- إنما تقتضي الترجيح مع تعذر الجمع بينهما، و إلا وجب الجمع بينهما مع تنجزهما بالعلم الإجمالي. بل سبق أن البناء علي بقاء العدة ينافي الاحتياط من حيثية رجوع الزوج بها.

و من هنا لا مجال للقول المذكور، و لأجله لا يهم تحديد النبطية و إن أطال الأصحاب فيها و في نقل كلمات اللغويين و غيرهم علي اختلافها بما لا ينهض بالحجّية.

و إنما المهم تحديد القرشية، و الكلام فيه في أمرين..

الأول: أن القرشية هي المنتسبة إلي قريش القبيلة المشهورة. و قيل: إنها تنتهي

ص: 52

______________________________

إلي النضر بن كنانة بن خزيمة، و أرسله إرسال المسلمات في إثبات الوصية و تاريخ اليعقوبي و إعلام الوري و كشف الغمة و المسالك و الروض و الروضة و المدارك و كشف اللثام و الحدائق و المستند و الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم و العروة الوثقي و بعض حواشيها، و في تنقيح المقال: «بل هو المشهور بين فقهائنا، بل المتفق عليه بين متأخريهم»، اقتصر عليه في الصحاح ناسبا له للفراء، و في الكشاف و لسان العرب في مادتي (نضر) و (قرش)، و القاموس، و حكي عن ابن سيدة و ابن أبي الفتوح في النفحة العنبرية، بل ادعي الرازي في تفسيره الاتفاق عليه.

لكن في مجمع البحرين بعد أن ذكر ذلك قال: «و قيل: قريش هو فهر بن مالك و من لم يلده فليس بقرشي». و نظير ذلك في سيرة ابن هشام، و اقتصر علي الثاني في لسان العرب في مادة (فهر)، و حكاه الطبري و ابن الأثير عن هشام بن محمد الكلبي، كما حكي عن العقد الفريد و سبك الذهب و المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء و الشجرة المحمدية لأبي علي الجواني و السيرة النبوية لابن دحلان، و نسبه في عمدة الطالب إلي كثير من الأقوال، و عن السيرة الحلبية: «فهر اسم قريش. قال الزبير بن بكار: اجمع النسابون من قريش و غيرهم أن قريشا إنما تفرقت عن فهر».

و في عمدة الطالب و عن محكي سبائك الذهب: أن الأصح الأول. لكن لا طريق له مع الاختلاف المذكور، و تسالم متأخري أصحابنا عليه لا يكفي فيه مع قرب استنادهم فيه إلي من سبق أو نحوهم و عدم أخذهم له من المعصومين عليهم السّلام.

و أما ما عن بعضهم من احتمال أن قريشا هو قصي فهو ضعيف جدا، لما هو معلوم من عدم رجوع كثير من القبائل المعروفة بهذه النسبة له، بل ذكروا أن قصيا إنما سمي (مجمعا) لأن قريشا تجمعت إلي مكة من حواليها بعد تفرقها في البلاد حين غلب عليها قصي.

و مثله ما في مجمع البحرين: «و جاء في الحديث: امرأة من قريش. يريد العلوية»، إذ لا قرينة علي هذا التفسير، إلا أن يريد حديثا آخر غير مرسلة ابن أبي عمير قد احتف

ص: 53

______________________________

بقرينة علي ذلك.

و كيف كان، فالتردد إنما هو بين رجوع القبيلة إلي النضر و رجوعها إلي فهر بن مالك بن النضر.

و من هنا لا مجال للبناء علي الستين فيمن لا يرجع إلي فهر من ولد النضر، بل يتعين علي الخمسين فيها، لا لأصالة عدم كونها قرشية، لأنها من استصحاب المفهوم المردد، بل لعموم ما دل علي التحديد بالخمسين، لأن المرجع في مورد إجمال الخاص المنفصل هو العموم.

أما دعوي: أن الرجوع فيه لعموم التحديد بالخمسين ليس بأولي من الرجوع فيه لعموم التحديد بالستين، لتكافئهما، و أما مرسلة ابن أبي عمير فحيث كان التخصيص فيها متصلا فلا مجال للرجوع مع إجماله لعمومها، فيظهر اندفاعها مما سبق من أن موثقة عبد الرحمن المتضمنة للستين لو كانت حجة في نفسها- و غض النظر عن احتمال اتحادها مع معتبرته المتضمنة للخمسين و سقوطهما عن الحجّية بالاضطراب- فهي محمولة بقرينة مرسلة ابن أبي عمير علي القضية النوعية، لا الكلية العامة الصالحة للعمل، لئلا يلزم حملها علي الفرد النادر، فلا تكون مرجعا مع الشك. فلاحظ.

الثاني: الظاهر اعتبار الانتساب لقريش بالأب، كما صرح به جملة من الأصحاب، و هو الحال في نظائر المقام مما اخذ فيه عنوان القبيلة. لكن احتمل بعضهم الاكتفاء بالانتساب للأم، بل حكي القول به في المستند عن جماعة و اختاره، كما اختاره بعض المعاصرين، إما للإطلاق لدعوي: كفاية ذلك في صدق القرشية، أو ان المرأة من قريش. أو لأن للأم مدخلا في سن اليأس بسبب تقارب الامزجة، و من ثم اعتبر ذلك في المبتدأة، حيث ترجع للخالات و بناتهن. أو لاستصحاب كونها ممن تحيض و عمومات الرجوع للصفات و العادة في إحراز الحيض.

لكن الإطلاق ممنوع، لعدم كفاية ذلك في دخول الشخص في القبيلة عرفا،

ص: 54

و المشكوك في أنها قرشية بحكم غير القرشية (1).

______________________________

و إن كفي في صدق الولد و الذرية و البنوة، و من ثم تباينت القبائل، و ظاهر النصوص في المقام ارادة الدخول في القبيلة، لا أحد العناوين المذكورة.

كما أن دخل الأم في ذلك بسبب تقارب الأمزجة غير ثابت بنحو يخرج به عن عموم دليل التحديد بالخمسين. و بالعموم المذكور يخرج عن الاستصحاب و العمومات المشار إليها- لو تمت في أنفسها- كما يخرج به عنها في غير المنتسبة أصلا لا بالأب و لا بالأم.

الشك في كون المرأة قرشيا

(1) لما في الروض و الروضة و المدارك من أصالة عدم كونها قرشية، و في المسالك من ان الأصل عدم الإلحاق بها.

قال جمال الدين الخونساري في حاشيته علي الروضة في بيان الأصل المذكور:

«أي الراجح من جهة الغلبة. أو أن الأصل عدم سقوط العبادة و عدم وجوب العدة» ثم أشكل علي كلا التقريبين بما لا يسعنا إطالة الكلام فيه.

لكن التقريبين المذكورين- مع الاشكال فيهما في انفسهما- مخالفان لظاهر تقرير الأصل في كلماتهم، لظهورها في إرادة الأصل الموضوعي المحرز لعدم القرشية.

فالأولي تقريبه باستصحاب عدم كون المرأة قرشية بلحاظ أن قرشية المرأة و انتسابها لمّا كانا من لواحق وجودها الزائدة علي ذاتها جري استصحاب عدمها بلحاظ حال ما قبل وجودها، حيث لم تكن متصفة بهما، بناء علي التحقيق من جريان استصحاب العدم الأزلي.

بل لا يبعد كون اصالة عدم الانتساب من الأصول العقلائية المعول عليها مع قطع النظر عن الاستصحاب المذكور. و لعله لذا عول عليها الفقهاء في جميع الموارد، كما ذكره شيخنا الأعظم، و جري عليها في المقام من لم يعول علي الاستصحاب المذكور، كبعض الأعاظم قدّس سرّه. و بها يخرج عن عموم وجوب العدة مع الريبة.

ص: 55

______________________________

و اما عموم سقوط العبادة برؤية الدم فهو عبارة عن عموم التحيض بالصفات أو العادة أو قاعدة الإمكان، و حيث كان قاصرا عن غير القرشية بعد سن الخمسين كان التمسك به مع الشك في قرشية المرأة من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام أو الخاص.

بل مقتضي اصالة عدم كونها قرشية البناء علي عدم التحيض بها. و لا تعارض باستصحاب عدم كونها من غير قريش لعدم اخذ عنوان غير القرشية في موضوع التحديد بالخمسين، بل موضوعه مطلق المرأة المحرز بالوجدان و انما خرجت عنها القرشية تخصيصا، و مع احراز عدم الخاص يتعين الرجوع لحكم العام علي ما ذكر في مباحث العموم و الخصوص.

هذا و لو شك في بلوغ المرأة سن اليأس فلا ينبغي التأمل في استصحاب عدمه، ليترتب عليه وجوب العدة و التحيض بخروج الدم. كما أنه لو شك في بلوغها تسع سنين جري استصحاب عدمه، ليترتب عليه عدم وجوب العدة و عدم التحيض برؤية الدم، كما ذكره بعضهم، لأن المستصحب ليس هو العدم الأزلي، بل العدم المقارن لوجود المرأة. و اما أمارية الحيض علي البلوغ بنحو يرفع به اليد عن استصحاب عدمه فقد تقدم الكلام فيها.

نعم، ينبغي التنبيه علي أمر، و هو أن الأصل المحرز لكون المرأة في سن الحيض- كاستصحاب عدم بلوغها الخمسين- يحرز وجوب العدة عليها، لتوقف سقوطها شرعا علي خروجها عن السن المذكور، فيتعين عدم سقوطها مع احراز عدمه. كما أنه إنما يحرز حيضية الدم الخارج منها بضميمة عموم احراز الحيض بالعادة أو الصفات أو قاعدة الإمكان، و إلا فمجرد كون المرأة في سن الحيض لا يستلزم حيضية الدم الخارج منها.

أما الأصل المحرز لعدم كونها في سن الحيض- و هو استصحاب عدم كونها قرشية أو عدم بلوغها تسع سنين- فهو و إن كان يحرز بنفسه سقوط العدة عنها لنظير ما سبق، إلا أنه لا ينهض باحراز عدم حيضية الدم الخارج منها، و لا عدم ثبوت أحكام

ص: 56

______________________________

الحيض به، لما سبق- في فرض العلم بحيضية الدم الخارج قبل البلوغ- من أن ظاهر أدلة عدم الحيض قبل البلوغ و بعد سن اليأس ليس بيان قضية شرعية واقعية لبيان عدم ترتب أحكام الحيض عليه في السن المذكور، و لا ظاهرية لبيان التعبد بعدم الحيضية مع خروج الدم في السن المذكور عند الشك في حاله، ليكون الأصل المذكور محرزا للمانع من تلك الأحكام، أو لموضوع التعبد الظاهري بعدم موضوعها، بل بيان قضية خارجية واقعية، فيكون مجري الأصل ملازما خارجا لعدم الحيض بخروج الدم و عدم ثبوت أحكامه، فيبتني إحرازهما به علي الأصل المثبت.

نعم، لما كان عموم إحراز الحيض بالعادة أو الصفات أو قاعدة الإمكان مختصا بالسن الخاص كان الأصل المحرز لعدم كونها فيه مانعا من الرجوع للعموم المذكور، و مع عدم إحراز الحيض بخروج الدم يتعين الرجوع لاستصحاب عدمه، فعدم التحيض لا يترتب علي الأصل المذكور رأسا، بل بضميمة الاستصحاب المذكور.

و لذا لو كان مقتضي الاستصحاب الحيض- كما لو رأت من يشك في قرشيتها الدم قبل انتهاء الخمسين بثلاثة ايام مثلا ثم استمر بها إلي ما بعد الخمسين- تعين البناء عليه، و لم ينفع الأصل المحرز لعدم كونها في سن الحيض، لأنه إنما يمنع من احرازه بالعادة و نحوها، لا انه يحرز عدمه ليكون حاكما علي استصحاب الحيض.

و بذلك يظهر الاستغناء عن الأصل المحرز لعدم كونها في سن الحيض- لو بني علي عدم جريانه كما بني علي ذلك بعض الأعاظم في اصالة عدم القرشية- لأن عموم إحراز الحيض بالعادة و نحوها لمّا كان قاصرا عمّا اذا لم تكن المرأة في سن الحيض فلا يمكن الرجوع إليه مع الشك في حالها، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، و مع عدم إحراز الحيض بخروج الدم يتعين الرجوع لمقتضي الحالة السابقة من الحيض و عدمه. فلاحظ.

ص: 57

حكم النسب بالزنا

و في المنتسبة إليهم بالزني إشكال (1).

______________________________

(1) فقد استظهر في الجواهر عدم الفرق بين النسب الشرعي و غيره. لكن مال في كتاب الزكاة إلي جواز دفع زكاة غير الهاشمي للهاشمي المتولد من الزني.

قال: «فالأحوط عدم دفعها للمتولد منهم و لو من زني. و إن كان قد يقوي خلافه، لعموم الفقراء في مصرف الزكاة، و لم يثبت أنه هاشمي بعد الانسباق للمتولد منهم بغير ذلك».

و استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه في المبحث المذكور، قال: «دعوي الانصراف غير ظاهرة، فعموم المنع من اعطاء الهاشمي محكم. و نفي ولد الزني علي نحو يشمل المقام غير متحصل، اذ عدم التوارث أعم. و قاعدة: الولد للفراش، قاعدة ظاهرية لا مجال لها في ظرف العلم بالانتساب».

لكنه قدّس سرّه خالف مسلكه في كتاب النكاح في المسألة السابعة و الاربعين من فصل المحرمات بالمصاهرة في الجمع بين الاختين من الزني، فقد ادعي التسالم علي نفي النسب بالزني، ثم قال: «كما يقتضيه قوله: «الولد للفراش و للعاهر الحجر» «1»، فإن الظاهر منه أنه وارد في مقام بيان الحكم الواقعي من نفي النسب عن العاهر واقعا.

و يشير إليه ما في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: أيما رجل وقع علي وليدة قوم حراما ثم اشتراها فادعي ولدها فانه لا يورث منه شي ء، فإن رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر. و لا يورث ولد الزني، إلا رجل يدعي ابن وليدته» «2»، فإن قوله: «و لا يورث ولد الزني» كالصريح في ولد الزني الواقعي، و نحوه غيره» «3».

أما ما ذكره في كلامه الثاني من التسالم علي نفي النسب بالزني شرعا واقعا

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 58، 56 من أبواب نكاح العبيد و الاماء و باب: 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة و ما اشبهه.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة و ما اشبهه حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة و ما اشبهه حديث: 4.

ص: 58

______________________________

فهو المناسب للتصريح بذلك في السرائر، و لما في التذكرة و القواعد و غير موضع من الشرائع من عدم ثبوت النسب بالزني، و في المبسوط من عدم لحوق ولد الزني بامه شرعا، و ظاهر بعضهم أنه من المسلمات، كما يظهر المفروغية عنه من تعليل نفي التوارث بعدم صحة النسب و نفيه شرعا في المبسوط و الخلاف و التهذيبين و السرائر و الغنية و غيرها، و مما يظهر من السرائر من أن الالحاق بوطء الشبهة مستند للرواية لا للقاعدة، و هو المناسب لتعبير بعضهم بالحاق وطء الشبهة بالنكاح الصحيح.

كما يظهر المفروغية عنه أيضا مما ذكروه في ميراث المجوس من الخلاف في توريثهم بالنسب الباطل عندنا، و هو النسب العرفي المستند لنكاح باطل.

و لعله لذا ادعي الإجماع في المسالك علي نفي النسب بالزني، و قال في الجواهر:

«فلا يثبت النسب مع الزني إجماعا بقسميه، بل يمكن دعوي ضروريته».

نعم، لما كان معني انتفائه شرعا تصرف الشارع في مفهوم النسب و نقله من الإطلاق للتقييد أو قصور موضوع أدلة أحكامه و اختصاصها بالمقيد فلا يناسب تسالمهم علي ذلك تعليل تحريم بنت الزني علي أبيها بأنها بنت لغة أو حقيقة في الخلاف و الشرائع و التذكرة و كشف اللثام و غيرها.

بل في التذكرة: «لقوله تعالي: وَ بَنٰاتُكُمْ و حقيقة البنتية موجودة فيها، فإن البنت هي المتكونة من مني الرجل و نفيها عنه شرعا لا يوجب نفيها عنه حقيقة، لأن المنفي في الشرع هو تعلق الأحكام الشرعية من الميراث و شبهه». حيث قد يظهر منه رجوع النفي الشرعي إلي نفي بعض الأحكام، كما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه في كلامه الأول.

كما هو المناسب لاستشكال العلامة في القواعد في انتفاء جملة من أحكام النسب عنه، قال: «و في تحريم النظر إشكال. و كذا في العتق و الشهادة و القود و تحريم الحليلة و غيرها من توابع النسب». و في كشف اللثام بعد ذكر ذلك: «و الأولي الاحتياط فيما يتعلق بالدماء أو النكاح».

ص: 59

______________________________

لكن الإنصاف أنه لا مجال للتشكيك في التسالم لأجل ذلك، لأن من ذكروه- مع قلتهم- قد اعترفوا بانتفاء النسب شرعا كما ذكره غيرهم، بل الظاهر ابتناؤه علي الغفلة عن أن تمامية الكبري المذكورة تستلزم امتناع حمل أدلة الأحكام علي النسب الحقيقي أو اللغوي كما نبه له في السرائر و المسالك.

نعم، لا يبعد كشف ذلك عن عدم التسالم علي تحديد مفهوم القاعدة، بل حيث كانت مأخوذة من الأدلة اختلفت تطبيقاتهم لها حسب اختلاف مفاد الأدلة عندهم و لو بمعونة الارتكازيات و القرائن الخاصة في الموارد المتفرقة.

كما قد يشهد بذلك أيضا ظهور كلماتهم في أن عمدة الدليل علي ذلك ما دل علي نفي ميراث ولد الزني و النبوي المتقدم، مع ظهور كون نفي الميراث لا يستلزم إطلاق نفي النسب، و أما النبوي فقد تكرر في كلامهم الاستدلال به علي القاعدة الظاهرية الراجعة إلي الحاق الولد بالفراش عند الشك في انعقاده من ماء صاحبه، و هو لا يناسب حمله علي نفي نسب الزني واقعا عند العلم بانعقاد الولد من ماء الزاني الذي هو محل الكلام، حيث يظهر من ذلك اضطرابهم في مفهوم القاعدة و عدم تحديده بالوجه الموجب لصلوح تسالمهم عليها للاستدلال بها في المقام.

و من هنا لا مجال للاستدلال بالتسالم المذكور، بل اللازم النظر في مفاد الأدلة التي هي المستند له.

و من الظاهر أنه لا مجال للاستدلال بما تضمن نفي بعض أحكام النسب كالميراث، لأنه أعم من إطلاق إلغاء أحكام النسب بنحو يشمل مورد الشك، كما اشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه في كلامه الاول.

فالعمدة النبوي المستفيض المشهور بين الفريقين الذي تقدم منه قدّس سرّه حمله علي النفي الواقعي بقرينة تفريع عدم إرث ابن الزني عليه في صحيح الحلبي. و لأجله يلزم حمل الصحيح علي العلم بكون الولد من ماء الزاني، و حمل قوله في صدره: «فادعي ولدها» علي التبني تجاهلا لعدم ميراث ابن الزني، لا الادعاء القابل للكذب و عدم

ص: 60

______________________________

كون الولد من مائه. و بلسان الصحيح المذكور حديث آخر عنه عليه السّلام مروي بطرق متعددة لا يبعد كون بعضها موثقا «1».

و دعوي: أن لازم حمل النبوي علي القضية الواقعية كفاية الفراش في الإلحاق و إن لم يكن الولد من ماء صاحبه، مع عدم الإشكال في اشتراط الإلحاق به واقعا بكونه منه و ظاهرا بإمكان ذلك، و هو مناسب لإرادة ترجيح الفراش علي العاهر ظاهرا عند التردد بينهما.

مدفوعة: بإمكان حمله علي كون الفراش قيدا في إلحاق الولد بمن تكون من مائه، لإتمام الموضوع للإلحاق بصاحبه. نعم، ظاهر جملة من النصوص كون قاعدة الفراش ظاهرية، كحديث سعيد الاعرج الذي لا يبعد اعتباره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قلت له: الرجل يتزوج المرأة ليست بمأمونة تدعي الحمل. قال: ليصبر لقول رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله: الولد للفراش و للعاهر الحجر» «2». و في صحيحه عنه عليه السّلام: «سألته عن رجلين وقعا علي جارية في طهر واحد لمن يكون الولد؟ قال: للذي عنده لقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: الولد للفراش و للعاهر الحجر» «3». و قريب منه الموثق و الصحيح عن الحسن الصيقل «4»، الذي لا يبعد وثاقته، و خبر علي بن جعفر «5».

و حمل النبوي علي المعنيين بعيد جدا، بل لعله ممتنع عرفا، لرجوع الأول للتصرف شرعا في مفهوم النسب أو أحكامه واقعا، و الثاني للتعبد ظاهرا بالنسب عند الشك فيه.

و من هنا يتعين العمل بالنصوص الأخيرة لأنها أصرح في ارادة القاعدة الظاهرية و تنزيل الحديثين السابقين عليها بحمل ادعاء الولد في صدرهما علي الادعاء القابل للخطأ لاحتمال عدم كونه من مائه و يكون الاستشهاد بالنبوي لبيان عدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة و ما أشبهه حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 56 من أبواب نكاح العبيد و الاماء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 58 من أبواب نكاح العبيد و الاماء حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب نكاح العبيد و الاماء حديث: 2، 3، 7.

(5) الوسائل باب: 8 من أبواب نكاح العبيد و الاماء حديث: 2، 3، 7.

ص: 61

______________________________

تصديقه، و حمل الحكم في ذيلهما بعدم ميراث ولد الزني علي كونه حكما مستقلا غير متفرع علي مفاد النبوي، فكأنه عليه السّلام قال: لا يورث منه، لأنه لا يصدق في ادعائه له عملا بقاعدة الفراش، و لأن ولد الزني لا يورث، فلا يفيده صدق الادعاء المذكور.

بل لعل حمل الحديثين علي هذا المعني أقرب من حملهما علي المعني الذي قربه سيدنا المصنف قدّس سرّه مع قطع النظر عن النصوص الاخيرة، لأنه الأنسب بالادعاء، و لعدم الاشعار بتفريع الذيل علي الاستشهاد بالنبوي، بل لازم المعني الاول كون الذيل تكرارا لمفاد الصدر من دون فائدة، أما علي المعني الثاني فيكون مضمونه مستقلا عن الصدر محتاجا للبيان. فتأمل.

و لو فرض تعذر حمل الحديثين علي المعني الذي ذكرناه تعين الالتزام بإجمال وجه الاستشهاد بالنبوي فيهما، و يقتصر علي المتيقن من مفادهما، و هو نفي الميراث.

و لا سيما مع كون القاعدة الظاهرية أقرب لمفاد النبوي الشريف، لظهور مقابلة الفراش بالعاهر فيه في كون إلحاق الولد بالفراش تكريما لصاحبه في قبال حرمان العاهر منه و توهينه بالحجر، و هو يناسب ترجيح الفراش عند التردد في الولد بينه و بين العهر، لا شرطيته واقعا مع العلم بصاحب الماء، بل هو لا يناسب إضافة الولد للفراش باللام.

علي انه لو فرض إجمال الحديث في نفسه و تكافؤ طائفتي النصوص المتقدمة في بيان المراد منه، فالقاعدة الظاهرية- مع كونها مسلمة في نفسها- مطابقة لأصالة عدم الانتساب، و القاعدة الواقعية لا دليل عليها، بل مقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة أحكام النسب الحمل علي النسب العرفي و إن كان من الزني. و يقتصر في الخروج عنها علي ما قام الدليل علي عدم ترتبه عليه كالميراث.

ثم إنه لو تم كون نفي النسب بالزني شرعا واقعيا فهو إنما يقتضي نفي أحكام النسب الشرعية، دون الآثار الواقعية، لأن نفي الشارع لها بالبيان المذكور إنما يتجه إذا كان في مقام الإخبار عن قضية واقعية مرجعها إلي الكناية بنفي النسب عن نفي آثاره، و هو خلاف ظاهر النبوي جدا، بل خلاف المقطوع به منه.

ص: 62

مسألة 3: الأقوي مجامعة الحيض للحمل
اشارة

(مسألة 3): الأقوي مجامعة الحيض للحمل (1).

______________________________

و من هنا لا مجال لشمول النفي للمقام، لما سبق من ظهور أدلة تحديد سن اليأس في بيان قضية خارجية، لا شرعية. علي انها لو كانت شرعية فحيث كان منشؤها ارتكازا خصوصية المزاج التي لا دخل للفراش فيها لم يبعد انصراف إطلاق نفي النسب عنها. فلا ينبغي التوقف في عموم التحديد بالستين للمنتسبة لقريش بالزني.

فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) مطلقا، كما هو ظاهر المقنع و الناصريات و التذكرة و المنتهي و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و المدارك، و عن الجامع و المقتصر و غيرها من كثير من كتب الاصحاب، بل هو صريح بعضها. و قد نسب للمشهور في جامع المقاصد، و للأكثر في المدارك، و في الناصريات دعوي الإجماع علي اجتماع الحيض مع الحمل.

و يشهد باجتماعهما مطلقا- مضافا إلي عموم ما دل علي إحرازه بالعادة أو الصفات أو قاعدة الإمكان- النصوص الكثيرة، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام:

«سألته عن الحبلي تري الدم كما كانت تري أيام حيضها مستقيما في كل شهر. قال:

تمسك عن الصلاة كما كانت تصنع في حيضها، فإذا طهرت صلت» «1»، و صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا الحسن [أبا إبراهيم] عليه السّلام عن الحبلي تري الدم و هي حامل كما كانت تري قبل ذلك في كل شهر، هل تترك الصلاة؟ قال: تترك الصلاة إذا دام» «2»، و صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سئل: الحبلي تري الدم، أ تترك الصلاة؟ فقال: نعم، ان الحبلي ربما قذفت بالدم» «3». و غيرها.

خلافا لما في ظاهر الشرائع و عن ابن الجنيد و المفيد و التلخيص من عدم اجتماعهما مطلقا، و عن ظاهر كشف الرموز الميل إليه، و نسبه في النافع لأشهر الروايتين «4». لموثق السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام: «أنه قال: قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: ما كان اللّه ليجعل حيضا

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 1.

(4) يأتي منه في المعتبر ان المراد به حال استبانة الحمل. (منه عفي عنه).

ص: 63

______________________________

مع حبل. يعني إذا رأت الدم و هي حامل لا تدع الصلاة. إلا أن تري علي رأس الولد إذا ضربها الطلق و رأت الدم تركت الصلاة» «1»، و صحيح حميد بن المثني: «سألت أبا الحسن الأول عليه السّلام عن الحبلي تري الدفقة و الدفقتين من الدم في الأيام و في الشهر و الشهرين. فقال: تلك الهراقة «2» ليس تمسك هذه عن الصلاة» «3»، و خبر مقرن عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: سأل سلمان رحمه اللّه عليا عليه السّلام عن رزق الولد في بطن أمه. فقال:

ان اللّه تبارك و تعالي حبس عليه الحيضة فجعلها رزقه في بطن أمه» «4»، و للإجماع علي جواز طلاق الحامل و إن رأت الدم- كما تقتضيه النصوص المتضمنة أنها تطلق علي كل حال «5» - بضميمة ما تضمن بطلان طلاق الحائض «6»، و عن شرح المفاتيح دعوي تواتر الأخبار بذلك كأخبار استبراء الجواري و السبايا بحيضة «7».

لكن لا مجال للاستدلال بما عدا الموثق، أما الصحيح فلعدم تحقق أقل الحيض بالدفقة و الدفقتين، بل لعل قوله عليه السّلام: «ليس تمسك هذه … » مشعر بخصوصيتها في عدم الإمساك عن الصلاة و عدم عمومه لكل حامل.

و أما خبر مقرن فهو- مع ضعفه- محمول علي حبس الحيضة بالمقدار الذي يحتاجه الولد، فلا ينافي خروج ما زاد علي ذلك، كما تضمنه صحيح سليمان بن خالد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الحبلي ربما طمثت؟ قال: نعم، و ذلك أن الولد في بطن امه غذاؤه الدم فربما كثر ففضل عنه، فإذا فضل دفقته، فإذا دفقته حرمت عليها الصلاة» «8».

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 12.

(2) قال في الصحاح: (و هراق الماء يهريقه بفتح الهاء هراقة بالكسر صبه. و في مجمع البحرين: (و في الحديث:

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 4، ص: 64

تلك الهراقة من الدم، بهاء مكسورة بمعني الصبة).

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 13.

(5) راجع الوسائل باب: 25، 27 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.

(6) راجع الوسائل باب: 8 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.

(7) راجع الوسائل باب: 10، 11 من أبواب بيع الحيوان، و باب: 3، 10، 17، 45، من أبواب نكاح العبيد و الاماء.

(8) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 14.

ص: 64

______________________________

و أما جواز طلاقها فهو لا ينهض بضميمة عموم بطلان طلاق الحائض بنفي الحيض عنها، لعدم حجية العام في عكس نقيضه، بل المتيقن من حجيته نهوضه بإثبات الحكم في المورد تبعا لإحراز موضوعه، دون نفي موضوعه تبعا لإحراز انتفاء حكمه فرارا من التخصيص.

علي أنه لو كان حجة في ذلك في نفسه تعين البناء علي تخصيصه في المورد المذكور، لأجل النصوص المتقدمة الصريحة في اجتماع الحيض و الحمل.

كما أن أخبار الاستبراء إنما تقتضي أمارية الحيض علي انتفاء الحمل، و لا ملزم بكون منشئها امتناع اجتماعه معه، بل لعله لندرته التي هي ظاهر صحيحي عبد اللّه بن سنان و سليمان بن خالد. و ربما يناسبه استحباب الاستبراء بحيضتين، حيث قد يظهر منها عدم كفاية الواحدة في اليقين بعدم الحمل.

فالعمدة موثق السكوني التام السند و الدلالة. و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من قرب حمله علي القضية الغالبية الامتنانية و كون التفسير من الراوي. ففيه- مع عدم وضوح الامتنان في ذلك، و بعد كون التفسير من غير الإمام عليه السّلام- أن لسانه لا يناسب القضية الغالبية.

و مثله ما ذكره من ترجيح النصوص المتقدمة عليه بمخالفتها للعامة. لاختلاف العامة في ذلك، فكما حكي القول بعدم اجتماعهما عن جماعة منهم، بل نسبه في التذكرة لجمهور التابعين، كسعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و جابر بن زيد و عكرمة و محمد بن المنكدر و الشعبي و مكحول و حماد و الثوري و الأوزاعي و أبي حنيفة و ابن المنذر و أبي عبيد و أبي ثور و أحمد، و زاد في الخلاف و المنتهي الشافعي في القديم، كذلك حكي القول باجتماعهما عن مالك و الشافعي في الحديث و الليث و الزهري و قتادة و إسحاق و عائشة. و لا دليل علي مرجحية المخالفة لقول أكثرهم مع ظهور القول الآخر عندهم.

فالعمدة في ترجيح النصوص المذكورة عليه شهرتها، لكثرة عددها جدا و شيوع

ص: 65

حتي بعد استبانته (1).

______________________________

روايتها بين الأصحاب، بخلافه حيث لم يروه إلا الشيخ بسنده عن محمد بن أحمد بن يحيي، فهو بالنسبة إليها شاذ نادر.

و أما ما يظهر من الجواهر من الجمع بين أدلة عدم الحيض مع الحمل و أدلة اجتماعهما بحمل الأولي علي الفاقد للصفات أو المرئي بعد العادة كثيرا، و حمل الثانية علي المرئي في العادة أو ما قاربها واجدا للصفات، لنصوص الصفات الآتية، و لمثل صحيحي ابني مسلم و الحجاج المتضمنين تشبيه رؤيتها للدم برؤية الحائض له.

ففيه: أنه حيث كان دليل عدم الحيض حال الحمل منحصرا بالموثق فهو ظاهر في امتناع الحيض معه بنحو لا موضوع للتفصيل المذكور فيه، لا في عدم حيضية الدم، ليمكن فيه التفصيل المذكور. علي أن حمل إطلاق عدم الحيض علي الدم الفاقد للصفات أو المرئي بعد العادة كثيرا حمل علي الفرد الخفي، فلا مجال له في مقام الجمع العرفي.

و من هنا يستحكم التعارض بين الموثق و نصوص التحيض بخروج الدم مطلقها و مقيدها، فيلزم طرحه لما سبق. و يتعين العمل بها بعد تنزيل المطلق منها علي المقيد المنافي له، كنصوص الصفات و غيرها- علي ما يأتي- دون الموافق، كصحيحي ابني مسلم و الحجاج، لاشتمالهما علي التقييد في السؤال، لا في الجواب.

(1) خلافا لما في المبسوط «1»، و الخلاف و السرائر و محكي الإصباح من عدم حيضها بعد الاستبانة، و نسبه في السرائر لأكثر أصحابنا المحصلين منهم، و صرح في المعتبر بأن المراد مما في النافع من أن أشهر الروايتين عدم حيضها إنما هو بعد استبانة الحمل. بل في المسألة الخامسة و العشرين من مباحث حيض الخلاف: «إجماع الفرقة علي أن الحامل المستبين حملها لا تحيض، و إنما اختلفوا في حيضها قبل أن يستبين الحمل». لكن اعترف في المسألة السادسة من كتاب الطلاق بتحقق الخلاف فيها، كما

______________________________

(1) ذكر ذلك في فصل النفاس و أحكامه. أما في مباحث العدد فلا يظهر منه إلا اجتماع الحيض مع الحبل في الجملة. (منه عفي عنه).

ص: 66

______________________________

صرح به في السرائر.

و كيف كان، فالمراد باستبانة الحمل إن كان هو العلم به مع أخذها بمحض الطريقية رجع إلي القول السابق بعدم اجتماع الحيض مع الحمل مطلقا في الواقع، مع البناء ظاهرا علي الحيض عند الشك في الحمل، كما لا تأباه كلمات أهل القول المذكور، لما أشرنا من أمارية الحيض علي عدم الحمل.

و لعله الظاهر من السرائر، لاقتصاره في بيان الخلاف في الحامل علي الخلاف في المستبين حملها، و لاستدلاله علي عدم اجتماع الحيض مع الحمل بالإجماع علي صحة طلاق الحامل حال خروج الدم منها، مع أن موضوع الإجماع- كالنصوص- هو الحامل الواقعية، و ليس العلم بحملها إلا طريقا محضا لترتيب الحكم المذكور.

و حينئذ ينحصر الدليل عليه بما تقدم في وجه عدم اجتماع الحيض مع الحمل مطلقا، كما يرده نصوص اجتماعهما علي ما سبق، لتعذر حملها علي خصوص البناء علي الحيض ظاهرا عند الشك في الحمل و عدم التحيض مع العلم به.

و أولي بالإشكال ما لو أخذت الاستبانة بالمعني المذكور قيدا في المانعية واقعا، لأن اجتماع الحيض مع الحمل ليس حكما شرعيا، بل هو أمر واقعي كشف عنه الشارع، و من المقطوع به تبعيته للواقع من دون دخل للاستبانة فيه و عدمها. كيف و لازمه اختلاف الحيض باختلاف الأشخاص من حيثية استبانة الحمل و عدمها، مع وضوح كون الحيض أمرا حقيقيا لا إضافيا.

إلا أن يرجع ذلك إلي ترتب أحكام الحيض قبل الاستبانة لا بعدها من دون نظر لواقعه. و حينئذ لا دليل علي ذلك حتي ما تقدم من أدلة اجتماع الحيض مع الحمل، لأنها- مع عدم خصوصية الاستبانة فيها- ظاهرة في انتفاء الحيض واقعا. بل تنهض نصوص اجتماعهما برده، لتعذر حملها علي صورة الجهل بالحمل.

نعم، في الرضوي: «و الحامل إذا رأت الدم في الحمل كما كانت تراه تركت الصلاة أيام الدم، فإن رأت صفرة لم تدع الصلاة، و قد روي: أنها تعمل ما تعمله

ص: 67

______________________________

المستحاضة إذا صح لها الحمل فلا تدع الصلاة. و العمل من خواص الفقهاء علي ذلك» «1». و ظاهر ذيله إرادة هذا المعني. لكنه- مع ضعفه في نفسه، و ظهور غموض المراد به- لا مجال لرفع اليد به عما مضي.

و إن كان المراد بالاستبانة ظهور الحمل عرفا أشكل بعدم الدليل علي التفصيل المذكور. و الجمع به بين النصوص تبرعي بلا شاهد. بل يأباه أكثر نصوص اجتماعهما، حيث يلزم حملها علي أقل أحوال الحمل و أخفاها.

بل صحيح محمد بن مسلم المتقدم كالصريح في خلافه، سواء كان قوله:

«مستقيما في كل شهر» بدلا من قوله: «كما كانت تري … » الذي هو حال معمول لقوله: «تري الدم» كما هو الأقرب، أم حالا معمولا لقوله: «تري أيام حيضها»، إذ علي الأول يكون المفروض فيه استمرار الدم في جميع أشهر الحمل، و علي الثاني يكون ظاهرا في ذلك، لأنه مقتضي فرض مشابهة الدم المرئي أيام الحمل للدم المرئي قبله.

و حمله علي المشابهة من غير حيثية الاستقامة في كل شهر بعيد جدا، لعدم مناسبته للتنبيه علي الخصوصية المذكورة في المشبه به.

و يقرب منه في ذلك صحيح ابن الحجاج، و إن لم يكن مثله، لإمكان كون قوله: «في كل شهر» للتنبيه لدم الحيض لعدم التصريح به فيه كما صرح به في صحيح محمد بن مسلم، مع قصد التشبيه بدم الحيض في غير الجهة المذكورة.

و مثله في ذلك ما لو اريد بالاستبانة مضي مدة خاصة حددت بها شرعا، كالثلاثة أشهر، علي ما في حسن محمد بن حكيم من قول العبد الصالح عليه السّلام: «رفع الطمث ضربان، إما فساد من حيضة … و إما حامل فهو يستبين في ثلاثة أشهر، لأن اللّه عزّ و جلّ قد جعله وقتا يستبين فيه الحمل» «2». أو خمسة و أربعين ليلة علي ما في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فيمن اشتري جارية لا تحيض من قوله عليه السّلام:

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب العدد حديث: 4.

ص: 68

______________________________

«أمرها شديد غير أنه إن أتاها فلا ينزل عليها حتي يستبين له إن كان بها حبل، قلت:

و في كم يستبين؟ قال: في خمسة و أربعين ليلة» «1».

هذا كله مع أن الاستبانة بأي وجه فسرت فالبناء علي عدم الحيض معها مناف لصريح صحيح أبي المغراء حميد بن المثني: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحبلي قد استبان ذلك منها تري الدم كما تري الحائض من الدم. قال: تلك الهراقة، إن كان دما كثيرا فلا تصلين، و إن كان قليلا فلتغتسل عند كل صلاتين» «2». و قريب منه المرسل عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام «3».

هذا و مقتضي ما ذكره في الخلاف من أن الدليل علي التفصيل المذكور الأخبار المذكورة في التهذيبين، و أنه بين فيهما وجه اختلاف الأخبار كون مراده بالاستبانة ما فسرها به في الاستبصار، قال: «فالوجه فيه أن يكون ذلك مع الحبل [الحبلي. ظ] المستبين حملها، و إنما يكون الحيض ما لم يستبن الحبل، فإذا استبان فقد ارتفع الحيض، و لأجل ذلك اعتبرنا أنه متي تأخر عن عادتها بعشرين يوما فليس ذلك بدم حيض يدل علي ذلك … » ثم ذكر صحيح الصحاف الآتي، كما ذكر في التهذيب القول المذكور مستدلا عليه بالصحيح المزبور وجها للجمع بين النصوص من دون تنبيه علي الاستبانة.

لكن ظاهر القول المذكور كدليله- علي ما يأتي- ليس هو التفصيل بالوجه المذكور في خصوص الشهر الأول الذي قد لا يستبين فيه الحمل، بل في كل شهر حتي التاسع، فإن كان المراد من التفصيل بين الاستبانة و عدمها الأول فلا يشهد به الصحيح المذكور، و تنهض نصوص اجتماع الحيض مع الحمل برده، لتعذر حملها علي خصوص ما يري في أيام العادة من الشهر الأول، بل المتيقن منها إرادة حال استبانته.

و إن كان المراد به الثاني رجع للقول الآتي الذي يأتي الكلام في دليله. لكن لا مناسبة للتعبير عنه بالاستبانة و عدمها، كما لا يخفي. و من هنا لا مجال لحمل كلام غير الشيخ ممن بني علي عدم حيض المستبين حملها عليه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 16.

ص: 69

لكن لا يترك الاحتياط فيما يري بعد العادة بعشرين يوما (1).

______________________________

نعم، قد يناسبه ما في المعتبر من الجمع بين استحسان الصحيح المذكور و الجنوح لمضمونه و ما تقدم من دعوي أن شهرة الرواية بعدم الحيض إنما هي مع استبانة الحمل.

(1) فقد سبق من التهذيبين البناء علي عدم حيضية الدم المذكور لصحيح الصحاف، كما صرح به في النهاية، و في المعتبر: «و هذه الرواية حسنة، و فيها تفصيل يشهد له النظر»، و في المدارك: «و هي مع صحتها صريحة في المدعي، فيتعين العمل بها، و إن كان القول الأول لا يخلو عن قرب أيضا» و مراده بالقول الأول إطلاق اجتماع الحيض مع الحمل.

و كيف كان، فينحصر الدليل عليه بالصحيح المذكور، و هو ما رواه الحسين بن نعيم الصحاف قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إن أم ولدي تري الدم و هي حامل كيف تصنع بالصلاة؟ قال: فقال لي: إذا رأت الحامل الدم بعد ما يمضي عشرون يوما من الوقت الذي كانت تري فيه الدم من الشهر الذي كانت تقعد فيه فإن ذلك ليس من الرحم و لا من الطمث، فلتتوضأ و تحتشي بكرسف و تصلي. و إذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الذي كانت تري فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنه من الحيضة فلتمسك عن الصلاة عدد أيامها التي كانت تقعد في حيضها، فإن انقطع عنها الدم قبل ذلك فلتغتسل و لتصل..» «1».

و قد جعله في التهذيبين شاهد جمع بين نصوص اجتماع الحيض مع الحمل و موثق السكوني. و قد ذكرنا آنفا أنه لا ظهور له في الاختصاص بالشهر الأول من الحمل. و ذلك لإطلاق السؤال، بل المتيقن منه ما يكون بعد استبانة الحمل الذي لا يكون غالبا إلا بعد مضي أكثر من شهر، فعدم الاشارة في الجواب للاختصاص ببعض الأشهر ظاهر في العموم لها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 70

______________________________

و توهم حمل قوله: «الوقت الذي كانت تري فيه الدم» علي الزمان الجزئي و هو آخر أزمنة رؤية الدم قبل الحمل، لا علي الزمان الكلي و هو أيام العادة التي تتكرر في كل شهر. ممنوع جدا، فإن المناسب لذلك أن يقول: الوقت الذي رأت فيه الدم. مع أنه لا يناسب ما بعده من فرض رؤية الدم في الوقت المذكور أو قبله. بل لازمه اعتبار كون الطهر بين الدم المرئي قبل الحمل و بعده عشرين يوما أو دونها، و هو مستلزم لتقدمه علي العادة غالبا، و لم يقل أحد بذلك، بل التزموا بعدم تأخره عن العادة عشرين يوما.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في أن المراد بالوقت هو أيام العادة التي تتكرر في كل شهر، و في ظهور الحديث في عموم التفصيل لجميع أشهر الحمل. و لازمه إمكان الحيض حال الحمل مطلقا- كما تضمنته النصوص الأول و امتناع تنزيل موثق السكوني عليه لتضمنه امتناع الحيض حاله مطلقا بنحو لا موضوع معه للتفصيل المذكور.

و لو غض النظر عما ذكرنا و حمل التفصيل فيه علي خصوص الشهر الأول رجع إلي امتناع الحيض في بقية الأشهر و سهل تنزيل موثق السكوني عليه، إلا أنه لا مجال لتنزيل النصوص الأول عليه كما سبق، لأن المتيقن منها حال ظهور الحمل و استبانته الذي يكون غالبا بعد الشهر الأول. و من هنا لا مجال لجعل الصحيح شاهد جمع بين النصوص.

بل يتعين رفع اليد عن موثق السكوني لما سبق، و العمل بنصوص اجتماع الحيض مع الحمل بعد تنزيلها علي هذا الصحيح، لأنها بين ما يطابقه موردا- كصحيح محمد بن مسلم- و ما لا ينافيه أصلا، لتضمنه إمكان الحيض حال الحمل بلا نظر لتمييز دمه عن غيره من الدماء- كصحيح سليمان بن خالد- و مطلق يتضمن التحيض برؤية الدم- و هو الأكثر- فيسهل تنزيله عليه و تقييده به، كما لا يخفي.

و لا وجه مع ذلك لقول شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعد ذكر الصحيح المذكور:

ص: 71

______________________________

«و كيف كان، ففي مكافأته لما تقدم من الأخبار منع واضح». قال: سيدنا المصنف قدّس سرّه:

«و كأنه لكثرة النصوص المطلقة و اشتمال بعضها علي بعض التعليلات بنحو تأبي عن التقييد». لكن ندرة الفرد المذكور تهون إهمال استثنائه في المطلقات. و لم نعثر إلا علي التعليل بأن المرأة ربما حاضت أو قذفت الدم، و هو لا يأبي التقييد المذكور.

و مثله ما يظهر من غير واحد من وهنه بإعراض أكثر الأصحاب عنه، لعدم وضوح إعراض القدماء عنه بعد عمل الشيخ به، و ذكر الكليني له في أول باب:

«الحبلي تري الدم»، و تصريح المحقق في المعتبر بما سبق، و العلامة في المنتهي بابتنائه علي مقتضي الغالب في النساء و خصوصا الحامل في عدم كون الدم بعد العادة حيضا، حيث قد يظهر منه حمله علي الحكم ظاهرا بعدم الحيضية عملا بالغلبة و إن أمكن حيضية الدم الخارج من الحامل في الواقع مطلقا.

و قرب كون إهمال بعضهم له لأنهم بصدد بيان أصل اجتماع الحيض مع الحمل- كما قد يظهر من المرتضي في الناصريات- أو لندرة الفرض المذكور، كما أهمل جملة من الأصحاب التعرض لحيض الحامل و عدمه.

و لم يتضح الإعراض عنه إلّا من جماعة من المتأخرين الذين لا يوهن إعراضهم، و لا سيما مع ظهور بعض كلماتهم في كون منشئه استبعاد تنزيل المطلقات عليه أو إمكان تأويله أو نحو ذلك من الاجتهاديات، دون الاطلاع علي قرائن حسية موهنة له.

و كذا ما في الجواهر من إجمال التقدم علي العادة الذي حكم فيه بحيضية الدم معه، لإمكان انطباقه علي التأخر عن العادة السابقة بأكثر من عشرين يوما الذي حكم فيه بعدم حيضية الدم معه، فيحصل التدافع بين الصدر و الذيل.

إذ الظاهر ابتناؤه علي تخيل إطلاق التقدم في الصحيح، كما هو مقتضي نقله بإسقاط لفظ: (بقليل) مع أنه موجود في الوسائل و الحدائق تبعا للكافي و التهذيب، بل الاستبصار و إن كان الموجود في المطبوع منه: (القليل) لقرب كونه تصحيفا له، علي أنه لو فرض إطلاقه فهو منصرف لذلك، لانسباق كون المراد تحكيم العادة التي

ص: 72

______________________________

قد تتقدم أو تتأخر قليلا، كما ذكر في النصوص و بعض الفتاوي، و لذا ألحق به الشيخ صورة التأخر قليلا. و لا أقل من لزوم حمله عليه، جمعا بين الصدر و الذيل و دفعا للتدافع بينهما.

و أشكل من ذلك ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن الحكم بحيضية ما في العادة و عدم حيضية ما تأخر عن عشرين يوما منها ظاهري، تبعا لظاهر حال العادة.

و حينئذ يتعين حمل الحكم بعدم حيضية المتأخر ظاهرا علي ما إذا لم يستمر الدم ثلاثة أيام أخذا بالاطلاقات، لأنه أولي من تقييد قوله في صحيحة ابن الحجاج: «تترك الصلاة إذا دام»، و في صحيح ابي المغراء: «إن كان دما كثيرا فلا تصلين»، لاعتضاد المطلقات بعضها ببعض و بموافقة العمومات المتقنة التي عليها العمل.

إذ فيه: - بعد تسليم كون الحكم بالتحيض في الصحيح ظاهريا- أن عدم التحيض مع عدم استمرار الدم ثلاثة أيام- مع أنه واقعي- لا يختص بما يري بعد العشرين، فالحمل عليه إلغاء لخصوصية التفصيل، و هو مما يأباه الصحيح جدا، بخلاف تقييد المطلقات بالصحيح.

و بالجملة: لا ينبغي التوقف عن العمل بالصحيح و تحكيمه علي المطلقات، لكن بعد الجمع بينه و بين ما دل علي الاعتبار بالصفات، الذي يأتي الكلام فيه قريبا إن شاء اللّه تعالي.

نعم، لم يتعرض فيه لما إذا رؤي الدم بعد العادة بأقل من عشرين يوما، و قد يدعي ظهوره في لزوم البناء علي حيضيته، لقوة ظهوره في خصوصية العشرين، فلو بني علي عدم حيضيته لزم إلغاؤها. و يشكل بظهوره في خصوصية العشرين في البناء علي عدم الحيض للعلم بعدمه، كخصوصية كونه في العادة في البناء علي الحيض و لو لأماريتها عليه، فيكون المتوسط بينهما فاقدا للخصوصيتين غير منظور إليه في الصحيح.

نعم، مقتضي إطلاق النصوص المتقدمة و غيرها البناء علي حيضيته.

ص: 73

و لا سيما إذا كان فاقدا للصفات (1).

______________________________

و دعوي: أنها بصدد البناء علي عدم مانعية الحمل من الحيض، لأن احتمال ذلك هو الموجب للسؤال.

مدفوعة بأن كون ذلك هو الموجب للسؤال لا يمنع من استفادة الإطلاق منها بعد الأمر فيها بترتيب أحكام الحيض برؤية الدم الراجع لعدم التعويل علي احتمال عدم الحيضية. غاية الأمر أن ذلك قد يوجب إلغاء خصوصية موردها و التعدي منها لغير الحامل إلا أن يفرض حكومة أدلة الصفات علي ذلك. و يأتي في المسألة السادسة إن شاء اللّه تعالي ما ينفع في المقام. و منه يظهر ضعف ما عن محكي الجامع من اعتبار كون الدم في العادة.

(1) ففي الفقيه: «و الحبلي إذا رأت الدم تركت الصلاة، فإن الحبلي ربما قذفت الدم. و ذلك إذا رأت الدم كثيرا أحمر، فإن كان قليلا أصفر فليس عليها إلا الوضوء».

و يشهد به صحيح إبراهيم بن هاشم عن بعض رجاله عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام: «سألته عن الحبلي قد استبان حبلها تري ما تري الحائض من الدم. قال:

تلك الهراقة من الدم، إن كان دما أحمر كثيرا فلا تصلي، و إن كان قليلا أصفر فليس عليها إلا الوضوء» «1». و في التفصيل بين الكثرة و القلة صحيح أبي المغراء المتقدم «2»، و في عدم التحيض مع الصفرة الرضوي المتقدم «3»، في التفصيل بين الاستبانة و عدمها.

كما قد يستدل عليه أيضا بصحيح اسحاق بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة الحبلي تري الدم اليوم و اليومين. قال: إن كان دما عبيطا فلا تصلي ذينك اليومين، و إن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين» «4». و سيتضح حاله إن شاء اللّه تعالي.

و استشكل شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذلك بأن المراد بالنصوص ليس هو اعتبار

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 16.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 5.

(3) مستدرك الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 6.

ص: 74

______________________________

الصفات في حيضية الدم بمجموعه واقعا، كما هو المدعي، بل في الحكم بحيضيته ظاهرا بمجرد خروجه عند الشك في استمراره ثلاثة أيام، كما يشهد به ذكر اليوم و اليومين في صحيح إسحاق، مع أن الحيض لا يقل عن ثلاثة. و لعل الكثرة و القلة في حديث ابن مسلم إشارة إلي استمرار الدم ثلاثة أيام و انقطاعه بعد زمان يسير «1». فلا ينافي التحيض مع استمرار الدم ثلاثة أيام مطلقا و إن كان الدم فاقدا للصفات، كما هو مقتضي إطلاق نصوص الاجتماع، و لا سيما مع أن حمل أخبار منع الحيض مع الحمل علي خصوص فاقد الصفة في غاية البعد.

و يندفع بأن استبعاد حمل أخبار المنع علي الفاقد و إن كان في محله، لأنه أخفي أفراد الدم، بل لا مجال له في عمدتها و هو موثق السكوني المتضمن عدم اجتماع الحيض مع الحمل، لا عدم حيضية الدم الخارج حاله، إلا أنه إنما يمنع من جعل الصحيح شاهد جمع بين النصوص، لا من تخصيصه لنصوص الاجتماع بعد ما سبق من تعين العمل بها و طرح نصوص المنع، و مرجعه عدم حيضية الفاقد، كما تقدم من الصدوق.

و حمل الأخبار المذكورة علي التحيض برؤية الدم ظاهرا لا حيضية الدم بمجموعه واقعا مخالف لظاهرها جدا، كحمل الكثرة و القلة علي الاستمرار و عدمه، بل الظاهر منها كثرته و قلته حال خروجه، كما يناسبه سوقهما مساق اللون، و إلا فلا دخل للصفرة في عدم التحيض مع القلة بالمعني المتقدم، كما لا دخل للحمرة في التحيض بناء علي العمل بالعمومات.

و لا مجال للاستشهاد لما ذكره بصحيح إسحاق، لظهوره في كون الدم بمجموعه لا يزيد علي اليوم أو اليومين، لإضافتهما له، لا لحكمها حاله، بل لا أثر لهما إذا كان المراد السؤال عن حكمها الظاهري، لاحتياجها لمعرفة الحكم بمجرد رؤية الدم.

حينئذ إن أمكن العمل بظاهره و تخصيص ما دل علي تحديد أقل الحيض

______________________________

(1) هذا راجع إلي ورود الحديث لبيان الحكم الواقعي، غايته انه لبيان شرط متفق عليه، لا شرطية الصفات.

(منه عفي عنه).

ص: 75

______________________________

بثلاثة في الحامل- كما قد يناسبه تعليل حملها بأن الدم قد يفضل عن الولد في صحيح سليمان بن خالد، و التعبير عنه بالهراقة في غير واحد من النصوص- فهو، و إلا فلا مجال لحمله علي خلاف ظاهره و تفسير غيره من النصوص به، مع عدم اشتمالها علي ما يلزم بالتفسير المذكور.

نعم، قد يشكل الاستدلال بنصوص الصفات بوضوح عدم حجية الرضوي.

و ظهور صحيح أبي المغراء في التفصيل بين الكثرة و القلة. و حملهما علي ما يلازم الحمرة و الصفرة بلا قرينة، بل لا يناسبه الحكم بالغسل عند كل صلاتين الذي هو حكم الاستحاضة الكثيرة، التي يغلب حمرة الدم فيها لكثرته، فلا يؤثر في لونه اختلاطه برطوبات الرحم القليلة غالبا.

و لا مجال لجعل الكثرة و القلة بنفسهما في الصفات المعتبرة في حيضية الدم، إذ لازمه حمل الكثرة فيه علي ما يزيد بوجه ظاهر علي الاستحاضة الكثيرة، و الظاهر إباء نصوص اجتماع الحيض و الحمل- كالفتاوي- عن اختصاص حيضية الدم بذلك.

فلا يبعد حمل الكثرة فيه علي الاستمرار ثلاثة أيام، فيخرج عن محل الكلام.

و أما صحيح إسحاق فلو أمكن العمل بظاهره أشكل التعدي في التفصيل الذي تضمنه عن مورده للدم المستمر ثلاثة أيام الذي هو محل الكلام.

فلم يبق إلا حديث محمد بن مسلم المشتمل سنده علي الإرسال، و انجباره بظهور عمل الصدوق في الفقيه به، لتعبيره بمضمونه، لا يخلو عن إشكال. مع أنه لو تم مختص بالصفرة، و هي أخص من فاقد صفات الحيض، فليكن عدم الحيضية مختصا بها نظير ما يأتي في المسألة الرابعة.

هذا و لو غض النظر عن ذلك و بني علي حجية نصوص الصفات فقد سبق لزوم العمل بصحيح الصحاف أيضا، و حيث كان بينه و بينها عموم من وجه فقد ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أن المرجع في موضع التعارض- و هو الخارج في العادة فاقدا للصفات، و الخارج بعد العشرين يوما واجدا لها- إطلاقات الباب المقتضية للحيضية،

ص: 76

______________________________

بل يمكن الرجوع في الأول إلي إطلاق ما دل علي أن الصفرة في أيام الحيض حيض «1».

و يشكل بأن لازم ذلك حمل ما دل علي عدم حيضية الفاقد للصفات علي خصوص ما لا يري في العادة أو خصوص ما يري بعدها بعشرين يوما و حمل الصحيح الدال علي عدم حيضية ما خرج بعد العشرين يوما علي خصوص الفاقد للصفات، و كلاهما مخالف لظاهر دليله جدا، لأنه حمل علي الفرد الخفي الذي لا ينسبق له الذهن.

بل الأول لا يناسب ما في صحيح أبي المغراء و حديث ابن مسلم من تشبيه رؤية الحامل الدم برؤية الحائض له، مع أن العادة من أظهر صفات الحيض عرفا.

و الثاني إن رجع إلي إبقاء ذيل الصحيح الوارد في حكم ما يري في العادة علي إطلاقه، كان أدعي لاستبشاع حمل الصدر علي الفاقد، و إن رجع إلي تنزيل الذيل أيضا علي ذلك، رجع إلي ورود الصحيح لبيان حكم الفاقد لا غير، و هو كالمقطوع ببطلانه.

مع أن الذي يظهر من مساق كلامه قدّس سرّه في المتن اختصاص احتمال إعمال دليل الصفات بالخارج بعد العشرين يوما من العادة، مع أن اللازم بناء علي ما سبق- تبعا له قدّس سرّه- من قصور صحيح الصحاف عما يخرج بعد العادة قبل العشرين، إعمال دليل الصفات فيه، فيحكم بعدم حيضية الفاقد منه لها، لعدم المعارض له فيه، فتخصص به العمومات فيه أيضا.

و كيف كان، فالأقرب البناء علي كون كل من فقد الدم للصفات و رؤيته بعد عشرين يوما من العادة مانعا من حيضيته، و الاقتصار في الحكم بالحيضية علي الواجد للصفات غير الخارج بعد عشرين يوما من العادة. إذ لا يلزم منه إلا حمل دليل الصفات علي خصوص ما يري في العادة، و صحيح الصحاف علي خصوص الواجد للصفات. و كلاهما سهل في مقام الجمع بين الأدلة، لأنه حمل علي الفرد الظاهر. و قد تقدم عند الكلام في نصوص عدم اجتماع الحيض مع الحمل من الجواهر ما يقاربه، و إن لم يبتن علي العمل بصحيح الصحاف.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض.

ص: 77

______________________________

و أما ما عن بعض مشايخنا من أن إطلاق أدلة الصفات معارض بإطلاق ما دل علي تحيض الحامل برؤية الدم في العادة كصحيحي ابني مسلم و الحجاج و غيرهما، و المرجع في مورد الاجتماع- و هو الفاقد المرئي في العادة- إطلاق أدلة تحيض الحامل برؤية الدم.

فمدفوع بأن تنزيل أدلة العادة علي واجد الصفات أقرب من تنزيل أدلة الصفات علي ما لا يري في العادة، لأن الواجد للصفات هو الفرد الأظهر كالمرئي في العادة، و لا سيما مع اشتمال أدلة الصفات علي فرض رؤية الحامل للدم كرؤية الحائض له، فلا معدل عما ذكرنا. و لا يضر عدم ظهور القائل بذلك لاضطراب الأصحاب في المسألة و في فهم أدلتها و العمل بها و الجمع بينها، بنحو لا يظن معه اطلاعهم علي ما يمنع من العمل بظواهر الأدلة الواصلة إلينا، فضلا عن الوثوق به، بنحو يسقطها عن الحجية.

و قد تحصل من جميع ما تقدم: أن الاصحاب بين من منع حيض الحامل مطلقا- كالمفيد و ابن الجنيد- أو بعد الاستبانة- كالشيخ علي البيان المتقدم، و ابن ادريس- و من أجازه مطلقا مع البناء علي حيضية كل دم يحكم بحيضيته مع عدم الحمل- و هو المنسوب للمشهور- أو إذا كان أحمر- كما تقدم من الصدوق في الفقيه- أو ما عدا ما يخرج بعد العشرين فاقدا للصفات- كما يستظهر من كلام سيدنا المصنف قدّس سرّه في المتن و في استدلاله- أو مطلقا- كما تقدم أنه الأظهر، مع الكلام في اعتبار الصفات فيما يري بعد العادة قبل العشرين يوما، الذي حكي عن بعض مشايخنا- أو علي حيضية خصوص ما يخرج في العادة- كما تقدم عن الجامع و كلام الشيخ مردد بينه و بين ما سبقه- أو حيضية ما لم يتأخر عن عشرين يوما أو يفقد الصفات، كما تقدم أنه الأظهر بناء علي تمامية دليل الصفات، و تقدم من الجواهر ما يقاربه.

هذا كله في ذات العادة الوقتية، و أما غيرها فهي خارجة عن مفاد صحيح الصحاف موضوعا، فيتردد الأمر فيها بين المنع من حيضها مطلقا أو مع استبانة

ص: 78

______________________________

الحمل، و إمكانه مع حيضية كل ما يحكم بحيضيته مع عدم الحمل، أو خصوص الواجد للصفات. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم. و منه نستمد العون و التوفيق.

تنبيهات
الأول: العشرون يوما في التفصيل المتقدم تبدأ من أول العادة،

لا من آخرها لأنه المنساق من المقابلة لرؤية الدم في العادة أو ما قبلها، و لأن حسابها من آخر العادة يقارب العادة اللاحقة غالبا، فلا يبقي معه موضوع للتفصيل المذكور، بناء علي ما هو الظاهر من جريانه مع انقطاع الحيض في بعض الأشهر ثم عوده، لإطلاق صحيح الصحاف، حيث يشمل الحاصل في العادة بعد الانقطاع.

الثاني: ما يخرج بعد العادة بعشرين يوما حيث لا يحكم عليه بالحيضية لا يكون تكرره في وقته من أشهر الحمل موجبا لانقلاب العادة،

لأن أيام العادة هي أيام خروج الحيض لا أيام خروج مطلق الدم و إن لم يكن حيضا، فلا مجال للبناء علي حيضيته في الشهر الثالث فما بعده.

الثالث: إذا تم دليل الصفات فلو كان بعض الدم واجدا لها دون بعض فهو خارج عن المتيقن من الدليل المذكور،

فيحكم بحيضيته بمقتضي الإطلاقات و إن كان المقدار الواجد لها دون أقل الحيض. بل حيث تقدم اختصاص الحكم بالحيضية علي ما يخرج في العادة أمكن الرجوع فيه إلي ما دل علي أن الصفرة في أيام الحيض حيض «1».

كما أنه لو تمت دعوي: أن دم الحيض لا بد من اشتمال بعضه علي الصفرة تعين حمل الأحمر في دليل الصفات علي حمرة البعض، فيدخل محل الكلام في موضوع الحكم بالحيضية في الصحيح.

الرابع: الذي تقتضيه القواعد مشاركة الحامل لغيرها في حكم التحيض

برؤية الدم مع الشك في استمراره ثلاثة أيام، الذي يأتي الكلام فيه في المسألة الرابعة إن شاء اللّه تعالي. لعموم أكثر الأدلة الآتية لها أو كلها. و هو مقتضي الإطلاق المقامي

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض.

ص: 79

______________________________

لما تضمن من النصوص أنها قد تحيض، لظهور سكوته عن طريق إحراز حيضها في التحويل علي الطريق المعهود في غيرها.

بل الظاهر مما تضمن أنها تمسك عن الصلاة إذا رأت الدم أو قذفت به أو نحو ذلك التحيض برؤية الدم، لأنه و إن ورد لبيان الحكم الواقعي دفعا لتوهم عدم حيض الحامل- كما هو مصب السؤال- لا لبيان حكمها الظاهري عند الشك في استمرار الدم، إلا أن إناطة ترك الصلاة برؤية الدم و دفقه اللذين هما من المحسوسات الوجدانية بمجرد رؤية الدم ظاهر في المفروغية عن ترتب العمل عليهما في الظاهر.

نعم، تقدم قوله عليه السّلام في صحيح ابن الحجاج: «تترك الصلاة إذا دام» «1»، و قد يستظهر منه أنها لا تترك الصلاة إلا بعد دوامه المحمول علي الدوام ثلاثة أيام، لعدم اعتبار غير ذلك قطعا. و لعله لذا استدل به الفقيه الهمداني قدّس سرّه و بنصوص الصفات علي عدم تحيض الحامل بمجرد رؤية الدم في العادة، بل لا بد من استمراره ثلاثة أيام أو لكونه واجدا للصفات، بناء علي ما سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من حمل نصوص الصفات علي الحكم الظاهري.

لكن تقدم منع تنزيل نصوص الصفات علي ذلك، و أما الصحيح فحيث كان السؤال فيه عن رؤية الحامل الدم كما تراه الحائض، فهو ظاهر في السؤال عن الحكم الواقعي في فرض استمرار الدم، و هو لا يناسب التقييد بالدوام في الجواب، و ليس حمله علي بيان موضوع الحكم الظاهري بأولي من حمله علي تأكيد اعتبار الدوام في الحكم الواقعي، أو علي إرادة استمرار الدم في مقابل تقطعه الذي اشير إليه في صحيح حميد بن المثني المتقدم فيمن تري الدفقة و الدفقتين في الأيام و الشهر و الشهرين، فلا يخرج به عما سبق.

الخامس: الحكم بعدم حيضية ما يخرج بعد العشرين يوما من العادة

كالصريح في كون النفي حقيقيا لا تنزيليا بلحاظ انتفاء الأحكام، كما يشهد به نفي لازم الحيضية

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 80

الفصل الثالث في تحديد مدة دم الحيض
اشارة

الفصل الثالث أقل الحيض ما يستمر ثلاثة أيام (1).

______________________________

و هو كونه من الرحم مع عدم كونه موضوعا للأحكام. فيكون مانعا من العلم بحيضية الخارج.

و لو لم يمنع منه في مورد لزم حمل الحكم المذكور علي القضية الواقعية الغالبية، ليرجع إليها في مقام العمل ظاهرا عند الجهل بحال الدم، لورودها في مقام ترتيب الأحكام، و ليست كقضية عدم الحيض قبل البلوغ و بعد سن اليأس التي تقدم عدم الوجه في حملها علي حجية الغلبة المفروضة. و حينئذ يترتب علي الحيض المخالف للغالب أحكام الحيض العامة، بعد عدم سوق القضية للنفي التنزيلي بلحاظ انتفاء الأحكام لتكون من سنخ المخصص للعمومات.

و أظهر من ذلك الحكم بحيضية ما يخرج في العادة، فانه و إن كان بلسان الإثبات بنحو القضية الكلية الواقعية إلا أنه لما أمكن خروج غير دم الحيض من الحامل فاستبعاد امتناع خروجه في العادة عرفا صالح للقرينية علي حمل القضية علي الظاهرية، بلحاظ أمارية العادة علي الحيض أو أصالة كون الخارج فيها حيضا، فلا تنافي العلم بعدم حيضية الدم، فلا تترتب أحكامه، و حملها علي القضية التنزيلية لبيان كونه بحكم الحيض و إن لم يكن حيضا بعيد جدا.

(1) قد صرح الأصحاب بأن أقل الحيض ثلاثة أيام، و نفي في السرائر و التذكرة الخلاف فيه، كما ادعي الإجماع عليه في الخلاف و الغنية و المنتهي و جامع المقاصد و الروض و كشف اللثام و المدارك و محكي نهاية الأحكام و المختلف و الذكري

ص: 81

______________________________

و التنقيح و غيرها، و عده الصدوق في أماليه من دين الإمامية، و في الجواهر: «إجماعا محصلا و منقولا مستفيضا كاد يكون متواترا»، و قريب منه في طهارة شيخنا الأعظم، بل جزم بتواتر نقل الإجماع عليه.

و يشهد به النصوص المستفيضة، كصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: أقل ما يكون الحيض ثلاثة أيام و أكثره ما يكون عشرة أيام» «1» و صحيح صفوان: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن أدني ما يكون من الحيض.

فقال: أدناه ثلاثة و أبعده عشرة» «2»، و غيرهما.

نعم، تقدم صحيح إسحاق بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة الحبلي تري الدم اليوم و اليومين. قال: إن كان دما عبيطا فلا تصل ذينك اليومين، و إن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين» «3»، و في موثق سماعة: «سألته عن الجارية البكر أول ما تحيض فتقعد في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة أيام يختلف عليها لا يكون طمثها في الشهر عدة أيام سواء. قال: فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت تري الدم ما لم يجز العشرة، فإذا اتفق الشهران عدة أيام سواء فتلك أيامها» «4».

و قد تقدم من شيخنا الأعظم و الفقيه الهمداني (قدس سرهما) حمل الأولي علي إرادة التحيض ظاهرا بمجرد خروج الدم عند الشك في استمراره. و قد أصر عليه بعض مشايخنا هنا فيما حكي عنه بدعوي: أنه لا معني للنهي عن الشي ء السابق، فلا بد من كون المراد أنها متي رأت الدم تترك الصلاة، و هو حكم ظاهري.

و تندفع بأن التحيض متي رأت الدم إنما يكون حكما ظاهريا إذا أخذ في موضوعه الشك في استمراره بعد الفراغ عن التحيض معه واقعا، و لا إشعار بذلك في الصحيح، بل ظاهره إرادة الحكم الواقعي لدفع توهم عدم حيض الحامل، و يكون

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 82

______________________________

مقتضي الجمع بينه و بين ما دل علي اعتبار الاستمرار فيه كون الحكم المذكور مقيدا بالاستمرار مراعي به.

غايته أنا أشرنا في ذيل المسألة السابقة إلي أن إناطة العمل بالرؤية و عدم التنبيه علي لزوم المراعاة ظاهر في المفروغية عن التحيض ظاهرا برؤية الدم و عدم التوقف لأجل احتمال عدم الاستمرار. علي أنه لم يتعرض في الصحيح سؤالا و جوابا لحال رؤية الدم، بل لحكم اليوم و اليومين، الظاهر في خصوصيتهما، و هو لا يناسب الحكم الظاهري.

و أشكل من ذلك حمله الموثق علي ذلك أيضا. لأنه لا يناسب إقرار ما في السؤال من فرض القعود و الطمث يومين و تكرره، كما لا يناسب إطلاق الحكم بحصول العادة مع اتفاق الشهرين في عدد الأيام الظاهر في إمكان استقرار العادة علي اليومين.

فلا ينبغي التأمل في ظهور الحديثين في إمكان نقص الحيض عن ثلاثة أيام.

نعم، لا مجال للتعويل علي الموثق مع معارضة النصوص الكثيرة له و ترجحها عليه بالشهرة في الرواية. بل الإجماع دليل قطعي علي خلاف مضمونه.

و أما الصحيح فحيث كان مختصا بالحامل كان مقتضي الجمع العرفي تقييده للإطلاقات المذكورة، كما سبق و سبق التعرض لما يناسبه عند الكلام في نصوص الصفات من مسألة حيض الحامل، لو لا ظهور الإجماع علي خلافه لإطلاق معاقده، إلا أن يحتمل كون وجه إعراضهم عنه تخيل استحكام التعارض بينه و بين النصوص المذكورة. فتأمل.

و أما ما يأتي من الاستبصار من حمله علي من تري الدم اليوم و اليومين و يتم لها الثلاثة في مدة العشرة، بناء منه علي عدم اعتبار التوالي في الثلاثة عملا بمرسل يونس الآتي. فهو بعيد جدا، لأنه و إن كان بين المرسل المتضمن عدم حيضية اليومين إذا لم تتم الثلاثة في العشرة و الصحيح عموم من وجه، إلا أن حمل المرسل علي غير الحامل التي هي الفرد غير المتعارف أقرب عرفا من حمل الصحيح علي من تتم لها الثلاثة، لاحتياجه إلي عناية يبعد معها جدا إهمال التنبيه عليه.

ص: 83

______________________________

و أشكل منه ما عن الراوندي في الأحكام من جعل الصحيح قرينة علي حمل المرسل علي خصوص الحامل، و الاقتصار عليها في عدم اعتبار التوالي في الثلاثة، مع اعتباره في غيرها. إذ فيه- مضافا إلي ما سبق- أن حمل المرسل علي خصوص الحامل بعيد جدا، بعد كونها الفرد غير المتعارف المغفول عنه.

هذا و الأصحاب رضي اللّه عنهم بعد أن اتفقوا علي أن أقل الحيض ثلاثة أيام اختلفوا في اعتبار التوالي فيها و عدمه، فذهب جملة منهم إلي اعتبار التوالي، كما في الفقيه و الهداية و إشارة السبق و السرائر و الشرائع و جملة من كتب العلامة و الشهيدين و المحقق الثاني- مما عثرنا عليه أو حكي عنه- و هو ظاهر الغنية و المعتبر و محكي الكافي، كما هو المحكي عن جمل الشيخ و عقوده و المقتصر و التنقيح و عن والد الصدوق و المرتضي و محكي ابن الجنيد و غيرهم، و جعله في المبسوط الأحوط.

و نسبه للأكثر في التذكرة و جامع المقاصد و كشف اللثام، و جعله الأشهر في محكي نهاية الأحكام، و المشهور في المسالك و محكي الذكري و شرح المفاتيح، و الأظهر بين الأصحاب في محكي كشف الرموز، و لم أعثر علي مخالف صريح فيه بعد الشيخ إلي الأردبيلي.

و ذهب إلي عدم اعتبار التوالي في النهاية و التهذيبين «1»، و جواهر القاضي و محكي المهذب و مجمع البرهان، و نسبه في المبسوط إلي بعض أصحابنا، و قواه في كشف اللثام و استظهره في الحدائق «2»، مدعيا ميل جملة من متأخري المتأخرين إليه منهم الحرّ في

______________________________

(1) فإنه و إن لم يصرح به في التهذيب إلا أنه بعد أن ذكر أن الحائض إذا رأت الدم أقل من ثلاثة أيام فليس بحيض قال: (و يؤيد ذلك ما أخبرني به الشيخ … ) و ذكر مرسلة يونس الآتية الصريحة في ذلك. و قال في الاستبصار تعقيبا علي صحيح إسحاق المتقدم في الحبلي تري الدم اليوم و اليومين: (فلا ينافي هذا الخبر ما قدمناه من أن أقل الحيض ثلاثة أيام، لأن الوجه فيه أن تري الدم اليوم و اليومين دما متواليا و تري تمام الثلاثة في مدة العشرة، لأن الحائض متي رأت الدم في مدة العشرة أيام ثلاثة أيام كانت حائضا و إن لم يكن ذلك متواليا حسبما رويناه في كتاب تهذيب الأحكام في رواية يونس).

(2) علي تفصيل يأتي التنبيه إليه إن شاء اللّه تعالي.

ص: 84

______________________________

رسالته و بعض علماء البحرين.

و قد يظهر التردد من الوسيلة و المعتبر لقوله في الأول في بيان أقل الحيض:

«و هو ثلاثة أيام متواليات. و روي مقدار ثلاثة أيام من عشرة» و اقتصاره في الثاني علي نسبة عدم اعتبار التوالي للرواية.

و قد تقدم عن الراوندي التفصيل بين الحامل و غيرها، كما تقدم وجهه و دفعه، فالمهم حجة القولين الأولين.

أما اعتبار التوالي
فقد استدل له بوجوه..
الأول: الاحتياط،

و هو ممنوع صغري و كبري، كما لا يخفي.

الثاني: استصحاب عدم الحيض.

و قد استشكل فيه.. تارة: بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره من أنه من استصحاب المفهوم المردد الذي لا يجري علي التحقيق. و قد يتجه بناء علي كون مفهوم الحيض شرعيا، حيث قد يحتمل أخذ التوالي فيه، و قد سبق في أول الفصل المنع من ذلك و أنه أمر عرفي و أن تحديد الشارع له راجع إلي تحديد مصاديقه، و لا يظن من أحد احتمال أخذ التوالي في مفهومه عرفا، و غاية ما يحتمل كونه من لوازمه التي يدل عدمها علي عدمه، فليس الشك حينئذ إلّا في مصداقه، و مقتضي الاستصحاب عدمه لليقين به سابقا.

نعم، لو قيل برجوع التحديدات الشرعية للحيض إلي تحديد أحكامه بلسان تحديد موضوعها مع عموم عنوانه حقيقة، كان مرجع الشك في اعتبار التوالي إلي الشك في التخصيص الذي لا يعتد به في قبال العموم. لكن يأتي إن شاء اللّه تعالي المنع من ذلك، كما تقدم في نظائره.

و اخري: بمعارضته باستصحاب عدم الاستحاضة، لأنها أيضا ذات أحكام خاصة، فاستصحاب عدمها يقتضي انتفاء تلك الأحكام.

و قد يجاب عنها بوجهين:

أولهما: أنه إن قلنا بعدم الواسطة بين الحيض و الاستحاضة في ذات الدم غير

ص: 85

______________________________

النفساء و ذات العذرة و القرحة فأصالة عدم الحيض محرزة للاستحاضة و حاكمة علي استصحاب عدمها، بناء علي أن المستفاد من النصوص و الفتاوي أن المرأة ذات الدم إذا لم تكن حائضا و لا ذات قرحة أو عذرة فهي مستحاضة، علي ما يأتي الكلام فيه في مبحث الاستحاضة و إن قلنا بثبوت الواسطة بينهما فلا تعارض بين الأصلين، بل يجريان معا، و يحكم بعدم ترتب أحكام كل منهما. إلا أن يعلم من الخارج بأحدهما إجمالا، فيعلم بكذب أحد الأصلين.

ثانيهما: أنه لما كان استصحاب عدم كل من الأمرين لا يحرز أحكام الآخر فلا تعارض بين الاستصحابين ذاتا.

غايته أن مقتضي استصحاب عدم الحيض وجوب الصلاة و الصوم و مقتضي استصحاب عدم الاستحاضة عدم وجوب تجديد الوضوء و الغسل لهما، مع العلم بكذب أحد الأمرين و عدم مشروعية الصلاة و الصوم بدون التجديد بناء علي دوران الدم بين الحيض و الاستحاضة.

و لازم ذلك سقوط استصحاب عدم الاستحاضة للقطع بعدم فعلية الخطاب بأثر عدمها، و هو عدم وجوب التجديد، المانع من التعبد به ظاهرا باستصحابه، أما مع الحيض فلأن وجوب التجديد لما كان غيريا لمقدميته للصلاة و الصوم فلا موضوع للسعة بنفي وجوبه مع عدم وجوبهما من جهة الحيض، و أما مع عدمه و ثبوت الاستحاضة فلوجوب التجديد تبعا لوجوبهما.

و إذا لم يجر استصحاب عدم الاستحاضة وجبت الصلاة و الصوم بمقتضي استصحاب عدم الحيض و وجب تجديد الغسل و الوضوء لهما للقطع بعدم صحتهما بدونه.

فالمقام نظير ما لو علمت المرأة في أثناء الوقت بأنها إما أن تكون قد صلت ذات الوقت أو استحيضت، حيث لا يجري استصحاب عدم الاستحاضة في حقها، للعلم بعدم فعلية أثره علي تقدير الصلاة، و عدم ثبوته علي تقدير عدمها، فلا يمكن التعبد به ظاهرا باستصحابه، بل لا يجري الأصل إلا في الصلاة، فإن أحرزها- كما في مورد

ص: 86

______________________________

قاعدة الفراغ- فهو، و إلا لزم الاتيان بها بعد التجديد، للعلم ببطلانها بدونه.

هذا و قد تعرض شيخنا الأعظم قدّس سرّه لما يقرب من هذين الوجهين في الجواب عن الإشكال المذكور، و أطال سيدنا المصنف قدّس سرّه في تعقيبه، و الظاهر أنه لا مجال لما ذكره علي التقريبين المتقدمين. فلاحظ.

و بالجملة: الظاهر تمامية الاستصحاب المذكور في نفسه. إلا أن يكون محكوما لقاعدة الإمكان أو لاطلاقات أدلة التحيض بخروج الدم في العادة أو بالصفات، بناء علي عمومها لصورة عدم التوالي، أو للنص المستدل به علي عدم اعتبار التوالي، بناء علي نهوضه بذلك. و يتضح الحال في ذلك فيما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و الاستصحاب المذكور مغن عن استصحاب أحكام الطاهر الذي استدل به غير واحد، لأنه سببي بالإضافة إليه. مع الإشكال فيه في نفسه بأنه بالإضافة إلي الأحكام التي لم يدخل وقتها قبل رؤية الدم تعليقي لا يجري علي التحقيق، و بالإضافة للأحكام التي دخل وقتها غير محرز فيه بقاء الموضوع، لاحتمال أخذ عدم الحيض قيدا في موضوعها.

و أشكل من ذلك التمسك بأصالة البراءة من تكاليف الحائض، كحرمة دخول المساجد و تمكين الزوج من الوطء و نحوهما. لمعارضتها بأصالة البراءة من تكاليف الطاهر كوجوب الصلاة و الصوم و تمكين الزوج من الوطء، حيث يعلم إجمالا بثبوت أحد التكليفين الملزم بالاحتياط مع إمكان الجمع، و التخيير مع عدمه. إلا أن يكون هناك ما ينحل به العلم الإجمالي من دليل أو أصل محرز لأحد الأمرين، كاستصحاب عدم الحيض، الذي هو العمدة في تقريب الأصل.

الثالث: عموم أحكام الطاهر،

بدعوي: لزوم الاقتصار في تخصيصه بأدلة أحكام الحائض علي المتيقن مع إجمال المخصص بسبب إجمال الحيض. و هو مبني علي احتمال اعتبار التوالي في مفهوم الحيض. و قد سبق في الوجه الثاني المنع من ذلك، بل المحتمل كونه من لوازمه الخارجية، فالشك فيه مع عدمه شك في المصداق لا في المفهوم، و لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص، إلا مع

ص: 87

______________________________

إحراز عدمه بأصل أو نحوه.

الرابع: الرضوي:

«و إذا رأت يوما أو يومين فليس ذلك من الحيض ما لم تر ثلاثة أيام متواليات» بدعوي: انجباره بالشهرة العظيمة، بل في الرياض: «و لا دليل في المقام سواه». كما اقتصر عليه في المستند.

و يندفع بما ذكرناه و ذكره غير واحد في غير مقام من أنه لا يكفي في انجبار الخبر موافقته لفتوي المشهور، بل لا بد فيه من اعتمادهم عليه، و هو غير حاصل في المقام بعد عدم إشارتهم له. نعم، مطابقة عبارة الصدوق في الفقيه و الهداية له قد يكون أمارة علي اعتماده عليه.

لكنه ليس بنحو صالح لإثبات حجيته، و لا سيما مع غموض حال الرضوي.

بل لا ريب في أن دعوي انجبار مرسل يونس الآتي بعمل الشيخ أولي من ذلك.

الخامس: ما في المدارك من أن المتبادر من قولهم عليهم السّلام: أدني الحيض ثلاثة و أقله ثلاثة، كونها متوالية.

و قد تصدي غير واحد لتقريب التبادر المذكور.

و حاصل ما يقال في وجهه: أن ظاهر أدلة التقدير في طرفي القلة و الكثرة بيان اختلاف أفراد الحيض في الأمد، و حيث كان الحيض استمراريا و وحدة الأمر الاستمراري المقومة لفرديته بعدم انقطاعه، كان ظاهر التحديد المذكور اعتبار وجود الحد في الحيض الواحد المستمر المستلزم لاعتبار التوالي.

نعم، لو كان التحديد للجنس الحاصل في الخارج مطلقا أو خصوص ما تلبس الشخص به منه لم يعتبر فيه الاستمرار، كما لو قيل: جلوسي في المسجد ثلاثة أيام.

إلا أنه لا مجال له في المقام، بقرينة التحديد في طرف الكثرة، لما هو المعلوم من أن تمام الحيض أو حيض المرأة الواحدة يزيد علي عشرة أيام كثيرا.

و مثله ما لو امتنع رجوع التحديد للفرد، كالصوم ثلاثة أيام، و الحج ثلاث سنين، حيث لا يزيد الفرد الواحد من الصوم عن اليوم الواحد، و لا يستغرق الحج الواحد إلا أياما قليلة، فيلزم حمله علي محض تحقق ثلاثة أفراد في الأزمنة الثلاثة،

ص: 88

______________________________

و يكون مقتضي إطلاقه عدم اعتبار التوالي.

إلّا أن يراد منه بنحو من العناية وحدة المجموع الاعتبارية، تبعا لتعاقب أجزائه التي يصدق معها الاستمرار، و لذا يقال: صمت من أول الشهر إلي نصفه، فيعتبر التوالي حينئذ.

و منه يظهر أنه لا مجال لما في الجواهر من النقض بالنذر و اليمين، لاختلاف الحال فيهما ثبوتا حسب اختلاف المتعلق في رجوع التحديد فيه للفرد، أو لبيان عدد الأفراد، و إثباتا حسب اختلاف القرائن و المناسبات.

و مثله دعوي: أن اعتبار التوالي في الأقل يقتضي اعتباره في بقية المراتب، مع أنه لا إشكال في عدم اعتباره فيها. و لذا لو رأت الدم ثلاثة أيام مثلا ثم انقطع يومين و عاد قبل العشرة كان المجموع إلي العشرة حيضا. لاندفاعها بأن ذلك للدليل الخاص المخرج عما تقتضيه القاعدة المتقدمة فيلزم الاقتصار فيه علي المتيقن منه، و هو ما إذا حكم بحيضية السابق لاستمراره ثلاثة أيام.

بل بناء علي حيضية النقاء المتخلل لا يكون ذلك خارجا عن القاعدة، لتحقق التوالي في تمام الحيض الواحد المركب من أيام الدم و أيام النقاء.

و دعوي: أن البناء علي وحدة الحيض و استمراره فيه بلحاظ النقاء المتخلل يقتضي البناء عليه في أقل الحيض أيضا.

مدفوعة: بأنه لا إشكال في عدم البناء عليه فيه، و لذا لو رأت الدم يومين بينهما يوم نقاء لم يكن المجموع مصداقا لأقل الحيض. بل لا بد في الحكم بحيضية النقاء المتخلل من قابلية الدم الأول لأن يكون حيضا بنفسه، و هو لا يكون إلا باستمراره ثلاثة أيام، لأنه المتيقن من مورد النص.

هذا حاصل ما يقرب به هذا الوجه حسبما يتحصل من مجموع كلماتهم بعد تتميمه بما يقتضيه المقام. و قد أطلنا الكلام فيه لأنه عمدة الوجوه بعد الأصل.

لكنه يشكل بأن وحدة الأمر الاستمراري المقومة لفرديته إنما تكون بعدم

ص: 89

______________________________

انقطاعه إذا لم تكن هناك جهة أخري صالحة لاعتبار وحدته و فرديته، فالطواف مثلا و إن كان أمرا استمراريا إلا أنه حيث لم يشرع إلا السبعة أشواط فوحدته شرعا إنما تكون بإكمال السبع و لو مع تخلل الفصل بين أجزائه، كما أن عدم تخلل الفصل بين الأربعة عشر شوطا لا يوجب كونها طوافا واحدا.

و في المقام حيث كان مبني الحيض علي خروج الدم في نوب متفرقة يقتضيها طبع المزاج فقد تدرك المرأة كون الحيض المتقطع من نوبة واحدة مما تقتضيه طبيعة مزاجها، و أن تقطعه لضعف الدفع أو لوجود المانع، فاعتبار التوالي بالوجه المتقدم موقوف علي كون فردية الحيض و وحدته التي يبتني عليها التحديد بالثلاثة بلحاظ استمراره، لا بلحاظ النوب المشار إليه، و لا قرينة علي حمل دليل التحديد علي الأول.

بل الظاهر انصرافه للثاني، لارتكازية الجهة التي ذكرناها. و لذا لا يشك في بناء العرف- مع قطع النظر عن التحديدات الشرعية- علي أن المرأة التي يتخلل دمها الشهري يوم نقاء مثلا تحيض في شهرها حيضة واحدة متقطعة، لا حيضتين، بخلاف ما لو حاضت في أول الشهر و آخره، فيكون مقتضي الإطلاقات المقامية لنصوص التحديد الحمل عليه.

و لا سيما مع الجري عليه في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال:

إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أيام فهو من الحيضة الأولي، و إن كان بعد العشرة فهو من الحيضة المستقبلة» «1»، و موثقته عنه عليه السّلام: «قال: أقل ما يكون الحيض ثلاثة، و إذا رأت الدم قبل عشرة أيام فهو من الحيضة الأولي، و إذا رأته بعد عشرة أيام فهو من حيضة أخري مستقبلة» «2».

لظهورهما في عدّ الدميين في العشرة حيضة واحدة، لا حيضتين، و هو لا يكون إلّا بلحاظ ما ذكرنا. و نحوهما في ذلك صحيحة عبد الرحمن الآتية و غيرها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 11.

ص: 90

______________________________

و دعوي: أن المراد بها إلحاق الدم الثاني بالأول في كونه حيضا، لا بيان الوحدة بينهما ليستكشف بذلك ابتناء وحدة الحيض المقومة لفرديته علي أمر غير الاستمرار.

مدفوعة بمخالفة ذلك للظاهر، بل المناسب له الاقتصار علي الحكم بحيضية الثاني، لا الحكم عليه بأنه من الحيضة الأولي بخصوصها.

و من ثم استدل بحديثي محمد بن مسلم علي عدم اعتبار التوالي، لأن مقتضي إطلاقهما أن الدميين في العشرة حيض واحد و إن كان الأول دون الثلاثة، بل يكتفي ببلوغ مجموعهما الثلاثة.

و أما ما يظهر من المعتبر و غيره من أن مضمونها إلحاق الدم الثاني بالحيضة الأولي، و هو إنما يتم مع حيضية الدم الأول، و مقتضي نصوص التحديد عدم حيضيته إلا ببلوغه ثلاثة أيام.

فيدفعه: أن كون الدم المتأخر من الحيضة الأولي مستلزم لكون الدم الأول مهما بلغ بعض الحيضة لإتمامها، و نصوص التحديد إنما تقتضي اعتبار الثلاثة في تمام الحيضة لا في بعضها.

نعم، قد يشكل الاستدلال المذكور بما ذكره الفقيه الهمداني من أن الحديثين بصدد إلحاق الدم بإحدي الحيضتين بعد الفراغ عن تمامية شروط الحيض، و ليسا بصدد بيان شروطه، ليكون لهما إطلاق بنفي اعتبار التوالي فيه.

لكن هذا إنما يمنع مما صدر من غير واحد من الاستدلال بهما علي نفي التوالي، و لا ينافي كشفهما عن أن وحدة الحيض التي هي المعيار في التحديد بالثلاثة بلحاظ النوبة الطبيعية و لو مع التقطع، التي عرفت أنها المنصرف إليها عرفا، دون استمرار خروج الدم.

و لعله لأجل ذلك استدل بعضهم بإطلاق أدلة التحديد بالثلاثة أيام علي عدم اعتبار التوالي.

و إن كان قد يشكل بأن واجدية المتفرق للحد المذكور لا يقتضي الحكم

ص: 91

______________________________

بحيضيته، لعدم سوق أدلة التحديد لبيان حيضية كل دم واجد للحد، بل لبيان عدم حيضية الفاقد له، و لذا لا تنافي أدلة سائر شروط الحيض.

غاية الأمر عدم نهوض أدلة التحديد بنفي حيضية الدم المتفرق، و يحتاج إثبات حيضيته أو نفيها للدليل.

اللهم إلا أن يكون الدليل علي حيضيته هو الدليل علي حيضية المستمر ثلاثة أيام من عموم ما دل علي التحيض برؤية الدم مطلقا أو في العادة أو بالصفات، إذ لا فرق بينهما إلا بلحاظ احتمال اعتبار التوالي لدعوي كونه مقتضي أدلة التحديد، فإذا ظهر قصورها عن ذلك و أن مقتضي إطلاقها عدمه تعين الرجوع في البناء علي حيضية المتفرق إلي ما يرجع إليه في المستمر. و لعل هذا هو مراد من استدل بإطلاق نصوص التحديد.

هذا كله بناء علي اعتبار الاستمرار في الأيام الثلاثة علي تقدير اعتبار التوالي فيها. أما لو قيل بعدم اعتباره و أنه يكفي وجود الدم في كل يوم من الأيام الثلاثة- كما يأتي من غير واحد- فلا يتم الوجه السابق في تقريب ظهور نصوص التحديد في التوالي، لابتنائه علي اعتبار الاستمرار في وحدة الحيض التي هي موضوع التحديد. و حينئذ يكون الاستدلال بإطلاق نصوص التحديد لنفي اعتبار التوالي أظهر. و ما في الروض و غيره من ظهورها في اعتبار التوالي غير ظاهر المأخذ.

هذا و قد استدل الشيخ و من تبعه علي عدم اعتبار التوالي- مع قطع النظر عن الإطلاقات المذكورة- بمرسلة يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال في حديث: «فإذا رأت المرأة الدم في أيام حيضها تركت الصلاة فإن استمر بها الدم ثلاثة أيام فهي حائض، و إن انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت وصلت و انتظرت من يوم رأت الدم إلي عشرة أيام، فإن رأت في تلك العشرة أيام من يوم رأت الدم يوما أو يومين حتي يتم لها ثلاثة أيام فذلك الدم الذي رأته في أول الأمر مع هذا الذي رأته بعد ذلك في العشرة هو الحيض، و إن مرّ بها من يوم رأت الدم عشرة أيام و لم تر الدم فذلك اليوم و اليومان الذي رأته لم يكن الحيض إنما كان من علة إما قرحة في جوفها و إما من

ص: 92

______________________________

الجوف، فعليها أن تعيد الصلاة تلك اليومين التي تركتها، لأنها لم تكن حيضا … و إن تم لها ثلاثة أيام فهو من الحيض، و هو أدني الحيض، و لم يجب عليها القضاء … » «1».

و قد استشكل فيه تارة: بإرسال الخبر. و اخري: بأن راويه عن يونس إسماعيل بن مرار الذي لم ينص علي توثيقه أحد.

و يندفع الأول بما تقدم في مبحث تحديد الكر عن الشيخ و الشهيد (قدس سرهما) من إجماع الطائفة علي العمل بمراسيل يونس، لأنه لا يروي و لا يرسل إلا عن ثقة، المؤيد بما تضمن من الروايات إرجاع الرضا عليه السّلام إليه في معالم الدين «2»، الظاهر في اعتماده عليه السّلام عليه في معرفة أحاديثهم و حسن انتقائه لها، و بما ورد بسند صحيح من تشديده في قبول الروايات و كثرة رده لها حتي قيل له في ذلك فاعتذر بكثرة الكذب عليهم عليهم السّلام «3». فراجع.

و الثاني بأن الظاهر كون روايات إسماعيل من كتب يونس التي حكي عن ابن الوليد تصحيح رواياتها إلا ما رواه محمد بن عيسي عن يونس، كما حكاه بعض مشايخنا.

و بأن الظاهر كون الرجل من رواة كتاب نوادر الحكمة، لوقوعه في سند مؤلفه لرواية في صوم المكاري و إتمامه «4»، مع عدم رواية الأصحاب له في الفقه غير كتاب نوادر الحكمة، و لم يستثنه القميون من رجال الكتاب المذكور كما استثنوا غيره، بنحو يظهر منه أن منشأ الاستثناء عدم ثبوت وثاقة الرجل عندهم، حيث يظهر من ذلك توثيقهم لإسماعيل في الجملة. و بكثرة رواية إبراهيم بن هاشم- الذي هو من الأجلاء، حتي قيل أنه أول من نشر حديث الكوفيين بقم- عنه فقد نقل بعض مشايخنا أنه روي عنه فيما يزيد عن مائتي مورد، إذ يبعد جدا عدم وثاقته عنده مع ذلك، فإن ذلك كله كاف في استفادة وثاقة إسماعيل، و لا سيما مع ظهور معروفية رواياته بين الأصحاب

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 33، 34، 35.

(3) رجال الكشي طبع النجف الأشرف ص: 195.

(4) الوسائل باب: 12 من أبواب صلاة المسافر حديث: 1.

ص: 93

______________________________

و اعتمادهم عليها في الجملة.

مضافا إلي ظهور اعتماد الكليني و الشيخ و ابن البراج علي الرواية و حكاية الشيخ مضمونها عن بعض الأصحاب.

و أما ما في الروض من طعن الرواية بالشذوذ، فهو لا يرجع إلي محصل. إذ لو أريد به شذوذها بلحاظ روايات الأصحاب، فليس هناك ما ينافيها صريحا، غاية الأمر دعوي انصراف نصوص التحديد للثلاثة المتوالية، و هو لو تم لا يوجب شذوذ الرواية، بل يلزم رفع اليد بها عنه لصراحتها.

و إن أريد به شذوذها عما عليه الأصحاب، فقد اعترف هو بأن اعتبار التوالي مذهب الأكثر، و لم يدع أحد الإجماع عليه، و كيف يمكن دعوي شذوذ رواية عمل بها من عرفت و ظاهر ابن حمزة و المحقق التردد لأجلها.

و اشكل من ذلك ما عن الجامع من أن الكل علي خلافها.

هذا و أما ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في تقريب عدم منافاتها لما عليه الأكثر، من إمكان دعوي أن قيد التوالي في كلامهم لبيان أقل أيام قعود المرأة و إن لم يستمر فيها الدم، دفعا لتوهم كون النقاء المتخلل طهرا، ليصح مقابلته بأكثر أيام الحيض، حيث يراد به أكثر أيام قعودها و إن لم يستمر فيها الدم، فإن أريد بالأقل أقل أيام الدم لزم إما عدم مراعاة المقابلة بينه و بين الأكثر، أو حمل الأكثر علي خصوص أيام الدم، مع إهمال أكثر أيام القعود.

فهو مخالف للظاهر جدا، لظهور حالهم في الإشارة لمفاد نصوص التحديد الظاهرة في إرادة زمان الدم في طرفي القلة و الكثرة، لأنه المفهوم عرفا من الحيض، بل هو المقطوع به في بعضها كصدر مرسلة يونس المتقدمة «1»، المتضمن تفريع الأكثر و الأقل علي كثرة دم المرأة و قلته. و القعود في غير أيامه لو تم قد تعرضوا له في مقام آخر و استدلوا عليه بنصوص أقل الطهر، كما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 94

______________________________

و لو حملت نصوص أقل الحيض علي زمان القعود لزم إهمالها لأقل أيام الدم الذي يحتاج لبيانه، كما لزم إهمالهم له تبعا لها، و انحصار الدليل عليه بمرسلة يونس، الدالة علي عدم اعتبار التوالي.

بل بعض كلماتهم كالصريحة في إرادتهم من مورد اعتبار التوالي أيام الدم، حيث تعرضوا في بيان الخلاف فيه للقول بعدم اعتبار التوالي أيام الدم، لا للقول بكون النقاء المتخلل طهرا، كما فرعوا عليه الكلام في كيفية وجود الدم في الأيام الثلاثة.

و من هنا لا مجال لإنكار مخالفة الأكثر لمفاد المرسلة. و لذا ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه يقوي العمل بها، لقوتها دلالة و سندا، لو لا مخالفتها للشهرة العظيمة.

لكن الظاهر عدم موهنية الشهرة المذكورة لها بعد اعتماد من عرفت من القدماء عليها، و لا سيما مع قرب استناد بعض القائلين باعتبار التوالي إلي الاحتياط أو الأصل أو نحوهما من الوجوه الاجتهادية من دون أن يبتني علي اطلاعهم علي ما يوهن الرواية. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

بقي في المقام أمور..
الأمر الأول: أن الذي صرح به الشيخ و نسبه لبعض أصحابنا لزوم كون الثلاثة في ضمن العشرة،

و ظاهر غير واحد المفروغية عنه، بل ادعي الاتفاق عليه في المنتهي، و أن الخلاف إنما هو في لزوم توالي الثلاثة زائدا علي ذلك. و تقتضيه مرسلة يونس المتقدمة.

و ظاهرهم ذلك أيضا فيما إذا كان الدم الأول بقدر أقل الحيض أو أزيد، ففي محكي نهاية الأحكام: «و لا قائل بالالتقاط من جميع الشهر و إن لم يزد مبلغ الدم عن الأكثر» فمرجعه إلي لزوم كون الحيضة الواحدة في ضمن عشرة أيام و إن كانت متقطعة.

لكن ظاهر الحدائق الاكتفاء بعدم فصل أقل الطهر بين الدميين، فلو رأته يومين أو ثلاثة ثم نقيت تسعة أيام ثم رأته خمسة أيام كان المجموع حيضة واحدة فإن مصب كلامه و إن كان هو كون النقاء المتخلل بين الدميين طهرا لا حيضا، إلا أن ظاهره المفروغية عما ذكرناه.

ص: 95

______________________________

و لازمه إمكان تفرق الحيضة الواحدة في واحد و تسعين يوما، بأن تنقي بعد كل يوم تسعة أيام، بناء علي ما هو الظاهر من إمكان التلفيق بين أكثر من دميين، بل بناء علي إمكان التلفيق بين ساعات الدم لا خصوص أيامه يمكن تفرق الحيضة الواحدة في أكثر من ذلك بكثير، بأن تراه كل مرة ربع يوم أو أقل ثم تنقي تسعة أيام و هكذا حتي يكمل لها أكثر الحيض، و هو من البعد بمكان.

و كيف كان، فيظهر منه الاستدلال لذلك بحديثي محمد بن مسلم المتقدمين في الاستدلال علي اعتبار التوالي بأدلة التحديد بثلاثة أيام. و صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة إذا طلقها زوجها متي تكون [هي] أملك بنفسها؟ قال: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها.

قلت: فإن عجل الدم عليها قبل أيام قرئها. فقال: إذا كان الدم قبل عشرة أيام فهو أملك بها، و هو من الحيضة التي طهرت منها، و إن كان الدم بعد العشرة أيام فهو من الحيضة الثالثة، و هي أملك بنفسها» «1»، حيث التزم بأن المراد في هذه النصوص من العشرة أيام التي يخرج الدم قبلها هي العشرة من حين انقطاع الدم الأول، لا من حين خروجه، لأن ذلك هو المراد بالعشرة التي يخرج الدم بعدها، لأن كون الثاني حيضة مستقلة عن الأول مشروط بمضي أقل الطهر، فلو حملت العشرة التي يخرج الدم قبلها علي العشرة من حين خروج الدم لزم عدم التطابق بين العشرتين.

و أصرح منها في ذلك الرضوي: «و الحد بين الحيضتين القرء، و هو عشرة أيام بيض، فإن رأت «2» الدم بعد اغتسالها من الحيض قبل استكمال عشرة أيام بيض فهو ما بقي من الحيضة الأولي، و إن رأت الدم بعد العشرة البيض فهو ما تعجل من الحيضة الثانية» «3».

و أجيب عنه بأن حمل حديثي محمد بن مسلم علي ما ذكره مستلزم لتقييد صدرهما بما إذا لم يتجاوز الدميان العشرة أيام، و ليس هو بأولي من حمل العشرة علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب العدد حديث: 1.

(2) كذا نقل في الحدائق و المستند، و في المطبوع من الرضوي و مستدرك الوسائل: (زاد) و الظاهر أنه تصحيف.

(3) مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 96

______________________________

العشرة من حين رؤية الدم، مع تقييد ذيله بمضي أقل الطهر بين الدميين.

لكنه يشكل بأن تقييد الذيل بمضي أقل الطهر بعيد جدا، لما فيه من إهمال موضوع الإلحاق المذكور في الحديثين عرفا، و جعل الموضوع أمرا آخر غير مذكور، و ليس هو كتقييد الصدر بعدم تجاوز الدميين العشرة، إذ لا يستلزم إهمال موضوع الإلحاق المذكور في الحديثين، بل تقييد مورده.

نعم، بعد التقييد المذكور قد يقرب ما أشرنا إليه آنفا من كون الحديثين بصدد بيان ما يمكن إلحاق الدم به من الحيضتين، لا بصدد فعلية الإلحاق، ليكون ظاهرهما تحديد موضوعه و يتعين حمله علي ما ذكره في الحدائق مع الالتزام بالتقييد المذكور.

و لا أقل من الالتزام بذلك في الفقرة الثانية، لقوله عليه السّلام في صدر الموثقة: «أقل ما يكون الحيض ثلاثة»، حيث قد يوجب انصراف العشرة فيها إلي العشرة من رؤية الدم كالثلاثة، و تكون قرينة علي إرادة ذلك في الصحيح أيضا، لأن الظاهر أنه بعض منها و يلزم بما ذكرنا.

و بالجملة: إن لم يكن الحديثان ظاهرين في العشرة من حين رؤية الدم فلا أقل من إجمالهما و عدم ظهورهما في العشرة من حين انقطاعه.

و أما صحيح عبد الرحمن فهو ظاهر- بسبب عدم تعيين مبدأ العشرة فيه مع فرض تعجيل الدم قبل القرء في السؤال- في إرادة العشرة قبل أيام القرء التي تكون غالبا بعد مضي أقل الطهر من الدم الأول، لغلبة كون الدم دون العشرة، بل هو المتعين في مورد الصحيح، لتضمنه الترديد في إلحاق الدم الثاني بين الحيضتين الظاهر في المفروغية عن قابلية الحيضة الأولي لذلك من حيثية كمية الدم، فيكون واردا لتحديد تعجيل الحيض الذي تضمنته بعض النصوص، كموثق سماعة: «سألته عن المرأة تري الدم قبل وقت حيضها. فقال: إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة، فإنه ربما تعجل بها الوقت» «1». و قد وقع الكلام بينهم في تحديده تبعا للنصوص.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 97

______________________________

نعم، الظاهر عدم إمكان البناء علي إلحاق الدم بالحيضة الأولي بمجرد تقدمه علي القرء بأكثر من عشرة أيام، بل لا بد إما من تقييده بما إذا كان في ضمن العشرة أيام من حين رؤية الدم الأول- ليطابق القول المشهور- أو من حين انقطاعه- ليطابق ما في الحدائق- أو حمل العشرة فيه علي العشرة بأحد المعنيين السابقين ليطابق أحد القولين أيضا.

و الكل بعيد، لأن الأول- مع ما فيه من إلغاء موضوع الإلحاق المذكور في الصحيح- لا بد فيه من التقييد أيضا بما إذا كان تمام الدميين في ضمن عشرة أيام، و هو لا يناسب مورد السؤال، لظهوره في الفصل المعتد به بينهما، حتي يحتمل كون الثاني حيضة مستقلة و يسأل عنه.

و الثاني- مع ما فيه من إلغاء موضوع الإلحاق أيضا- لا بد فيه من التقييد بما إذا لم يتجاوز الدميان عشرة أيام، و هو بعيد في مفروض السؤال، و هو ما إذا كان كل من الدميين صالحا لأن يكون حيضة تامة، لأن زيادة الحيضة علي خمسة أيام هو الشائع الغالب، فيبعد إرادة ما عداه من الإطلاق.

و الثالث- مع رجوعه إلي أحد الوجهين السابقين، فيستلزم لازمه- مخالف في نفسه لظاهر الصحيح.

فلعل الأقرب حمل كونه من الحيضة السابقة علي كونه حقيقة من بقية دمها الذي لم يخرج بها و إن لم يكن جزءا منها عرفا و لا شرعا، فلا تجري عليه حدودها و لا يحكم بأحكامها، لعدم سوقه لتحديد الحيضة السابقة في مقام النظر لأثرها كي لا يناسب حمله علي بيان أمر واقعي غير شرعي، بل لبيان نفي أثر كونه حيضة مستقلة، و هو بينونة المطلقة به، لأن ذلك هو الجهة المسئول عنها، و هو يجتمع مع كون الإلحاق بالسابقة واقعيا لا شرعيا.

و لا مجال لنظيره في حديثي محمد بن مسلم، لأن تعقيب التفصيل المذكور فيهما لقوله عليه السّلام في الموثقة: «أقل ما يكون الحيض ثلاثة» ظاهر في كونه من شئون تحديد الحيض ذي الأحكام.

ص: 98

______________________________

و الظاهر أن ما ذكرنا في صحيح عبد الرحمن أقرب مما ذكره فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من احتمال حمل (من) في قوله: «و هو من الحيضة التي طهرت منها» علي كونها ابتدائية لبيان أن الدم استحاضة ناشئة من الحيضة السابقة، لأن الغالب كون الاستحاضة من توابع الحيض، لا تبعيضية لبيان أنه بعض الحيضة السابقة. قال: «و لا يقدح في ذلك كونها تبعيضية قطعا».

للإشكال فيه بأن (من) حيث وقعت بين الشي ء و سنخه في المقام فظاهرها التبعيض، و يبعد حملها علي الابتدائية، و لا سيما مع استلزامه التفكيك بين الفقرتين.

و كيف كان، فالأخذ بظاهر الصحيح ممتنع في نفسه، و لم يتضح كون التصرف فيه بالنحو المناسب لاستدلال الحدائق عرفيا، ليتجه البناء عليه، فإن أمكن حمله علي ما ذكرنا أو نحوه فهو، و إلا تعين البناء علي إجماله و عدم نهوضه بالاستدلال.

هذا و قد يستدل أيضا بما في ذيل مرسلة يونس المتقدمة من قوله عليه السّلام بعد ما سبق: «و لا يكون الطهر أقل من عشرة أيام، فإذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيام ثم انقطع الدم اغتسلت وصلت، فإن رأت بعد ذلك الدم، و لم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيام، فذلك من الحيض، تدع الصلاة، فإن رأت الدم من أول ما رأته [رأت. خ] الثاني الذي رأته تمام العشرة أيام و دام عليها، عدت من أول ما رأت الدم الأول و الثاني عشرة أيام، ثم هي مستحاضة» «1»، لأن الحكم فيه بحيضية الثاني مع عدم مضي أقل الطهر بين الدميين لا بد أن لا يبتني علي كونه حيضة مستقلة، بل متمما للحيضة السابقة، كما هو المناسب لقوله عليه السّلام: «عدت من أول ما رأت الدم الأول و الثاني عشرة أيام» فيدل علي المطلوب.

و قد أجاب عن ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأن قوله عليه السّلام: «من يوم طهرت» لما لم يكن قيدا ل (عشرة) لتقدمه عليها «2» لم يصلح بيانا لمبدئها، بل يكون مبدؤها أول

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) لأن الظرف المذكور و إن أمكن تقدمه علي عامله إلا أنه ليس معمولا لعشرة، لأنها اسم جامد، فلا يكون قيدا لها إلا إذا كان تاما متعلقا بكون عام صفة لها، و يمتنع تقدم الصفة علي الموصوف. (منه عفي عنه).

ص: 99

______________________________

رؤية الدم الأول، و يكون المعني: و لم يتم لها من يوم طهرت إلي يوم رؤية الدم الثاني عشرة أيام من أول حيضها. فيدل علي اشتراط حيضية الدم الثاني بكونه في ضمن العشرة من حين رؤية الدم الأول، كما هو المشهور.

و فيه: أن تقدير العشرة بما ذكره بعيد جدا مبتن علي عناية لا إشعار بها في الكلام. بل ظاهره أن مبدأها يوم الطهر، لأن عدم ذكر مبدئها مع شدة الحاجة لبيانه ظاهر في الاتكال علي الظرف المذكور في بيانه و إن لم يكن قيدا للعشرة.

نعم، قال قدّس سرّه: «مع أن حاشية نسخة التهذيب الموجودة عندي المصححة المقروة علي الشيخ الحر العاملي بدل قوله: «طهرت»: «طمثت» و انطباقه علي مذهب المشهور واضح. و يؤيد ما ذكرناه أن الظاهر من العشرة في قوله في الفقرة الثانية تمام العشرة المذكورة في الفقرة الأولي، و لا ريب أن المراد تمام العشرة من مبدأ ظهور الدم الأول، لا من زمان انقطاعه».

و لا يخفي أن النسخة التي ذكرها و إن كانت لا تقتضي إلا سقوط رواية التهذيب باختلاف نسخة، دون رواية الكافي لها علي طبق الوجه الأول، إلا أن اعتضادها بالمؤيد المذكور في كلامه يوجب الريب في رواية الكافي أيضا، إذ لا يمكن توجيهها مع الفقرة الثانية إلا بحمل «تمام العشرة» علي ما يضاف للخمسة التي ذكرت في صدر الرواية بحملها علي خصوص أيام الدم- كما ذكره في الحدائق- و حمل اللام علي العهد الذهني بلحاظ معهودية أن أكثر الحيض عشرة، و هو و إن كان ممكنا إلا أن الوجه الذي ذكره أقرب، بلحاظ تقدم (عشرة) فيكون العهد ذكريا، و التعبير بالتمام الذي فرض عدمه في الفقرة التي هي محل الكلام. فتأمل.

و لا سيما مع ظهور الاضطراب في هذه الفقرات، و عدم مناسبة النسخة الأولي لصدر المرسلة المتقدم الصريح في اعتبار كون الدميين في العشرة، فإنه و إن اختص بأقل الحيض، و اختص الذيل بما زاد عليه، إلا أن بعد التفكيك بينهما في ذلك موهن للنسخة المذكورة و مقرب للثانية. فلاحظ.

ص: 100

______________________________

و قد تحصل من جميع ما تقدم: أن النصوص المستدل بها لما في الحدائق لا تنهض به. علي أنه لو فرض تمامية دلالتها في أنفسها إلا أنه لا مجال للتعويل عليها بعد ظهور إعراض الأصحاب عنها، و ظهور مفروغيتهم عن عدم تفرق الحيضة الواحدة في أكثر من عشرة أيام، لعدم تنبيههم إلا لعود الدم في ضمن العشرة مع شدة احتياجه للتنبيه.

و لا سيما مع تعرضهم للخلاف في اعتبار التوالي في الأقل و تصريحهم بلزوم كونه في ضمن العشرة، بل تقدمت دعوي الإجماع عليه من المنتهي و عن نهاية الأحكام: «و لا قائل بالالتقاط من جميع الشهر و إن لم يزد مبلغ الدم عن الأكثر». إذ يبعد جدا خفاء ذلك علي الأصحاب مع كونه معرضا للابتلاء.

فلا مجال للخروج بهذه النصوص عن المرسلة التي تقدم الاستدلال بها للمشهور.

نعم، قد يقال: لما كانت المرسلة مختصة بأقل الحيض فلا دليل علي امتناع خروج ما زاد عليه عنها. بل مقتضي أدلة التحديد بأن أكثره عشرة إمكانه، بناء علي ما سبق من عدم ظهورها في الاستمرار.

لكن الإنصاف أن من القريب جدا فهم عدم الخصوصية لأقل الحيض في ذلك، و أن تحديد تفرق الدم بالعشرة لأجل أنها منتهي ترامي الحيض، و لذا صار أكثره عشرة. علي أنه سبق قرب حمل العشرة في حديثي محمد بن مسلم علي العشرة من حين رؤية الدم. و لعل المتيقن منهما صورة بلوغ الدم السابق أقل الحيض.

مضافا إلي ما أشرنا إليه من ظهور تسالم الأصحاب علي ذلك، حيث يقرب معه فهمهم ذلك من مجموع النصوص، إذ لو لم يكن إجماعهم حجة في نفسه لم يبعد كشفه عن تمامية دلالة النصوص التي ذكرناها بنحو لا مجال معه للرجوع لاطلاقات أدلة التحديد، خصوصا مع أن لازمه إمكان تفرق الحيض في مدة طويلة جدا، كما سبق.

بل لا إشكال فيما ذكرنا بناء علي حيضية النقاء المتخلل بين الدميين، حيث لا يظن من أحد إمكان كون القعود أكثر من عشرة أيام.

و لعله لذا لم يتصد في الحدائق للتفصيل المذكور، مع أنه مقتضي الجمع بين

ص: 101

______________________________

المرسلة و النصوص التي ذكرها لو تمت دلالتها، لأن النصوص المذكورة بين ما هو مطلق بنظره، كحديثي محمد بن مسلم و ما هو مختص بما إذا كان الدم المنفصل زائدا علي أكثر الحيض، كصحيح عبد الرحمن الظاهر في المفروغية عن تحقق الحيضة السابقة و ذيل المرسلة بناء علي النسخة الأولي.

علي أن تطبيق إطلاقات التحديد علي الدم المتفرق مشروط بإدراك المرأة كون الدميين من حيضة واحدة، لأنها في مقام تحديد الحيض الواحد، لا بيان وحدة الحيض، و هو قد يتم مع قلة الفاصل، و يبعد تحققه بعد العشرة، بل في أثنائها مع طول الفاصل، و إنما بني علي الإلحاق فيما يقع في ضمنها لمرسلة يونس لأنه المتيقن من حديثي محمد بن مسلم. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

الأمر الثاني: لا يبعد اختصاص المرسلة بما إذا كان التلفيق في أقل الحيض بين دميين لا أكثر،

إلا أن ظاهرهم المفروغية عن إمكان التلفيق بين أكثر من دميين في العشرة علي القول بعدم اعتبار التوالي، كما لا إشكال ظاهرا بينهم في ذلك لو بلغ الدم الأول أقل الحيض.

و يقتضيه إطلاق نصوص التحديد بعد حملها علي عدم إرادة الاستمرار، إما لأنه مقتضي إطلاقها، أو بعد تحكيم المرسلة عليها الظاهرة في كون الثلاثة الملفقة من أفراد الواجد للحد الذي دلت عليه النصوص، لا خروجا عنه، ليقتصر علي موردها، كما أنه مقتضي إطلاق حديثي محمد بن مسلم أيضا، اللذين عرفت أن المتيقن منهما ما لو بلغ الدم الأول أقل الحيض.

و من هنا يتجه الاكتفاء في أقل الحيض بالتلفيق من أبعاض اليوم، بل بالساعات- كما جعله في المبسوط و المعتبر و التذكرة و المنتهي و محكي الجامع و نهاية الأحكام مقتضي القول بعدم اعتبار التوالي- لأنه بعد حمل الإطلاق علي محض بيان المقدار، فكما لا يعتبر الاستمرار في مجموع الثلاثة لا يعتبر في كل منهما. و ما في كشف اللثام- و رافقه غيره- من اعتبار كمال الأيام في التلفيق بينها، لأنه المتبادر، في غير محله.

ص: 102

الأمر الثالث: حكم النقاء المتخلل بين الدمين

______________________________

قال في الروض بعد ذكر القول بعدم اعتبار توالي الثلاثة: «و علي هذا القول لو رأت الأول و الخامس و العاشر فالثلاثة حيض لا غير». و مقتضاه كون النقاء المتخلل طهرا لا تثبت فيه أحكام الحيض من القعود عن الصلاة و نحوه.

و نحوه المحكي في كشف اللثام و غيره عن الفخر في شرح الإرشاد و الهادي، و هو الذي جزم به صاحب الحدائق القائل بعدم اعتبار التوالي و قد جعله مفاد مرسلة يونس. و في محكي الجامع و إن ادعي أن الكل علي خلافها.

و استشكل في ذلك في المدارك و كشف اللثام و غيرهما بأنه لا يناسب الإجماع علي أن أقل الطهر عشرة، و لذا يحكم بحيضية النقاء المتخلل لو بلغ الدم الأول ثلاثة أيام. و من هنا صرح في كشف اللثام بالإجماع علي اعتبار التوالي في الثلاثة التي هي أقل الحيض، و عن شرح المفاتيح أن الخلاف إنما هو في اعتبار استمرار الدم ثلاثة أيام في أول الحيض إذا لم تكن أقل الحيض، و أما إذا كانت أقل الحيض فلا بد من استمرارها عند الكل. لكن هذا لا يناسب تعرضهم في أقل الحيض للخلاف في اعتبار التوالي في الثلاثة بنحو يظهر منهم المفروغية عن كون المتفرق علي القول بحيضيته من أفراد أقل الحيض.

اللهم إلا أن يكون نظرهم في التحديد بالثلاثة و الخلاف في اعتبار التوالي إلي أيام الدم الذي هو المعيار في الحيض عرفا، من دون نظر إلي أيام القعود التي لو فرض شمولها للنقاء المتخلل كانت ملحقة بالحيض حكما، و هو خارج عن محل الكلام في التحديد و غيره.

و علي هذا لا مجال لدعوي: أن الثلاثة المتفرقة ليست من أقل الحيض عندهم.

كما لا مجال لنسبة القول باختصاص حكم الحيض بها إليهم من مجرد كونها عندهم من أقل الحيض، لأن عدم حيضية النقاء المتخلل عندهم لا ينافي كونه بحكم الحيض عندهم، بل لا بد في ذلك من النظر في كلماتهم و أدلتهم الأخر.

و كيف كان، فحيث كان الحيض عبارة عن خروج الدم الخاص- كما سبق- كان جريان أحكامه علي النقاء المتخلل موقوفا إما علي صدق الحيض معه عرفا،

ص: 103

______________________________

لاكتفائهم في استمرار الحيضة الواحدة بابتداء دمها في الظهور و عدم انتهائه، أو توسع الشارع في مفهومه بنحو يشمله علي خلاف ما عليه العرف، أو إلحاقه بالحيض حكما مع عدم كونه منه.

أما الأول فلا مجال للبناء عليه بعد الرجوع للعرف و اللغة في معني الحيض.

نعم، قد يحتمل ذلك مع قلة الفترات بالنحو المتعارف في ظهور الحيض، علي ما يأتي الكلام فيه في كيفية رؤية الدم المعتبرة في الأيام الثلاثة إن شاء اللّه تعالي. و لو تم خرج عن محل الكلام و لزم البناء علي حيضيته إجماعا، كما في التذكرة، و كان الكلام في غيره مما لا يصدق معه استمرار الحيض. و منه يظهر أنه لا مجال لما في التذكرة و المنتهي من الاستدلال عليه بأن من شأن الدم التقطع. فلاحظ.

كما أن الثاني مخالف للإطلاق المقامي لأدلة أحكام الحيض القاضي بحملها علي الحيض العرفي. علي أن الحكم في مرسلة يونس المتقدمة علي ثلاثة أيام الدم المتفرقة في ضمن العشرة بأنها أدني الحيض صريح في رد هذين الوجهين. بل لازمهما عدم دلالة نصوص التحديد علي كون أقل الدم ثلاثة أيام، لأن مقتضي إطلاقها الاكتفاء برؤية الدم في أول اليوم الأول و آخر الثالث، لاستمرار الحيض بالمعني المذكور ثلاثة أيام حينئذ، و هو خلاف المقطوع به من النصوص و الفتاوي.

فيتعين الثالث، و حيث كان مخالفا لعموم أحكام الطهر كان محتاجا للدليل.

و قد استدل عليه جملة من الأصحاب بما يأتي من النصوص و الإجماع علي أن أقل الطهر عشرة أيام. و هو مبني علي خروج الشارع الأقدس في مفهوم الطهر في هذه النصوص عما عليه العرف- و هو النقاء من دم الحيض- و إرادته منه الطهارة الشرعية التي هي موضوع الأحكام المعهودة، حيث يمكن عدم تحققها حين النقاء بين الدميين، إذ لو أراد منه الطهر العرفي الصادق علي النقاء المذكور يعلم بقصور التحديد عنه و عدم بقائه علي عمومه.

و الأول مخالف لإطلاق نصوص التحديد المقامي، كما لا يناسب المقابلة

ص: 104

______________________________

في بعض النصوص المذكورة و غيرها بين الطهر و الدم، كقوله عليه السّلام في صحيح محمد بن مسلم: «أقل ما يكون عشرة من حين تطهر إلي أن تري الدم» «1»، و في مرسلة يونس الطويلة: «إذا رأيت الدم البحراني فدعي الصلاة، و إذا رأيت الطهر و لو ساعة من نهار فاغتسلي و صلي» «2».

كما أنه خلاف ظاهر التعبير فيها و في غيرها «3» برؤية الطهر، لظهوره في كون الطهر أمرا يري كالدم، لا أمرا شرعيا غير قابل للرؤية.

كيف و لازم البناء علي إرادة المعني المذكور من نصوص التحديد عدم نهوضها بإثبات لزوم تخلل عشرة أيام بين الحيضتين، بل يمكن كون النقاء بينهما دونها مع كونه بحكم الحيض، لعدم التصدي فيها لتحديد النقاء، بل لتحديد المحكوم بالطهارة منه، بخلاف ما إذا كان المراد بها المعني العرفي المتقدم، إذ حيث يعلم بلزوم الفصل بين الحيضتين، فإذا كان أقل الطهر عشرة أيام لزم تخلله بينهما.

و من هنا لا ينبغي التأمل في أن المراد به في نصوص التحديد معناه العرفي المقابل للحيض، فيختص التحديد بالطهر بين الحيضتين. إما لأجل تخصيص ما تضمن إمكان تفرق الحيضة في ضمن العشرة لعموم التحديد، أو لانصراف العموم لذلك، كما هو صريح جملة من معاقد الإجماعات عليه، و المناسب لجعل موضوعه في بعض نصوصه القرء «4»، المفسر في جملة من النصوص بما بين الحيضتين «5».

و بالجملة: بعد أن كان الطهر عرفا مقابلا للحيض فهو صادق قطعا علي النقاء المتخلل بين الدميين في المقام و يكون دليل إمكان تخلله مخرجا له عن عموم تحديد أقل الطهر تخصيصا أو تخصصا، سواء كان بحكم الحيض أم لم يكن، و لا مجال لتحكيم العموم المذكور فيه لإثبات أحكام الحيض له، فضلا عن نفي كونه طهرا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الحيض حديث: 4.

(3) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض.

(4) الوسائل باب: 11 من أبواب الحيض حديث: 1.

(5) راجع الوسائل باب: 14 من أبواب العدد.

ص: 105

______________________________

و أما ما في الحدائق من اعتضاد ما ذكره من وقوع الطهر في أقل من عشرة أيام بموثق يونس بن يعقوب أو صحيحه: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: المرأة تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة. قال: تدع الصلاة. قلت: فإنها تري الطهر ثلاثة أيام أو أربعة. قال:

تصلي. قلت: فإنها تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة [أيام] قال: تدع الصلاة. قلت: فإنها تري الطهر ثلاثة أيام أو أربعة. قال: تصلي. قلت: فإنها تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة.

قال: تدع الصلاة. تصنع ما بينهما و بين شهر، فإن انقطع عنها الدم، و إلا فهي بمنزلة المستحاضة» «1» و قريب منه حديث أبي بصير «2».

فهو كما تري، لأن حملهما علي كون الدم المتفرق حيضة واحدة مستلزم لزيادة الحيض علي العشرة أيام، و حملهما علي كونه حيضات متعددة مستلزم لكون الطهر بين حيضتين دون العشرة، و لا مجال للبناء عليه. فيتعين حملهما علي صورة اشتباه الحيض بغيره، أو طرحهما، علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّه تعالي. فالعمدة ما ذكرناه.

و منه يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الاستدلال بما تضمن تفسير القرء بالطهر، لظهوره- بضميمة ما تضمن تفسير القرء بما بين الحيضتين «3» - في أن الطهر المطلق ليس إلا ما بين الحيضتين، و لا طهر سواه، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: الأقراء هي الأطهار» «4».

لاندفاعه بأنه حيث عرفت أن النقاء المتخلل بين أجزاء الحيضة الواحدة طهر و إن جرت عليه أحكام الحيض فلا مجال لحمل الصحيح علي الطهر المطلق، بل خصوص ما بين الحيضتين منه لبيان خروج العدة بأول الحيضة الثالثة و دفع احتمال كونه نفس الحيضة المستلزم لخروجها بانتهاء الحيضة المذكورة، كما تضمنته جملة من النصوص و حكي عن بعض العامة. و يناسب ما ذكرنا ما في صحيحه الآخر: «قلت

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 3.

(3) راجع الوسائل باب: 14 من أبواب العدد.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب العدد حديث: 3.

ص: 106

______________________________

لأبي عبد اللّه عليه السّلام: سمعت ربيعة الرأي يقول: من رأيي أن الأقراء التي سمي اللّه عزّ و جلّ في القرآن إنما هو الطهر فيما بين الحيضتين. فقال: كذب لم يقل برأيه، و لكنه إنما بلغه عن علي عليه السّلام فقلت: أ كان علي عليه السّلام يقول ذلك؟ فقال: نعم،، إنما القرء الطهر الذي يقرء فيه الدم فيجمعه، فإذا جاء المحيض دفعه [دفقه]» «1».

ثم إنه قد يستدل علي ذلك أيضا بما في بعض نصوص الاستبراء من فرض انقطاع الدم مع الشك في الطهر، ففي مرسلة يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سئل عن امرأة انقطع عنها الدم فلا تدري أ طهرت أم لا. قال: تقوم قائما … » «2».

بل يظهر من بعضها أن الطهر يستعمل تارة: في انقطاع الدم. و اخري: في الفراغ من الحيض، و أن موضوع الأحكام الثاني، ففي موثق سماعة عنه عليه السّلام: «قلت له: المرأة تري الطهر و تري الصفرة أو الشي ء فلا تدري أ طهرت أم لا، قال: فإذا كان كذلك فلتقم … » «3».

و يندفع بأن المراد بهما انقطاع الدم عن الخروج للظاهر مع احتمال بقائه في باطن الفرج الذي ينكشف بالاستبراء و أن المعيار في الطهر ذي الأحكام عدم وجوده في باطنه، لا انتهاء الحيضة الذي هو محل الكلام.

بل مقتضي إطلاقهما تحققه بذلك و إن عاد بعد الفصل بالنقاء قبل العشرة لعدم انتهاء الحيضة، و عدم ترتب أحكام الحيض علي النقاء المذكور. و مثلهما في ذلك سائر ما تضمن الأمر بالغسل و الصلاة بانقطاع الدم.

نعم، لو تم الدليل علي ترتب أحكام الحيض علي النقاء المذكور لزم حملها علي غير صورة عود الدم قبل العشرة، أو علي بيان الوظيفة الظاهرية في فرض الجهل بعوده، كما يتعين الثاني فيما تقدم في مرسلة يونس من الأمر بالغسل و الصلاة عند انقطاع الدم بعد اليوم أو اليومين و انتظار عوده، و في مرسلة داود عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب العدد حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 107

______________________________

له: فالمرأة يكون حيضها سبعة أيام أو ثمانية أيام، حيضها دائم مستقيم، ثم تحيض ثلاثة أيام ثم ينقطع عنها الدم و تري البياض لا صفرة و لا دما قال: تغتسل و تصلي.

قلت: تغتسل و تصلي و تصوم ثم يعود الدم. قال: إذا رأت الدم أمسكت عن الصلاة و الصيام. قلت: فإنها تري الدم يوما و تطهر يوما. قال: إذا رأت الدم أمسكت و إذا رأت الطهر صلت، فإذا مضت أيام حيضها و استمر بها الطهر صلت، فإذا رأت الدم فهي مستحاضة. قد انتظمت لك أمرها كله» «1».

و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن المرأة تري الدم في غير أيام طمثها فتراها [فتراه. ظ] اليوم و اليومين و الساعة و الساعتين و يذهب مثل ذلك كيف تصنع؟ قال: تترك الصلاة إذا كانت تلك حالها ما دام الدم و تغتسل كلما انقطع عنها» «2»، لاختصاص الأخيرتين بالنقاء القليل و فرض احتماله في الأولي، ليست مطلقة قابلة للتقييد بغيره.

لكنه لا ينافي ما ذكرنا من ظهورها بدوا في عدم جريان أحكام الحيض علي النقاء، لأن حمل المطلق علي المقيد و الكلام علي الوظيفة الظاهرية التي يؤخذ الجهل في موضوعها مخالف لظاهرهما.

هذا و قد استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه علي عدم جريان أحكام الحيض علي النقاء بما تقدم في مرسلة يونس من قوله عليه السّلام: «و إن رأت في تلك العشرة أيام من يوم رأت الدم يوما أو يومين حتي يتم لها ثلاثة أيام فذلك الدم الذي رأته في أول الأمر مع هذا الذي رأته بعد ذلك في العشرة هو من الحيض» لظهوره في اختصاص الحيض بأيام الدم.

أقول: بل قوله عليه السّلام بعد ذلك: «و هو أدني الحيض» صريح في ذلك.

إلا أنه لا يصلح للاستدلال، لما عرفت من عدم احتمال كون النقاء حيضا، بل غاية الأمر أنه طهر بحكم الحيض، و لا تنفيه المرسلة، لأنها بصدد تحديد نفس

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 8.

ص: 108

______________________________

الحيض، لا تحديد موضوع أحكامه و لو كان أعم منه.

كما استدل صاحب الحدائق علي ذلك بالنصوص التي تقدم منه الاستدلال بها علي عدم لزوم كون الحيضة الواحدة في عشرة أيام، و الاكتفاء بعدم الفصل بين الدميين بعشرة، بدعوي: أنه لو كان النقاء حيضا لزم زيادة الحيض علي عشرة أيام، و هو باطل إجماعا و نصا. و في الجواهر أنه كيف ساغ له الإقدام علي تخصيص قاعدة أقل الطهر و قصرها علي ما بين الحيضتين و لم يسغ له الإقدام علي نقض قاعدة أكثرية الحيض حتي جعل لزوم بطلانها شاهدا له علي مدعاه، مع أن منشأهما واحد.

لكنه كما تري، للفرق بين القاعدتين في وضوح العموم و خفائه قطعا.

علي أنه بملاحظة ما سبق من أن الحيض أيام الدم و الطهر أيام النقاء يتضح أن قاعدة تحديد الطهر بالعشرة لا يراد منها العموم قطعا، بل تقصر عن النقاء المتخلل بين أجزاء الحيضة الواحدة و إن لم نقل بجريان أحكام الحيض عليه، و أن جريان أحكام الحيض علي النقاء في مفروض كلام صاحب الحدائق لا يستلزم زيادة الحيض علي عشرة، بل زيادة أيام القعود عليها، و هو- كزيادة نفس الحيض- لا يظن من أحد احتماله فضلا عن القول به.

نعم، سبق الاشكال في حمل النصوص المذكورة علي ما ذكره و العمل بها فيه.

فراجع.

فالعمدة في الدليل علي عدم جريان أحكام الحيض علي النقاء المذكور ما أشرنا إليه من عموم أحكام الطهر، و إطلاق ما تضمن الأمر بالغسل و الصلاة عند انقطاع الدم الظاهر في الحكم الواقعي، و قد عرفت عدم نهوض الأخبار المستدل بها علي حيضيته بالخروج عن ذلك.

كما لا مجال للاستدلال عليه بأن لازم جريان حكم الطهر علي النقاء إمكان عدم مانعية الحيض من الصلاة، كما لو فرض عدم استيعاب الدم المتقطع في كل نوبة لوقت الفريضة. إذ لا محذور في الالتزام بذلك، و لا سيما مع ندرة الفرض المذكور

ص: 109

______________________________

بالنحو المانع من وضوح حكمه من السيرة و نحوها علي خلاف مقتضي الأدلة.

فالعمدة في الدليل علي ذلك الإجماع الذي قد يستفاد من استيعاب كلماتهم، فقد ادعي الإجماع في الخلاف و التذكرة و ظاهر المنتهي علي أنه إذا انقطع الدم بعد الثلاثة و عاد قبل العشرة كان مجموع الدم و النقاء المتخلل حيضا، في قبال بعض العامة المقتصرين في الحيضية علي الدم، و عن شرح المفاتيح أنه لم ينقل في ذلك خلاف.

و يؤيده إرساله في كلام بعضهم إرسال المسلمات، بل تصريح جملة منهم بذلك في النفاس، كما في المبسوط و الخلاف و السّرائر و المعتبر و الشرائع و التذكرة و المنتهي و القواعد و غيرها، و عن كشف الالتباس نسبته لسائر عبارات الأصحاب و عن مجمع البرهان الإجماع عليه، مع أن غاية الدليل لهم في النفاس إلحاقه بالحيض. فإن المستفاد من مجموع ذلك مفروغيتهم عن أن النقاء المتخلل للدم في ضمن العشرة بحكم الدم.

و دعوي: اختصاص معقد الإجماع المتقدم- ككلماتهم المتقدمة بما إذا كان الدم الأول ثلاثة أيام، و لا يشمل النقاء المتخلل للثلاثة- بناء علي عدم اعتبار التوالي فيها- الذي هو محل الكلام، و سبق ظهور مرسلة يونس في كونه بحكم الطهر.

مدفوعة بأن الظاهر كون اختصاص معقد الإجماع بذلك لأنه مورد كلام مدعيه، أو لبنائه علي اعتبار التوالي في ثلاثة الحيض، لا لخصوصيته فيه، كما يناسبه استدلالهم عليه بأن أقل الطهر عشرة، و ظهور جملة من عباراتهم في أن مرجع القول بعدم اعتبار التوالي إلي حيضية النقاء مع الدم، ففي الوسيلة أنه لو تفرقت ثلاثة الدم في ضمن عشرة أيام كان جميع العشرة بحكم الحيض في إحدي الروايتين، و نحوه عن المعتبر و التذكرة، و في المنتهي: «و احتسب النقاء من الحيض عند القائلين بالتلفيق مطلقا، و عندنا بشرط أن يتقدمه حيض صحيح».

و ربما كان هذا هو الوجه لما تقدم عن الجامع من أنها لو رأت الدم ثلاثة متفرقة كانت وحدها حيضا علي رواية يونس، و علي خلافها الكل، حيث لا يبعد كون مراده

ص: 110

______________________________

مخالفة الكل للرواية في اختصاص الحيض بالدم المتفرق، لا في حيضيته التي سبق ظهور القائل بها منهم.

نعم، تقدم من الروض و عن غيره أن مقتضي القول بعدم اعتبار التوالي في الثلاثة حيضية أيام الدم وحدها، و في المنتهي: «إذا قلنا بالتلفيق فكل قدر من الدم لا يجعل حيضا تاما، و كذا كل قدر من الطهر، لكن جميع الدماء حيض واحد يفرق، و جميع النقاء طهر كامل واحد، حتي أن العدة لا ينقضي بعود الدم ثلاث مرات، و لو كان كل قدر من النقاء طهرا كاملا خرجت العدة بعد ثلاثة»، و نحوه عن نهاية الأحكام، فإنه صريح في أن النقاء المتفرق طهر لا حيض.

لكن لا يبعد عدم ابتناء كلام الأولين علي الاطلاع علي كلام القائلين بعدم اعتبار التوالي حسا، بل علي محض الاجتهاد منهم في لازم القول المذكور تبعا لدليله، و هو مرسلة يونس التي عرفت ظهورها في عدم جريان حكم الحيض علي النقاء.

و كلام المنتهي لا يناسب تصريحاته بحيضية النقاء، فلا يبعد كون مراده نفي كون النقاءات أطهارا متعددة حتي علي القول بطهرية النقاء الذي حكاه عن بعض العامة- كما احتمله شيخنا الأعظم قدّس سرّه لا الحكم منه بكونه طهرا.

كيف و قد نبه في الفرع الثاني لعدم وجوب الغسل بانقطاع الدم الأول إذا لم يغمس القطنة، بل الوضوء و الصلاة، لأنه إن لم يعد بعد ذلك لم يكن الدم حيضا، بل استحاضة حكمها الوضوء، و إن عاد تبين أن الزمان حيض، بناء علي ما سبق منه من حيضية النقاء، فلا يشرع فيه الغسل.

و من هنا لا مجال لإخلال ذلك بدعوي الإجماع السابقة.

نعم، يشكل التعويل عليه في الخروج عن ظاهر الأدلة المتقدمة، لعدم وضوح كونه إجماعا تعبديا، بل من القريب جدا استنادهم فيه لقاعدة أن أقل الطهر عشرة المجمع عليه عندنا، كما تكرر في كلماتهم الاستدلال به، و حيث سبق عدم نهوضها بالمدعي لم ينهض الإجماع المبتني عليها بالاستدلال عليه.

ص: 111

______________________________

و لا سيما مع أن الآثار العملية لذلك- كقضاء الصوم و عدم وجوب الغسل بانقطاع الدم الأول لو لم يغمس القطنة- ليست شايعة الابتلاء بنحو يتضح لأجله قيام السيرة عليها لتعضد الإجماع المدعي و تكشف عن اتصاله بعصر المعصومين عليهم السّلام و جري من لم يصرح بمقتضاه عليه، لا علي ظاهر الأدلة القاضية بجريان أحكام الطهر علي النقاء.

و من هنا يصعب الخروج عن الظاهر المذكور، و البناء علي جريان أحكام الحيض علي النقاء، فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

الأمر الرابع: لما كانت مرسلة يونس مختصة بما إذا كان تفرق الدم في أيام العادة فقد مال في الحدائق إلي تقييدها لإطلاق حديثي محمد بن مسلم

بناء علي كونهما من أدلة المسألة- و كونها شاهد جمع بينهما و بين الرضوي المتقدم الصريح في اعتبار التوالي بحمله علي غير أيام العادة، و إن اعترف بأن ظاهر الأصحاب عموم النزاع في اعتبار التوالي لأيام العادة و غيرها.

و يشكل بأن المرسلة لا تصلح لتقييد حديثي محمد بن مسلم، لعدم التنافي بينهما و بينها مع اتفاقهما في الإثبات. و الرضوي ضعيف في نفسه فلا ينهض بمعارضة الحديثين لتكون المرسلة شاهد جمع بينهما و بينه.

نعم، سبق الإشكال في الاستدلال بحديثي محمد بن مسلم. فالظاهر أن وجه التعميم إلغاء خصوصية مورد المرسلة عرفا، و أنه إذا أمكن تقطع الحيض في العادة أمكن في غيرها.

و لا سيما مع كون مقتضي إطلاق حديثي محمد بن مسلم إمكان تقطع الحيض بعد الثلاثة و لو في غير العادة. و خصوصا مع تطبيق أقل الحيض عليه في المرسلة، حيث يظهر منه كون المراد بالأقل ما يعم المتقطع.

مضافا إلي اعتضادها بإطلاق نصوص التحديد بناء علي ما سبق من شموله للمتقطع. و بالجملة: لا ينبغي التأمل بعد ملاحظة إطلاق نصوص التحديد و إعمال الفهم العرفي في المرسلة في عدم اختصاص التقطع في أقل الحيض بأيام العادة.

ص: 112

الأمر الخامس: لا إشكال في وجوب الغسل إذا زاد الدم الأول علي مقدار الاستحاضة القليلة.

______________________________

و أما إذا كان بقدرها بأن لم يغمس القطنة فلا يجب الغسل بانقطاعه، بناء علي حيضية النقاء المتخلل، لما تقدم من العلامة من تردد الأمر بين الاستحاضة التي يجب بها الوضوء و بقاء حكم الحيض المانع من الغسل و به يرفع اليد عن إطلاق المرسلة.

أما بناء علي أن النقاء طهر، فحيث يحتمل حيضية الدم يحتمل مشروعية الغسل، فيجب بمقتضي إطلاق المرسلة المحمول علي التعبد ظاهرا بحيضية الدم، لقاعدة الإمكان أو نحوها، و لذا وجب ترك الصلاة برؤيته.

فلا مجال لما في الروض من وجوب الوضوء خاصة لاحتمال كونه استحاضة، فلو عاد الدم بعد ذلك في ضمن العشرة انكشف بطلانه.

و مثله قوله: «و لو اغتسلت للأولين احتياطا ففي إجزائه نظر». إذ هو مبني علي اعتبار الجزم بالنية في الغسل الذي هو خلاف التحقيق، و لا سيما مع تعذر معرفة الحال.

نعم، مقتضي القاعدة أنه لو لم يعد الدم بنحو يتم به أقل الحيض انكشف عدم مشروعية الغسل فلا يجزي للصلاة. و لم ينبه لذلك في المرسلة. فلا بد من حملها إما علي الدم الذي يغمس القطنة، أو علي إجزاء الغسل في الفرض تعبدا، أو علي فرض ضم الوضوء للغسل استحبابا، أو لعدم إجزاء غسل الحيض عن الوضوء.

و لعل الأقرب الأخير. فتأمل.

الأمر السادس: الظاهر أنه بناء علي اعتبار التوالي في الأيام الثلاثة فاللازم كونها في أول الحيض،

و لا يكفي كونها في وسطه، فلو رأت الدم يوما ثم نقت يوما ثم رأت الدم ثلاثة أيام لم يحكم بإلحاق اليوم الأول بثلاثة الحيض، و إن حكاه في الجواهر عن بعض المحصلين من معاصريه.

لأنه إن بني علي ظهور نصوص التحديد في التوالي و العمل بها كان إلحاق المتقطع محتاجا للدليل، و المتيقن من دليله- و هو حديثا محمد بن مسلم و صحيح

ص: 113

و لو في باطن الفرج (1). و ليلة الأول كليلة الرابع خارجتان، و الليلتان المتوسطتان داخلتان (2).

______________________________

عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه و الإجماع- هو إلحاق المتأخر عن الثلاثة دون المتقدم. و إن بني علي عدم ظهورها فيه أو رفع اليد عنها في ذلك بمرسلة يونس لزم عدم اعتبار توالي الثلاثة مطلقا حتي في وسط الحيض. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

الكلام في الليالي

(1) أما بناء علي ما سبق منه قدّس سرّه من الاكتفاء بنزول الدم لباطن الفرج في حدوث الحيض و ترتب أحكامه فظاهر.

و أما بناء علي اعتبار خروجه للظاهر في حدوثه فالظاهر عدم الإشكال بينهم في عدم اعتباره في بقائه، بل يكفي خروجه لباطن الفرج لابتناء الحيض علي ذلك، فتنصرف إليه نصوص التحديد.

و لذا اكتفي به هنا من لم يكتف به هناك. و أما الاستدلال بنصوص الاستبراء «1» الصريحة في عدم الطهر مع بقاء شي ء من الدم في داخل الفرج.

فقد يشكل بأنها حيث كانت واردة في الحائض و التي لا تعلم بطهرها من الحيض فالمتيقن منها ما إذا صدق الحيض منها، لاستمرار الدم ثلاثة أيام، و لا تدل علي الاكتفاء به في تحقق الحدّ المذكور الموقوف عليه صدق الحيض. و لا سيما بناء علي ما سبق منهم من أن عدم الطهر أعم من خروج الدم الذي يعتبر فيه الحد المذكور.

و إن سبق المنع منه.

(2) كما في كشف اللثام و الرياض و المستند و الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيرها، و نفي في المستند الخلاف في دخول الليلتين المتوسطتين و استظهر ذلك في الرياض. لكن اعتبر الأيام الثلاثة بلياليها في التذكرة و المنتهي و جامع المقاصد و الروض و محكي ابن الجنيد، بل نفي الخلاف فيه في التذكرة، و ادعي الإجماع عليه

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض.

ص: 114

______________________________

في المنتهي، و نسبه لظاهر الأصحاب في محكي الذخيرة، و نفي الريب فيه في جامع المقاصد، مدعيا دلالة بعض أخبار العامة عليه، كما نسبه لبعض الأخبار في الروض.

نعم، احتمل غير واحد خروج الليالي عن مقعد الإجماع و نفي الخلاف في التذكرة و المنتهي. و هو- كما تري- مخالف للظاهر.

و مثله ما في الجواهر من حمل كلام جميع من سبق- عدا الذخيرة- علي خصوص الليلتين المتوسطتين. قال: «و إلا للزم أن يكون أقل الحيض أربعة أيام و ثلاثة ليالي لو فرض رؤيتها الدم صبح الخميس لعدم صدق الأيام بلياليها بدون ذلك، لأن المفروض كون ليلة الخميس بياضا. أو يجعل يوم الخميس ليلته ليلة الجمعة، و يوم الجمعة ليلته ليلة السبت، و يوم السبت ليلته ليلة الأحد. و هما معا كما تري».

للإشكال فيه بأن جمعهم الليالي مع الأيام ظاهر في إرادة مجموع اليوم و الليلة في كل منها الراجع لتثليث الليالي كالأيام، كما يناسبه ما في جامع المقاصد و الروض من ابتنائه علي دخول الليلة في مسمي اليوم أو علي التغليب.

و إنما يكتفي بثلاثة أيام في الفرض الذي ذكره إما لإرادتهم من إضافة الليلة لليوم مطلق الليلة مع اليوم، لا خصوص ليلته، أو للاكتفاء بالتلفيق نظير التلفيق في أبعاض اليوم.

فلا ينبغي التأمل في ظهور كلام من سبق في إلحاق الليالي.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في ظهور اليوم في نفسه فيما يقابل الليل. و لا مجال لما تقدم من جامع المقاصد و الروض من احتمال عمومه له، فحمله علي ما يعمه تغليبا- نظير قولنا: الشهر ثلاثون يوما- يحتاج إلي قرينة.

و حينئذ نقول: أما بناء علي اعتبار الاستمرار في أقل الحيض فاليوم في نصوص التحديد..

تارة: يحمل علي ما يقابل الليل، مع تنزيله علي محض بيان المقدار من دون خصوصية لبياضه، بنحو يتم الحد بمقداره من الليل. و لازمه الاجتزاء بيومين و ليلة

ص: 115

______________________________

و بيوم و ليلتين.

و اخري: علي ذلك مع المحافظة علي خصوصية بياضه. و لازمه إلحاق الليلتين المتوسطتين محافظة علي الاستمرار، بل الليالي الثلاثة مع عدم كون مبدأ الدم أول النهار، دون الليلة المتطرفة، لعدم توقف الاستمرار عليها.

و ثالثة: علي ما يعم الليل تغليبا. و لازمه اعتبار ثلاثة أيام و ثلاث ليال مطلقا و مع قطع النظر عن الاستمرار.

و الأول بعيد جدا، بل هو خلاف المقطوع به من النصوص و عبارات الأصحاب، لاستلزامه عدم توقف أقل الحيض علي أيام ثلاثة أصلا، و لا مناسبة مصححة لاختيارها في التحديد.

و الثاني و إن كان أنسب بالمحافظة علي المعني الحقيقي لليوم في الإلحاق و الاقتصار في الإلحاق علي المتيقن، كما التزموا بنظيره في ثلاثة الخيار و الاعتكاف و عشرة الإقامة و غيرها.

إلّا أن الثالث هو الأقرب في خصوص المقام، لظهور أن الأقل لما كان هو أحد طرفي الشي ء لم يكن قابلا للزيادة و النقصان، فلا مجال لتحديده بما يقابلهما، كما هو مقتضي الوجه الثاني، حيث يستلزم اختلافه باختلاف مبدئه، فإن خرج في أول اليوم كان مقداره أقل مما إذا خرج في نصف الليل، و هو أقل مما إذا خرج في أول الليل أو أثناء النهار، بل يلزم تحديده بما لا يقبلهما، كما هو مقتضي الوجه الثالث.

نعم، لو لم يكن لسان التحديد بيان أقل الحيض، بل بيان أقل ما يستوعبه من الأيام كسائر خواصه، أمكن حمله علي الوجه الثاني، و لا يضر بذلك قبوله للزيادة و النقصان، لعدم التصدي فيه لتحديد مقداره. لكنه لا يناسب لسان النصوص.

بل لا يناسب واقع الحيض، لعدم خصوصية بياض الأيام فيه ارتكازا، بل المناسب له خصوصية المقدار و الأمد.

و لا سيما بملاحظة مرسلة يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: أدني الطهر

ص: 116

______________________________

عشرة أيام. و ذلك أن المرأة أول ما تحيض ربما كانت كثيرة الدم فيكون حيضها عشرة أيام، فلا تزال كلما كبرت نقصت حتي ترجع إلي ثلاثة أيام، فإذا رجعت إلي ثلاثة أيام ارتفع حيضها، و لا يكون أقل من ثلاثة أيام» «1».

لصراحتها في تبعية التحديد لكثرة الدم و قلته، لا لخصوصية بياض اليوم.

و بهذا افترق المقام عن الخيار و الإقامة و نحوهما مما كان مرجع تحديده بالأيام إلي تحديد الحكم الشرعي أو موضوعه القابلين للزيادة و النقصان، لا إلي تحديد أمر واقعي لا يقبلهما.

و منه يظهر الحال بناء علي عدم اعتبار الاستمرار، إذ بعد تعذر الحمل علي الوجه الأول فالحمل علي الوجه الثاني مستلزم لخروج الليالي مطلقا، المستلزم خروج صورة الاستمرار التي هي شايعة عن أقل الحيض، و يرجع التحديد إلي بيان ما يستوعبه الحيض من الأيام، الذي عرفت أنه بعيد في نفسه غير مناسب للسان النصوص، فيتعين الثالث.

و لعل هذا هو الوجه في جزم المحقق و الشهيد الثانيين به مع عدم جزمهما بدخول الليل في مسمي اليوم، بل احتمال كونه مرادا منه تغليبا مع وضوح أن الثاني مخالف للأصل.

و لأجل ما ذكرنا لم يبعد انصراف إطلاق اليوم في كلام جملة من الأصحاب لما يعم الليل. و لعله لذا نسبه لظاهر الأصحاب في محكي الذخيرة.

كما لعله الوجه في دعوي الإجماع و عدم الريب في كلام من سبق، مع عدم حكاية التصريح به عن أحد من القدماء غير ابن الجنيد.

نعم، الوجه المذكور بناء علي عدم اعتبار الاستمرار مستلزم لاعتبار استيعاب الدم للأيام، أما لو اكتفي بوجوده في كل منها في الجملة لزم البناء علي عدم ورود النصوص لبيان كم الحيض و مقداره، بل مجرد لزوم وقوعه في الأيام الثلاثة.

و حينئذ لا وجه لإلحاق الليالي- الراجع إلي الاكتفاء بوقوعه فيها دون الأيام

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 117

و لا يكفي وجوده في بعض كل يوم من الثلاثة (1)،

______________________________

- بعد خروجها عن مسمي الأيام. و من هنا يتجه الإشكال علي الشهيد الثاني في الروض، حيث جمع بين الأمرين.

مقدار خروج الدم في اليوم

(1) بعد البناء علي اعتبار التوالي في ثلاثة الحيض فظاهر المسالك و الروض و المدارك الاكتفاء برؤيته في بعض كل يوم من الثلاثة، و استقر به في الحدائق و عن شرح المفاتيح و محكي الذخيرة. و في كشف اللثام: «و هو مناسب للمشهور من عدم التشطير» «1» و نسب لظاهر الأكثر في المدارك و عن شرح المفاتيح و محكي الذخيرة، و في الأخير أنهم يشترطون أن تكون رؤية معتدا بها عرفا.

و أشار شيخنا الأعظم قدّس سرّه للاستدلال عليه بما تقدم في موثق سماعة من فرض قعود البكر في أول طمثها يومين «2» بحمله علي القعود عن الصلاة يومين مع زيادة الحيض عليهما بالدخول في الثالث- كما لو رأت الدم بعد الظهر بمقدار صلاة الظهرين من يوم الجمعة و انقطع عصر الأحد- فيدل علي عدم لزوم استيعاب الثالث.

لكنه كما تري، لظهوره في تبعية القعود للطمث في كونه يومين تارة و ثلاثة أخري، فهو ظاهر في إمكان كون الحيض يومين- كما سبق- و عدم إمكان العمل به في ذلك لا يقتضي حجيته فيما ذكره بعد أن لم يكن مقتضي الجمع العرفي.

نعم، ظاهر غير واحد الاستدلال باطلاق نصوص التحديد، قال في الروض:

«لصدق رؤيته ثلاثة أيام، لأنها ظرف، و لا تجب المطابقة بين الظرف و المظروف».

لكنه يشكل بأن ظاهر النصوص تحديد الدم و تقديره بالثلاثة، لا مجرد كونه فيها، فاللازم مطابقته لها و عدم قصوره عنها، كما نبه له غير واحد.

و أما ما عن حاشية الروض بما تقدم في مرسلة يونس من قوله عليه السّلام: «فإذا رأت المرأة الدم في أيام حيضها … ». فلعله بلحاظ ظهوره في كون الأيام ظرفا لا حدا.

______________________________

(1) لم يتضح المراد به.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الحيض حديث: 1. و تقدم عند الكلام في أقل الحيض.

ص: 118

______________________________

لكنه يندفع بأن كون أيام العادة ظرفا للدم لا ينافي كون الثلاثة حدا له، كما تضمنته المرسلة نفسها، بل قوله عليه السّلام: «فإن استمر بها الدم ثلاثة أيام … » صريح في اعتبار استيعاب الدم لليوم.

و مثله الاستدلال بإطلاق مفهوم الرضوي: «و إن رأت يوما أو يومين فليس ذلك من الحيض ما لم تر ثلاثة أيام متواليات» «1».

لأنه و إن كان ظاهرا في كون الثلاث ظرفا للرؤية، إلا أنه- مع ضعفه في نفسه- يلزم تقييده بنصوص التحديد- و منها صدره- الظاهرة في كونها حدا للدم المرئي و للحيض.

كما لا مجال لنسبته لظاهر الأكثر بعد ما يأتي من كلماتهم، و كذا ما في التذكرة و المنتهي من جعل القول بأن أقل الحيض يومان و نصف في قبال قول الأصحاب بأن أقله ثلاثة.

و كأنه لذلك ذكر في الروض أنه ربما يعتبر وجوده في أول الأول، و آخر الثالث و أي جزء من الثاني، و نسبه غير واحد لبعض الأصحاب أو بعض متأخريهم «2»، و لم يستبعده البهائي في الحبل المتين و محكي حاشية الاستبصار، و قواه في المستند.

قال في الأولين: «إذ لو لم يعتبر وجوده في الطرفين المذكورين لم يكن الأقل ما جعله الشارع أقل».

و إليه يرجع ما في المستند من أن المتبادر من نصوص التحديد عدم تحقق الحائضية في أقل من ثلاثة أيام.

قال: «و أظهر منه في ذلك المعني قوله في موثقة ابن بكير: ثم تترك الصلاة في المرة الثانية أقل ما تترك امرأة الصلاة و تجلس أقل ما يكون من الطمث، و هو ثلاثة أيام.

الحديث «3». فإن المتبادر … ثلاثة أيام تامة، لصحة السلب عن الأقل و لو بدقيقة … ».

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 4، ص: 119

و يندفع بأن كثرة الحيض و قلته إنما هي بطول أمد خروج الدم و قصره،

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) حكاه غير واحد عن السيد حسن بن السيد جعفر معاصر الشهيد الثاني.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 119

______________________________

لا بكثرة الفاصل بين طرفيه مع انقطاعه في الوسط.

إلا أن يعمم الحيض للنقاء المتخلل، بناء علي حيضيته، و لازمه عدم اعتبار خروجه في اليوم الثاني، كما تقدم في أول الكلام في حكم النقاء المتخلل.

و أما الموثق فلسانه مقارب للسان بقية النصوص، و لا يتضح وجه أظهريته منها.

و من هنا كان اللازم استيعاب الدم لليوم و استمراره فيه، كما هو ظاهر إطلاق الأصحاب، لتعبيرهم بعبارات النصوص.

بل هو كالصريح مما ذكره جملة سبق التعرض لهم من الاكتفاء بالتلفيق بالساعات حتي تتم ثلاثة أيام في ضمن العشرة بناء علي عدم اعتبار التوالي و عدم الاكتفاء به بناء علي اعتباره، و ما في كلام بعضهم من تقييد الأيام بالكاملة، و ما في الغنية و السرائر و محكي الكافي من التعبير في بعض فروع أقل الحيض بالاستمرار، بل صرح به في جامع المقاصد و محكي المحرر لابن فهد و غاية المرام و غيرها، و حكي عن ظاهر الإسكافي، و في محكي الجامع: «لو رأت يومين و نصفا لم يكن حيضا، لأنه لم يستمر ثلاثة أيام بلا خلاف».

بل سبق أن عمدة الدليل علي اعتبار التوالي يبتني علي اعتبار الاستمرار في وحدة الحيض.

هذا و قد ذكر جمال الدين في حاشيته علي الروضة بعد أن مال إلي أن القول الأول مقتضي إطلاق النصوص أنه لا ريب في تحيض المرأة بالدم المتقطع مع عدم خروجه في فترات التقطع عن الوجه المتعارف لها كثيرا، و أما مع خروجه عن متعارفها بوجه معتد به مع كونه بصفات الحيض فيحتمل تحيضها به عملا بإطلاق دليلي التحديد و الصفات، و عدمه اقتصارا في الحكم بسقوط العبارات و العدة علي المتيقن.

و هو كما تري، إذ مع فرض شمول إطلاق نصوص التحديد لغير المستوعب لليوم- كما هو مقتضي الظرفية- لا ينهض التعارف الشخصي للخروج عنه، و لا سيما مع واجديته للصفات، و مع فرض ظهورها في الاستيعاب لا يحكم بحيضية غير

ص: 120

______________________________

المستوعب من أول الأمر، فلا ينعقد لها التعارف فيه. إلا أن يعلم بحيضية الدم، فيأتي فيه ما يأتي فيما لو علم بحيضية الفاقد للحدّ إن شاء اللّه تعالي.

نعم، قال في التذكرة في مسألة اعتبار التوالي بعد ذكر الخلاف في التلفيق بين الدميين و في حيضية النقاء المتخلل: «و موضع الخلاف ما إذا كانت أزمنة النقاء زائدة علي الفترات المعتادة بين دفعات الدم، فإن لم يزد عليها فالجميع حيض إجماعا» و نحوه عن المنتهي و نهاية الأحكام بلا دعوي للإجماع.

فإن كان مراده به الاعتياد الشخصي للمرأة جري فيه ما تقدم في كلام جمال الدين. لكن يبعده ما سبق منه مما يظهر منه اعتبار الاستمرار مطلقا.

و لعله لذا قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في توجيهه: «مرادنا من التوالي عدم تخلل النقاء و استمرار التقاطر من الرحم عرفا و لو لم يخرج للخارج. و لذا فرق في نهاية الأحكام و التذكرة بين الفترات و ما يتخلل من ساعات النقاء بين الثلاثة- علي القول بعدم اشتراط التوالي- بأن دم الحيض يجتمع في الرحم، ثم يقطره الرحم شيئا فشيئا.

فالفترة ما بين ظهور دفعة و انتهاء أخري من الرحم إلي المنفذ، فإذا زاد علي تلك فهو النقاء. انتهي. لكنه لا يخلو من منافاة لتفسير الاستمرار بتلطخ الكرسف كلما وضعت.

إلا أن يقيد بما بعد الصبر هنيئة».

و قريب إليه ما أشار إليه في الرياض. و قد يرجع إليه ما في العروة الوثقي من كفاية الاستمرار العرفي.

و هو يبتني علي أن مبني الحيض علي التقطع في الخروج من الرحم و لو لداخل الفرج، فلا يخل التقطع المذكور باستمراره عرفا، و يلزم تنزيل إطلاق نصوص التحديد عليه، حيث لا يكون الاستمرار فيه تسامحيا، بل حقيقيا بنظر العرف، و إلا لزم حمل النصوص علي ما لا يتعارف خارجا، و لا تناسبه إطلاقاتها المقامية.

لكن ابتناء الحيض علي التقطع غير ثابت، بل لا يبعد ابتناؤه علي الاستمرار الحقيقي، بحيث كلما أدخلت القطنة تلوثت، فيلزم اعتبار ذلك. غايته بعد المبالغة في إدخالها كما

ص: 121

و لا مع انقطاعه في الليل (1). و يكفي التلفيق من أبعاض اليوم (2).

______________________________

يظهر من نصوص الاستبراء «1». و الأمر محتاج للفحص، و المناسب إيكاله للنساء.

و أما ما يظهر من الجواهر من الاكتفاء ببقاء الدم في باطن الرحم، حيث نزل عليه كلام العلامة المتقدم.

فهو ممنوع جدا، لعدم إدراك ذلك عرفا، فلا تنزل النصوص عليه. إلا أن يرجع إلي ما ذكرناه من معهودية الفترات في خروج الحيض، و لو لما تقدم عن العلامة، فيبني علي ما تقدم.

ثم أنه مما ذكرنا يظهر أنه بناء علي عدم اعتبار التوالي فلا بد من إكمال ثلاثة أيام بلياليها في ضمن العشرة. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) يظهر وجهه مما تقدم في دخول الليالي في التحديد.

(2) كما قواه شيخنا الأعظم قدّس سرّه و استظهر في المستند عدم الخلاف فيه، و في الجواهر: «لا يبعد جريان التلفيق الذي يعده أهل العرف كالحقيقي … كأن يكون قد جاء الدم عند الظهر و انقطع في الثالث عنده و نحو ذلك. و منه تعرف أنه لا وجه للتلفيق بالمخالف، كتلفيق النهار بالليل، لعدم مساعدة العرف له. بل قد عرفت سابقا الاشكال فيما ذكرناه من التلفيق».

و لا يخفي أن الجمود علي عنوان اليوم يقضي بعدم الاكتفاء بالتلفيق، و لا أقل من خروجه عن المتيقن منه، فتجري أصالة عدم الحيض، بناء علي ما سبق عند الكلام في اعتبار التوالي.

لكن لا يبعد التعميم له عرفا و لو لإلغاء خصوصية العنوان المذكور في مقام التقدير.

بل لا ينبغي التأمل فيه في المقام بملاحظة ما سبق في وجه دخول الليالي من ظهور نصوص التحديد في بيان مقدار غير قابل للزيادة و النقصان.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض.

ص: 122

و أكثر الحيض عشرة أيام (1).

______________________________

ثم أن ذلك لا يستلزم الاكتفاء بالأيام الملفقة التامة بناء علي عدم اعتبار التوالي، فضلا عن التلفيق من أبعاض اليوم، لأن تحقق أقل الحيض بها لا ينافي عدم الاكتفاء بها من حيثية خصوصية التقطيع، جمودا علي ظاهر اليوم في مرسلة يونس.

و من ثم كان ظاهر غير واحد عدم الاكتفاء به علي القول المذكور. لكن سبق في الفرع الثاني مما ألحقناه بالكلام في اعتبار التوالي تقريب الاكتفاء به، تبعا لغير واحد.

فراجع.

أكثر الحيض
اشارة

(1) يظهر وجهه مما تقدم في الأقل، لسوقهما في أكثر النصوص و عبارات الأصحاب و معاقد إجماعاتهم في مساق واحد.

نعم، في صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إنه أكثر ما يكون الحيض ثمان و أدني ما يكون منه ثلاثة» «1»، و في مرسلة يونس الطويلة عند التعرض للمرأة التي سألت النبي صلّي اللّه عليه و آله و سن لها التحيض بالعدد و أنها ليست ذات عادة قال عليه السّلام: «ألا تري أن أيامها لو كانت أقل من سبع … ما قال لها تحيضي سبعا …

و كذلك لو كان حيضها أكثر من سبع و كانت أيامها عشرا أو أكثر لم يأمرها بالصلاة و هي حائض … » «2».

و لا مجال للتعويل عليهما في قبال ما سبق. و لذا رمي في التهذيب الصحيح بالشذوذ، مدعيا إجماع العصابة علي ترك العمل به، كما طعنه في المنتهي بمخالفته لإجماع المسلمين. و ذكر أنه يحمل إما علي مستمرة الدم إذا كانت عادتها ثمانية- كما صنع الشيخ- أو علي بيان الغالب بحسب حال النساء، كما ذكره غير واحد.

لكن الأول بعيد جدا لا يناسب التعبير بالأكثر، و لا المقابلة بالأقل.

و الأقرب الثاني، فتكون الأكثرية بلحاظ أفراد الحيض لا أمده المقوم لأجزائه،

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 14.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 123

______________________________

كما قد يناسبه العدول عما تضمنته نصوص التحديد من إضافة العدد للحيض إلي إضافته لما يكون منه.

و أما المرسلة فهي ظاهرة في إمكان زيادة العادة علي العشرة، و ترتب أحكام الحيض تبعا لذلك و أن المرأة المذكورة لو كانت كذلك لم تتحيض بالسبع.

و دخول (لو) الامتناعية إنما يدل علي امتناع كون تلك المرأة كذلك، بدليل أمر النبي صلّي اللّه عليه و آله لها بالتحيض سبعا فلا ينافي إمكان ذلك في غيرها من ذوات العادة، بل فرضه ظاهر في إمكانه، كفرض كونها عشرة أو أقل من سبع، كما لا يخفي. فالعمدة ما عرفت من عدم نهوضها بمعارضة ما سبق.

تنبيهات:
الأول: أن الكلام في الليالي المتوسطة و المتطرفة في الأكثر يظهر مما سبق في الأقل،

لعدم الفرق بينهما من هذه الجهة.

الثاني: تقدم منا في مسألة اعتبار التوالي في تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه

في مرسلة يونس أن ظاهر النصوص إرادة أكثر أيام الدم، لا أيام القعود عن الصلاة و نحوها، و أن القعود في غير أيامه لو تم مستفاد من أدلة أخر تقدم الكلام فيها عند الكلام في حكم النقاء المتخلل بين الدميين.

و لو قيل به في النقاء المذكور فالظاهر التسالم علي عدم تجاوزه بضميمة أيام الدم علي العشرة، و هو ظاهر بناء علي عدم إمكان تفرق الحيضة الواحدة في أكثر من عشرة أيام. و أما بناء علي إمكانه- كما يظهر من الحدائق- فالظاهر انحصار الدليل عليه بالتسالم المذكور. و لا مجال للاستدلال عليه بأن أكثر الحيض عشرة، لوروده لتحديد أيام الدم لا أيام القعود، كما ذكرنا.

الثالث: الكلام في ظهور إطلاقات التحديد في اعتبار التوالي

كما يجري في الأقل يجري في الأكثر و ما بينهما من المراتب.

فإن قيل بظهوره في اعتبار التوالي فحيث كان مبنيا علي ما تقدم من بعضهم من

ص: 124

______________________________

أن وحدة الحيض باستمراره، كان مقتضاه عدم تقطع الحيض الواحد.

فيتعين مع تقطعه أن يكون الحيض أول دم يشتمل علي أقله، و ما يري بعده قبل مضي أقل الطهر استحاضة.

نعم، خرج منه ما يري في العشرة، فيحكم بحيضيته، كما يأتي في الفصل الخامس، و يظهر وجهه مما تقدم في مقدار الفصل بين دميي الحيضة الواحدة من فروع عدم اعتبار التوالي.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن لازم اعتبار التوالي في الأكثر البناء علي حيضية الدم المتقطع بتمامه و إن زاد علي العشرة، لعدم تحقق العشرة المتوالية به، و حيث لا يمكن الالتزام به كشف عن عدم اعتبار التوالي في الأكثر.

فهو كما تري، لعدم دخول الدم المذكور بتمامه في شي ء من المراتب التي تضمنتها أدلة التحديد فكيف يمكن دخوله في إطلاقها.

و بعبارة أخري: اعتبار الاستمرار في الحدين و ما بينهما من المراتب فرع اعتباره في وحدة الحيض، فغير المستمر ليس بمجموعه حيضا واحدا، لا أنه دخيل في حدية أحد الحدين مع إطلاق الحيض بالإضافة إليه.

نعم، يتجه ما ذكره قدّس سرّه لو كان مفاد النصوص تقييد عدم زيادة الحيض علي عشرة بما إذا كانت متوالية، بحيث يرجع إلي عدم اشتمال الحيض علي ما يستمر أكثر من عشرة أيام و إن أمكن أن يزيد عليها- مع التقطع. و كذا لو كان التحديد مختصا بالحيض المستمر، لا لمطلق الحيض. لكن الأول مباين لمفاد النصوص. و الثاني لا يناسب إطلاقها.

و إن قيل بعدم ظهوره في اعتبار التوالي- كما تقدم منا- كان مقتضي إطلاقه إمكان كون الحيضة الواحدة في أكثر من عشرة أيام، كما التزم به في الحدائق مع البناء علي كون النقاء المتخلل طهرا.

لكن لا بد من الخروج عن مقتضي الإطلاق المذكور، كما يظهر مما سبق في الفرع الثالث مما ألحقناه بالكلام في اعتبار التوالي.

ص: 125

أقل الطهر

و كذلك أقل الطهر (1).

______________________________

(1) كما صرح به الأصحاب، و في المعتبر: «و لا أعلم فيه خلافا لأصحابنا» و ادعي الإجماع عليه في الانتصار و الخلاف و الغنية و التذكرة و الروض و المدارك و محكي نهاية الأحكام و المختلف و الذكري و شرح الجعفرية و غيرها، و في المنتهي أنه مذهب أهل البيت عليهم السّلام و جعله في الأمالي من دين الإمامية.

و يشهد به صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: لا يكون القرء في أقل من عشرة أيام فما زاد، أقل ما يكون عشرة من حين تطهر إلي أن تري الدم» «1»، و مرسلة يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: أدني الطهر عشرة أيام … و لا يكون الطهر أقل من عشرة أيام» «2».

و أما الاستدلال عليه بما تضمن أن ما يري قبل العشرة فهو من الحيضة السابقة و ما يري بعدها فهو من الحيضة المستقبلة مما تقدم في مسألة اعتبار التوالي «3».

فهو موقوف علي أن المراد بالعشرة العشرة من حين انقطاع الدم، و قد تقدم الاشكال فيه عند الكلام في مقدار الفصل بين الدميين.

ثم إنه قد يدعي معارضة ما تقدم في تحديد أقل الطهر بعشرة بقوله عليه السّلام في مرسلة يونس الطويلة عند التعرض لتحيض مستمرة الدم بالصفات: «إذا رأيت الدم البحراني فدعي الصلاة، و إذا رأيت الطهر و لو ساعة من نهار فاغتسلي و صلي» «4»، و ما في مرسل داود المتقدم عند الكلام في حكم النقاء المتخلل بين الدميين من فرض الطهر يوما و الدم يوما «5»، و موثق يونس أو صحيحه: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: المرأة تري

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الحيض حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 11. و باب: 11 من أبواب الحيض حديث: 3. و باب: 17 من أبواب العدد حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 11 من أبواب الحيض حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 126

______________________________

الدم ثلاثة أيام أو أربعة. قال: تدع الصلاة. قلت: فإنها تري الطهر ثلاثة أيام أو أربعة.

قال: تصلي قلت: فإنها تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة [أيام] قال: تدع الصلاة. قلت:

فإنها تري الطهر ثلاثة أيام أو أربعة. قال: تصلي. قلت: فإنها تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة. قال: تدع الصلاة. تصنع ما بينهما و بين شهر، فإن انقطع عنها الدم، و إلا فهي بمنزلة المستحاضة» «1»، و قريب منه خبر أبي بصير «2».

لكن لا يبعد حمل مرسلة يونس علي أنها تصلي في أول ساعة من الطهر- الذي يكون بفقد الدم الصفات- و لا تنتظر شيئا- كما في الوسائل- في قبال ذات العادة التي تنتظر انتهاء عادتها و إن فقد الدم الصفات، فلا ينافي لزوم استمرار الطهر عشرة. أو علي النقاء المتخلل بين الدميين المحكومين بأنهما حيض واحد لواجديتهما للصفات في ضمن العشرة، حيث لا إشكال في وجوب ترتيب أحكام الطهر عليه إما واقعا أو ظاهرا، علي ما تقدم. و إلا فلا يظن من أحد البناء علي كفاية الساعة في الطهر بين الحيضتين. و لعل الثاني أقرب، لأنه الأنسب بعبارة النص. و هو المتعين في مرسل داود، لظهوره في كون مجموع الدماء في العادة.

نعم، لا مجال لكلا الوجهين في الأخيرين، للتصريح فيهما بأن الطهر أقل من عشرة، و لامتناع كون مجموع الدماء حيضة واحدة لزيادتها علي العشرة. و من ثم حملهما الشيخ علي اختلاط العادة، أو استمرار الدم مع اختلاف صفته، فيشتبه الحيض بغيره، فهي تتحيض بكل دم تراه لاحتمال كونه هو الحيض دون ما سبقه الذي لم يفصله عنه أقل الطهر، و هو لا ينافي كون الحيض بعض الدماء بنحو يتم لها أقل الطهر.

و استحسنه في المعتبر. و يناسبه ما في ذيلهما من تحديد الحكم بذلك إلي شهر ثم الرجوع لحكم المستحاضة، إذ يبعد جدا خصوصية الشهر فيه لو كان حكما واقعيا، بخلاف ما لو كان ظاهريا، حيث يمكن ارتفاع الاضطراب بعد الشهر، و يسهل التسامح بالصلاة فيه احتياطا للحيض، بخلاف ما إذا طالت المدة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 127

فكل دم تراه المرأة ناقصا عن ثلاثة أو زائدا علي العشرة أو قبل مضي عشرة من الحيض الأول فليس بحيض (1).

______________________________

نعم، المناسب لذلك التنبيه لوجوب قضاء الصلاة المتروكة في بعض الدماء، للعلم إجمالا بعدم حيضية بعضها، فعدم التنبيه عليه قد يكشف عن كون الجميع حيضا واقعا.

لكن الخروج بذلك عما ذكرنا في وجه كونه ظاهريا لا يخلو عن إشكال. فلا يبعد عدم تصدي الإمام عليه السّلام لهذه الجهة و الاتكال فيها علي عموم وجوب القضاء.

و لو فرض ظهورهما في عدم وجوبه فهو لا يستلزم حيضية الدم واقعا، بل قد يرجع إلي سقوطه منّة و تسهيلا علي المرأة بعد تسويغ الشارع لها ترك الصلاة ظاهرا.

و ربما يأتي الكلام فيهما في الفصل الخامس إن شاء اللّه تعالي.

و بالجملة: لا مجال للخروج بما سبق عما تقدم من تحديد أقل الطهر بعشرة أيام.

نعم، تقدم الكلام في النقاء المتخلل بين الدميين من حيضة واحدة. فراجع.

كما إنه مما تقدم في أقل الحيض يتضح حال الليالي في المقام.

هذا و المصرح به في كلام جماعة كثيرة أنه لا حد لأكثر الطهر، و نفي فيه الخلاف في الغنية، و ادعي الإجماع عليه في التذكرة. و يقتضيه إطلاق قوله عليه السّلام في صحيح محمد بن مسلم المتقدم: «فما زاد».

و عن أبي الصلاح تحديده بثلاثة أشهر. و رماه بالشذوذ في المنتهي، و حمله في التذكرة و غيرها علي الغالب. لكن الغالب هو الحيض في كل شهر، و ما زاد علي ذلك نادر من دون خصوصية للثلاثة أشهر.

و من هنا لا يبعد حمل كلامه علي أنها إنما تكون من ذوات الأقراء و تعتد بها إذا لم يتجاوز طهرها ثلاثة، و إلا اعتدت بالشهور. و لعله إليه يرجع ما عن البيان من احتمال نظره إلي عدة المسترابة.

الكلام في الدم الفاقد في الحد

(1) لفقده لحدّ الحيض. فلا مجال للتعويل علي بعض الطرق المحرزة له

ص: 128

______________________________

شرعا- كالعادة و قاعدة الإمكان- لورودها لإحرازه ظاهرا عند الشك فيه الذي هو فرع إمكانه، و مقتضي نصوص التحديد امتناعه.

بل لو فرض العلم بدوا بحيضيته لبعض الأمارات فقد يرتفع بمجرد الالتفات لفقده للحد، حيث يوجب الشك أو العلم بعدم ملازمة الأمارات المذكورة للحيض و تخطئة العرف في اعتقاد ملازمتها له لو كان بانيا علي ذلك.

نعم، لو فرض عدم ارتفاع العلم بذلك المستلزم للعلم بعدم كون التحديد واقعيا كليا فهل تجري أحكام الحيض عليه أو لا؟.

تقدم من سيدنا المصنف قدّس سرّه عند الكلام في سن الحيض أن التحديدات المذكورة له من الشارع إن تعذر تنزيلها علي تحديد الحيض الحقيقي كما في الفرض المذكور تعين تنزيلها علي تحديد ما يكون منه موضوعا للأحكام، فلا تجري في الدم المذكور و إن كان حيضا.

و تقدم منعه هناك. و المتجه منعه هنا أيضا بالنظر لألسنة التحديدات المتقدمة، لقوة ظهورها في تحديد الحيض الحقيقي، خصوصا مثل مرسلة يونس «1» المتضمنة أن تردد الحيض بين حديه مسبب عن كثرة الدم و قلته بحسب مزاج المرأة، فمع تعذر حملها علي القضية الواقعية الكلية يكون الأقرب تنزيلها علي القضية الواقعية الغالبية، دون القضية التعبدية الراجعة لنفي الأحكام.

فيتعين إجراء أحكام الحيض في الفرض، عملا بإطلاق أدلته.

نعم، لا بد من البناء علي حجية القضية الغالبية المذكورة لو شك في حيضية الدم الفاقد، لتضمن أدلتها تفريع العمل عليها. و بهذا افترق هذا التحديد عن التحديد بالسن، كما يظهر بمراجعة ما تقدم فيه.

و مما ذكرنا يظهر أن المتعين جريان أحكام الحيض إذا كان الانقطاع قبل الثلاثة بسبب دعاء الدم الذي تضمنته جملة من النصوص- و فيها الصحيح- لقطع الحيض

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 129

______________________________

لمن تريد النسك أو زيارة مسجد النبي صلّي اللّه عليه و آله «1».

و لا مجال لتوهم كشف انقطاعه عن عدم حيضيته، لابتناء تشريع الدعاء علي كونه حيضا، فلا يمنع تأثيره من البناء علي حيضيته لو كانت مقتضي بعض الأمارات الشرعية أو قاعدة الإمكان، فضلا عما لو كانت معلومة، بل يؤكدها.

بل لا يبعد جريان أحكام الحيض عليه حتي بناء علي ما تقدم من سيدنا المصنف قدّس سرّه لأن عدم جريان الأحكام علي فاقد الحد و إن كان راجعا إلي قصور عموم الأحكام المذكورة عنه الممكن في المقام، إلا أن قصورها عنده ليس بلسان التخصيص، بل بلسان الحكومة العرفية، لتضمن أدلة التحديد نفي الحيض عن فاقد الحد.

و من الظاهر أن اللسان المذكور لا يناسب فرض الدم حيضا موضوعا للأحكام، في نصوص تشريع الدعاء المشار إليها، بل الأولي تخصيص أدلة التحديد بها، بحملها علي فقد الحد من غير جهة الدعاء و إبقاء فاقد الحد بسبب الدعاء تحت عموم أحكام الحيض. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

______________________________

(1) تراجع النصوص المذكورة في الوسائل باب: 93 من أبواب الطواف و باب: 8 من أبواب المزار من كتاب الحج.

ص: 130

الفصل الرابع في معيار العادة و أحكامها
اشارة

الفصل الرابع تصير المرأة ذات عادة بتكرر الحيض مرتين (1).

______________________________

(1) فلا يكفي المرة و لا يعتبر الثلاث، كما صرح به الأصحاب رضي اللّه عنهم و ادعي الإجماع عليه في الخلاف و التذكرة و جامع المقاصد و المدارك، كما عي الإجماع في جامع المقاصد و محكي الذكري و شرح الجعفرية علي عدم اعتبار الثلاث.

و يقتضيه موثق سماعة: «سألته عن الجارية البكر أول ما تحيض فتقعد في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة يختلف عليها لا يكون طمثها في الشهر عدة أيام سواء. قال:

فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت تري الدم ما لم يجز العشرة، فإذا اتفق الشهران عدة أيام سواء فتلك أيامها» «1».

و قوله عليه السّلام في مرسلة يونس الطويلة: «فإن انقطع الدم أقل من سبع أو أكثر من سبع فإنها تغتسل ساعة تري الطهر و تصلي فلا تزال كذلك حتي تنظر ما يكون في الشهر الثاني، فإن انقطع الدم لوقته في الشهر الأول سواء حتي يوالي عليها حيضتان أو ثلاث فقد علم الآن أن ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه و تدع ما سواه و تكون سنتها فيما تستقبل إن استحاضت، قد صارت سنة إلي أن تجلس أقراؤها.

و إنما جعل الوقت أن توالي عليها حيضتان أو ثلاث لقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله للتي تعرف أيامها: دعي الصلاة أيام أقرائك، فعلمنا أنه لم يجعل القرء الواحد سنة لها، فيقول لها:

دعي الصلاة أيام قرئك، و لكن سن لها الأقراء، و أدناه حيضتان فصاعدا … » «2».

و لا يقدح ظهور الموثق في إمكان نقص الحيض عن الثلاثة، لأن عدم العمل به في

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 131

متواليتين (1) من غير فصل بينهما بحيضة مخالفة (2).

______________________________

ذلك- كما تقدم- لا يمنع من العمل به في كيفية حصول العادة بعد كونهما أمرين متباينين.

و منه يظهر ضعف القول بكفاية المرة، كما عن بعض العامة و عن الفخر في شرح الإرشاد حكايته عن بعض أصحابنا.

مضافا إلي أن الغرض المهم من تنقيح العادة إنما هو حجيتها، و حيث كانت الحجية مخالفة للأصل احتيج في الاكتفاء بالمرة للدليل، و لا دليل عليه بعد اختصاص مطلقات الرجوع للعادة بما يظهر في الاستمرار و التكرر، لاشتمالها علي مثل استقامة الحيض، و أيامها، و أيام حيضها، و الأيام التي كانت تقعد فيها، و نحو ذلك مما لا يصدق بالمرة، بل يشكل صدقه بالمرتين لو لا ما سبق.

و أما ما في كلام جماعة من أن العادة مأخوذة من العود، و لا يتحقق بالمرة.

فهو موقوف علي اشتمال أدلة الإرجاع علي عنوان العادة، و لم أعثر عاجلا علي ذلك، و الوقت يضيق عن استقصاء الفحص.

(1) كما صرح به في النهاية و القواعد و المنتهي و محكي نهاية الأحكام و غيرها، بل هو المنصرف من إطلاق المرتين في كثير من كلماتهم، و منها معاقد الإجماعات المتقدمة، لأخذهم في موضوعها عنوان العادة المتوقفة علي التوالي، و لا سيما مع استدلالهم بالمرسلة المتقدمة الصريحة في اعتبار التوالي، و الظاهرة في انصراف الأقراء في كلامه صلّي اللّه عليه و آله له. و هي الدليل في المقام. مضافا إلي ما تضمن عنوان الاستقامة «1».

و بها يخرج عن إطلاق موثق سماعة الاكتفاء باتفاق شهرين. بل قد يستشكل في ثبوت الإطلاق له بعد تعريف الشهرين في نسخة الكافي، الذي يقرب معه العهد لخصوص المتواليين.

(2) لتوقف التوالي علي ذلك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

ص: 132

أقسام العادة
اشارة

فإن اتفقا في الزمان و العدد- بأن رأت في أول كل من الشهرين المتواليين أو آخره سبعة أيام مثلا- فالعادة وقتية و عددية (1).

______________________________

(1) بمعني: أنها تكون مرجعا في تعيين الوقت و العدد معا، كما صرح به في المعتبر و المنتهي و التذكرة و الإرشاد و جامع المقاصد و الروض و الروضة و محكي الذكري، و هو ظاهر المبسوط و القواعد، و عدم تعرض جملة منهم له، بالاقتصار علي فرض الاتفاق في العدد، لا يدل علي خلافهم فيه، لأن عدم فرض هذه الصورة في كلامهم لا يدل علي اختصاص حجيتها عندهم في فرض وقوعها بأحد الأمرين.

بل قد يظهر منهم المفروغية عن حجيتها في كلا الأمرين، كما هو المناسب لإرجاعهم المستحاضة للعادة مع احتياجها لمعرفة الوقت و العدد معا، و لحكمهم بتحيض صاحبة العادة بمجرد رؤية الدم.

و من هنا قد يكون الاقتصار علي فرض الاتفاق في العدد للمفروغية عن لزوم الاتفاق في الوقت، فترجع كلماتهم إلي إرادة الوقتية و العددية التي هي محل الكلام.

و كيف كان، فيقتضيه ما تقدم في مرسلة يونس، حيث فرض فيها عدد معين و انقطاع الدم في وقت واحد من الشهرين.

و حمل الوقت فيه علي العدد المذكور سابقا بعيد في نفسه، كتنزيله علي أن المدار في العادة المفروضة فيه علي خصوص الوقت، لاستلزامه عدم الفائدة لذكر العدد سابقا.

علي أن كلا منهما لا يناسب إرجاع المستحاضة للعادة المذكورة و الاقتصار عليها في بيان وظيفتها، مع أن عمل المستحاضة بأحكام الحيض موقوف علي معرفة الأمرين معا، فلا بد من نهوض العادة بذلك، لكونها عددية و وقتية.

و لا سيما مع ظهور هذه الفقرات في تحديد العادة التي أخذت في موضوع السنة الأولي من سنن النبي صلّي اللّه عليه و آله في المستحاضة، التي شرحتها المرسلة قبل ذلك، و قد قال عليه السّلام في بيان تلك السنة: «أما إحدي السنن فالحائض التي لها أيام معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها ثم استحاضت و استمر بها الدم و هي في ذلك تعرف

ص: 133

و إن اتفقا في الزمان خاصة دون العدد- بأن رأت في أول الشهر الأول

______________________________

أيامها، و مبلغ عددها … و إنما سن لها أياما معلومة من قليل أو كثير بعد أن تعرفها …

و أما سنة التي قد كانت لها أيام متقدمة ثم اختلط عليها من طول الدم فزادت و نقصت حتي أغفلت عددها و موضعها من الشهر … فهذا يبين أن هذه امرأة قد اختلط عليها أيامها لم تعرف عددها و لا وقتها … فإذا جهلت الأيام و عددها احتاجت إلي النظر حينئذ إلي إقبال الدم و إدباره … » «1».

فإن هذه الفقرات صريحة في أن العادة التي أريد شرحها و تحديدها بالمرتين فيما سبق هي الوقتية العددية و أن الرجوع إليها في الوقت و العدد معا.

و لا ينافي ذلك ما تضمنته المرسلة نفسها من أن النبي صلّي اللّه عليه و آله إنما قال لذات العادة:

«تدع الصلاة قدر أقرائها أو قدر حيضها»، الظاهر في الإرجاع في خصوص العدد، لإمكان المفروغية عن أخذ الوقت المفروض معرفته و التنبيه علي العدد لدفع توهم كثرة الحيض علي العادة بسبب استمرار الدم.

و بهذا يكون مطابقا معني ما حكاه الإمام عليه السّلام بعد ذلك عنه صلّي اللّه عليه و آله.

و مثله في ذلك إطلاق ما تضمن إرجاع المستحاضة إلي أيامها، كصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلي فيها و لا يقربها بعلها … » «2» و غيره، لظهوره في تعيين الأيام، و لذا أرجع إليها مع توقف عمل المستحاضة و ارتفاع تحيرها علي معرفة الوقت و العدد معا. فتأمل.

هذا مضافا إلي إطلاق ما تضمن الإرجاع لقسمي العادة الآخرين لو تم الدليل علي كل منهما بخصوصه، لأن هذا القسم من أفرادهما معا، بل من أظهرها، لكونه أكد في استقامة الحيض و انضباطه.

______________________________

(1) لم نعتمد علي الوسائل في تخريج هذه الفقرات، لتقطيعه للرواية علي خلاف الترتيب، و إنما أخذناها من الكافي الطبعة الجديدة ج: 1، ص: 83- 86.

(2) الكافي: ج 3 باب جامع في الحائض و المستحاضة حديث 2، ص: 88.

ص: 134

سبعة و في أول الثاني خمسة- فالعادة وقتية خاصة (1).

______________________________

(1) فتكون مرجعا في تعيين الوقت، كما في جامع المقاصد و الروض و المدارك و كشف اللثام، بل في المستند دعوي الإجماع عليه.

لكن لم يتضح الوجه في دعواه بعد عدم تصريح القدماء به، بل هم بين من ظاهره الاقتصار علي العدد و من ظاهره اعتبار الوقت معه، بل قد يظهر من السرائر المفروغية عن عدم ثبوت الوقتية غير العددية، لأنه خص العادة بذات الوقت و العدد، ثم دفع احتمال الاكتفاء فيها بالعدد، و لم يشر لاحتمال الاكتفاء فيها بالوقت، بل في التذكرة:

«ذهب علماؤنا أجمع إلي أن العادة إنما تثبت بالمرتين تري الدم فيهما بالسواء عددا و وقتا».

اللهم إلا أن يكون إهمال القدماء لها لقلة فائدتها، أو لعدم بنائهم علي كثرة التفريعات، كإهمال بعضهم لأحد القسمين الآخرين. و لعله لذا لم يشر إليها في السرائر، لا للمفروغية عن عدمها.

و إجماع التذكرة محمول علي إرادة العادة التي يرجع إليها في الوقت و العدد معا، و يكون معقده في الحقيقة اعتبار المرتين، و لذا صرح هو بانعقاد الوقتية فقط، كما صرح بانعقاد الأقسام الثلاث في جامع المقاصد، مع تعبيره في بيان معقد الإجماع بنظير عبارة التذكرة.

إلا أن الإنصاف عدم نهوض ذلك بتوجيه دعوي الإجماع، فضلا عن نهوضه بالحجية، و لا سيما في مثل المقام مما يقرب فيه عدم كونه إجماعا تعبديا، بل يبتني علي بعض الاجتهاديات. فلا بد من التماس دليل آخر في المقام.

و قد يستدل بمرسلة يونس المتقدمة، بدعوي: أنها تضمنت شرح العادة الوقتية خاصة، لقوله عليه السّلام: «فإن انقطع الدم لوقته في الشهر الأول سواء» لصراحته في تقوم العادة بانقطاع الدم في وقت واحد من الشهرين، و كذلك في أول الحيض بين الأول و الآخر في ذلك.

مضافا إلي أن أمر النبي صلّي اللّه عليه و آله بالتحيض أيام الأقراء لا يصلح لأن يعمل عليه إلا

ص: 135

______________________________

مع ضبط وقتها.

و فيه: أنه إن أريد بالاتفاق في خصوص الوقت الاتفاق في أحد الأمرين من أول الدم أو آخره فلا مجال له بعد ما سبق في العادة الوقتية و العددية، و إن أريد به الاتفاق في الأول و الآخر معا كانت العادة وقتية و عددية لا وقتية فقط.

كما أن صلوح أمر النبي صلّي اللّه عليه و آله لأن يعمل به كما يتوقف علي ضبط الوقت يتوقف علي ضبط العدد، لأن المراد من أيام الأقراء تمامها.

و مثله في ذلك ما في المستند من الاستدلال بما سبق من قوله عليه السّلام في بيان السنن: «فإذا جهلت الأيام و عددها احتاجت إلي النظر حينئذ إلي إقبال الدم و إدباره» بدعوي: دلالته بالمفهوم علي عدم الرجوع للتمييز مع معرفة الأيام وحدها، و تمام المطلوب يثبت بالإجماع المركب.

لاندفاعه بأن المراد بذلك نسيان العادة الوقتية و العددية بعد انعقادها، و لا إشكال ظاهرا في أن النسيان إنما يمنع من الرجوع للعادة المذكورة في خصوص الجهة المنسية منها، لأن عدم العمل بها مع النسيان ليس لسقوطها به عن الحجية ذاتا، بل لتعذر العمل بها معه، و هو مختص بجهته، و ذلك لا يستلزم انعقاد العادة الوقتية غير العددية من أول الأمر، بحيث يتحقق بها معرفة الأيام فقط.

و إن كان مراده بالإجماع المركب إثبات الملازمة بين الأمرين به فهو ممنوع جدا، لعدم الجامع بينهما ارتكازا.

و لعل الأولي أن يقال: بعد أن تضمنت النصوص بعض الأحكام لوقت الحيض، كالتحيض بمجرد رؤية الدم «1»، و تعجيل الحيض «2»، و أن الصفرة في أيام الحيض حيض «3»، و غيرها، فمقتضي إطلاقها المقامي و إن كان هو اعتبار صدق العنوان

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب الحيض.

(3) راجع الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض.

ص: 136

______________________________

عرفا المتوقف علي التكرار كثيرا مع اتحاد الوقت و لو مع اختلاف العدد إلا أن المستفاد مما تقدم في المرسلة الاكتفاء في صدقه بالمرتين- كما نبه له في الجملة سيدنا المصنف قدّس سرّه- لأنه و إن ورد في خصوص العادة الوقتية و العددية- كما تقدم- إلا أن استدلال الإمام عليه السّلام له بقول النبي صلّي اللّه عليه و آله ظاهر في أن ذلك هو الذي ينبغي أن يستفاد منه، و هو لا يكون إلا بالمفروغية عن صدق الإضافة بالمرتين من دون خصوصية للمورد.

مضافا إلي قضاء المناسبات الارتكازية بأن ما تضمنته المرسلة من حجية العادة الوقتية و العددية في تعيين الوقت و العدد معا لا يبتني علي الارتباطية، بل الانحلال، لمناسبة العادة في كل من الجهتين للحجية فيما يناسبها مع قطع النظر عن الأخري.

و لا سيما مع قوله عليه السّلام: «فقد علم الآن أن ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه» لإشعاره بأن المعيار في العمل عليه كشفه عن طبيعة المزاج، و من الظاهر عدم ابتناء الكشف المذكور عن الارتباطية.

و مقتضاه استقلال كل منهما بالحجية فيما يناسبه لو انفرد.

و لا ينافي هذا موثق سماعة المتقدم الظاهر بمقتضي الشرطية في اعتبار اتفاق الشهرين في عدد الأيام. لأنه بصدد بيان كيفية تحقق العادة التي يرجع إليها في العدد، جوابا عن السؤال عن حكم الاضطراب فيه، فلا ينافي عدم اعتبار الاتفاق في العدد في العادة الوقتية التي يرجع إليها في خصوص الوقت.

و ليس بصدد بيان مطلق العادة التي يرجع إليها في الجملة، لتدل علي عدم الرجوع حتي في الوقت للعادة التي لا تبتني علي الاتفاق في العدد، إذ لو كانت بصدد ذلك لزم عدم دلالته علي جواز الرجوع للعادة المذكورة في العدد، بل علي جواز الرجوع إليها في الجملة.

ثم إنه هل المعيار في تحقق العادة الوقتية خصوص الاتفاق في أول الحيض، أو ما يعم الاتفاق في آخره و في وسطه، كما لو رأته في الشهر الأول من الأول للسابع و في الثاني من الثالث للسابع، أو رأته في الشهر الأول من الثاني للتاسع، و في الثاني من

ص: 137

و إن اتفقا في العدد فقط- بأن رأت الخمسة في أول الشهر الأول و في آخر الشهر الثاني- فالعادة عددية فقط (1).

______________________________

الثالث للثامن؟ لا يبعد العموم، عملا بالجهة الارتكازية المشار إليها، لعدم الفرق في وقت الحيض بين الأول و الوسط و الآخر، كما في الجواهر، لكن قال: «إلا أني لم أعثر علي أحد من الأصحاب أثبت ذلك أو رتب حكما عليه، مع تصور بعض الثمرات له».

و قد تظهر ثمرته في مثل التحيض برؤية الدم في الأيام التي يتفق الشهران في وجود الحيض فيها.

بل لا يبعد جريان ذلك و ترتب الثمرة لو كان بين الشهرين عموم من وجه، كما لو رأته في الأول من الأول للخامس، و في الثاني من الثالث للثامن.

نعم، لا يبني علي الأيام المتفق عليها بين الشهرين أنها تمام زمان الحيض، بنحو يكون أولها أوله، و آخرها آخره، لعدم اتفاق الشهرين في ذلك، بل هي أيام الحيض في الجملة، فلا يكون التقدم عليها تعجيلا في الحيض مثلا. فتأمل. و يأتي في الفرع الأول بعض ما يتعلق بالمقام.

(1) بمعني: أنها تكون مرجعا في تعيين العدد، كما في المعتبر و التذكرة و المنتهي و جامع المقاصد و الروض و المدارك و كشف اللثام. بل هو مقتضي إطلاق من اقتصر في بيان معيار العادة علي الاتفاق في العدد، كما في النهاية و الشرائع، و إن سبق احتمال إرادتهم منه خصوص صورة الاتفاق في الوقت أيضا.

و كيف كان، فيقتضيه- مضافا إلي ما سبق في تقريب استفادة حجية العادة من مرسلة يونس، حيث يجري نظيره في المقام- إطلاق موثق سماعة المتقدم، لظهوره في كفاية الاتفاق في العدد في انعقاد العادة التي يرجع إليها فيه.

بقي في المقام أمور..
الأول: الظاهر توقف العادة العددية مطلقا- وقتية كانت أم لا- علي الاتفاق في عدد الأيام،

ص: 138

______________________________

فلو اختلفت لم تنعقد العادة في الأقل و إن تكرر في الشهرين- كما صرح به جماعة، منهم المحقق و الشهيد الثانيان- لأن المدار في التكرر أن يكون العدد المتكرر تمام الحيض، حتي يصدق اتفاق الشهرين و تساويهما فيه، لا ما يعم كونه بعض الحيض، و إلا لزم انعقاد العادة بالشهرين دائما، لعدم انفكاكهما عن التساوي أو الاختلاف بالقلة و الكثرة. و منه يظهر ضعف ما عن نهاية الأحكام و الذكري من الميل لانعقادها فيه، و قد يظهر من المنتهي الميل إليه.

اللهم إلا أن يكون المراد حجيتها في نفي ما دون الأقل، لا ما زاد عليه. فلو رأت في شهر خمسة و في الثاني سبعة لم ينقص في الثالث عن خمسة، و إن أمكن الزيادة عليها. حيث قد يتجه ذلك، إما بدعوي: صدق العدد في الجملة، كما صدق الوقت في الجملة مع الاختلاف في مقداره كثرة و قلة تبعا لعدم الاتفاق في العدد، علي ما سبق في العادة الوقتية غير العددية.

أو بدعوي: أن المستفاد من نصوص العادة وجوب الأخذ بالقدر المشترك بين الحيضتين لاتفاقهما فيه و إن لم يتفقا في قدر الحيض.

لكنه- مع بعده عن مساق كلماتهم- لا ثمرة له، لأن العادة العددية إنما تنفع في نفي الزائد عليها لو استمر الدم لا في نفي حيضية الناقص عنها لو قصر عنها الدم.

مع عدم تمامية الوجه المذكور له. أما الدعوي الأولي فللفرق بين العدد و الوقت بتقوم العدد بالحدّ غير القابل للزيادة و النقصان، بخلاف الوقت، حيث يصدق علي المتفق عليه من الوقتين أنه وقت الحيض، بمعني كونه فيه، و لذا سبق ترتب خصوص أحكام ذلك، كالتحيض بمجرد رؤية الدم، لا أحكام تمام الوقت، بخلاف العدد، إذ ليس هناك حكم بعدم النقص عن أيام الحيض أو عدم الزيادة عليه، بل الحكم إنما هو بالتحيض بالعدد المتفق عليه، و المفروض عدمه.

و أما الثانية فلاختصاص الأدلة بحجية العادة في إثبات مقدار الحيض و وقته، و التعدي منهما لغير ذلك في غير محله بعد كون الأصل عدم حجية العادة العرفية، فضلا عن الحاصلة بالمرتين.

ص: 139

______________________________

و منه يظهر أنه لا مجال لجعل ذلك في الفرض حجة لنفي زيادة الحيض علي الأكثر، و لا سيما مع أن إهماله في نصوص العادة مع دوام الابتلاء به موجب لظهورها في عدمه. فتأمل جيدا.

الثاني: الظاهر أنه لا يعتبر في العادة العددية استقرار عادة للطهر،

فلو رأت في أول الشهر الأول خمسة ثم في وسط الثاني خمسة كان عادتها الخمسة و إن زاد أو نقص الطهر الثاني عن الأربعين يوما التي كان عليها الطهر الأول، كما صرح به في المعتبر و المنتهي و التذكرة و جامع المقاصد و غيرها.

لإطلاق موثق سماعة كما أن الوجه المتقدم لاستفادة العادة العددية من المرسلة- لو تم- قاض بأن المدار علي حال الحيض لا الطهر.

و أما ما عن الذكري من اعتبار استقرار عادة الطهر، فلعل ظاهر المنقول من كلامه إرادته اعتباره في العادة الوقتية.

و لعله مبني علي ما يأتي من بعضهم من أن المراد بالشهر في العادة شهر الحيض، لا الشهر الهلالي، حيث لا يعلم اتحاد الحيضتين وقتا إلا بمطابقة الطهر الثاني للأول، كما يتضح قريبا. و عليه لا يكون مخالفا لمن سبق، و إن ظهر منه مخالفته لهم.

و من ثم لم يخل كلامه عن غموض. و قد أطال في تعقيبه غير واحد بما لا مجال لمتابعتهم فيه. فلاحظ.

الثالث: لا يبعد عدم إخلال الاختلاف اليسير في انعقاد العادة الوقتية و العددية

بالنحو الذي يتسامح فيه عرفا- كالساعة و الساعتين- لندرة الاتفاق الحقيقي علي الظاهر.

و أما ما عن كاشف الغطاء من عدم إخلال الاختلاف في الدم ببعض اليوم، فلا مجال للبناء علي إطلاقه، كما نبه له صاحب المستند و شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيرهما.

الرابع: الظاهر أنه لا يعتبر في استقرار العادة في العدد تعدد الشهر و لا توالي الشهرين،

فإذا رأت خمسة أيام مرتين في شهر واحد أو في شهرين بينهما شهر لا حيض فيه انعقدت عادتها علي الخمسة، كما صرح به غير واحد. لأنه و إن لم يناسب الجمود

ص: 140

______________________________

علي المتيقن من مفاد الموثقة و المرسلة، إلا أن إلغاء خصوصيتهما في ذلك قريب جدا، لعدم دخل الزمان في أمارية العدد ارتكازا.

اللهم إلا أن يقال: لما كان المستفاد من النصوص المتضمنة أن الحيض في كل شهر مرة، و أن الريبة بتجاوز الشهر «1»، و أن مستمرة الدم تتحيض في كل شهر مرة «2»، و غيرها أن الوضع الطبيعي للحيض هو التعاقب في كل شهر، فلا مجال لإلغاء خصوصية الشهر بعد تضمن النصوص لها، بل احتمال عدم أمارية الاتفاق في العدد عليه مع الإخلال بها معتد به بعد عدم استقامة الحيض بدونها، لقرب اختصاص انعقاد العادة و حجيتها شرعا بالحيض الطبيعي.

فالعمدة ما أشرنا إليه في دليل العادة الوقتية و العددية من صلوح المرسلة ببيان الاكتفاء بالمرتين في صدق العادة في كل من الوقت و العدد، لأن استدلال الإمام عليه السّلام بقول النبي صلّي اللّه عليه و آله ظاهر في أن المدار علي تعدد القرء من دون خصوصية للشهر، و إن ذكر في كلام الإمام عليه السّلام. فلاحظ.

و أما استقرار العادة في الوقت فمن الظاهر أنه منوط بتماثل الوقت في شهرين، حيث يصدق معه تعيين الوقت عرفا، إلا أن الكلام في أن المعيار هو الشهر الهلالي، أو الشهر الحيضي، الذي هو عبارة عن مدة الحيض و الطهر، و أقله ثلاثة عشر يوما؟

صرح بالثاني في المنتهي و محكي نهاية الأحكام، و قد يناسبه ما في المبسوط من أن المرأة إذا تكرر منها الحيض خمسة أيام بعده طهر عشرة أيام، أو تكرر منها الحيض خمسة أيام معه طهر خمسة و خمسين يوما فقد حصل لها عادة في الحيض و الطهر تعمل عليهما لو استمر بها الدم بعد ذلك، و أقره عليه في المعتبر.

و فيه: أولا: أنه خروج عن ظاهر لفظ الشهر في المرسلة كسائر موارد استعماله في كلام الشارع الأقدس و العرف، و لا سيما في المقام حيث ارتكز عند العرف أن الوضع الطبيعي للحيض هو التعاقب في كل شهر، و سبق دلالة النصوص عليه.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الحيض.

(2) راجع الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض.

ص: 141

______________________________

و ما في الروض من الإشكال في الاستدلال بالمرسلة في غير محله، بعد كون المرسل لها يونس الذي تقدم الاعتماد علي مراسيله، و لا سيما مع روايته لها عن غير واحد من رجاله، لظهوره في معروفيتها بين الأصحاب، مع أنه يكفي اعتماد الأصحاب عليها في المقام و غيره، حيث لا دليل علي انعقاد العادة الوقتية بالمرتين سواها، لما سبق من أن المطلقات إنما تقتضي اعتبار الصدق العرفي المتوقف علي كثرة التكرر.

و مثله ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من حمل ذكر الشهر علي الغالب من دون أن يكون معتبرا، و لذا لا يعتبر في العادة العددية. لاندفاعه بتقوم العددية بالاتفاق في العدد، الحاصل مع الاختلاف في الشهر، فيمكن تنزيل ذكر الشهر بالإضافة إليها علي الغالب، لما تقدم، بخلاف الوقتية، لأنها متقومة بالاتفاق في الوقت المتفرع علي فرض جهة مصححة لاعتبار الاتفاق من الشهر الهلالي أو غيره، فمع ظهور المرسلة في إرادة الشهر الهلالي لا وجه لرفع اليد عنه.

إلا أن يريد بذلك أن ذكر الشهر ليس لخصوصيته، بل لأنه إحدي جهات الانضباط، فيقوم غيره مقامه و أن الاقتصار عليه للغلبة، فيرجع لما يأتي.

و ثانيا: أن لازم الحمل علي الشهر الحيضي تحقق العادة دائما و عدم الفائدة فيها، لأن كل حيض في أول الشهر الحيضي دائما، و الاختلاف إنما هو في طول الشهر و قصره، و لا أثر له في تعيين وقت الحيض في ضمن الشهر، لأن مدار العادة علي وقت الحيض من الشهر، لا علي حال الشهر.

نعم، لو غض النظر عن الحيضة الأولي و فرض بدء الشهر بالطهر كان مدار العادة علي الحيضة الثانية و الثالثة و أمكن اختلاف وقتهما بالإضافة إلي الشهر الحيضي، كما لو طهرت بعد الحيضة الأولي عشرة أيام ثم حاضت خمسة، ثم طهرت عشرين يوما ثم حاضت خمسة، كما يمكن اتفاقهما بأن يتساوي الطهران كالحيضتين.

لكنه- مع توقفه علي اختصاص التوقيت بأول الحيض، إذ لو عمم لآخره، كما سبق، فالحيضتان في مثل الفرض المذكور متفقتان في كونهما في آخر الشهر الحيضي،

ص: 142

______________________________

و كذا حال كل حيضة- يبتني علي تحكم صرف، إذ لا وجه لجعل الطهر مبدأ الشهر مع أسبقيته و إهمال الحيض مع أسبقيته.

هذا و لو فرض دخل طول الشهر الحيضي و قصره في توقيت الحيض فثبوت العادة و إن لم يكن لازما للحيضتين، لإمكان اختلاف الأشهر باختلاف كل من الحيض و الطهر، إلا أن اللازم عدم انعقاد العادة بالحيضة الثانية، بل تتوقف علي انتهاء الطهر الثاني حيث يعلم به التطابق بين شهري الحيض، فلا يكفي فيها رؤيته في يوم خاص من شهرين هلاليين، لعدم العبرة بالشهر الهلالي حينئذ، مع أنه يمكن تحصيل الإجماع علي خلافه، كما في الجواهر.

و منه يظهر عدم إمكان تنزيل المرسلة عليه، لظهورها في الاكتفاء في انعقاد العادة بالاتفاق بين الحيضتين من دون انتظار للطهر.

و لعله لهذا و نحوه كان ظاهر كشف اللثام التعميم لكل من الشهر الهلالي و الشهر الحيضي، و الاكتفاء بأحدهما، فلا يحتاج لانتظار الطهر إلا في الثاني، فلا ينافي الإجماع المتقدم. بل لا يبعد تنزيل ما سبق من المبسوط و المعتبر عليه، بل لا يظن حتي بالعلامة عدم الاعتداد بالشهر الهلالي المتيقن من النص و الفتوي.

و ربما يوجه التعميم المذكور بوجوه..

الأول: أن العادة العددية كما تكون حجة في الحيض تكون حجة في الطهر، فيتحصل من مجموع العادتين وقت الحيض من دون أن يستند لعادة وقتية فيه.

و يناسبه ما تقدم من المبسوط، كما يناسبه اقتصارهم في فرض ذلك علي ما إذا تساوي الطهران عددا و الحيضتان كذلك، دون ما إذا اختلفت مع تساوي الشهرين الحيضيين، كما لو حاضت خمسة ثم طهرت عشرين يوما، ثم حاضت عشرة ثم طهرت خمسة عشر يوما، حيث يتحصل بذلك أن وقت الحيض بعد خمسة و عشرين يوما من الحيض السابق.

لكنه يندفع باختصاص النصوص العامة و الخاصة بعادة الحيض و لا دليل علي

ص: 143

______________________________

ثبوت عادة للطهر، كما في الجواهر. و هذا هو العمدة، لا ما ذكره من أن غاية ما تقتضيه العادة الوقتية حيضية ما فيها، لا نفي حيضية ما في غيرها، فلا مجال للبناء مع استمرار الدم في الفرض علي عدم حيضية ما صادف وقت الطهر من الشهر الحيضي، بل ينبغي الرجوع فيه للصفات أو غيرها حسبما تقتضيه الأدلة. لاندفاعه بأن رجوع مستمرة الدم إلي عادتها يقتضي انحصار حيضها بها، لا مجرد تحيضها فيها، علي ما يتضح في محله إن شاء اللّه تعالي.

الثاني: تنزيل المرسلة الواردة لبيان العادة الوقتية علي الأعم من الشهر الهلالي و الشهر الحيضي.

و فيه: أن إطلاق الشهر علي الحيضي لما كان مجازيا كان التعميم له محتاجا للقرينة، بل لما لم يكن بينه و بين الشهر الهلالي جامع ارتكازي تعذرت إرادتهما معا.

و لا سيما مع ما سبق من أن العادة تتم في الشهر الهلالي باتفاق الحيضتين في اليوم من الشهر، و في الشهر الحيضي باتفاق مقدار الشهرين الموقوف علي تمامية الطهر الثاني، و مفاد المرسلة مناسب لخصوص الأول.

الثالث: تنزيل المرسلة علي إرادة الاكتفاء في تعيين الحيض بكل أمد تتشابه فيه حيضتان متواليتان و أن ذكر الشهر- المحمول علي الهلالي- لأنه الغالب في حال النساء، من دون خصوصية له في ذلك، فيرجع إلي ما سبق احتماله في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و يندفع بظهور المرسلة في خصوصية الشهر، و إلغاء خصوصيته و التعميم بالوجه المذكور محتاج إلي دليل.

و لا سيما مع ما أشرنا إليه من تطابق النصوص و المرتكزات العرفية علي أن الحيض في كل شهر مرة.

بل ليس التعميم لذلك إلا كالتعميم لكل جهة تتفق فيها الحيضتان تصلح للكشف عن الحيض، و لا يظن من أحد الاكتفاء بذلك، فلا تنعقد العادة بالحيض مرتين عند الخوف أو التعب أو غيرهما. و كذا لو اتفقت الحيضتان في عدم الزيادة علي

ص: 144

______________________________

قدر خاص أو عدم التأخر لوقت خاص إلي غير ذلك مما يقطع بعدم انعقاد العادة به، و إن كان قد يظهر من بعضهم الالتزام ببعض أفراده.

و دعوي: أن قوله عليه السّلام: «فقد علم الآن أن ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه» ظاهر في أن المعيار علي العادة كيفما كانت.

ممنوعة، بل هو ظاهر في أن تكرر الوقت الشهري يوجب كونه عادة يعمل عليها في قبال المرة التي لا يعمل عليها، لا أن كل ما يتكرر يكون عادة يعمل عليه، لعدم مناسبة التركيب المذكور له، و عدم إمكان الالتزام به علي عمومه، كما ذكرنا.

الرابع: أن المرسلة و إن اختصت بالشهر الهلالي، إلا أنه يكفي في الشهر الحيضي العمومات المتضمنة رجوع المرأة لأيامها أو أيام حيضها، أو أقرائها أو نحو ذلك، حيث تصدق هذه العناوين علي أيام العادة المتحصلة من الشهر الحيضي، و إن لم تتحصل بالإضافة للشهر الهلالي.

و فيه: أن العمومات المذكورة إن لم تنصرف في نفسها لخصوص الأيام المتعينة بلحاظ الشهر الهلالي، لأنها الجهة الصالحة للتعيين المعهودة عرفا، دون الجهات الأخري من التعيين، فلا أقل من صلوح المرسلة لصرفها إليه، بلحاظ ما تضمنته من تعليل عدم الرجوع للقرء الواحد بقول النبي صلّي اللّه عليه و آله: «دعي الصلاة أيام أقرائك» حيث يظهر من ذلك أن عدم الرجوع له ليس لعدم صلوحه في نفسه للتعيين، بل لاعتبار التعدد فيما يرجع إليه، و من الظاهر أن صلوح القرء الواحد لتعيين الوقت إنما يكون بلحاظ الشهر الهلالي، لأنه الأمر المنضبط عرفا الذي يصلح للتعيين دون غيره من الخصوصيات الكثيرة التي تقارنه.

فالتكرر المعتبر لا بد أن يكون مع المحافظة علي الجهة المذكورة، لا أنه بنفسه يحدث جهة أخري تكون مرجعا في التعيين.

و بعبارة أخري: ظاهر المرسلة أن ما من شأن القرء الواحد أن يكشف عنه لا يعمل عليه ما لم يتكرر في قرءين لا أن التكرر في قرءين بنفسه يكشف عن جهة

ص: 145

______________________________

يجب العمل عليها، و لذا جعل المقابل لاعتبار المرتين الاكتفاء بالمرة، دون اعتبار كثرة التكرار التي يتوقف عليها حصول جهة التعيين من التكرار عرفا.

و لا ينافي هذا قوله عليه السّلام بعد فرض تكرر الحيض: «فقد علم الآن أن ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه».

لأن المراد به فعلية الانكشاف المساوق للحجية، فلا ينافي صلوح القرء الواحد للكاشفية عن تلك الجهة و أن القرء الآخر يؤكد كاشفيته حتي تبلغ مرتبة الحجية.

و بذلك تكون المرسلة حاكمة علي العمومات و كاشفة عن أن الرجوع للأيام و الأقراء ليس بلحاظ تحصيل جهة تعيين بالتكرار، بل بلحاظ تأكيد جهة خاصة تتحصل من القرء الواحد.

و من الظاهر أن القرء الواحد لا يصلح للتعيين من حيثية العدد إلا بعدده، و من حيثية الوقت إلا بموقعه من الشهر الهلالي فلا بد من تكررهما في بقية الأقراء، و مع الاختلاف بينها فيهما لا تنعقد عادة و إن تحصل من مجموعها جهة متفق عليها قد يصدق بلحاظها الأيام و الأقراء عرفا.

و منه يظهر ضعف ما في الجواهر من الاكتفاء بالشهر الحيضي مع كثرة التكرر بنحو يحصل لها الاعتياد العرفي، عملا بالعمومات بعد قصور المرسلة عنها، لاختصاصها بالعادة الشرعية.

إذ بما ذكرنا يتضح قصور العمومات عن ذلك بعد تحكيم المرسلة عليها.

و لو غض النظر عنه تعين الاكتفاء بالمرتين، لأن مقتضي المرسلة أن مصحح الإضافة التي تضمنتها العمومات هو المرتين.

و أما ما يظهر منه من ورود المرسلة لبيان العادة الشرعية، و موضوع العمومات العادة العرفية، فليعمل بكل منهما في مورده.

فهو لا يناسب ما في المرسلة من الاستدلال بقول النبي صلّي اللّه عليه و آله الذي هو من جملة العمومات.

ص: 146

______________________________

بل ليس في المقام إلا عادة واحدة أخذت في موضوع العمومات، و مقتضي الإطلاق المقامي و إن كان هو اعتبار الاعتياد العرفي في صدقها، إلا أن ما تضمن الاكتفاء بالمرتين حاكم عليها.

ثم إن ما ذكرنا كما يقتضي توقف العادة الوقتية علي اتفاق الحيضتين في الوقت بلحاظ الشهر الهلالي، كذلك يقتضي اعتبار توالي الشهرين الهلاليين الذين يخرج فيهما الدم- كما هو ظاهر وصف الشهرين بالمتواليين في كلام بعضهم- فلا يكتفي باتفاق الحيضتين في الوقت من الشهر مع تخلل شهر لا دم فيه بينهما، لأن القرء الواحد إنما يصلح عرفا لتعيين الوقت بلحاظ مطلق الشهر، لا بلحاظ كل شهرين أو ثلاثة، فمع خروج الدم في الشهر المتصل به أيضا يكون القرء الثاني مؤكدا لما يكشف عنه القرء الأول، أما مع عدم خروجه فيه، فينتقض مفاد القرء الأول، و لا يكفي رؤيته في الشهر الثالث، لأنه إن أريد به إثبات العادة في كل شهر فهما علي خلاف ذلك، و إن أريد به إثباتها في كل شهرين فالقرء الأول لا يصلح للكشف عن ذلك، و إنما هو أمر متحصل من مجموع القرءين، كالاتفاق بلحاظ الشهر الحيضي، و قد سبق عدم ظهور المرسلة في ذلك.

و لا سيما مع ظهور قوله عليه السّلام: «حتي تنظر ما يكون في الشهر الثاني» في إرادة الشهر المتصل بشهر الدم، لا الشهر الثاني من شهور الدم و إن كان ثالثا أو رابعا بالإضافة للشهر الأول للدم.

فما صرح به بعضهم من الاكتفاء بعدم تخلل حيضة مخالفة مما لا مجال له و إن أرسله إرسال المسلمات.

الخامس: صرح في المعتبر و التذكرة و المنتهي و محكي غيرها بانعقاد العادة المركبة،

و هي التي تختلف فيها الأشهر بدورة منظمة كما لو رأت الدم في الشهر الأول خمسة أيام و في الثاني ستة و في الثالث سبعة، ثم رجعت إلي الخمسة و الستة و السبعة بالانتظام المذكور.

و إليه مال شيخنا الأعظم قدّس سرّه. بل عممه للاختلاف في الوقت، كما لو رأت الدم أول الشهر الأول و خامس الثاني و عاشر الثالث، ثم رجع إلي الأول و الخامس

ص: 147

______________________________

بالانتظام المذكور.

و كأن الوجه في ذلك- بعد قصور المرسلة و الموثقة عنه- عمومات رجوع المرأة لأقرائها و أيامها، لأنها و إن لم تقتض الاكتفاء بالتكرر مرتين، إلا أن المرسلة حاكمة عليها، لما سبق من ظهورها في الاكتفاء في النسبة بالمرتين.

و منه يظهر ضعف ما في الجواهر من عدم الاكتفاء فيها بالمرتين و اعتبار كثرة التكرار بالنحو الذي يحصل به الاعتياد العرفي، نظير ما سبق منه في الاعتبار بالشهر الحيضي.

اللهم إلا أن يقال: المرسلة إنما تضمنت الاكتفاء بالقرءين حملا للأقراء في كلام النبي صلّي اللّه عليه و آله علي ما يعممها، لا الاكتفاء بالمرتين و لو اشتملت كل مرة علي أقراء متعددة، كما في المقام.

فالاستدلال بالمرسلة يبتني علي إلغاء خصوصية موردها و فهم أن المعيار في العادة علي المرتين مطلقا، و هو لا يخلو عن إشكال.

بل لا مجال للبناء عليه، لأن العادة المركبة كما تكون بأشهر منفردة- كما في الفرض السابق- تكون بشهرين شهرين، كما لو رأت الدم خمسة في شهرين متواليين، ثم ستة في آخرين، ثم خمسة في شهرين، ثم ستة في آخرين و هكذا.

فالبناء علي عموم العادة للمركبة في الفرض السابق يقتضي عمومها لها في هذا الفرض، لعدم الفرق بينهما بالنظر للأدلة، و لازمه عدم العلم بالعادة البسيطة بالشهرين الأولين، لاحتمال تعقبهما بما يخالفهما مما تتحصل منه عادة مركبة، و هو لا يناسب المرسلة و الموثقة جدا.

و حملهما علي انعقاد العادة البسيطة ظاهرا لا واقعا حتي ينكشف الحال- مع بعده في نفسه لقوة ظهورهما في بيان العادة الواقعية- مستلزم لعدم الدليل علي انعقاد العادة الواقعية بالمرتين، لانحصار الدليل عليه بالموثق و المرسلة.

و مثله الإشكال فيما ذكره غير واحد من الاستدلال بعدم الفصل بين المرتين و الأكثر. لأن مجرد عدم الفصل لا يجدي ما لم يكشف عن الاتفاق علي عدم الفصل،

ص: 148

______________________________

بحيث يرجع إلي الإجماع علي الملازمة بين الاكتفاء بالمرار الكثيرة و الاكتفاء بالمرتين، و لا طريق لذلك مع عدم العثور علي تحرير المسألة ممن قبل المحقق في المعتبر، و قرب كون الوجه في بنائه و بناء من بعده علي ذلك التوسع في فهم النص، لا علي وضوحه عند الأصحاب و تسالمهم عليه بنحو يكشف عن إجماع تعبدي.

و لا سيما مع ما عرفت من استلزامه عدم العلم بانعقاد العادة البسيطة بشهرين متفقين الذي هو متيقن من كلماتهم كالنصوص.

مضافا إلي أن الاكتفاء بالمرتين في ذلك يستلزم التوسع في العادة المركبة كثيرا، لعدم خصوصية الوجه المتقدم في الدخول تحت العمومات، بل كما تكون بلحاظ اختلاف الشهور تكون بلحاظ اختلاف الأحوال و الأطوار، كالصحة و المرض، و الحرّ و البرد، و السفر و الحضر، و غيرها، فلو رأته مثلا خمسة حال الصحة و ثلاثة حال المرض و تكرر ذلك مرتين من دون فصل بما يخل بالنظم انعقدت لها عادة مركبة في الصحة و المرض.

بل يتوسع لكل ما يتكرر مرتين و إن لم يتحصل منه وقت و عدد محدودان، فلو رأته في شهرين متتاليين خمسة أيام ثم في آخرين ستة تنعقد لها عادة علي التطابق بين كل شهرين متتاليين، فلو رأته في الخامس أربعة لزم التحيض في السادس كذلك. و كذا لو كان الاتفاق بين كل شهرين متتاليين في الوقت.

بل يلزم أخذ كل جهة مشتركة تتكرر مرتين، سواء كانت بسيطة- كتطابق الشهرين المتتاليين في عدم النقيصة عن السبعة أو عدم التأخر عن نصف الشهر، مع اختلافهما في المقدار أو الوقت التفصيليين- أم مركبة- كتطابق كل شهرين أو ثلاثة في ذلك- إلي غير ذلك مما لا يظن بأحد الالتزام به- و إن كان قد يبدو من إطلاق بعض كلماتهم- لعدم إمكان تنزيل إطلاق ما دل علي رجوع من لا تعرف أيامها إلي التمييز أو غيره علي خصوص من لا يشترك لها قرآن في جهة أصلا، أو علي الرجوع في غير الجهة المشتركة. و من هنا لا ينبغي التأمل في عدم الاكتفاء في ذلك بالمرتين.

ص: 149

______________________________

و أما البناء عليها مع كثرة التكرار بالنحو الذي تصدق معه العادة عرفا- كما سبق من الجواهر- فهو مبني علي الرجوع للعمومات. و يشكل بأن العمومات لم تتضمن عنوان العادة لتشمل ما ابتنت علي اختلاف الأيام، بل علي عنوان أيام الحيض و أيامها و أيام أقرائها، و لا يبعد انصرافها إلي خصوص الأيام المتعينة المتفقة، دون المختلفة و إن كانت بانتظام.

بل ما سبق في تقريب عدم نهوض العمومات بإثبات العادة بلحاظ الشهر الحيضي جار هنا، لوضوح أن العادة المذكورة تتحصل من مجموع الأقراء، و ليست متحصلة من القرء الواحد و مؤكدة ببقية الأقراء لتنهض بها العمومات. فراجع ما سبق يتضح الحال هنا.

هذا و سيأتي من سيدنا المصنف قدّس سرّه التعرض للعادة المركبة في المسألة الحادية عشرة. و ذكرها هنا أنسب بنظم الكلام. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

السادس: لو كان حيض المرأة بنحو يتخلله النقاء

فبناء علي ما سبق منا من كون النقاء طهرا يتعين البناء علي كون أيام الدم هي المعيار في العادة الوقتية، سواء اتفق الشهران في تخلل النقاء بقدر واحد أو مختلف في محل واحد أو مختلف أم اختص به أحدهما و استمر الدم في الآخر بقدر أيام الدم في ذي النقاء لإطلاق موثق سماعة، حيث يصدق في جميع الفروض المذكورة تساوي أيام الدم.

و أما العادة الوقتية التفصيلية المبنية علي الاتفاق في أول الحيض و آخره و وسطه فلا إشكال في عدم انعقادها مع اختلاف الشهرين في تخلل النقاء أو في قدره أو موقعه.

و أما مع اتفاقهما في جميع ذلك فلا يبعد انعقادها في أيام الدم، لأنه و إن خرج عن المتيقن من المرسلة، لظهورها في فرض وحدة الانقطاع تبعا لوحدة الدم، إلا أنه لا يبعد إلغاء خصوصيتها في ذلك، و لا سيما مع الاستدلال فيها بقول النبي صلّي اللّه عليه و آله: «دعي الصلاة أيام أقرائك» الذي يعم الأقراء المذكورة.

و منه يظهر انعقاد العادة الوقتية الإجمالية بلحاظ الأول أو الوسط أو الآخر في

ص: 150

______________________________

جميع الصور المذكورة.

نعم، الظاهر البناء علي حيضية الدم المستمر في وقت النقاء من العادة إذا لم يتجاوز مجموع الدم العشرة لما دل علي عدم الاقتصار علي العادة مع عدم التجاوز عن العشرة.

بل لا يبعد البناء علي حيضية ما يبدأ خروجه في أيام النقاء، لا لما في صحيح محمد بن مسلم في المرأة تري الصفرة في أيامها من قوله عليه السّلام: «لا تصلي حتي تنقضي أيامها» «1» و إن حكي عن بعض مشايخنا الاستدلال به، بدعوي: صدق عدم انقضاء أيامها في الفرض. لاندفاعها بأنه إنما تضمن نهي من تري الدم في أيامها لا مطلق من لم تنقض أيامها. بل لما قد يستفاد من نصوص تعجيل الدم عن العادة من ابتناء الرجوع للعادة علي نحو من التوسع في الوقت.

و كذا جواز تحيضها فيه مع استمرار الدم فيه في مورد مشروعية الاستظهار لها بعده في آخر الحيض، لقرب أولويته بالاستظهار منه. و إن كان الأمر محتاجا للتأمل.

و أما بناء علي المشهور من كون النقاء بحكم الحيض فدليله و إن لم يتحصل لنا- كما سبق- إلا أنه لا إشكال في عدم كونه بلسان تنزيل النقاء منزلة الدم، بل غايته تنزيله منزلة الحيض أو نفي الطهر عنه، و حينئذ يشكل شمول الموثق و المرسلة علي نحو يقوم مقام الدم في أحد الشهرين في انعقادها، بل يختصان بما إذا تساوي الشهران في أيام النقاء و أيام الدم، لظهورهما في أن المعيار في انعقاد العادة علي الدم، و ليس التعبير في الموثق بالقعود إلا كناية عنه، كما يشهد به ذيله الذي عليه المعول، لوروده في تحديد العادة.

و لا ينافيه الاستدلال في المرسلة بقول النبي صلّي اللّه عليه و آله المتقدم، لأن أيام الأقراء و إن كانت شاملة له علي المبني المذكور، إلا أن المرسلة تضمنت وروده فيمن تعرف أيامها، و ظاهرها إرادة أيام الدم التي تضمنت هي انعقاد العادة بها.

نعم، يتعين علي المبني المذكور الجلوس في أيام النقاء بعد انعقاد العادة باتفاق أيام الدم كسائر أفراد النقاء المتخلل بين الدميين، كما لا يبعد البناء علي حيضية الدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 151

______________________________

الخارج فيه، لما سبق من الاستظهار.

و منه يظهر أن ما تضمن الأمر بالجلوس عن الصلاة أيام الأقراء و إن اقتضي في الفرض الجلوس أيام النقاء، لأنها من جملة الأقراء علي المبني المذكور، إلا أنه لا يدل علي انعقاد العادة بلحاظها، لأنه وارد لبيان حكم العادة، لا كيفية انعقادها. فلاحظ.

هذا و أما ما حكاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن بعض من قارب عصره من أن المدار في العادة علي الدم الأول وقتا و عددا، مدعيا أنه المستفاد من الفتاوي و النصوص بعد إمعان النظر، فلا يبعد أن يكون الوجه فيه ما أشرنا إليه من ظهور المرسلة في وحدة الانقطاع، و لا يبعد كونه منصرف كلمات الأصحاب.

لكنه لو تم اقتضي عدم انعقاد العادة بالحيض المتقطع، لخروجه عن موردها، لا انعقادها بخصوص الدم الأول منه. علي أنه عرفت ما يصلح للخروج عنه، بل لا مجال له في الموثق، لعدم ما يشعر به فيه.

السابع: ادعي في المنتهي الاتفاق علي انقلاب العادة العددية بالمرتين المتفقتين،

بل هو ظاهره في الوقتية أيضا، و به صرح شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره ممن تأخر عنه.

و لا يخفي أن الجمود علي الموثق و المرسلة لا يقتضيه، لورودهما في بيان كيفية انعقاد العادة للمبتدئة، بل مقتضي إطلاقهما العمل علي العادة المذكورة و لو مع مخالفتها فيما بعد بشهر واحد أو أكثر متفقة أو مختلفة.

نعم، لما تضمنت المرسلة الاستدلال بالنبوي الذي هو كبقية العمومات ظاهر في العادة الفعلية، و لم يظهر منها الخروج عن مفاده العرفي إلا في الاكتفاء بالمرتين، كان حملها علي العمومات أقرب من حمل العمومات عليها عرفا، فتحمل علي نسخ كل مرتين متفقتين لما قبلها، كما تنسخ المرات الكثيرة التي تتحقق بها العادة العرفية ما قبلها لو بقينا علي العمومات و قلنا بالعادة العرفية، فينزل الموثق علي ذلك أيضا، لأنه مثلها.

و بعبارة أخري: لما كان مقتضي العمومات أن المدار علي الأقراء و الأيام الفعلية المستلزم لنسخ كل عادة لما قبلها، و كان مقتضي الموثق و المرسلة الاكتفاء في العادة

ص: 152

______________________________

بمرتين متفقتين كان مقتضي الجمع بينهما و بين العمومات عرفا نسخ كل مرتين متفقتين لما قبلهما و صدق الأيام و الأقراء بها لا بما قبلها، و هو أقرب من تنزيل العمومات علي خصوص الأوليين جمودا علي ظاهر الموثق و المرسلة.

ثم إنه صرح في المنتهي بعدم زوال حكم العادة بالمرة المخالفة لها، بل قد يظهر من اقتصاره في نسبة الخلاف علي أبي يوسف الاتفاق منا بل من بقية العامة علي ذلك.

و يقتضيه إطلاق الإرجاع للعادة المذكورة في الموثق و المرسلة.

بل مقتضاه عدم زوالها بالمرتين و الأكثر مع الاختلاف. إلّا بناء علي انعقاد العادة في القدر المشترك بين المختلفين، حيث يتجه نسخه لمقتضي العادة السابقة، بناء علي ما عرفت من نسخ كل عادة لما قبلها، فلو كانت عادتها خمسة أو في أول الشهر، ثم رأته في شهر ستة و في آخر سبعة، أو في شهر في السابع و في آخر في العاشر، انعقد لها عادة عددية بما زاد علي الخمسة، أو وقتية بعد السادس من الشهر، و انتقضت العادة الأولي.

لكن عرفت في الأمر الرابع و الخامس ضعف المبني المذكور، و أن العادة تختص بالمتفقين، فيتعين بقاء العادة الأولي.

و دعوي: أن مقتضي مفهوم قوله عليه السّلام في الموثق: «فإذا اتفق الشهران عدة أيام سواء فتلك أيامها» عدم ثبوت العادة مع اختلاف الشهرين.

مدفوعة بأن مقتضي المفهوم المذكور كون اختلاف الشهرين مانعا من انعقاد العادة بهما، لا من ثبوت العادة مطلقا و لو بغيرهما. علي أنه لو كان مقتضاه عدم ثبوت العادة مطلقا و لو بغيرهما فالمرأة داخلة في المنطوق، لفرض اتفاق الشهرين اللذين أوجبا العادة السابقة لها.

نعم، لو كان المراد بالشهرين خصوص الأخيرين اتجه دخولها في المفهوم.

لكنه- مع مخالفته لإطلاق الشهرين خصوصا مع تنكير لفظهما كما في نسخة التهذيب- مستلزم لارتفاع العادة بالشهر الواحد المخالف للعادة، لأنه و الشهر السابق مختلفان.

هذا و قد يدعي زوال حكم العادة بالأشهر المختلفة إذا كانت كثيرة يصدق بها

ص: 153

______________________________

كون المرأة مضطربة، إما لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من انصراف إطلاق الإرجاع للمرتين عن ذلك. أو لإطلاق ما تضمن الرجوع مع الاضطراب و عدم العادة إلي التمييز و نحوه، فإنه لو لم يقدم علي إطلاق الإرجاع للمرتين فلا أقل من تكافئهما و الرجوع لإطلاق الإرجاع للتمييز.

لكن لم يتضح حال الانصراف المدعي، بل الظاهر أنه- لو تم- بدوي، و أن الإطلاق المذكور محكم، فتكون به المرأة ذات عادة ترجع إليها لا مضطربة ترجع للتمييز.

نعم، قد يستدل عليه في الجملة بموثق إسحاق بن جرير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث المرأة التي سألته عمن يستمر بها الدم، و فيه: «قال عليه السّلام: تجلس أيام حيضها ثم تغتسل لكل صلاتين. قالت له: إن أيام حيضها تختلف عليها، و كان يتقدم الحيض اليوم و اليومين و الثلاثة و يتأخر مثل ذلك فما علمها به؟ قال: دم الحيض ليس به خفاء … » «1» لأن فرض التقدم و التأخر مناسب لتعيين الوقت بعادة سابقة.

و قوله عليه السّلام في مرسلة يونس الطويلة: «و أما سنة التي قد كانت لها أيام متقدمة ثم اختلط عليها من طول الدم فزادت و نقصت حتي أغفلت عددها و موضعها من الشهر … [إلي أن قال:] و كان أبي يقول: إنها استحيضت سبع سنين، ففي أقل من هذا تكون الريبة و الاختلاط … [إلي أن قال:] إن اختلطت الأيام عليها و تقدمت و تأخرت فسنتها إقبال الدم و إدباره و تغير حالاته … » «2»، لأن فرض الزيادة و النقيضة مناسب لإرادة اختلاف الدم اللاحق عن العادة، لا كون استمرار الدم موجبا لنسيان العادة.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لقرب حمل الموثق علي اضطراب الحيض ابتداء، لا بعد انعقاد العادة، لنسبة الاختلاف فيه إلي أيام الحيض، فيراد تقدم كل حيض و تأخره عما قبله لا عن العادة، و إلّا كان المناسب أن يقال: إن حيضها اختلف عن أيامها.

كما أن الحمل المذكور في المرسلة لا يناسب التعبير بالإغفال الظاهر في النسيان، و لا لجعل سبب الاختلاط فيه طول الدم، لوضوح أن الاضطراب عن العادة لو تم

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 154

(مسألة 4): ذات العادة الوقتية- سواء أ كانت عددية أم لا- تتحيض بمجرد رؤية الدم في العادة (1).

______________________________

يستند لتعدد الحيضات المختلفة لا لطول الدم الواحد الذي حكمه الرجوع للعادة، بل المناسب له نسيان العادة. و من ثم لا تخلو المرسلة عن إجمال، فلا تنهض بالخروج عن إطلاق الرجوع للمرتين.

هذا ما يهم من الكلام في فروع العادة، و لم يبق إلا الكلام في انعقاد العادة بالتمييز، الذي يأتي الكلام فيه تبعا لسيدنا المصنف قدّس سرّه في المسألة السابعة. و منه سبحانه نستمد العون و التوفيق.

مسألة 4: ذات العادة الوقتية- سواء أ كانت عددية أم لا- تتحيض بمجرد رؤية الدم في العادة
اشارة

(1) إجماعا، كما في الشرائع و عن فوائدها و التحرير و كشف الالتباس، و هو مذهب أهل العلم، كما في المعتبر، و بإجماع العلماء، كما في التذكرة، و هو قول كل من يحفظ عنه العلم، كما في المنتهي، و نفي الخلاف فيه في جامع المقاصد.

و يقتضيه جملة من النصوص …

منها: ما تضمن تحيض المرأة مطلقا برؤية الدم، مثل ما ورد في الحامل «1»، مما تقدم بعضه، و فيمن اشتبه دمها بالعذرة «2»، أو القرحة «3»، و فيمن تري الدم مكررا كل ثلاثة أيام أو أربعة أو خمسة أو ستة «4»، و فيمن ذهب طمثها ثم عاد إليها شي ء «5»، و فيمن يفجؤها الدم في الصلاة «6»، و فيمن تحيض في أثناء وقت الصلاة «7»، أو في أثناء النهار و هي صائمة «8»، و غيرها مما يأتي التعرض له في المسألة الخامسة.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض.

(2) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب الحيض.

(3) راجع الوسائل باب: 16 من أبواب الحيض.

(4) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض.

(5) الوسائل باب: 32 من أبواب الحيض حديث: 1.

(6) الوسائل باب: 44 من أبواب الحيض حديث: 1.

(7) راجع الوسائل باب: 48 من أبواب الحيض.

(8) راجع الوسائل باب: 50 من أبواب الحيض.

ص: 155

______________________________

فإنها بين ظاهر و صريح في ترتيب أثر الحيض بمجرد رؤية الدم و عدم لزوم إحراز استمراره ثلاثة أيام الذي لا يكون غالبا إلا بالانتظار، و يأتي في المسألة الخامسة ما يتعلق بالنصوص المذكورة.

و منها: ما تضمن جلوس مستمرة الدم أيام حيضها «1»، كموثق إسحاق بن جرير المتقدم «2»، و مرسلة يونس الطويلة «3» و غيرهما، لظهوره في فعلية الجلوس في تمام أيام الحيض، لا أنه الحكم الواقعي و إن لم يعمل عليه فعلا، لعدم اليقين باستمرار الدم ثلاثة أيام إلا بعد مضيها.

و منه يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن عمومات الأمر بالقعود عن الصلاة أيام الحيض لا تصلح للاستدلال، لظهورها في الحكم الواقعي للحيض، لا في التحيض بالرؤية. إلا أن يريد بالعمومات المذكورة ما تضمن حرمة الصلاة حال الحيض، حيث لا تنهض بإحراز حيضية الدم الخارج لو علم استمراره ثلاثة أيام، فضلا عما لو لم يعلم.

و منها: ما دل علي ترك المرأة الصلاة برؤية الدم في أيام حيضها، كمرسلة يونس القصيرة «4» المتقدمة عند الكلام في اعتبار التوالي في أقل الحيض. بل التعرض فيها بعد ذلك لانقطاع الدم قبل الثلاثة موجب لكونها كالصريحة في عدم الاعتناء بالاحتمال المذكور في أول الأمر.

و منها: ما يأتي في تحيض المرأة برؤية الصفرة في أيام الحيض، حيث يدل علي التحيض برؤية الدم و الحمرة بالأولوية العرفية. و لعله لذا حكي عن جامع المقاصد دعوي تواتر الأخبار عن المعصومين عليهم السّلام بذلك، كما ادعي في المستند تواترها الإجمالي.

فلاحظ.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 5، 3 من أبواب الحيض.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 156

______________________________

ثم إن المناسب للحكم المذكور هو العادة الوقتية عددية كانت أم لا، كما ذكره في المتن و سبقه إليه في المسالك و كشف اللثام و عن غيرهما.

و يناسبه إطلاق مثل مرسلة يونس القصيرة المتضمنة تحيض المرأة برؤية الدم في أيام حيضها «1»، لصدقه في الوقتية فقط.

و قد يظهر من بعضهم الاقتصار علي العددية الوقتية، لاقتصارهم في بيان العادة عليها. لكن سبق في أقسام العادة أن ذلك لا يكشف عن خلافهم في اعتبار الوقتية فقط.

و أما ما قد يظهر من الشرائع من أن المدار علي كون المرأة ذات عادة عددية و إن لم تكن وقتية. فهو لا يناسب النصوص الظاهرة في خصوصية العادة في الحكم المذكور، لأن موضوعها رؤية الدم في أيام الحيض، المستلزم لتعيين وقته لا عدده.

و ما في الجواهر من الاستئناس له بعد الإجماع المدعي في الشرائع بالنصوص الآتية المتضمنة التحيض برؤية الدم و الصفرة قبل الحيض، لأنه لو كان مدار التحيض بالرؤية علي الوقت لما حكم به مع عدم الرؤية فيه. كما تري، لعدم صلوح الإجماع المذكور للحجية مع ظهور بقية معاقد الإجماعات المتقدمة- و منها ما ادعاه المحقق نفسه في المعتبر- كبقية كلمات الأصحاب و النصوص في أن المعيار علي العادة الوقتية.

و أما النصوص المذكورة فهي مختصة بما إذا كان الفاصل مع التقدم قليلا- كما سيأتي- فلا مجال للتعدي منها لما إذا لم يتعين الوقت أصلا. و لو فرض التعدي عن موردها لزم عدم اعتبار العادة العددية أيضا، لعدم الدليل عليها، و عدم مناسبتها للحكم ارتكازا. كما هو الحال لو بني علي العمل بمطلقات التحيض برؤية الدم.

و من هنا لا يبعد أن يكون ذلك من الشرائع قرينة علي أن مراده بالعادة العددية خصوص الوقتية منها، كما سبق التنبيه عليه عند الكلام في أقسام العادة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 157

أو قبلها (1).

______________________________

(1) كما في المستند مدعيا أنه الأشهر، بل قيل إنه إجماع. انتهي. و يقتضيه ما في صحيح الصحاف الوارد في الحامل من قول أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و إذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الذي كانت تري فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنه من الحيضة فلتمسك عن الصلاة عدد أيامها» «1»، و موثق سماعة: «سألته عن المرأة تري الدم قبل وقت حيضها. فقال: إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة، فإنه ربما تعجل بها الوقت» «2»، و صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في المرأة تري الصفرة.

فقال: إن كان قبل الحيض بيومين فهو من الحيض، و إن كان بعد الحيض بيومين فليس من الحيض» «3»، و موثق معاوية ابن حكيم قال: «قال: الصفرة قبل الحيض بيومين فهو من الحيض، و بعد أيام الحيض فليس من الحيض، و هي في أيام الحيض حيض» «4»، و خبر علي بن أبي حمزة: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر عن المرأة تري الصفرة.

فقال: ما كان قبل الحيض فهو من الحيض، و ما كان بعد الحيض فليس منه» «5».

فإن هذه النصوص و إن كانت واردة لبيان حيضية الدم المذكور واقعا أو ظاهرا، لدفع توهم عدم حيضيته لكونه من الحامل أو متقدما أو صفرة، لا لاحتمال عدم استمراره ثلاثة أيام، و لذا يتحقق موضوعها مع العلم باستمراره، إلا أن إناطة التحيض فيها بالرؤية و عدم التنبيه فيها إلي لزوم الانتظار و الاحتياط ظاهر في المفروغية عن عدم الاعتناء باحتمال عدم استمرار الدم.

و بها يخرج عن إطلاق ذيل صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تري الصفرة في أيامها فقال: لا تصلي حتي تنقضي أيامها. و إن رأت الصفرة في غير أيامها توضأت وصلت» «6».

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 5.

(6) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 158

أو بعدها (1)

______________________________

و مثله في ذلك مرسلة يونس الطويلة الدالة علي اقتصار ذات العادة علي عادتها «1». علي أنه لا يبعد اختصاصها بمستمرة الدم، فلا تنافي تحيض غيرها قبل العادة لو تقدم دمها.

و منه يظهر ضعف ما في المسالك من أن رؤيته متقدما علي العادة كرؤية المبتدأة و المضطربة له، و ما في جامع المقاصد من لزوم الاحتياط لها إلي الثلاثة، و ما في المدارك من تحيضها به مع كونه بصفات الحيض عملا بنصوص الصفات، الراجع إلي إلغاء خصوصية العادة. فإنه لا يناسب النصوص الأخيرة، و لا سيما مع استدلاله في المدارك بصحيح أبي بصير.

نعم، لا مجال لردهم بالاتفاق المدعي في المنتهي علي حيضية الدم الخارج قبل العادة بيومين، لأنه أعم من التحيض به بمجرد خروجه مع الشك في استمراره ثلاثة أيام.

(1) كما قواه في جامع المقاصد و شيخنا الأعظم. و خصه في المدارك بما إذا كان بصفة الحيض، عملا بأخبار الصفات. و مرجعه إلي عدم خصوصية ذات العادة، و الكلام الآن في خصوصيتها، و أن التأخر كالتقدم يقتضي البناء علي الحيضية في ذات العادة مع قطع النظر عن الأدلة العامة، أو لا، بل هي كالمبتدأة و المضطربة فيلحقها ما يأتي في المسألة الآتية. كما أن كلام بعضهم- كجامع المقاصد- منصب إلي التحيض بمجرد الرؤية مع المفروغية عن حيضية الدم لو استمر، و كلام آخرين منصب إلي أصل حيضية الدم حتي لو استمر.

و كيف كان، فقد يستدل علي التحيض ظاهرا بمجرد الرؤية مع المفروغية عن حيضية الدم لو استمر …

تارة: بما في جامع المقاصد و غيره من أن تأخر الدم يزيده انبعاثا.

______________________________

(1) تقدمت في أول الفصل.

ص: 159

______________________________

و اخري: بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن المستفاد من تعليل التحيض مع التقدم في موثق سماعة بالتعجيل أن المدار علي مطلق التخلف.

و ثالثة: بأن كل من قال بالتحيض مع التقدم قال به مع التأخر، و لا عكس، حيث توقف فيه في جامع المقاصد مع التقدم و قواه مع التأخر، بل ادعي في المستند الإجماع علي التحيض مع واجديته للصفات، و حكي عن بعض الأجلة دعوي الإجماع عليه.

و يندفع الأول بأنه- مع عدم نهوضه بإثبات حكم شرعي- لا يناسب التحيض مع عدم شدة انبعاث الدم، فضلا عما إذا كان صفرة مترشحا، حيث يكون مقتضي التعليل عدم حيضيته.

و الثاني تعدّ عن مفاد النص بلا قرينة، بل احتمال خصوصية التقدم معتد به، و لا سيما بملاحظة نصوص الصفرة المتقدمة الصريحة في الفرق بين التقدم و التأخر.

و الثالث لا يبلغ مرتبة الحجية، و لا سيما مع عدم وضوح تحرير ذلك إلّا في كلمات المتأخرين مع تصريحهم بالاستدلال ببعض الوجوه المتقدمة التي عرفت ضعفها.

فالبناء علي إلحاق رؤيته متأخرا عن العادة برؤية المضطربة و المبتدأة له لا يخلو عن قوة.

هذا في غير الصفرة، أما الصفرة فمقتضي بعض النصوص المتقدمة و غيرها البناء علي عدم حيضيتها إذا كانت بعد أيام العادة بيومين فلا تتحيض بها و إن استمرت ثلاثة أيام.

و حملها علي ما إذا كانت الصفرة استمرارا للحيض المرئي في العادة لا دما غير مسبوق بحيض قد تأخر عنها الذي هو محل الكلام، بإرادة التأخر عن الحيض الفعلي.

لا يناسب إطلاق غير واحد منها، و لا سيما صحيح محمد بن مسلم الذي لم يخص عدم الحيضية فيه بالتأخر، بل بالرؤية في غير أيامها، و لم يخرج عنه إلا صورة التقدم.

و خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام و فيه: «ما دامت تري الصفرة فلتتوضأ من

ص: 160

______________________________

الصفرة و تصلي، و لا غسل عليها من صفرة تراها، إلا في أيام طمثها، فإن رأت صفرة في أيام طمثها تركت الصلاة كتركها للدم» «1».

نعم، لا يبعد اختصاص موثق معاوية بن حكيم به، لأن التفصيل فيه بين ما يري في أيام الحيض و ما يري في غيرها، بالتعبير عن الأول بأنه حيض، و عن الثاني بأنه منه إن كان قبلها و ليس منه إن كان بعدها كالصريح في عدم صلوحه لأن يحكم عليه بأنه حيض مستقل، بل هو متصل بالحيض التام الحاصل في العادة محكوم بأنه منه مع التقدم و ليس منه مع التأخر.

لكن قد يشكل في الأخير بمنافاته لنصوص الاستظهار المتضمنة للتحيض بعد إكمال العادة لمستمرة الدم بيوم أو يومين أو ثلاثة أو إلي العشرة «2»، لعدم التفصيل فيها بين الصفرة و غيرها، بل في موثق سعيد بن يسار أو صحيحه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تحيض ثم تطهر، و ربما رأت بعد ذلك الشي ء من الدم الرقيق بعد اغتسالها من طهرها. فقال: تستظهر بعد أيامها بيومين أو ثلاثة ثم تصلي» «3».

بل قد يظهر من بعض نصوص الاستبراء المفروغية عن كون الصفرة في آخر الحيض من الحيض، ففي صحيح ثعلبة عنه عليه السّلام: «أنه كان ينهي النساء أن ينظرن إلي أنفسهن في المحيض بالليل، و يقول: إنها قد تكون الصفرة و الكدرة» «4».

إلا أنه يندفع بأن غاية ما يقتضيه عدم التفصيل في نصوص الاستظهار العموم القابل للتخصيص بالنصوص السابقة. و لا سيما مع قرب انصراف الدم أو قصوره- حتي الرقيق منه الذي تضمنه حديث سعيد- عن الصفرة.

و مثلها في قبول التقييد و في الانصراف نصوص الاستبراء، لأنها تضمنت عنوان الدم، و في بعضها: «دم عبيط» «5». بل في موثق سماعة عنه عليه السّلام: «قلت له: المرأة

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 8.

(2) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 19 من أبواب الحيض حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 161

______________________________

تري الطهر و تري الصفرة أو الشي ء فلا تدري أ طهرت أم لا؟ قال: … فلتقم … ثم تستدخل الكرسف … فإن خرج دم فلم تطهر … » «1»، فإن فرض الشك في الطهر مع رؤية الصفرة ظاهر في المفروغية عن عدم حيضيتها، و أن الاستبراء إنما هو لاحتمال عدم كون النازل من الرحم صفرة، بل دما، و إنما صار صفرة لاختلاطه بماء الفرج بعد ذلك.

فلم يبق إلا صحيح ثعلبة الذي هو كالصريح في عدم النقاء مع الصفرة و الكدرة، إلّا أن تقييده بما إذا لم يتأخر عن العادة يومين غير عزيز.

بل قد يدعي أن عدم النقاء مع الصفرة و الكدرة أعم من كونهما حيضا، لإمكان كونهما استحاضة، و إنما نهي عن النظر ليلا لئلا يضيعان عليها فتعتقد بالطهر و تغتسل من الحيض من دون ترتيب أحكام الاستحاضة. فتأمل.

نعم، قد يشكل مفاد النصوص علي عمومه بظهور إعراض الأصحاب و عدم عملهم بمضمونها و بنائهم علي حيضية الصفرة الخارجة في الزمان القابل للحيض، سواء كانت حيضا مستقلا أم استمرارا للحيض.

كما يشهد به- مضافا إلي ما سبق في الوجه الثالث- ظهور جملة من كلماتهم و تفريعاتهم في المفروغية عن عدم اعتبار الصفات في جريان قاعدة الإمكان، بل صرح جملة منهم بعمومها للصفرة، علي ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي.

و من هنا كان ظاهر غير واحد تنزيل النصوص المذكورة و نحوها علي أن المراد بأيام الحيض أيام إمكانه لا أيام العادة، فقد ادعي في الروض أنه مقتضي إطلاق النصوص.

و قال في الخلاف: «الصفرة و الكدرة في أيام الحيض حيض، و في أيام الطهر طهر. سواء كانت العادة أو الأيام التي يمكن أن تكون حائضا فيها … دليلنا … إجماع الفرقة»، و قريب منه في المبسوط من دون دعوي الإجماع مع تعقيبه بالفروع المناسبة له ثم قوله: «و إنما قلنا بجميع ذلك لما روي عنهم عليهم السّلام من أن الصفرة في أيام الحيض حيض، و في أيام الطهر طهر».

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 162

______________________________

و يناسبه ما في السرائر، حيث حمل أيام الحيض في قولهم عليهم السّلام: «الكدرة و الصفرة في أيام الحيض حيض و في أيام الطهر طهر» علي العشرة التي هي حد لأكثر الحيض لا علي أيام العادة. كما قد يظهر من المراسم أيضا، لتعليله الاكتفاء بالاستبراء الذي أوجبه علي الحائض مطلقا بالصفرة و الكدرة بأنهما في أيام الحيض حيض.

و عليه حمل في الروض قول العلامة في الإرشاد: «و الصفرة و الكدرة في أيام الحيض حيض، كما أن الأسود الحار في أيام الطهر فساد»، و يناسبه ما في ذيله، و إلّا فلا إشكال ظاهرا في إمكان تعجيل الحيض كثيرا لذات العادة، كما تضمنته بعض النصوص، كصحيح عبد الرحمن «1» المتقدم عند الكلام في اعتبار التوالي.

لكن حمل أيام الحيض علي أيام إمكانه بعيد في نفسه لا قرينة عليه، بل لا مجال له في النصوص المتقدمة المعبر في بعضها بأيام المرأة، لا أيام حيضها، و الظاهر من بعضها خصوصية الصفرة في الحكم، و لا سيما مع التفصيل فيها بين ما قبل الحيض أو أيامه و ما بعدها مع تحديد القبلية و البعدية، لوضوح عدم حيضية ما في غير أيام الإمكان مطلقا، بل صريح مرسلة يونس الطويلة «2» أن أيام الحيض التي جرت السنة بأن الكدرة و الصفرة فيها حيض هي أيام العادة، كما أن ذلك كالصريح من معتبرة اسماعيل الآتية.

و فهم من عرفت أيام الإمكان من أيام الحيض غير واضح المأخذ. و مثله حملها علي عدم التحيض بالصفرة بمجرد الرؤية و إن وجب التحيض بها بعد الاستمرار ثلاثة أيام، علي ما يأتي في المسألة الخامسة.

و لذا لا مجال لتحصيل الإعراض الموهن للنصوص، لعدم ظهور كلام من سبق في الإعراض عنها، بل في الاعتماد عليها، و الاستدلال بها بعد فهم خلاف ظاهرها.

و لا سيما مع ظهور العمل بها من الكليني، حيث أودع جملة منها في باب المرأة

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب العدد من كتاب الطلاق حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 163

______________________________

تري الصفرة قبل الحيض أو بعده، و من الصدوق في الفقيه، حيث أرسل بعضها في الفقيه، كما قد يظهر من التذكرة حيث عبر بنظير عبارة الإرشاد، ثم قال: «و روي عن الصادق عليه السّلام أن الصفرة حيض إن كان قبل الحيض بيومين و إن كان بعده بيومين فليس منه»، و مع التعبير بأن الصفرة في أيام الحيض حيض و في أيام الطهر طهر- من دون إشعار بحملها علي أيام الإمكان- في المقنع و الهداية و الفقيه و الناصريات و النهاية، و قد يظهر من الفقيه حكايته عن رسالة والده، كما يظهر من الناصريات أنه إجماعي. كما قد يقوي احتماله فيما تقدم من عبارة الإرشاد علي ما أوضحه شيخنا الأعظم قدّس سرّه، بل قال في المنتهي بعد أن ذكر صفات الحيض: «و قال أبو حنيفة: ما عدا البياض الخالص حيض. و هو حق إن كان في زمن العادة».

و قد يظهر من الوسيلة التردد، حيث قال: «و الصفرة و الكدرة في أيام الحيض أو فيما يمكن أن يكون حيضا حيض، و في أيام الطهر طهر». فتأمل.

و مع كل ذلك لا مجال لطعن النصوص المتقدمة بالإعراض، بل يتعين العمل عليها. و يأتي في آخر الكلام في عموم حجية الصفات ما ينفع في المقام.

ثم إنا قد أشرنا آنفا إلي أن نصوص التفصيل بين المتقدم و المتأخر عن العادة مخصصة لعموم عدم حيضية الصفرة في غير أيام العادة المستفاد من صحيح محمد بن مسلم، و من المرسل الذي أشير إليه في كلام من تقدم و لا يبعد كون المراد به مفاد الصحيح.

و حينئذ لا وجه لإطلاق عدم حيضيتها في أيام الطهر في كلام من عرفت، عدا الصدوق في الفقيه، حيث عقب الإطلاق المذكور ببعض نصوص التفصيل، و كذا ما سبق من التذكرة.

بقي في المقام أمور..
الأول: حكم الصفرة في غير أيام العادة

أن حديثي أبي بصير و معاوية حيث تضمنا تقييد التقدم و التأخر باليومين فظاهرهما بيان أول زمان يحكم فيه بالحيضية و عدمها، فما يري قبل أيام الحيض بأكثر من يومين فليس حيضا- و هو مقتضي صحيح محمد بن مسلم أيضا-

ص: 164

______________________________

و ما يري بعد أيام الحيض بأقل من يومين فهو حيض، و إلا كان القيد لاغيا عرفا، بل لزم عدم استيفاء التفصيل لأقسام الصفرة، و هو مما يأباه الحديثان، و لا سيما مع وقوع التفصيل المذكور بعد السؤال عن حكم الصفرة في حديث أبي بصير و التعرض لما يري في أيام الحيض في موثق معاوية بن حكيم.

و بذلك يخرج عن إطلاق ما تضمن عدم حيضية الصفرة في غير أيام الحيض، كصحيح محمد بن مسلم المتقدم، أو بعد الحيض، كخبر علي بن أبي حمزة المتقدم أيضا، أو بعد أيامه، كمعتبرة اسماعيل الجعفي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا رأت المرأة الصفرة قبل انقضاء أيام عادتها لم تصل، و إن كانت الصفرة بعد انقضاء أيام قرئها صلت» «1» و غيرها.

نعم، البناء علي حيضية الصفرة بعد أيام العادة بأقل من يومين مشروط بإمكان ذلك، إما بأن تكون استمرارا للدم المرئي في أيام العادة، أو دما جديدا بعد انقطاعه قبل تمام العشرة من حين رؤية الدم. أما لو حدثت بعد إكمال العشرة، كما لو كانت عادتها تسعة أيام أو عشرة ثم رأته صفرة في اليوم الحادي عشر أو استمر له صفرة فلا مجال لحيضيته، لعدم تخلل أقل الطهر في الأول، و لعدم تجاوز الحيض عن العشرة في الثاني.

و هو لا ينافي عموم حيضية الصفرة قبل مضي يومين بعد العادة، لأن المراد بالعموم المذكور بيان عدم مانعية كونها صفرة من حيضيتها، لا حيضيتها مطلقا و لو في مورد امتناع حيضية الدم فيه.

و مثلها في ذلك ما لو حدثت من دون سبق الحيض في أيام العادة، أما مع انقطاعها بمضي اليومين بعد العادة فلعدم بلوغها أقل الحيض، و أما مع استمرارها فلتوقف حيضيتها علي حيضية ما بعد اليومين، و مقتضي النصوص المتقدمة عدم حيضيته، فيمتنع حيضية ما قبل اليومين، لعدم بلوغه أقل الحيض، لا لكونه صفرة، لينافي عموم حيضية الصفرة قبل مضي يومين من انقضاء العادة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 165

______________________________

نعم، لو انقلبت بعد اليومين إلي دم و استمر المجموع ثلاثة أيام لم يبعد البناء علي حيضية المجموع، بناء علي ثبوت عموم يقضي بحيضية الدم في غير أيام العادة، حيث تكون حيضية المجموع مقتضي العمومين معا.

اللهم إلا أن يقال: بعد أن سبق اختصاص موثق معاوية بن حكيم بالصفرة المتصلة بما في العادة فالظاهر أن حديثي أبي بصير و علي بن أبي حمزة مختصان بما يتصل بالحيض لا بأيامه، و حينئذ لا مجال للبناء علي حيضية الصفرة في الفرض المذكور إلا إذا كان الدم المتصل بها محكوما بالحيضية، لبلوغه ثلاثة أيام.

و عليه يكون المتحصل من مجموع النصوص: أن الصفرة إن كانت متصلة بالدم المحكوم بالحيضية سواء كان في أيام العادة أم في غيرها إنما يحكم عليها بالحيضية إذا كانت قبل الحيض بيومين فما دون أو بعده بأقل من يومين، من دون فرق بين ذات العادة و غيرها.

نعم، لو رأتها قبل الحيض بثلاثة أيام فهل يحكم بعدم حيضية خصوص اليوم الأول، أو بعدم حيضيتها بتمامها؟ الأول أنسب بالإطلاق، و إن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

و إن كانت مستقلة بنفسها فهي في أيام العادة حيض، و كذا ما يتصل بها من طرفيها إلي يومين، كما يقتضيه موثق معاوية بن حكيم، و كذا صحيح محمد بن مسلم في الجملة. و إن كانت متقدمة عليها أو متأخرة عنها بأكثر فهي ليست حيضا.

و إن كانت من غير ذات العادة لم يبعد البناء علي عدم حيضيتها، لأن مقتضي اشتراط كونها حيضا في النصوص بكونها قبل الحيض بيومين عدم حيضيتها بدون ذلك، سواء كان هناك حيض قد تقدمت عليه بأكثر من يومين أم لم يكن حيض أصلا.

و لا بد من التأمل التام. و منه سبحانه نستمد العون، و به الاعتصام.

الثاني: لا يخفي أن النصوص المتقدمة لا تنهض ببيان اعتبار الصفات في حيضية الدم في موردها،

لأن الصفرة أخص من الدم الفاقد للصفات، فنفي حيضيتها أعم من نفي حيضيته، فلو كان مقتضي بعض الأدلة حيضية الدم مطلقا فلا مجال للخروج عنه بالنصوص المذكورة. و إلغاء خصوصية الصفرة فيها، و فهم أن المدار علي فقد

ص: 166

بيوم أو يومين أو نحوه مما يصدق معه التقدم أو التأخر عرفا (1)، و إن كان

______________________________

الصفات مطلقا بلا شاهد.

الثالث: في مرسلة يونس القصيرة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«و كل ما رأته المرأة في أيام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض، و كل ما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض» «1». و لا بد من تنزيله في الحمرة علي ما يناسب نصوص الاستظهار، و ما تضمن أن ما يري في ضمن العشرة فهو من الحيضة الأولي. و لعل الأقرب تنزيله علي مستمرة الدم. فتأمل. و أما في الصفرة فيظهر الحال مما تقدم.

(1) أما مع التقدم فكأنه للتعبير بالتعجيل في موثق سماعة، بدعوي ظهوره في كون الدم المتقدم من شئون العادة لقربه منها، و التقييد بالقلة في صحيح الصحاف و باليومين في حديثي أبي بصير و معاوية بن حكيم.

فيخرج بذلك عن إطلاق القبلية في خبر علي بن أبي حمزة. مع أنه- مضافا إلي الإشكال في سنده- يشكل الإطلاق فيه، للمقابلة فيه بين التقدم و التأخر. قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «إذ لو لم يكن المراد التقدم قليلا لم يكن وجه للمقابلة بينهما، إذ كل ما قبل الحيض السابق يصدق عليه أنه بعد الحيض اللاحق و بالعكس، بخلاف ما لو حمل علي التقدم قليلا».

لكن التقييد باليومين مختص بالصفرة فالتعدي للدم موقوف علي فهم عدم الخصوصية لها، و هو ممنوع. و منه يظهر لزوم الجمود في الصفرة علي اليومين و عدم التعدي لغيرهما مما يصدق معه التعجيل أو قلة التقدم، لورودهما في الدم.

و صحيح الصحاف مختص بالحامل التي ثبت فيها التفصيل بوجه خاص لا يجري في غيرها.

و أما التعجيل في الموثق فالظاهر أنه مطلق شامل للتقدم و لو كثيرا، كإطلاقات التحيض برؤية الدم. بل هو كالصريح من صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه:

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 167

______________________________

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة إذا طلقها زوجها متي تكون [هي] أملك بنفسها.

قال: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها. قلت: فإن عجل عليها الدم قبل أيام قرئها؟ قال: إذا كان الدم قبل عشرة أيام فهو من الحيضة التي طهرت منها، و إن كان الدم بعد العشرة أيام فهو من الحيضة الثالثة، و هي أملك بنفسها» «1»، حيث طبق الإمام عليه السّلام التعجيل علي ما إذا كان الدم قبل العشرة من الحيض الأول، فضلا عما بعدها مما قد يكون قبل العادة بسبعة عشر يوما.

و ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الفرق بينه و بين الموثق بنسبة التعجيل فيه للدم و في الموثق للوقت الذي يراد به العادة، فهو لا يصدق إلا إذا ظن من قرب الزمان منها أن المرئي دمها تقدم علي وقتها. كما تري، لأن تعجيل الدم إنما يكون مع تقدمه علي وقته، فإذا صدق مع كثرة زمان التقدم صدق تعجيل الوقت أو العادة مع ذلك أيضا.

علي أنه لا مجال لتنزيل تقدم الوقت علي تقدم العادة، إذ لا يراد تقدمها بنفسها، و لذا لا يكون التقدم مرة موجبا لتقدم العادة الوقتية، بل لا بد من حمله علي تقدم وقت الدم الخاص علي العادة، فيكون نظيرا للصحيح.

مضافا إلي أن ما سبق في الموثق لو تم إنما يقتضي قصوره عن صورة زيادة التقدم، لا ظهوره في عدم التحيض معها، فلا ينافي الصحيح الذي هو كالصريح في التحيض معها. و من هنا يتعين البناء علي التحيض مع التقدم مطلقا، كما هو المحكي عن المشهور، بل عن ظاهر الروض أن الفرق في التقدم بين اليومين و الزائد إحداث قول ثالث، و إن قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «لكنه غير ثابت».

نعم، قد يدعي لزوم تقييد الإطلاق المذكور بما إذا كان الدم واجدا للصفات، دون ما إذا كان فاقدا لها، لعموم أدلة الصفات. و هو مبني علي تمامية العموم المذكور.،

و يأتي إن شاء اللّه تعالي الكلام في ذلك في ذيل المسألة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب العدد من كتاب النكاح حديث: 1.

ص: 168

أصفر رقيقا (1)، فتترك العبادة و تعمل عمل الحائض في جميع الأحكام (2)،

______________________________

هذا كله في التقدم، و أما التأخر فقد سبق أن خصوصية ذات العادة فيه مبنية علي استفادته من دليل التقدم بالأولوية، لأن تأخر الدم يزيده انبعاثا، أو من موثق سماعة بإلغاء خصوصية التقدم فيه، أو من عدم القول بالفصل بينه و بين التقدم.

و علي الأخيرين يتجه مشاركته للتقدم في التقييد بقصر الأمد لو تم فيه، أما علي الأول فاللازم الإطلاق، بل أولوية التأخر الكثير، لأنه يوجب زيادة انبعاث الدم، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

لكن سبق عدم تمامية الوجوه الثلاثة، و أنه لا خصوصية لذات العادة في التأخر، بل هي معه كالمضطربة، فيبتني تحيضها علي عموم حيضية الدم في غير العادة إذا كان واجدا للصفات أو مطلقا. و يأتي الكلام فيه عند الكلام في قاعدة الإمكان إن شاء اللّه تعالي، كما سيأتي الكلام في حكم الصفرة.

و أما ما في المبسوط من تحديد التقدم و التأخر بعشرة أيام، و أنه لو زاد علي ذلك حكم بأنه ليس بحيض. فلم يتضح وجهه، و لا سيما مع ظهور كلامه في عدم حيضيته حتي لو استمر. إذ لم يعرف من أحد القول بأن التقدم علي العادة من موانع الحيض.

(1) مما تقدم يظهر لزوم البناء علي حيضية الصفرة في أيام العادة، أو قبلها بيومين لا أكثر، لاختصاص النصوص بذلك، و أنه لا مجال لتنزيلها علي ما يصدق معه التعجيل أو قلة التقدم. كما سبق أن مقتضي النصوص المتقدمة عدم حيضية الصفرة الابتدائية المتأخرة عن العادة، إلا أن يتعقبها دم محكوم بالحيضية، بحيث تكون قبله بيومين فما دون، فلا مجال للتحيض ظاهرا بها إلا مع إحراز ذلك.

(2) كما هو مقتضي التعبد بحيضية الدم أو الصفرة الذي هو صريح غير واحد من النصوص المتقدمة و غيرها، و المستفاد عرفا مما تضمن منها ترتب بعض أحكامه كترك الصلاة، لظهور مساقها في المفروغية عن أن ترتبه متفرع علي تحقق موضوعه

ص: 169

و لكن إذا انكشف أنه ليس بحيض لانقطاعه قبل الثلاثة مثلا (1) وجب عليها قضاء الصلاة (2).

______________________________

المعهود، و هو الحيض، لا علي موضوع آخر في قباله.

(1) بناء علي اعتبار التوالي في ثلاثة الحيض، أما بناء علي عدمه فلا بد في لزوم التدارك من عدم عوده بنحو يتم به ثلاثة أيام في ضمن العشرة، فلو عاد انكشف كونه حيضا.

نعم، قد يشكل البناء علي ذلك في الصفرة لو رأتها قبل العادة بيومين و تخلل النقاء بينها و بين الدم، إما لانصراف نصوص إلحاقها بالحيض إلي خصوص المتصل منها بالدم، أو لانصراف الدم في دليل تفرق ثلاثة الحيض إلي ما يقابل الصفرة مما يتضح صدق الدم عليه عرفا، لعدم وضوح صدقه علي الصفرة بعد كون الدم فيها مختلطا بما لا يستهلك فيه، و لذا تضمن بعض النصوص المقابلة بينها و بين الدم.

إلا أن يكون دليل التفرق إطلاق دليل تحديد الحيض بثلاثة أيام، فيكفي إطلاق دليل إلحاق الصفرة بالحيض- لو تم بنحو يشمل المنفصلة عن الدم- في دخولها تحت إطلاق دليل تحديد الحيض. فتأمل جيدا.

(2) كما ينكشف عدم خروجها عن العدة، و عدم وجوب الكفارة بوطئها لو قيل بوجوبها بوطء الحائض، إلي غير ذلك من أحكام الحيض التي يترتب الأثر العملي بانكشاف عدم ترتبه واقعا من أول الأمر، لعدم تحقق موضوعه.

تتميم: قاعدة الإمكان
اشارة

حيث عرفت أن الحكم بحيضية الدم في بعض الفروع السابقة يبتني علي عموم حيضية الدم الذي تراه المرأة، كما يبتني عليه كثير من الفروع الآتية لزم التعرض للعموم المذكور و لدليله، و حيث كان الكلام فيه من شئون الكلام في قاعدة الإمكان كان المناسب الكلام فيها، فنقول بعد التوكل علي اللّه سبحانه و تعالي و طلب العون و التوفيق و التسديد منه:

ص: 170

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 4، ص: 171

______________________________

قد تكرر في كلماتهم أن كل دم يمكن أن يكون حيضا فهو حيض كقاعدة يرجع إليها في مقام العمل، و قد يستفاد ذلك من جملة من كلماتهم تبعا من دون أن يكون مقصودا بالأصل، فقد سبق من الخلاف الحكم بحيضية الصفرة و الكدرة في أيام إمكان الحيض مدعيا عليه الإجماع، و سبق من غير واحد موافقته، مع وضوح أن حيضية الصفرة و الكدرة فيها تستلزم حيضية الدم بالأولوية العرفية، و في الوسيلة أن دم الحيض إن اشتبه بدم الاستحاضة فهو حيض. و في الخلاف أن من عادتها خمسة أيام إذا رأت الدم عشرة أيام كان كله حيضا، قال: «لأنه زمان يمكن أن يكون حيضا».

و في المعتبر: «و ما تراه المرأة بين الثلاثة إلي العشرة حيض إذا انقطع، و لا عبرة بلونه ما لم يعلم أنه لقرح أو عذرة، و هو إجماع، و لأنه زمان يمكن أن يكون حيضا، فيجب أن يكون الدم فيه حيضا» و نحوه في المنتهي، كما استدل فيه بقاعدة الإمكان علي تحيض المضطربة و المبتدأة برؤية الدم، و علي حيضية الدم إذا تقدم علي العادة، فإن استدلالهم بالقاعدة ظاهر في التسالم عليها.

و في الشرائع: «و ما تراه من الثلاثة إلي العشرة مما يمكن أن يكون حيضا فهو حيض تجانس أو اختلف»، و قريب منه في النافع و التذكرة، و في الإرشاد: «و كل دم يمكن أن يكون حيضا فهو حيض»، و نحوه في القواعد و اللمعة و محكي البيان، و زاد عليه في القواعد: «و إن كان أصفر أو غيره» و نحوه عن نهاية الأحكام مدعيا عليه الإجماع، و في جامع المقاصد: «هذا الحكم ذكره الأصحاب كذلك و تكرر في كلامهم، و يظهر أنه مما أجمعوا عليه» و اعترف في المدارك بأن الأصحاب قد ذكروه كذلك، و عن محكي شرح الروضة: «ذكره الأصحاب قاطعين به علي وجه يظهر منهم اتفاقهم عليه»، و عن الذخيرة: «لا أعرف في ذلك خلافا بين الأصحاب» و عن شرح المفاتيح أنه المعروف من مذهب الأصحاب، و عن حاشية المدارك: «أنهم لم يعولوا علي الإمكان، و إنما عولوا علي الإجماع، و المجمعون اطلعوا علي المستند»، و في الجواهر:

«كما أنها عند المعاصرين و من قاربهم من القطعيات التي لا تقبل الشك و التشكيك».

ص: 171

______________________________

و لا يخفي أن حكم الأصحاب بذلك مع ظهور التسالم عليه من جماعة من أعيانهم، و دعوي الإجماع عليه أو علي بعض صغرياته من جملة من أكابرهم، كاشف عن ثبوته في الجملة، لامتناع خطئهم عادة في مثل هذا الحكم مما يكثر الابتلاء به.

و لا يمنع من ذلك القطع باستنادهم لبعض الوجوه الآتية، فضلا عن احتمال ذلك، لأن العلم بمستند الإجماع إنما يمنع من العلم بمضمونه إذا أمكن خطأ المجمعين علي تقدير خطأ استدلالهم، و هو لا يمكن في المسائل التي يكثر الابتلاء بها، حيث يمتنع خفاء الحكم فيها علي الأصحاب و خطؤهم في تشخيصه، بل يكشف إجماعهم فيها إما عن تمامية مستندهم، لاطلاعهم علي ما يتمم دليليته و إن خفي علينا، أو عن وجود سيرة و نحوها موافقة لهم و إن غفلوا عن الاعتماد عليها أو التنبيه إليها و اعتمدوا علي ما تخيلوا دليليته، أو عن خطأ اعتقاد أو احتمال اعتمادهم علي المستند المذكور و أنهم قد اعتمدوا علي غيره مما يصلح للاستدلال و إن لم يظهر لنا.

نعم، لمّا لم تتفق دعاوي الإجماع السابقة في معقد واحد، بل اختلفت، و استفيد من بعضهم المفروغية عن الدعوي من دون تصد لبيانها بوجه دقيق، و احتمل تسامح بعضهم في إطلاق معقد الإجماع، و كان المراد بالإمكان في كلامهم محتملا لمعان متعددة، لم ينهض الإجماع المذكور بتحديد القاعدة بالوجه الكافي، فلا بد من النظر في وجوه الاستدلال الأخر و تحديد مفاد ما ينهض بالاستدلال منها في نفسه و بعد النظر فيما يعارضه، و بعد تحديد ما يستحصل منها ينظر فإن لم يكن المتيقن من الإجماع المذكور منافيا له و لا أوسع منه لزم العمل به و لم يكن الإجماع حجة في غيره، و إن نافاه أو كان أوسع منه لم يعتد به و لزم النظر في المتيقن من الإجماع فيعمل به مع تحديده تفصيلا، و يحتاط في محتملاته مع تحديده إجمالا.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنهم استدلوا علي القاعدة بوجوه..
الأول: الأصل.

ذكره غير واحد.

و قد يقرب تارة: بأنه مقتضي الظاهر، لأن غالب دم النساء هو الحيض، كما قرر

ص: 172

______________________________

في الجواهر.

و فيه- مع عدم الدليل علي حجية الغلبة- أن الغلبة النوعية في النساء قد تعارض بالغلبة الشخصية كما في المرأة التي يكثر منها غير الحيض. كما تعارض فيما لو كان الدم فاقدا للصفات بغلبة واجدية دم الحيض لها، التي هي نوعية مثلها.

و اخري: باستصحاب عدم كون الدم من قرح أو عرق العاذل أو نحوهما مما تضمنت النصوص أو يعلم بخروج دم غير الحيض منه، كما قرر في المستند. و فيه:

أنه لا يحرز كونه حيضا إلا بناء علي الأصل المثبت، بل الجاري هو استصحاب عدم الحيض، علي ما تقدم نظيره عند الكلام في اعتبار التوالي في أقل الحيض.

و ثالثة: بأصالة الصحة، لأن الحيض مقتضي طبيعة المزاج و غيره من آفة، كما قد يظهر من الرياض، و ربما يكون هو مرجع الوجهين السابقين في كلماتهم. و فيه: أن المتيقن من بناء العقلاء علي العمل بأصالة الصحة ترتيبهم أثر الصحة، كدفع ما يشك في صحته بدلا عن المبيع الكلي، دون أثار لوازمها الخارجية، ككون الدم حيضا. مع أنه لو جري لاختص بمن يحتمل صحتها، دون من يعلم بعروض الآفة عليها إذا تردد دمها بين أن يكون حيضا أو من الآفة.

الثاني: بناء العرف علي ذلك،

كما عن محكي شرح المفاتيح. و قد يوجه لزوم متابعتهم في إحراز الحيض بأنه مقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة أحكامه، إذ لما كان المخاطب بها العرف و كان القطع بالحيض متعذرا أو نادرا لهم، بل المعهود لهم الرجوع لطرق خاصة، كان ظاهر الخطاب بها إيكالهم في العمل بها لما هو المعهود لهم. و لم يرد من الشارع الأقدس الردع عن متابعتهم في التشخيص و لا بيان الضابط العام فيه ليستغني به عما عندهم و يخرج عن مقتضي الإطلاقات المشار إليها.

و أما ما ورد في بيان شروط الحيض و موانعه أو عدم مانعية بعض الأمور- كالحمل- منه. فهو لا يقتضي حيضية واجد الشرط و فاقد المانع بنحو القضية الكلية، بل المهملة التي لا تصلح لتشخيص الدم الذي هو من الحيض خارجا. و ورود بعض

ص: 173

______________________________

تلك الأدلة للردع عما عليه العرف- بناء علي مخالفتها لما عندهم- لا يقتضي الردع عن متابعتهم في غير مواردها بعد أن كان مقتضي الإطلاقات المذكورة متابعتهم.

كما أنه لو وفت بعض الأدلة الشرعية بتشخيص الحيض بمقدار معتد به لا يعلم بوجود ما زاد عليه- كإطلاق التحيض برؤية الدم في العادة، أو الواجد للصفات لو تم- فهي لا تمنع من الرجوع للعرف في التشخيص فيما زاد علي ذلك، لعدم كونها بلسان الحصر و نفي ما عدا تلك الموارد لتنافي الإطلاقات المشار إليها.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في الاكتفاء بتشخيص العرف للحيض ما لم يثبت الردع عنه في مورد.

و أما ما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن العرف يبني علي حيضية كل دم يخرج من الرحم واقعا- لا ظاهرا، كما هو محل الكلام- و يناسبه اشتقاق الاستحاضة، لأنها استفعال من الحيض، فيكون ما دل علي مباينة الاستحاضة للحيض رادعا عما عليه العرف و كاشفا عن خطئهم.

فهو لا يخلو عن إشكال، لأن الظاهر مفروغية العرف عن كون الحيض طبيعيا للمرأة و أنه دوري في الشهر بقدر خاص، مع ما هو المعلوم من ابتلاء بعض النساء بدماء مستمرة لعوارض خاصة بهن، كما يناسبه ظهور بعض النصوص «1» في المفروغية عن كون الاستحاضة من سنخ المرض.

و ليس إطلاق الاستحاضة علي دمها لأنها من أفراد الحيض عندهم، بل لمشابهتها له في الخروج من الرحم أو اشتباهها به أو نحو ذلك، و لذا أطلقت علي دمها في لسان الشارع الأقدس في مقام بيان عدم كونها بحكمه.

و من هنا لا يبعد كون تشخيص العرف للحيض حدسيا بالنظر لأماراته أو لأنه مقتضي الأصل.

نعم، لم يتضح بناؤهم علي الحيض في موارد قاعدة الإمكان علي عمومها

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 4، 7.

ص: 174

______________________________

المتقدم في كلماتهم، بل لا يبعد عدم بنائهم علي حيضية الدم الخارج في غير أيام العادة أو ما يقرب منها إذا كان فاقدا للصفات. كما لا يبعد أن يكون بناؤهم علي حيضية الخارج في العادة أو في غيرها إذا كان بالصفات للعلم أو الاطمئنان بحيضيته، لا لحجية الصفات بنظرهم بحيث يعمل عليها مع وجود مثير لاحتمال عدم الحيض بنحو معتد به.

الثالث: ما في كشف اللثام من أنه لو لم يعتبر الإمكان لم يحكم بحيض،

إذ لا طريق لليقين به، و الصفات إنما تعتبر عند الحاجة إليها لا مطلقا، للنص و الإجماع علي انتفائها. انتهي.

و هو يبتني علي ما سبق من عدم صلوح أدلة الشروط و الموانع لبيان حيضية واجد الشرط و فاقد المانع بنحو القضية الكلية، بل المهملة. و عدم تمامية عموم حجية الصفات الذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي، و الذي لا ينافيه جواز انتفائها عن الحيض، لأنه يستلزم عدم كشف انتفائها عن عدم الحيضية، و لا ينافي الملازمة بينها و بين الحيضية التي تكفي في اليقين بالحيضية معها. بل لو فرض عدم ملازمتها للحيضية أمكن حجيتها عليها، للاكتفاء في الحجيه بالاحتمال و لا يعتبر اليقين.

و كيف كان، فالوجه المذكور لا يقتضي البناء علي الحيضية في جميع موارد قاعدة الإمكان، بل وجود ما يصلح لإحرازه في الجملة، و يكفي في ذلك السيرة، لما هو المعلوم من عدم البناء علي الاقتصار في مورد الشك في حيضية الدم علي الاحتياط في مورد العلم الإجمالي، و استصحاب الحيض أو عدمه في غيره. لكن يلزم الاقتصار علي المتيقن من طرق الإحراز، و لعله مقتضي بعض الإطلاقات الآتية. و منه يظهر حال الاستدلال بالسيرة علي القاعدة.

الرابع: النصوص الكثيرة الظاهرة في الاكتفاء في التحيض بإمكان حيضية الدم،

و إن لم يحرز بأمارة أو يقين.

منها: قوله عليه السّلام في موثق سماعة المتقدم معللا التحيض بالدم المتقدم علي

ص: 175

______________________________

العادة: «فإنه ربما تعجل بها الوقت» «1» لظهوره بمقتضي ارتكازية التعليل في الاكتفاء باحتمال حيضية الدم من دون خصوصية للتعجيل المختص بذات العادة، لعدم دخلها ارتكازا، بل الحكم معها أخفي، لأن وجود العادة صالح للأمارية علي عدم حيضية ما يخرج في غيرها.

نعم، لو اختص بما يقرب من العادة أمكن رجوعه إلي أمارية العادة علي حيضية الدم فيما يقرب منها، فيختص بذات العادة. لكن سبق المنع منه عند الكلام في مقدار التقدم علي العادة، مع أن لسانه لم يتضمن أمارية العادة علي حيضية ما يقرب منها، بل احتمال تقدم الحيض عليها، فلو لا المفروغية عن الاكتفاء في التحيض باحتمال كون الدم حيضا لم يحسن الاكتفاء بذلك في التعليل في ذات العادة، كما نبه له في الجملة سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و منها: ما ورد في الحامل من تعليل تحيضها بالدم بأنها قد تحيض، ففي صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الحبلي تري الدم أ تترك الصلاة؟

فقال: نعم، إن الحبلي ربما قذفت بالدم» «2»، و في مرسل حريز عن أحدهما عليهما السّلام: «تدع الصلاة فإنه ربما بقي في الرحم الدم و لم يخرج و تلك الهراقة» «3»، لظهور التعليل فيهما في المفروغية عن الاكتفاء بالاحتمال. و خصوصية الحمل ملغية عرفا، لعدم دخلها ارتكازا. بل الحكم معها أخفي، لبعد حيض الحامل، فيلزم البناء علي العموم محافظة علي ارتكازية التعليل.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من المناقشة فيهما و في موثق سماعة بأن (ربما) للتكثير جي ء به لرفع الاستبعاد و لم يقصد تعليل الحكم بالاحتمال.

فهو كما تري، لقوة ظهور (ربما) في التقليل، و ظهور الكلام في التعليل. مع أن الحكم ليس باحتمال الحيض، ليكتفي برفع الاستبعاد، بل بترك الصلاة الموقوف علي إحراز الحيض، و لا يكفي في إحرازه رفع الاستبعاد، إلا أن يرجع إلي الاكتفاء فيه بالاحتمال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 9.

ص: 176

______________________________

و ربما يكون مثلهما في ذلك صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الحبلي تري الدم؟ قال: نعم، إنه ربما قذفت المرأة الدم و هي حبلي» «1»، و صحيح سليمان بن خالد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك الحبلي ربما طمثت؟ قال:

نعم، و ذلك أن الولد في بطن أمه غذاؤه الدم فربما كثر ففضل عنه، فإذا فضل دفقته، فإذا دفقته حرمت عليها الصلاة» «2».

اللهم إلا أن يقال: التعليل فيهما مسوق لبيان إمكان حيض الحامل، لا لتحيضها بالدم المجهول الحال، ليدل علي الاكتفاء في التحيض باحتمال حيضية الدم، و لا ينافي ذلك ذيل الصحيح الثاني، إذ لعل الأمر فيه بالتحيض ابتداء من الإمام عليه السّلام لا لكونه مسئولا عنه، و هو إنما يدل علي حرمة الصلاة مع حيضية الدم واقعا، لا مع احتمالها.

فالأولي التمسك بما تضمن تحيض الحامل برؤية الدم من دون تعليل، كصحيح صفوان: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الحبلي تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة أيام تصلي؟ قال: تمسك عن الصلاة» «3» لشمول إطلاقه لما إذا لم يكن في العادة و لا بالصفات، مع ما هو المعلوم- و لو بقرينة النصوص السابقة- من عدم العلم بحيضية دم الحامل، و من القريب جدا إلغاء خصوصية الحمل فيه، لما أشرنا إليه في الحديثين الأولين، و إن افترقا عنه بأن لسان التعليل ملزم بالتعدي عن مورده محافظة علي ارتكازيته.

و دعوي: ورود الإطلاقات المذكورة لبيان عدم مانعية الحمل من الحيض من دون نظر إلي كيفية إحرازه، بل ظاهرها الإيكال فيه إلي ما يحرز به حيض غيرها.

مدفوعة بأن وروده لبيان ذلك لا ينافي ثبوت الإطلاق له بلحاظ الإحراز أيضا بمقتضي الحكم فيه بترتيب أثر الحيض بمجرد رؤية الدم فيه، و لا سيما مع تنبيه السائل علي استمراره ثلاثة أيام أو أربعة الذي هو دخيل في حيضيته، فعدم التعرض في الجواب لاعتبار ما زاد علي ذلك في التحيض ظاهر في عدمه و الاكتفاء بما ذكره السائل.

نعم، سبق احتمال تقييده في الحامل بغير الدم الأصفر، فلا مجال للتمسك

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 14.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 177

______________________________

بإطلاقه في غير الحامل لو تم إلغاء خصوصيتها، لأنه فرع إرادة إطلاقه في مورده، بخلاف التعليل، فإنه راجع إلي كبري مستدل بها علي حكم المورد، فلا يلزم من تقييد الحكم في مورد الاستدلال بها تقييدها. فلاحظ.

و منها: موثق عبد اللّه بن المغيرة عن أبي الحسن الأول عليه السّلام: «في امرأة نفست فتركت الصلاة ثلاثين يوما، ثم طهرت، ثم رأت الدم بعد ذلك. قال: تدع الصلاة، لأن أيامها أيام الطهر قد جازت مع أيام النفاس» «1»، لظهوره في الاكتفاء في البناء علي حيضية الدم بعدم مانعية ما يتوهم مانعيته، و هو عدم تخلل الطهر، لمضي أيامه مع أيام النفاس.

و مقتضي ارتكازية التعليل إلغاء خصوصية النفاس في ذلك، خصوصا مع كون الحيض أبعد مع مسبوقيته باستمرار الدم، فيكون مرجع التعليل إلي الاكتفاء في البناء علي الحيضية بعدم المانع منها.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه في مقام بيان عدم مانعية الدم الأول عن حيضية الثاني التي توهمها السائل، و إن كان مسلما، إلا أن الحكم فيه بترك الصلاة ظاهر في إرادة فعلية التحيض لأجل عدم المانع، لا مجرد إمكانه و إن لم يكن فعليا لعدم إحراز حيضية الدم.

و مثله دعوي: أن ظهوره في كون تمام الثلاثين يوما نفاسا مانع من التمسك به.

لاندفاعها بأن ذلك لم يتضمنه كلام الإمام عليه السّلام و إنما فرض السائل عمل المرأة عليه، و لا مجال لاستفادة إمضاء الإمام عليه السّلام لذلك بعد عدم سوق السؤال له، بل لمعرفة حكم الدم الثاني، و بعد حكمه عليه السّلام بجواز أيام الطهر مع أيام النفاس، إذ كما يمكن حمله علي جواز أيام الطهر التي تعودتها فيما سبق- و إن لم يكن لها طهر فعلا- مع أيام النفاس الحقيقية، فيدل علي إمضاء كون تمام الثلاثين نفاسا و إلي عدم اعتبار فصل أقل الطهر في مورده، كذلك يمكن حمله علي جواز أيام طهرها الحقيقية الفعلية

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب النفاس حديث: 1.

ص: 178

______________________________

مع أيام النفاس التي تخيلتها، فيدل علي الردع عن كون تمام الثلاثين نفاسا و أن بعضها طهر حقيقة و تحقق الفصل بأقل الطهر، و الثاني أنسب بعدم اشتمال الحديث علي فرض كون المرأة ذات عادة و أن ولادتها في أيام عادتها، و بظهوره في المفروغية عن اعتبار فصل أقل الطهر علي أن عدم العمل به في ذلك لا يستلزم عدم العمل بالكبري المستفادة من التعليل فيه، فإنها أجنبية عنه.

و منها: جملة من النصوص الحاكمة بالتحيض بالدم من دون تنبيه إلي لزوم إحراز حيضيته مثل ما ورد في الاشتباه بدم العذرة «1» من الحكم بالتحيض بمجرد انغماس القطنة، مع وضوح أنها علامة علي عدم كون الدم من العذرة، لا علي كونه حيضا.

و ما ذكره غير واحد من أن موردها ما إذا علم من الخارج انتفاء الثالث، غير ظاهر المأخذ، بل قد يأباه ما في بعضها من فرض عدم طمث المرأة قبل ذلك. و مجرد ما تضمنه بعضها من اختلاف القوابل في أنه من الحيض و العذرة لا يقتضي الانحصار بهما.

و أما ما في الجواهر من أنه لو كان البناء علي قاعدة الإمكان لم يحتج للاختبار.

فيدفعه أن ذلك إنما يدل علي عدم الرجوع للقاعدة من دون اختبار، أو علي اختصاصها بالدم الذي يعلم أنه من الرحم، و لا يمنع من دلالتها علي الرجوع إليها بعد الاختبار و انكشاف كون الدم من الرحم.

نعم، قد تتم دعوي الاختصاص بما إذا علم بعدم الدم الثالث فيما ورد في الاشتباه بالقرحة، لقول السائل: «و الدم سائل لا تدري من دم الحيض أو من دم القرحة» «2»، و إن كان الظاهر أنه لا منشأ للتردد بينهما إلا سيلان الدم القابل لهما و لغيرهما، فيدل بالتقرير علي المفروغية عن أن الدم السائل يبني علي حيضيته مع العلم بكونه من الرحم.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب الحيض.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 179

______________________________

و كذا حديثا محمد بن مسلم «1» المتقدمان في اعتبار التوالي في ثلاثة الحيض و صحيح عبد الرحمن «2» المتقدم هناك- و هنا عند الكلام في مقدار التقدم عن العادة- المتضمنة أن ما يري قبل العشرة من الحيضة الأولي، و ما يري بعدها من الحيضة المستقبلة.

و ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنها مسوقة لبيان إلحاق الدم المفروغ عن حيضيته بإحدي الحيضتين. ممنوع لعدم الإشعار فيها بالمفروغية عن حيضية الدم الذي أخذ في موضوعها، بل قد يأباه فرض السائل في الأخير تعجيل الدم قبل أيام القرء المناسب للتشكيك في حيضيته.

و مثلها صحيح العيص: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن امرأة ذهب طمثها سنين [سنة] ثم عاد إليها شي ء. قال: تترك الصلاة حتي تطهر» «3».

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن التعبير فيه بالعود يصلح قرينة علي اختصاصه بصورة إحراز الحيض بالعلم أو العلمي، و كأن الوجه في السؤال احتمال كون انقطاعه مدة طويلة مانعا عنه شرعا.

فهو كما تري، لا يناسب العدول في فاعل (عاد) من ضمير: (طمثها) إلي (شي ء) الظاهر في الابهام، و لا سيما مع مناسبة الانقطاع للجهل بحال الدم. كما أنه يبعد جدا كون منشأ السؤال احتمال مانعية الانقطاع من ترتب أحكام الحيض عليه.

ثم إنه لا يخفي أن كلا من هذه النصوص و إن اختص ببعض الموارد، فالأول مختصة بالاشتباه بالعذرة أو القرحة، و نصوص التفصيل بين ما قبل العشرة و ما بعدها مختصة بمن تقدم منها الحيض دون المبتدأة، و صحيح العيص مختص بقسم منها و هي التي انقطع حيضها ثم عاد، إلا أن إلغاء خصوصية مواردها قريب جدا. و لا أقل من الاستدلال بمجموعها علي العموم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 11، و باب: 11 من الأبواب المذكورة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب العدد من كتاب الطلاق حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 32 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 180

______________________________

نعم، الجمود علي لسانها يقتضي البناء علي حيضية الدم في مواردها واقعا- لا ظاهرا، كما هو مفاد قاعدة الإمكان- إلا أن من القريب تنزيلها علي القضية الظاهرية بلحاظ المفروغية عن أصالة كون الدم حيضا، فتطابق مفاد التعليلات السابقة، كما تقدم تنزيل إطلاق تحيض الحامل بالدم علي القضية الظاهرية بلحاظ التعليلات الواردة فيها. و لا سيما مع بعد انحصار الدم في الحيض و ارتكاز عدم المانع من خروج غيره.

هذا و قد يستدل علي القاعدة بنصوص أخر، كصحيح يونس بن يعقوب:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: المرأة تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة. قال: تدع الصلاة. قلت:

فإنها تري الطهر ثلاثة أيام أو أربعة. قال: تصلي. قلت فإنها تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة [أيام] قال: تدع الصلاة … تصنع ما بينها و بين شهر فإن انقطع الدم و إلا فهي بمنزلة المستحاضة» «1».

و صحيح أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تري الدم خمسة أيام و الطهر خمسة أيام و تري الدم أربعة أيام و تري الطهر ستة أيام. فقال: إن رأت الدم لم تصل، و إن رأت الطهر صلت ما بينها و بين ثلاثين يوما، فإذا تمت ثلاثون يوما فرأت دما صبيبا اغتسلت و استثفرت … » «2» حيث لا طريق لإحراز حيضية الدم خصوصا مع هذا الاضطراب لو لا قاعدة الإمكان.

و موثق سماعة في الجارية أول ما تحيض فتقعد في شهر يومين و في آخر ثلاثة حيث قال عليه السّلام: «فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت تري الدم ما لم يجز العشرة … » «3»،

حيث حكي عن بعض مشايخنا الاستدلال به علي جريان القاعدة في المبتدأة، لظهوره في أن المدار في ترك الصلاة علي رؤية الدم.

و كذا نصوص الاستظهار الحاكمة بالتحيض بالدم المستمر بعد العادة قبل العشرة «4»، و نصوص الاستبراء الحاكمة ببقاء الحيض بخروج شي ء من الدم علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب الحيض حديث: 1.

(4) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض.

ص: 181

______________________________

القطنة «1»، و ما تضمن أن الصفرة في أيام الحيض حيض «2»، بناء علي أن المراد بها أيام إمكانه، كما سبق من جماعة، و نصوص إفطار الصائمة برؤية الدم في النهار «3»، إذ لا يقين بحيضية الدماء المذكورة في هذه النصوص.

لكن ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه لزوم حمل الصحيحين علي المتحيرة، فتتحيض بكل دم لاحتمال كونه هو الحيض، دون غيره، حتي يتضح لها الحال، لا أنها تبني علي حيضية كل منها، إذ البناء علي أن الجميع حيض واحد مستلزم لتجاوز الحيض العشرة، و علي أن كلا منها حيض مستقل لكون الطهر بين الحيضتين دون العشرة.

و ما ذكره و إن كان متينا- كما ذكره غير واحد و سبق عند الكلام في حكم النقاء المتخلل بين الدميين- إلا أنه لا ينافي الاستدلال بهما علي المطلوب، لوضوح أنه لو لا لزوم التحيض بكل دم يمكن حيضيته لم يبن علي حيضية شي ء من الدماء المذكورة، بل البناء علي حيضية كل منها عند الابتلاء به يقتضي البناء علي حيضية الدم المنفرد بالأولوية.

نعم، استشكل سيدنا المصنف قدّس سرّه في الاستدلال بهما علي القاعدة، قال:

«لامتناع الحيض في تمام الشهر، فتكون متعارضة التطبيق بالإضافة إلي كل واحد من الدماء. و خروج الدم السابق عن محل الابتلاء بالإضافة إلي بعض الأحكام لا يقدح في التعارض، و لو بالإضافة إلي بعض الأحكام الأخر، مثل قضاء الصلاة».

و ما ذكره لا يخلو عن وجه، حيث لا إشكال ظاهرا في وجوب القضاء بانكشاف عدم الحيض لعموماته، و لخصوص مرسلة يونس القصيرة فيمن رأت الدم يومين و لم يتم لها ثلاثة في ضمن العشرة «4».

و من هنا لا مجال لحمل الأمر بترك الصلاة علي إحراز حيضية الدم بالقاعدة،

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض.

(2) راجع الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض.

(3) راجع الوسائل باب: 50 من أبواب الحيض.

(4) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 182

______________________________

بل لعل الأقرب حمله علي الاحتياط تقديما لاحتمال الحيض علي احتمال الطهر في الصلاة لأهميته، أو للتسهيل تجنبا للحرج باعمال أحكام المستحاضة، فإن أمكن ذلك و رفعت اليد عن لزوم الاحتياط بالصلاة برجاء المطلوبية، و إلا تعين طرحها. و علي كل حال لا مجال للاستدلال بهما علي قاعدة الإمكان.

و أما ما عن بعض مشايخنا من أن لزوم التأويل و التصرف في الفقرات المتأخرة من صحيح يونس لا يمنع من الاستدلال بالفقرة الأولي منه، لأنها مستقلة سؤالا و جوابا، بخلاف صحيح أبي بصير، لاشتماله علي سؤال واحد عن مجموع الدماء.

فهو لا يخلو عن إشكال، لأن إجمال الفقرات المتأخرة من صحيح يونس إنما هو لامتناع حيضية جميع الدماء المذكورة فيه، و هو يقتضي إجمال الفقرة الأولي أيضا، لعدم المرجح لها، و لا سيما مع الحكم في ذيله بأنها تصنع ذلك إلي شهر، لظهوره في كون تمام الفقرات متضمنة وظيفة واحدة في تمام الشهر، و المفروض عدم البناء علي ذلك.

و أما موثق سماعة فظاهر قول السائل فيه: «أول ما تحيض» المفروغية عن حيضية الدم، فيكون أجنبيا عما نحن فيه.

كما أن نصوص الاستظهار- مع اختلافها في قدره و حكمه- مختصة بموردها، و محتملة للجري علي الاستصحاب دون قاعدة الإمكان، كما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و مثلها نصوص الاستبراء. كما تقدم أن حمل النصوص المتضمنة أن الصفرة في أيام الحيض حيض علي أيام الإمكان مخالف لظاهرها، بل للمقطوع به من بعضها.

و أما نصوص إفطار الصائمة برؤية الدم فهي واردة لبيان مفطرية الدم في أي جزء وقع من النهار، لدفع احتمال عدم مفطرية الحيض الواقع في أثنائه، كما تضمنته بعض النصوص، فلا إطلاق لها في حيضية الدم، لتنفع فيما نحن فيه، كما نبه له غير واحد.

و من هنا يتعين الاقتصار في الاستدلال علي ما تقدم مما هو تام دلالة و سندا، و كفي به دليلا يخرج به عن استصحاب عدم الحيض. و منه يظهر ضعف ما في جامع المقاصد من أنه لو لا الإجماع لكان الحكم بذلك مشكلا، لابتنائه علي ترك المعلوم ثبوته

ص: 183

______________________________

في الذمة تعويلا علي مجرد الإمكان، و ما عن الأردبيلي من اختصاص الحكم بالحيضية بما إذا امتنع غيرها، الذي هو في الحقيقة إنكار للقاعدة.

و مثله ما في المدارك من اختصاص ذلك بما إذا كان الدم بصفة الحيض أو في العادة، لعموم ما دل علي حجية الصفات علي حيضية الدم، و علي أن الصفرة في أيام الحيض حيض. لظهور كلامه في عدم نهوض الأدلة بعموم التحيض بالدم، و قد عرفت نهوض ما تقدم من النصوص بذلك.

نعم، قد يدعي لزوم رفع اليد عن العموم المذكور بما تضمن عدم حيضية فاقد الصفات، و هو موقوف علي ثبوت عموم حجية الصفات نفيا و إثباتا.

و لا بد في إثباته أو نفيه من النظر في النصوص الدالة عليه، و هي صحيح معاوية بن عمار: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن دم الاستحاضة و الحيض ليس يخرجان من مكان واحد، إن دم الاستحاضة بارد، و إن دم الحيض حار» «1»، و صحيح حفص بن البختري: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام امرأة فسألته عن المرأة يستمر بها الدم، فلا تدري أحيض هو أو غيره؟ قال: فقال لها: إن دم الحيض حار عبيط أسود له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة أصفر بارد، فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة … » «2»، و ما في موثق إسحاق بن جرير الوارد في مستمرة الدم أيضا: «قالت له: إن أيام حيضها تختلف عليها … فما علمها به؟ قال: دم الحيض ليس به خفاء، هو دم حار تجد له حرقة، و دم الاستحاضة دم فاسد بارد» «3»، و ما في مرسلة يونس الطويلة في المستحاضة التي اختلطت أيامها من قوله عليه السّلام: «فقال لها النبي صلّي اللّه عليه و آله: ليس ذلك بحيض، إنما هو عرق، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغسلي عنك الدم و صلي … فهذا يبين أن هذه امرأة قد اختلط عليها أيامها … فلهذا احتاجت أن تعرف إقبال الدم من إدباره و تغير لونه من السواد إلي غيره، و ذلك أن دم الحيض أسود يعرف … » «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 184

______________________________

و قد صرح في الروض و المدارك بأن الصفات المذكورة في النصوص بمجموعها خاصة مركبة للحيض. و كأن مرادهما أن الخاصة المركبة هي غلبة عروضها، لا فعليتها، ليناسب ما ذكراه هما و غيرهما من الأصحاب و يستفاد من النصوص من أنها صفات غالبية لا دائمية، فلا يكون وجودها أو عدمها دليلا قطعيا علي الحيض أو عدمه.

لكن صرح في المدارك بأن مقتضي نصوص الصفات أنها متي وجدت حكم بحيضية الدم، و متي انتفت حكم بعدمها إلا بدليل من خارج، و حكاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن بعض من تأخر عنه، و هو راجع إلي الأمارية المستلزمة للحكم بأحد الأمرين ظاهرا لا واقعا.

الكلام في عموم حجية الصفات

و لا يخفي أن الحكم بحيضية الدم الواجد للصفات لا يحتاج فيه لهذه النصوص، حيث يكفي فيه عموم النصوص التي تقدم الاستدلال بها لقاعدة الإمكان، و إنما المهم الحكم بعدم حيضية الفاقد لها، لكونه مخالفا لعموم نصوص القاعدة.

فكأن الوجه فيه استفادة عموم حجيتها وجودا و عدما من النصوص السابقة، و عدم الاقتصار فيها علي مستمرة الدم و نحوها- ممن لا مجال فيها لقاعدة الإمكان، للتعارض في تطبيقها- إما لإطلاق صحيح معاوية، أو لأن ورود باقي النصوص المتقدمة في مستمرة الدم لا يوجب اختصاصها بها، لما في كلام بعضهم من أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد.

لكن قد يستشكل في الاستدلال بصحيح معاوية بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن المنساق من ذكر صفات الحيض لزوم الحكم به معها، لا بانتفائه بدونها.

و فيه: أنه إنما يتم فيما إذا كان بيان الصفات بلسان بيان علامات الحيض، دون ما إذا كان بلسان القضية الحملية الظاهرة في الكلية و لزوم المحمول للموضوع- دون المهملة- كما في المقام، حيث يلزمها انتفاء الموضوع بانتفاء المحمول.

غايته أن ثبوت تخلف الصفة في بعض الموارد ملزم بحملها علي القضية الغالبية سيقت للتعبد بمقتضي الغلبة ظاهرا، و هو عدم حيضية فاقد الصفة. علي أن فقد صفة

ص: 185

______________________________

الحيض لما كان مستلزما لتحقق صفة الاستحاضة، كان مقتضي الصحيح المذكور الحكم بها في الدم الفاقد للصفة. و سيأتي إن شاء اللّه تعالي تمام الكلام في ذلك.

فالعمدة في الإشكال في الصحيح أنه لا قرينة علي سوق ذكر الصفات فيه لبيان حجيتها، بل قد يكون الغرض منه التنبيه لما قد يوجب العلم بالحيضية و لو بضميمة بعض القرائن غير المنضبطة.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن حمل الكلام علي غير مقام التشريع مع الحاجة إليه خلاف الأصل في الكلام الصادر من الشارع، إنما يتم مع إحراز صدور الكلام بداعي الحث علي العمل لو تردد بين كونه بداعي التشريع و كونه بداع آخر من إرشاد أو بيان مراد المتكلم الشخصي أو نحوهما، لا في مثل المقام مما لا قرينة فيه علي ذلك، بل احتمل كون الغرض التنبيه لما يوجب العلم.

و لو فرض الظن أو الاطمئنان و لو بالنظر لبقية النصوص بسوق الصحيح لبيان الحجية فلا طريق لإثبات عمومها به، بل قد تختص بمستمرة الدم.

و دعوي: أنه مخالف للإطلاق. مدفوعة بأن ذلك إنما يتم لو كانت الحجية مفاد نفس الكلام، لا في مثل المقام، حيث كان مفاد الكلام قضية واقعية سيقت لبيان الحجية، لأن ذلك راجع إلي احتفاف الكلام بقرينة توجب صرفه لذلك من سؤال أو نحوه، فمع تردد القرينة بين ما يقتضي العموم و ما يقتضي الخصوص لا طريق لإحراز العموم، لأن أصالة الإطلاق إنما يعول عليها عند الشك في قرينة التقييد، لا مع تردد مفاد القرينة بين التقييد و الإطلاق.

هذا و قد عمم المحقق الخراساني قدّس سرّه الإشكال المذكور لصحيح حفص و موثق إسحاق، لأن لسانهما في ذكر الصفات لا يتضمن الإرجاع إليها تعبدا، بل بيان اتصاف الحيض بها بنحو القضية الواقعية، و أما مرسلة يونس فهي و إن تضمنت الإرجاع، إلا أنها لم تتضمن الإرجاع لصفات الحيض، بل لإقبال الدم و إدباره و إن كان الدم بتمامه بصفات الحيض أو بصفات الاستحاضة.

ص: 186

______________________________

لكنه يشكل بأن اشتمال الصحيح و الموثق علي السؤال عن حكم اشتباه الدم موجب لظهور الجواب فيهما في سوق القضية الواقعية الغالبية ليعمل عليها عند الاشتباه، بل هو صريح قوله عليه السّلام في الصحيح: «فإذا كان للدم حرارة و دفع فلتدع الصلاة».

كما أنه لو تم ما ذكره في مرسلة يونس أمكن جريانه في غير مستمرة الدم لو اختلف دمها، فيحكم بحيضية الأشد منه، لا بحيضية تمامه، عملا بعموم قاعدة الإمكان.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في أن مفاد النصوص الأخيرة الثلاثة في حجية الصفات بنحو يمكن أن يرجع إليها في غير مستمرة الدم.

و إنما الإشكال في عمومها لها، كما عرفته ممن سبق، أو اختصاصها بمستمرة الدم، كما أصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره و نسب للمشهور، و يناسبه ما تقدم من الأصحاب في قاعدة الإمكان.

الظاهر الثاني لأن المورد إنما لا يخصص الوارد فيما لو كان لسان الوارد عاما، و لا مجال لذلك في هذه النصوص، لأن ما تضمنته من اتصاف الحيض بالصفات المذكورة، و إن كان يعم كل حيض و لا يختص بحيض مستمرة الدم، لإطلاق لفظ (الحيض) في هذه النصوص، و لمناسبته لظهور كون الصفات طبيعية له، و الاستمرار من العوارض التي لا دخل لها بطبيعة الدم ارتكازا، إلا أن الاتصاف المذكور لما كان غالبيا لا دائميا لم يمكن الرجوع إليه في معرفة حيضية الدم و عدمها إلا بإرجاع الشارع إليه، و المتيقن من إرجاعه إليه حال استمرار الدم الذي هو مورد النصوص.

و لا مجال لإلغاء خصوصية الاستمرار مع قوة احتمال دخلها، بلحاظ عدم جريان قاعدة الإمكان فيه، لامتناع كونه حيضا بتمامه، فكما أمكن عدم رجوع ذات العادة إليها للاستغناء عنها بحجية العادة كذلك يمكن عدم رجوع غير مستمرة الدم إليها للاستغناء عنها بقاعدة الإمكان.

و دعوي: أن سوق قوله عليه السّلام في صحيح حفص: «ان دم الحيض حار … »

و قوله عليه السّلام في مرسلة يونس: «و ذلك أن دم الحيض أسود يعرف … » تمهيدا للحكم

ص: 187

______________________________

بالتحيض بواجد الصفات و تعليلا له ملزم بالتعدي عن مورده تبعا لعموم العلة.

مدفوعة بأن التعدي عن مورد التعليل مختص بما إذا كانت ارتكازية التعليل مناسبة لإلغاء خصوصية مورده، و هو إنما يتم لو كانت القضية في التعليل كلية، دون ما إذا كانت غالبية، لعدم وضوح عموم أمارية الغلبة ارتكازا، بل لا يبعد عن الارتكاز اختصاصها بما إذا احتيج إليها و لم يكن هناك مرجع آخر من أصل أو أمارة، و لعله لهذا تضمنت مرسلة يونس تعليل رجوع من اختلطت عليها أيامها للصفات بالحاجة إليها بسبب تعذر الرجوع للعادة.

نعم، قد يتعدي من المستمر لما يشبهه في عدم جريان قاعدة الإمكان، كالدم المتقطع الذي لا يمكن كونه بتمامه حيضا، كما تضمنته بعض النصوص «1». فلاحظ.

و دعوي: أن ظاهر قول المرأة في صحيح حفص: «و اللّه أن لو كان امرأة ما زاد علي هذا» و قول الأخري في موثق إسحاق: «أ تراه كان امرأة مرة» كون الرجوع للصفات المذكورة ارتكازيا عرفيا، لأجل كونها من صفاته الطبيعية، لا تعبديا مغفولا عنه عرفا.

مدفوعة بأن ارتكازية الرجوع للصفات المذكورة لا تناسب ظهور الحديثين في تحير المرأتين في تمييز الحيض، و كلامهما إنما يدل علي تعجبهما من إحاطة الإمام عليه السّلام بصفات الدم و دقة وصفه له بما لا يدركه عادة إلا النساء، لا علي ارتكازية الإرجاع للصفات. علي أن ارتكازية الارجاع لها في مورد الحديثين، و هو استمرار الدم لا يستلزم عموم ارتكازيته لغيره.

و من جميع ما سبق يظهر عدم إمكان الاستدلال بما تضمنته هذه النصوص من ذكر صفات دم الاستحاضة. بدعوي: أن الصفات المذكورة لما كانت مضادة لصفات الحيض و كان فقد صفات الحيض مستلزما لها، فيلزم لأجلها البناء علي كون الدم استحاضة لا حيضا.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض.

ص: 188

______________________________

لاندفاعه بأن ذكر صفات الاستحاضة لما كان غالبيا كذكر صفات الحيض، جري فيه ما سبق من عدم الرجوع إليه إلا بإرجاع الشارع، و المتيقن من إرجاعه صورة استمرار الدم.

نعم، لو تم سوق صحيح معاوية بن عمار لبيان حجية الصفات مطلقا اتجه الاستدلال المذكور فيه، كما تقدم.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الظاهر من الاستحاضة في تلك الأخبار- علي ما يساعد عليه تتبع الأخبار و تصريح أهل اللغة- هو الدم المتصل بدم الحيض، بل خصوص الكثير من أقسامها.

فهو و إن كان قريبا في الجملة، إلا أن خصوصية الاتصال ملغية عرفا- بل قطعا- في اتصاف الدم بصفاته، بل هو تابع لخصوصيته الذاتية، فإذا كانت الصفات المذكورة من شئون الدم المتصل بالحيض الخارج عنه كانت من شئون ذاته و إن خرج وحده و لم يتصل بالحيض، فلو كان دليل علاميته مطلقا شمل حال خروجه وحده، و احتمال كون المتصل بالحيض مخالفا للخارج وحده في الصفات الطبيعية بعيد جدا.

هذا و قد يدعي أن قول المرأة في صحيح حفص: «فلا تدري [حيض] أحيض هو أو غيره» ظاهر في احتمال كون الدم كله حيضا، و هو يناسب ما كان دون العشرة، فليحمل الاستمرار فيه علي الزيادة علي العادة.

لكنه يندفع بأن عدم احتمال كون الدم بتمامه حيضا مع الزيادة علي العشرة إنما هو بالنظر لعموم الأدلة الشرعية، و هو كعدم احتمال كونه بتمامه غير حيض مع النقيصة عنها و التجاوز عن العادة، أما مع قطع النظر عنها فالاحتمال المذكور ممكن كالاحتمال الآخر الذي يتضمنه السؤال أيضا.

و من هنا كان من القريب جدا الحمل علي الاستمرار مع الزيادة علي العشرة أو ما زاد علي ذلك علي ما يأتي في محله، لأن التجاوز عن العادة من دون تجاوز للعشرة بسبب تعارفه كثيرا لا يعتد به في احتمال عدم الحيض، بل هو لا يناسب السؤال، لعدم

ص: 189

______________________________

الإشارة فيه لكون المرأة ذات عادة، و لا الجواب للبناء منهم تبعا للنصوص علي حيضية ما في العادة، بل ما زاد عليها في الجملة من دون نظر للصفات. فيتعين حمل الجواب علي تمييز الحيض عن غيره في مستمرة الدم، لا بيان أن الدم كله حيض أو كله استحاضة.

قصور قاعدة الإمكان عن الصفرة

و من هنا يتعين الاقتصار في حجية الصفات علي مستمرة الدم و نحوها ممن لا تجري في حقها قاعدة الإمكان، كما يؤيده عدم الإشارة إليها في نصوص قاعدة الإمكان المتقدمة، مع أن فيها ما ورد في مورد قوة احتمال عدم الحيض الذي يناسب فيه التنبيه إلي أمارات عدمه، مثل نصوص الحامل و موثق عبد اللّه بن المغيرة في النفساء و صحيح عبد الرحمن فيمن تعجل بها الدم- المصرح بعموم فرضه لما إذا كان بعد الحيض السابق بأقل من عشرة أيام أو أكثر- و صحيح العيص فيمن انقطع عنها الحيض مدة طويلة.

بل قد يظهر في تأخر مرتبة الصفات ما تقدم في صحيح يونس فيمن يتكرر منها كل من الدم و الطهر ثلاثة أيام أو أربعة من جعلها بعد الشهر بمنزلة المستحاضة التي ترجع للصفات في مرتبة متأخرة عن العادة، إذ لو كانت الصفات محكمة علي قاعدة الإمكان كان المناسب الإرجاع إليها من أول الأمر.

كما يناسبه تأخر أمارية الصفات في مستمرة الدم عن أمارية العادة المتأخرة عن قاعدة الإمكان رتبة، حيث لا يرجع للعادة في نفي حيضية الدم إلا مع تعذر جريان قاعدة الإمكان فيه.

مضافا إلي ظهور تسالم من سبق من الأصحاب علي عموم قاعدة الإمكان، فإنه لو فرض عدم حجية دعاوي الإجماع المتقدمة منهم، إلا أن خفاء مثل هذا الحكم الذي يكثر الابتلاء به عليهم في غاية البعد، فتسالمهم علي اختصاص الرجوع للصفات بمستمرة الدم مع كون نصوصها نصب أعينهم قد اعتمدوا عليها فيها من أقوي المؤيدات لقصور النصوص المذكورة عن غيرها، و أنه يتعين الرجوع فيها إلي عموم نصوص قاعدة الإمكان المتقدمة.

نعم، لا مجال لعمومها للصفرة، لما تقدم من النصوص علي أنها في غير أيام

ص: 190

______________________________

الحيض ليست بحيض، علي التفصيل المتقدم فيها، و قد سبق لزوم العمل بها بعد عدم ظهور الإعراض الموهن لها، لتصريح غير واحد بمضمونها.

و لا يمنع منه ما تضمن وجوب التحيض بالدم إذا استمر ثلاثة أيام- كبعض ما تقدم في الاستدلال لقاعدة الإمكان- إما لقصوره عن الصفرة، لانصراف الدم لغيرها، أو للزوم تخصيصها له و إن كان بينهما عموم من وجه، لأن تنزيله علي غير الصفرة أهون عرفا من تنزيل الصفرة علي ما لا يبلغ ثلاثة أيام، لأن الثاني مستلزم لإلغاء خصوصية الصفرة، و هو خلاف ظاهر نصوصها جدا.

كما أنها لا تنافي الإجماعات المتقدمة المصرح في معقدها بعموم قاعدة الإمكان لفاقد الصفات، لأن موضوعها الدم، و هو منصرف عن الصفرة، و لا أقل من خروجها عن المتيقن منه.

نعم، سبق من الشيخ و غيره أن الصفرة و الكدرة في أيام إمكان الحيض حيض.

لكن سبق أن ظاهر هم العمل بهذه النصوص بعد فهم ذلك منها، لا الإعراض عنها.

كما سبق من القواعد تعميم القاعدة للدم الأصفر و عن نهاية الأحكام دعوي الإجماع علي ذلك. فإن أمكن تنزيلهما علي الدم الخفيف دون الصفرة التي يشكل صدق الدم عليها عرفا فهو، و إلا فلا مجال للتعويل علي دعوي الإجماع بعد ما سبق من جملة من الأصحاب من عدم حيضية الصفرة في غير أيام الحيض، و أن ظاهر الناصريات الإجماع عليه. كما أنا ذكرنا آنفا أن عدم حيضية الصفرة لا تستلزم عدم حيضية فاقد الصفات مطلقا، لأنها أخص منه أو هو منصرف عنها.

و من هنا يتعين البناء علي عموم قاعدة الإمكان في غير الصفرة.

بقي الكلام في مورد القاعدة،
اشارة

فإن المتيقن منها ما لو شك في حيضية الدم الواجد لتمام الشروط المعتبرة و المحتملة في الحيض، لما سبق من أن واجدية الدم لشروط الحيض لا تستلزم حيضيته، لعدم الدليل علي حيضية كل واجد لها، بل لسان أدلتها حيضية الواجد لها في الجملة، فيتحقق فيه موضوع القاعدة.

ص: 191

و الذي ينبغي الكلام فيه هو جريانها في موارد أخر..
الأول: ما إذا شك في اعتبار بعض الشروط المفقودة بنحو الشبهة الحكمية.

______________________________

كالتوالي في ثلاثة الحيض، و في اعتبار عدم تجاوزها الخمسين.

و قد قرب صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم (قدس سرهما) قصورها عنه، لأن الظاهر من الإمكان ليس هو مجرد الاحتمال و إن أوهمته بعض عباراتهم، بل الإمكان الواقعي بالنظر للشرائط الواقعية، فمع الشك في اعتبار شي ء يشك في الإمكان الذي هو موضوع القاعدة.

لكن لا ينبغي الإطالة في معني الإمكان الذي هو موضوع القاعدة، و أنه بمعني الاحتمال، أو الإمكان الظاهري للاقتصار علي ما علم اعتباره، أو الواقعي بالنظر لما احتمل اعتباره أيضا، لعدم أخذه في شي ء من نصوص القاعدة، و إنما وقع في عبارات الفقهاء علي اختلاف بينها فيما هو الظاهر منه، فاللازم النظر في النصوص المتقدمة و أنها تشمل مورد الشك أو لا.

و المناسب للكلام في قاعدة الإمكان التي هي ظاهرية و إن كان هو الكلام في دلالة النصوص علي نفي اعتبار ما يشك في اعتباره ظاهرا، إلا أن اللازم التعرض قبل ذلك لدلالة هذه النصوص أو غيرها علي نفيه واقعا لتمامية إطلاقها من هذه الجهة أو عدم دلالتها عليه، لأن ذلك مقدم رتبة علي النفي الظاهري، و لعدم تعرضهم له في مقام آخر.

فنقول: لا مجال للبناء علي ظهور النصوص المتقدمة في نفي ما قد يشك في اعتباره في الحيض واقعا، لأنها و إن أطلق فيها التحيض بالدم، إلا أنها ليست بصدد بيان حيضية الدم المرئي، ليتمسك بإطلاقها، بل في مقام البيان من جهات أخر، كإمكان التعجيل عن العادة أو الحيض من الحامل، و عدم مانعية الانقطاع مدة طويلة أو تخلل دم النفاس من حيضية الدم، و إلحاق الدم بإحدي الحيضتين.

فلا بد من حمل الدم فيها علي الواجد لشروط الحيض، و لذا لا تكون أدلة

ص: 192

______________________________

الشروط منافية لها مقيدة لإطلاقها، و إلا لزم كثرة التقييد فيها بالنحو المستهجن، لعدم التعرض في كثير منها لشي ء من الحدود و الاقتصار علي عنوان الدم.

نعم، لا يبعد الإطلاق في صحيح صفوان في الحبلي تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة، لأن الاقتصار في بيان حدّ الدم علي الثلاثة أو الأربعة ظاهر في عدم اعتبار ما عداه، فيكتفي بذلك في غير الحامل بعدم الفصل.

و دعوي: أنه ليس واردا لبيان تحيضها واقعا، بل ظاهرا بقرينة النصوص المتضمنة الاكتفاء في تحيض الحامل باحتماله، كما تقدم، فلا مجال لإحراز عدم اعتبار ما عدا ذلك واقعا من الإطلاق.

مدفوعة بأنه حيث كانت وظيفة الإمام عليه السّلام رفع الشبهة الحكمية دون الموضوعية، فحكمه بالتحيض ظاهرا في الصحيح لا بد أن يكون من جهة الشبهة الموضوعية دون الحكمية، بل لو كان هناك ما يعتبر في حيضية الدم واقعا لكان المناسب منه عليه السّلام بيانه، ليعلم بعدم الحيض مع فقده، و لا يكتفي بإطلاق التحيض الظاهري إبقاء للشبهة الحكمية، فعدم بيانه و الاكتفاء ببيان الحكم الظاهري ظاهر في عدمه، و أن الحكم إنما كان ظاهريا للشبهة الموضوعية لا غير.

و دعوي: أن كثيرا من الأصول تجري في الشبهات الحكمية لإطلاق أدلتها.

مدفوعة بأن ذلك إنما يتم فيما إذا ورد الكلام لبيان حكم الشك- كنصوص الاستصحاب و قاعدتي الحل و الطهارة- لا ما إذا ورد لبيان عنوان واقعي- كالدم و الحيض و الماء و نحوها، كما في المقام- حيث يناسب بيان حكمه الواقعي الوارد عليه بنفسه، لا بسبب الجهل بحكمه الذي يتسني للإمام رفعه.

كما لا يبعد الإطلاق في نصوص اشتباه دم الحيض بدم العذرة للتصدي فيها لبيان حيضية الدم الذي يغمس القطنة. و لزوم تنزيلها علي حيضيته ظاهرا- لعدم انحصار الدم المذكور بالحيض- لا ينافي ذلك، لما ذكرنا من أن وظيفة الإمام رفع الشبهة من حيثية الحكم دون الموضوع.

ص: 193

______________________________

إلا أن يشكل بأن عدم ذكر الحد له قد يستلزم كثرة التخصيص فيه لو كان مطلقا من هذه الجهة. إلّا أن يكون فرض الكثرة في بعض هذه النصوص مستلزما لبلوغ الثلاثة أيام. فلاحظ.

و يمكن الاستدلال أيضا بمرسلة يونس القصيرة المتضمنة تحيض المرأة بالدم الذي تراه في عادتها ثلاثة أيام متوالية أو متفرقة في ضمن العشرة «1»، لأن خصوصية العادة لو كانت معتبرة فهي معتبرة في التحيض ظاهرا للشبهة الموضوعية، لا لدخلها في الحيض واقعا، فيكون مقتضي إطلاقها عدم اعتبار أكثر من بلوغ الدم ثلاثة أيام في حيضيته.

و لا مجال للاستدلال بإطلاق موثق سماعة في الجارية تحيض فتقعد في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة أيام المتضمن تحيضها كلما رأت الدم ما لم يتجاوز العشرة «2»، لظهوره في المفروغية عن حيضها بتحقق تمام ما يعتبر فيه، و عدم إمكان الالتزام بما تضمنه من إمكان تحيض المرأة يومين.

و كذا الاستدلال بإطلاق صحيحي يونس و أبي بصير «3» المتقدمين في ذيل نصوص قاعدة الإمكان، لما تقدم من عدم إمكان الالتزام بظاهرهما من التحيض بالدم المتفرق بتمامه، بل يطرحان أو يحملان علي الاحتياط.

اللهم إلا أن يقال: الاحتياط فرع الاحتمال، و حيث كان من وظيفة الإمام رفعه من حيثية الشبهة الحكمية كان عدم تعرضه لبعض ما يعتبر في حيضية الدم ليكون فقده موجبا للقطع بعدم حيضية الدم ظاهرا في عدم اعتباره و صلوح الدم المذكور فيهما للحيضية. فتأمل.

و كيف كان، فيكفي صحيح صفوان و مرسلة يونس في إثبات عدم اعتبار أمر غير بلوغ الدم ثلاثة أيام في حيضيته، لكنهما مختصان بما إذا بلغت المرأة سن الحيض،

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 3، 2.

ص: 194

______________________________

فكانت حاملا، كما في الصحيح، أو ذات عادة، كما في المرسلة، و لا إطلاق لهما من حيثية مبدأ سنه. كما لا ينهضان بإثبات حيضية ما زاد علي الثلاثة أو الأربعة إلي العشرة إلا بضميمة عدم الفصل، أو ما تضمن أن ما يري في ضمن العشرة فهو من الحيضة الأولي مما تقدم التعرض له في نصوص قاعدة الإمكان أو غير ذلك. كما أنهما مخصصان بما تضمن أن أقل الطهر عشرة أيام و ما تضمن بيان سن اليأس. و ليعمل علي إطلاقهما في غير ذلك.

نعم، الظاهر أنه لا خلاف فيما تضمنه الإطلاق المذكور إلّا في اعتبار التوالي في الثلاثة و إلحاق الليالي بالأيام اللذين تقدم الكلام فيهما مفصلا. و لا يحتمل تقييد هذا الإطلاق في غير ذلك، كي ينفع تنقيحه.

و دعوي: أن مجرد عدم الخلاف في ذلك لا يكفي في رفع الاحتمال، كما تري لا مجال لها في مثل المقام مما يعم به الابتلاء، لامتناع ضياع الشرط عادة لو بينه الشارع.

إذا عرفت هذا، يقع الكلام في نهوض نصوص قاعدة الإمكان المتقدمة بإثبات أصالة حيضية الدم عند الشك في اعتبار شي ء في الحيض بنحو الشبهة الحكمية، إما لدعوي عدم تمامية الإطلاق المتقدم أو في مورد إجماله، كما لو فرض إجمال الثلاثة أيام من حيثية دخول الليالي.

و لا ينبغي التأمل في قصور النصوص الأخيرة عن ذلك، لأن استفادة قاعدة الإمكان من نصوص التحيض في مواردها إنما هو بضميمة عدم انحصار الدم المفروض فيها بالحيض، و من الظاهر أن عدم الانحصار إنما هو لإمكان مشابهة غير الحيض له، و هو إنما يقتضي الاشتباه من حيثية الشبهة الموضوعية لا غير.

مضافا إلي ما أشرنا إليه آنفا من أن وظيفة الشارع رفع الشبهة الحكمية فلو كانت موارد تلك النصوص عامة لها كان المناسب رفعها بذكر ما يعتبر في الحيض و يكون فقده موجبا للعلم بعدمه.

كما أن النصوص الأول المتضمنة للتعليل بما لا يرفع احتمال عدم الحيض

ص: 195

______________________________

ترجع للتعليل إما بعدم مانعية الموجود كنصوص الحامل و التعجيل عن العادة أو بوجود الشرط كصحيح ابن المغيرة الوارد في النفساء المعلل بمضي أيام الطهر مع أيام النفاس، و هي إنما تقتضي عدم الاعتناء باحتمال عدم الحيض في فرض عدم المانع منه، و لا تعم ما إذا احتمل عدمه لاحتمال مانعية الموجود بنحو الشبهة الحكمية.

و تعميمها له موقوف علي فهم عدم الخصوصية للاحتمال الخاص في موردها، ليتعين حمل التعليل علي مطلق الاحتمال محافظة علي ارتكازيته، و لا مجال لذلك بعد قرب خصوصيته، لعدم تيسر رفعه للشارع الأقدس، بخلاف الشبهة الحكمية التي يتيسر له رفع الاحتمال من حيثيتها، و إن كان بيانه قد لا يصل للمكلف.

الثاني: ما لو شك في وجود شرط الحيض أو المانع منه بنحو الشبهة الموضوعية

كما لو شك في بلوغ المرأة سن الحيض أو اليأس منه أو مضي أقل الطهر أو نحوها.

و الظاهر قصور القاعدة عنه فلا تجري في نفسها، فضلا عن أن تنهض برفع اليد عن الأصل الذي قد يحرز عدم الشرط أو وجود المانع، لقصور نصوصها عنه.

أما النصوص الأخيرة فلما تقدم من أن استفادة القاعدة منها ليس لأخذ الشك في موضوعها، ليشمل المقام، بل لعدم انحصار الدم المفروض فيها بالحيض، لإمكان مشابهة غيره له، و المتيقن منها الاحتمال مع إحراز حدود الحيض الذي لا طريق لرفعه، حيث يكون عدم التنبيه للزوم إحراز الحيض ظاهرا في المفروغية عن كونه مقتضي الأصل حينئذ، أما مع عدم إحراز حدوده فلعل عدم التنبيه للزوم إحرازها للاتكال علي ما هو المرتكز من لزوم إحرازها، كسائر الأمور الدخيلة في إحراز الموضوع في سائر الأحكام.

و أما النصوص المتضمنة للتعليل فلما عرفت من اختصاصها بصورة عدم المانع من البناء علي الحيض، و لا مجال للتعدي لصورة الشك في المانع الذي يغلب تيسر إحراز وجوده أو عدمه للمكلف، نظير ما سبق في الشبهة الحكمية.

نعم، لو أحرز بالأصل وجود الشرط أو فقد المانع فلا إشكال في الرجوع للقاعدة، لإحراز موضوعها، و هو الاحتمال في فرض عدم المانع الشرعي.

ص: 196

______________________________

و منه يظهر عدم جريان القاعدة لإثبات التحيض برؤية الدم لو احتمل عدم استمراره ثلاثة أيام، خلافا للمنتهي، إلا أن يجري استصحاب بقائه الذي يأتي الكلام فيه في المسألة الآتية إن شاء اللّه تعالي، أو يتم ما يأتي في الفصل الخامس من كون موضوع القاعدة هو الإمكان بلحاظ الموانع السابقة علي الدم. فراجع.

و أظهر من ذلك ما لو كان الاشتباه مع الشك في موضوع الحيض، و هو كون من يخرج منه الدم امرأة، كما في الخنثي و الممسوح، حيث يزيد علي ما سبق بأخذ عنوان المرأة في جميع نصوص القاعدة، فلا بد في جريانها من إحراز ذلك.

الثالث: ما لو تردد الدم بين أن يكون من الرحم و أن يكون من جرح أو قرح في الفرج.

و ظاهر ما تقدم من المعتبر و المنتهي شمول قاعدة الإمكان له، لاستثنائهما صورة العلم بكون الدم لقرح أو عذرة.

لكنه في غاية الإشكال، لقرب انصراف الدم المسئول عنه في النصوص المشتملة علي التعليل للدم المعهود الذي يخرج من الرحم المفروغ عن قابليته لأن يكون حيضا لو لا احتمال المانع أو عدم الشرط المشار إليه فيها، و الاشتباه بغيره يبتني علي عناية تحتاج للتنبيه في السؤال و الجواب، كما تضمنته نصوص الاشتباه بالعذرة، فلا يحرز موضوعها لو احتمل عدم خروج الدم من الرحم.

و مثلها النصوص الأخيرة، لأن استفادة قاعدة الإمكان منها إنما هي بضميمة عدم انحصار الدم الذي أخذ في موضوعها بالحيض، لمشابهة غير الحيض له، و المعهود من الاشتباه هو الاشتباه في الدم الخارج من الرحم، كما هو المناسب للتعبير بالعود في صحيح العيص فيمن انقطع عنها الدم مدة و بالتعجيل في صحيح عبد الرحمن، فإنهما و إن لم يحملا علي عود الطمث و تعجيله لظهورهما في الشك في حيضية الدم، إلا أنه يقرب كون مصححهما مشابهة الدم الخارج للحيض في الخروج من الرحم.

بل هو كالمقطوع به في نصوص اشتباه دم الحيض بدم العذرة التي أنيط الحكم فيها بالحيضية بغمس القطنة، فإن الظاهر ابتناؤه علي المفروغية عن ملازمة الغمس

ص: 197

______________________________

لعدم كون الدم من الفرج لقرح أو جرح غير البكارة الموجبة للتطويق، لأن التنبيه علي البكارة ليس بأولي ارتكازا من التنبيه علي احتمال ذلك، فالاقتصار في التنبيه عليها ظاهر في المفروغية عن عدم غيرها في الفرج.

علي أنه لو بني علي التعميم لذلك أخذا بإطلاق الدم تعين التعميم لاحتمال كون الدم من الرعاف أو من جرح ظاهر أو دما واقعا عليها من الغير أو نحو ذلك مما لا يمكن الالتزام به، حيث يكشف ذلك عن الإشارة بالنصوص لمعهود خاص، فيقتصر فيه علي المتيقن، و هو الخارج من الرحم الذي يخرج من المرأة بما أنها امرأة، لا بما أنها انسان أو حيوان.

و عليه يتعين في الفرض الرجوع لمقتضي الحالة السابقة، من حيض أو عدمه، مع عدم تيسر الفحص عن الحيض، و أما مع تيسره فيجب علي ما تقدم في مسألة اشتباه دم الحيض بدم العذرة عند الكلام في وجوب الفحص. فراجع.

و منه يظهر قصور نصوص القاعدة عما لو كان طرف الترديد المقابل للحيض خروج الدم من قرح أو جرح في الجوف غير الرحم، فلا مجال للبناء علي حيضية الدم بعد عدم العلم بكونه من الرحم.

بل مع تعذر الفحص يرجع للحالة السابقة و مع تيسره لا يبعد وجوبه لنظير ما تقدم. فتأمل.

نعم، قد ينافي ذلك ما في مرسلة يونس القصيرة: «فإذا رأت المرأة الدم في أيام حيضها تركت الصلاة و إن انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت وصلت و انتظرت … و إن مر بها من يوم رأت الدم عشرة أيام و لم تر الدم فذلك اليوم و اليومان الذي رأته لم يكن من الحيض، إنما كان من علة، إما قرحة في جوفها، و إما من الجوف فعليها أن تعيد الصلاة … » «1» لظهورها في لزوم البناء علي حيضية الدم من أول رؤيته و إن احتمل خروجه من الجوف.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 198

______________________________

لكن- مع اختصاصها بما يري في العادة- لا يبعد حمل الجوف فيها علي الرحم، كما يناسبه الحكم فيها بالاستحاضة بعد ذلك، فهي تبتني علي المفروغية عن كون الدم من الرحم، و إلا لم يتضح وجه الجزم بكونه من غير الرحم بمجرد تعذر البناء علي حيضيته مع ما هو المعلوم من أن دم الاستحاضة من الرحم.

و قد تحصل مما تقدم أمور..
الأول: أن الدليل علي قاعدة الإمكان الإجماع و النصوص،

و أن النصوص صالحة لتحديدها، و الإجماع قابل للتنزيل علي مفادها.

الثاني: أنه لا دليل علي حجية الصفات بنحو تصلح لرفع اليد عن عموم نصوص القاعدة،

بل المتيقن من حجيتها حالة استمرار الدم أو نحوها مما لا يمكن الرجوع فيه للقاعدة بالإضافة إلي تمام الدم.

نعم، لا مجال للبناء علي حيضية الصفرة إلا إذا كانت في العادة أو قبلها بيومين، علي ما تقدم فيه عند الكلام فيما يتأخر عن العادة.

الثالث: لزوم الاقتصار في القاعدة علي ما إذا أحرز موضوع الحيض

- و هو كون من خرج منه الدم امرأة- و كون الدم من الرحم و شروط الحيض و ارتفاع موانعه و لم يشك في ذلك بنحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية، لعدم مساعدة النصوص علي أكثر من ذلك، لا لدلالتها علي كون المراد بالإمكان هو الإمكان بالقياس للموانع المعلومة و المحتملة بنحو لا تجري واقعا مع احتمال وجود المانع- كما يظهر من بعض كلماتهم- بل لظهورها في إرادة الإمكان الواقعي بالإضافة إلي الموانع الواقعية، فما لم يحرز ذلك لا يحرز موضوعها.

نعم، لو أحرز بالأصل عدم ما هو مانع بعنوانه المأخوذ في الأدلة- كبلوغ الستين- اتجه جريان القاعدة لإحراز موضوعها.

و أما الإجماع فالمتيقن منه ذلك، لأن الإمكان إن لم يكن ظاهرا في خصوص ذلك فلا أقل في احتماله له و عدم ظهوره في مطلق الاحتمال.

ص: 199

(مسألة 5): غير ذات العادة الوقتية- سواء أ كانت ذات عادة عددية فقط (1) أم لم تكن ذات عادة أصلا، كالمبتدأة- إن كان الدم جامعا للصفات (2)

______________________________

و ما قد يظهر من بعض عباراتهم في بيان القاعدة و استدلالاتهم المتقدمة بها من الاكتفاء بمطلق الاحتمال ليس من الكثرة و الوضوح بنحو يصلح للحجية و ينهض بالمنع من الرجوع للأصل. كما أن ما يظهر من بعضهم كشيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن موضوع القاعدة هو الإمكان المستقر المتيقن، لأنه المستفاد من الإجماع عليها الذي هو عمدة الدليل عليها عنده، فلا يكفي إحراز عدم المانع بالأصل، في غير محله بعد ما عرفت من مفاد النصوص. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم. و له الحمد.

مسألة 5: غير ذات العادة الوقتية تحيض برؤية الدم

(1) التعميم لها يبتني علي ما تقدم في أول المسألة الرابعة من أن المعيار في العادة التي يرجع إليها في التحيض برؤية الدم هي الوقتية عددية كانت أو لا، و لا أثر للعددية في ذلك.

(2) ظاهره اعتبار اجتماع الصفات في الأمارية علي الحيض و عدم الاكتفاء بإحداها، كما هو مقتضي ما تقدم من المدارك من أنها خاصة مركبة متي وجدت حكم بالحيضية و متي انتفت حكم بعدمها.

و أما بقية عبارات الأصحاب فهي و إن اشتملت علي الصفات المذكورة بنحو يظهر منها اجتماعها إلا أنها في مقام بيان صفاته الغالبية لا الأمارة عليه الذي هو محل الكلام.

و إنما خصوا الأمارية بمستمرة الدم، و يظهر من جملة منهم هناك الاكتفاء بالإقبال و الإدبار و لو بلحاظ بعض الصفات، علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّه تعالي.

و كيف كان، فاعتبار اجتماع الصفات مقتضي الجمع بين نصوصها المتقدمة، فإنه و إن اقتصر في بعضها علي بعض الصفات، كالحرارة في صحيح معاوية «1»، و موثق إسحاق «2»، و السواد في مرسلة يونس «3»، إلا أنه يلزم تنزيلها علي كون إهمال الباقي

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 200

______________________________

لغلبة ملازمته للمذكور، جمعا مع قوله عليه السّلام في صحيح حفص: «إن دم الحيض حار عبيط أسود له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة أصفر بارد، فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة» «1» الذي هو كالصريح في اعتبار الاجتماع.

فما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه في مستمسكه من ظهور الأدلة في طريقية كل صفة في نفسها بلا اعتبار الاجتماع بشهادة اختلاف النصوص فيها، في غير محله.

علي انه يشكل بما أشار إليه قدّس سرّه من أن ذلك كما يجري في الحيض يجري في الاستحاضة لتشابه ألسنة الأدلة فيهما، و حينئذ كما تكون واجدية الدم لبعض صفات الحيض أمارة علي حيضيته تكون فاقديته لبعضها المستلزم لتحقق بعض صفات الاستحاضة أمارة علي كونه استحاضة فيتعارضان.

و دعوي: أن حجية صفات الاستحاضة في طول حجية صفات الحيض عليه، فلا يرجع لأمارة الاستحاضة إلا مع فقد أمارة الحيض. ممنوعة جدا، لسوق الأدلة صفات كل من الحيض و الاستحاضة في مساق واحد، و لا قرينة علي تقدم إحداهما رتبة.

و مثله في الضعف ما في الجواهر من أن لا يبعد الرجوع للظن مع تحقق بعض الصفات دون بعض، فيدور الحكم مداره وجودا و عدما، و لا ضابط له. إذ فيه: أنه لا دليل علي حجية الظن.

و دعوي: أن المستفاد من دليل الإرجاع للصفات إمضاء طريقة العرف في العمل عليها، و مبني عملهم بها علي إفادتها الظن، و إن لم يتضح بناؤهم علي العمل بالظن المجرد عنها. غير ظاهرة بنحو تنهض بالخروج عن استصحاب عدم الحيض في المقام.

ثم إن مقتضي ما سبق كون فقد بعض الصفات أمارة علي عدم الحيض، لأنه إذا كان الاجتماع هو الغالب في الحيض يكون عدمه أمارة علي عدمه، و مقتضي إطلاق سوق القضية الغالبية ليعمل عليها في معرفة حال الدم حجيتها في ذلك. لكن ظاهر صحيح حفص لزوم اجتماع الصفرة- التي يراد بها خفة الحمرة- و البرودة في دم

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 201

مثل الحرارة (1) و الحمرة أو السواد (2)

______________________________

الاستحاضة، فعدم اجتماعهما يكون أمارة علي عدمها بعين البيان المتقدم، و حيث كان ظاهر النصوص المتقدمة انحصار الدم بالحيض و الاستحاضة تعين تعارض الأمارتين و تساقطهما، أو يكون ذلك كاشفا عن سوق اجتماع صفات دم كل من الحيض و الاستحاضة أمارة عليه، من دون أن يكون عدمه أمارة علي العدم، فالدم الواجد لبعض صفات الحيض و الاستحاضة كما لا أمارة علي حيضيته أو كونه استحاضة كذلك لا أمارة علي عدم كونه من أحدهما.

و كيف كان، فالمرجع فيه استصحاب عدم الحيض المقتضي لترتب أحكام الاستحاضة عليه بالبيان المتقدم في أول الكلام في مسألة اعتبار التوالي في الثلاثة أيام التي هي أقل الحيض.

(1) كما في النهاية و الغنية و الشرائع و النافع و المعتبر و التذكرة و المنتهي و الإرشاد و الدروس و اللمعة و محكي الكافي و البيان و التبصرة. و قد تضمنها صحيحا معاوية بن عمار و حفص بن البختري و موثق إسحاق بن جرير المتقدمة «1». و حيث كان كل دم، بل كل ما يخرج من الباطن حارا تبعا للباطن فالظاهر أن المراد بها نحو من الحرارة في الدم تقتضي الإحساس بلذعه و حرقته حين خروجه، فتدرك الحرارة بذلك.

(2) كما في المعتبر و النافع و التذكرة و اللمعة و محكي البيان. و كأنه للجمع بين ما اقتصر فيه علي السواد- كصحيح حفص و مرسلة يونس المتقدمين- و ما اقتصر فيه علي الحمرة، كمرسلة التذكرة: «إن دم الحيض ليس به خفاء هو دم حار أحمر محتدم له حرقة، و دم الاستحاضة فاسد بارد» «2».

و ما تضمن التعبير عن الحيض بالحمرة، كمرسلة ابن أبي عمير: «إذا بلغت

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3، 2، 1.

(2) التذكرة ج 1: ص 31.

ص: 202

______________________________

المرأة خمسين سنة و لم تر حمرة إلا أن تكون امرأة من قريش» «1» و ما تضمن التفصيل في التحيض بين الحمرة و الصفرة، كالنصوص الآتية في دليل التحيض بواجد الصفات.

لكن مرسلة التذكرة ليست بحجة، و لا سيما مع قرب كونها تصحيفا لموثق إسحاق بن جرير و روايتها في مستدرك الوسائل خالية عن لفظ «أحمر» علي أن تقييده بالاحتدام الذي قيل إنه شدة الحمرة في الدم حتي يسود مانع من الأخذ بإطلاق الأحمر فيه.

و التعبير عن الحيض بالحمرة إنما يقتضي اتصافه بها، و هو أعم من أماريتها عليه عند اشتباهه، و إنما استفيدت الأمارية من نصوص الصفات المتقدمة لظهورها في الإرجاع إليها لغلبة اختصاصه بها، لا لمجرد اتصافه بها.

و أما نصوص التفصيل فهي ظاهرة في حيضية الأحمر- و لو لقاعدة الإمكان- في قبال نفي حيضية الأصفر، لا في أمارية الحمرة علي الحيض عند الشك في حال الدم.

علي أن النصوص المقتصر فيها علي السواد تأبي الجمع المذكور جدا، لظهورها في خصوصية السواد.

بل يبعد جدا جعل الحمرة أمارة علي الحيض مع وضوح عدم غلبة اختصاصه بها، و أنها تكثر في دم الاستحاضة، بل هي لازمة لكل ما يتضح إطلاق الدم عليه عرفا، و إطلاق الدم علي غير الأحمر خفي.

و ما في صحيح حفص من أن دم الاستحاضة أصفر لا بد من حمله إما علي خفة الحمرة و إلا لم يكن مقابلا للسواد و كان صدق الدم عليه خفيا، كما ذكرنا، أو علي أمارية الصفرة علي الاستحاضة لاختصاصها بها غالبا، دون أمارية عدمها علي عدم الاستحاضة.

و مثله في الإشكال ما في المقنعة من الاقتصار علي الحمرة. بل يتعين الاقتصار علي السواد، كما في المبسوط و النهاية و الوسيلة و السرائر و الشرائع و المنتهي و القواعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 31 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 203

و الخروج بحرقة (1) تتحيض أيضا بمجرد الرؤية.

______________________________

و الإرشاد و الدروس و محكي المصباح و التحرير و التبصرة و التلخيص.

نعم، لا إشكال في عدم إرادة السواد الحقيقي لعدم اتصاف الدم به، بل شدة الحمرة بنحو يضرب إلي السواد، كما في الغنية و المراسم و محكي الكافي.

و يناسبه ما في مرسلة يونس الطويلة من رجوع الأمر بالتحيض بالدم البحراني إلي التمييز بالسواد، مع أن البحراني ليس هو الأسود، بل شديد الحمرة ففي السرائر:

«و هو الشديد الحمرة و السواد، كما يقال: أبيض يقق و أسود حالك و حانك و أحمر بحراني و باحري. هكذا أورده ابن الأعرابي»، و قريب منه ما في لسان العرب حاكيا له عن الصحاح و ابن سيدة.

و لعل ذلك مراد الكل، و إن كان تنزيل كلام من سبق منه الترديد بين الوصفين عليه بعيدا و من ثم كان ما ذكروه مشكلا.

(1) كما في المراسم و الوسيلة و الشرائع و الارشاد و محكي التحرير. ففي موثق إسحاق بن جرير: «هو دم حار تجد له حرقة» «1». و لعله إليه يرجع ما في المقنعة و المبسوط و السرائر و المنتهي من التعبير بالخروج بحرارة، لظهوره في كون الحرارة من حالات الخروج، لا من صفات الدم الخارج، ليرجع للحرارة المذكورة في المتن أولا و ذكرها من سبق.

و من هنا لا يبعد كون عطف الحرارة علي الحرقة في الوسيلة و القواعد و محكي التحرير تفسيريا. و لعل ذلك هو الوجه في تكرار الحرارة في صحيح حفص، فالمراد بها أولا صفة الدم و ثانيا حالة الخروج. نعم، تقدم تقريب التلازم بينهما.

هذا و بقيت بعض الصفات لم يتعرض لها في المتن:

منها: الخروج بدفع، و قد ذكره في النهاية و الغنية و المعتبر و النافع و التذكرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 204

______________________________

و المنتهي و اللمعة و محكي الكافي و البيان و التبصرة، و يقتضيه ما تقدم من صحيح حفص.

و منها: أن يكون عبيطا، كما في المنتهي و الدروس. و يقتضيه ما تقدم من صحيح حفص. و قد فسره في التذكرة و المنتهي و لسان العرب و القاموس بالطري، و في مختار الصحاح بالخالص الطري. و لعله لمناسبة الخروج بدفع لعدم مكث الدم في الرحم فيخرج طريا قبل أن يفسد أو يختلط بغيره.

و منها: الغلظ، كما في المقنعة و الوسيلة و المراسم و الغنية و المعتبر و النافع و التذكرة و جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و المدارك و محكي نهاية الأحكام و البيان و غيرهما.

و لم أعثر علي نص به سوي ما عن الدعائم: «و روينا عنهم عليهم السّلام: أن دم الحيض كدر غليظ منتن، و دم الاستحاضة دم رقيق» «1»، و الرضوي: «و دم الحيض إلي السواد، و له غلظة» «2».

و منها: النتن، كما في جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و المدارك و محكي نهاية الأحكام. و لم أعثر علي نص به سوي ما تقدم عن الدعائم.

هذا و لا يبعد كون منشأ اضطراب الأصحاب فيها البناء علي التلازم بينها حتي ذكر ما هو غير معتبر أو أهمل ما هو معتبر استغناء عنه بما ذكر، أو عدم سوقهم لها للأمارية شرعا علي الحيض، بل لبيان صفاته الغالبية بالنظر لواقعه الخارجي فلا يهتم بالتدقيق فيها. و إنما اختص الرجوع إليها عندهم بمستمرة الدم التي يظهر من جملة منهم كون المعيار في التمييز لها إقبال الدم و إدباره الذي هو أمر عرفي لا يختص بالصفة المنصوصة.

كما لا يبعد أن يكون اختلاف النصوص فيها ناشئا عن التلازم الغالبي كما ذكرنا في كلمات الأصحاب، و قد يناسبه اشتمال صحيح حفص علي ذكر (حار)، و (عبيط) في مقام وصف الحيض و عدم ذكرهما بعد ذلك في الشرطية معيارا في التحيض.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 205

و إن كان فاقدا للصفات تتحيض بعد ثلاثة أيام (1). و لا يترك الاحتياط في الثلاثة بالجمع بين عمل الحائض و المستحاضة.

______________________________

و كيف كان، فلا بد من الجمود علي الشرطية المذكورة فيه و تنزيل جميع ما ورد عليها.

(1) كما في الجواهر و سبقه إليه في المبتدأة في المدارك و محكي الكفاية و الذخيرة و المفاتيح، و في الجواهر أنه قد يظهر من بعض عبارات المقنعة و المختلف و المنتهي.

و كيف كان، فقد استدل أو يستدل عليه بأمور..

الأول: نصوص الصفات المتقدمة عند الكلام في قاعدة الإمكان.

لكن سبق اختصاصها بمستمرة الدم و لو عمت كان مقتضاها البناء علي عدم حيضية فاقد الصفة حتي لو استمر ثلاثة أيام، و هو خلاف الفرض.

مع أنه قد يدعي ورودها في مقام تمييز دم الحيض عن دم الاستحاضة ظاهرا بعد الفراغ عن قابلية الدم للحيضية واقعا لواجديته لتمام ما يعتبر في الحيض، و لا تقتضي عموم التعبد بالحيضية أو عدمها لما لو شك في قابلية الدم له، لاحتمال فقد شرط الحيض، كما في المقام.

و كما لو شك في البلوغ أو في سن اليأس أو في مضي أقل الطهر، بل مقتضي استصحاب عدم البلوغ أو عدم مضي أقل الطهر البناء علي عدم حيضية الدم و إن كان واجدا لصفته، و لا يكون محكوما لأمارية الصفة.

و إن كان ما تقدم من غير واحد في مبحث اعتبار البلوغ في الحيض من دعوي أمارية الحيض علي البلوغ عند الشك فيه قد يناسب بناءهم علي عموم حجية الصفات لحال الشك في البلوغ و نحوه، حيث يبعد تنزيله علي خصوص صورة العلم الوجداني بالحيض مع عدم الاجتزاء في إحرازه بواجدية الدم للصفات. فلاحظ.

الثاني: ما تضمن التفصيل بين الحمرة و الصفرة مما ورد في الحامل و النفساء

ص: 206

______________________________

كما في مرسل محمد بن مسلم في الحبلي: «إن كان دما أحمر كثيرا فلا تصلي، و إن كان قليلا أصفر فليس عليها إلا الوضوء» «1»، و صحيح إسحاق بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة الحبلي تري الدم اليوم و اليومين. قال: إن كان دما عبيطا فلا تصلي ذينك اليومين. و إن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين» «2»، و صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا ابراهيم عليه السّلام عن امرأة نفست فمكثت [و بقيت.

يب صا] ثلاثين يوما [ليلة. يب صا] أو أكثر ثم طهرت و صلّت ثم رأت دما أو صفرة.

قال: إن كان صفرة فلتغتسل و لتصل و لا تمسك عن الصلاة»، و زاد الشيخ: «و إن كان دما ليس بصفرة فلتمسك عن الصلاة أيام أقرائها، ثم لتغتسل و لتصل» «3»، بعد إلغاء خصوصية موردها.

و كذا ما تضمن عدم التحيض بالصفرة في غير أيام العادة «4» مما تقدم بعضه في المسألة السابقة، بناء علي ظهوره في خصوصية الصفرة، أو للرجوع في غيرها إلي ما دل علي التحيض برؤية الدم مما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

لكن يشكل الاعتماد علي نصوص الحامل و النفساء بعد ضعف المرسل، و صراحة صحيح إسحاق في التحيض بالدم في اليوم و اليومين، و ظهور صحيح عبد الرحمن في عدم التحيض بالصفرة في أيام القرء، حيث يتجه طرحهما أو الجمود فيهما علي موردهما.

مضافا إلي أنها و بقية نصوص الصفرة ظاهرة في التفصيل بين الحمرة و الصفرة في حيضية ما يخرج بتمامه و عدمها، لا في التحيض به بمجرد خروجه و عدمه لو شك في استمراره، فإنه بعيد عن مفاد النصوص جدا، لعدم الإشارة فيها للشك في الاستمرار، بل في حكم الصفرة من حيث هي صفرة و إن استمرت.

و لا سيما بلحاظ صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: عن المرأة

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 16.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 5 من أبواب النفاس حديث: 2، 3.

(4) راجع الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض.

ص: 207

______________________________

تري الصفرة في أيامها، فقال: لا تصلي حتي تنقضي أيامها، و إن رأت الصفرة في غير أيامها توضأت وصلت» «1»، لصراحة قوله عليه السّلام: «حتي تنقضي أيامها» في النظر لحكم الاستمرار و عدم الاقتصار علي حكم الحدوث.

و أما ما سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في حيض الحامل من الاستشهاد لذلك بما في صحيح إسحاق من التحيض بالدم اليوم و اليومين، لأن وضوح عدم نقص الحيض عن ثلاثة ملزم بحمله علي كون النظر فيه لأول أزمنة رؤية الدم لا لتمام أزمنته فهو راجع لبيان حكم الدم في اليوم و اليومين الأولين، لا إلي فرض كون الدم بتمامه يوما أو يومين.

فقد سبق منعه، لقوة ظهوره في بيان مقدار الدم، لا السؤال عن حكم أول أزمنته، و إلا فلا خصوصية لليوم و اليومين في ذلك، فلا بد من طرحه، أو الاقتصار فيه علي مورده، و هو الحامل. فراجع.

و مثله ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن حمل نصوص المقام علي إرادة عدم التحيض بالصفرة مع الشك في الاستمرار إنما هو بعد تعذر العمل بظاهرها و هو عدم الحيضية في تمام الدم و لو مع استمراره، لعدم الإشكال في البناء علي حيضية الثلاثة المتوالية و دعاوي القطع به و الإجماع عليه في كلماتهم في موارد متفرقة متظافرة كالنصوص.

لاندفاعه بعدم وضوح عموم الإجماع للصفرة، بل الظاهر قصوره عنها، كما يظهر مما تقدم منا عند الكلام في حكم الصفرة عند الكلام في تقدم الدم علي العادة، فلا مانع من العمل بظاهر نصوص المقام و رفع اليد بها عن إطلاق ما تضمن حيضية الدم البالغ ثلاثة أيام، و لا سيما مع كون الصفرة من أفراده الخفية.

و لو تعذر العمل بظاهرها فلا مجال لحملها علي نفي التحيض ظاهرا عند الشك في الاستمرار ليستدل بها علي التفصيل المدعي، لبعدها عن ذلك جدا، فلا يكون عرفيا، بل يتعين طرحها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 208

______________________________

علي أن عدم التحيض بالصفرة لا يستلزم عدم التحيض بكل دم فاقد لصفات الحيض، فضلا عما لم تجتمع فيه صفاته المتقدمة. و فهم عدم الخصوصية للصفرة و أن المدار علي فقد الصفات في غاية المنع، و لا سيما بعد عدم وضوح بناء العرف علي حيضية الصفرة و أن الحيض هو الدم الذي يكون تطبيقه عليها خفيا، كما يناسبه جعلها في قباله في صحيح عبد الرحمن المتقدم.

نعم، قد يظهر من الجواهر الاقتصار علي الصفرة لرده لاطلاقات التحيض بانصراف الدم عن الصفرة.

لكنه لو تم خروج عن المدعي من الاقتصار في التحيض علي الواجد للصفات، كما لا يناسب الاستدلال بنصوصها المتقدمة.

الثالث: أنه لا إشكال في بناء العرف في الجملة علي التحيض برؤية الدم و عدم انتظار حاله، فيتابعون فيه بالتقريب المتقدم في الوجه الثاني للاستدلال علي قاعدة الإمكان، إلا أن المتيقن من ذلك ما لو كان واجدا للصفات.

و فيه: أنه لو تم توقفهم في الفاقد فهو إنما يكون لعدم بنائهم علي حيضيته مطلقا و لو استمر ثلاثة أيام، لا للشك في استمراره، لينفع فيما نحن فيه، فمع فرض البناء علي حيضيته مطلقا لا مجال للاعتماد علي سيرة العرف في التفصيل المذكور.

و منه يظهر أن اختصاص التحيض بمجرد الرؤية بواجد الصفة عند صاحب المدارك و نحوه ممن لا يري حيضية الفاقد و إن استمر إنما هو لاختصاص الحيض به لا لخصوصيته في عدم وجوب الانتظار مع وجوبه في الفاقد كما هو محل الكلام، فلا ينبغي عدّه من القائلين بالتفصيل المذكور و إن كان هو ظاهر كلامه.

و المتحصل: أنه لم يتضح الوجه في التفصيل المذكور. و لعله لذا لم يذكر في كلام متقدمي الأصحاب، و إنما الكلام بينهم في اختصاص التحيض بمجرد الرؤية بما يري في العادة أو عمومه لغيره.

و كأن نسبته فيما سبق من الجواهر للمقنعة لتوصيفه دم الحيض بالصفات من دون تنبيه علي كونها غالبية مع حكمه بالتحيض برؤيته، و للمختلف و المنتهي

ص: 209

______________________________

للاستدلال فيهما بنصوص الصفات المتقدمة.

لكن ما في المقنعة لو أريد ظاهره خلاف في حدود الحيض راجع إلي عدم حيضية فاقد الصفة واقعا مطلقا، و هو أجنبي عن المقام.

و الاستدلال بنصوص الصفات في المختلف و المنتهي، لعله ليس للبناء علي التفصيل لعدم الإشارة إليه في تحرير النزاع، بل إما أن يكون مع التعدي عن موردها لفهم عدم خصوصيته أو لعدم الفصل أو غيرهما، أو يكون لبيان عدم اختصاص الحكم المذكور بما في العادة، لما في المنتهي من أن الإرجاع فيها للتمييز دليل علي كونها غير ذات العادة، لعدم رجوع ذات العادة له. كيف و قد استدل عليه فيهما أيضا بقاعدة الإمكان المصرح في كلماتهم بعمومها لفاقد الصفة.

نعم، ذكر في المختلف أن الدم المذكور بصفة الحيض في زمان يمكن أن يكون حيضا فيلزم أن يكون حيضا. و صدر كلامه و إن أوهم الاختصاص بواجد الصفة، إلا أن استدلاله بكبري قاعدة الإمكان ملزم برفع اليد عن ذلك.

كما أنه لا وجه لما في المدارك من اختصاص النزاع بواجد الصفة مدعيا التصريح بذلك في المختلف و غيره، لأن الاختصاص به لا يناسب إطلاق الأصحاب، و ما في المختلف قد عرفت حاله.

و مثله ما في الجواهر من احتمال ذهابهم للتفصيل المذكور لأن موضوع كلامهم الدم المنصرف عن الصفرة، لما سبق من أن فاقد الصفات أعم من الصفرة.

و بالجملة: الظاهر أن التفصيل المذكور مستحدث لا وجه له إلا ما لو تم اقتضي اختصاص الحيض بواجد الصفة فغيره ليس بحيض لا أنه حيض إذا استمر كما هو محل الكلام.

و من هنا يتعين النظر في القولين المعروفين بين الأصحاب المشار إليهما آنفا.

فقد ذهب في السرائر إلي أن غير ذات العادة لا تتحيض إلا بمضي ثلاثة أيام، و وافقه في المعتبر و التذكرة و الدروس و اللمعة و جامع المقاصد و محكي البيان، كما حكي

ص: 210

______________________________

في المبتدأة عن أبي الجنيد و السيد المرتضي في المصباح و الحلبي في الكافي، و جعله أحوط في القواعد، كما ألزمها بالاحتياط للعبادة في الشرائع، و تردد فيها و في المضطربة في النافع.

و كيف كان، فقد استدل عليه في المعتبر بأن مقتضي الدليل لزوم العبادة حتي تتيقن المسقط- و هو الحيض- و لا يقين به إلا بعد الثلاثة أيام. لكن لما كان دليل لزوم العبادة هو عمومها المعلوم تخصيصه بأدلة الحيض، كان التمسك به مع الشك فيه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص، الذي هو خلاف التحقيق.

و أما استصحاب وجوب العبادة عليها و نحوه من أحكام الطهر بلحاظ حال ما قبل خروج الدم، فلا مجال له، لاحتمال تبدل الموضوع، علي ما ذكرناه في أكثر موارد الشك في الأحكام التكليفية.

نعم، الظاهر جريان استصحاب الطهر و عدم الحيض، و كما يقتضي عدم ترك العبادة يقتضي ترتب جميع أحكام الطهر، فيجوز لها دخول المساجد و قراءة العزائم و مس الكتاب و نحوه، و يجب عليها تمكين الزوج من الوطء، كما يجوز لها المطالبة به.

و أما لو لم يجر الاستصحاب المذكور فمقتضي العلم الإجمالي الاحتياط لها في تكاليف الحائض و المستحاضة، بالإتيان بالعبادة و عدم دخول المساجد و نحو ذلك من تكاليف الحائض.

نعم، لا يجب عليها منع الزوج من الوطء مع مطالبته به التي هي جائزة له، علي ما تقدم في المسألة الثانية من الفصل الأول. و من البعيد بناء من سبق علي التفصيل المذكور.

ثم إن كلام بعض من تقدم و إن اختص بالمبتدئة، إلّا أنه لا يبعد عدم خصوصيتها و أن المدار عندهم علي عدم العادة، و قد صرح بعدم الفرق بينها و بين المضطربة في جامع المقاصد و محكي الذكري.

إلّا أنه صرح في الدروس و محكي البيان بأن المضطربة لو ظنت الحيض جاز لها ترك العبادة. و يشكل بعدم وضوح وجه خصوصيتها في ذلك. و لعله لذا عممه في المسالك للمبتدئة. لكن لا بد من الدليل علي حجية الظن فيهما معا.

ص: 211

______________________________

اللهم إلا أن يدعي أن الاحتياط للمضطربة مستلزم للعسر بنحو يكشف عن رضا الشارع بالرجوع للأصل، لكثرة أفرادها و ابتلائها بالدم في كل شهر، فلا بد من الاكتفاء بالظن، بخلاف المبتدأة. فتأمل.

هذا و ربما يدعي أنه بناء علي ما هو الظاهر من جريان الاستصحاب في التدريجيات و بلحاظ الأزمنة المستقبلة يتجه الرجوع لاستصحاب خروج الدم إلي ثلاثة أيام، فيرفع به اليد عن مقتضي العلم الإجمالي المذكور، و يكون حاكما علي استصحاب عدم الحيض لو كان جاريا في نفسه، لكونه محرزا لحد الحيض و شرطه، و بضميمة قاعدة الإمكان في واجد الحد و الشرط يحرز الحيض، كما سبق في ذيل الكلام علي القاعدة.

و دعوي: أن الاستصحاب كما يقتضي استمرار الدم ثلاثة أيام، يقتضي تجاوزه عن العشرة، فيخرج عن موضوع قاعدة الإمكان.

مدفوعة بأن لازم ذلك عدم التحيض ظاهرا بالدم حتي بعد الثلاثة، مع أنه لا إشكال في وجوب التحيض به حينئذ، و ذلك إنما يكشف عن عدم التعويل علي الاستصحاب الاستقبالي في إحراز التجاوز عن العشرة، لا مطلقا، لإمكان الفرق بينهما و لو بسبب الإجماع المذكور.

مع أن المستفاد من بعض نصوص المقام أن التجاوز عن العشرة إنما يمنع من البناء علي حيضية خصوص المتجاوز مع البناء علي حيضية ما قبله، كموثق ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: المرأة إذا رأت الدم في أول حيضها فاستمر بها الدم تركت الصلاة عشرة أيام، ثم تصلي عشرين يوما … » «1» و غيره.

نعم، لو كان الثاني بصفات الحيض و الأول فاقدا لها فقد يتعين الثاني للحيضية، إلا أنه غير محرز في المقام، بل مقتضي الاستصحاب عدمه.

فالعمدة في الإشكال في الاستصحاب المذكور أن وجود الدم في الزمان اللاحق

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 6. و في الباب أحاديث أخر ظاهرة في المدعي.

ص: 212

______________________________

الذي هو مفاد الاستصحاب ليس موضوعا للأثر بنفسه، بل من حيثية ملازمته لكون مجموع الدم المعلوم و المستصحب ثلاثة أيام، التي هي حدّ الحيض. و لم يتضح لحاظ الشارع آنات الثلاثة أيام في حدّيتها للحيض بنحو الانحلال، بحيث يكون الحد مركبا من الآنات المذكورة، و يكون كل آن ملحوظا جزءا من الموضوع و دخيلا في ترتب الأثر، ليكون المقام من باب إحراز أحد جزئي الموضوع بالأصل و الآخر بالوجدان.

بل لعل الحد هو الثلاثة بمجموعها. و لا سيما بعد ظهور الأدلة في كون التحديد الشرعي بما هو الحد الواقعي، لا الاعتباري، و الحد الواقعي لا يبتني علي الانحلال، بل علي أنه كم الحيض الواحد. و من هنا يشكل الاعتماد علي الاستصحاب المذكور في الخروج عن مقتضي العلم الإجمالي أو استصحاب عدم الحيض. و الأمر محتاج لمزيد من التأمل.

هذا و قد أطلق في المبسوط و النهاية التحيض برؤية الدم، و وافقه علي ذلك في المنتهي و المختلف و التحرير و الروضة و محكي الإصباح و الجامع و نهاية الأحكام و الذكري، و هو ظاهر الوسيلة، بل قد يظهر من الفقيه و الهداية للحكم فيهما بعدم حيضية الدم إذا كان يوما أو يومين بل يجب معه القضاء.

بل هو المنساق من كل من ذكر أحكام الحيض و لم ينبه لطريق إحراز حيضية الدم أول ظهوره و لا لوجوب الانتظار في ترتيب الأحكام، و لعله لذا جعله الأشهر في محكي كشف الالتباس و المشهور في الرياض و محكي شرح المفاتيح.

و قد استدل عليه غير واحد بقاعدة الإمكان. لكن سبق المنع من عمومها لمثل ما نحن فيه مما لم يحرز فيه شرط الحيض. نعم، لو تم استصحاب بقاء الحيض إلي ثلاثة أيام تحقق موضوعها، و كذا بناء علي أن موضوعها الإمكان بلحاظ الموانع السابقة علي الحيض، كما سبق.

فالعمدة فيه: النصوص الكثيرة الظاهرة في المفروغية عن التحيض برؤية الدم.

و قد تقدمت الإشارة لجملة منها في أول المسألة الرابعة.

ص: 213

______________________________

و كذا ما ورد في تقدم الدم علي العادة مما تقدم التعرض له هناك أيضا «1»، بناء علي ما سبق من عدم اختصاصه بالتقدم القليل، حيث يتعين إلغاء خصوصية كونها ذات عادة فيه، لأن مخالفة الدم للعادة أدعي للتشكيك في حيضيته، بل حتي بناء علي اختصاصه بالتقدم القليل لا يبعد إلغاء خصوصية العادة بسبب التعليل فيه بالاحتمال، نظير ما تقدم في الاستدلال به لقاعدة الإمكان.

و مثلها ما ورد في المبتدأة التي يستمر بها الدم من أنها تترك الصلاة سبعة أيام أو عشرة و ثلاثة «2»، كموثق ابن بكير المتقدم و غيره، لظهوره في فعلية الترك بالمقدار المذكور، لا أنه حكمها الواقعي مع عدم جوازه في الثلاثة الأول ظاهرا لعدم إحراز الاستمرار. و خصوصية المبتدأة ملغية عرفا، بل لعلها أولي بالتشكيك في حيضية الدم من المضطربة التي تعودت الحيض و إن لم تتعود وقته.

إلي غير ذلك من النصوص التي يظهر من سبرها المفروغية عن عدم الاعتناء باحتمال عدم الاستمرار.

و دعوي: أنها واردة لبيان أحكام أخر، كإمكان حيض الحامل و تمييز دم الحيض عن دم العذرة، و عدم مانعية انقطاع الحيض مدة من البناء علي حيضية الدم المرئي، و حكم تقطع الدم في دفعات لا يفصل بينها أقل الطهر، و حكم الصلاة التي تحيض المرأة في أثنائها أو في أثناء وقتها و الصوم الذي تحيض المرأة في أثنائه، و إمكان تقدم الدم عن العادة، و مدة الحيض لمستمرة الدم، إلي غير ذلك مما يمنع عن إطلاق هذه النصوص و يلزم بحملها علي المفروغية عن حيضية الدم، و لذا لا يشمل إطلاقها الدم الفاقد لشروط الحيض الأخر. كما أنه لا نظر فيها لاحتمال عدم الاستمرار، لتنهض ببيان عدم الاعتناء به.

مدفوعة: بأن ذلك لا يمنع من استفادة ذلك منها تبعا، لأن عدم التنبيه فيها للاحتمال المذكور ظاهر في المفروغية عن عدم الاعتناء به و لزوم التحيض بمجرد

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1 و باب: 17 من أبواب العدد حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض.

ص: 214

(مسألة 6): إذا تقدم الدم علي العادة الوقتية أو تأخر عنها بمقدار كثير لا يتعارف وقوعه (1)- كعشرة أيام- فإن كان الدم جامعا للصفات

______________________________

الرؤية. و لا سيما ما كان منها موضوعه الدم لا الحيض.

و لذا استدل شيخنا الأعظم و سيدنا المصنف «قدس سرهما» علي التحيض بمجرد رؤية الدم في العادة أو قبلها أو بعدها بقليل بما تضمن تعجيل الدم عن العادة الذي هو من نصوص المقام و بنصوص الصفرة التي هي- نظير نصوص المقام- واردة لبيان حيضية الصفرة بعد الفراغ عن عدم المانع من البناء علي ذلك لتحقق شروط الحيض، و لا نظر فيها للشك في الاستمرار.

و الحاصل: أنه لا ينبغي التأمل بعد سبر النصوص في المفروغية عن عدم الاعتناء باحتمال عدم الاستمرار.

و يشهد به عدم ورود السؤال عن حكم الشك في استمرار الدم مع عدم وضوح الطريق لإحرازه و كثرة الابتلاء بالمسألة، و ابتناء الاحتياط علي مزيد عناية و كلفة شديدة، و عدم احتمال المفروغية سابقا عن عدم التحيض معه، أو التحيض بالظن دون الشك، ليستغني عن السؤال و البيان.

بل لا إشكال في بناء العرف علي التحيض بالرؤية، كما سبق، و سبق أنه لو تم اختصاصه بالواجد للصفة فهو لاختصاص الحيضية به، لا لخصوصيته في التحيض بالرؤية، و لا يبعد ارتكازية التحيض بالرؤية في كل ما لو استمر لحكم بحيضيته، و عليه تبتني المفروغية عن ذلك المستفادة من النصوص، لا لتعبد خاص، و إلا لظهر و بان، و بما ذكرنا يخرج عن مقتضي استصحاب عدم الحيض لو تم في نفسه و لم يكن محكوما لاستصحاب بقاء الدم إلي ثلاثة أيام علي ما تقدم الكلام فيه. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

مسألة 6: إذا تقدم الدم علي العادة الوقتية أو تأخر عنها بمقدار كثير

(1) الظاهر أن المراد بتعارف الوقوع ليس هو الشخصي، بل النوعي الراجع إلي ما يصدق معه تقدم العادة أو تأخرها عرفا لقلة الفاصل، ليطابق ما تقدم منه قدّس سرّه

ص: 215

تحيضت به أيضا، و إلا جمعت بين أعمال الحائض و المستحاضة إلي ثلاثة أيام (1)، ثم تتحيض به.

(مسألة 7): الأقوي ثبوت العادة بالتمييز (2)،

______________________________

في المسألة الرابعة.

(1) إذ بناء علي ما سبق منه في المسألة الرابعة في تحديد التقدم و التأخر الملحق بالعادة يكون هذا الفرض خارجا عمّا يقتضي خصوصية العادة في التحيض بالرؤية، بل يكون كالدم الخارج من غير ذات العادة، الذي تقدم منه قدّس سرّه في المسألة الخامسة التفصيل فيه بالوجه المذكور.

لكن سبق منا أن مقتضي إطلاق دليل التقدم التحيض معه بالرؤية مطلقا. كما أن التأخر غير ملحق بالعادة مطلقا، فيلحقه ما تقدم في المسألة الخامسة.

مسألة 7: الأقوي ثبوت العادة بالتمييز

(2) كما في التذكرة و المنتهي و القواعد و الدروس و محكي نهاية الأحكام و التحرير و الذكري و البيان و كشف الالتباس و شرح الجعفرية، و يظهر ممن تعرض للخلاف في ترجيح العادة المذكورة علي التمييز المفروغية عن انعقادها في الجملة، بل في المنتهي: «لا نعرف فيه خلافا».

و كيف كان، فالوجه فيه ظهور أدلة التمييز في أماريته علي الحيض، فتنعقد العادة به، كما تنعقد بالعلم بالحيض، لعدم الإشكال في قيام الأمارة مقام العلم الطريقي. و بذلك يخرج عن عموم ما تضمن الرجوع للتمييز أو غيره مما هو متأخر رتبة عن العادة، حيث يحرز به عنوان المخصص له.

و منه يظهر الفرق بينه و بين تحيض المتحيرة بالعدد المذكور في الروايات، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه، لظهور روايات المتحيرة في كون تحيضها بالعدد للتعبد ظاهرا بحيضيته من دون أن يكون محرزا له، فضلا عن أن يكون أمارة عليه، ليقوم مقام العلم به.

ص: 216

______________________________

اللهم إلا أن يقال: كما تقوم الأمارة مقام القطع الطريقي يقوم مقامه الأصل التعبدي غير المبتني علي الإحراز، و إنما لا يقوم الأصل المذكور مقام العلم الموضوعي و إن كان مأخوذا علي نحو الطريقية، و هو أجنبي عن المقام بناء علي الاستدلال بالوجه المذكور.

و أما ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن موضوع العادة هو الحيض الواقعي الذي يكون التمييز طريقا له دون التحيض بالعدد، فلم يتضح مأخذه، لعدم الإشارة في أدلة العادة لتقييد الحيض بكونه واقعيا. علي أن مقتضي ذلك عدم انعقاد العادة بقاعدة الإمكان، لما يأتي من أن مفادها مفاد الأصل لا الأمارة.

كما أن مقتضاه انعقادها بالتحيض بأقراء نسائها، لظهور دليله في كونه أمارة علي الحيض الواقعي، كأيام عادتها، مع أن الظاهر عدم انعقاد العادة به عندهم، بل يظهر من الجواهر المفروغية عنه.

و ما في الجواهر من أن التحيض بأقراء نسائها من التحيض الشرعي، لا الحيض الحقيقي، و أخبار العادة في الثاني لا الأول، كما تري لأن المراد من التحيض الشرعي إن كان هو التعبد بالحيض ظاهرا بلا توسط محرز له أو أمارة عليه، فلا مجال له في التحيض بأقراء نسائها، لارتكاز كون تخصيصهن لغلبة مشابهة مزاجها لأمزجتهن التي هي من سنخ الأمارة. و إن كان هو التحيض تبعا للطريق الشرعي دون العلم الوجداني فهو جار في التمييز، لعدم كونه موجبا للعلم بالحيض.

فالعمدة في الفرق ظهور أدلة العادة في كون اتفاق المرتين في الوقت أو العدد أمرا غير لازم، بل تابعا لخصوصية مزاج المرأة و كاشفا عن طبيعتها، و إن كان التعبد بحيضية الدم مستندا للأصل، و لا يشمل ما لو لم يستند لمزاج المرأة، بل كان لازما بسبب خصوصية المرجع في تشخيص الحيض، كما في التحيض بالعدد و بأقراء نسائها و إن كان من سنخ الأمارة.

نعم، قد يمنع الوجه المتقدم لانعقاد العادة بالتمييز لوجهين..

أولهما: أن دليل انعقاد العادة لم يتضمن أخذ الحيض الواقعي في موضوعه،

ص: 217

______________________________

ليكتفي في إحرازه بالأمارة كما يحرز بالعلم، بل انقطاع الدم علي عدد معين أو وقت معين، كما تضمنه موثق سماعة و مرسلة يونس اللذين هما دليل انعقاد العادة بالمرتين و المتقدمان في أول الفصل، إما لكون الموضوع هو العلم الوجداني بالحدّ، دون مطلق الطريق عليه أو لكونه كاشفا عن اعتدال مزاج المرأة و استقامة طبيعتها.

و لا مجال لدعوي فهم عدم خصوصية الانقطاع، و أن ذكره لمحض طريقيته لحدّ الحيض، فيقوم مقامه سائر الطرق. لأن دخله في قوة كاشفية العادة مانع من إلغاء خصوصيته في حجيتها.

و مثلها الاستشهاد علي ذلك بما تضمنته المرسلة بعد بيان ما تنعقد به العادة من الاستدلال بقول النبي صلّي اللّه عليه و آله: «دعي الصلاة أيام أقرائك». بدعوي ظهوره في أن المدار علي القرء- و هو الحيض- بنفسه.

لاندفاعه بأن المراد بقول النبي صلّي اللّه عليه و آله قضية خارجية شخصية موضوعه المرأة الخاصة التي أيام قرئها معروفة لها قبل استمرار الدم بسبب انقطاعه في كل شهر، و إنما استدل به الإمام عليه السّلام لبيان اعتبار المرتين، و ليس قضية حقيقية أخذ في موضوعها مطلق القرء، ليمكن إحراز موضوعها بالتمييز.

ثانيهما: أن ذلك موقوف علي إطلاق حجية التمييز علي الحيض بنحو يشمل البناء علي حصول العادة التي هي من لوازمه الواقعية- و إن كانت حجيتها شرعية- و عدم اختصاصه بالحجية عليه من حيثية ترتيب أحكامه الشرعية عليه من ترك الصلاة و نحوه.

و هو لا يخلو عن إشكال، لأن مدلول الأدلة المطابقي خصوص ترك الصلاة و التعدي منه لسائر أحكام الحيض بفهم عدم الخصوصية أو للتسالم علي عدم الفرق بينه و بينها لا يستلزم التعدي لمثل العادة. و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه مقتضي إطلاق أدلته غير ظاهر الوجه.

نعم، في مرسلة يونس عند الكلام في سنة المبتدأة التي استمر بها الدم قال عليه السّلام:

ص: 218

______________________________

«و هذه سنة التي استمر بها الدم أول ما تراه، أقصي وقتها سبع و أقصي طهرها ثلاث و عشرون حتي يصير لها أيام معلومة فتنتقل إليها» «1». و هو ظاهر في إمكان انعقاد العادة لها مع استمرار الدم، و لا يكون ذلك إلا بالتمييز.

و أما حمله علي انعقاد العادة بعد انقطاع الدم، و الرجوع إليها لو استمر بها الدم مرة أخري بعد ذلك، حيث تخرج من كونها مبتدئة إلي كونها ذات عادة. فهو لا يناسب التركيب اللفظي للجملة المتقدمة.

لكنه- مع عدم خلوه عن الإجمال، و اختصاصه بالمبتدئة التي وظيفتها التحيض بالعدد تعبدا- ظاهر في عدم انتقالها عن العدد المذكور إلي التمييز الذي تنعقد به العادة، بل تبقي عليه حتي تنعقد به العادة فتنتقل إليها منه رأسا، فلا يكون التمييز حجة إلا من حيثية انعقاد العادة به.

و هو- مع غرابته- مخالف للإجماع، فلا مجال لحمله علي ذلك و التعويل عليه فيه، بل يتعين البناء علي عدم انعقاد العادة بالتمييز، كما هو ظاهر من اقتصر في بيان العادة علي تساوي الدم في المرتين وقتا أو عددا، كما هو حال من عثرنا علي كلامه ممن سبق العلامة قدّس سرّه. و لعل ما سبق من المنتهي من نفي معرفة الخلاف فيه ليس لعثوره علي من ذكره، بل لدعوي استفادته من فحوي كلامهم أو إطلاقه.

ثم إنه بناء علي انعقادها بالتمييز فالظاهر عدم الفرق بين اتفاق المرتين في التمييز و اختلافهما فيه، كما لو كان في المرة الأولي أسود و في الثانية أحمر- بناء علي أن المعيار في التمييز علي إقبال الدم و إدباره، لا خصوص لون- لإطلاق دليل حجيته، و إن تردد فيه في كشف اللثام و طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه و محكي الذكري، بل عن ظاهر التحرير العدم.

كما أن الظاهر انعقادها بالملفق من التمييز و غيره، كما يأتي من شيخنا الأعظم قدّس سرّه فلو رأت الدم في أول الشهر الأول سبعة أيام، ثم انقطع ثم رأته في

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 219

______________________________

أول الشهر الثاني واجدا للصفات سبعة أيام ثم استمر، انعقدت عادتها علي السبعة في أول الشهر، و تعمل عليها لو استمر بعد ذلك، لإطلاق دليل انعقاد العادة باتفاق الحيض في مرتين بضميمة إطلاق دليل التمييز الذي لو شمل حيثية انعقاد العادة شمل تتميمها.

هذا و قد قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «ثم إنه لا فرق في المرتين المثبتتين للعادة بين ثبوت حيضيتهما بالوجدان أو بقاعدة الإمكان أو بالصفات مع استمرار الدم، أو بالملفق من الثلاثة أو اثنين منها.

أما ثبوتها بالوجدان فظاهر. و أما الصفات … فقد جعلها الشارع بمنزلة الوجدان في إثبات الحيض الواقعي، كسائر الطرق الشرعية للموضوعات الواقعية.

و منه يظهر … وجه ثبوتها بقاعدة الإمكان، لأن المستفاد من دليل تلك القاعدة- علي تقدير تماميتها- جعل اجتماع الشروط و فقد الموانع المقررة في الشريعة طريقا للحيض الواقعي، كما لا يخفي علي من تأمل في أدلتها. بل ظاهر الروايتين المتقدمتين فيما يثبت به العادة كون الدم في المرتين حيضا بمقتضي الإمكان لا الوجدان».

و ما ذكره مبني علي ما سبق في تقريب انعقاد العادة بالتمييز من أن موضوع العادة الحيض الواقعي، و الرجوع للعلم و الأمارة لطريقيتهما له.

لكنه لا يتم في قاعدة الإمكان، لأن وجود الشرط و فقد المانع لا يصلح للأمارية ارتكازا، بل هو بموضوع الأصل أشبه، و من ثم كان هو المتيقن من دليلها، غاية الأمر احتمال كون الحكمة في جعل هذا الأصل الغلبة أو أصالة السلامة اللذين هما من سنخ الأمارة و إن لم ينهض لسان دليلهما ببيان ذلك، ليكشف عن الأمارية.

فالعمدة في انعقاد العادة بقاعدة الإمكان ما أشار إليه أخيرا من ظهور الموثق و المرسلة المتضمنين كيفية انعقاد العادة في ذلك، لغلبة استناد حيض المبتدأة لها دون العلم الوجداني.

هذا و أما بناء علي ما ذكرناه من أن موضوع العادة هو انقطاع الدم علي عدد

ص: 220

فإن استمر بها الدم أشهرا فالدم الذي يقتضي التمييز حيضيته هو الحيض شرعا، فإن تكرر ذلك العدد في الوقت المعين- كما إذا رأت الحمرة في سبعة أيام في أول الشهرين أو آخرهما- كانت ذات عادة وقتية و عددية، و إن رأت تمام العدد المذكور حمرة في أول الشهر الأول و مثله في آخر الشهر الثاني فهي ذات عادة عددية خاصة، و إن رأت الحمرة في أول الشهر الأول عددا معينا و رأتها أيضا في أول الثاني عددا آخر فهي ذات عادة وقتية فقط (1)، فتستغني بعد ذلك عن الأخذ بالتمييز فيما استقرت عادتها فيه (2) علي الأقوي.

______________________________

معين أو وقت معين مرتين فاللازم إحراز ذلك بالوجدان أو بالأمارة و إن كانت حيضية الدم بقاعدة الإمكان، و لا تنعقد بدونه و إن أحرزت حيضية الدم بالعدد المعين أو في الوقت المعين في المرتين بالأمارة، فضلا عما لو أحرزت بقاعدة الإمكان لو فرض نهوضها بإحراز حيضية بعض الدم دون بعض.

و أما لو أحرزت الحيضية بالعلم الوجداني فهو يبتني علي أن دخل خصوصية الانقطاع لكونه مستلزما للعلم الوجداني بقدر الدم، أو لكونه كاشفا عن اعتدال المزاج، فتنعقد علي الأول دون الثاني. فلاحظ.

(1) انعقاد العادة العددية فقط، أو الوقتية كذلك و الاستغناء بها في مستمرة الدم عن التمييز لا يناسب ما يأتي منه في المسألة العاشرة من عدم رجوع مستمرة الدم للعادتين المذكورتين، بل العادة التي ترجع إليها هي خصوص العددية الوقتية.

(2) بناء علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي من ترجيح العادة علي التمييز. و علي ذلك جري في التذكرة، و به جزم في المدارك و الحدائق و الجواهر، لإطلاق ما تضمن ترجيح العادة علي التمييز بعد فرض انعقادها في المقام.

لكن في مفتاح الكرامة عند التعرض لترجيح العادة علي التمييز: «و ليس المراد

ص: 221

______________________________

من العادة المستفادة من التمييز، كما نبه علي ذلك جماعة»، و في جامع المقاصد: «و الحق ترجيح العادة المستفادة من الأخذ و الانقطاع، و هي المرادة في كلام المصنف قدّس سرّه. أما المستفادة من التمييز فلا، لأن الفرع لا يزيد علي أصله. مع احتمال الترجيح، لصدق الأقراء عليها، و فيه بعد، لأنه خلاف المتعارف» و ظاهر الروض و كشف اللثام التردد.

و عليه تختص حجية العادة المذكورة بما إذا فقد التمييز، كما قد يومئ إليه ما في القواعد من الاقتصار في بيان فائدتها علي ذلك.

لكن عدم زيادة الفرع علي أصله و إن كان قريبا في نفسه، فكما لا تتقدم العادة الحاصلة من الأخذ و الانقطاع علي الأخذ و الانقطاع في غير مستمرة الدم لا تتقدم العادة في المقام علي التمييز، إلا أنه لا يزيد علي الظن و لا يرجع إلي وجه صالح للاستدلال و الخروج عن مقتضي الإطلاق المتقدم.

إلّا أن يرجع إلي امتناع مانعية العادة المتفرعة علي حجية التمييز من حجية التمييز، لاستحالة مانعية الشي ء عن سببه. لكنه يندفع بأن العادة المذكورة متفرعة علي حجية التمييز في الشهرين اللذين يتفقان فيه، و ليس المدعي مانعيتها منها، بل من حجيته في الأشهر المتأخرة عنهما، فهي إنما تمنع من غير ما تفرعت عليه.

و أما ما ذكره من انصراف إطلاق الأقراء عن العادة المذكورة فلا وجه له بعد فرض انعقادها. و خروجها عن المتعارف- مع عدم صلوحه لرفع اليد عن الإطلاق- غير ظاهر، بل اتفاق التمييز مرتين كاتفاق الدميين أخذا و انقطاعا.

مع أنه لو كان عدم التعارف موجبا لانصراف الإطلاق المذكور اتجه في سائر إطلاقات أحكام العادة، و مرجعه إلي عدم انعقاد العادة بالتمييز، إذ لا مصحح له إلا ترتب أحكامها. بل يتجه الانصراف حتي في دليل انعقاد العادة بالمرتين.

نعم، لو كان وجه الانصراف ما ذكره أولا من عدم زيادة الفرع علي أصله اختص بإطلاق ترجيح العادة علي التمييز. لكن في صلوحه وجها للانصراف إشكال.

و مثل ذلك دعوي: ظهور أدلة رجوع مستمرة الدم للتمييز في كونه مرجعا

ص: 222

الفصل الخامس في الدم المتقطع
إذا رأت الدم ثلاثة أيام و انقطع، ثم رأت ثلاثة أخري أو أزيد
اشارة

الفصل الخامس إذا رأت الدم ثلاثة أيام و انقطع (1)، ثم رأت ثلاثة أخري أو أزيد، فإن كان مجموع النقاء و الدمين لا يزيد علي عشرة أيام كان الكل حيضا واحدا (2).

______________________________

لكل من لم تكن لها عادة أيام استقامة دمها قبل استمرار الدم.

لاندفاعها بأن ذلك و إن كان مورد بعض نصوص التمييز إلا أن الظاهر منها كون موضوعه عدم معرفة أيامها، كما هو مقتضي تفريع الإرجاع إليه في موثق إسحاق «1» علي اختلاف أيام الحيض و قوله عليه السّلام في مرسلة يونس: «و لو كانت تعرف أيامها ما احتاجت إلي معرفة لون الدم» «2»، فإذا فرض انعقاد العادة بالتمييز و صلوحها لتعيين أيام الحيض ارتفع بها موضوع حجية التمييز.

و بالجملة: بعد فرض انعقاد العادة المذكورة تدخل تحت إطلاقات أحكام العادة و منها إطلاق ترجيحها علي التمييز لو لا احتمال انصرافه عنها لما سبق من عدم زيادة الفرع علي أصله، كما ذكرناه. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) أما لو انقطع قبل الثلاثة فهو ليس بحيض مطلقا بناء علي اعتبار التوالي في ثلاثة الحيض، و أما بناء علي عدم اعتباره فحيضيته مشروطة بتتميم الثلاثة في ضمن العشرة علي ما تقدم في أوائل الفصل الثالث.

(2) بلا خلاف أجده بين الاصحاب، بل يظهر من بعضهم دعوي الإجماع عليه، كما هو صريح آخر، من غير فرق بين الجامع و غيره، و لا بين ذات العادة و غيرها، كذا في الجواهر. و قد أطلق الإجماع علي حيضية تمام الدم لو عاد قبل العشرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 223

______________________________

و لم يتجاوزها في الخلاف و التذكرة، و في المنتهي: «و لو رأت ثلاثة أيام دما و ستة طهرا ثم يوما دما فالجميع عندنا حيض. و هو قول أبي يوسف».

و قد استدل عليه غير واحد بموثق محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال:

أقل ما يكون الحيض ثلاثة، و إذا رأت الدم قبل عشرة أيام فهو من الحيضة الأولي، و إذا رأته بعد عشرة أيام فهو من حيضة أخري مستقبلة» «1»، و قريب منه صحيحه عن أبي جعفر عليه السّلام «2» خاليا عن قوله: «أقل ما يكون الحيض ثلاثة»، و صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة إذا طلقها زوجها متي تكون [هي] أملك بنفسها؟ قال: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها.

قلت: فإن عجل الدم عليها قبل أيام قرئها؟ فقال: إذا كان الدم قبل عشرة أيام فهو أملك بها، و هو من الحيضة التي طهرت منها، و إن كان الدم بعد العشرة أيام فهو من الحيضة الثالثة، و هي أملك بنفسها» «3».

و قد سبق في قاعدة الامكان من شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنها واردة لبيان إلحاق الدم المفروغ عن حيضيته بإحدي الحيضتين، و أن إطلاقها لا يتكفل ببيان حيضية الدم، لينفع فيما نحن فيه. لكن تقدم المنع من ذلك، لعدم الإشعار فيها بالمفروغية المذكورة.

نعم، حمل العشرة فيها علي العشرة من حين رؤية الدم الأول لا يناسب حكم الفقرة الثانية منها، لتوقفه علي مضي أقل الطهر بين الدميين، و علي العشرة من حين انقطاعه لا يناسب حكم الفقرة الأولي منها، بناء علي ما سبق في ذيل الكلام في اعتبار التوالي من لزوم كون الحيضة الواحدة في ضمن العشرة أيام، و التفكيك في العشرة بين الفقرتين لا يناسب سياقهما جدا.

و قد سبق عند الكلام في مقدار الفصل بين الدميين من فروع الكلام في اعتبار التوالي في الثلاثة أن ذلك قد يكون قرينة علي حملهما علي إرادة إمكان الإلحاق بإحدي

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض، حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب الحيض، حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 17 من أبواب العدد من كتاب الطلاق، حديث: 1.

ص: 224

______________________________

الحيضتين لا فعليته، ليمكن الاستدلال بإطلاقه لما نحن فيه.

اللهم إلا أن يقال: الإجمال المذكور في العشرة لا يخل بالاستدلال، لأن إلحاق الدم بالحيضة السابقة إذا كان في ضمن العشرة من حين رؤية الدم متيقن منه. بل الموثق بقرينة صدره ظاهر في إرادة العشرة المتممة للثلاثة التي هي من حين رؤية الدم، فيصلح لتفسير الصحيح لأنه بعض منه علي الظاهر.

و يكفي في رفع الإشكال المتقدم حمل الفقرة الثانية علي إمكان الإلحاق بالحيضة المستقبلة و عدم الإلحاق بالحيضة الأولي في مقابل الفقرة الأولي، و لا يتوقف علي حمل الفقرة الأولي عليه، بل يتعين ابقاؤها علي ظاهرها في إرادة فعلية الإلحاق بالحيضة الأولي، فيتم الاستدلال بها.

هذا كله في حديثي محمد بن مسلم، و أما صحيح عبد الرحمن فقد سبق هناك الإشكال في حمله علي الإلحاق بالحيضة الأولي بنحو تجري عليه أحكامها بما لا مجال لإعادته هنا لطوله. فراجع، و تأمل.

و قد يستدل علي ذلك أيضا بما يأتي في مرسلة يونس في صورة التجاوز عن العشرة، لأن إلحاق ما كان في ضمن العشرة من المتجاوز عنها مستلزم لإلحاق ما لم يتجاوزها بالأولوية أو بعدم الفصل.

كما يدل عليه في الجملة ما يأتي في مرسل داود و موثق سعيد بن يسار، و كذا خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام: «سألته عن المرأة تري الدم في غير أيام طمثها فتراها [فتراه. ظ] اليوم و اليومين و الساعة و الساعتين و يذهب مثل ذلك كيف تصنع، قال: تترك الصلاة إذا كانت تلك حالها ما دام الدم و تغتسل كلما انقطع عنها» «1».

و دعوي: أن مقتضاه نقصان الحيض عن ثلاثة. مدفوعة بأنه مختص بما إذا كان تقطع الدم حالا للمرأة، و هو مستلزم لكون مجموع الدم أكثر من ثلاثة، غاية الأمر أنه يدل علي عدم اعتبار التوالي في الثلاثة، و هو لا بأس به بناء علي ما سبق منا. كما يلزم

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 8.

ص: 225

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 4، ص: 226

______________________________

تقييده بما إذا كان في ضمن العشرة.

هذا و قد استدل عليه غير واحد بقاعدة الإمكان.

و هو موقوف.. أولا: علي شمول إطلاق أدلتها لأبعاض الحيض و عدم اختصاصها بالحيض التام، و لا يشهد بذلك من نصوصها إلا حديثا محمد بن مسلم و صحيح عبد الرحمن التي سبق الكلام فيها.

و ثانيا: علي إحراز عموم إمكان تقطع الحيض الواحد، لما سبق من أن موضوعها الإمكان الواقعي لا المحتمل، و لا طريق لإحرازه إلّا الإجماع في المقام الذي لو تم استغني به عن القاعدة.

و أما إطلاق ما دل علي عدم المانع من الحيض واقعا الذي تقدم التعرض له عند الكلام في جريان القاعدة في الشبهة الحكمية و الذي ينقح به موضوعها، فقد سبق أن عمدة دليله صحيح صفوان في الحبلي تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة، و الظاهر منه الحيض التام المستقل، و مرسلة يونس، و هي مختصة بالثلاثة أيام المتوالية و المتقطعة، و لا تعم غيرها من صور التقطع.

اللهم إلا أن يستفاد منها و من غيرها مما تضمن تقطع الحيض في بعض الموارد و لو بضميمة فهم عدم الخصوصية أو التسالم علي عدم الفرق عموم الإمكان في المقام، غاية الأمر أن يتوقف في فعلية الإلحاق في بعض الموارد كما لو كان علي خلاف العادة أو فاقدا للصفات، لاحتمال طريقيتها علي نفي حيضية ما خالفها، فلو فرض عموم قاعدة الإمكان لأبعاض الحيض كانت مرجعا مع عدم الدليل علي الاحتمال المذكور.

هذا مضافا إلي ظهور التسالم علي الحكم بين الأصحاب، كما يظهر بملاحظة كلماتهم فيما يناسب المقام، حيث يمتنع عادة خفاء الحكم في ذلك مع شيوع الابتلاء به.

نعم، قد يشكل عموم الحكم لما لو كان أحد الدميين بعد العادة، لما في مرسلة يونس القصيرة من قوله عليه السّلام: «و كلما رأت المرأة في أيام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من

ص: 226

______________________________

الحيض، و كلما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض» «1» لظهور ذيله فيما يعم الحمرة.

و ما في مرسلة داود عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: فالمرأة يكون حيضها سبعة أيام أو ثمانية أيام حيضها دائم مستقيم ثم تحيض ثلاثة أيام ثم ينقطع عنها الدم و تري البياض لا صفرة و لا دما. قال: تغتسل و تصلي. قلت: تغتسل و تصلي و تصوم ثم يعود الدم. قال: إذا رأت الدم أمسكت عن الصلاة و الصيام. قلت: فإنها تري الدم يوما و تطهر يوما. قال: إذا رأت الدم أمسكت و إذا رأت الطهر صلت، فإذا مضت أيام حيضها و استمر بها الطهر صلت، فإذا رأت الدم فهي مستحاضة، قد انتظمت لك أمرها كله» «2».

بل في صحيح يونس الوارد فيمن تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة و الطهر كذلك مكررا، حيث حكم عليه السّلام بأنها تدع الصلاة كلما رأت الدم و تصلي كلما رأت الطهر، ثم قال:

«تصنع ما بينها و بين شهر، فإن انقطع الدم، و إلا فهي بمنزلة المستحاضة» «3» فإن مقتضاه جريان أحكام المستحاضة عليها من الرجوع للعادة ثم للتمييز ثم لنسائها أو العدد التعبدي علي الكلام الآتي، و لا تتحيض بكل ما يكون في ضمن العشرة و إن خرج عن ذلك.

و مخالفة صدره لما تضمن امتناع زيادة الحيضة الواحدة علي العشرة أو امتناع الفصل بين الحيضتين بما دونها لو كانت مانعة من العمل به فيما قبل الشهر لا تمنع من العمل بذيله فيما بعد الشهر.

لكن مرسلة يونس مخالفة لنصوص الاستظهار الصريحة في أن المرأة قد تتحيض زيادة علي عادتها.

و لا مجال للجمع بحمل المرسلة علي ما إذا كانت رؤية الدم الثاني بعد مضي وقت العادة و نصوص الاستظهار علي استمرار الدم الواحد، لصراحة بعض نصوص الاستظهار في انقطاع الدم و عوده قبل العشرة، ففي موثق سعيد بن يسار: «سألت

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض، حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض، حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض، حديث: 2.

ص: 227

______________________________

أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة تحيض ثم تطهر و ربما رأت بعد ذلك الشي ء من الدم الرقيق بعد اغتسالها من طهرها. فقال: تستظهر بعد أيامها بيومين أو ثلاثة ثم تصلي» «1» إذ المتيقن من الاستظهار أن يكون احتياطا لاحتمال انقطاع الدم و عدم تجاوزه للعشرة الذي هو محل الكلام.

و من هنا كان الموثق من أدلة المقام. بل وروده في ذات العادة مع أماريتها علي عدم حيضية ما بعدها في الجملة يقتضي حيضية الدم من غيرها بالأولوية العرفية.

و أما الجمع بينهما بحمل المرسلة علي رؤية الدم الجديد بعد العادة و الموثق علي رؤيته قبل انقضائها و استمراره بعدها، فهو تبرعي بلا شاهد، بل هو بعيد في نفسه، لأن الطهر قبل العادة لما كان خارجا عن مقتضي طبيعة المرأة كان حمل إطلاق السؤال في الموثق علي خصوصه بعيدا.

فالتعارض بينهما مستحكم. و الترجيح للموثق، لموافقته للإطلاقات المتقدمة.

بل لا مجال للتعويل علي المرسلة في نفسها مع ظهور إعراض الأصحاب عنها، لما عرفت من ظهور تسالمهم علي الحكم. و لعل الأولي حملها علي خصوص الصفرة، لأنها المقصودة بالأصل في الصدر، لأن التحيض بالحمرة في العادة ظاهر لا يحتاج إلي بيان، و ليس ذكرها إلا تبعا، لبيان مساواة الصفرة لها، فلا يبعد عدم إرادتها من الذيل.

و منه يظهر الحال في مرسل داود، فإنه- مع ضعفه في نفسه، و إعراض الأصحاب عنه- معارض للموثق، فليحمل علي تجاوز الدم الجديد للعشرة، أو رؤيته بعدها، بل الثاني غير بعيد في نفسه، لفرض استمرار الطهر فيه بعد أيام العادة.

و أما صحيح يونس فهو مختص بمن تستمر علي الحال المذكورة مدة، و البناء فيها علي ما تضمنه ليس بعيدا. و لعلها خارجة عن مفروض كلام الأصحاب، لندرتها، فلا مجال لتحصيل الإعراض الموهن له. و لا سيما مع ظهور كلام الشيخ في الاستبصار و المحقق في المعتبر في إمكان العمل بصدره بعد حمله علي صورة اختلاط أيام المرأة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض، حديث: 8.

ص: 228

______________________________

نعم، ظاهر الاستبصار احتمال حمله علي مستمرة الدم بحمل الدم فيه علي الواجد للصفات و الطهر علي الفاقد لها، بقرينة الحكم في ذيله بأنها تعمل ما تعمله المستحاضة، و ذلك لا يكون إلّا مع استمرار الدم. لكنه- كما تري- مخالف لظاهره جدا، و الحكم بأنها تعمل ما تعمله المستحاضة لما كان بلسان تنزيلها منزلتها فهو كالصريح في عدم كونها مستحاضة.

ثم إن موثق سعيد بن يسار و إن اقتصر فيه علي اليومين أو الثلاثة و لم يحكم فيه بالاستظهار في تمام العشرة لاحتمال انقطاع الدم عليها، إلا أنه لا ينافي الحكم بحيضية تمام العشرة لو لم يتجاوزها الدم المتقطع لأن الاستظهار حكم ظاهري عند الشك في استمرار الدم، فعدم ثبوته في أكثر من يومين أو ثلاثة لا ينافي حيضية تمام الدم واقعا لو انقطع علي العشرة، كما هو الحال في أكثر نصوص الاستظهار في مستمرة الدم التي اقتصر فيها علي أيام معدودة دون تمام العشرة.

هذا و من جميع ما تقدم يظهر حال ما عن مجمع البرهان من أن الحكم بحيضية الدم اللاحق، خصوصا مع كونه بغير صفة الحيض و كونه زائدا علي العادة، غير ظاهر الوجه، إلا أن يكون إجماعا. انتهي.

إذ فيه: أن ما سبق من النصوص صالح لإثبات المدعي علي إطلاقه، مع عدم نهوض ما سبق بالخروج عنه فيما زاد علي العادة. و أما فيما كان فاقدا للصفات فالأمر يبتني علي عموم حجية الصفات، و قد سبق المنع منه في ذيل أدلة قاعدة الإمكان، و أن الظاهر اختصاصها بمستمرة الدم و ما ألحق بها.

نعم، تقدم أن الصفرة بعد أيام العادة ليست بحيض، و ذلك جار في المقام، لأن مقتضي إطلاق بعض أدلتها و صريح آخر عدم الفرق بين ما لا تكون مسبوقة بالحيض و ما تكون مسبوقة به متصلة به أو منفصلة عنه بنقاء، لكن سبق أنها أخص من فاقد الصفات.

ص: 229

و النقاء المتخلل بحكم الدمين علي الأقوي (1)، و إن تجاوز المجموع عن العشرة و لكن لم يفصل بينهما أقل الطهر فإن كان أحدهما في العادة دون الآخر كان ما في العادة حيضا و الآخر استحاضة (2).

______________________________

(1) تقدم الكلام في ذلك في ذيل مسألة اعتبار التوالي في ثلاثة الحيض، و أن الأظهر جريان حكم الطهر عليه.

(2) كما في المنتهي و كشف اللثام و نسب لغيرهما. و يقتضيه ما يظهر من الغنية من عموم الرجوع للعادة حتي مع تخلل أقل الطهر، بل في المستند: «و لو رأت في العادة و انقطع عليها ثم رأت قبل مضي أقل الطهر لم تتحيض به إجماعا. و كذا بعده علي الأصح، لعدم كون ذلك حيضا … إلا إذا كان ذلك أيضا عادة لها».

و قد يستدل عليه..

تارة: بعموم ما دل علي طريقية العادة، مثل ما تضمن أن الصفرة في أيام الحيض حيض «1». قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و لا يعارضه في الدم الآخر إلا قاعدة الإمكان، و هي كالأصل لا تصلح لمعارضة الأمارة».

و اخري: بما دل علي ذلك في مستمرة الدم مع إلغاء خصوصية الاستمرار أو الفترة، كما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه، أو بضميمة حديث يونس المتقدم المتضمن أن متقطعة الدم بعد الشهر بمنزلة المستحاضة.

لكن الإجماع المدعي في المستند غير ثابت علي إطلاقه. مع أنه لو تم مختص بما يري بعد العادة، و لا ينفع فيما يري قبلها الذي هو المهم في المقام، حيث قد يدعي أنه هو الحيض، دون ما في العادة، أما حيضية ما في العادة مع تقدمه فلعله في الجملة ليس موردا للإشكال.

و أما عموم أمارية العادة فلم يثبت بنحو معتد به. و حيضية الصفرة فيها لا

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض.

ص: 230

______________________________

تستلزمها، لإمكان أن تكون بملاك عدم امتناع حيضية الصفرة أو عدم استبعادها مع خروجها في العادة، و تكون حيضيتها كحيضية الدم في غيرها لأجل قاعدة الإمكان لا لأمارية العادة.

مع أن أمارية العادة علي حيضية ما فيها لا يكفي في رفع اليد عن عموم قاعدة الإمكان في الدم الآخر التي هي من سنخ الأصل إلا أن تكون حجة في لازم مؤداها، لتنهض بنفي حيضيته، و قد تحقق في محله أن الأمارية لا تستلزم ذلك، بل هو محتاج لدليل خاص مفقود في المقام.

هذا و قد يدعي أن قاعدة الإمكان لما كانت شاملة لكل من الدميين فامتناع حيضيتهما معا مستلزم لسقوط عمومها في كل منهما، و يكون المرجع عموم حجية العادة لو تم بلا حاجة إلي حجيتها في لازم مؤداها، حيث يكفي في عدم التحيض بالآخر استصحاب عدم الحيض.

أو يدعي أنه بعد معارضة قاعدة الإمكان في الدم الذي في غير العادة لأمارية العادة علي حيضية ما يري فيها و تساقطهما يكون المرجع فيما يري في العادة قاعدة الإمكان بلا معارض.

لكن الأول موقوف علي سقوط قاعدة الإمكان بالمعارضة في رتبة سابقة علي إعمال أمارية العادة، إذ لو كانت أماريتها في رتبة جريان قاعدة الإمكان في الفردين سقطا معا بناء علي ما هو الظاهر من عدم مرجعية كثرة الأدلة في مقام التعارض.

و الثاني موقوف علي كون جريان قاعدة الإمكان فيما يري في العادة في رتبة متأخرة عن إعمال أمارية العادة فيه. و كلاهما محل إشكال. فتأمل.

هذا كله بناء علي تعارض تطبيق قاعدة الإمكان في كل من الدميين، و أما بناء علي ما يأتي من عدم جريانها إلا في الأول فيختلف الحال، كما لا يخفي.

نعم، لو كانت العادة بنفسها أمارة علي عدم حيضية الدم في غيرها، لا من حيثية كونه لازما لحيضية ما فيها، بحيث تصلح لنفي حيضيته لو لم تر الدم في العادة،

ص: 231

______________________________

أو فصل أقل الطهر بينهما، اتجه حكومتها علي القاعدة.

و عليه قد يبتني ما تقدم من الغنية و المستند، لكن لا دليل علي ذلك، لوضوح أن حيضية الصفرة في العادة أعم منه، و نصوص مستمرة الدم مختصة بها، فتعميمها لكل ذات دم بلا وجه.

بل نصوص الاستظهار «1» و تقدم الدم علي العادة «2» و غيرها شاهدة بخلافه، كإطلاق نصوص قاعدة الإمكان. بل لا يبعد تحصيل الإجماع في جملة من الموارد علي خلافه.

و أما نصوص مستمرة الدم فقد سبق أن تعميمها لكل ذات دم راجع إلي انحصار الحيض بما في العادة، و لا مجال للبناء عليه، و أما تعميمها لكل ما إذا تعذر البناء علي حيضية تمام الدم فيشمل المقام، فهو و إن كان ممكنا إلا أنه يحتاج إلي دليل.

بل يأتي إن شاء اللّه في مستمرة الدم أن حيضها في الدور الأول من حين رؤية الدم و إن كان قبل العادة، و إنما ترجع للعادة في الدور الثاني و ما بعده لو استمر، فمع قصور الإرجاع للعادة في نصوص مستمرة الدم عن بعض أحوالها كيف يمكن التعدي بها لغيرها.

و أما حديث يونس فقد سبق اختصاصه بمن تستمر علي الحال المذكورة فيه أكثر من شهر، فالتعدي منها لكل من يتقطع منها الدم بالنحو الذي لا يمكن فيه حيضيته بتمامه بلا وجه. و لا سيما مع أن لازمه اختصاص الحيض بما في العادة و لو مع إمكان حيضية تمام الدم، و قد سبق أنه لا مجال للبناء عليه.

و قد تحصل من جميع ما تقدم أنه لا خصوصية للعادة في تعيين الحيض في المقام.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض.

(2) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب الحيض.

ص: 232

مطلقا (1)، أما إذا لم يصادف شي ء منها العادة- و لو لعدم كونها ذات عادة- فإن كان أحدهما واجدا للصفات دون الآخر جعلت الواجد حيضا و الفاقد استحاضة (2)، و إن تساويا تحيضت بالأول علي الأقوي.

______________________________

(1) يعني: و إن كان ما في العادة فاقدا للصفات، و الآخر واجدا لها. لأنه لو تم الترجيح بالصفات و قيل بعموم حجيتها و عدم اختصاصها بمستمرة الدم فهي متأخرة عن العادة، لاختصاص أدلتها بنصوص مستمرة الدم المنزلة علي ذلك كما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما يظهر من كشف اللثام، و كأن الوجه فيه عموم حجية الصفات الذي لا إشكال في تقديمه علي قاعدة الإمكان في الفاقد، لصلوحها لنفي حيضيته.

و خصوص ما ورد في مستمرة الدم مع إلغاء خصوصية الاستمرار و تعميمه لكل ما إذا تعذر البناء علي حيضية تمام الدم، و لو بضميمة حديث يونس بن يعقوب.

لكن سبق عند الكلام في قاعدة الإمكان إنكار عموم حجية الصفات و أنها مختصة بمستمرة الدم. كما سبق عند الكلام في الرجوع للعادة المنع من إلغاء خصوصية الاستمرار في نصوصه، و اختصاص حديث يونس بمن تستمر علي الحال المذكورة فيه. و من هنا كانت الصفات كالعادة غير صالحة لتعيين الحيض في المقام.

و لعله لذا أطلق في القواعد و محكي نهاية الأحكام حيضية الأول خاصة، و جعله في الجواهر الظاهر من إطلاق الأصحاب، بل إجماعهم المدعي. قال: «و لا يتنقض ما حكمنا بحيضيته من الدم الأول و إن كانت الامرأة مبتدئة أو مضطربة و الدم الأول غير جامع للصفات و الثاني جامعا».

و عن بعض مشايخنا الاستدلال علي ذلك فيما لو كان كل منهما واجدا للصفات- بعد البناء منه علي اختصاص الحيض في غير العادة بواجدها مطلقا لإطلاق أدلتها- بأن مقتضي إطلاق أخبارها هو الحكم بحيضية الدم الأول، لعدم المانع من حيضيته،

ص: 233

______________________________

و مع الحكم بحيضيته لا يبقي موضوع لحيضية الثاني- للزوم فصل أقل الطهر بين الحيضتين- ليمكن إحرازها بالصفات كي تعارض تطبيق دليل الصفات علي الأول، نظير تقديم الأصل السببي علي المسببي، لارتفاع موضوعه به دون العكس، بل تطبيق دليل الصفات علي الأول يقتضي بالالتزام كون الثاني استحاضة.

و فيه: أولا: أن عدم المانع من حيضية الدم غير مأخوذ شرعا في موضوع حجية الصفات، و إنما لا تكون الصفات حجة مع امتناع حيضية الدم لاستحالة جعل الحجة مع العلم.

و مجرد إحراز حيضية الأول بالصفات لا توجب العلم بحيضيته و عدم حيضية الثاني، ليمتنع شمول دليل حجية الصفات للثاني، بل مقتضي إطلاق دليلها حجيتها علي حيضيته الموجب لتعارض الحجتين و تساقطهما.

إن قلت: عدم المانع من حيضية الدم و إن لم يؤخذ في موضوع حجية الصفات إلا أنه مأخوذ في حيضية الدم التي تحرز بها، فمع كون مقتضي حجية الصفات في الأول حيضيته و امتناع حيضية الثاني لا مجال لحجية الصفات في الثاني، لارتفاع موضوع مؤداها- و هو حيضية الثاني- بالأول تعبدا، و إن لم يرتفع به موضوع حجيتها، كما هو الحال في الأصل السببي المحرز لارتفاع موضوع الحكم المحرز بالمسببي، لا ارتفاع موضوع نفس الأصل المسببي.

و بعبارة أخري: كما يكون الترتب بين التعبدين موجبا لتقديم السابق رتبة منهما، كذلك يكون الترتب بين مؤدييهما موجبا لتقديم ما يحرز السابق رتبة من المؤديين.

قلت: الترتب بين المؤديين إنما يكفي في التقديم في الأصول لفهمه عرفا من إطلاق أدلتها في مقام الجمع بينها بسبب ابتلائها غالبا بالأصول المسببية، فلو بني علي التعارض بين السببي و المسببي لزم غلبة عدم فعلية العمل بها، و لأن نسبة السببي للمسببي نسبة الحكم الثانوي للحكم الأولي، إلي غير ذلك من القرائن المذكورة في محلها، و لا مجال لذلك في الأمارات التي لا يغلب فيها التعارض و تبتني حجيتها علي

ص: 234

______________________________

كاشفيتها النوعية التي لا دخل للترتب بين المؤديات فيها، بل هي في عرض واحد مع فرض إطلاق موضوع حجيتها.

و ثانيا: أنه لو أخذ في موضوع حجية الصفات إمكان حيضية الدم أو اكتفي في تقديم إحدي الأمارتين تقدم مؤداها رتبة فكل من الدميين ممكن الحيضية لو لم يكن الآخر حيضا، ممتنع الحيضية لو كان الآخر حيضا، فتطبيق عموم حجية الصفات في كل منهما موجب لإحراز ارتفاع موضوع حجيتها في الآخر. و ليس السبق الزماني معينا لتطبيق العموم علي السابق، بل يتعين سقوط التطبيقين معا.

و مجرد عدم اليقين حين خروج الأول بخروج الثاني إنما يصحح الرجوع للصفات في الأول قبل العلم بخروج الثاني أما بعد العلم بخروجه فينكشف تمانع التطبيقين من أول الأمر.

نعم، يتجه الترجيح بالسبق الزماني بناء علي توقف حيضية الدم الواجد للصفات و دخوله تحت الأدلة علي فعلية خروجه، بحيث لو علم يوم الجمعة مثلا بخروج دم واجد للصفات يوم السبت لم يحرز يوم الجمعة حيض يوم السبت، بل يجري فيه استصحاب عدم الحيض المذكور بنحو الاستصحاب الاستقبالي، و إنما يحرز الحيض المذكور بعد خروج الدم يوم السبت، فلا يمتنع استصحاب عدمه إلا حينئذ، نظير ما لو علم الشاك بأنه سوف يقطع و لو خطأ بانتقاض الحالة السابقة، حيث لا يمنع ذلك من استصحابها قبل حصول القطع.

فإنه بناء علي ذلك يقطع بتحقق موضوع حجية الصفات حين خروج الدم الأول، فيحرز بها حيضيته، لعدم دخول الدم الثاني تحت دليل الحجية كي يعارض الأول، و حينئذ يحرز امتناع حيضية الدم الثاني في مرتبة خروجه، فلا يتم موضوع حجية الصفات فيه حين خروجه ليحرز بها حيضيته المستلزمة لامتناع حيضية الدم الأول، كي يتعارض التطبيقان، فيكون المورد من صغريات مرجحية السبق الزماني لأحد الحكمين المتواردين علي الآخر.

ص: 235

______________________________

لكن لا مجال للبناء علي ذلك في أمارية الصفات، لارتكاز تبعيتها لكاشفيتها الذاتية التي لا تتوقف علي فعلية خروج الدم، فيدخل الدم الثاني تحت عموم دليل الحجية من أول الأمر كالدم الأول و يتعارض التطبيقان.

و لذا كان المرتكز تنجز أحكام الحيض اللاحق حين العلم بخروج الدم الواجد للصفات في المستقبل فلا يجوز حينئذ التعجيز عن الخروج من المسجد حين خروج الدم، مع أنه لو لم تحرز الحيضية إلا بعد خروجه لجاز ذلك، كما لو كانت المرأة حين شكها بأنها سوف تحيض بعد يومين عالمة بأنها سوف تقطع بالحيض و لو خطأ، حيث يجوز لها حين الشك تعجيز نفسها عن الخروج من المسجد حين القطع، لعدم المنجز للحيض حينئذ، و إنما يحصل المنجز بعد التعجيز. فلاحظ.

هذا كله بناء علي حجية الصفات، و أما بناء علي عدم حجيتها و أن المرجع عموم قاعدة الإمكان فقد استدل في الجواهر و غيره علي حيضية الأول بصحيح صفوان عن أبي الحسن عليه السّلام: «إذا مكثت المرأة عشرة أيام تري الدم ثم طهرت فمكثت ثلاثة أيام طاهرا ثم رأت الدم بعد ذلك أتمسك عن الصلاة؟ قال: لا هذه مستحاضة» «1».

و قد استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه باحتمال كون السؤال فيه عن جواز التحيض بالثاني في ظرف المفروغية عن حيضية الأول، لا في مقام السؤال عن تعيين ما هو الحيض من الدميين.

و يندفع بأن ظاهر السؤال أن البناء علي حيضية الدم الأول ليس إلا لكونه دما من شأنه أن يبني علي حيضيته، و لو لقاعدة الإمكان التي لا إشكال في الرجوع إليها قبل رؤية الدم الثاني، لعدم الإشعار فيه بما يحرز حيضيته زائدا علي ذلك من عادة أو تمييز أو غيرهما، و إلا كان المناسب تعرض السائل له لدخله ارتكازا في الجهة المسئول عنها، فإطلاق الجواب بأن الثاني استحاضة من دون تفصيل ظاهر في إقرار البناء علي حيضية الأول و عدم انتقاضه بخروج الثاني مطلقا، كما هو المدعي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة، حديث: 3.

ص: 236

______________________________

و يعضده في ذلك ما في مرسلة يونس القصيرة من قوله عليه السّلام: «و لا يكون الطهر أقل من عشرة أيام. فإذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيام ثم انقطع الدم اغتسلت و صلت، فإن رأت بعد ذلك الدم و لم يتم لها من يوم طهرت «1» عشرة أيام فذلك من الحيض تدع الصلاة، فإن رأت الدم من أول ما رأته [رأت. في] الثاني الذي رأته تمام العشرة أيام و دام عليها عدت من أول ما رأت الدم الأول و الثاني عشرة أيام ثم هي مستحاضة» «2»، فإنه صريح في عدم رفع اليد عن حيضية الدم الأول باستمرار الدم الثاني بالنحو المانع من حيضية مجموع الدميين بل يتعين كون ما زاد علي العشرة من الدم الثاني استحاضة.

نعم، قوله عليه السّلام: «فإذا حاضت المرأة» ظاهر في المفروغية عن كون الأول حيضا. لكن الظاهر أن منشأها قاعدة الإمكان، لعدم الإشعار فيه بكونها ذات عادة أو تمييز، بل هو لا يناسب الحكم بتحيضها بالعشرة، لأن ذات العادة أو التمييز تقتصر عليهما مع استمرار الدم عندهم.

هذا و قد استشكل غير واحد في نهوض قاعدة الإمكان بإثبات حيضية الأول بأن كلا الدميين بالإضافة إليها سواء، و إعمالها في كل منهما مانع من إعمالها في الآخر، لارتفاع موضوعها- و هو الإمكان- معه، فلا بد من قصورها عن كلا الدميين، نظير ما تقدم منا في الصفات.

و لا مجال لتوهم الترجيح بالسبق الزماني، لنظير ما سبق في الصفات من أن شمولها للدم المتأخر و إحرازها حيضيته لا يتوقف علي فعلية خروجه، لينفرد الأول حين خروجه في الدخول تحت العموم و يمنع من دخول الثاني فيه حين خروجه.

و حينئذ لا مجال لجريانها في أحد الدميين، لا معينا، لعدم المرجح، و لا مرددا أو تخييرا، إما لما تحقق في محله من أن الأصل في المتعارضين التساقط، أو لأن المقام من صغريات التوارد الذي يمتنع فيه شمول الدليل لكلا الفردين رأسا لعدم تمامية

______________________________

(1) تقدم في مسألة اعتبار التوالي في أقل الحيض عند الكلام في مقدار الفصل بن الدميين ما يتعلق بهذه الفقرة.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 237

______________________________

موضوعه في كل منهما، لا من صغريات التعارض، الذي يشمل فيه الدليل كلا الفردين ذاتا و إن امتنع فيه فعلية حكمه فيهما معا لاستلزامه محذور التعبد بالنقيضين، و الذي قيل فيه بالتخيير اقتصارا في التخصيص علي ما يندفع معه المذكور، أو بأن الحجة أحدهما من باب اشتباه الحجة باللاحجة، علي ما فصل في محله.

و من هنا قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «فالعمدة ظهور الإجماع علي وجوب التحيض بأحد الدميين … و إنما خلافهم في التعيين و التخيير، و إذ أن الأصل في مثله يقتضي حيضية الأول يتعين البناء علي حيضيته».

لكن هذا مختص بما إذا لم يكن الثاني في العادة أو واجدا للصفات مع فقد الأول لها، و إلا كان المورد من موارد الدوران بين المتباينين، لأن ما سبق من عدم حجية العادة و لا الصفات راجع إلي عدم ثبوت مرجحيتهما، لا ثبوت عدمها، فلا يكون جواز التحيض بالأول متيقنا، بل يلزم الاحتياط في كلا الدميين، للعلم إجمالا بوجوب التحيض بأحدهما.

و كذا لو علم إجمالا بحيضية أحد الدميين واقعا، لخروجه عن المتيقن من الإجماع علي جواز التحيض بالأول، لاحتمال اختصاصه بما إذا كان التحيض مقتضي الوظيفة الظاهرية، حيث وقع الخلاف في كونها تعيينية أو تخييرية، دون ما إذا كان التحيض مقتضي الوظيفة الواقعية تبعا للحيض الواقعي المردد بين الدميين. فتأمل.

اللهم إلا أن يدعي الإجماع علي عدم وجوب الاحتياط علي الحائض بين الدماء، و جواز الاقتصار في التحيض علي أحدها في خصوص المقام أو مطلقا، فيكشف عن تشريع الوظيفة الظاهرية الواصلة لتعيين مورد التحيض، و لازم ذلك التحيض بالأول إذا لم يكن مقتضي العادة أو التمييز الثاني، و إلا فالتخيير بينهما.

لكن لا مجال لتحصيل الإجماع علي ذلك. بل يشكل تحصيله علي وجوب التحيض بأحد الدميين إذا لم يعلم إجمالا بحيضية أحدهما، لقلة التعرض لذلك في كلماتهم.

ص: 238

______________________________

و يقرب ابتناء فتاوي من تعرض له علي فهم مضمونها من النصوص أو قاعدة الإمكان، فمع ظهور عدم نهوضها بذلك يكون المرجع الأصل، و مقتضاه عدم حيضية كلا الدميين مع الشك في حيضيتهما معا، لاستصحاب عدم الحيض، و الاحتياط بينهما مع العلم الإجمالي بحيضية أحدهما.

هذا كله بناء علي أن موضوع القاعدة هو الإمكان المطلق و لو من حيثية الدم اللاحق، حيث يكون نسبة كلا الدميين إليه سواء و يتعارض التطبيقان، أما لو كان موضوعها الإمكان من غير حيثية الدم اللاحق، فتشمل الدم الأول لا غير، لا لمرجحية السبق الزماني في إعمال القاعدة، بل لعدم مانعية الدم الثاني من تحقق موضوعها فيه، و مع الحكم بحيضيته تمتنع حيضية الثاني، و يخرج عن موضوع القاعدة.

و يشهد به موثق سماعة المتضمن التحيض بالدم المتقدم علي العادة، معللا بأنه ربما تعجل بها الوقت، حيث تقدم أنه من أدلة القاعدة، مع قوله عليه السّلام في ذيله: «فإن كان أكثر من أيامها التي كانت تحيض فيهن فلتربص ثلاثة أيام بعد ما تمضي أيامها، فإذا تربصت ثلاثة أيام و لم ينقطع الدم عنها فلتصنع كما تصنع المستحاضة» «1»، فإنه صريح في تعين ما بعد الاستظهار لأن يكون استحاضة و إن صادف أيام العادة، فضلا عما إذا لم يصادفها.

حيث يكشف ذلك عن عدم كون المراد بالتعليل المانع و لو من حيثية الدم اللاحق، بل من غير حيثيته، و إلا لأوجب الاستمرار التوقف عن إعمال القاعدة في أول الدم.

و هو و إن اختص بمستمرة الدم، دون من تقطع عليها الدم، إلا أن خصوصية الاستمرار ملغية عرفا بعد لزوم كون التعليل ارتكازيا، لعدم الفرق بينهما ارتكازا.

بل لعل تعيين أول الدميين غير المتصلين للحيضية أولي من تعيين أولي قسمي الدم المستمر لها عرفا.

و لذا كان من القريب جدا فهم حكمه من جميع نصوص مستمرة الدم الحاكمة

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 239

______________________________

بكون ما بعد العشرة أو مقدار العادة استحاضة و منها نصوص الاستظهار، فيستفاد منها كون الحيض هو الأول مع انقطاع الدم أيضا.

و لعله لذا له يشر في النصوص لمانعية التقطع من البناء علي حيضية الدم الأول الظاهر في المفروغية عن عدمها.

كما قد يشهد بذلك أيضا ما تقدم في مرسلة يونس القصيرة من تفريع حيضية الأول بتمامه، دون تمام الثاني علي الحكم بأن أقل الطهر عشرة أيام، لظهوره في أن تحديد أقل الطهر بالعشرة لا يقتضي التوقف عن تعيين الحيض من الدميين، بل عن حيضية تمام الثاني، و لزوم الحكم بحيضية خصوص ما لا ينافي حيضية الأول منه.

بل الإنصاف أن ملاحظة ذلك مع صحيح صفوان و نصوص مستمرة الدم- و منها موثق سماعة- و نصوص التحيض بمجرد الرؤية مع القرائن التي سبقت في المسألة الخامسة تقرب استظهار أن موضوع قاعدة الإمكان هو الإمكان بلحاظ الموانع السابقة علي الدم، دون اللاحقة له، كعدم استمراره ثلاثة أيام أو حيضية الدم اللاحق الذي لا ينفصل عنه بأقل الطهر، فيكون مقتضي قاعدة الإمكان الارتكازية المفروغ عنها نصا و فتوي التحيض بالدم و عدم التعويل علي الاحتمالات المذكورة، كما هو المناسب للارتكازيات العرفية و المتشرعية في الجملة، خلافا لما سبق من قصور قاعدة الإمكان عما لو احتمل عدم استمرار الدم ثلاثة أيام كما أشرنا إليه هناك.

و لعله لذا سبق من الجواهر دعوي ظهور كلمات الأصحاب فلي إطلاق التحيض بالأول هنا، كما سبق منا ظهورها في إطلاق التحيض بمجرد الرؤية. و حينئذ لا تجري القاعدة في الدم الثاني لارتفاع موضوعها فيه مع جريانها في الأول.

و لو لم ينهض ذلك بمجموعه بالاستدلال في المقام فلا أقل من كونه مؤيدا لإطلاق صحيح صفوان و مرسلة يونس المتقدمين. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

ص: 240

بقي في المقام أمران:
الأول: بعد ما سبق من كون الأول حيضا فلا إشكال في عدم حيضية الثاني لو كان بعد مضي عشرة أيام من رؤية الأول.

______________________________

و أما لو كان قبل ذلك فهل يحكم بعدم حيضيته بتمامه- كما هو مقتضي إطلاق القواعد و محكي نهاية الأحكام حيضية الأول خاصة- أو بحيضية ما صادف منه العادة- كما في جامع المقاصد و الروض- أو ما كان قبل مضي عشرة أيام؟

ففي مرسل داود المتقدم: «فإذا مضت أيام حيضها و استمر بها الطهر صلت، فإذا رأت الدم فهي مستحاضة» «1»، و في موثق سعيد بن يسار المتقدم فيمن تري بعد طهرها الشي ء من الدم الرقيق: «تستظهر بعد أيامها بيومين أو ثلاثة ثم تصلي» «2»، و تقدم في مرسلة يونس القصيرة أنها تتحيض إلي تمام العشرة «3».

و لعل مقتضي الجمع بينها بضميمة نصوص الاستظهار، التحيض في غير ذات العادة إلي العشرة، و في ذات العادة إلي مقدارها جزما و بما زاد عليها بيومين أو ثلاثة أو إلي تمام العشرة مع استمرار الدم من باب الاستظهار الذي يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّه تعالي.

الثاني: قد تضمن صحيح يونس بن يعقوب فيمن تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة و الطهر كذلك مكررا التحيض بكل دم إلي شهر «4»،

و كذا صحيح أبي بصير فيمن ترهما خمسة أيام أو تري الدم أربعة و الطهر ستة كذلك «5».

و قد أفتي بمضمون الثاني في المقنع و الفقيه. و ربما نسب للمبسوط و النهاية.

لكنه قال في المبسوط بعد أن ذكر شروط الحيض و العادة و أنها قد تتقدم: «فإن اختلط عليها أيامها، فلا يستقر لها علي وجه واحد تركت الصوم و الصلاة كلما رأت

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض، حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض، حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض، حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض، حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض، حديث: 3.

ص: 241

______________________________

الدم، و كلما رأت الطهر صلت إلي أن تستقر عادتها».

و قال في النهاية: «فإن كانت امرأة لها عادة إلا أنها اختلطت عليها العادة و اضطربت و تغيرت عن أوقاتها و أزمانها فكلما رأت الدم تركت الصوم و الصلاة، و كلما رأت الطهر صلت و صامت إلي أن ترجع إلي حال الصحة. و قد روي أنها تفعل ذلك ما بينها و بين شهر ثم تفعل ما تفعله المستحاضة».

ثم ذكر بعد ذلك شروط الحيض و ظاهرهما لزوم الخروج عن العادة بالدم المخالف لها، لا حيضية الدم المخالف لشروطه المقررة.

نعم، ذيل كلام النهاية مشعر بنظره للصحيحين. لكنه قد يكون لحملهما علي ما يناسب ما سبق منه، و ليس بنحو يخرج به عن إطلاق ما ذكره من حدود الحيض. فلاحظ.

و كيف كان، فإن حمل الصحيحان علي أن جميع الدماء حيض واقعا و جميع النقاءات طهر واقعا- كما يظهر من الحدائق- كانا مخالفين لما تضمن أن الحيضة الواحدة لا تكون في أكثر من عشرة أيام أو لما تضمن أن أقل الطهر بين الحيضتين عشرة أيام، كما ذكرناه عند الكلام في حكم النقاء المتخلل بين الدميين.

مضافا إلي عدم خصوصية الشهر في ذلك ارتكازا، لتبعية الحيض الواقعي لمزاج المرأة من دون خصوصية للشهر.

و إن حملا علي أن كلا من الدماء حيض ظاهرا و ليس الحيض الواقعي إلا ما لا ينافي ما سبق- كما يظهر من الشيخ في الاستبصار و استحسنه في المعتبر، و قد يناسبه ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من حملهما علي المتحيرة- فإن كان مع عدم وجوب القضاء مع انكشاف عدم الحيض فهما و إن كانا غير منافيين للعلم الإجمالي بعدم حيضية بعض الدماء، لعدم الابتلاء بأحكام كل منها عند الابتلاء بالآخر.

إلا أنه- مع منافاته لعموم وجوب القضاء، و لا سيما مع التصريح بوجوبه في مرسلة يونس القصيرة فيمن تحيضت يومين و لم يتم لها ثلاثة أيام في ضمن العشرة «1» - يبعد بناء الأصحاب عليه جدا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 242

______________________________

و إن كان مع وجوب القضاء كانا منافيين للعلم الإجمالي المنجز بسبب الابتلاء بأحكام الدم السابق عند خروج اللاحق، فلا بد من حملهما علي عدم التعبد بحيضية الدم، بل خصوص ترك الصلاة حاله احتياطا لاحتمال الحيض، لأنه أهم من الاحتياط بفعلها لاحتمال عدمه، بناء علي أن حرمة الصلاة علي الحائض ذاتية و أنها تعم فعلها برجاء المطلوبية، أو لتعذر الاحتياط بفعلها لاعتبار الجزم بالنية.

و هو- مع ما فيه من التكلف- لا يناسب إهمال التنبيه علي وجوب القضاء جدا. و من هنا كان مضمونهما غريبا في نفسه غير مناسب للعمومات و القواعد المعول عليها عند الأصحاب.

و لذا يشكل الاعتماد عليهما، و لا سيما مع مخالفتهما لصحيح صفوان و مرسلة يونس و موثق سعيد بن يسار و مرسل داود المتقدمة، فإنها صريحة في التحيض بالدم الأول دون ما بعده مما لا تجتمع حيضيته مع حيضيته.

و لا مجال لحمل الصحيحين علي ما لو علم باستمرار التقطع إلي الشهر فما زاد و حمل غيرهما علي عدم دوامه، لبعد العلم بذلك جدا، و لقوة ظهورهما في توقع الانقطاع قبل الشهر و أن التحيض بالدم إلي تمام الشهر لاحتمال ذلك، فلا يلزم من الاحتياط لاحتمال الحيض التفريط بالصلاة كثيرا.

كما لا مجال لحمل النصوص الأخر علي خصوص ما لو علم بعدم تقطع الدم و عوده أكثر من مرة واحدة، لبعد العلم بذلك أيضا.

علي أن تكرر السؤال في صحيح يونس عن كل مرة و إطلاق الجواب فيها من دون نظر لغيرها و عدم السؤال عن صورة التكرر مرة واحدة يجعله كالصريح في عدم دخل استمرار التقطع في الحكم.

و من هنا كان التعارض بينهما و بين النصوص الأخر مستحكما، و لا ينبغي التأمل في ترجيح تلك النصوص لمطابقة مضمونها للقاعدة و التعويل عليها بين الأصحاب. فلاحظ.

ص: 243

مسألة 8: إذا تخلل بين الدمين أقل الطهر كان كل منهما حيضا مستقلا

(مسألة 8): إذا تخلل بين الدمين أقل الطهر كان كل منهما حيضا مستقلا (1)، سواء أ كان كل منهما أو أحدهما في العادة أم لا (2)، و سواء

______________________________

(1) كما في المبسوط و الوسيلة و الشرائع و القواعد و التذكرة و الروض، و ظاهر غير واحد المفروغية عنه.

و يقتضيه عموم قاعدة الإمكان المصرح بها في كلماتهم و معاقد إجماعاتهم. بل لا إشكال فيه في الجملة علي ما يأتي.

و أما ما تضمن أن ما يري بعد العشرة فهو من حيضة مستقبلة الذي تقدم في أول الفصل فيظهر الإشكال في الاستدلال به مما تقدم هناك. فراجع.

(2) أما إذا لم تكن المرأة ذات عادة فلظهور كلماتهم في بيان العادة بلحاظ الشهر الحيضي الذي أقله ثلاثة عشر يوما في المفروغية عنه. و منه يظهر مفروغيتهم عنه لو كان كل منهما في العادة المذكورة، لأنه أولي من ثبوته قبلها.

و يقتضيه فيهما موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام: «أن أمير المؤمنين عليه السّلام قال في امرأة ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض، فقال: كلفوا نسوة من بطانتها أن حيضها كان فيما مضي علي ما ادعت، فإن شهدن صدقت، و إلا فهي كاذبة» «1».

و أما لو كان كل منهما في العادة بلحاظ الشهر الهلالي المستلزم للفصل بين الدميين بعشرين يوما أو أكثر فهو المقطوع به من النصوص و الفتاوي، إذ لا ريب في انعقاد العادة به المستلزم للتحيض بما يري في كل شهر قبل انعقاد العادة و بعده.

و أما لو كانت ذات عادة فخالف أحد الدميين أو كلاهما عادتها فهو مقتضي ما سبق من المبسوط و النهاية من أن من اختلطت عادتها تتحيض كلما رأت الدم، لتوقف اختلاط العادة علي مخالفتها في أول الأمر، بل صرح في المبسوط بأن من رأت الدم في عادتها ثم طهرت عشرة أيام و رأت بعدها صفرة تحيضت بها، لأنها قد استوفت أيام الطهر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 244

أ كان كل منهما أو أحدهما واجدا للصفات أم لا (1) علي الأقوي.

______________________________

و يقتضيه في غير الصفرة ما عرفت من عموم قاعدة الإمكان. و أما الصفرة فقد سبق المنع من التحيض بها في غير أيام العادة أو قبلها بيومين مطلقا.

لكن في المستند: «لو رأت في العادة و انقطع عليها أو علي غيرها و طهرت أقل الطهر ثم رأت في ذلك الشهر بعدد العادة أيضا، فإن كان ذلك لها عادة تحيضت بهما، و كان كل حيضا، و إن لم يكن عادة لها فالمشهور فيه ذلك أيضا. و الحق التحيض بأيام العادة خاصة و إن كان التمييز لغيرها»، و يناسبه ما يظهر من الغنية من إطلاق الرجوع للعادة بعد انعقادها. و كأنه لإطلاق حجية العادة، و لموثق السكوني المتقدم.

و يشكل بما تقدم فيما لو تردد الدم بين ما في العادة و غيره من إنكار عموم حجية العادة لإثبات حيضية ما فيها، فضلا عن نفي حيضية ما في غيرها.

كما أن موثق السكوني وارد لبيان عدم تصديق المرأة مع عدم إحراز موافقة ما تدعيه لمقتضي العادة، و هو مختص بمورد يرجع فيه إليها كالعدة، و لا ينافي كون الدم حيضا شرعا، فيجب عليها ترتيب أحكامه في حقها.

و لذا لا إشكال في إمكان انعقاد العادة علي ذلك بعد العدم و إن لم تصدق في دعواه إلا بعد انعقادها. ثم إن مفاد عمومات العادة- لو تمت- عدم مخالفة العادة الشرعية المنعقدة باتفاق الشهرين الهلاليين، و مفاد الموثق لزوم سبق العادة العرفية بمدة معتد بها.

(1) كما هو صريح ما تقدم من المبسوط و مقتضي إطلاق غيره. و تقتضيه قاعدة الإمكان المصرح في كلماتهم بعمومها لفاقد الصفة.

لكن سبق قصوره عن خصوص الصفرة في غير أيام العادة أو قبلها بيومين.

كما أن من يري قصوره عن فاقد الصفات مطلقا لا بد له من البناء علي عدم حيضية الفاقد في المقام إذا كان في غير العادة، كما صرح به في المدارك.

ص: 245

ص: 246

الفصل السادس في تشخيص الحيض
إذا انقطع دم الحيض لدون العشرة، فإن احتملت بقاءه في الرحم وجب الاستبراء

الفصل السادس إذا انقطع دم الحيض لدون العشرة، فإن احتملت بقاءه في الرحم (1) استبرأت بإدخال القطنة (2).

______________________________

(1) أما لو علمت بأحد الأمرين فلا استبراء عليها، كما صرح به غير واحد و حكي عن جماعة، لظهور النصوص الآتية في كون وجوبه طريقيا لمعرفة حال الدم لا نفسيا، و لا غيريا لشرطيته في صحة الغسل و الصلاة و نحوهما.

و مقتضي إطلاق النصوص عدم الاكتفاء بالظن بعدم بقائه في الرحم و لو استند لعادة أو نحوها، بل و لا بالاطمئنان بناء علي ما هو الظاهر من عدم حجيته في نفسه. فلاحظ.

(2) كما صرح به الأصحاب بنحو يظهر منهم الوجوب، بل هو صريح جملة منهم، و استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، و عن الذخيرة نسبته للأصحاب مشعرا بدعوي الإجماع عليه، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه سوي ما عساه يظهر من المنقول عن الاقتصاد للتعبير بلفظ: (ينبغي) المشعر بالاستحباب».

و لعله لذا نسبه في كشف اللثام لظاهر الأكثر. لكن تنزيل ما في الاقتصاد علي الوجوب ليس بعيدا.

و يقتضيه صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة فإن خرج فيها شي ء من الدم فلا تغتسل، و إن لم تر شيئا فلتغتسل. و إن رأت بعد ذلك [صفرة. في، يب] فلتوض [فلتتوضأ. في، يب] و لتصل» «1»، و مرسل يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سئل عن امرأة انقطع عنها الدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض، حديث: 1.

ص: 247

______________________________

فلا تدري أ طهرت أم لا؟ قال: تقوم قائما و تلزق بطنها بحائط و تستدخل قطنة بيضاء، و ترفع رجلها اليمني، فإن خرج علي رأس القطنة مثل رأس الذباب دم عبيط لم تطهر، و إن لم يخرج فقد طهرت تغتسل و تصلي» «1»، و قريب منه موثق سماعة «2».

و الظاهر حجية المرسل لعين ما تقدم في مرسلته القصيرة عند الكلام في اعتبار التوالي في أقل الحيض، بل يزيد عليها بأن إبراهيم بن هاشم رواه عن إسماعيل بن مرار و غيره عن يونس و اقتصر علي إسماعيل بن مرار في المرسلة.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم و سيدنا المصنف قدس سرهما من أن ظاهر الأخيرين بيان طريق العلم بانتفاء الحيض من دون دلالة علي وجوبه عليها.

فيشكل بأن ظاهر السؤال عن المرأة المذكورة هو السؤال عن وظيفتها الشرعية، لاعن قضية واقعية متعلقة بها لا يرجع فيها للشارع بما هو شارع.

و لذا لو أجاب عليه السّلام بجواز الاعتماد علي الأصل كان مناسبا للسؤال لا إعراضا عنه.

و من هنا لم يعهد التوقف منهم في دلالة ما ورد عند الاشتباه بالقرحة «3» علي وجوب الفحص مع مشابهته للحديثين في اللسان.

نعم، يتم ما ذكراه في خبر شرحبيل الكندي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: كيف تعرف الطامث طهرها؟ قال: تعمد برجلها اليسري علي الحائط و تستدخل الكرسف بيده [كذا] اليمني، فإن كان ثم مثل رأس الذباب خرج علي الكرسف» «4».

و منه يظهر أن وجوب الاستبراء كما يمنع من الاعتماد علي انقطاع الدم في البناء علي الطهر- الذي يكفي في المنع عنه الاستصحاب- كذلك يمنع من البناء علي الحيض عملا باستصحابه، كما هو مقتضي إطلاق من علق وجوب الاستبراء علي انقطاع الدم، بل ادعي سيدنا المصنف قدّس سرّه أنه ظاهر الكل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض، حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض، حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 16 من أبواب الحيض، حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض، حديث: 3.

ص: 248

______________________________

لأن ذلك مقتضي إطلاق الموثق و المرسل، فلا يهم معه عدم ظهور الصحيح إلا في الأول لتعليق الأمر بالاستبراء فيه علي إرادة الاغتسال، لا علي انقطاع الدم، فلا ينافي جواز ترك الاغتسال و البناء علي بقاء الحيض بدونه عملا بالاستصحاب.

لكن سيدنا المصنف قدّس سرّه- مع اعترافه بذلك- قال: «اللهم إلا أن يكون النقاء الظاهري طريقا عرفا بالإضافة إلي إلغاء الاستصحاب، و يكون قوله عليه السّلام: «إذا أرادت أن تغتسل» إمضاء له في الجهة المذكورة، لا بالإضافة إلي ثبوت النقاء الباطني».

و هو كما تري، لأن طريقية النقاء الظاهري عرفا بالإضافة إلي إلغاء الاستصحاب إما لبنائهم علي كونه معيارا في الطهر، أو علي حجيته علي النقاء الباطني، أو لتخيلهم ملازمته له، فمع كون الأمر بالاستبراء ردعا عن الأولين و تنبيها لخطأ الأخير لا وجه لاستفادة إمضاء إلغاء الاستصحاب من قوله عليه السّلام: «إذا أرادت..».

و مثله ما احتمله شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم جريان الاستصحاب المذكور، لأصالة عدم حدوث دم في الرحم و عدم جريان أصالة البقاء في الأمور التدريجية.

إذ فيه: أن كون خروج الدم من الرحم تدريجيا لتباين أجزاء الدم- المستلزم لمباينة خروج كل منها لخروج الآخر حقيقة و ليست الوحدة بينها إلا عرفية بسبب اتصال الأجزاء- لا يستلزم كون الحيض تدريجيا، بل الظاهر أن الحيض صفة بسيطة عرفا مستمرة تنتزع للمرأة من خروج الدم لا عين خروجه، فلا يكون استصحابه مبنيا علي الاستصحاب في التدريجيات.

كما لا يكون محكوما لاستصحاب عدم حدوث الدم في الرحم، لأن التلازم بينهما خارجي لا شرعي، فرفع اليد عنه به يبتني علي الأصل المثبت.

بل حيث كان موضوع الأحكام هو الحيض جري استصحابه دون استصحاب عدم حدوث الدم في الرحم، لعدم الأثر له.

و كذا حال ما يظهر منه قدّس سرّه من الإشكال في دلالة الصحيح علي الوجوب بأنه مسوق لبيان وجوب الاستبراء عند إرادة الاغتسال لئلا يظهر الدم فيلغو الاغتسال.

ص: 249

______________________________

فإن مرجعه إلي حمل الأمر علي الإرشاد الذي هو خلاف الأصل في أوامر الشارع. مع أنه موقوف علي صحة الغسل مع وجود الدم في الباطن ثم بطلانه بخروجه للظاهر، و هو لا يناسب ظهور النصوص الأخر في إناطة الطهر بالنقاء الباطني.

و مثل ذلك في الإشكال قوله بعد المناقشة في دلالة النصوص: «فالعمدة فهم الأصحاب. و يمكن أن يؤيد بدعوي أن الأصل في امثال المقام من الشبهات الموضوعية التي لا يعلم غالبا إلّا بالفحص هو وجوب الفحص».

لعدم وضوح حجية فهم الأصحاب في المقام، و عدم تمامية المؤيد المذكور بعد إطلاقات أدلة الأصول.

اللهم إلا أن يقال: إطلاقات أدلة الأصول و إن كان مسلما إلا أن البناء علي ذلك في خصوص المقام لا يناسب المرتكزات العرفية و المتشرعية بل النصوص المتضمنة ترتيب أحكام الطهر بانقطاع الدم و رؤية الطهر، إذ لو لم يكن الانقطاع الظاهري دافعا للفحص لزم عدم العمل بتلك الأحكام كثيرا، و هو ما تأباه المرتكزات و النصوص المذكورة، خصوصا قوله عليه السّلام في مرسلة يونس الطويلة: «فإن انقطع الدم في أقل من سبع أو أكثر من سبع فإنها تغتسل ساعة تري الطهر و تصلي» «1».

و لعل هذا هو منشأ البناء العرفي علي وجوب الغسل بالنقاء الظاهري الذي يظهر من صحيح محمد بن مسلم ابتناء إرادة الغسل عليه.

و التنبيه في نصوص الاستبراء إلي عدم ملازمته للطهر لا يرجع إلي جواز التسامح في الغسل لاحتمال عدم الطهر، بل إلي لزوم التأكد منه قبله لا غير، فالصحيح المذكور و إن لم يكن ظاهرا في إمضاء ذلك- خلافا لما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه- إلا أنه لا ينهض بالردع عنه، فيتعين العمل عليه بعد ما عرفت من مطابقته للمرتكزات و النصوص. فتأمل جيدا.

و الذي تحصل من جميع ما ذكرنا: أن وجوب الاستبراء بنحو يمنع من الاكتفاء

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 250

______________________________

بانقطاع الدم في البناء علي الطهر مقتضي الصحيح و المرسل و الموثق. مضافا إلي استصحاب الحيض. و بنحو يمنع من البناء علي بقاء الحيض لاستصحابه مقتضي المرسل و الموثق المؤيدين بما سبق.

هذا و قد اقتصر في المقنع في الأمر بالاستبراء علي ما إذا رأت الصفرة و الشي ء و لا تدري أ طهرت أم لا، مع ذكر الكيفية الخاصة له التي تضمنتها بعض النصوص السابقة و غيرها.

و لعله للمحافظة علي مضمون النص لا لتقييد وجوبه بذلك، أو لاختصاص الكيفية المذكورة به و إن كان وجوب أصل الاستبراء مطلقا، نظير ما يأتي من الفقيه، و إلا أشكل ما ذكره بمخالفته لإطلاق بقية النصوص.

ثم إن في صحيح أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنه بلغه أن نساء كانت إحداهن تدعو بالمصباح في جوف الليل تنظر إلي الطهر، فكان يعيب ذلك و يقول: متي كان النساء يصنعن هذا» «1» و صحيح ثعلبة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه كان ينهي النساء أن ينظرن إلي أنفسهن في المحيض بالليل و يقول: إنها قد تكون الصفرة و الكدرة» «2».

و مقتضاهما عدم وجوب الاستبراء بالليل، بل ينتظر فيه النهار.

و دعوي: أن مقتضي التعليل في الثاني كون النهي لاحتمال التباس الأمر بسبب ظلمة الليل، فلا ينافي وجوبه مع شدة النور بالنحو الذي لا التباس معه، كما هو الحال في عصورنا بسبب الكهرباء.

مدفوعة: بأن المرأة حيث لا تحتمل الاشتباه حتي مع ضعف النور، بل تقطع بأحد الأمرين، فلا مجال لجعل الاشتباه موضوعا يكون عليه المدار في العمل، بل لا بد من كون توقعه حكمة تدعو الشارع إلي النهي عن الاستبراء بالليل لسد باب الاشتباه، مع كون الموضوع هو الليل بإطلاقه، من دون فرق بين قوة النور و ضعفه.

و الأمر محتاج للتأمل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الحيض، حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب الحيض، حديث: 2.

ص: 251

فإن خرجت ملوثة و لو بصفرة بقيت علي التحيض، كما سيأتي (1) و إن خرجت نقية اغتسلت و عملت عمل الطاهر (2)، و لا استظهار عليها هنا (3) حتي مع ظن العود (4)

______________________________

(1) و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

(2) قطعا، كما في الجواهر، و هو إجماعي كما في المدارك و المستند. و تقتضيه النصوص المتقدمة و غيرها مما تضمن الطهر و الأمر بالغسل و الصلاة بانقطاع الدم.

و هي محمولة علي ظاهرها من الطهر الواقعي مطلقا بناء علي أن النقاء المتخلل بين الدميين بحكم سائر أفراد الطهر.

أما بناء علي أنه بحكم الحيض فيتعين حملها علي صورة عدم عود الدم، أو علي الطهر الظاهري، الذي هو المتعين في بعض النصوص الواردة في صورة عود الدم أو احتماله، كمرسل داود المتقدم «1» و خبر علي بن جعفر فيمن تري الدم اليوم و اليومين و الساعة و الساعتين و ينقطع عنها مثل ذلك «2» و مرسلة يونس القصيرة فيمن تراه اليوم و اليومين «3»، علي ما تقدم عند الكلام في حكم النقاء المتخلل بين الدميين.

فراجع. و يأتي تمام الكلام في ذلك.

الكلام في الاستظهار مع النقاء و احتمال العود في ضمن العشرة

(3) الكلام في الاستظهار مبني علي أن النقاء المتخلل بين الدميين بحكم الحيض، و لا موضوع له بناء علي ما تقدم من أنه كسائر أفراد الطهر، كما لا يخفي.

(4) خلافا للدروس فحكم بالاستظهار حينئذ، بل يظهر من السرائر وجود قول به مع النقاء من دون تقييد بالظن، و حكاه في جامع المقاصد و الروض و محكي الذكري عن ظاهر المختلف، و ظاهر السرائر أنه مقتضي بعض أخبار الآحاد.

و لا يخفي أن نصوص الاستبراء السابقة إن حملت علي الحكم الظاهري في

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 252

______________________________

فرض الشك في العود كان مقتضي إطلاقها عدم جواز الاستظهار مع ظن العود، فضلا عما دونه من الاحتمال.

و الأخبار المشار إليها في السرائر لو وجدت غير تامة الحجية في نفسها، فضلا عن أن تنهض بمعارضة تلك النصوص.

و إن حملت علي الحكم الواقعي- كما لعله الظاهر منها، لعدم الإشارة فيها للشك في العود- لزم تقييدها بناء علي أن النقاء المتخلل بين الدميين بحكم الحيض- بغير صورة العود، فيكون التمسك بها مع احتماله تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص الذي لا يجوز علي التحقيق.

فالعمدة في المقام استصحاب عدم عود الدم، حيث يحرز به أن النقاء طهر بناء علي ما هو الظاهر من جريان الاستصحاب بلحاظ الأزمنة المستقبلة.

و دعوي: أن المستصحب هو الحيض، لليقين به سابقا و الشك في ارتفاعه مع النقاء، لاحتمال العود.

مدفوعة بأنه لا معني لاحتمال الحيض مع النقاء، لأن الحيض منوط عرفا بظهور الدم و مقابل للنقاء، غاية الأمر أنه يحتمل كونه بحكم الحيض، علي ما سبق توضيحه عند الكلام في حكم النقاء المذكور، و حيث كان جريان أحكام الحيض عليه مشروطا بعدم عود الدم كان مقتضي استصحاب عدمه عدم جريانها.

علي أنه لو كان الحيض من الأمور الجعلية القابلة لأن تستصحب في المقام فحيث كان موضوعه النقاء المتخلل بين الدميين كان استصحاب عدم عود الدم محرزا لعدم الحكم بالحيضية علي النقاء و حاكما علي استصحاب الحيض.

نعم، لو كان مرجع الحكم بحيضية النقاء إلي التصرف في مفهوم الحيض بإرادة ما يعم النقاء المذكور منه من دون حكم به و لا بأحكامه عليه، كان ملازما لعدم عود الدم و لم ينهض استصحاب عدم العود بإحراز عدمه، بل يجري استصحابه لا غير، إلّا أنه لا يظن منهم البناء علي ذلك.

ص: 253

______________________________

علي أن حمل نصوص الاستبراء علي الحكم الواقعي لا ينافي استفادة الحكم الظاهري من النصوص الواردة في صورة عود الدم أو احتماله التي تقدمت الإشارة إليها آنفا، فيرفع بها اليد عن الاستصحاب المذكور.

هذا و في المدارك: «و لو اعتادت النقاء في أثناء العادة ثم رؤية الدم بعده فالظاهر عدم وجوب الغسل معه، لاطراد العادة، و استلزام وجوبه الحرج و الضرر بتكرر الغسل مع تكرر النقاء. و يحتمل الوجوب للعموم و احتمال عدم العود». و حكي ذلك عن غيره.

لكن اطراد العادة بعد ما لم يكن قطعيا لا يكفي ما لم تثبت حجيتها في ذلك، و لا دليل عليها، لاختصاص دليل انعقادها في الرجوع إليها في مقدار دم الحيض، لا مقدار جلوس المرأة، فضلا عن غير ذلك، كعود الدم بعد انقطاعه. فراجع ما تقدم في الفرع السادس من فروع العادة.

و لزوم الحرج و الضرر بتكرر الغسل غير ظاهر، و لذا لم يذكر مانعا من وجوبه بناء علي كون النقاء المتخلل بين الدميين بحكم الطهر. مع أنه لو تم لا يوجب القطع بحجية العادة في ذلك، لعدم شيوع الابتلاء بذلك بنحو يستلزم وضوح الحال من السيرة التي لا تبتني علي الحرج و الضرر.

و أما عموم أدلة نفيهما فالاستدلال به موقوف..

أولا: علي نهوضه بتشريع الحكم الذي يتدارك به الضرر، كالحجية في المقام، و إلا فمجرد رفع وجوب تكرار الغسل المفروض كونه حرجيا أو ضرريا لا يقتضي عدم وجوبه بالنقاء الأول، بل يكفي فيه عدم وجوبه بالثاني.

و ثانيا: علي أن موضوعه الحرج و الضرر النوعيان، لأنهما المعلومان في المقام دون الشخصيين، لفرض عدم العلم بعود الدم ليعلم بتكرار الغسل الذي قد يستلزم الحرج و الضرر. و كلا الأمرين ممنوع، علي ما حقق في محله.

ثم إنه قال في المستند في حكم من انقطع دمها: «و لا استظهار حينئذ، وفاقا للمعظم لمرسلة داود و غيرها، خلافا لشاذ لا يعبأ به، لبعض إطلاقات الاستظهار،

ص: 254

إلّا مع اعتياد تخلل النقاء علي وجه تطمئن بعوده (1) فعليها الاحتياط بالغسل و الصلاة. و الأولي لها في كيفية إدخال القطنة (2)

______________________________

الواجب تقييده بما مر». فإن كان مراده الاستظهار مع احتمال العود الذي يحكم معه بحيضية النقاء عندهم كان مما نحن فيه. لكنه لا يناسب ما يظهر منه في أحكام الاستبراء من عدم القول بالاستظهار مع النقاء إلا مع اعتياد العود للظن معه به، لا لاطلاقات الاستظهار.

و إن كان مراده الاستظهار مع عدم احتمال العود فلم أعثر عاجلا علي من أشار إلي القول المذكور، و كيف يمكن القول بذلك مع صراحة نصوص الاستبراء و غيرها في ترتيب أحكام الطهر بانقطاع الدم و تحقق النقاء.

كما لم أعثر عاجلا علي إطلاق ينهض بتشريع الاستظهار مع انقطاع الدم، بل لما كان الاستظهار طلب ظهور الحال فموضوعه الشك في الحيض، و هو غير حاصل مع انقطاع الدم و القطع بعدم عوده.

(1) فقد استشكل في وجوب الغسل حينئذ في العروة الوثقي- كما هو ظاهر المتن- و قوي عدمه بعض الأعاظم في حاشيته عليها. قال في الجواهر: «فإن تكليفها بالغسل حينئذ مع ذلك لا يخلو من تأمل بل منع للشك في شمول الأدلة لمثلها». و كأنه راجع إلي دعوي انصراف الإطلاقات عن هذه الصورة.

لكن لا وجه لانصرافها عنها مع كون العود أمرا مغفولا عنه في مقام ورود الاطلاق، مبنيا علي القول بأن النقاء المتخلل بين الدميين حيض، الذي هو محل بحث و كلام. مع أنه لو تم انصرافها كفي استصحاب عدم عود الدم في وجوب الغسل.

نعم، يتجه ذلك بناء علي حجية الاطمئنان في نفسه. لكنه لا يختص بصورة الاعتياد.

كيفية الاستبراء

(2) اقتصر غير واحد في بيان كيفية الاستبراء علي إدخال القطنة، و مقتضي إطلاقه عدم اعتبار كيفية خاصة له، كما هو المصرح به في المدارك و غيرها، و حكاه في

ص: 255

______________________________

الجواهر عن جماعة، و يقتضيه إطلاق صحيح محمد بن مسلم.

لكن في المقنع: «و إذا رأت الصفرة أو الشي ء و لا تدري أ طهرت أم لا فلتلصق بطنها بالحائط و لترفع رجلها اليسري، كما تري الكلب يفعل إذا بال و تستدخل الكرسف … »، و اقتصر في المسالك في كيفيته علي رواية شرحبيل الكندي، و في المدارك و المفاتيح أن الأولي اختيارها.

لكن لا وجه لترجيح الرواية المذكورة مع ضعف سندها و قوة سند غيرها.

هذا و المهم الكلام في أن الجمع بين الصحيح المطلق و النصوص المقيدة هل هو بالتقييد، أو بحمل النصوص المقيدة علي الاستحباب؟

و الأول و إن كان هو مقتضي الجمع العرفي في أمثال المقام، إلا أنه قد يتعين الثاني بلحاظ كثرة القيود المذكورة في النصوص و عدم انصراف الذهن إليها مع احتياجها للعناية في مقام العمل، فلو كانت لازمة لم يناسب إهمالها في صحيح محمد بن مسلم الوارد في مقام التنبيه للاستبراء ليعمل عليه المناسب لاستكمال بيانه.

و لا سيما مع إهمال المشهور التنبيه إليها، حيث يبعد خطؤهم في كيفية الاستبراء مع كثرة الابتلاء به و شيوعه.

اللهم إلا أن يقال: لما لم تكن مطلوبية الاستبراء نفسية بل طريقية لاستكشاف حال الدم فالخصوصيات المذكورة في نصوص التقييد إن لم تكن دخيلة في الاستكشاف لزم عدم مطلوبيتها حتي استحبابا، فيكون ذكرها في النصوص لأنها أحد الأفراد، و هو مما تأباه تلك النصوص جدا، و إن كانت دخيلة في الاستكشاف لزم من الاكتفاء بالخالي عنها كون النقاء مع الاستبراء ظاهريا لا قطعيا و أن ترتيب أحكام الطهر من دون يقين به، و هو مما تأباه المرتكزات، بل قد تأباه مرسلة يونس و موثق سماعة، لأن المنساق منهما لزوم معرفة الطهر. فتأمل.

و من هنا قد يحمل الصحيح علي التنبيه لما قد يغفل عنه من احتمال وجود الدم في باطن الفرج في عنق الرحم، لمناسبة الصورة المذكورة فيه للدم الذي يظهر علي

ص: 256

______________________________

الكرسف بمجرد إدخاله، و تحمل بقية النصوص علي ما لو احتمل لبعض الطوارئ و المشبهات وجود بقاء الحيض في داخل الرحم و عدم اندفاعه حتي لباطن الفرج لقلته أو لضعف الدفع أو نحوهما، لمناسبة الصورة المذكورة فيها للدم الذي يحتاج خروجه لضغط الرحم، و لا دخل لها بإخراج ما في باطن الفرج للظاهر، بل يكفي فيه مجرد إدخال الكرسف.

كما قد يناسب ذلك ظهور السؤال في تلك النصوص في تحير المرأة في معرفة الطهر مع أنه لو كان المشكوك لها وجود الدم في باطن الفرج لم يخف عليها إمكان معرفته بإدخال القطنة و لم يحتج للسؤال.

و لا ينافي ذلك إهمال هذه الكيفية في الصحيح و كلام المشهور، لأن المنظور فيها الوضع الطبيعي للمرأة من اندفاع ما في رحمها و عدم احتباسه، و تحتاج إثارة احتمال احتباسه إلي عناية.

هذا و في الفقيه أطلق وجوب الاستبراء قبل الغسل مع الاقتصار في كيفيته علي إدخال القطنة، ثم قال: «و إذا رأت الصفرة و النتن فعليها أن تلصق بطنها … »

و ذكر الكيفية الأخري. و ظاهره النظر لموثق سماعة الآتي و تخصيص الكيفية المذكورة بصورة رؤية الصفرة و النتن، كما سبق احتماله فيما سبق من المقنع.

فإن كان مراده رؤيتهما المثيرة لاحتمال احتباس الدم في الرحم حملا للموثق عليه رجع إلي ما ذكرنا، و ناسب تعميمه لكل ما يثير الاحتمال المذكور.

و إن كان مراده رؤيتهما في الظاهر مع الشك في وجود الدم في باطن الفرج فقد يستدل له بموثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: المرأة تري الطهر و تري الصفرة أو الشي ء فلا تدري أ طهرت أم لا؟ قال: فإذا كان كذلك فلتقم فلتلصق بطنها إلي حائط و ترفع رجلها علي حائط … » «1».

لكن فيه: أنه لو تم وروده لاستكشاف وجود الدم في باطن الفرج و غض

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 257

أن تكون لاصقة بطنها بحائط (1) أو نحوه (2)، رافعة إحدي رجليها (3)، ثم تدخلها (4). و إذا تركت الاستبراء لعذر من نسيان أو نحوه و اغتسلت

______________________________

النظر عما سبق منا، فالظاهر إلغاء خصوصية مورد السؤال فيه، لعدم دخل رؤية الأمور المذكورة في كيفية استكشاف الدم المذكور. و لا سيما مع إطلاق مرسل يونس و خبر شرحبيل. فلاحظ.

(1) كما تضمنه موثق سماعة و مرسل يونس. و لا يهم خلو خبر شرحبيل عنه، لضعف سنده.

(2) من الأجسام المنتصبة العريضة الثابتة، لفهم العموم لها من ذكر الحائط مع إلغاء خصوصيته عرفا.

(3) كأنه لإطلاق موثق سماعة، و الاقتصار علي اليمني في مرسل يونس معارض بالاقتصار علي اليسري في خبر شرحبيل- بناء علي ما هو الظاهر من أن المراد بقوله فيه: «تعمد برجلها اليسري» أنها ترفعها- فيتساقطان أو يجمع بينهما بالتخيير المطابق لإطلاق الموثق.

لكن خبر شرحبيل لا ينهض بمعارضة المرسل لضعفه، فينهض المرسل لتقييد الموثق، إلّا أن يستبعد تقييده به، لبعد إهمال مثل هذا القيد فيه لو كان دخيلا، لقوة ظهوره في استكمال بيان الكيفية. فتأمل.

و مثله في ذلك التقييد بكون رفع الرجل علي حائط، الظاهر في إرادة الاتكاء عليه بها، حيث تضمنه الموثق و خبر شرحبيل دون المرسل.

(4) و في خبر شرحبيل أنها تدخلها باليد اليمني، إلا أنه لا ينهض بالخروج عن إطلاق الموثق و المرسل، لضعف سنده، فيقوي حمله علي كونه الأسهل بعد ما تضمنه من كون الرجل المرفوعة هي اليسري. هذا و في الروض ذكر الصبر عند إدخال القطنة، و كأنه لانصراف النصوص إليه لمناسبة استكشاف الحال له.

ص: 258

و صادف براءة رحمها (1) صح غسلها (2)، و إن تركته لا لعذر ففي صحة غسلها إذا صادف براءة رحمها وجهان أقواهما ذلك أيضا (3).

______________________________

(1) يعني: فلا بد من إحراز ذلك في البناء علي الصحة ظاهرا. أما لو لم تحرزها فلا مجال للبناء علي الصحة بعد ما سبق من ظهور نصوص الاستبراء في الوجوب الطريقي الراجع إلي عدم صحة العمل ظاهرا بدونه.

و دعوي: أن مقتضي قاعدة الفراغ صحة الغسل، بناء علي ما هو الظاهر من عدم اعتبار الالتفات لجهة الشك حين العمل.

مدفوعة بأن القاعدة إنما تحرز صحة الغسل بمعني تماميته المعتبرة في ترتب الأثر المطلوب منه، و هو ارتفاع الحدث السابق عليه، و لا تحرز ارتفاع الحيض حين الغسل، بل مقتضي استصحاب الحيض حينه بقاء حدثه بعده.

و منه يظهر عدم التعويل علي القاعدة لو شك في الاستبراء قبل الغسل. نعم، لو كان وجوب الاستبراء مقدميا بلحاظ شرطيته في الغسل مع الاكتفاء بالانقطاع الظاهري في ارتفاع الحيض كان مقتضي قاعدة الفراغ صحة الغسل و عدم الاعتناء باحتمال عدم تحقق شرطه. فتأمل.

(2) في الجواهر أنه ينبغي القطع بذلك، و نفي الإشكال فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

و هو متجه بناء علي ما سبق من كون الوجوب طريقيا، حيث يرجع إلي لزوم إحراز صحة الغسل من حيثية براءة الرحم، فمع إحرازه بالوجدان لا وجه لعدم البناء علي صحته.

أما لو كان مقدميا لشرطيته في الغسل، كما مال إليه في الجواهر، فمقتضي إطلاق دليله شرطيته حال النسيان أيضا المستلزم لبطلان الغسل.

و ما ذكره قدّس سرّه من أن احتمال الشرطية التعبدية حتي بالنسبة إلي ذلك بعيد جدا، ناشئ من بعد كون الوجوب مقدميا.

الكلام فيما لو لم تستبرأ

(3) كما هو مقتضي ما سبق من كون الوجوب طريقيا. أما لو كان مقدميا

ص: 259

و إن لم تتمكن من الاستبراء فالأقوي أنها تبقي علي التحيض حتي تعلم النقاء (1). و إن كان الأحوط استحبابا لها الاغتسال (2) في كل وقت تحتمل فيه النقاء (3)

______________________________

فاللازم البناء علي البطلان، كما مال إليه في الجواهر مدعيا أنه قد يظهر من ملاحظة عباراتهم، و إن لم يتضح وجه استظهاره منها.

و كذا الحال بناء كون وجوبه نفسيا، حيث لا يمكن التقرب بالغسل حينئذ، لما فيه من رفع موضوع الاستبراء الواجب، المستلزم لتعذر امتثال التكليف به، فيكون مبعدا. نعم، هو يختص بصورة الالتفات لوجوبه.

الكلام فيمن تعذر عليها الاستبراء

(1) لقصور دليل وجوب الاستبراء عن صورة تعذره، فلا مانع من الرجوع فيها لاستصحاب الحيض الذي سبق جريانه في نفسه. و احتمال عموم مانعية وجوب الاستبراء من الرجوع للاستصحاب المذكور لصورة تعذره في غير محله، علي ما سبق نظيره في تعذر الاختبار عند الاشتباه بدم العذرة و سبق هناك ما ينفع في المقام. فراجع المسألة الثانية.

نعم، لو كان الجاري في المقام استصحاب عدم حدوث الدم في الرحم الذي سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه التعرض له لزم البناء علي الطهر و الاغتسال.

كما أنه بناء علي عدم جريانهما معا يلزم الاحتياط بالجمع بين تكاليف الحائض و الطاهرة، للعلم الإجمالي. و التخيير في مثل تمكين الزوج من الوطء عند مطالبته به، للدوران فيه بين المحذورين، علي ما سبق نظيره في المسألة الثانية.

(2) مع القيام بتمام تكاليف الطاهر غير المنافية للقيام بتكاليف الحائض، دون مثل تمكين الزوج من الوطء مع مطالبته به لأنه مخالفة لتكليف حال الحيض.

(3) لاحتمال وقوع الغسل السابق حال الحيض، فيبطل و يحتاج لتجديد الغسل بتجدد النقاء المحتمل.

ص: 260

إلي أن تعلم بحصوله، فتعيد الغسل و الصوم (1).

(مسألة 9): إذا استبرأت فخرجت القطنة ملوثة و لو بصفرة فإن كانت مبتدئة أو لم تستقر لها عادة أو عادتها عشرة بقيت علي التحيض (2)،

______________________________

(1) يعني الذي احتاطت بالاتيان به عند انقطاع الدم و تعذر الاستبراء، لو كان مما يقضي.

مسألة 9: إذا استبرأت فخرجت القطنة ملوثة و لو بصفرة
اشارة

(2) أما مع التلوث بالدم فهو المتيقن من النص و الفتوي. و أما مع التلوث بالصفرة فهو صريح المراسم و الروض، و مقتضي إطلاق التلطخ و نحوه في الوسيلة و الشرائع و التذكرة و المنتهي و غيرها، كما هو الظاهر من إناطة الطهر بالنقاء في النافع و القواعد و الإرشاد و الدروس.

بل لعله مراد بعض من عبر بخروج الدم ممن يري عموم حيضية الصفرة في أيام إمكان الحيض، لبعد خصوصية ما يخرج بنفسه من دون استبراء في ذلك. و هو متجه بناء علي العموم المذكور.

كما يتجه عليه الاكتفاء بالكدرة، كما هو ظاهر من سبق و صريح المراسم. لعدم الفرق بينهما في العموم المذكور.

لكن سبق المنع من ذلك، و أن حيضيتها مختصة بما يري في العادة أو قبلها بيومين، فيلزم الاقتصار علي ذلك. و لا سيما مع قرب انصراف الدم في نصوص الاستبراء إلي غير الصفرة، بل هو كالصريح من تقييده بالعبيط في المرسل، و ما في ذيل الصحيح من الحكم بالوضوء مع رؤية الصفرة بعد ذلك، و ما في الموثق من فرض الشك في الطهر مع رؤيتها.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من حمل ما في ذيل الصحيح علي ما يري بعد مدة الاستظهار أو بعد العشرة، بعيد جدا، لرجوعه إلي إلغاء خصوصية الصفرة. مع أنه لا ينفع في بقية ما ذكرنا.

نعم، لا بد من الخروج عن ذلك لو كان الاستبراء في أيام العادة، فيكتفي

ص: 261

إلي تمام العشرة (1) أو يحصل النقاء قبلها (2).

______________________________

بالصفرة، لحكومة ما دل علي أن الصفرة في أيام الحيض حيض علي هذه النصوص، و لا مجال لتقييده بهذه النصوص و لا سيما مع أن تنزيلها علي غير أيام العادة أقرب عرفا من تنزيله علي ما يخرج بنفسه من دون إدخال قطنة، لابتناء الصفرة علي الخروج بقطنة كثيرا.

و لا سيما مع ما سبق في صحيح ثعلبة «1» من تعليل النهي عن نظر المرأة إلي نفسها في الليل بأنها قد تكون الصفرة و الكدرة، لظهوره في المفروغية عن بقاء الحيض في الجملة مع الصفرة و الكدرة الخارجتين بالاستبراء الذي هو المنصرف الشائع من نظر المرأة إلي نفسها في آخر الحيض. فلاحظ.

(1) يعني: مع الانقطاع عليها. أما مع التجاوز عنها فسيأتي الكلام فيه في المسألة العاشرة إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما صرح به في المبتدأة في الشرائع و القواعد و الإرشاد و التذكرة و غيرها، بل في المدارك أنه إجماعي و نسبه في الدروس لظاهر الأصحاب في الدور الأول لها.

و يقتضيه- مضافا إلي عموم قاعدة الإمكان، و إطلاق نصوص الاستبراء، و أولويته من إلحاق الدم المنفصل الذي يري في ضمن العشرة- موثق عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: «المرأة إذا رأت الدم في أول حيضها فاستمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة عشرة أيام، ثم تصلي عشرين يوما، فإن استمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيام وصلت سبعة و عشرين يوما» «2» و قريب منه موثقة الآخر «3».

و موثق سماعة: «سألته عن الجارية أول ما تحيض فتقعد في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة أيام يختلف عليها لا يكون طمثها في الشهر عدة أيام سواء. قال: فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت تري الدم ما لم يجز العشرة، فإذا اتفق الشهران عدة أيام

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب الحيض، حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 262

______________________________

سواء فتلك أيامها» «1».

و أظهر من ذلك ما لو كان عادتها عشرة أيام. و لا استظهار هنا و إن استمر الدم إجماعا، كما في المستند. و يقتضيه جملة من النصوص «2».

و أما المضطربة فجريان الحكم فيها مقتضي إطلاق المنتهي و ظاهر جامع المقاصد، بل لعل مراد من ذكر ذلك في المبتدأة ما يعمها، لاقتصارهم في مقابلها علي ذات العادة.

و لعله لذا قال في كشف اللثام بعد ذكر حكم المبتدأة: «و لعل منها المضطربة عددا».

و يقتضيه- مضافا إلي ما تقدم من عموم القاعدة، و إطلاق نصوص الاستبراء، و الأولوية- إطلاق موثق سماعة، بل هي متيقنة منه.

نعم، في الدروس أنها تعتبر التمييز و الروايات في جميع أدوارها.

فإن أراد أنها تعتبرهما مع تجاوز الدم العشرة حتي بالإضافة إلي الدور الأول، حيث ينكشف عدم حيضية ما زاد عليهما من العشرة، و إن جاز لها ظاهرا التحيض في الدور الأول بتمام العشرة قبل انكشاف التجاوز، فهو لا ينافي ما سبق بناء علي ما عرفت من أن محل الكلام عدم التجاوز، إلا أنه يكون مطابقا لما ذكره في المبتدأة، مع ظهور كلامه في الفرق بينهما بالإضافة للدور الأول.

و إن أراد أنها تعتبرهما من أول الأمر فلا تبني علي حيضية تمام العشرة واقعا حتي مع عدم التجاوز، كان مخالفا لما سبق هنا، و كفي في رده ما تقدم.

و إن أراد أنها لا تبني علي حيضية تمام العشرة ظاهرا حتي ينكشف عدم التجاوز عن العشرة فتنكشف حيضية مجموعها، فالظاهر مخالفته لمساق كلماتهم و فقده للدليل، بل هو مخالف لموثق سماعة الظاهر في بيان الوظيفة الفعلية، و لنصوص الاستبراء المصرحة بالبناء علي الحيضية مع عدم النقاء، و لقاعدة الإمكان بناء علي ما سبق احتماله في الدم المنقطع من أن موضوعها الإمكان بلحاظ الموانع السابقة علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض.

ص: 263

و إن كانت ذات عادة دون العشرة فإن كان ذلك الاستبراء في أيام العادة فلا إشكال في بقائها علي التحيض (1). و إن كان بعد انقضاء العادة (2) بقيت علي التحيض استظهارا (3).

______________________________

الدم دون اللاحقة. فلاحظ.

الكلام في الاستظهار
في وجوب الاستظهار و عدمه لذات العادة بعد مضيها
اشارة

(1) لاتفاق نصوص الاستظهار و نصوص الاقتصار علي قدر العادة التي يأتي الكلام فيها علي التحيض في أيام العادة. بل لعله المتيقن من إطلاق نصوص الاستبراء و قاعدة الإمكان.

و يكفي فيها العادة العددية و إن لم تكن وقتية، بل يكفي لذات العادة الوقتية و العددية فيما لو تحيضت بالدم في غير أيام عادتها عدم مضي العدد، كل ذلك لإطلاق نصوص الاستبراء و بعض نصوص الاستظهار. و لا ينافي ذلك اختصاص بعضها بذات العادة الوقتية و العددية كنصوص الاقتصار علي العادة، كما لا يخفي.

نعم، بناء علي ما تقدم لا مجال للتحيض بالصفرة إلا في ضمن العادة الوقتية، لظهور نصوصها المتقدمة فيها، فلا تنفع العددية فقط في التحيض بالصفرة قبل انقضاء العدد. كما لا مجال للاستظهار مع الصفرة مطلقا و إن كانت العادة عددية و وقتية.

(2) يعني العددية و إن لم تكن وقتية، كما صرح به غير واحد، و نسب لتصريح جماعة، لظهور أدلة الاستظهار فيها. و يأتي الكلام في ذلك.

(3) أما أصل مشروعية الاستظهار لذات العادة فالظاهر عدم الإشكال فيه بينهم، و قد ادعي الإجماع عليه في المعتبر و التذكرة و الحدائق و المستند و المفاتيح و محكي شرحه، و نفي الخلاف فيه في جامع المقاصد.

و صريح الاستبصار و السرائر أنه واجب، كما حكاه غير واحد عن ظاهر المرتضي، بل هو ظاهر كل من ذكره و لم ينبه لعدم وجوبه. و لعله لذا نسبه في كشف اللثام لظاهر الأكثر.

ص: 264

______________________________

و تقتضيه النصوص الكثيرة الواردة في المستحاضة و فيمن يستمر بها الدم بعد وقتها «1» و النفساء «2» التي لا يبعد تواترها إجمالا و إن اختلفت في قدره علي ما يأتي التعرض لها، و ربما ادعي أنها تزيد علي التواتر. و ظاهرها الوجوب، لورودها في مقام بيان الوظيفة و سوقه فيها مساق التحيض في العادة.

لكن في جملة من النصوص أن مستمرة الدم و المستحاضة تقتصر علي أيام عادتها «3». و من ثم اختلفت أنظارهم في الجمع بينها أو استحكام التعارض الذي ينبغي النظر معه في المرجحات.

و المذكور في كلماتهم وجوه..
الأول: حمل أخبار الاستظهار علي الاستحباب،

كما احتمله في التذكرة و اعتمده في جامع المقاصد و الروض و محكي الذكري و البيان و غيرها، و عن شرح المفاتيح أنه المشهور، و نسبه في الروض و محكي اللوامع للأكثر، و في المدارك لعامة المتأخرين. و قد يرجع إليه ما في المنتهي من أن الاستظهار ليس علي الوجوب.

و يشكل بأن ظاهر كل من نصوص الاستظهار و نصوص الاقتصار علي العادة كون مضمونها الوظيفة اللازمة، فالجمع المذكور تصرف في كل منهما بلا شاهد. و إنما يتجه الجمع بالاستحباب مع الاقتصار في أحد الطرفين علي الترخيص.

مضافا إلي إباء بعض نصوص الاقتصار الحمل المذكور، كقوله عليه السّلام في مرسلة يونس الطويلة بعد حكاية أمر النبي المبتدأة بالتحيض ستة أيام أو سبعة: «الا تري أن أيامها لو كانت أقل من سبع و كانت خمسا أو أقل من ذلك ما قال لها تحيضي سبعا، فيكون قد أمرها بترك الصلاة أياما و هي مستحاضة غير حائض» «4» لظهوره في أن الأمر بالزيادة في ترك الصلاة علي العادة التي هي أمارة علي كون ما زاد عليها

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض و باب: 1 من أبواب الاستحاضة.

(2) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس.

(3) راجع الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض، و باب: 1، 2، 3 من أبواب الاستحاضة.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 265

______________________________

استحاضة مستنكر لا يصدر من النبي صلّي اللّه عليه و آله.

هذا و ربما استشكل في الوجه المذكور بأنه لا معني لاستحباب ترك العبادة بعد فرض مشروعيتها الموقوفة علي الأمر بها.

لكنه يندفع بأنه قد يتم لو كان الاستحباب واقعيا، لا في مثل المقام، حيث يكون ظاهريا احتياطا لتجنب العبادة حال الحدث المحتمل. مضافا إلي أنه يكفي في استحباب الاستظهار ملاحظة بقية أحكام الحائض.

الثاني: حمل أخبار الاستظهار علي الاباحة،

كما جعله أحد وجهي الجمع في المعتبر، و قد يرجع إليه ما سبق من المنتهي، و عن الذخيرة الجزم به.

و يشكل بأنه إن رجع إلي قصور نصوص الاستظهار عن إفادة الوجوب في نفسها بسبب ورود الأمر فيها مورد توهم الحظر لما فيه من احتمال التفريط بالعبادة حال الطهر، أشكل بأنه كما يحتمل الحظر لذلك يحتمل الوجوب دفعا للتفريط بتكاليف الحيض المحتمل، فالأمر بالاستظه ار في النصوص ظاهر في لزومه ظاهرا مع تردد الواقع بالنحو المذكور.

و إن رجع إلي لزوم الخروج عن ظاهر نصوص الاستظهار و هو الوجوب و حملها علي الجواز جمعا مع نصوص الاقتصار علي العادة- كما هو ظاهر المعتبر و المنتهي- أشكل بأنه مستلزم للتصرف في كلتا الطائفتين بلا شاهد، كما مر في سابقه، سواء أريد بذلك استحباب الاقتصار علي العادة أم إباحته أيضا.

و إن كان الوجه فيه ما سبق من امتناع استحباب الاستظهار فقد تقدم دفعه.

هذا مضافا إلي أن ما تقدم من مرسلة يونس الطويلة كما يأبي استحباب الاستظهار يأبي إباحته.

كما أن بعض نصوص الاستظهار آب عن إباحته، كموثق مالك بن أعين:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن النفساء يغشاها زوجها و هي في نفاسها من الدم. قال:

نعم، إذا مضي لها منذ يوم وضعت بقدر أيام عدة حيضها ثم تستظهر بيوم فلا بأس

ص: 266

______________________________

بعد أن يغشاها زوجها يأمرها فلتغتسل ثم يغشاها إن أحب» «1» بناء علي عدم الفرق بين الحيض و النفاس في ذلك، لقوة ظهوره في أن الاستظهار مانع للزوج من الوطء، و هو إنما يتجه مع مطلوبيته و لو استحبابا.

نعم، قد يظهر في إباحة الاستظهار صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن النفساء كم تقعد؟ فقال: إن أسماء بنت عميس أمرها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن تغتسل لثمان عشرة و لا بأس بأن تستظهر بيوم أو يومين» «2».

لكنه مختص بمورده لو أمكن العمل به، و ليس الاستظهار فيه فيما بين العادة و العشرة الذي هو محل الكلام، فلا يكون شاهد جمع بين نصوص المقام.

الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من رفع اليد عن ظهور كلتا الطائفتين في الوجوب التعييني و حملهما علي الوجوب التخييري،

لأنه مقتضي الجمع العرفي الذي لا يحتاج إلي شاهد، مع البناء علي أفضلية الاستظهار لاختلاف أخباره في مقداره، مع التعبير في بعض نصوصه بالاحتياط «3»، الراجح عقلا و نقلا.

و فيه: أن اختلاف أخبار الاستظهار في مقداره قد يبعّد إرادة الوجوب التعييني منها، من دون أن يكون شاهدا بحملها علي الأفضلية، بل كما تحمل علي كونه واجبا تخييريّا تحمل علي التخيير بين المراتب.

و الاحتياط إنما يكون راجحا عقلا و شرعا إذا لم يكن مزاحما بمثله، كما في المقام، فالتعبير به هنا لا يدل علي أفضلية الاستظهار، بل يحمل الأمر به علي الوجوب التخييري، لو حملت عليه بقية نصوص الاستظهار.

كما أن الجمع بين الطائفتين بحملهما علي الوجوب التخييري ليس عرفيا، و لا سيما مع تنافي الوظيفتين المذكورتين فيهما عرفا.

بل لا معني للتخيير بين الفعل و الترك أو نحوهما مما لا ثالث له، لأن امتناع

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 15.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 7.

ص: 267

______________________________

الخلو عن الطرفين مستلزم للغوية الحكم بالتخيير بينهما شرعا.

و دعوي: أن الممتنع إنما هو التخيير بين مثل الصلاة و عدمها، لا التخيير بين البناء القلبي علي الحيضية المستلزم لحرمة الصلاة و البناء القلبي علي عدمها المستلزم لوجوبها.

مدفوعة بأن الاستظهار إنما يكون بترك العبادة و نحوه من أحكام الحائض، لا بالبناء علي الحيضية، كما أن ظاهر نصوص الاقتصار علي العادة لزوم فعل العبادة، لا بالبناء القلبي علي عدم الحيض، فالتخيير إنما يكون بين الفعل و الترك، لا بين البنائين، و لذا لا إشكال في عدم وجوب أحد البنائين، بل يكفي ترتب أحد الحكمين من دون بناء قلبي علي موضوعه.

هذا كله مضافا إلي إباء مرسلة يونس الطويلة عن هذا الوجه، لنظير ما تقدم في الوجه الأول.

الرابع: ما جعله في المعتبر أحد وجهي الجمع من حمل الاستظهار علي ما يغلب عند المرأة في حيضها.

و لا يخفي أنه بعد فرض كونها ذات عادة يبعد إرادته غلبة زيادة الحيض عليها، لأنه قد يوجب انقلاب العادة أو ارتفاع حكمها عندهم، فلا يبعد كون مراده غلبة عدم تجاوز الدم الزائد علي العادة عن العشرة الموجب لإلحاقه بالحيض، في مقابل ما إذا لم يكن الغالب تجاوزه، و إن لم يكن أصل الزيادة علي العادة غالبيا، فتحمل نصوص الاستظهار علي الأول و نصوص الاقتصار علي العادة علي الثاني.

و كيف كان، فهو كما تري جمع تبرعي بلا شاهد.

الخامس: ما احتمله في المدارك من حمل أخبار الاستظهار علي ما إذا كان الدم بصفة الحيض و أخبار الاقتصار علي العادة علي ما إذا كان فاقدا لها.

و قد يستدل عليه بما تضمن أن الصفرة في غير أيام الحيض ليست بحيض، مؤيدا بعموم أخبار الصفات، و بما في مرسلة يونس المتقدمة في الاستبراء من اعتبار خروج الدم العبيط في الحكم بالحيضية، و بما في صحيح محمد بن مسلم المتقدم فيه

ص: 268

______________________________

أيضا من اعتبار خروج الدم و الحكم مع الصفرة بالوضوء.

و لا يخفي أن فقد صفة الحيض أعم من الصفرة، فإن كان المراد حمل نصوص الاقتصار علي العادة علي خصوص الصفرة و نصوص الاستظهار علي ما عداها، فنصوص الصفات لا تطابقه، و نصوص الاقتصار علي العادة آبية عنه جدا، لورودها في الدم المنصرف لغيرها و ظهور بعضها في كثرته، فلا تناسب كونه صفرة. نعم، تقدم أن مقتضي نصوص الصفرة عدم التحيض بها بعد العادة و إن لم تتجاوز العشرة.

و إن كان المراد حمل نصوص الاقتصار علي العادة علي مطلق فاقد الصفة و نصوص الاستظهار علي خصوص واجدها، فلا تطابقه نصوص الصفرة و لا نصوص الاستبراء.

و أما نصوص الصفات فهي- مع اختصاصها بغير ذات العادة- لا تقتضي الاستظهار في واجد الصفة الذي هو عبارة عن الاحتياط لاحتمال الحيض، بل البناء علي حيضيته لأمارية الصفة عليها، و لذا تقصر عما لو تجاوز الواجد للصفة العشرة لتعارض تطبيقها بالإضافة إلي أجزائه، فلا مجال لجعل نصوص الصفات مبينة للمراد من نصوص الاستظهار.

كما أن ظاهر نصوص الاقتصار علي العادة خصوصية العادة في تمييز الحيض عند اشتباه الدم، و لا تناسب دخل فقد الصفة في البناء علي عدم حيضية ما زاد علي العادة، فلا تكون نصوص الصفات مبينة للمراد من نصوص الاقتصار علي العادة، مع أن بعض نصوص الاستظهار يأبي الحمل علي واجد الصفة، كموثق سعيد بن يسار فيمن تري الشي ء من الدم الرقيق بعد اغتسالها «1»، المتقدم في حكم الدم المتقطع.

السادس: تقييد نصوص الاقتصار علي العادة بنصوص الاستظهار،

كما يظهر من المستند. و كأنه لدعوي: أن ترتيب أحكام الطهر بمجرد انقضاء أيام العادة إنما هو مقتضي إطلاق نصوص الاقتصار عليها لعدم أخذ أمر آخر زائد علي ذلك في موضوعها، فيتعين تقييده بما إذا مضت أيام الاستظهار عملا بنصوصه، لأنها أخص.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 8.

ص: 269

______________________________

و يشكل بإباء نصوص الاقتصار علي العادة عن الحمل علي ذلك، لقوة ظهورها في ترتيب أحكام الطهر بمجرد انقضاء العادة، بل ظهور بعضها في استنكار ترك العبادة بعدها، كما سبق عند الكلام في الوجه الأول.

و أما ما في الجواهر من أن التخصيص المذكور لازم للقائلين بالوجوب و الاستحباب.

فهو كما تري، لأن استحباب الاستظهار لو تم يبتني علي حمل نصوص الاقتصار علي الترخيص في التعجيل، ليلائم الاستحباب المذكور، لا إبقائها علي ظهورها في الوجوب لينافيه، فيحتاج لتخصيصه به كما ادعي تخصيصه بوجوب الاستظهار.

السابع: ما في الحدائق من حمل أخبار الاقتصار علي العادة- لو عمل بها و لم تحمل علي التقية،

علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي- علي مستقيمة الحيض و حمل أخبار الاستظهار علي غيرها، كما هو الغالب في ذات العادة.

و كأن مراده بالاستقامة عدم مخالفة حيضها للعادة بعد انعقادها بالمرتين في مقابل ما إذا كان يختلف عليها بالتقدم و التأخر و الزيادة و النقصان.

و قد استشهد لذلك بموثق عبد الرحمن أو صحيحه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المستحاضة أ يطؤها زوجها و هل تطوف بالبيت؟ قال: تقعد قرءها الذي كانت تحيض فيه، فإن كان قرؤها مستقيما فلتأخذ به، و إن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين و لتغتسل … » «1» و موثق مالك بن أعين: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المستحاضة كيف يغشاها زوجها؟ قال: ينظر الأيام التي كانت تحيض فيها و حيضتها مستقيمة فلا يقربها في عدة تلك الأيام من ذلك الشهر، و يغشاها فيما سوي ذلك من الأيام … » «2».

و يناسبه- كما قيل- ما في مرسل داود مولي أبي المغراء فيمن حيضها دائم

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

ص: 270

______________________________

مستقيم سبعة أيام أو ثمانية، فتري الدم ثلاثة أيام ثم يتقطع عليها، حيث قال عليه السّلام:

«إذا رأت الدم أمسكت، و إذا رأت الطهر صلت فإذا مضت أيام حيضها و استمر بها الطهر صلت، فإذا رأت الدم فهي مستحاضة» «1»، حيث لم يحكم فيه مع الاستقامة بالاستظهار.

هذا و قد استبعد شيخنا الأعظم قدّس سرّه حمل نصوص الاستظهار علي غير مستقيمة الحيض. و لم يتضح وجه البعد فيه، و لا سيما مع ما يأتي منه من أنه مع الاستقامة تطمئن بتجاوز الدم العشرة، فيرتفع موضوع الاستظهار، و مع ما سبق من الحدائق من كون الغالب عدم الاستقامة.

نعم، قد يبعد حمل مرسلة يونس- التي هي من نصوص الاقتصار علي العادة- علي خصوص المستقيمة، بلحاظ ما تضمنته من تحديد العادة باستواء شهرين، و أنها تأخذ بما اتفقا فيه و تدع ما سواه، لقوة ظهورها في بيان تمام ما يعتبر في العادة التي جعلت مرجعا فيها، و لو اعتبرت الاستقامة مع ذلك كان المرجع فيها العادة الحاصلة من استواء تمام الأشهر السابقة علي الاستحاضة، لا استواء شهرين منها فقط، كما لعله ظاهر.

هذا مضافا إلي قصور النصوص المتقدمة عن أن تشهد بالجمع المذكور، لأن المرسل لما كان واردا في الدم المتقطع فهو أجنبي عما نحن فيه، مخالف لما دل علي أن ما يكون في ضمن العشرة فهو من الحيضة الأولي، و لذا تقدم حمله علي تجاوز الدم الجديد للعشرة أو رؤيته بعدها.

كما أنه لا يبعد ظهور موثق مالك في إرادة مطلق ذات العادة، لأن قوله عليه السّلام:

«و حيضتها مستقيمة» حال من جملة الصلة، لا شرط للاقتصار علي أيام الحيض بعد فرض تعيينها بعادة شرعية، كيف و لو أريد به استقامة الحيض في تمام الشهور لزم الاقتصار في

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 271

______________________________

الجواب علي الفرد غير الغالب، و هو بعيد جدا، و لا سيما مع كون الاقتصار علي العادة مع الاستقامة علي العادة أولي بأن يستغني عن البيان بسبب كونه ارتكازيا من وظيفتها مع عدم الاستقامة عليها، فلتحمل الاستقامة علي ما يقابل الاستحاضة. فلاحظ.

و أما حديث عبد الرحمن فقد استشكل فيه المحقق الخراساني قدّس سرّه و غيره بأن الظاهر من فرض الخلاف في القرء عدم انعقاد العادة للمرأة، فيرجع للتفصيل في الاقتصار و الاستظهار بين ذات العادة و غيرها، لا بين مستقيمة الحيض علي طبق العادة و غيرها، كما هو المدعي.

و أجاب عنه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن ظاهر التردد بين الشرطيتين فيه تقسيم أيام القرء المفروضة لها التي أمرت بالقعود فيها، لا فرضها غير ذات قرء. بل الاحتياط لها إنما يمكن إذا كانت ذات قرء معلوم محدد، ليمكن الزيادة عليه.

و فيه: أن الحديث لم يتضمن نسبة الاستقامة و الاختلاف للحيض بالإضافة للقرء، ليكون شاهدا لما في الحدائق، بل لنفس القرء، و حيث كان المعتبر في انعقاد العادة اتفاق القرء، فلا مجال لاستفادة تحققها في صورتي الاستقامة و الاختلاف.

نعم، فرض القرء مع الاختلاف قد يناسب قلة التفاوت بين الأقراء، بحيث يصح إطلاق القرء عرفا علي القدر المشترك بينها، و بلحاظه يفرض الاحتياط بالزيادة عليه يوما أو يومين.

فإن أمكن العمل به، و إلا تعين طرحه، لا حمله علي خلاف ظاهره من التفصيل المذكور، ليكون شاهدا للجمع به بين النصوص.

مضافا إلي ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من اختصاصه بالمستحاضة الظاهرة في مستمرة الدم مدة طويلة، فلا يكون شاهد جمع بين نصوص الاستظهار و الاقتصار الواردة في غيرها، بل غاية ما ينهض به التفصيل في الاستظهار بالإضافة إليها لو قلنا بثبوته فيها في الجملة، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

الثامن: ما قرّبه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من إبقاء أخبار الاستظهار علي ظهورها في الوجوب

ص: 272

______________________________

و حملها علي راجية انقطاع الدم و عدم تجاوزه عن العشرة، كما هو مقتضي التعبير في بعضها بالاحتياط «1» و التربص «2» و الانتظار «3»، حيث يظهر منها احتمال كون الدم حيضا بسبب انقطاعه علي العشرة.

و كذا ما تضمنته جملة منها من أنها إن طهرت فلتغتسل، و إلّا فهي مستحاضة «4»، حيث يظهر منه توقع الأمرين.

بل لما كان الاستظه ار طلب ظهور الحال كان المراد به في المقام الانتظار ليظهر حال الدم، و أنه ينقطع علي العشرة ليكون بتمامه حيضا، أو يتجاوزها ليكون ما زاد علي العادة منه استحاضة، و لا موضوع لذلك مع اليأس عن الانقطاع.

و أما أخبار الاقتصار علي العادة فتحمل علي اليائسة عن الانقطاع علي العشرة، إما جمعا مع نصوص الاستظهار بعد فرض تنزيلها علي الراجية، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه بل قال: «بل اليأس بنفسه استظهار لتجاوز الدم، فلا يكون معه استظهار».

أو لما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن موردها الدمية التي يستمر بها الدم شهورا أو سنين، حيث يغلب علي ظنها عدم انقطاعه بالصبر يوما أو يومين، و من هي مثلها، كمستقيمة العادة- كما في النصوص المتقدمة في الوجه السابق- حيث تعلم عادة بسبب استقامة حيضها عدم انقطاع الدم الزائد علي العشرة ليزيد حيضها علي عادتها.

و كذا النفساء، حيث يغلب تجاوز دمها عن العشرة، و لا بد من تنزيل ما تضمن الاستظهار لها علي راجية الانقطاع، كما يقتضيه التعبير فيها بأنها إن طهرت و إلا فهي بمنزلة المستحاضة «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8، 10، 12.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1، 11.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1، 11.

(4) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1، 4 و باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5، 10 و باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 11.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 3، 11.

ص: 273

______________________________

و فيه: أن التعبير بالاحتياط و إن كان ظاهرا في الاحتمال، إلا أن الظاهر منه احتمال الحيض، و لا إشعار فيه بتفرع احتماله علي احتمال الانقطاع قبل العشرة و عدمه.

و أما التعبير بالتربص و الانتظار فإنما يراد به التربص بالصلاة و الانتظار فيها، من دون أن يشعر بأن موضوعه الاحتمال المذكور.

كما أن ما تضمنته من أنها إن طهرت بعد الاستظهار فلتغتسل و إلا فهي مستحاضة فلا ظهور له في أخذ احتمال الانقطاع في موضوع الاستظهار.

بل هو وارد لبيان جريان حكم المستحاضة بعد الاستظهار لدفع توهم بقاء حكم الحيض، كما في مثل قوله عليه السّلام في موثق سماعة: «فإن كان أكثر من أيامها التي كانت تحيض فيهن فلتربص ثلاثة أيام بعد ما تمضي أيامها، فإذا تربصت ثلاثة أيام و لم ينقطع عنها الدم فلتصنع كما تصنع المستحاضة» «1».

أو لبيان وظيفة المستحاضة و شرحها، كما في مثل قوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «تقعد بقدر حيضها و تستظهر بيومين، فإن انقطع عنها الدم و إلا اغتسلت و احتشت … فإن جاز الدم الكرسف تعصبت و اغتسلت … و إن لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد … » «2».

بل حيث كان ظاهره ابتداء حكم الاستحاضة بعد الاستظهار لا انكشاف ثبوته من حين انقضاء العادة كان مقتضاه عدم دخل احتمال الانقطاع في مشروعيته، إذ لو كان دخيلا لانكشف بالاستمرار بعده كون الدم في مدته دم استحاضة.

و أما الاستظهار فليس المراد به طلب ظهور الحال، بل هو لغة الاحتياط و الاستيثاق، كما في نهاية ابن الأثير و لسان العرب و مجمع البحرين، و يناسبه كثير من اشتقاقاته، و قد ذكروا أن منه الحديث: «أنه صلّي اللّه عليه و آله أمر خراص النخل أن يستظهروا» أي:

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 274

______________________________

يحتاطوا لأربابها و يدعوا لهم قدر ما ينوبهم و ينزل بهم من الأضياف و أبناء السبيل. و به فسر الأخيران الاستظهار في المقام.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك مع ما هو المقطوع به من أن المراد به في المقام ترتيب أحكام الحائض الذي يكون به الاحتياط لاحتمال الحيض، و لا دخل لها في استكشاف حال الدم من حيثية الانقطاع و عدمه.

و من هنا كان الظاهر عدم القرينة علي تنزيل نصوص الاستظهار علي راجية الانقطاع.

كما أن تنزيل نصوص الاقتصار علي العادة علي اليائسة عن انقطاع الدم علي العشرة إن كان للجمع بينها و بين نصوص الاستظهار فهو متفرع علي حمل نصوص الاستظهار علي الراجية الذي عرفت خلوه عن القرينة.

و إن كان بلحاظ مواردها فهو غير ظاهر، أما في الدمية فلأنها و إن كانت قد تعلم أو تطمئن باستمرار الدم فيما لو كان كثيرا و كانت العادة قريبة من العشرة، إلا أنه قد لا يحصل لها ذلك لو قل الدم خصوصا مع بعد العادة عن العشرة.

و أظهر منها مستقيمة الحيض، لوضوح أن استقامة الحيض ليست أمارة علي عدم انقطاع الدم علي العشرة، بل علي عدم حيضية ما زاد علي العادة و إن انقطع عليها، و الحكم بحيضيته حينئذ- لو تم- إهمال لأماريتها.

كما أن النفاس لا يستلزم أحد الأمرين. و تنزيل كل من الطائفتين الواردتين فيه علي أحدهما بلا شاهد. بل اليأس عن الانقطاع في غير الدمية الكثيرة الدم بعيد جدا، فيبعد تنزيل نصوص الاقتصار عليه.

ثم إن سيدنا المصنف قدّس سرّه بعد أن قرب حمل نصوص الاقتصار علي العادة علي اليائسة عن الانقطاع بما تقدم ذكر أن الأقرب حملها علي الحكم الواقعي للمستحاضة، لأنه الظاهر من غير واحد من النصوص، بل هو المقطوع به في صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سمعته يقول: المرأة المستحاضة تغتسل التي لا تطهر

ص: 275

______________________________

عند صلاة الظهر «1» … و لا بأس بأن يأتيها بعلها إذا شاء إلا أيام حيضها فيعتزلها زوجها» «2» و مرسلة يونس الطويلة المتضمنة رجوع المستحاضة إلي أيام أقرائها قلت أو كثرت «3».

و ليست واردة لبيان الحكم ظاهرا علي الدم بأنه استحاضة مع احتمال انقطاعه علي العشرة كي يكون معارضا لنصوص الاستظهار. و لو فرض ظهور بعض نصوص الاقتصار علي العادة في الحكم الظاهري تعين حمله علي الحكم الواقعي جمعا بين النصوص.

و يشكل ما ذكره بأن نصوص الاقتصار علي العادة لم تتضمن حيضية خصوص ما فيها علي تقدير تجاوزه عن العشرة كي لا تكون متعرضة للوظيفة مع الشك في التجاوز، و لا تنافي نصوص الاستظهار لو تمت دلالتها علي حكم الشك فيه و غض النظر عما سبق، و إنما تضمنت الإرجاع للعادة في تمييز الحيض من الاستحاضة، و مقتضاه أمارية العادة علي نفي حيضية ما زاد عليها و إن انقطع علي العشرة، فضلا عما إذا احتمل انقطاعه عليها، فتنافي نصوص الاستظهار الظاهرة في عدم حجيتها علي نفي حيضيته و أنه لا بد فيه من الاحتياط فيه مدة معينة.

و لم يتضح وجه خصوصية الصحيح و المرسلة الموجبة للقطع بإرادة الحكم الواقعي منهما، غاية الأمر أنهما تضمنا استمرار الدم و عدم الطهر منه، و هو- مع عدم اختصاصه بهما لظهور المستحاضة في ذلك في جميع النصوص- لا يراد به التجاوز عن العادة و الاستمرار لما بعد العشرة، ليكون الكلام مسوقا لبيان حيضية خصوص ما في العادة واقعا علي تقدير الاستمرار من دون نظر للوظيفة مع الشك فيه. بل سبق استمرار الدم إلي حين الرجوع للعادة من دون نظر لتجاوزه عن العشرة بعد ذلك، لكفاية ذلك في صدق المستحاضة و قابليته للإدراك و لا طريق غالبا للعلم بالتجاوز عن العشرة.

______________________________

(1) هكذا في الوسائل الطبعة الحديثة. و في الكافي [ج: 1 ص: 90] و التهذيب [ج: 1 ص: 171]: (قال:

المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر … ) و في موضع آخر من التهذيب [ج: 1 ص: 401] بسند موثق:

(سمعته يقول: المرأة المستحاضة التي لا تطهر قال: تغتسل عند صلاة الظهر … ).

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 276

______________________________

إلا أن يرجع إلي ما سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من يأس الدمية عن الانقطاع، الذي لو تم- و غض النظر عما سبق فيه- لا يوجب ظهور نصوصها في بيان الحكم الواقعي لصورة الانقطاع، بل اختصاص الوظيفة التي تضمنتها بصورة اليأس، فيكون وجها للجمع مع نصوص الاستظهار، علي ما سبق الكلام فيه.

و الذي تحصل من جميع ما تقدم أن حمل نصوص الاستظهار علي صورة رجاء الانقطاع علي العشرة و نصوص الاقتصار علي العادة علي صورة اليأس منه أو علي بيان الحكم الواقعي لصورة عدم الانقطاع لا شاهد له من النصوص المذكورة فلا مجال للبناء عليه في مقام الجمع بين النصوص و رفع التنافي بينها.

نعم، لو ثبت أن الحكم الواقعي هو حيضية خصوص ما في العادة علي تقدير تجاوز الدم عن العشرة، و حيضية تمام ما في العشرة علي تقدير الانقطاع عليها، فحيث كانت نصوص الاستظهار ظاهرة في الوظيفة الظاهرية مع الشك في حال الدم اختص موردها بالشك في الانقطاع، و إن لم يتم ما سبق من القرائن في تقريب كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه. و حينئذ قد يتعين حمل نصوص الاقتصار علي العادة علي صورة العلم بالتجاوز جمعا.

لكن الظاهر ابتناء الحكم الواقعي المذكور علي كيفية الجمع بين الطائفتين من النصوص، علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي، فلا يكون شاهدا علي الجمع بينهما.

علي أن بعض نصوص الاقتصار قد يأبي الحمل علي العلم بعدم الانقطاع، لندرته في موردها، كما سبق. فتحمل علي صورة الشك فيه و تعارض نصوص الاستظهار في الوظيفة الظاهرية. فلاحظ.

التاسع: هو تخصيص أخبار الاقتصار علي العادة بالدامية التي يستمر دمها من الدور الأول إلي الثاني فما زاد

ما عن الوحيد في شرح المفاتيح، و قد يظهر من الحدائق، و مال إليه في الجواهر، بل قد يظهر من جملة من الأصحاب و إن لم يوضح في كلماتهم، و هو تخصيص أخبار الاقتصار علي العادة بالدامية التي يستمر دمها من الدور الأول إلي الثاني فما زاد، و تبقي أخبار الاستظهار في الدور الأول للمستمرة الدم المذكورة و لمن يتجاوز دمها العادة من دون أن يستمر.

ص: 277

______________________________

و يقتضيه موثق إسحاق بن جرير في استئذان امرأة علي أبي عبد اللّه عليه السّلام، و فيه:

«فقالت له: ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيام حيضها؟ قال: إن كانت أيام حيضها دون عشرة أيام استظهرت بيوم واحد ثم هي مستحاضة. قالت: فإن الدم يستمر بها الشهر و الشهرين و الثلاثة كيف تصنع بالصلاة قال: تجلس أيام حيضها ثم تغتسل لكل صلاتين..» «1».

فإن ذيله صالح للقرينية علي أن المراد بالصدر تجاوز الدم أيام الحيض في أول رؤيته، لو لم يكن ذلك هو الظاهر منه في نفسه، لانصراف قولها: «تحيض … » إلي الحيض الحاصل من ابتداء رؤية الدم، دون ما يحكم بحيضيته في الأشهر اللاحقة مع استمراره.

كما أن ظاهر الذيل بيان الوظيفة في الدم المستمر شهرا فما زاد من حين بلوغه الشهر، لا من أول الأمر، لظهوره في فعلية الخطاب بالجلوس قدر أيام الحيض، لا أنه مقتضي وظيفتها الواقعية في الكل و إن لم يمكن العمل عليها من أول الأمر، لعدم انكشاف الاستمرار إلا بعد مضي الشهر. و لا سيما مع تضمن الصدر بيان الوظيفة في أول الدم المذكور، حيث يبعد جدا مع ذلك سوق الذيل لبيان لزوم تدارك ما فات في يوم الاستظهار الذي تضمنه الصدر.

كيف و لو كان عليه السّلام بصدد ذلك كان المناسب بيانه في جواب السؤال الأول، لتعلقه به و شدة الاحتياج لبيانه بسبب لزوم انكشاف حال الاستمرار، لا انتظار بيانه للسؤال الثاني الذي لا قرينة علي توقعه حين السؤال الأول، بل يظهر من حال المرأة توجهها له بعد استكمال معرفة الوظيفة في مورد السؤال المذكور.

و منه يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن ظاهر الذيل بيان الحكم الواقعي لمستمرة الدم، سواء أراد أن ذلك هو الظاهر منه في نفسه أم بمقتضي الجمع بينه و بين الصدر.

و أشكل منه ما لو كان مراده ظهوره في الحكم الواقعي لمستمرة الدم بالنحو

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 278

______________________________

الذي لا ينافي ثبوت الاستظهار حتي في الدور الثاني و ما بعده لو احتمل عدم التجاوز عن العشرة بعد استكمال أيام الحيض، كما هو المناسب لما سبق منه قدّس سرّه من حمل نصوص الاقتصار علي العادة علي ذلك.

لما تقدم من الإشكال في الحمل المذكور، و لا سيما في الموثق، لأن سبق التنبيه علي الاستظهار في صدره موجب لقوة ظهور إهماله في الذيل في عدم مشروعيته، و في ثبوت الفرق بين مورديهما فيه.

ثم إن ظاهر الموثق أن المسؤول عنه- و لو بنحو القضية الحقيقية- في كل من الصدر و الذيل امرأة واحدة سئل أولا عن حكم تجاوز دمها عن عادتها، و ثانيا عن حكم استمراره بعد ذلك إلي شهر أو أكثر، كما يشهد به التعبير عن المسؤول عنه في الذيل بضمير عائد للمرأة المذكورة في الصدر.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 4، ص: 279

فلا مجال لما عن بعض مشايخنا من عدم ورودهما في امرأة واحدة، بل هما سؤالان مستقلان، فلا مجال لتحكيم أحدهما علي الآخر و جعله قرينة علي المراد به.

علي أن كونهما سؤالين مستقلين لا يمنع من قرينية أحدهما علي الآخر بعد ورودهما في مجلس واحد و سياق واحد، و لا سيما مع تفريع أحدهما علي الآخر بالفاء.

و الحاصل: أنه لا إشكال في ظهور الموثق في التفصيل المذكور.

كما أن هذا التفصيل ملائم لجملة من النصوص، لصراحة بعض نصوص الاقتصار علي العادة في أن موردها التجاوز عن العادة في أول رؤية الدم، كموثق سماعة فيمن تعجل بها الدم «1» المتقدم في الوجه السابق، و موثق سعيد بن يسار فيمن تري الدم الرقيق بعد طهرها «2».

و هو الظاهر من كثير من نصوص الاستظهار، للتعبير في بعضها بمثل قوله:

«المرأة تحيض ثم يمضي وقت طهرها … » «3» أو: «رأت الدم في حيضها … » «4» و نحوهما مما يظهر منه حدوث الحيض بتجدد الدم، لا باستمراره، و للسؤال في بعضها عن

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 12.

ص: 279

______________________________

حكم التجاوز مع ظهوره في المفروغية عن جلوسها مدة العادة، كحديث زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن الطامث تقعد بعدد أيامها كيف تصنع؟ قال: تستظهر بيوم أو يومين ثم هي مستحاضة» «1» و غيره، لوضوح أن ذلك لا يتجه في المستمرة في الدور الثاني، لاحتياج جلوسها مدة العادة للبيان، و لا يحتاج من اطلع عليه للسؤال عما زاد عليها، لأن ما اطلع عليه من البيان إما أن يتكفل بالاقتصار أو الاستظهار، أما في الدور الأول فالجلوس مدة العادة يكون بمقتضي طبع المرأة، و إنما يسأل عما زاد عليها، لخروجه عن مقتضي طبعها. فلاحظ.

كما أن بعض نصوص الاقتصار علي العادة صريح في أن موردها التي لا تطهر بين الحيضتين، كصحيح عبد اللّه بن سنان «2» المتقدم في الوجه السابق، و هو المتيقن من مرسلة يونس الطويلة، لصراحتها في ورود بعض سنن المستحاضة في المستمرة كثيرا، فتكون هي المتيقنة من مورد السنن الأخري و منها سنة ذات العادة، بل حيث كان المفروض فيها سؤال ذات العادة من النبي صلّي اللّه عليه و آله عن حكمها و تحيرها بسبب استمرار الدم، يبعد حملها علي الدور الأول، لأنها تتحيض فيه بعادتها بمقتضي طبعها بلا حاجة للسؤال و إنما تسأل عن حكم الاستمرار بعده، لخروجه عن مقتضي طبعها.

و من هنا كانت هاتان الطائفتان من النصوص بنفسها شاهدة للتفصيل المذكور أو مؤيدة له، حيث قد تكون شاهدة لتنزيل المطلقات علي ما يناسبها.

و إنما الإشكال فيه في منافاة بعض النصوص له بنحو لا يمكن تنزيلها عليه، كما ادعاه غير واحد، حيث ادعي أن بعض أخبار الاقتصار علي العادة ظاهر في الدور الأول، و بعض أخبار الاستظهار ظاهر في الدور الثاني.

أما الأولي فقد عدّ منها شيخنا الأعظم قدّس سرّه مرسل داود مولي أبي المغراء «3» المتقدم في الوجه السابع، و صحيح زرارة عن أحدهما عليهما السّلام: «قال: النفساء تكف عن

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 13.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 280

______________________________

الصلاة أيامها التي كانت تمكث فيها، ثم تغتسل و تعمل كما تعمل المستحاضة» «1» و نحوه في النفساء حديث عبد الرحمن بن أعين «2»، و ما في مرسلة يونس القصيرة من قوله عليه السّلام: «و كل ما رأته المرأة في أيام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض، و كل ما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض» «3».

و قوله عليه السّلام في مرسلة يونس الطويلة بعد حكاية أمر النبي صلّي اللّه عليه و آله حمنة بنت جحش بالتحيض ستة أيام أو سبعة: «ألا تري أن أيامها لو كانت أقل من سبع و كانت خمسا أو أقل من ذلك ما قال لها تحيضي سبعا، فيكون قد أمرها بترك الصلاة أياما و هي مستحاضة غير حائض» «4».

و قوله عليه السّلام فيها في بيان العادة: «فإن انقطع الدم لوقته في الشهر الأول سواء حتي يوالي عليها حيضتان أو ثلاث فقد علم أن ذلك قد صار لها خلقا معروفا تعمل عليه و تدع ما سواه و تكون سنتها فيما تستقبل إن استحاضت قد صارت سنة إلي أن تجلس أقراءها و إنما جعل الوقت أن توالي عليها حيضتان أو ثلاث لقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله للتي تعرف أيامها: دعي الصلاة أيام أقرائك» «5».

و أما الثانية فلأن بعض أخبار الاستظهار واردة في المستحاضة الظاهرة في الدامية، كحديث عبد الرحمن المتقدم في الوجه السابع «6»، و موثق زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: يجب للمستحاضة أن تنظر إلي نسائها فتقتدي بأقرائها ثم تستظهر علي ذلك بيوم» «7». و خبر زرارة عنه عليه السّلام: «قال: المستحاضة تستظهر بيوم أو يومين» «8»، و موثق زرارة و فضيل عن أحدهما عليهما السّلام: «قال: المستحاضة تكف عن الصلاة

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 7 من أبواب الحيض حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(7) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 5.

(8) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 14.

ص: 281

______________________________

أيام قرئها و تحتاط بيوم أو اثنين ثم تغتسل … » «1» و نحوه خبر إسماعيل الجعفي «2».

لكن الظاهر عدم نهوض كلتا الطائفتين بالمنع من التفصيل المذكور. أما نصوص الاقتصار علي العادة فلأن مرسل داود- مع ضعفه في نفسه- وارد في الدم المتقطع، و هو أجنبي عما نحن فيه كما سبق في الوجه السابع. و صحيح زرارة و حديث عبد الرحمن واردان في النفساء، و لا ملزم بالالتزام بكونها بحكم الحائض في الحكم المذكور.

و مرسلة يونس القصيرة مخالفة لنصوص الاستظهار علي جميع وجوه الجمع المذكورة و منها الوجه الذي التزم به شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

كما أنها مخالفة في الجملة لما تضمن أن ما يري في ضمن العشرة فهو من الحيضة الأولي، فلا مجال للالتزام بظاهرها بعد تظافر النصوص المذكورة و الاتفاق علي العمل بها في الجملة، بل لا بد من حملها علي الصفرة أو طرحها، كما سبق عند الكلام في الدم المتقطع.

و الفقرة الأولي من مرسلة يونس الطويلة واردة في امرأة خاصة، و لا إطلاق لها يشمل الدور الأول، بل لعل ظاهرها ما بعده، لتحيض المرأة بالدم في الدور الأول بمقتضي طبعها بلا حاجة للسؤال، و إنما تحتاج له بعد الاستمرار و خروجها عن وضعها الطبيعي.

و دعوي: أن اللازم إلغاء خصوصية الدور بعد ظهورها في استنكار ترك الصلاة في غير العادة.

مدفوعة بأن موضوع الاستنكار ترك الصلاة حال عدم الحيض، فهو متفرع علي حجية العادة في نفي حيضية ما خرج عنها، فمع قصور الإطلاق عن حجية العادة علي ذلك في بعض الأدوار لا موضوع لعموم الاستنكار.

كما أن الفقرة الثانية و إن كان ظاهرها بدوا الرجوع للعادة مطلقا، إلا أن ورودها في شرح موضوع السنة الأولي و الاستدل ال فيها علي حجية العادة بالنبوي الوارد في تلك السنة موقوف علي شمول إطلاق النبوي للدور الأول، و هو في حيز

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 10.

ص: 282

______________________________

الإشكال أو المنع، كما سبق.

علي أنه لو تم إطلاق الفقرتين لزم تنزيلهما علي غير الدور الأول لدليل التفصيل المتقدم. و ليسا نصا في الشمول للدور الأول لينافيا الدليل المذكور.

و أما نصوص الاستظهار فحديث عبد الرحمن قد سبق في الوجه السابع ظهوره في ثبوت الاستظهار مع اختلاف القرء قليلا و إن لم تنعقد العادة الشرعية، و هو أجنبي عما نحن فيه.

علي أنه لو فرض ظهوره في اختلافه بعد انعقاد العادة كان شاهدا علي التفصيل في هذا التفصيل، و أن الاقتصار علي العادة مشروط باستقامة الحيض، و هو أمر آخر يأتي الكلام فيه، و لا يشهد ببطلان التفصيل المذكور.

و موثق زرارة و محمد بن مسلم وارد في المبتدأة- كما اعترف به شيخنا الأعظم قدّس سرّه- لأنها هي التي ترجع إلي أقراء نسائها، و ثبوت الاستظهار لها زائدا علي أقرائهن- لو تم- لا يستلزم ثبوته لذات العادة زائدا علي عادتها، لينافي التفصيل المذكور.

كما أن خبر زرارة- مع عدم وضوح حجيته- لم يتضمن كون المستحاضة ذات عادة، بل لعلها مبتدئة ترجع إلي عادة نسائها، فيناسب موثق زرارة و محمد بن مسلم.

و أما خبر الجعفي فضعفه مانع عن رفع اليد به عن هذا التفصيل الذي اقتضته الأدلة. فلم يبق إلا موثق زرارة و فضيل. و عن بعض مشايخنا الإشكال فيه بضعف السند، لضعف طريق الشيخ إلي علي بن الحسن بن فضال. لكن سبق في تحديد سن اليأس الاعتماد علي الطريق المذكور.

و الذي ينبغي أن يقال: مبني منافاته و منافاة غيره مما تضمن الاستظهار للمستحاضة للتفصيل المذكور هو دعوي ظهور المستحاضة في مستمرة الدم بين الحيضتين، كما يناسبه ما في بعض عبارات لسان العرب من أن المستحاضة من لا يرقأ دم حيضها و لا يسيل من المحيض. و هي و إن فسرت فيه أيضا بمن يسيل دمها من غير المحيض، بل اقتصر علي ذلك في القاموس و مجمع البحرين، و هو شامل لمن لا يستمر

ص: 283

______________________________

الدم بين حيضتيها، إلا أنه لا يناسب النصوص الكثيرة المتضمنة أنها تجلس أيام قرئها، لظهورها في صدق المستحاضة عليها أيام القرء.

كما لا يناسب ما في صحيح يونس بن يعقوب فيمن يتقطع عليها الدم من أنها تصلي كلما رأت الطهر و تدع الصلاة كلما رأت الدم، ثم قال عليه السّلام: «تصنع ما بينها و بين شهر، فإن انقطع عنها الدم و إلا فهي بمنزلة المستحاضة» «1»، لظهوره في عدم كونها مستحاضة حقيقة، بل بحكمها. و لا ينافيه تطبيق المستحاضة عليه في أكثر نصوص الاستظهار و غيرها، لإمكان كونه تنزيليا لا حقيقيا.

و من هنا ينبغي حمل التعريف الثاني علي من اتصل دم حيضها بدم غيره، حتي يشتبه أحدهما بدوا بالآخر، فيرجع التعريفان إلي أمر واحد. و حينئذ لا مجال لحمل الصحيح و نحوه علي خصوص الدور الأول، لأن المرأة لا تعلم غالبا بكونها مستحاضة بالمعني المذكور إلا في الدور الثاني، فلا يكون الاستظهار فعليا صالحا لأن يعمل عليه إلا إذا شمل الدور الثاني فلا مجال لإخراجه عنه، بل يكون متيقنا منه، و ينافي التفصيل المذكور.

لكن تكرر في لسان العرب تفسير المستحاضة أيضا بأنها التي يستمر دمها بعد أيامها، و عليه اقتصر في الصحاح و مختاره و نهاية ابن الأثير. و من هنا لا يبعد أن يكون تعريفها بأنها التي يخرج دمها من غير المحيض بلحاظ ذات الدم و واقعه، كما تضمنته النصوص أيضا «2».

و به تصدق علي من يكون دمها المذكور قليلا غير متصل بدم الحيض، كما ورد في صحيح صفوان فيمن تري الطهر ثلاثة أيام بعد عشرة الحيض ثم تري الدم، و فيه: «هل تمسك عن الصلاة؟ قال: لا، هذه مستحاضة» «3». و في مرسل داود مولي أبي المعزي المتقدم: «فإذا مضت أيام حيضها و استمر بها الطهر صلت، فإذا رأت الدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4، 1، و باب: 5 منها حديث: 1، و باب: 12 منها حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 3.

ص: 284

______________________________

فهي مستحاضة» «1».

و بهذا المعني وقعت موردا للتقسيم إلي الأقسام الثلاثة ذات الأحكام الخاصة.

أما عنوان المستحاضة فلم يطلق عليها بلحاظ ذلك، بل بلحاظ اختلاط دمها بدم الحيض، حتي كأنه بقاء له. و إليه يشير تعريفها بأنها التي يستمر دمها بعد أيامها، لأن غالب اختلاط الدميين إنما يكون بذلك.

و لعله عليه جري إطلاقه علي مستمرة الدم بعد أيام الاستظهار في جملة من النصوص «2». كما قد يكون بلحاظ ذلك التنزيل في صحيح يونس المتقدم، فالدم المذكور فيه و إن كان استحاضة بلحاظ ذاته، إلا أن عنوان الاستحاضة لا يصدق عليه إلا تنزيلا.

نعم، الظاهر أن المعيار في ذلك مطلق استمرار الدم بعد الحيض و لو لم يحرز الحيض بالعادة، بل بقاعدة الإمكان، كما في المضطربة و المبتدأة. و عليه جري ما في موثق ابن بكير: «قال في الجارية أول ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون مستحاضة:

انها تنتظر بالصلاة، فلا تصلي حتي يمضي أكثر ما يكون من الحيض … » «3» و غيره.

و أما تعريفها بأنها التي لا يرقأ دمها- الذي تقدم من لسان العرب- فلا يبعد رجوعه للمعني المذكور، بأن يكون المراد به عدم انقطاعه في الوقت الذي ينبغي انقطاعه فيه، و هو وقت انتهاء الحيض. و ربما يكون بلحاظ قسم منه، و هي التي يعبر دمها ما بين الحيضتين، لأنها التي جرت فيها السنن الثلاث المشهورة، حيث قد يكون لها نحو من التميز بسببها أو بسبب آخر.

و كيف كان، فلا مجال لدعوي اختصاص المستحاضة لغة و عرفا بذلك، غاية الأمر أنها قد تستعمل فيه، مع كون المعني بمقتضي أصل الاشتقاق متقوما باستمرار الدم بعد الحيض، و يناسبه جملة من الاستعمالات المتقدمة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 285

______________________________

و من هنا قد يكون ذلك هو المراد في موثق زرارة و فضيل و نحوه مما تضمن الاستظهار، فيمكن تنزيلها علي ما يناسب التفصيل المذكور، بحملها علي خصوص الدور الأول، فتكون واردة لبيان حكم ابتداء الاستحاضة و حدوثها، دون بقائها، و لا يلزم منه كون الحكم بالاستظهار غير فعلي، للاطلاع علي موضوعه حين حدوثه.

و من هنا لا معدل عن هذا التفصيل بعد نهوض الموثق به، و ملائمته لصريح جملة من نصوص الاستظهار و الاقتصار و للمتيقن منها، و إمكان تنزيل بقية النصوص عليه.

و لا سيما مع وهن بقية الوجوه المذكورة للجمع، كما يظهر مما سبق. و مع تأيده بأن حيضية ما زاد علي العادة في أول استمرار الدم مقتضي قاعدة الإمكان و منافية لأمارية العادة علي عدم حيضية ما زاد عليها، حيث يناسب ذلك تشريع الاستظهار في مورد التعارض المبتني علي التحيض لاحتمال الحيض لا لإحرازه.

أما في الدور الثاني فلا مجال لقاعدة الإمكان، لأنها تقتضي حيضية الدم قبل العادة بمضي أقل الطهر من الحيضة السابقة، فإرجاع الشارع للعادة مبني علي رفع اليد عنها، فتنفرد أمارية العادة في نفي حيضية ما زاد عليها، المناسب للتعويل عليها و عدم تشريع الاستظهار. فإن ذلك موجب لارتكازية الجمع المذكور بين النصوص جدا.

و لعله لذا نسب هذا التفصيل لظاهر النص و الفتوي في كلام بعضهم، كما حكاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه عنه، و إن لم يتضح لنا عاجلا، بل استظهر قدّس سرّه عدم الخلاف في عدم استظهار الدامية، و إن خصه قدّس سرّه باليائسة عن الانقطاع بالاستظهار جريا علي مبناه المتقدم. فلاحظ.

بقي في المقام أمور..
الأول: أنه ظهر مما تقدم أنه لا مجال من طرح نصوص الاقتصار علي العادة

لما في المستند و احتمله في الحدائق من طرح نصوص الاقتصار علي العادة لأنها موافقة للمشهور بين العامة، حيث لم ينقل الاستظهار إلا عن مالك في التذكرة و المنتهي.

لأن الترجيح بموافقة العامة فرع استحكام التعارض و تعذر الجمع العرفي، لا

ص: 286

______________________________

مع إمكانه كما تقدم. بل لو فرض استحكام التعارض بينها لم يحتج للترجيح بمخالفة العامة بعد استفاضة نصوص الاستظهار و تسالم الأصحاب علي العمل بها الموجب لقطعية مضمونها.

و منه يظهر الإشكال فيما عن بعض مشايخنا من أنه لا يبعد ترجيح نصوص الاقتصار علي العادة، لموافقتها لعموم أحكام الطاهر، لأن الترجيح بموافقة الكتاب مقدم رتبة علي الترجيح بمخالفة العامة.

وجه الإشكال: أن الترجيح فرع إمكان رفع اليد عن أخبار الاستظهار. مع أن موافقة أخبار الاقتصار علي العادة لعموم أحكام الطاهر موقوف علي إحراز كون المرأة طاهرا، و العموم لا ينهض به بعد كون الشبهة مصداقية.

نعم، يشكل الترجيح بمخالفة العامة مع موافقة مثل مالك ممن له ظهور فيهم و لا يعد قوله شاذا عندهم. فلو فرض استحكام التعارض لزم التساقط و الرجوع لما يقتضيه الأصل. و يأتي الكلام فيه في الأمر الرابع إن شاء اللّه تعالي.

الثاني: أن ظاهر النصوص بمجموعها التفصيل بين الدورين في وجوب الاستظهار و وجوب الاقتصار علي العادة،

فلا مجال للبناء في الدور الأول علي استحباب الاستظهار أو إباحته مع مشروعية الاقتصار علي العادة، و لا في الدور الثاني علي استحباب الاقتصار علي العادة أو جوازه مع مشروعية الاستظهار.

بل الفقرة الأولي المتقدمة من مرسلة يونس الطويلة كالصريحة في وجوب الاقتصار علي العادة و عدم مشروعية الاستظهار، و قد سبق أن الدور الثاني متيقن منها، أو هي محمولة عليه جمعا بين النصوص.

نعم، قد يدعي أن اختلاف نصوص الاستظهار في قدره مناسب لعدم وجوبه.

لكنه لا يكفي في الخروج عن ظهور النصوص في الوجوب.

و دعوي: أن كلا منها ظاهر في الوجوب التعييني، فمع رفع اليد عنه لأجل بقية النصوص لا يكون حملها علي الوجوب التخييري أقرب من حملها علي الاستحباب

ص: 287

______________________________

التعييني أو الإباحة، بل لعل الثاني أقرب.

مدفوعة بأن ذلك- مع توقفه علي عدم الجمع العرفي بينها بوجه آخر علي ما يأتي الكلام فيه- إنما يتم لو لم يكن هناك قدر مشترك تتفق علي وجوبه.

أما حيث كان وجوب اليوم مشتركا بين الكل فلا مانع من إبقاء دليله علي ظهوره في الوجوب التعييني، و يكون ما زاد عليه محمولا علي الاستحباب أو الإباحة.

و أما ما في المستند من ورود نصوص الاستظهار بعبارة الخبر الدال علي الرجحان دون الوجوب، عدا اثنين منها «1»، و هما غير باقيين علي حقيقتهما في الوجوب التعييني لأجل بقية النصوص، و ليس حملهما علي الوجوب التعييني بأولي من حملهما علي الاستحباب.

فهو كما تري.. أولا: لأن الجملة الخبرية ظاهرة في الوجوب.

و ثانيا: لأن الحديثين قد تضمنا التخيير بين اليوم و اليومين، و ظاهرهما لزوم اليوم و جواز الزيادة عليه بيوم آخر، و لا ينافي مضمونهما ما تضمن جواز الزيادة علي ذلك ليرفع به اليد عن ظهورهما في لزوم اليوم.

فالعمدة في الخروج عن ظهور النصوص المتقدمة في الوجوب صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا ابراهيم عن امرأة نفست فمكثت [و بقيت.

يب، صا] ثلاثين ليلة [يوما] أو أكثر، ثم [و] طهرت وصلت، ثم رأت دما أو صفرة.

قال: إن كانت [كان. صا] صفرة فلتغتسل و لتصل و لا تمسك عن الصلاة فإن [و إن.

صا] كان دما ليس بصفرة فلتمسك عن الصلاة أيام قرئها ثم لتغتسل و لتصل» «2».

فإن الإرجاع لأيام القرء يناسب استمرار الدم، و حيث هو صريح في رؤية الدم بعد انقطاع دم النفاس يكون واردا في الدور الأول، و مقتضاه جواز الاقتصار فيه علي أيام القرء و عدم وجوب الاستظهار فيه، فيتعين معه حمل نصوص الاستظهار

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8، 14.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب النفاس حديث: 2.

ص: 288

______________________________

علي الاستحباب. فلاحظ.

الثالث: أشرنا آنفا إلي احتمال التفصيل في الدور الثاني،

لأن مقتضي حديث عبد الرحمن المتقدم في الوجه السابع مشروعية الاستظهار للمستحاضة في الدور الثاني مع عدم استقامة الحيض علي العادة، فيخصص به إطلاق ذيل موثق إسحاق بن جرير و نحوه مما ظاهره عدم مشروعية الاستظهار في الدور الثاني.

لكنه موقوف.. أولا: علي كون المراد بعدم استقامة الحيض مخالفة الحيض للعادة بعد انعقادها.

و ثانيا: علي كون المراد بالمستحاضة من يتصل دمها بين الحيضتين، لا مطلق من يستمر دمها. و قد سبق في الوجه السابع المنع من الأول. كما ظهر مما تقدم هنا عدم وضوح الثاني.

مضافا إلي ما أشرنا إليه في الوجه السابع من أن تنزيل مرسلة يونس الطويلة الظاهرة في عدم الاستظهار في الدور الثاني علي خصوص مستقيمة الحيض بالمعني المذكور بعيد جدا. فراجع. و لعله لذا رماه بالشذوذ في المستند حاكيا له عن بعضهم أيضا.

الرابع: المحكي عن بعض مشايخنا أنه بعد رد الوجه المتقدم عن الوحيد حمل أخبار الاستظهار علي غير مستمرة الدم،

و أخبار الاقتصار علي العادة علي مستمرة الدم قبل العادة، مستدلا بإطلاق ما تضمن الاقتصار علي العادة لمستمرة الدم أو للمستحاضة التي هي بمعناها، و بورود أخبار الاستظهار فيمن يستمر دمها بعد العادة لا قبلها.

و مقتضاه أنها لو رأت الدم قبل العادة بأربعة أيام مثلا لم تستظهر و بهذا خالف الوجه المتقدم عن الوحيد المقتضي للاستظهار في الفرض المذكور، لعدم صدق الدور الثاني عليه.

لكنه مخالف لصريح موثق سماعة المتقدم: «سألته عن المرأة تري الدم قبل وقت حيضها. فقال: إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة فإنه ربما تعجل بها الوقت، فإن كان أكثر من أيامها التي كانت تحيض فيهن فلتربص ثلاثة أيام

ص: 289

______________________________

بعد ما تمضي أيامها، فإذا تربصت ثلاثة أيام و لم ينقطع الدم عنها فلتصنع كما تصنع المستحاضة» «1».

إلا أن يكون مراده ما إذا امتنع التحيض بأول الدم السابق علي العادة المستمر إليها، كما لو رأته قبل مضي أقل الطهر من الحيضة السابقة و استمر للعادة اللاحقة و تجاوزها، حيث يخرج عن مفاد موثق سماعة.

و حينئذ يتجه الاقتصار علي العادة و عدم الاستظهار بناء علي ما تقدم منه من ضعف حديث زرارة و فضيل المتقدم كغيره مما تضمن استظهار المستحاضة، لاختصاص بقية نصوص الاستظهار المعتبرة بمن تحيض فتجوز أيام حيضها الظاهر في كون أول رؤية الدم في العادة، و في المفروغية عن التحيض به، فلا يشمل محل الكلام، بل المرجع فيه إطلاق ما تضمن اقتصار المستحاضة علي عادتها.

أما بناء علي ما سبق من اعتبار الحديث المذكور فهو معارض للإطلاق المذكور في محل الكلام، و من الظاهر خروج محل الكلام عن كلا الفرضين اللذين تضمنهما شاهد الجمع بين الطائفتين، و هو موثق إسحاق بن جرير، لظهور صدره في الدم الذي يتحيض به حين خروجه، و اختصاص ذيله بالدم المستمر شهرا أو أكثر، فلا رافع لتعارض الاطلاقين فيه، بل يتعين تساقطهما و الرجوع لاستصحاب الحيض، المقتضي للتحيض في مدة الاستظهار، دون قاعدة الإمكان، لما أشرنا إليه آنفا- في ذيل الكلام في التفصيل المتقدم- من ابتناء الإرجاع لأيام العادة في مستمرة الدم قبل أيام العادة علي إلغاء القاعدة.

و دعوي: أنه بعد عدم حكم الشارع بحيضية ما قبل العادة مما يتمم العشرة يكون مقتضي قاعدة الإمكان حيضية ما بعدها مما يتممها، لعدم المانع من حيضيته.

مدفوعة بأن حكم الشارع بعدم حيضية ما قبل العادة ليس بملاك امتناعه، ليرتفع المانع من حيضية ما بعدها، بل إلغاء للقاعدة في مقام الإحراز و تعويلا علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 290

______________________________

العادة، و ذلك لا يوجب تبدل مفاد القاعدة.

و مثلها دعوي: أنه لا مجال لاستصحاب الحيض بعد أيام العادة في الفرض، لاتفاق الطائفتين علي إهماله، أما نصوص الاقتصار علي العادة فظاهر، و أما نصوص الاستظهار فلأنها تقتضي التحيض احتياطا لاحتمال الحيض من دون إحراز له، و لو جري استصحاب الحيض كان التحيض متفرعا علي إحرازه، لا استظهارا و احتياطا.

لاندفاعها بأن التعبير بالاستظهار و الاحتياط في النصوص قد يكون بلحاظ عدم الأمارة علي الحيض واقعا و لا علي عدمه، فلا ينافي إحراز الحيض ظاهرا بالاستصحاب، بل قد يبتني الاستظهار عليه و إن لم يصرح به في نصوصه.

هذا و لكن الإنصاف ان تحكيم دليل الاقتصار علي العادة في الفرض أقرب عرفا، إلغاء لخصوصية الشهر في ذيل موثق إسحاق بن جرير، لفهم أن المعيار تحير المرأة فيما ترجع إليه بسبب استمرار الدم، في مقابل ما يظهر من الصدر من المفروغية عن الرجوع للعادة و الشك في الزيادة عليها. و لا سيما بملاحظة ما تقدم من المؤيد للتفصيل المذكور في آخر الكلام في دليله. و إن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

فالاحتياط لا يترك بحال. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

الخامس: قال في الوسيلة: فإذا طهرت و كان عادتها أقل من عشرة أيام استبرأت بقطنة،

«فإن خرجت نقية فهي طاهرا [كذا] و إن خرجت ملوثة صبرت إلي النقاء، و إن اشتبه عليها استظهرت بيوم أو يومين ثم اغتسلت». و ظاهره أن موضوع الاستظهار اشتباه النقاء لا استمرار الدم، بل تبقي علي التحيض واقعا مع استمراره من دون استظهار. و لا يظهر وجهه مع صراحة النصوص في تشريعه مع استمرار الدم.

ثم إنه قال في كشف اللثام في تعقيب ما ذكره: «فإما أن يريد بالاشتباه أن تري عليها صفرة أو كدرة، أو يريد أن في فرجها قرحا أو جرحا يحتمل تلطخها به».

و لا يخفي أن فرض الاشتباه مع خروج الصفرة أو الكدرة يبتني علي اختصاص الحيض بعد العادة بالدم مع احتمال كون أصل الصفرة و الكدرة دما و قد اختلط حال

ص: 291

______________________________

إخراج القطنة برطوبات الفرج فصار صفرة أو كدرة و تعذر معرفة الحال.

السادس: الظاهر أن المعيار في الاستظهار علي العادة العددية

و إن لم تكن وقتية، كما هو ظاهر إطلاق بعضهم، بل صريح جامع المقاصد و كشف اللثام و الروض و غيرها، بل قد يظهر من بعضهم المفروغية عنه. و لا ينافيه ظهور كلام بعضهم في الوقتية و العددية، لعدم سوقه في مقام الحصر.

و كيف كان، فيقتضيه إطلاق بعض نصوصه، كصحيح محمد بن عمر بن سعيد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «سألته عن الطامث و حدّ جلوسها. فقال: تنتظر عدة ما كانت تحيض، ثم تستظهر بثلاثة أيام ثم هي مستحاضة» «1» و نحوه صحيح زرارة «2» و خبره «3» و مرسلا عبد اللّه بن المغيرة «4».

بل مقتضي إطلاقها ثبوته لذات العادة الوقتية و العددية بمضي العدد إذا تحيضت بالدم في غير وقتها لقاعدة الإمكان أو لواجديته للصفات.

بل هو كالصريح من موثق سماعة: «سألته عن المرأة تري الدم قبل وقت حيضها.

فقال: إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة، فإنه ربما تعجل بها الوقت، فإن كان أكثر من أيامها التي كانت تحيض فيهن فلتربص ثلاثة أيام بعد ما تمضي أيامها، فإذا تربصت ثلاثة أيام و لم ينقطع الدم عنها فلتصنع كما تصنع المستحاضة» «5» فإن مقتضاه الاستظهار بمضي العدد دون الوقت.

و أما ما تضمنته جملة من النصوص من أن الاستظهار بعد مضي الوقت، فهو لا ينافي ذلك، لعدم وروده مورد الحصر، فيحمل علي ما إذا رؤي الدم في الوقت، كما صرح به في بعضها، فلا تنافي تشريعه بمضي العدد في غير ذلك.

و لا سيما مع التعبير في بعضها بأنها تنتظر عدتها التي كانت تجلس «6» لإشعاره

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5، 9.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5، 9.

(4) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 2، 11.

(5) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1، 12.

(6) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1، 12.

ص: 292

يوما أو يومين أو أكثر (1) إلي أن يظهر لها حال الدم و أنه ينقطع علي العشرة أو يستمر إلي ما بعد العشرة (2)، فإن اتضح لها الاستمرار قبل تمام العشرة اغتسلت و عملت عمل الطاهرة.

______________________________

بأن المعيار علي مضي العدد لا الوقت.

مقدار الاستظهار
اشارة

(1) يعني إلي العشرة، كما يظهر من قوله بعد ذلك: «فإن اتضح لها الاستمرار قبل تمام العشرة اغتسلت» لظهوره في اعتبار ظهور الاستمرار في ترك الاستظهار قبل العشرة.

(2) كأنه لما تقدم منه قدّس سرّه من حمل نصوص الاستظهار علي الحكم الظاهري لرجاء انقطاع الدم علي العشرة.

لكن تشريع الاستظهار لذلك- لو تم- لا يستلزم دوران قدره مداره، لإمكان اقتصار الشارع في التعويل علي احتمال الانقطاع قبل العشرة و في طلب ظهور الحال علي زمن خاص مما تضمنته النصوص، فلا بد من الرجوع إلي نصوصه المختلفة في قدره.

و حملها بتمامها علي اختلاف ظهور الحال باختلاف الموارد مع كون المعيار عليه في جميعها بعيد جدا عن ظاهرها، و إن احتمله شيخنا الأعظم و جزم به سيدنا المصنف (قدس سرهما)، سواء أريد به حمل ذكر كل من المقادير التي تضمنتها النصوص علي ظهور الحال به في مورد النص المشتمل عليه، فيكون الرجوع إليه في مورده فعليا، أم تقييد جميع النصوص المتضمنة لكل منها بما إذا حصل به ظهور الحال، فيكون الرجوع إليه في مورده تعليقيا منوطا به.

علي أنك عرفت ضعف المبني المذكور في نفسه عند الكلام في الوجه الثامن من وجوه الجمع بين النصوص.

هذا و قد خير بين اليوم و اليومين في النهاية و ما تقدم من الوسيلة و الشرائع و النافع و التذكرة و الروض، و حكاه في المعتبر و التذكرة عن الصدوق و المفيد، كما حكي عن غيرهما، و نسبه في المعتبر و محكي الذكري للمشهور، و عن كشف الالتباس

ص: 293

______________________________

أنه المشهور بين المتأخرين.

و يقتضيه موثق زرارة و فضيل «1» و خبر زرارة «2» المتقدمان في الوجه التاسع، و خبر الجعفي «3» المشار إليه هناك، و حديث عبد الرحمن فيمن اختلف قرؤها «4» المتقدم في الوجه السابع، و صحيح محمد بن مسلم «5» و حديث زرارة «6».

و بها يجمع بين ما اقتصر فيه علي اليوم الواحد، كموثق إسحاق بن جرير المتقدم «7» و مرسل داود مولي أبي المغراء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن المرأة تحيض ثم يمضي وقت طهرها و هي تري الدم. قال: فقال: تستظهر بيوم إن كان حيضها دون العشرة أيام، فإن استمر الدم فهي مستحاضة … » «8».

و ما اقتصر فيه علي اليومين، و هو صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له:

النفساء متي تصلي؟ قال: تقعد بقدر حيضها و تستظهر بيومين، فإن انقطع الدم، و إلا اغتسلت … قلت: و الحائض. قال: مثل ذلك سواء، فإن انقطع عنها الدم و إلا فهي مستحاضة» «9».

فإن الجمع بذلك و إن كان مخالفا لظاهر كل من الدليلين بلحاظ ما اشتمل عليه من الحكم بالاستحاضة بعد مدة الاستظهار، لأن الاستحاضة من الأمور الواقعية غير التابعة للاختيار، فمع العلم بها بعد اليوم الواحد لا موضوع للاستظهار باليومين، و مع توقف العلم بها علي اليومين لا مجال للجزم بها بعد اليوم الواحد، إلا أن اشتمال النصوص الأول علي التخيير بين اليوم و اليومين مع الحكم بالاستحاضة بعد الاستظهار شاهد بأن الحكم بالاستحاضة ليس للجزم بها بعده، بل للتعبد بها

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 14.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(5) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 15.

(6) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 13.

(7) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

(8) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 4.

(9) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 294

______________________________

ظاهرا بعده، فلا مانع من إناطة الشارع التعبد بها بالاختيار، فتصلح لأن تكون شاهد جمع بين النصوص المقتصرة علي أحدهما، كما لا يخفي.

لكن ذلك يجري في الثلاثة أيام أيضا، حيث اقتصر عليها في موثق سماعة المتقدم «1».

و موثقة الآخر في الحبلي «2»، و صحيح محمد بن عمرو بن سعيد المتقدم «3»، كما تقدم في موثق سعيد بن يسار قوله عليه السّلام فيمن تري الشي ء من الدم الرقيق بعد اغتسالها من طهرها: «تستظهر بعد أيامها بيومين أو ثلاثة ثم تصلي» «4»، و في صحيح البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «سألته عن الحائض كم تستظهر؟ فقال: تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة» «5». حيث يسهل الجمع بينها بالتخيير بين اليوم و اليومين و الثلاثة، و لا سيما بملاحظة صحيح البزنطي.

بل يجري ذلك في تمام العشرة، لصحيح يونس بن يعقوب: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: امرأة رأت الدم في حيضها حتي تجاوز وقتها متي ينبغي لها أن تصلي؟ قال: تنتظر عدتها التي كانت تجلس ثم تستظهر بعشرة أيام» «6» بناء علي ما هو الظاهر من حمله علي الاستظهار في بقية العشرة مما زاد علي العادة- كما ذكره الشيخ و غيره- لامتناع الاستظهار في تمامها زائدا عليها.

و لا سيما بملاحظة مرسل عبد اللّه بن المغيرة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في المرأة التي تري الدم. فقال: إن كان قرؤها دون العشرة انتظرت العشرة، و إن كانت أيامها عشرة لم تستظهر» «7».

فإنه و إن اقتصر فيهما علي العشرة، و لا نص يتضمن التخيير بينها و بين ما دونها، ليكون شاهد جمع بينهما و بين النصوص المتقدمة، إلا أن حملهما علي بيان منتهي مدة الاستظهار جمعا مع النصوص السابقة قريب جدا بعد شهادة النصوص السابقة بابتناء الاستظهار علي التخيير بين الأقل و الأكثر.

و ما في الرياض من قصورهما سندا و عملا و عددا، مع احتمال ورودهما مورد

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 10.

(4) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 8.

(5) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 9.

(6) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 12.

(7) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 11.

ص: 295

______________________________

الغالب، و هو كون العادة سبعة أو ثمانية. كما تري، لكفاية الأول بعد اعتبار سنده، و وجود العامل به في الجملة بنحو يخرجه عن الهجر، و كون حمله علي التخيير لما سبق أقرب عرفا من حمله علي الغالب، بل ليس حمله علي الغالب عرفيا.

و من هنا كان المتعين التخيير بين اليوم و اليومين و الثلاثة و تمام العشرة، كما في الحدائق و المستند و ظاهر الروض. لكن ليس لتعارض النصوص المقتضي للتخيير مع عدم الترجيح، كما في المستند. لأن التخيير في التعارض- لو تم- إنما يكون مع استحكامه، لا مع الجمع العرفي، كما هو الحال في المقام لما سبق.

بل الانصاف أن الأقرب التخيير بين اليوم و ما زاد عليه إلي العشرة، كما في الدروس، و ربما يرجع إليه ما عن الذكري من جواز الاستظهار بالعشرة، و ما عن البيان من جوازه مع ظن بقاء الحيض.

فلو كانت عادة المرأة خمسة أيام جاز لها الاستظهار بأربعة أيام و إن خرجت عن العناوين المذكورة في النصوص، لأن حمل النصوص علي أن أقل الاستظهار يوم واحد و أكثره تمام العشرة مع التخيير عقلا بين المراتب التي تدخل في الحد المذكور أقرب عرفا من حملها علي التخيير بين خصوصيات الأطراف التي تضمنتها بنحو لا يخرج عنها، و لا سيما مع عدم اشتمال شي ء منها علي تمام أطراف التخيير، و من الظاهر أن الجامع بين خصوصيات الأطراف المذكورة عقلي غير ارتكازي لا يدرك إلا بأطرافه، فيبعد إرادة الشارع له و اكتفاؤه في كل نص ببيان بعض أطرافه، بل الأقرب كون بيان الأطراف المذكورة لدخولها تحت الجامع الارتكازي المذكور.

نعم، لا إشكال في أن الأحوط الاقتصار علي أحد الأطراف الأربعة المذكورة في النصوص. و أحوط منه الاقتصار علي ما عدا العشرة منها، لشبهة التعارض بين نصوصها و حديثي العشرة و فقد الشاهد علي الجمع المتقدم، و رجحان نصوصها بالاستفاضة، أو وهن حديثي العشرة بضعف دلالة الأول و لبعض المناقشات الموهونة في سنده، و ضعف سند الثاني.

و لعله لذا اقتصر في التخيير علي اليوم و اليومين و الثلاثة في السرائر و المدارك،

ص: 296

______________________________

و حكي عن جماعة، و في المفاتيح أنه الأشهر.

و أما ما في المعتبر من أن الأحوط الاقتصار علي اليوم أو اليومين و إن جاز الاستظهار للعشرة، فهو يبتني علي إهمال الثلاثة بلا وجه.

هذا و قد استشكل في المنتهي في التخيير بامتناع التخيير في الواجب، و لذا حمل النصوص علي التفصيل اعتمادا علي اجتهاد المرأة في قوة المزاج و ضعفه الموجبين لزيادة الحيض و قلته.

و كأن مراده أن كثيرا من أحكام كل من الحائض و الطاهر لما كانت علي اللزوم ففرض اللزوم لا يناسب التخيير. و هو نظير ما تقدمت الإشارة إليه في الوجه الأول من وجوه الجمع بين نصوص الاستظهار و نصوص الاقتصار علي العادة من أن تشريع العبادة موقوف علي الأمر بها، فلا يجتمع مع استحباب تركها.

و يظهر الحال فيه مما تقدم هناك، فإنه قد يتم لو كان التخيير واقعيا، لا في مثل المقام مما يكون فيه طريقيا لتجنب العبادة حال الحدث، حيث يكون الواقع هو الإلزام في ضمن أحد الحكمين تبعا لتحقق موضوعه واقعا، مع التخيير ظاهرا في العمل علي طبق كل منهما برجاء ثبوته. كيف و قد التزم قدّس سرّه بأن أصل الاستظهار ليس علي الوجوب فلتكن الزيادة فيه كذلك.

و أما ما ذكره من تنزيل النصوص علي ما يقتضيه اجتهاد المرأة في قلة الحيض و كثرته. فهو مما تأباه النصوص جدا، لرجوعه إلي عدم العمل بجميع العناوين المذكورة فيها، بل تبعا لأمر مباين لها قد يقارنها غير مشار إليه في تلك النصوص و لا في غيرها.

مع أن جعل المعيار علي الاجتهاد الموجب للعلم ببقاء الحيض في المدة التي تضمنها النص- مع منافاته لفرض الاستظهار المبني علي الاستيثاق من جهة الاحتمال- مستلزم لتنزيل النصوص علي فرض غير واقع، و علي الاجتهاد الموجب للعلم بعدم الحيض بعد المدة التي تضمنها النص راجع للاقتصار علي العشرة و إهمال بقية

ص: 297

______________________________

النصوص، لعدم تيسر العلم بعدم الحيض قبلها، و علي الاجتهاد الموجب للظن بأحد الأمرين مستلزم لتنزيل النصوص علي فروض نادرة، و هو مما يأباه إطلاقها جدا.

فلا معدل عن حمل النصوص علي التخيير الراجع لوجوب الأقل و جواز الزيادة عليه حتي يبلغ العشرة.

و منه يظهر الإشكال فيما في الإرشاد من الاقتصار علي اليومين، لابتنائه علي إهمال أكثر النصوص و التزام واحد منها.

و مثله ما في الجواهر و عن المرتضي و الإسكافي من الاقتصار علي العشرة، بل هو مقتضي إطلاق الصبر إلي عشرة أيام في الفقيه و المقنع و الهداية، و إلي النقاء في المقنعة و المبسوط و محكي الجمل، حيث لم يقيدوه بغير ذات العادة. بل يظهر من كلام الصدوق الآتي في أول المسألة العاشرة فرض كونها ذات عادة.

لكن استدل في الجواهر للزوم الاستظهار بالعشرة بصلاحية كل من الأخبار المتقدمة لإثبات ما اشتملت عليه، مؤيدا باطلاق الاستظهار في مرسل عبد اللّه بن المغيرة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا كانت أيام المرأة عشرة أيام لم تستظهر، فإذا كانت أقل استظهرت» «1». و صحيح يونس: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: النفساء تجلس أيام حيضها التي كانت تحيض ثم تستظهر و تغتسل و تصلي» «2». قال: «فإن المراد به بحسب الظاهر طلب ظهور الحال من الحيض و عدمه و ذلك لا يحصل إلا بالانتظار إلي العشرة».

كما يؤيد أيضا باستصحاب أحكام الحائض، و بقاعدة الإمكان، و بأصالة الحيض في دم النساء، و بما تضمن أن ما تراه المرأة في ضمن العشرة فهو من الحيضة الأولي «3»، و بقوله عليه السّلام في مرسلة يونس القصيرة: «فإذا حاضت المرأة و كان حيضها

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 11 و باب: 11 منها حديث: 3. و باب: 17 من أبواب العدد من كتاب النكاح حديث: 1. و قد تقدمت في أول الفصل الخامس.

ص: 298

______________________________

خمسة أيام ثم انقطع الدم اغتسلت وصلت، فإن رأت بعد ذلك الدم و لم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيام فذلك من الحيض تدع الصلاة. فإن رأت من أول ما رأته [رأت. في] الثاني الذي رأته تمام العشرة أيام و دام عليها عدت من أول ما رأت الدم الأول و الثاني عشرة أيام، ثم هي مستحاضة … » «1» إلي غير ذلك من المؤيدات الكثيرة، كأخبار الصفات مع التتميم بعدم القول بالفصل، و غيرها.

و هو كما تري، فإن صلاحية كل من أخبار الاستظهار لإثبات ما اشتمل عليه إنما هو بالنظر إليه وحده، أما بالنظر إلي غيره مما خالفه في المقدار فلا مجال لذلك بعد أن كان كل منها كالصريح في جواز الاقتصار علي ما تضمنه، حيث يقع التنافي بينها، و لا بد من الجمع العرفي، و قد سبق أنه يقتضي التخيير.

نعم، لو تم ما سبق منه في الوجه السادس للجمع بين نصوص الاقتصار علي العادة و نصوص الاستظهار من تقييد الأولي بالثانية اتجه نظيره في المقام، حيث يكون المشتمل علي الأقل أعم من المشتمل علي الأكثر، فيقيد به.

لكن سبق إباء تلك النصوص عنه فنصوص المقام تأباه أيضا. و لا سيما مع اشتمال جملة منها علي التخيير بين الأقل و الأكثر، حيث تكون صريحة في عدم تقييد الأكثر للأقل.

و مثله ما احتمله شيخنا الأعظم قدّس سرّه من تنزيل ما تضمن غير العشرة علي ما يطابقها بحسب عادة المرأة، فاليوم علي ما إذا كانت العادة تسعة، و اليومان علي ما إذا كانت ثمانية و هكذا.

فإنه تكلف تأباه النصوص لرجوعه إلي عدم العمل علي العناوين المأخوذة في أكثرها، بل علي عنوان آخر لم يشر إليه إلا في نادر منها. بل تنزيل اليوم و اليومين اللذين اشتملت عليهما أكثر النصوص علي من عادتها تسعة أو ثمانية تنزيل علي الفرد غير الشائع.

و أما إطلاق الاستظهار فلا بد من رفع اليد عنه بالنصوص المتضمنة لمقداره بعد الجمع بينها بما ذكرنا. علي أن مرسل عبد اللّه بن المغيرة- مع ضعفه في نفسه- وارد

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 299

______________________________

لبيان شرط الاستظهار و مورده و لا إطلاق له في بيان مقداره.

و صحيح يونس- مع وروده في النفساء- يقرب جدا كون المراد به الإشارة للمقدار المعهود من الاستظهار من دون أن يراد به بيان مقدار بالإطلاق، إذ لو أريد به الاستظهار للعشرة الذي يرتفع به احتمال الحيض كان الأنسب أن يقول: تجلس عشرة أيام، لأنه أخصر و أفيد.

و أما بقية المؤيدات المذكورة في كلامه فهي- لو تمت في أنفسها- لا تعدو الأصل المحكوم لنصوص الاستظهار بعد الجمع بينها بما سبق، أو العموم و الإطلاق اللذين يخرج عنهما بها، فيحملان علي غير ما تراه ذات العادة بعد مضي قدر عادتها.

و دعوي: أن ظاهر قوله عليه السّلام في مرسلة يونس القصيرة: «و كان حيضها خمسة أيام» كونها ذات عادة. ممنوعة، بل هو ظاهر في إرادة الحيض الخاص المفروض في قوله عليه السّلام: «فإذا حاضت المرأة» لا الحيض النوعي السابق علي ذلك الذي تنعقد به العادة، و لذا كان ظاهره كون الانقطاع علي الخمسة، و لولاه لا مجال لاستفادة ذلك.

هذا مضافا إلي أن مقتضي قاعدة الإمكان، و أصالة الحيض في دم المرأة، و ما تضمن أن ما تراه في ضمن العشرة فهو من الحيضة الأولي، و نصوص الصفات، هو حيضية ما في ضمن العشرة واقعا، لا التحيض به استظهارا، فلا يصلح لتأييد وجوب الاستظهار في تمام العشرة، كما لعله ظاهر.

ثم إن الصدوق في المقنع اقتصر في مقدار استظهار الحبلي علي الثلاثة أيام. فإن ابتني ذلك منه علي كونه المقدار المتعين لاستظهار الحائض مطلقا، أشكل بنظير ما سبق لابتنائه علي إهمال أكثر النصوص و العمل بثلاثة منها.

و إن ابتني علي خصوصية الحبلي في ذلك فقد يوجه بانحصار الدليل فيها بموثق سماعة: «سألته عن امرأة رأت الدم في الحبل. قال: تقعد أيامها التي كانت تحيض، فإذا زاد الدم علي الأيام التي كانت تقعد استظهرت بثلاثة أيام ثم هي مستحاضة» «1». و لا

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 6.

ص: 300

______________________________

موجب للخروج عن ظاهره بعد إمكان خصوصية الحامل من بين أفراد الحائض.

و يشكل بأنه كما يمكن الجمع بينه و بين ما ورد في مطلق الحائض مما يخالفه في المقدار بالتخصيص، كذلك يمكن الجمع بحمله علي بيان أحد أطراف التخيير.

و لعل الثاني أقرب، بلحاظ ورود الثلاثة في مطلق الحائض و لزوم تنزيلها علي ذلك جمعا «1»، و بلحاظ بعد خصوصية الحامل في ذلك، بل لعله مغفول عنه عرفا، كما يغفل عن دخل غيرها من الخصوصيات المذكورة في بعض النصوص، كخصوصية من تعجل بها الدم التي تقدم في موثق سماعة استظهارها بثلاثة أيام، و خصوصية من عاد الدم إليها بعد انقطاعه التي تقدم في موثق سعيد بن يسار استظهارها بيومين أو ثلاثة. و لذا لم أعثر علي من أشار لاحتمال دخل خصوصية الموارد المذكورة في قدر الاستظهار.

بل ظاهر غير واحد المفروغية عن عدم الفرق في حكم الاستظهار و قدره بين الحائض و النفساء، فضلا عن أفراد الحائض. و إن كان في بلوغ ذلك حدا يصحح الاستدلال بنصوص الحائض في النفساء و بنصوص النفساء في الحائض إشكال.

و لذا لم نشر لما ورد في النفساء مخالفا للمقادير السابقة، كما سبق عدم نهوض ما تضمن اقتصار النفساء علي عادتها برفع اليد عما دل علي الاستظهار للحائض في الدور الأول. بل يوكل ذلك لمبحث النفاس.

و قد تحصل مما سبق: أن ما وصلنا من أقوال الأصحاب في قدر الاستظهار عشرة: تبعيته للشك في تجاوز الدم علي العشرة، و اختلافه باختلاف اجتهاد المرأة في قدر الحيض، و تعين اليومين، و تعين الثلاثة، و تعين إتمام العشرة، و التخيير بين اليوم

______________________________

(1) قد يؤكد ذلك بلحاظ صحيح الصحاف الوارد في حيض الحبلي، لقوله عليه السّلام: «فإن انقطع عنها الدم قبل ذلك فلتغتسل و لتصل، و إن لم ينقطع الدم عنها إلا بعد ما تمضي الأيام التي كانت تري الدم فيها بيوم أو يومين فلتغتسل ثم تحتشي و تستذفر … فإنها إذا فعلت ذلك أذهب اللّه بالدم عنها» [الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7] بحمل اليوم و اليومين علي جلوسها لا علي انقطاع الدم عنها، لظهور الذيل المتقدم في عدم تحقق الانقطاع. لكنه لا يخلو عن إشكال. (منه عفي عنه).

ص: 301

______________________________

و اليومين، و التخيير بين اليوم و اليومين و إتمام العشرة، و التخيير بين الأولين و الثلاثة، و التخيير بين الأمور الأربعة، و التخيير بين اليوم و ما زاد إلي أن تتم العشرة. و أن الأقوي الأخير، ثم ما قبله، ثم ما قبله.

كما أن مرجع التخيير إلي وجوب الأقل مع الترخيص في الزيادة عليه، علي أن يكون حكما طريقيا مراعاة لاحتمال الحيض، لا إلي الوجوب التخييري لأطرافه، لما تقدم في الأمر الثاني في ذيل الكلام في حكم الاستظهار، و لا إلي وجوب اختيار أحد الأمرين من الحيض و الاستحاضة في الزائد بنحو يتعين حكم ما يختار منهما بمجرد اختياره، لعدم إشعار النصوص به. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

[تنبيه: فيما لو انقطع الدم علي العشرة أو تجاوزها بعد الاستظهار
اشارة

ذكر في المنتهي أنه لو لم ينقطع الدم بعد أيام الاستظهار، فصامت، و انقطع الدم علي العشرة اغتسلت لانقطاع الدم و قضت الصوم، للقطع بحيضية الدم بتمامه، و لو تجاوز الدم العشرة وجب عليها قضاء الصلاة التي تركتها أيام الاستظهار، للقطع بعدم حيضية ما زاد علي العادة حينئذ، و نحوه في جامع المقاصد و الروض و كشف اللثام و محكي البيان و الموجز و فوائد الشرائع و غيرها.

و قد يرجع إليه ما في الدروس من وجوب قضاء الصوم في الفرض إن لم يطابق الطهر، و وجوب قضاء الصلاة التي تركتها أيام الاستظهار إذا ظهر أنها مستحاضة فيها، و قريب منه في الذكري، لعدم معهودية شي ء مظهر للحال غير ما سبق. و قد نسب التفصيل المذكور للمشهور في كلام غير واحد، و في المستند أنه صرح به الأكثر، بل قيل: إنه المعروف. و في الحدائق أنه صرح به الأصحاب. فإن تم ذلك اتجه ما ذكره في المتن في معيار الاستظهار.

لكن لم يتضح الوجه في التفصيل المذكور، بل الظاهر انحصار الدليل عليه بنحو يتم بكلا شقيه بما سبق في الوجه الثامن من وجوه الجمع بين نصوص الاقتصار علي العادة و نصوص الاستظهار، الذي سبق المنع منه.

ص: 302

______________________________

كما أنه لم يتضح نسبته للمشهور بعد عدم نسبته لأحد قبل العلامة و ظهور الخلاف فيه منه في بعض كتبه و من غيره علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و من هنا ينبغي الكلام في كلا شقي التفصيل في مقامين..

المقام الأول: في انكشاف حيضية ما بعد أيام الاستظهار مع انقطاع الدم علي العشرة.

و قد صرح به- مضافا إلي من عرفت- في الشرائع و النافع و التحرير و القواعد و الإرشاد و الذكري و عن المرتضي، و في مفتاح الكرامة أن الأصحاب ذكروه قاطعين به، و في الجواهر: «بلا خلاف عندهم في ذلك … بل قد يظهر من بعضهم دعوي الإجماع عليه، كما عن صريح آخر».

و العمدة فيه: عموم ما تضمن أن ما تراه المرأة في ضمن العشرة من الحيضة الأولي، و نحوه مما تقدم في أول الفصل الخامس، و إطلاقه شامل لذات العادة، و تقدم هناك أن ما تضمن عدم حيضية ما بعد أيام العادة مطروح أو مؤول. فراجع.

و دعوي: أنه يلزم رفع اليد عنه بما تضمنته نصوص الاستظهار من الحكم بأن ما بعد أيامه استحاضة، و حيث يمتنع تنزيل أيام الاستظهار فيها علي خصوص ما يتمم العشرة، لما تقدم، تعين تنزيل ما تضمن حيضية تمام ما في العشرة علي غير ذات العادة العددية.

مدفوعة بأنه تقدم في وجه الجمع بين نصوص الاستظهار المختلفة في مقداره أن الحكم بالاستحاضة بعد أيامه ليس واقعيا، بل ظاهريا، فلا ينافي حيضية الدم واقعا لو انقطع علي العشرة، عملا بالنصوص المذكورة.

اللهم إلا أن يقال: ما تضمن حيضية تمام ما في العشرة لا يختص بالدم المنقطع عليها، بل يعم المتجاوز عنها، فهو يقتضي حيضية ما فيها واقعا مطلقا، فينافي نصوص الاستظهار الشاملة للقسمين و الصريحة في احتمال عدم حيضية ما في أيامه و في التعبد بكون ما بعدها استحاضة.

ص: 303

______________________________

و الجمع بينهما بحمل نصوص حيضية ما في العشرة علي خصوص المنقطع عليها، و حمل نصوص الاستظهار علي الحكم الظاهري المراعي بعدم الانقطاع علي العشرة، بلا شاهد.

بل يتعين حمل ما تضمن حيضية ما في العشرة علي غير ذات العادة بقرينة نصوص الاستظهار، مع إبقاء ما تضمنته نصوص الاستظهار من التعبد بكون ما بعد أيامه استحاضة علي إطلاقه من حيثية الانقطاع و التجاوز.

و لا سيما مع عدم التنبيه إلي لزوم التدارك في شي ء من نصوص الاستظهار علي كثرتها، مع ظهورها في بيان الوظيفة من حيثية الشك في حيضية الدم مطلقا لا في خصوص حال الشك في الانقطاع علي العشرة و التجاوز عنها، حيث يبعد جدا مع ذلك الاكتفاء في بيان لزوم التدارك بما تضمن حيضية تمام ما في العشرة.

و من ثم كان ظاهرها عدم وجوب التدارك، كما اعترف به في الرياض، و إن قرب حملها علي ما إذا كانت أيام الاستظهار متممة للعشرة، الذي سبق أنه لا مجال له.

و من هنا ذكر في الحبل المتين عدم نهوض شي ء من الأخبار بوجوب التدارك، و توقف في وجوبه في المدارك، مدعيا ظهور الأخبار في عدمه، و وافقه في محكي الكفاية، و استقرب عدمه في المفاتيح و الحدائق لذلك أيضا.

بل هو الظاهر من كل من ذكر الاستظهار و لم ينبه إلي وجوب التدارك كالصدوق. فالبناء علي عدم رفع اليد عن التعبد بالاستحاضة بعد أيام الاستظهار بانقطاع الدم علي العشرة أو قبلها قريب جدا. فتأمل جيدا.

المقام الثاني: في انكشاف عدم حيضية ما في أيام الاستظهار مع تجاوز الدم علي العشرة.

فيجب تدارك الصلاة المتروكة فيها، الذي تقدم التصريح به ممن سبق، بل في الجواهر أنه المشهور نقلا و تحصيلا.

لكن توقف فيه في المدارك، مدعيا ظهور الأخبار في خلافه، كما صرح في

ص: 304

______________________________

الحبل المتين بعدم نهوض شي ء من الأخبار به، بل استقرب عدمه في المفاتيح و الحدائق و الرياض، عملا بظاهر النصوص، و عليه جري في المستند و محكي الكفاية، و هو المحكي عن مصباح السيد، كما هو الظاهر من كل من ذكر الاستظهار و لم ينبه علي وجوب التدارك هنا، خصوصا من نبه علي بيان وجوب التدارك في المقام الأول مقتصرا عليه، كما في الشرائع و النافع و التحرير و القواعد و الإرشاد.

و كيف كان، فقد استدل عليه في الجواهر..

تارة: بما تضمنته نصوص الاستظهار من الحكم بأن المرأة مستحاضة مع استمرار الدم.

و اخري: بما تضمن جلوس المستحاضة أيام حيضها، بضميمة ما دل علي أن من استمر بها الدم بعد أيام الاستظهار مستحاضة.

و ثالثة: بما تضمن الاقتصار علي العادة مع التجاوز، و أن ما عداها استحاضة، كمرسلة يونس الطويلة.

و رابعة: بما تضمن أن ما تراه المرأة بعد أيام حيضها ليس من الحيض كمرسلة يونس القصيرة و غيرها مما تقدم في أول الفصل الخامس، غايته أنه يخرج عنه فيما لو انقطع الدم علي العشرة.

مؤيدا ذلك كله بأنه لما كان الزائد علي العشرة غير حيض قطعا، فيظن بعدم حيضية ما قبله لاتصاله به و كونه دما واحدا، حيث يستبعد حدوث سبب الاستحاضة عند تمام العشرة.

و الجميع كما تري. لاندفاع الأول بأن ظاهر نصوص الاستظهار كونها مستحاضة بعد أيامه إذا لم ينقطع بعدها، لا من حين انقضاء العادة إذا لم ينقطع الدم علي العشرة.

و منه يظهر الحال في الثاني حيث يكون مقتضي الجمع بين الطائفتين ترتيب حكم المستحاضة بعد أيام الاستظهار المقتضي لاقتصارها علي أيام العادة في الدور الثاني، لا انكشاف حيضية خصوص ما في العادة من أول الأمر، لينكشف به أن أيام

ص: 305

______________________________

الاستظهار استحاضة.

و لا سيما مع ظهور نصوص الاقتصار علي العادة في لزومه من أول الأمر بمجرد انقضاء العادة، بنحو ينافي الاستظهار، لا بنحو ينكشف به الحال بعد ذلك مع العمل علي الاستظهار من أول الأمر.

و بذلك يظهر الجواب عن الثالث، لأن نصوص الاقتصار علي العادة لم ترد فيما يتجاوز العشرة، كي لا يراد بها العمل علي ذلك من أول الأمر بمجرد التجاوز علي العادة، لعدم إحراز موضوعها إلا بعد مضي العشرة، فتتعين لبيان الحكم الواقعي المنكشف حينئذ، بل وردت في المستحاضة كبعض نصوص الاستظهار.

و لما كانت ظاهرة في لزوم الاقتصار علي العادة من أول الأمر بمجرد مضي أيامها، لا في مجرد بيان وظيفة واقعية لا يعمل عليها بانقضاء العادة، كانت منافية لنصوص الاستظهار، فبعد فرض العمل بنصوص الاستظهار إما لتخصيصها لتلك النصوص- كما تقدم منه- أو لحملها علي الدور الأول- كما تقدم منا- أو لغير ذلك، لا وجه لتحكيم النصوص المذكورة في مورد نصوص الاستظهار، بحيث تنهض بكشف الواقع بعد مضي أيامه، إلا بناء علي الوجه الثامن من وجوه الجمع الذي تقدم ضعفه.

و أما الرابع فيندفع بمنافاة النصوص المذكورة لنصوص الاستظهار، فلا تكون محكمة في موردها بل هي مطروحة أو مؤولة، كما تقدم.

كما يندفع المؤيد المذكور بأن إلحاق الدم المذكور بما بعد العشرة في كونه استحاضة ليس بأولي من إلحاقه بما في العادة في كونه حيضا مع اتصاله بهما معا و توسطه بينهما، و ليس حدوث سبب الاستحاضة بانقضاء العشرة أو أيام الاستظهار بأبعد من حدوثه حين انقضاء العادة.

و لذا كان الحكم بالاستظهار و بالاستحاضة بعده مبنيا علي مراعاة احتمال الحيض في أيامه دون ما بعدها من دون إعمال أمارة علي الحيض و عدمه.

و من هنا لا مخرج عما سبق من غير واحد من ظهور نصوص الاستظهار في كونه

ص: 306

______________________________

وظيفة مطلقة لا مراعاة بالتجاوز عن العشرة و عدمه. و لا سيما مع عدم التنبيه فيها علي كثرتها للزوم التدارك علي تقدير الاستمرار مع عدم ما يصلح لبيانه من دليل آخر.

و ما في الجواهر من أنه لا دلالة فيه علي عدم وجوب التدارك، بل هو كعدم التعرض لقضاء الصوم المتروك في أيام الاستظهار مع القطع بوجوب قضائه.

كما تري، لأن مبني الاستظهار علي التوثق لاحتمال الحيض باجراء أحكامه التي منها ترك أداء الصوم و الانتقال لقضائه و ترك الصلاة من دون قضاء، فوجوب قضاء الصوم مناسب للاستظهار مستغن عن التنبيه أما وجوب قضاء الصلاة مع التجاوز عن العشرة فهو علي خلاف مقتضي الاستظهار، فلو كان واجبا لزم التنبيه عليه، و إهماله موجب لظهور أدلته في عدمه، و بقاء مقتضي الاستظهار حتي مع التجاوز.

ثم إنه لو تم انكشاف عدم حيضية أيام الاستظهار مع التجاوز عن العشرة، فلا مجال للاستشكال في وجوب قضاء الصلاة الفائتة فيها من جهة عدم وجوب الأداء، بل حرمته بناء علي وجوب الاستظهار، كما عن نهاية الأحكام.

لاندفاعه بأن وجوب الأداء أو حرمته ظاهرا للشك في حال الدم لا ينافي وجوبه واقعا لفرض حيضيته، فيجب القضاء مع انكشاف الحال، لتبعية وجوبه لوجوب الأداء واقعا، لا ظاهرا.

اللهم إلا أن يستند عدم وجوب القضاء لظهور أدلة الاستظهار في عدمه الموجب للبناء علي العفو عنه و إن انكشف عدم الحيض حينه بسبب استمرار الدم.

لكنه لا يخلو عن إشكال.

بقي شي ء: و هو أنه لو انقطع الدم في أيام الاستظهار لم يبعد البناء علي كونه بتمامه حيضا، لقاعدة الإمكان و استصحاب الحيض، من دون أن ينافي نصوص الاستظهار.

و منه يظهر أنه لو بني علي انقلاب العادة باتفاق شهرين لا حقين علي خلافها- علي ما تقدم الكلام فيه منا في فروع العادة- فهي إنما تنقلب فيما إذا كان الدم في الشهرين اللاحقين أقل من العادة أو أكثر في ضمن أيام استظهار المرأة حسب اختيارها، أما لو

ص: 307

(مسألة 10): قد عرفت أنه إذا انقطع الدم علي العشرة كان الجميع حيضا واحدا، من دون فرق بين ذات العادة و غيرها (1)، و إذا تجاوز العشرة فإن كانت ذات عادة عددية و وقتية تجعل ما في العادة حيضا (2)

______________________________

زاد عليها فيشكل انقلابها له بعد الحكم بكون ما بعد الاستظهار استحاضة ظاهرا من دون رافع له. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

مسألة 10: الكلام في جملة من أحكام المستحاضة
رجوع مستمرة الدم للعادة مع تحقيق العادة التي ترجع إليها
اشارة

(1) سبق المنع من ذلك في ذات العادة لو انقطع دمها بعد أيام الاستظهار.

(2) رجوع ذات العادة إليها في الجملة هو المصرح به في كلام الأصحاب بنحو يظهر في التسالم عليه، و ادعي الإجماع عليه في المعتبر و التذكرة و المنتهي و كشف اللثام و غيره.

لكن أشرنا آنفا إلي أنه لم نعثر علي نص يتضمن حيضية خصوص ما في العادة لمن تجاوز دمها العشرة، بل النصوص بين ما ورد فيمن تجاوز دمها العادة، و ما ورد فيمن يستمر بها الدم مدة طويلة كشهر أو أكثر، كموثق إسحاق بن جرير «1» الآتي و المتقدم في نصوص الاستظهار، و مرسلة يونس الطويلة «2»، و ما هو مردد بينهما، كنصوص المستحاضة، لما سبق في مبحث الاستظهار من الكلام في مفهومها.

و حيث كانت الطائفة الأولي متضمنة الاستظهار زائدا علي العادة، و الثانية متضمنة الاقتصار علي العادة، و الثالثة مختلفة في ذلك، تعين تنزيل نصوص الاستظهار علي الدور الأول، و نصوص الاقتصار علي العادة علي ما بعده، علي ما تقدم توضيحه في حكم الاستظهار، كما تقدم أن تجاوز الدم عن العشرة بعد الاستظهار لا يكشف عن كون أيام الاستظهار استحاضة و الحيض مختصا بأيام العادة.

و من ذلك يظهر أن مستمرة الدم في الدور الأول ترجع للعادة العددية فقط،

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 308

______________________________

لأنها هي المعيار في الاستظهار كما تقدم، و المفروض دخولها في أدلته، بل تتحيض بأول رؤية الدم مع إمكان حيضيته، لعموم قاعدة الإمكان، سواء رأته في أول العادة الوقتية، أم في أثنائها، أم قبلها، أم بعدها، فتتحيض بمقدار عادتها ثم تستظهر و تكون مستحاضة بعد أيام الاستظهار و إن صادفت عادتها الوقتية.

لأن ما دل علي الرجوع للعادة الوقتية مختص بمن يستمر دمها كثيرا، و هي غير شاملة للدور الأول، و بالمستحاضة، و هي لا تنطبق علي المرأة في أول رؤية الدم مع إمكان حيضها، لأن مقتضي قاعدة الإمكان كونها حائضا، لا مستحاضة، و إنما تكون مستحاضة بعد أيام الاستظهار بمقتضي نصوصه، فترجع لعادتها حينئذ مع إمكان حيضها في أيام عادتها لفصل أقل الطهر بينها و بين تحيضها بأول الدم، و يكون هو الدور الثاني لها الذي لا استظهار فيه.

أما مع عدم فصل أقل الطهر فالمتعين عدم التحيض بالعادة الأولي و انتظار العادة اللاحقة، و تكون هي الدور الثاني لها.

و دعوي: أن مقتضي إطلاق إرجاع المستحاضة لعادتها الوقتية لما كان هو تحيضها في العادة الأولي، و هو لا يجتمع مع تحيضها في أول الدم الذي هو مقتضي قاعدة الإمكان، لزم رفع اليد عن التحيض بأول الدم، لأن قاعدة الإمكان من سنخ الأصل و العادة من سنخ الأمارة الحاكمة عليه.

مدفوعة بأن موضوع النصوص المذكورة و إن كان هو المستحاضة، إلا أنه لا بد من حمله علي المستحاضة التي يحتمل كونها حائضا حين العادة، لأن أمارية العادة علي الحيض فرع احتماله، و لا طريق لإحراز كون المرأة في الفرض كذلك، بل مقتضي قاعدة الإمكان بضميمة نصوص الاستظهار حيضيتها في أول الدم و عدم كونها مستحاضة إلا بعد أيام الاستظهار، و مثل هذه المستحاضة يقطع بعدم حيضيتها وقت العادة، فقاعدة الإمكان رافعة لموضوع حجية العادة، و الأمارة إنما تحكم علي الأصل إذا بقي موضوع حجيتها معه، لا مع رافعيته لموضوعها، بل يكون واردا عليها حينئذ.

ص: 309

______________________________

نعم، لو كان موضوع نصوص الرجوع للعادة مستمرة الدم لم تنهض قاعدة الإمكان برفع الموضوع المذكور، لأن المرأة بالوجدان مستمرة الدم محتملة للحيض وقت العادة، فتكون قاعدة الإمكان منافية لها، محكومة لها. لكن سبق أنه ليس في النصوص ما يتضمن ذلك.

كما أنه لو بني علي عدم جريان قاعدة الإمكان في الدم الزائد علي العشرة، للتعارض بين تطبيقاتها علي أجزائه، كان المحكم في البين هو إطلاق دليل الرجوع للعادة، لأن مقتضي الإطلاق كون المرأة مستحاضة من أول رؤية الدم.

لكن سبق في الدم المتقطع أن موضوع القاعدة هو الإمكان من غير حيثية الدم اللاحق، فيكون تطبيقها علي أول الدم واردا علي بقية التطبيقات، فينفرد بالاعتبار، و يرد علي عموم دليل الإرجاع للعادة في الفرض، كما ذكرنا.

و يشهد بما ذكرنا في قاعدة الإمكان و في المقام موثق سماعة: «سألته عن المرأة تري الدم قبل وقت حيضها. فقال: إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة، فإنه ربما تعجل بها الوقت، فإن كان أكثر من أيامها التي كانت تحيض فيهن فلتربص ثلاثة أيام بعد ما تمضي أيامها، فإذا تربصت ثلاثة أيام و لم ينقطع عنها الدم فلتصنع كما تصنع المستحاضة» «1».

فإنه مع اشتماله علي التعليل الذي هو من أدلة قاعدة الإمكان قد تضمن حيضية أول الدم لا غير، علي ما سبق في الدم المتقطع توضيحه.

كما أن مقتضاه حيضية الدم حين رؤيته قبل أيام العادة و كون ما بعد الاستظهار استحاضة و إن صادف شيئا من أيام العادة، المستلزم لعدم حجية العادة الوقتية في أول رؤية الدم، و عدم نهوضها برفع اليد عن قاعدة الإمكان في أوله.

و حمله علي خصوص صورة فصل أقل الطهر بين أيام العادة و أيام الاستظهار بعيد جدا، بل هو كالمقطوع بعدمه. و كفي به شاهدا لما ذكرناه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 310

______________________________

نعم، لو لم يمكن التحيض بأول رؤية الدم لعدم فصل أقل الطهر بينه و بين الحيض السابق كانت المرأة مستحاضة من أول رؤيته، كما تضمنه صحيح صفوان «1» المتقدم في الدم المتقطع، فتدخل في إطلاق ما تضمن رجوع المرأة إلي عادتها الوقتية.

و في ثبوت الاستظهار لها بعد أيام العادة ما تقدم في الأمر الرابع من لواحق الكلام في وجوب الاستظهار. فراجع.

ثم إن ما ذكرناه من تحيضها في الدور الأول برؤية الدم و إن كان علي خلاف عادتها الوقتية مخالف لإطلاق الأصحاب رجوع من تجاوز دمها عن العشرة إلي عادتها، بل خلاف صريح بعضهم، ففي المبسوط و الخلاف و السرائر أن من كانت عادتها خمسة أيام في كل شهر، فإن رأت خمسة قبلها و فيها و خمسة بعدها اقتصرت علي عادتها، و في المعتبر و الشرائع و التذكرة و المنتهي و القواعد و الدروس و جامع المقاصد و كشف اللثام و غيرها أنها لو رأت العادة و الطرفين و تجاوز المجموع العشرة اقتصرت علي ما في العادة، و قد يظهر من بعض عباراتهم الإجماع عليه، لاقتصارهم في نسبة الخلاف علي العامة.

لكن لا مجال للخروج بذلك عما سبق، لعدم ثبوت الإجماع التعبدي بذلك بعد ظهور جملة من عباراتهم في ابتنائه علي فهمهم من النصوص إطلاق رجوع من تجاوز دمها العشرة و اختلط حيضها باستحاضتها للعادة، كما يظهر من بعضها ابتناؤه علي عدم المرجح لما قبل العادة عما بعدها، أو أقوائية العادة من قاعدة الإمكان المقتضية لحيضية ما قبلها.

إذ من الظاهر أنه لا مجال للتعويل عليه بعد ما سبق من عدم ثبوت الإطلاق المذكور من النصوص و قصورها عن الدور الأول، مع نهوض قاعدة الإمكان و موثق سماعة بترجيح أول الدم و أنهما رافعان لموضوع حجية العادة.

و لا سيما مع ظهور كلام الصدوق فيما ذكرناه في الجملة. قال في الفقيه: «و إن

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 3.

ص: 311

و إن كان فاقدا للصفات، و الزائد عليها استحاضة و إن كان واجدا لها (1)،

______________________________

زاد الدم أكثر من عشرة أيام فلتقعد عن الصلاة عشرة أيام و تغتسل يوم حادي عشر و تحتشي، فإن لم يثقب الدم الكرسف صلت صلاتها كل صلاة بوضوء … إلي أيام حيضها، فإذا دخلت أيام حيضها تركت الصلاة» و نحوه في المقنع و الهداية، بل قد يظهر من الفقيه أنه مأخوذ من رسالة والده.

فإن ذيل كلامه ظاهر في فرض كون المرأة ذات عادة وقتية، فيكون تحيضها في أول الدم عشرة أيام للاستظهار، و لم يقيده بما إذا كان ظهور الدم في أول أيام العادة الوقتية.

علي أن النظر في كلماتهم في مباحث الحيض يشهد باضطرابها في تحديده و في مفاد نصوصه و تعبيرهم عند تحرير الفتاوي بما يشابه مضامين النصوص و لا يطابقها، إذ لا مجال مع ذلك لإحراز مطابقة فتاواهم لفتاوي من سبقهم ممن كان يقتصر علي إثبات النص أو التعبير بعبارته، كالكليني و الصدوق و غيرهما من قدماء الأصحاب، ليحرز اتصال الإجماع بعصور المعصومين عليهم السّلام و يكشف عن حكمهم.

نعم، لو كانت لهم فتاوي يظهر منهم التسالم عليها تعبدا من غير جهة النص أو الاعتبار تعين انحصار مأخذها بالتسالم المتصل بعصور المعصومين عليهم السّلام الكاشف عن حكمهم، و ليس منه المقام. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

ترجيح العادة علي التمييز

(1) تقديما للعادة علي التمييز، كما ذكره المحقق و العلامة و الشهيدان و المحقق الثاني و غيرهم، و هو ظاهر الاقتصاد و السرائر و المحكي عن ابن الجنيد و المفيد و المرتضي و الشيخ في الجمل و أتباعهم و عن الكافي و الجامع و سائر المتأخرين.

و في التذكرة و الرياض و المستند أنه الأشهر، و نسبه للأكثر في جامع المقاصد، و للمشهور في محكي الذكري، و في الجواهر أن عليه الشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا.

و نسب غير واحد للشيخ في النهاية تقديم التمييز. و كأنه لقوله: «فإن اشتبه

ص: 312

______________________________

علي المرأة دم الحيض بدم الاستحاضة فلتعتبر بالصفات التي ذكرناها، فإن اشتبه عليها و كانت ممن لها عادة بالحيض فلتعمل في أيام حيضها علي ما عرفت من عادتها و تستظهر … » حيث أخر الرجوع عن العادة عن الرجوع للصفات.

لكنه موقوف علي كون المراد بالاشتباه الذي هو موضوع الرجوع للعادة الاشتباه المساوق لعدم التمييز، و هو غير ظاهر، بل مقتضي إطلاقه إرادة مطلق التردد بين الحيض و الاستحاضة، فيكون استدراكا من الارجاع للتمييز و يطابق المشهور.

و لعله لذا توقف في الجواهر في نسبة الخلاف للنهاية.

نعم، صرّح في المبسوط و الخلاف و محكي الإصباح بترجيح التمييز، بل في الخلاف أن عليه إجماع الفرقة. لكن صرّح فيها بعد ذلك بأن تقديم العادة قوي، و خيّر في الوسيلة بين العمل علي العادة و العمل علي التمييز.

و الأقوي تقديم العادة، لما تضمن أن الصفرة في أيام الحيض حيض «1»، و لموثق إسحاق بن جرير: «سألتني امرأة منا أن أدخلها علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت … قالت: فإن الدم يستمر بها الشهر و الشهرين و الثلاثة كيف تصنع بالصلاة؟ قال: تجلس أيام حيضها … قالت له: إن أيام حيضها تختلف عليها و كان يتقدم الحيض اليوم و اليومين و الثلاثة و يتأخر مثل ذلك فما علمها به؟ قال: دم الحيض ليس به خفاء، هو دم حار تجد له حرقة، و دم الاستحاضة دم فاسد بارد … » «2»، حيث تضمن الإرجاع للعادة أولا ثم للتمييز عند اختلاف الحيض.

و مرسلة يونس الطويلة الصريحة في رجوع ذات العادة إليها، و في اختصاص الرجوع للتمييز بفقد العادة قال عليه السّلام: «فهذا يبين أن هذه امرأة قد اختلط عليها أيامها لم تعرف عددها و لا وقتها … فلهذا احتاجت إلي أن تعرف إقبال الدم من إدباره و تغير لونه من السواد إلي غيره، و ذلك أن دم الحيض أسود يعرف، و لو كانت تعرف أيامها

______________________________

(1) راجع الوسائل باب 4 من أبواب الحيض.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 313

______________________________

ما احتاجت إلي معرفة لون الدم، لأن السنة في الحيض أن تكون الصفرة و الكدرة فما فوقها في أيام الحيض إذا عرفت حيضا إن كان الدم أسود أو غير ذلك، فهذا يبين لك أن قليل الدم و كثيرة أيام الحيض حيض كله إذا كانت الأيام معلومة، فإذا جهلت الأيام و عددها احتاجت إلي النظر حينئذ إلي إقبال الدم و إدباره و تغير لونه … » «1».

و هذه النصوص شاهدة بتقديم إطلاقات رجوع المستحاضة للعادة «2» علي إطلاق الرجوع للتمييز في صحيح حفص بن البختري: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام امرأة فسألته عن المرأة يستمر بها الدم فلا تدري أحيض [حيض. خ ل] هو أو غيره؟

قال: فقال لها: إن دم الحيض حار عبيط أسود له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة أصفر بارد، فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة … » «3»، فإنه و إن أمكن تنزيل أحد الإطلاقين علي الآخر إلا أن ما تقدم كاف في القرينية علي تقديم الأول.

بل لا مجال لتقديم الثاني حتي لو غض النظر عما تقدم، لأن الجمع بين الإطلاقين يكون إما بتقييد كل منهما بالآخر في ذات العادة، فلا يكفي أحد الأمرين فيها، أو بحمل نصوص العادة علي موافقة التمييز، أو علي صورة فقده، أو بحمل نصوص التمييز علي غير ذات العادة.

و لا قائل بالأول، و الثاني مستلزم لإلغاء خصوصية العادة و نصوصها آبية عنه جدا، و الثالث ليس بأولي من الرابع لو لم يكن الرابع أولي، لأن تنزيل المرأة في الصحيح علي غير ذات العادة أهون من تنزيل الدم علي الفاقد للتمييز في نصوص العادة الكثيرة.

و أما التخيير فهو يبتني إما علي الجمع بين الإطلاقين بذلك، و هو غير عرفي، أو علي كونه المرجع مع استحكام التعارض، و هو ممنوع صغري و كبري.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

(2) راجع الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض و باب: 1 من أبواب الاستحاضة.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 314

من دون فرق بين كون عادتها حاصلة من تكرر التمييز أو من رؤية الدم علي الأقوي (1)، و من دون فرق أيضا بين كون الواجد للصفات الزائد علي ما في العادة مما يمكن جعله حيضا منضما إلي ما في العادة، لكون المجموع منهما و من النقاء المتخلل بينهما لا يزيد علي العشرة (2) أو حيضا مستقلا، لكونه

______________________________

(1) بناء علي انعقاد العادة بالتمييز، كما سبق منه قدّس سرّه في المسألة السابعة، و سبق المنع منه، كما سبق احتمال انصراف أدلة الإرجاع إليها في المقام عن العادة المذكورة لو فرض انعقادها، لأن الفرع لا يزيد علي أصله، و إن لم يخل عن إشكال. فراجع.

(2) كما هو مقتضي إطلاق من أرجع للعادة أو حكم بتقديمها علي التمييز مع التعارض، لأن حجية العادة أو التمييز في مستمرة الدم لما لم تختص بإثبات حيضية ما يطابقهما، بل تشمل نفي حيضية ما يخالفهما، كانا متعارضين في الفرض، و يختص عدم التعارض بينهما الذي لا موضوع فيه للكلام في الترجيح و التخيير بما إذا تطابقا، كما هو مقتضي إطلاق من جعل موضوع البحث ما إذا اختلفا زمانا كالتحرير و القواعد، و صريح من جعل من فروض محل البحث في الترجيح أو التخيير ما إذا اتصل التمييز بالعادة أو تداخلا أو انفصلا و لم يبلغ المجموع العشرة، كما في المبسوط و الوسيلة و التذكرة و محكي نهاية الأحكام و ظاهر غيرهم ممن ذكر أقوالهم، كما في المعتبر و الشرائع و المنتهي و غيرها.

و كيف كان، فيقتضيه إطلاقات الإرجاع للعادة الظاهرة أو الصريحة في الاقتصار في التحيض علي ما فيها.

خلافا لما يظهر من الروض من عدم التعارض بين العادة و التمييز في ذلك، فيلزم التحيض بما يقتضيه كل منهما فيه، و في الرياض و الجواهر أنه لا يخلو عن قوة، مدعيا في الأول أن عليه الإجماع المنقول، و في الثاني تصريح جماعة به و أن ظاهر التنقيح نفي الخلاف فيه.

ص: 315

______________________________

بل ظاهرهم خروجه عن محل الكلام في ترجيح العادة علي التمييز، لعدم التعارض بينهما بعد إمكان حيضية المجموع. و قد يناسبه ما في المعتبر و المنتهي من تقييد محل الكلام في الترجيح بما إذا لم يتجاوز المجموع العشرة، و ما في الذكري من تفسير التعارض بما إذا لم يمكن الجمع.

لكن سبق تحقق التعارض الذي هو مورد الكلام في الفرض المذكور، و أنه مقتضي إطلاق أو تصريح جملة من الأصحاب.

و ما سبق من المعتبر و المنتهي إما أن يبتني علي اختيار الجمع بين الأمرين في الفرض المذكور خلافا لمن سبق، كالذي سبق من الذكري، أو علي أن المراد من عدم التجاوز عن العشرة عدم تجاوز مجموع الدم، لعدم وجود دم آخر غير ما في العادة و الواجد للصفات، إذ ليس محل كلامهما من تجاوز دمها عن العشرة، بل من اختلف تمييزها مع عادتها، كما يحتمل أن يراد من عدم إمكان الجمع في الذكري تكاذب الأمارتين لاختلاف موردهما، لا عدم إمكان الجمع بين الدميين في الحيضية، ليناسب بقية عباراتهم الظاهرة في عدم خروجهم في تحرير محل النزاع عما سبق من الأصحاب.

و قد أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في تقريب ذلك و توضيحه.

و كيف كان، فقد يستدل لما ذكروه..

تارة: بأنه عمل بكل من الأمارتين، فيجب لإطلاق دليليهما.

و اخري: بأنه مقتضي قاعدة الإمكان.

و يندفع الأول بما سبق من أن مبني كل من الأمارتين ليس مجرد حيضية ما يطابقها، بل نفي حيضية ما خرج عنها أيضا، فيتعارضان في الفرض، و حيث سبق ترجيح العادة تعين الاقتصار عليها.

و منه يظهر اندفاع الثاني، لصلوح دليل العادة حينئذ للحكومة علي قاعدة الإمكان.

ص: 316

مفصولا عن الدم الذي في العادة بعشرة أيام (1)، أو ليس بأقل من ثلاثة أيام (2)، أو لا يمكن جعله حيضا أصلا لا منضما و لا مستقلا. إن لم تكن ذات عادة وقتية و عددية (3)

______________________________

(1) كما في الحدائق و المستند و عن الذخيرة و شرح المفاتيح، و حكاه شيخنا الأعظم بعد تقويته عن جماعة من متأخري المتأخرين، بل هو مقتضي إطلاق من أرجع للعادة أو صرح بتقديمها علي التمييز مع التعارض بالتقريب المتقدم.

و يظهر الوجه فيه مما تقدم في سابقه. خلافا للمسالك و ظاهر المدارك من التحيض بهما معا، و في الرياض و الجواهر أنه لا يخلو عن قوة، و نسبه في الحدائق لجملة من الأصحاب. و في المستند أنه المحكي عن الأكثر، بل يظهر من المدارك أنه لا خلاف فيه لحكمه بخروجه عن مورد البحث في الترجيح أو التخيير. و يظهر وجهه و الجواب عنه مما تقدم في سابقه.

(2) هكذا في غير واحدة من طبعات الكتاب. و الظاهر أن الصحيح العطف بالواو، لا (أو) و يراد به بيان شرط حيضية الدم المذكور، و المناسب حينئذ ذكر عدم الزيادة علي العشرة أيضا، لما يأتي في شرط الرجوع للتمييز.

(3) سواء كانت ذات عادة عددية فقط أم ذات عادة وقتية فقط أم لم تكن ذات عادة أصلا. و في رجوع الأوليين لما انعقد لهما من العادة كلام يأتي في ضمن الفروع الآتية إن شاء اللّه تعالي. و من ثم كانت الأخيرة أظهر أفراد مورد الكلام الآتي.

و مقتضي ما سبق في بيان انعقاد العادة يكون المراد بالأخيرة من لم يتفق لها شهران متواليان في وقت الحيض و عدده، فيخل الاختلاف بيوم أو أكثر. بل سبق في الفرع الثالث من فروع انعقاد العادة الإشكال في إطلاق عدم اخلال الاختلاف ببعض يوم، و أن اللازم الاقتصار علي ما يتسامح فيه عرفا، كالساعة و الساعتين.

لكن في صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن

ص: 317

______________________________

المستحاضة أ يطؤها زوجها، و هل تطوف بالبيت؟ قال تقعد قرءها الذي كانت تحيض فيه، فإن كان قرؤها مستقيما فلتأخذ به، و إن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين و لتغتسل و لتستدخل كرسفا … » «1».

و قد سبق في الوجه السابع من وجوه الجمع بين نصوص الاستظهار و نصوص الاقتصار علي العادة أن ظاهره فرض اختلاف القرء بنحو لا تنعقد به العادة الشرعية المتقدمة و إن لم يمنع من صدق القرء عرفا لطول المدة و قلة الاختلاف كاليوم و اليومين.

و لا ينافيه دليل انعقاد العادة الصريح في اعتبار عدم الاختلاف بذلك، لأن عدم انعقاد العادة الشرعية بالقرء المذكور إنما يقتضي عدم ترتب حكمها و هو الاقتصار عليها من دون استظهار، و لا ينافي ثبوت الحكم الذي تضمنه الصحيح.

ثم إن المنساق منه كون المراد بالجلوس في القرء الذي تضمنه هو الجلوس في المقدار الذي تتفق فيه الأقراء المختلفة زمانا و عددا المتيقن دخوله في القرء، و أن الاحتياط باليوم و اليومين إنما هو مراعاة لاحتمال الزيادة عليه تبعا لما حصل في بعض الأقراء. و لو تم كان مقيدا لما دل علي رجوع غير ذات العادة الشرعية للتمييز أو غيره، فيحمل علي صورة عدم كون المرأة ذات قرء عرفي بالوجه المذكور.

نعم، يشكل التعويل علي الصحيح المذكور في المورد المذكور و الخروج به عن إطلاق نصوص التمييز مع إهمال الأصحاب له في المضمون المذكور و ظهور مرسلة يونس الطويلة في حصر حكم المستحاضة بما تضمنته من السنن الثلاث.

و لا سيما مع شيوع الابتلاء بمورده، حيث يبعد جدا مع ذلك خطأ الأصحاب في حكمه و إهمال المرسلة له. و مع قرب معارضة موثق إسحاق بن جرير «2» المتقدم له، لتضمنه الإرجاع للتمييز مع تقدم الحيض اليوم و اليومين و الثلاثة و تأخره مثل ذلك، لقرب حمله علي الاكتفاء في الإرجاع له بتحقق الاختلاف بأحد الوجوه المذكورة فيه،

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 318

فإن كانت مبتدئة أو مضطربة (1)

______________________________

كالاختلاف بيوم واحد، لا إلي لزوم تحققها بأجمعها المستلزم للاختلاف بستة أيام.

فإن ذلك كله مما يثير الريب في الصحيح و يقتضي التوقف عن مضمونه و إرجاع علمه لأهله عليه السّلام، و لا يخرج به عن إطلاقات النصوص الواضحة الدلالة المعول عليها بين الأصحاب. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم. و منه نستمد العصمة و التوفيق.

رجوع غير ذات العادة للتمييز

(1) و الأولي هي المرأة في أول رؤيتها للدم، و الثانية هي التي رأت الدم قبل ذلك لكن ليس لها عادة ترجع إليها بسبب اختلاف الدم في الشهور. كذا فسرهما في المعتبر و محكي كشف الرموز و يستفاد من المنتهي و الدروس.

لكن ظاهر السرائر و الشرائع و عن الشهيد أن المبتدأة مطلق من لا عادة لها، و أن المضطربة هي الناسية لعادتها بعد انعقادها، و قد يستفاد من الإرشاد و القواعد، كما هو صريح المسالك و الروض ناسبا له فيهما للمشهور، و جعله في الروضة الأشهر، و في المدارك: «هو الذي صرح به العلامة رحمه اللّه و من تأخر عنه».

و يناسبه في المبتدأة ما في التذكرة من انحصار المستحاضة بها و بذات العادة، و ما في الخلاف من الاقتصار عليهما في بيان صور المستحاضة.

و في المسالك و الروض و الروضة ظهور الفائدة في رجوع من تكرر منها الحيض من دون أن تستقر لها عادة إلي عادة نسائها علي التفسير الثاني للمبتدئة دون الأول.

لكن في المدارك أن الاختلاف لفظي، لأن الحكم المذكور غير منوط في الأدلة بعنوان المبتدأة. و ما ذكره متين جدا.

إلا أن يكون المراد أن المناسب تعميم المبتدأة اصطلاحا تبعا لعموم الحكم، لأنه أنسب بالتقسيم، لا أن عموم الحكم تابع لعمومها الذي هو الظاهر بدوا ممن سبق، كما قد يناسبه ما في الروض أيضا من أن كلام المعتبر أدخل في اسم المضطربة، و إن كان التعميم أولي، لندرة المخالف، و لعموم حكمة الرجوع لعادة نسائها، و غيرهما.

ص: 319

______________________________

و أظهر منه ما في جامع المقاصد، حيث ذكر التفسير المشهور ثم تعرض لتفسير المعتبر السابق، ثم قال: «و هذا التفسير صحيح، إلا أن الأول هو الذي يجري عليه أحكام الباب، فإن من لم تستقر لها عادة أصلا ترجع إلي النساء مع فقد التمييز كالتي ابتدأت الدم، و المضطربة [و مراده بها الناسية تبعا للمشهور] لا ترجع إلي النساء، لسبق عادة لها … ».

لكن لو صحح عموم الحكم خروج الاصطلاح في العنوان عن معناه العرفي فهو إنما يتجه مع كون العموم اتفاقيا، أما مع الاختلاف فيه فاللازم إبقاء العنوان علي معناه العرفي ثم النظر في عموم الحكم تبعا لدليله.

نعم، في الروض أن ظاهر مرسلة يونس الطويلة دخول من لم تستقر لها عادة في المبتدأة لتضمنها حصر أقسام المستحاضة في الناسية لعادتها، و الذاكرة و المبتدأة، و حيث لا تدخل من لم تستقر لها عادة في الأوليين تعين دخولها في الأخيرة، و إلا بطل الحصر.

و دعوي: منافاته لصريح قوله عليه السّلام في بيان المبتدأة: «و إن لم يكن لها أيام قبل ذلك و استحاضت أول ما رأت فوقتها سبع … » «1».

مدفوعة بأن قوله عليه السّلام: «و إن لم يكن لها أيام قبل ذلك» شامل لمن لم تستقر لها عادة، فلا بد من تنزيل قوله: «و استحاضت أول ما رأت» علي ما يناسب عمومه لها، بحمل الأولية علي الإضافية بلحاظ عدم استقرار العادة، محافظة علي الحصر المذكور.

و يشكل بأنه- مع بعد التنزيل المذكور في نفسه- مناف لصريح قوله عليه السّلام قبل ذلك: «و أما السنة الثالثة ففي التي ليس لها أيام متقدمة و لم تري [تر. في. يب] الدم قط، و رأت أول ما أدركت فاستمر بها … ».

و أما الحصر فليس هو لحالات المستحاضة، بل لأحكامها و سننها، فلا ينافي عدم دخول من لم تستقر لها عادة في أحد الأقسام المذكورة إذا كانت مشاركة في الحكم لغير ذات العادة منها، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 320

و كانت ذات تمييز- بمعني أن الدم بعضه بصفات الحيض (1) و بعضه فاقدا [فاقد. ظ] لها- وجب عليها التحيض بالدم الواجد للصفات (2) بشرط

______________________________

و من ثم كان الأولي تخصيص المبتدأة بمن ابتدأ بها الدم، و المضطربة بمن اضطرب حيضها من دون أن تستقر لها عادة، مع خروج الناسية لعادتها عنها، فضلا عن أن تختص بها، ثم النظر في حكم كل منها. و الأمر سهل بعد ما ظهر من عدم ترتب ثمرة عملية علي النزاع المذكور.

(1) تقدم في المسألة الخامسة التعرض لصفات دميي الحيض و الاستحاضة التي عليها المعيار في الحكم بكل منهما، و يأتي قريبا تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالي.

(2) أما في المضطربة فهو المصرح به في كلام الأصحاب، و في مفتاح الكرامة:

«لا أجد في ذلك خلافا و لا نقله». بل ادعي الإجماع عليه في المعتبر و المنتهي، و يستفاد ممن يأتي منه دعواه في المبتدأة إن كان ممن يعممها لها.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق صحيح حفص بن البختري «1» المتقدم في ترجيح العادة علي التمييز- موثق إسحاق بن جرير «2» - المتقدم هناك أيضا- الصريح في الإرجاع إليه فيمن تختلف أيام حيضها.

و قوله عليه السّلام في مرسلة يونس الطويلة: «و أما سنة التي قد كانت لها أيام متقدمة ثم اختلط عليها من طول الدم فزادت و نقصت حتي أغفلت عددها و موضعها من الشهر، فإن سنتها غير ذلك. و ذلك أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي صلّي اللّه عليه و آله فقالت:

إني استحاض و لا أطهر. فقال لها النبي صلّي اللّه عليه و آله: ليس ذلك بحيض، إنما هو عرق، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغسلي عنك الدم و صلي … و كان أبي يقول: إنها استحيضت سبع سنين، ففي أقل من هذا تكون الريبة و الاختلاط فلهذا احتاجت أن تعرف إقبال الدم من إدباره و تغير لونه من السواد إلي غيره، و ذلك أن

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 321

______________________________

دم الحيض أسود يعرف، و لو كانت تعرف أيامها ما احتاجت إلي معرفة لون الدم …

فإذا جهلت الأيام و عددها احتاجت إلي النظر حينئذ إلي إقبال الدم و إدباره و تغير لونه … » «1».

فإن المراد بالاختلاط إن كان هو سقوط حكم العادة بسبب كثرة مخالفتها في الأشهر اللاحقة كان من أفراد ما نحن فيه من فرض الاضطراب و عدم العادة التي يرجع إليها.

و إن كان هو نسيان وقتها- كما هو الظاهر، للتعبير بالجهالة و الريبة و الإغفال و المعرفة الظاهرة في فرض واقع محفوظ- كانت دالة علي ما نحن فيه بالأولوية العرفية، لأنه إذا كان التمييز حجة في ظرف وجود عادة مجهولة صالحة لأن يرجع إليها في نفسها، كان أولي بالحجية في ظرف عدم انعقاد العادة أصلا. فلاحظ.

هذا و عن أبي الصلاح الحلبي أن المضطربة «2» ترجع إلي عادة نسائها، فإن فقدن فإلي التمييز فإن كان مراده بالمضطربة من لم تنعقد لها عادة كان خلافا فيما نحن فيه، و إن كان مراده بها الناسية خرج عنه.

و كيف كان، فكأن الوجه فيه ما يأتي من نصوص رجوع المستحاضة إلي نسائها.

لكن النصوص المذكورة- كما سيأتي- بين ما يختص بالمبتدئة و هو مورود أو محكوم لاطلاقات التمييز، لظهوره في فرض التحير و عدم الطريق لمعرفة الحيض، فلا مجال لاستفادة حكم المضطربة منه بنحو يعارض إطلاق التمييز، فضلا عن أن يقدم عليه.

و مثله ما هو مختص بالنفساء، بل هو غير معمول به فيها، فضلا عن أن يتعدي منها للمستحاضة، و بين ما هو وارد في مطلق المستحاضة، و لا وجه لتقديمه علي إطلاق التمييز، لعدم المرجح له بعد كون النسبة بينهما العموم من وجه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

(2) هكذا حكاه عنه غير واحد لكن الذي حكاه عنه في المختلف أنه قال: «و أما المختلطة و هي التي لا تعرف زمان حيضها من طهرها ففرضها أن ترجع إلي عادة نسائها … ». و ربما يظهر منه إرادة مطلق المستحاضة التي يستمر بها الدم أو خصوص غير ذات العادة منها. (منه عفي عنه).

ص: 322

______________________________

بل الظاهر لزوم تقديم إطلاق التمييز عليه، فيحمل هو علي صورة فقد التمييز، لأن الرجوع للتمييز أظهر من الرجوع لعادة النساء، لتميزه بارتكازيته في نفسه و بكون أدلته النقلية أظهر و أكثر، فحمل إطلاق الإرجاع لعادة النساء علي صورة فقد التمييز اتكالا علي وضوح الرجوع إليه لو وجد أقرب من حمل إطلاق الإرجاع للتمييز علي صورة تعذر الرجوع لعادة النساء.

و لا سيما مع ما أشرنا إليه من ظهور ما ورد منه في المبتدأة في فرض التحير، حيث يصلح عرفا لأن يكون شاهد جمع بين الإطلاقين المذكورين و قرينة علي تقديم إطلاق دليل التمييز علي إطلاق دليل الرجوع للعادة، لكون صورة التحير هي المتيقنة منه.

علي أن ظهور مفروغية الأصحاب عن تقديم التمييز حتي لم يتعرض كثير منهم لخلاف أبي الصلاح أو لبيان دليله تكفي في دفع احتمال تقديم إطلاق الإرجاع لعادة النساء، لبعد خفاء ذلك عليهم جدا.

هذا كله بناء علي العمل بالإطلاق المذكور في المضطربة، و إلا فالأمر أظهر.

و سيأتي الكلام في تحقيق ذلك تبعا للمتن إن شاء اللّه تعالي.

هذا كله في المضطربة. و أما المبتدأة فرجوعها للتمييز هو المعروف من مذهب الأصحاب، و قد ادعي الإجماع عليه في الخلاف و المعتبر و المنتهي و التذكرة. و يقتضيه إطلاق صحيح حفص المتقدم في ترجيح العادة علي التمييز.

بل لا يبعد فهمه مما ورد في المضطربة أو الناسية، لإلغاء خصوصيتهما عرفا، و فهم أن إرجاعهما إليه لعدم العادة المخرجة عنه. و لا سيما بملاحظة التعليل في الفقرات المتقدمة من مرسلة يونس بقوله عليه السّلام: «فلهذا احتاجت أن تعرف إقبال الدم من إدباره» و غيره مما يظهر بملاحظتها.

لكن استشكل فيه في الحدائق بخلو النصوص الواردة في المبتدأة عنه، فمرسلة يونس الطويلة قد تضمنت حصر سنن الحيض في ثلاث، و أن النبي صلّي اللّه عليه و آله بين فيها كل مشكل حتي لم يدع لأحد فيها مقالا بالرأي، و مع ذلك قال عليه السّلام فيها في بيان سنة

ص: 323

______________________________

المبتدأة: «و أما السنة الثالثة ففي التي ليس لها أيام متقدمة و لم تري [تر. في. يب] الدم قط و رأت أول ما أدركت فاستمر بها، فإن سنة هذه غير سنة الأولي و الثانية، و ذلك أن امرأة يقال لها حمنة بنت جحش أتت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فقالت: إني استحضت حيضة شديدة، فقال: احتشي كرسفا. فقالت: إنه أشد من ذلك إني أثجه ثجا، فقال: تلجمي و تحيضي في كل شهر في علم اللّه ستة أيام أو سبعة أيام … و هذه سنة التي استمر بها الدم أول ما تراه، أقصي وقتها سبع … فجميع حالات المستحاضة تدور علي هذه السنن الثلاث لا تكاد أبدا تخلو من واحدة منهن إن كانت لها أيام معلومة من قليل أو كثير فهي علي أيام «أيامها» … و إن لم يكن لها أيام قبل ذلك و استحاضت أول ما رأت فوقتها سبع … » «1».

و موثق عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: المرأة إذا رأت الدم في أول حيضها فاستمر بها الدم تركت الصلاة عشرة أيام، ثم تصلي عشرين يوما فإن استمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيام … » «2»، و نحوه موثقة الآخر «3» في الجارية أول ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون مستحاضة، و موثق سماعة: «سألته عن جارية حاضت أول حيضها فدام دمها ثلاثة أشهر و هي لا تعرف أيام أقرائها. فقال:

أقراؤها مثل أقراء نسائها، فإن كانت نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة أيام، و أقله ثلاثة أيام» «4».

فإن خلو هذه النصوص عن التعرض للتمييز مع ورودها في مقام البيان موجب لقوة ظهورها في عدم اعتباره في المبتدأة. و ليس تقييدها بنصوص التمييز بأولي من العكس و قصر نصوص التمييز علي غير المبتدأة تحكيما لهذه النصوص عليها.

بل الثاني أولي بلحاظ مرسلة يونس التي قصرت التمييز علي المضطربة و أهملته في المبتدأة، لقوة ظهورها في الفرق بينهما. فلا تصل النوبة للتعارض بين الإطلاقين و التماس المرجح الخارجي لأحدهما أو التساقط. و لعله لذا حكي عن أبي الصلاح الاقتصار في المبتدأة علي الرجوع لعادة نسائها من دون تعرض للتمييز.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 324

______________________________

و يشكل بأن ذيل مرسلة يونس شاهد باختصاص التحيض بالعدد بالفاقدة للتمييز، لقوله عليه السّلام بعد التعرض للسنن الثلاث و لمواردها: «فجميع حالات المستحاضة تدور علي هذه السنن الثلاث لا تكاد أبدا تخلو من واحدة منهن، إن كانت لها أيام معلومة من قليل أو كثير فهي علي أيام [أيامها] و خلقها … و إن اختلط عليها أيامها و زادت و نقصت حتي لا تقف منها علي حد، و لا من الدم علي لون عملت باقبال الدم و إدباره … فإن لم يكن الأمر كذلك و لكن الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارة و كان الدم علي لون واحد و حالة واحدة فسنتها السبع و الثلاث و العشرون، لأن قصتها كقصة حمنة حين قالت: إني أثجه ثجا» «1».

لصراحته في أن موضوع السنة الثالثة كموردها فاقدة التمييز، فلا بد من كون تطبيقها في الصدر علي المبتدأة لفرض كون المبتدأة كذلك، لغلبة ذلك فيها- كما قيل- أو لغيرها.

و هو المناسب لإهمال التنبيه في الصدر علي كون حمنة مبتدئة و الاقتصار علي بيان كونها غير ذات عادة، و لعموم تعليل الرجوع للتمييز في الناسية بأن دم الحيض أسود يعرف فيرجع إليه مع عدم العادة المخرجة عنه، مع ظهور الإرجاع للعدد فيها في كونه من قبيل الأصل في مورد فقد الدليل علي تعيين الحيض، حيث يكون مقتضي ذلك رجوع ذات التمييز إليه مطلقا، و أن التحيض بالعدد في المبتدأة و غيرها في ظرف فقده، و أن ذكر الناسية في السنة الثانية و المبتدأة في الثالثة ليس لخصوصيتهما، بل لكون الأولي ذات تمييز، و الثانية فاقدة له، فيشاركهما فيهما كل من كانت مثلهما.

و هو المناسب لما تضمنته المرسلة من انحصار سنن المستحاضة في الثلاث و عدم خروجها عن واحدة منها، إذ لو بني علي الجمود علي خصوصيتهما كانت الناسية الفاقدة للتمييز و المضطربة مطلقا خارجتين عنهما، و لم يكن وجه لتحيض الأولي و الثانية مع فقد التمييز بالعدد، مع ظهور حال صاحب الحدائق- تبعا للأصحاب- في المفروغية عنه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 325

______________________________

و منه يظهر صلوح المرسلة لأن تكون شاهدا علي تقديم إطلاق دليل التمييز علي إطلاق تحيض المبتدأة بالعدد أو اقراء النساء في الموثقات، حيث تكون قرينة علي تعارف إرادة خصوص غير ذات التمييز من المبتدأة فيها، كما قد يشعر به قوله في الثاني: «يدفع عليها الدم … » الذي لا يبعد اتحاده مع الأول و الاختلاف بينهما بسبب النقل بالمعني.

كما أن قوله في موثق سماعة: «و هي لا تعرف أيام أقرائها» لما لم يرد أيام عادتها، لفرض كونها مبتدئة، بل أيام حيضها يكون مورودا أو محكوما لاطلاقات التمييز مع قطع النظر عما تقدم.

بل قد يشعر بإمكان معرفتها لها، المستلزم حجية التمييز في حقها، لعدم المرجع لها غيره بعد فرض عدم كونها ذات عادة، كما نبه له بعض مشايخنا فيما حكي عنه. بل ادعي بلوغه مرتبة الظهور في ذلك و صلوحه لتقييد المطلقات الأخر لو تمت. لكنه لا يخلو عن إشكال أو منع.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل بعد ما ذكرنا في تقديم إطلاق الإرجاع للتمييز علي إطلاق تحيض المبتدأة بأقراء نسائها أو بالعدد. و هو المناسب لكون خصوصية تحقق التمييز في الرجوع إليه أقوي بسبب ارتكازيته من خصوصية المبتدأة في التحيض بأقراء النساء أو بالعدد.

و بالجملة: لا ينبغي التوقف في رجوع المبتدأة للتمييز، و لا سيما مع ما سبق من الأصحاب، حيث يبعد جدا خطؤهم في ذلك مع شيوع الابتلاء به. فلاحظ.

بقي في المقام أمور..
الأول: قال في مفتاح الكرامة: «و ليعلم أن جماعة من الأصحاب لم يتعرضوا للتمييز فيما أجد،

كالصدوقين و المفيد و أبي المكارم و سلار».

لكن الصدوق لم يتعرض في كتبه الثلاثة إلا لما تقدم منه في ذيل الكلام في الرجوع للعادة، و سبق أنه قد يظهر منه حكايته عن رسالة والده، و كلامه المذكور ظاهر

ص: 326

______________________________

في أن موضوعه ذات العادة، فعدم تعرضه للتمييز لا يدل علي خلافه فيه. فلاحظ.

و نحوه المفيد و سلار في المقنعة و المراسم، لأنهما لم يذكرا في مبحث الحيض إلا أن أكثره عشرة أيام فإن زاد الدم عليها كان استحاضة، و أما في مبحث الاستحاضة فقد قال في المقنعة: «و المستحاضة لا تترك الصلاة و الصوم في حال استحاضتها و تتركهما في الأيام التي كانت تعتاد الحيض قبل تغير حالها بالاستحاضة» و في المراسم: «و لا حرج علي زوجها في وطئها بعد فعل ما يجب عليها من الاحتشاء و الغسل إلا في أيام المعتادة للحيض».

و أما أبو المكارم في الغنية فقد قال- بعد أن ذكر أقل الحيض و أكثره، و أنه أصل تعمل عليه من لم تسبق بعادة-: «فإذا رأت المبتدأة الدم و انقطع لأقل من ثلاثة أيام فليس بحيض، و إن استمر ثلاثة كان حيضا، و كذا إلي تمام العشرة. فإن رأت بعد ذلك دما كان استحاضة إلي تمام العشرة الباقي [الثاني]، لأن ذلك هو أقل أيام الطهر، فإن رأت في اليوم الحادي و العشرين دما و استمر بها ثلاثة أيام فهو حيض، لمضي أقل أيام الطهر. و كذا لو انقطع الدم أول ما رأته بعد ثلاثة أيام ثم رأته اليوم الحادي عشر من وقت ما رأت الدم الأول، فإنه دم الاستحاضة، لأنها رأته في أيام الطهر، و كذا إلي تمام الثالث عشر، فإن رأت في اليوم الرابع عشر دما كان من الحيضة المستقبلة، لأنها قد استوفت أقل أيام الطهر، و هي عشرة. و علي هذا تعتبر بين الحيضتين أقل أيام الطهر … ».

و من هنا نسب إليه في محل الكلام عمل المبتدأة و المضطربة علي أصل أقل الطهر و أكثر الحيض.

لكن لا يبعد انصراف صدر كلامه إلي فرض انقطاع الدم و عوده في اليوم الحادي و العشرين، نظير ما في ذيله من فرض انقطاعه علي الثلاثة و عوده في اليوم الرابع عشر أو قبله، فهو خارج عن محل الكلام من فرض الاستمرار، و إلا كان المناسب له الحكم بالتحيض في اليوم الحادي و العشرين ابتداء و لم يحتج لفرض رؤية الدم فيه.

ص: 327

______________________________

نعم، قد يناسب ذلك ما في إشارة السبق، حيث قال: «فتعتبر المرأة بين حيضتيها أقل أيام طهرها إن كان خروج الدم مستمرا بها، و تعمل علي أن ما تراه منه فيها ليس حيضا».

لكنه لا يناسب قوله في تعريف الحيض: «و هو ما يحدث بالنساء من خروج الدم ابتداء إلي حيث يتميز لهن بصفته المخصوصة أو بعادة مألوفة» مع قوله بعد الكلام المتقدم: «و متي تميز لها عملت علي التمييز إلي أن تستمر [تستقر. ظ] عادتها به فتعمل عليها، و متي تعذر عملت علي المروي … » لوضوح أن الرجوع للتمييز ثم للروايات لا يناسب العمل بأصل أقل الطهر.

الثاني: ذكر في المبسوط أن المستحاضة المبتدأة ذات التمييز تتحيض بتمام الدم الواجد للصفة في كل شهر مع اختلاف الشهور في قدره،

ثم قال: «فإن رأت في شهرين متواليين مثلا ثلاثة أيام و رأت في الشهر الثالث خمسة أيام حكم في الشهرين الأولين بأن حيضها ثلاثة أيام، لأن عادتها قد استقرت بالشهرين، غير أنها في الشهر الأول و الثاني لا تصلي و لا تصوم إلا بعد أن يمضي عليها عشرة أيام أقصي مدة الحيض علي أي صفة كان، فإذا ثبت في الشهر الثالث أن ما زاد في الشهر الأول و الثاني علي الأيام التي رأت فيها دم الحيض كان استحاضة قضت الصوم و الصلاة، و أما في الشهر الثالث الذي استقرت فيه عادتها فإنها تغتسل إذا مضت عليها الأيام التي رأت فيها دم الحيض في الشهر الأول و الثاني و تصوم و تصلي».

و قد سبق الكلام فيما ذكره من انعقاد العادة بالتمييز و ترجيحها علي التمييز عند التعارض.

و إنما الإشكال فيما ذكره من عدم اقتصارها في التحيض علي الدم الواجد للصفة قبل انعقاد العادة، بل تنتظر العشرة، و من أنه لو انعقدت العادة انكشفت حيضية خصوص مقدارها في الشهرين اللذين انعقدت بهما و وجب قضاء ما تركته فيما زاد عليه إلي العشرة. لأن الأول مخالف لفرض حجية التمييز، التي لولاها لم تنعقد العادة به.

ص: 328

______________________________

و الالتزام باختصاص حجيته بحيثية انعقاد العادة دون سائر أحكام ارتفاع الحيض. كما تري لا يناسب نصوصه جدا. و قد تقدم نظيره في الاستدلال علي انعقاد العادة بالتمييز بمرسلة يونس. فراجع.

و أما الثاني فيشكل بأن ظاهر أدلة حجية العادة الرجوع إليها في خصوص الأشهر اللاحقة لانعقادها، دون ما قبله من الشهرين اللذين تنعقد بهما أو غيرهما.

فإذا فرض عدم نهوض التمييز في الشهرين المذكورين بالحجية علي انتهاء الحيض بالثلاثة و لزوم التحيض للعشرة لقاعدة الإمكان أو نحوها لم تنهض العادة المنعقدة بهما بالحجية علي ذلك، ليجب قضاء الصلاة المتروكة فيما زاد علي الثلاثة.

الثالث: سبق أن رجوع مستمرة الدم إلي العادة الوقتية و العددية لا يشمل الدور الأول،

بل هي فيه تتحيض بأول الدم و إن لم يصادف العادة ثم تستظهر.

و أما رجوعها للتمييز فمقتضي إطلاقهم رجوع من تجاوز دمها العشرة له عدم الفرق فيه بين الدور الأول و غيره، بل هو صريح جملة منهم، كما يظهر بملاحظة كثير من الفروع المذكورة في المبسوط و المعتبر و التذكرة و المنتهي و غيرها.

و لا يخفي قصور موثق إسحاق بن جرير عنه لاختصاصه بمن يستمر دمها شهرا أو أكثر. و كذا مرسلة يونس الطويلة، لظهور كثير من فقراتها، بل صريح بعضها في أن السنن التي تضمنتها قد سنت للمستحاضة و مقتضي قاعدة الإمكان حيضية الدم في أول ظهوره، و أن المرأة لا تكون مستحاضة إلا بعد مضي العشرة الأولي، كما لا يمكن حيضها إلا بعد مضي العشرة الثانية التي بها يمضي أقل الطهر بين الحيضتين، كما سبق نظيره في الرجوع للعادة.

مضافا إلي صراحتها في أن مورد الإرجاع للتمييز- الذي هو السنة الثانية- من اختلطت عليها أيامها بسبب طول الدم، و أنها استحيضت سبع سنين، فتقصر عن الدور الأول.

و التعدي بها عن المورد المذكور لمن استمر بها الدم دون ذلك، بل لغير من

ص: 329

______________________________

اختلطت أيامها، و هي المضطربة و المبتدأة، للقرائن المتقدمة و غيرها، لا يستلزم إلغاء خصوصية طول المدة مطلقا بنحو يشمل الدور الأول، لقرب خصوصية الدور الأول بارتكازية الرجوع فيه لقاعدة الإمكان، بخلاف ما إذا استمر بعد ذلك، لأن مقتضي قاعدة الإمكان التحيض بمضي أقل الطهر، و لما كان خارجا عن المتعارف أهمل الشارع كالعرف القاعدة المذكورة، و أرجع للتمييز و غيره مما يناسب الوضع الطبيعي.

فلم يبق في المقام إلا إطلاق صحيح حفص «1» فيمن يستمر بها الدم الشاملة للدور الأول. و به ينحصر الوجه فيما سبق من الأصحاب.

اللهم إلا أن يقال: قول الراوي في صحيح حفص: «فسألته عن المرأة يستمر بها الدم فلا تدري [أ] حيض هو أو غيره» و إن كان ظاهرا في التحير في معرفة الحيض بسبب الاستمرار، الذي قد يشمل الدور الأول، إلا أن قوله عليه السّلام في الجواب: «فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة» ظاهر في أن تمييز الحيض بالصفات لترتيب أحكامه حين وجوده، و هو لا يشمل الدور الأول الذي يتحيض فيه برؤية الدم أو بعد مضي ثلاثة أيام لقاعدة الإمكان و لو مع فقد الصفات، و لو فرض عموم حجية التمييز له كان كاشفا عن حال العمل حينه من دون أن يستند العمل إليه.

و من هنا لا يبعد صلوح الجواب للقرينية علي انصراف السؤال للاستمرار الموجب للتحير في العمل الذي يكون بعد التحيض بعشرة في أول الدم- بمقتضي قاعدة الإمكان- و بعد مضي أقل الطهر منه، حيث لا يكون الرجوع لقاعدة الإمكان ارتكازيا و يحتاج للسؤال عن طريق معرفة الحيض.

بل لعل ذلك هو المنصرف أو المتيقن من السؤال في نفسه مع قطع النظر عن الجواب، إذ بعد أن لم يكن المراد به مطلق الاستمرار، بل خصوص ما يوجب التحير في حال الدم منه فارتكازية الرجوع لقاعدة الإمكان في الدور الأول تمنع من إحراز عمومه له. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 330

______________________________

و دعوي: أن قصور الأدلة عن الدور الأول لفظا لا يمنع من فهم عموم حجية التمييز له، لعدم الفرق في كاشفية الصفات عرفا بعد ظهور الأدلة تبعا للمرتكزات في كونها من خواص صفة دم الحيض الطبيعية.

مدفوعة بأن الصفات المذكورة لما لم تكن لازمة للحيض و لا مختصة به، بل كانت غالبية له لم تكن حجيتها عرفية، بل تعبدية، و لذا احتيج للسؤال عن كيفية معرفته، فلا مجال للتعدي عن مورد أدلتها، و قد تقدم توضيح ذلك عند الكلام في عموم حجية الصفات لغير مستمرة الدم في بحث قاعدة الإمكان.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 4، ص: 331

علي أنه لو فرض تحصيل الإطلاق من الأدلة بنحو يشمل الدور الأول كفي في الخروج عنه موثق سماعة: «سألته عن الجارية البكر أول ما تحيض فتقعد في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة أيام يختلف عليها لا يكون طمثها في الشهر عدة أيام سواء.

قال: فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت تري الدم، ما لم يجز العشرة، فإذا اتفق الشهران عدة أيام سواء فتلك أيامها» «1»، لظهوره في أن تجاوز الدم عن العشرة إنما يمنع من البناء علي حيضية الزائد، لا التوقف في حيضية العشرة و لزوم الرجوع للتمييز الذي قد يقتضي حيضية ما بعدها دونها.

و مثله في ذلك قوله عليه السّلام في مرسلة يونس القصيرة: «فإذا حاضت المرأة، و كان حيضها خمسة أيام ثم انقطع الدم اغتسلت وصلت، فإن رأت بعد ذلك الدم و لم يتم لها من يوم طهرت «2» عشرة أيام فذلك من الحيض تدع الصلاة، فإن رأت الدم من أول ما رأته [رأت. في] الثاني الذي رأته تمام العشرة و دام عليها عدت من أول ما رأت الدم الأول و الثاني عشرة أيام ثم هي مستحاضة تعمل ما تعمله المستحاضة» «3».

مؤيدا بما في صحيحي يونس بن يعقوب و أبي بصير «4» فيمن تري الدم ثلاثة

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) تقدم في ذيل الكلام في أقل الحيض الكلام في هذه الفقرة و أنه حكي عن بعض: (من يوم طمثت) فراجع.

(3) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 2، 3.

ص: 331

______________________________

أيام أو أربعة أو خمسة و الطهر كذلك أو ستة أيام و يتكرر ذلك منها من عدم جريان حكم المستحاضة عليها إلا بعد مضي شهر، فإن عدم الإرجاع في ذلك لوظيفة المستحاضة- من العمل علي العادة أو التمييز أو العدد- إلا بعد الشهر مع التحيض بجميع الدم في الشهر الأول- مع كونه احتياطا مخالفا للقواعد- يناسب عدم إرجاع مستمرة الدم إليها في الدور الأول مع اقتضاء قاعدة الإمكان التحيض فيه بالأولوية العرفية.

و مجرد عدم العمل بهما في التحيض بتمام الدم لما سبق في الدم المتقطع لا يمنع كونهما مؤيدين فيما نحن فيه.

و دعوي: أن بين إطلاق هذه الأدلة و إطلاقات التمييز عموما من وجه لشمول هذا الإطلاق لفاقدة التمييز و شمول إطلاقات التمييز لما عدا الدور الأول.

مدفوعة بأن حمل إطلاقات التمييز علي ما عدا الدور الأول الذي يقرب الاستغناء بقاعدة الإمكان و الاستصحاب عن التمييز فيه أقرب عرفا من تنزيل هذه الإطلاقات علي فاقدة التمييز.

و لا سيما مع أنه يشارك إطلاقات التمييز في النسبة المذكورة إطلاقات المرتبتين الأخيرتين. و هما الرجوع لأقراء الأقارب و التحيض بالعدد. و حيث كانت إطلاقات المراتب الثلاث من سنخ واحد واردة لتمييز الحيض عن الاستحاضة عند اختلاطهما كان الظاهر تقديم إطلاق هذه الأدلة عليها جميعا، لأن تقديمه علي بعضها دون بعض بلا مرجح و تقديمها جميعا عليه مستلزم لعدم بقاء مورد له.

علي أنه لو فرض التوقف في تقديم أحد الإطلاقين علي الآخر لزم البقاء علي مقتضي قاعدة الإمكان و الاستصحاب، و عدم الخروج عنهما بالتجاوز عن العشرة، لسقوط ما يلزم بالخروج عنهما من إطلاق التمييز و غيره بالمعارضة.

هذا و بمراجعة ما تقدم في الرجوع للعادة يتضح أنه لا مجال للخروج عما اقتضته الأدلة المتقدمة بظهور إعراض المشهور عنه. و لا سيما مع ظهور ما ذكرنا ممن ذكر أنه مع زيادة الدم علي العشرة يتعين الزائد لأن يكون استحاضة، كما في المقنعة و الاقتصاد

ص: 332

______________________________

و الغنية- فيما تقدم منه في التنبيه الأول- و المراسم، لظهور كلماتهم بل صريح بعضها تعين اليوم الحادي عشر و ما بعده لأن يكون استحاضة، و هو لا يلائم الرجوع للتمييز مع الزيادة علي العشرة، لأنه قد يقتضي حيضية المتأخر، أو بعض العشرة لإتمامها، كما صرح بذلك أيضا الصدوق فيما تقدم من كلامه في الرجوع للعادة، و هو و إن كان ظاهرا في ذات العادة، إلا أن البناء علي حيضية العشرة فيها يقتضي ذلك في غيرها بالأولوية العرفية.

كما صرح بذلك في الوسيلة أيضا، حيث ذكر أنه مع استمرار الدم ثلاثة عشر يوما تتعين العشرة للحيضية و الثلاثة الأخيرة لأن تكون استحاضة، و أن الاشتباه الذي يرجع معه للتمييز و غيره إنما يكون فيما لو زاد علي ذلك لمضي أقل الحيض و أقل الطهر، و إن عرفت أن مقتضي قاعدة الإمكان لما كان هو حيضية تمام العشرة تعينت العشرة الثانية لأن تكون استحاضة، و يبدأ الاشتباه بالثالثة.

بل تعين ما زاد علي العشرة لأن يكون استحاضة منتشر في كلماتهم، حتي من بعض من سبق منهم الجري علي المشهور فقد تكرر في كلماتهم أن الاستبراء إنما يحتاج إليه إذا كان الانقطاع في أثناء العشرة فلو كان بعد مضيها فلا حاجة له، لمضي الحيض، إلي غير ذلك مما يظهر منه اضطراب كلماتهم. فلا مجال للخروج بها عما اقتضته الأدلة. و يأتي في التنبيه الرابع من تنبيهات مبحث الرجوع لأقراء الأقارب ما ينفع في المقام. فلاحظ.

الرابع: ذكر غير واحد أن المعيار في التمييز علي اختلاف حال الدم من الشديد إلي الضعيف بما لهما من واقع إضافي

من دون أن يختص الحيض أو الاستحاضة بصفة خاصة من لون أو غيره، قال في المعتبر: «إذا رأت الأسود و الأحمر فتجاوز فالأسود حيض و الأحمر طهر و لو رأت الأحمر و الأصفر فالأحمر حيض و الأصفر طهر».

و نحوه في التذكرة و قريب منه في المنتهي.

بل عن نهاية الأحكام: «تعتبر القوة و الضعف بإحدي صفات ثلاث:

اللون، فالأسود قوي بالنسبة إلي الأحمر، و الأحمر قوي بالنسبة إلي الأشقر، و الأشقر

ص: 333

______________________________

قوي بالنسبة إلي الأصفر و الأكدر. و الرائحة، فذو الرائحة الكريهة أقوي مما لا رائحة له. و الثخن، فالثخين أقوي من الرقيق». و عنه أيضا أن المتصف بواحدة أضعف من المتصف باثنتين، كما أنه أضعف من ذي الثلاث.

و قريب منه في جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك و المدارك و محكي الموجز و شرحه. و زاد في جامع المقاصد و الروضة و المسالك و الروض أن الأصفر أقوي من الأكدر، و في الأخيرين أن ما تقوي رائحته أقوي مما تضعف رائحته.

و ذلك يجري في مراتب الألوان و الثخن، كما لو كان أحدهما أشد سوادا من الآخر أو أشد ثخنا منه، علي ما نبه له في الجملة غير واحد.

و كأن الوجه في ذلك التعبير بالإقبال و الإدبار في مرسلة يونس الطويلة، و هما من الأمور الإضافية التي لا تختص بصفة خاصة.

و لعله لذا عمموا التمييز للرائحة و الثخانة، مع عدم حجية النص الذي تضمنهما، لعدم ذكر الأولي إلا في مرسلة الدعائم، و الثانية إلا فيها و في الرضوي، كما سبق في المسألة الخامسة.

لكن لازمه التعميم للحرارة و الدفع، و لا سيما مع اشتمال النصوص المعتبرة عليهما علي ما سبق هناك. فراجع.

و كيف كان، فيشكل الاستدلال المذكور بأن المرسلة كما اشتملت علي الإقبال و الإدبار في بعض فقراتها من دون إضافة أضافت في بعض فقراتها إليهما تغير لون الدم من السواد إلي غيره، قال عليه السّلام: «فلهذا احتاجت إلي أن تعرف إقبال الدم من إدباره و تغير لونه من السواد إلي غيره»، فكما يمكن بدوا إبقاء الإقبال و الإدبار علي إطلاقهما، مع تنزيل ذكر السواد علي أنه أحد أفراد الإقبال، كذلك يمكن العكس بالمحافظة علي خصوصية السواد و تنزيل إطلاق الإقبال و الإدبار علي ما يساوقه.

بل لعل الثاني أولي، لقرب كون العطف تفسيريا، بل هو المتعين بلحاظ قوله عليه السّلام بعد ذلك: «و ذلك أن دم الحيض أسود يعرف» المسوق لتعليل ما قبله،

ص: 334

______________________________

و قوله عليه السّلام: «و كذلك أفتي أبي … فقال: إذا رأيت الدم البحراني فدعي الصلاة …

و قوله: البحراني، شبه معني قول النبي صلّي اللّه عليه و آله: إن دم الحيض أسود يعرف. و إنما سماه أبي بحرانيا لكثرته و لونه»، فإن عدول الباقر عليه السّلام عن الإقبال و الإدبار إلي التخصيص بالبحراني دليل علي أنه المراد بهما و المعيار في التمييز.

علي أن الدليل علي التمييز لا يختص بالمرسلة، بل منه صحيح حفص و موثق إسحاق الظاهران في خصوصية ما اشتملا عليه من الصفات و الآبيان عن التنزيل علي مطلق الاختلاف بالشدة و الضعف، حيث يتعين لأجلهما تنزيل الإقبال و الإدبار علي ما يساوق الصفات الخاصة.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن ظاهر التعبير في المرسلة بأن دم الحيض أسود يعرف، و في الموثق بأنه ليس به خفاء، هو الإيكال في معرفته لوضوحه، و حيث كان المدار في وضوحه عرفا علي مطلق القوة و الضعف لا خصوص الصفات المنصوصة، كان ظاهر ذلك أن العبرة في التمييز بمطلق الأمارات المختصة بالحيض غالبا الكاشفة عنه عند العرف كشفا ظنيا.

فهو كما تري، لأن الحديثين لم يقتصر فيهما علي الإرجاع للوضوح، ليحمل علي الوضوح العرفي المدعي حصوله بمطلق القوة و الضعف، بل تضمنا الوضوح بالصفات الخاصة، بنحو يظهر منه انحصار طريقه بها. بل ظاهرهما انحصاره بها عرفا أيضا، كما هو غير بعيد، و قد يناسبه قول المرأة في صحيح حفص: «و اللّه أن لو كان امرأة ما زاد علي هذا».

و أضعف من ذلك ما يظهر من الرياض تبعا لمن سبقه من الاكتفاء بالظن في المقام.

لعدم الدليل علي حجيته، بل مقتضي إطلاق الإرجاع لعادة النساء أو العدد عدمها.

و من هنا يتعين الجمود علي ظاهر نصوص التمييز بالاقتصار علي الصفات المنصوصة، كما هو ظاهر من جعل المعيار علي صفة الحيض و صفة الاستحاضة- كما في المبسوط- أو علي مشابهة أحد الدميين- كما في الشرائع- أو أطلق التمييز، لانصراف العناوين المذكورة إلي ما ذكروه من الصفات الغالبية لكلا الدميين، و قد سبق في المسألة

ص: 335

______________________________

الخامسة بيان ما عليه المعول من الصفات، مع الكلام في صورة التعارض بينها.

ثم إنه لو بني علي التعميم لمطلق الاختلاف بالشدة و الضعف، فلو اختلف الدم بأكثر من مرتبتين هل تلحق المرتبة المتوسطة بما فوقها في الحيضية، أو بما دونها في الاستحاضة وجهان. ففي المعتبر و المنتهي و التذكرة أنها لو رأت ثلاثة أسود و ثلاثة أحمر و ثلاثة أصفر تتحيض بالأسود خاصة، معللا في الأولين بأن الحمرة مع السواد طهر.

و فيه: أنها كما تكون مع السواد طهرا فهي مع الصفرة حيض، فمع اجتماعها معهما معا لا وجه لتقديم جانب الطهر.

و مثله ما في التذكرة من الاستدلال بالاحتياط للعبادة و بالقوة و الأولوية.

لوضوح تعارض الاحتياطين، و اختلاف القوة بالإضافة لكل من الطرفين، و أن أولوية الأسود بالحيضية لا تقتضي تخصيصها به، كأولوية الأصفر بكونه استحاضة.

و منه يظهر ضعف ما في الرياض من الاستدلال علي ما عن محكي نهاية الأحكام و موضع من التذكرة من حيضية الأسود و الأحمر معا لأنهما أقوي من الصفرة.

نعم، قد يتجه استدلاله له بقاعدة الإمكان، لتعارض مقتضي التمييز فيه باختلاف جهة الإضافة، فتكون القاعدة مرجعا بعد فرض كون المرأة ذات تمييز، لتماميته في الأشد و الأضعف، فليس لها التحيض بالعدد. و لو غض النظر عن القاعدة كان مقتضي الاستصحاب إلحاقه بالأسبق من الأسود و الأصفر.

هذا و أما بناء علي ما ذكرناه من الاقتصار علي الصفات المخصوصة في التمييز فقد سبق في المسألة الخامسة أن المراد من السواد شدة الحمرة، و يقابلها في الاستحاضة خفة الحمرة بنحو يناسب التعبير بالصفرة، و لكل منهما مراتب، و المرجع في تحديدهما العرف، فلو توسط بين القسمين ما يتوقف العرف عن إلحاقه بكل منهما لزم البناء علي حيضيته، لقاعدة الإمكان، أو الرجوع فيه للاستصحاب. فلاحظ.

الخامس: استظهر في الدروس مشروعية الاستظهار لذات التمييز بما تستظهر به المعتادة،

ص: 336

عدم نقصه عن ثلاثة أيام (1)، و عدم زيادته علي العشرة (2) و إن لم تكن

______________________________

و مقتضاه ترتيب أحكام الحيض ظاهرا عند رجوع الدم إلي صفة الاستحاضة.

و لم أعثر عاجلا علي موافق له في ذلك.

و مقتضي ظهور نصوص التمييز في أمارية صفات الاستحاضة عليها عدمه. بل هو كالصريح من قوله عليه السّلام في مرسلة يونس: «فإذا جهلت الأيام و عددها احتاجت إلي النظر حينئذ إلي إقبال الدم و إدباره و تغير لونه، ثم تدع الصلاة علي قدر ذلك».

و قوله عليه السّلام فيها في بيان فتوي أبيه عليه السّلام: «فقال: إذا رأيت الدم البحراني فدعي الصلاة، و إذا رأيت الطهر و لو ساعة من نهار فاغتسلي وصلي» «1»، و بذلك يخرج عن إطلاق دليل الاستظهار لو تم، علي أنه غير تام كما يأتي في مبحث التحيض بالعدد إن شاء اللّه تعالي.

الكلام في شروط التمييز
اشارة

(1) و لا بد من كونها متوالية بناء علي اعتبار التوالي في أقل الحيض، كما نبه له في المعتبر و المنتهي و المدارك. و أما بناء علي عدمه فالكلام فيه يظهر مما يأتي عند الكلام في اعتبار عدم نقص ما هو بصفة الاستحاضة عن أقل الطهر إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما في المبسوط و المعتبر و الشرائع و التذكرة و المنتهي و القواعد و الدروس و اللمعة و الروضة و الروض و المدارك و غيرها، و في جامع المقاصد أنه لا خلاف فيه بين الأصحاب، و ربما استظهر دخوله في معقد إجماع المعتبر و التذكرة، و إن كان ظاهره أو المتيقن منه أصل الرجوع للتمييز.

و كيف كان، فيقتضيه ما تضمن تحديد الحيض بذلك، خلافا لما في الحدائق من عدم اعتبار ذلك، لإطلاق أدلة التمييز، خصوصا مرسلة يونس الطويلة، لقوله عليه السّلام فيها: «فهذه سنة النبي صلّي اللّه عليه و آله في التي اختلط عليها أيامها حتي لا تعرفها، و إنما تعرفها بالدم ما كان من قليل الأيام و كثيرة» «2».

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 337

______________________________

و فيه: أنه كما يمكن تنزيل إطلاق أدلة التحديد علي غير مستمرة الدم محافظة علي إطلاق نصوص التمييز يمكن العكس بتنزيل إطلاق نصوص التمييز علي الواجد للحد محافظة علي إطلاق أدلة التحديد.

و التعميم للقليل و الكثير في مرسلة يونس ليس في مقام نفي الحد للحيض، ليكون نصا في خلاف أدلة التحديد، بل في مقام نفي قدر معين له، في مقابل ذات العادة، فهي كسائر مطلقات التمييز التي ذكرنا إمكان تنزيلها علي ما يناسب إطلاق أدلة التحديد.

بل هو المتعين بلحاظ عدم ورود أدلة التمييز في مقام تحديد الحيض بالصفات ثبوتا، لتكون في عرض أدلة تحديده في طرفي القلة و الكثرة، و تنهض بمعارضتها، بل لتمييز الحيض عن غيره في مقام الإثبات في مورد اشتباهه، فتقصر عما لا يمكن حيضيته، لتفرع مقام الإثبات علي مقام الثبوت، فتكون محكومة لأدلة التحديد المتكفلة ببيان ما يمكن حيضيته، و لذا لا يتوهم عمومها لما كان في غير سن الحيض مثلا.

و أما تأييده ذلك بما في حديثي يونس بن يعقوب و أبي بصير فيمن تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة أو خمسة، ثم الطهر كذلك أو ستة أيام، ثم الدم كذلك و هكذا «1».

فهو في غير محله، لعدم فقد الدم فيهما لحد الحيض، و إنما يصلح لتأييد ما يأتي من عدم اعتبار كون دم الاستحاضة بقدر أقل الطهر، كما لا يخفي. و ربما يحمل كلامه عليه و إن كان مخالفا لظاهره.

هذا و لكن الشيخ قدّس سرّه في المبسوط مع أنه ذكر الشرط المذكور قال: «و كذلك إذا رأت أولا دم الاستحاضة خمسة أيام ثم رأت ما هو بصفة دم الحيض باقي الشهر، يحكم في أول يوم تري ما هو بصفة دم الحيض إلي تمام العشرة أيام بأنه حيض، و ما بعد ذلك استحاضة، فإن استمر علي هيئته جعلت بين الحيضة و الحيضة الثانية عشرة أيام طهرا، و ما بعد ذلك من الحيضة الثانية، ثم علي هذا التقدير. فإن رأت أقل من ثلاثة أيام

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 3، 2.

ص: 338

______________________________

دم الحيض و رأت فيما بعد دم الاستحاضة إلي آخر الشهر كانت هذه لا تمييز لها»، و هو صريح في حيضية مقدار أكثر الحيض من الواجد للصفة مع زيادته علي العشرة، و في كشف اللثام أنه غير بعيد، و في الرياض لعله الأقرب، مستدلين عليه بعموم أدلة التمييز.

و كأنه بتقريب أنه حيث كان مقتضاها حيضية واجد الصفة فتعذر حيضية تمامه في المقام لعدم زيادة الحيض علي العشرة لا يقتضي إلغاء العموم فيه رأسا، بل رفع اليد عنه في الزائد عليها لا غير.

و من هنا يتجه ما في كشف اللثام و الرياض من إعمال العموم المذكور مع نقص واجد الصفة عن الثلاثة باكماله من الفاقد له- خلافا لما سبق من الشيخ قدّس سرّه في ذيل كلامه- لعدم الفرق بين دليلي أقل الحيض و أكثره، و عدم كون التصرف في عموم التمييز برفع اليد عن ظهوره في اختصاص الحيض بواجد الصفة بأبعد من التصرف فيه برفع اليد عن ظهوره في حيضية تمام الواجد.

و بعبارة أخري: إذا أمكن رفع اليد عن ظهور دليل التمييز في التطابق بين واجد الصفة و الحيض، لأدلة التحديد، مع المحافظة علي عمومه، فكما يتجه رفع اليد عن ظهوره في كون تمام الواجد حيضا يتجه رفعها عن ظهوره في كون الواجد تمام الحيض.

و دعوي: أن وجه البناء علي أن الواجد تمام الحيض لا ينحصر بظهور ما تضمن حيضية الواجد في ذلك، ليتجه التصرف فيه برفع اليد عن ذلك كما ترفع اليد عن ظهوره في كونه بتمامه حيضا، بل هو أيضا مقتضي ما تضمن كون الفاقد استحاضة، فيقع التعارض في الفرض بين عموم حيضية الواجد و عموم عدم حيضية الفاقد، لأن مقتضي الأول حيضية الواجد الناقص المستلزم لحيضية ما يتممه من الفاقد، و مقتضي الثاني عدم حيضية تمام الفاقد المستلزم لعدم حيضية الواجد، و ليس الأول أولي بالتقديم من الثاني.

مدفوعة بأن عموم عدم حيضية الفاقد ليس حجة في المقدار المكمل للواجد علي كل حال، إما لتخصيصه فيه- كما هو المدعي- أو لخروج المورد عن أدلة التمييز

ص: 339

______________________________

و دخوله في أدلة التحيض بالعدد، كما هو مدعي المشهور القائلين باختصاص التمييز بما إذا كان الواجد للصفة واجدا لحدي الحيض.

و بعبارة أخري: لا معني لحجية عموم عدم حيضية الفاقد في المقام مع استلزامه تعذر التمييز في الدم و لزوم الرجوع للعدد المستلزم لعدم حجية فقد الصفة علي الاستحاضة.

و كأن هذا مراد شيخنا الأعظم قدّس سرّه مما ذكره في دفع الدعوي المذكورة، و قد تعرض له سيدنا المصنف قدّس سرّه و دفعه كما تعرض لوجه آخر ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في دفع هذه الدعوي، و دفعه أيضا، و لا يسع المقام الزيادة علي ما ذكرنا. فراجع و تأمل.

و علي هذا لا يكون بلوغ الواجد لأقل الحيض و عدم تجاوزه لأكثره شرطا في الرجوع للصفات، كما هو المنساق من كلام من سبق و المصرح به ممن يأتي، بل هو شرط لمطابقة الحيض لواجد الصفة بنحو لا يزيد عليه و لا ينقص عنه، و لذا جعله في كشف اللثام معقد الاتفاق علي شرطيته.

و كيف كان، فيشكل الاستدلال المذكور بأن الأدلة حيث تضمنت الإرجاع للصفات في مستمرة الدم التي اختلط حيضها باستحاضتها فهي كالصريحة في دوران تمييز الحيض عن الاستحاضة مدار الصفات و أنه باختلافها يتحقق التمييز بينهما، و التصرف فيها بأحد الوجهين المذكورين مخرج للصفات عن مقام التمييز، و الأدلة آبية عنه جدا، فإخراج صورتي زيادة واجد الصفة علي أكثر الحيض و نقصه عن أقله محافظة علي ظهورها في التمييز أقرب عرفا من إخراجها عن مقام التمييز محافظة علي عمومها للصورتين المذكورتين، بل هو المتعين بأدني تأمل فيها.

و من الغريب ما سبق من الشيخ من البناء مع استمرار واجد الصفة علي تعاقب الحيض و الطهر عشرة عشرة الذي هو وظيفة رابعة غير الوظائف التي تضمنتها النصوص في مستمرة الدم.

ص: 340

______________________________

و كيف يمكن فهم ذلك من أدلة التمييز مع التصريح في المرسلة بأنه مع اتحاد لون الدم يكون التحيض بالعدد الخاص في كل شهر مرة، حيث يبعد جدا قصره علي ما إذا لم يكن شي ء من الدم بصفة الاستحاضة و لو قليلا، إذ أي أثر للدم القليل في التمييز بالصفات؟ بل الظاهر أن المعيار فيه عدم اختلاف صفة الدم اختلافا صالحا للتمييز، كما هو مقتضي إطلاق بقية نصوص التحيض بالعدد.

نعم، لو لم يرد التعبد بأن واجد الصفة حيض و فاقدها استحاضة في مقام تمييز أحدهما عن الآخر عند اختلاطهما، بل في مجرد بيان الوظيفة العملية عند الشك في حال الدم اتجه ما ذكره قدّس سرّه لأن امتناع العمل به في تمام الدم في المقام لتجاوزه لحد الحيض لا يقتضي رفع اليد عنه رأسا، بل الاقتصار في الخروج عنه علي المتيقن، و هو ما زاد علي أكثر الحيض بمقدار أقل الطهر، و يتعين أول الدم للحيضية بقاعدة الإمكان، بناء علي ما سبق في الدم المتقطع.

كما أنه لو كان بلسان أمارية كل من صفتي الحيض و الاستحاضة عليهما كان المورد من تعارض الحجتين، لمعارضة حجية صفة الحيض علي حيضية أول الدم لحجيتها علي حيضية آخره، بناء علي ما سبق في الدم المتقطع من عدم ورود الأولي علي الثانية، خلافا لما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه في المقام و بعض مشايخنا دامت بركاته في ذلك المقام. و بعد تساقطهما يكون المرجع قاعدة الإمكان المقتضية لما ذكره قدّس سرّه أيضا.

كل ذلك مع غض النظر عما أشرنا إليه من أن مقتضي نصوص التحيض بالعدد في مستمرة الدم أن المدار فيه علي عدم صلوح اختلاف صفة الدم لتمييز الحيض من الاستحاضة، المستلزم لإهمال قاعدة الإمكان و عموم حيضية واجد الصفة لو تم.

و منه يظهر الحال في فرض نقص واجد الصفة عن أقل الحيض، فإنه لو فرض تمحض الأدلة في التحيض بواجد الصفة و عدم التحيض بفاقدها، من دون نظر فيها للتمييز بذلك في مقام الاختلاط في مستمرة الدم، تعارض فيه العمومان، حيث يكون مقتضي الأول حيضية الواجد المستلزمة لحيضية ما يتممه، و مقتضي الثاني عدم حيضية

ص: 341

______________________________

الفاقد بتمامه المستلزم لعدم حيضية الواجد أيضا، فيتساقطان.

و دعوي: أن عدم حيضية الفاقد ليس لكون الفقد مقتضيا للبناء علي عدم الحيضية و الاستحاضة، بل لعدم المقتضي للحيضية، و هو صفة الحيض، و حينئذ يتعين في المقام الرجوع لعموم حيضية الواجد، لأنه يرجع إلي تحقق مقتضي البناء علي الحيضية فيه و في الفاقد بتبعه، من دون أن يعارضه عموم عدم حيضية الفاقد، لأن اللامقتضي لا ينهض بمزاحمة المقتضي.

مدفوعة بأن ظاهر الأدلة كون فقد صفة الحيض مقتضيا للبناء علي عدمه و علي الاستحاضة، كما يكون وجودها مقتضيا للبناء علي الحيضية، لسوق صفة كل من الحيض و الاستحاضة بالإضافة إلي ما يناسبهما في مساق واحد في ظاهر الأدلة، فيتعين التزاحم بين المقتضيين و التعارض بين العمومين في الفرض، و حيث لا مرجح يتعين تساقطهما.

نعم، بعد تساقطهما يكون مقتضي قاعدة الإمكان حيضية الواجد مع تكميله من الفاقد، لو لا ما ذكرناه من ظهور نصوص التحيض بالعدد في إهمال قاعدة الإمكان في مستمرة الدم مع تعذر التمييز.

و قد يظهر من جميع ما تقدم أن المتعين في فرض زيادة واجد الصفة علي أكثر الحيض أو نقصه عن أقله عدم كون المرأة ذات تمييز- إما لقصور أدلة الصفات عنه ابتداء، أو لتعارضه فيه بنحو تنتج وظيفة لا تناسب مفاد نصوص مستمرة الدم- كما صرح به في المعتبر و التذكرة و المنتهي و محكي التحرير، و هو المنساق من كل من أطلق اعتبار واجدية الدم الواجد للصفة لحدي دم الحيض، كما سبق.

بقي الكلام فيما صرح به جماعة من أنه يعتبر في التمييز زائدا علي ذلك أن لا ينقص الفاقد لصفة الحيض و المتصف بصفة الاستحاضة عن أقل الطهر.

و الكلام في هذا الشرط..

تارة: في اعتباره في جواز التحيض بكل من الدميين الواجدين لصفة الحيض المكتنفين له، أو عدم اعتباره فيه، فيجوز التحيض بهما معا مع الاقتصار في الطهر علي

ص: 342

______________________________

الفاقد و إن كان دون العشرة.

و اخري: في أنه بعد الفراغ عن اعتباره في المقام السابق فهل يعتبر في حجية التمييز حتي بالإضافة إلي أحد الدميين الواجدين لصفة الحيض، فلا تكون المرأة ذات تمييز مع نقص الفاقد عن العشرة، أو لا يعتبر، بل مع نقصه تتحيض بأحد الدميين الواجدين لصفة الحيض، و تلحق الآخر بالفاقد في عدم كونه حيضا.

أما اعتباره في المقام الأول فهو المتيقن ممن تعرض له، كما في جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و المدارك و كشف اللثام و محكي نهاية الأحكام و الموجز و شرحه و غيرها، و عليه جري في المبسوط، بل ظاهر المعتبر و التذكرة و المنتهي المفروغية عنه، و في كشف اللثام أنه لا خلاف فيه. و يقتضيه ما تضمن أن أقل الطهر عشرة أيام.

لكن ظاهر المحكي عن الذكري التردد أو الميل لعدم اعتبار ذلك، كما أصر عليه في الحدائق، مستدلا عليه بإطلاق نصوص التمييز، و خصوص صحيحي يونس بن يعقوب و أبي بصير «1» فيمن تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة أو خمسة و الطهر كذلك أو ستة أيام، و يتكرر ذلك منها من أنها تتحيض كلما رأت الدم و تصلي كلما رأت الطهر ما بينها و بين شهر، و في الأول: «فإن انقطع عنها الدم و إلا فهي بمنزلة المستحاضة»، و في الثاني: «فإذا تمت ثلاثون يوما فرأت دما صبيبا اغتسلت و استثفرت … ».

و استظهر من الاستبصار الميل إليه، حيث احتمل حمل الصحيحين علي من استمر بها الدم مع اختلاف بين صفتي الحيض و الاستحاضة علي التعاقب بقدر الأيام المذكورة بأن يراد من الطهر رؤية الدم بصفة الاستحاضة، بل قرّبه بأن قوله عليه السّلام: «ثم تعمل ما تعمله المستحاضة» دليل علي فرض كونها مستمرة الدم.

كما تعرض لكلام من يظهر منه الجري علي مضمون الخبرين ممن تقدم منا التعرض له في لواحق الكلام في الدم المتقطع، مستظهرا موافقتهم له في الجملة، ثم قال: «و إلي ما ذكرنا أيضا يميل كلام الذخيرة».

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 2، 3.

ص: 343

______________________________

بل قد يستفاد ما ذكره ممن تعرض للشرطين السابقين دون هذا الشرط، كما في الشرائع و القواعد و الدروس، إذ لو كانوا في مقام الاتكال علي ما يذكر في شروط الحيض لكان المناسب إهمالهم الشرطين أيضا.

و فيه: أنه لا مجال للخروج بإطلاقات التمييز عن إطلاق ما تضمن أن أقل الطهر عشرة أيام، لعين ما تقدم في الشرطين السابقين.

و أما الصحيحان فموردهما تقطع الدم لا استمراره كما هو ظاهر الطهر و لا سيما مع مقابلته بالدم لا بالحيض. و مجرد الحكم علي المرأة بأنها تعمل عمل المستحاضة أعم من كونها مستحاضة، بل قوله عليه السّلام: «و إلا فهي بمنزلة المستحاضة» كالصريح في عدم كونها مستحاضة علي الحقيقة. بل المستحاضة قد تطلق علي ذات الدم الخاص و إن لم يكن مستمرا، علي ما تقدم في أواخر الاستدلال علي وجوب الاستظهار.

كما أنه تقدم في لواحق الكلام في الدم المتقطع عدم إمكان العمل بالصحيحين في موردهما، فكيف يتعدي بهما عنه لصورة استمرار الدم. علي أنهما صريحان في اختصاص الوظيفة المذكورة فيهما بالشهر و الرجوع بعده إلي حكم المستحاضة التي ذكرنا أن مقتضي القاعدة البناء علي الشرط المذكور فيها، و لا ينهضان بإثبات جواز كون الفاقد دون عشرة أيام فيها مطلقا و لو بعد الشهر، كما هو المدعي. و من هنا كان المتعين البناء علي الشرط المذكور.

هذا كله في الفاقد المتخلل بين الدميين الواجدين اللذين يمتنع كونهما من حيضة واحدة، أما المتخلل لما يمكن كونه بتمامه من حيضة واحدة، لكونه في ضمن العشرة، إما لرؤيته بعد مضي ثلاثة أيام للواجد، أو لرؤيته قبل ذلك، بناء علي عدم اعتبار التوالي في ثلاثة الحيض، فلا ينبغي التأمل في عدم إخلاله بالتمييز، بناء علي أن النقاء المتخلل بين الدميين من حيضة واحدة بحكم الطهر، فيبني علي أن الواجد حيض و الفاقد استحاضة.

و أما بناء علي أنه بحكم الحيض فظاهر الفاضلين في المعتبر و المنتهي و السيد في

ص: 344

______________________________

المدارك الرجوع للتمييز أيضا، لأنهم ذكروا أنه إنما يجب كون الواجد ثلاثة أيام متوالية بناء علي اعتبار التوالي في ثلاثة الحيض، إذ مقتضاه أنه بناء علي عدم اعتبار التوالي في ثلاثة الحيض يتحيض بالدم الواجد للصفة في الثلاثة المتفرقة المستلزم عندهم للتحيض فيما بينها حال خروج الفاقد.

و نحوه ما في الروض من أن المعيار في التوالي في المقام هو المعيار في التوالي في أقل الحيض، فإن اكتفي فيه بوجوده في كل يوم من الثلاثة المتوالية لحظة كفي وجود الواجد فيها كذلك، لأن لازمه أيضا التحيض في تمام الثلاثة أيضا حتي حال خروج الفاقد المتخلل.

و هو الذي قواه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في آخر كلامه و إن لم يشر إلي وجهه، بل أصر في أوله علي ضعفه، كما أنه استقر به في الجواهر أولا، لإطلاق أدلة التمييز المقتضي لحيضية الدميين الواجدين المستلزمة لحيضية الفاقد المتخلل، لأن الطهر لا يقل عن عشرة.

و لا مجال لدعوي العكس بتقريب أن مقتضي عموم كون الفاقد استحاضة عدم حيضية المتخلل المستلزم لعدم حيضية الطرفين معا.

لاندفاعها بأن احتمال الحيضية مقدم علي غيره، كما يوضحه البناء علي حيضية النقاء المتخلل الذي يكون الدم الفاقد المتخلل في المقام أولي بالحيضية منه.

لكنه استشكل فيه بعد ذلك بإمكان الفرق بين النقاء و الدم الفاقد بالإجماع علي حيضية الأول، و حيث لا إجماع في المقام و كان مقتضي التمييز متصادما في الدم الواجد و الفاقد من دون مرجح تعين قصوره و كون المرأة فاقدة للتمييز. و هو الذي أصر عليه سيدنا المصنف قدّس سرّه.

هذا و لا يخفي أن دليل حيضية النقاء المتخلل ليس هو الإجماع عليه بخصوصه، بل ما يعم المقام من عموم أقل الطهر عشرة أيام أو غيره، و لذا لو قطع بحيضية الدميين الواجدين فلا إشكال عندهم في حيضية الفاقد.

ص: 345

______________________________

و لو لا ذلك لزم البناء علي مقتضي التمييز بتمامه من حيضية الواجدين دون الفاقد المتخلل من دون تصادم بينهما- كما ذكرناه- و هو خلاف مبني الكلام في المقام.

فالعمدة في الفرق بين النقاء و المقام أن حيضية الدميين معا مع تخلل النقاء مفروض الثبوت بأدلته، فيثبت لازمه، و هو حيضية النقاء، أما حيضية الدميين الواجدين معا في المقام فلا طريق لإثباتها إلا نصوص التمييز المقتضية أيضا لكون الدم الفاقد استحاضة، و مع امتناع الجمع بين الأمرين يكون ترجيح الحيضية بلا مرجح.

و كون الفاقد أولي بالحيضية من النقاء- لو تم- إنما ينفع مع ثبوت الدميين المكتنفين معا، و لو ثبت فلا كلام عندهم في حيضية المتخلل من حالة النقاء و حالة خروج الدم الفاقد، و إنما وقع الكلام في حالة خروج الدم الفاقد لعدم ثبوت حيضية الدميين.

هذا و قد يوجه البناء علي الحيضية في المقام بما أشرنا إليه آنفا من دعوي: أن عدم حيضية الفاقد ليس لكون الفقد مقتضيا له، بل لعدم المقتضي للبناء علي حيضيته، فلا يصلح في المقام لمزاحمة مقتضي البناء علي حيضيته، و هو تخلله للواجد الذي ثبت مقتضي حيضيته.

لكن سبق منع الدعوي المذكورة و أن ظاهر أدلة الصفات كون فقد صفة الحيض مقتضيا للبناء علي عدم حيضيته، كما تكون واجديتها مقتضية للبناء علي الحيضية.

فالأولي في تقريب ذلك أن يقال: إن خروج دم الاستحاضة إنما يقتضي عدم حيضية المرأة و عدم جريان أحكام الحيض من حيثيته، لا مطلقا، و لذا لو فرض العلم بخروج دم الحيض معه فلا إشكال في حيضية المرأة و جريان أحكام الحائض عليها، و حينئذ فاقتضاء نصوص التمييز حيضية الدميين الواجدين و عدم حيضية الفاقد و أنه استحاضة، راجع إلي كون المرأة حائضا حال خروج الدميين الواجدين مستحاضة حال خروج الفاقد و ليست حائضا من حيثيته، و لا مانع من البناء علي ذلك من دون أن ينافي البناء علي حيضية النقاء المتخلل، لأنه لا يقتضي حيضية المرأة حال خروج

ص: 346

______________________________

الفاقد من حيثيته، بل من حيثية اكتناف دميي الحيض، كما لو علم بخروج دم الحيض مع الفاقد.

علي أنه سبق عند الكلام في حيضية النقاء المتخلل أنه لا مجال للبناء علي حيضيته حقيقة، لما هو المعلوم من تقوم مفهوم الحيض عرفا بخروج الدم و عدم تصرف الشارع في مفهومه، بل غاية ما يدعي أنه حيض تنزيلا، لأنه بحكم الحيض.

و حينئذ يتجه تحكيم نصوص التمييز في المقام بحملها علي أن كلا من صفة الحيض و الاستحاضة أمارة علي ما يناسبها من نوع الدم، فيحكم بحيضية الواجدين، و كون المتخلل الفاقد دم استحاضة تجري عليه أحكامه لو اختص بأحكام، و هو لا ينافي ترتيب أحكام الحيض حال خروجه، كما تترتب حال النقاء، لفرض اشتراكهما في دليل التنزيل منزلة الحيض، فيحكم لأجله بأن المرأة بحكم الحائض و إن كان دمها دم استحاضة بمقتضي التمييز.

و بالجملة: لو كان مرجع حيضية النقاء المتخلل إلي حيضية الدم الفاقد في الفرض و كون المرأة حائضا من جهته كانت منافية لمفاد التمييز و موجبة لتصادم مقتضيه، و كذا لو كان مفاد التمييز كون المرأة غير حائض حال خروج الدم الفاقد و لا بحكم الحائض مطلقا و لو من غير جهته، حيث تنافي حيضية النقاء المتخلل.

أما حيث كان مقتضي حيضية النقاء المتخلل حيضية المرأة أو كونها بحكم الحائض من غير جهة خروج الدم الفاقد، و مقتضي التمييز عدم حيضيتها و عدم جريان أحكام الحائض عليها من خصوص حيثية خروج الفاقد، فلا تنافي بينهما، بل يتعين العمل بهما معا بالبناء علي حيضية الدميين الواجدين و كون المتخلل الفاقد استحاضة مع كون المرأة حال خروجه حائضا أو بحكم الحائض من حيثية اكتناف دميي الحيض، لا من حيثية نفس الدم. فلاحظ.

و أما اعتبار الشرط المذكور في المقام الثاني، بنحو تكون فاقدة للتمييز مع قصور الضعيف عن أقل الطهر، فيظهر من المبسوط إنكاره و أنها تتحيض بأحد الواجدين

ص: 347

______________________________

و تلحق الآخر بالفاقد، ليتم أقل الطهر، فقد ذكر أن من رأت ثلاثة أيام بصفة الحيض ثم ثلاثة بصفة الاستحاضة ثم عشرة بصفة الحيض كان حيضها الثاني خاصة، و أن من رأت خمسة أيام أو أقل أو أكثر بصفة الحيض ثم أقل من عشرة أيام بصفة الاستحاضة ثم انقلب إلي صفة الحيض لم تتحيض بالثاني الواجد لصفة الحيض إلا بعد مضي عشرة أيام من الأول.

و في المنتهي أنها لو رأت أحمر بين أسودين واجدين لشرائط التمييز، فإن تخلل بين الأسودين عشرة أيام كانا حيضتين، و إلا فالأول حيض و الباقي فساد.

لكن ظاهره كمحكي التحرير في الفرع الأول المتقدم من المبسوط التردد في كونها ذات تمييز، بل جزم بعدمه في المعتبر و التذكرة. و عليه جري في جامع المقاصد و كشف اللثام و المدارك و ظاهر المسالك و الروض و الروضة و محكي نهاية الأحكام و الموجز و شرحه و غيرها بنحو يظهر منهم عدم اختصاصه بالفرع المذكور و أن المعيار عموم الشرط المتقدم.

و هو المتجه بناء علي ما تقدم في الشرط الأول من ظهور أدلة الصفات في دوران التمييز بين الحيض و الاستحاضة مدارها، و أنه مع عدم التمييز بها تتحيض بأقراء النساء و العدد، حيث يتجه قصورها عن المقام.

نعم، لو غض النظر عن الجهة المذكورة و كان مفاد الأدلة مجرد التحيض بواجد الصفة و عدم التحيض بفاقدها اتجه تعارض التطبيقين في واجدي الصفة في الفرض و كان مقتضي قاعدة الإمكان التحيض بالأول، كما تقدم من المبسوط في الفرع الثاني و من المنتهي في الفرع الذي ذكره، و هو الذي ذكره في جامع المقاصد و المدارك و محكي الذكري لو بني علي التحيض بأحد الدميين.

و أما ما في المبسوط من التحيض في الفرع الأول بالثاني، فكأنه للترجيح بالأكثرية، لأنه الأقرب لقاعدة الإمكان، و للتحيض بواجد الصفة. لكنه يشكل بأن القاعدة إنما تقتضي حيضية الأكثر بعد شمولها، و هي غير شاملة له في المقام بعد ما سبق

ص: 348

______________________________

من أنها تقتضي حيضية الأسبق المستلزمة لامتناع حيضية المتأخر الأكثر في الفرض، فيخرج عن القاعدة موضوعا. و مرجحية الأكثرية في التحيض بواجد الصفة غير ثابتة.

بقي في المقام أمران..
الأول: و إذا رأت المبتدأة ما هو بصفة دم الاستحاضة ثلاثة عشر يوما ثم رأت ما هو بصفة الحيض بعد ذلك و استمر

قال في المبسوط: «و إذا رأت المبتدأة ما هو بصفة دم الاستحاضة ثلاثة عشر يوما ثم رأت ما هو بصفة الحيض بعد ذلك و استمر كان ثلاثة أيام من أول الدم حيضا و العشرة طهرا و ما رأته بعد ذلك و استمر كان من الحيضة الثانية».

و استشكل فيه في المعتبر بأنه لم يتحقق لها تمييز، ثم قال: «لكن إن قصد أنه لا تمييز لها و أنه يقتصر علي ثلاثة لأنه اليقين كان وجها» و نحوه في التذكرة.

و كأن مرادهما عدم التمييز لها في ضمن الثلاثة عشر التي هي الاستحاضة و التي حكم في المبسوط بأن الثلاثة الأولي منها حيض، و إلا فالمفروض اختلاف لون الدم بعدها.

و حينئذ يشكل ما ذكره أيضا بأنه لا وجه لليقين بحيضية الثلاثة، بل بناء علي شمول إطلاق نصوص التمييز للدور الأول تكون الثلاثة عشر كلها استحاضة، و بناء علي قصورها عنه تكون العشرة الأولي حيضا و الثانية استحاضة و لا يرجع لنصوص التمييز إلا بعد ذلك.

نعم، يتم ما ذكره الشيخ قدّس سرّه بناء علي عموم نصوص التمييز للدور الأول و أن التحيض بالواجد لأمارية صفة الحيض عليه، فيقدم علي قاعدة الإمكان، و أن عدم التحيض بما يكون بصفة الاستحاضة لعدم المقتضي للحيض لا لأمارية صفة الاستحاضة عليها، فتقدم قاعدة الإمكان عليه، حيث يتعين البناء علي حيضية الواجد في الفرض، و عدم التحيض بتمام العشرة السابقة عليه من دم الاستحاضة لامتناع حيضيتها معه، مع التحيض بالثلاثة الأول منه، لقاعدة الإمكان بعد فرض تقديمها علي عدم التحيض بما هو بصفة الاستحاضة.

لكن سبق ضعف المبني المذكور. مع أنه لا يناسب ما ذكره قدّس سرّه أيضا من

ص: 349

______________________________

أنها لو رأت ثلاثة أيام بصفة الاستحاضة و ثلاثة أيام بصفة الحيض ثم رأته بصفة الاستحاضة و استمر تحيضت بالثلاثة التي بصفة الحيض فقط، قال: «لأنه ليس بأن يجعل الثلاثة الأولة مضافة إلي الحيض بأولي من التي بعد أيام الحيض، فسقط [فسقطا. خ. ل] و عمل علي اليقين مما هو بصفة دم الحيض». إذ لو تم المبني المذكور اتجه إلحاق الثلاثة الأول بالحيض لقاعدة الإمكان، بل يتجه إلحاق ما يتمم العشرة من الفاقد الثاني أيضا.

و إن كان تعليله عدم الإلحاق بعدم المرجح لأحد الدميين الفاقدين ظاهرا في أن عدم التحيض بأحد الفاقدين لتعارض المقتضيين فيهما، لا لأن فقد الصفة بنفسه مقتض لعدم حيضيتهما معا. فلاحظ.

الثاني: مقتضي بعض الكلمات السابقة و غيرها من تصريحاتهم التحيض بالواجد لصفة الحيض

و إن استلزم التحيض في الشهر الواحد بأكثر من حيضة، بل ظاهر من تعرض للشرط السابق المفروغية عنه. و يقتضيه إطلاق أدلة التمييز.

لكن قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «إلا أنه يشكل هذا في الناسية، فإن ظاهر رواية يونس أنها تعرف أيامها بصفة الدم. و فيها مواضع أخر من الدلالة علي عدم تحيض المستحاضة أكثر من شهر. فتأمل».

و ظاهره أن المستفاد من الرواية كون التمييز طريقا لمعرفة أيام العادة، فلا يمكن حجيته علي خلافها بالتحيض بأكثر من مرة في الشهر، و ليس طريقا لمعرفة أيام الحيض ابتداء و لو كان علي خلاف العادة ليمكن حجيته علي ذلك. و كأن منشأ ما ذكره من دلالة الرواية علي طريقية التمييز لمعرفة أيام العادة قوله عليه السّلام: «فهذه سنة النبي صلّي اللّه عليه و آله في التي اختلط عليها أيامها حتي لا تعرفها، و إنما تعرفها بالدم ما كان من قليل الأيام و كثيره» «1».

و فيه: أنه لا بد من حمل الأيام فيه علي أيام الحيض لا أيام العادة، لما هو المعلوم

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 350

______________________________

من الرواية و غيرها من لزوم العمل بالتمييز و إن اختلف مقاديره و مواضعه باختلاف الأشهر، مع وضوح امتناع اختلاف أيام العادة فيها، فلا بد من كون التمييز طريقا لمعرفة أيام الحيض رأسا في قبال العادة، كما يناسبه قوله عليه السّلام: «و ذلك أن دم الحيض أسود يعرف» و لو لا ذلك لامتنع التعدي في الرواية من الناسية للمضطربة و المبتدأة في حجية التمييز، لفرض عدم العادة لهما ليكون التمييز حجة عليها كالناسية.

نعم، الناسية إن قيل بحجية العادة لها فيما تذكره إجمالا منها، كعدم الزيادة علي عدد خاص أو عدم التحيض في زمن خاص لزم الخروج بما تذكره منها عن إطلاقات التمييز في سائر الموارد و منها المقام، بناء علي عدم انعقاد العادة بالتحيض بأكثر من حيضة في الشهر، علي ما سبق الكلام فيه في فروع العادة، و إن قيل بسقوط عادتها عن الحجية رأسا حتي فيما تذكره منها اتجه عملها بإطلاق نصوص التمييز في المقام و غيره.

و أما دلالة مواضع من رواية يونس علي عدم تحيض المستحاضة أكثر من مرة في الشهر فهو مختص بالتحيض بالعدد، دون التحيض بالعادة أو بالتمييز، و لذا كان ظاهرهم المفروغية عن التحيض بالعادة في الشهر أكثر من مرة لو فرض انعقادها كذلك، و إنما الكلام في انعقادها بالوجه المذكور. و من هنا لا مخرج عن إطلاق نصوص التمييز في غير الناسية و فيها علي الكلام المتقدم.

و أما ما قد يظهر من الجواهر من منافاته لما دل علي أن الحيض في الشهر مرة «1».

ففيه: أن الحديث محمول علي القضية الغالبية، أو لبيان أنها إذا لم تحض في كل شهر فهي مسترابة، كما تضمنه صحيح الحلبي «2» و لا يخرج به عن الإطلاقات المذكورة.

كما أن مقتضي إطلاقها عدم لزوم التحيض في الشهر مرة، كما لو كانت تري ما هو بصفة الحيض في كل شهرين أو أكثر مرة واحدة.

نعم، لو طالت المدة بحيث يصدق عرفا اتحاد وصف دمها إما ابتداء أو بعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 9 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 351

ذات تمييز- إما لأنه كله واجدا [واجد. ظ] للصفات أو كله فاقدا [فاقد.

ظ] لها، أو لأن الواجد أقل من ثلاثة أيام، أو أكثر من عشرة أيام (1)- فإن كانت مبتدئة رجعت إلي عادة أقاربها (2)

______________________________

اختلافه اتجه رجوعها للوظيفة المتأخرة عن التمييز.

بل لا يبعد الاكتفاء في الرجوع للوظيفة المذكورة باتحاد الوصف في شهر إذا لم يعلم برجوع الاختلاف، لأن ارتكاز تحيض المرأة في كل شهر يوجب انصراف المعيار في الاختلاف و الاتفاق إلي الشهر.

و أما لو علم برجوع الاختلاف بعد أكثر من شهر فلا يبعد كونها ذات تمييز عرفا، و أن حيضها علي خلاف المتعارف. و لا بد من التأمل. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

رجوع المبتدأة لعادة نسائها
اشارة

(1) أو لعدم الفصل بين الواجدين بعشرة أيام، علي ما تقدم. و يأتي في آخر التنبيه الرابع الوجه في عموم الرجوع لأقراء الأقارب لصورة فقد شروط التمييز.

(2) كما صرح به جماعة كثيرة من قدماء الأصحاب و متأخريهم و نسبه في المعتبر للخمسة و أتباعهم، بل في المدارك أنه المعروف من مذهب الأصحاب، و في كشف اللثام و المفاتيح و عن مجمع الفائدة أنه المشهور، و عن كشف الرموز أن به فتوي الأصحاب، و في المعتبر أنه الذي اتفق عليه الأعيان من فضلائنا، بل ادعي الإجماع عليه صريحا أو ظاهرا في الخلاف و التذكرة و محكي شرح المفاتيح، و عن التنقيح نفي الخلاف فيه، كما يظهر من السرائر.

و يقتضيه مرفوع أحمد بن محمد عن زرعة عن سماعة: «سألته عن جارية حاضت أول حيضها فدام دمها ثلاثة أشهر، و هي لا تعرف أيام أقرائها. فقال: أقراؤها مثل أقراء نسائها، فإن كانت نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة أيام و أقله ثلاثة أيام» «1»،

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 352

______________________________

و موثق زرارة و محمد بن مسلم- بناء علي ما سبق في تحديد سن اليأس، من الاعتماد علي طريق الشيخ إلي علي بن الحسن بن فضال- عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: يجب للمستحاضة أن تنظر بعض نسائها فتقتدي بأقرائها ثم تستظهر علي ذلك بيوم» «1».

و قد يستدل علي ذلك أيضا بموثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: النفساء إذا ابتليت بأيام كثيرة مكثت مثل أيامها التي كانت تجلس قبل ذلك و استظهرت بمثل ثلثي أيامها … و إن كانت لا تعرف أيام نفاسها فابتليت جلست بمثل أيام أمها أو أختها أو خالتها و استظهرت بثلثي ذلك» «2». بدعوي إلحاق الحائض بالنفساء، لما دل علي اتفاقهما في الأحكام.

لكنه يشكل بأنه لو تم اتفاقهما في الأحكام بنحو يشمل المقام فظاهر الحديث الرجوع للأقارب في نفاسهن لا في أيام حيضهن، و هو- مع عدم القائل به، كما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي- أجنبي عن المدعي.

و دعوي: أن عدم العمل به في ذلك ملزم بحمله علي أيام الحيض. مدفوعة بمخالفة ذلك لظاهره جدا، فلا مجال لحمله عليه بنحو يكون حجة فيه في النفساء، فضلا عن التعدي به للحائض.

و مثله في الضعف الاستدلال بأن الحيض يعمل فيه بالعادة و الأمارة، و مع اتفاقهن يغلب أنها كإحداهن، إذ من النادر أن تشذ واحدة عن جميع الأهل، أو نحو ذلك مما يرجع إلي العمل بالظن، لعدم الدليل علي عموم حجيته في المقام.

فالعمدة الحديثان الأولان، و قد سبق عند الكلام في رجوع المبتدأة للتمييز أنه لا بد من تنزيل إطلاقهما علي صورة فقد التمييز، فيتم الاستدلال بهما للمدعي.

هذا و قد تردد في المعتبر في الحكم المذكور، و تبعه في ظاهر المدارك و مجمع البرهان، للإشكال في الأول بإضماره، و انقطاع سنده، و بأن زرعة و سماعة واقفيان.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 20.

ص: 353

______________________________

و في الثاني بأن في سنده علي بن الحسن بن فضال و هو فطحي، و بتضمنه الاكتفاء ببعض النساء و هو خلاف الفتوي. مضافا إلي الاقتصار في مرسلة يونس الطويلة علي التحيض بالعدد عند فقد التمييز مع التصريح فيها بانحصار حالات المستحاضة بالسنن الثلاث.

لكن يندفع الإشكال في الأول- مضافا إلي حجية خبر الواقفي الثقة، و وضوح عدم رواية سماعة عن غير الإمام، و لذا عده الأصحاب في عداد رواياتهم- بأن ضعف سنده منجبر بظهور اعتماد الأصحاب عليه، حتي كان ظاهر الخلاف الإجماع علي قبوله و صريح المعتبر اتفاق الأعيان من فضلائنا علي الفتوي بمضمونه، و في المنتهي و عن كشف الرموز أن الأصحاب تلقوه بالقبول.

و أما الثاني فلا يقدح في سنده كون بن فضال فطحيا بعد الاتفاق علي وثاقته، و ورود الرواية بقبول روايات بني فضال، و لا في مضمونه الاكتفاء فيه ببعض النساء، لإمكان الجمع بينه و بين المرفوع بجعل عادة البعض أمارة علي عادة البواقي، لعدم تيسر الاطلاع علي عادة الكل، فمع ظهور الاختلاف ينكشف خطأ الأمارة- كما أشار إليه في المعتبر- أو بحمل أمارية الكل علي الانحلال، فمع ظهور الاختلاف يسقط الكل بالتعارض، و مع عدمه يعمل بما وصل لأصالة عدم المعارض. و يأتي تمام الكلام في ذلك في التنبيه الثاني إن شاء اللّه تعالي.

و أما الإشكال بمنافاتهما للمرسلة فقد يدفع..

تارة: بما عن الشهيد من احتمال أن يكون المراد من قوله صلّي اللّه عليه و آله في المرسلة:

«تحيضي في كل شهر في علم اللّه ستة أيام أو سبعة أيام» تحيضي فيما علمك اللّه من عادات النساء، لأنه الغالب عليهن.

و اخري: بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من احتمال حكومتهما علي المرسلة، لظهور المرسلة في كون الرجوع إلي العدد لفقد الأمارة علي تعيين الحيض، نظير الأصل، فإذا ثبتت طريقية أقراء الأقارب كانت مقدمة عليه، و يكون الحصر في السنن

ص: 354

عددا، بل و وقتا (1)

______________________________

الثلاث إضافيا، إما بلحاظ الغالب، لغلبة اختلاف الأقارب أو لغير ذلك.

لكن الأول بعيد جدا، بل المرسلة كالصريحة في خلافه، كما يظهر بالتأمل في بعض فقراتها. و ما في الجواهر من أنه لا بأس بارتكابه في مقام الجمع بين الأدلة لا يصغي إليه، لعدم كون الجمع بذلك عرفيا.

و كذا الحال في الثاني، لأن المرسلة و إن كانت ظاهرة في أن الإرجاع للعدد بمفاد الأصل لعدم الطريق لمعرفة الحيض، إلا أنها ظاهرة في أنه يكفي في تحقق موضوعه فقد التمييز المستلزم لعدم وجود طريق آخر بعده. فلا ينبغي التأمل في التنافي بين الحديثين و المرسلة.

نعم، لا محيص عما ذكره غير واحد من تقييد المرسلة بالحديثين، الملزم بحمل الحصر فيها علي الإضافي، و لو لغلبة اختلاف الأقارب أو عدم وجودهن أو عدم انعقاد العادة لهن. فلا مجال للتردد في ذلك ممن سبق، فضلا عن الخلاف فيه، كما قد ينسب للغنية، بناء علي عموم كلامه المتقدم في ذيل الكلام في حجية التمييز لمستمرة الدم، و إن كان الظاهر عدمه، كما سبق.

نعم، هو ظاهر إشارة السبق، لانتقاله في مطلق المستحاضة من التمييز للتحيض بالعدد من دون تعرض لعادة نسائها.

(1) كما في الجواهر و جعله ظاهر إطلاق النص و الفتوي، خلافا لظاهر التذكرة و المسالك و الروض من اختصاص الرجوع لهن بالعدد، للحكم في الأخيرين بأنها تتخير في وضع الأيام حيث شاءت، و إن كان الأولي وضعها في أول الدم، و في الأول بتعيين أقرب الدم في مطلق من لا تمييز لها.

و هو المنصرف من إطلاق غيرها، لعدم التعرض فيها في صورة الاختلاف إلا للتحيض بالعدد، إذ لو كان المراد بالإرجاع إليها الإرجاع في الوقت و العدد معا كان

ص: 355

______________________________

المناسب التعرض للوقت أيضا في صورة الاختلاف.

و منه يظهر كون ذلك هو المتيقن من إطلاق الإرجاع إليهن في مضمر سماعة، بل هو الظاهر منه، إذ لو كانت الجهة المسؤول عنها و التي كان الإرجاع بلحاظها تعم الوقت، للتحير فيه كالعدد، لم يكن الواجب في صورة الاختلاف مستوفيا للجهة المسؤول عنها و المتصدي لبيانها.

بل لعل العدد هو المنصرف من موثق زرارة و محمد بن مسلم بسبب ارتكاز التحيض في أول الدم لقاعدة الإمكان و ارتكاز أن الأصل تحيض المرأة في كل شهر مرة، الموجب لارتفاع التحير من حيثية الوقت و كون المتيقن من الارجاع هو العدد لا غير.

كيف و لو كان المراد الارجاع إليهن في الوقت و العدد معا بنحو المجموعية لزم عدم الرجوع إليهن مع اختلافهن في الوقت فقط، و لو كان المراد الإرجاع فيهما بنحو الانحلال لزم الرجوع إليهن في الوقت لو اتفقن فيه و اختلفن في العدد، و كلاهما بعيد، كما اعترف به في الجواهر.

لكن قال: «إلا أنه قد يدفع بأنه لا تلازم بين وجوب الرجوع إلي الوقت و العدد عند الاتفاق قضاء للتشبيه، و عدم صدق الاختلاف إلا بالعدد خاصة و إن اتفقن في الوقت. فتأمل فإنه دقيق».

و هو كما تري، لأن الجهة الملحوظة في الإرجاع و التشبيه إن عمت الوقت صدق الاتفاق و الاختلاف بلحاظه، و لا يختص المعيار في الاختلاف بالعدد إلا مع قصر الإرجاع و التشبيه عليه، لوضوح أن جهة كل من التشبيه و الإرجاع و الاختلاف غير مصرح بها، و لا بد في تعيينها من قرينة عامة أو خاصة، و ما تقتضيه القرينة في أحدهما تقتضيه في الباقي، و حيث كان الظاهر منهم المنصرف من الأدلة أن المعيار في الاختلاف هو العدد تعين كونه هو جهة التشبيه الملحوظة في الإرجاع.

و يناسب ذلك ارتكاز أن العدد هو المستند لطبيعة المرأة و مزاجها التي تشاركها فيه أرحامها، بخلاف الوقت، فإنه يستند لأمور تخصها من وقت ولادتها و نحوه مما

ص: 356

علي الأحوط وجوبا إن اتفقن في الوقت، و إلا تخيرت في تعيين الوقت (1).

______________________________

لا يسري إلي أرحامها إلا بمحض المصادفات التي قد تتم في غير أرحامها، و التي لا يبتني الإرجاع لأقراء نسائها عليها. و بهذا افترق رجوع المبتدأة لأقراء نسائها عن رجوع ذات العادة لعادتها.

و لعله لما ذكرنا نسب شيخنا الأعظم قدّس سرّه الاقتصار في الإرجاع علي العدد لظاهر النص و الفتوي، بل ظاهر سيدنا المصنف قدّس سرّه في مستمسكه في حكم ذات العادة العددية فقط المفروغية عن اختصاص طريقية أقراء الأقارب بالعدد دون الوقت. و هو المتعين.

و أما الوقت فمقتضي ما ذكرنا في وجه الانصراف كونه في أول الدم، بناء علي شمول الإرجاع لأقراء الأقارب للدور الأول، و بناء علي قصوره عنه يكون بمضي شهر منه. و سيأتي الكلام في تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالي.

(1) بناء علي التخيير في الوقت مع عدم المرجع فيه. و يأتي إن شاء اللّه تعالي الكلام في ذلك في مبحث التحيض بالعدد.

بقي في المقام أمور..
الأول: المراد بالنساء هنا الأقارب من الأبوين، لا من خصوص أحدهما-

كما صرح به جماعة- لا لما في جامع المقاصد و عن الذكري من أن المعتبر الطبيعة، و هي جاذبة من الطرفين، لعدم التعويل علي مثل ذلك في الأحكام الشرعية. بل لإطلاق المضمر و الموثق لصحة النسبة في كلتا الطائفتين.

و لا يهم معه اختصاص خبر أبي بصير بالأم و الأخت و الخالة، لقرب إلغاء خصوصيتهن فيه و حمله علي بيان بعض الأفراد، جمعا مع الأولين، لأنه أقرب من تنزيل إطلاق (نسائها) فيهما علي خصوصهن، علي أنه سبق عدم كونه من أدلة المقام.

فلا مخرج عن الإطلاق المذكور.

ص: 357

______________________________

هذا و المتيقن عموم الأقارب للأم و الجدتين و الأخوات و الخالات و العمات القريبات، و لا يبعد شموله لبناتهن، و في شمول الإطلاق لما زاد علي ذلك كخالات الأمهات و جداتهن إشكال.

ثم إن المراد من عمومهن للأقارب من الأبوين بأصنافهن ليس هو لزوم واجديتها لهن، بنحو لو لم يكن لها بعض الأصناف لم تكتف بالباقي، بل لا إشكال ظاهرا في الاكتفاء بمن حصل منهن، لأن ظاهر الإرجاع للنساء في الحديثين كونه بنحو القضية الحقيقية التي تتبع فعليتها فعلية موضوعها، فالمراد به الرجوع لمن هي من أقاربها فعلا.

و لا يبتني ذلك علي ما يأتي من الاكتفاء بالبعض، إذ المراد به البعض من الحاصل، لا البعض مما يمكن فرضه و إن كان تمام الحاصل.

و لعل هذا هو المراد مما في مفتاح الكرامة، حيث نسب لأكثر من عثر علي كلامه أن المراد الأقارب من الأبوين أو من أحدهما.

نعم، الظاهر أن الموت لا يوجب الخروج عن موضوع الإرجاع- كما نبه له في الروض- لشمول الإطلاق للميتة، و لا سيما مع عدم دخل الحياة ارتكازا في كاشفية الأقراء.

و عن الذكري اعتبار اتحاد البلد، لأن للبلدان أثرا ظاهرا في تخالف الأمزجة، و في كشف اللثام أنه لا بأس به.

لكنه كما تري لا ينهض بالخروج عن عموم النص، و لا سيما مع أن فتح هذا الباب يقتضي اعتبار اتحاد سنخ المزاج بمثل الحرارة و البرودة و الصحة و المرض و السن و نوع الغذاء و غير ذلك مما قد يكون له أثر في تخالف الأمزجة من حيثية الحيض.

و دعوي: انصراف النص إليه ممنوعة جدا. و أضعف منه ما حكاه في الروض عن شيخه السيد حسن من اعتبار البلد، فإن فقدن فأقرب البلدان. لأن وجه اعتبار البلد إن كان بنحو ينهض بتخصيص العموم فلا وجه للاكتفاء مع عدمه بأقرب البلدان، و إلا فلا وجه للخروج عن العموم به.

ص: 358

______________________________

علي أن فتح هذا الباب يقتضي التدرج في الأقارب من الأقرب فالأقرب و في السن كذلك، إلي غير ذلك مما يناسب أخذ الحكم من اعتبارات ظنية لا من نصوص شرعية تعبدية.

الثاني: حيث كان ظاهر المضمر اعتبار أقراء جميع الأقارب و صريح الموثق الاكتفاء بالبعض فقد سبق الجمع بينهما

إما بحمل الموثق علي كون البعض طريقا لمعرفة الكل مع عدم تمامية مقتضي الحجية إلا باتفاق الكل، أو بحمل المضمر علي حجية الجميع بنحو الانحلال، فيتم مقتضي الحجية في كل منها و تسقط مع الاختلاف بالتعارض، و يلزمه الاكتفاء بالبعض مع عدم ثبوت الاختلاف لأصالة عدم المعارض.

و لعل الثاني أقرب، لوضوح أنه كثيرا ما لا تكون قرابة بين جميع أقارب المرأة، بل تكون أقرباؤها من طرف الأب بعيدات عن أقربائها من طرف الأم، حيث لا مجال مع ذلك لطريقية أقراء بعضهن علي أقراء البعض الآخر ارتكازا.

بل طريقية قرء البعض علي قرء الكل- كما هو مبني الوجه الأول- تناسب طريقية قرء البعض علي قرء المبتدأة لعدم الفرق بين المبتدأة و غيرها في ذلك ارتكازا.

و من هنا يتجه الاكتفاء بالواحدة مع انحصار الأمر فيها و لو لعدم انعقاد العادة لغيرها، أما علي الأول فيشكل بعدم صدق نسائها علي الواحدة، بل يشكل صدقها علي الاثنتين.

هذا و في الجواهر أنه لا قائل بالاكتفاء بالواحدة مع الجهل بالاختلاف. و من ثم اعتبر البعض المعتد به حينئذ. بل قد يظهر من الروض دعوي الإجماع علي عدم حجية غير الأغلب. بل سبق من المعتبر أن الاكتفاء بالبعض خلاف الفتوي. بل صرح في الحدائق بعدم القائل به. لكن في بلوغ ذلك حد الحجية بنحو يخرج به عن مقتضي الأدلة إشكال، بل منع.

الثالث: أهمل الأكثر التعرض لحكم الاستظهار مع اشتمال الموثق عليه،

بل يظهر من الفقيه الهمداني قدّس سرّه معروفية عدم مشروعيته، حيث جعل اشتمال الموثق

ص: 359

______________________________

عليه من جملة الموهنات المذكورة فيه، و دفعه بأنه لا مانع من الالتزام به، ثم قال: «إلا أن ينعقد الإجماع علي خلافه».

لكن يظهر من الدروس و جامع المقاصد الاعتداد باحتمال شرعيته تبعا للموثق، بل عن الذكري الفتوي به.

و لعل إهماله في كلام جماعة هنا اتكالا علي ما ذكروه في الجمع بين نصوص الاستظهار و نصوص الاقتصار علي العادة، لدعوي ورود نظيره في المقام. و من هنا لا مجال لدعوي الإجماع علي عدم مشروعيته، ليسقط الموثق عن الحجية فيه.

نعم، قد ينافيه ظهور المضمر في عدم جوازه و أن المرأة لا تجلس إلا بقدر أقراء نسائها. و لا مجال للجمع بينهما بحمل الاستظهار في الموثق علي خصوص الدور الأول، لما يأتي من قصورهما معا عنه، كما لا مجال لأكثر الوجوه المتقدمة للجمع بين الاستظهار و نصوص الاقتصار علي العادة، كما يظهر بالتأمل فيها.

لكن الظاهر إمكان الجمع بينهما برفع اليد عن ظهور المضمر في بيان مقدار جلوس المبتدأة، بحمله علي مجرد بيان طريقية أقراء الأقارب لحيضية ما يساويها من الدم المستمر من دون أن ينافي لزوم الجلوس زيادة علي ذلك يوما واحدا للاستظهار و إن لم يحرز حيضية الدم فيه، كما تضمنه الموثق.

نعم، قد لا يناسب وجوب الاستظهار إهماله في المضمر مع وروده في مقام البيان، حيث قد يكون ذلك ملزما برفع اليد عن ظهور الموثق في وجوبه و حمله علي الاستحباب، و لا سيما مع إهمال الأصحاب التعرض له. و إن لم يخل ذلك عن إشكال، فلا يترك الاحتياط بالاستظهار.

الرابع: مقتضي إطلاق الأصحاب عموم الرجوع لأقراء الأقارب لأول رؤية الدم،

فالمرأة و إن كانت تتحيض في أوله للعشرة للجهل بتجاوز الدم عنها، إلا أنه إذا تجاوزها انكشف كون حيضها خصوص ما يساوي أقراء أقاربها و أن الزائد استحاضة تقضي ما تركته لأجله من الصلاة، ثم تتحيض في الأدوار اللاحقة بقدر أقراء الأقارب

ص: 360

______________________________

لا غير، فلا فرق بين الدور الأول و ما بعده واقعا، بل يمتاز الدور الأول بالتحيض للعشرة ظاهرا بتجاوز الدم عنها. و قد نسب في الدروس ذلك لظاهر الأصحاب.

و كأنه لدعوي عموم تحيض المبتدأة التي يتجاوز دمها العشرة بأقراء الأقارب، الملزم برفع اليد عن مقتضي قاعدة الإمكان و الاستصحاب من حيضية تمام العشرة، لأنهما بلسان الأصل المحكوم للأمارة، و هي أقراء الأقارب، و إن عمل بهما قبل ظهور التجاوز و تحقق موضوع الرجوع للأقارب.

لكنه يشكل بعدم الدليل علي العموم المذكور، لاختصاص المضمر بمن يستمر دمها ثلاثة أشهر، فلا إطلاق لها في الاستمرار شهرا واحدا أو أقل، و لا سيما مع فرضها فيه لا تعرف أيامها، و قاعدة الإمكان تقتضي كون أيامها العشرة.

كما أن الموثق مختص بالمستحاضة، و مقتضي قاعدة الإمكان و الاستصحاب كونها في أول الدم حائضا إلي العشرة، و لا تكون مستحاضة داخلة في موضوع النص إلا بعد ذلك، نظير ما تقدم في وجه قصور عموم رجوع مستمرة الدم للعادة عن الدور الأول.

و عليه لا ترجع إلي الحكم الذي تضمنه الموثق إلا بمضي شهر من رؤية الدم، و هو الدور الثاني لها، لما تقدم من ارتكاز أن الأصل كون الحيض في كل شهر مرة، و لذا كان هو المعيار عندهم في بقية الأدوار.

و لا سيما مع ظهور المضمر و الموثق في كون التحيض بأقراء النساء وظيفة فعلية ترجع إليها حين العمل، لا ما يعم الوظيفة الواقعية التي ينكشف بعد تجاوزها العشرة ثبوتها من أول الأمر، لأن ذلك هو المناسب لما في المضمر من تخييرها مع اختلاف النساء في مقدار الجلوس بين الثلاثة إلي العشرة، و لما في الموثق من الأمر بالاستظهار الظاهر في نفس الجلوس لا في كون الجلوس السابق في محله.

و دعوي: أن قصورهما لفظا عن الدور الأول لا ينافي فهم عموم حكمهما له إلغاء لخصوصيته عرفا، لعدم الفرق ارتكازا في طريقية أقراء الأقارب بين جميع الأدوار.

مدفوعة بأن الرجوع للطريق المذكور ليس ارتكازيا، ليتعدي عن مورد دليله،

ص: 361

______________________________

لضعف طريقيته جدا، بل هو تعبدي محض لرفع التحير، فلا مجال لإلغاء خصوصية مورد دليله.

بل لو فرض عمومه لفظا للدور الأول لم يبعد انصرافه عنه سؤالا و جوابا بسبب ارتفاع التحير فيه بقاعدة الإمكان و الاستصحاب المفروض العمل عليهما في أول الأمر فيه و اختصاص التحير ببقية الأدوار بناء علي ما هو الظاهر من قصور القاعدة عن إحراز الحيض في أثناء الدم المستمر، بل حتي بناء علي جريانها لما كان مقتضاها- و هو الحيض بمضي أقل الطهر- علي خلاف المتعارف كان مثيرا للريب الموجب للسؤال.

و من هنا لا مجال لرفع اليد عن مقتضي قاعدة الإمكان و الاستصحاب في الدور الأول المعتضد بإطلاق موثق ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: المرأة إذا رأت الدم في أول حيضها فاستمر بها الدم تركت الصلاة عشرة أيام ثم تصلي عشرين يوما، فإن استمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيام وصلت سبعة و عشرين يوما» «1»، و نحوه موثقة الآخر «2»، بناء علي ظهور ذيلهما في التحيض بالثلاثة في جميع الأدوار اللاحقة، حيث لا يكون حمله علي من لا ترجع لأقراء أقاربها منافيا لبقاء صدرهما المتضمن التحيض للعشرة في أول الدم شاملا لمن ترجع لأقراء أقاربها، و ظاهرهما عدم وجوب رفع اليد عن التحيض في أول الدم للعشرة باستمرار الدم.

نعم، لو كان المستفاد منهما التحيض بالعشرة و الثلاثة بالتعاقب في تمام الأدوار كان ما تضمنه الصدر و الذيل وظيفة واحدة مختصة بمن لا ترجع إلي أقراء أقاربها، و لا تنفع فيما نحن فيه. لكنه مخالف لظاهر الموثق الأول و صريح الثاني.

علي أنه لو فرض عموم المضمر و الموثق للدور الأول فقد تقدم في التنبيه الثالث من مبحث الرجوع للتمييز ما ينهض بالخروج عنه في الدور الأول، لأن المقامين من باب واحد. فراجع ما تقدم هناك فإن له نفعا في المقام.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 362

______________________________

ثم إنه قد يدعي اختصاص ما ذكرناه من التحيض بأقراء النساء بمضي شهر من رؤية الدم بما إذا كان الدم بصفة واحدة أما إذا اختلفت صفته من دون أن تتم شروط التمييز المتقدمة فيلزم جعل ما يساوي أقراء النساء من الواجد لصفة الحيض مهما أمكن تقدم أو تأخر، عملا بالمقدار الممكن من دليل الصفة.

و يظهر ضعفه مما تقدم عند الكلام في الشروط المذكورة من اختصاص دليل الصفات بما إذا كان الاختلاف في الوصف صالحا للتمييز بين الحيض و الاستحاضة.

و دعوي: أن ارتكازية حجية الصفات علي ما يناسبها ملزمة بتعميمها للمورد.

مدفوعة بما تقدم في أدلة حجية الصفات- عند الكلام في قاعدة الإمكان- من أن الإرجاع إليها بملاك الغلبة التي لا تكون حجيتها ارتكازية، بل تعبدية يقتصر فيها علي مورد أدلتها، نظير ما ذكرناه هنا في الرجوع لأقراء الأقارب.

كما لا مجال لدعوي قصور دليل الرجوع لأقراء الأقارب عن صورة اختلاف صفة الدم و إن لم يمكن التمييز بها. إذ يكفي في دفعها إطلاق دليله، أما الموثق فظاهر، و أما المضمر فلأنه لم يؤخذ فيه إلا فرض الجهل بأيام الأقراء و يكفي فيه تعذر التمييز. فلاحظ.

الخامس: ذكر الشيخ في جملة من كتبه رجوع المبتدأة في المرتبة المتأخرة عن أقراء أقاربها إلي أقراء أقرانها في السن،

و تبعه علي ذلك في السرائر و الوسيلة و أكثر كتب العلامة و الشهيدين و غيرهم. و في المسالك و عن شرح المفاتيح أنه المشهور، و عن فوائد الشرائع أنه مذهب الأكثر، و عن شرح الجعفرية أنه ظاهر المتأخرين، و في الجواهر أنه المشهور نقلا و تحصيلا، بل قد يظهر من السرائر عدم الخلاف فيه.

علي اختلافهم في تعليقه.. تارة: علي فقد أقاربها، كما في الاقتصاد و الوسيلة و السرائر و محكي جمل الشيخ و المهذب و التحرير و المختلف و غيرها.

و اخري: علي اختلافهن، كما في اللمعة.

و ثالثة: عليهما معا، كما في المبسوط و القواعد و الإرشاد و محكي نهاية الأحكام و غاية المرام و غيرهما. و لا يبعد رجوع الكل لأمر واحد، و هو تعذر الرجوع لأقراء الأقارب.

ص: 363

______________________________

كما اختلفوا في إطلاقه، كما في الاقتصاد و القواعد و الإرشاد و محكي نهاية الأحكام و الموجز و غيرهما، و تقييده باتحاد البلد، كما في المبسوط و الوسيلة و أكثر الكتب، بل هو داخل في معقد الشهرة المدعاة في المسالك و في النسبة للأكثر في محكي فوائد الشرائع.

بل عن شرح المفاتيح أنه لولاه لزم المحال. و كأنه لامتناع الإحاطة بجميع الأقران في السن عادة. لكنه مبني علي الاعتبار بالكل أما لو اكتفي بالبعض فلا محذور.

ثم إن ظاهر النافع و محكي التلخيص كون الأقران في عرض الأقارب، لعطفهما لها بالواو أو (أو) و كذا ما حكاه في الشرائع قولا، و جعله في الدروس ظاهر الأصحاب في المقام.

هذا و يظهر التردد في أصل الرجوع للأقران من الشرائع و التذكرة و جامع المقاصد و محكي مجمع البرهان و كشف الرموز و تلخيص التلخيص و المهذب البارع، بل قد يستظهر من بعضهم الميل لعدمه، كما هو ظاهر المدارك، بل جزم به في المعتبر و محكي التنقيح، و هو الظاهر من كل من حكم بالتحيض بالعدد مع فقد الأقارب أو اختلافهن، كما في الفقيه و النهاية و الخلاف و المفاتيح و حكاه جماعة عن المرتضي، بل ادعي الإجماع علي ذلك في الخلاف. و اشتهر عدم التعويل علي أقراء الأقران في العصور المتأخرة.

و كيف كان، فقد استدل للرجوع لأقراء الأقران..

تارة: بإطلاق (نسائها) لأن الإضافة تصدق بأدني ملابسة، كما عن الذكري، قال: «و لما لابسنها في السن و البلد صدق عليهن النساء، و أما المشاكلة فمع السن و اتحاد البلد تحصل غالبا».

و اخري: بالغلبة، كما يشير إليه ذيل كلام الذكري المتقدم. قال في المنتهي:

«و يمكن أن يقال: إن الغالب التحاق المرأة بأقرانها في الطبع، و يدل عليه من حيث المفهوم ما رواه يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أدني الطهر عشرة

ص: 364

______________________________

أيام، و ذلك أن المرأة أول ما تحيض ربما تكون كثيرة الدم فيكون حيضها عشرة أيام فلا يزال كلما كبرت نقصت حتي يرجع إلي ثلاثة أيام، فإذا رجعت إلي ثلاثة أيام ارتفع حيضها و لا يكون أقل من ثلاثة أيام «1»، فقوله عليه السّلام: «كلما كبرت نقصت دال علي توزيع الأيام علي الأعمار غالبا. و ذلك يؤيد ما ذكره الشيخ».

و ثالثة: بما عن شرح المفاتيح من أن في بعض نسخ موثق زرارة و محمد بن مسلم:

«فتقتدي بأقرانها» و عن مجمع الفائدة و البرهان أن في بعض الأخبار: «أقرانها».

و الكل كما تري، لاندفاع الأول بأن المتبادر من إطلاق الإضافة كونها بلحاظ الانتساب و القرابة، بل هو المتيقن، للاتفاق علي إرادته، و لا مجال معه للحمل علي غير ذلك مما يصحح الإضافة، لأن الإضافة معني حرفي لا يكون موضوعا للأحكام و لا موطنا للأغراض إلّا بمصححه، فلا بد من لحاظ المصحح بخصوصيته، فمع عدم الجامع العرفي بين المصححين يكون الجمع بينهما بمنزلة الجمع بين المعنيين في استعمال واحد ممتنعا عرفا.

و ليس هو من سنخ العموم كي يجب العمل به في غير مورد ثبوت التخصيص، و يدعي في المقام أن الإجماع علي عدم الاكتفاء بسائر ما يصحح الإضافة- كالصداقة و الاتفاق في البلد أو العمل أو نحوهما- لا يمنع من العمل بعموم الإضافة في الاتفاق بالسن، لأن العام المخصص حجة في الباقي، كما في الروض و الرياض.

كما يشكل الثاني بعدم وضوح الغلبة، و عدم ثبوت حجيتها. و ما تضمنته مرسلة يونس من توزيع الحيض علي الأعمار لا يناسب رجوع المبتدأة لأقرانها، بل تحيضها بالأكثر.

و يندفع الثالث بأنه لا مجال للتعويل علي النسخة المذكورة بعد عدم إشارة أعيان الأصحاب من أهل الحديث و أهل الاستدلال إليها، و ظهور اضطراب الرواية معها، لأن نظرها إلي نسائها لا يناسب اقتداءها بأقرانها، إلا أن يراد بها أقرانها من

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 365

______________________________

نسائها، و هو- مع عدم خلوه عن الاضطراب أيضا- أجنبي عن المدعي.

مع أن التعويل عليها يقتضي سقوط النسختين معا، لقصور نصوص العلاج عن اختلاف النسخ- كما حقق في محله- و حيث كانت الرواية مذكورة في التهذيب و الاستبصار، فلا تسقط إلا في الكتاب الذي اختلفت نسخة مع بقائها في الآخر حجة في الوجه المشهور.

بل كلام الشيخ في الاستبصار كالصريح في كون الرواية بالوجه المشهور، لجعله لها موافقة لمضمر سماعة في المضمون.

و أما الخبر المشار إليه في مجمع الفائدة و البرهان فإن أريد به هذه النسخة لحقه حكمها، و إن أريد به خبر آخر مستقل فليس بحجة لإرساله و عدم ذكر مضمونه.

ثم إن مقتضي هذا الوجه- كالوجه الأول- كون الأقران في عرض الأقارب، كما تقدم من النافع و غيره، لا في طولها، كما هو المشهور المعروف بينهم.

و ما عن شرح المفاتيح من أن الروايات الأولي معمول عليها عند الجميع فهي أولي بالتقديم مهما أمكن. كما تري.

نعم، قد يتجه الترتيب المذكور علي الوجه الثاني، لدعوي: أن الغلبة حجة حيث لا حجة.

و أما ما في كشف اللثام من توجيهه باتفاق الأعيان علي الأهل دونهن، و تبادر الأهل من نسائها، و التصريح بهن في خبر أبي بصير. فهو كما تري، لأن هذه الأمور لا تنهض بالترتيب مع إطلاق دليل الحجية، و بدونه يتجه التعليل به، إذ مع عدم الإطلاق لدليل حجية عادة الأقران يتعين الاقتصار فيه علي المتيقن و هو صورة فقد الأقارب.

و كيف كان، فلا مجال للتعويل علي شي ء من الوجوه المتقدمة في الرجوع للأقران، بل يلزم الاقتصار علي الأقارب، و مع تعذر الرجوع إليها يتحيض بالعدد، عملا بإطلاقاته، و منها مضمر سماعة.

ص: 366

حكم اختلاف الأقارب في العدد
اشارة

و إن اختلفن في العدد (1) أيضا فلا يبعد التخيير لها في التحيض فيما بين

______________________________

(1) فلا مجال للرجوع إليهن مع الاختلاف، كما صرح به جماعة من الأصحاب.

و لعل اقتصار بعضهم علي فقد الأقارب ليس للخلاف في ذلك، بل لأن المراد به تعذر الرجوع إليهن الشامل لصورة الاختلاف، نظير ما تقدم في الرجوع للأقران.

و كيف كان، فيقتضيه مضمر سماعة الذي يخرج به عن إطلاق الرجوع للبعض في موثق زرارة و محمد بن مسلم، لما سبق في التنبيه الثاني من الجمع بينهما بالبناء علي حجية الجميع بنحو الانحلال و السقوط مع الاختلاف للتعارض.

ثم إنه صرح في جامع المقاصد باعتبار الأغلب مع الاختلاف، و هو المحكي عن الذكري و حواشي القواعد للشهيد و مجمع البرهان، و استجوده في الروضة و الجواهر، كما قد يظهر من كشف اللثام. و كأنه لظهور الحال في موافقة الأغلب، كما أشير إليه فيما يأتي من نهاية الأحكام.

لكن لا دليل علي حجية الظهور المذكور، كعدم الدليل علي مرجحية الغلبة في تعارض الحجج، بل هو خلاف إطلاق الاختلاف في مضمر سماعة.

و حمله علي الاختلاف الرافع للظن- كما احتمله في كشف اللثام- بلا قرينة.

كحمل إطلاقه علي ذلك في كلام جماعة الذي احتمله في مفتاح الكرامة.

و غلبة عدم اتفاق الكل و تعسر الاطلاع علي عادتهن- لو تمت- إنما تكون قرينة علي عدم اعتبار العلم بعادة الجميع، فيكتفي بالبعض، كما سبق، و هو لا ينافي السقوط مع الاختلاف مطلقا، عملا بالإطلاق.

نعم، لو تمت غلبة الاختلاف فقد تكون قرينة علي حمل إطلاق المضمر علي الاختلاف الفاقد للغلبة، لئلا يلزم ندرة العمل بأقراء الأقارب، بنحو يلغو دليله عرفا. فتأمل.

لكنها غير تامة، لإمكان قلتهن أو عدم انعقاد العادة لبعضهن، و اتفاق من

ص: 367

______________________________

انعقدت العادة لهن منهن حينئذ غير عزيز.

و أما دعوي: أن مقتضي إطلاق الموثق الاكتفاء بالبعض و لو مع الاختلاف، خرج منه بالإجماع غير الأغلب، فيبقي حجة في الأغلب، فهي لو تمت إنما تنفع لو انحصر الدليل بالموثق، أما مع المضمر فحيث كان مقتضي إطلاقه مانعية الاختلاف و لو مع الغلبة لزم البناء علي ذلك، كما لعله ظاهر.

هذا و في العروة الوثقي عدم الاعتداد بمخالفة النادر إذا كان كالمعدوم، و أقره بعض محشيها. و كأنه لانصراف الاختلاف عنها، أو اعتبار الجميع العرفي أو التسامحي لا الحقيقي. لكن الانصراف بدوي لا يخرج به عن الإطلاق. و اعتبار الجميع التسامحي لا وجه له بعد ما سبق في مفاد الأدلة.

و من هنا يتعين البناء علي مانعية الاختلاف مطلقا، كما هو مقتضي إطلاق جماعة و صريح آخرين، فعن نهاية الأحكام: «الأقرب أنها مع الاختلاف تنتقل إلي الأقران لا إلي الأكثر من الأقارب، فلو كن عشرا فاتفق تسع رجعت إلي الأقران. و كذا الأقران.

مع احتمال الرجوع للأكثر، عملا بالظاهر».

نعم، عن نهاية الأحكام أيضا: «الأقرب اعتبار الأقارب مع تفاوت الأسنان، فلو اختلفن فالأقرب ردها إلي من هو أقرب إليها» ثم قال: «لو كانت بعض الأقارب تتحيض بست و الآخر بسبع احتمل الرجوع إلي الأقران، لحصول الاختلاف، و الرجوع إلي الست للجمع، و الاحتياط».

لكن إطلاق الاختلاف في مضمر سماعة مانع من الأول، سواء أريد به ترجيح الأقرب في النسب أم في السن. كما أنه ملزم في الثاني بعدم الرجوع للأقارب، كما صرح به في الجواهر. لأن وجود القدر المشترك لا ينافي صدق الاختلاف في قدر الحيض، و إلا لم يصدق الاختلاف أصلا، إذ لا بد من وجود القدر المشترك و إن كان هو أقل الحيض، و لا خصوصية لليوم الواحد في ذلك.

و بذلك يخرج عن الاحتياط لو كان هو مقتضي الأصل. علي أن الاحتياط

ص: 368

الثلاثة و العشرة (1)،

______________________________

معارض بمثله و الدوران في المقام بين محذورين. بل مقتضي استصحاب الحيض عدم الاقتصار علي الستة، و هو المرجع لو فقد الدليل دون الاحتياط. فلاحظ.

(1) كما في الحدائق. و يقتضيه ظاهر قوله عليه السّلام في مضمر سماعة المتقدم في الرجوع للأقارب: «فإن كانت نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة أيام، و أقله ثلاثة أيام» «1»، و موثق الحسن بن علي الخزاز الوشاء- بناء علي ما سبق في تحديد سن اليأس من الاعتماد علي علي بن محمد بن الزبير- عن أبي الحسن عليه السّلام: «سألته عن المستحاضة كيف تصنع إذا رأت الدم و إذا رأت الصفرة، و كم تدع الصلاة؟ فقال:

أقل الحيض ثلاثة و أكثره عشرة، و تجمع بين الصلاتين» «2».

لأن الاقتصار علي بيان الأقل و الأكثر عند السؤال عن مقدار التحيض ظاهر في التخيير بين المراتب كل شهر، كما اعترف به غير واحد، لا مجرد بيان قضية واقعية من شئون ما يجب عليها أو في أصل الحيض من دون أن يصلح لبيان ما يجب عليها و تحديده. و بذلك يخرج عن ظهور بقية النصوص في تعين بعض المراتب.

ففي مرسلة يونس الطويلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و أما السنة الثالثة ففي التي ليس لها أيام متقدمة و لم تر الدم قط و رأت أول ما أدركت فاستمر بها … و ذلك أن امرأة يقال لها: حمنة بنت جحش أتت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فقالت: إني استحضت حيضة شديدة … فقال: تلجمي و تحيضي في كل شهر في علم اللّه ستة أيام أو سبعة أيام، ثم اغتسلي غسلا و صومي ثلاثة و عشرين يوما أو أربعة و عشرين … فأراه قد سن في هذه غير ما سن في الأولي و الثانية … ألا تري أن أيامها لو كانت أقل من سبع و كانت خمسا أو أقل من ذلك ما قال لها تحيضي سبعا … و هذه سنة التي استمر به [بها. خ ل] الدم أول ما تراه، أقصي وقتها سبع، و أقصي طهرها ثلاث و عشرون … ».

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 369

______________________________

ثم قال عليه السّلام: «و إن لم يكن لها أيام قبل ذلك و استحاضت أول ما رأت فوقتها سبع و طهرها ثلاث و عشرون» إلي أن قال عليه السّلام: «فإن لم يكن الأمر كذلك و لكن الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارة و كان الدم علي لون واحد و حالة واحدة فسنتها السبع و الثلاث و العشرون، لأن قصتها كقصة حمنة … » «1».

و في موثق ابن بكير عنه عليه السّلام: «قال: المرأة إذا رأت الدم في أول حيضها فاستمر بها الدم تركت الصلاة عشرة أيام ثم تصلي عشرين يوما، فإن استمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيام وصلت سبعة و عشرين يوما» «2».

و قريب منه موثقة الآخر، إلا أن في ذيله: «ثم تترك الصلاة في المرة الثانية أقل ما تترك امرأة الصلاة و تجلس أقل ما يكون من الطمث، و هو ثلاث [ثلاثة. خ ل] أيام، فإن دام عليها الحيض صلت في وقت الصلاة التي صلت و جعلت وقت طهرها أكثر ما يكون من الطهر و تركها الصلاة أقل ما يكون من الحيض» «3».

فإن هذه النصوص و إن كانت ظاهرة في تعين ما تضمنته إلا أن المضمر و الموثق صالحان للقرينية علي تنزيلها علي بيان بعض الأفراد أو أفضلها. و بذلك يتم الجمع بين جميع النصوص، كما جري عليه في الحدائق، و حكاه في المستند عن والده.

و أما تنزيل المضمر و الموثق علي مفاد موثقي ابن بكير بحمل الأقل و الأكثر فيهما علي تحيضها بالأكثر في شهر و بالأقل في آخر كما سيأتي من بعضهم. فيشكل- مضافا إلي عدم كون ذلك مفاد الموثقين، كما يأتي- بأنه لا إشعار في المضمر و الموثق بالتفريق بين الأشهر، بل يقوي ظهورها في بيان الوظيفة في كل شهر.

و حملهما علي مجرد بيان حال وظيفتها من حيثية القلة و الكثرة من دون شرح لها.

كالمقطوع بعدمه، لأن العدول عن بيان المسئول عنه مع مسيس الحاجة إليه إلي بيان ما لا ينفع في مقام العمل بعيد عن الطريقة العرفية في البيان، فكيف يقدم علي ما عرفت في وجه الجمع الراجع لصلوح جميع النصوص لأن يترتب عليها العمل و إن لم يكن

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 370

______________________________

بنحو الإلزام.

و مثله دعوي: أن دلالة المضمر و الموثق علي التخيير بين المراتب بالإطلاق فيكون محكوما للمرسلة و موثقي ابن بكير الدالة علي تعيين المقادير التي تضمنتها.

لاندفاعها بأن حمل إطلاق المضمر و الموثق علي خصوص المقادير المذكورة في المرسلة و الموثقين موجب لاستهجانه، و ليس هو كحمل تلك المقادير علي كونها من أطراف التخيير أو أفضلها. و لا سيما مع لزوم حمل كل منها علي التخيير في الجملة و لو للجمع بين المرسلة و الموثقين. فلاحظ.

و لعله لذا قال في الفقيه: «و إن كن نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة أيام» و في كشف اللثام: «و عن السيد أن المبتدأة تتحيض في كل شهر بثلاثة إلي عشرة».

كما يظهر القول بذلك من الكليني، حيث اقتصر في باب أول ما تحيض المرأة من النصوص الواردة في مستمرة الدم علي مضمر سماعة، و إن ذكر مرسلة يونس الطويلة في باب مستقل بعد ذلك، و لم يعرف القول بذلك عن غيرهم علي كثرة أقوال الأصحاب و انتشارها.

و من هنا قد يوهن الحديثان بظهور إعراض المشهور عنهما. لكن لا طريق لإحراز الإعراض الموهن بعد عمل من ذكرنا من الأعيان، و بعد ظهور اضطراب أقوال الأصحاب في هذه المسألة جدا، و ابتناء كثير منها علي إهمال بعض نصوص المقام و فهم غير ما هو الظاهر من بعضها، كما يأتي، حيث يقرب ابتناء إعراضهم عن مفاد الحديثين المتقدم علي فهمهم منهما غير ما سبق منا، كما قد يظهر من الخلاف و الاستبصار، أو تخيل استحكام التعارض بينهما و بين بقية نصوص المقام، أو أقربية الجمع بينهما و بينها بتنزيلهما عليها بالوجه السابق، دون العكس بالوجه الذي ذكرناه، و مثل هذا الإعراض لا يكون موهنا للنصوص.

نعم، لا بد من كون مبدأ التخيير الدور الثاني، أما الدور الأول فيتعين فيه التحيض للعشرة، للاستصحاب، و لما تضمن لزوم التحيض بها في أول الدم مما تقدم

ص: 371

______________________________

في التنبيه الثالث من مبحث الرجوع للتمييز، لأن المقامين من باب واحد، و لموثقي ابن بكير الظاهرين في خصوصية الدور الأول في ذلك، كما يأتي.

و لا سيما مع قصور ما تضمن التخيير بين الثلاثة إلي العشرة عن الدور الأول، لورود مضمر سماعة فيمن يستمر بها الدم ثلاثة أشهر و ورود موثق الخزاز في المستحاضة، و هي لا تصدق علي مستمرة الدم إلا بعد مضي أيام الحيض و مقتضي الاستصحاب و النصوص المتقدمة كونها حائضا إلي العشرة. و كذا الحال في مرسلة يونس المتضمنة للتحيض بالستة أو السبعة.

و من ثم كان اللازم التحيض في الدور الأول إلي العشرة علي جميع الأقوال الآتية.

و منه يظهر أنه لا مجال لما يظهر منهم و صرح به في الدروس من أن وجوب التحيض في أول الدم إلي العشرة ظاهري، لاحتمال انقطاعه عليها، فإذا استمر الدم بعدها وجب الرجوع فيما سبق إلي الوظائف المقررة من العادة أو التمييز أو اقراء النساء أو التحيض بالعدد. لأنه موقوف علي تمامية إطلاق أدلة الوظائف المذكورة بنحو يشمل أول الدم، و قد عرفت المنع عنه هنا، كما سبق في بقية الوظائف.

علي أن ظاهر مضمر سماعة و موثق الخزاز و مرسلة يونس بيان الوظائف الفعلية التي يعمل عليها حين خروج الدم، لا الواقعية التي ينكشف لزوم العمل عليها من أول الأمر، كما سبق نظيره في بعض الوظائف المتقدمة. فراجع ما سبق فيها فإن له نفعا في المقام. فلا مخرج عما ذكرنا.

و حيث ظهر ما ينبغي العمل عليه فالمناسب النظر في بقية الأقوال علي تداخلها و اضطرابها.
الأول: التخيير بين التحيض في كل شهر بستة أيام أو سبعة و التحيض في شهر عشرة أيام و في آخر بثلاثة،

و لعله المعروف بين الأصحاب، و عن شرح المفاتيح أنه المشهور.

و هو يبتني علي العمل بمرسلة يونس و موثقي ابن بكير مع تنزيلهما علي التحيض بالعشرة و الثلاثة علي التعاقب بنحو الاستمرار. بدعوي: أن المرسلة

ص: 372

______________________________

و الموثقين و إن كانت ظاهرة في تعيين ما تضمنته، إلا أنه لا بد من البناء علي التخيير بينهما إما لأنه مقتضي الوظيفة في المتعارضين، كما يظهر من المبسوط، أو للجمع به عرفا بين النصوص في المقام، كما قد يظهر من الخلاف و صرح به في الجواهر.

و فيه: أولا: أنه لم يثبت كون الوظيفة في المتعارضين التخيير، بل العمل علي أصالة التساقط، كما لم يتضح كون الجمع به في المقام عرفيا، مع ظهور كل منهما في التعيين و عدم الجامع الارتكازي بين الطرفين.

و مجرد تقاربهما في قدر التحيض في مجموع الشهرين- بناء علي ما فهموه من الموثقين- لا يوجب تقارب مضمونيهما، لتعلق الغرض بمقدار التحيض في كل شهر شهر. فما في النهاية و التذكرة من أن الروايتين متقاربتان، غير ظاهر. و من هنا كان الظاهر أن الجمع المذكور تبرعي بلا شاهد.

و هو لا ينافي ما سبق منا من تنزيلها علي بيان أحد الأفراد أو أفضلها، لأن ذلك إنما كان بضميمة مضمر سماعة و موثق الخزاز الصالحين عرفا لأن يكونا شاهد جمع في المقام. و مقتضاهما التخيير بين تمام المراتب من الثلاثة إلي العشرة، لا خصوص ما تضمنه الموثقان و المرسلة.

و ثانيا: أنه لا اشعار في موثقي ابن بكير بكون التحيض بالعشرة و الثلاثة علي التعاقب بنحو الاستمرار مع مسيس الحاجة إلي التنبيه إلي ذلك و تأكيده، لمخالفته للمتعارف في مزاج المرأة من تقارب حيضها في الشهور، بل ظاهرهما- كما ذكره غير واحد- اختصاص التحيض بالعشرة بأول الدم مع الاستمرار علي التحيض بالثلاثة بعد ذلك، كما هو مقتضي إطلاق الذيل فيهما، و لا سيما الثاني المصرح فيه بالتحيض بالثلاثة مع دوام الحيض بعد بيان التحيض بها في المرة الثانية.

و لا وجه مع ذلك لما في الجواهر من حمل ذكر العشرة في الدور الأول علي المثال. و مثله ما ذكره من إمكان استفادة ذلك من مضمر سماعة و موثق الخزاز، لما سبق من قوة ظهورهما في خلافه.

ص: 373

______________________________

و كذا ما ذكره هو و غيره من عدم القول بالفرق بين الدور الأول و غيره، فإنه- لو تم في نفسه، و غض النظر عن عدم التعويل عليه ما لم يرجع إلي القول بعدم الفرق- إنما ينفع لو كان الموثقان ساكتين عن حكم بقية الأدوار، أما حيث كانا دالين علي الفرق بينها كان لازمه إهمالهما، لا الاستدلال بهما علي خلاف ظاهرهما.

و ثالثا: أن الدليل في المقام لا ينحصر بالمرسلة و الموثقين، بل سبق الاستدلال بمضمر سماعة و موثق الخزاز، و أن مقتضي الجمع العرفي تنزيل بقية النصوص عليهما دون العكس.

ثم إن جملة منهم خيروا في الشق الأول بين الستة و السبعة، كما في الخلاف و النافع و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و محكي نهاية الأحكام و البيان و اللمعة و فوائد الشرائع و الجعفرية و شرحها.

و كأنه لما تضمنته مرسلة يونس من اشتمال سنة النبي صلّي اللّه عليه و آله في قصة حمنة علي التخيير المذكور.

لكن قد يستشكل فيه بأنه لا يناسب اقتصار الإمام عليه السّلام في بقية الفقرات علي السبعة، و لا سيما الأخيرة المتضمنة للتشبيه بقصة حمنة.

و أما قوله عليه السّلام: «أقصي وقتها سبع و أقصي طهرها ثلاث و عشرون» فهو لا يدل علي عدم الاختصاص بالسبعة و وجود مرتبة دونها، لأنه لا يناسب كون الثلاث و العشرين أقصي طهرها، فلا بد من كونه مسوقا لبيان مقدار الحيض و الطهر لا بيان أكثرهما.

و من هنا احتمل بعضهم كون ذكر الستة و هما من الراوي. و لعله لذا اقتصر علي السبعة في المبسوط و الاقتصاد و النهاية و الوسيلة و الشرائع و القواعد و الإرشاد و محكي الجمل و العقود و المهذب و الإصباح و التبصرة، و في كشف اللثام نسبته للأكثر.

اللهم إلا أن يقال: احتمال كون ذكر الستة و هما من الراوي بعيد جدا بلحاظ ذكر ما يناسبه من الطهر. و كذا شكه و تردده فيما قاله الإمام عليه السّلام لا يناسب اقتصاره

ص: 374

______________________________

علي السبع في بقية الفقرات.

بل الأقرب كون اقتصار الإمام عليه السّلام علي السبعة لأنها أحد طرفي التخيير أو أفضلهما، و لا سيما مع ظهور اضطراب الفقرة المتقدمة، لأن التعبير بالأقصي لتحديد المقدار غير مألوف.

نعم، الإنصاف عدم خلو الحديث عن الإشكال، و الاحتياط بالاقتصار علي السبعة.

كما أنهم اختلفوا في الشق الثاني بين من صرح بجواز تقديم كل من العشرة و الثلاثة- كما في الروض و الروضة- و من أطلق- كما في الشرائع و النافع و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و جامع المقاصد و محكي نهاية الأحكام و التبصرة و البيان و فوائد الشرائع و الجعفرية و شرحها- و من صرح بتقديم الثلاثة- كما في الخلاف و المبسوط- و من صرح بتقديم العشرة- كما في الاقتصاد و النهاية و الوسيلة و عن الجمل و العقود و المهذب و الإصباح- و هو المناسب للموثقين بناء علي دلالتهما علي استمرار التعاقب، كما لا يخفي.

بل لا إشكال ظاهرا نصا و فتوي في وجوب التحيض في أول الدم بالعشرة إما واقعا- كما ذكرنا- أو ظاهرا لاحتمال انقطاع الدم عليها- كما يظهر منهم- فالتحيض معه في الشهر الثاني بالعشرة أيضا بعيد جدا. و من ثم قد ينزل كلام من أطلق علي لزوم البدء بالعشرة. فلاحظ.

الثاني: وجوب الاقتصار علي الستة و السبعة

و جعله في التذكرة الأشهر.

و كأنه لمرسلة يونس مع طرح بقية النصوص، أما موثقا ابن بكير فلما في المنتهي من أن ابن بكير فطحي، و لم يسند الثاني إلي إمام، أو لما في الرياض من ظهورهما- كما تقدم- في التحيض بالعشرة في الشهر الأول فقط ثم بالثلاثة لا غير و لم يعرف القول بذلك إلا عن الاسكافي مع انه حكي عنه القول بالتحيض بالثلاثة لا غير. فهما شاذان لا تكافئان المرسلة. و علي تقدير التكافؤ فالجمع بالتخيير بلا شاهد.

ص: 375

______________________________

و أما مضمر سماعة و موثق الخزاز فلما في الرياض أيضا. قال: «و في التمسك بهما مع أعمية الثاني في مقابل المرسل المتقدم المعتضد بالشهرة و الإجماع المحكي إشكال.

و إن تأيد باختلاف الأخبار في التحديد».

لكن فطحية ابن بكير لا تقدح في روايته بعد نصهم علي وثاقته، بل هو من أصحاب الإجماع و لا سيما مع ظهور اعتماد الأصحاب عليها، فقد ادعي في الخلاف الاتفاق عليها في المقام.

كما لا يقدح عدم اسناد الثاني للإمام بعد ظهور حاله و حال الأصحاب في كونه رواية عنه. و ظهور الموثقين فيما ذكره و إن تم إلا أن عدم القول به- لو تم- لا يوجب شذوذهما بعد قرب حملهما علي التخيير بالنحو الذي يقتضيه مضمر سماعة و موثق الخزاز اللذان يمكن تنزيل المرسلة عليهما أيضا، و لا يستحكم التعارض بينها و بينهما، لينظر في الترجيح.

نعم، لو بني علي التخيير بين خصوص مفاد الموثقين و المرسلة أشكل بما ذكره من عدم الشاهد، نظير ما تقدم منا.

ثم إنهم اختلفوا بين من اقتصر علي الستة- كما حكاه في السرائر و المنتهي قولا و حكي عن الموجز الحاوي في غير الدور الأول، حيث تتحيض فيه بعشرة- و من اقتصر علي السبعة- كما في الرياض و المستند و قد يحمل عليه ما في النهاية و حكاه في السرائر و المنتهي قولا، و حكي عن التلخيص و مجمع الفائدة و البرهان و شرح المفاتيح و السيد الطباطبائي- و من ردد بين الأمرين- كما في التذكرة و المنتهي و محكي التحرير- علي تفصيل يأتي.

و كأن وجه الأول: أن اضطراب المرسلة، إما لما سبق من التدافع بين صدرها و ذيلها، أو لما يأتي من دعوي امتناع التخيير بين الأقل و الأكثر في المقام ملزم بالاقتصار علي الأقل، لأنه المتيقن.

لكن التدافع بين صدرها و ذيلها ليس بنحو يوجب الشك في السبعة، بل في

ص: 376

______________________________

الستة، كما سبق و التخيير بين الأقل و الأكثر غير ممتنع، كما يأتي.

و لو تم فكون الستة متيقنة لا يقتضي الاقتصار عليها بل الاحتياط في اليوم السابع بعد عدم الرجوع فيه لاستصحاب الحيض، لعدم إحرازه سابقا لا وجدانا و لا تعبدا، لظهور المرسلة في كون التحيض بالعدد محض تعبد بأحكام الحائض من إحراز الحيض، و لا لاستصحاب عدمه، لعدم اليقين به إلا قبل زمان التحيض بالعدد، و حيث يمتنع التعبد به حال التحيض بالعدد، لمنافاته له، يمتنع بعده، لابتناء الاستصحاب علي التعبد باستمرار المتيقن، لا بوجوده في الزمان اللاحق و إن كان منفصلا عن زمان اليقين، و بنحو الطفرة.

اللهم إلا أن يقال: ظهور أدلة التحيض بالعدد في محض التعبد بأحكام الحائض من دون إحراز الحيض لعله بلحاظ عدم قيام الأمارة علي تعيين الحيض الواقعي به، نظير ما تقدم في الاستظهار في التنبيه الرابع من تنبيهات الكلام في وجوبه، فلا ينافي إحراز حيضية الثلاثة أيام لأنها أقل الحيض بضميمة أصالة كون الحيض في كل شهر مرة التي يظهر من هذه النصوص الجري عليها، و حيضية ما زاد عليها بالاستصحاب، ما لم يصل إلي عدد لا يجوز تجاوزه. و لازم ذلك التحيض بالسبعة لو فرض التردد بينها و بين الستة، كما تقدم. إلا أن يتم ظهور المرسلة في الترديد بينهما، فيتعين العمل عليه.

نعم، صرح في المعتبر و غيره من أهل القول الأول بأن الترديد بين الستة و السبعة راجع للتخيير بينهما. عملا بظاهر دليله.

و صرح في المنتهي بامتناع التخيير في اليوم السابع بين وجوب الصلاة و عدمه، إذ لا تخيير في الواجب، فلا بد من تنزيل الدليل علي الرد إلي اجتهاد المرأة فيما يغلب علي ظنها أنه أقرب إلي عادتها أو عادة نسائها أو ما يكون أشبه بلونه، و نحوه عن نهاية الأحكام، و ظاهر التذكرة التردد بين الوجهين.

و قد حاول في المعتبر و غيره دفع محذور التخيير في الواجب بثبوت التخيير بين القصر و التمام في بعض الموارد. و بأن التخيير إنما هو البناء علي أحد الأمرين من

ص: 377

______________________________

الحيض و عدمه فيثبت حكمه تبعا لذلك لا التخيير في نفس الحكم ابتداء.

و كلاهما كما تري، لأن التخيير بين القصر و التمام تخيير في أطراف الواجب، للتباين بين القصر و التمام، لا في أصله، كما في المقام. كما أنه لا إشعار في النص بتوقف حكم الحيض و عدمه علي البناء علي أحد الأمرين في مرتبة سابقة.

فالأولي في دفع المحذور المذكور أن يقال: إنه قد يتم لو كان التخيير واقعيا، لا في مثل المقام مما يكون التخيير فيه طريقيا لرجاء تحصيل الواقع الذي لا تخيير فيه، إذ لا محذور في التخيير في مراعاة أحد الاحتمالين، كما تقدم نظيره عند الكلام في مقدار الاستظهار.

علي أن الحمل علي الرد إلي اجتهاد المرأة بعيد جدا عن ظاهر النص، و عن حال المبتدأة التي لم تسبق بشي ء يوجب لها الظن بالحال. و كذا عن حال الدم المفروض في النص كونه بلون واحد.

نعم، قد لا يبعد عن حال أقراء نسائها، إلا أن المناسب له اختيار ما هو الأقرب إليهن و إن كان أقل من الستة أو أكثر من السبعة، فاقتصار النص علي العددين لا يناسب النظر إليهن جدا.

الثالث: الاقتصار علي التحيض بعشرة في شهر و ثلاثة في آخر،

إما مع تقديم العشرة- كما حكاه في السرائر و المنتهي قولا، و يظهر من الاستبصار- أو مع تقديم الثلاثة- كما حكاه فيهما أيضا قولا، و في مفتاح الكرامة أنه المنقول عن القاضي- و يبتني علي العمل بموثقي ابن بكير بعد تنزيلهما علي استمرار التعاقب بين الثلاثة و العشرة، و إهمال مضامين بقية النصوص.

و لعله لما في الاستبصار من تنزيل مضمر سماعة علي التحيض بالأكثر في شهر و بالأقل في آخر- و هو يجري في موثق الخزاز- و تنزيل مرسلة يونس علي ما يصيب كل شهر تقريبا علي تقدير العمل بما تضمنه الموثقان. أو لطرح النصوص المذكورة، لضعف سندها، لما أشرنا إليه آنفا في المضمر و الموثق.

ص: 378

______________________________

و أما المرسلة فللإرسال أو لما ذكره في المعتبر من أن راويها عن يونس محمد بن عيسي، و قد حكي الصدوق عن ابن الوليد أنه لا يعمل بما ينفرد به محمد بن عيسي عن يونس.

لكن سبق أن الموثقين لا يدلان علي استمرار التعاقب بين الثلاثة و العشرة، و أن تنزيل المضمر و الموثق علي ذلك بعيد جدا. و أضعف منه تنزيل المرسلة عليه، حيث لا يناسب ورودها لبيان الوظيفة التي يعمل عليها، بل هو خلاف المقطوع به منها.

كما تقدم حجية المضمر و الموثق و مراسيل يونس، خصوصا هذه المرسلة التي رواها عن غير واحد، و عمل بها الأصحاب، بل ادعي في الخلاف الإجماع عليها.

و استثناء ابن الوليد ما ينفرد به محمد بن عيسي عن يونس قد عقب عليه النجاشي بقوله: «رأيت أصحابنا ينكرون هذا القول و يقولون:

من مثل أبي جعفر محمد بن عيسي … قال أبو عمرو: قال القتيبي: كان الفضل ابن شاذان رحمه اللّه يحب العبيدي و يثني عليه و يمدحه و يميل إليه و يقول:

ليس في أقرانه مثله. و بحسبك هذا الثناء من الفضل».

و ملاحظة مجموع ما ورد في ترجمة الرجل تشهد برفعة مقامه، كما صرح به النجاشي و غيره. و لا مجال لإطالة الكلام في ذلك.

الرابع: التحيض في كل شهر ثلاثة أيام،

كما حكي في التذكرة و المنتهي و محكي السرائر قولا، و حكاه في المدارك عن ابن الجنيد، و في المعتبر أنه الوجه، و قواه في المدارك و محكي المفاتيح.

لكن حكي عنهما استثناء الدور الأول للمبتدئة فتتحيض فيه بعشرة. و لعله مراد الكل، لما سبق من ظهور النصوص و الفتاوي في التحيض بها في أول الدم، و لو لاحتمال عدم تجاوز الدم عنها، و هو الذي حكاه غير واحد عن ابن الجنيد. فيناسب موثقي ابن بكير، بناء علي ما سبق من ظهورهما في ذلك، و يبتني علي مضامين بقية النصوص، لضعفها أو لتنزيلها علي ذلك، علي ما تقدم منشؤه و دفعه.

بل استشكل في المعتبر في الموثقين أيضا بأن ابن بكير فطحي، و إنما يقتصر

ص: 379

______________________________

علي الثلاثة لأنها المتيقن. لكن سبق في مناقشة القول الثاني أن اليقين بجواز التحيض بمقدار خاص لا يقتضي الاقتصار عليه، بل مقتضي الأصل الاحتياط في الزائد ما لم يكن محكوما للأدلة، و قد عرفت مفادها.

الخامس: التخيير بين السبعة و الثلاثة،

كما عن الجامع، عملا بالرواية و اليقين.

و كان الأولي له إبدال اليقين بموثقي ابن بكير بعد استثناء الدور الأول، كما يظهر مما سبق.

و أضعف منه ما قد يظهر من المعتبر من توجيه السبعة- بعد تضعيف المرسلة- بأنها الغالب في حيض النساء. لوضوح عدم حجية الغلبة. و كيف كان، فيظهر ضعف هذا القول مما تقدم.

السادس: أنها تعد عشرة حيضا و عشرة طهرا حتي تنعقد لها عادة،

كما عد قولا لبعض أصحابنا في السرائر و المنتهي، و نسب في كلام غير واحد للغنية. و قد تقدم التشكيك في قوله بذلك في التنبيه الأول من مبحث الرجوع للتمييز.

و لو تم فظاهر كلامه إهمال جميع وظائف المستحاضة غير العادة و انحصر دليله بقاعدة الإمكان، لكن سبق قصورها عن الدم المستمر، مع أنها محكومة لنصوص المقام و غيرها من نصوص وظائف المستحاضة.

السابع: التحيض بعشرة في كل شهر،

كما حكي قولا في المعتبر و التذكرة و المنتهي، مستدلا عليه في الأول بقاعدة الإمكان. لكن مقتضاها القول السابق، مع ما سبق من قصورها عن الدم المستمر.

كما لا مجال للاستدلال عليه بالاستصح اب بعد العلم بوجوب التحيض في الجملة بالنظر للنصوص المختلفة و كلمات الأصحاب. لما سبق في القول الثاني من المنع من جريانه بلحاظ التحيض التعبدي، لعدم سبق اليقين بالحيض معه. إلا أن يكون المراد به أن أكثر ما يجوز التحيض به العشرة، و إن جاز التحيض بما دونها، كما قد يناسبه نسبته للصدوق و السيد (قدس سرهما) في كلام بعضهم، فيرجع إلي المختار الذي سبق الاستدلال عليه.

هذا و قد عدّ في مفتاح الكرامة من أقوال المقام أنها تدع الصوم و الصلاة كلما

ص: 380

______________________________

رأت الدم و تفعلهما كلما رأت الطهر. لكنه خارج عن محل الكلام الذي هو فرض استمرار الدم، و إنما يتجه مع تقطعه الذي يأتي الكلام فيه بعد ذلك إن شاء اللّه تعالي.

بقي شي ء: و هو أنه قال في التذكرة: «إذا رددناها إلي الأقل فالثلاثة حيض بيقين، و ما زاد علي العشرة طهر بيقين، و ما بينهما هل هو طهر بيقين أو مشكوك فيه يستعمل فيه الاحتياط؟ للشافعية قولان … و إن رددناه [رددناها. ظ] إلي الست و السبع فالأقل حيض بيقين، و الزائد علي الأكثر طهر بيقين، و ما زاد علي الأقل إلي الست و السبع هل هو حيض بيقين أو مشكوك فيه؟ للشافعي قولان … و فيما زاد علي الست و السبع إلي العاشر قولان. و كلا القولين في التقادير عندي محتمل».

بل قال في المنتهي في حكم الناسية: «لو اتفق لها ذلك في رمضان قضت صوم عشرة احتياطا. و كذا المبتدأة و المضطربة، قاله علماؤنا. و الأقرب عندي أنها تقضي أحد عشر يوما».

و كأن ما ذكره أخيرا يبتني علي احتمال ابتداء الحيض في أثناء النهار، فلا تتم العشرة إلا في اليوم الحادي عشر.

لكن لا يخفي أن التحيض بمقدار خاص حيث كان من جهة النص الذي تضمنه- كما جري عليه هو «قدس سره» - فالمتعين إجراء أحكام الحيض لا غير في تمام المقدار الذي تضمنه و أحكام الطهر لا غير فيما زاد عليه، لظهورها في تحديد التحيض و الاقتصار فيه علي القدر الخاص تعبدا، بل هو صريح أكثرها، فإيجاب الاحتياط مع ذلك إلغاء للعمل بالنصوص في الحقيقة.

و ما يظهر منه من الإجماع علي ذلك في الصوم لم أعثر علي مصرح به و لا يناسب كلماتهم في المقام. فلا مجال للخروج به عن ظاهر الأدلة. إلا أن يريد بيان كيفية الاحتياط و إن لم يكن لازما، فلا إشكال عليه. لكنه خلاف ظاهر كلامه.

نعم، لو كان أصل التحيض معلوما من جهة النصوص دون مقداره لاختلافها فيه اتجه وجوب الاحتياط فيما زاد علي المتيقن، لما سبق في القول الثاني من عدم جريان

ص: 381

و إن كانت السبعة أحوط و أفضل (1)،

______________________________

استصحاب الحيض و لا عدمه حينئذ. و قد تقدم في المسألة الثانية الكلام في وجه وجوب الاحتياط في مثل ذلك و في كيفيته. هذا و يأتي من المنتهي في الفرع الثالث عشر من فروع كفارة وطء الحائض ما يناسب ذلك.

(1) أما كونها أفضل فلعله للتعبير في المرسلة بالسنة الذي هو أظهر في خصوصيتها في الرجحان من مجرد الأمر بالثلاثة في موثقي ابن بكير. بل قد يحمل الأمر فيهما علي محض الترخيص لبيان أدني المراتب السائغة، حيث لا يبعد كونه أقرب عرفا من الحمل علي الاستحباب التخييري، فلا تكون الثلاثة مستحبة أصلا.

كما أنه لو تم اشتمال المرسلة في بيان السنة علي التخيير بين الستة و السبعة فلا يبعد ظهور اقتصار الإمام عليه السّلام في بقية الفقرات علي السبعة في أفضليتها من الستة.

و أما كونها أحوط من بقية المراتب فلاحتمال عدم حجية مضمر سماعة و موثق الخزاز، لضعفهما أو الإعراض عنهما، أو إجمالهما أو تنزيلهما علي ما يناسب غيرهما علي ما سبق. فلا يبقي إلا المرسلة و موثقا ابن بكير. و مما سبق في المرسلة يتضح وجه كون السبعة أحوط من الستة.

نعم، لم يتضح وجه كونها أحوط من الثلاثة، لأنه إن فرض استحكام التعارض بين المرسلة و الموثقين لزم التساقط فيفتقر كل منهما للدليل، أو التخيير من دون وجه لأولوية السبعة، و كذا لو جمع بينها و بينهما بالتخيير.

اللهم إلا أن يدعي رجحان المرسلة بالشهرة، لرواية يونس لها عن غير واحد.

و إن كان لا يخلو عن إشكال. فتأمل.

و مما سبق يظهر كون السبعة أفضل علي جميع الأقوال المتضمنة كونها طرفا للتخيير. لكن في المسالك و الروضة أن الأفضل لها اختيار ما يوافق مزاجها، فتأخذ ذات المزاج الحار السبعة و البارد الستة و المتوسط الثلاثة و العشرة. و لا يخفي عدم نهوض

ص: 382

______________________________

ذلك بإثبات الأفضلية شرعا، لا علي القول المذكور و لا علي بقية الأقوال المتضمنة للتخيير في الجملة، فضلا عن أن يخرج به عما ذكرناه من الوجه في أفضلية السبعة.

إلا أن يريد الأولوية بلحاظ الأقربية لإصابة الواقع، التي هي مرتبة من مراتب الاحتياط الحسن عقلا. علي أنه لا يتم في الثلاثة و العشرة، لما أشرنا إليه آنفا من مخالفته للمتعارف في مزاج المرأة من تقارب حيضها في الشهور.

بقي في المقام أمور..
الأول: صرح في جامع المقاصد و الروض و الروضة و المدارك و محكي الموجز بأن الأولي لها جعل العدد الذي تختاره في أول أيام الدم،

و إن لم يكن لازما، و نسبه في الحدائق لتصريح الأصحاب، كما صرح بعدم لزومه و أنها مخيرة في وضعه حيث شاءت من أيام الدم في المنتهي و المسالك و محكي المعتبر و الإصباح و التحرير و الجعفرية و شرحها، و هو ظاهر القواعد.

بل قد يظهر من المبسوط، حيث ذكر في الناسية لعدد عادتها و وقتها أنها تحتاط في تمام الدم. ثم قال: «و لا يمكن أن تطلق هذه علي مذهبنا، إلا علي ما روي أنها تترك الصوم و الصلاة في كل شهر سبعة أيام و تصوم و تصلي فيما بعد. و تكون مخيرة علي هذه الرواية في السبعة الأيام من أول الشهر و أوسطه و آخره».

لظهوره في أن مقتضي إطلاق الرواية التخيير، فيجري في المبتدأة و المضطربة و لا يختص بالناسية.

و لعله إليه يرجع ما في المنتهي من الاستدلال بعدم الرجيح في حقها، لأن عدم الترجيح إنما ينفع في التخيير مع الإطلاق.

و يشكل بأنه لا ريب في ظهور جملة من نصوص المقام و غيرها في لزوم التحيض بعشرة من أول الدم و لو ظاهرا لاحتمال انقطاع الدم عليها، كموثقي ابن بكير من نصوص المقام، و قوله عليه السّلام في موثق سماعة فيمن تري الدم أول حيضها فيختلف عليها في الأشهر: «فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت تري الدم ما لم يجز

ص: 383

______________________________

العشرة» «1»، و قوله عليه السّلام في مرسلة يونس القصيرة: «عدت من أول ما رأت الدم الأول و الثاني عشرة أيام ثم هي مستحاضة … » «2». كما أنه مقتضي قاعدة الإمكان بضميمة الاستصحاب. بل الظاهر عدم الإشكال في ذلك بينهم. و قد سبق منا بقاؤها علي ذلك و عدم عدولها عنه بظهور استمرار الدم، و أن وظائف المستحاضة تبدأ من الدور الثاني.

و أما لو فرض البناء علي ما هو ظاهرهم و صريح بعضهم من العدول عن ذلك بظهور استمرار الدم، لعموم دليل وظائف المستحاضة، و منها التحيض بالعدد، للدور الأول، المقدم علي عموم التحيض بالعشرة في أول الدم، و الملزم بحمله علي التحيض بها ظاهرا لاحتمال الانقطاع عليها، فحيث كان التنافي بين أدلة التحيض بالعدد و أدلة التحيض بالعشرة في أول الدم مختصا بمقدار التحيض، لزم الاقتصار عليه في الخروج عن أدلة التحيض بالعشرة في أول الدم، و إعمالها في الوقت، فليس لها أن تجعل العدد في غير العشرة الأولي.

كما يلزم جعله من أولها- لا من أثنائها بنحو ينتهي بها- لأنه أظهر عرفا في الجمع بين الدليلين. و لا أقل من كون حيضية الأول مقتضي قاعدة الإمكان، من دون أن تنافيها في ذلك أدلة التحيض بالعدد.

هذا في الدور الأول، و أما بقية الأدوار فإن قلنا بقصور نصوص التحيض بالعدد عن الدور الأول، و أن مبدأ إعمالها الدور الثاني فالمنصرف منها بقرينة ارتكاز أن الحيض في كل شهر مرة- كما تضمنته بعض النصوص «3» - أن مبدأ إعمالها بمضي شهر من رؤية الدم، بل هو صريح قوله عليه السّلام في موثق ابن بكير: «ثم تصلي عشرين يوما فإن استمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيام» «4» و في موثقة الآخر: «فمكثت تصلي بقية شهرها، ثم تترك الصلاة في المرة الثانية أقل ما تترك امرأة الصلاة» «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

(3) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب الحيض.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 384

______________________________

و إن قلنا بشمولها للدور الأول فالأمر أظهر، للتصريح في مرسلة يونس و الموثقين بأنها تصلي تمام الشهر ثم تتحيض.

و ما قد يظهر من المنتهي من حمله علي ما يعم الصلاة في طرفي الشهر أو في أوله.

بعيد جدا بل لا يناسب العطف بالفاء و «ثم» في بعض الفقرات.

و منه يظهر الحال في بقية الأدوار، و أن مبدأ التحيض في كل مرة بمضي شهر من مبدأ التحيض في سابقتها.

و لبعض ما ذكرنا قرّب لزوم جعل العدد في أول الشهر في التذكرة و كشف اللثام، بل قد يكون هو المنصرف ممن أطلق، لما ذكرناه في وجه انصراف النصوص.

هذا و في العروة الوثقي: «الأحوط أن تختار العدد في أول رؤية الدم، إلا إذا كان مرجح لغيره» و لم يتضح مراده بالمرجح لغير الأول. بل مقتضي ما ذكرنا عدمه، كما أنه مقتضي إطلاق التخيير لو تم. إلا أن يريد تجدد التمييز، حيث لا إشكال في الرجوع إليه، لما دل علي تقدمه علي التحيض بالعدد. لكنه خارج عن محل الكلام من التحيض بالعدد. و كذا تجدد عادة الأقارب، بناء علي الرجوع إليها في الوقت.

و أظهر منه الاطلاع عليها مع سبق انعقادها و الجهل بها، حيث قد يدعي لزوم تدارك التحيض السابق لو كان علي خلافها، عملا بإطلاق دليلها، و إن كان لا يخلو عن إشكال. فتأمل.

ثم إنه بناء علي التخيير فقد صرح في جامع المقاصد و الروض باختصاصه بالشهر الأول، فتجري في بقية الشهور علي ما يناسبه، مع اعترافه في الأول بإطلاق كلام الأصحاب. و قد علل فيهما ببعد اختلاف زمان الحيض، و لأن ذلك بمنزلة العادة.

لكن في الروض: «مع احتمال بقاء التخيير للعموم، لأن العادة تتقدم و تتأخر».

و فيه: أن احتمال تقدم العادة و تأخرها لا يعتد به في مستمرة الدم. فالأولي الجواب بعدم الدليل علي كون التحيض بالعدد بمنزلة العادة، و عدم كفاية استبعاد التقدم و التأخر- لو تم- في الخروج عن عموم التخيير.

ص: 385

______________________________

نعم، الظاهر عدم تمامية عموم التخيير، لأن النصوص لو كانت قاصرة عن تعيين أول الدم فهي صريحة في لزوم التطابق بين الشهور، للتنصيص فيها علي مقدار الصلاة في كل شهر بعد التحيض، كما سبق.

كما أنه صرح غير واحد ممن ذهب للتخيير بأنه لا اعتراض للزوج في ذلك.

و الوجه فيه: ظهور الأدلة في كون الاختيار لها، و قصور أدلة وجوب تمكين الزوج من الوطء عن إلزامها باختيار ما يوافقه، لاختصاصها بغير حال الحيض، فيكون اختيارها رافعا لموضوع الوجوب المذكور تعبدا، كما لعله ظاهر.

فما ذكره في العروة الوثقي من وجوب إطاعة الزوج، في غير محله كاستدلال سيدنا المصنف قدّس سرّه له بعموم وجوب إطاعته. و منه يظهر أنه لا اعتراض له علي اختيارها في مقدار التحيض.

الثاني: بناء علي التخيير لها في مقدار التحيض

بالنحو الذي ذكرناه أو غيره فقد صرح في جامع المقاصد و الروض و المسالك بأن التخيير ابتدائي، فإذا اختارت عددا جرت عليه في بقية الشهور. مستدلا عليه في الأول بنظير ما تقدم منه في وجه كون التخيير في الوقت ابتدائيا، من بعد اختلاف مرات الحيض عددا، و أن ذلك قائم مقام العادة للمعتادة.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 4، ص: 386

و يظهر الإشكال فيه مما سبق. فلا مخرج عن إطلاق أدلة التخيير الظاهر في الاستمرار عليه. و هو مقتضي إطلاق كلام الأصحاب، كما اعترف به قدّس سرّه.

نعم، بناء علي التخيير بين الستة أو السبعة و الثلاثة في شهر و عشرة في آخر لو اختارت الشق الثاني لزمها الجري عليه في شهرين، و لا يجوز لها أخذ الثلاثة أو العشرة في شهر و الستة أو السبعة في الثاني، لخروجه عن أطراف التخيير المنصوصة، كما لعله ظاهر.

الثالث: لا يبعد كون الشهر الحيضي لمستمرة الدم هو الشهر الهلالي،

كما صرح به في الروض، و هو ينقص تارة و يتم أخري، لا الثلاثين يوما، لأن مقتضي الجمود علي

ص: 386

______________________________

عبارة النصوص المتضمنة لبيان مقدار التحيض و الصلاة و إن كان هو الثاني، إلا أن الأول هو الأنسب بوضع الحيض، حيث يقرب معه تنزيل النصوص المتضمنة للثلاثين علي الجري علي مقتضي الأصل في الشهر. و إن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

و لذا احتمل المحقق جمال الدين الخوانساري في حاشيته علي الروضة اعتبار الثلاثين. فتأمل جيدا.

الرابع: قال في الدروس بعد الحكم برجوع المبتدأة و المضطربة إلي التمييز ثم الروايات:

«و هل تستظهران إذا رجعتا إلي ذلك بما استظهرت به المعتادة؟ الظاهر:

نعم،» و في جامع المقاصد: «إذا لم ينقطع الدم علي العدد الذي تحيضتا به هل تستظهران كذات العادة بيوم أو يومين؟ الظاهر: نعم».

و لم أعثر عاجلا علي من وافقهما في ذلك. كما لم يتضح الوجه فيه عدا إطلاق بعض نصوص الاستظهار، ففي صحيح البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «سألته عن الحائض كم تستظهر؟ فقال: تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة» «1» و في خبر زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: المستحاضة تستظهر بيوم أو يومين» «2».

و يشكل الأول- مضافا إلي أن ظاهر الحائض فيه من يحرز حيضها دون من تتحيض تعبدا، كما في المقام- بأنه وارد لبيان قدر الاستظهار مع المفروغية عن مشروعيته، فلا إطلاق له في أصل مشروعيته، لينفع فيما نحن فيه.

كما يشكل الثاني- مضافا إلي ضعف سنده- بأن تشريع الاستظهار لما لم يكن لبيان مقدار جلوس المستحاضة، بل لبيان مقدار احتياطها زائدا علي الجلوس اللازم عليها طبعا، فلا بد من أخذ أصل الجلوس اللازم عليها في موضوعه مفروغا عنه، و كما يمكن أن يكون الملحوظ مطلق الوظائف المشروعة لها في تمام المراتب يمكن أن يكون الملحوظ الجلوس في العادة المفروغ عن مشروعيته فيه.

و من هنا لا يبعد كونه واردا لبيان مقدار الاستظهار بعد المفروغية عن تشريعه،

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 14.

ص: 387

و أما إذا كانت مضطربة غير مستقرة العادة فالأحوط وجوبا لها الجمع بين الوظيفتين أعني الرجوع إلي عدد الأقارب (1)

______________________________

كالصحيح، لا لبيان تشريعه و مقداره معا. و لعله لذلك أهمل الأصحاب الكلام فيه لغير ذات العادة، بنحو قد يظهر في اختصاصه بها، و إن سبق تشريعه مع الجلوس بأقراء النساء للموثق. فلاحظ.

علي أنه لا يبعد انصراف إطلاق الاستظهار لو تم عما نحن فيه، لأنه لما كان عبارة عن الاستيثاق و الاحتياط في احتمال الحيض كان تشريعه مسانخا لتشريع التحيض بالعدد الذي سبق أنه لا يبتني علي إحرازه، و ليس كتشريع حجية العادة أو التمييز، فلا يحسن تشريعه معه، بل يكتفي عنه بتكثير أيام التحيض بالعدد.

و من ثم كان تحديد التحيض بالعدد ظاهرا جدا في عدم التحيض بما زاد عليه استظهارا، و ليس هو كتشريع الرجوع للعادة أو التمييز.

و لو فرض تمامية إطلاقه و شموله له لزم الخروج عنه بمرسلة يونس و موثقي ابن بكير المصرح فيها بأنها تصوم و تصلي بعد التحيض بالعدد المذكور فيها.

حكم المضطربة

(1) حيث كان تعينه ظاهر جماعة و صريح آخرين ممن يظهر منه أو صرح بعموم المبتدأة لمن اضطرب حيضها، الذي ادعي أنه المشهور، علي ما تقدم التعرض له عند الكلام في معني المبتدأة و المضطربة، خلافا لظاهر المعتبر و المنتهي و صريح المختلف و غيره من تحيضها مع عدم التمييز بالعدد.

و الوجه في الأول: إطلاق قوله عليه السّلام في موثق زرارة و محمد بن مسلم: «يجب للمستحاضة أن تنظر بعض نسائها فتقتدي بأقرائها، ثم تستظهر علي ذلك بيوم» «1»، الذي لا ينافي الاقتصار علي المبتدأة في مضمر سماعة، لعدم وروده بلسان الحصر.

بل قد يدعي أن قوله فيه: «و هي لا تعرف أيام أقرائها» مشعر بعلة الحكم، فيتعدي

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 388

و العدد الذي تختاره مما ذكر (1). و أما الناسية لعادتها وقتا و عددا فترجع

______________________________

منه للمضطربة. و إن كان الظاهر عدم صلوحه لذلك بعد وقوعه في كلام السائل.

و أما الاستدلال بإطلاق موثق أبي بصير الوارد في النفساء «1». فيظهر مما سبق في رجوع المبتدأة لعادة نسائها أنه لا مجال له. كما لا مجال للاستدلال ببعض الوجوه الاعتبارية المتقدمة هناك.

فالعمدة فيه إطلاق الموثق المتقدم، الذي تقدم هناك دفع بعض المناقشات في الاستدلال به.

نعم، قد يقرّب حمله علي المبتدأة بأن المضطربة حيث ثبت مخالفتها قبل أن تستحاض لنسائها، فلا مجال لرجوعها لهن عند استحاضتها و اشتباه الحال عليها.

لكن استشكل فيه في الجواهر بأنه مجرد اعتبار لا يصلح مدركا للأحكام الشرعية. مع أنه لا يتم فيما إذا وافقت نساءها في المرة الأولي و استمر بها الدم في الثانية، و أنه وارد في المبتدأة المستمرة الدم لو خالف مقتضي تمييزها عادة نسائها في الأدوار الأولي ثم فقدت التمييز. و ما ذكره متين جدا.

و ليس رجوع مستمرة الدم لأقراء نسائها مع مخالفتها لهن قبل استمراره إلا كرجوعها لعادتها مع سبق مخالفتها لها في بعض الشهور بنحو لا ينتقض حكم العادة.

و لا يتضح الوجه في توقف سيدنا المصنف قدّس سرّه مع ظهور كلامه في مستمسكه في اعتماده علي الموثق و استضعافه للمناقشات التي وجهت إليه.

ثم إن ما سبق من الفروع المتعلقة برجوع المبتدأة لعادة نسائها- و منها الاستظهار- جار في المضطربة، لأن بعض أدلتها و إن كان يخص المبتدأة إلا أن بعضها يعم المضطربة، كما يظهر بالتأمل فيها. فراجع.

(1) لأن بعض نصوص التحيض بالعدد و إن اختص بالمبتدئة و هو

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 10.

ص: 389

إلي التمييز (1)،

______________________________

مضمر سماعة و موثقا ابن بكير، إلا أن الباقي يعم غيرها من أقسام المستحاضة، و هو موثق الخزاز و مرسلة يونس، و الجمع بينهما بالتخيير المذكور، كما يظهر مما سبق.

و يأتي في الناسية تمام الكلام في ذلك لاشتراكهما في الأدلة، مع التعرض لكلمات الأصحاب، لتردد المضطربة في كلماتهم بين من لم تنعقد لها عادة و الناسية لعادتها.

فلاحظ.

هذا و لما كان العدد المذكور أعم من عادة الأقارب كان الأنسب التعبير عن كيفية الاحتياط بالترتيب بين عادة الأقارب و الرجوع للعدد، لا بالجمع بينهما.

نعم، لو لم نقل في التحيض بالعدد بالتخيير بين تمام المراتب من الثلاثة إلي العشرة، بل بوجه آخر كان بين الأمرين عموما من وجه و اتجه التعبير بالجمع.

حكم الناسية الرجوع للتمييز

(1) كما صرح به جمهور الأصحاب رضي اللّه عنهم، بل يظهر من جملة من كلماتهم المفروغية عنه، و ظاهر المنتهي و صريح المستند دعوي الإجماع عليه، بل في الثاني أن نقل الإجماع عليه متكرر، و نفي وجدان الخلاف فيه في الجواهر سوي ما يأتي من أبي الصلاح و الغنية و إن كان مقتضي إطلاق الدروس رجوع الناسية للعدد الخلاف في رجوعها للتمييز، لكنه في غير محله بعد وضوح دليل التمييز.

و من هنا لا يهم الكلام في دليله، بل في كيفية استفادته من الأدلة التي لا إشكال في دلالتها عليه في الجملة، لما يترتب علي ذلك من الثمرات في جملة من الفروع.

فاعلم أنه سبق أن عمومات الرجوع للتمييز مخصصة بغير ذات العادة، و منها الناسية فلا بد في رجوع الناسية للتمييز من دليل خاص.

و دعوي: أن دليل التخصيص لما كان هو عمومات الرجوع للعادة و هي تقصر عن الناسية، لتعذر رجوعها لعادتها لزم بقاؤها تحت عمومات التمييز.

مدفوعة بأن تعذر رجوع الناسية لعادتها لا يوجب خروجها عن عموماته رأسا و بقاءها تحت عمومات التمييز، بل هو تعذر طارئ لا ينافي حجية العادة ذاتا

ص: 390

______________________________

علي حيضية ما فيها واقعا و إن لم يمكن تعيينه عملا بعموم حجيتها، و لذا قد يلتزم بحجية العادة مع العلم بمقتضاها إجمالا و مع تذكرها بعد مضي وقتها علي خلاف مقتضي التمييز، مع وضوح أن حجيتها إجمالا أو بعد تذكرها فرع حجيتها علي مؤداها بما له من حدود واقعية من أول الأمر بلحاظ عموم حجيتها، لا لدليل خاص يقتضي أحد الأمرين أو كليهما.

و من هنا كان رجوع الناسية للتمييز بالنظر لعموم الأدلة غير خال عن الإشكال.

نعم، لو كان التمييز حجة علي تعيين العادة اتجه الرجوع إليه حينئذ مع نسيانها.

لكن من الظاهر أنه حجة علي تعيين الحيض ابتداء في مقابل العادة في حق من لا ترجع إليها.

و كذا الحال في التحيض بالعدد، فإن مفاده التعبد بحكم الحيض فيه، لا بأنه مقدار العادة، و يأتي في التحيض بالعدد ما ينفع في المقام.

فالعمدة في ذلك مرسلة يونس الطويلة، لظهور جملة من فقراتها في ذلك.

منها: ما يدل علي اختصاص الرجوع للعادة بما إذا كانت معلومة عددا و وقتا، كقوله عليه السّلام: «إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله سن في الحيض ثلاث سنن بيّن فيها كل مشكل لمن سمعها و فهمها حتي لا [لم] يدع لأحد مقالا فيه بالرأي.

أما إحدي السنن فالحائض التي لها أيام معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها ثم استحاضت و استمر بها الدم و هي في ذلك تعرف أيامها و مبلغ عددها، فإن امرأة … [استحاضت … ] فأتت أم سلمة … فسألت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عن ذلك فقال:

تدع الصلاة قدر أقرائها … هذه سنة النبي صلّي اللّه عليه و آله في التي تعرف أيام أقرائها لم تختلط عليها ألا تري أنه لم يسألها كم يوم هي … و إنما سن لها أياما معلومة ما كانت من قليل أو كثير بعد أن تعرفها … فهذه سنة التي تعرف أيام أقرائها … » إلي أن قال عليه السّلام:

«فجميع حالات المستحاضة تدور علي هذه السنن الثلاث لا تكاد أبدا تخلو من

ص: 391

______________________________

واحدة منهن، إن كانت لها أيام معلومة من قليل أو كثير فهي علي أيامها … » «1».

فإن التقييد بالعلم بالأيام و عدم اختلاطها و إن أمكن أن يكون طريقيا لاختصاص التمكن من العادة به مع كون الموضوع الواقعي مطلق العادة، كما هو الحال في كثير من موارد التقييد بالعلم، إلا أنه لا يناسب كثرة التأكيد عليه في الفقرات المتقدمة، و لا سيما مع ما تضمنه الحديث صدرا و ذيلا من انحصار السنن التي تعمل عليها المستحاضة و التي يرتفع بها كل مشكل بالثلاث حيث يوجب ذلك ظهور التقييد في كونه واقعيا، و أن العلم مأخوذ في موضوع حجية العادة شرعا، و إلا لزم كون السنة في الناسية التي أشير إليها في المرسلة بالتعرض للذاكرة غير عملية بالإضافة إليها، من دون أن تبين وظيفتها الثانوية التي تعمل عليها، و هو مما تأباه المرسلة جدا.

و حينئذ تصلح هذه الفقرات لتقييد إطلاقات الإرجاع للعادة بغير الناسية، و تبقي الناسية داخلة تحت عمومات الرجوع للتمييز.

و منها: الفقرات المتضمنة سنة الرجوع للتمييز، فإنها صريحة في جريانها في الناسية، علي ما تقدم التعرض له في الاستدلال بالمرسلة علي رجوع المضطربة للتمييز، حيث تصلح لتقييد عمومات الرجوع للعادة بالذاكرة.

هذا و مما تقدم في المباحث السابقة يظهر الوجه في تقدم التمييز علي الرجوع لأقراء النساء و العدد. و لا مجال معه لما عن أبي الصلاح من رجوع المضطربة لأقراء نسائها ثم التمييز ثم العدد، أما إذا كان مراده بالمضطربة من لم تستقر لها عادة فلما تقدم في حكم المرأة المذكورة، و أما إذا كان مراده بها الناسية فالأمر أظهر، لما يأتي من الإشكال في رجوعها لأقراء نسائها حتي مع فقد التمييز.

و مثله في الضعف ما عن الغنية من إطلاق أن غير ذات العادة تعد عشرة حيضا و عشرة طهرا، لمخالفته لأدلة جميع وظائف المستحاضة، و إن تقدم في التنبيه الأول من مبحث رجوع المبتدأة و المضطربة للتمييز التشكيك في النسبة المذكور. فراجع.

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 392

______________________________

ثم إنه بما ذكرنا يظهر أنه لا مجال للبناء علي حجية العادة إجمالا لو علم ببعض خصوصياتها من الوقت أو العدد، ككونها في النصف الأول من الشهر أو أكثر من خمسة، بنحو تمنع من الرجوع للتمييز إلا فيما لا ينافيها، لأن الفقرات المتقدمة من المرسلة كالصريحة في أن المراد بالعلم بوقت العادة و عددها العلم التفصيلي الذي يكتفي معه بها في مقام العمل و يستغني عن التمييز، لا ما يعم الإجمالي المقابل للجهل المطلق.

و دعوي: أن المرسلة و إن كانت قاصرة عن صورة العلم الإجمالي، إلا أنه يلزم التعدي لها، لإلغاء خصوصية العلم التفصيلي عرفا، بسبب عدم دخله في كاشفية العادة و طريقيتها التي هي المعيار في حجيتها ارتكازا.

مدفوعة بعدم وضوح كون المعيار في حجية العادة محض كاشفيتها. كيف و لم يتضح بناء العرف علي كاشفيتها في حق مستمرة الدم التي تخرج عن مقتضي الوضع الطبعي للنساء، بل إرجاع الشارع إليها بلحاظ كاشفيتها و صلوحها لرفع الإشكال و الحيرة الذي لا يتأتي مع العلم بها إجمالا، كما قد يناسبه التأكيد علي اعتبار العلم بالعادة. و لا سيما مع قوة ظهور المرسلة في تباين موارد السنن الثلاث و عدم تداخلها.

و الالتزام بعدم الرجوع لبقية السنن في تعين الحيض من بين أطراف العلم الإجمالي، بل يجب الاحتياط في تمامها لا يناسب قوة ظهور المرسلة في انحصار وظيفة المستحاضة بالسنن الثلاث و ارتفاع الإشكال عليها بها.

خصوصا مع ندرة النسيان المطلق للعادة و غلبة العلم ببعض خصوصياتها إجمالا، حيث يبعد معه حمل النسيان الذي حكم معه بالرجوع للتمييز علي خصوص النسيان المطلق. بل التأمل في الفقرات المتقدمة شاهد باختصاص حجية العادة بصورة العلم التفصيلي بنحو لا مجال لتنزيلها علي ما يعم الإجمالي.

و بالجملة: لا مانع من البناء علي ما هو ظاهر المرسلة من إلغاء الشارع حجية العادة مع العلم بها إجمالا في القدر المشترك بعد كون حجيتها تعبدية، كما لم يعتد بالقدر المشترك في أصل انعقاد العادة لو اختلف الشهران بالزيادة و النقيصة، و في التمييز لو

ص: 393

______________________________

اقتضي حيضية ما زاد علي العشرة، حيث سبق عدم حجيته في حصر الحيض في الواجد للصفة إجمالا، بل تكون المرأة فاقدة للتمييز و تنتقل للمرتبة اللاحقة و إن كانت مخالفة له، إلي غير ذلك مما يناسب المقام.

علي أن لازم البناء علي حجية العادة بنحو تمنع من الرجوع للتمييز المخالف لها في حق الناسية امتناع رجوعها للتمييز مع اختلاف مقتضاه باختلاف الشهور للعلم بمخالفته للعادة إجمالا، مع أنه خلاف صريح المرسلة. و يأتي في التحيض بالعدد ما ينفع في المقام.

كما ظهر أيضا مما تقدم أن الناسية لعادتها إن عملت بالتمييز ثم ذكرت عادتها بعد مضي عملها وجب عليها العمل بها فيما يأتي، لإطلاق دليلها، و لم يجب عليها تدارك ما مضي من عملها لو خالفها، لظهور دليل التمييز في أن موضوعه النسيان حين العمل، فيكون مقتضي إطلاقه إجزاءه ظاهرا و لو بعد ارتفاع النسيان ما لم يعلم بالخطإ، و ظهور دليل حجية العادة مع العلم بها في وجوب الرجوع إليها في الوقائع المتجددة حين العلم، لا ما يعم تدارك الوقائع السابقة علي ذلك فهو نظير ما لو تجددت لها العادة، حيث لا يجب عليها تدارك عملها سابقا علي التمييز لو لم يطابق العادة المتجددة. و يأتي إن شاء اللّه تعالي في تحيض الناسية بالعدد ما ينفع في المقام.

نعم، لو علم إجمالا ببطلان أحد الأمرين من مفاد التمييز الذي كان عليها العمل به حين النسيان و مفاد العادة بعد تذكرها كما لو لم يفصل بينهما أقل الطهر لزم التوقف عنهما معا.

و دعوي: لزوم ترجيح العادة، لأنها مقدمة عليه شرعا. مدفوعة بأن تقديمها عليه يبتني علي أخذ عدمها في موضوع الإرجاع عليه، فلا موضوع لحجيته معها، و هو لا يلازم تقديمها عليه مع التعارض بينهما و تحقق موضوع كل منهما في مورده.

اللهم إلا أن يستفاد عرفا من أخذ عدمها في موضوع الإرجاع إليه أقوائيتها منه شرعا، فترجح عليه عند التعارض. لكنه لا يخلو عن إشكال. بل يأتي في الأمر الأول

ص: 394

فإن فقدته تخيرت في التحيض (1)

______________________________

من تتميم هذه المسألة تقريب ترجيح العمل علي الأسبق الذي هو التمييز في المقام.

فتأمل جيدا.

(1) و لا ترجع إلي عادة أقاربها، كما صرح به غير واحد، و هو مقتضي اقتصار من عثرنا علي كلامه في الرجوع إلي النساء علي تخصيصه بالمبتدئة، سواء أراد منها من يبتدئ بها الدم- كما في المعتبر و المنتهي- أم ما يعم من لم تسبق لها عادة، كما سبق أنه المشهور، كما لم يذكروا في وظائف الناسية- التي عبر عنها جملة منهم بالمضطربة و بعضهم بالمتحيرة- الرجوع لأقراء الأقارب. و لعله لذا نفي سيدنا المصنف قدّس سرّه ظهور الخلاف فيه.

لكن لا يخفي مخالفة ذلك لإطلاق موثق زرارة و محمد بن مسلم المتضمن رجوع المستحاضة لأقراء نسائها، حيث لم يخرج منه إلا ذات العادة و ذات التمييز، و الناسية و إن كانت ذات عادة إلا أن دليل خروج ذات العادة عن الإطلاق المذكور هو دليل الإرجاع إلي العادة، و قد سبق لزوم حمله علي الذاكرة لعادتها للمرسلة، و يقصر عن الناسية، فتبقي تحت الإطلاق المتقدم. نظير ما سبق في وجه رجوعها للتمييز.

فلا بد في الخروج عن الإطلاق المذكور من دليل آخر، و المذكور في كلماتهم وجهان:

الأول: ما في جامع المقاصد من أنه سبق لها عادة فلم يناسب الرجوع لعادة غيرها. و هو نظير ما سبق في وجه المنع من رجوع من لم تستقر لها عادة إلي عادة نساءها، بل يظهر من كشف اللثام رجوعهما لجامع واحد، حيث قال: «لأن المضطربة رأت دما أو دماء قبل ذلك فربما خالفت نسائها، و ربما كانت معتادة فنسيتها أو اختلطت عليها».

و قد سبق ضعفه. بل هو هنا أولي بالضعف، إذ قد يحتمل مطابقة عادتها المنسية لعادة نسائها، بخلاف من لم تستقر لها عادة حيث يقطع بمخالفتها لهن بسبب اختلاف دمها عليها.

ص: 395

بين الثلاثة إلي العشرة (1).

______________________________

و لو فرض العلم بمخالفة عادتها لهن فلا مانع من حجية عادتهن لها بعد ما سبق من سقوط عادتها عن الحجية رأسا بالنسيان.

نعم، لو علم بمطابقة حيضها لعادتها واقعا امتنع رجوعها لعادتهن مع العلم بمخالفتها لعادتها، إذ يمتنع جعل الحجية لما يعلم بخطئه. لكن الظاهر خروجه عن مفروض الكلام.

الثاني: ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه لا مجال للعمل بالإطلاق المذكور بعد ظهور الإجماع علي خلافه. لكن لم يتضح الإجماع التعبدي في المقام، لعدم مصرح به، غاية الأمر عدم ظهور الخلاف.

و لعله يبتني علي إعمال أنظارهم و اجتهاداتهم في مفاد النص أو في الوجه الاعتباري المتقدم و غيره، لا لإجماعهم علي ذلك تعبدا و أخذهم له يدا بيد متصلا بعصور المعصومين عليهم السّلام.

و لا سيما مع عدم وضوح شيوع الابتلاء بنسيان العادة، كي يبعد خطؤهم في حكمه، خصوصا مع ما ذكرناه مرارا من ظهور اضطرابهم في كثير من أحكام الحيض و أدلتها.

فلا مجال مع ذلك للوثوق فضلا عن اليقين بعدم رجوع الناسية لأقراء نسائها من مجرد عدم ظهور الخلاف فيه، ليرفع اليد عن إطلاق النص. و إن كان الركون للإطلاق مع ذلك لا يخلو عن إشكال. فالمتعين الاحتياط الذي سبق أنه يكون بالرجوع لأقراء الأقارب، بناء علي ابتناء التحيض بالعدد علي التخيير بين تمام المراتب من الثلاثة إلي العشرة، كما سيأتي. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) لما كان مضمر سماعة و موثقا ابن بكير مختصة بالمبتدئة ينحصر الدليل في المضطربة و الناسية بموثق الخزاز الذي سبق في حكم المبتدأة أنه ظاهر في التخيير بين تمام المراتب من الثلاثة إلي العشرة، و مرسلة يونس الظاهرة في تعين السبعة أو التخيير

ص: 396

______________________________

بينها و بين الستة، علي ما سبق الكلام فيه، و موردها في كلام الإمام عليه السّلام و إن كان هو المبتدأة، إلا أن الظاهر من ذيلها و بقية فقراتها أن الموضوع فيها مطلق الفاقدة للتمييز التي ليست لها عادة ترجع إليها مبتدئة كانت أو مضطربة أو ناسية، علي ما يتضح بالتأمل فيما تقدم في وجه رجوع المبتدأة للتمييز.

و قد سبق في تحيض المبتدأة بالعدد أن الأقرب في الجمع بين المرسلة و الموثق تنزيل المرسلة علي بيان أفضل أطراف التخيير، فيتجه ما في المتن، كما أشرنا إلي نظيره في حكم المضطربة.

و هو و إن كان في المبتدأة أظهر من حيثية اعتضاد الموثق بمضمر سماعة الذي لا يبعد كونه أظهر منه في التخيير، إلا أنه في المضطربة و الناسية أظهر من حيثية عدم تأتي الجمع بتنزيل الموثق علي بيان التحيض بالأكثر في شهر و بالأقل في آخر- الذي تقدم من بعضهم في المبتدأة- إلا بتنزيله علي خصوص المبتدأة أو تعميم موثقي ابن بكير لمطلق المستحاضة إلغاء لخصوصية المبتدأة في موردهما، و كلاهما تصرف زائد علي مفاد النص.

و كيف كان، فلا معدل في المضطربة و الناسية عما يقتضيه الجمع المتقدم. و مجرد عدم ظهور عامل عليه هنا، لاختصاص كلام من سبق ظهور كلامه في البناء علي التخيير المذكور بالمبتدئة، لا يمنع من ذلك بعد عدم رجوع ذلك منهم للخلاف هنا، بل إلي مجرد عدم تعرضهم لحكم غير المبتدأة، و لا سيما بعد ما سبق من اضطراب كلمات الأصحاب رضي اللّه عنهم في المقام.

ثم إن أقوال الأصحاب المذكورة في المضطربة و الناسية تبتني علي إهمال مفاد موثق الخزاز، كإهمالهم له و لمفاد مضمر سماعة في المبتدأة، الذي تقدم التعرض لوجهه و ضعفه.

كما أن جملة منها تناسب الرجوع في المضطربة و الناسية لموثقي ابن بكير بعد تنزيلهما علي الاستمرار علي الثلاثة، أو التعاقب بينها و بين العشرة في كل شهرين، و مع الاقتصار عليهما أو التخيير بين مفادهما و مفاد المرسلة.

ص: 397

______________________________

و هو موقوف علي فهم عدم الخصوصية للمبتدئة فيهما، الذي هو لا يخلو عن إشكال زائد علي إشكال موثق الخزاز، و علي الإشكال في فهم الموثقين، و في الجمع بينهما و بين المرسلة مما تقدم التعرض له في المبتدأة.

و أشكل من ذلك ما يظهر من بعضهم من التفريق بين المضطربة- التي هي داخلة عندهم في المبتدأة- و الناسية- المعبر عنها في كلماتهم بالمضطربة- لوضوح اتحاد الأدلة فيهما.

و لا مجال لإطالة الكلام في تفصيل أقوال الأصحاب رضي اللّه عنهم في الناسية و المضطربة بعد ظهور حال أدلتها مما ذكرناه هنا و في نظائرها في المبتدأة. فلاحظ.

هذا و في المبسوط: «و إن كانت ناسية للعدد و الوقت فعلت ثلاثة أيام من أول الشهر ما تفعله المستحاضة، و تغتسل فيما بعد لكل صلاة، و صلت و صامت شهر رمضان، و لا يطؤها زوجها، لأن ذلك يقتضيه الاحتياط. و لا يمكن أن تطلق هذه علي مذهبنا إلا علي ما روي أنها تترك الصوم و الصلاة في كل شهر سبعة أيام، و تصوم و تصلي فيما بعد. و تكون مخيّرة علي هذه الرواية في السبعة الأيام في أول الشهر و أوسطه و آخره … ».

و ربما يظهر من المعتبر متابعته له في ذلك. و ظاهره لزوم الاحتياط و عدم التعويل علي الرواية المذكورة، و هو لا يناسب ما في الخلاف من دعوي الإجماع علي تحيض الناسية بسبعة و الاستدلال عليه بمرسلة يونس.

و من الغريب ما في المنتهي من الجمع بين الأمرين، حيث ذكر التحيض بالستة أو السبعة في حكم مستمرة الدم، و الاحتياط المذكور في مبحث أحكام الحائض. و لا ينبغي التأمل في بطلانه بعد النظر في كلمات الأصحاب. و لعله لذا حكي عن الشهيد في البيان أن ذلك ليس مذهبا لنا.

و أضعف منه ما في السرائر عن بعض أصحابنا من أنها تعد عشرة حيضا و عشرة طهرا. و تقدم وجه ضعفه في حكم المبتدأة.

ص: 398

______________________________

ثم إن ما في المبسوط في بيان الاحتياط من الاجتزاء في الثلاثة الأيام الأول بأعمال المستحاضة- التي ليس فيها الغسل لكل صلاة- كأنه للعلم بعدم وجوب ما زاد عليها فيها بعد عدم احتمال انقطاع الحيض قبلها، فلا يجب الغسل له، بل هي فيها إما حائض لا صلاة عليها أو مستحاضة تجتزئ بأعمالها، بخلافه بعدها، حيث يزيد علي ذلك احتمال انقطاع الحيض بعد كل صلاة الملزم بالغسل بعده للصلاة اللاحقة و إن لم تقتضه وظيفة المستحاضة.

نعم، لا يتم الاحتياط بذلك، بل يلزم لأجله إعادة الصلاة السابقة لو بقي وقتها، بل لا دافع لاحتمال انقطاع الحيض في أثناء الصلاة، إلا أن يدفع بتعذر الاحتياط من هذه الحيثية لعدم انحصار الاحتمالات.

يشكل ما ذكره من تعذر طلاقها، لإحراز صحة طلاقها لو طلقت مرتين بينهما عشرة أيام فما زاد من دون أن يبلغ قدر طهرها بمقتضي عادتها، للعلم بأن أحدهما حال الطهر، كما نبه له غير واحد في الجملة. فلاحظ.

ثم إن ما تقدم من الفروع لتحيض المبتدأة بالعدد جار في الناسية، كما يجري في المضطربة، علي ما يظهر بملاحظتها و التأمل في ادلتها.

نعم، تختص الناسية بالكلام في أمرين تقدم الكلام نظيرهما في رجوعها للتمييز، و أمر ثالث تقدم نظيره في غير الناسية.

الأول: حيث عرفت هنا التخيير في العدد بين تمام المراتب من الثلاثة إلي العشرة، و سبق في الفرع الأول من الفروع المذكورة أنه يلزم وضعه بمضي شهر من رؤية الدم، ثم تجري علي ذلك في كل دور فربما يدعي هنا لزوم الخروج عن ذلك لو علمت العادة إجمالا، فيقتصر في العدد و الوقت علي ما لا ينافي العادة، فإن علمت عادتها في النصف الثاني من الشهر مثلا وجب جعل العدد فيه و إن لم يصادف مضي شهر من أول الدم، و إن علمت أنها تزيد علي خمسة أيام لم يجز لها اختيار عدد ينقص عن ذلك.

ص: 399

______________________________

و كأنه لدعوي: أن تعذر العمل بالعادة بسبب نسيانها و عدم العلم التفصيلي بها لا يوجب إهمالها رأسا، بل تلزم موافقتها مهما أمكن، و ذلك بعدم الخروج عما هي مترددة فيه إجمالا.

و يشكل بأن ترك العمل بالعادة مع النسيان ليس للتعذر، لما سبق في رجوع الناسية للتمييز من أن النسيان لا يقتضي الخروج عن موضوع الحجية، فيلزم الاحتياط، كما يأتي في الفرع الثاني توضيحه، بل لأخذ العلم بها قيدا في موضوع حجيتها، فلا تكون حجة في مورد النسيان، و مع عدم حجيتها لا وجه لمراعاتها فيما يعلم منها إجمالا، بل خلاف إطلاق دليلي التخيير و التوقيت المتقدمين.

و دعوي: أن ذلك لا يناسب قوله عليه السّلام في المرسلة في بيان حال من أمرها النبي صلّي اللّه عليه و آله بالتحيض بالعدد: «ألا تري أن أيامها لو كانت أقل من سبع و كانت خمسا أو أقل من ذلك ما قال لها: تحيضي سبعا، فيكون قد أمرها بترك الصلاة أياما و هي مستحاضة غير حائض، و كذلك لو كان حيضها أكثر من سبع و كانت أيامها عشرا أو أكثر لم يأمرها بالصلاة و هي حائض» «1» لظهوره في استنكار التحيض بأقل من أيام العادة أو أكثر منها.

مدفوعة بأن الجمود علي إطلاق الأيام في هذه الفقرة يقتضي مانعية العادة الواقعية من اختيار العدد المخالف لها، و لازمه انسداد باب التحيض بالعدد علي الناسية، لاحتمال مخالفته لها، فلا بد من تنزيله علي خصوص الأيام المعلومة، كما تناسبه بقية فقرات الرواية، فإن ملاحظتها تشهد بأن المراد من أيام الحيض في هذه الفقرة هي الأيام التي سبق الإرجاع إليها في تلك الفقرات، و هي التي اعتبر في الرجوع إليها معرفة الوقت و العدد تفصيلا.

كما يناسبه أنه لم يكن موضوع الاستنكار ترك الصلاة بعد أيام العادة و فعلها فيها، بل تركها أيام الطهر و فعلها أيام الحيض، و هو لا يتم إلا بضميمة المفروغية عن

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 400

______________________________

حجية أيام العادة علي تعيين الحيض بملاحظة الإرجاع إليها في الفقرات السابقة.

و لو لا ذلك لم تكن السنن الثلاث حاصرة لسنن المستحاضة و لا رافعة لكل مشكل فيها، خلافا لما تضمنته المرسلة.

و دعوي: أن ارتفاع الإشكال يكون باختيار العدد الذي لا يعلم بمخالفته للأيام المعلومة إجمالا.

مدفوعة.. أولا: بأن ذلك لا يتم بناء علي اختصاص التحيض بالعدد بالسبع الذي ذهب إليه جماعة، و هو المتعين لو أهمل موثق الخزاز، كما هو ظاهر جميع من ذكر له قول في المقام.

و ثانيا: أن ظاهر المرسلة وفاء السنن التي تضمنتها بحل مشكل المستحاضة، و منها التحيض بالسبع- و إن حمل علي الاستحباب- لا مطلق التحيض بالعدد و إن كان مستفادا من غير المرسلة، كموثق الخزاز الدال علي التخيير المذكور.

و أما احتمال حمل السبعة في كلام النبي صلّي اللّه عليه و آله علي بيان أحد أفراد التخيير من دون خصوصية لها، بحيث يكون المبين منه صلّي اللّه عليه و آله التحيض بما بين الثلاثة إلي العشرة.

فهو بعيد جدا.

و ثالثا: أن لازم ذلك تداخل السنن الثلاث موردا، حيث يعمل في المورد المذكور علي ما يقتضيه الجمع بين العادة و التحيض بالعدد، و هو بعيد عن ظاهر المرسلة جدا.

و من هنا كان المتعين ما ذكرنا، و لا سيما بعد ما سبق في رجوع الناسية للتمييز من تقريب كون حجية العادة في حق مستمرة الدم تعبدية، فلا يستبعد رفع الشارع الأقدس اليد عنها في بعض الموارد، لعدم وفائها بحل الإشكال.

نعم، لا إشكال في أولوية اختيار العدد الذي لا يخالف العادة المعلومة إجمالا، لأنه أحوط بعد كون الدوران بين التعيين و التخيير. و هذا بخلاف الوقت فإنه مخالف لما استفيد منه تحديده بالنحو المتقدم.

الثاني: ذكرنا في تحيض الناسية بالتمييز أنها لو ذكرت عادتها بعد العمل علي

ص: 401

______________________________

التمييز مدة لزمها العمل علي العادة فيما يأتي، و لا يجب عليها تدارك عملها حال النسيان لو انكشف مخالفته للعادة، لظهور دليل حجية التمييز في إجزاء العمل عليه ظاهرا، و ظهور دليل حجة العادة المعلومة في لزوم العمل بها في الوقائع المتجددة بعد العلم، لا ما يعم تدارك العمل في الوقائع السابقة عليه.

و ذلك يجري في التحيض بالعدد، خلافا لما في التذكرة و القواعد و كشف اللثام و عن نهاية الأحكام من لزوم التدارك، و ذكره في المنتهي في ناسية الوقت، و ظاهر جامع المقاصد المفروغية عنه.

قال في كشف اللثام: «لأنها إنما رجعت إلي غيرها لنسيانها، فإذا ذكرتها اعتبرتها، لعموم الأدلة».

و يشكل بأنه إن أراد أن عموم وجوب الرجوع للعادة يقتضي حجيتها حتي حال النسيان، و يكون النسيان عذرا في الرجوع للعدد- كما لم يستبعد سيدنا المصنف قدّس سرّه استفادته من النصوص- ففيه: أن ذلك إنما يتجه لو كان عدم الرجوع للعادة لمجرد تعذر العمل بها مع النسيان كما سبق منا في وجه رجوع الناسية للتمييز. أما حيث كان الوجه فيه المرسلة المتضمنة أخذ العلم بالعادة قيدا في حجيتها فمقتضاه خروج الناسية عن موضوع الحجية واقعا. مع أن لازم حجيتها واقعا، صلوحها لتنجيز مفادها علي إجماله، و هو يقتضي حجيتها مع العلم بها إجمالا، و قد سبق أنه لا مجال لحمل المرسلة عليه.

كما لا مجال معه للإرجاع لأمر غير العادة في معرفة الحيض- كالتمييز- أو في التعبد بأحكامه ظاهرا- كالتحيض بالعدد- مما قد ينافي مقتضاها، لامتناع التعبد بالمتنافيين.

و دعوي: أنه لا ينافي التعبد بحجية العادة مع عدم العلم بمخالفته لها، كما هو المفروض. مدفوعة بأن مرجع التعبد بمفاد العادة علي إجماله عدم العذر في مخالفته واقعا، فينافي التعبد بمفاد المرجع الآخر الذي قد ينافيه.

نعم، يصح التعبد بتعيين مفاد العادة، لحكومته علي دليل الإرجاع إليها، لكونه في طولها و رافعا للاشتباه فيها. إلا أن من الظاهر عدم تشريع بقية وظائف

ص: 402

______________________________

الحائض لذلك، بل لتعيين الحيض رأسا، كتشريع الرجوع للعادة، و إن سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ظهور المرسلة في أن رجوع الناسية للتمييز لمعرفة أيام عادتها، لا لمعرفة أيام حيضها ابتداء، و سبق ضعفه. فراجع الفرع الثاني من ملحق الكلام في شروط التمييز.

و دعوي: أن لازم ذلك عدم الرجوع عند نسيان مؤدي الحجة إلي حجة أخري، أو أصل متأخر عنها رتبة، لوضوح شمول إطلاق الحجة المنسية لحال النسيان، و عدم كون الحجة أو الأصل الآخر شارحا لمفاد الحجة المنسية، بل متضمن للتعبد بالواقع في قبالها، مع وضوح جواز الرجوع لهما بملاحظة السيرة و المرتكزات.

مدفوعة بابتناء الرجوع لهما علي عدم ارتفاع موضوعهما ظاهرا بوجود الحجة المنسية و لو لأصالة عدم معارضتها لهما، فيصلحان لتنجيز مؤداهما، و ينحل بهما العلم الإجمالي بثبوت مؤدي الحجة المنسية، لأن العلم بمؤدي الحجة إجمالا لا يزيد علي العلم الإجمالي بالواقع الذي لا إشكال في انحلاله بالتعبد بالتكليف في بعض أطرافه.

أما في الواقع فلا يعقل اجتماع التعبدين المتنافيين، بل لا بد مع منافاة الحجة المنسية لهما إما من سقوطهما بالمعارضة، أو انحصار الحجية الواقعية بها، كما لو كانت مقدمة رتبة.

و أظهر من ذلك الخطأ في تشخيص مؤدي الحجة، فإنه لا يوجب ارتفاع حجيتها شرعا في مؤداها الواقعي، لعدم حجية الخطأ شرعا و إن كان المكلف معذورا في العمل عليه عقلا.

و لا مجال لذلك في المقام، لما هو المعلوم من حجية التمييز و التحيض بالعدد شرعا واقعا حال نسيان العادة لدلالة الدليل عليهما بالخصوص، و ليسا حجة ظاهرا لإحراز موضوع حجيتهما بأصل أو نحوه من دون أن يكونا حجة في الواقع، فضلا عن أن يكونا عذرا عقليا في مخالفة العادة الحجة من دون أن يكونا حجة حتي ظاهرا، كالخطإ، فلا بد من ارتفاع حجية العادة حال النسيان لئلا يلزم التعبد بالمتنافيين. غاية

ص: 403

______________________________

ما يدعي أنها حجة اقتضائية. لكن لا دليل علي لزوم التدارك علي طبقها بعد صدوره علي طبق الحجة الفعلية التي لم يثبت خطؤها.

و إن أراد أن عموم وجوب الرجوع للعادة و إن اختص بصورة العلم بها إلا أنه يقتضي حجيتها في تعيين الحيض حتي بالإضافة إلي الوقائع السابقة علي العلم، كما جعله سيدنا المصنف قدّس سرّه وجها آخر في المقام.

ففيه: أن حجية الطريق في تمام مداليله فرع عموم حجيته لها، و لا مجال له في المقام، لظهور المرسلة في الإرجاع للعادة المعلومة في خصوص الوقائع المتجددة بعد العلم بها، دون السابقة عليه، بل هي كالوقائع السابقة علي انعقاد العادة يكون مقتضي إطلاق أدلة تشريع وظائفها إجزاء العمل عليها ظاهرا حتي بعد تبدل حال المرأة و دخولها في موضوع وظيفة أخري، كما تقدم.

و دعوي: إلغاء خصوصية الوقائع المتجددة في حجية العادة المعلومة، لعدم الفرق ارتكازا في كاشفيتها بينها و بين ما سبقها. مدفوعة بمنع مجرد كون الكاشفية معيارا في حجية العادة، بل لعل حجيتها تعبدية، لرفع الإشكال بها، فتقصر عن الوقائع السابقة التي رفع الإشكال فيها بطريق مشروع. و قد تقدم في رجوع الناسية للتمييز ما يناسب ذلك. فلاحظ.

الثالث: الظاهر أن الناسية لا تتحيض بالتمييز و العدد إلا في الدور الثاني، أما في أول رؤية الدم فتتحيض للعشرة، لإطلاق ما تضمن ذلك، و قصور أدلة الوظيفتين المذكورتين عنه بعد اشتمالها علي عنوان المستحاضة و عنوان مستمرة الدم التي لا تصدق في أول رؤية الدم مع الحكم بحيضيته.

و كذا الحال في المضطربة، كما يتضح بملاحظة ما ذكرناه في وظائف المستحاضة. فراجع.

ص: 404

تتميم: ينبغي إلحاق الكلام في وظائف المستحاضة بأمور..
الأول: لا بد في الانتقال من وظيفة لأخري من ارتفاع موضوع الأولي و تحقق موضوع الثانية،

______________________________

كما لو كانت ذاكرة لعادتها فنسيتها أو بالعكس، أو لم تنعقد لأقاربها عادة ثم انعقدت، أو لم تكن ذات تمييز ثم صار لها، و هكذا. و لا بد مع ذلك من فصل أقل الطهر بين الحيضين، و إلا كان دليل التحيض بكل من الوظيفتين معارضا لدليل التحيض بالأخري، كما سبق فيما لو ذكرت الناسية لعادتها بعد عملها بالتمييز.

نعم، لا يبعد مضي العمل علي الوظيفة السابقة، و لزوم الانتظار في إعمال الوظيفة اللاحقة إلي الدور اللاحق، لانصراف دليل الإرجاع للاحق إلي صورة التحير الذي لا يتحقق مع الرجوع للوظيفة السابقة في موردها عملا بدليلها إلا بعد مضي أقل الطهر، للزوم البناء قبله علي عدم الحيض. و إن كان الأمر محتاجا للتأمل، حيث قد يختلف الحال وضوحا و خفاء باختلاف الصور التي لا يسع المقام استقصاءها.

الثاني: لا إشكال في جريان الوظائف السابقة في مستمرة الدم أكثر من شهر،

لأنها مورد أكثر أدلتها و المتيقن من جمله منها، مثل ما تضمن عنوان المستحاضة الذي قد يصدق مع تقطعه.

نعم، سبق منا أنها لا تجري إلا في الدور الثاني، مع لزوم تحيض ذات العادة العددية في أول الدم بقدرها مع الاستظهار و تحيض غيرها للعشرة.

و منه يظهر عدم جريان الوظائف فيمن يتجاوز دمها العشرة و ينقطع بعد قليل و إن تكرر ذلك منها، بل تتحيض به مع عدم المانع كتحيض مستمرة الدم في الدور الأول و تجعل الباقي استحاضة، و لا ترجع للتحيض به بمضي أقل الطهر، لأنه و إن أمكن أن يكون حيضا حينئذ، إلا أنه سبق أنه لا عموم في أدلة قاعدة الإمكان للدم المستمر.

و لو فرض عمومها له لزم الخروج عنه بأدلة الوظائف المذكورة، لظهورها في

ص: 405

______________________________

لزوم تحيض المستمرة بها لا بالقاعدة، فترجع إليها علي التفصيل المتقدم.

و أما إذا امتنع التحيض بالدم في أول رؤيته لعدم مضي أقل الطهر بينه و بين الحيض السابق فلا بد من البناء علي كونه استحاضة، و لا تتحيض به بمضي أقل الطهر أيضا، لما سبق من قصور القاعدة عن الدم المستمر، بل ترجع لمقتضي وظائف مستمرة الدم.

و حينئذ لو كانت وظيفتها التحيض بأقراء الأقارب أو العدد فهل تتحيض بهما بمضي أقل الطهر، أو بمضي شهر من أول الحيض أو التحيض السابق، أو بمضي شهر من رؤية الدم الأخير؟

قد يستدل علي الأول بإطلاق ما تضمن رجوع المستحاضة لأقراء الأقارب و العدد- و هو موثقا زرارة و محمد بن مسلم و الخزاز، و مرسلة يونس- لصدق المستحاضة عليها برؤية الدم بعد فرض عدم تحيضها به، فيجري حكمها بمجرد إمكانه، لمضي أقل الطهر.

و أما موثقا ابن بكير المتضمنان تحيضها بالعدد بعد شهر من رؤية الدم، فهما مختصان بالتي تتحيض برؤية الدم و يستمر بها إلي الشهر، و الدم الأول في المقام و إن تحيضت به إلا أنه لم يستمر، و الثاني و إن أمكن استمراره إلي الشهر إلا أنها لم تتحيض به.

لكنه يشكل بعدم وضوح الإطلاق في الأدلة المذكورة بنحو يقتضي التعجيل بالتحيض، و إلا كان مقتضاه الاكتفاء بالإمكان في كل دور، فتبقي علي التحيض بأقراء النساء و العدد كلما مرّ أقل الطهر، و لا يحتاج الدور إلي الشهر، و هو بعيد عن منصرف الإطلاق المذكور.

و من هنا يقرب ورود هذه الأدلة لبيان مقدار الحيض، مع الإيكال في وقته إلي ما هو المرتكز من تحيض المرأة في كل شهر مرة الراجع للوجه الثاني.

و لا سيما بلحاظ أنه لا بد من حملها علي صورة فقد التمييز فلا بد من إحرازه بالنحو الموجب للتحير و الاحتياج للوظيفة، و هو لا يكون قبل ذلك عرفا. و من ثم كان هو الأقرب بعد عدم وضوح وجه الثالث.

ص: 406

______________________________

هذا و لو استمرت علي حالة تقطع الدم بنحو لا يكون مجموع الدماء حيضا واحدا لتجاوزها العشرة، و لا كل دم حيضا مستقلا، لعدم تخلل أقل الطهر بينها، فمقتضي قاعدة الإمكان التحيض بأولها، ثم إكماله من الآخر بما تتم به من حين أول الدم العشرة أو العادة العددية مع الاستظهار، عملا بما تضمن الحكمين، ثم تبني علي كون الباقي استحاضة، و لا تتحيض إلا بمقتضي الوظائف المتقدمة، أو بدم جديد تراه بعد مضي أقل الطهر.

لكن صحيحي يونس بن يعقوب و أبي بصير «1» قد تضمنا أن من ينقطع عليها الدم من دون أن يتخلله أقل الطهر- كما لو رأته أربعة أيام و انقطع أربعة أو خمسة و خمسة، أو أربعة و ستة- تتحيض كلما رأت الدم و تصلي كلما رأت الطهر إلي شهر.

ثم قال في الأول: «فإن انقطع عنها الدم و إلا فهي بمنزلة المستحاضة».

و في الثاني: «فإذا تمت ثلاثون يوما فرأت دما صبيبا اغتسلت و استثفرت و احتشت بالكرسف في وقت كل صلاة، فإذا رأت صفرة توضأت».

و مقتضي إطلاق التنزيل في الأول أنها بعد الشهر ترجع إلي وظائف المستحاضة المتقدمة، كمستمرة الدم. و عليه يحمل الثاني، و إن كان مقتضي إطلاقه استمرارها علي الطهر و عدم تحيضها أصلا، الذي هو في نفسه بعيد جدا، لا قائل به ظاهرا.

و من هنا لا يبعد البناء علي ذلك بعد الشهر، عملا بصحيح يونس، كما تقدم التعرض لذلك في أوائل الفصل الخامس في الدم المتقطع. و أما ما تضمناه من حكم الشهر الأول فقد سبق في التنبيه الثاني في أواخر الفصل المذكور أنه لا مجال للتعويل عليه. فراجع و تأمل جيدا.

الثالث: لا يخفي أن تشريع الوظائف المذكورة لا يرجع إلي تحديد الحيض واقعا بها،

كتحديده بالسن و المقدار في طرفي القلة و الكثرة، لما هو المعلوم من عدم ملازمة الحيض لها، و عدم مناسبته للتعبير بالسنن، لظهوره في كونها مجعولات شرعية لا قضايا واقعية، و لا للتخيير في مقدار التحيض بالعدد لامتناع التخيير في الحد

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 2، 3.

ص: 407

______________________________

الواقعي، بل صريح مرسلة يونس أن التحيض بالعدد من سنخ الأصل الظاهري مع الجهل بالحيض، كما هو المناسب لتشريع الاستظهار الراجع للاستيثاق لاحتمال الحيض ظاهرا.

و منهما يظهر أنه لا يرجع أيضا إلي تحديد أحكام الحيض واقعا بها، تخصيصا لعمومات أحكام الحيض و الطهر، بأن يكون ما يطابقها بحكم الحيض واقعا و إن لم يكن حيضا، و ما يخرج عنها بحكم الطهر واقعا و إن كان حيضا.

مضافا إلي ظهور جملة منها في أن إجراء أحكام الحيض و أحكام الطهر تبعا لها تطبيقا لكبرياتها لا خروجا عنها، مثل ما تضمن سؤالا أو جوابا معرفة الحيض بالطرق المذكورة، و ما تضمن تطبيق عنواني الحيض و الاستحاضة علي ما يطابق السنن و ما يخالفها، و ما تضمن أن أقراءها مثل أقراء نسائها، و ما تضمنته مرسلة يونس في وجه عدم تحيض ذات العادة بالعدد من استنكار الأمر بالصلاة أيام الحيض و بتركها أيام الطهر.

و من هنا كان المتعين حملها علي أنها وظائف ظاهرية للتعبد بالحيض عند الشك فيه، إما بلسان الأمارة- كما في العادة و التمييز- أو بمفاد الأصل التعبدي، كما في التحيض بالعدد و الاستظهار.

و مثلهما في ذلك قاعدة الإمكان التي تجري في غير مستمرة الدم، لظهور جملة من أدلتها في أن موضوعها الاحتمال و الإمكان، الذي هو لا يلازم الفعلية، مع تطبيق عنوان الحيض.

و لازم ذلك عدم التعويل عليها لو علم بمخالفة الحيض الواقعي لها، لامتناع التعبد الظاهري مع العلم بالواقع. و هذا بخلافه علي الأول لمصادمتها للعلم المذكور فقد يمنع الالتفات إليها من حصوله. و كذا علي الثاني، حيث لا وجه لإهمالها بانكشاف عدم مطابقة الحيض لها بعد ابتناء تشريعها علي تخصيص عمومات أحكام الحيض و الطهر، بنحو قد تثبت أحكام الحيض حالة الطهر و بالعكس.

نعم، لا بد في ذلك من العلم الوجداني، و لا تكفي الحجج الظاهرية لو تم

ص: 408

(مسألة 11): الأقوي عدم ثبوت عادة شرعية مركبة (1)، كما إذا رأت في الشهر الأول ثلاثة و في الثاني أربعة و في الثالث ثلاثة و في الرابع أربعة، فإنها لا تكون ذات عادة في شهر الفرد ثلاثة و في شهر الزوج أربعة، و كذا إذا رأت في شهرين متواليين ثلاثة ثم شهرين متواليين أربعة، فإنها لا تكون ذات عادة في شهرين ثلاثة و شهرين أربعة (2)، و إن تكررت الكيفية المذكورة مرارا عديدة.

(مسألة 12): الفاقدة للتمييز إذا ذكرت عدد عادتها تاما و نسيت وقتها، أو كانت ذات عادة عددية لا وقتية، تحيضت من الشهر بمقدار العدد المعلوم لها (3).

______________________________

عموم حجيتها للمقام، حيث قد يستفاد تخصيص عمومها و الردع عنها في المقام مما تضمنته مرسلة يونس من انحصار سنن المستحاضة في الثلاث، و أن النبي صلّي اللّه عليه و آله بين فيها كل مشكل حتي لم يدع لأحد مقالا فيه بالرأي. علي أن عموم حجية البينة يقصر عن أمثال المقام مما كان الإخبار فيه عن حدس.

و قول أهل الخبرة يشكل التعويل عليه في مقابل التعبد الشرعي، لأن المتيقن من بناء العقلاء علي الرجوع إليه صورة انسداد باب العلم و العلمي علي الجاهل، و لا يتضح رجوعهم إليه في مقابل الطرق الظاهرية الواصلة. فلاحظ و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم. و من نستمد العون و التوفيق.

(مسألة 11): الأقوي عدم ثبوت عادة شرعية مركبة

(1) كما تقدم في الفرع الخامس من فروع العادة و تقدم وجهه.

مسألة 12: الكلام في ذات العادة العددية

(2) بل لا يبعد البناء علي انعقاد العادة علي الوجه الأخير، بناء علي ما تقدم في الفرع السابع من فروع العادة من انقلاب العادة بمرتين متفقتين.

(3) و لا ترجع للتحيض بالعدد، لتأخره رتبة عن التحيض بالعادة المفروض

ص: 409

______________________________

انعقادها في العدد و عدم نسيانها، و لا يقدح في ذلك عدم انعقادها في الوقت أو نسيانه، لأنه يقتضي التوقف فيه فقط أو الرجوع لوظيفة أخري. لكنه لو يتجه تخصيصه بالفاقدة للتمييز، لما سبق من أن الأظهر الأشهر تأخر التمييز أيضا عن العادة.

و لعله لذا أطلق جماعة في ناسية الوقت علي الخلاف بينهم في المرجع فيها من حيثيته، علي ما يأتي.

نعم، أطلق في الشرائع رجوع المضطربة- و مراده بها الناسية- إلي التمييز، ثم تعرض لحكم أقسامها الثلاثة- من ناسية الوقت و العدد أو أحدهما- بعد فرض فقدها له، كما جري عليه في الرياض في ناسية الوقت أو العدد، بل نسبه في الروض لإطلاق الأصحاب، حيث أطلقوا رجوع المضطربة- التي يراد منها الناسية بأقسامها- للتمييز.

و استشكل فيه في جامع المقاصد و غيره بما ذكرناه من تأخر التمييز عن العادة، و حاولوا توجيهه بما لا ينافي ذلك. و إن لم يبعد عدم توجه الإشكال علي إطلاق الأصحاب هذا، إذ قد يستفاد من إطلاقهم المتقدم في ناسية الوقت و الآتي في ناسية العدد أن حكمهم برجوع المضطربة للتمييز مختص بناسية الوقت و العدد معا.

نعم، يتوجه ذلك علي مثل الشرائع مما قيّد فيه أحكام أقسام الناسية بما إذا فقدت التمييز.

و أما العادة العددية فقط فيستفاد تقدمها علي التمييز مما في الجواهر من أنه لا إشكال عندهم في عموم حكم العادة لها، و في الرياض: «و أما مع تجاوزه عن العشرة ترجع ذات العادة إليها مطلقا وقتية و عددية كانت، أو الأول خاصة، أو بالعكس.

لكنها في الأخيرتين ترجع إلي أحكام المضطربة في الذي لم يتحقق لها عادة فيه، فيجعل ما يوافقها خاصة حيضا مع عدم التميز المخالف اتفاقا نصا و فتوي، و مطلقا علي الأشهر الأظهر، كما سيأتي».

و بالجملة: اللازم بناء علي عموم حجية العادة- كما هو المفروض في الاستدلال- و تقديمها علي التمييز- كما تقدم أنه المعروف الذي عليه المعول- مراعاة العادة

ص: 410

______________________________

العددية غير المنسية- مع عدم انعقاد الوقتية أو نسيانها- حتي في ذات التمييز، فتقدم عليه. إلا أن يمنع عموم مرجحية العادة علي التمييز و يخص بالعادة الوقتية العددية، كما يأتي.

و كيف كان، فيشكل أصل الاستدلال بعدم وضوح إطلاق يقتضي الرجوع للعادة العددية فقط إما لعدم انعقادها في الوقت أو مع نسيانها، لأن نصوص الرجوع للعادة بين ما تضمن جلوس المرأة قدر حيضها، و ما تضمن جلوسها أيام حيضها أو أقرائها أو أنها تعمل عمل المستحاضة بعد مضي أيام حيضها، و نحو ذلك.

و الأولي بين ما هو صريح في الدور الأول- مثل ما ورد فيمن تعجل بها الدم «1»، و في الحامل تري الدم «2» - و ما هو ظاهر فيه للتعبير فيه بمثل «تري الدم» الظاهر في تجدد الرؤية أو محمول عليه بسبب تعرضه للاستظهار الذي تقدم حمل نصوصه علي الدور الأول، و لا سيما مع عدم التعبير فيه بالمستحاضة أو نحوها مما هو ظاهر في مستمرة الدم، بل بمثل الطامث و الحائض و الظاهر في المفروغية عن تحيضها بقدر العادة، و إنما النظر للاستظهار زائدا عليها. فلتلحظ النصوص المذكورة في باب الاستظهار من الوسائل.

و أما الثانية فهي ظاهرة في تعيين الأيام و الاكتفاء بالرجوع إليها في أداء الوظيفة، و هو إنما يكون بمعرفة العدد و الوقت معا، و لا يشمل صورة الجهل بأحدهما فضلا عن عدم انعقاد العادة فيه.

و لو فرض ثبوت الإطلاق لبعضها أمكن رفع اليد عنه بما في صدر مرسلة يونس الذي هو كالصريح في اختصاص رجوع مستمرة الدم للعادة بما إذا عرفتها وقتا و عددا، للتأكيد علي ذلك في جملة من فقراتها التي تقدم التعرض لها في الاستدلال لرجوع الناسية للتمييز.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 411

______________________________

نعم، قد ينافيه ما في بعض فقراتها الواردة في الرجوع للتمييز الظاهرة في أن موضوعه الجهل بالوقت و العدد معا، كقوله عليه السّلام: «و أما سنة التي كانت لها أيام متقدمة ثم اختلط عليها … حتي أغفلت عددها و موضعها من الشهر»، و قوله عليه السّلام: «فهذا يبين أن هذه امرأة قد اختلط عليها أيامها لم تعرف عددها و لا وقتها»، و قوله عليه السّلام:

«فإذا جهلت الأيام و عددها احتاجت إلي النظر حينئذ إلي إقبال الدم و إدباره» «1». فإن مقتضي مفهومها عدم الرجوع للتمييز مع العلم بأحد الأمرين.

لكن الظاهر لزوم رفع اليد عن المفهوم المذكور بالاكتفاء بالجهل بأحد الأمرين في الرجوع للتمييز، لأن ظهور الصدر في اعتبار العلم بكلا الأمرين في الرجوع للعادة أقوي من ظهور هذه الفقرات في اعتبار الجهل بكليهما في الرجوع للتمييز.

و لو فرض التكافؤ بين الظهورين في نفسيهما تعين تحكيم ظهور الصدر، لقرب اتكال المتكلم عليه في بيان موضوع التمييز. و أنه عبارة عن تعذر الرجوع للعادة التي تضمنها الصدر، و هي المعلومة وقتا و عددا.

و لا مجال للعكس باتكاله في بيان الرجوع للعادة علي ما يذكر بعد في الرجوع للتمييز بعد ظهور حاله في عدم بيان السنة الثانية إلا بعد استكمال بيان السنة الأولي.

و لا سيما مع قوة ظهور الصدر في الاكتفاء بالرجوع للعادة في مقام العمل الذي لا يتم إلا مع العلم بوقتها و عددها معا، و قوة ظهور المرسلة في تباين السنن الثلاث موردا و عدم تداخلها، كما ذكرناه غير مرة.

و أما دعوي: إبقاء كل من سنة العادة و سنة التمييز علي ظهورهما في المفهوم بحملهما علي بيان من تستقل بالرجوع للعادة و من تستقل بالرجوع للتمييز، و تبقي ذات العادة الذاكرة لوقتها فقط أو لعددها فقط خارجة عن السنتين المذكورتين في المرسلة و يتعين الرجوع فيهما لاطلاقات أدلة العادة الأخر لو تم شمولها لها.

فهي مدفوعة بأن ذلك لا يناسب ما تضمنته المرسلة من استيعاب السنن

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 412

______________________________

الثلاث لأقسام المستحاضة.

بل هو ملزم برفع اليد عن خصوصية الناسية في سنة التمييز و تعميمها للمضطربة و المبتدأة بحملها علي كل من لم تكن لها عادة ترجع إليها، و مقتضي ذلك رفع اليد عن ظهور تلك الفقرات في المفهوم، ليعارض ظهور الصدر في اختصاص الرجوع للعادة بالذاكرة للعدد و الوقت معا.

مع أنه لو تم فليس الرجوع في ناسية أحد الأمرين لاطلاقات العادة لو تمت بأولي من الرجوع فيها لإطلاق التمييز الذي قد يعارض العادة العددية للاختلاف بينهما في المقدار، لاختصاص أدلة ترجيح العادة علي التمييز بموثق إسحاق بن جرير المتقدم و الآتي و مرسلة يونس، و هما مختصان بالوقتية العددية التي يكتفي بها في مقام العمل، و لا بعد في تقديم التمييز علي غيرها من أقسام العادة، لكفايته في مقام العمل دونها، و لازم ذلك التساقط لا الرجوع للعادة، كما هو المدعي.

و أما ما في الروض من عدم التعارض بينهما، لإمكان البناء علي حيضية الأكثر منهما بعد فرض عدم تجاوزهما العشرة. فيندفع بأن ذلك لا يرفع التعارض بينهما بعد ابتناء كل منهما علي حصر الحيض في مقتضاه، كما تقدم في ترجيح العادة علي التمييز.

هذا علي تقدير التنزل و فرض استحكام التعارض بين هذه الفقرات و ظهور الصدر، و إلا فقد عرفت لزوم تحكيم الصدر، فيكون مقيدا لإطلاق حجية العادة لو تم.

هذا كله في الناسية للوقت، و أما من لم تنعقد لها عادة فيه فالأمر فيها أظهر، لأن الفقرات المتقدمة لا تقتضي اختصاص الرجوع للتمييز بمن لم تنعقد لها عادة أصلا لتدل علي قصوره عن ذات العادة العددية فقط، و ينافي الصدر الظاهر في عدم رجوعها للعادة، بل بمن نسيتهما معا الذي هو فرع انعقادهما، فلا مخرج فيها عن ظهور الصدر في عدم حجية العادة لها، و إنما ترجع للتمييز لعموماته، و لما يستفاد من المرسلة من انحصار صور المستحاضة بالسنن الثلاث، الملزم بحمل سنة التمييز فيها علي مطلق من لم تنعقد لها عادة حجة، و منها ذات العادة العددية فقط بمقتضي ما

ص: 413

______________________________

استفيد من صدرها.

مضافا إلي ما في موثق إسحاق بن جرير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: « … قالت:

فإن الدم يستمر بها الشهر و الشهرين و الثلاثة كيف تصنع بالصلاة؟ قال: تجلس أيام حيضها ثم تغتسل لكل صلاتين. قالت له: إن أيام حيضها تختلف عليها، و كان يتقدم الحيض اليوم و اليومين و الثلاثة و يتأخر مثل ذلك فما علمها به؟ قال: دم الحيض ليس به خفاء هو دم حار تجد له حرقة، و دم الاستحاضة دم فاسد بارد … » «1» فإن قولها في بيان وجه اختلاف أيام الحيض: «و كان يتقدم الحيض اليوم … » إن لم يكن ظاهرا في اختصاص اختلاف أيام الحيض بالوقت مع اتفاقها في العدد فلا أقل من قوة ظهوره في الشمول لذلك، فالاكتفاء في الجواب بالتمييز من دون تنبيه إلي لزوم أخذ العدد مع انعقاد العادة به ظاهر جدا في إهمال العادة العددية فقط و تقديم التمييز عليها.

و مما ذكرناه يظهر لزوم التحيض بأقراء الأقارب مع فقد التمييز، عملا بإطلاق بعض أدلته- كموثق زرارة و محمد بن مسلم- الذي لا مخرج عنه إلا دليل الإرجاع للتمييز المفروض فقده، و دليل الإرجاع للعادة، الذي عرفت قصوره عن المقام بدوا أو لمرسلة يونس الظاهرة في اختصاص حجية العادة بالذاكرة لوقتها و عددها.

نعم، لو قيل بعدم رجوع الناسية لأقراء النساء اتجه عدم رجوع ناسية الوقت لهن و اختص الرجوع لهن بمن لم تنعقد لها عادة فيه. إلا أن يستبعد حجية عادة نسائها في العدد دون عادتها فيه. فتأمل.

كما يظهر أيضا لزوم تحيضها بالعدد مع فقد التمييز مطلقا و مع تعذر الرجوع لأقراء الأقارب أيضا، عملا بإطلاق بعض أدلته- كموثق الخزاز- لنظير الوجه المتقدم.

و ليس في ذيل مرسلة يونس المتضمن لسنة التحيض بالعدد ما ينافي عدم حجية العادة العددية فقط- كما كان هو الحال في سنة التمييز علي ما سبق- لاختصاص موردها بالمبتدئة، و التعدي لغيرها إنما هو بضميمة ظهور المرسلة في استيفاء السنن

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 414

______________________________

لأقسام المستحاضة الملزم بالتعدي منها لكل من ليس لها عادة ترجع إليها بمقتضي السنة الأولي أو تمييز ترجع إليه بمقتضي السنة الثانية، و هو يقتضي التحيض بالعدد بعد ما ذكرنا من اختصاص السنة الأولي بالذاكرة لعادتها وقتا و عددا، كما لا يخفي.

نعم، استدل سيدنا المصنف قدّس سرّه علي لزوم التحيض بعدد عادتها بقوله عليه السّلام في المرسلة في بيان مورد سنة التحيض بالعدد: «ألا تري أن أيامها لو كانت أقل من سبع و كانت خمسا أو أقل من ذلك ما قال لها تحيضي سبعا، فيكون قد أمرها بترك الصلاة أياما و هي مستحاضة غير حائض، و كذلك لو كان حيضها أكثر من سبع و كانت أيامها عشرا أو أكثر لم يأمرها بالصلاة و هي حائض» «1».

فإن مقتضي إطلاقه عدم الفرق في عدم التحيض بالعدد علي خلاف العادة العددية بين انعقادها في الوقت و ذكرها و عدمهما.

بل قد ادعي قدّس سرّه أن مقتضي عموم التعليل باستنكار الأمر بالصلاة حال العادة و بتركها خارجها عدم التحيض بالتمييز أيضا علي خلاف العادة العددية. و إن كان قد يشكل بأنه لا مجال للتعدي عن مورد التعليل و هو التحيض بالعدد الذي هو من سنخ الأصل المحكوم للأمارة للتحيض بالتمييز الذي هو من سنخ الأمارة الصالحة لمعارضة الأمارة. إلا أن يتم عموم ترجيح العادة علي التمييز الذي عرفت المنع منه، و أن المتيقن منه العادة الوقتية العددية المعلومة. و من هنا قد يتجه ما في المتن من فرض الكلام في الفاقدة للتمييز. فلاحظ.

و كيف كان، فيندفع هذا الاستدلال بأن هذه الفقرة غير واردة لبيان حجية العادة، و لا للتعليل بها، بل لتعليل عدم كون المرأة ذات عادة بامتناع الإرجاع للعدد مع قيام الحجة علي تعيين الحيض و الطهر. للمفروغية عن حجية العادة في ذلك.

و لذا لم يكن موضوع الاستنكار الأمر بالصلاة في العادة و بتركها خارجها، بل الأمر بها حال الحيض و بتركها حال الطهر، الذي لا يتم إلا بضميمة المفروغية عن حجية

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 415

______________________________

العادة عليهما، و من الظاهر أن منشأ المفروغية المذكورة هو الإرجاع للعادة في السنة الأولي، و حيث قيد موضوع الإرجاع فيها بالذاكرة لوقتها و عددها فلا مجال لاستفادة عموم الحجية للناسية لأحدهما، فضلا عمن لم تنعقد لها عادة فيه من هذه الفقرة.

علي أن الاستدلال بهذه الفقرة إن ابتني علي كشفها عن عموم العادة في موضوع السنة الأولي، فهو لا يجتمع مع التأكيد في بيان تلك السنة علي اعتبار العلم بالوقت و العدد، و لا يناسب ظهورها في الاكتفاء بها في مقام العمل.

و إن ابتني علي استفادة عموم حجية العادة العددية منها مع قصور السنة الأولي عنه، لورودها في خصوص صورة الاكتفاء بالعادة، لا لبيان مورد حجيتها مطلقا لزم عدم استيعاب سنن النبي صلّي اللّه عليه و آله الثلاث لأقسام المستحاضة، و المرسلة تأبي ذلك جدا.

فلا بد من حمل الأيام في هذه الفقرة علي مورد السنة الأولي، و هو الأيام المعلومة وقتا و عددا. و قد تقدم ما يناسب ذلك عند الكلام في تحيض الناسية بالعدد. فراجع.

و منه يظهر أنه لو بني علي حجية العادة العددية مع نسيان الوقت أو عدم انعقاد العادة فيه فلا مجال لاستفادتها من المرسلة، فضلا عن استفادتها من خصوص السنة الأولي، بدعوي انحصار صور المستحاضة في السنن الثلاث، فمع عدم دخولها في الأخيرتين يتعين دخولها في الأولي، كما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه.

لأن بيان السنة الأولي صريح في اختصاصها بالمعلومة وقتا و عددا فمع فرض انحصار صور المستحاضة بالثلاث لا بد من دخول غيرها من أقسام العادة في مورد السنتين الأخيرتين المستلزم لعدم حجيتها، و ليس في بقية الفقرات ما ينهض برفع اليد عن ذلك و يدل علي عموم حجية العادة. بل لا بد من استفادته من أمر آخر، كإطلاق حجية العادة لو تم و لم تنهض المرسلة لتقييده، أو دعوي القطع بابتناء حجية العادة الوقتية العددية علي حجيتها في كل من الأمرين بنحو الانحلال، أو نحو ذلك. و إن كان الحق عدم ثبوت شي ء من ذلك، بل ثبوت خلافه، كما يظهر مما ذكرنا.

و من هنا كان المتعين عدم حجية العادة العددية في المقام، و الرجوع للتمييز، ثم

ص: 416

______________________________

التحيض بأقراء النساء احتياطا، ثم بالعدد علي الوجه المتقدم.

و قد جري علي ذلك في الخلاف. قال: «الناسية لأيام حيضها أو لوقتها و لا تمييز لها تترك الصوم و الصلاة في كل شهر سبعة أيام و تغتسل و تصلي [و تصوم] فيما بعد و لا قضاء عليها في صوم و لا صلاة … دليلنا إجماع الفرقة. و أيضا فإن خبر يونس …

يتضمن تفصيل ذلك و ينبغي أن يكون محمولا عليه … و أما قضاء الصوم فإنه يحتاج إلي شرع، لأنه فرض ثان … ».

و ما في الجواهر من استغراب ذلك في غير محله بعد ما عرفت. و مثله ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من استغراب دعوي الإجماع علي التحيض بالسبعة مع أنه لم يحك القول به عن غيره.

لأن الأقوال الأخر قد نسبت لمن تأخر عنه، فلا يبعد ابتناء دعواه الإجماع علي ظهور حال الأصحاب أو تصريحهم بالعمل بالرواية، بل ادعي الإجماع عليها في مورد آخر، مع استفادته منها ما ذكر، كما يناسبه إطلاق الحكم برجوع المضطربة للتمييز و التحيض بالعدد في الاقتصاد و النافع و اللمعة و محكي الجمل و العقود و المهذب و الإصباح من دون استدراك لحكم انعقاد العادة أو ذكرها من إحدي الجهتين فقط، سواء أريد من المضطربة من لم تنعقد لها عادة أم من نسيتها.

و ما يأتي من المبسوط من الاحتياط لعله يبتني علي إهمال الرواية، كما أهملها في الناسية للوقت و العدد معا، كما سبق.

و أما حكمه بعدم وجوب قضاء الصوم و الصلاة فالظاهر أنه لا يريد به قضاء ما تركته في السبعة التي تحيضت بها، ليتجه من سيدنا المصنف قدّس سرّه استغراب دعوي الإجماع علي عدم قضاء الصوم، بل قضاء ما فعلته بعد السبعة لاحتمال كونها حائضا حينئذ، كما يظهر من سوقه لأقوال العامة. فراجع.

هذا كله في غير الدور الأول، و أما فيه فيتعين العمل بالعادة العددية مع الاستظهار، عملا بما دل علي ذلك فيمن يتجاوز حيضها قدر عادتها، مع ما

ص: 417

و الأقوي أن تضعه في أول الشهر (1).

______________________________

تقدم من قصور أدلة وظائف المستحاضة عن الدور الأول و ابتداء الرجوع إليها في الدور الثاني.

كما أن الأولي لها مع التحيض بالعدد اختيار ما يوافق عادتها، لأنه الأحوط من حيثية الشبهة الحكمية و الأقرب في الجملة من حيثية الشبهة الموضوعية، كما تقدم نظيره.

(1) كما في كشف اللثام و المستند و الجواهر و عن الذخيرة. و قد استدل عليه في كشف اللثام بما تقدم منه في التحيض بالعدد. لكن الذي ذكره في التحيض بالعدد هو النصوص المتضمنة التحيض في أول الدم و تمامية كل دور بشهر، و قاعدة الإمكان المقتضية للتحيض بأول الدم من دون موجب للعدول عنه، بضميمة أن الظاهر موافقة كل شهر لمتلوه.

لكن لا مجال للاستدلال بنصوص التحيض بالعدد بعد فرض التحيض بالعادة.

و التحيض بأول الدم و إن كان مسلما لقاعدة الإمكان أو غيرها، إلا أن ظهور موافقة كل شهر لمتلوه- لو تم- لا مجال له في مضطربة الوقت، لخروجها عن مقتضاه.

كما لا ينفع في ناسية الوقت التي يحتمل كون رؤية الدم فيها قبل وقت العادة أو بعدها إلا إذا كانت حيضية أول الدم محرزة بأمارة، حيث يكون مقتضي الجمع بينها و بين الظهور المذكور ظهور حيضية الدم بمرور كل شهر شهر، أما حيث كان محرزا بقاعدة الإمكان أو نحوها من الأدلة التعبدية- لوجوب التحيض في أول الدم و لو مع سبقه علي العادة الوقتية، كما تقدم- فلا طريق لإحراز ذلك بعد أن لم تكن قاعدة الإمكان حجة في لازم مؤداها، و لا نظر في غيرها من الأدلة التعبدية لبقية الأدوار.

علي أن حجية ظهور موافقة كل شهر لمتلوه تحتاج إلي دليل. و هو لا ينافي ما تقدم من ارتكاز أن الحيض في كل شهر مرة، لأن ذلك لا يستلزم حجيته استقلالا و إن أمكن أن يكون قرينة متممة لدلالة الإطلاق، كما تقدم و يأتي.

ص: 418

______________________________

و مثله ما في الجواهر من أنه المنساق من التدبر في الأخبار بعد فرض شمولها للمورد. إذ لم يتضح وجه انسياقه منها بعد تمحضها في بيان حجية العادة التي قد تنهض بتعيين الوقت و العدد معا، و قد تقصر عن تعيين أحدهما، لإمكان كون المرجع أمرا آخر فيما هي قاصرة فيه كالتمييز أو غيره.

و لا مجال لقياسه علي ما تقدم منا في وجه استفادة التحيض في أول الشهر من رؤية الدم من إطلاق الإرجاع لأقراء الأقارب.

للفرق بينهما بأن الإرجاع لأقراء الأقارب حيث كان موضوعه فقد العادة و التمييز الصالحين لتعيين الوقت، كان ظاهره الاتكال في تعيين علي قاعدة الإمكان الارتكازية بضميمة ارتكاز أن الحيض في كل شهر مرة، و إلا لم يكن الإطلاق المذكور صالحا لأن يترتب عليه العمل، بل يكون لاغيا عرفا.

أما في المقام فحيث كانت العادة العددية قد تجتمع مع الوقتية و مع التمييز الصالحين لتعيين الوقت، فلا قرينة علي الاتكال في تعيين الوقت علي الارتكاز المذكور في صورة فقدهما، لكفاية ترتب العمل عليه في الصورتين المذكورتين في عدم لغويته.

كما يمكن ترتبه في صورة فقدهما لو كانت العادة الوقتية معلومة إجمالا، حيث قد يستفاد من الإطلاق المدعي العمل بها في الجملة. و لا سيما إذا كان استفادة حجية العادة العددية مما دل علي حجية العددية الوقتية معا، لفهم أن حجيتها علي كل من الأمرين انحلالية. لأن الدليل المذكور وارد لبيان العمل في حال العادة المذكورة، و لا نظر له لكيفية العمل في حال انفراد العادة بأحد الأمرين، و إن استفيد منه حجيتها.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه حيث لا إطلاق يقتضي التخيير المذكور فيدور الأمر مع الشك بين تعيين الأول و التخيير، و الأصل يقتضي الأول، لأنه القدر المتيقن في الخروج عن قاعدة الاحتياط من جهة العلم الإجمالي بالحيض.

فهو موقوف علي عدم وجوب الاحتياط الذي هو مقتضي العلم الإجمالي المذكور.

و قد استدل قدّس سرّه عليه بأن وجوبه خروج عن السنن الثلاث المنحصر بها أمر

ص: 419

______________________________

الاستحاضة. و بوفاء النصوص برجوع ذات العادة العددية إليها.

و يشكل بما سبق آنفا من قصور السنة الأولي عن محل الكلام فانحصار صور المستحاضة في السنن الثلاث يستلزم دخوله في السنتين الأخيرتين، المستلزم لعدم حجية العادة العددية فقط.

علي أن استفادة حجية العادة العددية من المرسلة أو غيرها من النصوص لا ينافي وجوب الاحتياط، للفراغ عن حكم الحيض الواقعي الذي كان مقتضي العادة أنه بالقدر الخاص بعد فرض عدم نهوض العادة و لا غيرها بتعيينه، فهو وظيفة ظاهرية في طولها، نظير ما لو علمت فاقدة العادة بقدر التمييز و ترددت في موضعه من الدم. و ليس وجوب الاحتياط وظيفة في قبال حجية العادة ليكون منافيا و ينهض دليل حجيتها بمنعه.

و يظهر أثر حجيتها معه في مثل مقدار الصوم الذي يجب قضاؤه احتياطا، و الصلاة التي تقضيها في تمام الشهر، و في كيفية طلاقها بوجه تحرز صحته، و في مقدار الكفارة لو تكرر وطء الزوج لها.

نعم، لو كان ما دل علي حجية العادة العددية مختصا بمورد فقد ما يعين الوقت كان ظاهرا في عدم وجوب الاحتياط للغويته معه عرفا و أمكن استفادة وجوب جعل العدد في أول الشهر لنظير ما تقدم في التحيض بأقراء النساء، لكنه ليس كذلك، كما ذكرنا، و من هنا كان الاحتياط هو مقتضي القاعدة في المقام.

لكنه مختص بما إذا علم بحيضية بعض الدم المستمر أو كانت المرأة ذات عادة وقتية قد نسيتها، بناء علي عدم سقوط حجية العادة بالنسيان عن الحجية فيما هو المعلوم منها بالإجمال، و منه التحيض في كل شهر، أو في خصوص قسم منه، و إلا كان المرجع استصحاب عدم الحيض في غير الدور الأول، بناء علي قصور قاعدة الإمكان عن إحراز الحيضية في أثناء الدم المستمر، كما تقدم.

اللهم إلا أن يستفاد من مجموع نصوص مستمرة الدم المفروغية عن لزوم تحيض

ص: 420

______________________________

مستمرة الدم مطلقا في كل شهر مرة، و إن اختلفت في كيفيته باختلاف الوظائف، كما هو غير بعيد، فيكون لها في كل شهر علم إجمالي منجز يقتضي وجوب الاحتياط.

نعم، لا ملزم به في أول الدم خصوصا فيمن لم تنعقد لها عادة في الوقت أصلا، لنهوض قاعدة الإمكان و غيرها بحيضيته بمقدار العادة مع الاستظهار، و بكون ما بعده طهرا، فإذا تم الشهر الأول وجب الاحتياط، كما أنه لو كان لها تمييز مطابق للعادة قدرا تعين الرجوع له في معرفة الوقت- كما ذكره غير واحد، منهم سيدنا المصنف قدّس سرّه- عملا بدليله بعد فرض عدم منافاته للعادة، و لا تصل النوبة للاحتياط.

لكن مورد ما تقدم من سيدنا المصنف قدّس سرّه في تعيين الأول صورة فقد التمييز، كما هو مفروض المتن. و اللازم فيها الاحتياط، كما تقدم.

و أما دعوي: أن الاحتياط المذكور مستلزم للعسر و الحرج، فلا بد من الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي، فيكون المورد من صغريات لزوم الاقتصار علي المتيقن عند الدوران بين التعيين و التخيير.

فإن كان المراد بها لزوم الحرج النوعي بالنحو الذي يعلم معه بعدم إيكال الشارع الحائض للاحتياط و تشريع طريق لتعيين الحيض. فهو غير واضح بالنحو الصالح للحجية، بل لا يظن منهم المنع كلية من لزوم الاحتياط في موارد تردد الحيض.

و إن كان المراد بها لزوم الحرج الشخصي، فيدخل في عموم قاعدة رفع الحرج.

فلا مجال لدعواه كلية، بل هو يختلف باختلاف النساء، و أحكام الحيض و الطهر، و مدة استمرار الدم، و مقدار المواضع التي يحتمل فيها انقطاع الحيض و تبدله بالاستحاضة، و المدة التي ينحصر فيها احتمال الحيض حقيقة أو تعبدا، بناء علي لزوم جعل الحيض في الوقت الذي يعلم إجمالا بكون العادة الوقتية فيه، أو في الوقت الذي يقتضيه التمييز إذا كان أكثر من مقدار العادة، أو في أحد الوقتين اللذين يقتضي التمييز حيضية الدم فيهما إذا كان بينهما أقل الطهر.

ص: 421

______________________________

علي أنه قد يحتمل التعيين في غير الأول، كما هو الحال بناء علي عدم ثبوت حجية العادة الوقتية المعلومة إجمالا، حيث لا طريق للقطع بعدم حجيتها، و كذا لو اختلفت صفات الدم و لم تجتمع شرائط التمييز المتقدمة، حيث يحتمل حجية التمييز في الجملة لإثبات كون الحيض بعض واجد الصفة أو كون الواجد للصفة بعض الحيض.

و من هنا لا معدل عما تقتضيه القاعدة من الاحتياط بالمقدار الذي لا يلزم منه الحرج الشخصي. و إن كان ما يظهر من مرسلة يونس من اهتمام الشارع الأقدس بحل مشكل المستحاضة لا يناسب إيكالها في المقام إلي ذلك مع عدم تيسر تشخيص صغرياته في كثير من الموارد. بل يناسب ما ذكرنا من إهمال العادة و الرجوع للتمييز، ثم للتحيض بالعدد، الوافيين بضبط العدد و الوقت معا. إلا أن مبني الكلام علي غض النظر عن ذلك.

و منه يظهر ضعف القول بالتخيير لها في وضع قدر العادة حيث شاءت من الشهر مطلقا، كما هو مقتضي إطلاق القواعد و الدروس و المسالك و الروض و الروضة و محكي نهاية الأحكام و المختلف و البيان و الموجز و الجعفرية و شرحيهما و فوائد الشرائع و مجمع البرهان، و في المدارك أنه مذهب الأكثر، و في الحدائق أنه المشهور، أو في ضمن الدم الواجد للصفة، كما يظهر من الوسيلة، أو مع فقد الأمارة المفيدة للظن بموضع خاص، كما عن الذكري و البيان. لما قيل من استواء الأيام بالنسبة إليها بعد فرض عدم العادة الوقتية لها أو نسيانها.

إذ فيه: أن ذلك إنما ينفع لو كان هناك إطلاق يقتضي التخيير، أما بدونه فحيث كانت الأحكام تابعة للحيض الذي هو متعين ثبوتا مردد بين الأيام إثباتا كان مقتضي القاعدة الاحتياط بالوجه المتقدم. و لا سيما في أول الدم، لوفاء قاعدة الإمكان و غيرها بحيضيته، كما سبق.

و من ذلك كان ما في الروضة من اختصاص التخيير بالشهر الأول، ثم يلزم مطابقة بقية الشهور له، أشكل، لمخالفته لقاعدة الإمكان و غيرها، و لعدم الدليل علي لزوم

ص: 422

و ليس للسيد أو الزوج منعها عنه (1). و إن كان الأحوط استحبابا لها الجمع

______________________________

التطابق بين الشهور، كما سبق عند الكلام فيما ذكره في كشف اللثام وجها لتعين الأول.

و لعله لذا خص في جامع المقاصد الخلاف في التعيين و التخيير ببقية الشهور، و أما في الشهر الأول فيتعين جعل العدد في أول الدم، إلا أن تجهل أوله لجنون و نحوه، فتتخير.

و إن كان ما ذكره أخيرا مشكلا، لعدم كفاية الجهل في التخيير. بل اللازم إما الرجوع للاستصحاب بالبناء علي تأخر الدم، أو الاحتياط لإحراز التحيض في أول الدم إلي أن تتيقن مضي الشهر الأول.

(1) لما كان تعيين الأول عنده قدّس سرّه ليس لقيام الدليل عليه، ليكون واردا علي وجوب إطاعة الزوج و السيد القاصرة عن التمكين من الوطء حال الحيض، بل لأن المتيقن براءة الذمة به بسبب الدوران بين التعيين و التخيير، فإن قيل بأنه مع ثبوت التخيير لها ليس لهما منعها من تعيين الأول لم يخرج الأول بسبب منعهما عن كونه المتيقن، فيجب اختياره عقلا.

و إن قيل بأنه مع التخيير لها يكون لهما منعها من ذلك فلا مجال لليقين ببراءة الذمة به، لاحتمال وجوب إطاعتهما بسبب احتمال التخيير. لكن من الظاهر أن وجوب إطاعتهما لما لم يكن معلوما لم يجب إحراز الفراغ عنه عقلا بعدم اختيار الأول.

أما سائر أحكام الحيض و الطهر فهي لما كانت معلومة وجب إحراز الفراغ عنها باختيار الأول الذي يقطع معه بالتعبد بحيضيته دون ما بعده، فيقطع معه بالفراغ عن تلك الأحكام.

هذا كله بناء علي لزوم اختيار الأول، أما بناء علي التخيير فقد صرح في القواعد و الروضة و محكي البيان و الموجز بأن لها اختيار مالا يرضي به الزوج، و في جامع المقاصد: «لأن ثبوت الحيض لها بأصل الشرع لا باختيارها، و التخيير لم يثبت أصالة، بل لأن جهلها بالحال اقتضي استواء جميع أيام الشهر بالنسبة إليها، فامتنع تكليفها

ص: 423

______________________________

بشي ء مخصوص، فكما لم يكن ذلك منوطا باختيارها أصالة لم يكن للزوج في ذلك اعتراض. و يحتمل أن يكون كالواجبات الموسعة».

و يشكل التعليل الذي ذكره بأن تخييرها بسبب استواء أيام الشهر بدوا لا ينافي وجوب اختيارها خصوص بعض الأيام من حيثية وجوب إطاعة الزوج الذي هو من سنخ الحكم الثانوي الصالح للترجيح، كما لو حلفت علي تعيين بعض الأيام، و كما هو الحال لو كان التخيير ثابتا لها شرعا، الذي يظهر منه قدّس سرّه التسليم بأنه عليه يجب عليها إطاعة الزوج.

بل الظاهر رجوع الأول للثاني، لأن مجرد استواء أيام الشهر بالنسبة إليها لجهلها بالحيض لا يكفي في تخييرها ما لم يستكشف معه حكم الشارع لها بالتخيير، لتكون باختيارها محرزة للحيض تعبدا و يرتفع مقتضي العلم الإجمالي و هو الاحتياط في حقها.

نعم، سبق منا في ذيل الفرع الأول من فروع التحيض بالعدد أنه بناء علي التخيير لها لا يجب عليها إطاعة الزوج، بل تكون باختيارها محرزة للحيض الذي لا يجب معه التمكين.

و لعله إليه يرجع ما في كشف اللثام من الاستدلال لعدم وجوب إطاعة الزوج بالأصل. و منه يظهر ضعف ما ذكره جمال الدين الخوانساري في حاشيته علي الروضة من قوة احتمال كون المقام نظير الواجبات الموسعة في وجوب إطاعة الزوج. علي أن وجوب إطاعته في الواجبات الموسعة محل كلام، و لا مجال للبحث فيه هنا.

هذا كله في الزوجة و أما الأمة فقد يدعي وجوب إطاعتها لسيدها في الاختيار، لا من حيثية وجوب التمكين الذي يقصر عن حال الحيض، بل من حيثية ملكيته لها، فلا يرتفع موضوعه باختيارها الذي يحرز معه الحيض. نعم، لو اختارت ما يكرهه ترتب عليه الأثر و إن كانت عاصية في اختيارها.

اللهم إلا أن يدعي قصور وجوب الإطاعة من حيثية الملكية عن مثل الاختيار الذي هو أمر نفسي و لا يكون تصرفا عرفا في الملك. و لذا لا إشكال ظاهرا في عدم

ص: 424

بين أعمال الحائض و المستحاضة (1)، و تغتسل في كل وقت تحتمل النقاء (2) إلي أن تطهر، و تقضي صوم عادتها (3).

(مسألة 13): إذا حصرت وقت عادتها في عدد من أيام الشهر يزيد علي أيام عادتها- كأن تذكرت أن عادتها خمسة أيام مثلا كانت في العشرة الأولي- فالأحوط إن لم يكن أقوي أن تضع العدد فيه (4)، و أحوط منه

______________________________

وجوب استئذان المولي فيه.

و دعوي: أن مقتضي ما تضمن قصور سلطنة العبد في الاعتباريات من بيع أو نكاح أو طلاق أو غيرها يقتضي عدم نفوذ الاختيار بغير إذن مولاها، فضلا عن صورة منعه.

مدفوعة بأن ترتب التعبد بالحيض علي اختيارها له في الوقت الخاص ليس من باب نفوذ التصرف الاعتباري، لعدم كون التعبد بالحيض مجعولا اعتباريا تابعا لجعل المرأة له، كالبيع، بل هو حكم شرعي مجعول للشارع تبعا لتحقق موضوعه و هو الاختيار، نظير اختيار أحد الخبرين المتعارضين الموجب لحجيته علي بعض المباني. فلاحظ.

مسألة 13: إذا حصرت وقت عادتها في عدد من أيام الشهر يزيد علي أيام عادتها

(1) سبق منا أنه اللازم بناء علي حجية العادة العددية. و عليه جري في المبسوط و الإرشاد و الحدائق و ظاهر المعتبر، كما قد يظهر من المنتهي حيث اقتصر في بيان الحكم علي نسبة ذلك للشيخ، و يظهر من الإيضاح التوقف للاقتصار فيه علي بيان القولين، كما قد يظهر من الشرائع للاقتصار فيه علي نسبة الاحتياط للقيل.

(2) و إن لم تقتضه وظيفة المستحاضة. و لازمه إعادة الغسل و الصلاة لو احتمل الانقطاع بعد فعلهما قبل خروج الوقت. و في إجزاء الغسل الواحد للاستحاضة و الحيض معا كلام قد يأتي في أحكام المستحاضة.

(3) بل مقتضي الاحتياط زيادة يوم، لاحتمال حصول الحيض في أثناء اليوم.

(4) يظهر ممن سبق منه حجية العادة العددية فقط المفروغية عن ذلك، و أن

ص: 425

أن يكون العدد في أوله (1).

(مسألة 14): إذا ذكرت وقت عادتها و نسيت عددها، أو كانت ذات عادة وقتية لا عددية، لا يبعد الرجوع في العدد إلي الروايات (2)،

______________________________

الخلاف إنما هو في وجوب وضع الحيض في أول الأيام التي تتردد العادة الوقتية المعلومة إجمالا بينها أو التخيير في وضعها في أيها شاءت أو الاحتياط في جميعها، من دون احتمال جواز وضع الحيض في غيرها أو وجوب الاحتياط فيه.

و عليه بنوا تحقق متيقن الحيضية لو كان العدد أكثر من نصف الزمان المردد فيه الوقت، كما لو علمت أن عادتها سبعة في العشرة الأولي من الشهر، حيث تحرز حيضية الأربعة المتوسطة بمقتضي حجية العادة الإجمالية، و فرعوا الفروع الكثيرة المتفرعة علي فرضي وجود المتيقن و عدمه، و خصوصا في المبسوط.

و يبتني أصل المسألة علي حجية العادة الوقتية الإجمالية التي سبق الكلام فيها في تحيض الناسية بالتمييز و العدد، و قربنا هناك عدم حجيتها.

نعم، قد يدعي حجيتها في المتيقن منها لو كان العدد أكثر من نصف الزمان المردد فيه الوقت، لما يأتي في المسألة الرابعة عشرة، و يأتي الكلام فيه.

و لم يتضح الوجه فيما يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه من نحو من التردد فيه مع عدم مناسبته لمبانيه التي تظهر بالنظر في كلماته في مستمسكه، و منها ما ذكره في وجه تدارك الناسية لو ذكرت عادتها بعد عملها علي خلافها من حجية العادة ذاتا و إن كان النسيان عذرا في العمل علي خلافها، لوضوح أن ذلك يقتضي لزوم العمل فيما يعلم منها إجمالا.

مسألة 14: إذا ذكرت وقت عادتها و نسيت عددها،
اشارة

(1) المناسب لما سبق منه كون ذلك هو الأقوي، و سبق أن ظاهرهم المفروغية عن أن محل الخلاف في تعيين الوقت أو الاحتياط هو الأيام التي تتردد فيها العادة قلت أو كثرت.

(2) ظاهره المفروغية عن حجية العادة الوقتية، كما هو ظاهر جملة منهم،

ص: 426

______________________________

حيث لم يتعرضوا إلا للخلاف في تعيين العدد بما يناسبها. و قد استدل عليه سيدنا المصنف قدّس سرّه بإطلاق ما تضمن الرجوع إلي أيام الأقراء.

و منه قوله عليه السّلام في مرسلة يونس: «و لو كانت تعرف أيامها ما احتاجت إلي معرفة لون الدم، لأن السنة في الحيض أن تكون الصفرة و الكدرة فما فوقها في أيام الحيض إذا عرفت حيضا كله إن كان الدم أسود أو غير ذلك» «1».

لكن ما تضمن الرجوع إلي أيام الأقراء و إن كان جملة كثيرة من النصوص، إلا أنها ظاهرة في تعيين الأيام و معرفتها معرفة تامة، لظهور الإضافة في العهد و الاستغراق، و هو لا يكون إلا بمعرفة عددها و موضعها من الشهر.

و لا سيما مع ظهورها في استغنائها بالرجوع للأيام في معرفة الوظيفة، بل هي كالصريحة في ذلك، كما يظهر بأدني ملاحظة لها.

و أما الفقرة المتقدمة من المرسلة فالاستدلال بها إن كان بلحاظ قوله عليه السّلام:

«و لو كانت تعرف أيامها ما احتاجت … »، فهو ظاهر في المعرفة التامة التي يستغني بها في مقام العمل، إذ مع المعرفة الناقصة تحتاج عندهم للتمييز.

و إن كان بلحاظ التعليل بأن الكدرة فما فوقها في أيام الحيض إذا عرفت حيض. بدعوي: أن المعرفة لو كانت ظاهرة بدوا في المعرفة التامة فمناسبة كون التعليل ارتكازيا تقتضي إلغاء خصوصية ذلك و الاكتفاء بالمعرفة في الجملة، لأن كاشفية العادة عن حيضية ما يخرج فيها لا يختص بمعرفتها من حيثية العدد.

ففيه: أن ملاحظة مجموع فقرات المرسلة تشهد بأن المراد به الإشارة للعادة التي سبق في السنّة الأولي الإرجاع إليها ببيان صريح في اعتبار معرفة وقتها و عددها معا.

و يناسبه قوله عليه السّلام بعد التعليل المتقدم بلا فصل: «فهذا يبين أن قليل الدم و كثيرة أيام الحيض حيض كله إذا كانت الأيام معلومة». فليس المراد بالتعليل حجية العادة مطلقا لينفع فيما نحن فيه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 427

______________________________

علي أنه إن أريد بذلك كون التعليل قرينة علي عموم حجية العادة في السنة الأولي، فهو لا يناسب التأكيد في بيان تلك السنة علي اعتبار العلم بالوقت و العدد معا، كما لا يناسب الاكتفاء بها في مقام العمل، و لا ظهور المرسلة بمجموعها في تباين السنن الثلاث موردا و عدم تداخلها.

و إن أريد به كونه دالا علي عموم حجية العادة و إن قصرت السنة الأولي عنه، لورودها لبيان ما يكتفي به في مقام العمل، فهو لا يناسب ما تضمنته المرسلة من انحصار صور المستحاضة في السنن الثلاث و عدم خروجها عنها.

و قد تقدم نظيره في حكم العادة العددية فقط. كما تقدم هناك أنه لا بد من رفع اليد عن ظهور بعض فقرات المرسلة في اختصاص حجية التمييز بالجهل بالوقت و العدد معا. فراجع.

و بذلك ظهر أنه لو تم إطلاق دليل يقتضي حجية العادة الوقتية فقط- كما لعله في مثل ما تضمن: أن الصفرة في أيام الحيض حيض «1» - كانت المرسلة صالحة لرفع اليد عنه و تقييده بصورة انعقادها و العلم بها في العدد أيضا، كما تقدم نظيره عند الكلام في حجية العادة العددية فقط.

و كأن ظهور المفروغية من جماعة عن حجية العادة بجميع أقسامها، و الاكتفاء بالعلم بها بالإجمالي منه ناش عن تخيل قوة أماريتها بنحو يصلح لتتميم دلالة الأدلة، أو الغض، أو الغفلة عن بعض ما يظهر منها في خلافه، مع قضاء التدبر بعدم قوتها بالنحو المذكور، و أن أماريتها تعبدية لحل مشكلة المستحاضة، فيسهل رفع اليد عنها في مورد قصورها عن ذلك، كما يظهر من الاكتفاء في انعقادها بمرتين، و من رفع الشارع اليد عنها في الجملة بتشريع الاستظهار، و بالحكم بحيضية الدم مع تقدمه أو تأخره عنها، و غير ذلك.

بل عدم التعرض في نصوص المستحاضة علي كثرتها لفرض انعقاد العادة أو

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض.

ص: 428

______________________________

العلم بها من إحدي الجهتين فقط يشرف بنا علي القطع بإهمال الشارع لها حينئذ.

و لا سيما مع ما تستلزمه حجيتها من كثرة ارتباك الوظيفة علي مستمرة الدم مع الرجوع إليها- كما يظهر مما تقدم و يأتي- مع ظهور المرسلة و غيرها في تنظيم الشارع وظيفتها و تسهيلها.

و من جميع ما تقدم يظهر أن اللازم رجوع ذات العادة الوقتية للمراتب المتأخرة عن العادة من التمييز أو غيره، كما هو مقتضي إطلاق جملة منهم في الناسية و المضطربة ممن تقدم التعرض له عند الكلام في حجية العادة العددية فقط. فراجع.

هذا و لو بني علي حجية العادة في خصوص الوقت في المقام فما في المتن من الرجوع للعدد الذي تضمنته الروايات هو المذكور في المسالك و الروض و الروضة و المستند، و في بعض كلمات صاحب الجواهر أنه الأقوي، و في المنتهي أنه لو قيل به كان وجها، و احتمله في جامع المقاصد و محكي الذكري و فوائد الشرائع، و عن شرح المفاتيح أنه يحتمل احتمالا ظاهرا، كما قد يظهر من حاشية المدارك، و في المستند أنه حكي عن الأكثر.

و يستدل عليه بإطلاق موثق الخزاز الظاهر في التخيير بين تمام المراتب من الثلاثة إلي العشرة، و مرسلة يونس المتضمنة للتحيض بالستة أو السبعة، التي سبق أن مقتضي الجمع العرفي حملها علي الأفضلية.

و هي و إن كانت واردة في المبتدأة، إلا أنه تقدم لزوم تعميمها لكل فاقدة للعادة و التمييز الحجة، و المفروض في محل الكلام عدم التمييز- لما يأتي- و العادة الوقتية حيث لا تنفع في العدد تعين شمولها لموردها.

و من هنا لا يهم اختصاص بقية نصوص التحيض بالعدد- و هي موثقا ابن بكير و مضمر سماعة- بالمبتدئة.

لكن سبق أن ظاهرهم إهمال مضمون موثق الخزاز، و معه يتعين العمل علي الستة أو السبعة، لمرسلة يونس.

و لا وجه لما يظهر من بعضهم من العمل بمفاد موثقي ابن بكير، لابتنائه علي إلغاء

ص: 429

______________________________

خصوصية المبتدأة، الذي لا يخلو عن إشكال، كما تقدم في حكم الناسية للوقت و العدد معا.

و أشكل منه ما صرح به بعضهم من أنها تختار من العدد ما لا تعلم بمخالفته لعادتها إجمالا.

إذ فيه: أنه- مع ابتنائه علي حجية العادة المعلومة إجمالا- قد يتجه بناء علي الرجوع لما تضمن التخيير بين تمام المراتب الثلاثة إلي العشرة، بتقييده بعدم المنافاة للعادة المعلومة إجمالا، أما بناء علي إهماله و العمل بغيره مما تضمن عددا أو أعدادا خاصة- كما هو ظاهرهم- فمع الخروج عنه لا معني للاستدلال به علي أصل التحيض بالعدد ثم التخيير في العدد.

بل هو لا يجتمع مع ما صرح به بعضهم من جواز التحيض في شهر عشرة و في آخر ثلاثة، فإنه لو تم الدليل عليه في غير الناسية لا مجل له فيها بناء علي عدم جواز الخروج عن العادة المعلومة إجمالا، للعلم معه بمخالفة أحد الشهرين لها.

و منه يظهر أن البناء علي حجية العادة المعلومة إجمالا يوجب قصور مرسلة يونس عن بعض صور المستحاضة حتي لو حملت حجية العادة فيها علي الانحلال و التفكيك بين الوقت و العدد، و قد سبق أنه خلاف ما صرح به فيها.

و لبعض ما ذكرنا احتمل في الجواهر التحيض بالعشرة ما لم تعلم انتفاء بعضها، و إلا فبالممكن منها، لاستصحاب الحيض، و قاعدة الإمكان، و غيرها. بل قال في بعض كلماته: «و هو لا يخلو عن قوة».

و إن كان قد يشكل بأن تعذر العمل بالروايات في بعض الموارد لا يقتضي إهمالها مطلقا، بل الاقتصار علي مورد التعذر. علي أن الاستدلال حينئذ بقاعدة الإمكان لا يخلو عن إشكال، لما تكرر من قصور أدلتها عن الدم المستمر، و غيرها مما تضمن التحيض للعشرة «1» مختص بالدور الأول.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2، و باب 14 منها حديث: 1.

ص: 430

______________________________

فالعمدة الاستصحاب بعد فرض حجية العادة علي حيضية ما فيها، لما هو التحقيق من جريان استصحاب مؤدي الأمارة.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم جريانه في التدريجيات، فهو ممنوع، علي ما تقرر في محله، و أوضحه هو قدّس سرّه في أصوله.

نعم، الاستصحاب إنما يقتضي التحيض للعشرة إذا ذكرت أول الدم أو حيضية يوم يحتمل أنه الأول، أما إذا ذكرت آخره فالعادة حجة علي حيضيته و حيضية اليومين اللذين قبله، و لا مجال للبناء علي حيضية ما زاد علي ذلك إذا لم يعلم بأن حيضها أكثر من ثلاثة، لأن عادتها الوقتية حجة علي نفي حيضية ما بعد اليوم الذي ذكرته، و الاستصحاب لا ينهض بإثبات حيضية ما قبل الثلاثة، بل بنفيها.

كما أنها لو ذكرت وسطه فالعادة حجة علي حيضيته و حيضية اليومين المكتنفين له، و مقتضي الاستصحاب استمرار الحيض إلي ما بعد اليوم الذي ذكرته بمقدار نصف أكثر الحيض، دون حيضية ما قبله بالمقدار المذكور، و إن كان ملازما لكون ذلك اليوم وسط الحيض مع استمرار الحيض المدة المذكورة، لعدم حجية الاستصحاب في لازم مؤداه.

و علي هذا القياس بقية الفروض المتصورة، حيث لا تكون العادة حجة علي الحيضية إلا في المقدار المتيقن، و لا ينهض الاستصحاب إلا بإثبات استمراره من اليوم الذي تذكره بمقدار نسبته إلي أكثر الحيض. هذا ما تقتضيه الأدلة و الاستصحاب في المقام.

و بقي في المقام أقوال أخر ذكرت في أغلب كلماتهم في الناسية لعددها،
اشارة

التي هي مورد تحريرهم للمسألة، و منها يستفاد حكم من لم تنعقد لها عادة فيه..

الأول: الاقتصار علي الثلاثة،

كما في الوسيلة و المعتبر، و استحسنه في المدارك، و احتمله في جامع المقاصد و محكي الذكري و فوائد الشرائع. و كأنه للاقتصار علي المتيقن في الخروج عن عموم أحكام الطاهر.

ص: 431

______________________________

و يشكل بأن الشك في الحيض حيث كان بنحو الشبهة الموضوعية فلا مجال للرجوع للعموم المذكور بناء علي ما هو التحقيق من عدم حجية العام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص.

بل المرجع استصحاب الحيض الذي عرفت مقتضاه لو لم يكن محكوما لدليل التحيض بالعدد علي الوجه المتقدم.

و ما قد يظهر من المعتبر من أنه مقتضي الاحتياط، كما تري، إذ هو يخالف الاحتياط من بعض الجهات، إلا أن يريد أن إجراء أحكام الاستحاضة بعد الثلاثة يختص بما يطابق الاحتياط منها، فيرجع للقول الثالث. لكنه خلاف ظاهر كلامه.

ثم إن متيقن الحيضية تفصيلا قد يزيد علي ثلاثة، كما لو علمت أن يومين معينين وسط الحيض أو ثلاثة معينة أوله أو آخره. كما قد يكون أقل، كما لو علمت بحيضية يوم في الجملة إما أول الحيض أو وسطه أو آخره. و إنما اقتصروا علي الثلاثة لأن المفروض في أكثر كلماتهم العلم بأن يوما معينا أول الحيض أو وسطه أو آخره.

الثاني: جواز كل من الاقتصار علي الثلاثة و التحيض بالروايات،

كما في محكي البيان. و قد يحمل عليه قوله في الدروس: «و لو ذكرت أوله فقط أكملته ثلاثا، و لها العود إلي السبعة أو الستة. و لو ذكرت آخره فكذلك».

و هو كما تري، لظهور الروايات في تعين مضامينها، فلو كانت حجة منعت من الاقتصار علي الثلاثة، و لزم الخروج بها عن مقتضي الأصول الأخر، و إلا لم يجز العمل علي مضامينها في قبال الأصول.

الثالث: الاحتياط فيما زاد علي الثلاثة إلي تمام العشرة،

كما في المبسوط و الشرائع و التذكرة و القواعد و الإرشاد و محكي التحرير و نهاية الأحكام و الجامع، و عن الذكري أنه المشهور.

و هو مقتضي العلم الإجمالي، لو لا ما سبق من مقتضي الأدلة و الاستصحاب

ص: 432

فتختار عددا من الثلاثة إلي العشرة تتحيض فيه إذا لم تكن عادة لأقربائها، و إلا فالأحوط وجوبا اختيارها (1).

______________________________

التي يخرج بها عنه.

هذا و قد اقتصر في المبسوط في كيفية الاحتياط علي الجمع بين أعمال المستحاضة و قضاء الصوم. و زاد غيره الاغتسال لاحتمال انقطاع الحيض. و هو في محله، كإضافة تمام أحكام الحائض من حرمة الوطء و غيرها، كما صرح بها بعضهم.

كما اقتصر في المبسوط و غيره علي قضاء صوم عشرة أيام، و ذكر آخرون أنه أحد عشر يوما، معللا بما تقدم من احتمال كون مبدأ الحيض في أثناء النهار.

و قد استثني جملة منهم ما إذا علمت أن عادتها دون العشرة. و هو يبتني علي حجية العادة المعلومة إجمالا.

كما تقدم في المسألة الثانية أن احتياطها لا يقتضي منع الزوج من الوطء لو طالب به. فتأمل جيدا.

(1) لإطلاق موثق زرارة و محمد بن مسلم «1» المتقدم في رجوع المبتدأة لأقراء نسائها الشامل لفاقدة العادة و ناسيتها، و إنما خرج عنه قدّس سرّه في ناسية الوقت و العدد معا، لظهور الإجماع، و قد ذكر قدّس سرّه أنه لا مجال للتعويل عليه مع نسيان العدد فقط، لخروجه عن المتيقن منه.

لكن سبق أنه لم يصرح بالإجماع في كلماتهم، غاية الأمر أنه لم يظهر القول من أحد برجوع الناسية لهن، حيث اقتصروا علي المبتدأة في الرجوع للأقارب، و لم يذكروا أقراء الأقارب في وظائف الناسية، و كلاهما لا يختص بالناسية للوقت و العدد معا، فدعوي أنها المتيقن من الإجماع غير ظاهرة المنشأ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 433

و حينئذ فإن ذكرت أول الوقت تحيضت في أوله و أكملته بالعدد الذي تختاره (1). و كذا إن ذكرت آخره أكملته بما قبله، و إن ذكرت وسطه أكملته من طرفيه (2).

______________________________

نعم، سبق عدم ثبوت الإجماع بنحو معتد به، ليرفع به اليد عن إطلاق الموثق.

و من هنا يتعين العمل به في الناسية للوقت فقط أو مع العدد. غايته أنه بناء علي حجية عادتها في الوقت تتحيض بقدر أقرائهن فيه، و بناء علي ما ذكرناه من عدم حجيتها تتحيض بمرور شهر من رؤية الدم، لنظير ما سبق في المبتدأة.

(1) و ليس لها اختيار ما تعلم بمخالفته لعادتها العددية لو علمت به إجمالا، كما صرح به هو قدّس سرّه و غيره، بناء علي حجية العادة المعلومة إجمالا. و قد سبق الكلام في ذلك.

(2) بالتساوي لو كان الذي ذكرته وسطا حقيقيا، و إلا فعلي نحو ذكرها له، فإن ذكرت أنه آخر ثلثه الأول مثلا جعلت ما بعده ضعف المجموع منه و مما قبله. أما لو ذكرت أنه في الأثناء من دون تعيين موقعه، ففي وجوب الاحتياط، أو التخيير، أو إكمال المتيقن مما قبله، أو مما بعده، وجوه أقربها الأخير، لاستصحاب عدم الحيض إلي حين المتيقن، المانع من التحيض قبله، و الرافع لوجوب الاحتياط، من دون أن يتضح إطلاق يقتضي التخيير، ينهض بالخروج عنه.

و به يفترق المقام عما لو كانت ذات عادة عددية فقط، أو ذكرت عدد عادتها فقط، حيث سبق فيه وجوب الاحتياط، فإن الاستصحاب لا يجري هناك بعد عدم وجود زمان معين متيقن الحيضية، بل مقتضي الاستصحاب عدم الحيض في تمام الشهر، فينافي العلم الإجمالي بوجوب التحيض فيه، و مقتضي العلم المذكور وجوب الاحتياط. أما هنا فحيث يعلم بالحيض في وقت العادة لا مانع من استصحاب عدمه قبله، و تتحيض بما يتمم العدد بعده. فلاحظ.

و هكذا الحال لو علمت بحيضية يوم معين في الجملة من دون أن تعلم أنه أول

ص: 434

هذا إذا لم تكن ذات تمييز، و إلا رجعت إليه في تعيين العدد (1).

______________________________

حيضها، أو آخره، أو في أثنائه.

(1) كلماتهم في المقام لا تخلو عن اضطراب، فإن جملة منهم أطلقوا رجوع المضطربة و الناسية للتمييز، كما أن الأكثر لم يتعرضوا لرجوع ناسية العدد أو الوقت إليه في التعيين من الجهة المنسية، فقد يكون ذلك للمفروغية عن حجيته في تلك الجهة، كما قد يظهر من بعضهم، و قد يكون للبناء علي تقدم التمييز حتي علي العادة المذكورة من أحد الطرفين، كما هو ظاهر الشرائع، و يشعر به ما تقدم في المتن في المسألة الثانية عشرة، كما قد يكون لاستثناء ذات العادة مطلقا من الرجوع إليه، فلا يرجع إليه معها حتي في الجهة المنسية، كما قد يظهر من بعض كلماتهم. و قد أشرنا إلي بعض ذلك في أول المسألة الثانية عشرة.

و كيف كان، فمقتضي عموم حجية التمييز- المستفاد من مثل موثق حفص بن البختري «1» - و ظهور مرسلة يونس في تقدمه علي التحيض بالعدد هو الرجوع إليه في المقام في معرفة وقت الحيض و قدره، بناء علي عدم حجية العادة الوقتية فقط، و في معرفة قدره فقط، بناء علي حجيتها.

نعم، لا بد من تحققه في الوقت المذكور لها بالنحو المناسب للذكر من حيثية الأول و الآخر و الوسط، فلو خالف ذلك كانا متعارضين و لزم سقوطه بناء علي عموم تقديم العادة علي التمييز.

لكن تقدم منا في المسألة الثانية عشرة الإشكال في عموم تقديمها عليه، لاختصاص دليل تقديمها بالعادة الوقتية العددية. و لعله عليه يبتني ما تقدم من الشرائع. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 435

و الأحوط لها الجمع بين أعمال الحائض و المستحاضة (1)، إلي العشرة أيام (2)، أولها أوله في الصورة الأولي، و آخرها آخره في الصورة الثانية، و وسطها وسطه في الصورة الثالثة، فتحتاط في خمسة قبله و خمسة بعده (3).

______________________________

(1) كأنه لاحتمال قصور نصوص التحيض بالعدد عن المقام، لما سبق من الجواهر أو غيره.

(2) ما لم تعلم بقصور عادتها عنها، بناء علي حجية العادة المعلومة إجمالا التي تقدم الكلام فيها.

(3) ظاهر ما ذكره في هذه الفروض عدم تأدي الاحتياط إلا بالجمع بين الوظيفتين في تمام العشرة.

و يشكل بأنه بناء علي حجية العادة الوقتية فقط يلزم الاكتفاء بأعمال الحائض في المتيقن المتعين، و هو الثلاثة أو الأكثر أو الأقل، علي ما سبق، و بناء علي عدم حجيتها يكتفي بالرجوع للوظائف المتأخرة عن العادة من التمييز أو غيره. فتأمل جيدا.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم، و الحمد للّه رب العالمين.

انتهي الكلام في الفصل السادس من مباحث الحيض في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف علي مشرفه و آله أفضل الصلاة و السلام، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه نجل العلامة الجليل حجة الإسلام السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم دامت بركاته، في شهر ذي القعدة الحرام سنة ألف و أربعمائة للهجرة النبوية علي صاحبها و آله أفضل الصلاة و أزكي التحية.

و منه سبحانه نستمد العون و التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

كما انتهي تبييضه بقلم مؤلفه الفقير في الشهر المذكور حامدا مصليا مسلما.

ص: 436

الفهرست

المقصد الثاني: في غسل الحيض 5

تعريف الحيض 5

الفصل الأول: في سببه 9

تترتب أحكام الحيض بخروجه من الموضع غير المعتاد 10

هل تترتب أحكام الحيض بنزوله الي فضاء الفرج من دون أن يخرج 10

اشتباه دم الحيض بدم البكارة 14

كيفية الفحص عند الاشتباه 14

لو نفذ الدم في بعض جوانب القطنة من دون تطويق و لا استنقاع 17

لا يختص وجوب الفحص بما يخرج في العادة 19

الكلام فيما يظهر من المعتبر من عدم الحكم بالحيضية مع استنقاع القطنة 19

لو احتمل استناد الدم للبكارة و الحيض معا 21

الكلام فيما لو سبق الحيض و احتمل استناد استمرار الدم للبكارة 21

الكلام فيما لو عملت من دون فحص و اختبار لحالها 23

إذا تعذر الاختبار علي المرأة 25

اذا لم تعلم الحالة السابقة من الحيض و الطهر 27

(تنبيه): الاحتياط في حق المرأة لا يقتضي منع الزوج عن الوطء 30

(تتميم): في اشتباه دم الحيض بدم القرحة 31

الفصل الثاني: في تحديد وقت الحيض 37

كل دم تراه المرأة الصبية قبل التسع سنين ليس بحيض 37

المراد بالسنين الهلالية 38

ص: 437

الكلام في سببية الحيض للبلوغ 40

الكلام فيما لو علم بالحيض قبل البلوغ أو بعد سن اليأس 41

الكلام في سن اليأس من الحيض 45

تصحيح طريق الشيخ لابن فضال 47

تحديد قبيلة قريش 49

لا بد في كون المرأة قرشية من انتسابها لقريش من طريق الأب 54

الشك في أن المرأة قرشية 55

تحقيق مفاد استصحاب عدم بلوغ المرأة أو عدم دخولها في سن اليأس 56

الكلام فيمن انتسبت لقريش من الزنا. مع الكلام في أن قاعدة الفراش واقعية مع العلم بانعقاد الولد من ماء الزاني أو ظاهرية عند الشك في ذلك 58

الكلام في حيض الحامل 63

الفصل الثالث: في تحديد مدة دم الحيض 81

أقل الحيض ثلاثة أيام 81

أقل الحيض للحامل 82

هل يعتبر التوالي في الأيام الثلاثة التي هي أقل الحيض 84

مفاد الأصل العملي عند تردد الدم بين الحيض و الاستحاضة 85

الكلام في معيار وحدة الحيض 89

مقدار الفصل بين الدميين من حيضة واحدة 95

حكم النقاء المتخلل بين الدميين 103

حكم الغسل بانقطاع الدم لدون الثلاثة 107

يكفي في استمرار الحيض بقاء الدم في باطن الفرج 114

الكلام في الليالي 114

الكلام في مقدار خروج الدم المعتبر في اليوم 118

يكفي التلفيق في الأيام 122

أكثر الحيض عشرة أيام 123

أقل الطهر عشرة أيام 126

ص: 438

لا حدّ لأكثر الطهر 128

الدم الفاقد للحد 128

إذا انقطع الدم بدعاء الحيض 130

الفصل الرابع: في معيار العادة و أحكامها 131

لا بد في انعقاد العادة من تكرار الحيض مرتين متواليتين علي نحو واحد 132

العادة الوقتية و العددية 133

العادة الوقتية دون العددية 135

إذا اختلف الحيض في العدد لم تنعقد العادة في الأقل 138

لا يعتبر في انعقاد العادة العددية استقرار عادة الطهر 140

لا يضر في انعقاد العادة الاختلاف اليسير 140

هل المدار في انعقاد العادة علي الشهر الهلالي أو الشهر الحيضي؟ 141

الكلام في العادة المركبة 147

الكلام في كيفية انعقاد العادة مع تخلل النقاء بين الدميين 150

الكلام في انقلاب العادة، و زوال حكمها 152

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 4، ص: 439

تحيض ذات العادة برؤية الدم في العادة و إن لم تعلم استمراره ثلاثة أيام 155

إذا رأت الدم قبل العادة أو بعدها 158

الصفرة في غير أيام العادة. مع الكلام في المراد مما تضمن أنها قبل الحيض بيومين حيض و بعده بيومين ليست بحيض 160

الحكم بعد حيضية الصفرة لا يستلزم عدم حيضية فاقد الصفات 166

الكلام فيما لو تقدم الدم علي العادة كثيرا أو تأخر كذلك 167

الكلام في قاعدة الإمكان 171

أدلة قاعدة الإمكان. وجوه تقريب مقتضي الأصل 172

نصوص قاعدة الإمكان 175

الكلام في عموم حجية الصفات 185

قصور قاعدة الإمكان عن الصفرة 190

الكلام في موارد قاعدة الإمكان 191

ص: 439

الكلام في جريان قاعدة الإمكان مع الشك في حيضية الدم للشبهة الحكمية 192

الكلام في ثبوت إطلاق يرجع إليه عند الشك في اعتبار شي ء في حيضية الدم للشبهة الحكمية 195

الكلام في جريان قاعدة الإمكان مع الشك في وجود الشرط و المانع بنحو الشبهة الموضوعية 196

لو تردد الدم بين أن يكون من الرحم و أن يكون من جرح أو قرح في الفرج 197

ملخص الكلام في قاعدة الإمكان 199

الكلام في تحيض غير ذات العادة برؤية الدم إذا لم تعلم استمراره ثلاثة أيام، و كان واجدا للصفات 200

هل يعتبر في أمارية الصفات اجتماعها؟ 200

تحقيق صفات الحيض المعتبرة في الحكم به 202

الكلام في تحيض غير ذات العادة برؤية الدم الفاقد للصفات إذا لم تعلم استمراره ثلاثة أيام 206

الكلام في استصحاب بقاء الدم ثلاثة أيام بلحاظ الزمان المستقبل 212

إذا تقدم الدم علي العادة الوقتية أو تأخر عنها بمقدار كثير 215

الكلام في انعقاد العادة بالتمييز 216

الفصل الخامس: في الدم المتقطع 223

الدم المتقطع إذا لم يزد علي عشرة أيام مع النقاء فهو حيض واحد 223

إذا تجاوز الدم المتقطع العشرة و لم يفصل أقل الطهر فهل تنهض العادة بتعيين حيضية ما فيها دون غيره؟ 230

إذا تجاوز الدم المتقطع عشرة و لم يفصل أقل الطهر فهل تنهض الصفات بتعيين حيضية الواجد لها دون الفاقد؟ 233

الكلام في ترجيح الدم الأول و الحكم بحيضيته دون الثاني 235

الكلام في أن موضوع قاعدة الإمكان هو الإمكان المطلق أو الإمكان من حيثية الموانع السابقة دون اللاحقة 236

ص: 440

الكلام فيما تضمنته بعض النصوص من فرض تقطع الدم و استمراره متقطعا في فترات قصيرة مدة طويلة 241

إذا تخلل أقل الطهر بين الدميين كان كل منهما حيضا مستقلا 244

الفصل السادس: في تشخيص الحيض مع انقطاع الدم و استمراره 247

إذا انقطع الدم لدون العشرة و احتملت بقاءه في الرحم وجب الاستبراء 247

عدم وجوب الاستبراء لو انقطع الدم ليلا، بل تنتظر به النهار 251

الكلام في الاستظهار مع النقاء و احتمال العود في ضمن العشرة 252

كيفية الاستبراء 255

الكلام فيما لو لم تستبرئ 259

الكلام فيمن تعذر عليها الاستبراء 260

إذا لم يتحقق النقاء بقيت غير ذات العادة علي التحيض الي العشرة 261

الكلام في وجوب الاستظهار لذات العادة بعد مضيها 264

تحقيق معني الاستظهار و أنه الاستيثاق لا طلب ظهور الحال 273

التفصيل في المختار من مشروعية الاستظهار في الدور الأول دون الأدوار اللاحقة مع استمرار الدم 277

تحقيق معني الاستحاضة 281

الكلام في وجوب الاستظهار في الدور الأول أو استحبابه 287

المعيار في الاستظهار علي العادة الوقتية دون العددية 292

الكلام في مقدار الاستظهار 293

الكلام في مقدار استظهار الحبلي 299

(تنبيه): فيما لو انقطع الدم علي العشرة أو تجاوزها بعد الاستظهار. و فيه مقامان: 302

(الأول): لو انقطع الدم علي العشرة فهل ينكشف حيضية مجموعه حتي ما زاد منه علي أيام الاستظهار؟ 303

(المقام الثاني): لو تجاوز الدم العشرة فهل ينكشف أن جميع ما زاد علي العادة استحاضة حتي أيام الاستظهار؟ 304

رجوع مستمرة الدم للعادة، مع تحقيق العادة التي ترجع اليها 308

ص: 441

ترجيح العادة علي التمييز 312

الكلام في ذات العادة العرفية دون الشرعية 317

رجوع المبتدأة و المضطربة للتمييز 319

معني المبتدأة و المضطربة 319

التعرض لكلام من نسب له عدم التعرض للتمييز 326

عدم حجية العادة الحاصلة بالتمييز علي تعيين قدر الحيض في الأشهر السابقة علي انعقادها 328

الكلام في عموم دليل التمييز للدول الأول 329

المعيار في التمييز، و أنه أمر إضافي أو حقيقي 333

الكلام في استظهار ذات التمييز 337

شروط التمييز 337

لا بد من كون الفاقد للصفة بقدر أقل الطهر 342

لا يقدح في الرجوع للتمييز لزوم التحيض في الشهر أكثر من مرة 350

رجوع المبتدأة مع فقد العادة و التمييز لعادة نسائها 352

الكلام في حجية أقراء الأقارب في الوقت 355

المراد من الأقارب من يتصل من أحد الأبوين 357

يكفي بعض الأقارب 359

الكلام في الاستظهار مع الرجوع للأقارب 359

الكلام في الرجوع لأقراء الأقارب في الدور الأول 360

الكلام في رجوع المبتدأة لأقراء أقرانها في السن 363

حكم اختلاف الأقارب 367

الكلام في التحيض بالعدد تعبدا عند فقد الطريق المعين لمقدار الحيض، مع الكلام في مقدار العدد الذي تتحيض به 369

الكلام في التحيض بالعدد في الدول الأول 371

التعرض لبقية الأقوال في مقدار العدد و أدلتها 372

الكلام في وجوب الاحتياط مع التحيض بالعدد 381

ص: 442

الكلام في موضع العدد من أيام الدم 382

تحديد الشهر الحيضي في التحيض بالعدد 386

الاستظهار مع التحيض بالعدد 387

حكم المضطربة مع فقد التمييز 388

حكم الناسية لعادتها 390

رجوع الناسية للتمييز 391

الكلام في حجية العادة المعلومة إجمالا 393

لو ذكرت الناسية عادتها بعد العمل علي التمييز 394

لا ترجع الناسية لعادتها 395

رجوع الناسية للتحيض بالعدد 396

هل يجوز مخالفة التحيض بالعدد للعادة المعلومة إجمالا؟ 399

هل يجب التدارك لو ذكرت العادة 401

حكم الناسية في الدور الأول 404

متي يصح الانتقال من وظيفة لأخري 405

مورد وظائف المستحاضة، و أنها تشمل الدم المتقطع أو لا؟ 405

الوظائف من سنخ الطرق الظاهرية لتعيين الحيض 407

لا تنعقد العادة المركبة 409

ذات العادة العددية دون الوقتية أو ناسية الوقت 409

هل يجب إطاعة السيد أو الزوج في تعيين وقت الحيض 423

إذا حصرت وقت عادتها في عدد من أيام الشهر إجمالا 425

ذات العادة الوقتية دون العددية أو ناسية العدد 426

الكلام في رجوع ذات العادة الوقتية لأقراء نسائها. و كذا ناسية العدد 433

الكلام في رجوع ذات العادة الوقتية للتمييز. و كذا ناسية العدد 435

الفهرست 437

ص: 443

المجلد 5

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة كتاب الطهارة

تتمة المبحث الرابع في الغسل

تتمة المقصد الثاني في غسل الحيض
الفصل السابع في أحكام الحائض
اشارة

الفصل السابع في أحكام الحائض

(مسألة 15): يحرم علي الحائض جميع ما يشترط فيه الطهارة من العبادات
اشارة

(مسألة 15): يحرم علي الحائض جميع ما يشترط فيه الطهارة من العبادات (1)،

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام علي سيدنا و نبينا محمد و آله الطيبين الطاهرين و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

(1) إذ لا إشكال في أنها دائمة الحدث و لا تطهر، كما يقتضيه مقابلة الحيض بالطهر في الكتاب المجيد و السنة الشريفة المتجاوزة حد التواتر، و الفتاوي الظاهرة في المفروغية عن ذلك. بل وضوح ذلك يغني عن تجشم الاستدلال عليه.

و منه يظهر أنه يحرم عليها غير العبادات مما يحرم علي المحدث، كمس القرآن الشريف، علي التفصيل المتقدم في الوضوء. و لعل إهماله في كلام بعضهم للمفروغية عن مشاركتها للجنب في المحرمات، كما يأتي من بعضهم.

هذا، إذا أخذ في موضوع التحريم عنوان المحدث، أو تضمنت الأدلة مانعية الحدث الأصغر، حيث يلزمها مانعية الأكبر بالأولوية الارتكازية، أو لما تضمن أن أسباب الحدث الأكبر نواقض للوضوء، كما تقدم في مس القرآن الشريف. و في غير ذلك لا إشكال فيما أخذ في موضوع تحريمه عنوان الحائض، كما تقدم في المكث في المسجد و قراءة العزائم.

و أما ما اختص دليله بالجنب، و هو مس اسم اللّه تعالي و الطواف المستحب

ص: 5

______________________________

- بناء علي تماميته في الجنب- فقد استدل علي حرمته علي الحائض..

تارة: بما في الجواهر من ظهور اتفاق الأصحاب علي مشاركته الحائض للجنب في أحكامه، كما صرح به بعضهم، بل قد يظهر من الغنية دعوي الإجماع علي أنه يحرم علي الحائض كل ما يحرم علي الجنب، و كان قد ذكر- في أحكام الجنب- أنه يحرم عليه مس اسمه تعالي و أسماء الأنبياء و الأئمة صلوات اللّه و سلامه عليهم.

و أخري: بأن حدث الحيض أغلظ من حدث الجنابة، كما في المعتبر و غيره، فتثبت محرمات الجنب للحائض بالأولوية.

و يشكل الأول: بأنه لا مجال لتحصيل الاتفاق مع إهمال الحكم المذكور في الحيض و ذكره في الجنابة في المبسوط و السرائر و المعتبر و الشرائع و المنتهي و التذكرة و الإرشاد و القواعد و غيرها، فإنه و إن أمكن أن يبتني علي المفروغية عن مشاركة الحائض للجنب في المحرمات- كما تقدم احتماله في إهمال بعضهم مس الكتاب المجيد- إلا أنه لا مجال للقطع بالإجماع علي المشاركة مع ذلك.

و أما الثاني فقد استدل عليه في الجواهر بمعتبرة سعيد بن يسار: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: المرأة تري الدم و هي جنب أ تغتسل من الجنابة أو غسل الجنابة و الحيض واحد؟ فقال: قد أتاها ما هو أعظم من ذلك» «1». و يشكل بظهورها في إرادة الأشدية من حيثية عدم الفائدة في الغسل بسبب استمرار الحدث قهرا، لا من حيثية مرتبة الحدث، لينفع في المقام، و إلا لم يكن مناسبا للسؤال، إذ كون الحيض أعظم من حيثية مرتبة الحدث لا يقتضي عدم الغسل للجنابة لرفع حدثها. و لا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

نعم، لا يبعد فهم عدم الخصوصية للجنابة من دليله، لمسانخة حدث الحيض لحدث الجنابة ارتكازا، و لا سيما مع قيام الأدلة علي اشتراكهما في أكثر الأحكام الثابتة من حيثية الحدث. و إن كان الأمر لا يخلو عن إشكال. و يأتي بعض الكلام في الطواف

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 6

كالصلاة و الصيام و الطواف و الاعتكاف (1)

______________________________

في أحكام المستحاضة إن شاء اللّه تعالي.

(1) لا إشكال في حرمة العبادات المذكورة عليها، و النصوص به متواترة، و دعاوي الإجماع عليه مستفيضة، بل دعوي الضرورة عليه- كما عن شرح المفاتيح- غير مجازفة. و إنما الإشكال في أن حرمتها تشريعية فقط راجعة إلي اعتبار الطهارة فيها، فتبطل بدونها- كما تبطل بفقد سائر شروطها- و يكون الاتيان بها بدونها بنية المشروعية تشريعا محرما، أو هي مع ذلك ذاتية راجعة إلي حرمتها تكليفا من غير جهة التشريع أيضا، نظير حرمة الربا.

و كأن ذلك هو المراد من الترديد في كلام بعضهم بين الحرمة الذاتية و التشريعية، و إلا فثبوت الحرمة التشريعية مما لا ينبغي الإشكال فيه بالنظر لما سبق من عدم الريب في كونها دائمة الحدث، كما صرح به شيخنا الأعظم قدس سرّه في الصلاة.

و كيف كان، فقد يستدل علي الحرمة الذاتية.. تارة: بأن موضوع الحرمة التشريعية التشريع الذي هو أمر قلبي، و ظاهر الأدلة حرمة نفس الأفعال الخارجية.

و أخري: بما تضمنته النصوص الكثيرة و جملة من معاقد الإجماعات المدعاة في المقام من التعبير بالحرمة الظاهرة في الذاتية، و كذا ما تضمن النهي عن العبادات و الأمر بتركها.

و يندفع الأول: بأن المرتكزات المتشرعية، بل العقلائية، تقتضي حرمة الجري العملي علي التشريع القلبي، بحيث يكون نفس العمل محرما ثانويا يصح توجيه النهي إليه، كما يناسبه ما ورد في البدعة و أنها في النار.

و الثاني: بأن التعبير بالتحريم و النهي و نحوهما و إن كانت ظاهرة بدوا في الحرمة و الذاتية، إلا أن شيوع استعمالها في مقام بيان عدم المشروعية لبيان شروط التكليف و المكلف به و موانعهما و نحوها مما يرجع لحدود التشريع مانع من التعويل علي الظهور

ص: 7

______________________________

المذكور فيما يمكن حمله علي ذلك، كالمقام.

و منه يظهر وجه آخر في دفع الوجه الأول، فإن ظهور الأدلة في حرمة نفس الأفعال الخارجية- دون الأمر القلبي- إنما يناسب حرمتها ذاتا إذا كان المراد بها الحرمة التكليفية، لا الإرشاد لحدود التكليف. فلاحظ.

نعم، قد يستدل علي الحرمة الذاتية بجملة من النصوص.

منها: ما ورد في الاستظهار من التعبير بالاحتياط في بعض نصوصه، كموثق فضيل و زرارة عن أحدهما عليهما السلام: «قال: المستحاضة تكف عن الصلاة أيام أقرائها و تحتاط بيوم أو اثنين … » «1»، و قريب منه خبر الجعفي «2»، و موثقة البصري «3» الآتية.

و استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن التحيض في أيام الاستظهار حيث لا يكون مطابقا للاحتياط المطلق، لمخالفته لاحتمال وجوب العبادة و غيره، فلا بد من حمله إما علي الاحتياط بلحاظ أهمية حرمة العبادة حال الحيض من وجوبها حال الطهر، فيدل علي الحرمة الذاتية، أو علي الاحتياط بلحاظ بعض الأحكام، كحرمة الوطء و دخول المساجد و قراءة العزائم، من دون نظر للعبادة، ليدل علي حرمتها الذاتية.

قال قدّس سرّه: «و ليس الأول أولي من الثاني، بل الذي يظهر من موثقة البصري:

«عن المستحاضة أ يطؤها زوجها و هل تطوف بالبيت؟ قال: تقعد أيام أقرائها التي كانت تحيض فيه «4»، فإن كان قرؤها مستقيما فلتأخذ به، و إن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين» هو الثاني. مع أن دعوي: كون الحرمة المحتملة أهم غريبة، لأن الظاهر أن ترك الصلاة من أعظم الكبائر. و يحتمل كون وجه التعبير بالاحتياط أنه الموافق للاستصحاب و قاعدة الإمكان … فتأمل».

لكنه يندفع بأنه لا ظهور للموثقة في الثاني، لأن السؤال فيها و إن كان عن الوطء و الطواف المستلزم لدخول المسجد الشريف، إلا أنه لا ينافي عموم الاحتياط

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8. لكن فيه: (تقعد قرءها الذي كانت تحيض فيه).

ص: 8

______________________________

فيها لترك الصلاة أيضا، بل هو الظاهر من التعبير فيها بالقعود المنصرف منه القعود عنها، و الذي هو أظهر أحكام الحيض، فيكني به عن ترتيب جميع أحكامه.

و أظهر منها خبر الجعفي المشار إليه، للتعبير فيه بالقعود من دون سؤال عن شي ء من الأحكام، فضلا عن موثق فضيل و زرارة المتقدم المصرح فيه بالكف عن الصلاة، حيث يقوي ظهوره في إرادة الاحتياط بالكف عنها، لا عن خصوص بقية المحرمات.

و أما استغرابه دعوي أهمية الحرمة المحتملة. فهو لو سلم لا أثر له، لأن الأهمية و احتمالها إنما يكونان معيارا في الترجيح عقلا عند التزاحم بين التكليفين ثبوتا، لا عند الدوران بين المحذورين إثباتا، بل المرجع فيه التخيير، علي ما حققناه في محله و اعترف به قدّس سرّه في احتمال الأهمية في أصوله، و إن أصر هنا علي الترجيح بالأهمية.

و من هنا لا بد أن يكون الاحتياط ناقصا بلحاظ أحد الاحتمالين، و إن لم يكن المحتمل أهم، لجهات لحظها الشارع الأقدس.

و أما ما ذكره أخيرا من احتمال كون التعبير بالاحتياط بلحاظ موافقة الاستظهار للاستصحاب و قاعدة الإمكان. فيدفعه أن مفاد الاستصحاب و القاعدة التعبد بالحيضية في تمام العشرة، المناسب لوجوب ترتيب أحكامها، و هو لا يناسب التخيير بين اليوم و اليومين، فالمناسب ما ذكرنا من إرادة الاحتياط الناقص. فلاحظ.

نعم، قد يشكل الاستدلال بالنصوص المذكورة. تارة: بأن الاحتياط إنما يقتضي ترك الأداء، و ظاهر نصوص الاستظهار ترتيب أحكام الحيض مطلقا من دون تدارك.

و أخري: بأن الاتيان بالصلاة برجاء المطلوبية لا ينافي الاحتياط حتي بناء علي الحرمة الذاتية، كما يأتي. فلا بد من عدم حمل الاحتياط علي المعني المعروف بيننا، و هو احتياط المكلف في مقام العمل محافظة علي الحكم الواقعي، بل علي مجرد التوثق لاحتمال الحيض مع ترتيب جميع أحكامه، و إن كانت علي خلاف الاحتياط بالمعني المذكور، لعدم بناء الشارع الأقدس علي تكليف المرأة بالاحتياط في أحكام الحيض، بل علي التعبد لها بأحد الأمرين- من الحيض و عدمه- و ترتيب جميع أحكامه

ص: 9

______________________________

فلا تنهض بالاستدلال علي الحرمة الذاتية.

لكن الانصاف أن التعبير عن التوثق لاحتمال الحيض بالاحتياط ظاهر في اهتمام الشارع الأقدس بترك الصلاة حال الحيض، الذي هو أظهر أحكامه، فيناسب حرمتها الذاتية، و إن كان الاحتياط ناقصا أو من سنخ الحكمة في التعبد بجميع أحكام الحيض. فتأمل جيدا.

و منها: قوله عليه السلام في صحيح خلف الوارد في اشتباه دم الحيض بدم العذرة:

«فلتتق اللّه فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتي تري الطهر، و ليمسك عنها بعلها، و إن كان من العذرة فلتتق اللّه و لتتوضأ و لتصل و يأتيها بعلها إن أحب ذلك، فقلت له: و كيف لهم أن يعلموا ما هو حتي يفعلوا ما ينبغي … ». لظهوره في كون ترك الصلاة حال الحيض مقتضي التقوي.

لكن ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أن الأمر بالتقوي فيه إنما هو بمعني وجوب الفحص، لا لحرمة الصلاة، و لذا قدمه علي الشرطية الأولي. و يشهد به تأخير الأمر به عن الشرطية الثانية التي موضوعها الطهر الذي تكون الصلاة معه واجبة.

و فيه: أن ظاهر الأمر بالتقوي في الفقرتين و إن كان هو تنجز الواقع المجهول المستلزم لوجوب الفحص، و لذا سأل الراوي بعده عن طريق المعرفة، ليعمل بما ينبغي علي الوجهين، إلا أن بيان مقتضي التقوي بالنهي عن الصلاة مع الحيض و الأمر بها مع الطهر ظاهر في كون الأمر بالإمساك عن الصلاة تكليفيا تابعا للحيض الواقعي، كالأمر بإمساك الزوج، لا تشريعيا تابعا للعلم بالحيض، و لا مسوقا لبيان مجرد عدم وجوب الصلاة مع الحيض، و لذا اشتملت الشرطية الثانية علي ترخيص الزوج في الوطء، لا أمره به لبيان الترخيص، لأن ورود الأمر لبيان الترخيص لا يناسب سوقه لبيان مقتضي التقوي، كما لعله ظاهر.

و منها: ما يظهر منه حرمة الصلاة حال الحدث مطلقا و إن لم يكن من الحيض، كمعتبرة الفضل عن الرضا عليه السلام: «قال: إذا حاضت المرأة فلا تصوم

ص: 10

______________________________

و لا تصلي، لأنها في حدّ نجاسة، فأحب اللّه أن لا يعبد إلا طاهرا. و لأنه لا صوم لمن لا صلاة له» «1». لظهوره في مبغوضية العبادة حال النجاسة التي يراد منها الحدث في المقام، و بعموم التعليل يتعدي لغير الحيض من أسباب الحدث.

و موثق مسعدة ابن صدقة: «إن قائلا قال لجعفر بن محمد عليه السلام: جعلت فداك إني أمر بقوم ناصبية و قد أقيمت لهم الصلاة، و أنا علي غير وضوء، فإن لم أدخل معهم في الصلاة قالوا ما شاءوا أن يقولوا، أ فأصلي معهم ثم أتوضأ إذا انصرفت و أصلي؟

فقال جعفر بن محمد عليه السلام: سبحان اللّه أ فما يخاف من يصلي من غير وضوء أن تأخذه الأرض خسفا؟!» «2»، و صحيح صفوان عنه عليه السلام قال: «أقعد رجل من الأحبار في قبره فقيل له: إنا جالدوك مائة جلدة من عذاب اللّه عز و جل. فقال: لا أطيقها، فلم يزالوا به حتي انتهوا به إلي جلدة واحدة، فقال: لا أطيقها. فقالوا: ليس منها بدّ، فقال:

فيما تجلدونيها؟ قالوا: نجلدك أنك صليت يوما بغير وضوء و مررت علي ضعيف فلم تنصره، فجلدوه جلدة من عذاب اللّه، فامتلأ قبره نارا» «3».

لكن قال سيدنا المصنف قدس سرّه: «و لعل الظاهر من رواية العلل كون المراد:

أحب اللّه أن يعبد في حال الطهارة، لا أنه كره أن يعبد في غير حال الطهارة، و إلا لدل علي عدم فائدة و خصوصية للطهارة، و هو بعيد، و لمثل هذا النحو من التعبير نظائر كثيرة … و أما رواية مسعدة فلا يظن إمكان الالتزام بها في موردها، فإن أدلة التقية مقدمة علي غيرها من الأدلة مهما كان لموردها من الأهمية».

و كأن مراده بما ذكره في رواية العلل أن حملها علي إرادة قيدية الطهارة في العبادة المحبوبة مستلزم لدخل الطهارة في المحبوبية، فتكون محبوبة بلحاظ فائدتها، أما حملها

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الحيض حديث: 2. و قد رواه عن علل الشرائع و عيون أخبار الرضا (ع).

لكن في الأول: (فإن قيل: فلم إذا حاضت المرأة لا تصوم و لا تصلي؟ قيل: لأنها في حدّ نجاسة فأحب اللّه أن لا تتعبد إلا طاهرة … ): 271 طبع النجف الأشرف. و نحوه في الثاني، إلا أنه قال: (فإن قال: فلم … ) و: (فأحب اللّه أن لا تعبده إلا طاهرا … ) ج 2: 115 طبع النجف الأشرف. (منه عفي عنه).

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 11

______________________________

علي إرادة رفعها لمبغوضية العبادة فهو لا يقتضي محبوبيتها، و لا ترتب الفائدة عليها.

لكن لم يتضح الوجه في استبعاد الثاني، إذ يكفي في فائدة الطهارة رفعها لمبغوضية العبادة المحبوبة ذاتا. مع أن الرواية لم ترد للحث علي الطهارة، لتناسب خصوصيتها في المحبوبية، بل لبيان امتناع العبادة بدونها، فلا وجه للخروج عن ظاهر التركيب من كون المحبوب ترك العبادة حال الحدث المستلزم لمبغوضيتها حاله.

و دعوي: عدم ظهور المحبوبية في الإلزام. مدفوعة بأن ذلك لو سلم في سائر الموارد لا مجال له في المقام، لأن الحكم المعلل إلزامي.

كما أن ما ذكره قدّس سرّه من منافاة موثق مسعدة لأدلة التقية ممنوع، لعدم الإشعار فيه بتعذر الوضوء للصلاة معهم، فضلا عن الظهور. و لعل سؤال السائل عن الصلاة معهم بدون الوضوء لأنها أسهل عليه، خصوصا مع قرب عزمه علي الإعادة علي كل حال، الذي لا يبعد عمل كثير من الشيعة عليه بعد الصلاة مع المخالفين. و من يظهر الإشكال فيما يظهر من الوسائل من حرمة الصلاة بدون الوضوء حتي مع التقية.

فتأمل. علي أنه يشكل رفع اليد عن الكبري بمجرد منافاة تطبيقها للتقية.

و أما صحيح صفوان فلم يتعرض قدّس سرّه للاستدلال به. فإن كان لأجل وروده في أهل شريعة أخري، أشكل بظهور حال المعصومين عليهم السلام في أن نقلهم لثواب أهل الشرائع السابقة و عقابهم بداعي الترغيب و الترهيب، لا لمحض بيان قضية خارجية لا يراد ترتب العمل عليها. علي أنه قد يتمسك بأصالة عدم النسخ علي كلام محرر في الاستصحاب.

و من جميع ما تقدم يظهر وفاء النصوص بالحرمة الذاتية، فيتعين البناء عليها.

ثم إنه يتجه لأجل النصوص الأخيرة عموم الحرمة الذاتية لما إذا طهرت المرأة من الحيض و لم تغتسل، لعدم خروجها بذلك عن الحدث، الذي يستفاد من النصوص المذكورة أنه المعيار في الحرمة. و لا مجال معه لما في الجواهر من إمكان الفرق و اختصاص الحرمة الذاتية بحال الحيض، بل هو الذي جزم به الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

ص: 12

______________________________

و كأنه مبني علي إغفال هذه النصوص و النظر لخصوص ما ورد في الحائض، الذي لا إشكال في قصوره عن حال انقطاع الحيض و بقاء حدثه.

كما أن الظاهر اختصاص الحرمة الذاتية بالصلاة دون بقية العبادات المحرمة علي الحائض، لأنها المنصرف من القعود في نصوص الاستظهار و مورد بقية النصوص.

نعم، قد تضمنت رواية الفضل إطلاق النهي عن العبادة. إلا أنه لا يبعد كون المراد بها خصوص الصلاة، و لذا احتيج لتعليل حرمة الصوم فيها بأنه لا صوم لمن لا صلاة له. و احتمال كونه تعليلا ثانيا في الصوم مع عموم التعليل الأول له، لعموم العبادة لغير الصلاة، لو لم يكن خلاف الظاهر فلا أقل من عدم بلوغه مرتبة الظهور، حيث يمنع التعليل المذكور من انعقاد ظهور العبادة في العموم.

بل لا يبعد كون إطلاق العبادة علي مطلق ما يعتبر فيه قصد القربة إنما شاع في ألسنة الفقهاء مع كون المراد بها في عصر صدور الروايات خصوص الصلاة و ما يسانخها، كما يناسبه تطبيقها في بعض نصوص كراهة الاستعانة في الوضوء علي الصلاة، دون الوضوء كقوله عليه السلام: «أما سمعت اللّه عز و جل يقول: فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً و ها أنا ذا أتوضأ للصلاة و هي العبادة، فأكره أن يشركني فيها أحد» «1» و غيره.

بقي الكلام في ثمرة الحرمة الذاتية.

و ظاهر غير واحد أنها تظهر في تعذر الاحتياط لها لو شكت في الحيض، لدوران الأمر بين محذورين، بخلاف ما لو كانت تشريعية محضة، حيث يتيسر لها الاحتياط بالإتيان بالعبادة برجاء المطلوبية، لعدم التشريع معه، بل ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن ما ذكره جماعة، بل ادعي عليه الاتفاق من حسن الاحتياط للمضطربة مؤيد لكون الحرمة تشريعية محضة، ثم قال: «و تتبع كلمات الفقهاء يشرف الفقيه علي القطع بما ذكرنا».

و في الجواهر بعد تقريب كون الحرمة ذاتية قال: «و عليه بني ردّ ما يذكر في

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 13

______________________________

بعض المقامات من الاحتياط لها بفعل العبادة بأنه معارض بمثله، لكون الترك بالنسبة إليها عزيمة». و قريب منه ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

لكن من الظاهر أن الصلاة مثلا لا تصدق علي نفس الأفعال الخارجية بما هي هي، بل لا بد فيه من قصد عنوان الصلاة بها. و حينئذ إن كان الإتيان بها برجاء المطلوبية راجعا إلي الجزم بكونها صلاة مع احتمال الامتثال بها- نظير الكون في المسجد برجاء المطلوبية- اتجه تحريمها مع مصادفة الحيض بناء علي الحرمة الذاتية، فيخالف الاحتياط، كما ذكر في تقريب الثمرة.

أما إذا كان راجعا إلي قصد عنوان الصلاة بها معلقا علي عدم الحيض و علي ثبوت الأمر بها، و أنها مع عدمهما ليست بصلاة- نظير الطلاق عند الشك في الزوجية- فلا وجه للتحريم مع مصادفة الحيض، حتي بناء علي الحرمة الذاتية، لعدم تحقق موضوعها، و هو الصلاة. و الظاهر إمكان الثاني، لأن عنوان الصلاة لما كان قصديا كان قابلا للتعليق، كعنوان الامتثال القابل للتعليق علي وجود الأمر.

كما أن الظاهر ابتناء الاحتياط علي ذلك في الصلاة و كثير من الأمور القصدية، كالصوم و الوضوء، و ليس هو كالاحتياط بقراءة القرآن برجاء المطلوبية، حيث يبتني غالبا علي الجزم بكونها قراءة للقرآن مع اختصاص التعليق بالامتثال. و حينئذ لا تتم الثمرة المذكورة.

إن قلت: بعض أدلة الحرمة الذاتية تقتضي عموم الحرمة لحال الاحتياط، فإن نصوص الاستظهار حيث تضمنت أن الاحتياط بترك الصلاة مع الشك في الحيض دلت علي مخالفة الصلاة للاحتياط و لو برجاء المطلوبية من جهة احتمال الحرمة، و إلا لكان الاحتياط بفعلها معه. و كذا صحيح خلف بن حماد، إذ لو تيسر لها الاحتياط بالصلاة لاحتمال كون الدم من العذرة- كما أفتي به فقهاء العامة- لم يكن الفحص لازما، و لم يكن ترك الصلاة مع الحيض مقتضي التقوي، بل الحكم بحرمة الصلاة مع الحيض الواقعي قد يكون تعريضا بالعامة و ردعا عما أفتوا به من الاحتياط لها بالصلاة برجاء عدم الحيض. بل قد يستفاد من موثقة مسعدة بن صدقة حرمة الإتيان لغير

ص: 14

______________________________

المتوضئ حتي بصورة الصلاة من دون نية أصلا، إذ لو لا ذلك لكان المناسب التنبيه عليه، لتأدي التقية به.

قلت: ذكرنا آنفا أنه لا يراد بالاحتياط في نصوص الاستظهار احتياط المكلف لإصابة الحكم الواقعي، بل التوثق لاحتمال الحيض مع التعبد بتمام أحكامه حتي ما خالف منها الاحتياط، لعدم بناء الشارع الأقدس علي إرجاع المرأة للاحتياط. بل علي التعبد بأحد الأمرين، فلا ينافي جواز الاحتياط لها لتحصيل الواقع المحتمل بالصلاة برجاء المطلوبية.

كما أن صحيح خلف لم يتضمن الأمر بالفحص، و إنما تضمن تنجز أحكام الواقع المردد بين الحيض و الطهر، و هو يقتضي التخيير بين الاحتياط و الفحص، في مقابل الاقتصار علي إحدي الوظيفتين من دون فحص، لا تعين الفحص و المنع من الاحتياط.

نعم، لو أشير في السؤال لفتوي فقهاء العامة بالاحتياط لكان جواب الإمام عليه السلام ظاهرا في الردع عنه، و حيث لم يشر إليه فيه فلا مجال لاستفادة الردع عنه في مورد الحديث- كما أشرنا إليه في أواخر المسألة الأولي- فضلا عن غيره من موارد الشك في الحيض.

و أما موثقة مسعدة فعدم التنبيه فيها للإتيان بصورة الصلاة من دون نية لا يدل علي حرمته من دون وضوء، كيف و لا يظن بأحد الالتزام بذلك، بل لعله لخروجه عن مفروض كلام السائل، أو لكونه بنفسه مرجوحا و لو مع الوضوء، كما يشهد به صحيح زرارة: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل دخل مع قوم في صلاتهم و هو لا ينويها صلاة و أحدث إمامهم فأخذ بيد ذلك الرجل فقدمه، فصلي بهم، أ تجزيهم صلاتهم بصلاته و هو لا ينويها صلاة؟ فقال: لا ينبغي للرجل أن يدخل مع قوم في صلاتهم و هو لا ينويها صلاة، بل ينبغي له أن ينويها [صلاة] و إن كان قد صلي، فإن له صلاة أخري، و إلا فلا يدخل معهم. و قد تجزي عن القوم صلاتهم و إن لم ينوها» «1».

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 1.

ص: 15

______________________________

و من هنا كان الظاهر عدم نهوض النصوص بحرمة الصلاة برجاء عدم الحيض إذا رجع إلي تعليق قصد الصلاة علي عدم الحيض، بحيث لا تكون معه صلاة، بل صورة صلاة.

و أما ما سبق من الجواهر من ردهم ما يذكر في بعض المقامات من الاحتياط بفعل العبادة بأنه معارض بمثله. فلعل جملة مما ذكروا رد لرد الاستدلال بالاحتياط علي لزوم الاقتصار علي المتيقن في التحيض مع البناء فيما زاد عليه علي الطهر، فيؤتي معه بالصلاة تعبدا بشرعيتها، لا برجاء مشروعيتها.

كما أن كون ترك الصلاة للحائض عزيمة إنما هو بمعني عدم مشروعيتها لها في مقابل مشروعيتها من دون وجوب، كمشروعية الصوم للذين يطيقونه، فلا يدل علي الحرمة الذاتية، فضلا عن تعذر الاحتياط علي تقديرها. و من هنا لا مجال لتوجيه الثمرة بما سبق.

و قد ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه وجها آخر للثمرة، و هو أنه بناء علي الحرمة الذاتية تحرم العبادة علي الحائض مطلقا، سواء جي ء بها بقصد الأمر أم بداعي أنها عبادة بالذات من دون قصده، أما علي عدمها و تمحض الحرمة التشريعية فلا تحرم إلا إذا جي ء بها بقصد الأمر المستلزم للتشريع. و قد دفعه قدّس سرّه بأن الثمرة المذكورة موقوفة علي القول بثبوت العبادة الذاتية، و التحقيق عدمه و اختصاص منشأ انتزاع العبادية بالأمر بلحاظ كشفه عن ثبوت ملاك المحبوبية، و قصده مستلزم للتشريع مطلقا علي ما أوضحه قدس سرّه و أطال الكلام فيه. فراجع.

و الذي ذكرناه في محله من مبحث التعبدي و التوصلي أن العبادة هي كون الشخص في منتهي الخضوع للمعبود، بحيث يكون فانيا فيه. و لذلك مظهران:

ذاتي، و هو إطاعة أوامره و نواهيه علي نحو الانقياد له، و مقربيتها ذاتية. و عرفي، و هو الإتيان بأمور تباني العرف علي كونها مظهرا للخضوع و الفناء، كالركوع و السجود و التقديس و نحوها. و هو بطبعه يقتضي التقرب بلا حاجة إلي الأمر به ما لم يردع عنه

ص: 16

و يحرم عليها جميع ما يحرم علي الجنب مما تقدم (1).

(مسألة 16): يحرم وطؤها في القبل عليها و علي الفاعل (2)،

______________________________

كسائر الأمور العرفية القابلة للردع. فإن كان مرجع الردع إلي مجرد عدم صلوحه لأن يعبد المولي به كان النهي وضعيا موجبا لانسلاخ عنوان العبادة عنه، و إن كان مرجعه إلي النهي عن أداء العبادة به من دون ردع عما عليه العرف من كونه مظهرا لها كان النهي تكليفيا.

و كيف كان، فالعبادة بالمعني المذكور لا تحرم علي الحائض لا تشريعا و لا ذاتا، و إنما المحرم خصوص الصلاة بما هي ماهية خاصة مخترعة للشارع و عباديتها ليست ذاتية، و لا عرفية، بل متقومة بالتعبد بأمرها، فمع إتيان الحائض بها بقصد أمرها تحرم مطلقا، سواء كانت الحرمة ذاتية أم تشريعية.

و من هنا كان الظاهر انحصار الثمرة في أنه مع الاتيان بالعبادة للبناء علي عدم الحيض خطأ لا تكون محرمة واقعا بناء علي تمحض الحرمة في التشريعية، لعدم التشريع، و تكون محرمة بناء علي كونها ذاتية، فيستحق عليها العقاب لو كان البناء علي عدم الحيض لتقصير في مقدماته و لو مع الغفلة حين العمل. فلاحظ.

و يحرم عليها جميع ما يحرم علي الجنب.

(1) كما تقدم في أول الفصل، و تقدم الإشكال في مشاركتها للجنب في حرمة مس اسمه تعالي. كما تقدم في أحكام الجنب الإشكال في مشاركتها للجنب في لزوم التيمم للخروج من المسجد الحرام و مسجد النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم.

مسألة 16: يحرم وطؤها في القبل عليها و علي الفاعل

(2) أما تحريمه علي الفاعل فهو المدعي عليه الإجماع من جماعة كثيرة جدا، و جملة منهم ادعوا عليه إجماع العلماء، بل في المسالك و الروض و كشف اللثام و الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم و عن جماعة أنه من ضروريات الدين التي يكفر مستحلها من دون شبهة.

و يقتضيه قوله تعالي: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذيً فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي

ص: 17

______________________________

الْمَحِيضِ وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّي يَطْهُرْنَ فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «1»، و النصوص الكثيرة المتجاوزة حد التواتر، و التي يظهر من جملة كثيرة منها المفروغية عن أصل الحكم، حيث وردت في فروعه، كتعيين وظيفة المستحاضة، و ما يحل للزوج من الحائض و كفارة الوطء، و تعزيره و غير ذلك.

هذا، و قد صرح جملة من الأصحاب بعموم الحكم للزوج و السيد. و هو الذي يقتضيه إطلاق الآية الشريفة و جملة من النصوص، بل كثير منها صريح في الزوج و بعضها صريح في السيد، كحديث عبد الملك بن عمرو أو موثق عبد الكريم بن عمرو: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أتي جاريته و هي طامث. قال: يستغفر ربه … » «2» و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي عند الكلام في وجوب الكفارة.

بل المناسبات الارتكازية تقضي بعدم خصوصية كل منهما و عموم الحكم حتي المزني بها كما صرح به بعضهم، فتتأكد الحرمة مع حيضها، كما لعله مقتضي إطلاق الآية الشريفة، حيث لا يبعد عدم صلوح قوله تعالي: وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰي يَطْهُرْنَ فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّٰهُ للمنع من انعقاد الإطلاق في الصدر بنحو يشمل من يحرم وطؤها، و لذا لا يظن من أحد دعوي منعه من شموله للمحلوف علي ترك وطئها. و لو صلح لذلك كفي عموم التعليل بأنه أذي في استفادة العموم.

و أما تحريمه عليها بمعني عدم جواز تمكينها فهو المصرح به في الغنية و المراسم و الوسيلة و جامع المقاصد و الروض و غيرها. و قد يظهر من تصريح جملة من الأصحاب بعدم ثبوت الكفارة عليها المفروغية عنه و ربما كان ما في المقنعة من وجوب إعلام المرأة الرجل بحيضها يبتني علي ذلك. و لعله لذا كان ظاهر الغنية دعوي الإجماع عليه، بل صريح الجواهر أنها كالرجل في الإجماع و الضرورة.

و قد استدل عليه في جامع المقاصد بقوله تعالي:

______________________________

(1) البقرة: 222.

(2) الوسائل باب: 28 من أبواب الحيض حديث: 2. لكن الموجود في الطبعة الحديثة مضطرب السند.

ص: 18

______________________________

وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ «1».

و يشكل بأن التعاون علي الشي ء إنما يكون بالاشتراك فيه، كالتعاون علي غلق الباب و رفع الحجر، بنحو لا يصلح نسبة الفعل إلي واحد بعينه، و هو غير حاصل في المقام، لأن الأدلة إنما تضمنت حرمة الوطء الذي هو فعل الزوج، و ليس التمكين إلا مقدمة اعدادية له، فلا يصدق عليه إلا الإعانة، و لا دليل علي عموم حرمتها.

نعم، لو استلزمت الاعانة التشجيع علي الحرام حرمت، لفحوي ما دل علي وجوب النهي عن المنكر. و كذا يحرم الإكراه عليه، و إن كان المكره معذورا، علي ما ذكرناه في محله. لكنه لا ينفع مع غفلة الزوج أو نحوها مما يكون معه معذورا و غير مجبور. و لعله لذا حكي عن بعضهم احتمال جواز التمكين حينئذ، و في المستند أن عموم حرمة التمكين غير معلوم بعد أن كان الدليل عليه حرمة الإعانة علي الإثم.

و من هنا استدل عليه سيدنا المصنف بخبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام:

«سألته عن الرجل يطلق امرأته متي تبين منه؟ قال: حين يطلع الدم من الحيضة الثالثة تملك نفسها. قلت: فلها أن تتزوج في تلك الحال؟ قال: نعم، و لكن لا تمكن من نفسها حتي تطهر من الدم» «2». و دلالته و إن كان وافية إلا أن سنده محتمل للإرسال، حيث رواه الكليني عن محمد بن يحيي عن محمد بن الحسين عن بعض أصحابه أظنه محمد ابن عبد اللّه بن هلال أو علي بن الحكم عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم.

لكن لا يبعد ظهوره في أن المظنون هو كون الراوي محمد بن عبد اللّه و الموهوم كونه علي بن الحكم مع الجزم برواية أحد الرجلين له، لا أن المظنون كون الراوي أحد الرجلين مع احتمال كونه شخصا ثالثا، ليكون مرسلا. و حيث كان محمد بن عبد اللّه من رجال كامل الزيارة و علي بن الحكم ثقة، كبقية رجال السند، كان الاعتماد عليه قريبا جدا.

مضافا إلي تأيده بمعتبرة إسماعيل بن الفضل: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن

______________________________

(1) المائدة: 2.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب العدد من كتاب الطلاق حديث: 1.

ص: 19

بل قيل: انه من الكبائر (1). بل الأحوط وجوبا ترك إدخال بعض الحشفة

______________________________

رجل أتي أهله و هي حائض. قال: يستغفر اللّه و لا يعود. قلت: فعليه أدب؟ قال:

نعم، خمسة و عشرون سوطا ربع حد الزاني و هو صاغر، لأنه أتي سفاحا» «1»، و نحوه خبر محمد بن مسلم «2»، لظهورهما في كون الحرمة من سنخ حرمة السفاح التي يشترك فيها الرجل و المرأة.

كما قد يستفاد من قوله عليه السلام في صحيح خلف المتقدم: «فلتتق اللّه، فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة و ليمسك عنها بعلها … » «3»، حيث لا يبعد ظهوره في كون إمساك بعلها عنها مقتضي تقواها للّه تعالي.

و كذا ما تضمن أن المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلي فيها و لا يقربها بعلها، أو أنها تستظهر ثم يأتيها بعلها، لظهوره في أن حرمة وطء الزوج لها من أحكامها التي لأجلها يجب عليها طريقيا الرجوع للوظيفة الظاهرية في الحيض، لا من الأحكام المختصة بالزوج التي يجب عليه فقط الرجوع فيها للوظيفة الظاهرية، و لو كانت هي اختيارها.

و لعله بلحاظ ذلك أو نحوه قال سيدنا المصنف قدس سره بعد ذكر خبر محمد ابن مسلم الأول: «و ربما يستفاد من غيره بعد سبر النصوص. و لا سيما بملاحظة مرتكزات المتشرعة من بنائهم علي حرمته عليها ذاتا، لا من باب المعاونة».

(1) كما في كشف اللثام. و هو الظاهر ممن حكم بكونه موجبا للفسق، كما في التذكرة و عن جماعة، بل نفي الريب فيه في المدارك، و نفي الإشكال فيه في الجواهر، لما تقدم في المسألة الثامنة و الشعرين من مباحث التقليد من أن ظاهر الأصحاب- كما هو صريح جملة منهم- عدم قدح الصغائر في العدالة.

هذا، و قد تقدم في المسألة المذكورة أن المعيار في كون الذنب من الكبائر عده منها في النصوص، أو ورود الوعيد عليه بالنار في الكتاب المجيد و السنة الشريفة، أو

______________________________

(1) الوسائل كتاب الحدود و التعزيرات باب: 13 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات حديث: 2.

(2) الوسائل كتاب الحدود و التعزيرات باب: 13 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 20

أيضا (1).

______________________________

كونه أكبر أو مساويا لبعض أفراد أحد القسمين، و الكل غير ثابت في المقام.

نعم، قد يستفاد من معتبرة إسماعيل بن الفضل المتقدمة و خبر محمد بن مسلم أنه من سنخ السفاح الذي هو من الكبائر.

لكنه يشكل: بأن مقتضي تحديد تعزيره بأنه ربع حد الزاني كون حرمته بمرتبة ضعيفة بالإضافة إلي السفاح و إن كانت من سنخها، و من الظاهر أن مقتضي ما تضمن عدّ الزنا من الكبائر إرادة الزنا ذي الحرمة التامة، لا مطلق ما كان مسانخا له موضوعا أو حكما و إن لم يبلغ مرتبته. و لبعض ما ذكرنا تنظر فيه في المستند.

(1) ففي الجواهر أنه قد يظهر من كاشف الغطاء تعميم وجوب الكفارة لإدخال بعض الحشفة و قد استدل سيدنا المصنف قدس سره لعموم التحريم له بما تضمن النهي عن الإيقاب و الأمر باتقاء موضع الدم و الفرج و القبل و نحوها مما يشمل بإطلاقه إدخال بعض الحشفة. قال: «و اعتبار التقاء الختانين في وجوب الغسل للجنابة لا يوجب تقييد ما ذكر».

لكن ما تضمن النهي عن الإيقاب هو صحيح عمر بن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما للرجل من الحائض؟ قال: ما بين أليتيها و لا يوقب» «1»، و هو ظاهر في الإيقاب في الدبر، لظهوره في الاستثناء مما بين الأليتين، و لأنه المحتاج للبيان، أما الإيقاب في القبل فوضوح تحريمه لأنه المتيقن من جميع الأدلة يغني عن التنبيه له، كما لا مناسبة لذكره بعد تحليل ما بين الأليتين.

و لزوم رفع اليد عنه لما دل علي انحصار الحرمة بالقبل- لو تم- لا يكون بحمله علي الإيقاب في القبل، بل بحمله علي شدة الكراهة. علي أنه لو حمل علي الإيقاب في القبل فوضوح حرمته قرينة علي عدم كون ذكره لبيان تحريمه ليكون له إطلاق يشمل

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض حديث: 8.

ص: 21

و أما وطؤها في الدبر فالأحوط وجوبا تركه (1).

______________________________

إدخال بعض الحشفة، بل للتأكيد علي اجتنابه مع المفروغية عن تحريمه، فلا يكون له إطلاق من هذه الجهة.

و منه يظهر الحال فيما تضمن اتقاء موضع الدم أو القبل أو الفرج، كيف و لو كان له إطلاق لكان اللازم حرمة مسه من دون إدخال أصلا، و لا يظن منهم البناء عليه أو فهمه من الأدلة. علي أن ظاهر جملة مما تضمن ذلك إرادة الحرمة من حيثية الموضع من جسد المرأة من دون نظر لكيفية المباشرة، ليشمل بإطلاقه المس أو إدخال بعض الحشفة، كما يناسبه وروده فيه جوابا عن السؤال عما يحل للرجل من الحائض، الظاهر في إرادة ما يحل من جسدها، لا من مباشرتها.

فيتجه الاقتصار في المباشرة علي المتيقن و هو إدخال تمام الحشفة، لأنه المعهود منها عرفا، بل شرعا، لكونه سبب الجنابة التي هي أظهر آثار المباشرة، مؤيدا بظهور نصوص دية قطع الذكر في كون الحشفة هي المعيار في أدائه لوظيفته، لجعل قطعها معيارا في ثبوت الدية كاملة «1». فتأمل جيدا.

(1) كأنه لدعوي دخوله في إطلاق الاعتزال في الآية الشريفة، و إطلاق الفرج المستثني مما للرجل من الحائض في جملة من النصوص الآتي بعضها. لكن سبق في مسألة الوطء في الدبر من مباحث الجنابة الإشكال في عموم الفرج للدبر، و لا سيما في المورد، لأن المناسب للحيض المنع عن موضعه لا غير.

بل في صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الرجل يأتي المرأة فيما دون الفرج و هي حائض. قال: لا بأس إذا اجتنب ذلك الموضع» «2». فإن السؤال فيه و إن كان عن إتيانها فيما دون الفرج، إلا أن قوله عليه السلام: «إذا اجتنب ذلك الموضع» ظاهر في انحصار الحرمة بموضع واحد معهود، و ليس هو إلا القبل.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب ديات الأعضاء.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض حديث: 6.

ص: 22

______________________________

و به يخرج عن إطلاق الاعتزال في الآية الشريفة لو تم شموله للوطء في الدبر و لم ينصرف لخصوص الوطء في القبل، لمناسبة الحيض، و للتعليل بأنه أذي، و لا سيما مع معلومية عدم إرادة معناه الحقيقي المقابل لمطلق الاتصال و الملامسة.

و أظهر منه في ذلك مرسل ابن بكير عنه عليه السلام: «قال: إذا حاضت المرأة فليأتها زوجها حيث شاء ما اتقي موضع الدم» «1»، و حديث عبد الملك بن عمرو: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال: كل شي ء ما عدا القبل منها بعينه» «2». و إن أشكل الأول بالإرسال، و الثاني بعدم النص علي وثاقة عبد الملك، غاية ما ورد فيه أنه روي هو عن الصادق عليه السلام أنه يدعو له دعاء مهتم به «3»، و حجية الرواية فرع وثاقته.

فالعمدة في الجواز صحيح هشام بن سالم مؤيدا بالخبرين المذكورين. و لذا صرح بعضهم بالجواز، بل هو ظاهر جملة من الأصحاب، حيث خصوا التحريم بموضع الدم، و في الجواهر: «علي المشهور في الجملة شهرة كادت تكون إجماعا»، بل ظاهر التبيان و مجمع البيان الإجماع علي اختصاص التحريم بموضع الدم، و في الجواهر أنه ادعي هنا الإجماع المركب علي عدم الفصل بين الدبر و غيره مما بين السرة و الركبة عدا القبل.

نعم، سبق ظهور صحيح عمر بن يزيد في النهي عن الوطء في الدبر. و حمله علي الوطء في القبل بقرينة ما سبق بعيد. فلا بد إما من حمله علي الكراهة محافظة علي ما تضمن انحصار الحرمة بالوطء في القبل، أو إبقائه علي ظهوره في الحرمة مع حمل الحصر المذكور علي الحصر الإضافي في قبال الاستمتاع بظاهر الجسد، لانصراف الأسئلة إليه بعد كون الوطء في الدبر أمرا مغفولا عنه غير متعارف و لا معهود و الأول أنسب بملاحظة المناسبة الارتكازية بين الحكم و الموضوع و بالنظر لما سبق من الأصحاب.

و إن كان الأمر غير خال عن الإشكال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) رجال الكشي: 332 طبعة النجف الأشرف.

ص: 23

و لا بأس بالاستمتاع بغير ذلك (1)، و إن كره بما تحت المئزر مما بين السرة

______________________________

(1) هذا في الجملة مما لا إشكال فيه، فلا يجب اعتزالها رأسا إجماعا بيننا قد استفاضت دعواه في كلماتهم، بل في جملة منها أنه إجماعي بين المسلمين و أنه لا خلاف في جواز الاستمتاع بها فوق المئزر.

و النصوص به متظافرة قد تقدم بعضها و يأتي بعضها. و لأجل ذلك يلزم حمل الاعتزال في الآية الشريفة علي الكناية عن ترك الوطء في القبل أو مطلقا، لا علي المعني الحقيقي، لاستلزامه تخصيص الأكثر. و أما حمل المحيض فيها علي موضع الحيض- كما ذكره جماعة- فهو مخالف لظاهر الآية جدا، بل ظاهرها أنه مصدر ميمي بمعني الحيض، لأنه الذي يسأل عنه و يجهل حكمه، و المناسب للوصف بالأذي، و لجعله ظرفا للاعتزال، لا متعلقا له. كما أن ما قد يظهر من المنتهي من التفكيك بين صدرها و ذيلها، بحمل المحيض في الأول علي الحيض و الثاني علي موضعه، بعيد جدا.

هذا، و في صحيح عبد الرحمن أو موثقة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل ما يحل له من الطامث؟ قال: لا شي ء حتي تطهر» «1». لكنه لا ينهض في قبال ما سبق.

و ربما حمل علي خصوص الوطء في القبل أو مطلقا. و هو بعيد، لاستبعاد السؤال عنه بعد كون تحريمه متيقنا من الآية و غيرها، كما أنه لا يناسب التركيب اللفظي للكلام.

و مثله حمله علي التقية، لما سبق من دعوي اتفاق المسلمين علي جواز الاستمتاع في الجملة. و من هنا كان الأقرب حمله علي الكراهة.

و مثله في ذلك موثق حجاج الخشاب: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحائض و النفساء ما يحل لزوجها منها؟ قال: تلبس درعا ثم تضطجع معه» «2»، فإن الدرع هو القميص علي ما ذكره غير واحد من اللغويين. و لعله لذا أطلق في اللمعة كراهة الاستمتاع بغير القبل، و إن ذكر في الروضة أن المعروف من مذهب الأصحاب كراهة

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الحيض حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 24

و الركبة (1)، بل الأحوط استحبابا الترك.

و إذا نقت من الدم جاز وطؤها و إن لم تغتسل (2)، و لا يجب غسل

______________________________

ما بين السرة و الركبة لا غير.

(1) و لا يحرم علي المعروف من مذهب الأصحاب، و نسبه في المعتبر لجمهورهم، و في التذكرة و جامع المقاصد و الروض و محكي المختلف و غيره إلي المشهور، و في المنتهي إلي أكثر علمائنا، بل صريح الخلاف الإجماع عليه، كما هو ظاهر ما سبق من التبيان و مجمع البيان. و عن المرتضي التحريم.

و استدل له بصحيح الحلبي: «أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحائض و ما يحل لزوجها منها. قال: تتزر بإزار إلي الركبتين و تخرج سرتها، ثم له ما فوق الإزار» «1»، و قريب منه موثق أبي بصير «2».

لكن لا بد من حملهما علي الكراهة، للنصوص المتضمنة انحصار التحريم بالقبل- و قد تقدمت- و المتضمنة انحصاره بالفرج، كموثق معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن الحائض ما يحل لزوجها منها؟ قال: ما دون الفرج» «3»، و غيره «4»، و صحيح عمر بن يزيد المتقدم المصرح بتحليل ما بين الأليتين، و معتبرة عمر بن حنظلة: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما للرجل من الحائض؟ قال: ما بين الفخذين» «5»، و لذا كان المعروف بين الأصحاب الكراهة.

بل قرب في الحدائق حمل الموثقين علي التقية، لأن العامة بين قائل بالحرمة و قائل بالكراهة. لكن لا مجال له بعد كون الكراهة مقتضي الجمع العرفي.

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب المدعي عليه الإجماع صريحا في الانتصار و الخلاف و الغنية، و ظاهرا في التبيان و السرائر و مجمع البيان و كشف اللثام و محكي أحكام الراوندي، و عن شرح المفاتيح أنه لا قائل بالتحريم من الشيعة. لكن

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب الحيض حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض حديث: 2، 3، 4، 9، 7.

(4) الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض حديث: 2، 3، 4، 9، 7.

(5) الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض حديث: 2، 3، 4، 9، 7.

ص: 25

______________________________

نسب للمشهور في التذكرة و جامع المقاصد و محكي المختلف و غيره، و للأشهر في الروض و محكي الذكري، و للأكثر في المنتهي.

و قد نسبوا الخلاف للصدوق، و كأنه لقوله في الفقيه: «و لا يجوز مجامعة المرأة في حيضها، لأن اللّه عز و جل نهي عن ذلك فقال: وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰي يَطْهُرْنَ يعني:

بذلك الغسل من الحيض، و نحوه في المقنع و الهداية. إلا أنه صرح بعد ذلك في الفقيه و المقنع بالاكتفاء بغسل الفرج مع شبق الزوج، و في الهداية بالاكتفاء به مع استعجاله.

و هو يناسب حمل التعميم لما بعد الطهر قبل الغسل علي الكراهة، حيث يبعد جدا ارتفاع التحريم بالشبق و الاستعجال.

فما في محكي المختلف من نسبة المنع له إلا أن تغلبه الشهوة فيأمرها بغسل فرجها و يطؤها، بعيد. و أشكل منه ما في كلام غيره من نسبة المنع إليه من دون تنبيه إلي الاستثناء، مع تصريحه به.

و كيف كان، فيدل علي الجواز جملة من النصوص، كموثق علي بن يقطين عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السلام: «سألته عن الحائض تري الطهر أيقع فيها [عليها.

يب. بها. صا] زوجها قبل أن تغتسل؟ قال: لا بأس، و بعد الغسل أحب إلي» «1»، و موثق عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السلام أو عن بعض أصحابنا عن علي بن يقطين عنه عليه السلام «2» «قال: إذا انقطع الدم و لم تغتسل فليأتها زوجها إن شاء» «3»، و مرسل عبد اللّه بن المغيرة عن العبد الصالح عليه السلام: «في المرأة إذا طهرت من الحيض و لم تمس الماء فلا يقع عليها زوجها حتي تغتسل، و إن فعل فلا بأس به. قال: تمس الماء أحب إلي» «4».

نعم، في موثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام: سألته عن المرأة كانت طامثا فرأت

______________________________

(1) الوسائل باب: 27 من أبواب الحيض حديث: 5.

(2) فقد رواه بالوجه الأول في الاستبصار، و بالثاني في التهذيب، فيكون مرسلا. لكنه لا يخلو عن بعد، لأن عبد اللّه بن بكير أعلي من علي بن يقطين طبقة، فكيف يروي عنه بواسطة، و لا سيما مع ما ذكره النجاشي من أن أصحابنا ذكروا أنه لم يرو علي بن يقطين عن الصادق (ع) إلا حديثا واحدا. (منه عفي عنه).

(3) الوسائل باب: 27 من أبواب الحيض حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 27 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 26

______________________________

الطهر أيقع عليها زوجها قبل أن تغتسل؟ قال: لا حتي تغتسل. قال: و سألته عن امرأة حاضت في السفر ثم طهرت فلم تجد ماء يوما أو اثنين أ يحل لزوجها أن يجامعها قبل أن تغتسل؟ لا يصلح حتي تغتسل» «1»، و في موثق سعيد بن يسار عنه عليه السلام: «قلت له:

المرأة تحرم عليها الصلاة ثم تطهر فتتوضأ من غير أن تغتسل، أ فلزوجها أن يأتيها قبل أن تغتسل؟ قال: لا حتي تغتسل» «2»، و قريب منهما ما يدل علي اعتبار التيمم عند عدم الماء و غيره مما يأتي.

لكن يتعين حملها علي الكراهة التي يدل عليها بعض نصوص الجواز. و ربما حملت علي التقية، لموافقتها للمشهور بين العامة، بل لم ينقل القول بالجواز مطلقا عنهم، و إنما حكي عن أبي حنيفة الجواز مع انقطاع الدم علي أكثر الحيض. و هو و إن كان قريبا إلا أن مقتضي الجمع العرفي الأول. علي أنه لا أثر له بعد ظهور بعض نصوص الجواز في الكراهة.

و أما الجمع بين الطائفتين بالتفصيل بين شبق الزوج و عدمه- كما سبق عن المختلف حكايته عن الصدوق- لصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام:

«في المرأة ينقطع عنها الدم دم الحيض في آخر أيامها. قال: إذا أصاب زوجها شبق فليأمرها فلتغسل فرجها ثم يمسها إن شاء قبل أن تغتسل» «3». فهو بعيد جدا، لما أشرنا إليه من بعد ارتفاع التحريم بالشبق، خصوصا مع إمكان سد الحاجة بالتفخيذ و نحوه، فجعله دليلا علي الكراهة أنسب. و لا سيما مع إباء قوله عليه السلام في حديث ابن بكير: «إن شاء» عن الحمل المذكور. فلا مخرج عما ذكره الأصحاب.

هذا، و أما الآية الشريفة فعلي قراءة: «يطهرن» بالتشديد يتطابق الصدر و الذيل في الدلالة علي النهي عن الوطء قبل الغسل. و يتعين حمله علي الكراهة، لما تقدم من النصوص. و يختص بالتحريم قوله تعالي: فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ. و هو المناسب للتعليل بالأذي المختص ارتكازا بالحيض. و لا مانع من التفكيك بينه و بين

______________________________

(1) الوسائل باب: 27 من أبواب الحيض حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 27 من أبواب الحيض حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 27 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 27

______________________________

ما بعده في الإلزام بعد أن كانا جملتين مختلفتي الموضوع.

و علي قراءته بالتخفيف يكون مقتضي مفهوم الغاية في الصدر عدم النهي عن الوطء قبل الغسل، و مقتضي مفهوم الشرط في الذيل النهي عنه. و ما في الروض من أن الطهر بالتخفيف حقيقة شرعية في الطهارات الثلاث، و هي مقدمة علي الحقيقة اللغوية. كما تري، لأن الذي يطلق علي الطهارات الثلاث هو الطهارة، لا الطهر، و إطلاق الطهارة عليها تابع لاصطلاح فقهي، لا لوضع شرعي. كيف و قد شاع في النصوص التي هي متأخرة عن الآية كثيرا إطلاق الطهر علي ما يقابل الحيض، تبعا لمعناه اللغوي و العرفي. و من هنا لا بد من الجمع بين الصدر و الذيل.

و من البعيد جدا تنزيل أحدهما علي الآخر بحمل الطهر في الصدر علي الغسل، أو حمل التطهر في الذيل علي انقطاع الدم، لعدم مألوفية كل منهما في الاستعمالات، و لظهور اختلاف هيئتهما في اختلاف معناهما.

و من هنا ربما يجمع بينهما بأحد وجهين:

أولهما: إلغاء مفهوم الغاية في الصدر، كي لا ينافي الذيل. و يتعين حملهما علي الكراهة، كما سبق في قراءة التشديد.

ثانيهما: حمل خصوص الذيل علي بيان ارتفاع مطلق المرجوحية و لو كانت تنزيهية، لا خصوص الحرمة، مع المحافظة في الصدر علي مفهوم الغاية و علي ظهوره في الحرمة تأكيدا لقوله تعالي: فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ.

و استقرب سيدنا المصنف قدّس سرّه الأول. لكن يبعد جدا إلغاء مفهوم الغاية، و لا سيما بعد ظهور سوق الجملة تأكيدا لما قبلها و مطابقته لمقتضي التعليل بالأذي.

و من هنا لا يبعد كون الأقرب الثاني. لو لم يكن هو الظاهر من الآية بنفسها مع قطع النظر عن النصوص المتقدمة، لما فيه من المحافظة علي خصوصية الحيض في الحكم المناسبة لأخذه في موضوعه، و لجعل الغاية الطهر، و لتعليله بالأذي، و لتعليل الذيل بما يناسب ارتفاع الكراهة أو حدوث الرجحان لا مجرد ارتفاع الحرمة،

ص: 28

______________________________

و هو قوله تعالي: إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.

و أما ما يظهر من غير واحد من توجيه الآية بحمل التطهر في الذيل علي غسل الفرج أو الوضوء. فهو إنما ينفع لو قيل بوجوب أحدهما قبل الوطء، أما لو بني علي عدم وجوب أحدهما كان خروجا عن الظاهر من غير فائدة. فلاحظ.

بقي شي ء، و هو أنه لو تعذر الغسل ففي قيام التيمم مقامه في ارتفاع الحرمة أو الكراهة به- كما في الفقيه و في الدروس و جامع المقاصد و عن الذكري و ظاهر المنتهي- أو عدم قيامه مقامه، بل ترتفع الحرمة أو الكراهة من غير تيمم- كما يظهر من محكي نهاية الأحكام- أو لا ترتفع بالتيمم، وجوه:

و الأول مقتضي معتبرة أبي عبيدة الآتية و رواية عمار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن المرأة إذا تيممت من الحيض هل تحل لزوجها؟ قال: نعم» «1».

و هو مقتضي إطلاق قوله عليه السلام في موثق عبد الرحمن أو صحيحه في المستحاضة: «و كل شي ء استحلت به الصلاة فليأتها زوجها و لتطف بالبيت» «2».

نعم، مقتضي موثق أبي بصير المتقدم الثالث. و قريب منه موثق عبد الرحمن أو صحيحه «3». لكن يتعين الجمع بين الطائفتين بحمل الثانية علي الكراهة مع التيمم لو قيل بالحرمة بدونه، و علي خفتها لو قيل بالكراهة بدونه، كما يناسبه التعبير فيه بقوله عليه السلام: «لا يصلح». و هو المناسب أيضا لكون التيمم بدلا اضطراريا. و منه يظهر أن أضعف الوجوه الثاني. فلاحظ.

هذا، و لا مانع من إيقاع التيمم بداعي رفع كراهة الوطء أو حرمته، لأنه من الدواعي القربية الكافية في صحة الطهارات، علي ما تقدم نظيره في المسألة السابعة و التسعين من فصل غايات الوضوء. فراجع.

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 21 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 29

فرجها قبل الوطء (1)، و إن كان أحوط.

______________________________

(1) كما في ظاهر السرائر و صريح المعتبر و المنتهي و جامع المقاصد و محكي الذكري و البيان، كما هو الظاهر من كل من أهمل التعرض له، كما في الإرشاد و اللمعة و غيرهما، و كذا من لم يتعرض لحكم الوطء قبل الغسل و اقتصر علي تحريم وطء الحائض، كما في المبسوط و الاقتصاد و الشرائع، و نسبه في الروض لأكثر القائلين بجواز الوطء قبل الغسل، و في محكي شرح المفاتيح إلي المشهور.

خلافا لظاهر الأمر به في كلام جملة من الأصحاب، كما في المقنعة و النهاية و الغنية و المراسم و السرائر و القواعد و ما تقدم من الصدوق، بل هو صريح بعضهم، بل في كشف اللثام أنه ظاهر الأكثر، و في مفتاح الكرامة أنه ظاهر أكثر كتب الأصحاب.

و يستدل له بصحيح محمد بن مسلم المتقدم و معتبرة أبي عبيدة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة الحائض تري الطهر و هي في السفر و ليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها و قد حضرت الصلاة. قال: إذا كان معها بقدر ما تغسل فرجها فتغسله ثم تتيمم و تصلي. قلت: فيأتيها زوجها في تلك الحالة؟ قال: نعم، إذا غسلت فرجها و تيممت فلا بأس» «1».

و قد استشكل سيدنا المصنف قدّس سرّه في الصحيح بأنه إنما يكون ظاهرا في الوجوب لو كان من قبيل الأمر بالتبليغ، كي يكون الأمر شرعيا، و هو غير ظاهر، بل هو نظير أمر الولي الصبي بالعبادات. نعم، يدل علي الرجحان، و هو أعم من الوجوب.

كما استشكل فيهما معا بأن الحكم المشروط بغسل الفرج هو المشروط بشبق الزوج أو التيمم، و هو الجواز بلا كراهة أو مع خفتها، فلا يدل علي ثبوت الحرمة بدون غسل الفرج، بل المتيقن الكراهة، فلا مخرج عما تقتضيه المطلقات من عدم وجوب غسل الفرج.

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 30

______________________________

لكن الأول إنما يتوجه علي ما في المستند من دعوي وجوب غسل الفرج نفسيا، و الظاهر عدم إرادته في المقام و إن نسبه لبعضهم في المستند، بل المراد هو الوجوب العقلي لتحليل الوطء، نظير وجوب الغسل لمس المصحف، و لا ريب في ظهور الصحيح فيه، لأن تعقيب الأمر بغسل الفرج بالترخيص في الوطء ظاهر في توقف الترخيص عليه.

نظير ما ورد في وطء الرجل جاريته التي زوجها من عبده، كصحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سمعته يقول: إذا زوج الرجل عبده أمته ثم اشتهاها قال له: اعتزلها، فإذا طمثت وطأها … » «1»، فإن أمر العبد باعتزالها و إن لم يكن من قبيل الأمر بالتبليغ إلا أنه ظاهر في توقف حل وطء المولي للجارية عليه.

و أما الثاني فيندفع: بأن ظاهر الصحيح كون الشبق رافعا للكراهة أو مخففا لها من حيثية عدم الغسل مع توقف الحل حينئذ علي غسل الفرج، لا في أن الحل من دون كراهة موقوف علي كل من الشبق و غسل الفرج، كي يكون مجملا من حيثية ما يتوقف علي غسل الفرج، و أنه أصل الحل أو ارتفاع الكراهة.

مثلا إذا ورد: إن رأي الجنب مصحفا ملقي علي الأرض فليتوضأ ثم له رفعه قبل أن يغتسل، كان ظاهرا في توقف حل حمل الجنب للمصحف علي الوضوء، و إن كان تعرض المصحف للإهانة رافعا لكراهة حمل الجنب للمصحف.

علي أن الإشكال المذكور لو تم مختص بالصحيح الظاهر في رافعية الشبق للكراهة، لما سبق من استبعاد رافعيته للحرمة، و لا مجال له في حديث أبي عبيدة، لظهوره في توقف الحل علي كل من التيمم و غسل الفرج، و قيام الدليل الخارجي علي عدم توقفه علي التيمم، بل هو رافع للكراهة لا يوجب رفع اليد عن ظهوره في توقف الحل علي غسل الفرج. فتأمل.

فالعمدة في وجه حمل الحديثين علي الكراهة عدم التنبيه علي غسل الفرج في

______________________________

(1) الوسائل باب: 45 من أبواب نكاح العبيد و الإماء حديث: 2.

ص: 31

(مسألة 17): الأحوط وجوبا للزوج دون الزوجة (1) الكفارة عن الوطء (2) في أول الحيض بدينار، و في وسطه بنصف دينار، و في

______________________________

النصوص الدالة علي عدم وجوب الغسل مع شدة الحاجة للتنبيه عليه. و إن كان في بلوغ ذلك حدّ القرينية إشكال.

نعم، التعبير بعدم مس الماء في حديث عبد اللّه بن المغيرة صالح للقرينية، لو لا الإشكال فيه بالإرسال. كما أن الظاهر من غسل الفرج هو تطهيره من نجاسة دم الحيض، و من البعيد جدا اعتبار ذلك في حلّ الوطء، و لذا لا يظن بأحد البناء علي وجوب تطهيره منه لو تنجس به بعد ذلك، و الفرق بين النجاسة المتصلة بالحيض و النجاسة الطارئة بعد النقاء بعيد جدا. إلا أن في صلوح ذلك لرفع اليد عن ظاهر الأمر في الحديثين و حمله علي الاستحباب إشكالا. فلا يترك الاحتياط.

هذا، و في التبيان حمل التطهر في الآية علي الوضوء، و ظاهره وجوبه قبل الوطء، بل ظاهره الإجماع عليه، و حيث كان مخالفا لظاهر الآية كان حملها عليه و التكليف به محتاجا إلي دليل، و هو مفقود. إلا أن يريد به غسل الفرج، لأنه المذكور في صدر كلامه، فيبتني علي ما سبق.

و مثله ما يظهر من مجمع البيان و عن أحكام الراوندي من وجوب أحد الأمرين من الوضوء و غسل الفرج، بل يظهر من الأول أنه إجماعي. و كذا ما عن محكي الجامع من وجوبهما معا.

مسألة 17 كفارة وطء الحائض
اشارة

(1) كما صرح به غير واحد و ادعي في الروض الإجماع عليه. لاختصاص النصوص بالزوج.

(2) حيث ذهب إلي وجوبها في الفقيه و الهداية و المقنع و المقنعة و التهذيب و الاستبصار و التبيان و الاقتصاد و طهارة المبسوط و إشارة السبق و الوسيلة و المراسم و السرائر و عن مصباح المرتضي و الجمل و العقود و الجامع و ظاهر كشف الرموز

ص: 32

______________________________

و الدروس و المسالك، و إن لم يتضح صدق النسبة للأخيرين، و جعله أحوط القولين في الشرائع، و أحوط الروايتين في النافع، كما جعل الوجوب احتياطيا في اللمعة.

و هو المشهور مطلقا كما في الدروس و الروض و كشف اللثام، و بين المتقدمين، كما في الحدائق، و مذهب الأكثر، كما في التذكرة و جامع المقاصد و محكي الذكري و شرح الجعفرية، بل في الانتصار و الخلاف و الغنية الإجماع عليه، و في مفتاح الكرامة أنه قد يحصل اتفاق قدماء الأصحاب عليه.

لكن لا مجال له بعد حكاية الشيخ في نكاح المبسوط عن أصحابنا الخلاف و قول بعضهم بالاستحباب و اختاره فيه و في النهاية- في مبحث الحيض، و إن كان مقتضي إطلاقه في كتاب الكفارات الوجوب-، و جري عليه في المعتبر و التذكرة و المنتهي و الإرشاد و القواعد و الإيضاح و جامع المقاصد و الروض و الروضة و المدارك و كشف اللثام و الوسائل و محكي التحرير و المختلف و التلخيص و حاشية الإيضاح و حواشي الشهيد و فوائد الشرائع و الجعفرية و الموجز و مجمع البرهان و شرح المفاتيح و ظاهر الذكري و البيان و غيرها، و في الحدائق أنه المشهور بين المتأخرين، و عن شرح المفاتيح نسبته لأكثرهم.

و منشأ ذلك اختلاف الأخبار، فقد تضمن جملة منها ثبوت الكفارة، كرواية داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في كفارة الطمث أنه يتصدق إذا كان في أوله بدينار، و في وسطه نصف دينار، و في آخره ربع دينار. قلت: فإن لم يكن عنده ما يكفر؟

قال: فليتصدق علي مسكين واحد، و إلا استغفر اللّه و لا يعود، فإن الاستغفار توبة و كفارة لكل من لم يجد السبيل إلي شي ء من الكفارة» «1»، و قريب مما في صدره مرسل المقنع «2»، بل لعله هو منقولا بالمعني.

و صحيح محمد بن مسلم: «سألته عمن أتي امرأته و هي طامث. قال: يتصدق بدينار و يستغفر اللّه تعالي» «3»، و خبره: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يأتي المرأة و هي

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 28 من أبواب الحيض حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 28 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 33

______________________________

حائض قال: يجب عليه في استقبال الحيض دينار و في استدباره نصف دينار … » «1»،

و موثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: من أتي حائضا فعليه نصف دينار يتصدق به» «2»، و موثق الحلبي عنه عليه السلام: «في الرجل يقع علي امرأته و هي حائض ما عليه؟ قال: يتصدق علي مسكين بقدر شبعه» «3»، و صحيحه: «سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن رجل واقع امرأته و هي حائض. قال: إن واقعها في استقبال الدم فليستغفر اللّه و ليتصدق علي سبعة نفر من المؤمنين بقوت كل رجل منهم ليومه، و لا يعد، و إن كان واقعها في إدبار الدم في آخر أيامها قبل الغسل فلا شي ء عليه» «4»، و مرسل علي ابن إبراهيم: «قال الصادق عليه السلام: من أتي امرأته في الفرج في أول أيام حيضها فعليه أن يتصدق بدينار، و عليه ربع حدّ الزاني خمسة و عشرون جلدة، و إن أتاها في آخر أيام حيضها فعليه أن يتصدق بنصف دينار و يضرب اثنتي عشرة جلدة و نصفا» «5».

كما تضمن بعضها نفي الكفارة، كصحيح العيص: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل واقع امرأته و هي طامث. قال: لا يلتمس فعل ذلك و قد نهي اللّه أن يقربها.

قلت: فإن فعل أ عليه كفارة؟ قال: لا أعلم فيه شيئا، يستغفر اللّه» «6»، و موثق زرارة عن أحدهما عليهما السلام: «سألته عن الحائض يأتيها زوجها قال: ليس عليه شي ء، يستغفر اللّه و لا يعود» «7»، و خبر ليث المرادي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن وقوع الرجل علي امرأته و هي طامث خطأ. قال: ليس عليه شي ء، و قد عصي ربه» «8».

و قد جمع الشيخ قدّس سرّه بين الطائفتين بحمل الأولي علي العلم بكون المرأة حائضا و الثانية علي الجهل بذلك بشهادة خبر ليث، بحمل الخطأ فيه علي ذلك، مدعيا أن الحكم فيه بأنه قد عصي ربه و الحث علي الاستغفار في الصحيح و الموثق لا ينافي ذلك، و لا يلزم بحملها علي العمد، إذ يمكن أن يكون بلحاظ تفريطه في ترك السؤال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 28 من أبواب الحيض حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 28 من أبواب الحيض حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 22 من أبواب الكفارات حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 28 من أبواب الحيض حديث: 6.

(6) الوسائل باب: 29 من أبواب الحيض حديث: 1.

(7) الوسائل باب: 29 من أبواب الحيض حديث: 2.

(8) الوسائل باب: 29 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 34

______________________________

و يشكل ما ذكره بأن الفحص عن الموضوع غير لازم، خصوصا مع كون الحل مقتضي الاستصحاب، أما مع استصحاب الحيض فيجري حكم العمد.

نعم، يمكن حمل الحكم بالمعصية في الخبر علي إرادة المعصية الواقعية. و لعله أقرب مما ذكره سيدنا المصنف قدس سرّه من حمل الخطأ فيه علي الخطيئة. لكن تنزيل الصحيح و الموثق علي الخطأ بعيد جدا بعد كونه علي خلاف الأصل، و لا سيما مع الأمر فيهما بالاستغفار، و مع قوله في الصحيح: «لا يلتمس فعل ذلك و قد … » الذي هو كالصريح في صلوح النهي للداعوية، و لا يكون إلا مع العمد، و قوله في الموثق:

«و لا يعود» إذ لا معني للنهي عن العود في الخطأ و أبعد منه تنزيلهما بقرينة الطائفة الأولي علي نفي شي ء غير الكفارة، أو علي صورة عدم القدرة علي الكفارة، بل هما لا يناسبان السؤال عن ثبوت الكفارة في الصحيح.

و مثله الإشكال في الصحيح و الموثق بما في الجواهر من عدم مقاومتهما للإجماعات المتقدمة، و لا سيما مع إعراض من عرفت من الأصحاب عنهما. لاندفاعه بعدم حجية الإجماع المنقول في نفسه خصوصا ما كان منقولا في الكتب الثلاثة المتقدمة، لكثرة دعاواه فيها في مورد الخلاف، بل شيوعه. و لا سيما مع خروج الشيخ عليه الذي هو أحد نقلته و اعترافه باختلاف الأصحاب الظاهر في سبق الخلاف عليه.

كما لا مجال معه لدعوي الإعراض الموهن للخبرين مع اعتبار سنديهما.

و كذا الإشكال في الطائفة الأولي بأن ما عليه الفتوي منها و هي الرواية الأولي ضعيفة بالإرسال و غيره، لإمكان اندفاعه بانجبارها بعمل الأصحاب، و لا سيما مع ما في المنتهي من اتفاق الأصحاب علي صحتها و إن ضعف سندها، و إنما خلافهم في حملها علي الوجوب أو الاستحباب.

و دعوي: أنه يحتمل كون ذكر جماعة منهم لذلك لبنائهم علي الاستحباب الذي يتسامح في أدلته، و إنما لم ينبهوا لذلك لتعودهم علي الاقتصار علي ذكر مضامين النصوص.

مدفوعة: بمخالفة ذلك لظاهر جملة منهم و صريح آخرين، و لأن شيوع

ص: 35

______________________________

التحديد المذكور بينهم دون بقية التحديدات المذكورة في النصوص المعتبرة قد يوجب الوثوق باطلاعهم علي ما يوجب اعتبارها. فتأمل. و يأتي بقية الكلام في ذلك عند الكلام في مقدار الكفارة.

و من هنا كان الأقرب الجمع بين الطائفتين بحمل الأولي علي الاستحباب، كما يناسبه شدة الاختلاف بينها في مقدار الكفارة، بنحو يصعب الجمع العرفي بتنزيلها علي التفصيل الذي تضمنه الأول منها، بل يتعذر في بعضها. و لا سيما مع عدم ظهور الخبر المذكور في الوجوب، لوروده لبيان مقدار الكفارة مع المفروغية عن مشروعيتها، من دون أن يتضمن الأمر بها.

و لا وجه معه لحمل إحدي الطائفتين علي التقية، لأنه فرع استحكام التعارض، بل لا مجال له بعد اختلاف العامة، فقد حكي في التذكرة القول بالوجوب عن الحسن البصري و عطاء الخراساني و أحمد و الشافعي في القديم، و القول بالاستحباب عن سفيان الثوري و أصحاب الرأي و مالك و الشافعي في الجديد.

و منه يظهر أنه لو فرض استحكام التعارض كان المتعين التساقط و الرجوع للبراءة، لا ترجيح نصوص الوجوب، بدعوي مخالفتها للعامة. كما لا مجال لدعوي ترجيحها بالشهرة لأنها أكثر، لأنها ليست بالنحو الكافي في الترجيح، و لا سيما مع الاختلاف بينها في المقدار اختلافا يصعب أو يتعذر معه الجمع. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

هذا، و في طهارة المبسوط: «و هل الكفارة واجبة أو مندوب إليها؟ فيه روايتان، إحداهما- و هي الأظهر- أنها علي الوجوب، و الثانية: أنها علي الاستحباب».

و ظاهره دلالة بعض الروايات علي الاستحباب، و لم أعثر علي ذلك عدا ما عن دعائم الإسلام: «و روينا عنهم عليهم السلام: أن من أتي حائضا فقد أتي ما لا يحل له. و عليه أن يستغفر اللّه و يتوب إليه من خطيئته، و إن تصدق بصدقة مع ذلك فقد أحسن» «1»،

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 24 من أبواب أحكام الحيض حديث: 1.

ص: 36

آخره بربع دينار (1). و الأحوط وجوبا أيضا دفع الدينار نفسه مع

______________________________

بناء علي أن الذيل من تتمة الرواية لا من المؤلف. و ربما يحمل ما في المبسوط علي أن الاستحباب مقتضي الجمع بين النصوص كما ذكرنا، لا أنه مقتضي رواية خاصة دالة علي الرجحان من دون إلزام.

(1) كما جري عليه جمهور الأصحاب في بيان مقدار الكفارة سواء قيل بوجوبها أم باستحبابها، و ادعي جملة منهم الشهرة علي ذلك، و هو معقد الإجماعات المتقدمة المدعات علي الوجوب، و عن المهذب البارع دعوي الإجماع عليه أيضا، و ذكر في المعتبر اتفاق الأصحاب علي اختصاص رواية داود بن فرقد بالمصلحة الراجحة إما وجوبا أو استحبابا، و قال: «فنحن بالتحقيق عاملون بالإجماع، لا بالرواية، لأنه لو لا أحد الأمرين يلزم خروجها عن الإرادة، و هو منفي بالاتفاق».

نعم، يظهر التردد فيه من الصدوق، كما اعترف به في الجملة في المعتبر و غيره، فإنه و إن اقتصر في نكاح المقنع و الهداية علي ذلك، إلا أنه في الفقيه بعد أن ذكره قال: «و روي أنه إذا جامعها و هي حائض تصدق علي مسكين بقدر شبعه»، بل في طهارة المقنع قال: «و إذا وقع الرجل علي امرأة و هي حائض فإن عليه أن يتصدق علي مسكين بقدر شبعه. و روي: إن جامعها في أول الحيض … » ثم ذكر مضمون رواية داود بن فرقد. كما قد يظهر من اقتصار الكليني في نوادر الكفارات علي صحيح الحلبي فتواه بمضمونه.

و كيف كان، فالوجه فيما في المتن رواية داود بن فرقد مع تنزيل غيرها عليها، فينزل صحيح محمد بن مسلم علي أول الحيض، و موثق أبي بصير علي وسطه، و موثق الحلبي علي تعذر التصدق بالدينار و أبعاضه، حيث تضمنت رواية داود الاكتفاء حينئذ بالصدقة علي مسكين واحد.

و أما ما في التهذيب من حمل الموثق علي ما إذا كانت قيمته ما يبلغ الكفارة، فغريب.

ص: 37

الإمكان (1)،

______________________________

لكن لا يخفي بعد التنزيلات الأول أيضا كتعذر التنزيل في صحيح الحلبي و خبر محمد بن مسلم و مرسل علي بن إبراهيم. و هذا ما يؤيد ما سبق من كون الحكم استحبابيا. بل قد يقوي معه احتمال كون ذكر غير واحد من القدماء لمضمون رواية داود ليس لبنائهم علي وجوبه، بل لاستحبابه، و لم ينبهوا علي ذلك كما لم ينبهوا في كثير من المستحبات التي اثبتوها بلسان نصوصها التي قد تظهر بدوا في الوجوب، و إنما رجحوا رواية داود لأنها أقرب للاعتبار، لأن مبناهم علي التسامح في المستحبات.

و من هنا كان المناسب العمل بجميع النصوص و الجمع بينها بالحمل علي اختلاف مراتب الفضل أو التخيير، قال في محكي مجمع الفائدة و البرهان: «أن الظاهر من التكفير مطلق التكفير، مثل شبع شخص و عشرة، كما هو في بعض الروايات، و يكون المذكور مستحبا في مستحب».

(1) كما جزم به في جامع المقاصد و المسالك و المدارك، و هو ظاهر الروضة و عن غيرها. جمودا علي مفاد النص.

و يشكل: بأن إطلاق التكليف بالعناوين النقدية كالدينار و الدرهم و التومان و الليرة و غيرها ينصرف إلي إرادة المالية المحفوظة في النقد المسكوك المتداول في مورد تداول النقد المكلف به، لأنها الغرض النوعي من النقود المضروبة، بنحو يكون سببا لإلغاء خصوصياتها عرفا، فإذا كلف في زماننا بالدينار العراقي اجتزأ بدفع ما يساويه من نقد العراق، كنصفي دينار، و نصف و ربعين، و عشرين درهما و غيرها، لا من باب التبديل، بل لفهمها من الإطلاق. و يناسبه وروده في النص في سياق نصف الدينار و ربعه مع أن الظاهر عدم ضربهما في عصر الصدور. و حملهما علي التصدق بالكسر المشاع بعيد جدا، بل المفهوم ما ذكرنا.

و عليه لا يلزم الجمود علي الدينار، و لا التعدي لمطلق النقد، فضلا عن كل ما يساويه في القيمة و لو من غير النقد. و كأن هذا هو مراد جملة ممن وصف الدينار بما

ص: 38

و إلا دفع القيمة (1)

______________________________

يكون قيمته عشرة دراهم جياد، حيث وصفه بذلك جماعة كثيرة كالشيخين و العلامة و غيرهم، بل في جامع المقاصد أنه المعروف من مذهب الأصحاب، فلا يبعد أن يكون مراد جملة منهم جواز دفع الدراهم، لأنها بقدره في البلاد الإسلامية التي يتعارف فيها استعمال الدينار، كما احتمله منهم في كشف اللثام و نسبه صريحا للجامع، لا أن مرادهم تقييد الدينار بها بحيث لا يجب دفعه بتمامه لو زادت قيمته عليها، و لا يجزي لو نقصت قيمته عنها، فإنه بعيد جدا، و لا أن مرادهم مجرد تعريفه بذلك، لبيان وجوب كون الدينار ذهبا خالصا بوزن مثقال، لأن التصريح بذلك أخصر و أفيد.

و منه يظهر أنه لا مجال لما ذكره جماعة كثيرة من إطلاق عدم إجزاء دفع القيمة، و لا لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه و سبقه إليه في المنتهي و محكي التحرير و نهاية الأحكام من الاكتفاء بالذهب غير المسكوك. قال قدّس سرّه: «إذا كانت قرينة السياق مانعة من حمل الدينار علي خصوص المسكوك يدور الأمر بين حمله علي القيمة و حمله علي المقدار من الذهب، و الثاني أولي، لأنه أقرب إلي الحقيقة و إلي الاحتفاظ بخصوصية الذهب، فيكون هو المتعين».

و فيه: أن الأقربية للحقيقة و الاحتفاظ بخصوصية الذهب لا تصلح قرينة في المقام ما لم ترجع للأقربية ذهنا، و هي ممنوعة بعد ما ذكرنا. و أضعف منه ما في المنتهي من تناول الاسم للذهب المضروب و غيره. لأن اختصاصه بالمضروب من الواضحات، و التعدي لما ذكرنا للخصوصية التي أشرنا إليها آنفا، لا لعموم الاسم له.

(1) قال سيدنا المصنف قدّس سرّه بعد أن جزم بعد إجزاء القيمة اختيارا: «ثم إنه لو تعذر الدينار فلا كلام في الاجتزاء بالقيمة، و العمدة فيه الإجماع المذكور. و لو لاه أشكل الحكم، لأن قاعدة الميسور علي تقدير تماميتها كلية فاقتضاؤها وجوب القيمة غير واضح، لعدم صدق الميسور علي القيمة».

و ما ذكره قدّس سرّه في محله، لأن قيمة الشي ء ارتكازا بدل عنه لا ميسور منه. علي أن

ص: 39

وقت الدفع (1).

______________________________

القاعدة غير تامة، كما أشرنا إليه غير مرة.

هذا، و في جامع المقاصد: «و مع تعارض القيمة و التبر يحتمل التخيير، و ترجيح التبر لقربه من المنصوص».

و فيه- مع ما سبق من الإشكال في الترجيح بالقرب من المنصوص-: أن التبر و إن كان أقرب من حيثية الماهية و الحقيقة، إلا أن القيمة أقرب من حيثية المالية، التي هي أنسب ارتكازا بالملاحظة في أمثال المقام مما يكون التكليف فيه بالمال، بل حيث كان أصل التعدي عن الدينار مع تعذره من جهة الإجماع فالظاهر من حال المجمعين تعين القيمة، و إنما ذهب من ذهب للاكتفاء بالذهب لتخيل كونه في عرض الدينار، كما سبق. فتأمل.

نعم، يقع الكلام في الاجتزاء بكل ما يساوي الدينار في المالية أو بخصوص النقد، قد ينسب لظاهر كلماتهم الأول. لكنه لا يخلو عن إشكال، لانصراف القيمة إلي النقد دون غيره بل هو مساو للمضمون في القيمة، لا قيمة له. و لا أقل من لزوم الاقتصار علي المتيقن. اللهم إلا أن يدعي أن المرجع البراءة، بناء علي ما يأتي من احتمال التكليف بالقيمة مع التعذر، لا بالدينار و القيمة مسقطة له. فتأمل.

هذا، و بناء علي ما سبق منا يتجه التخيير بين الدينار الذهب المضروب و الدراهم، و مع تعذرهما- كما في عصورنا- ينتقل للقيمة بالنقد، و المتيقن الاقتصار علي نقد البلاد التي تدفع بها الكفارة أو تجب فيها- علي ما يأتي نظيره في وقت القيمة- أما نقد غيرها فهو فيها كسائر أفراد العروض الأخري، فيجري فيه ما سبق فيها.

(1) لأنه وقت الانتقال إليها، بناء علي ما هو الظاهر من إمكان انشغال الذمة وضعا- الذي هو بمعني الضمان- بالمتعذر، بلحاظ إمكان تفريغها ببدله. إلا أن يدعي أن مرجع الأمر بالكفارة ليس إلي انشغال الذمة بها وضعا، بل إلي وجوب أو استحباب دفعها تكليفا، و حيث يمتنع التكليف بالمتعذر يتعين الانتقال للقيمة المستلزم لوجوب قيمة

ص: 40

نعم لا شي ء علي الساهي، و الناسي (1)،

______________________________

وقت التعذر لو كان متأخرا عن التكليف و قيمة وقت التكليف لو كان متأخرا عن التعذر.

هذا، و حيث كان الدينار الشرعي مساويا للمثقال الشرعي الذي سبق تحديده في مبحث الكر كان اللازم مراعاة قيمته، و المعيار فيها علي قيمة الذهب المقدر بذلك.

و لا مجال لملاحظة قيمة بعض الدنانير الأثرية- التي هي عالية جدا- لأن نسبة القيمة إليها ليس بلحاظ كونها دينارا، بل بلحاظ قدمها و أثريتها، و الظاهر خروج ذلك عن مقام التقدير في الماليات. بل لا يبعد عدم وجوب دفعها مع التمكن منها، لانصراف الدينار إلي ما يتعامل به. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) فقد صرح بعدم وجوبها مع النسيان في التذكرة و المنتهي و المسالك، و هو مقتضي التقييد بالعلم و العمد في المبسوط و الشرائع و الدروس، بل الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم و إن قصرت عنه بعض عباراتهم. لانصراف إطلاق الكفارة إلي كونها عقوبة علي الذنب أو مسقطة له كالتوبة، فيقصر عما لو لم يكن الفاعل مسئولا به لعذر من نسيان أو نحوه، و لعله إليه يرجع استدلال بعضهم بحديث رفع النسيان، لأن المرفوع به ما هو من سنخ المسؤولية و شئونها، كالعقاب و نحوه، دون غيره من الآثار.

و لا ينافي ذلك ثبوت الكفارة في قتل الخطأ و الصيد خطأ في الإحرام، لأن قيام الدليل الخاص علي شي ء لا ينافي انصراف الإطلاق عنه. بل لعل السقوط مقتضي إطلاق الخطأ في خبر ليث المتقدم بناء علي ما سبق في الاستدلال به. مضافا إلي اختصاص أكثر نصوص المقام بصورة تحقق المعصية، للأمر فيها بالاستغفار، و تضمنها أنه توبة و كفارة لكل من لم يجد السبيل إلي شي ء من الكفارة، لوضوح أن الاستغفار و التوبة من شئون الذنب الذي يسأل به.

بل رواية داود بن فرقد التي هي دليل الأصحاب في المقام، واردة في مقام بيان مقدار الكفارة بعد الفراغ عن مشروعيتها، لا في مقام تشريعها، ليكون لها إطلاق يقتضي تشريعها مع السهو و النسيان. فلاحظ.

ص: 41

و الصبي (1)، و المجنون (2)، و الجاهل بالموضوع (3)، بل بالحكم (4) إذا

______________________________

(1) كما في المنتهي و التذكرة، بل في الأول دعوي الإجماع عليه. و الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم. لما سبق في السهو و النسيان. مضافا إلي حديث رفع القلم، حيث يخرج به عن عموم وجوب الكفارة لو تم، بناء علي ما أشرنا إليه في تعيين وقت القيمة من أن وجوبها تكليفي لا وضعي، بل و إن كان وضعيا بناء علي ما هو الظاهر من عموم حديث رفع القلم للوضعي إذا كان من سنخ المسؤولية و شئونها، كنفوذ العقد. و وجوبها عليه بعد البلوغ يحتاج إلي دليل، لظهور نصوصها في وجوبها بمجرد الوطء من دون فصل.

(2) الكلام فيه هو الكلام في الصبي.

(3) و هو كون المرأة حائضا، كما صرح به في المقنعة و التهذيب و الاستبصار و الخلاف و التذكرة و المنتهي و ظاهر المسالك، و هو مقتضي التقييد بالعمد ممن سبق، و بالعلم بحالها في الروض و كشف اللثام، بل لعله لا إشكال فيه بينهم، بل ظاهر الخلاف نفي الخلاف فيه. و الوجه فيه ما سبق في الساهي و الناسي.

(4) و هو حرمة وطء الحائض، فقد أطلق سقوط الكفارة مع الجهل بذلك في الخلاف و التذكرة و المنتهي. و هو مقتضي التقييد بالعلم ممن سبق، كما هو المحكي عن الجامع و التحرير و نهاية الأحكام و المختلف الذكري، و ظاهر الخلاف نفي الخلاف فيه، و عن الهادي أنه إجماعي.

و يقتضيه ما سبق في الساهي و الناسي من انصراف إطلاق الكفارة إلي صورة المسؤولية بالذنب و المؤاخذة عليه، مؤيدا باختصاص جملة من نصوصها بذلك، لاشتمالها علي الاستغفار و التوبة. لكنه يختص بما إذا كان الجهل عذرا، كما قيده به في المتن، دون ما لو كان عن تقصير.

إلا أن يتمسك لإطلاق سقوط الكفارة مع الجهل بالإجماع المتقدم، و بما سبق التنبيه عليه من عدم الإطلاق في رواية داود التي هي دليل الأصحاب في المقام، حيث

ص: 42

كان عن عذر. و لو وطأ السيد أمته في الحيض فالأحوط وجوبا أن يتصدق بثلاثة أمداد (1)

______________________________

يلزم الاقتصار معه علي المتيقن. و لا يهم إطلاق غيرها بعد عدم العمل به و صعوبة تنزيله علي مفادها أو تعذره، كما سبق فتأمل.

و أما مع الجهل بثبوت الكفارة و العلم بالتحريم فظاهرهم ثبوت الكفارة، و هو قريب جدا، لمناسبته لما عرفت من كون الكفارة من شئون المسؤولية بالذنب. و لا يهم معه ما ذكرناه من عدم الإطلاق في رواية داود بعد الإشارة فيها للجهة المذكورة التي لا دخل فيها ارتكازا للعلم بثبوت الكفارة، و ليس هو كالعلم بحرمة الوطء، حيث يكون الجهل بها موجبا لتخفيف الذنب و إن كان عن تقصير، فلا يبعد سقوط الكفارة به. فافهم.

هذا، و في مفتاح الكرامة: «و أما التفصيل بالمضطر و غيره و الشاب و غير- كما قاله الراوندي- فلا عبرة به. و هو في محله. إلا أن يراد بالاضطرار ما يرفع الحرمة، فيتجه سقوط الكفارة لما سبق.

(1) كما في المقنع و الهداية و الفقيه و المقنعة و الانتصار و السرائر و الوسيلة و محكي كشف الالتباس، و نفي في السرائر الخلاف فيه، و ادعي في الانتصار أنه إجماعي، و صريحه كمحكي كشف الالتباس الوجوب، كما هو ظاهر غيرهما، بل في كشف اللثام أنه ظاهر أكثر من ذكره.

و صرح بالاستحباب في المعتبر و المنتهي، كما لعله الظاهر ممن صرح باستحباب التكفير بوطء الزوجة بالدينار و نصفه و ربعه، كما في النهاية و القواعد و محكي نهاية الأحكام و التحرير و البيان، بل عدم الوجوب كالصريح من جامع المقاصد و الروض.

و قد يظهر من إطلاق جملة منهم مشاركة الأمة للزوجة في التكفير بالدينار و نصفه و ربعه، بل هو كالصريح من الشيخ في التهذيبين، حيث حمل ما تضمن التصدق علي عشرة مساكين في الأمة علي ما إذا كان في آخر الحيض، فيحسن توزيع الربع دينار عليهم.

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من قيام الإجماع علي انتفاء الكفارة بذلك في

ص: 43

______________________________

الأمة غير ظاهر، كيف و في حاشية المدارك نسبته للمشهور.

هذا، و قد استدل في الانتصار لوجوب الأمداد الثلاثة بعد الإجماع بإطلاق ما تضمن الأمر بفعل الخير و الطاعة، الذي لا يمنع من الاستدلال به الخروج عنه في بعض الموارد. لكن لا مجال لدعوي الإجماع بعد ما سبق. و عموم الأمر بفعل الخير لما كان استغراقيا- كما هو مبني الاستدلال- فلا مجال لحمله علي الوجوب المولوي لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن، بل يحمل علي الاستحباب. أو الإرشاد الذي هو المتعين في أوامر الطاعة.

نعم، في الرضوي: «و إن جامعت أمتك و هي حائض فعليك أن تتصدق بثلاثة أمداد من الطعام» «1». بل من البعيد جدا فتوي الأصحاب بمثل هذا الحكم التعبدي من دون رواية به.

لكن ضعف الرضوي و عدم العثور علي الرواية و النظر في لسانها مانع من الاستدلال بهما. و احتمال اعتمادهم علي الرضوي بعيد جدا، لعدم ظهوره إلا في العصور المتأخرة. بل ذكرنا في بعض مواضع هذا الشرح إلي أن بعضه أشبه بكلام الفقهاء منه بكلام الأئمة عليهم السلام و إن كانت موافقة الصدوق له في كثير من الموارد و الخصوصيات التي قد ينفردان بها قد تكشف عن اطلاعه و اعتماده عليه، أو أخذهما من مشرب واحد.

و قد يستدل لمشاركة الأمة للزوجة في الدينار و نصفه و ربعه بإطلاق بعض ما سبق في الزوجة و بعضه و إن كان مختصا بالزوجة إلا أن خصوصيتها ملغية عرفا، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن الكفارة لحيثية حرمة الوطء. و يشكل بأن عمدة الدليل علي التفصيل المذكور هو رواية داود بن فرقد، التي سبق أنها واردة لتحديد الكفارة بعد الفراغ عن مشروعيتها، فلا إطلاق لها يقتضي مشروعيتها بوطء غير الزوجة فضلا عن وجوبها.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 23 من أبواب أحكام الحيض حديث: 1.

ص: 44

______________________________

نعم، لو علم بثبوت الكفارة في الأمة كان مقتضي إطلاق الرواية المذكورة أنها بالمقدار الذي تضمنته، لكن لا طريق للعلم بذلك. و أما الاستدلال عليه بإطلاق قوله عليه السّلام في موثق أبي بصير السابق: «من أتي حائضا فعليه نصف دينار يتصدق به»، كما هو مقتضي إطلاق خبر محمد بن مسلم المتقدم المتضمن للتفصيل في الدينار و نصفه بين استقبال الحيض و استدباره. فهو لا يخلو عن إشكال، لصعوبة تنزيل الموثق علي مفاد الرواية، و امتناع تنزيل الخبر عليه، كما سبق، فمبني الاستدلال بالرواية علي طرحهما، و معه كيف يستدل بإطلاقهما في المقام.

و أما إلغاء خصوصية الزوجة فهو يحتاج إلي لطف قريحة، خصوصا مع ظهور القول بالفرق بينها و بين الأمة.

هذا كله مع أن النصوص النافية للكفارة و إن اختصت بالزوجة إلا أنها تصلح لرفع اليد عن ظهور نصوص الكفارة في الوجوب حتي في الأمة- لو تم شمول إطلاقها لها- لأن حملها علي خصوص الأمة بعيد جدا، و علي التفصيل بينها و بين الزوجة في الوجوب و الاستحباب متعذر عرفا.

و لا سيما مع ما رواه الشيخ بطريق معتبر في الاستبصار عن عبد الكريم بن عمرو الموثق، و في التهذيب عن عبد الملك بن عمرو الذي لا يخلو عن مدح: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أتي جاريته و هي طامث. قال: يستغفر اللّه ربه. قال عبد الكريم [عبد الملك]: فإن الناس يقولون: عليه نصف دينار أو دينار. فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: فليتصدق علي عشرة مساكين» «1». فإنه كالصريح في عدم وجوب الدينار و نصفه. بل اقتصاره عليه السلام أول الأمر علي الاستغفار و عدم ذكره للصدقة إلا بعد ذكر الراوي ما يقوله الناس ظاهر جدا في عدم وجوب الصدقة أيضا. بل قد يكون ذكر الصدقة علي عشرة مساكين مماشاة للناس في الجملة. لا لاستحبابها شرعا.

و لعله لذا لم يذكرها الأصحاب. فتأمل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 45

من الحنطة أو الشعير (1) علي ثلاثة مساكين (2).

______________________________

هذا، و قد استظهر منه سيدنا المصنف قدس سرّه كون الصدقة بعشرة أمداد. و كأنه لبعد إرادة الإطلاق المستلزم للاكتفاء بمسمي الصدقة، و صلوح معهودية الصدقة علي المسكين بمد في كثير من الموارد للقرينية علي إرادته هنا.

(1) لم يتضح الوجه في الاقتصار عليهما مع إطلاق الطعام في الفتوي و الرضوي و معقد الإجماع و نفي الخلاف في الانتصار و السرائر.

(2) كما في المقنعة و النهاية و عن المهذب و الجامع، و هو داخل في معقد الإجماع المدعي في الانتصار، و معقد عدم الخلاف المدعي في السرائر. و ينحصر الدليل عليه بذلك، و إلا فالرضوي خال عنه. و دعوي: أن ذلك هو المنسبق من إطلاقه، غير ظاهرة.

بقي في المقام أمور..
الأول: الظاهر عدم الفرق في الأمة بين القنة و المدبرة و أم الولد و المكاتبة

التي لم يتحرر منها شي ء، كما صرح به بعضهم، و هو مقتضي إطلاق غيره. لإطلاق الرضوي و معقد الإجماع المتقدم. بل يجري ذلك في المزوجة إذا وطأها مالكها، كما صرح به في الروض. اللهم إلا أن يكون الدليل هو الإجماع دون الرضوي، حيث تخرج عن المتيقن منه، لأنها بحكم الأجنبية، و ليست كأحد الأقسام المتقدمة، فيتعين ابتناء حكمها علي ما يأتي في غير الزوجة و الأمة.

و كذا الحال في المبعضة بناء علي حرمة وطء مالك البعض لها مطلقا، و في المشتركة و إن قيل بجواز وطئها لأحد الشركاء بتحليل الباقي- كما تضمنته بعض النصوص «1» - لخروجهما عن عنوان الزوجة و الأمة معا. و أما لو قيل بجواز وطء المبعضة بالمهاياة في يومه و بالتمتع في يومها- كما تضمنه النص المذكور أيضا- فلا ينبغي التأمل في لحوق حكم وطء المتمتع بها مع وطئها في يومها بالتمتع.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب نكاح العبيد و الإماء حديث: 1.

ص: 46

______________________________

و أما وطؤها بالمهاياة في يومه فقد يدعي جريان حكم الأمة فيه، لأنه و إن لم يصدق عليها الأمة إلا أن ظاهر النص الدال علي جواز الوطء كونه من باب وطء المملوكة، فيجري عليه حكمه.

لكنه يشكل بأن التصدق بثلاثة أمداد ليس من أحكام وطء المملوكة، بل هو حكم من وطأ أمته، الذي لا يصدق في المقام. بل لو فرض صدقه فحيث يحتمل انحصار الدليل عليه بالإجماع الذي يخرج المقام عن المتيقن منه، كان المتعين التوقف عن إجرائه فيه، و الرجوع فيه لحكم وطء غير الزوجة و الأمة، نظير ما تقدم في الزوجة إذا وطأها مالكها. و كذا الحال في المحللة، لأن وطأها و إن أمكن أن يكون من باب وطء مالك اليمين بنحو من التعمل، إلا أنه ليس وطأ لأمته. فما عن ظاهر كشف الغطاء من عموم حكم الأمة لها غير ظاهر.

الثاني: الظاهر عدم الفرق في الزوجة بين الحرة و الأمة و الدائمة و المنقطعة،

كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب و صرح به غير واحد، بل لعله لا إشكال فيه بينهم، لأن الظاهر دخول الزوجة بأقسامها في المتيقن من رواية داود بن فرقد، و إن لم يكن لها إطلاق من هذه الجهة، كما تقدم. و لا سيما مع دخولها في إطلاق بقية نصوص الكفارة و إن لم يعول عليها في تحديدها. فتأمل.

الثالث: لو لم تكن الموطوءة زوجة و لا أمة

- كالمزني بها و الموطوءة شبهة- فلا إشكال في عدم وجوب التكفير بثلاثة أمداد، لاختصاصه بوطء الأمة، و هل يجب بالدينار و نصفه و ربعه، كما في المنتهي و الحدائق و محكي الذكري و غيرها، أو لا كما قواه بعض الأعاظم قدس سرّه؟

وجهان مبنيان علي ما تقدم عند الكلام في حكم الأمة من استفادة العموم لغير الزوجة من نصوص التكفير المذكور و عدمها. و أما الاستدلال لوجوب التكفير لو لم يتم العموم بالأولوية في المزني بها، لتأكد الحرمة فيها، فلا يخلو عن إشكال، خصوصا مع ما في الروض و غيره من احتمال كون الكفارة مسقطة للذنب، فلا يتعدي للأقوي،

ص: 47

______________________________

لأنه بتفاحشه قد لا يقبل التكفير، كما مثل له في الحدائق بالصيد ثانيا.

و مثله ما في الجواهر من التوقف في وجوب الكفارة حتي لو تم الإطلاق في النصوص، بدعوي: الشك في شموله لنحو المقام. و كأن مراده انصراف الإطلاق عنه. لكنه بدوي لا يعتد به.

الرابع: الظاهر عدم الإشكال في جواز دفع كفارة وطء الزوجة لمسكين واحد،

و به صرح جماعة، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه». لإطلاق النصوص.

لكن في العروة الوثقي بعد الفتوي بذلك: «الأحوط صرفها علي ستة أو سبعة مساكين» و عن نجاة العباد الاحتياط بالسبعة أو بالعشرة. و ذكر سيدنا المصنف قدس سرّه أن وجه الاحتياط بالسبعة صحيح الحلبي المتقدم في نصوص الكفارة، ثم قال: «لكن ينبغي حينئذ أن يكون مقدار ما يكفي لكل منهم قوت يومه، كما قيد به فيه».

و هو موقوف علي أن مفاد الصحيح جواز دفع قيمة القوت، لا عينه، أو علي أنه يجوز دفع عين القوت بدل الدينار في الكفارة، و الثاني ممنوع، كما تقدم، و الأول مشكل. مع أن الصحيح مختص باستقبال الحيض. و أما الاحتياط بالستة فقد ذكر سيدنا المصنف قدس سرّه أنه غير ظاهر الوجه.

و أما الاحتياط بالعشرة فقد وجهه قدس سرّه بالنص المتقدم في الأمة. لكنه- مع اختصاصه بالأمة- قد تقدم احتمال ظهوره في التصدق علي كل مسكين بمد، فيشكل الاحتياط المذكور بنظير ما تقدم في صحيح الحلبي.

نعم، أشرنا آنفا إلي أن الشيخ قدس سرّه في التهذيبين حمل النص المذكور علي ما إذا كان الوطء في آخر الحيض و كان ربع الدينار مساويا لمقدار الصدقة علي عشرة مساكين.

و لو تم وجب توزيع ربع الدينار عليهم. لكن ظاهره في التهذيب حمل التوزيع فيه علي الاستحباب. و لم يتضح وجهه، لأن ما سبق منا في وجه عدم حمل النص المذكور علي الوجوب إنما يرجع إلي عدم وجوب التصدق الذي تضمنه- و المفروض في كلامه وجوبه- و لا ينافي لزوم التوزيع في الصدقة التي تضمنها- مستحبة كانت أو واجبة- كما هو

ص: 48

______________________________

ظاهر النص. فالعمدة أن أصل الحمل المذكور في كلامه ليس عرفيا، بل هو بعيد جدا.

بل لما كان واردا في الأمة كان اللازم الاقتصار علي مورده، و العمل بإطلاق الصدقة فيه، أو حمله علي الصدقة علي كل مسكين بمدّ، لما سبق.

الخامس: قال في العروة الوثقي: «وجوب الكفارة في الوطء في دبر الحائض غير معلوم. لكنه أحوط».

و قال سيدنا المصنف قدس سره: «لابتنائها علي حرمة وطئها في الدبر، و قد تقدم منه الإشكال فيه».

و لا ينبغي التأمل في عدم وجوب الكفارة بناء علي جواز وطء الحائض في الدبر، حيث تقدم أن منصرف الكفارة كونها من شئون الذنب، و لا سيما مع اشتمال بعض نصوص الكفارة علي التوبة و الاستغفار. و أما بناء علي حرمته فقد يستشكل في وجوب الكفارة به، و لعله المراد في العروة الوثقي، لدعوي: انصراف إطلاق النصوص عنه، بل قد خص في مرسل علي بن إبراهيم بالإتيان في الفرج، و سبق عدم الإطلاق في رواية داود بن فرقد التي هي دليل الأصحاب في المقام. فتأمل.

هذا، و أما إدخال بعض الحشفة فالظاهر ابتناء ثبوت الكفارة به علي حرمته.

السادس: حكي في الجواهر عن ظاهر كشف الغطاء تعميم وجوب الكفارة لما إذا كانت المرأة ميتة،

و به أفتي في العروة الوثقي و أقره غير واحد من محشيها. و يظهر من الجواهر دعوي انصراف الإطلاق عن الميتة. لكن التحقيق قصوره عنها، لعدم صدق الحائض عليها، و إنما يحرم وطؤها لبينونتها بالموت كما لو لم تكن حائضا.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدس سرّه من استصحاب حرمة الوطء إلي حال الموت، لبقاء الموضوع عرفا، فإذا ثبتت الحرمة ثبتت الكفارة، لأنها تابعة لها. فيشكل- مضافا إلي المنع من بقاء الموضوع في المقام و غيره من موارد استصحاب الأحكام التكليفية، علي ما ذكرناه غير مرة في هذا الشرح- بأنه لا شك في حرمة الوطء و إن تبدل الموضوع، لما ذكرناه من بينونتها بالموت.

و لا مجال لاستصحاب خصوصية الحرمة من حيثية الحيض، لعدم الأثر لها،

ص: 49

______________________________

لأن وجوب الكفارة ليس من آثار حرمة الوطء شرعا، بحيث تكون مأخوذة في موضوعه، بل هما متلازمان في الجملة خارجا.

نعم، قد يتمسك بالاستصحاب التعليقي لوجوب الكفارة بالوطء، فيقال:

كانت لو وطئت لوجبت الكفارة فهي كما كانت. لكن التحقيق عدم جريان الاستصحاب التعليقي، كما أشرنا إليه في غير موضع من هذا الشرح. و لسيدنا المصنف قدس سرّه تتمة لهذا الكلام لا مجال للتعرض لها.

هذا، و أما الاستدلال بما تضمن أن حرمة الميت كحرمة الحي، فلا يخلو عن إشكال، لعدم كون التكفير من شئون احترام المرأة الموطوءة. فراجع ما تقدم في سببية وطء الميتة للجنابة في المسألة الخامسة من فصل سبب الجنابة. مضافا إلي أنه إنما يقتضي اشتراكهما في الحكم مع اشتراكهما في علته، دون ما إذا اختص الحي بها، كما في المقام، لما ذكرنا من عدم صدق الحائض علي الميتة.

السابع: الظاهر أن المعيار في الأول و الوسط و الآخر علي الحيض الذي يقع فيه الوطء،

فتختلف باختلاف مقداره و إن خالف العادة، كما صرح به في كشف اللثام و المستند و الجواهر، و هو ظاهر المقنعة و المعتبر و الحدائق و غيرها، بل ظاهر كل من أطلق أول الحيض و وسطه و آخره. و الوجه فيه ظهور رواية داود التي هي دليل التفصيل في أن مرجع الضمائر في أوله و وسطه و آخره هو الطمث المذكور في صدرها، لا عادته، و حيث لا يراد به كلي الطمث، لعدم تحديد أوله و وسطه و آخره بسبب اختلاف أفراده، و لأن الوطء لا يقع فيه، تعين حمله علي الفرد الخاص منه.

خلافا لما في التذكرة و المنتهي و القواعد و جامع المقاصد و الروض و المسالك و المدارك من أن المعيار علي أيام عادة المرأة، و زاد عليه في الروضة ما في حكمها من التمييز و الروايات.

و لازمه أن الحيض الذي يقع فيه الوطء قد يخلو عن الآخر، بل عن الوسط أيضا، كما لو كانت عادتها عشرة أيام و كان حيضها الذي وطئت فيه ستة أو ثلاثة. بل

ص: 50

______________________________

قد يتجاوز الآخر فلا تجب الكفارة بالوطء في زمن التجاوز، كما لو زاد حيضها علي عادتها و وطئت في الزائد.

بل يشكل حينئذ حال المبتدئة و المضطربة التي لم تنعقد لها عادة، حيث لازم القول المذكور عدم الكفارة بوطئها. و لا يظن بهم الالتزام باللوازم المذكورة.

نعم، يتجه الرجوع للعادة لو كانت مرجعا في تعيين الحيض، كما في مستمرة الدم، كما يتجه الرجوع لغيرها مما يكون مرجعا فيه، مما تقدم من الروضة و غيره. لكن كلامهم لا يختص بمستمرة الدم. و من ثم كان في غاية الإشكال.

و من هنا قد ينزل علي القول الأول المختار، بأن يكون مفروض كلامهم صورة مطابقة الحيض الذي يقع فيه الوطء للعادة، و يكون ذكرهم للعادة لأنها مقتضي الأصل في النساء، أو بأن يكون مرادهم من العادة الحيض.

و حمل كلامهم علي ذلك و إن لم يناسب الجمود علي عباراتهم، إلا أنه يناسب استدلال بعضهم لهذا القول بما سبق منا في تقريب دلالة الرواية علي المختار، و عدم تنبيههم للازم الذي ذكرناه أولا مع ذكرهم لنظيره في بيان القولين الآخرين، و عدم إشارة الأكثر للخلاف المذكور بين هذين القولين، و إنما اقتصروا علي قول واحد نسبوه للمشهور في قبال قولين آخرين:

الأول: ما عن الراوندي من أن المعيار فيها علي أكثر الحيض دون عادة المرأة.

الثاني: ما في المراسم من أن الوسط ما بين الخمسة و السبعة. و لازمهما أن الحيض قد يخلو عن الآخر، بل و الوسط أيضا، نظير ما تقدم.

هذا، و يظهر الإشكال مما تقدم من ظهور النص في كون موضوع التقسيم هو الحيض الذي يقع فيه الوطء، حيث لا مجال لملاحظته في أكثر الحيض، كما يشكل الثاني- مضافا إلي نظير ذلك- بأن تعيين الوسط بذلك لا يتم حتي لو كان موضوع التقسيم أمرا غير الحيض الذي يقع فيه الوطء.

نعم، ذكر في كشف اللثام أنه موافق لرواية حنان بن سدير: «قلت: لأي علة

ص: 51

______________________________

أعطيت النفساء ثمانية عشر يوما و لم تعط أقل منها و لا أكثر؟ قال: لأن الحيض أقله ثلاثة أيام و أوسطه خمسة أيام و أكثره عشرة أيام، فأعطيت أقل الحيض و أوسطه و أكثره» «1»، و لما تضمن التحيض بسبعة أيام.

و كأن مراده بالأخير مرسلة يونس الطويلة المتضمنة تحيض مستمرة الدم مع عدم العادة و التمييز بالسبعة. لكنها- كما تري- لا تدل علي أن السبعة منتهي الوسط، بل و لا الوسط، كما لا تدل رواية حنان علي أن الخمسة أول الوسط. علي أن ظاهر الأوسط في رواية حنان ما يقابل الأقل و الأكثر، لا ما يقابل الأول و الآخر، كما هو المراد به في المقام. فلاحظ.

الثامن: الظاهر تعدد الكفارة بتعدد الوطء،

من دون فرق بين تخلل التكفير و عدمه، و لا بين كون الوطء المتعدد في أزمنة تختلف فيها الكفارة و كونه في أزمنة لا تختلف فيها، بأن يكون في ثلث واحد. و به صرح في الدروس و جامع المقاصد و الروض و المسالك و محكي البيان و فوائد الشرائع.

لأصالة عدم التداخل الراجعة إلي ظهور دليل السببية في كون كل فرد سببا لتكليف مستقل، المستلزم لكون ما يجب بكل فرد مباينا لما يجب بالآخر، لا محض الطبيعة المتحقق بالفرد الواحد. إذ الاكتفاء به إن كان لتأثير الفرد الأول لا غير فهو مخالف لإطلاق السبب، و إن كان لاشتراك الأفراد في تأثير تكليف واحد، بأن يستند للأول أصل وجوده و للباقي تأكده، فهو خلاف ظهور دليل الشرطية في كون الأثر هو التكليف المستقل، لا التأكد في التكليف الواحد.

و إن كان للاجتزاء بالواحد و مع تعدد التكليف لصدق المكلف به في كل منهما- و هو الطبيعة- عليه.

ففيه: أنه يمتنع تعدد التكليف مع وحدة المكلف به، و هو محض الطبيعة الصادقة بالفرد الواحد، لأن التكليف كسائر الإضافات التي يتوقف تعددها علي

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 10 من أبواب الحيض حديث: 7 و هامشه في الطبعة الحديثة.

ص: 52

______________________________

تعدد أطرافها، بل لا بد مع تعدده من تعدد المكلف به، بأن يكون المكلف به في كل منها فرد من الطبيعة مباين للفرد المكلف به في الآخر.

و بهذا يخرج عن إطلاق الواجب المقتضي للاجتزاء بصرف الطبيعة و لو مع تعدد السبب، حيث لا ينعقد مع الظهور المذكور لدليل السببية. كما يخرج به عن أصالة البراءة، لحكومته عليها. و منه يظهر ضعف ما ذكره جماعة من الأصحاب من الحكم بعدم التكرر مطلقا أو في الجملة، لأصالة البراءة، و لا سيما مع الاعتراف بأن مقتضي العموم التكرار، كما في طهارة المبسوط.

و دعوي: أن مقتضي الإطلاق كون السبب هو الطبيعة الصادقة علي الواحد و المتعدد، ففي ظرف التعدد ليس السبب إلا واحدا يقتضي مسببا واحدا، لا متعددا كي يلزم تعدد المسبب. و لذا لا يجب تعدد الكفارة مع تعدد الأكل في نهار شهر رمضان.

مدفوعة: بأنه لا مجال لذلك في الأفراد التدريجية، لأن الطبيعة حيث كانت تصدق علي الفرد الأول فالمسبب الواحد يستند إليه، و حينئذ فالفرد الثاني إن لم يكن سببا فهو خلاف إطلاق السببية، لانطباق الطبيعة عليه، و إن كان سببا فحيث يمتنع استناد المسبب السابق عليه إليه، لامتناع تقدم المعلول علي علته و الحكم علي موضوعه فلا بد أن يكون أثره تأكيد المسبب الأول أو فردا آخر مستقلا مباينا له، و قد سبق ان الثاني هو ظاهر دليل السببية دون الأول.

نعم، قد يتجه ذلك في الأفراد الدفعية- التي تمتنع في المقام، و إن كانت المناسبات الارتكازية تشهد غالبا بكون كل منها سببا مستقلا. بل لعله مقتضي الإطلاق أيضا لأن صدق الطبيعة علي المجموع في ظرف التعدد لا ينافي صدقها علي كل واحد أيضا، و تعدد السبب و إن لم يلزم بلحاظ الأول، إلا أنه يلزم بلحاظ الثاني، فيتعين العمل عليه. إلا أن يراد من السبب الوجود الذي يخرق به العدم، حيث لا يصدق مع التدرج إلا علي الأول، و بدونه إلا علي المجموع.

لكنه مخالف لإطلاق السبب الظاهر في إرادة الطبيعة منه، التي تصدق علي كل

ص: 53

______________________________

فرد. و لا سيما مع ارتكاز تبعية الكفارة للحرمة و المعصية، و لا إشكال في تعدد الحرمة تبعا لتعدد الأفراد. كيف و لازم التداخل عدم تعدد الكفارة مع تعدد المرأة أو تعدد الحيض. و لا يظن التزام أحد به.

و إنما لا تتعدد الكفارة بتعدد الأكل في نهار شهر رمضان لأن المستفاد من دليلها كون سببها الإفطار غير القابل للتعدد في النهار الواحد و المستند للفرد الأول، لا الأكل بنفسه الذي هو قابل للتعدد. و لذا تتعدد مع تعدد الإفطار لتعدد اليوم و لو مع اتحاد جنس المفطر، و لا تتعدد مع وحدة الإفطار لوحدة اليوم و لو مع اختلاف الجنس المفطر. و تعددها مع تعدد الجماع في اليوم الواحد لو تم للنصوص الخاصة.

و منه يظهر أنه لا مجال لجعل كفارة المقام و كفارة الأكل في نهار شهر رمضان من باب واحد في عدم التكرار، كما يظهر من السرائر، أو في التكرار، كما يظهر من الروض.

هذا، و في جملة من كتب العلامة و المدارك و محكي الذكري و الموجز و كشف الالتباس و التنقيح الاقتصار في لزوم الكفارة علي ما إذا كان الوطء اللاحق بعد التكفير عن السابق، أو كان الوطء المتعدد في أزمنة تختلف فيها الكفارة، و اقتصر في نكاح المبسوط علي الأول، و في الشرائع و المعتبر علي الثاني. لكن استبعد شيخنا الأعظم قدّس سرّه الخلاف في لزوم التكرار في الفرض الأول.

و لعله لذا احتمل في كشف اللثام كون مراد السرائر من إطلاق عدم التكرار ما إذا لم يتخلل التكفير، و إن كان ذلك غير مناسب لقياس المقام بالتكفير للأكل في نهار شهر رمضان.

و كيف كان، فالوجه في لزوم التكرار مع تخلل التكفير إطلاق دليل السببية بعد ما سبق من أن السبب هو الطبيعة لا خصوص الوجود الذي يخرق به العدم، و الذي يختص بالفرد الأول.

و لعل الفرق بينه و بين صورة عدم التكفير أنه في صورة عدم التكفير إنما يجتزأ بالواحد لدعوي أنه يكفي في تأثير السبب اللاحق تأكيده للتكليف السابق الذي لم

ص: 54

______________________________

يسقط بالامتثال بعد من دون أن يوجب تكليفا مستقلا، أو دعوي: أن تعدد التكليف يمكن مع وحدة المكلف به- و هو الطبيعة الصادقة بالفرد الواحد- و لا يتوقف علي تعدده. و إن سبق بطلان الثانية و مخالفة الأولي لظاهر دليل السببية.

و أما الوجه في تعدد الكفارة مع كون الوطء المتعدد في أزمنة تختلف فيها الكفارة فهو ما ذكره غير واحد من أنه مع اختلاف سبب التكليف باختلاف قيوده و اختلاف المكلف به باختلاف قدره فمقتضي إطلاق دليل السببية في كل منها تأثير كل سبب لمسببه.

و هو إنما يتم بناء علي كون وجه التداخل مع كون الأزمنة لا تختلف فيها الكفارة حمل إطلاق السبب علي الطبيعة الصادقة علي الفرد الواحد و الأفراد المتعددة، أو علي الوجود الأول الذي يخرق به العدم، حيث لا مجال لهما مع كون الأزمنة تختلف فيها الكفارة، لأن الطبيعة المقيدة بأحد الأزمنة تختص بأفرادها و لا يخرق عدمها غيرهما.

أما لو كان وجه التداخل مع كون الأزمنة لا تختلف فيها الكفارة دعوي: أنه يكفي في تأثير السبب اللاحق تأكيده للتكليف السابق، أو دعوي: أنه يمكن تعدد التكليف مع وحدة المكلف به، و هو الطبيعة الصادقة بالفرد الواحد، فيتعين التداخل مع كون الأزمنة تختلف فيها الكفارة أيضا بالاجتزاء بالأكثر، لأنه حيث كان متضمنا للأقل فسبب التكليف بالأقل المتأخر حدوثا يقتضي تأكد وجوبه الثابت في ضمن وجوب الأكثر سابقا، أو وجوبا آخر متعلقا بصرف وجوده و لو في ضمن الأكثر الذي يمتثل به التكليف السابق.

و منه يظهر أن الجمع في عدم التداخل بين كلتا الصورتين لا يناسب تخصيصه بهما، بل لا بد إما من تخصيص عدم التداخل بإحداهما أو تعميم عدم التداخل لغيرهما، لتنافي دليلي التفصيلين. فتأمل جيدا.

ثم إنه بناء علي ما ذكرنا من عدم التداخل مع تكرار الوطء ففي المسالك و الروض أنه يصدق التكرار بالإدخال بعد النزع و إن كان في وقت واحد، و ظاهر

ص: 55

______________________________

الجواهر أنه لا بد فيه من صدق التعدد عرفا. و كأنه لإخراج الفرض المذكور. و لعله لغفلة العرف عن التعدد في مثل ذلك، لكثرة الابتلاء به مع قصد الوطء الواحد، حتي كأنه من شئونه و حالاته، فلو كان كافيا في لزوم تعدد الكفارة لناسب التنبيه عليه في النصوص، فعدم التنبيه عليه فيها يوجب انصرافها عنه، و ليس هو كصورة تعدد المجلس و نحوها مما يغفل عن التعدد فيها، كي يستغني عن التنبيه.

و لا سيما مع أن الوطء و الإدخال و نحوهما لم تؤخذ في موضوع الكفارة في النصوص، و إنما هي بين ما لم يتعرض فيه لتحديد موضوعه- كرواية داود بن فرقد- و ما تضمن أخذ عنوان إتيان المرأة و مواقعتها و الوقوع عليها، و يشكل صدق المتعدد فيها في الفرض.

كما لا ينبغي الإشكال في عدم تعدد الكفارة باستمرار الإدخال و إن طال، بل و إن حدث في وقت و بقي لآخر تختلف فيه الكفارة، إذ المعيار في تعدد السبب علي تعدد الحدوث. خلافا لما في الذكري و يأتي منه نظيره في النفساء.

التاسع: الظاهر عدم الإشكال في أن الحيض لو فجأ في أثناء الإدخال لزوم التخلص و يحرم الاستمرار فيه،

كما صرح به غير واحد. للأمر بالاعتزال في الآية الشريفة و بعض النصوص «1»، و إطلاق تحديد ما يحل للرجل من الحائض في جملة من النصوص بأنه ما عدا الفرج «2»، و قضاء المناسبات الارتكازية بعدم الفرق بين الحدوث و البقاء، و لا سيما مع التعليل في الآية بالأذي.

و قد صرح في المنتهي بوجوب الكفارة لو تعمد في الاستمرار، كما صرح به في العروة الوثقي و أقره علي ذلك جملة من محشيها، و قد يظهر من الروض، حيث قال بعد بيان حرمة الوطء: «و لو اتفق الحيض في أثناء الوطء وجب التخلص منه في الحال، فإن استدام فكالمبتدئ».

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض.

ص: 56

______________________________

و استدل له سيدنا المصنف قدّس سرّه بإطلاق الدليل. و هو لا يخلو عن إشكال، لتحديد موضوع الكفارة في النصوص بإتيان المرأة و مواقعتها و الوقوع عليها، و هي قاصرة أو منصرفة عن الاستمرار.

و دعوي: أنه يكفي في التعميم ظهور تفرع الكفارة علي الحرمة الثابتة في الفرض. مدفوعة بأنه لا مجال للبناء علي ذلك كلية، حيث لا إشكال في حرمة الاستمرار في الوطء الحادث بعد الحيض من دون أن يوجب تعدد الكفارة، كما سبق.

فتأمل جيدا.

العاشر: ذكر في العروة الوثقي أنه لو خرج حيضها من غير الفرج حرم وطؤها في الفرج،

و لا يجب اجتناب موضع الدم، و أقره علي ذلك جملة من محشيها، و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لما عرفت من النصوص الدالة علي حلية ما عدا القبل فإطلاقها محكم. و موضع الدم في مرسل ابن بكير «1» يراد به الفرج، فهو مرآة إليه، لا عنوان لموضوع الحكم. فالتوقف فيه- كما في نجاة العباد- تورع عن الفتوي، و إلا فهو ضعيف». و ما ذكره قريب حتي لو فرض عدم وضوح حمل موضع الدم في المرسل علي الفرج، لأن ضعف سنده مانع من الخروج به عن ظاهر الأدلة الأخر من الكتاب و السنة المستفيضة.

هذا، و قد صرح فيها كحواشيها المذكورة أيضا بوجوب الكفارة بالوطء في الفرج حينئذ. و استدل له سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن الكفارة تابعة للحرمة وجودا و عدما. و هو لا يخلو عن إشكال. و الأولي الاستدلال بإطلاق إتيان المرأة و مواقعتها و الوقوع عليها في نصوص الكفارة. فلاحظ.

الحادي عشر: صرح في العروة الوثقي بعدم سقوط الكفارة بالعجز عنها،

بل متي تيسرت وجبت، و أقره علي ذلك جملة من محشيها، و مال إليه في الجواهر. و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «كما هو ظاهر كلماتهم، حيث أطلقوا وجوبها بالوطء. لكن في

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 57

______________________________

ذيل رواية داود: أنها يكفي عنها الصدقة علي مسكين، و مع العجز عنه يسقط، و يكفي حينئذ الاستغفار. إلا أنه لضعفه و عدم الجابر له لا مجال للاعتماد عليه».

و يشكل بأن اعتمادهم عليها في مقدار الكفارة- بناء علي وجوبها- يكفي في جبرها من جهة السند.

نعم، لو ثبت إعراضهم عنها في هذا الحكم كان موهنا لها من جهة الدلالة أو الجهة. لكنه غير ثابت، لقرب أن يكون عدم تعرض جملة من الأصحاب لذلك لعدم اهتمامهم بفروع المسألة التي أهملوا جملة منها، أو لاكتفائهم بما يذكرونه في باب الكفارات.

و لا سيما مع تصريح العلامة في المنتهي بالسقوط مع العجز سواء قيل بالوجوب أم بالاستحباب، و مع تصريح الشيخ في النهاية بعد ذكر استحباب الكفارة بأن من لم يتمكن فليس عليه شي ء و ليستغفر اللّه و لا يعود، و ذكره لرواية داود في باب الكفارات من التهذيب بنحو قد يظهر منه التعويل عليها، و جعله لها في الاستبصار شاهدا علي حمل موثق الحلبي المتقدم- المتضمن الصدقة علي مسكين بقدر شبعه- علي صورة تعذر الكفارة، و إن حمله في التهذيب علي تعذر ما إذا كان بقدر الكفارة، الذي هو بعيد جدا. و لعله لذا عمل بها في المقام في جامع المقاصد.

علي أن الدليل لا يختص برواية داود، بل يدل أيضا علي بدلية الاستغفار صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: كل من عجز عن الكفارة التي تجب عليه من صوم أو عتق أو صدقة في يمين أو نذر أو قتل أو غير ذلك مما يجب علي صاحبه فيه الكفارة فالاستغفار له كفارة ما خلا يمين الظهار، فإنه إذا لم يجد ما يكفر به حرم [حرمت] عليه أن يجامعها و فرق بينهما إلا أن ترضي المرأة أن يكون معها و لا يجامعها» «1».

معتضدا بموثق زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: «سألته عن شي ء من كفارة اليمين

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الكفارات حديث: 1.

ص: 58

______________________________

فقال: يصوم ثلاثة أيام. قلت: إن ضعف عن الصوم و عجز؟ قال: يتصدق علي عشرة مساكين. قلت: إن عجز عن ذلك؟ قال: يستغفر اللّه و لا يعد، فإنه أفضل الكفارة و أقصاه و أدناه «1»، فليستغفر اللّه و يظهر توبة و ندامة» «2»، لظهور ذيله في عموم بدلية الاستغفار، و إن اختص مورده بكفارة اليمين.

و مؤيدا بخبر علي ابن جعفر: «سألته عن رجل نكح امرأته و هو صائم في رمضان ما عليه؟ قال: عليه القضاء و عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، فإن لم يجد فليستغفر اللّه» «3».

و في المسالك بعد ذكر مراتب الكفارة: «و أما الاستغفار بعد العجز عن جميع ذلك فهو بدل مشهور بين الأصحاب و مختص بهم، و لا يختص عندهم بكفارة، بل يجزي في جميع الكفارات عند العجز عن خصالها إلا الظهار، فقد تقدم الخلاف فيه» و ادعي في المدارك في كفارة الصوم أنه مقطوع به في كلام الأصحاب، بل ظاهرهم أنه موضع وفاق، و استظهر سيدنا المصنف قدّس سرّه فيها عدم الخلاف فيه، مستدلين بصحيح أبي بصير المتضمن للعموم و غيره.

هذا، و مقتضي إطلاق بدلية الاستغفار في النصوص عدم وجوب الكفارة مع تجدد القدرة بعده، كما هو الحال في بقية أبدال الكفارة الاضطرارية التي تضمنتها النصوص المتقدمة و غيرها، كما يظهر من جامع المقاصد، و يظهر من الجواهر الميل إليه.

و دعوي: أنه بتجدد القدرة ينكشف عدم تحقق موضوع البدلية، لاختصاصها بالعجز المستمر، كما هو مقتضي كون البدلية اضطرارية.

مدفوعة بأنه- مع توقفه علي عدم وجوب المبادرة للكفارة في الجملة، إذ لو قيل بوجوبها يصدق الاضطرار بالعجز غير المستمر- مخالف لظاهر الأدلة جدا للغفلة عن

______________________________

(1) لا يبعد كون المراد بكونه أقصي تأخره عن سائر مراتب الكفارة و بكونه أدني أنه أيسر أفراد الكفارة و أسهلها. (منه عفي عنه)

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب الكفارات حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب ما يمسك عنه الصائم حديث: 9.

ص: 59

______________________________

وجوب التدارك بعد فعل البدل، فعدم التنبيه فيها له ظاهر في الإجزاء، بل الالتزام بخروج العجز غير المستمر عن موضوع الاستثناء لكفارة الظهار في صحيح أبي بصير لعدم تحقق موضوع البدلية معه مما لا يظن بأحد التزامه.

مضافا إلي ما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه من ندرة العجز المستمر عن الصدقة بالقليل التي هي الكفارة في كثير من الموارد منها الصدقة علي مسكين واحد في المقام عند تعذر الدينار و نصفه و ربعه، فيبعد اختصاص النصوص به.

لكن في صحيح إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفارة فليستغفر ربه و ينوي أن لا يعود قبل أن يواقع ثم ليواقع، و قد أجزأ ذلك عنه من الكفارة، فإذا وجد السبيل إلي ما يكفر يوما من الأيام فليكفر … » «1».

و مورده و إن كان الظهار إلا أنه احتمل في الدروس و المسالك تعميمه لغيره من الكفارات، بل هو الذي قربه سيدنا المصنف قدّس سرّه قال: «كما يساعده الارتكاز العرفي، و لا سيما مع البناء علي وجوبه [يعني الاستغفار] مع فعل الكفارة، كما يظهر من بعض نصوص قصة الأعرابي الذي واقع أهله في شهر رمضان «2». و علي هذا فالمسقط للكفارة عدم الوجدان لا فعل الاستغفار لأنه بدل. فلاحظ».

و هو كما تري، إذ لا مجال للتعدي عن الظهار بعد التصريح في صحيح أبي بصير باستثنائه من عموم البدلية فإنه و إن كان معارضا بصحيح إسحاق و قد يجمع بينهما بالكراهة في الظهار، أو يكون مستثني من بدلية الاستغفار وحده، فلا ينافي بدليته فيه بضميمة نية عدم العود للظهار، إلا أنه كاف في قوة احتمال خصوصية الظهار في وجوب التدارك بعد القدرة المانع من التعدي لغيره.

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الكفارات حديث: 4.

(2) و هو صحيح جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه (ع): (أنه سئل عن رجل أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا، فقال: إن رجلا أتي النبي (ص) فقال: هلكت يا رسول اللّه، فقال: و ما لك؟ قال: النار يا رسول اللّه.

قال: و مالك؟ قال: وقعت علي أهلي. قال: تصدق و استغفر [ربك] … ). الوسائل باب: 8 من أبواب ما يمسك عنه الصائم حديث: 2. (منه عفي عنه)

ص: 60

______________________________

و مناسبته للارتكاز العرفي غير ظاهرة بنحو معتد به، و لا سيما مع سوقه في مساق الابدال الاضطرارية في موثق زرارة و رواية داود بن فرقد. و ما ورد في قصة الأعرابي ظاهر في الاستغفار لتكفير الذنب دفعا للهكلة و النار التي فزع منها السائل، لا الاستغفار الواجب بدلا عن الكفارة التي تضمنتها نصوص المقام. و ما في ذيل كلامه من عدم مسقطية الاستغفار و عدم بدليته، و إنما المسقط عدم الوجدان ما دام باقيا، خروج عن مفاد النصوص الذي هو كالصريح منها. فالبناء علي عدم وجوب الكفارة بتجدد القدرة عليها في المقام و غيره قريب جدا.

نعم، حيث تضمنت رواية داود بدلية الاستغفار بعد العجز عن الصدقة علي مسكين واحد فاللازم البناء علي ذلك بعد فرض حجيتها بعمل الأصحاب بها في مقدار الكفارة الواجبة. فلاحظ.

هذا، و لو بني علي سقوط الكفارة بالعجز ففي الجواهر أن المعيار فيه علي العجز عند تعلق الكفارة، لا العجز المتجدد، لمكان شغل الذمة به سابقا و هو الذي استظهره في جامع المقاصد بدوا معللا بذلك. و عليه جري بعض المعاصرين قدّس سرّه في فتواه.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 5، ص: 61

و يشكل بأن شغل الذمة به سابقا لا يمنع من البناء علي سقوطه لإطلاق النصوص المتقدمة و لذا احتمل في جامع المقاصد العموم بعد الاستظهار المتقدم.

نعم، لو غض النظر عنها فقد يدعي أن مقتضي الأصل عدم السقوط مع تجدد العجز، لاستصحاب انشغال الذمة بها تكليفا أو وضعا، بخلاف ما لو كان العجز من أول الأمر، حيث يكون مقتضي الأصل براءة الذمة بعد تجدد القدرة، للشك في حدوث الانشغال.

لكنه يندفع بأن مقتضي إطلاق دليل السببية ثبوت الكفارة بتحقق السبب حتي مع سبق العجز حينه، إما لكونها من سنخ الدين الذي يمكن انشغال الذمة به مع العجز عن وفائه أو لكونها من سنخ التكليف الذي ينكشف بتجدد القدرة قابلية المكلف له من أول الأمر بنحو الواجب المعلق، فيدخل تحت الإطلاق لما هو

ص: 61

______________________________

المعلوم من أن العجز الموقت لا يمنع من دخول المكلف تحت إطلاق التكليف، و إلا لخرج عن الإطلاق بالعجز من غير جهة المال، كتعذر الوصول للمسكين و نحوه، و لا يظن منهم البناء عليه في المقام و غيره. بل لامتنع لأجل ذلك الاستصحاب مع العجز الطارئ بعد انشغال الذمة بالكفارة، للعلم بسقوطه حينه، فيستصحب عدمه بعد تجدد القدرة، فلا يتجه التفصيل، و ليس بناؤهم علي ذلك في غير المقام.

ثم إن عدم الوجدان في النصوص و غيرها و إن كان ظاهرا في العجز من جهة المال، لا من بقية الجهات- كعدم وجدان الفقير أو تعذر الوصول إليه- كما يناسبه اختصاص التعبير بذلك في الكفارات المالية و التعبير في غيرها بعدم الاستطاعة أو بالعجز، إلا أن ظاهر التعبير بالعجز عن الكفارة في صحيح أبي بصير و بعدم وجدان السبيل إلي شي ء من الكفارة في رواية داود إرادة مطلق التعذر، و لا يبعد العمل علي ذلك و إلغاء خصوصية العجز المالي في موارد التعبير بعدم الوجدان.

و أما معيار عدم الوجدان المالي فقد تضمنه صحيح إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه السلام: «سألته عن كفارة اليمين في قوله: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام» ما حدّ من لم يجد؟ و إن الرجل ليسأل في كفه و هو يجد. فقال: إذا لم يكن عنده فضل عن قوت عياله فهو ممن لا يجد» «1»، و الظاهر أن المراد به الفضل عن قوت العيال بلحاظ السنة، لأن ذلك هو المنصرف، و لا سيما بلحاظ ما ورد في مستحق الزكاة و غيره، و إلا فلو أريد به مطلق الفضل عنه و لو بلحاظ اليوم أو ما دونه صدق الوجدان في حق من يسأل بكفه كثيرا، و هو الذي يظهر من السائل المفروغية عن عدم الاكتفاء به و من الإمام عليه السلام إقراره عليه.

و هو و إن كان مختصا بكفارة اليمين إلا أن التعدي لسائر موارد اعتبار عدم الوجدان في الكفارات قريب جدا. و الأمر محتاج إلي مزيد تتبع و تأمل في النصوص و كلمات الأصحاب. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الكفارات حديث: 1.

ص: 62

الثاني عشر: المدار في مقدار الكفارة واقعا علي الموضوع الواقعي من حيثية المرأة و أنها زوجة أو أمة،

______________________________

و حيثية زمان الحيض من الأول و الوسط و الآخر، لا علي ما اعتقده الرجل حين الوطء، كما صرح بذلك في الجملة في الجواهر و محكي كشف الغطاء و غيرهما، عملا بظاهر النص و الفتوي. و لم يتضح تبعية مقدار الكفارة لشدة المعصية و التمرد، كي يحتمل إناطته بعلم العاصي بأهميتها، و ليس هو كأصل الكفارة المتفرعة ارتكازا علي التمرد و المعصية، و لذا تسقط بدونهما للجهل و غيره علي ما سبق.

كما أن الظاهر أن من وطأ باعتقاد الحيض خطأ فلا كفارة عليه، كما هو ظاهر الأصحاب و صريح العروة الوثقي و أقره جملة من محشيها. لأن مناسبة الكفارة للمعصية و التمرد إنما تكون قرينة علي اختصاص موضوعها- و هو الوطء في الحيض- بهما، لا علي أنهما تمام الموضوع، بحيث يكفي فيها التجري من دون حرمة واقعية، فإنه محتاج إلي مؤنة دليل، و ليس البناء عليه في غير المقام من موارد الكفارات و غيرها.

الثالث عشر: قال في المنتهي في فروع مسألة كفارة وطء الحائض: «الثاني عشر: يجب الامتناع من الوطء وقت الاشتباه،

كما في حالة استمرار الدم، لأن اجتناب حالة الحيض واجب، و الوطء حالة الطهر مباح، فيحتاط بتغليب الحرام، لأن الباب باب الفروج»، و قريب منه ما في الذكري في المتحيرة.

و لا يخفي أن حرمة الوطء مع الاشتباه إنما تتجه إذا كانت مقتضي أمارة معتبرة- كما في أيام العادة- أو أصل معتبر- كما في وقت الاستظهار- أو علم إجمالي منجز في حق الرجل، و في غير ذلك تكون السعة مقتضي الأمارة- كالعادة التي هي أمارة الطهر بعد أيامها- أو الأصل الاحرازي- كاستصحاب الطهر- أو غير الاحرازي، كأصل البراءة.

و دعوي: انقلاب الأصل في الفروج- لو تمت- مختصة بما إذا كان احتمال الحرمة من جهة الشك في الزوجية أو ملك اليمين، دون مثل الشك في الحيض أو اليمين علي ترك الوطء أو نحوهما من الطوارئ. علي أن ذلك ليس بنحو يمنع من الرجوع لمقتضي الأمارة أو الأصل الإحرازي أو التعبدي المقتضي للسعة، بل يختص بالمنع من الرجوع للأصل العملي المحض، كالبراءة.

ص: 63

______________________________

هذا، و أما مستمرة الدم فحيث شرعت لها وظائف خاصة جاز الاقتصار في حرمة الوطء علي مقتضاها لها و للزوج، لظهور تشريعها في تحديد الحيض بها ظاهرا بلحاظ جميع الأحكام، بل بعض نصوص الرجوع للعادة صريح في جواز وطئها بعد مضيها مطلقا أو بعد الاستظهار، و لا وجه مع ذلك لوجوب الاحتياط. و قد تقدم من التذكرة في التحيض بالعدد و من المنتهي فيه و في الناسية ما يناسب ذلك. فراجع.

ثم إنه لو تم وجوب الاحتياط فالظاهر عدم وجوب الكفارة بمخالفته إذا لم يعلم إجمالا بتحقق سببها، للشك في التكليف بها من دون منجز، نظير ما يذكر في ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة.

نعم، لو انكشف تحقق سببها بعد ذلك انكشف وجوبها، و لا يسقطها الجهل بالحيض بعد أن لم يكن معذرا، نظير ما تقدم في الجهل بالحكم عن تقصير.

الرابع عشر: قال في الجواهر: «لا إشكال عندهم، بل لا خلاف في قبول قول المرأة في الحيض إن لم تكن متهمة،

بل أطلق بعضهم وجوب القبول من غير تقييد، كما أنه صرح آخر بذلك حتي مع ظن الزوج الكذب»، و نفي الخلاف فيه مع التهمة في الرياض. و يقتضيه صحيح زرارة: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: العدة و الحيض إلي النساء» «1»، و نحوه صحيحه الآخر، و زاد فيه: «إذا ادعت صدقت» «2»، و صحيح ميسر: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ألقي المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد، فأقول لها:

أ لك زوج؟ فتقول: لا فأتزوجها؟ قال: نعم، هي المصدقة علي نفسها» «3» حيث لا يبعد عموم التعليل فيه للحيض و نحوه.

و أما الاستدلال بقوله تعالي: وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ «4» بدعوي: إنه لو لا وجوب القبول للغي تحريم الكتمان. فهو لا يخلو عن إشكال، إذ

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 47 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 25 من أبواب النكاح و أولياء العقد حديث: 2.

(4) البقرة: 228.

ص: 64

______________________________

لو تمت الملازمة فالظاهر مما خلق اللّه في أرحامهن خصوص الحمل، كما فسر به في مرسلة العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: يعني: لا يحل لها أن تكتم الحمل إذا طلقت و هي حبلي و الزوج لا يعلم بالحمل، فلا يحل لها أن تكتم حملها» «1».

نعم، في مجمع البيان: «و قيل أراد الحيض و الحبل … و هو المروي عن الصادق عليه السلام قال: قد فوض اللّه إلي النساء ثلاثة أشياء الحيض و الطهر و الحمل» «2».

إلا أن إرساله مانع من الاعتماد عليه.

و مثله في الإشكال الاستدلال بخبر محمد بن عبد اللّه الأشعري: «قلت للرضا عليه السلام: الرجل يتزوج بالمرأة فيقع في قلبه أن لها زوجا، فقال: و ما عليه؟ أ رأيت لو سألها البينة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج؟!» «3»، بدعوي: أن مقتضي عموم التعليل قبول قولها في كل ما لا يتيسر إقامة البينة فيه، و منه الحيض.

لاندفاعه بعدم وضوح سوق الذيل للتعليل الذي يدور الحكم مداره، لعدم مناسبة التركيب اللفظي له، بل لمجرد رفع الوحشة من الحكم و تقريبه للذهن ببيان الحاجة له و فائدته. و لو سلم فليس هو تعليلا لحجية قولها، بل لعدم الحاجة للبينة، و لعله لاستصحاب عدم كونها ذات زوج، فلا ينفع فيما نحن فيه. فالعمدة ما تقدم.

مضافا إلي سيرة العقلاء الارتكازية علي تصديق الإنسان في شئون نفسه بملاك تصديقه علي ما تحت يده. و لعله إليه يشير ما تقدم في صحيح ميسر.

هذا، و في التذكرة و ظاهر التهذيب و الاستبصار و المدارك تخصيص قبول قول المرأة في الحيض بما إذا لم تكن متهمة. و كأنه لاختصاص ما تضمن قبول قول صاحب اليد بذلك، كما تقدم، و لموثق السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام: «ان أمير المؤمنين عليه السلام قال في امرأة ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض. فقال: كلفوا نسوة من بطانتها أن حيضها كان فيما مضي علي ما ادعت، فإن شهدن صدقت، و إلا فهي

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1: 115. و الوسائل باب: 9 من أبواب العدد حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب العدد حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب المتعة حديث: 5.

ص: 65

______________________________

كاذبة» «1»، حيث جمع الشيخ بينه و بين بعض ما سبق بحمله علي صورة التهمة.

و في صحيح حماد عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل طلق امرأته ثلاثا فبانت منه، فأراد مراجعتها فقال لها: إني أريد مراجعتك فتزوجي زوجا غيري. فقالت له: قد تزوجت زوجا غيرك و حللت لك نفسي أ يصدق قولها و يراجعها؟ و كيف يصنع؟

قال: إن كانت المرأة ثقة صدقت في قولها» «2»، فإن مقتضي مفهومه عدم حجية قولها لو لم تكن ثقة.

لكن قصور ما دل علي حجية قول صاحب اليد عن صورة التهمة لا يقتضي الاختصاص بعد إطلاق النصوص. و الموثق مختص بالدعوي الخارجة عن المتعارف، كما في المستند، بل الظاهر أن دعوي الثلاث حيض في الشهر الواحد للتوصل إلي دعوي الخروج عن العدة، فالبناء علي تعميمه لمطلق الدعوي الخارجة عن المتعارف، فضلا عن بقية موارد التهمة، لا يخلو عن إشكال، بل منع.

و الصحيح مختص بمورده. مع أن مقتضاه اعتبار كون المرأة ثقة، لا مجرد كونها غير متهمة، و الظاهر عدم بنائهم علي ذلك. و لذا اختار عموم الحجية للصورة المذكورة في المستند، و هو مقتضي ما في العروة الوثقي و أقره جملة من محشيها من الاقتصار في عدم تصديقها علي العلم بالكذب.

هذا، و قد تنظر في الروض في حجية دعواها الحيض مع ظن الكذب، ردا لما في الذكري و محكي نهاية الأحكام من وجوب الاجتناب معه. فإن كان مراده الظن المصاحب للتهمة- كما هو مورد تنظر جامع المقاصد- جري فيه ما سبق لعدم وضوح خصوصية الظن من بين صور التهمة و ان كان مراده مطلق الظن كان أشكل، لأن الظاهر عدم كفايته في الخروج حتي عن قول صاحب اليد.

نعم، يظهر من الذكري أن وجوب الاجتناب مع ظن الكذب ليس لحجية قولها،

______________________________

(1) الوسائل باب: 47 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب أقسام الطلاق و أحكامه حديث: 1.

ص: 66

______________________________

بل للاحتياط، قال: «لأنه إقدام علي ما لا يؤمن قبحه. و نبه عليه قول الصادق عليه السلام:

من أتي الطامث خطأ عصي اللّه». و يظهر حاله مما تقدم في الفرع السابق. و كأن مراده بالحديث خبر ليث المتقدم في أدلة الكفارة. لكنه سبق أنه محمول علي المعصية الواقعية، أو علي أن المراد بالخطإ الخطيئة، و إلا فحمل الخطأ علي التردد و اشتباه الحال لم يعهد في الاستعمالات، و لا تشهد به قرينة.

ثم إن الظاهر عدم الإشكال في قبول قولها في الطهر لو كان مقتضي الاستصحاب الحيض، لأن إطلاق القبول في الحيض ظاهر في القبول في وجوده و عدمه و لو بضميمة عدم خصوصية الوجود عرفا، بل هو مقتضي عموم التعليل في صحيح ميسر و ما سبق من سيرة العقلاء.

نعم، في عموم القبول لصورة التهمة أو ظن الكذب ما تقدم. و من بني هناك العمل بقولها للاحتياط يلزمه هنا عدم العمل به لذلك.

و مما ذكرنا يعلم قبول قولها في زمان الوطء بالإضافة إلي الحيض و أنه في أي ثلث منه، كما قربه في العروة الوثقي و أقره جملة من محشيها، لأن الجمود علي صحيحي زرارة إن لم يناسب التعميم أمكن البناء عليه بضميمة ما سبق. بل لما كان مرجع ذلك إلي تعيينها لزماني حدوث الحيض و ارتفاعه رجع إلي قبول قولها في الحيض و الطهر،

نعم، لو لم يرجع لذلك بل تمحض في تعيين زمان الوطء فلا دليل علي قبول قولها فيه، كما لو علم بأن الحيض في تمام الاسبوع الأول من الشهر و تردد الوطء بين الثاني و الرابع منه، لقصور جميع ما سبق عنه حتي سيرة العقلاء، لعدم كون الوطء من شئونها فقط، بل مشتركا بينها و بين الزوج الذي يختص بحكمه. فلا بد في التعيين من طريق آخر و بدونه يكون مقتضي الأصل الاقتصار علي الأقل. فلاحظ.

الخامس عشر: صرح جملة من الأصحاب بمشاركة النفساء للحائض في حكم الكفارة.

و كأنه لعموم الاشتراك بينهما في الأحكام، المدعي في كلماتهم، علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّه تعالي.

ص: 67

(مسألة 18): لا يصح طلاق الحائض (1)

______________________________

و قد فرع علي ذلك في الذكري أنه حيث قد يقصر زمان النفاس فقد يستوعب الوطء الواحد زمانين أو ثلاثة تختلف بحسبها الكفارة، فتتعدد الكفارة، و هو المحكي عن جماعة بناء علي تعدد الكفارة بتعدد الوطء. و تردد فيه في الروض و محكي البيان، بل ظاهر جامع المقاصد و غيره المنع منه، لعدم صدق التعدد عرفا، و هو محله، لكن كان المناسب لهم منع صدق التعدد حقيقة أيضا. و قد سبق نظيره في آخر الفرع الثامن.

مسألة 18: طلاق الحائض و ظهارها
اشارة

(1) بلا إشكال فيه بيننا، و قد استفاضت دعوي الإجماع عليه من أصحابنا رضي اللّه عنهم.

و تقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح الحلبي: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يطلق امرأته و هي حائض. قال: الطلاق علي غير السنة باطل» «1».

هذا، و في المعتبر و التذكرة و المنتهي و محكي التحرير إجماع علماء الإسلام علي تحريمه و أن الخلاف بيننا و بينهم في وقوعه.

و قد استدل للتحريم في المنتهي بقوله تعالي: (يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ … ) «2»، لإجماع المفسرين علي أن المراد به الطلاق في غير الحيض.

و يشكل بأن الأمر المذكور لما لم يكن للوجوب فكما يمكن أن يكون لبيان الطلاق الجائز يمكن أن يكون لبيان الطلاق الصحيح الذي يترتب عليه الأثر، بل لعل الثاني أظهر في الماهيات ذات الأجزاء و الشرائط القابلة للاتصاف بالصحة و الفساد.

و مثله الاستدلال بما تضمن مخالفة الطلاق حال الحيض للسنة، لأن السنة قابلة للوجهين أيضا، و لا سيما مع مقابلته بالبدعة الظاهرة في حرمة ما خالف السنة تشريعا.

و أما الإجماع ففي نهوضه بإثبات الحرمة التكليفية إشكال، لقرب كون منشئه المفروغية عن عدم مشروعية الطلاق المذكور بالنحو القابل للوجهين و المردد بينهما.

و من هنا يشكل إثبات الحرمة التكليفية الذاتية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه حديث: 3.

(2) الطلاق: 1.

ص: 68

و ظهارها (1) إذا كانت مدخولا بها (2)

______________________________

نعم، لا ريب في الحرمة التشريعية، و قد سبق في مسألة حرمة العبادة علي الحائض الكلام في الثمرة بينهما.

(1) بلا إشكال أيضا، بل في الجواهر أنه لا خلاف فيه بيننا، بل إجماعنا بقسميه عليه. و يقتضيه جملة من النصوص، كصحيح زرارة: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الظهار. فقال: هو من كل ذي محرم … قلت فكيف يكون؟ قال: يقول الرجل لامرأته و هي طاهر من غير جماع: أنت عليّ كظهر أمي … » «1».

(2) و لا يعتبر في طلاق غير المدخول بها عدم الحيض بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، كذا في الجواهر.

و يقتضيه النصوص الكثيرة المتضمنة عدها من الخمس اللاتي يطلقن علي كل حال، كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: لا بأس بطلاق خمس علي كل حال: الغائب زوجها، و التي لم تحض، و التي لم يدخل بها زوجها، و الحبلي، و التي قد يئست من المحيض» «2».

و النسبة بينها و بين ما دل علي مانعية الحيض و إن كانت هي العموم من وجه، إذ كما يمكن في الحائض أن تكون مدخولا بها يمكن في غير المدخول بها أن لا تكون حائضا، فيتنافيان في الحائض غير المدخول بها، إلا أن هذه النصوص حاكمة علي أدلة شروط المطلقة و موانعها حكومة عرفية، لظهورها في النظر إلي تلك الشروط و الموانع و إلغائها في الخمس المذكورات.

بل لو حملت هذه النصوص علي خصوص صورة تحقق جميع الشروط و ارتفاع جميع الموانع لزم إلغاء خصوصية الخمس المذكورات، و لو حملت علي صورة تحقق بعضها كان بلا مرجح عرفي، لأن ألسنة أدلتها بنحو واحد، فيتعين العمل بعموم هذه

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من كتاب الظهار حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 25 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه حديث: 3.

ص: 69

و لو دبرا (1)،

______________________________

النصوص و تقديمه علي أدلة الشروط و الموانع المذكورة.

و أما الظهار فظاهر المتن وقوعه حال الحيض مع عدم الدخول، بنحو عبارته عبر في العروة الوثقي. و هو لا يناسب ما يأتي في كتاب الظهار من اعتبار الدخول في صحته، كما عن الصدوق و جماعة من المتأخرين.

و لو بني علي عدم اعتباره و جواز ظهار غير المدخول بها- كما عن جماعة- فلم أعثر علي من صرح بعدم مانعية الحيض من ظهارها خروجا عن إطلاق مانعيته منه في النص و الفتوي. كما لم أعثر علي ما يدل عليه عدا مرسل ابن فضال عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: لا يكون الظهار إلا علي مثل موضع الطلاق» «1»، بناء علي ظهور الاستثناء فيه في وقوعه في موضع صحة الطلاق بنحو القضية الكلية لا بنحو القضية المهملة في مقابل عدم وقوعه أصلا في غير موضعه، كما لعله الأظهر أو المتيقن، فلا ينهض بالاستدلال.

اللهم إلا أن يكون قرينة عرفية علي تنزيل إطلاق ما تضمن اشتراطه ببعض شروط الطلاق- كالطهر- علي أنه علي نحو اشتراطها في الطلاق. فتأمل.

نعم، إرساله مانع من التعويل عليه في الخروج عن إطلاق اعتبار الطهر في الظهار إلا أن يستفاد مما يأتي منهم في الغائب المفروغية عن مفاده و لو بنحو يكفي في انجباره. هذا و قد يكون المراد من المتن إلحاق الظهار بالطلاق في مانعية الحيض منه، دون الاستثناء، كما قد يظهر من سيدنا المصنف قدّس سرّه أنه فهمه من عبارة العروة الوثقي، حيث لم يشر للاستدلال عليه في الظهار. فلاحظ.

(1) لصدق الدخول بذلك، فتخرج عن مورد النص و الفتوي باستثناء غير المدخول بها. و لا مجال لقياسه علي ما سبق في الغسل من قصور الأدلة عن إثبات وجوبه بالوطء في الدبر، لاختلاف ألسنة الأدلة في المقامين، و عدم ثبوت التلازم بينهما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من كتاب الظهار حديث: 3.

ص: 70

و كان زوجها حاضرا (1) و في حكمه (2)،

______________________________

(1) فيصح طلاق الغائب عنها زوجها و إن كانت حائضا. للنصوص الكثيرة، كخبر أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يطلق امرأته و هو غائب، فيعلم أنه يوم طلقها كانت طامثا. قال: يجوز» «1» و غيره مما تضمن عدها من الخمس اللاتي يطلقن علي كل حال «2»، و قد تقدم بعضها، و ما تضمن حدّ الغيبة «3» و غيرها.

نعم، اختلفوا في حدّ الغيبة بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، بل يوكل إلي محله من كتاب الطلاق.

و أما ظهار من غاب عنها زوجها ففي الشرائع و ظاهر النافع و القواعد و اللمعة أنه يقع مع الحيض، و في الجواهر بعد ذكر جملة أحكام هو منها: «بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك بيننا، بل إجماعنا بقسميه عليه». و كأنه لاستفادتهم من دليل شرطية الطهر في الظهار أنه علي نحو شرطيته في الطلاق و لو بضميمة مرسل ابن فضال، علي ما تقدم بيانه منا في غير المدخول بها.

(2) كما في الإرشاد في الطلاق، و في الرياض في الظهار. و لعل مرادهما ما في الروضة و الجواهر و العروة الوثقي، و هو ما إذا تيسر للغائب الاطلاع علي حالها.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لاختصاص أدلة استثناء الغائب بمن لا يتمكن من العلم، و لو بملاحظة صحيح ابن الحجاج الآتي، فيرجع في المتمكن منه إلي عموم ما دل علي اعتبار الطهر». لكن لم يتضح الوجه في اختصاص أدلة استثناء الغائب بمن لا يتمكن من العلم بعد عدم الإشارة إليه في نصوصه، بل قد لا يناسب تحديد مدة الغيبة في بعضها. و غاية ما يدعي هو انصرافها لمن لا يعلم فعلا و إن كان متمكنا من العلم، لمناسبة الغيبة له جدا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه حديث: 6.

(2) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.

(3) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.

ص: 71

إلا أن تكون حاملا (1)

______________________________

نعم، لا يبعد كون غلبة تعذر العلم علي الغائب خصوصا في تلك العصور، حكمة في رفع الشرط المذكور لا أنه علة يدور مدارها.

و أما صحيح ابن الحجاج فهو ما رواه عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجل تزوج امرأة سرا من أهلها [أهله. فقيه] و هي في منزل أهلها [أهله. فقيه] و قد أراد أن يطلقها و ليس يصل إليها فيعلم طمثها إذا طمثت و لا يعلم بطهرها إذا طهرت. قال: فقال:

هذا مثل الغائب عن أهله يطلق بالأهلة و الشهور … » «1»، و من الظاهر أن تنزيل الحاضر الذي يتعذر عليه معرفة حال زوجته منزلة الغائب لا يدل علي التعذر في حق الغائب أيضا. بل قد يكون علي خلافه أدل، لظهوره في خصوصية الغائب في الحكم- كما هو ظاهر جميع نصوص المقام- و أن ثبوته في الحاضر الذي يتعذر عليه العلم لتنزيله منزلته، لا أن موضوع الحكم مطلق من يتعذر عليه العلم من دون خصوصية للغائب.

و من هنا كان ما ذكره قدّس سرّه في غاية الإشكال. و لعله لما ذكرنا حمل في الروض حضور الزوج علي كونه عند الزوجة، لا ما يقابل السفر، و حمل ما في حكم الحضور علي قربه منها، بحيث يمكنه استعلام حالها. و إن كان الحمل المذكور مخالف لظاهر كلماتهم جدا.

نعم، حمل في المسالك من بحكم الحاضر علي الغائب دون المدة المسوغة للطلاق. و هو قريب في نفسه لو لا ما عرفت من بعضهم من إرادة المعني الأول.

و كيف كان، فقد كان الأولي لسيدنا المصنف قدّس سرّه التنبيه علي ما نبه له في النهاية و الشرائع و غيرهما من إلحاق الحاضر الذي يتعذر عليه العلم بالغائب، عملا بصحيح ابن الحجاج.

هذا، و أما إلحاق الظهار بالطلاق في ذلك فهو يبتني علي ما تقدم في الغائب.

(1) بناء علي ما سبق من اجتماع الحيض مع الحمل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه حديث: 1.

ص: 72

فلا بأس به حينئذ (1). و إذا طلقها علي أنها حائض فبانت طاهرة صح، و إن عكس فسد (2).

______________________________

(1) أما في الطلاق فهو بلا إشكال ظاهر و قد تظافرت به كلماتهم، و في الجواهر:

«بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه». و يقتضيه النصوص الكثيرة التي عدتها من الخمس اللاتي يطلقن علي كل حال «1»، و قد تقدم بعضها.

و أما في الظهار فهو المصرح به في الروضة و كشف اللثام. و العمدة فيه ما سبق في ظهار الغائب عنها زوجها من ابتنائه علي استفادتهم من دليل شرطية الطهر في الظهار أنه علي نحو شرطيته في الطلاق. و لعله لذا قال في الروضة مستدركا علي إطلاق اللمعة مانعية الحيض: «و كان عليه أن ينبه عليه. و لعله أهمله لظهور أن هذه شرائط الطلاق».

(2) عملا بإطلاق الدليل الظاهر في أن المدار علي الواقع، لا علي اعتقاد المطلق.

و كذا الحال في الظهار.

بقي في المقام أمران:
الأول: تقدم في الفرع الثالث عشر من فروع كفارة الوطء إلزام بعضهم بالاحتياط مع اشتباه الحيض و لو كان لاستمرار الدم.

و قد ذكرنا أنه مع وجود الوظيفة الشرعية لتعيين الحيض بأمارة أو أصل يجب الرجوع إليها في التعيين، فيبني علي حيضية ما تقتضي حيضيته و طهرية ما تقتضي طهريته، لظهور دليل جعلها في أنه لتحديد الحيض ظاهرا بلحاظ جميع الأحكام.

و قد يدعي أن لازم ذلك فيما إذا كانت الوظيفة مبنية علي التخيير بين الأقل و الأكثر- كالتحيض بالعدد و الاستظهار، بناء علي المختار فيهما- عدم التعبد بكل من الحيض و الطهر قبل الاختيار، فلا يترتب حكم أحدهما علي العمل الصادر حينئذ كالوطئ و الطلاق، بل يكون مراعي بالاختيار، فإذا اختارت أحد الأمرين ترتب

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.

ص: 73

______________________________

حكمه من أول الأمر، و لو لم تختر تسامحا أو لتعذر الاختيار لها- بجنون أو موت أو نحوهما- فحيث لا يحرز موضوع أحد الحكمين يلزم الرجوع في نفس الحكمين للأصل، كأصالة البراءة من وجوب الكفارة، و أصالة عدم ترتب الأثر علي الطلاق.

لكن ذلك لو تم يقتضي جواز الرجوع للأصل في نفس الحكمين من أول الأمر أيضا، فيبني علي جواز الوطء المستلزم لعدم وجوب الكفارة، و علي عدم ترتب الأثر علي الطلاق. غايته أنه يرفع اليد عن مقتضاه باختيار ما يخالفه، فإن اختارت الطهر يبني علي صحة الطلاق من أول الأمر، و إن اختارت الحيض يبني علي حرمة الوطء حين وقوعه، و إن لم يعاقب عليه، لعدم المنجز لحرمته حينئذ، كما لا كفارة عليه لذلك.

مع أنه مبني علي عدم جريان استصحاب الحيض قبل الاختيار، لظهور أدلة الوظيفة في الردع عنه، و إلا كان اللازم التعبد بحكم الحيض مع عدم اختيار الأقل، فإذا تعقبه اختيار الطهر ثبت حكمه ظاهرا و كان رافعا لحكم استصحاب الحيض.

و حينئذ ففي مشروعية الاختيار لها بلحاظ الزمان السابق عليه بحيث يشرع لمستمرة الدم مثلا في اليوم التاسع اختيار التحيض بالسبعة، ليكون موجبا لانقلاب الحكم عما اقتضاه إشكال، و إن كان هو مقتضي الإطلاق. كيف و لازمه جواز العدول عما اختارته أولا، لأنه مقتضي الإطلاق أيضا. فتأمل جيدا.

و كيف كان، فقد سبق جريان استصحاب الحيض في مورد الاستظهار و التحيض بالعدد، غايته أنه يجوز رفع اليد عنه باختيار الطهر في مورد التخيير. فراجع التنبيه الرابع من تنبيهات الكلام في وجوب الاستظهار، و الكلام في القول الثاني من الأقوال المخالفة للمختار في التحيض بالعدد.

الأمر الثاني: لا يخفي أن ما كان من الأحكام المتقدمة قد أخذ في أدلته عنوان الحائض

فالأصل فيه الاقتصار علي حالة الحكم بالحيضية، لخروج الدم أو لتخلل النقاء بين الدميين- بناء علي إلحاقه بالحيض- و لا يترتب مع الحكم بعدمها و إن بقي الحدث، لعدم الغسل. و لا مخرج عن ذلك في الطلاق و الظهار، بل ظاهر المسالك

ص: 74

______________________________

أنه اتفاقي. كما أنه الذي دلت عليه النصوص الخاصة في حرمة الوطء- علي ما سبق- و يتفرع عليه الكفارة، لما سبق من اختصاصها بالوطء المحرم. و من هنا كان العمل في الأحكام المذكورة علي ذلك.

كما أنه لا إشكال في توقف صحة الصلاة و الطواف الواجب علي الغسل، لأخذ الطهارة شرطا فيهما. و أما الصوم ففيه خلاف منشؤه بعض النصوص الخاصة «1» يوكل إلي محله من كتاب الصوم.

و أما الحرمة الذاتية- التي سبق منا البناء عليها في الصلاة- فنصوصها الواردة في الحائض و إن اختصت بحال الحيض، إلا أنه تقدم ظهور بعض النصوص في الحرمة مع مطلق الحدث، فيتعين لأجله البناء علي أن غايتها الغسل. و كذا حرمة مس القرآن الشريف، لاعتبار الطهارة من الحدث الأصغر في جوازه فضلا عن الأكبر. و مثله مس اسمه تعالي، لأن الاستدلال المتقدم علي حرمته- لو تم- يناسب كون المعيار فيها الحدث، كالجنب.

و أما تحريم دخول المساجد- علي التفصيل المتقدم في الجنب- و قراءة العزائم فظاهر المسالك عدم الخلاف في إناطته بالحدث، دون خصوصية حالة الحيض. و كأنه لأن المستفاد من سوق الحائض مساق الجنب في نصوصه أن المعيار فيه الحدث، كما هو المناسب لارتكاز ابتنائه علي احترام المساجد و العزائم باجتناب المحدث لها.

بل هو الظاهر مما في صحيح زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «قلنا له: الحائض و الجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال: الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين، إن اللّه تبارك و تعالي يقول: و لا جنبا إلا عابري سبيل حتي تغتسلوا … » «2»،

فإن الاكتفاء في الاستدلال علي حكم الحائض و الجنب معا بالآية الشريفة الواردة في الجنب ظاهر في المفروغية عن كون موضوع الحكم هو الجهة المشتركة بينهما، و هي الحدث. و يؤيده ما في مرفوع أبي حمزة «3» من أمر من يفجؤها الحيض في المسجدين

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب ما يمسك عنه الصائم و وقت الإمساك حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 75

(مسألة 19): يجب الغسل من حدث الحيض لكل مشروط بالطهارة من الحدث الأكبر (1).

______________________________

الشريفين بالتيمم و الخروج، لوضوح أن التيمم إنما يوجب تخفيف الحدث، و لا دخل بحالة الحيض مع قطع النظر عنه.

و من هنا كانت إناطة الجواز بالغسل قريبة جدا. و ما عن بعضهم من تقوية عدم وجوب الغسل في غير محله ظاهرا، و لا سيما في دخول المساجد. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(مسألة 19): يجب الغسل من حدث الحيض لكل مشروط بالطهارة من الحدث الأكبر
شارة

(1) كما هو مقتضي الشرطية لو أريد بالوجوب ما يساق اللابدية. و لو أريد منه الوجوب الغيري- بناء علي ثبوت الأمر الغيري- كان مشروطا بوجوب المشروط، إذ مع استحبابه يكون مستحبا غيريا. كما أنه لو لم يكن شرطا في صحة العمل، بل كان العمل محرما بدونه- كمس الكتاب الشريف- أو مكروها فلا مجال للبناء علي وجوب الغسل أو استحبابه غيريا بسببه.

نعم، لو وجب الفعل المذكور أو اضطر إليه كان الغسل لازما أو راجحا عقلا، محافظة علي غرض الشارع من دون أمر شرعي به. و هو الحال أيضا لو وجب المشروط بالغسل أو استحب نفسيا، بناء علي ما هو الظاهر من عدم الأمر الغيري المولوي بالمقدمة. و قد تقدم منا في المسألة السابعة و التسعين من مباحث الوضوء أنه كما يكفي في التقرب المعتبر في الطهارات قصد إحدي الغايات الواجبة أو المستحبة المشروطة بها كذلك يكفي قصد استباحة ما يحرم أو يكره بدونها، سواء وجب أم لا. فراجع.

هذا، و الظاهر عدم وجوب غسل الحيض نفسيا، كما هو الحال في سائر الأغسال، و هو المعروف بين الأصحاب الظاهر من جملة من كلماتهم المفروغية عنه، بل في جامع المقاصد: «لا خلاف في أن غير الجنابة لا يجب لنفسه» و ادعي في الروض الإجماع علي أن وجوبه غيري. لكن في المنتهي أن للنظر فيه مجالا، لإطلاق الأمر به، و في المدارك:

أن قوته ظاهرة. و يظهر ضعفه مما تقدم في أول الفصل السابع من مباحث الوضوء.

ص: 76

و يستحب للكون علي الطهارة (1). و هو كغسل الجنابة في الكيفية (2)،

______________________________

(1) الظاهر عدم الإشكال فيه، لاستفادته مما تضمن استحباب الوضوء للكون علي الطهارة بالأولوية العرفية، أو لأن أسباب الحدث الأكبر نواقض للوضوء. مضافا إلي عموم ما تضمن الأمر بالطهارة الذي تقدم التعرض له عند الاستدلال علي استحباب الوضوء للكون علي الطهارة في الفصل السابع و المسألة المائة من مباحث الوضوء.

هذا، و أما استحبابه لنفسه مع قطع النظر عن الكون علي الطهارة فلا طريق لإثباته، لأن ما تضمن الأمر به لما كان ظاهرا أو صريحا في الوجوب فهو محمول علي الأمر به غيريا أو إرشادا لمقدميته للواجب أو لبيان شرطيته. و لو رود ما ظاهره استحبابه فهو منصرف للأمر به لأجل ترتب الطهارة عليه، نظير ما تقدم في الوضوء للكون علي الطهارة. فراجع.

كيفية غسل الحيض

(2) الظاهر عدم الإشكال فيه، حيث صرح به جماعة كثيرة، و يظهر من غير واحد المفروغية عنه، و في المدارك: «هذا مذهب العلماء كافة»، و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و عن كثير دعوي الإجماع عليه صريحا و ظاهرا».

و يقتضيه موثق الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: غسل الجنابة و الحيض واحد. و سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحائض عليها غسل مثل غسل الجنب؟ قال:

نعم» «1»، و موثق أبي بصير عنه عليه السلام: «سألته أ عليها غسل مثل غسل الجنب؟ قال:

نعم. يعني الحائض» «2»، فإن مقتضي إطلاق المماثلة المساواة في الكيفية.

و أما تضمن أن غسل الجنابة و الحيض واحد- كصدر موثق الحلبي و موثقة الآخر «3» و غيرهما- فهو كما يحتمل إرادة الوحدة في الكيفية يحتمل إرادة الوحدة في العدد لبيان تداخل الغسلين. بل لعل الثاني أظهر، و لا سيما مع ورود المضمون المذكور في صحيح عبد اللّه بن سنان عنه عليه السلام: «سألته عن المرأة تحيض و هي جنب

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 23 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 77

______________________________

هل عليها غسل الجنابة؟ قال: غسل الجنابة و الحيض واحد» «1».

نعم، التداخل مناسب لاتحاد الكيفية، بل عدم التعرض في نصوصه لكيفية الغسل المجزي عن الغسلين أو الأغسال ظاهر في المفروغية عن اتحاد الأغسال في الكيفية. و لعله لذا استدل بعضهم بالنصوص المذكورة و بجميع نصوص التداخل.

نعم، لا مجال لما يظهر من الوسائل من الاستدلال بمعتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام: «قال: و غسل الجنابة فريضة و غسل الحيض مثله» «2».

لاندفاعه: بأن المتيقن منه إرادة المماثلة في كونه فريضة، لا ما يعم الكيفية أو يختص بها.

و أضعف منه الاستدلال بموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن التيمم عن الوضوء و من الجنابة و من الحيض للنساء سواء؟ فقال: نعم» «3». لوضوح ان اتحاد كيفية التيمم الذي هو بدل عن هذه الأغسال لا يستلزم اتحاد كيفيتها. فالعمدة ما سبق.

هذا، و أما قول العلامة في المنتهي: «يجب في الغسل الترتيب. و هو مذهب علمائنا أجمع». فالظاهر عدم منافاته لما تقدم، و أن مراده وجوب الغسل مع كون الغسل تدريجيا لا بنحو يمنع من الارتماس الثابت في غسل الجنابة بلا إشكال، كما هو مقتضي استدلاله بما تضمن أن غسل الجنابة و الحيض واحد بدعوي: أن الوحدة تقتضي اعتبار شرائط غسل الجنابة، و تصريحه بعد ذلك باتحاد الغسلين في الأحكام، جريا علي مقتضي الوحدة التي تضمنتها النصوص.

نعم، في النهاية: «و تستعمل في غسل الحيض تسعة أرطال من الماء، و إن زادت علي ذلك كان أفضل، و إن كان دون التسعة أرطال أو كان مثل الدهن في حال الضرورة لم يكن به بأس، و أجزأها عن الغسل».

و قد يستفاد منه إن إجزاء ما دون التسعة مختص بحال الضرورة، فيخالف

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب الحيض حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 23 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 78

______________________________

غسل الجنابة. لكنه غير ظاهر، لقرب كون الضرورة قيدا لخصوص ما يكون بمثل الدهن- كما ذكره في غسل الجنابة أيضا- لأنه المناسب لتخصيصه بالذكر من بين ما يكون دون التسعة أرطال. علي أن الظاهر أن التقييد بالضرورة ليس لعدم الاجتزاء بالمقدار المذكور اختيارا، بل لأنه لا ينبغي اختياره مع إمكان الإسباغ بالتسعة أرطال، كما يناسبه مقابلته بين الضرورة و الإسباغ في غسل الجنابة، حيث قال: «و أقل ما يجزيه من الماء للغسل ما يكون كالدهن للبدن، و هذا يكون عند الضرورة. و الإسباغ يكون بتسعة أرطال من ماء، و إن استعمل أكثر من ذلك جاز». و غاية ما يستفاد منه الفرق بين غسل الجنابة و غسل الحيض باستحباب الزيادة علي التسعة أرطال في الثاني دون الأول، حيث نص علي جواز الزيادة فيه دون أفضليتها. لكن هذا لا ينافي ما تضمن أن غسل الحيض مثل غسل الجنابة، لأن ذلك إنما يقتضي استحباب إيقاع غسل الحيض بالصاع كغسل الجنابة، و لا ينافي أفضلية إيقاعه بالأكثر.

و كيف كان، فيدل علي الاستحباب المذكور رواية محمد بن الفضيل: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الحائض كم يكفيها من الماء؟ قال: فرق» «1»، حيث حكي عن أبي عبيدة أن الفرق ثلاثة أصوع بلا خلاف. بل قد يدل عليه ما تضمن إيقاعه بتسعة أرطال بحملها علي الرطل المدني، فتكون صاعا و نصفا، لا علي العراقي لتكون صاعا كغسل الجنابة. و قد تقدم تفصيل الكلام في ذلك في مستحبات غسل الجنابة.

بقي شي ء، و هو أنه قال في جامع المقاصد: «و لو تخلل الحدث في أثنائه فقولان مبنيان علي الخلاف في غسل الجنابة. و يمكن الجزم بعدم الإعادة هنا، كما قطع به المصنف في التذكرة و جزم به في النهاية».

و لا يخفي أن بناء الخلاف هنا علي الخلاف في غسل الجنابة- مع عدم مناسبته لما حكاه عن التذكرة و نهاية الأحكام من عدم الانتقاض هنا مع اختيار انتقاض غسل الجنابة فيهما- لا يتضح وجهه بعد الفرق بين الغسلين بالإجماع علي إجزاء غسل الجنابة

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 79

______________________________

عن الوضوء و الخلاف في إجزاء غسل الحيض عنه.

بل اللازم النظر في وجه الانتقاض في غسل الجنابة. فإن كان هو عموم قوله تعالي: (وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) «1»، بالتقريب المتقدم هناك، فمن الظاهر اختصاصه بغسل الجنابة، و لا يعم غيره حتي لو قيل بإجزائه عن الوضوء.

و إن كان هو رواية عرض المجالس للصدوق «2» المتقدمة هناك فلا يبعد البناء علي التعميم، لأن المخاطب فيها و إن كان هو الرجل الذي لا يبتلي بأغسال الدماء، إلا أن إطلاق الغسل فيها شامل لغير غسل الجنابة مما يجب علي الرجل، و هو غسل مس الميت، الذي هو كغسل الحيض في الخلاف المذكور.

و إن كان هو دعوي ملازمة ذلك لإجزائه عن الوضوء، كان اللازم البناء علي ذلك في غسل الحيض، لو قيل بإجزائه عنه أيضا، و إن قيل بعدم إجزائه عنه فإن بني علي أن الغسل ينفرد برفع الحدث الأكبر و الوضوء ينفرد برفع الحدث الأصغر لزم البناء علي عدم انتقاض غسل الحيض بالحدث الأصغر، لعدم دخله به، و إن بني علي اشتراكهما في رفع الحدثين بمجموعهما كان غسل الحيض كغسل الجنابة في الجهة الموجبة للانتقاض، لأنه يكون مؤثرا في رفع الحدث الأصغر في الجملة، كما يكون الحدث المتخلل له ناقضا له في الجملة.

و ما حكاه في جامع المقاصد عن الذكري من تعليل عدم الانتقاض بالاشتراك المذكور، في غير محله جدا- كما نبه له في جامع المقاصد- أولا: لما ذكرنا من أنه بالانتقاض أنسب.

و ثانيا: لأن الاشتراك المذكور بعيد في نفسه، علي ما أوضحناه في مبحث تداخل الأغسال من المسألة الثالثة و السبعين من مباحث الوضوء. فراجع.

لكن لا يبعد كون مراد الذكري التعليل بأن الوضوء هو الدخيل في رفع

______________________________

(1) المائدة: 6.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الجنابة حديث: 4.

ص: 80

من الارتماس و الترتيب (1). نعم المشهور أنه لا يجزي عن الوضوء كغيره

______________________________

الحدث الأصغر فلا موجب لبطلان الغسل به. قال: «لو تخلل الحدث الغسل المكمل بالوضوء أمكن [القول. ظ] بالمساواة في طرد الخلاف و أولوية الاجتزاء بالوضوء هنا، لأن له مدخلا في إكمال الرفع أو الاستباحة. و به قطع الفاضل في النهاية مع حكمه بالإعادة في غسل الجنابة» حيث لا يبعد رجوع الضمير في قوله: «لأن له مدخلا» إلي الوضوء دون الغسل.

هذا، و ربما يدعي أن مقتضي ما دل علي أن غسل الحيض كغسل الجنابة مشاركته له في الانتقاض بتخلل الحدث الأصغر لو قيل به فيه. و به يوجه ما تقدم من جامع المقاصد من بناء الحكم هنا علي الخلاف هناك. لكنه يشكل بأن منصرف المماثلة خصوص الكيفية دون سائر الأحكام.

اللهم إلا أن يقال: انتقاض الغسل بالحدث الأصغر المتخلل بين أجزائه ليس من أحكامه اللاحقة له في فرض وجوده و ترتب الأثر عليه نظير إجزائه عن الوضوء، بل هو راجع إلي اعتبار عدم تخلل الحدث الأصغر في ترتب الأثر عليه، فهو نظير الموالاة لو قيل باعتبارها راجع إلي الكيفية المعتبرة في التأثير، فيشمل إطلاق المماثلة.

نعم، لو كان انتقاضه تابعا لرافعيته للحدث الأصغر فلا موضوع للانتقاض في غسل الحيض بناء علي عدم دخله في رفعه و انفراد الوضوء برفعه، و يلزم رفع اليد عن إطلاق المماثلة في ذلك.

و لعل ذلك هو مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه و إن كانت عبارته لا تفي به.

(1) بناء علي وجوب الترتيب في غسل الجنابة غير الارتماسي. أما بناء علي عدمه فالمتعين عدم وجوبه في غسل الحيض، لإطلاق أدلة المماثلة المتقدمة، و لخصوص بعض النصوص الواردة في غسل المرأة الذي كان غسل الحيض من أظهر أفراده، و قد تقدمت عند الكلام في وجوب الترتيب. و ما سبق من المنتهي من دعوي الإجماع علي وجوب الترتيب في غسل الحيض ليس بنحو يصلح لرفع اليد عما ذكرنا.

ص: 81

من الأغسال عدا غسل الجنابة (1). و هو غالبا أحوط.

______________________________

و لا سيما مع قرب ابتنائه علي دعوي الإجماع عليه في غسل الجنابة، و المفروض عدم التعويل عليها.

هل يجزي الغسل عن الوضوء
قول الأول عدم الإجزاء
اشارة

(1) فقد صرح بعدم إجزائها عن الوضوء جمهور الأصحاب، كالصدوق و الشيخين و بني زهرة و حمزة و إدريس و سلار و الفاضلين و الشهيدين و الكركي و غيرهم، و نسبه في المعتبر و كشف اللثام للأكثر، و في الروض و المدارك و المفاتيح و الحدائق و محكي المختلف للمشهور، و في السرائر للمحققين المحصلين الأكثرين من أصحابنا، و عن الذكري أنه المشهور شهرة كادت تكون إجماعا، و عدّه الصدوق في الأمالي من دين الإمامية.

خلافا لما حكاه في المبسوط و السرائر عن بعض أصحابنا، و هو المحكي عن المرتضي و ابن الجنيد، و قد يستفاد من الكليني حيث ذكر الطائفتين من النصوص بضميمة ما ذكره في ديباجة الكافي من أنه مع تعارض النصوص فالتخيير عند عدم المرجح، و جري علي ذلك جماعة من متأخري المتأخرين، كأصحاب المدارك و المفاتيح و الوسائل و الحدائق و حكي عن جماعة غيرهم.

و قد يستدل علي الأول بأمور:

الأول: الإجماع

المستفاد مما تقدم من الأمالي مؤيدا بالشهرة المذكورة، قال في الجواهر: «و فيها من لا يعمل إلا بالقطعيات و ما هو كمتون الأخبار، كالنهاية و الفقيه و الهداية. و هو المنقول عن والد الصدوق أيضا. مع أنه علله في الفقيه و الهداية مما [بما. ظ] ينبئ عن ذلك، حيث قال في الأول: … لأن الغسل سنة، و الوضوء فرض، و لا تجزئ سنة عن فرض. و نحوه في الهداية، كالمنقول عن فقه مولانا الرضا عليه السلام مع زيادة تأكيد لعدم الإجزاء».

لكن كلام الأمالي غير ظاهر في الإجماع، بل ملاحظة تمامه تشهد بأن مراده بيان ما هو من دين الإمامية بنظره الشريف، و ما في صدر كلامه من ذكر الإقرار في بيان الدين

ص: 82

______________________________

الظاهر في كون المقرّ به ضروريا من دينهم لا بد من حمله علي خصوص أصول الدين أو مع الفرائض التي صدر بها الكلام، دون خصوصياتها و فروعها التي فرعها بعد ذلك و التي لا ريب في عدم توقف الدين علي الإقرار بها، و عدم بلوغها مرتبة الضرورة.

و أما الشهرة فهي لا تصلح لتأييد الإجماع مع الاطلاع علي الخلاف. و اشتمالها علي من لا يعمل إلا بالقطعيات- لو تم- و من يفتي بمتون الأخبار إنما يكشف عن وجود نص في المسألة، و ليس هو موردا للإشكال، لا عن كون الحكم إجماعيا قطعيا.

و كذا ما أشير إليه في الفقيه و الهداية من أنه لا تجزي سنة عن فريضة لو أريد به الإشارة إلي مضمون نص لا مجرد قضية اجتهادية.

علي أنه لا يناسب ما تقدم من التداخل في جميع الأغسال التي فيها السنة. بل لو تم فالاستدلال به لا يناسب ما في الأمالي و الهداية من أن غسل الحيض فريضة كغسل الجنابة، الذي هو مقتضي ذكره في الكتاب المجيد في آية اعتزال النساء في المحيض، و ما في معتبرة الفضل بن شاذان «1» المتقدمة في كيفية غسل الحيض.

نعم، قد لا يناسب ذلك ما في خبر سعد بن أبي خلف: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: الغسل في أربعة عشر موطنا واحد فريضة و الباقي سنة» «2». إلا أن يكون عدم شرحه للأغسال المذكورة مانعا من دلالته علي عدم كون غسل الحيض فريضة.

و كيف كان، فلا مجال في المقام لدعوي الإجماع، بحيث يكون الحكم قطعيا، بل هو تابع للاستفادة النظرية و الاجتهاد في مفاد النصوص، و لذا جعله في موضع من المبسوط الأظهر من الروايات الأحوط، مع الاعتراف فيه و في غيره بالخلاف فيه.

الثاني: إطلاق ما دل علي سببية أسباب الحدث الأصغر للوضوء

بضميمة عدم الفصل بين ما لو قارن سبب الغسل أحدها و ما لو لم يقارنه.

و فيه: أنه ليس بأولي من الاستدلال علي إجزاء الغسل عن الوضوء بظهور

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب الحيض حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 11.

ص: 83

______________________________

نصوص أغسال الأحداث الكبري في كونها رافعة لتلك الأحداث بتمامها و موجبة للطهارة التامة منها من دون حاجة للوضوء، إذ بضميمة عدم الفصل المذكور يستفاد عدم الحاجة للوضوء فيما لو حصل سبب الحدث الأصغر.

بل الثاني هو الأولي، لأن المستفاد من مجموع الأدلة- و لو بضميمة عدم الفصل المذكور- أن أسباب الحدث الأكبر نواقض للوضوء، أو حيث كانت النواقض تتداخل في الرافع، فإجزاء الغسل عن الوضوء- كما هو ظاهر نصوص أغسال الأحداث الكبري بالبيان المتقدم- ليس لعدم كون سبب الحدث الأصغر موجبا للوضوء، لينافي إطلاق دليل سببيته له، بل لقيام الغسل مقام الوضوء في رافعيته للحدث المسبب عنه. فلاحظ.

الثالث: النصوص الخاصة،

ففي صحيح ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: كل غسل قبله وضوء إلا غسل الجنابة» «1» و في صحيحه الآخر عن حماد أو غيره عنه عليه السلام: «في كل غسل وضوء إلا الجنابة» «2» و يعضدهما خبر علي بن يقطين عن أبي الحسن الأول عليه السلام: «قال: إذا أردت أن تغتسل للجمعة فتوضأ [ثم. يب] و اغتسل» «3».

و لا يقدح في الأولين الإرسال بعد كون المرسل لهما ابن عمير- علي ما تقدم في مبحث تحديد الكر بالوزن- و لا سيما مع ظهور اعتماد الأصحاب عليهما. بل عن المختلف و الذكري رواية الثاني عن حماد بعينه، فيكون من الصحيح المصطلح، و إن كان الظاهر أنه و هم منهما، لما ذكره غير واحد من أن الموجود في كتب الأخبار ما تقدم، كما هو الحال فيما في التهذيب. فالعمدة ما ذكرنا.

القول الثاني إجزاء الغسل عن الوضوء
اشارة

لكنها معارضة بجملة من النصوص كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «قال: الغسل يجزي عن الوضوء، و أي وضوء أطهر من الغسل؟!» «4».

و لا مجال لحمل اللام فيه علي العهد فيراد منه غسل الجنابة، لعدم تقدمه في الكلام.

كما لا مجال لما في المنتهي من عدم دلالة اللام علي الاستغراق. لأنها لو لم تدل

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 35 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 84

______________________________

عليه وضعا فهي تدل عليه إطلاقا بعد عدم العهد. و لا سيما مع مناسبة التعليل فيه للعموم، لأن ارتكازيته تقتضي عدم الفرق فيه بين الأغسال.

و منه يظهر الاستدلال بصحيح حكم بن حكيم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن غسل الجنابة … قلت: إن الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة، فضحك و قال:

و أي وضوء أنقي من الغسل و أبلغ؟!» «1».

و أصرح منهما في العموم موثق عمار: «سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الرجل إذا اغتسل من جنابته أو يوم جمعة أو يوم عيد هل عليه الوضوء قبل ذلك أو بعده؟ فقال:

لا ليس عليه قبل و لا بعد، قد أجزأه الغسل، و المرأة مثل ذلك إذا اغتسلت من حيض أو غير ذلك فليس عليها الوضوء لا قبل و لا بعد، قد أجزأها الغسل» «2»، و في مرسل حماد عنه عليه السلام: «في الرجل يغتسل للجمعة أو غير ذلك أ يجزيه من الوضوء؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: و أي وضوء أطهر من الغسل؟!» «3»، و في مكاتبة الهمداني إلي أبي الحسن الثالث عليه السلام يسأله عن الوضوء للصلاة في غسل الجمعة «فكتب: لا وضوء للصلاة في غسل يوم الجمعة و لا غيره» «4»، و في مرسلة الكليني: «و روي أنه ليس شي ء من الغسل فيه وضوء إلا غسل يوم الجمعة، فإن قبله وضوء» «5».

و يدل علي ذلك أيضا نصوص الأغسال من الأحداث، لما أشرنا إليه في الوجه الثاني من ظهورها في إزالتها لتمام آثار أسبابها، و لا سيما مع تعقيبها بالصلاة في مثل قوله عليه السلام في صحيحة الصحاف: «فإن انقطع الدم عنها قبل ذلك فلتغتسل و لتصل» «6»، و في مرسلة يونس الطويلة: «و إذا أدبرت فاغتسلي و صلي … و إذا رأيت الطهر و لو ساعة من نهار فاغتسلي وصلي … » «7»، و في مرسلته الأخري: «و إن انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت وصلت … فإذا حاضت المرأة و كان حيضها

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 2.

(5) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 7.

(6) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 3.

(7) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 85

______________________________

خمسة أيام ثم انقطع الدم اغتسلت وصلت» «1»، و غيرها.

و أظهر منها جملة من نصوص المستحاضة المتضمنة لذكر الوضوء في بعض الفروض و الاقتصار علي الغسل في مورد الحاجة إليه، لأن إهمال الوضوء مع الغسل مع ذكره منفردا كالصريح في عدم الحاجة له مع الغسل في إزالة أثر السبب الموجب له. غاية الأمر أن هذه الطائفة لا تنهض ببيان الاكتفاء بالغسل في فرض تحقق سبب الحدث الأصغر، لعدم النظر فيها إليه، فلا بد من تتميمه بعدم الفصل، كما تقدم في الوجه الثاني.

نعم، قد لا يحتاج للمتمم المذكور في معتبرة أبي عبيدة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة الحائض تري الطهر و هي في السفر و ليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها و قد حضرت الصلاة. قال: إذا كان معها بقدر ما تغسل فرجها فتغسله ثم تتيمم و تصلي … » «2»، لوضوح عدم انفكاك الحائض في مدة حيضها عن سبب الحدث الأصغر فعدم التعرض فيه للوضوء مع وجدان ما يكفي له من الماء و لتكرار التيمم مع فقده كالصريح في كفاية التيمم الواحد لرفع أثري الحيض و سبب الحدث الأصغر معا. و ربما ظهر بسبر النصوص ألسنة أخر تناسب ذلك. و بما ذكرنا يتضح أنه لا مجال لطعن هذه النصوص بضعف السند، لاعتبار سند كثير منها.

نعم، ردها في الجواهر بإعراض الأصحاب عنها، فإن النصوص كلما كثرت و صحت و صرحت و كانت بمرأي من الأصحاب و مسمع كان إعراضهم عنها أدعي لطرحها و عدم الركون إليها.

لكن لم يتضح كون بناء المشهور علي وجوب الوضوء لإعراضهم عن هذه النصوص و هجرها باطلاعهم علي خلل مانع من الاعتماد عليها، بل لعله للجمع بينها و بين النصوص الأول بما يقتضي ذلك أو لترجيح تلك النصوص عليها بموافقتها للاحتياط أو بغير ذلك، كما هو مقتضي تعرض القدماء و المتأخرين للخلاف و لوجه

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 21 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 86

______________________________

الترجيح أو الجمع بين النصوص من دون إشارة إلي ما يوهن هذه النصوص في نفسها من شذوذ أو نحوه.

و هو المناسب لما تقدم من المبسوط من أن عدم الإجزاء هو الأظهر من الروايات و الأحوط، و من السرائر من نسبته للمحققين المحصلين المشعر بكونه مقتضي التحقيق و التحصيل بنظره لا مقتضي المفروغية و التسالم. و من هنا لا مجال لدعوي و هن هذه النصوص بالهجر، بل لا بد من النظر في وجه الجمع بينها و بين النصوص السابقة.

و قد حاول غير واحد ممن ذهب لعدم إجزاء الغسل عن الوضوء حمل هذه النصوص علي ما لا ينافي ذلك، إما لأنه خير من الطرح، أو لأنه مقتضي الجمع العرفي و لو بقصر النظر علي بعضها دون بعض. فحملها في التهذيب و الاستبصار علي ما إذا اجتمعت هذه الأغسال مع غسل الجنابة.

لكنه- كما تري- بعيد جدا مخالف لما هو كالمقطوع به منها من خصوصية هذه الأغسال في الإجزاء، و لا سيما بملاحظة التعليل المتقدم في جملة منها و غيره مما يظهر بالتأمل فيها.

و أضعف منه ما في المنتهي من إمكان حملها علي بيان كمال الأغسال المذكورة فيما شرعت له من دون حاجة للوضوء، و إنما يحتاج للوضوء لأجل الصلاة، فبغسل الحيض مثلا يرتفع حدثه و تبقي المرأة كغيرها من المكلفين إذا أرادت الصلاة يجب عليها الوضوء. لاندفاعه بأنه تكلف لا مجال لحمل النصوص عليه، لعدم مناسبته للتعليل و لا لظهور ترتب الصلاة علي الغسل في جملة منها و لا لظهور رافعية الغسل لتمام الحدث الحاصل بأسباب الحدث الأكبر، كما تقدم. علي أنه أشبه بالجمع التبرعي.

و أما ما في المعتبر من حملها علي خصوص غسل الجنابة، فهو مخالف لصريح بعضها و للتعليل في آخر. و ما في الجواهر من تأييده بظهور بعض النصوص في أنه هو الذي وقع الخلاف فيه بيننا و بين العامة. كما تري لعدم صلوح ذلك للتأييد بعد عدم ظهور تلك النصوص في انحصار الخلاف بيننا و بينهم فيه، و عدم القرينة علي

ص: 87

______________________________

اختصاص الإجزاء عن الوضوء بمورد الخلاف المذكور.

نعم، قد يتوجه جعل نصوص عدم الإجزاء قرينة علي حمل الطائفة الأخيرة من نصوص الإجزاء- و هي نصوص الأغسال الظاهرة في رافعيتها لتمام أثر الحدث- علي مجرد لزوم الغسل و إن لم يكن رافعا لتمام أثر سببه. و إن كان ذلك قد لا يناسب كثرة النصوص المذكورة، حيث يبعد جدا إهمال التنبيه علي الوضوء فيها لو كان واجبا. بل لعله لا يمكن في معتبرة أبي عبيدة المتقدمة.

و لعله لضعف هذه التوجيهات و غيرها مما أجيب به عن هذه النصوص اعتمد عليها من ذهب إلي إجزاء الغسل عن الوضوء و هو في محله بعد حجيتها في نفسها و قوة دلالتها. و لا سيما مع ظهور تعليل الإمام عليه السلام الحكم في اهتمامه بإثبات مضمونه و دفع الشبه عنه، بنحو قد يكشف عن خلل إجمالي في النصوص الظاهرة في وجوب الوضوء.

و قد ذكر غير واحد أن تلك النصوص محمولة علي الاستحباب جمعا مع نصوص الإجزاء، كما هو المتبع في أمثال المقام مما تضمن بعض أدلته تشريع الفعل بنحو يظهر في وجوبه مع تصريح بعضها بعدم وجوبه، بل لعله في المقام أظهر، و بوجه أبعد عن التنافي بين النصوص.

و توضيح ذلك أن تشريع الوضوء مع الغسل..

تارة: لكونه مستقلا بأثره في قبال الغسل، بحيث لو كان واجبا لكان هو الرافع للحدث الأصغر، و إن كان مستحبا لزم معه تأكد الطهارة كما يلزم مع الوضوء التجديدي.

و أخري: لكونه من شئون الغسل و لواحقه، بحيث لو كان واجبا لكان شرطا فيه، و لو كان مستحبا كان من آدابه الموجبة لكماله، كالمضمضة و الاستنشاق، مع انفراد الغسل بالتأثير، و إن كان الظاهر المفروغية عن أن تشريعه بهذا الوجه يكون بنحو الاستحباب، و أن وجوبه يبتني علي الوجه الأول.

هذا، و الظاهر أن الثاني هو الأنسب بمجموع الأدلة، أما نصوص الإجزاء

ص: 88

______________________________

فلأنها ظاهرة في قيام الغسل بأثره المعهود و هو رفع الحدث الأصغر بنحو يغني عنه فيه، و لا تنافي مشروعيته علي أنه من آدابه الموجبة لكماله.

و أما نصوص مشروعية الوضوء فلأن رواية ابن أبي عمير الثانية قد تضمنت مشروعية الوضوء في الغسل، لا معه، و هو يناسب كونه من لواحقه المعدودة كالجزء منه، كما هو المناسب لما في روايته الأولي- و هو المنصرف من خبر ابن يقطين- من الأمر به قبله و لما تضمنته جملة من أن الوضوء بعد الغسل بدعة، كموثق سليمان بن خالد أو صحيحه عن أبي جعفر عليه السلام: «قال: الوضوء بعد الغسل بدعة» «1» و غيره، فإنه لو كان مستقلا بأثره- واجبا أو مستحبا- لم يظهر وجه تقديمه، بل قد يكون الأنسب تأخيره، لما هو المتعارف من إزالة الأقوي قبل الأضعف، و لأن تقديم الوضوء معرض له للانتقاض قبل ترتب غايته من الصلاة و غيرها، و لا سيما مع كثرة إيقاع الغسل قبل الوقت، فتقديمه يناسب كونه من شئون الغسل كسائر مقدماته، التي لا موضوع لها بعده، بل تكون بدعة، كما لا موضوع لها مع الانتقال للتيمم بدلا عن الغسل.

نعم، قد ينافي الوجه المذكور صحيح حكيم المتقدم، لتضمنه استنكار ما يقوله الناس من لزوم الوضوء قبل غسل الجنابة و تعليله بما يناسب الإجزاء، لا عدم كونه من مقدمات الغسل، و مكاتبة الهمداني النافية للوضوء في جميع الأغسال، لا معها، و كذا مرسلة الكليني المثبتة له قبل غسل الجمعة و النافية له في غيره، لا معه، و مرسلة محمد بن أحمد: «ان الوضوء قبل الغسل و بعده بدعة» «2».

اللهم إلا أن يدفع ما ذكره في الصحيح بأنه عدم مناسبة لزوم كون الوضوء قبل الغسل لكونه واجبا في قباله لا ينافي جري العامة علي ذلك، فاحتيج لردعهم بالتعليل المناسب للإجزاء.

و في المكاتبة بأن حرف الجر و إن كان مناسبا لكون الوضوء من آداب الغسل لا في قباله، إلا أن قوله: «للصلاة» ظاهر في بيان غاية الوضوء لا نوعه، و هو يناسب

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 32 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 89

______________________________

نفي شرطيته للصلاة في قبال الغسل، لا نفي مشروعيته لتكميله.

كما أن مرسلة الكليني- مع أنها قد تضمنت التفصيل بوجه لا قائل به- لا يبعد كونها منقولة بالمعني، و قد غفل فيها عن الفرق بين مفاد (في) و مفاد (مع). و أما مرسلة محمد بن أحمد فمن القريب كون الواو فيها عاطفة بين جملتين، لا بين الظرفين، فهي لا تدل علي عدم مشروعية الوضوء لا قبل الغسل و لا بعده، بل علي مشروعيته قبله و عدم مشروعيته بعده، فتناسب الجمع المذكور.

علي أن ضعف المكاتبة و المرسلتين مانع من التعويل عليها في الخروج عما ذكرناه إذا اقتضاه الجمع بين النصوص.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في أن مقتضي الجمع العرفي بين الطائفتين هو البناء علي الاستحباب بأحد الوجهين المتقدمين، و إن كان الثاني هو الأظهر بالنظر لمجموع النصوص.

و بذلك لا تصل النوبة للترجيح بين الطائفتين، ليكون مع نصوص الإجزاء بسبب مخالفتها للعامة، لما في الحدائق من أن الظاهر أنه لا خلاف بينهم في وجوب الوضوء. علي أنه لو سلم استحكام التعارض و وصول النوبة للترجيح فلم يتضح تحقق المرجح المذكور، لأن ظاهر المنقول عنهم عدم الفرق بين غسل الجنابة و غيره في حكم الوضوء و أن غسل الحيض مشارك له فيه، فتكون نصوص التفصيل مخالفة لهم أيضا.

و مثله ترجيح نصوص الإجزاء بالشهرة بسبب كثرة عددها. للإشكال في كفاية ذلك في الترجيح، بل الظاهر الاقتصار فيه علي ترجيح المشهور علي الشاذ النادر، و لم يتضح كون نصوص وجوب الوضوء من الشاذ النادر.

و نظير ذلك في الضعف دعوي: أن الترجيح لنصوص وجوب الوضوء، إما لشهرة مضمونها بين الأصحاب، بل كاد يكون إجماعا- كما عن الذكري- أو لموافقتها للكتاب، لأن مقتضي إطلاق آية الوضوء وجوبه بحصول سببه و لو مع حصول سبب غسل غير الجنابة أيضا.

ص: 90

______________________________

لاندفاعها بعدم كون الشهرة الفتوائية من المرجحات، و عدم ثبوت الإطلاق في الآية الشريفة بعد معلومية عدم كون الموضوع هو القيام إلي الصلاة، بل ذكره فيها مبني علي المفروغية عن تحقق الموضوع، و هو الحدث الأصغر من دون إطلاق له يشمل فرض مقارنته للحدث الأكبر.

بل بناء علي أن المراد القيام من النوم فمقتضي التفصيل فيها بين صورتي الجنابة و عدمها بلزوم الغسل في الأولي و الوضوء في الثانية كون المفروض مع عدم الجنابة انفراد حدث النوم و عدم مصاحبته لما يوجب الغسل، فيقصر عن المقام.

و بعبارة أخري: لما كان ظاهر الآية الشريفة بيان تمام الوظيفة في صورتي القيام من النوم كانت قاصرة عن صورة اجتماع غير الجنابة من الأحداث الكبري مع النوم.

و لا مجال لدعوي: أن خروجه عن إطلاقها إنما هو في انحصار الوظيفة بالوضوء، لا في أصل وجوبه و لو مع الغسل. لبعد التفكيك المذكور، و لا سيما مع ذكر الغسل في الجنب، حيث يبعد إهماله في غير الجنب لو كان الإطلاق شاملا لمورد لزومه. فلاحظ.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

بقي في المقام أمر، و هو أنه هل يجب تقديم الوضوء علي الغسل أو يجوز تأخيره عنه؟

وجهان صرح بالأول في الغنية، كما هو ظاهر الفقيه و الهداية و المقنعة و النهاية و المراسم و ما عن الصدوق الأول و الحلبيين و الوحيد في شرح المفاتيح، و عن الذكري أنه الأشهر. و صرح بالثاني في النهاية و موضع من المبسوط و الوسيلة و السرائر و جملة من كتب الفاضلين و الشهيدين و جامع المقاصد و غيرها، و قد يظهر من إطلاق بعضهم و في الحدائق أنه المشهور، كما قد يظهر من المعتبر نسبته للأكثر، بل في السرائر بعد أن حكي عن بعض كتب أصحابنا ما ظاهره وجوب التقديم: «فإن أراد يجب تقديم الوضوء علي الغسل فغير صحيح بغير خلاف».

نعم، صرح باستحباب تقديمه في النهاية و اللمعة. و لعله إليه يرجع ما في

ص: 91

______________________________

موضع آخر من المبسوط من قوله: «و يلزمها تقديم الوضوء، ليسوغ لها استباحة الصلاة … فإن لم تتوض قبله فلا بد منه بعده»، و إلا فمن البعيد إرادته الوجوب التكليفي، بل هو لا يناسب جعل غايته تسويغ الصلاة، و لا معني لإرادة الوجوب الشرطي مع الصحة لو خولف.

و كيف كان، فيشهد بالأول رواية ابن أبي عمير الأولي، من دون فرق بين مباينتها للثانية- كما هو مقتضي الأصل- و اتحادهما مع الاختلاف بينهما في المعني، لأن الفرق بينهما عرفا ليس بنحو التباين ليسقطا معا عن الحجية، بل بالإجمال و التفصيل، و معه يكون العمل علي التفصيل الذي تضمنته الأولي.

و لا سيما مع قرب إشعار التعبير ب «في» في الثانية في كون الوضوء من شئون الغسل المناسبة لتقديمه و مع اعتضاده بخبر ابن يقطين، لأن ظاهر الأمر بشي ء عند إرادة آخر تقديمه عليه. هذا لو كان العطف فيه بالواو و لو كان ب (ثم) فالأمر أظهر.

مضافا إلي ما تضمن أن الوضوء بعد الغسل بدعة. و دعوي: أنه معارض بإطلاق ما تضمن وجوب الوضوء مع غسل غير الجنابة المقتضي لجواز تأخيره عن الغسل، و كما يمكن حمل الإطلاق المذكور علي الوضوء قبل الغسل لأجل هذه النصوص يمكن حمل هذه النصوص علي غسل الجنابة لأجل الإطلاق المذكور، و بعد تساقطهما يكون المرجع إطلاق ما تضمن سببية أسباب كل من الحدث الأكبر و الأصغر للغسل و الوضوء المقتضي لعدم الترتيب بينهما عند الاجتماع، و يبني علي ذلك في صورة انفراد سبب الحدث الأكبر، لعدم الفصل المشار إليه آنفا.

مدفوعة- بعد تسليم حجية عدم الفصل في المقام-.. أولا: بانحصار دليل الإطلاق المذكور برواية ابن أبي عمير، و هي إن بني علي مباينتها للأولي لزم تقييدها بها و إن بني علي اتحادهما و أنهما رواية مضطربة سقطتا معا عن الحجية، و علي كلا الحالين لا يبقي إطلاق ينهض بمعارضة إطلاق ما تضمن بدعية الوضوء.

و ثانيا: بأنه لا ينبغي التأمل في تقديم ما تضمن بدعية الوضوء علي الإطلاق

ص: 92

______________________________

المذكور، لأن الأول أقوي في العموم لغسل غير الجنابة الذي هو الأكثر من الثاني في العموم من حيثية محل الوضوء، فيحمل الثاني علي أصل تشريع الوضوء من دون نظر لمحله، و لا سيما بناء علي عدم مشروعية الوضوء مع غسل الجنابة حتي قبله، حيث يلزم من حمل ما تضمن بدعية الوضوء علي غسل الجنابة إلغاء خصوصية البعدية في البدعية.

و دعوي: أن بناء المشهور علي جواز تأخير الوضوء، بل نفي الخلاف فيه في السرائر مانع من التعويل علي ما دل علي المنع منه و علي وجوب التقديم و ملزم بحمله علي بيان مجرد لزوم الوضوء مع الغسل أو أفضلية التقديم.

مدفوعة بأن الشهرة المتقدمة ليست بحد يخرج بها عن ظاهر النصوص، بل عن صريح نصوص بدعية الوضوء بعد الغسل. و حملها علي البدعية مع قصد وجوب التأخير لا مطلقا تكلف لا مجال له، و لا سيما مع ظهور الخلاف ممن تقدم. و مع قرب أن يكون منشأ ذهاب المشهور لذلك بناؤهم علي استقلال الوضوء بأثره في قبال الغسل، بضميمة ما أشرنا إليه آنفا من استبعاد خصوصية التقديم مع ذلك، مع أن الاستبعاد المذكور لو تم لا يكون قرينة علي رفع اليد عن دلالة النصوص علي لزوم التقديم، بل علي ما ذكرناه من كون الوضوء من مقدمات الغسل من دون أن يستقل بالأثر، و يكون ملزما بالبناء علي استحباب الوضوء.

و أما الاستدلال علي جواز التأخير بالرضوي: «و إذا اغتسلت لغير جنابة فابدأ بالوضوء ثم اغتسل، و لا يجزيك الغسل عن الوضوء، فإن اغتسلت و نسيت الوضوء فتوضأ و أعد الصلاة» «1» بضميمة ما في الجواهر من القطع بعدم خصوصية النسيان.

فلا مجال له بعد ما تكرر من عدم بلوغه مرتبة الحجية. و مجرد موافقة المشهور له- لو تم- لا يكفي في جبره مع عدم ظهور اعتمادهم عليه، كما تكرر في نظائر المقام. و بالجملة:

بناؤهم علي جواز تأخير الوضوء لا يناسب اعتمادهم علي النصوص المتقدمة في أصل وجوبه، و هو كاشف عن اضطرابهم في مفاد نصوص المقام.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 25 من أبواب أحكام الجنابة حديث: 1.

ص: 93

______________________________

ثم إن ظاهر النصوص كون تقديم الوضوء شرطا في ترتب الأثر، فلا يصح الغسل بدونه، و هو ظاهر من تقدم عدا الوحيد فحكم بوجوبه تكليفا مع عدم الشرطية. و لعله لما في الرياض عن بعض مشايخه من نفي الخلاف في عدم الشرطية و لذا جعله المتعين في الرياض علي القول بالوجوب. و لم يتضح وجهه بعد ظهور النص و الفتوي في الشرطية.

نعم، إنما يظهر أثر الفرق في تقديم الغسل نسيانا، و إلا فمع تقديمه عمدا يبطل علي القول بوجوب تقديم الوضوء تكليفا، لتعذر التقرب به، لكونه مفوتا للواجب، فلا وجه لما في الرياض من أنه لو أثم بالتأخير عمدا- علي القول بالوجوب- صح غسله و وجب عليه الوضوء.

هذا، و بناء علي جواز تأخير الوضوء فقد اقتصر أكثر من قال بذلك علي التخيير بينه و بين التقديم منهم العلامة في القواعد، و في جامع المقاصد: «و قد يفهم من عبارة المصنف عدم جواز تخلل الوضوء الغسل. و ليس بمراد». و كأنه لأن دليل جواز تأخير الوضوء لما كان هو الإطلاق فهو يقتضي جواز إيقاعه في أثنائه- كما يقتضي جواز إيقاع الغسل في أثناء الوضوء، و إيقاع بعض كل منهما في أثناء الآخر- و معه لا وجه للمنع منه.

بل قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «بل لعله أولي من التأخير، لسلامته من شبهة البدعة. بل لعله أولي من التقديم أيضا، لمخالفته لمرسل نوادر الحكمة و الوضوء قبل الغسل و بعده بدعة» «1».

لكن ما ذكره أخيرا مبني علي كون العطف في المرسل بين الظرفين، و قد تقدم في ذيل الكلام في الجمع بين النصوص قرب أن يكون بين جملتين. مضافا إلي أنه لو تم فالمستفاد منه عدم مشروعية الوضوء مع الغسل مطلقا، لا في خصوص تقديمه و تأخيره. بل حمل دليل مشروعية الوضوء مع الغسل علي الإتيان بأحدهما في أثناء الآخر مقطوع بعدمه. علي أن لا ريب في أن مراعاة لزوم التقديم للنصوص المتقدمة

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 5.

ص: 94

(مسألة 20): يجب عليها قضاء ما فاتها من الصوم في رمضان (1) دون غيره (2)،

______________________________

أولي من مراعاة عدم جوازه للمرسل المذكور.

ثم إنه تقدم في مبحث تداخل الأغسال و عدم وجوب الوضوء لو كان في أحدها جنابة أن لزوم الوضوء لو تم ليس بنحو يتوقف عليه ترتب الأثر علي الغسل، فلو انفرد الغسل- بناء علي جواز تأخير الوضوء عنه- كان رافعا للحدث الأكبر، و جاز ترتيب آثار الطهارة منه، كالمكث في المسجد و غيره، و به صرح بعضهم. فراجع و تأمل جيدا و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

مسألة 20: يجب عليها قضاء ما فاتها من الصوم في رمضان دون غيره
اشارة

(1) بلا إشكال، ففي صحيح زرارة: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن قضاء الحائض الصلاة ثم تقضي الصيام. قال: ليس عليها أن تقضي الصلاة، و عليها أن تقضي صوم شهر رمضان … » «1».

و هو المتيقن من معقد الإجماع علي وجوب قضاء الصوم المدعي في السرائر و التذكرة و الروض و المدارك و كشف اللثام و محكي نهاية الأحكام و الذكري، و ظاهر الأولين أنه إجماعي بين المسلمين، كصريح المعتبر و المنتهي مستثنيا فيه الخوارج. و في الجواهر: «إجماعا محصلا و منقولا مستفيضا … بل كاد يكون ضروريا».

و النصوص به مستفيضة، بل قيل: انها متواترة «2»، و يأتي بعضها، و ظاهر جملة منها كجملة من كلماتهم المفروغية عنه.

(2) يعني: من أفراد الصوم الموقت كصوم من نام عن صلاة العشاء لو قيل بوجوبه. و لا يخفي أن مقتضي إطلاق معقد الإجماعات المتقدمة عدم الفرق بين صوم رمضان و غيره، كما هو مقتضي إطلاق غير واحد من النصوص كصحيح الحسن [الحسين. خ ل] بن راشد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الحائض تقضي الصلاة؟ قال:

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) راجع الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض.

ص: 95

______________________________

لا، قلت: تقضي الصوم؟ قال: نعم. قلت: من أين جاء هذا؟ قال: إن أول من قاس إبليس … » «1».

و الانصراف إلي صوم رمضان بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق.

كاختصاص بعض النصوص- كالصحيح المتقدم- بصوم شهر رمضان، لعدم منافاته للإطلاق بعد كونهما مثبتين.

كما لا ينافيه ما تضمن تعليل الفرق بين الصوم و الصلاة بأن الصوم إنما هو في السنة شهر، و الصلاة في كل يوم و ليلة «2». لأن التعليل و إن اختص بصوم رمضان، إلا أن ظاهر النص كونه حكمة لا علة يدور الحكم مدارها وجودا و عدما.

علي أن الظاهر إلغاء خصوصية الشهر في التعليل، و أن المعيار فيه عدم استمرار الصوم في مقابل الصلاة التي تجب كل يوم، لأنه الأنسب بارتكازية التعليل و بما في معتبرة الفضل بن شاذان من تعليل الفرق بين الصلاة و الصوم بقوله عليه السلام: «و منها:

أنه ليس من وقت يجي ء إلا تجب عليها فيه صلاة جديدة في يومها و ليلتها، و ليس الصوم كذلك، لأنه ليس كلما حدث عليها يوم وجب الصوم، و كلما حدث وقت الصلاة وجبت عليها الصلاة» «3». مضافا إلي عموم التعليل الآتي الذي تضمنته أيضا.

نعم، الظاهر عدم ورود الإطلاق لبيان خصوصية الحيض في وجوب قضاء الصوم الذي يترك بسببه، ليكون مقتضاه وجوب قضاء الصوم و إن لم يثبت من دليل آخر أن من شأنه أن يقضي، بل لبيان عدم خصوصيته في سقوط قضاء الصوم الذي يترك بسببه، كما هو الحال في مسقطيته لقضاء الصلاة.

و من هنا لا ينهض ببيان لزوم قضاء الصوم الذي لم يثبت أن من شأنه أن يقضي، بل لا بد في لزوم قضاء الصوم الذي يترك في الحيض من أن يثبت من الخارج أن من شأنه أن يقضي، و إن لم يكن صوم شهر رمضان. و لا يسعنا استقصاء مفاد أدلة أقسام الصوم الواجب و المستحب من هذه الجهة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض حديث: 12.

(3) الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض حديث: 8.

ص: 96

حتي المنذور في وقت معين علي الأقوي (1). و لا يجب عليها قضاء الصلاة اليومية (2)،

______________________________

(1) أما مع ضيق الوقت فلأن الحيض يكشف عن بطلان النذر، للعجز عن المنذور. و أما مع سعته- كما لو نذرت صوم ثلاثة أيام من العشرة الأولي من الشهر، فلم تبادر للصوم حتي حاضت فيها- فلما ذكرناه آنفا من عدم نهوض إطلاق وجوب قضاء الصوم علي الحائض بوجوبه فيما لم يثبت أن من شأنه أن يقضي.

نعم، لو ثبت أن من شأن صوم النذر المعين أن يقضي مع العجز عن أدائه في الوقت أو بدونه يتجه قضاؤه لو فات بسبب الحيض. و النصوص مختلفة في ذلك، و الكلام فيه موكول لكتابي الصوم و النذر. و منه يظهر أن المنذور في وقت معين ليس أولي بوجوب القضاء من غيره من أفراد الصوم الموقت غير رمضان، كما قد يظهر من المتن.

لا يجب علي الحائض قضاء الصلاة

(2) فإنها المتيقن مما دل علي عدم وجوب قضاء الصلاة علي الحائض من الإجماعات المدعاة و النصوص المتقدمة، فإنه يشارك وجوب قضاء الصوم فيها.

هذا، و في جامع المقاصد: «عدم وجوب قضاء الصلاة الموقتة موضع وفاق بين العلماء، و به تواترت الأخبار».

لكن معاقد الإجماعات و النصوص لم يؤخذ فيها عنوان التوقيت، و إنما يتعين أخذه لتوقف صدق القضاء عليه، مع ما هو المعلوم من أن الحيض لا يسقط ما انشغلت به الذمة، كقضاء الصلاة الفائتة قبل الحيض. كما أن التعميم لكل صلاة موقتة مبني علي التمسك بإطلاق معقد الإجماع و النصوص المذكورة.

و الانصراف إلي اليومية بسبب أنس الذهن بها بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق. كتعليل الفرق بين الصوم و الصلاة بأن الصلاة تجب كل يوم و وقت بخلاف الصوم. لما سبق من أنه ظاهر في بيان الحكمة لا العلة التي يدور الحكم مدارها وجودا و عدما.

علي أنه قد يكون المراد بالتعليل أن وجوب الصلاة عليها كل يوم أو وقت علة

ص: 97

و كذلك المنذورة في وقت معين (1). و يجب عليها قضاء صلاة الآيات

______________________________

لعدم وجوب قضاء كل ما يفوتها من الصلوات، لا خصوص ما يكون من سنخ ما يجب عليها و هو اليومية، فيعمم المقام، كالتعليل في معتبرة الفضل بأن الصلاة فيها عناء و تعب و اشتغال بالأركان، بخلاف الصوم «1».

(1) و في جامع المقاصد لعل الأقرب وجوب القضاء فيه. و لا يبعد كون مراده- كالمتن- ما إذا استغرق الحيض الوقت. و حينئذ يكفي في وجه عدم وجوب القضاء عدم انعقاد النذر بسبب العجز عن المنذور من دون حاجة إلي أدلة المقام. و لو كان هناك عموم بالقضاء في ذلك كان مقتضي إطلاق أدلة المقام نفي القضاء مع الحيض.

و دعوي: أن بين إطلاق القضاء في ذلك لو تم و إطلاق عدم قضاء الحائض الصلاة عموما من وجه.

مدفوعة: بأن ظهور الثاني في خصوصية الحيض في نفي القضاء أقوي من ظهور الأول في خصوصية النذر في وجوب القضاء. و لو سلم عدم الترجيح فبعد تساقط الإطلاقين فمقتضي الأصل البراءة من وجوب القضاء.

و منه يظهر عدم وجوب القضاء لو لم يستغرق الحيض الوقت، كما لو نذرت صلاة ركعتين يوم الجمعة فلم تبادر لهما حتي حاضت فيه. فإنه حتي لو فرض ورود إطلاق يقتضي وجوب القضاء في ذلك، إلا أن مقتضي إطلاق عدم وجوب قضاء الحائض الصلاة عدم وجوب القضاء فيه.

اللهم إلا أن يقال: إطلاق عدم قضاء الحائض الصلاة مختص- كما سيأتي- بما إذا انحصر سبب الفوت بالحيض، و لا يشمل ما لو كان هناك سبب آخر مع إمكان الأداء قبل طروء الحيض أو بعده و من هنا يتعين قصور الإطلاق المذكور عن مفروض الكلام، بل يتعين فيه الرجوع لإطلاق وجوب القضاء لو تم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض حديث: 8.

ص: 98

و صلاة الطواف و نحوها من الصلوات غير الموقتة (1).

______________________________

(1) لما سبق من عدم صدق القضاء حينئذ، فيجب أداؤها بمقتضي إطلاق أدلتها، كما صرح به في ركعتي الطواف في القواعد و الدروس و جامع المقاصد و محكي كشف الالتباس، و عن البيان أن ركعتي الطواف تابعة للطواف. و يقتضيه صحيح زرارة أو موثقة: «سألته عن امرأة طافت بالبيت فحاضت قبل أن تصلي الركعتين.

فقال: ليس عليها إذا طهرت إلا الركعتين» «1» و قريب منه حديث أبي المصباح «2».

نعم، صرح في جامع المقاصد بعدم وجوب قضاء صلاة الآيات، بناء منه علي انها موقتة، ثم قال: «و الظاهر أن الزلزلة لا يجب تداركها، كغيرها، لأنها موقتة» و تحقيق المبني المذكور موكول إلي محله من مبحث صلاة الآيات.

إذا طرأ الحيض أثناء الوقت
اشارة

بقي في المقام أمر أهمله سيدنا المصنف هنا و أشار إليه في مبحث قضاء الصلوات، و هو حكم الصلاة التي تحيض المرأة أو تطهر في أثناء وقتها. و الأنسب التعرض له هنا.

و ينبغي تقديم الكلام فيما تقتضيه القواعد العامة قبل النظر في مقتضي الأدلة الخاصة، فنقول بعد الاستعانة باللّه تعالي:

الظاهر اختصاص ما دل علي قضاء الحائض الصلاة بما إذا انحصر سبب الفوت بالحيض، دون ما إذا شاركه سبب آخر كتأخير الصلاة عن أول الوقت أو غيره، لأن المستفاد منه ابتناء الحكم علي الإرفاق بالحائض لعجزها عن الأداء، دون ما إذا لم تعجز عنه من حيثية الحيض و إن عجزت عنه من حيثية أخري.

و ذلك لو لم يكن هو الظاهر من النصوص بدوا فلا أقل من استفادته منها بضميمة ما تضمن وجوب القضاء و الأداء مع طروء الحيض أو الطهر في أثناء الوقت، حيث يبعد جدا ابتناؤها علي تقييد دليل سقوط القضاء، بل الظاهر عدم منافاتها له، لكون المراد به ما ذكرنا، و لذا تقدم منا ذلك في المنذورة مع سعة الوقت

______________________________

(1) الوسائل باب: 88 من أبواب الطواف حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 88 من أبواب الطواف حديث: 2.

ص: 99

______________________________

و عدم استغراق الحيض له. و عليه يكون المعيار في سقوط القضاء كون الحيض بنحو يمنع من التكليف بالأداء، فلو لم يمنع منه لم يسقط القضاء، و إن لم يكلف بالأداء للعجز من جهة أخري غير الحيض، لعدم مسقطية العجز المذكور.

إذا عرفت هذا، فالظاهر أنه يكفي في عدم مانعية الحيض من التكليف بالأداء أن يتأخر حدوثه عن أول الوقت بقدر أداء الصلاة، أو يرتفع قبل خروج الوقت بقدر أدائها مع الطهارة الحدثية و الخبثية التي لا بد منها بسببه و ما يستلزمه الغسل من التستر للصلاة، دون بقية الشروط، لإمكان تهيئتها حال الحيض، كما يمكن تهيئة جميع الشروط حتي الطهارة في الفرض الاول قبل الوقت.

و لذا لا ينبغي الإشكال في أنها لو علمت بالحال وجب عليها تهيئة الشروط المذكورة بالنحو الذي تتمكن معه من فعل الصلاة، علي ما هو المقرر في جميع المقدمات المفوتة. فتعذر الصلاة لعدم حصول الشروط المذكورة بسبب غفلتها أو لتعذر تهيئتها لا يكون مستندا للحيض، بل لسبب آخر لا يسقط القضاء.

و أما ما في كشف اللثام من خصوصية الطهارة في ذلك، لأن لطهارة لكل صلاة موقتة بوقتها- كما عن الشهيد أيضا- و لأن الصلاة لا تصح بدون الطهارة علي حال، و تصح بدون غيرها من الشروط عند الاضطرار. قال: «نعم، لو أوجبنا التيمم لضيق الوقت عن الطهارة المائية أمكن هنا اعتبار مقدار التيمم و الصلاة». فهو غير ظاهر، لاندفاع الأول بعدم وضوح خصوصية الطهارة في ذلك، بل إن بني علي عدم وجوب تهيئة المقدمات المفوتة قبل الوقت لم يفرق بين الطهارة و غيرها، و إن بني علي وجوبه- كما هو الظاهر- جري في الطهارة أيضا.

و لا ينافيه ما تضمن الأمر بها بدخول الوقت، لأن الظاهر كونه مقدميا، فيلحقه حكم سائر المقدمات. و لعله يأتي في بعض مسائل التيمم ما ينفع في ذلك.

و أما الثاني فلازمه وجوب المبادرة لفاقد الشرط لو علم بضيق الوقت، في المقام و غيره، كما لو بلغ الصبي و قد بقي من الوقت ما لا يسع تحصيل الشروط الاختيارية،

ص: 100

______________________________

و لا يخلو عن إشكال، لأن المتيقن من دليل بدلية الأبدال الاضطرارية ما إذا تم ملاك المبدل الاختياري، فبدلية البدل الاضطراري تختص بمقام الأداء، دون مقام تعلق الملاك، فلا بد في البدلية من عدم كون التعذر رافعا لملاك المبدل الاختياري، كتعذر الطهارة الخبثية لعدم الماء، أما التعذر من جهة الحيض فلم يتضح بقاء ملاك التكليف معه، إذ لا إشكال ظاهرا في عدم وجوب منع الحيض أو تقليله مع عدم الضرر مع وضوح وجوب المحافظة علي القدرة علي التكليف التام الملاك.

نعم، بناء علي ما ذكرنا من وجوب تهيئة الشروط قبل الوقت لا يكون ضيق الوقت عن الشروط الصالحة لأن تهيأ قبله منافيا للقدرة علي الواجب الاختياري، و لا مانعا من تمامية ملاكه، فيتجه الانتقال مع التفريط فيها للبدل الاضطراري.

و كيف كان، فالظاهر الاكتفاء بسعة الوقت للصلاة التامة بنفسها دون شروطها من غير فرق بين الطهارة و غيرها. و حيث ظهر ما تقتضيه القواعد العامة

يقع الكلام فيما ذكره الأصحاب و في نصوص المقام و هو في مسألتين:
المسألة الأولي: إذا طرأ الحيض في أثناء الوقت
اشارة

فقد أطلق في النهاية و الوسيلة وجوب القضاء علي من لم تصل فيه.

و قد يستدل له بصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألته عن المرأة تطمث بعد ما تزول الشمس و لم تصل الظهر هل عليها قضاء تلك الصلاة؟ قال: نعم» «1»، و موثق يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال في امرأة دخل عليها وقت الصلاة و هي طاهر فأخرت الصلاة حتي حاضت. قال: تقضي إذا طهرت» «2».

لكن مقتضي الجمود عليهما و إن كان هو الاكتفاء في وجوب القضاء بمجرد عدم المبادرة للصلاة و لو مع عدم إدراكها بتمامها، إلا أن منصرفهما ما إذا أمكن تحصيل الصلاة بالمبادرة إليها لسعة الوقت.

و لعل ذلك هو مراد النهاية و الوسيلة، و لا سيما مع الحكم فيهما بعدم وجوب

______________________________

(1) الوسائل باب: 48 من أبواب الحيض حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 48 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 101

______________________________

القضاء لو طهرت في أثناء الوقت فتأهبت للغسل و خرج الوقت، إذ لو كان لحدوث الحيض خصوصية في وجوب القضاء علي خلاف الطهر منه كان المناسب التأكيد عليها بعد أن لم تكن ارتكازية. بل الإنصاف أن ذكر التأخير في الموثق موجب لانصرافه إلي ما لو كان عدم الصلاة في الوقت مع القدرة عليها لحصول شروطها أو لسعة الوقت لتحصيلها، و لا يشمل ما لو ضاق الوقت عنها لعدم حصول شروطها.

نعم، لما لم يكن ظاهرا في انحصار وجوب القضاء بذلك، خصوصا مع وقوع التعبير به في كلام السائل، فلا مجال للخروج به عما سبق من القاعدة المعتضد بإطلاق الصحيح من الاكتفاء بمضي وقت أداء الصلاة لا غير، كما احتمله في محكي نهاية الأحكام. و لعله لذا اكتفي في الخلاف و المعتبر بإدراك أربع ركعات بعد الظهر في وجوب قضاء صلاته. و قد يحمل عليه ما تقدم من النهاية و الوسيلة، كما قد يحمل عليه إطلاق التمكن من أداء الصلاة في المبسوط و اللمعة و عن غيرهما.

و قد يحمل علي ما إذا وسعها مع الطهارة، كما اعتبره في الشرائع و التذكرة و المنتهي و القواعد و الدروس و المدارك و محكي التحرير و غيرها. كما ربما يحمل علي ما إذا وسعها مع جميع شروطها المفقودة، لدعوي: توقف التمكن منها علي ذلك مع المنع من خصوصية الطهارة لما سبق. و لذا اعتبر ذلك في جامع المقاصد و المسالك و الروض و محكي الذكري و الموجز و فوائد الشرائع و كشف الالتباس و غيرها. بل قد يظهر من جامع المقاصد تنزيل كلام من اقتصر علي الطهارة علي أنه خرج مخرج المثال، و إن مراد الكل تمام الشروط و كيف كان، فيظهر ضعفه مما تقدم.

نعم، لو كانت الشروط حاصلة في أول الوقت فقد صرح غير واحد منهم بالاكتفاء بقدر الصلاة وحدها. و لا ينبغي التأمل فيه، لفعلية القدرة عليها، و إن كان قد يظهر مما عن نهاية الأحكام من أن ذلك هو الأقرب نوع تردد فيه.

هذا، و المعروف بين الأصحاب عدم وجوب القضاء لو لم يسع الوقت الصلاة بتمامها، كما نسبه إليهم في المدارك، بل ادعي في الخلاف الإجماع عليه. لكن ذهب

ص: 102

______________________________

المرتضي في جملة إلي وجوب القضاء لو اتسع الوقت لأكثرها، و هو المحكي عن الإسكافي، و قد يناسبه ما في الفقيه و المقنع من التعبير بمضمون حديث أبي الورد الآتي. و قد يستدل له بموثق سماعة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن امرأة صلت من الظهر ركعتين ثم أنها طمثت و هي جالسة. فقال: تقوم من مكانها [مسجدها] و لا تقضي الركعتين» «1»، و الصحيح عن أبي الورد: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن المرأة التي تكون في صلاة الظهر و قد صلت ركعتين ثم تري الدم. قال: تقوم من مسجدها و لا تقضي الركعتين، و إن كانت رأت الدم و هي في صلاة المغرب و قد صلت ركعتين فلتقم من مسجدها، فإذا تطهرت فلتقض الركعة التي فاتتها من المغرب» «2»، بحملهما علي ما إذا صلت في أول الوقت.

و يشكل: بأنه لا قرينة علي الحمل المذكور، بل هو بعيد في نفسه بعد كون الفرض المذكور كالنادر. و أبعد منه ما في الاستبصار و المختلف من الجواب بحمل حديث أبي الورد علي ما إذا فرطت في المغرب دون الظهر. قال في المختلف: «و إنما يتم قضاء الركعة بقضاء الباقي، و يكون إطلاق الركعة علي الصلاة مجازا». فإنه كما تري تكلف مخالف للمقطوع به من الحديث.

و من هنا كان الظاهر شمولهما لما إذا اتسع الوقت و أنهما واردان لبيان التفصيل في صحة الصلاة و عدم بطلانها بطروء القاطع لها في الأثناء، الذي تضمنته بعض النصوص فيمن نسي ركعة أو ركعتين «3».

نعم، قد يظهر من الحكم فيهما بعدم قضاء الركعتين من دون تنبيه إلي استئناف الصلاة المفروغية عن عدم وجوبه و حيث عرفت قوة عمومهما لما إذا وسع الوقت تمام الصلاة كانا مخالفين لما تقدم منا و من الأصحاب.

و لعل فتوي الصدوق لأنس ذهنه بعدم بطلان الصلاة بطروّ القاطع في الأثناء،

______________________________

(1) الوسائل باب: 48 من أبواب الحيض حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 48 من أبواب الحيض حديث: 3.

(3) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

ص: 103

______________________________

حيث يظهر منه في الفقيه البناء علي ذلك في السهو، و لبنائه علي عدم وجوب القضاء و لو مع سعة الوقت، حيث أطلق في المقنع أن المرأة إذا طمثت بعد ما تزول الشمس و لم تصل الظهر فليس عليها قضاء تلك الصلاة، حيث يستفاد من مجموع كلامه أنه لا قضاء عليها إن لم تصل أصلا أو صلت ركعتين من الظهر، لأنها بسبب بطلانهما بحكم من لم تصل، بخلاف ما لو صلت ركعتين من المغرب فإنهما لما لم يبطلا بالحيض لا يكون وجوب إتمام الصلاة بالركعة منافيا لعدم وجوب القضاء علي من لم تصل.

نعم، لا يبعد أن يكون مراده من إطلاق عدم وجوب القضاء في فرض عدم صلاتها ما إذا حاضت قبل خروج وقت الظهر الفضيلي لموثق الفضل بن يونس عن أبي الحسن الأول عليه السلام: قال في ذيله: «و إذا رأت المرأة الدم بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة إقدام فلتمسك عن الصلاة، فإذا طهرت من الدم فلتقض صلاة الظهر، لأن وقت الظهر دخل عليها و هي طاهر و خرج عنها وقت الظهر و هي طاهر، فضيعت صلاة الظهر فوجب عليها قضاؤها» «1»، و صحيح أبي عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال في ذيله: «و إذا طهرت في وقت فأخرت الصلاة حتي يدخل وقت صلاة أخري ثم رأت دما كان عليها قضاء تلك الصلاة التي فرطت فيها» «2».

لظهورهما في أن المعيار في القضاء علي تضييع الصلاة في تمام وقتها، و صراحة الأول في أن المراد به الوقت الفضيلي، بل لعله ظاهر الثاني أيضا، فيصلحان قرينة علي حمل حديثي سماعة و أبي الورد علي الصلاة في أثناء الوقت المذكور. و لأجل ذلك كله يحمل إطلاق حديثي ابن الحجاج و يونس علي الحيض بعد خروج الوقت الفضيلي- كما هو غير بعيد عن التعبير بالتأخير في الثاني- أو علي أصل مشروعية القضاء و إن لم يكن واجبا. و بهذا يجمع بين جميع نصوص المسألة بوجه عرفي قريب، كما يخرج عن مقتضي القاعدة المتقدمة.

لكن يشكل التعويل علي النصوص المذكورة بعد ظهور إعراض الأصحاب

______________________________

(1) الوسائل باب: 48 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 48 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 104

______________________________

عنها، لشدة وضوح وجوب القضاء مع القدرة علي الصلاة، كما في كشف اللثام حتي استظهر الإجماع عليه، و نسبه في المدارك للأصحاب بل ظاهر التذكرة و صريح شيخنا الأعظم قدّس سرّه الإجماع عليه. و لا سيما بعد اشتمال حديث أبي الورد علي جواز تفريق الصلاة الذي يصعب البناء عليه جدا و عدم صراحة الأخيرين في سقوط القضاء مع الحيض قبل خروج الوقت الفضيلي، كعدم صراحة كلام الصدوق في العمل بها، فل ا تنهض برفع اليد عما سبق من القاعدة و إطلاق حديثي ابن الحجاج و يونس.

اللهم إلا أن يقال: لا يقدح عدم صراحة النصوص المذكورة بعد قوة ظهورها.

و اشتمال حديث أبي الورد علي التفريق في المغرب لو لم يمكن الالتزام به غير ضائر بعد كون الاستدلال بصدره، و كفاية بقية النصوص في المطلوب. كما أن عدم صراحة كلام الصدوق بالعمل بالنصوص علي الوجه المذكور لا يهم بعد كفاية ظهوره أو إشعاره فيه في عدم إحراز تسالم الأصحاب علي بطلانه، و لا سيما مع ظهور حال الكليني في البناء عليه، حيث اقتصر في باب المرأة تحيض بعد الوقت علي أحاديث أبي الورد و الفضل و أبي عبيدة و لم يذكر حديثي ابن الحجاج و يونس.

مضافا إلي مناسبة الحكم للإرفاق بالمرأة بعد صعوبة الصلاة في أول الوقت الحقيقي و صعوبة تحديد ما يسع الصلاة منه، و عدم كون المرأة مضيعة للصلاة بالتأخير، خصوصا بالإضافة إلي الصلاة الثانية التي لم يدخل وقتها الفضيلي لو فرض تأخر الحيض بمقدار يسع الصلاتين، فإن عدم وجوب قضائها مناسب لاستحباب تأخيرها جدا، و لما يظهر من جملة من نصوص المسألة الآتية من أن المدار فيها علي الوقت الفضيلي، و منها صدر موثق الفضل الذي يظهر من قوله عليه السلام فيه في مقام تقريب الحكم: «و ما طرح اللّه عنها من الصلاة و هي في الدم أكثر» الاهتمام برفع استبعاد الحكم لمخالفته للقاعدة.

كما أن من القريب أن يكون منشأ إعراض من سبق عن ذلك شدة استحكام مفاد القاعدة في أذهانهم و مطابقته للاحتياط. و من هنا يصعب طرح هذه النصوص جدا. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

ص: 105

بقي في المقام أمور..
الأول: بناء علي اعتبار سعة الوقت للطهارة في وجوب القضاء فقد صرح في كشف اللثام بأنه لو كان ضيق الوقت مسوغا للتيمم كفي سعة الوقت له.

______________________________

و يظهر الإشكال فيه مما سبق في بيان مقتضي القاعدة من أن مشروعية الإبدال الاضطرارية فرع تمامية ملاك المبدل الاختياري، و لا مجال له في المقام.

و أما ما في الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الظاهر الإجماع علي خلافه. فلا مجال له بعد خلو كلام جمع عن ذكر الطهارة، و عدم ظهور كلامهم في أنها لو كانت معتبرة لكان المعتبر منها المائية بنحو يستفاد منه الإجماع علي عدم الفصل.

علي أنه لا تعويل علي الإجماع في هذه المسألة و نحوها مما يظهر منهم استفادة حكمه من القاعدة و النصوص. فالعمدة في الإشكال فيه ما ذكرنا.

و منه يظهر الإشكال فيما في جامع المقاصد من البناء علي الاكتفاء بسعة الوقت للتيمم من وظيفتها التيمم لمرض أو نحوه. إذ فيه أن التيمم حيث لا يشرع إلا في ظرف تمامية ملاك الطهارة المائية فلا مجال له في المقام بعد كون الحيض موجبا لتعذر الطهارة المائية في حقها. كما يتضح بذلك أن المعيار في مقدار الصلاة علي الصلاة الاختيارية التامة، دون الاضطرارية. إلا أن تزيد عليها في الوقت فيلزم مراعاة وقتها، إذ مع النقص عنه تتعذر الصلاة بسبب الحيض، فيسقط القضاء.

الثاني: بناء علي ما هو المعروف من وجوب القضاء مع سعة الوقت للصلاة وحدها أو مع شروطها فالمعيار في الصلاة علي أقل المجزي،

كما في التذكرة و جامع المقاصد و محكي نهاية الأحكام و الذكري و غيرها. إذ مع سعة الوقت لها لا يكون الحيض موجبا لتعذر الصلاة فيجب قضاؤها، بمقتضي ما سبق من القاعدة و إطلاق حديثي ابن الحجاج و يونس. و عليه يكفي سعة الوقت للقصر في موارد التخيير بينه و بين التمام، كما ذكره غير واحد.

الثالث: ربما يظهر مما في مبحث الحيض من التذكرة من إناطة القضاء بالقدرة علي الصلاة مع الطهارة

ص: 106

______________________________

و سعة الوقت لها اعتبار القدرة علي الصلاة من غير جهة الوقت أيضا، فلو تعذرت لحبس و نحوه لم يجب القضاء. و يشكل بأن التعذر المذكور لما لم يكن من جهة الحيض فلا دليل علي سقوط القضاء معه.

و من هنا لا يبعد كون مراده بالقدرة ما يساوق سعة الوقت لا أمرا آخر في قباله، و يبتني جمعه معه علي التأكيد، و لذا اقتصر علي سعة الوقت في مبحث المواقيت.

الرابع: لو علمت المرأة بأن الحيض يفجؤها لزمها التعجيل بالصلاة أداء، لتضيق وقتها.

كما أنه بناء علي ما ذكرنا من أن المدار علي سعة الوقت للصلاة وحدها فلو علمت قبل الوقت بضيقه عما زاد عليها وجب عليها تحصيل الشروط قبل الوقت، علي ما سبق. فلو لم تحصلها كانت آثمة و لزمها الانتقال للصلاة الاضطرارية، لأن العجز عن الاختيارية حينئذ لا يستند إلي الحيض، ليكون مانعا من تمامية ملاكها، كما تقدم.

و لو احتملت مفاجأة الحيض فالظاهر لزوم الاحتياط عليها بتعجيل الصلاة، للزوم إحراز الامتثال و فراغ الذمة، حيث لا يفرق فيه ارتكازا بين احتمال حصول الامتثال سابقا و احتمال تجدده لاحقا. و إنما لا يجب التعجيل إذا كان احتمال العجز منافيا لأصالة السلامة، دون مثل المقام، لعدم كون الحيض مرضا. و أولي بذلك ما لو ظهرت أمارات العجز، حيث لا يعول معها حتي علي أصالة السلامة، كما تقدم في مبحث الفور و التراخي.

نعم، لو لم يكن لاحتمال العجز مثير عرفي لم يبعد البناء علي عدم وجوب المبادرة، للسيرة. فتأمل جيدا.

هذا كله بناء علي وجوب القضاء بمجرد سعة الوقت للصلاة وحدها أو مع شروطها، أما بناء علي عدم وجوبه إلا بمضي الوقت الفضيلي فحيث كان مقتضي القاعدة وجوب الأداء، و مع عدمه فالقضاء فدلالة نصوص المقام علي عدم وجوب القضاء مع عدم الأداء لا يستلزم عدم وجوب الأداء، بل يمكن وجوبه واقعا و إن لم يجب القضاء بفوته إرفاقا بالمرأة. فيتعين البناء علي ذلك، عملا بالقاعدة.

ص: 107

______________________________

بل التعبير بالتضييع و التفريط في حديثي الفضل و أبي عبيدة ظاهر في المفروغية عن وجوب الأداء. كما لعله المناسب للأمر بقضاء الركعة من المغرب في حديث أبي الورد، فإنه و إن أمكن أن يكون وجوب إتمام المغرب لمجرد الشروع فيها و إن لم يكن واجبا إلا أن الأنسب تفرعه علي وجوبها بعد اختصاص السقوط بقضاء الصلاة التامة.

بل قد يدعي انصراف نصوص سقوط القضاء إلي صورة عدم التفريط بالأداء، لعدم المنجز لوجوب المبادرة، و قصورها عن صورة تنجزه للعلم بتعجيل الحيض أو مثير لاحتماله، بل يرجع فيها للقاعدة المقتضية لوجوب الاحتياط فتأمل جيدا.

الخامس: قال في العروة الوثقي: «إذا شكت في سعة الوقت و عدمها وجبت المبادرة»

و أقره علي ذلك جملة من المحشين. و قد يوجه بوجوب الاحتياط مع الشك في القدرة. و يشكل بأنه يقصر عما لو كان التعذر رافعا للملاك كما في المقام، لما سبق من رافعية الحيض له.

و أما الاستدلال باستصحاب عدم الحيض بناء علي جريان الاستصحاب في الأمر الاستقبالي، فهو مختص بما إذا كان الشك في مقدار الوقت، دون ما إذا علم مقداره و شك في كفايته للصلاة، لاختصاص الاستصحاب بالشك في الامتداد و الاستمرار، علي ما أوضحناه في مبحث مجهولي التاريخ. و قد نبه لما ذكرنا سيدنا المصنف قدّس سرّه.

السادس: ذكر في مبحث المواقيت من القواعد استحباب القضاء لو قصر الوقت عن الطهارة و الصلاة التامة،

و ذكر في كشف اللثام أنه لم يجده في غيره. و ما في مفتاح الكرامة من نسبته لجامع المقاصد في غير محله، إذ لم يذكره إلا في شرح مراد العلامة.

و كيف كان، فقد يوجه بإطلاق حديثي ابن الحجاج و يونس بعد حملهما علي أصل مشروعية القضاء دون خصوص الوجوب، جمعا بين الأدلة.

و يشكل بأن ذلك قد يتجه لو بني علي العمل بما تضمن عدم القضاء مع الحيض بعد خروج الوقت الفضيلي، كما تقدم احتماله، أما بناء علي عدم العمل به، فإن بني علي عموم الحديثين لما إذا لم يسع الوقت الصلاة لزم البناء علي ظاهرهما، و هو الوجوب،

ص: 108

______________________________

و الخروج به عن القاعدة، كما ذهب إليه في الجملة المرتضي و الإسكافي، و إن بني علي انصرافهما إلي ما تقتضيه القاعدة من سعة الوقت للصلاة لم يبق وجه للاستحباب.

إلا أن يبتني علي قاعدة التسامح في أدلة السنن بناء علي شمولها لفتوي الفقيه، أو يريد الاحتياط الاستحبابي خروجا عن شبهة الخلاف. لكن لازمه الاقتصار فيه علي مورد الخلاف، و هو ما إذا وسع الوقت أكثر الصلاة.

المسألة الثانية: إذا طهرت من الحيض أثناء الوقت فالكلام يقع في أمور.
الأول: إذا لم يسع الوقت الطهارة و ركعة من الصلاة لم يجب عليها الأداء، فضلا عن القضاء،

كما صرح به غير واحد، بل ظاهر التذكرة و المنتهي و جامع المقاصد و كشف اللثام الإجماع عليه. و يقتضه- مضافا إلي النصوص الآتية- القاعدة التي سبق ذكرها.

و ظاهر المعتبر الميل إلي وجوب القضاء إذا أدركت من الوقت بقدر الغسل و الشروع في الصلاة و إن لم تتم ركعة. و الظاهر أنه لا يبتني علي اكتفائه في إدراك الوقت بما دون الركعة، حيث صرح باعتبار الركعة في مبحث المواقيت، فلا وجه لرده بما يظهر من الخلاف و المختلف من الإجماع علي عدم وجوب الأداء مع عدم إدراك الركعة، بل هو مبني- كما يظهر من كلامه- علي استفادته من خصوص نصوص المقام.

و كأنه لإطلاق جملة منها، كموثق عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال:

إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس فلتصل الظهر و العصر، و إن طهرت من آخر الليل فلتصل المغرب و العشاء» «1»، و خبر منصور بن حازم عنه عليه السلام: «إذا طهرت الحائض قبل العصر صلت الظهر و العصر، فإن طهرت في آخر وقت العصر صلت العصر» «2» و غيرهما.

لكن مقتضي إطلاقها الاكتفاء بإدراك شي ء من الوقت و إن لم يكف مقدار الغسل، و لا وجه لحملها علي خصوص ما يكفي الغسل و الشروع في الصلاة إلا أدلة المواقيت و النصوص الآتية و غيرهما مما سنشير إليه، و هي تقتضي لزوم إدراك الركعة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 6.

ص: 109

______________________________

نعم، فصل في النهاية في وجوب القضاء بين التواني عن الغسل و عدمه ثم ذكر أن قضاء الظهرين يجب إذا طهرت قبل وقت العصر و يستحب إذا طهرت بعده، و أن قضاء العشاءين يجب إذا طهرت قبل نصف الليل و يستحب بعده، ثم قال: «و يلزمها قضاء الفجر إذا طهرت قبل طلوع الشمس علي كل حال».

و قد يدعي ابتناء ما ذكره في صلاة الفجر علي العمل بإطلاق النصوص السابقة.

لكن لا يبعد كون مراده عدم التفصيل في قضاء الفجر بالوجوب و الاستحباب- علي نحو ما ذكره في بقية الصلوات- و أنه ليس إلا واجبا و إن كان مشروطا بما إذا وسع الوقت الطهارة، علي ما ذكره في صدر كلامه. و إلا فالنصوص المذكورة واردة في الظهرين و العشاءين، دون صلاة الفجر، فلا وجه للعمل بإطلاقها في خصوص صلاة الفجر.

مع أنها لا تنهض بالإطلاق المذكور، لظهورها في إرادة المبادرة للصلاة أداء، لإدراك وقتها- و إن كان اضطراريا- فتكون محكومة لأدلة الأوقات، و منها ما تضمن توقف إدراكه علي إدراك الركعة، و محمولة علي ما إذا وسع الوقت الطهارة مع ذلك، لامتناع التكليف بالصلاة مع العجز عنها، و للنصوص الآتية.

و إن غض النظر عن ذلك و ادعي ظهورها في بيان الأمر بالصلوات المذكورة فيها مطلقا و إن كان قضاء لعدم إدراك وقتها، من دون نظر إلي وقت الإتيان بها لزم الخروج عن إطلاقها بما تضمن عدم وجوب القضاء لو لم يسع الوقت الغسل، كصحيح عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: أيما امرأة طهرت و هي قادرة علي أن تغتسل وقت صلاة ففرطت فيها حتي يدخل وقت صلاة أخري كان عليها قضاء تلك الصلاة التي فرطت فيها، و إن رأت الطهر في وقت صلاة فقامت في تهيئة ذلك فجاز وقت صلاة و دخل وقت صلاة أخري فليس عليها قضاء و تصلي الصلاة التي دخل وقتها» «1»، و صحيح أبي عبيدة عنه عليه السلام: «قال: إذا رأت المرأة الطهر و قد دخل عليها وقت الصلاة ثم أخرت الغسل حتي يدخل وقت صلاة أخري كان عليها

______________________________

(1) الوسائل باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 110

______________________________

قضاء تلك الصلاة التي فرطت فيها … » «1»، و قد تقدم تمامه في المسألة الأولي، و موثق الحلبي عنه عليه السلام: «في المرأة تقوم في وقت الصلاة فلا تقضي طهرها حتي تفوتها الصلاة و يخرج الوقت أ تقضي الصلاة التي فاتتها؟ قال: إن كانت توانت قضتها و إن كانت دائبة في غسلها فلا تقضي» «2».

فلا بد من حمل تلك النصوص علي بيان الصلاة التي تقضي من دون نظر لشروط القضاء، أو علي صورة إدراك الغسل. كما أنه حيث كان التعجيل بالغسل لأداء الصلاة في وقتها، و كان صدق التفريط مع التواني فيه لتفويت الصلاة الأدائية، كان الظاهر منها إرادة سعة الوقت للغسل الذي تحصل معه الصلاة الأدائية، إما لوقوعها بتمامها في الوقت، أو لوقوع ركعة منها فيه، علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و منه يظهر ضعف ما عن نهاية الأحكام من احتمال عدم اعتبار وقت للطهارة، بناء علي عدم اختصاصها بوقت. فإنه- مع منافاته للنصوص السابقة- لا يناسب القاعدة المتقدمة، لوضوح أن تعذر الطهارة قبل الطهر من الحيض يستلزم كون تعذر الصلاة بعده لضيق الوقت عن الطهارة مستندا للحيض، و قد سبق أنها تقتضي سقوط القضاء حينئذ.

ثم أن مقتضي إطلاق قوله عليه السلام في صحيح عبيد: «فقامت في تهيئة ذلك» اعتبار سعة الوقت لمقدمات الغسل أيضا. كما أن مقتضي إطلاق قوله عليه السلام في موثق الحلبي:

«إن كانت توانت … » أن المدار في الغسل علي المتعارف الذي لا يصدق معه التواني عرفا، لا علي المبادرة الحقيقة الدقية و بذلك يخرج عن مقتضي القاعدة المتقدمة من الاقتصار في عدم وجوب القضاء علي ضيق الوقت عن مطلق الغسل، و لو بالمبادرة الحقيقة الممكنة، دون مقدماته التي يمكن عادة تهيئتها قبل الطهر من الحيض.

كما أنه يستفاد من النصوص تبعا اعتبار سعة الوقت لما لا بد منه بين الاغتسال و الصلاة من لبس ثيابها و الانتقال لمصلاها و نحوهما بالوجه المتعارف، لظهورها في

______________________________

(1) الوسائل باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 8.

ص: 111

______________________________

الجري علي المتعارف، فلو لم يعتبر لزم التنبيه عليه.

بل قد يستفاد منها و من ذكر التفريط في صحيح عبيد لزوم سعة الوقت لجميع الشروط من دون خصوصية للطهارة. و قد يجعل ذلك هو الوجه لاعتباره في الدروس و جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك و المدارك و محكي الموجز و فوائد الشرائع و كشف الالتباس، بل احتمل في مفتاح الكرامة كون اقتصار جملة من الأصحاب علي الطهارة جار مجري المثال للتنبيه علي اعتبار إدراك جميع الشروط أو محمول علي الغالب من حصولها.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن الظاهر من النصوص إرادة تهيئة الغسل و التفريط به و التواني فيه، لا تهيئة الصلاة، ليعم جميع شروطها. و لم يظهر ممن بني علي التعميم لبقية الشروط استفادته منها، بل صرح بعضهم بأنه مقتضي القاعدة، لدعوي امتناع التكليف بما لا يطاق. و يظهر اندفاعه مما سبق من لزوم تهيئة المقدمات المفوتة قبل الوقت.

بل منع سيدنا المصنف قدّس سرّه من كون المقام من صغريات المقدمات المفوتة، لفرض دخول الوقت قبل الطهر فيجب تهيئة المقدمات لفعلية وجوب ذيها بعد فرض تحقق الطهر، و احتمال كون الطهر كالوقت شرطا للوجوب بعيد. لكن لم يتضح الوجه في استبعاده بعد ما سبق منا و اعترف به من رافعية الحيض للملاك، لملازمة ذلك لكون الطهر شرطا للوجوب، كما لا يخفي. فالعمدة ما ذكرنا.

هذا، و الظاهر وجوب القضاء لو وسع الوقت الغسل، إلا أنه لا يمكن السعي للغسل، لقصور النصوص عنه، و حيث لا يستند تعذر الصلاة حينئذ للحيض وحده كان مقتضي القاعدة المتقدّمة وجوب القضاء، و يأتي الكلام في وجوب التيمم حينئذ إن شاء اللّه تعالي.

الثاني: إذا وسع الوقت الطهارة و الصلاة التامة وجب أداؤها

بلا إشكال ظاهر، و هو المتيقن من معاقد إجماعاتهم و من النصوص الآتية، و يظهر مما يأتي في

ص: 112

______________________________

إدراك الركعة المفروغية عنه، و إنما الكلام في أن المعيار في ذلك علي الوقت الاختياري أو الاضطراري أو الفضيلي.

فقد ذكر في التهذيب و الاستبصار و المبسوط أن المرأة إذا طهرت بعد زوال الشمس قبل أن يمضي منه أربعة أقدام وجب عليها قضاء الظهرين معا، و إن طهرت بعد ذلك إلي مغيب الشمس وجب عليها قضاء العصر و استحب لها قضاء الظهر.

و الظاهر أن ما تقدم من النهاية من استحباب قضاء الصلاتين إذا طهرت في وقت العصر راجع إلي ذلك، و لا ينافي وجوب قضاء العصر. و قد زاد علي ذلك في الاستبصار و المبسوط و النهاية استحباب قضاء العشاءين لو طهرت بعد نصف الليل.

و يناسبه ما عن الإصباح و المهذب من استحباب قضاء الظهرين إذا أدركت خمس ركعات قبل مغيب الشمس و العشاءين إذا أدركت أربعا قبل الفجر. و لم يفصل في المبسوط في قضاء صلاة الفجر، بل أطلق وجوبه لو طهرت قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة، بل تقدم من النهاية التصريح بالتعميم. فراجع.

و كيف كان، فيدل علي عدم وجوب قضاء الظهر لو لم تدرك من وقتها الفضيلي ما يسعها مع الطهارة موثق يونس بن الفضل: «سألت أبا الحسن الأول عليه السلام قلت:

المرأة تري الطهر قبل غروب الشمس كيف تصنع بالصلاة؟ قال: إذا رأت الطهر بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام فلا تصلي إلا العصر، لأن وقت الظهر دخل عليها و هي في الدم و خرج عنها الوقت و هي في الدم، فلم يجب عليها أن تصلي الظهر، و ما طرح اللّه عنها من الصلاة و هي في الدم أكثر … » «1»، و قد تقدم تمامه في المسألة الأولي.

و موثق محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: «قلت: المرأة تري الطهر عند الظهر فتشتغل في شأنها حتي يدخل وقت العصر. قال: تصلي العصر وحدها، فإن ضيعت فعليها صلاتان … » «2»، و ما في ذيل موثق الحلبي المتقدم: «و عن أبيه قال: كانت المرأة

______________________________

(1) الوسائل باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 113

______________________________

من أهلي [أهله. يب] تطهر من حيضها فتغتسل حتي يقول القائل: قد كادت الشمس تصفر بقدر أنك لو رأيت إنسانا يصلي العصر تلك الساعة قلت: قد أفرط. فكان يأمرها أن تصلي العصر» «1»، و صحيح معمر «2»: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الحائض تطهر عند العصر تصلي الأولي؟ قال: لا، إنما تصلي الصلاة التي تطهر عندها» «3».

و بهذه النصوص ترفع اليد عن ظاهر ما تضمن قضاء الظهرين مع الطهر قبل مغيب الشمس، كموثق عبد اللّه بن سنان المتقدم في الأمر الأول و غيره، فتحمل علي التفصيل المذكور الذي قد يناسبه خبر منصور بن حازم المتقدم، أو علي الاستحباب، كما لعله الأظهر.

و أما حمل الثلاثة الأخيرة علي الوقت المختص بالعصر وجوبا، و هو مقدار أربع ركعات قبل مغيب الشمس، كما يظهر من بعضهم. فهو بعيد جدا، بل لا يناسب ما في موثق ابن مسلم من فرض الطهر عند الظهر، و التعبير بدخول وقت العصر، لا بتضيقه، و ما في موثق الحلبي من فرض الطهر عند قرب الشمس من الاصفرار، و ما في صحيح معمر من السؤال عن صلاة الأولي الظاهر في المفروغية عن سعة الوقت للصلاتين. فلا وجه لتكلف الحمل المذكور. و لا سيما مع كفاية موثق الفضل، لصراحته في المطلوب.

و مثله دعوي: ابتناء هذه النصوص علي اختصاص الظهر بالوقت المذكور وجوبا، الذي قد يظهر من بعض النصوص، و حيث يلزم رفع اليد عنه بنصوص اشتراك الصلاتين في الوقت الذي هو المعروف بين الأصحاب، فلا مجال للعمل بها

______________________________

(1) الوسائل باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 9.

(2) رواه عن (معمر بن يحيي) الثقة في التهذيب بسنده عن محمد بن يحيي، و في الاستبصار بسنده عن الكليني، و هو الموجود في بعض نسخ الكافي و في بعض نسخه الأخري: (معمر بن عمر) المجهول، و هو الموجود في الوسائل، و حيث تسقط نسختا الكافي بالمعارضة، و مثلها رواية الاستبصار، لأنها بمنزلتها قد تضمنت النقل عن الكليني، تبقي نسخة التهذيب حجة لعدم المعارض، و يكون الحديث صحيحا.

(منه عفي عنه).

(3) الوسائل باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 114

______________________________

في قضاء الصلاة في المقام.

لاندفاعها: بعدم وضوح الملازمة بين الأمرين. و لا سيما مع التفكيك بينهما عند العامة، حيث كان المعروف بينهم اختصاص كل صلاة بوقتها، و المشهور عندهم وجوب قضاء الصلاتين في المقام، فتكون نصوص المقام مخالفة للمشهور بينهم، و نصوص الاختصاص موافقة لهم، و مع ظهور قوله عليه السلام في موثق الفضل: «و ما طرح اللّه عنها من الصلاة و هي في الدم أكثر» في كونه عليه السلام بصدد رفع استبعاد الحكم المذكور، المناسب لابتنائه علي مخالفة القاعدة، و لو كان مبتنيا علي اختصاص الظهر بالوقت الأول لم يكن مخالفا للقاعدة.

و من هنا يشكل طرح هذه النصوص مع قوة دلالتها و كثرتها و اعتبار أسانيدها و عدم ظهور الإعراض الموهن لها بعد عمل من عرفت بها، معتضدا بظهور حال الكليني قدّس سرّه في الاعتماد عليها، حيث اقتصر في الباب المناسب علي حديثي الفضل بن يونس و معمر اللذين هما من نصوص المقام، و علي حديثي أبي عبيدة و عبيد بن زرارة المتقدمين في الأمر الأول، و اللذين يسهل حملهما علي ما يناسب نصوص المقام، و لم يذكر شيئا من نصوص قضاء الصلاتين معا التي تقدمت في الأمر الأول. كما هو ظاهر حال الصدوق في الفقيه و المقنع حيث أفتي بمضمون صحيح معمر.

و لا سيما مع قرب كون منشأ ذهاب المشهور إلي وجوب قضاء الصلاتين استحكام القاعدة في مرتكزاتهم، خصوصا مع موافقتها للاحتياط، و اعتضادها بنصوص قضاء الصلاتين المرجحة بنظرهم علي النصوص المتقدمة، لموافقتها للقاعدة، و لتخيل ابتناء النصوص المتقدمة علي اختصاص كل صلاة بوقتها الفضيلي الذي هو خلاف المعروف من مذهب الإمامية، و حيث ظهر عدم تمامية ذلك لم يتجه الإعراض عن هذه النصوص.

هذا، و لو تم ذلك فالظاهر أنه يكفي في عدم وجوب صلاة الظهر الفراغ من الغسل من دون توان بعد مضي الأربعة أقدام و إن سبق الطهر من الدم علي ذلك،

ص: 115

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 5، ص: 116

______________________________

للتصريح بذلك في موثق محمد بن مسلم المؤيد أو المعتضد بما سبق فيمن طهرت في وقت صلاة فانشغلت بغسلها حتي خرج وقتها. و به ترفع اليد عن عموم المفهوم في موثق الفضل المقتضي لوجوبها حينئذ.

ثم إن هذه النصوص مختصة بالظهر، و لم أعثر علي ما يقتضي التعميم لغيرها من الصلوات لو طهرت المرأة بعد خروج وقتها الفضيلي، و مقتضي القاعدة وجوب قضائها، كإطلاق النصوص المتقدمة، و ظاهر موثق الحلبي المتضمن الأمر بصلاة العصر قرب اصفرار الشمس، و الذي هو وقت المفرط فيها، و الذي لا يكون إلا بعد خروج الوقت الفضيلي لها.

و دعوي: أن النصوص المتقدمة في الظهر قرينة علي حمل الوقت في صحيح عبيد و صدر موثق الحلبي المتقدمين علي الوقت الفضيلي، فيكون مقتضي إطلاقهما العموم في عدم القضاء مع الطهر بعده لغير الظهر.

مدفوعة بأن ذلك ليس بأولي من إبقاء الصحيح و الموثق علي ظهورهما في وقت الوجوب و تقييدهما بالنصوص المتقدمة في الظهر.

نعم، قد يستفاد من تعليل عدم قضاء الظهر في موثق الفضل بن يونس بأن وقت الظهر دخل عليها و هي في الدم و خرج عنها الوقت و هي في الدم عدم خصوصية وقت الظهر الفضيلي في ذلك، لأنه الأنسب بارتكازية التعليل، كما قد يشعر بذلك أيضا صحيح معمر، لأن السؤال فيه و إن اختص بصلاة الظهر، إلا أن عدم الاكتفاء في جوابه بنفي القضاء فيها حتي أضيف إليه قوله: «إنما تصلي الصلاة التي تطهر عندها» مشعر بعدم اختصاص الحكم عندها، بل يعم غيرها.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لإمكان اختلاف نحو التوقيت بالوقت الفضيلي باختلاف الصلوات و يكون لصلاة الظهر خصوصية في كيفية التوقيت به تصحح نسبة الوقت إليها، دون غيرها.

مع أنه لو تم معارض بذيل موثق الحلبي، لقوة ظهوره في وجوب العصر في

ص: 116

______________________________

الوقت المذكور، لعدم اختصاص الاستحباب بها، و بظهور جملة من النصوص مما تقدم و غيره في وجوب صلاة العشاءين مع الطهر بعد نصف الليل الذي لا يناسب استحباب قضائهما مع الطهر بعد خروج وقتهما الفضيلي. و جعل ما تقدم قرينة علي حمل جميع ذلك علي الاستحباب صعب جدا. و لا سيما مع عدم ظهور قائل به، لظهور حال الشيخ و غيره في الاختصاص بالظهر. و لا أقل من التوقف و الرجوع للقاعدة في وجوب القضاء. فتأمل جيدا.

هذا، و ظاهر فتواهم بوجوب أو استحباب صلاة الظهرين إذا طهرت و فرغت من غسلها في وقت العصر إرادتهم تقديم الظهر. و هو الذي يقتضيه ظاهر النصوص، لأن المفروغية عن وجوب الترتيب بين الصلاتين تقتضي انصرافها إليه حتي لو كان الأمر بالظهر استحبابيا.

لكن في صحيح أبي همام عن أبي الحسن عليه السلام: «في الحائض إذا اغتسلت في وقت العصر تصلي العصر ثم تصلي الظهر» «1». و قد حمله في الاستبصار علي من فرطت في الظهر حتي ضاق وقت العصر. و عن المنتقي أنه استحسنه، و احتمل الحمل علي التقية.

و من الظاهر بعد الحمل المذكور، لأن ظاهر الاغتسال في وقت العصر سعة الوقت لا تضيقه، بل فرض التفريط في الظهر لا شاهد له في النص، بل عدم التنبيه عليه و الاقتصار علي بيان الغسل وقت العصر ظاهر في عدمه. و أما الحمل علي التقية فهو لا يناسب المنقول عن العامة في المقام من تقديم الظهر.

و من هنا يشكل العمل بالصحيح، لأنه إن ابتني علي المشهور من وجوب الصلاتين مع إمكان أدائهما قبل مغيب الشمس فالظاهر عدم الإشكال في وجوب تقديم الظهر عندهم كما هو ظاهر النصوص المتقدمة الآمرة بالصلاتين. و إن ابتني علي ما سبق من استحباب قضاء الظهر مع الطهر في وقت لا يسع أداءها قبل مضي

______________________________

(1) الوسائل باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 14.

ص: 117

______________________________

أربعة أقدام، فوجوب تأخيرها- كما هو ظاهر الصحيح- لا يخلو عن غرابة.

بل لا يمكن البناء عليه بعد ظهور بناء الأصحاب علي تقديم الظهر، حيث يبعد جدا خطؤهم في هذه المسألة التي يشيع الابتلاء بها بنحو تكون فتواهم علي خلاف المجزي. و أما حمله علي استحباب تأخير الظهر فهو إنما يناسب المبني المذكور في فرض ضيق وقت العصر الفضيلي، و لا شاهد بحمله علي ذلك. فهو غريب المضمون يرد علمه إلي قائله عليه السلام.

بقي الكلام في صلاة العشاءين مع الطهر قبل الفجر. و لا يخفي أن ظاهر جملة من النصوص وجوبهما كموثق عبد اللّه بن سنان المتقدم في الأمر الأول. فما تقدم من الشيخ و غيره من البناء علي استحبابهما إن أريد به استحباب كل منهما، فالوجه فيه إن كان هو ما تقدم في الظهر، لدعوي استفادة العموم لغيرها، فمن الظاهر أنه لو تم فمقتضاه الاستحباب بخروج وقتهما الفضيلي، مع أنه صرح في النهاية بوجوبهما إذا طهرت قبل نصف الليل.

و إن كان هو أدلة توقيت العشاءين بما قبل ذلك- كنصف الليل- لدعوي: أن مقتضاه عدم وجوب القضاء مع استيعاب الدم الوقت. ففيه- مع أن أدلة التوقيت بذلك معارضة بنصوص تقتضي امتداد الوقت للفجر، و لو لذوي الأعذار، و تمام الكلام في ذلك في مبحث المواقيت- أن التوقيت لا يمنع من وجوب القضاء مع استيعاب الدم الوقت، لا في الحيض و لا في غيره.

غاية الأمر أن مقتضي الأصل البراءة من وجوب القضاء، بل هو في الحيض مقتضي إطلاق ما تضمن عدم قضاء الحائض الصلاة، و من الظاهر أنهما لا ينهضان برفع اليد عن ظهور النصوص المتقدمة في الوجوب، بل هي تنهض بتقييد الإطلاق المذكور، و بالحكومة علي أصالة البراءة.

و أشكل من ذلك ما لو أريد به استحباب الجمع بينهما مع وجوب العشاء الراجع لاستحباب المغرب فقط- نظير ما تقدم في الظهرين- كما يناسبه ما ذكره في

ص: 118

______________________________

المبسوط في مبحث المواقيت من أن من لحق من ذوي الأعذار مقدار ركعة أو أربع ركعات قبل الفجر وجب عليه صلاة العشاء، ثم قال: «و إذا لحق ما يصلي خمس ركعات صلي المغرب أيضا معها استحبابا، و إنما يلزمه وجوبا إذا لحق قبل نصف الليل بمقدار ما يصلي فيه أربع ركعات، و قبل أن يمضي مقدار ما يصلي ثلاث ركعات من المغرب».

وجه الإشكال: عدم ظهور وجه الفرق بين العشاءين مع اشتراكهما في خروج الوقت الفضيلي و الأدائي الاختياري، و في نصوص المقام و غيرها مما تضمن وجوبهما علي من نسي أو نام و ذكر أو انتبه قبل الفجر «1»، و عدم فوت صلاة الليل حتي يطلع الفجر «2».

و من هنا كان اللازم البناء علي وجوب الصلاتين معا علي من طهرت في الليل بنحو تدركهما فيه. و لعله لذا قال في الخلاف في مسائل الأوقات: «مسألة 14: إذا أدرك بمقدار ما يصلي فيه خمس ركعات قبل المغرب لزمته الصلاتان بلا خلاف، و إن لحق أقل من ذلك لم يلزمه الظهر عندنا. و كذلك القول في المغرب و العشاء الآخرة قبل طلوع الفجر».

نعم، في كونهما أدائيتين أو قضائيتين كلام محله مبحث المواقيت. و ربما يأتي هناك ما ينفع في المقام. فلاحظ.

الثالث: ذكرنا عند الكلام في مفاد القاعدة أن مقتضاها عدم الاجتزاء في وجوب الصلاة

بإدراك مقدار من الوقت يسع الواجب الاضطراري. و الظاهر عدم الإشكال فيه بالإضافة إلي الطهارة هنا، و إن سبق من كشف اللثام الاجتزاء بإدراك التيمم في المسألة الأولي، و سبق منا توجيهه علي المختار من الاكتفاء في تلك المسألة بإدراك مقدار الصلاة دون شروطها، للفرق بين المسألتين بالنصوص المتقدمة في هذه المسألة، الصريحة في عدم وجوب الصلاة إذا خرج وقتها للانشغال بالغسل من دون

______________________________

(1) الوسائل باب: 62 من أبواب المواقيت حديث: 3، 4.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب المواقيت حديث: 9.

ص: 119

______________________________

توان، و بأن القاعدة تقتضي اعتبار سعة الوقت للغسل كما سبق، بخلاف تلك المسألة.

و ما في العروة الوثقي من الاحتياط الاستحبابي بالتيمم في المقام ضعيف.

و لأجل القاعدة المذكورة يتجه عدم الاكتفاء بمقدار التيمم حتي لمن وظيفته التيمم من غير جهة ضيق الوقت، خلافا لما يظهر من العروة الوثقي هنا. و يتضح وجهه بملاحظة ما ذكرناه ردا لما سبق من جامع المقاصد في تلك المسألة. فتأمل.

كما أن مساق كلماتهم في المقام إرادة مقدار الواجب الاختياري من سائر الجهات، لأن ذلك هو المنساق من النصوص المتقدمة، لظهورها في إرادة الصلاة المعهودة، بسبب عدم التنبيه فيها علي إرادة ما دونها مع كونه مغفولا عنه. بل لعله أولي مما أشرنا إليه في الأمر الأول من ظهورها في لزوم سعة الوقت بالإضافة إلي بعض الشروط التي يتعارف صرف الوقت لها بين الغسل و الصلاة.

هذا، و قد صرح جمهور الأصحاب بالاجتزاء في إدراك الوقت في المقام بإدراك ركعة، بل ادعي الإجماع عليه في الخلاف و المدارك، و نفي الخلاف فيه في التذكرة. بل ظاهر جملة من عباراتهم في باب المواقيت المفروغية عن أن المقام من صغريات كبري إدراك الوقت بإدراك ركعة التي ادعي الإجماع عليها في كلماتهم، و وردت بها بعض النصوص.

و أما ما في باب أحكام السهو من الفقيه من أن من فاته الظهران ثم ذكر و قد بقي من الوقت قدر ما يصلي إحداهما بدأ بالعصر، و إن بقي منه قدر ما يصلي ست ركعات بدأ بالظهر، حيث قد يظهر منه لزوم إدراك ركعتين. فهو- مع خلوه عن الدليل- خلاف في الكبري المذكورة من دون خصوصية للمقام.

نعم، عن السرائر: أنها إذا طهرت قبل غروب الشمس في وقت متسع لفعل الطهارة و الصلاتين وجب عليها أداؤهما، و في الوسيلة: أنها إذا طهرت و توانت في الاغتسال و الصلاة وجب عليها القضاء. و إن لم يمكنها ذلك لم يجب. و استظهر بعضهم منهما اعتبار إدراك تمام الصلاة في الوقت، و عدم الاجتزاء بإدراك الركعة.

ص: 120

______________________________

و لا يخلو عن إشكال، لأنهما بصدد بيان وجوب الصلاة مع اتساع الوقت لها و إمكانها فيه، لا بصدد تحديد الاتساع المحقق للإمكان، بل هو موكول للكلام في الأوقات.

و كيف كان، فقد استدلوا علي ذلك بما تسالموا عليه ظاهرا تبعا للنصوص «1» من أن من أدرك من الوقت ركعة فقد أدرك الوقت. و كأنه لدعوي: حكومته علي ما تضمن عدم قضاء الحائض الصلاة بعد تنزيله- كما سبق- علي الصلاة التي تتعذر في وقتها بسبب الحيض، لأنه يحكم بتوسيع الوقت لما يساوي الركعة، فلا تتعذر الصلاة بسبب الحيض في الفرض، ليسقط قضاؤها.

لكنه إنما يتم لو عم التنزيل المذكور حال الاختيار، حيث يستلزم تمامية ملاك الوقت بإدراك الركعة فتجب بعد عدم مانعية الحيض منها. أما إذا كان اضطراريا- كما لعله ظاهرهم- فيشكل بما تقدم من أن المتيقن من أدلة الأبدال الاضطرارية بدليتها في مقام الأداء و الامتثال، دون مقام الجعل و الملاك، و حيث كان الحيض رافعا لملاك الصلاة المتعذرة في وقتها بسببه، فلا تنهض أدلة التنزيل المذكور بإثبات قيام الصلاة المدرك بها ركعة من الوقت مقام الصلاة التي تتم في الوقت في واجديتها للملاك، ليجب أداؤها، فضلا عن قضائها.

و تحقيق أن التنزيل المذكور اختياري أو اضطراري موكول لمبحث الأوقات، كتحديد منتهي الركعة، و كالكلام في كون الصلاة أدائية أو قضائية، و غير ذلك مما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، لعدم خصوصية الحيض فيه، و لأن الكلام فيه إنما يتجه بعد تحقيق الكبري المذكورة.

هذا، و يظهر مما تقدم من فروع المسألة الأولي جريان بعضها في هذه المسألة، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها هنا. و إنما نقتصر علي الكلام فيما في التذكرة و المنتهي و محكي نهاية الأحكام من استحباب القضاء لو طهرت قبل خروج الوقت بمقدار لا يسع الركعة، و حكاه في مفتاح الكرامة عن التهذيب و الاستبصار و النهاية، و لم أجد فيها

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 30 من أبواب المواقيت.

ص: 121

(مسألة 21): الظاهر أنها تصح طهارتها من الحدث الأكبر غير الحيض، فإذا كانت جنبا و اغتسلت عن الجنابة صح (1).

______________________________

إلا ما تقدم من استحباب قضاء الظهر لو طهرت قبل مغيب الشمس و العشاءين إذا طهرت قبل طلوع الفجر.

و الظاهر أنه يختص بإمكان إدراك أداء الصلاة قبل مغيب الشمس أو طلوع الفجر، كحكمه بوجوب صلاة العصر إذا طهرت قبل مغيب الشمس.

و كيف كان، فقد استدل له في مفتاح الكرامة بإطلاق ما تضمن الأمر بصلاة الظهرين إذا طهرت قبل مغيب الشمس و العشاءين قبل طلوع الفجر، كموثق عبد اللّه بن سنان و غيره مما تقدم في الأمر الأول.

و يشكل بأنه إن بني علي اختصاص النصوص المذكورة- انصرافا أو بقرينة خارجية- بصورة إدراك الصلاة في الوقت فلا مجال لاستفادة استحباب القضاء منها مع عدم الإدراك، و إن بني علي عمومها لصورة عدم الإدراك لزم البناء علي وجوب القضاء، خروجا عن مقتضي القاعدة المتقدمة، لا استحبابه.

و دعوي: أنه إنما يبني علي عدم الوجوب مع عدم الإدراك للنصوص النافية للقضاء لو انشغلت بالغسل من دون توان حتي خرج الوقت. مدفوعة بأن تلك النصوص كما تصلح للقرينية علي حمل هذه النصوص علي الاستحباب في صورة عدم الإدراك تصلح للقرينية علي حملها علي صورة الإدراك، بل لعل الثاني أقرب.

مسألة 21 غسل الحائض من الحدث الأكبر

(1) كما هو ظاهر التهذيب و الاستبصار. لموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«سألته عن المرأة يواقعها زوجها ثم تحيض قبل أن تغتسل. قال: إن شاءت ان تغتسل فعلت، و إن لم تفعل فليس عليها شي ء، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض و الجنابة» «1». مضافا إلي إطلاق أدلة الأغسال المقتضية لرافعيتها لأحداثها مطلقا و إن اجتمعت مع غيرها من دون أن يرتفع بالغسل- كما في المقام- و لذا كان ظاهرهم

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 7.

ص: 122

______________________________

المفروغية عنه مع عدم تداخل الأغسال الذي قال به بعضهم في بعض الموارد. و منه يظهر عموم المشروعية لغسل غير الجنابة.

بل يظهر من التهذيب و الاستبصار قوة احتمال استحباب غسل الجنابة لها، لموثق سماعة عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهما السلام: «قالا: في الرجل يجامع المرأة فتحيض قبل أن تغتسل من الجنابة. قال: غسل الجنابة عليها واجب» «1»، بدعوي: أنه بعد تعذر حمله علي الوجوب للنصوص الكثيرة الدالة علي الاجتزاء بغسل واحد «2» يحمل علي الاستحباب.

نعم، احتمل أيضا حمله علي بيان كيفية الغسل الواجب عليها و أنه كغسل الجنابة، أو علي إجزاء غسل الجنابة بعد الطهر من الحيض عن غسله. كما يحتمل حمله علي بقاء حدث الجنابة و عدم اندكاكه بالحيض، و أن زواله مشروط بالغسل و إن لم يستحب التعجيل به.

لكن الحمل علي الاستحباب أقرب، خصوصا من الحملين الأولين.

و لا سيما مع اعتضاده بإطلاق الأمر بالطهارة، الذي يقرب ارتكازا حمله علي استحباب الطهارة من كل حدث بنحو الانحلال، لا خصوص الطهارة من جميع الأحداث بنحو المجموعية. و لذا لا يظن منهم التوقف في ذلك في غير الحائض مع عدم تداخل الأغسال الذي قال به بعضهم في بعض الموارد، فيتعين البناء عليه في الحائض بعد ثبوت مشروعية غسل الجنابة لها، لما تقدم، و من هنا كان الاستحباب قريبا جدا.

هذا، و قد صرح في التذكرة و محكي المنتهي و التحرير بأنه لا يصح لها الغسل للجنابة قبل انقطاع الدم، و قد يرجع إليه ما في المبسوط و السرائر من أنها لا يصح منها الغسل و الوضوء علي وجه يرفعان الحدث، و ما في النافع و المعتبر من أنه لا يرتفع لها حدث، مدعيا عليه في الثاني الإجماع، بل قد يرجع إليه ما في الشرائع و القواعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 8.

(2) راجع الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة و غيرها.

ص: 123

______________________________

من أنها لو تطهرت لم يرتفع حدثها، و في المدارك أنه مجمع عليه بين الأصحاب، و في الدروس أنه لا يرتفع حدثها بوضوء و لا غسل، بل نسبه في الجواهر إلي ظاهر جملة من الأصحاب ظهورا يكاد يكون كالصريح من بعضهم، بل استظهر الاتفاق عليه.

بل عن المنتهي دعوي الإجماع صريحا عليه.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لقرب كون مراد جمع منهم استمرار حدثها باستمرار الحيض و أنها لا تخلو عنه بالغسل أو الوضوء، من دون نظر إلي غير حدث الحيض.

و لعله الظاهر مما تقدم من الشرائع و القواعد و الدروس، بل قد يحمل عليه بعض ما تقدم من غيرها.

و من هنا لا مجال للاستدلال بالإجماع المدعي في كلام من تقدم من قرب ابتناء دعواه علي ارادة ذلك و من هنا لا مجال للتعويل عليه بعد ما سبق من التهذيب و الاستبصار. و مثله الاستدلال عليه بما في المعتبر من أن الطهارة ضد الحيض، فلا تتحقق مع وجوده. لوضوح أنه إنما يكون وجها لاستمرار حدثها حال الحيض، لا لعدم ارتفاع غير حدث الحيض عنها.

نعم، قد يستدل عليه بصحيح الكاهلي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن المرأة يجامعها زوجها فتحيض و هي في المغتسل تغتسل أو لا تغتسل؟ قال: قد جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل» «1». لكن يقرب وروده لبيان دفع توهم وجوب غسل الجنابة، بل ذلك هو المناسب للتعليل. و لا أقل من حمله علي ذلك بقرينة ما سبق.

و أضعف منه الاستدلال بحديث سعيد بن يسار: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:

المرأة تري الدم و هي جنب أ تغتسل عن الجنابة أو غسل الجنابة و الحيض واحد؟ فقال:

قد أتاها ما هو أعظم من ذلك» «2».

لوضوح أنه لم يتضمن النهي عن الغسل، و التعليل فيه إنما ينهض ببيان عدم وجوب التعجيل به. و مثله الاستدلال بصحيح عبد اللّه بن سنان عنه عليه السلام: «سألته

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 124

______________________________

عن المرأة تحيض و هي جنب هل عليها غسل الجنابة؟ قال: غسل الجنابة و الحيض واحد» «1»، و في موثق أبي بصير: «تجعله غسلا واحدا» «2».

لاندفاعه باحتمال كون المقصود بهما بيان تداخل الغسلين بعد الطهر من الحيض، للمفروغية عن عدم وجوب التعجيل به قبله، من دون أن يتضمنا الردع عن التعجيل به، كما هو ظاهر موثق حجاج الخشاب: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام: عن رجل وقع علي امرأته فطمثت بعد ما فرغ أ تجعله غسلا واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرتين؟

قال: تجعله غسلا واحدا عند طهرها» «3».

و بالجملة: هذه النصوص بين ما هو ظاهر أو محمول علي عدم وجوب التعجيل بغسل الجنابة، و ما هو ظاهرا او محتمل لبيان التداخل في فرض تأخيره إلي الطهر من الحيض، فلا مجال للخروج بها عن إطلاقات الأغسال، فضلا عن موثقي عمار و سماعة.

و أضعف من ذلك الاستدلال بصحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحائض تطهر يوم الجمعة و تذكر اللّه. قال: أما الطهر فلا، و لكنها توضأ في وقت الصلاة ثم تستقبل القبلة و تذكر اللّه» «4».

لاندفاعه بأنه إن ابتني علي دعوي ظهوره في عدم مشروعية الغسل لها. فهو مختص- لو تم- بغسل الجمعة، و لا مجال للتعدي لغيره، خصوصا مع صراحة ما يأتي في مشروعية غسل الإحرام لها.

و إن ابتني علي ظهوره في عدم مطهرية الغسل لها فالظاهر منه عدم مطهريته لها من حدث الحيض، لا من مطلق الحدث، ليدل في نفسه علي عدم مشروعية غسل الجنابة لها، فضلا عن أن يرفع به اليد عن الموثقين.

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 22 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 125

و تصح منها الأغسال المندوبة حينئذ (1)،

______________________________

(1) كما صرح به في السرائر و المعتبر و غيرهما، و قد يستفاد مما تقدم من المبسوط من تقييد الغسل الممنوع منه بما إذا كان علي وجه يرفع الحدث، بل في الجواهر أنه لا ينبغي الإشكال فيه. لاطلاقات أدلتها.

معتضدة بخصوص النصوص المتضمنة الأمر بغسلها للإحرام، كصحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحائض تحرم و هي حائض. قال:

نعم. تغتسل و تحتشي و تصنع كما تصنع المحرمة و لا تصلي» «1» و غيره. فما قد يظهر من المبسوط من عدم مشروعية غسل الإحرام لها، حيث ذكر بدله وضوء الصلاة- و هو المحكي عن ظاهر الخلاف- في غير محله. و أشكل منه ما في الاقتصاد من أنها تؤخر الصلاة و الغسل.

نعم، قد يستفاد من صحيح محمد بن مسلم المتقدم عدم مشروعية غسل الجمعة لها. و حمله علي مجرد عدم مطهرية الغسل لها مع مشروعيته في نفسه بعيد. كحمله علي أن الوضوء لا يوجب لها الطهارة- كما احتمله سيدنا المصنف قدّس سرّه- لأن خصوصية يوم الجمعة في السؤال تناسب كون المراد بالطهر غسله، دون الوضوء الذي لا يختص به، كما هو المناسب للأمر بعد ذلك بالوضوء.

نعم، قد يحمل علي بيان أن وظيفة الغسل المستحب لا تؤدي أو لا تتوقف علي غسله، بل علي الوضوء، من دون أن ينافي استحباب الغسل في نفسه.

هذا، و لو تمت دلالته علي عدم مشروعية غسل الجمعة لها فلا مجال للتعدي منه لغيره من الأغسال المندوبة و الخروج به فيها عما عرفت من الإطلاق. و لا سيما مع ورود نصوص مشروعية غسل الإحرام لها.

نعم، يشكل التمسك بإطلاق أدلة الأغسال المستحبة لبعض الغايات- كدخول

______________________________

(1) الوسائل باب: 48 من أبواب الإحرام حديث: 4.

ص: 126

و كذلك الوضوء (1)، (مسألة 22): يستحب لها (2)

______________________________

مكة- بناء علي انتقاضها بالحدث الأصغر أو الأكبر، لنظير ما يأتي في الوضوء.

مسألة 22: استحباب الوضوء و الذكر للحائض
اشارة

(1) حيث لا إشكال في مشروعيته لها للذكر المستحب، كما سيأتي. و أما مشروعيته لها في سائر موارد استحبابه لغيرها- كالوضوء للنوم و نحوه- فلا يخلو عن إشكال، لظهور أدلته في استحبابه بلحاظ ترتب الطهارة من الحدث الأصغر عليه، و لذا لا يكفي لو انتقض، و لا مجال لذلك في الحائض، لاستمرار حدثها و ناقضيته للوضوء.

و مجرد مشروعيته لتخفيف الحدث عند أداء وظيفة الذكر- كما يأتي- لا يستلزم مشروعيته في الموارد المذكورة لتخفيفه بعد قصور أدلة مشروعيته فيها عن ذلك.

نعم، في صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: تتوضأ المرأة الحائض إذا أرادت أن تأكل، و إذا كان وقت الصلاة توضأت و استقبلت القبلة و هللت و كبرت و تلت القرآن و ذكرت اللّه عز و جل» «1». و ظاهره استحباب الوضوء للأكل. و حمله علي غسل اليدين، كما تقدم في الوضوء المستحب لكل أحد قبل الأكل و بعده- في ذيل الكلام في نواقض الوضوء- لا يناسب السياق، فلا يبعد البناء علي خصوصيتها في استحباب الوضوء لها قبل الأكل.

(2) هذا الحكم في الجملة من متفردات أصحابنا، كما عن الذكري. و ذكر ذلك في الخلاف و الروض أيضا بعد التصريح بأنه استحبابي، مدعيا عليه في الخلاف إجماع أصحابنا.

لكن نسب القول بالاستحباب للأكثر في كشف اللثام و للمشهور في المختلف و جامع المقاصد و الحدائق و غيرها. و نسب القول بالوجوب لرسالة علي بن بابويه،

______________________________

(1) الوسائل باب: 40 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 127

______________________________

و به عبر ولده في الفقيه، و في الهداية في بيان أحكام الحيض: «قال الصادق عليه السلام: يجب علي المرأة إذا حاضت أن تتوضأ عند كل صلاة و تجلس مستقبلة القبلة و تذكر اللّه مقدار صلاتها كل يوم» «1»، كما قد ينسب للكليني، حيث جعل نصوص المسألة في باب ما يجب علي الحائض في أوقات الصلاة، و تحتمله عبارة النهاية، حيث قال: «فإذا حاضت المرأة فيجب عليها أن تعتزل الصلاة و تفطر الصوم، و تتوضأ عند كل صلاة و تحتشي … »،

و إن أمكن حمله علي الاستئناف، و إليه مال في الحدائق و عن الأردبيلي أنه قواه.

كل ذلك لظاهر النصوص، كصحيح معاوية المتقدم و صحيح زرارة عن أبي جعفر [أبي عبد اللّه. خ ل] عليه السلام: «قال: إذا كانت المرأة طامثا فلا تحل لها الصلاة، و عليها أن تتوضأ وضوء الصلاة عند وقت كل صلاة ثم تقعد في موضع طاهر فتذكر اللّه عز و جل و تسبحه و تهلله و تحمده كمقدار صلاتها ثم تفرغ لحاجتها» «2»، و غيره، خصوصا مرسل الهداية المتقدم و نحوه الرضوي «3»: «و يجب عليها عند حضور كل صلاة أن تتوضأ وضوء الصلاة و تجلس مستقبل القبلة و تذكر اللّه بمقدار صلاتها كل يوم».

لكن في المدارك: أن مقتضي الجمع بين النصوص البناء علي الاستحباب، لما في صحيح زيد الشحام: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: ينبغي للحائض أن تتوضأ عند وقت كل صلاة ثم تستقبل القبلة و تذكر اللّه مقدار ما كانت تصلي «4» بدعوي: ظهور:

«لا ينبغي» في الاستحباب، و هو الظاهر من جامع المقاصد.

لكنه كما تري، فإنه لو تم فظهور النصوص المتقدمة في الوجوب أقوي منه و تنزيله عليها أقرب عرفا.

فالعمدة في البناء علي الاستحباب أن عموم الابتلاء بالحكم مانع من خفائه لو كان وجوبيا. و لا سيما مع اعتضاده بصحيح الحلبي عنه عليه السلام: «قال: و كن نساء

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 29 من أبواب أحكام الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 40 من أبواب الحيض حديث: 2.

(3) مستدرك الوسائل باب: 29 من أبواب أحكام الحيض حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 40 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 128

التحشي (1) و الوضوء (2) وقت كل صلاة واجبة (3)

______________________________

النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم لا يقضين الصلاة إذا حضن، و لكن يتحشين حين يدخل وقت الصلاة و يتوضين ثم يجلسن قريبا من المسجد فيذكرن اللّه عز و جل» «1»، و بما عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: «إنا نأمر نساءنا الحيض أن يتوضأن عند وقت كل صلاة فيسبغن الوضوء و يحتشين بخرق ثم يستقبلن القبلة من غير أن يفرضن صلاة فيسبحن و يكبرن و يهللن و لا يقربن مسجدا و لا يقرأن قرآنا … » «2».

لظهورهما في أن ذلك مما يؤمر به خواص النساء و ليس حكما عاما شايعا بين المسلمين. و لا بد مع ذلك من حمل النصوص المتقدمة علي الاستحباب. بل لا يبعد لأجله كونه مراد الصدوقين و الكليني من الوجوب، لشيوع ذلك في كلام القدماء.

(1) كما تقدم من النهاية. و يقتضيه صحيح الحلبي و خبر الدعائم المتقدمان.

(2) لم يذكره في الدروس مقدمة للذكر المستحب. و لم يتضح الوجه فيه بعد ظهور النصوص و الفتاوي في عدم تأدي الوظيفة بدونه. و مثله ما يظهر من الوسيلة من استحباب كل من الأمرين من دون ارتباطية بينهما.

(3) كما في العروة الوثقي و قد يستفاد من إطلاق أو عموم كلام الأصحاب، و منه معقد إجماع الخلاف.

و يقتضيه عموم صحيح زرارة المتقدم و إطلاق غيره. و إن كان من القريب انصرافها إلي اليومية الموقتة بالخصوصيات الزمانية من أجزاء اليوم و الليل، لانصراف التعبير بالوقت و بدخوله في النصوص إليها، دون خصوصية الحوادث، كالكسوف و الخسوف و نحوهما. و أما العموم للصلوات المستحبة فلا يظن احتماله من أحد.

هذا، و لا يبعد كون المراد من وقت الصلاة هو الوقت الفضيلي، لتعارف

______________________________

(1) الوسائل باب: 40 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل باب: 29 من أبواب أحكام الحيض حديث: 3.

ص: 129

و الجلوس (1) في مكان طاهر (2)

______________________________

الصلاة فيه في عصر صدور النصوص. و لظهور نسبته لكل صلاة في عدم اشتراك صلاتين في وقت واحد.

نعم، لا يبعد كون خصوصيته فضيلية في هذه الوظيفة، كما في الصلاة التي هي بدل عنها، فلو لم تأت بها في الوقت الفضيلي شرعت في غيره من الوقت الأدائي.

لكن لا بنحو يقتضي جمع الصلاتين بوضوء واحد، لخروجه عن المتيقن من العفو عن الحدث المستمر بسبب الحيض بعد ظهور النصوص في اختصاص كل صلاة بوضوئها. كما لا يبعد لأجل ذلك لزوم تعقيب الصلاة بالوضوء بالنحو المتعارف و عدم الفصل بينهما.

(1) كما صرح به جمهور الأصحاب، و منه معقد إجماع الخلاف، و لعله المراد من إطلاق المعتبر و المنتهي و محكي تخليص التلخيص، حيث نسب في الأولين ذلك للشيخ الذي صرح بالجلوس، كما أشير فيهما للخلاف في تعيين المصلّي مكانا للجلوس، و استدل في الثاني بصحيحي زرارة و الشحام مع تضمن الأول له.

و كيف كان، فحيث ذكر في بعض النصوص و أهمل في بعضها كان مقتضي الجمع بينها البناء علي أفضلية الجلوس، لأن ذلك هو مقتضي الجمع بين المطلق و المقيد في المستحبات. و أما حمل ما تضمن الجلوس علي مجرد الاجتزاء به لأنه الأسهل فبعيد.

(2) كما تضمنه صحيح زرارة، و يجمع بينه و بين إطلاق غيره بالحمل علي الأفضلية. بل قد يدعي أن توظيف هذا الذكر بدل الصلاة يناسب كونه مثلها في اعتبار تجنب النجاسة الخبثية، و مرجعه إلي لزوم عدم نجاسة المكان بنجاسة متعدية، فيكون ذلك هو المراد من النصوص المطلقة، و عليه ينزل اعتبار طهارة المكان في الصحيح. لكنه لا يخلو عن إشكال.

هذا، و قد قيد بالجلوس في المصلي في النهاية و المبسوط و الخلاف و الوسيلة و النافع و التذكرة و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و محكي الجامع و الإصباح

ص: 130

مستقبلة القبلة (1)

______________________________

و المهذب و نهاية الأحكام و التحرير و البيان، بل هو داخل في معقد الإجماع المدعي في الخلاف، و إليه يرجع ما في السرائر و المراسم من الجلوس في محرابها.

نعم، في الروض و الروضة أنه يختص بما إذا كان لها مكان معدّ للصلاة، و إلا فحيث شاءت. و قد يظهر من الروض أن ذلك من قيد بالمصلي، و في المقنعة: أنها تجلس ناحية من مصلاها. لكن لم يتضح الوجه في جميع ذلك بعد خلو النصوص عنه، و لذا اختار عدم التقييد بذلك في المعتبر و المنتهي وفاقا لإطلاق جماعة.

اللهم إلا أن يستفاد مما في صحيح الحلبي المتقدم من أنهن يجلسن قريبا من المسجد كون المطلوب الأولي هو الجلوس في المصلي، و أن تعذر ذلك إذا كان المصلي مسجدا أوجب التنزل للمكان القريب منه، لأنه كالميسور منه.

و أما ما احتمله سيدنا المصنف قدّس سرّه من كون المراد بالمسجد فيه المصلي، فيناسب ما تقدم من المقنعة- بناء علي ان المراد به القرب من المصلي لا مكان منه- فهو بعيد جدا لأن خفاء الوجه في امتناعها من الجلوس في المصلي يؤكد ظهوره في المسجد المعهود المفروغ عن حرمة الجلوس فيه. و من ثم كان ما ذكرناه أقرب. مع اعتضاده ما في الخلاف من دعوي إجماع الفرقة و أخبارهم. و إن كان في نهوض ذلك بالاستدلال إشكال. علي أنه لو تم فهو لا ينهض بتقييد إطلاق بقية النصوص، لما سبق من الجمع بين المطلق و المقيد في المستحبات يقتضي اختلاف مرتبة الفضل.

(1) كما في الفقيه و المسالك و ظاهر الروض و عن الإصباح و النفلية. و قد يحمل عليه إطلاق غيرهم، لاستدلالهم ببعض النصوص الذي تضمنته، و لا سيما من اعتبر الجلوس في المصلي، لظهور حاله في إرادة التشبه بحال الصلاة.

و كيف كان، فيقتضيه صحاح محمد بن مسلم و معاوية بن عمار و زيد الشحام و مرسل الهداية و خبر الدعائم و الرضوي. و قد ينزل عليه إطلاق غيرها، حيث لا يبعد كون الجمع بينها بالتقييد لمناسبته لإرادة التشبه بحال الصلاة أقرب من الجمع

ص: 131

ذاكرة للّه تعالي (1). و الأولي لها اختيار التسبيحات الأربع (2).

______________________________

باختلاف مراتب الفضل. فتأمل.

(1) كذا أطلق جملة من الأصحاب. و هو معقد الشهرة في المختلف و جامع المقاصد و كشف اللثام و الحدائق، و الإجماع في الخلاف. و يقتضيه إطلاق صحيحي محمد بن مسلم و زيد الشحام و مرسل الهداية و الرضوي و ظاهر صحيح الحلبي.

و أما ذكر التهليل في صحيحي معاوية بن عمار و زرارة و التكبير في الأول و التسبيح و التحميد في الثاني. فلا يبعد ظهوره في عدم خصوصيتها، بل مجرد كونها من أفراد الذكر لذكره معها فيهما. و لعل ذلك هو المراد من الاقتصار عليها في خبر الدعائم.

كما أنه لا يبعد ذلك في تلاوة القرآن التي تضمنها صحيح معاوية بن عمار، إذ من البعيد جدا إهمالها في النصوص الأخر لو كان لها خصوصية في الاستحباب، خصوصا صحيح الحلبي المتضمن ما تفعله نساء النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم حيث يبعد جدا تركهن لها مع أوليتها أو إهماله عليه السلام لبيانها مع فعلهن لها.

نعم، الظاهر أن الصحيح المذكور صالح لتقييد ما تضمن كراهة قراءة الحائض القرآن بغير المورد، لأنه أقرب من حمله علي مجرد بيان تأدي الوظيفة بها مع كراهتها.

و لا ينهض خبر الدعائم بمعارضته. كما لا يخفي. و إن كان مجموع ذلك صالحا للبناء علي أولوية الذكر منها.

هذا، و في المقنعة: «فتحمد اللّه و تكبره و تهلله و تسبحه» و اقتصر في المراسم علي التسبيح، و عن النفلية أنها تجلس مسبحة بالأربع مستغفرة مصلية علي النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم.

و كأن مرادهم مجرد التمثيل بما هو من أفراد الذكر من دون خصوصية للمذكورات، كما يناسبه ما عن البيان: «و ليكن الذكر تسبيحا و تهليلا و تحميدا و شبهه». و إلا كان ما ذكروه خاليا عن الوجه.

(2) كما في العروة الوثقي. و كأنه لاشتمالها علي ما تضمنته النصوص مع خصوصية الترتيب الخاص المشروع، كما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه. و أما عدم

ص: 132

______________________________

تضمنه تلاوة القرآن فهو لا ينافي ذلك بعد ما سبق من أن الظاهر كون الذكر أولي منها.

نعم، عن القطب الراوندي في لب اللباب: «و في الخبر: إذا استغفرت الحائض وقت الصلاة سبعين مرة كتب اللّه لها ألف ركعة و غفر لها سبعين ذنبا و رفع لها سبعين درجة و أعطاها سبعين نورا، و كتب لها بكل عرق في جسدها حجة و عمرة» «1».

و الأولي أداء الوظيفة بما يشتمل علي ذلك.

هذا، و قد صرح الأصحاب بكون الذكر بقدر الصلاة، كما تضمنه صحيحا زرارة و زيد الشحام و مرسل الهداية و الرضوي، و هو المنصرف من إطلاق غيرها، لمناسبته لبدلية هذه الوظيفة عن الصلاة، حيث يبعد معه الاكتفاء بصرف الوجود جدا. و لا أقل من كونه موجبا لأولوية الجمع بالتقييد من الجمع باختلاف مراتب الفضل. فلاحظ.

بقي في المقام أمور..
الأول: قال في التذكرة: «و لا يرفع هذا الوضوء حدثا و لا يبيح ما شرطه الطهارة»

و نحوه عن التحرير و نهاية الأحكام و قريب منه في المنتهي.

و يشكل بأن إطلاق الوضوء ينصرف إلي الطبيعة المعهودة المطهرة. و مجرد استمرار حدثها- و لذا لا يباح به ما شرطه الطهارة- لا ينافيه، لإمكان تخفيف الحدث به و حصول مرتبة من الطهارة، كما في وضوء المسلوس. و هو المناسب لكون غايته الذكر المشروع بدلا عن الصلاة.

و أشكل من ذلك ما رتبه عليه في المنتهي من أنها لو توضأت بتخيل أنها حائض فبانت طاهرا لم يترتب عليه الطهارة، لأنها لم تنو طهارة فلم يقع.

إذ فيه: أنه يبتني- مع ذلك- علي اعتبار نية الطهارة في صحة الوضوء، و قد تقدم في مبحث نية الوضوء أنه لا يعتبر فيه إلا نيته و التقرب به، و هما حاصلان في المقام.

نعم، لو لم يكن المشروع في حق الحائض وضوءا، بل شبيها بالوضوء تعين عدم

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 29 من أبواب أحكام الحيض حديث: 4.

ص: 133

______________________________

الاجتزاء به بعد فرض عدم نية الوضوء به. لكن لا مجال لتنزيل نصوص المقام عليه.

و مما ذكرنا يظهر أنه لا بد في أداء الذكر الموظف به من عدم تخلل أحد نواقض الوضوء بينهما، لإطلاق دليل ناقضيتها. و ما في التذكرة من الإشكال فيه في غير محله.

بل لو فرض عدم كونه وضوءا حقيقة لم يبعد ظهور نصوصه في ترتب أحكام الوضوء عليه، و منها الانتقاض بالنواقض المذكورة.

و علي ما ذكرنا يبتني ما أشرنا إليه آنفا من قرب لزوم تعقيب الوضوء بالذكر و عدم الفصل المعتد به بينهما لأن ارتكاز كون الغرض منه تخفيف الحدث، و تجدد الحدث باستمرار الحيض المقتضي لانتقاضه يوجب انصراف إطلاق النصوص للتعجيل اقتصارا في الحدث علي ما لا بد منه، كما يذكر في المسلوس و المستحاضة.

الثاني: قال في المنتهي: «لو فقدت الماء هل تتيمم أم لا؟

الوجه: لا، لأنها طهارة اضطرارية و لا ضرورة هنا. و لعدم تناول النص له»، و جري علي ذلك في المقام في جامع المقاصد و كشف اللثام و المدارك و محكي التحرير.

و يشكل: بأن التيمم و إن كان طهارة اضطرارية إلا أن المعيار في الاضطرار المسوغ له ليس علي وجوب الطهارة، بل علي مشروعيتها مع تعذر المائية منها، و هما حاصلان في المقام.

و أما عدم تناول النص له فإن أريد به نصوص المقام فهو غير ضائر بعد كونها محكومة لأدلة بدلية التيمم. و إن أريد به نصوص بدلية التيمم فلا وجه لقصورها مع إطلاق ما تضمن أنه أحد الطهورين، و أنه يكفيك الصعيد عشر سنين «1»، فإن إطلاقهما شامل للمقام بناء علي ما سبق من طهورية الوضوء في المقام بلحاظ تخفيفه الحدث. بل إطلاق الثاني شامل له حتي لو لم يكن طهورا. فلاحظ.

و لعله لذا استشكل في محكي نهاية الأحكام في عدم بدلية التيمم في المقام، بل ظاهر المدارك وجود قول ببدليته. و لعله لما في جامع المقاصد، حيث قال في بيان التيمم

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 23 من أبواب التيمم.

ص: 134

______________________________

المندوب: «لا إشكال في استحبابه إذا كان المبدل رافعا أو مبيحا، إنما الإشكال فيما سوي ذلك. و الحق أن ما ورد به النص أو ذكره من يوثق به من الأصحاب- كالتيمم بدلا من وضوء الحائض للذكر يصار إليه، و ما عداه فعلي المنع إلا أن يثبت بدليل».

لكن ظاهره أن استحبابه ليس لإطلاق الأدلة، بل لذكر من يوثق به من الأصحاب به له. كما أن ظاهر الروض احتمال استحبابه لأولوية بدليته عن غير الرافع منه عن الرافع. و هما معا كما تري لا ينهضان بإثبات المشروعية.

نعم، ظاهرهما المفروغية عن البدلية عن الرافع، و قد عرفت أن الوضوء في المقام رافع بلحاظ تخفيفه من الحدث. بل ظاهر جامع المقاصد ذلك في المبيح أيضا، و الوضوء في المقام مبيح، لتوقف الدخول في الذكر الموظف عليه.

و كيف كان، فالظاهر بدلية التيمم في المقام، كما قواه في الجواهر.

الثالث: ذكر في المنتهي أن الغسل لا يقوم مقام الوضوء في أداء الوظيفة المذكورة، لعدم تناول النص له.

و هو ظاهر لو أريد به عدم تشريع الغسل بدلا عن الوضوء في المقام.

أما لو أريد به عدم إجزاء الأغسال المشروعة في حق الحائض- علي ما تقدم في المسألة السابقة- عن هذا الوضوء. فهو لا يتجه في غسل الجنابة، بل و لا في غيره من الأغسال الواجبة و المستحبة- بناء علي ما تقدم من إجزائها عن الوضوء- لشمول إطلاق دليل إجزائها عن الوضوء لهذا الوضوء، بناء علي ما سبق من مطهريته في الجملة.

و ما في الجواهر من المنع عن ذلك، لظهور أن مراد القائل بإجزاء الغسل عن الوضوء إجزاءه عن الوضوء الرافع للحدث. غير ظاهر لو أريد به خصوص الموجب للطهارة التامة من كل حدث، بل الظاهر عمومه لما يوجب الطهارة في الجملة و لو بتخفيف الحدث، لإطلاق دليل الإجزاء.

نعم، بناء علي ما يظهر منه من عدم مطهرية الوضوء في المقام أصلا يتجه عدم

ص: 135

(مسألة 23): يكره لها الخضاب (1) بالحناء أو غيرها (2)، و حمل

______________________________

إجزاء الغسل عنه، لظهور دليل الإجزاء في الإجزاء من حيثية المطهرية و لا أقل من كونه المتيقن منه. و أولي بذلك ما لو لم يكن وضوءا حقيقة، بل شبيها بالوضوء. لكن سبق ضعف المبني المذكور، فالمتجه الإجزاء. غاية الأمر أنه يختص بصلاة واحدة، كالوضوء المجزي عنه.

الرابع: هل يجزي الوضوء المذكور للحائض إذا كانت محدثة بالأكبر غير الحيض،

كالجنابة و نحوها، أو لا بد من الغسل عنه لها؟

و جهان، قد يدعي قصور إطلاق النصوص المتقدمة عن إثبات عدم الحاجة للغسل، لورودها لبيان وظيفة الحائض من حيثية حيضها، لا من حيثية أخري، كالجنابة و نحوها. لكن لا يبعد استفادة العموم تبعا بسبب عدم التنبيه فيها علي الغسل بعد تعرض الحائض للأحداث الأخري، خصوصا الجنابة، مع الغفلة عن لزوم رفعها مقدمة لأداء هذه الوظيفة بسبب مسانختها للحيض الذي يتعذر رفعه، و لا سيما مع التأكيد في نصوص حيض المرأة الجنب علي عدم الحاجة للتعجيل بغسل الجنابة مع ظهور اهتمام الشارع بهذه الوظيفة.

علي أنه لو فرض عدم الإطلاق أمكن الإتيان بالذكر بدونه بداعي الأمر به المعلوم علي ما هو عليه من التردد بين التقييد بالغسل و عدمه، نظير التقرب بالأقل في موارد دوران المكلف به بين الأقل و الأكثر الارتباطيين، علي ما ذكرناه في خاتمة البراءة و الاشتغال من الأصول.

مسألة 23: مكروهات الحائض

(1) كما صرح به الأصحاب، بل في المعتبر و المنتهي و ظاهر المعتبر الإجماع عليه. و يظهر الوجه فيه مما تقدم في مكروهات الجنب.

(2) كما هو مقتضي إطلاق النص و الفتوي. و اقتصر في المراسم علي الخضاب بالحناء. و قد تقدم في مكروهات الجنب الكلام فيه و فيما في المقنعة من الاقتصار علي خضاب الأيدي و الأرجل.

ص: 136

المصحف و لمس هامشه و ما بين سطوره و تعليقه (1).

______________________________

(1) لما في خبر إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السلام: «قال: المصحف لا تمسه علي غير طهر و لا جنبا و لا تمس خطه و لا تعلقه، إن اللّه تعالي يقول: (لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)» «1» المحمول علي الكراهة بقرينة غيره مما تقدم في مبحث ما يحرم علي الجنب. و تقدم ضعف ما نسب للمرتضي من القول بالحرمة. كما يظهر مما تقدم هناك الكلام في كراهة قراءة القرآن لها، لمشاركتها للجنب في كثير من النصوص.

نعم، ما تضمن المنع مما زاد علي سبع آيات أو سبعين أية مختص بالجنب.

فراجع.

هذا، و قد وقع الكلام بين الأصحاب في جواز سجود التلاوة و وجوبه علي الحائض، و لم يتعرض له سيدنا المصنف قدّس سرّه هنا اكتفاء بما يأتي منه في ذيل مباحث السجود من كتاب الصلاة من التعرض لأحكام سجود التلاوة. و نسأله تعالي أن يوفقنا لبحث تلك الأحكام، إنه ولي الأمور، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

و قد انتهي الكلام في مبحث الحيض ليلة السبت غرة ربيع الثاني في السنة الواحدة بعد الألف و الأربعمائة للهجرة. كما انتهي تبييضه ضحي الأحد الثاني من الشهر المذكور. و الحمد للّه رب العالمين.

______________________________

(1) الوسائل باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 137

ص: 138

المقصد الثالث في الاستحاضة
اشارة

المقصد الثالث في الاستحاضة

مسألة 24: تحديد موارد الاستحاضة
اشارة

(مسألة 24): دم الاستحاضة (1)

______________________________

(1) تقدم الكلام في معني المستحاضة عند الاستدلال علي المختار في وجه الجمع بين نصوص الاستظهار و نصوص الاقتصار علي العادة في المسألة التاسعة من مبحث الحيض، و ذكرنا هناك أن موضوع الأحكام هي التي يخرج دمها من غير المحيض، و هو المستفاد من جملة من النصوص، كقوله عليه السلام في صحيح معاوية بن عمار: «ان دم الاستحاضة و الحيض ليس يخرجان من مكان واحد» «1»، و في مرسلة يونس الطويلة: «فقال لها النبي صلي اللّه عليه و آله و سلم: ليس ذلك بحيض، إنما هو عرق، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغسلي عنك الدم و صلي. و كانت تغتسل في وقت كل صلاة … » «2» و غيرهما.

نعم، لا بد من عدم كونه دم نفاس أيضا، و إنما لم ينبه له لوضوحه. و منه يظهر أن ذكر الصفات في النصوص و الفتاوي ليس لكونها موضوع الأحكام، بل لبيان حال الدم الموضوع لها، أو للأمارية عليه عند الشك، و سيأتي بعض الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي. كما ظهر تباين دميي الحيض و الاستحاضة ذاتا، لا أنهما دم واحد يختلف حكمه باختلاف الأحوال و الأوقات.

و أما استبعاد تباين الدميين ذاتا مع اتصالهما- كما في مستمرة الدم- فهو لا ينهض برفع اليد عن ظاهر النصوص و الفتاوي أو صريحهما. علي أنه يمكن دفعه

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

ص: 139

في الغالب (1) أصفر بارد رقيق يخرج بلا لذع و حرقة، عكس دم الحيض (2)، و ربما كان بصفاته (3). و لا حدّ لكثيره و لا لقليله (4)،

______________________________

باحتمال خروج دم الاستحاضة مع دم الحيض مختلطا به، لأن الاستحاضة من سنخ المرض الذي يمكن حصوله حال الحيض، غايته أنه لا أثر لها معه، و إنما يترتب عليها الأثر بعد انتهاء أمد الحيض، فيتمحض الدم بدمها.

(1) كما صرح بذلك جماعة كثيرة، و في الجواهر أنه مراد من تركه. لما يأتي.

(2) تقدم في المسألة الخامسة من مبحث الحيض الكلام في صفات دم الحيض الغالبية، و حيث كانت مسوقة في النص و الفتوي في مقابل صفات دم الاستحاضة يعلم منها صفات دم الاستحاضة و حكم تعارض الصفتين.

لكن تحقيق ذلك إنما يهم في مورد حجية الصفات، و قد سبق اختصاصه بمستمرة الدم الفاقدة للعادة، و أما في غيرها فمع جريان قاعدة الإمكان في حقها يبني علي حيضية الدم و إن فقد صفات الحيض و كان بصفة الاستحاضة، و بدونه يبني علي عدم حيضيته و إن كان بصفات الحيض.

و حينئذ فالبناء علي كونه استحاضة موقوف علي انحصار الدم بهما و أن كل ما لم يكن حيضا فهو استحاضة واقعا أو ظاهرا. و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

(3) بلا إشكال و به صرح جماعة، بل ادعي الإجماع عليه في جملة من الموارد.

و يشهد به ما تضمن تحديد الحيض بحدوده الواقعية، لدلالته علي عدم حيضية الفاقد لها و إن كان بصفة الحيض، فيكون استحاضة بناء علي التلازم بينهما علي ما أشرنا إليه و يأتي. و كذا ما تضمن كون ما زاد علي العادة مطلقا أو بعد الاستظهار استحاضة من دون نظر للصفات، و ما ورد في التحيض بالعدد، و ما يأتي إن شاء اللّه تعالي من جريان أحكام المستحاضة مع استمرار دم النفساء.

(4) بلا إشكال ظاهر. لإطلاق أدلة أحكام الاستحاضة، بل بعض نصوصها

ص: 140

و لا للطهر المتخلل بين أفراده (1). و يتحقق قبل البلوغ و بعده و بعد اليأس (2)

______________________________

صريح في قصور الأمد كمرسل داود فيمن تري الدم يوما و تطهر يوما «1»، و بعضها صريح في طويله، كجملة من نصوص مستمرة الدم.

(1) قطعا، لإطلاق أدلة أحكام الطهر و الاستحاضة، فمقتضي الأولي جريان أحكام الطهر علي النقاء، و الثانية جريان أحكام الاستحاضة علي الدم، من دون فرق فيهما بين طول أمد الطهر و قصره. مضافا إلي ما تضمنته جملة من النصوص من تعليق الحكم بالاستحاضة أو بأحكامها علي رؤية الدم، حيث يدل بمفهومه علي ثبوته بدونه و منها مرسل داود فيمن تري الدم يوما و تطهر يوما الذي أشرنا إليه آنفا.

(2) كما في الشرائع و النافع و جامع المقاصد و الروض و كشف اللثام و محكي نهاية الأحكام و التحرير و غيرها، و نبه في القواعد و الإرشاد و اللمعة علي ما يكون بعد اليأس دون ما يكون قبل البلوغ، و في جامع المقاصد أنه ينبغي التنبيه عليه لأنه أخفي مما بعد اليأس. و ظاهره المفروغية عن إرادتهم له، و إن قصر بيانهم، و هو غير بعيد عنهم، بل لا يبعد عن جميع الأصحاب إرادة الأمرين و إن لم يذكرها جملة منهم معا، لأن اهتمامهم بتحديد الحيض بالسن دون دم الاستحاضة ظاهر في عدم بنائهم علي أنه من حدوده.

نعم، قد يستفاد خلاف جملة منهم فيه من تعرضهم للمستحاضة في مستمرة الدم و تقسيمهم لها إلي المبتدئة و المضطربة و المعتادة، حيث قد يظهر في اختصاصها بمن يكون من شأنها الحيض.

لكن الظاهر أن موضوع التقسيم في كلماتهم المستحاضة ببعض معانيها.

و هي التي يستمر بها الدم بعد الحيض أو خصوص التي لا ينقطع دمها، و هي التي تعرضت لها بعض النصوص المشهورة، كمرسلة يونس الطويلة، دون التي هي

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 141

______________________________

موضوع الأحكام، إذ لا إشكال بعد النظر في النصوص و الفتاوي في أن موضوعها المستحاضة بالمعني الذي تقدم منا آنفا، و هي مطلق ذات الدم الخاص المباين لدمي الحيض و النفاس و إن لم تكن مستمرة الدم.

قال في محكي نهاية الأحكام: «الاستحاضة قد يعبر بها عن كل دم تراه المرأة غير دمي الحيض و النفاس خارج من الفرج مما ليس بعذرة و لا قرح، سواء اتصل بالحيض كالمجاوز لأكثر الحيض أو لم يكن، كالذي تراه المرأة قبل التسع، فإنه و إن لم توجب الأحكام عليها في الحال، لكن فيما بعد يجب الغسل أو الوضوء علي التفصيل، أو توجب الأحكام علي الغير، فيجب النزح و غسل الثوب من قليله. و قد يعبر بها عن الدم المتصل بدم الحيض وحده. و بهذا المعني ينقسم المستحاضة إلي معتادة و مبتدأة، و أيضا إلي مميزة و غيرها، و يسمي ما عدا ذلك دم فساد. لكن الأحكام المذكورة في جميع ذلك لا تختلف». و قريب منه في الروض، بل جعل المعني الذي ذكرناه هو المشهور في إطلاقاتهم.

و كيف كان، فبعد أن كان المستفاد من النصوص مباينة دم الاستحاضة للحيض، و أن دم الاستحاضة موجب للحدث فلا ينبغي التأمل في عدم دخل السن في سببيته للحدث، لعدم خصوصية عرفا في ذلك، كسائر الأحداث التابعة لأسبابها من دون خصوصية للسن، و بذلك يستغني عن تكلف تحصيل الإطلاق من هذه الجهة، لأن إلغاء الخصوصية عرفا من القرائن التي يستفاد بمعونتها العموم.

و إنما الإشكال في إحراز كون الدم الخارج قبل البلوغ أو بعد اليأس دم استحاضة واقعا أو ظاهرا، ليترتب حكمه، و هو موقوف علي تحديد دم الاستحاضة مفهوما و مصداقا، و إن الدم هل ينحصر بين الحيض أو النفاس و الاستحاضة، بحيث يكفي في إثبات كونه استحاضة واقعا أو ظاهرا عدم كونه حيضا و لا نفاسا أولا.

فنقول: أشرنا آنفا إلي أن دم الاستحاضة التي هي موضوع الأحكام هو الدم الخارج من غير مخرج الحيض و النفاس. و حينئذ فالانحصار..

ص: 142

______________________________

تارة: يكون واقعيا مفهوميا، لتقوم الاستحاضة التي هي موضوع الأحكام بخروج الدم من دون حيض أو نفاس.

و أخري: يكون واقعيا خارجيا، بأن تكون عبارة عن خروج دم خاص مباين لدم الحيض و النفاس، من دون أن يؤخذ في مفهومه عدمهما، كما لم يؤخذ في مفهومهما عدمه، غاية الأمر أن دم المرأة لا يخرج عن الدماء الثلاثة.

و ثالثة: يكون ظاهريا شرعيا، بمعني أن الدم لا يحكم عليه شرعا بأنه حيض أو نفاس أو حكم معه بعدمهما يحكم معه ظاهرا بالاستحاضة، فيترتب عليه أحكامها، و إن أمكن ثبوتا كونه دما رابعا و احتمل ذلك.

و علي الأول يكفي البناء علي الاستحاضة التعبد بعدم الحيض و النفاس باستصحاب أو غيره، حيث يتعبد بسببه بالاستحاضة فتترتب أحكامها. و لا يعارضه أصالة عدم الاستحاضة، لأنه مسببي بالإضافة إليه.

و كذا علي الثالث، لأن التعبد بعدم الحيض و النفاس تعبد بموضوع الحكم الظاهري بالاستحاضة و إن لم تحرز حدودها المفهومية، نظير استصحاب عدالة الشاهد بالنجاسة بالإضافة إلي الحكم بها.

أما علي الثاني فلا مجال للبناء علي الاستحاضة إلا مع إحراز عدم الحيض و النفاس بالوجدان أو بقاعدة تنهض بإثبات اللوازم الخارجية لمؤداها، دون مثل الاستصحاب.

نعم، حيث كان مقتضي استصحاب عدم الحيض و النفاس ثبوت أحكام الطاهر، و لا يعارضه استصحاب عدم الاستحاضة في ذلك، لعدم تبعية ارتفاع أحكام الطاهر لعدم الاستحاضة شرعا، بل للحيض و النفاس الملازمين له خارجا، فاللازم البناء علي ثبوت الأحكام المذكورة، و منها وجوب الصوم و الصلاة. غايته أن مقتضي استصحاب عدم الاستحاضة صحتهما بدون القيام بوظيفتها، و حيث يعلم بكذب ذلك و بطلانهما حينئذ إما لثبوت الحيض أو النفاس أو لثبوت الاستحاضة،

ص: 143

______________________________

يتعين سقوط الأصل المذكور.

و قد تقدم توضيح ذلك عند الكلام في اعتبار التوالي في أقل الحيض. فراجع.

و منه يظهر حال ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه بناء علي الوجه المذكور فأصالة عدم كون الدم حيضا لا تثبت كونه استحاضة، بل هي معارضة بأصالة عدم الاستحاضة. فإن عدم إثبات أصالة عدم كون الدم حيضا لكونه استحاضة و إن كان تاما، إلا أن معارضتها بأصالة عدم كونه استحاضة غير تامة، لسقوط الثانية بالعلم بكذب مؤداها، كما ذكرنا. و عليه لا أثر عملي للفرق بين الوجهين الأولين.

كما أنهما يشتركان في أنه يتعين البناء علي الاستحاضة في ظرف ثبوت عدم حيضية الدم، فتترتب أحكامها مطلقا من دون نظر للسن، لما سبق من عدم خصوصيته في سببيتها للحدث عرفا، أما علي الثالث فهو تابع لعموم دليل التعبد الظاهري بالاستحاضة عند عدم الحيض، إذ لا استبعاد في اختصاص التعبد المذكور ببعض الأحوال، لاختصاص منشئه من غلبة أو نحوها به.

و منه يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه حيث بني علي الوجه الثاني مستدلا عليه بالنصوص، ثم قال: «نعم، النصوص جميعها موردها البالغة غير اليائسة، فتعميم الحكم لدم غيرها غير ظاهر».

إذ فيه: أنه مع فرض الانحصار فتعذر الحيض و النفاس في اليائسة و الصغيرة مستلزم لكون الدم استحاضة. اللهم إلا أن يبنتني علي احتمال اختصاص الانحصار بالبالغة غير اليائسة، و أن هناك دم آخر تبتلي به الانثي قبل بلوغها ثم ينقطع عنها بالبلوغ و يعود إليها باليأس. لكنه كما تري بعيد جدا، بل لا يعتد به عرفا بنحو يمنع من فهم عموم الانحصار من الأدلة. فلاحظ.

إذا عرفت هذا، فقد صرح الأصحاب رضي اللّه عنهم بالانحصار المشار إليه في الجملة بنحو يظهر في المفروغية عنه. قال في القواعد: «و كل ما ليس بحيض و لا قرح و لا جرح فهو استحاضة، و إن كان مع اليأس»، و تستفاد هذه الكلية من جملة من الكتب

ص: 144

______________________________

كالشرائع و النافع و الإرشاد و جامع المقاصد و الروض و كشف اللثام و ما تقدم عن نهاية الأحكام و محكي التحرير و البيان و الكفاية و غيرها، مع التنبيه في بعضها إلي استثناء النفاس، و في آخر إلي أن عدم استثنائه لمعلوميته أو لإلحاقه بدم الحيض، و في جملة منها التنبيه إلي التعميم لما قبل البلوغ، كما تقدم، و عن شرح المفاتيح نسبة هذه الكلية للفقهاء، بل في الجواهر أنه يظهر منه دعوي الإجماع علي انتفاء دم آخر غير الدماء المذكورة.

و هو غير بعيد، بلحاظ أن اهتمامهم بتحديد مصاديق دم الحيض و النفاس و العذرة و القرحة و ذكر الضوابط لها في مقام العمل و عدم اهتمامهم بذلك في دم الاستحاضة و اقتصارهم علي الحكم بها في موارد عدم الحيض و النفاس ظاهر في مفروغيتهم عن عمومها لكل دم يباين الدماء المذكورة، و أنه ليس هناك دم لا يحكم بأحكامها ليتوقف عن الحكم بالاستحاضة عند انتفاء الحيض و النفاس و القرح و الجرح.

و يمكن استفادة هذه الكلية بعد النظر في النصوص الحاكمة بالاستحاضة أو بأحكامها مع خروج الدم بمجرد عدم كونه حيضا أو نفاسا، كنصوص الاستظهار، و مستمرة الدم، و من يتقطع عليها الدم، و النفساء، و من تري الدم قبل مضي أقل الطهر، و الحامل التي لا يحكم علي دمها بالحيضية، و هي كثيرة لا مجال لاستقصائها، و قد تقدم جملة منها في محالها المناسبة، كما ذكر و أشار إلي جملة منها سيدنا المصنف قدّس سرّه هنا. فلتلحظ في الأبواب المناسبة من الوسائل.

و هذه النصوص و إن اختص أكثرها أو كلها بموارد خاصة إلا أن إلغاء خصوصية تلك الموارد عرفا قريبة جدا بعد كثرتها و المفروغية عن التعدي عنها في الجملة، حيث يستفاد منها العموم لكل مورد يخرج فيه الدم الذي ليس بحيض و لا نفاس.

و لما كانت ظاهرة في أن الحكم علي المرأة بأنها مستحاضة ذات وظائف خاصة واقعي بسبب الدم الخاص الموجب للحدث، و لا ظاهري بسبب الشك في نوعه، كان لازم ذلك انحصار الدم بالحيض و النفاس و الاستحاضة، و حيث سبق أن احتمال

ص: 145

______________________________

اختصاص الانحصار المذكور بحال دون حال غير عرفي كان المتحصل منها انحصار دماء الأنثي بالدماء المذكورة كما فهمه الأصحاب و جروا عليه.

بل التصدي في النصوص لتحديد الحيض و النفاس و جعل الظوابط لهما دون الاستحاضة شاهد المفروغية عن ذلك و وضوحه عند المتشرعة حتي لا يحتاج إلي بيان. بل لا يبعد كونه كذلك عند العرف لأن الظاهر متابعة المتشرعة لهم في المعني إذا لم يتصد الشارع الأقدس لشرحه و تحديده. و بذلك يظهر أنه لا مجال لابتناء الانحصار المذكور علي الوجه الثالث، بل يتردد بين الوجهين الأولين.

هذا، و قد يقرب الوجه الثاني بما ذكره غير واحد من اللغويين من أن دم الاستحاضة يخرج من عرق العاذل، إذ مقتضاه أنه دم مخصوص في قبال دم الحيض لم يؤخذ عدم أحدهما في مفهوم الآخر.

لكنه يندفع بأن ظهور النصوص المتقدمة في انحصار دم المرأة بالحيض أو النفاس و الاستحاضة لا يناسب ذلك، حيث يبعد جدا عدم خروج الدم غير الطبيعي للمرأة و الذي هو من سنخ المرض لها إلا من عرق واحد مع تعرضها كسائر الناس لشتي أنواع المرض و نحوه من أسباب خروج الدم.

بل هو لا يناسب قوله عليه السلام في مرسلة يونس الطويلة: «و كذلك أفتي أبي عليه السلام و سئل عن المستحاضة فقال: إنما ذلك عرق عابر [غابر. عائذ] أو ركضة من شيطان» «1»، و في مرسلته القصيرة: «فذلك اليوم و اليومان الذي رأته لم يكن من الحيض، إنما كان من علة إما من قرحة في جوفها و إما من الجوف» «2»، بناء علي كون الدم المذكور في الثانية استحاضة، لدلالتها علي عدم اختصاص الاستحاضة بعرق خاص.

و لعله لذا أطلق بعض اللغويين أن المستحاضة هي التي يخرج دمها من غير عرق الحيض. بل لا يبعد رجوع التعريف الأول إليه، لما هو المعلوم من عدم تيسر

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 12 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 146

______________________________

إدارك العرق الخاص، فضلا عن خروج الدم منه في تلك العصور، خصوصا للعامة، و إنما المدرك لهم خروج الدم عن الوضع الطبيعي و مباينته للحيض، فلو لا عموم الاستحاضة عندهم لكل دم خارج من الرحم غير الحيض و النفاس لم يتيسر لهم تشخيصها، و سهولة تشخيصها عليهم شاهد بعموم مفهومها، و إنما نسبوها للعرق الخاص من باب الحدس و التخمين.

لكن عموم دم الاستحاضة لا يكفي في إثبات الوجه الأول، لإمكان أن يراد بها كل دم خارج عن طبيعة المرأة من أي منبع يخرج، فيقابل الحيض و النفاس من دون أن يؤخذ عدمهما في مفهومه، و أخذ عدمهما في مفهومها كأخذ عدمها في مفهومها يبتني علي عناية تحتاج إلي دليل.

نعم، لو كان لسان أدلة أحكام الاستحاضة ثبوتها في كل دم، و كان خروج دم الحيض و النفاس عنها بلسان التخصيص اتجه أخذ عدمهما في موضوع أحكام الاستحاضة، بنحو يكفي في ترتيبها إحراز عدمهما بالأصل، بناء علي ما هو التحقيق من أن أصالة عدم عنوان الخاص تكفي في إثبات حكم العام. إلا أن من الظاهر عدم كون الأدلة بهذا اللسان، بل هي واردة علي عنوان الاستحاضة.

و من هنا لا طريق لإثبات الوجه الأول، بل يتردد الأمر بينه و بين الثاني. لكن يهون الأمر عدم الفرق بين الوجهين عملا، كما سبق.

و من جميع ما سبق يظهر ضعف ما في المدارك من عدم الحكم بالاستحاضة إلا مع كون الدم بصفتها أو قيام الدليل الخاص علي ذلك، كما فيما زاد علي أكثر الحيض و النفاس. وجه الضعف أن ما سبق في تقريب استفادة عموم الانحصار من الأدلة كاف في عموم البناء علي الاستحاضة بمجرد عدم كون الدم حيضا و لا نفاسا.

و لو غض النظر عنه فالتعويل علي الصفات موقوف.. أولا: علي عموم حجيتها لغير مستمرة الدم.

و ثانيا: علي إطلاقها من حيثية سائر الاحتمالات و عدم اختصاصها بصورة

ص: 147

______________________________

التردد بينها و بين الحيض.

و مما سبق في الحيض يتضح عدم ثبوت الأول، لأنهما في مساق واحد.

و الثاني في حيز المنع، كما يظهر من النظر في أدلة الصفات، و قد تقدمت عند الكلام في قاعدة الإمكان من مبحث الحيض.

بقي شي ء. و هو أنه سبق من الأصحاب رضي اللّه عنهم اختصاص الاستحاضة بما ليس من قرح و لا جرح. فإن أريد من الجرح و القرح ما يكون في فضاء الفرج- كما قد يناسبه سياقه فيما تقدم عن نهاية الأحكام في مساق العذرة- فهو متجه، لاختصاص الاستحاضة عرفا بما يخرج من الرحم كالحيض، بحيث يشبهه أو يشتبه به، كما هو مقتضي اشتقاقها. و كذا ما يكون في الجوف غير الرحم و يخرج من طريق الفرج من غير أن يمر بطريق الرحم إليه.

و إن أريد بهما ما يكون في الرحم لم يتضح الوجه فيه بعد ما عرفت من عدم اختصاص الاستحاضة بعرق خاص، لإطلاق الأدلة المتقدمة، و ما تضمنته مرسلة يونس الطويلة من أن الاستحاضة قد تكون لركضة من شيطان، حيث تناسب انفتاقا في الرحم و حدوث جرح فيه، فيبعد جدا خروج صورة الجرح عنه.

و أما ما عن بعض مشايخنا من أن موضوع النصوص المستدل بها علي الانحصار هو الدم القابل لأن يكون حيضا، و دم القرح و الجرح غير قابل لذلك، فيخرج عن موضوع النصوص و لا تنهض بإثبات كونه استحاضة.

ففيه: أنه بعد معلومية التباين ذاتا بين دميي الحيض و الاستحاضة لا معني لتقييد النصوص بالدم القابل لأن يكون حيضا، بل لا بد من كون موضوعها مطلق الدم المشابه له في الخروج من مخرجه، و هو شامل لدم القرح و الجرح.

نعم، يتجه ذلك منه بناء علي ما جري عليه- تبعا لما تقدم من بعض اللغويين- من خروج دم الاستحاضة من عرق العاذل. و قد سبق ضعفه.

و أما الاستدلال علي عدم كون دمهما استحاضة بمرسلة يونس القصيرة، حيث

ص: 148

______________________________

لم تتضمن الحكم بها فيما لم يبلغ الدم ثلاثة أيام معللا بأنه من علة إما قرحة في جوفها أو من الجوف.

فهو كما تري، لوضوح أنها لا تدل إلا علي نفي الحيض، و لعلها إنما تتعرض للحكم بالاستحاضة لعدم الأثر له بعد سبق ترتيب أثر الحيض ظاهرا علي الدم حين وجوده. مع أنها لا تختص بالقرحة، بل تعم مطلق العلة، فلو لم يكن استحاضة لم يبق لها مورد، لما هو المعلوم من أنها من سنخ المرض، و يشهد به قوله عليه السلام في صحيح عبد اللّه بن سنان بعد بيان ما يجب علي المستحاضة: «لم تفعله امرأة قط احتسابا إلا عوفيت من ذلك» «1».

علي أنه إن أريد بذلك توقف ترتيب أحكام المستحاضة ظاهرا علي إحراز الخروج من غير القرح و الجرح فهو غير متيسر غالبا، و أصالة عدم وجودهما أو عدم خروج الدم منهما لا تحرزه إلا بناء علي الأصل المثبت، فلا تكون أحكامها عملية إلا نادرا. و هو مما تأباه نصوصها جدا.

و إن أريد به الاكتفاء في ترتيب أحكامها بعدم إحراز الخروج من القرح و الجرح، كما يظهر من الجواهر بدعوي: أنها أغلب في النساء بعد الحيض. و لأصالة عدم وجود سبب غيرها. و لأن المستفاد من النصوص اصالة الاستحاضة في الدم بعد عدم كونه حيضا.

أشكل بأن الغلبة- مع عدم الدليل علي حجيتها- غير ظاهرة، للجهل بحال الدم في النساء بعد كون منبعه من الباطن و خروجه عن الوضع الطبيعي. و أصالة عدم وجود سبب غير الاستحاضة لا تحرزها إلا بناء علي الأصل المثبت، كما تقدم.

و أما النصوص فهي ظاهرة في أن الدم استحاضة واقعا لا ظاهرا، و مقتضاه كون دم الجرح و القرح استحاضة كما سبق، فلو فرض قصورها عن دم الجرح و القرح يكون التمسك بها لإثبات كون الدم المشتبه استحاضة تمسكا بالعام في الشبهة

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 4.

ص: 149

______________________________

المصداقية من طرف الخاص الذي هو خلاف التحقيق، أو العام الذي لا يجوز بلا كلام. و يأتي تمام الكلام في ذلك.

و أما التعويل علي صفات الاستحاضة مع احتمال الخروج من الجرح أو القرح، فقد عرفت أنه موقوف علي عموم حجيتها لغير مستمرة الدم، و إطلاقها من حيثية سائر الاحتمالات غير الحيض، و كلاهما ممنوع.

و مما ذكرنا يظهر ضعف التفصيل بين العلم بوجود الجرح و القرح فلا بد في البناء علي الاستحاضة من إحراز عدم خروج الدم منهما و عدمه فيكتفي بعدم إحراز خروجه منهما. لابتنائه علي الرجوع في الثاني لأصالة عدم الجرح و القرح، الذي سبق أنه لا يحرز الاستحاضة إلا بناء علي الأصل المثبت.

لكن بعض مشايخنا بعد أن اختار التفصيل المذكور فيما حكي عنه تبعا للفقيه الهمداني استدل عليه بأن البناء علي الاستحاضة مع عدم العلم بوجود القرح و الجرح. مقتضي أصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء، لأن الاستحاضة و إن كانت مستندة للعلة كغيرها من الدماء، إلا أنها لكثرة ابتلاء النساء بها تكون كالطبيعة الثانوية لهن، بخلاف القرح و الجرح، فتتعين بمقتضي أصالة السلامة. و هذا بخلاف ما إذا علم بوجود القرح و الجرح، للعلم بعدم السلامة.

و يشكل.. أولا: بأن كون الاستحاضة كالطبيعة الثانوية بحيث لا تجري فيها أصالة السلامة ممنوع جدا، لأن كثيرا من الأمراض المدفوعة بأصالة السلامة لا يقل تعرض الانسان لها عن تعرض المرأة للاستحاضة. علي أن المعلوم تعرض المرأة لخروج الدم غير الطبيعي، أما غلبة كونه من غير الجرح و القرح فقد عرفت منعها.

و ثانيا: أن أصالة السلامة إنما تنهض بنفي المرض و نحوه كالجرح و القرح، لا بلازم ذلك ككون الدم استحاضة في المقام، كما أشرنا إليه آنفا عند الكلام في قاعدة الإمكان، و لذا لو تردد سبب الدم بين الحيض و الجرح أو القرح أو نحوهما مما يدفع بأصالة السلامة لم تنهض أصالة السلامة بإثبات الحيض، بل المرجع أصالة عدم الحيض، كما

ص: 150

______________________________

اعترف به في مبحث الحيض.

نعم، يظهر من الفقيه الهمداني قدّس سرّه أن أصالة السلامة ليست هي الوجه في البناء علي الاستحاضة بل هو بناء العقلاء عليها الذي قد يكون منشؤه أصالة السلامة. لكن ذلك لو تم فبناؤهم علي أن الدم استحاضة واقعا، لعمومها لدم الجرح و القرح، لا ظاهرا لأصالة السلامة أو نحوها.

و مثله دعوي: استفادة ذلك من النصوص تبعا، لأن السكوت في مقام البيان مع ضرورة احتمال الجرح أو القرح أو غيرهما في كل دم لم يكن من الحيض و النفاس شاهد بعدم الاعتناء بالاحتمال المذكور، و أن الأصل الاستحاضة في الدم المذكور.

لاندفاعها بأن ذلك لا يناسب ما تقدم منه من أن موضوع النصوص هو الدم القابل لأن يكون حيضا، حيث لا بد حينئذ من إحراز القابلية المذكورة في مرتبة سابقة علي الرجوع للنصوص، و لا وجه لاستفادة الحكم منها في ظرف عدم إحرازها.

و أما بناء علي ما ذكرنا من أن موضوعها الدم المشابه للحيض في الخروج من مخرجه فقد سبق أن ظهور النصوص في كون الحكم بالاستحاضة واقعيا موجب لظهورها في أن دم الجرح و القرح استحاضة.

نعم، لو فرض قيام الدليل علي عدم كونهما استحاضة فما ذكره من ضرورة احتمالهما- لو تم- ملزم برفع اليد عن ظهورها في الحكم الواقعي و تنزيلها علي الحكم الظاهري لعدم الاعتناء باحتمالهما، و إلا لم يكن حكم الاستحاضة عمليا، و هو مما تأباه الإطلاقات جدا، كما سبق. لكن عليه يتجه التمسك بإطلاقها في البناء ظاهرا علي الاستحاضة حتي مع العلم بوجود القرح و الجرح و الشك في خروج الدم منهما، كما تقدم من الجواهر. علي أنه سبق عدم الدليل المذكور، فلا موجب لرفع اليد عن ظهور الإطلاقات في الحكم الواقعي.

و أشكل من ذلك ما حكي عنه من دعوي صراحة مرسلة يونس القصيرة في الحكم ظاهرا بالاستحاضة مع احتمال كون الدم من القرحة، و قريب منه ما ذكره

ص: 151

______________________________

الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

لاندفاعه: بأن المرسلة قد اقتصر فيها علي نفي حيضية الدم من دون حكم بأنه استحاضة. و ما ذكره الفقيه الهمداني من الأمر فيها بالاغتسال إنما ورد في صدرها في فرض احتمال عود الدم المستلزم لكونه حيضا فهو إنما يدل علي عدم الاعتناء باحتمال القرحة في مقابل الحيض، لا في مقابل الاستحاضة، و عدم الفرق بينهما في ذلك غير ظاهر بعد ثبوت قاعدة الإمكان في الحيض و كونه طبيعيا للمرأة بخلاف الاستحاضة.

و لو فرض تضمنها الحكم بالاستحاضة كانت ظاهرة في أن الدم استحاضة واقعا و إن خرج من القرحة، لا ظاهرا خصوصا و أن ترديد الإمام عليه السلام لا ينافي قطع المكلف بالخروج من القرحة. و بالجملة: لا مجال للتفصيل المذكور.

هذا، و قد يظهر من الإرشاد و محكي التحرير اختصاص مانعية الخروج من القرح و الجرح بما يكون دون الثلاثة أيام، أما غيره كالمستمر بعد الحيض و النفاس فهو استحاضة مطلقا و إن كان منهما. و الظاهر أن التفصيل المذكور تفصيل في مقام الثبوت لا الإثبات. و من البعيد جدا أن يرجع إلي التفصيل في صدق الاستحاضة، بل الظاهر رجوعه إلي التفصيل في حكمها مع عموم مفهومها.

و من ثم لا يبعد ابتناؤه علي الجمع بين إطلاق النصوص المتقدمة و مرسلة يونس القصيرة بناء علي دلالتها علي عدم كون الدم في اليوم و اليومين استحاضة. لكن عرفت المنع من دلالتها علي ذلك. مع أنها لو تمت كان مقتضاها عدم كونه استحاضة مطلقا و إن لم يكن من القرح. علي أنها معارضة بصحيح إسحاق بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة الحبلي تري الدم اليوم و اليومين. قال: إن كان دما عبيطا فلا تصلي ذينك اليومين، و إن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين» «1».

اللهم إلا أن يخص بمورده، و هو الحبلي أو الصفرة. لكنه بعيد. و بالجملة:

لا مجال للبناء علي خصوصية ما دون الثلاثة في الحكم بالاستحاضة مع القرح و الجرح.

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 6.

ص: 152

و هو ناقض للطهارة (1) بخروجه و لو بمعونة القطنة (2) من المحل المعتاد

______________________________

نعم، قد يدعي انصراف الإطلاقات المتقدمة لما يعم الجرح الناشئ من سبب يتعارف ابتلاء النساء به كانفتاق الرحم بسبب الولادة أو الطفرة، دون ما يستند لسبب خارجي، كطعنة رمح أو عملية جراحية، بل هي منصرفة عن ذلك، فللتأمل في جريان حكم الاستحاضة في الدم المسبب عنه مجال، و إن كان الاحتياط لا يترك بحال. فلاحظ.

و قد تحصل من جميع ما تقدم أمور..
الأول: أن كل دم يخرج من طريق الرحم ليس بحيض و لا نفاس فهو استحاضة

و إن علم بكونه من جرح أو قرح، فضلا عما إذا شك في ذلك، إلا في الجرح المسبب عن أمر خارجي علي إشكال فيه. من دون دخل للسن في ذلك.

الثاني: أنه إن أحرز عدم حيضية الدم بقاعدة تنهض بإثبات لازم مؤداها لزم البناء علي كونه استحاضة،

و إن أحرز بأصل لا ينهض بذلك لزم الإتيان بأعمال المستحاضة و إن لم يحرز كونه منها.

الثالث: أن الدم إذا خرج من باطن الفرج لقرح أو جرح فيه أو لمروره عليه مع نبعه من الجوف غير الرحم فهو ليس باستحاضة و لا حيض.

هذا، و لو شك في حال الدم من هذه الجهة فإن احتمل الحيض ففي وجوب الفحص كلام تقدم في قاعدة الإمكان، و إن انحصر الأمر باحتمال الاستحاضة أشكل وجوب الفحص لعدم الدليل عليه، بل الظاهر جواز الرجوع لاستصحاب عدمها.

فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

في ناقضية الاستحاضة للطهارة

(1) بلا إشكال. و يقتضيه ما تضمن وجوب الغسل و الوضوء له، لأن المنسبق منهما المطهران من الحدث.

(2) لصدق الاستحاضة عرفا بذلك قطعا، و لما تضمن الاكتفاء في ترتيب

ص: 153

بالأصل أو بالعارض و في غيره إشكال (1)، و يكفي في بقاء حدثيته بقاؤه في باطن الفرج، بحيث يمكن إخراجه بالقطنة و نحوها. بل ظاهر كفاية ذلك في انتقاض الطهارة به، كما تقدم في الحيض (2).

(مسألة 25): الاستحاضة علي ثلاثة أقسام (3): قليلة و متوسطة و كثيرة.

فالأولي: ما يكون الدم فيها قليلا بحيث لا يغمس القطنة (4).

______________________________

أحكامها بإصابة الكرسف و إن لم يسل و لم يثقب الكرسف.

(1) ما تقدم في الحيض جار هنا، لأنهما من باب واحد، و إن كان الأمر في الاستحاضة أخفي و لعله لذا استشكل في غير المعتاد هنا، و جزم بالتعميم له في الحيض، بناء علي أن المراد بالمعتاد هناك ما يتعود الخروج منه و إن لم يكن أصليا طبيعيا.

فراجع.

نعم، لا ينبغي الإشكال في صدق الاستحاضة بالخروج من الموضع الطبيعي و إن كان اتفاقيا غير معتاد.

(2) بل تقدم أن الأمر في الاستحاضة أظهر.

(مسألة 25): في أقسام الاستحاضة

(3) هذا التقسيم هو المشهور، و حيث كان متفرعا علي اختلاف أحكام الأقسام المذكورة كان اللازم إيكال الكلام فيه للكلام الآتي في حكم هذه الأقسام.

(4) كما في المختلف و التذكرة و القواعد و الإرشاد و اللمعتين و محكي نهاية الأحكام و التحرير و التبصرة و التلخيص و البيان و الموجز الحاوي و تخليص التلخيص و كشف الالتباس و غيرها. و اعتبر في جملة من الكتب عدم ثقبها، كالفقيه و المقنع و الهداية و الخلاف و الغنية و السرائر و الشرائع و الدروس و المدارك.

و الظاهر أنه هو المراد ممن عبر بعدم ظهوره علي القطنة، كما في الاقتصاد و المعتبر

ص: 154

______________________________

و المنتهي و محكي المصباح و مختصره، و لذا جمع بينهما في محكي الذكري، فيحمل علي ظهوره علي سطح القطنة الخارج، دون الداخل من جانب الفرج، لأن عدم ظهوره عليه ملازم للنقاء، و لأنه المناسب لتحديد بعضهم المتوسطة بالظهور علي الجانب الآخر، و تقييدها بعدم السيلان من القطنة. و كذا الحال فيمن عبر بعدم رشحه عليها، كما في المبسوط و النهاية و المراسم و الوسيلة.

بل ربما ادعي رجوع عدم الغمس في كلام من تقدم إليه، كما هو ظاهر الروض، بل في جامع المقاصد و محكي شرح الجعفرية أن مراد الأصحاب من الغمس و الثقب و الظهور واحد قطعا، و هو المناسب لعدم تعرض النصوص للغمس، و لعدم تعرض من قبل المحقق الثاني- فيما تيسر لي العثور عليه- للخلاف في هذه الجهة، مع دعوي جملة منهم الإجماع علي ما ذكره في مقابل قولي ابن الجنيد و الإسكافي الآتيين في وظائف هذه الصورة، و للتعبير في المعتبر و المنتهي و المدارك عن المتوسطة بالغمس الظاهر في أن المعيار في القليلة علي عدمه، فيكون قرينة علي أنه المراد من عدم الظهور و عدم الثقب في كلامهم.

نعم، هو لا يناسب إطلاق عدم الغمس ممن تقدم، لوضوح أن الغمس إنما يكون بالنفوذ في الباطن، فإن أريد منه ما يعم غمس بعض القطنة كان عدمه بتلطيخ سطحها من دون نفوذ فيها أصلا الذي هو كالصريح مما في التذكرة و محكي نهاية الأحكام من التعبير بأن يظهر علي القطنة كرءوس الأبر «1» و لا يغمسها و من الظاهر أنه أخص من عدم الثقب و عدم الظهور في الجانب الآخر. و إن أريد غمس تمام القطنة- كما في جامع المقاصد و الروضة و كشف اللثام و محكي فوائد الشرائع و غيرها- كان عدمه أعم من عدم الثقب و الظهور، لصدقهما بمجرد خروج الدم من جانب القطنة

______________________________

(1) استظهر في كشف اللثام و احتمل في مفتاح الكرامة أن المراد به الظهور علي ظاهر القطنة، و الظاهر أن المراد به جانبها الذي هو خارج الفرج، الذي يلزم من ظهور الدم عليه كرءوس الأبر ما يقرب من غمس تمام القطنة، فيكون المراد من الغمس هو غمس تمامها كما ذكراه. لكنه بعيد جدا، و الظاهر أن المراد به جانبها الذي هو داخل الفرج، فيكون المراد من الغمس غمس بعضها، كما ذكرناه. (منه عفي عنه)

ص: 155

______________________________

الآخر و إن لم يستوعب أطرافها. و من ثم استبعد في الجواهر تنزيل الغمس علي الثقب.

و أما ما قد يظهر من المسالك من أن المراد من الثقب هو غمس الجميع، و من جامع المقاصد من أن ذلك هو مراد الكل فلم يتضح الوجه فيه بعد عموم الثقب و الظهور لما ذكرنا. و ما ذكره الفقيه الهمداني من التلازم بين الثقب و الاستيعاب عادة، غير ظاهر.

و كيف كان، فالنصوص حيث لم تتضمن الغمس فلا يهم تحقيق المراد به، بل هي قد تضمنت الثقب أو النفوذ و الظهور علي الكرسف. ففي صحيح معاوية بن عمار في المستحاضة: «فإذا جازت أيامها و رأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر و العصر … » «1»، و في موثق عبد الرحمن أو صحيحه: «فإن ظهر عن علي خ ل [علي يب] الكرسف فلتغتسل» «2»، و في خبر إسماعيل الجعفي: «و لا تزال تصلي بذلك الغسل حتي يظهر الدم علي الكرسف … » «3» و غيرها.

و هي ظاهرة في مطلق الخروج من الجانب الآخر و إن لم يستوعب الكرسف، كما تقدم، فلا وجه لاعتبار استيعابه، كما عرفت ممن سبق، و لا للاكتفاء بمجرد النفوذ فيه و إن لم يخرج من الجانب الآخر، كما هو ظاهر ما تقدم من التذكرة و محكي نهاية الأحكام.

هذا، و مقتضي النصوص المتقدمة و الفتاوي أن موضوع الثقب و الظهور و غيرهما هو الكرسف. لكن في المقنعة: «فعليها أن تغسل فرجها منه ثم تحتشي بالقطن و تشد الموضع بالخرق ليمنع القطن من الخروج. و إن كان الدم قليلا و لم يرشح علي الخرق و لا ظهر عليها لقلته كان عليها نزع القطن عند وقت كل صلاة و الاستنجاء و تغيير القطن و الخرق و تجديد الوضوء للصلاة. و إن كان رشح الدم علي الخرق رشحا قليلا و لم يسل منها كان عليها تغيير القطن و الخرق عند صلاة الفجر … و إن كان الدم كثيرا فرشح علي الخرق و سال منها وجب عليها أن تؤخر صلاة الظهر … ».

و هو صريح في أن المعيار علي الخرقة التي يشد بها الكرسف، و إن ظهر من غير واحد حمل كلامه علي إرادة الكرسف، حيث لم ينقلوا الخلاف منه في هذه الجهة، بل

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 10.

ص: 156

______________________________

ساق في مفتاح الكرامة و غيره كلامه في مساق كلام الأصحاب، و استدل له الشيخ في التهذيب بالنصوص التي أشرنا إليها.

نعم، نبه بعض متأخري المتأخرين لذلك، بل في الحدائق: «و نقل شيخنا المجلسي في بعض حواشيه عن المحقق الشيخ علي في بعض حواشيه أنه ذهب إلي ما ذكره الشيخ المفيد رحمه اللّه».

و كيف كان، فقد يستدل له بصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن المرأة تستحاض فقال: قال أبو جعفر عليه السلام: سئل رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلم عن المرأة تستحاض فأمرها أن تمكث أيام حيضها لا تصلي فيها ثم تغتسل و تستدخل قطنة و تستثفر [تستذفر] بثوب ثم تصلي حتي يخرج الدم من وراء الثوب. قال: تغتسل المرأة الدمية بين كل صلاتين» «1»، لظهوره في عدم الحاجة للغسل ما لم يخرج الدم من وراء الثوب.

و قوله عليه السلام في حديث زرارة: «ثم هي مستحاضة فلتغتسل و لتستوثق من نفسها و تصلي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ [يثقب] الدم، فإذا نفذ اغتسلت وصلت» «2» لظهوره في إرادة النفوذ فيما تستوثق به- و هو الخرقة غالبا- بالظهور عليه. فلا مجال لما في الحدائق من الإنكار عليه بعدم العثور علي ما يدل عليه من الأخبار.

لكن حيث كانت النصوص الأول صريحة في أن المعيار علي الكرسف تعين تنزيل حديث زرارة عليه، و تنزيل الصحيح علي كون خروج الدم من وراء الثوب موجبا لكون الاستحاضة كثيرة مقدمة لذكر حكمها في الذيل، غاية الأمر أن يكون ظاهره اشتراك القليلة و المتوسطة بالاكتفاء بالوضوء. فيقيد بنصوص التفصيل بينهما.

أو ينزل الحديثان علي أن ذكر النفوذ في الخرقة لملازمته غالبا للنفوذ في الكرسف للتماس بشدة بينهما بسبب شد الخرقة و التعصب بها. فإن ذلك أقرب من حمل النصوص الأول علي الاستحباب. و لا سيما مع ظهور مفروغية الأصحاب عن أن المعيار علي الكرسف بنحو يظهر منهم العمل بنصوصه و الإعراض عن هذين

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 9.

ص: 157

و الثانية: ما يكون فيها أكثر من ذلك بأن يغمس القطنة (1) و لا يسيل (2).

و الثالثة: ما يكون فيها أكثر من ذلك، بأن يغمسها (3) و يسيل منها (4).

______________________________

الحديثين. فتأمل.

ثم إنه قال في الجواهر: «و المراد بالكرسف القطن، كما نص عليه في القاموس و غيره من الأصحاب، فهو حينئذ كقول أبي الحسن عليه السلام و أبي عبد اللّه عليه السلام: و تستدخل قطنة «1». إلا أنه قد يلحق به ما كان مثله مما لا يمنع صلابته أو صلابة جزء منه نفوذ الدم. و من هنا قيد بعضهم القطنة بكونها مندوفة، و إن كان في استفادة مثل هذا القيد من النصوص تأمل». و ما ذكره حسن.

(1) تحديد هذه الصورة متفرع علي تحديد الصورة الأولي.

(2) يأتي تحديد السيلان في الصورة الثالثة.

(3) المعيار فيه ما تقدم في الصورة الأولي.

(4) كما صرح به الأصحاب. و الظاهر من إطلاقهم أن المراد به مطلق العبور عنها و لو إلي ما وراءها من الخرق التي تستثفر بها المانعة من سيلان الدم عنها. بل هو صريح بعضهم خلافا لما صرح به في جامع المقاصد من اعتبار تجاوزه الكرسف و الخرقة التي عليه. و يشهد للأول إطلاق قوله عليه السلام في صحيح زرارة: «فإن جاز الدم الكرسف اغتسلت … » و إن لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد … » «2»، و في موثق سماعة: «و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل يوم مرة … » «3».

و علي ذلك يحمل ما في بعض النصوص من التعبير بسيلان الدم «4» أو كونه صبيبا «5»، فإنه لو فرض إجماله من هذه الجهة أو ظهوره بدوا في فعلية السيلان، كان

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب المستحاضة حديث: 2، 3، 14 لكن الأخيرين مرويان عن أبي جعفر عليه السلام لا عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5، 6، 7، 11.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5، 6، 7، 11.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5، 6، 7، 11.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 11، و باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 158

(مسألة 26): الأحوط لها الاختبار (1)

______________________________

ما ذكرنا صالحا لحمله علي مطلق العبور عن الكرسف، و لا سيما مع ما هو المعلوم من سيرة النساء علي التحفظ من سيلان الدم، كما دلت عليه جملة من النصوص. و يأتي تمام الكلام في ذلك في حكم المتوسطة.

مسألة 26: وجوب الفحص عن صور الاستحاضة

(1) و أوجبه في المنتهي و محكي الذكري و جامع المقاصد، بل في الجواهر أنه صرح به جماعة من الأصحاب. و استدل عليه بلزوم المخالفة القطعية لولاه.

فإن أريد به لزوم كثرة المخالفة، لأنه لا طريق إلي معرفة المتوسطة و القليلة إلا بالفحص، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه. فهو موقوف كون كثرة المخالفة بنحو يعلم باهتمام الشارع الأقدس بتجنبها بإيجاب الفحص فيها من بين الشبهات الموضوعية، و هو ممنوع لكثرة ظهور حال الاستحاضة من مجرد جريان الدم أو من وضع القطنة للتحفظ من جريانه و إن لم يكن واجبا، و لعدم وضوح اهتمام الشارع بمنع كثرة المخالفة.

و إن أريد به قطع المرأة نفسها بوقوع المخالفة منها إجمالا لو بنت علي القليلة من دون فحص، لما عن بعض مشايخنا من أن المستحاضة تعلم غالبا بحدوث المتوسطة أو الكثيرة في أثناء الشهر، فيتعذر عليها الرجوع للأصول الترخيصية بناء علي ما هو التحقيق من منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات. فهو كما تري لأن المرأة كثيرا ما لا تعلم باستمرار الاستحاضة في الشهر، فضلا عن كونها في بعضه كثيرة أو متوسطة.

مع أن العلم الإجمالي في التدريجيات إنما ينجز إذا كان وجود المعلوم في الزمن الأول لا يستلزم وجوده و ترتب الأثر عليه في الزمن اللاحق، كما في الحيض، حيث لا يكون وجوده في أول الشهر مستلزما وجوده في آخره و لا ترتب الأثر عليه حينئذ، بل مستلزما لعدمه، فلا يحرم وطء المرأة في آخر الشهر إذا حاضت في أوله.

و أما إذا كان وجود المعلوم في الزمن الأول مستلزما لبقائه و ترتب الأثر عليه

ص: 159

______________________________

في الزمن اللاحق، فينحل العلم الإجمالي إلي علم تفصيلي بوجود المعلوم في الزمن اللاحق، و شك بدوي في وجوده في الزمن السابق، فلا مانع من الرجوع للأصل الترخيصي فيه، و يقتصر علي المعلوم بالتفصيل، كما في المقام، لوضوح أن الاستحاضة الكثيرة أو المتوسطة لو كانت في أول الشهر و لم تغتسل لها يبقي حدثها إلي آخر الشهر و إن ارتفعت فتبطل الصلاة فيه من دون غسل، فيعلم تفصيلا بالحدث في آخر الشهر و يبطلان الصلاة من دون غسل حينئذ إما لحدوث الكثيرة أو المتوسطة فيه أو لبقاء حدثها مع سبق حدوثها، فيجب الغسل عند حصول العلم المذكور و يرجع قبله للأصل الترخيصي.

نظير ما لو علم بتنجس المسجد إما في أول الشهر أو آخره، حيث لا مانع من الرجوع لاستصحاب الطهارة في أوله و يجب تطهيره في آخره، إما لحدوث النجاسة فيه أو لبقائها بعد حدوثها في أوله.

و مثله ما في الجواهر من دعوي العلم إجمالا بالحدث، فيجب تعرفه مع اختلاف أحكامه.

لاندفاعه بأن اختلاف وظائف المستحاضة باختلاف صورها إن كان راجعا لتباين أحداث الصور أمكن إحراز الأقل بالأصل الموضوعي النافي لسبب الأكثر، فإصابة الدم القطنة متيقن، و بأصالة عدم ثقبها و السيلان منها تحرز القليلة، و لو علم بثقبها فبأصالة عدم السيلان منها تحرز المتوسطة، فيرفع اليد عن العلم الإجمالي.

و إن كان راجعا لزيادة الحدث الواحد تبعا لزيادتها، فلا علم إجمالي بالحدث، بل يكون الأقل متيقنا و الزائد مشكوكا و مدفوعا بالأصل المذكور.

فالعمدة ظهور بعض النصوص في وجوب الفحص، ففي صحيح الصحاف:

«فلتغتسل ثم تحتشي و تستذفر و تصلي الظهر و العصر، ثم لتنظر فإن كان الدم فيما بينها و بين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ و لتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف، فإن طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل

ص: 160

______________________________

و إن طرحت الكرسف عنها و لم يسل الدم فلتتوضأ و لتصل و لا غسل عليها» «1»، و في صحيح عبد الرحمن أو موثقة: «و لتغتسل و لتستدخل كرسفا فإن ظهر علي الكرسف … » «2»، و في صحيح محمد بن مسلم: «في الحائض إذا رأت دما بعد أيامها التي كانت تري الدم فيها فلتقعد عن الصلاة يوما أو يومين ثم تمسك قطنة فإن صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كل صلاتين بغسل» «3»، و في خبر ابن أبي يعفور:

«المستحاضة إذا مضت أيام أقرائها اغتسلت و احتشت كرسفها و تنظر فإن ظهر علي الكرسف زادت كرسفها و توضأت وصلت» «4».

و ظاهر الأمر بالنظر و إدخال الكرسف ليس محض الإرشاد لبيان كيفية الفحص من دون أن يكون واجبا، و لا لشرطيته واقعا للعمل، بحيث تبطل الصلاة بدونه واقعا و لو مع القيام بالوظيفة المناسبة لكونه في الحقيقة جزءا من الوظيفة، و لا لوجوب الفحص مولويا وجوبا نفسيا كي يكون الإخلال به محرما واقعا حتي مع إصابة الوظيفة الواقعية، من دون أن يمنع من الرجوع للأصول الترخيصية في تشخيص الوظيفة ظاهرا، بل لوجوبه وجوبا طريقيا لتنجز الواقع بدونه، و لازمه امتناع الرجوع للأصول الترخيصية في تشخيص الوظيفة ظاهرا، كما ذكرناه في نظائر المقام من موارد وجوب الفحص في الشبهات الحكمية و الموضوعية، كالتردد بين الحيض و العذرة، و الشك في النقاء من الحيض و غيرهما.

هذا، و قد استشكل في الجواهر في وجوب الفحص لو كان لها استصحاب يشخص حالها، كما لو اختبرت حالها قبل الوقت فكانت قليلة. لكن لا يخفي أن الاستصحاب يجري حتي لو لم تختبر حالها، لما أشرنا إليه آنفا من أن مقتضاه عدم ثقب القطنة و عدم السيلان منها، و لازمه عدم وجوب الفحص الذي اعترف بدلالة النصوص عليه.

إلا أن يكون مراده وجوب الفحص عليها مرة واحدة، ثم تستصحب

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 14.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 13.

ص: 161

______________________________

مقتضاه، كما عن بعض مشايخنا مدعيا أنه الظاهر من النصوص. و كأنه لعدم الأمر فيها بالاختبار إلا عند مضي زمان الحيض، أو الاستظهار، فوجوبه بعد ذلك يحتاج إلي دليل، و مقتضي إطلاق دليل الاستصحاب عدمه.

لكن مقتضي الجمود علي ذلك أنها لو تركت الفحص في الزمان المذكور عمدا أو غفلة أو لتعذره لم يجب عليها بعد ذلك، و كذا لو فحصت ثم نسيت ما ظهر لها قبل العمل عليه أو بعده، و لا يظن منه و لا من غيره البناء علي ذلك، و ما ذلك إلا لإلغاء خصوصية المورد عرفا بعد ظهور كون وجوب الفحص للاهتمام بمعرفة حال الحدث و عدم الاكتفاء فيه بالرجوع للأصول بعد ما عرفت من عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين الزمان الأول و غيره.

و لا سيما مع أنها قد تعلم قلة الدم في آخر زمان الحيض أو الاستظهار، فعدم الاكتفاء بذلك و لزوم الفحص بعده لو احتملت زيادته- كما هو مقتضي النصوص- مناسب لعدم الاكتفاء بالفحص الواحد لبقية الصلوات جدا.

و لذا لا يظن من أحد دعوي قصور النصوص المذكورة عن بيان الوظيفة الواقعية لغير الصلوات الأولي التي تضمنتها، و أن حكم بقية الصلوات يؤخذ من نصوص أخر. و ما ذلك إلا لفهم أن بيان الوظيفة لها من حيثية كونها مستحاضة مكلفة بالصلاة، و ذلك كما يجري في أصل الوظيفة يجري في الفحص عنها. علي أن ذلك منهما لا يناسب الوجه الآخر الذي استدل به كل منهما لوجوب الفحص، و إن عرفت عدم تماميته. و من هنا كان الظاهر عموم وجوب الفحص مع القدرة عليه و امتناع الرجوع للأصل الترخيصي مطلقا، كما هو ظاهر غير واحد. فلاحظ.

ثم إنه حيث كان وجوب الفحص طريقيا لتنجز الواقع فهو لا يمنع من الاحتياط المحصل له.

و أماما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم مشروعيته لها إلا إذا طابق الاستصحاب، كما لو كانت استحاضتها سابقا كثيرة ثم شكت في بقائها علي ذلك

ص: 162

______________________________

فتستصحب الكثرة- بناء علي ما يأتي الكلام فيه- و تعمل عليها من دون حاجة للفحص. فكأنه مبني علي عدم الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي مع إمكان الامتثال اليقيني بالفحص. و إنما يشرع الاحتياط المطابق للاستصحاب من دون فحص، لاقتضائه التعبد بمقتضاه، و المراد بالامتثال اليقيني ما يعمم ذلك.

و دليل وجوب الفحص لا يصلح للردع عن الاستصحاب المذكور بعد عدم اقتضائه تفويت الواقع المنجز بوجوب الفحص، بخلاف الاستصحاب المحرز لكون الاستحاضة قليلة.

لكن ذكرنا غير مرة ضعف المبني المذكور و أنه يكفي الاحتياط بموافقة التكليف المحتمل و لو مع تيسر الامتثال اليقيني بالفحص.

نعم، قد لا يتيسر الاحتياط، كما هو الحال بناء علي الوظيفة في الكثيرة الغسل وحده و في القليلة الوضوء، حيث يستلزم الجمع بينهما احتمال الفصل بين الوظيفة و الصلاة الذي يأتي منهم عدم جوازه. إلا أن يفرض عدم فوت الموالاة العرفية به، أو يحتاط بتكرار الصلاة مع كل من الوظيفتين. و بالجملة: الاحتياط إن أمكن كان مشروعا، و لا يجب معه الفحص.

بقي شي ء: و هو أنه لو تعذر الفحص فالظاهر عدم وجوب الاحتياط، لعدم الدليل علي تنجز الواقع حينئذ بعد قصور ما دل علي وجوب الفحص عن حال التعذر.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من استفادته من إطلاق دليل وجوب الاختبار فقد تقدم منه نظيره فيما لو تعذر الفحص مع اشتباه دم الحيض بدم العذرة، و تقدم هناك المنع منه.

و حينئذ لا ينبغي التوقف في البناء علي كون الاستحاضة قليلة لو لم تكن سابقا كثيرة أو متوسطة، لما تقدم من أن مقتضي الاستصحاب كونها قليلة، فإن علم بالزيادة عليها فمتوسطة، و أما لو كانت سابقا كثيرة أو متوسطة فظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره ابتناء جريان استصحاب إحدي الصورتين علي جريان الاستصحاب في

ص: 163

______________________________

التدريجيات، و حيث كان يجري علي التحقيق لزم البناء علي جريانه في المقام، و علي ذلك جري في العروة الوثقي و غيرها، و إن لم يجزم شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأحد الأمرين، لعدم جزمه بجريان الاستصحاب في التدريجيات.

لكنه يشكل بأن المستفاد من النصوص ترتب حكم المتوسطة و الكثيرة علي ثقب الكرسف و سيلانه منه او بوصوله إلي حدّ أحد الأمرين لو فرض عدم الكرسف، فلو كان الدم بنحو يثقب الكرسف أو يسيل منه لا يترتب عليه حكم المتوسطة أو الكثيرة بمجرد خروجه إلي فضاء الفرج، بل الاستحاضة في أول خروجه قليلة، فإذا نزل حتي بلغ حدّ ثقب الكرسف صارت متوسطة، ثم إذا بلغ حدّ السيلان صارت كثيرة، فأقسام الاستحاضة متداخلة موضوعا و حكما، لا أنها متباينة تبعا لاختلاف أقسام الدم و كيفية خروجه من الرحم.

و حينئذ إن كانت الاستحاضة سابقا متوسطة أو كثيرة و احتمل انقلابها إلي القليلة، فإن كان الانقلاب المحتمل بعد الغسل أو في أثنائه يقطع ببقاء حكم المتوسطة أو الكثيرة بلا حاجة للاستصحاب، و إن كان قبله يعلم بمطهرية الغسل وحده أو مع الوضوء من الحدث المسبب عن الدم الخارج إلي فضاء الفرج قبله و إن لم يخرج من الفرج، و أما المتصل به الخارج بعده فخروجه حيث لا يوجب في الآن الأول إلا حدث القليلة، و لا يوجب حدث ما فوقها إلا بنزوله إلي أن يبلغ حدّ ثقب الكرسف أو السيلان منه، فالأصل عدم نزوله إلي الحد المذكور، و به يحرز كون الاستحاضة قليلة.

و أما استصحاب سيلان الدم أو ثقبه للكرسف فلا مجال له حتي بناء علي جريان الاستصحاب في التدريجيات …

أولا: لعدم الأثر لثقب مطلق الدم و سيلانه، بل لثقب أو سيلان خصوص ما ينزل بعد الشروع في الغسل الذي لم يرفع الغسل الحدث المسبب، و الأصل عدم ثقبه، و لا سيلانه.

و ثانيا: لأنها حيث تخرج الكرسف و تجدده قبل الغسل لحبس الدم عن النزول

ص: 164

______________________________

ينقطع الثقب و السيلان، حتي بالإضافة إلي مطلق الدم، فلا مجال لاستصحابهما. غاية الأمر أنه يحتمل تجددهما بسبب بقاء دفع الدم بقوته، و الأصل عدمه. كما أنه يمكن استصحابهما بنحو التعليق، فيقال: كان الدم لو استمر لثقب الكرسف فهو كما كان.

لكنه ليس حجة علي التحقيق خصوصا في الموضوعات الخارجية.

نعم، لو كان المدار في ترتب حكم المتوسطة أو الكثيرة علي دفع الدم، فإذا كان بنحو يستلزم ثقب الكرسف أو السيلان منه ترتب حكمها بمجرد خروجه إلي فضاء الفرج، و إن لم يثقب الكرسف أو يسيل منه فعلا، اتجه استصحاب كونه علي النحو المذكور- و لم يكن تعليقيا- بناء علي جريان الاستصحاب في التدريجيات. لكنه خلاف ظاهر الأدلة، كما سبق.

و أما تقسيم الاستحاضة إلي القليلة و المتوسطة و الكثيرة فليس تقسيما تضمنته النصوص في مقام بيان موضوع الأحكام، بنحو يكون عنوان الكثرة و غيرها قد لحظ فيه حال الدم حين خروجه، ليستصحب أحد الأقسام لو شك في ارتفاعه، بل هو تقسيم للفقهاء منتزع من مفاد النصوص التي ذكرنا أنها ظاهرة في أن المدار في ترتب الأحكام علي فعلية الثقب و السيلان و عدمهما.

و أشكل من ذلك ما عن بعض مشايخنا من أن الاستحاضة لو اتصلت بالحيض و كان دم الحيض كثيرا بحيث يثقب الكرسف أو يسيل عنه أمكن بالاستصحاب كونها متوسطة أو كثيرة، لوحدة الدم عرفا و إن اختلف حكما.

للإشكال فيه- مضافا إلي ما سبق- بأن ظاهر النصوص و الفتاوي تباين دميي الحيض و الاستحاضة ذاتا، لا حكما فقط كما تقدم في أول الفصل، و من الظاهر أن موضوع الحكم ليس هو ثقب مطلق الدم للكرسف أو سيلانه، ليجدي استصحابه، بل خصوص دم الاستحاضة و مقتضي الاستصحاب عدم ثقبه و لا سيلانه، و إن كان الدم ثاقبا أو سائلا حينما كان دم حيض خالص أو مختلط بدم الاستحاضة، علي ما تقدم احتماله في أول الفصل. فراجع.

ص: 165

______________________________

هذا، و لو غض النظر عن الاستصحاب الموضوعي في المقام، فقد يدعي جريان استصحاب الطهارة من الحدث الأكبر- لو كانت نقية من الدم سابقا- غير المعارض باستصحاب الطهارة من الحدث الأصغر، للعلم بانتقاضها علي كل حال، بناء علي أن سبب الحدث الأكبر سبب للحدث الأصغر أيضا.

لكنه مبني علي أن وظيفة المتوسطة و الكبري الغسل و الوضوء، و أن الغسل ينفرد برفع الأكبر و الوضوء برفع الأصغر، حيث يعلم بحدوث الأصغر و ارتفاعه بالوضوء و يشك في حدوث الأكبر و مقتضي الاستصحاب عدمه. أما لو كانا مشتركين في رفع كل من الأصغر و الأكبر فاستصحاب الطهارة من الأكبر لا يحرز الأصغر المعلوم الحصول بالوضوء- بعد عدم إحراز كون الاستحاضة قليلة- بل مقتضي استصحابه معه عدم ارتفاعه إلا بضم الغسل إليه. و كذا بناء علي أن وظيفة المتوسطة و الكبري الغسل خاصة للصلاة الأولي، لرجوع ذلك إلي أن الرافع للحدث الأصغر فيهما هو الغسل لا الوضوء، فلا يحرز ارتفاعه بالوضوء خاصة مع عدم إحراز قلة الاستحاضة بالأصل الموضوعي في المقام، بل مقتضي استصحابه معه عدم ارتفاعه إلا بضم الغسل إليه.

و بذلك يظهر الإشكال فيما في العروة الوثقي من الحكم بالاحتياط، لأن مذهبه وجوب ضمّ الوضوء للغسل في المتوسطة و الكبيرة، و من البعيد جدا ذهابه إلي اشتراكهما في رفع كلا الحدثين.

اللهم إلا أن يستشكل في اختلاف سنخ حدثي الاستحاضة، لاحتمال وحدة سنخ الحدث و سنخ الطهارة منه، و إنما يختلف بالشدة و الضعف من دون أن يستلزم تعدده عرفا، فمع فرض عدم الاستصحاب الموضوعي المحرز لمرتبته فحيث يشك في ارتفاعه بالوضوء يكون مقتضي الاستصحاب بقاؤه. بل لعل اختلاف الحدث الأصغر و الأكبر كذلك في جميع الموارد، و إنما يجتزأ بالوضوء وحده و الغسل كذلك مع التردد بينهما فيما لو أحرزت إحدي المرتبتين بأصل موضوعي، كما تقدم في فروع الاستبراء،

ص: 166

حال الصلاة (1)، بإدخال القطنة في الموضع المتعارف و الصبر عليها بالمقدار المتعارف (2). و إذا تركته عمدا أو سهوا و عملت، فإن طابق عملها الوظيفة

______________________________

و أما بدونه فالمرجع استصحاب الحدث و عدم الطهارة، أو أصالة الاشتغال بالفعل المقيد بالطهارة، كالصلاة. فتأمل جيدا.

(1) لأن الأمر بالاختبار لما كان طريقيا، لإهتمام الشارع بعدم فوت الواقع من جهة الجهل فالمنصرف ما يؤمن معه من وقوع الوظيفة في غير محلها، و ذلك إنما يكون بالفحص عند إرادة الصلاة تمهيدا للإتيان بوظيفتها، إذ لو كانت قبله بمدة يحتمل فيها اختلاف حال الاستحاضة لم يؤمن ذلك.

نعم، لو علم بعدم اختلاف الحال بعد الفحص إلي حين الاتيان بالوظيفة أجزأ الفحص السابق. و كذا لو كان الفاصل زمانا يسيرا يتعارف الفصل به، لتعذر حمل النصوص عرفا علي الاتصال الدقي. إلا أن يحدث فيه ما يثير احتمال اختلاف الحال بالوجه المنبه علي تجديد الفحص، فلا يبعد لزوم تجديده بمقتضي ما ذكرنا. فلاحظ.

(2) كما في العروة الوثقي، لكن مع إيجاب الصبر قليلا، و أقره علي ذلك غير واحد من محشيها.

و يشكل بأن الذي تضمنته النصوص المتقدمة الفحص عن ثقب الدم الكرسف أو سيلانه منه من حين الغسل إلي حين الصلاة، و لازم ذلك عدم إخلاء الموضع من الكرسف في المدة المذكورة، إما بإبقاء كرسف واحد أو بتجديد الكرسف- علي ما يأتي الكلام فيه عند تحديد الوظائف إن شاء اللّه تعالي- و حينئذ يكفيها في الفحص اللازم عند الصلاة النظر في الكرسف الموضوع واحدا كان أو متعددا.

فلو لم تضع كرسفا في بعض المدة أو تمامها، فحيث كان الظاهر من التحديد بثقب الكرسف أو السيلان منه بيان مقدار نزول الدم- كما أشرنا إليه آنفا و يأتي إن شاء اللّه تعالي- فإن علمت بنزول الدم بأحد النحوين، فلا إشكال في وجوب الوظيفة المناسبة له عليها، و إن احتملت نزوله و لم تستطع استكشاف الحال لغسل موضع الدم

ص: 167

اللازمة لها صح (1)، و إلا بطل (2).

______________________________

أو نحوه، فحيث كانت مفرطة في الفحص اللازم عليها، كان الواقع منجزا عليها بمقتضي وجوب الفحص و لزمها الاحتياط.

و كذا لو طرحت الكرسف السابق و لم تنظر فيه و احتملت ثقب الدم له أو سيلانه منه. و إن علمت بعدم نزول الدم بأحد النحوين لم تحتج للاختبار بوضع الكرسف أو نحوه، لعدم الموضوع له. إلا أن تحتمل تجمع الدم في باطن الفرج فتستدخل الكرسف بمقدار لو كان فيه دم لثقبه أو سال منه، ثم تنظر فيه، و يكون ذلك هو الفحص اللازم عليها.

(1) كما هو مقتضي ما سبق من أن وجوب الفحص طريقي لإحراز الواقع، لا مقدمي متفرع علي شرطيته في العمل، ليبطل بفقد شرطه.

نعم، بناء علي عدم الاجتزاء بالامتثال الاحتمالي مع القدرة علي الامتثال اليقيني بالفحص يتعين بطلان العمل مع تعمد ترك الفحص. لكن سبق المنع من ذلك، فيتعين صحته لو جاءت به برجاء إصابة الواقع.

(2) لفقد الشرط. و لو شكت في أحد الأمرين لزمها الاحتياط بالإعادة بنحو تحرز مطابقة عملها للواقع، لأن وجوب الفحص عليها واقعا مستلزم لعدم حجية الاستصحاب في حقها، فلا يسوغ لها الدخول في الصلاة. و لا يبعد كون ذلك هو مراد سيدنا المصنف قدّس سرّه و غيره ممن أطلق صحة عملها مع مطابقته للوظيفة الواقعية، فيرجع إلي لزوم إحراز المطابقة.

لكن المتيقن من ذلك ما إذا تعمدت ترك الفحص تفريطا أو لتخيل جواز التعويل علي الاستصحاب مع فعلية الشك حين العمل في كيفية استحاضتها، أما لو تركته سهوا و دخلت في الصلاة غفلة عن كيفية استحاضتها، بنحو لا يكون شكها فيه فعليا فلا يبعد عدم وجوب الإعادة عليها لو التفتت بعد الفراغ، بناء علي ما هو الظاهر من عموم قاعدة الفراغ لصورة الغفلة عن منشأ الشك. و أولي من ذلك ما لو

ص: 168

(مسألة 27): حكم القليلة وجوب تبديل القطنة (1) أو تطهيرها علي

______________________________

اعتقدت من دون فحص بأن استحاضتها قليلة فعملت بوظيفتها ثم تجدد لها الشك بعد الفراغ و احتملت خطأ اعتقادها السابق، حيث لا إشكال ظاهرا في جريان قاعدة الفراغ حينئذ. و لعله خارج عن محل كلامهم. فلاحظ.

مسألة 27: حكم الاستحاضة القليلة

(1) كما في المقنعة و الناصريات و النهاية و المبسوط و الاقتصاد و الغنية و المراسم و الوسيلة و السرائر و جملة من كتب الفاضلين و الشهيدين و جامع المقاصد و محكي الجامع و غيرها. بل ظاهر الناصريات الإجماع عليه، و نفي الخلاف فيه في المنتهي.

و نسب لأكثر علمائنا في التذكرة، و للمشهور في المختلف و الحدائق و محكي كشف الالتباس و الكفاية و ظاهر الذكري، و في كشف اللثام أنه قطع به أكثر الأصحاب.

و قد استدل عليه..

تارة: بأنها نجاسة يمكن التحرز عنها، فيجب.

و أخري: بما سيأتي في المتوسطة و الكثيرة، بناء علي ما في الجواهر من عدم تعقل الفرق، و عن الوحيد في حاشية المدارك و شرح المفاتيح من عدم القول بالفصل.

و ثالثة: بالإجماع المستفاد ممن تقدم. لكن الأول يختص بما إذا زادت سعة الدم علي قدر الدرهم، أو يبتني علي عدم العفو عن قليل دم الاستحاضة، و هو ممنوع، كما يبتني علي نجاسة الدم في الباطن، و هو أيضا ممنوع، و علي عمومه للمحمول و إن لم تتم به الصلاة و كان في الباطن، و هو محل إشكال علي ما يتضح في محله إن شاء اللّه تعالي.

و لا سيما مع ما أشار إليه في الجواهر من عدم ظهور فائدة في التبديل، إذ بوضع القطنة الجديدة تتنجس كنجاستها، غاية الأمر أن تبديلها يستلزم تقليل الدم، و وجوبه محل إشكال، خصوصا إذا لم يستلزم سعة السطح الملاقي له من القطنة.

و يندفع الثاني- بعد تسليم دلالة النصوص علي وجوب التبديل في المتوسطة و الكثيرة من حيثية نجاسة القطنة- بالفرق بأن ثقب الكرسف و السيلان منه مستلزم لكثرة الدم و تنجسه بالخروج للظاهر. و عدم القول بالفصل لا يكفي ما لم يرجع

ص: 169

______________________________

للقول بعدم الفصل، و هو غير ظاهر.

و أما الثالث فلا طريق لمنعه بعد تصريح من عرفت بوجوب التبديل، و عدم تعرض الصدوقين له و لا الشيخ و الراوندي في الخلاف و أحكام القرآن و لا القاضي فيما حكي عنه لا ينافيه، لإمكان اهتمامهم في مباحث الأغسال ببيان حكم الحدث، و الاتكال في الخبث علي معهودية وجوب التطهير منه.

لكن لا طريق مع ذلك للجزم به، فضلا عن حجيته بعد قرب اعتماد من ذهب إلي ذلك علي أحد الوجهين المتقدمين، كما صرح به غير واحد منهم، و لم يثبت كونه إجماعا تعبديا صالحا لإثبات حكم شرعي.

و من ثم يظهر من جامع المقاصد و كشف اللثام و المدارك و غيرها نوع تردد في وجوب التبديل، بل حكي عن بعضهم الإشكال فيه، و ذكر الفقيه الهمداني أن القول بعدمه شايع بين المتأخرين، كما اختاره في المستند و حكاه عن بعض مشايخه.

هذا، مضافا إلي ما ذكره غير واحد من ظهور بعض النصوص في عدم وجوب تبديل القطنة، كصحيح الصحاف «1» المتقدم عند الكلام في وجوب الفحص، لظهوره في وحدة الكرسف الموضوع، و أنها تصلي كل صلاة به ما لم تطرحه أو يسل الدم من ورائه، و صحيح الحلبي «2» المتقدم في تحديد الصورة الأولي الظاهر في أن المدار علي خروج الدم من وراء الثوب، لظهوره في أنها تصلي بذلك الثوب ما لم يخرج الدم من ورائه، المستلزم لعدم وجوب تبديل الثوب لكل صلاة، فضلا عن الكرسف.

و مثله قوله عليه السلام في حديث زرارة المتقدم هناك أيضا: «فلتغتسل و تستوثق من نفسها و تصلي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ [يثقب] الدم، فإذا نفذ اغتسلت» «3»، لقوة ظهوره في الاجتزاء لكل صلاة بوضوء ما لم يثقب الدم الكرسف الأول أو الخرقة التي تستوثق بها، و مقتضاه جواز إيقاع الصلوات المتعددة بذلك الكرسف قبل ثقبه، و نحوه في ذلك قوله عليه السلام في خبر إسماعيل الجعفي: «اغتسلت و احتشت و لا تزال تصلي بذلك

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 9.

ص: 170

______________________________

الغسل حتي يظهر الدم علي الكرسف، فإذا ظهر أعادت الغسل و أعادت الكرسف» «1».

و أظهر منها في ذلك خبر ابن أبي يعفور «2» المتقدم في وجوب الاختبار المتضمن أنها تزيد كرسفها، لظهوره في المفروغية عن إبقاء الكرسف الأول. و إن كان ما تضمنه من الاجتزاء بالوضوء مع ظهور الدم علي الكرسف المذكور مخالفا للنصوص الأخر.

بل قد يظهر عدم وجوب التبديل من بقية النصوص بسبب عدم التنبيه فيها عليه، مع ابتنائه علي نحو من الكلفة و قرب غفلة العامة عنه بسبب لزوم النجاسة علي كل حال، كما سبق. و لعله إليه يرجع ما في الجواهر من تأييد عدم الوجوب بلزوم المشقة، و إلا فبلوغ المشقة حدا يسقط التكليف غير مطرد، و بل لعله نادر. و من جميع ما تقدم ظهر أن الأقوي عدم وجوب التبديل، كما في الجواهر و غيره.

هذا، و قد صرح بوجوب تبديل الخرقة أيضا في المقنعة و المبسوط و النهاية و المراسم و الوسيلة و السرائر و محكي البيان و مجمع البرهان و شرح المفاتيح، و حكاه في كشف اللثام عن السيد و نسبه للأكثر.

و لم يتضح الوجه فيه بعد فرض عدم ثقب الكرسف المستلزم لعدم تنجس الخرقة، و لذا تنظر فيه في التذكرة، و في جامع المقاصد و محكي شرح الجعفرية أنه لا وجه له. و أما ما عن نهاية الأحكام من أن الأقرب ذلك إن وصل الدم إليها. فهو مخالف لفرض عدم ثقب الكرسف في القليلة.

نعم، قد يتجه بناء علي ما تقدم منه و من التذكرة من تحديد القليلة بأن يظهر الدم علي القطنة كرءوس الأبر بناء علي ما فسره به في كشف اللثام من إرادة الظهور علي سطحها الخارج من دون أن يستوعبها، حيث يمكن حينئذ إصابة الدم الخرقة تارة و عدمها أخري، علي ما نبه له في كشف اللثام كما يتجه أيضا بناء علي ما تقدم من المقنعة من أن المدار علي عدم ثقب الخرقة، لا خصوص الكرسف.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 13.

ص: 171

الأحوط وجوبا. و وجوب الوضوء لكل صلاة (1)،

______________________________

لكنه مبني- مع ذلك- علي عموم عدم العفو عن دم الاستحاضة لما دون الدرهم إذا كان في المحمول و إن لم تتم به الصلاة، و إلا كان المتيقن منه ما إذا شدت الخرقة بنحو يصدق عليها اللباس و كانت مما تتم به الصلاة و الدم بقدر الدرهم.

و أما صحيح الحلبي و حديث زرارة المتقدمان في تحديد الصورة الأولي الظاهران في أن المدار فيها خروج الدم من وراء الثوب المستلزم لجواز الصلاة به لو أصابه الدم و لم يخرج من ورائه. فلو غض النظر عما تقدم فيهما أمكن الجواب باحتمال كون جواز الصلاة لعدم العلم بإصابة الدم له حتي يخرج من ورائه. فلاحظ.

و أما تطهير الفرج فهو الذي صرح به في المقنعة و جامع المقاصد و المسالك و الروض و محكي البيان، و عن مجمع البرهان أنه مقتضي أدلة وجوب الإزالة، و كأنه إجماعي. انتهي. و من الظاهر أنه يتفرع علي تنجيسه بتبديل القطنة، و يبتني علي عموم عدم العفو عن دم الاستحاضة، و لا إشكال في أنه أولي في ذلك من وجوب تبديل القطنة، و إن لم ينبه عليه جماعة كثيرة.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه ليس بناؤهم علي التعدي من القطنة إلي موضعها فلم يتضح مأخذه لو أراد منه الفرج، لقرب أن يكون عدم التنبيه عليه من جماعة لعدم ملازمة إخراج القطنة في القليلة لتنجسه و كون وجوب تطهيره لو تنجس أولي من وجوب تبديل القطنة المعلل في كلامهم بأنه نجاسة يجب التحرز منها، فلا يحتاج إلي بيان.

(1) كما صرح به جمهور الأصحاب، و ادعي عليه الإجماع في الناصريات و الخلاف، كما ادعي في الغنية الإجماع علي أنها إذا فعلته كانت بحكم الطاهرة، و نسب للأكثر في التذكرة و المنتهي و للمعظم في كشف اللثام، و للمشهور في المختلف و الروض و محكي الذكري و كشف الالتباس و تخليص التلخيص و الكفاية و غيرها، في قبال ما عن ابن أبي عقيل من أنه لا شي ء عليها حينئذ، و ما عن ابن الجنيد من أن

ص: 172

______________________________

عليها الغسل. لكن في جامع المقاصد: «و هما نادران لإجماع الأصحاب بعدهما علي خلافهما».

و يدل علي وجوب الوضوء- مضافا إلي إطلاق صحيح الصحاف «1» المتقدم في وجوب الفحص المتضمن الاكتفاء به عند عدم سيلان الدم- صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلي فيها، و لا يقربها بعلها، فإذا جازت أيامها و رأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر و العصر تؤخر هذه و تعجل هذه، و للمغرب و العشاء غسلا تؤخر هذه و تعجل هذه و تغتسل للصبح … و إن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت و دخل المسجد وصلت كل صلاة بوضوء» «2»، و حديث زرارة «3» المتقدم عند الكلام في تحديد الصورة الأولي.

و إطلاق قوله عليه السلام في مرسلة يونس الطويلة: «فلتدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل و تتوضأ لكل صلاة … » «4» و ربما يأتي الكلام في الصورة الثالثة.

كما يدل علي عدم وجوب الغسل- مضافا إلي ذلك- صحيح الحلبي المتقدم هناك «5» و خبر الجعفي «6» المتقدم عند الكلام في وجوب تبديل القطنة و قوله عليه السلام في صحيح عبد الرحمن أو موثقة في المستحاضة بعد أيام قرئها أو استظهارها: «و لتغتسل و لتستدخل كرسفا فإن ظهر عن [علي. يب] [علي] الكرسف فلتغتسل ثم تضع كرسفا آخر ثم تصلي فإذا كان دما سائلا فلتؤخر الصلاة إلي الصلاة ثم تصلي صلاتين بغسل واحد» «7»، إن مقتضي مفهومه أنه لو لم يظهر علي الكرسف لا يجب الغسل، و حمله علي عدم الظهور علي جانب الكرسف الداخل المستلزم للنقاء لا يناسب فرض كونها مستحاضة و لذا لا يبعد ظهوره في إرادة الظهور في جانب الكرسف الخارج، و أنه مع عدمه ليس عليها الغسل.

و كيف كان، فيخرج بجميع ما سبق عن إطلاق ما تضمن وجوب الأغسال

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 9.

(4) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 5، ص: 173

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 10.

(7) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

ص: 173

______________________________

الثلاثة علي المستحاضة، كصحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سمعته يقول: المستحاضة تغتسل التي لا تطهر عند صلاة الظهر و تصلي الظهر و العصر، ثم تغتسل عند المغرب فتصلي المغرب و العشاء، ثم تغتسل عند الصبح فتصلي الفجر … » «1»، و نحوه صحيح صفوان و موثق فضيل و زرارة و خبر إسماعيل بن عبد الخالق «2» و خبر حمران الوارد في النفساء «3».

و كذا إطلاق ما تضمن وجوب الغسل الواحد مع عدم جواز الدم الكرسف، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: «قلت له: النفساء متي تصلي؟

فقال: تقعد بقدر حيضها و تستظهر بيومين، فإن انقطع الدم و إلا اغتسلت و احتشت و استثفرت [و استذفرت] وصلت، فإن جاز الدم الكرسف تعصبت و اغتسلت ثم صلت الغداة بغسل و الظهر و العصر بغسل و المغرب و العشاء بغسل، و إن لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد. قلت: و الحائض؟ قال: مثل ذلك سواء … » «4» فإن عدم جواز الدم الكرسف لما كان أعم من عدم ثقبه له لزم حمله علي صورة الثقب، جمعا بينه و بين ما سبق.

و دعوي: أن ثقب الدم الكرسف من دون أن يجوزه نادر يتعذر حمل الإطلاق عليه عرفا، لغلبة انتقال الدم منه بعد ظهوره عليه إلي الخرقة المستثفر بها. ممنوعة، لعدم ملازمة الاستثفار لشدة مماسة الخرقة للكرسف، بل قد لا تمسه و إنما تكون فائدتها مجرد التحفظ عن سيلان الدم لو خرج عنه، و ليس هو كالتعصب- الذي أمر به في فرض جواز الدم الكرسف- مستلزما لشدة المماسة، ليندر عدم انتقال الدم منه للخرقة.

بل يأتي عند الكلام في حكم المتوسطة أن انتقال الدم لمجرد مماسة الخرقة للكرسف من دون أن يستند لقوة دفعه لا يوجب الانتقال للكثيرة.

هذا، و قد سبق عن ابن أبي عقيل عدم وجوب شي ء عليها، ففي محكي كلامه

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 4، 15، 12، 3.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 4، 15، 12، 3.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 11.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 174

______________________________

في كشف اللثام: «يجب عليها الغسل عند ظهور دمها علي الكرسف لكل صلاتين غسل تجمع بين الظهر و العصر بغسل و بين المغرب و العشاء بغسل، و تفرد الصبح بغسل، و أما إن لم يظهر الدم [علي. ظ] الكرسف فلا غسل عليها و لا وضوء».

و قد فهم منها الأكثر أن المراد عدم ظهور الدم علي ظاهر الكرسف الراجع لعدم ثقبه له. و كأن الدليل عليه ما تضمن حصر نواقض الوضوء بالأمور المعروفة غير دم الاستحاضة. مضافا إلي عدم التنبيه عليه فيما تضمن نفي الغسل قبل ظهور الدم علي الكرسف، كصحيح الحلبي و رواية الجعفي و مفهوم حديث عبد الرحمن التي تقدم الاستدلال بها علي نفي الغسل.

لكن لا بد من رفع اليد عما تضمن الحصر بالنصوص المتقدمة الدالة علي وجوب الوضوء، و كذا النصوص الآتية الدالة علي وجوب الوضوء مع الصفرة.

و لعل عدم التعرض له في نصوص الحصر لعدم عموم الابتلاء به، و اختصاصه بالمرأة في حالة الاستحاضة التي تعرضت النصوص لتفصيل أحكامها، كما لم يتعرض في بعض نصوص الحصر للنوم «1».

كما أن النصوص النافية للغسل بين ما هو ظاهر في النظر للغسل، و لا نظر له في نفي غيره، كرواية الجعفي، و ما هو محمول علي ذلك بقرينة ما دل علي وجوب الوضوء، كحديثي الحلبي و عبد الرحمن. فإن ذلك أقرب عرفا من تنزيل نصوص الوضوء المذكورة علي فرض تحقق أحد النواقض، بقرينة الحديثين و نصوص حصر النواقض. بل قوله عليه السلام في خبر علي بن جعفر الآتي: «فلتتوضأ من الصفرة» كالصريح في ناقضية الصفرة.

و أضعف من ذلك الاستدلال بصحيح زرارة المتقدم، بحمل قوله عليه السلام:

«و إن لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد» علي غسل النفاس. لأنه- مع جريان ما سبق فيه، و استلزامه عدم حدثية الدم مع عدم جوازه الكرسف و إن ظهر عليه

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 9، 6، 4.

ص: 175

______________________________

و ثقبه- مخالف للظاهر جدا بسبب تنكير الغسل و وصفه بالوحدة بعد التعرض لتثليث الأغسال مع جواز الدم الكرسف.

لكن احتمل في كشف اللثام كون مراد ابن أبي عقيل عدم ظهور الدم علي الكرسف أصلا المستلزم للنقاء. و لو تم كان لازمه وجوب تثليث الأغسال في جميع أقسام الاستحاضة، و انحصر الدليل عليه بإطلاقات التثليث المتقدمة، التي يلزم الخروج عنها بنصوص التفصيل، كما سبق.

و أما ابن الجنيد فقد حكي عنه وجوب الغسل مرة واحدة مع عدم ثقب الدم الكرسف، فإذا ثقبه وجب عليها ثلاثة أغسال سال أم لم يسل. و كأنه لموثق سماعة:

«قال: المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين و للفجر غسلا، و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل يوم مرة و الوضوء لكل صلاة، و إن أراد زوجها أن يأتيها فحين تغتسل. هذا، إن كان دمها عبيطا، و إن كان صفرة فعليها الوضوء» «1».

بدعوي: أن مقتضي المقابلة بين الشرطيتين كون الثانية تصريحا بمفهوم الأولي، بحمل عدم الجواز في الثانية علي عدم الثقب.

و فيه: - مع أنه صرح في ذيله بالاكتفاء بالوضوء مع الصفرة، و لم يعرف عنه التفصيل بين الصفرة و الحمرة- أن التوفيق بين الشرطيتين كما يكون بحمل عدم الجواز في الثانية علي عدم الثقب، يكون بحمل الثقب في الثانية علي الجواز، بل لعل الثاني أظهر- كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه- لأن الثقب لما كان مشعرا بقوة الدم أمكن جعله كناية عن الجواز، أما عدم الجواز فهو لا يشعر بقلة الدم، ليصلح للكناية عن عدم الثقب، بل بضعفه و لو مع تفشيه لظاهر الكرسف، و لا يصلح عرفا للكناية عن عدم الثقب. إلا أن يراد به عدم الجواز في تمام الكرسف المستلزم لعدم ثقبه، كما قد يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه. لكنه خلاف ظاهر الموثق جدا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 6.

ص: 176

______________________________

و لعل ما ذكرنا أقرب مما عن بعض مشايخنا من جعل الثانية بمنزلة الاستثناء من إطلاق الأولي، نظير قوله تعالي: (وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) بعد قوله: (إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ … ) «1»، فلا تشمل صورة عدم الثقب، ليقع التدافع بين الشرطيتين و يحتاج لتنزيل إحداهما علي الأخري.

إذ فيه: - مع أن الآية لا تنهض بذلك بنفسها، بل بإعمال عناية فيها، أو بضميمة النصوص المفسرة لها، علي ما سبق في مسألة إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء، فحمل الصحيح عليه لا بد أن يكون بضميمة بقية النصوص لا لظهوره بنفسه فيه- أن الجنابة أمر زائد علي القيام إلي الصلاة، فيحسن التدرج ببيان حكمها الأثقل بعد بيان حكم القيام الأخف، نظير قولنا: إن جاء زيد لدارك فأعطه درهما، و إن خدمك فيها فأعطه دينارا.

أما في المقام فعدم جواز الدم الكرسف ليس زائدا علي ثقبه له لا موضوعا و لا حكما، ليحسن التدرج في بيان حكمه بالنحو المذكور، و الحكم المذكور له هو حكم الثقب بنفسه، علي المشهور، كما أن الحكم المذكور للثقب هو حكم أمر زائد عليه، و هو الجواز، فلو لم يكن الثقب في الفقرة الاولي كناية عن الزيادة المذكورة- كما ذكرنا- لم يكن البيان عرفيا، بل لعله مستهجن.

و كيف كان، فعلي ما ذكرنا تكون الشرطية الثانية مطلقة شاملة للثقب و عدمه، فتقيد بالنصوص الدالة علي عدم وجوب الغسل و وجوب الوضوء مع عدم الثقب، و علي ما ذكره بعض مشايخنا تكون صورة عدم الثقب خارجة عن كلتا الشرطيتين، و يرجع فيها للنصوص المذكورة.

نعم، كلا الوجهين مستلزم لعدم استيفاء أحكام المستحاضة في الموثق، بخلاف الوجه المستدل به لابن الجنيد، بل التعرض في ذيله للوضوء مع الصفرة لا يناسب إهماله في الصدر لو كان من أحكام بعض أنواع الدم العبيط.

إلا أن ذلك وحده لا يوجب ظهور الموثق في الوجه المذكور فضلا عن أن يرفع

______________________________

(1) المائدة: 5.

ص: 177

______________________________

به اليد عما سبق مما تضمن وجوب الوضوء دون الغسل مع عدم ثقب الكرسف، بل غاية ما يوجب إجمال صدر الموثق أو اضطرابه و لا سيما و أن سماعة قد روي ما يقرب منه هكذا: «و غسل المستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف و جاز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل صلاتين و للفجر غسل، و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها [الغسل لكل يوم مرة و. في] الوضوء لكل صلاة … » «1». فلاحظ.

هذا، و قد استدل لابن الجنيد أيضا بصحيح زرارة المتقدم، بدعوي: أن إطلاق وجوب الغسل الواحد مع عدم جواز الدم في ذيله شامل لما إذا لم يثقب الدم الكرسف.

لكنه- مع لزوم تقييده كما سبق- دال علي الاكتفاء بالغسل الواحد مع ثقب الكرسف و عدم جواز الدم عنه، و هو لا يلتزم بذلك. و حمل الجواز و عدمه فيه علي الثقب و عدمه، بعيد جدا، فضلا عن أن يرفع به اليد عما سبق، نظير ما ذكرناه في الموثق.

بقي شي ء، و هو أن المحقق الخراساني قدّس سرّه وافق ابن الجنيد فيما لو كان الدم أحمر عملا بإطلاق موثق سماعة بعد حمل عدم الجواز فيه علي عدم الثقب، و غيره مما يأتي الكلام فيه، و تنزيلا لما دل علي الاكتفاء بالوضوء عليه، إما لأن ظهور الموثق و غيره في الحاجة للغسل أقوي من ظهور تلك النصوص في عدم الحاجة له، أو لتنزيل تلك النصوص علي الصفرة التي دلت جملة من النصوص علي الاكتفاء فيها بالوضوء، كما يأتي.

لكنه يشكل بما سبق من أنه لا مجال لحمل عدم جواز الدم الكرسف في موثق سماعة علي عدم ثقبه له،. و أما غيره فلم يذكره لينظر في حاله.

نعم، ورد وجوب الغسل الواحد في صحيح زرارة و حديث عبد الرحمن المتقدمين. لكن الأول قد أخذ فيه عدم جواز الدم الكرسف، و قد سبق أنه أعم من عدم الثقب، فيقيد بما دل علي وجوب الغسل مع عدم الثقب، و الثاني قد أخذ فيه الظهور علي الكرسف، و الظاهر منه- كما سبق- الظهور علي ظاهره الملازم للثقب،

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 178

______________________________

فيدل بمفهومه علي عدم وجوب الغسل مع عدم الثقب، و لو فرض ظهوره في مطلق الظهور عليه و لو علي باطنه كان كصحيح زرارة مقيدا بما دل علي عدم وجوب الغسل مع عدم الثقب.

بل ظاهر إناطة وجوب الأغسال الثلاثة فيهما بما إذا كان الدم سائلا و جاز الكرسف عدم وجوبها بدونهما و إن ثقب الكرسف، علي خلاف ما ذكره. و أشكل من ذلك ما ذكره من تنزيل ما دل علي الاكتفاء بالوضوء علي مجرد لزومه و لو مع الغسل.

لوضوح أن ذكر الغسل فيها مع الثقب و الاقتصار علي الوضوء مع عدمه كالصريح في عدم وجوب الغسل معه، بل سبق أن بعض النصوص مسوق لبيان عدم الحاجة للغسل لا غير.

و مثله ما ذكره في قوله عليه السلام في صحيح معاوية بن عمار: «و إن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت و دخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء» من احتمال كون: «توضأت» بمعني تطهرت بالغسل لدخول المسجد، بقرينة تكرار ذكر الوضوء بقوله: «وصلت كل صلاة بوضوء». لوضوح اندفاعه بأنه- مع عدم معهودية التعبير بنظير ذلك- لا يناسب مقابلة الوضوء للغسل المذكور في صدر الحديث جدا. و تكرار الوضوء لا يصلح قرينة عليه بعد وروده لبيان وجوبه لكل صلاة لا أصل وجوبه.

و كذا ما ذكره من احتمال تنزيل نصوص الاكتفاء بالوضوء علي الصفرة، لأن التفصيل في نصوص نفي الغسل و وجوب الوضوء بين ثقب الكرسف و عدمه كالصريح في أن المعيار فيهما قلة الدم بالنحو المذكور لا لونه. بل سبق أن المتيقن من إطلاق الدم أو المنصرف منه هو الحمرة- كما اعترف به قدّس سرّه- و لا مجال معه لحمل هذه النصوص علي خصوص الصفرة. و من هنا كان ما ذكره في الحمرة ضعيفا، و المتعين فيها ما عليه المشهور.

و أما الصفرة فله فيها تفصيل تخالف فيه الحمرة، حيث قد تضمنت جملة من النصوص وجوب الوضوء لها، كذيل موثق سماعة المتقدم، و صحيح محمد بن مسلم

ص: 179

______________________________

عن أبي جعفر عليه السلام: «قال: إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة، فإن خرج فيها شي ء من الدم فلا تغتسل، و إن لم تر شيئا فلتغتسل، و إن رأت بعد ذلك [صفرة.

في. يب] فلتوض و لتصل» «1»، و صحيحه الآخر: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة تري الصفرة في أيامها. قال: لا تصلي حتي تنقضي أيامها، و إن رأت الصفرة في غير أيامها توضأت وصلت» «2»، و في خبر علي بن جعفر: «فإن رأت صفرة بعد غسلها فلا غسل عليها يجزيها الوضوء عند كل صلاة و تصلي» «3»، و في خبره الآخر: «قال: ما دامت تري الصفرة فلتتوضأ من الصفرة و تصلي و لا غسل عليها من صفرة تراها إلا في أيام طمثها» «4». و غيرها.

نعم، يعارضها في ذلك صحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة الحبلي تري الدم اليوم و اليومين. قال: إذا كان دما عبيطا فلا تصلي ذينك اليومين، و إن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين» «5»، و صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن امرأة نفست فمكثت ثلاثين يوما أو أكثر ثم طهرت وصلت ثم رأت دما أو صفرة. قال: إن كانت صفرة فلتغتسل و لتصل و لا تمسك عن الصلاة» «6».

و من هنا فقد جمع قدّس سرّه بين الطائفتين بحمل الأولي علي القليلة و الثانية علي الكثيرة بقرينة المرسل عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليه السلام: «سألته عن الحبلي قد استبان حبلها تري ما تري الحائض من الدم. قال: تلك الهراقة من الدم، إن كان دما أحمر كثيرا فلا تصلي، و إن كان قليلا أصفر فليس عليها إلا الوضوء» «7».

لكن المعيار في القلة في الصفرة ليس هو العيار المتقدم في الحمرة، بل تحمل علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 8.

(5) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 6.

(6) الوسائل باب: 5 من أبواب النفاس حديث: 2.

(7) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 16.

ص: 180

______________________________

القلة العرفية التي تشمل المتوسطة، بل بعض أفراد الكثيرة بالمعيار المتقدم في الحمرة، و يختص وجوب تثليث الأغسال في الصفرة بالكثرة العرفية، لأن المرجع هو العرف في تحديد العناوين الشرعية بعد عدم تصدي الشارع لتحديدها.

هذا، و لا يخفي أن خبر محمد بن مسلم لما كان ضعيفا بالإرسال، و لا جابر له في المقام، فلا مجال للتعويل عليه في الجمع بين نصوص الصفرة.

و قد ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أن ظاهر التعبير بالصفرة في هذه النصوص إرادة القليلة بالمعني المشهور، لظهوره في كون الدم لقلته لا يري إلا لونا محضا بلا جوهرية له، فلا إطلاق له يشمل النافذ حتي يتكلف للجمع بينه و بين غيره بالحمل علي القليل العرفي. و من هنا لا مجال للعمل بما تضمن وجوب الغسل للصفرة، لأنه بعد اختصاصه بغير النافذ يكون مهجورا بمخالفة المشهور، و لا سيما بعد دعوي الإجماع ممن تقدم.

لكنه كما تري، إذ لا تلازم بين قلة الدم بالمعني المذكور و فقده للجوهرية، بحيث لا يري إلا لونا محضا، بل قد يكون دما عبيطا بقدر رأس الذباب- كما تضمنته بعض النصوص- كما قد يكون كثيرا رقيقا، و ليس منشأه صفرته إلا اختلاطه برطوبات الرحم و غلبتها عليه، و ذلك قد يكون مع نفوذه في القطنة، بل مع خروجه عنها، بسبب كثرة الرطوبات النازلة من الرحم.

بل قد سيق حكم الصفرة في ذيل موثق سماعة مساق الاستثناء من التفصيل المذكور في صدره، و هو مناسب جدا لتحقق موضوع التفصيل فيها، فكما كان التفصيل في نصوص الاكتفاء بالوضوء في الدم بين الثقب و عدمه ظاهرا في أن المعيار في اختلاف الحكم فيه كمّ الدم، لا لونه- كما سبق في رد المحقق الخراساني قدّس سرّه و اعترف هو قدّس سرّه به و غيره- كذلك التفصيل في الموثق بين الدم و الصفرة ظاهر في أن المعيار في اختلاف الحكم هو اللون، لا الكمّ.

و أما ما عن بعض مشايخنا من تأييد ذلك.. تارة: بأن التعبير بالصفرة دون

ص: 181

______________________________

الأصفر قد يعطي أن المدار علي الكمّ، إلا أنه لأجل ضعفه كأنه لا يري منه إلا اللون، لا أن المناط الدم المتصف بأنه أصفر.

و أخري: بأنه لو كانت العبرة باللون لزم عدم تعرض الموثق لحكم قسم من الحمرة، و هو الدم غير الثاقب.

فهو كما تري، لاندفاع الأول بأن التعبير بالصفرة دون الدم الأصفر إنما يناسب شدة ضعف لون الدم بنحو لا يناسب إطلاق الدم عليه عرفا، لا قلته، لما عرفت من عدم التلازم بين القلة و الصفرة. و الثاني بأن ملازمة الصفرة للقلة تستلزم كون الصفرة بحكم الحمرة، و لا تستلزم استيفاء الموثق لأحكام أقسام الحمرة.

نعم، يتم ذلك لو كان المراد بالصفرة فيه الحمرة غير الثاقبة، و لا يظن من أحد احتماله منه، فضلا عن استظهاره منه أو حمله عليه.

هذا، و قد حكي عنه دامت إفاداته في وجه الجمع بين النصوص الواردة في الصفرة- بعد ما سبق من أن ضعف خبر محمد بن مسلم مانع من كونه شاهد جمع بينها- أن صحيح معاوية بن عمار المتضمن تثليث الأغسال لها لا بد من حمله علي الكثيرة- بالمعيار المتقدم في الحمرة- للعلم بعدم زيادة الصفرة علي الحمرة حكما، فيكون أخص مطلقا من الطائفة الأولي المتضمنة الاكتفاء بالوضوء لها، فيخصصها و تختص بسببه بالمتوسطة و القليلة.

كما أن صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المتضمن وجوب الغسل من دون تقييد بالتثليث حيث لا يمكن شموله للقليلة، لعدم زيادة الصفرة علي الحمرة حكما أيضا يكون مختصا بالمتوسطة و الكثيرة، فيكون أعم من وجه من الطائفة الأولي- التي عرفت اختصاصها بغير الكثيرة- فينفرد بالكثيرة، و تنفرد بالقليلة، و يجتمعان في المتوسطة، فهو يقتضي الغسل لها، و هي تقتضي الوضوء لها.

فإن قلنا بعدم تعارضهما، لأنهما مثبتين لزم البناء في المتوسطة من الصفرة علي الجمع بين الوضوء و الغسل، و إن قلنا بالتعارض بينهما بسبب ظهور الطائفة الأولي

ص: 182

______________________________

في نفي الغسل لزم تساقطهما و الرجوع لعموم ما تضمن حكم المتوسطة مما يأتي الكلام فيه. و علي كلا التقديرين لا فرق بين الحمرة و الصفرة كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب.

لكن لا يخفي أن ذلك لا يناسب ما ذكره من اختصاص موثق سماعة بالقليلة، فإنه لو تم لا يختص به، كما يظهر من كلامه، بل يجري في جميع نصوص الصفرة.

و حينئذ يتعين إهمال صحيحي ابني عمار و الحجاج المتضمنين وجوب الغسل فيها، إما لما ذكره من عدم زيادة الصفرة علي الحمرة حكما، أو لما سبق من سيدنا المصنف قدّس سرّه من سقوطهما بالهجر.

هذا، و حيث عرفت المنع من ذلك فلا مجال للجمع بين نصوص الصفرة بما سبق منه، لعدم وضوح كونه جمعا عرفيا، فإن مجرد عدم زيادة الصفرة علي الحمرة حكما إنما يمنع من البناء علي ظاهر الصحيحين و لا يكون قرينة عرفية علي حملهما علي ما يناسب حكم الحمرة. و لا سيما مع بعد الحمل المذكور في نفسه، لأن الأنسب و الأغلب في الصفرة القلة لا الكثرة.

بل قد يحملان علي الاستحباب، كما يظهر من بعضهم احتماله، أو علي إرادة الدم الأصفر الذي لا تكون القلة أنسب به و أغلب. مضافا إلي إباء موثق سماعة عن الجمع المذكور، لقوة ظهوره في خصوصية الصفرة، و عموم وجوب الوضوء معها لصورة الكثرة.

و لعل الأولي أن يقال: التفصيل بين الحمرة و الصفرة في صحيح معاوية بن عمار المتضمن وجوب الأغسال الثلاثة للصفرة قد ورد في مقام تمييز الحيض عن الاستحاضة، و هو يناسب كون المراد بالصفرة فيه الإشارة إلي صفة الاستحاضة التي هي عبارة عن خفة حمرة الدم في مقابل شدتها في الحيض، علي ما تقدم عند الكلام في صفات الحيض، فتعم الدم الخفيف الحمرة.

أما نصوص الوضوء فلم ترد في هذا المقام، بل مقتضي موثق سماعة أن التفصيل

ص: 183

______________________________

المذكور في دم الاستحاضة، و هو يناسب كون المراد بالصفرة ما يقابل الدم عرفا، كما هو أيضا مقتضي مقابلتها في صحيح محمد بن مسلم الاول بالدم، و السؤال في الثاني عن حكمها لو رأتها في أيام عادتها، لأن خفاء وجوب التحيض بها في أيام العادة حتي يحتاج إلي السؤال يناسب عدم صدق الدم عليها حتي يشك في حيضيتها.

و هذا هو الظاهر في خبر محمد بن مسلم أيضا، بل يؤكده التعبير بالأصفر، و هو موهن آخر لجعله شاهد جمع في المقام. كما يوهن صحيح معاوية ما تضمنه من التحيض بالدم في اليومين، حيث لا بد مع ذلك من طرحه أو تخصيصه بمورده و هو الحبلي علي ما تقدم عند الكلام في أول الحيض.

فلم يبق إلا صحيح عبد الرحمن بن الحجاج، لأن ظاهر المقابلة فيه بين الصفرة و الدم اتحاده مع نصوص الوضوء للصفرة موضوعا.

نعم، قد يوهنه إطلاق الحكم فيه بوجوب الغسل، لما سبق من عدم زيادة الصفرة علي الحمرة حكما، و عدم صلوح ذلك عرفا للقرينية علي حمله علي خصوص غير القليلة. بل يزيد في وهنه عدم التعرض فيه لعدد الغسل الواجب، و أنه مرة أو ثلاثا، إذ من البعيد جدا الاتكال في جميع ذلك علي وضوح الحال فيه، بل لعله يكشف عن خلل في الحديث أو يوجب الريب فيه بنحو يمنع من الركون إليه، فضلا عن نهوضه بمعارضة نصوص الاكتفاء بالوضوء التي هي أكثر عددا و أظهر دلالة.

و من هنا يقوي الاكتفاء بالوضوء في الصفرة مطلقا إذا كانت بحيث لا يصدق عليها الدم عرفا.

و مجرد مخالفة ذلك لإطلاق الأصحاب غير مانع من العمل بها بعد وضوح اضطرابهم في أحكام الدماء، و لا سيما حكم الصفرة منها علي ما تقدم في الحيض، و بعد ظهور حال الكليني في العمل بها كما هو مقتضي إطلاق الصدوق في الفقيه و المقنع، بل يحتمل من غيرهما ممن دأبه الفتوي بمضامين النصوص، حيث لا يبعد كون الخروج عن ذلك ممن خرج في تحرير الفروع عن عبارات النصوص بسبب غفلتهم عن بعض

ص: 184

فريضة كانت (1)

______________________________

خصوصياتها. و لا سيما مع عدم وضوح شيوع الكثرة في الصفرة، لتمنع كثرة الابتلاء بها عادة عن خفاء حكمها علي المشهور و التباس الأمر فيها عليهم. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

(1) يظهر من غير واحد المفروغية عن عدم الاجتزاء بالوضوء الواحد لأكثر من فريضة واحدة، و هو المتيقن من معاقد دعاوي الإجماع و الشهرة المتقدمة علي وجوب الوضوء لكل صلاة.

نعم، حكي في المسالك عن المفيد الاكتفاء بوضوء واحد للظهرين و آخر للعشاءين. و كأنه لما تقدم منه في تحديد الصورة الأولي من الأمر بتجديد الوضوء في وقت كل صلاة بحمله علي وقتها الوجوبي الذي تشترك فيه الصلاتان. و يظهر من المعتبر أنه فهم ذلك منه، حيث جعل لازم كلامه ما حكاه عنه في المسالك.

بل لو قيل بمشروعية غير اليومية الأدائية لها فقد يكون مقتضاه جواز الجمع بين أكثر من فريضتين بالوضوء الواحد، فتضم إليها صلاة القضاء و الآيات و غيرها.

لكن لا يبعد كون مراده وقت أداء الصلاة، أو الوقت الفضيلي لها، فيختلف وقت الصلاتين. و لعله لذا استظهر في الجواهر أنه اشتباه.

و كيف كان، فيشهد لعدم الإجزاء بالوضوء الواحد لأكثر من فريضة قوله عليه السلام في صحيح معاوية بن عمار: «وصلت كل صلاة بوضوء» «1»، و نحوه حديث زرارة «2»، و مرسلة يونس «3» اللذان تقدم الاستدلال بهما لحكم الاستحاضة القليلة و بعض نصوص الصفرة المتقدمة.

نعم، عبّر بنظير عبارة المفيد في صحيح الصحاف، حيث قال عليه السلام: «فلتغتسل ثم تحتشي و تستذفر و تصلي الظهر و العصر ثم لتنظر فإن كان الدم فيما بينها و بين المغرب

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 185

أو نافلة (1)،

______________________________

لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ و لتصل عند وقت كل صلاة» «1».

و يتعين حمله علي مفاد النصوص الأول، لأنها أظهر دلالة منه، فيحمل علي وقت الأداء، أو الوقت الفضيلي بلحاظ صاحبة الوقت، دون غيرها.

لكن صدره كالصريح في الاكتفاء بغسل الحيض للظهر و العصر معا بلا حاجة لتجديد الوضوء، و حيث كان أخص من العموم المتقدم لزم تقديمه عليه.

و لا يبعد التعدي من غسل الحيض لغيره من الأغسال، خصوصا الواجبة، كغسل الجنابة و الاستحاضة الكثيرة لو انتقلت إلي القليلة، لإلغاء خصوصية غسل الحيض عرفا. و يناسبه ما يأتي في الاستحاضة الكثيرة من ظهور النصوص في الاجتزاء بالغسل للصلاتين، حيث لا يبعد شمول إطلاقه لما إذا انتقلت إلي القليلة، بل يبعد جدا الاكتفاء به للصلاة الثانية مع بقائها علي الكثرة، و عدم الاكتفاء به مع انتقالها إلي القليلة. فلاحظ.

(1) كما صرح به جماعة، و هو مقتضي إطلاق معاقد دعاوي الإجماع و الشهرة المتقدمة عدا ما يأتي من الخلاف، بل في التذكرة: «لا تجمع المستحاضة بين صلاتين بوضوء واحد عند علمائنا، سواء كانا فرضين أو نفلين».

نعم، قد يظهر من تخصيص معقد إجماع الخلاف بالفرضين جواز الجمع بين الفريضة و النافلة بوضوء واحد، بل في المبسوط أنها إذا توضأت للفرض جاز أن تصلي معه ما شاءت من النوافل، و عن المهذب متابعته.

و المناسب الكلام أولا فيما تقتضيه القاعدة الأولية أو الأصل مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة حيث وقع الكلام بينهم في ذلك، و لأنه ينفع في سائر موارد الشك في الوظيفة اللازمة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

ص: 186

______________________________

فاعلم أنه قد يدعي أن مقتضي الأصل عدم الحاجة للوضوء أو الغسل إلا فيما دل الدليل الخاص علي اعتباره فيه، لقصور عموم ما دل علي اعتبار الطهارة في الصلاة عن ابتنائه تخصيصا أو تخصصا. و هو موقوف إما علي عدم كون الاستحاضة حدثا، أو علي عدم كن المستحاضة مستمرة الحدث، بل يرتفع حدثها بالوضوء أو الغسل الأول، ثم يعود عند تجدد التكليف بهما أو بأحدهما، أو علي عدم وجوب الطهارة عليها من الحدث المذكور.

إذ علي الأول و الثالث فوجوب الوضوء أو الغسل عليها ليس لمطهريتهما، ليكون مقتضي عموم اعتبار الطهارة في الصلاة، بل تعبدا، فيحتاج إلي دليل بالخصوص، كما أنه علي الثاني حيث يقطع بعد أداء الوظيفة بالطهارة و يشك في ارتفاعها عند احتمال تجدد التكليف بالوظيفة، يكون مقتضي استصحاب الطهارة عدم وجوبها.

لكن الأول خلاف المقطوع به من النص و الفتوي، إذ المنساق من الأمر فيهما بالوضوء و الغسل إرادة الماهيتين المعهودتين الرافعتين للحدث، فيتفرع تشريعهما علي كون الاستحاضة حدثا ناقضا للطهارة، كما هو المدعي عليه الإجماع في كلام غير واحد، و يظهر من جملة من كلماتهم المفروغية عنه، و هو المناسب لارتكازيات المتشرعة. و منه يظهر ضعف الثاني، لعدم الفرق ارتكازا في سببية خروج الدم للحدث بين الحدوث و الاستمرار. و كذا الثالث لاستلزامه خروج الوضوء و الغسل عن كونهما رافعين للحدث و مطهرين منه، الذي عرفت أنه خلاف المنساق من أدلتهما.

بل مقتضي الجمع بين الأمور المذكورة هو البناء علي كونهما موجبين لمرتبة من الطهارة بلحاظ تخفيفهما للحدث، لرفعهما للسابق منه عليهما، لابتناء عموم اعتبار الطهارة علي الانحلال، بلحاظ المرتبة الميسورة منها، فيحتاج عدم وجوب الوضوء للصلاة للدليل المخرج عن العموم المذكور. و لعله إليه يرجع ما ذكره غير واحد من كونهما مبيحين للصلاة، لا رافعين للحدث، و لا موجبين للطهارة، فيراد منه عدم ترتب الرفع و الطهارة التامين عليهما. نظير ما تقدم منا في الصورة الثانية من صور المسلوس و المبطون.

ص: 187

______________________________

علي أنه لو غض النظر عن ذلك و التزم بعدم رافعيتهما و عدم مطهريتهما و إنما يجبان تعبدا مع بقاء الحدث علي ما هو عليه معهما، فمن الظاهر أن مقتضي عموم اعتبار الطهارة في الصلاة عدم مشروعية الصلاة في حق المستحاضة إلا ما قام الدليل عليه، و حيث كان المتيقن من مشروعية النافلة في حقها صورة الوضوء لها بدلا عن الطهارة لزم الاقتصار عليه في الخروج عن العموم المذكور.

إن قلت: بعد أن ثبت تخصيص عموم اعتبار الطهارة في الصلاة في حق المستحاضة، لفرض عدم مطهرية الوضوء و الغسل لها، و عدم احتمال سقوط النافلة في حقها، علي ما يأتي في المسألة التاسعة و العشرين إن شاء اللّه تعالي، فلا مجال للتمسك به لإثبات وجوب الوضوء أو غيره مما يحتمل اعتباره في النافلة.

قلت: هذا إنما يتجه لو كان تخصيص العموم المذكور في حقها بلسان يقتضي مشروعية الصلاة الفاقدة لها بلا بدل، كما لو قيل: لا صلاة إلا بطهور إلا من المستحاضة، و كان وجوب الوضوء أو الغسل في حقها بدليل آخر غير دليل التخصيص المذكور، حيث يلزم الاقتصار في اعتبارهما علي المتيقن. أما حيث كان دليل التخصيص في حقها هو دليل مشروعية الصلاة مع الوظائف، كما في الفرائض، أو مجملا من هذه الجهة، كما في النوافل، فالمتيقن منه المشروعية مع الوظائف و بدونها لا بد من دليل مخرج عن عموم عدم المشروعية.

و منه يظهر الإشكال فيما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن غاية ما يمكن استفادته من النصوص و الفتاوي- بسبب ارتكاز أن تشريع الوضوء و الغسل لرفع الحدث لا لشرطيتهما تعبدا- كون الاستحاضة مؤثرة في حدوث حالة مانعة من الصلاة يرفع منعها الوضوء عند كل صلاة، فمن الجائز أن ترفع الوضوءات الصادرة منها تلك الحالة حقيقة، فليست الصلاة معها صلاة مع الحدث للضرورة، ليقتصر علي القدر المتيقن من استباحتها له.

وجه الإشكال فيه: أن احتمال عدم الحدث مع الوضوء إن كان لعدم سببية

ص: 188

______________________________

الاستحاضة للحدث، فهو خلاف ما اعترف به من ارتكاز رافعية الوضوء و الغسل المشروعين في حقها للحدث. و إن كان لارتفاع حدثها و حصول الطهارة التامة لها بالغسل و الوضوء، فهو خلاف فرض استمرارها معهما، لما عرفت من عدم الفرق ارتكازا في سببية خروج الدم للحدث بين الحدوث و الاستمرار. فلا مجال للاحتمال المذكور في نفسه، فضلا عن تنزيل الأدلة عليه.

و مثله ما عن بعض مشايخنا من أن المستفاد من النصوص أن المستحاضة متي فعلت ما يجب عليها تكون بحكم الطاهر يجوز لها الإتيان بجميع الغايات المشروطة بالطهارة و إن لم يضطر إليها، و ليست محدثة تستباح لها الصلاة، كي يقتصر منها علي المتيقن، بل ظاهر الروايات ارتفاع حدثها إذا أتت بما يجب عليها، نظير ما ذكرناه في المسلوس من ارتفاع حدثه بالوضوء، لعدم ناقضية خروج البول علي النحو غير المتعارف منه. فأدلته مخصصة لعموم الناقضية، لا لعموم شرطية الطهارة للصلاة، هذا ما حكي عنه في المقام.

لكنه يشكل بأنه لما كان الظاهر انحصار دليل كونها بحكم الطاهر بالإجماع لزم الاقتصار فيه علي المتيقن، و من الظاهر أن مرجع الشك في جواز صلاة النافلة لها بدون الوضوء مثلا إلي الشك في ترتب هذا الحكم من أحكام الطاهر عليها، فلا مجال للاستدلال عليه بالكبري المذكورة. علي أنه قد أنكر هذه الكبري بعد ذلك.

و أشكل منه ما ذكره أخيرا من ارتفاع حدثها حقيقة قياسا علي ما ذكره في المسلوس، لأن مبني ما ذكره في المسلوس و هو عدم ناقضية البول الخارج بالنحو غير المتعارف مما لا مجال للبناء علي نظيره في المقام بعد ما عرفت، و بعد ابتناء الاستحاضة كلها علي الاستمرار و عدم الاختيار، و ليست كالبول علي نحوين، ليختص أحدهما بكونه سببا للحدث. و لا سيما بعد ما اعترف به في غير موضع من كلامه من أن الطهارة في المقام اضطرارية.

إذ النقص في الطهارة في المقام ليس من حيثية سببها، كالتيمم، و الوضوء

ص: 189

______________________________

الجبيري، بل من حيثية استمرار سبب الحدث، الراجع إلي اختصاص رافعية الوضوء و الغسل بالحدث السابق عليهما دون اللاحق لهما، فمرجع كون الطهارة اضطرارية إلي جواز الصلاة مع الحدث المخالف لعموم اعتبار الطهارة في الصلاة، الذي يلزم الاقتصار في الخروج منه علي المتيقن، لا علي عدم ناقضية الحدث، ليكون تخصيصا لعموم الناقضية، كما ذكره.

كيف؟! و عموم الناقضية في المقام ليس لفظيا، كعموم ناقضية البول، بل ارتكازيا بلحاظ ما سبق، فإما أن يسلم به فلا يقبل التخصيص، أو ينكر رأسا فلا تكون الطهارة اضطرارية.

علي أن لزوم الاقتصار علي المتيقن يجري في عموم الناقضية أيضا، فإذا شك في ناقضية الاستحاضة بعد مضي مقدار الفريضة علي الوضوء كان مقتضي العموم المذكور هو انتقاض الطهارة، و هو المناسب لما اعترف به بعد ذلك من أن مقتضي القاعدة لزوم تجديد الوضوء لغير النوافل مما يعتبر فيه الطهارة، كالمس و الطواف.

و من جميع ما تقدم يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه، قال في مقام الإشكال علي الاستدلال هنا بلزوم الاقتصار علي المتيقن في الصلاة مع الحدث:

«لإمكان الخدشة فيه بمنع ثبوت حدثية الاستحاضة من الأدلة إلا بمعني كونه موجبا للوضوء في الجملة، لا مطلقا، فكون الخارج بعد الوضوء مؤثرا في المنع علي الإطلاق إلا ما خرج بالدليل يحتاج إلي الدليل … لكن الانصاف أنه لا جرأة علي إنكار استفادة حدثية طبيعة الاستحاضة من كلمات الأصحاب».

فإنه يظهر مما تقدم أن إيجاب الاستحاضة للوضوء كاف في إثبات عموم حدثيتها بلا حاجة للتشبث بكلمات الأصحاب.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في لزوم الاقتصار علي المتيقن في فعل ما يتوقف علي الطهارة في المقام، فما شك في مشروعيته يبني علي عدم مشروعيته، و ما علم بمشروعيته و احتمل وجوب الطهارة له يلزم الطهارة له، كما صرح بذلك غير واحد،

ص: 190

______________________________

بل لعله المفروغ عنه عند بعضهم.

نعم، لو أمكن الإتيان بغير الصلاة مما يتوقف علي الطهارة و يفرض جوازه في حق المستحاضة متصلا بوضوء الصلاة من دون أن يستلزم الفصل بين الوضوء و الصلاة، كالمس المأتي به قبل الصلاة أو حالها، لم يبعد جواز الاتيان به بلا حاجة لوضوء مستقل به، لعدم الفرق بين الوضوء المستقل له و الوضوء المأتي به للصلاة في الرافعية للحدث السابق عليه دون اللاحق بسبب استمرار خروج الدم. إلا أن يلتزم بعدم رافعية الوضوء و أنه واجب تعبدا بدلا عن الطهارة. حيث يمكن اختصاص كل عمل بوضوئه. لكن عرفت أنه مخالف لظاهر الأدلة بمعونة المرتكزات.

هذا كله بالنظر إلي القاعدة الأولية، و أما بالنظر للأدلة الخاصة فمقتضي عموم النصوص المتقدمة وجوب الوضوء للنوافل كالفرائض، و قد سبق عند الكلام في الفرائض لزوم حمل صحيح الصحاف علي ما يناسب ذلك. علي أنه لا ظهور له في كونها بحكم الطاهر لو توضأت في أوقات الصلوات ليجتزأ بوضوئها للنوافل، بل المتيقن منه وجوب الوضوء لأجل الدخول في الفريضة التي هي صاحبة الوقت، لعدم وضوح شمول قوله عليه السلام: «فلتتوضأ و لتصل عند وقت كل صلاة» لغيرها.

و أما دعوي: انصراف عموم النصوص المذكورة للفرائض المعهودة. فهي مندفعة بأن الانصراف المذكور بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق، فضلا عن العموم. مع أنه لو تم فليس بنحو يوجب ظهور النصوص في الاجتزاء بوضوء الفرائض للنوافل، بل غايته قصوره عن إثبات وجوب الوضوء للنوافل، و هو لا يقتضي عدم وجوبه لها بعد ما سبق من أن مقتضي القاعدة الأولية الوجوب.

هذا، و قد يقال: أنه بناء علي ما يأتي من بعضهم من عدم وجوب المبادرة للصلاة بعد الوضوء يتجه جواز تخلل النافلة بينه و بين الفريضة، إذ يبعد جدا مانعية النافلة من الدخول به للفريضة. بل يتجه الإتيان بالنافلة مطلقا حتي بعد الفريضة بوضوئها، إذ يبعد أيضا كون الدم الخارج بعد الوضوء غير مبطل له بالنسبة إلي الفريضة و إن

ص: 191

______________________________

طال الزمن، و مبطلا له بالنسبة إلي النافلة.

لكنه يشكل بأن مبني القول المذكور عدم لزوم تخفيف الحدث مهما أمكن، بل وجوب الوضوء إما تعبدي من دون أن يكون رافعا للحدث أو لاختصاص اغتفار الحدث في كل صلاة بوقوعها عقيب تخفيفه بالوضوء من دون أن تتخللهما صلاة أخري من دون نظر إلي مقدار الحدث حينها.

و حينئذ كما لا يكفي الوضوء الواحد عن الفريضتين المتعاقبتين له و إن كان الفصل بينه و بين الثانية أقل من الفصل بينه و بين الفريضة الواحدة المنفصلة عنه، كذلك لا يكفي عن الفريضة و النافلة، بل يقع للأسبق منهما و تحتاج الثانية إلي تخفيف الحدث مرة أخري بوضوء آخر.

نعم، قد يدعي الاكتفاء بوضوء الفريضة لنافلتها، إما لما في الجواهر و غيره من دخولها في اسمها، أو لفهم الاجتزاء به لها تبعا، لأنها من شئونها التابعة لها، كالأذان و الإقامة. قال في الجواهر: «و يؤيده سهولة الملة و سماحتها، إذ في التجديد لكل ركعتين- كما يقتضيه التعميم المتقدم- من المشقة ما لا يخفي».

لكنه يشكل بأن دخول النافلة في اسم الفريضة- مع أنه ليس بنحو يوجب ظهوره فيما يعمها، بل غايته جواز إطلاقه عليه بإرادة الجنس، نظير إطلاق اليومية علي تمام الصلوات الخمس- إنما ينفع لو أخذ في أدلة المقام أسماء الفرائض من ظهر و عصر و غيرهما، أما حيث كان مفادها الوضوء لكل صلاة فلا إشكال في أن الفريضة فرد من الصلاة مباين لنافلتها و ليستا صلاة واحدة.

كما أن فهم الاجتزاء به لها تبعا ليس من الوضوح بحدّ يوجب ظهور الأدلة فيما يعمها، و ليست تبعيتها لها كتبعية الأذان و الإقامة. و لزوم المشقة لا ينفع في المستحبات إلا إذا أوجب اليقين و لو لكشفه عن السيرة، و هو غير حاصل في المقام، و لا سيما مع قرب كون المتعارف من المستحاضة ترك النوافل.

و من هنا لا مجال للبناء علي الاكتفاء بوضوء الفريضة لنافلتها، فضلا عن غيرها

ص: 192

______________________________

من النوافل، كما تقدم من المبسوط و عن المهذب. و كأن ما سبق منهما يبتني علي دعوي كون الوضوء للفرائض اليومية موجبا لكون المرأة بحكم الطاهر، فيجوز لها الدخول في النوافل. و كأنه لاستفادته من صحيح الصحاف، و قد سبق منا المنع من نهوضه به.

مع أنه لو تم لزم جواز الدخول به في الفرائض الأخري غير اليومية، كصلاة القضاء و الآيات، و لم يعرف القول بذلك منهم.

بقي في المقام أمور..

الأول: أن مقتضي ما تضمن أن افتتاح الصلاة التكبير و ختامها التسليم «1» كونهما المعيار في فردية الفرد من الصلاة و في وجوب الوضوء في المقام- كما أشير في كلام الجواهر المتقدم- و لا يجتزأ بالوضوء الواحد لمجموع النافلة الراتبة أو غيرها مما يختص بعنوان كصلاة جعفر، لظهور نصوص المقام في أن المعيار في العموم أفراد الصلاة، لا أنواعها.

الثاني: أن مقتضي إطلاق النصوص عدم اعتبار إيقاع الوضوء بداعي الصلاة التي يؤتي بها معه، بل يجزي الوضوء لغاية أخري إذا عدلت عنها، فلو توضأت الفريضة ثم بدا لها أن تصلي به النافلة أجزأها لها و تعيده بعد ذلك للفريضة. بناء علي ما تقدم منا في المسألة الواحدة و السبعين من مباحث الوضوء من عدم بطلانه بتخلف غايته.

و أما مثل قوله عليه السلام في مرسلة يونس: «و تتوضأ لكل صلاة» «2» فاللام فيه إما للاختصاص، أو للتعليل بلحاظ كون الصلاة علة لوجوب الوضوء لبيان شرطيته فيها، لا لبيان شرطية داعويتها فيه، فلا ينافي إطلاق النصوص الأخر.

الثالث: صرح في المبسوط و الخلاف و السرائر و الوسيلة و جامع المقاصد بوجوب تعقيب الوضوء بالصلاة و عدم الفصل بينهما، مدعيا في الأخير تصريح جماعة به، و قد يستفاد ممن عبر بالوضوء عند كل صلاة، كما في الشرائع و القواعد.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 2 من أبواب تكبيرة الإحرام، و باب: 1 من أبواب التسليم.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 193

______________________________

لكن صرح في المختلف بعدم وجوب المبادرة، و هو المحكي عن مصابيح العلامة الطباطبائي. و توقف في المنتهي، و اقتصر في التذكرة علي نسبة الأول للمبسوط.

و قد استدل في المبسوط و الخلاف بأن الواجب عليها الوضوء عند كل صلاة. و أورد عليه في المختلف بعدم تضمن شي ء من النصوص ذلك، بل أطلق فيها الوضوء للصلاة.

لكن الظاهر انصراف الإطلاق لصورة المبادرة بقرينة ما تقدم من ارتكاز كونها مستمرة الحدث، و أن صلاتها به للضرورة، فيلزم الاقتصار علي ما لا بد منه، كما نبه له في المنتهي و جامع المقاصد، بل في الثاني أن وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة يرشد إليه. و لا سيما مع قوله عليه السلام في صحيح الصحاف: «فلتتوضأ و لتصل عند وقت كل صلاة» «1»، و في خبر علي بن جعفر المتقدم في الصفرة: «يجزيها الوضوء عند كل صلاة» «2» و مع ورود ذلك في نصوص الغسل.

و أما مثل قوله عليه السلام في موثق ابن بكير: «فإذا مضي ذلك و هو عشرة أيام فعلت ما تفعله المستحاضة ثم صلت فمكثت تصلي بقية شهرها، ثم تترك الصلاة في المرأة الثانية أقل ما تترك امرأة الصلاة» «3» فلا ظهور له في التراخي الزماني، لأن العطف ب «ثم» كثيرا ما يساق بلحاظ الفصل الاعتباري الذهني، كما هو الحال في ذيله، بل لا يبعد كون موضوع الترتيب فيه انتقالها للاستحاضة و استمرارها عليها في بقية الشهر، لا لطهارة المستحاضة و الصلاة.

فما في المنتهي من الاستشهاد به لجواز التراخي بين الوضوء و الصلاة لو لا ضعف سنده لفطحية ابن بكير في غير محله، كيف و لازمه ظهوره في وجوب التراخي لا مجرد جوازه.

و بالجملة: ما سبق كاف في المنع من إطلاق النصوص الذي ادعاه في المختلف،

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب الحيض حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 5.

ص: 194

دون الأجزاء المنسية (1)، و صلاة الاحتياط (2)،

______________________________

إذ لو لم يكن دليلا لوجوب المبادرة فلا أقل من إيجابه التوقف في الإطلاق و الرجوع في المبادرة لما سبق في تنقيح مقتضي القاعدة الذي قد يرجع إليه ما في الخلاف من الاستدلال أيضا باليقين بالبراءة.

نعم، تكفي المبادرة العرفية، لما هو المعلوم من عدم ابتناء عمل المستحاضة علي الخروج عن المتعارف.

(1) لأنها لا تخرج عن كونها جزءا للصلاة صاحبة الوضوء و إن اختلف محلها، فما دل علي الاكتفاء بالوضوء الواحد للصلاة يقتضي الاكتفاء فيها بوضوء صلاتها.

(2) لأنها و إن كانت مستقلة افتتاحها التكبير و ختامها التسليم، إلا أنها علي تقدير النقص متممة للصلاة و بدل عن الناقص، فتكون بحكمه في الاجتزاء له بوضوء صلاته، كالأجزاء المنسية، و علي تقدير الكمال نافلة لا يضر بطلانها.

و أما احتمال أن تكون صلاة مستقلة من دون أن تكون متممة للصلاة علي تقدير النقص، بل مجزية لا غير، بمعني انقلاب التكليف علي تقدير النقص من صلاة واحدة إلي صلاتين، من دون أن تكون إحداهما متممة للأخري، نظير ما ورد في الصلاة من جلوس، من استحباب كون كل ركعتين بدلا عن ركعة من قيام. فهو مخالف لظاهر الأدلة جدا. فلتلحظ.

علي أنه لو تم فقد يدعي انصراف عموم الوضوء لكل صلاة عنها، و فهم إجزاء وضوء الصلاة الأولي لها منه تبعا، بسبب كونها من لواحقها عرفا، و إن لم تكن جزءا منها شرعا. فتأمل. و العمدة ما ذكرناه أولا.

و ما عن بعض مشايخنا من لزوم صحة صلاة الاحتياط علي كل تقدير. غير ظاهر الوجه فيما لو كان بطلانها ملازما للاستغناء عنها، نظير ما لو علم الشخص من نفسه أن طهارته لا تستمر أكثر من أربع ركعات، حيث يعلم إجمالا بوقوع صلاة الاحتياط حال الطهارة أو بالاستغناء عنها.

ص: 195

______________________________

إلا أن يلتزم بتبدل الحكم حال الشك، بحيث تكون صلاة الاحتياط متممة علي تقدير النقص و شرطا علي تقدير الكمال، فتبطل الصلاة ببطلانها حتي في فرض الكمال. لكن الأدلة لا تساعد عليه، بل هي كالصريحة في خلافه. كما لا تساعد علي لزوم إحراز صحتها علي كل تقدير في الاجتزاء بها ظاهرا عند الشك في الكمال، و إن كان بطلانها واقعا لا يخل علي تقدير الكمال. فلا مخرج عما ذكرنا من الوجه.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه في وجه الاجتزاء لها بوضوء الفريضة من ظهور النص في غير مثل صلاة الاحتياط مما هو من توابع الصلاة، نظير الأجزاء المنسية.

فإن كان المراد به صحتها في فرض نقص الصلاة، فهو غير بعيد، لما تقدم.

و إن كان المراد به صحتها مطلقا حتي في فرض كمالها و صيرورتها نافلة، أشكل بأن تبعيتها لها لما كانت ظاهرية بلحاظ تنجز احتمال نقص الصلاة لم يتضح ترتب أثرها- و هو الاجتزاء لها بوضوء الفريضة- علي تقدير كمال الصلاة و كونها نافلة مستقلة، بل المتيقن منه صورة تبعيتها لنقص الصلاة.

و مثله ما عن بعض مشايخنا، من أن مقتضي الاستصحاب نقص الصلاة و عدم الإتيان بالركعة فيحرز به جزئية صلاة الاحتياط منها، المستلزمة للاجتزاء لها بوضوئها، و صحتها بلا حاجة للتجديد، و حينئذ تصح واقعا حتي علي تقدير كمال الصلاة و كونها نافلة، لانصراف نصوص تجديد الوضوء لكل صلاة عن الصلاة المحكومة ظاهرا بالصحة حين الإتيان بها.

للإشكال فيه بأن ظاهر أدلة صلاة الاحتياط إلغاء استصحاب النقص و عدم الإتيان بالركعة في الصلاة، و تشريع وظيفة أخري في قباله، تبتني علي ملاحظة كلا طرفي الشك، لا في طوله تبتني علي إلغاء احتمال الكمال في الصلاة.

مع أن التعبد بصحة صلاة الاحتياط ظاهرا بسبب الاستصحاب المذكور- لو تم- لا يوجب انصراف عموم وجوب تجديد الوضوء للصلاة عنها بنحو يستلزم صحتها واقعا علي تقدير انكشاف عدم جزئيتها لتمامية الصلاة. و لذا لا يظن الالتزام

ص: 196

______________________________

منه و لا من غيره بصحة صلاة المستحاضة لو لم تجدد الوضوء لها لاستصحاب عدم الاستحاضة، لعدم دخل الحكم الظاهري بالحكم الواقعي. و لا أقل من عدم كون الانصراف المذكور بحدّ يوجب ظهور الأدلة في الصحة، بل غايته أن يوجب خروج صلاة الاحتياط في فرض كونها نافلة عن المتيقن من مفاد الأدلة، فيرجع فيه للقاعدة المقتضية للبطلان.

و من هنا لا مجال للبناء علي صحة صلاة الاحتياط مطلقا، بل المتيقن صحتها في ظرف الحاجة إليها لنقص الصلاة.

إن قلت: لو شك بين الاثنين و الثلاث و الأربع، وجب الاحتياط بركعتين من قيام و ركعتين من جلوس، و يكون الجزء إحدي الصلاتين، و الثانية نافلة، و حيث يحتمل كون الجزء هو الثانية منهما و النافلة الأولي، فلو بني علي بطلان النافلة لزم تخلل الحدث بين طهارتين مع وحدة سبب الطهارة، و هو الوضوء الأول.

قلت: بطلان النافلة ليس للحكم حينها بالحدث، لما سبق من كون المستحاضة مستمرة الحدث، بل لعدم العفو فيها عن الحدث السابق عليها، و لا محذور في تخلل صلاة باطلة بين جزئي صلاة صحيحة، كما أمكن تخلل صلاة صحيحة بين جزئي صلاة صحيحة.

نعم، قد يشكل ذلك في المقام بلحاظ منافاته لما سبق من اعتبار المبادرة للصلاة بعد الوضوء لأن دليله كما يقتضي المبادرة إلي إحداث الصلاة يقتضي عدم الفصل بين أجزائها بما هو خارج عن المتعارف، فلا يجوز الانشغال في أثناء الصلاة بما لا يخل بها كقراءة القرآن و الذكر و الدعاء بمقدار كثير معتد به. و من هنا قد يلزم الاحتياط بالإتيان بصلاة الاحتياط، ثم تجديد الوضوء و إعادة الصلاة.

اللهم إلا أن يقال: مقتضي إطلاق ما دل علي الاكتفاء بالوضوء الواحد للصلاة هو الاجتزاء بالصلاة علي الوجه الذي ينبغي إيقاعها عليه شرعا، و إن استلزم الإخلال بالمبادرة، و لزوم المبادرة إنما هو في مقابل الفصل الذي لا يقتضيه تشريع الصلاة،

ص: 197

______________________________

كالمثال المتقدم. فتأمل جيدا.

بقي الكلام في حكم إعادة الصلاة.

و هي.. تارة: تشرع مع صحة الصلاة الأولي، كما في إعادة المنفرد صلاته جماعة.

و أخري: مع بطلان الصلاة الأولي قطعا أو تعبدا.

و ثالثة: لاحتمال بطلانها احتياطا، مع التعبد بصحتها.

أما في الأولي فلا ينبغي التأمل في لزوم تجديد الوضوء لها، لأنها فرد من الصلاة مباين للفرد الأول الذي أوقع بالوضوء الأول. و مجرد اتحادهما سنخا لا يكفي في الوحدة المعتبرة في المقام.

فما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من إمكان منع التجديد بناء علي عدم لزوم معاقبة الصلاة لأعمالها، غير ظاهر، حتي علي القول بابتناء الإعادة علي تبديل الامتثال- الذي هو خلاف التحقيق- لأن تبديل الامتثال إنما يستلزم خروج الفرد الأول عن كونه امتثالا، لا بطلانه، بحيث يخرج عن كونه صلاة، ليجري فيه ما يأتي في الصورتين الأخيرتين. فلاحظ.

و أما في الأخيرتين فمن الظاهر أن ما تضمن اختصاص كل صلاة بوضوء لا يشمل الباطلة، و هي الأولي في الصورة الثانية، و المرددة بينهما في الصورة الثالثة، فلا يلزم من الاكتفاء لهما بالوضوء الواحد الجمع به بين صلاتين.

و من هنا يتعين الاكتفاء به بناء علي جواز الفصل بين الوضوء و الصلاة.

و دعوي: لزوم التجديد في مورد الاحتياط الاستحبابي بالإعادة- كما في الصورة الثالثة- لكون الصلاة المعادة صلاة مستحبة، فيشملها العموم المتقدم. ممنوعة، لعدم كون الاستحباب شرعيا مستلزما لصحتها مع الأولي، بل عقليا مع بطلان إحدي الصلاتين في الواقع و عدم مشروعيتها، لتستقل بوضوء.

أما بناء علي عدم جواز الفصل بين الوضوء و الصلاة فلا بد من التجديد فيهما،

ص: 198

و سجود السهو (1) المتصل بالصلاة (2)، فلا يحتاج فيها إلي تجديد الوضوء أو غيره.

(مسألة 28): حكم المتوسطة- مضافا إلي ما ذكر من الوضوء (3)،

______________________________

للفصل بين الوضوء و الصلاة المعادة بالصلاة الأولي، فلا يجزي للمعادة لتصح في الصورة الثانية، و يتحقق بها الاحتياط في الثالثة.

و دعوي: عدم إخلاله بالموالاة العرفية المعتبرة في المقام. ممنوعة لا تناسب عدم الاجتزاء بالوضوء الواحد للصلاتين، بل الظاهر الإخلال بها في كثير من فروض بطلان الصلاة قبل إكمالها.

مسألة 28: حكم الاستحاضة المتوسطة
اشارة

(1) بناء علي اعتبار الطهارة فيه، حيث لا يبعد فهم إلحاقه بالصلاة تبعا، لأنه من لواحقها عرفا، فيغفل عن التجديد له. و لا سيما و أن دليل الطهارة فيه لو تم لا اطلاق له يقتضي اعتبارها بنحو لا تجزي فيه طهارة صلاته. فتأمل جيدا.

(2) أما المنفصل عنها بمقدار معتد به فلا تتضح الغفلة عن التجديد له. فتأمل.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(3) أما لغير الفجر المعروف بين الأصحاب، و هو المتيقن من دعاوي الشهرة علي أحكام المستحاضة، بل في الناصريات و الخلاف دعوي الإجماع عليه، و في الغنية دعوي الإجماع علي أنها تكون بحكم الطاهر معه.

و يستدل له بقوله عليه السّلام في مرسلة يونس الطويلة: «و كذلك أفتي أبي و سئل عن المستحاضة فقال: إنما ذلك عرق عابر [عائذ] أو ركضة من الشيطان، فلتدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل و تتوضأ لكل صلاة. قيل: و إن سال؟ قال: و إن سال مثل المثعب … » «1»، و موثق سماعة عنه عليه السّلام: «قال: و غسل المستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف و جاز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل صلاتين، و للفجر غسل، و إن لم

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 199

______________________________

يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل يوم مرة و الوضوء لكل صلاة … » «1»، و موثقة الآخر: «المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين و للفجر غسلا، و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل يوم مرة و الوضوء لكل صلاة … » «2».

و بها ترفع اليد عن ظهور بعض النصوص الآتية في الاجتزاء بالغسل الواحد، فتحمل علي الاجتزاء به في مقابل تثليث الأغسال، لا في مقابل ضم الوضوء إليه.

هذا، و لكن قوة ظهور المرسلة في بيان تمام الوظيفة ملزم إما بحمل العموم فيها علي الغسل و الوضوء معا و تنزيلها بقرينة النصوص المصرحة بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد، علي إرادة الصلاة التي يحضر وقتها الوجوبي و يراد أداؤها، فتشمل الصلاتين معا، و تحمل علي الكثيرة، كما قد يناسبه قوله: «و إن سال … » و الحكم في بقية السنن بالغسل وقت كل صلاة، أو علي الوضوء وحده، بأن يراد بالغسل فيها خصوص غسل الحيض- كما هو الظاهر، و يناسبه الاقتصار علي الغسل في نصوص الكثيرة- و تحمل علي القليلة، كما يحمل قوله: «و إن سال … » علي التعميم من حيثية وجوب الصلاة، لا من حيثية الاكتفاء بالوضوء، و علي الوجهين لا تشمل المتوسطة.

و أما حمله علي خصوص الوضوء بإرادة بيان وجوبه إما وحده أو مع الغسل، لا بيان كونه تمام الوظيفة، فيمكن شموله لتمام أقسام المستحاضة، فبعيد جدا و لا سيما مع الاقتصار فيه في حكم المتحيضة بالتمييز و العدد المتيقن من مورده الكثرة علي الغسل من دون ذكر للوضوء. و لا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

كما أن موثق سماعة الأول و إن روي كما تقدم في الكافي و التهذيبين، فيلزم حمله علي المتوسطة، إلا انه روي في الفقيه هكذا: «و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الوضوء لكل صلاة» فيتعين حمله علي القليلة، و تساقط كلتا الروايتين بعد اعتبار طرقهما للتعارض.

و دعوي: أن عدم ثبوت الزيادة في رواية الفقيه لا يكشف عن عدمها، ليعارض

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 6.

ص: 200

______________________________

روايتها في غيره. ممنوعة، لظهور حاله في رواية تمام ما له دخل في الوظيفة، و إنما قد يتجه في زيادة المضمون المستقل الذي لا دخل له بحكم الواقعة المنقولة. كما أن تعدد الراوي للزيادة لا يتضح مرجحيته لروايتها، لعدم وضوح مرجحية الأكثرية، خصوصا في مثل المقام مما لا يرجع إلي اختلاف الخبرين، بل إلي الاختلاف في الخبر الواحد، نظير اختلاف النسخ.

و أما موثقة الآخر فالاستدلال به موقوف علي أن المراد بعدم جواز الدم الكرسف فيه عدم تعديه منه، و أن المراد بالثقب في صدره التعدي منه بقرينة ذلك، و قد تقدم في حكم القليلة أنه أقرب من حمله علي عدم الثقب بقرينة الصدر، و لا سيما بملاحظة الموثق الأول، بل يصلح لأجل ذلك لتأييد رواية الكافي و التهذيبين للأول، فيتعاضدان.

إلا أن في بلوغ ذلك حد الحجية إشكال. و إن كان قريبا، خصوصا مع ظهور انحصار مستند الأصحاب في وجوب الوضوء بهما، فيكون مؤيدا لهما. بل قد يستقل ما سبق من فتوي الأصحاب المعتضدة بدعوي الإجماع ممن عرفت، بالاستدلال علي وجوب الوضوء، بنحو يستغني به عن النصوص. فتأمل جيدا.

و منه يظهر أنه لا مجال للاستدلال عليه بالإجماع لو كان هو الدليل فيما سبق.

بل ينحصر الدليل عليه بعموم النصوص المتقدمة لو تم ما سبق. اللهم إلا أن يخرج عن عمومها، بما تضمن إجزاء الغسل عن الوضوء لحكومته علي العموم المذكور حكومة عرفية.

و دعوي: لزوم تخصيص الإجزاء بنصوص المقام، لأن الجمع فيها بين الغسل و الوضوء لكل صلاة موجب لقوة ظهورها في العموم للصلاة التي يغتسل لها، و إلا لزم التخصيص فيها بغيرها. مدفوعة بأنه حيث يلزم تعقيب الصلاة للوضوء دون الغسل- كما سيأتي إن شاء اللّه تعالي- فوجه العموم هو الحاجة للوضوء في جميع الصلاة، و إن أغني الغسل عنه في فرض الفصل بينه و بين الصلاة.

ص: 201

______________________________

و بعبارة أخري: بعد البناء علي وجوب الموالاة بين الوضوء و الصلاة فإجزاء الغسل عن الوضوء مختص بما إذا لم يفصل بينه و بين الصلاة، لقصور عموم الإجزاء عن غير ذلك، و حيث لم ينبه في النصوص للموالاة بين الغسل و الصلاة الأولي، كما لا يتوقف قيامه بوظيفته عليها، حسن فيها تعميم وجوب الوضوء لكل صلاة، لأنه مقتضي الاستحاضة الأولي، و إن أجزأ الغسل عنه في الصلاة الأولي في فرض عدم الفصل بينهما، لعموم دليل إجزائه عنه.

و دعوي: أن الغالب في الغسل لصلاة الغداة عدم الفصل بينهما، و معه لا يحسن التعميم المذكور. ممنوعة، لأن الغالب عدم الفصل الكثير بينهما بسبب قصر الوقت، لا بالنحو المعتبر في المقام. علي أن الغسل قد لا يكون لصلاة الغداة، كما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و يؤيد ما ذكرنا إن لم يدل عليه ما تقدم في القليلة من ظهور صحيح الصحاف في استثناء الصلاة التي يغتسل لها من عموم وجوب الوضوء، لأنه لا يختص بالقليلة، بل يعم جميع فروض المستحاضة. مضافا إلي ما يأتي في الكثيرة من الاجتزاء بغسلها عن الوضوء، حيث يقتضي إجزاء غسل المتوسطة بالأولوية.

بل لا يبعد شمول إطلاقه لما إذا انتقلت إلي المتوسطة قبل الشروع في الغسل. بل يبعد جدا الاكتفاء به للصلاة من دون وضوء مع بقائها علي الكثيرة، و عدم الاكتفاء به مع انتقالها للمتوسطة، نظير ما تقدم في القليلة.

و من هنا يتعين عدم اختصاص ذلك بصلاة الفجر، بل يجري في غيرها لو وقع الغسل لها و لم يفصل بينه و بينها. و لعله لا ينافي كلام من استثني الغداة، لابتناء استثنائهم لها علي فرض إيقاع الغسل لها في كلامهم.

بل لا يبعد بالنظر إلي صحيح الصحاف و نصوص الاستحاضة الكثيرة جواز الجمع بين الفريضتين بالغسل الواحد لو وقع لهما من دون حاجة إلي تجديد الوضوء للثانية. و لعله الظاهر من الصدوق، حيث حكم بأنها تصلي صلاة الليل و الصبح

ص: 202

______________________________

بالغسل ثم تصلي بقية الصلوات بوضوء.

نعم، لو فصلت بينه و بين الصلاة اتجه وجوب الوضوء لها، لقصور دليل الإجزاء عن ذلك، عدا صحيح الصحاف الذي لا يبعد انصرافه إلي صورة التعجيل. و لا يبعد كون ذلك مراد من استثني الغداة، و ابتناء كلامهم علي صورة التعجيل و الموالاة.

هذا كله بناء علي عموم إجزاء الغسل عن الوضوء، و أما بناء علي عدم إجزائه عنه فيتجه البناء علي وجوب الوضوء في المقام، عملا بعموم ما دل علي عدم الإجزاء، و عموم النصوص المتقدمة.

و أما النصوص المقتضية للإجزاء في خصوص المقام- كصحيح الصحاف و نصوص المستحاضة الكثيرة- فقد سبق منا الاستدلال بها لعموم الإجزاء عند الكلام فيه، فالقول بعدم الإجزاء يبتني علي إهمالها أو تنزيلها عليه. فراجع.

اللهم إلا أن يدعي الاقتصار علي موردها و إن بني علي عدم الإجزاء في غيره، لعموم ما دل علي عدمه. فلاحظ.

ثم إنه بما ذكرنا يتضح تيسر الاحتياط بمتابعة المشهور بضم الوضوء للغسل مع التخيير في تقديم أي منهما لعدم إخلاله بالموالاة المعتبرة، لأنه حيث كان المعتبر عدم فصل الصلاة عن أحد الأمرين من الغسل أو الوضوء تيسر ذلك بتأخير كل منهما.

و دعوي: أن مقتضي إجزاء الغسل عن الوضوء عدم مشروعية الوضوء بعده، فيبطل و لا يتيسر الاحتياط به، كما يخل بالموالاة المعتبرة بين الغسل و الصلاة. و أما تقديمه علي الغسل فيستلزم الإخلال بالموالاة المعتبرة بينه و بين الصلاة علي تقدير وجوبه. بل يتعين في الاحتياط الغسل أولا، ثم الفصل بمقدار يخل بالموالاة المعتبرة، ثم الوضوء و الصلاة من دون فصل.

مدفوعة: بأن إجزاء الغسل عن الوضوء لا يستلزم عدم مشروعية الوضوء و بطلانه لو جي ء به بعده في الاستحاضة لأن المستحاضة مستمرة الحدث، و إن عفي عن الصلاة به. كما أن اعتبار الموالاة بين الوضوء و الصلاة لا يمنع من تقديمه علي

ص: 203

و علي الأحوط تجديد القطنة (1) أو تطهيرها، لكل صلاة- غسل قبل صلاة

______________________________

الغسل، لإطلاق نصوص المقام المتضمنة للجمع بينهما.

نعم، تقدم في غسل الحيض أن مقتضي النصوص المتضمنة لعدم الإجزاء هو تقديم الوضوء، و من هنا كان أحوط في المقام، لأن فيه جمعا بين الأمرين، و إن كان مقتضي إطلاق نصوص المقام التخيير، بل لعل جواز تأخير الوضوء هو المتيقن منها.

فتأمل جيدا.

ثم إن الوجه فيما أشرنا إليه من اعتبار الموالاة بين الوضوء و الصلاة هو ما تقدم في وجه ذلك في القليلة من انصراف الإطلاق إليها، بضميمة ارتكاز كونها مستمرة الحدث، و أن الاكتفاء بالوضوء الواحد للصلاة يبتني علي العفو عما لا يمكن تجنبه من الحدث، فيلزم الاقتصار علي ما لا بد منه، دون ما يتيسر تجنبه بالمبادرة. فراجع.

و أما عدم وجوب الموالاة بين الغسل و الصلاة الأولي فيأتي الكلام فيه عند الكلام في وجوب الغسل إن شاء اللّه تعالي.

هذا، و الكلام في وجوب الوضوء للنافلة و صلاة الاحتياط و غيرهما يظهر مما تقدم في القليلة.

(1) كما هو المذكور في كلام جملة من الأصحاب، بل ظاهر الناصريات الإجماع عليه، بل عن الإرشاد لفخر الإسلام إجماع المسلمين عليه، و ما تقدم في القليلة من دعاوي الشهرة و غيرها جار فيه، بل هو هنا أولي، و لعله لذا حكي عن القاضي ذكره هنا و إن أهمله هناك.

نعم، مما تقدم هناك يظهر أنه لا مجال للاستدلال عليه بالإجماع. و مثله الاستدلال عليه بأنه نجاسة يمكن التحرز عنها فيجب، لأن جميع ما سبق في رده هناك جار هنا عدا كون الدم في الباطن، لأن فرض ثقب الدم الكرسف يستلزم خروجه للظاهر لو خرج طرف الكرسف له، كما هو الغالب.

نعم، قد استدل عليه بموثق عبد الرحمن أو صحيحه، و فيه: «فإن ظهر عن

ص: 204

______________________________

[علي خ ل] الكرسف فلتغتسل ثم تضع كرسفا آخر ثم تصلي … » «1» و قوله عليه السّلام في خبر الجعفي: «و لا تزال تصلي بذلك الغسل حتي يظهر الدم علي الكرسف، فإن ظهر أعادت الغسل و أعادت الكرسف» «2». و بما يأتي في الكثيرة بضميمة عدم القول بالفرق، كما في الجواهر.

لكن حديث عبد الرحمن- لو تم ظهوره في المتوسطة، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي- لم يتضمن الأمر بتبديل الكرسف، بل بوضع كرسف آخر بعد الغسل الظاهر في المفروغية عن إلقاء الكرسف الأول حين الغسل.

و حينئذ فالاستدلال إن كان بالمفروغية المذكورة، فلعلها غير ناشئة عن مانعيته شرعا من الصلاة، بل لعدم سهولة الغسل مع إبقائه، لما يستلزم من استنقاعه بمائه و سيلانه منه للبدن الموجب لتنجسه، أو لمانعيته من وصول الماء لبعض البشرة.

و كذا لو كان الاستدلال بالأمر بوضع كرسف أخر لقرب أن يكون الوجه فيه الرغبة عن إرجاع الكرسف الأول، لاستقذاره، أو لعدم مانعيته من سيلان الدم مع ثقب الدم له قبل إرجاعه، أو لاستلزام إرجاعه تنجس ظاهر البدن به، حيث لا مجال مع ذلك لدعوي ظهور الأمر المذكور في المانعية من الصلاة، كي يتجه ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من التعدي عن مورده و هو الصلاة التي يغتسل لها لسائر صلوات اليوم، لعدم الفرق ارتكازا في المانعية المذكورة.

و أما الجواب عنه- كما عن بعض مشايخنا- بظهوره في ضم كرسف جديد للكرسف الأول، لا تبديله به. فهو بعيد جدا، لبعد إبقاء الكرسف حين الغسل.

و أما خبر الجعفي فهو- مع الغض عن سنده- لم يتضمن الأمر بتبديل الكرسف، بل بإعادته، فإن حمل علي العهد- كما لعله مقتضي التركيب اللفظي بدوا- كان نصا في عدم التبديل، و إن حمل علي الجنس كان عدم التبديل مقتضي إطلاقه. غاية الأمر أنه يبعد إرجاع الكرسف الأول لما سبق، لا لمانعيته شرعا من الصلاة. و إن كان

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 10.

ص: 205

______________________________

الاستدلال بظهوره في المفروغية عن إلقاء الكرسف حين الغسل، فيظهر حاله مما تقدم.

و أما ما ورد في الكثيرة فلو تم يتوقف الاستدلال به في المتوسطة علي الإجماع علي عدم الفصل، و هو غير ثابت، و لا يكفي فيه مجرد عدم الفصل، فضلا عن عدم ثبوته.

نعم، لو استفيد منه كون التبديل لمانعية نجاسة القطنة بالدم من الصلاة اتجه التعدي فيه للمتوسطة، لإلغاء خصوصية الكثيرة عرفا في ذلك من دون حاجة للإجماع علي عدم الفصل. لكنه غير ظاهر علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و من هنا يشكل وجوب تبديل القطنة، بل بعض ما تقدم في الاستدلال لعدم وجوبه في القليلة شامل للمتوسطة أو صريح فيها، فراجع.

هذا، و قد سبق من جماعة في القليلة القول بوجوب تبديل الخرقة، و قد ذكروه هنا أيضا كما ذكره جملة ممن لم يذكره هناك، و قد نسبه في كشف اللثام للأكثر. و لم يذكره جماعة. و لعله لأنه خلاف فرض عدم تجاوز الدم من القطنة في المتوسطة، إذ لازمه عدم تنجس الخرقة، و لا وجه معه لتبديلها، كما تقدم نظيره في القليلة. اللهم إلا أن يفرض تنجسها بالرطوبة التي قد تصاحب الدم. أو يدعي أن تعدي الدم عن الكرسف للخرقة إنما يخرج الدم عن التوسط للكثرة إذا كان مقتضي اندفاع الدم دون ما إذا كان لمجرد المماسة، علي ما لعله يأتي الكلام فيه.

و كيف كان، فيظهر الحال في وجهه مما تقدم في القليلة.

نعم، لو تم فقد ينافيه ما قد يظهر من بعض نصوص الكثيرة من الجمع بين الصلاتين بالتعصب قبلهما، علي ما يأتي الكلام فيه، لاستلزامه العفو هنا بالأولوية.

اللهم إلا أن يحتمل العفو هناك للضرورة بلحاظ لزوم التعجيل بالصلاة أو استلزام حل العصابة شدة سيلان الدم، فلا يتعدي منه للمقام.

و أما وجوب تطهير الفرج لو تنجس بالدم فهو يبتني علي عدم العفو عن قليل دم الاستحاضة أو يتوقف أو كثرة الدم أو اختلاطه بغيره من الرطوبات. بل لو بني علي عموم وجوب إبدال القطنة لم يبعد عموم وجوب تطهير الفرج للأولوية العرفية.

ص: 206

الصبح (1)، قبل الوضوء أو بعده.

______________________________

و قد تقدم في القليلة ما له نفع في المقام. فراجع.

(1) يعني: و لا تحتاج إلي غسل آخر، كما جري عليه جمهور الأصحاب و ادعي عليه الإجماع في الناصريات و الخلاف، كما ادعي في الغنية الإجماع علي أنها إذا فعلته مع بقية الوظائف كانت بحكم الطاهر.

لكن نسب للأكثر في التذكرة و جامع المقاصد، و للمشهور في المختلف و الروض و محكي الذكري و غيرها، في قبال ما تقدم في القليلة عن ابن أبي عقيل و ابن الجنيد من اشتراك المتوسطة و الكثيرة في الأغسال الثلاثة، و اختاره في المعتبر و المنتهي و الحبل المتين و المدارك حاكيا عن شيخه المعاصر الذي هو الأردبيلي علي الظاهر.

و يستدل للمشهور- مضافا إلي موثقي سماعة المتقدمين عند الاستدلال لوجوب الوضوء لو تم ما سبق من تعاضدهما- صحيح زرارة: «قلت له: النفساء متي تصلي؟

فقال: تقعد بقدر حيضها و تستظهر بيومين، فإن انقطع الدم و إلا اغتسلت و احتشت و استثفرت [و استذفرت] وصلت، فإن جاز الدم الكرسف تعصبت و اغتسلت ثم صلت الغداة بغسل و الظهر و العصر بغسل و المغرب و العشاء بغسل، و إن لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد. قلت: و الحائض؟ قال: مثل ذلك سواء» «1».

و لا مجال لما في المعتبر و غيره من الطعن فيه بالإضمار مع ما هو المعلوم من حال زرارة من أنه لا يستفتي عن غير الإمام، و ما هو ظاهر حال كتب الحديث من الاقتصار علي أحاديثهم عليهم السلام، و ما في التهذيب من روايته عن أبي عبد اللّه عليه السلام عند ذكره، و عن أبي جعفر في مقام الاستدلال به، كما في الطبعة الحديثة. و مثله الطعن في موثق سماعة بضعف السند.

نعم، لا بدّ من حملهما و غيرهما علي صورة الثقب جمعا مع ما تضمن الاكتفاء

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 207

______________________________

بالوضوء مع عدم الثقب، كما تقدم في القليلة. و تقدم أيضا أنه لا مجال لاحتمال كون المراد بالغسل في الصحيح غسل النفاس ليخرج عما نحن فيه. فراجع. حيث قد تقدم هناك ما له نفع في المقام.

و بذلك ترفع اليد عن إطلاق ما تضمن وجوب الأغسال الثلاثة للمستحاضة مما تقدم في القليلة التعرض له. و كذا إطلاق ما تضمن وجوبها مع الثقب، كصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام و فيه: «فإذا جازت أيامها و رأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر و العصر تؤخر هذه و تعجل هذه، و للمغرب و العشاء غسلا تؤخر هذه و تعجل هذه، و تغتسل للصبح و تحتشي و تستثفر … و إن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت و دخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء … » «1». فيحمل علي صورة السيلان من الكرسف.

و دعوي: أن لازم ذلك إسقاط موضوعية الثقب الذي تضمنه الصحيح، حيث لا يكون تثليث الأغسال تابعا له، بل لأمر زائد عليه، و ليس هو من تقييد الموضوع ببعض أفراده.

مدفوعة بأن الموضوع هو الدم الثاقب و من الظاهر أن السائل من أفراده، بل هو أظهرها و أغلبها، فلا بعد في الحمل عليه. و لا سيما مع مناسبته للأمر بالاستثفار الظاهر في الحاجة إليه تحفظا من سيلان الدم.

مضافا إلي ظهور جملة من النصوص في أن الأغسال الثلاثة منوطة بكثرة الدم و سيلانه، كقول أبي عبد اللّه عليه السلام في صحيح الصحاف: «و إن كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف الكرسف صبيبا لا يرقأ فإن عليها أن تغتسل في كل يوم و ليلة ثلاثة مرات» «2»، و في موثق عبد الرحمن أو صحيحه: «فإن ظهر عن [علي. يب] [علي] الكرسف فلتغتسل ثم تضع كرسفا آخر ثم تصلي، فإذا كان دما سائلا فلتؤخر الصلاة إلي الصلاة … » «3»، و في صحيح أبي بصير: «فإذا تمت ثلاثون يوما فرأت دما

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

ص: 208

______________________________

صبيبا اغتسلت و استثفرت و احتشت بالكرسف في وقت كل صلاة» «1»، و في صحيح يونس بن يعقوب: «ثم تستظهر بعشرة أيام، فإن رأت دما صبيبا فلتغتسل في وقت كل صلاة» «2» و نحوه صحيحه الآخر في النفساء «3».

و ما تقدم من قوله في أحد موثقي سماعة: «و غسل المستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف و جاز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل صلاتين و للفجر غسل» «4».

كما قد يؤيد مفادها قول أبي جعفر عليه السلام في صحيح الحلبي: «تغتسل المرأة الدمية بين كل صلاتين» «5»، و في صحيح محمد بن مسلم: «ثم تمسك قطنة فإن صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كل صلاتين بغسل» «6».

حيث لا مجال مع هذه النصوص الكثيرة لتعميم تثليث الأغسال لجميع موارد ثقب الدم الكرسف و لو مع عدم سيلانه. و من ذلك يظهر أنه لا مجال لما في المعتبر و غيره مما تقدم من التعويل علي صحيح معاوية بن عمار في التعميم، و إهمال نصوص الغسل الواحد لضعفها بالإضمار و بكون بعض الرواة واقفيا.

نعم، قد يبعد الجمع المذكور أن نصوص المستحاضة علي كثرتها لم تتضمن الأقسام الثلاثة لها، بل هي بين مطلق حاكم بتثليث الأغسال- كالنصوص المتقدمة في القليلة- و مختص بالكثيرة- كبعض هذه النصوص المتقدمة- و مفصل بين جواز الدم و عدمه، أو بين الثقب و عدمه، أو بين الثقب و عدم الجواز- كأحد موثقي سماعة- علي اختلافها في حكم القسمين، للترديد فيها بين الغسل الواحد و الأغسال الثلاثة، أو بين الأغسال الثلاثة و الوضوء أو بين الوضوء و الغسل.

لكن ذلك- كبعض الاختلافات الأخري في النصوص- راجع إلي اضطراب

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 2.

(6) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 4.

ص: 209

______________________________

النصوص و مقرب لاحتمال احتفافها حين الصدور بقرائن تناسب الأحكام التي تضمنتها، و لا يوجب استبعاد الجمع المذكور بعد انحصار رفع التنافي به عرفا و جريه علي القواعد المقررة في الجمع بين العام و الخاص، لوضوح صراحة بعض نصوص الاكتفاء بالوضوء فيما لا يثقب الكرسف، كصراحة جملة من نصوص التثليث فيما يسيل عنه، و صراحة بعض النصوص في الاكتفاء بالغسل الواحد في بعض صور المستحاضة.

فلا بد من تنزيل الأخيرة علي ما لا ينافي الطائفتين الأوليين بالحمل علي الثقب من دون سيلان، و لا سيما مع صراحة نصوص الاكتفاء بالوضوء في عدم الاكتفاء به مع الثقب، و قوة ظهور جملة من نصوص تثليث الأغسال في توقفه علي السيلان.

فتنزل المطلقات الأخر علي ما يناسب ذلك، و إلا لزم إهمال بعض طوائف النصوص و طرحها و لا مجال له مع إمكان الجمع المذكور.

و يؤيد هذا الجمع جري جمهور الأصحاب عليه علي اختلاف طبقاتهم، و فيهم مثل الصدوق أو الصدوقين اللذين يكثر منهما الفتوي بمضامين الأخبار من دون تصرف فيها، فإن عدم خروجهم عن مقتضي الجمع المذكور مع عدم مطابقة نص له بتمامه مقرب لوضوح مقتضاه عندهم و لو لقرائن خارجية، و إلا فما أكثر ما خرجوا عن مقتضي الجمع العرفي في موارد يكون فيها أظهر و أيسر منه في المقام.

و لم يخرج من خرج عنه في المقام إلا لشبهات ظاهرة الضعف كما يظهر مما سبق في مناقشة ما ذكروه.

علي أن بعض النصوص قد يظهر منها تثليث الأقسام و إن لم تنهض بتحديد تمام أحكامها، كحديث عبد الرحمن المتقدم قريبا، لقرب أن يكون المراد بالظهور علي الكرسف فيه نفوذه و ثقبه، فيكون اشتراط الغسل فيه بالظهور دليلا علي عدم وجوبه في القليلة- كما تقدم عند الكلام فيها- كما أن اشتراط التثليث فيه بالسيلان زائدا علي الظهور دليل لعدم تعدد الغسل بدونه، كما هو حكم المتوسطة. و قد أطلنا الكلام في

ص: 210

______________________________

ذلك لتقريب الجمع المذكور و تأييده، و إن استغني عن جميع ذلك بمطابقته للقواعد العامة في الجمع بين الأدلة.

نعم، قد يقال: مقتضي إطلاق حديث عبد الرحمن المتقدم وجوب الغسل كلما ظهر الدم علي الكرسف، كما هو مقتضي إطلاق قول أبي جعفر عليه السلام في حديث زرارة:

«و تصلي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ [يثقب] الدم، فإذا نفذ اغتسلت و صلت» «1»، و في خبر الجعفي: «و لا تزال تصلي بذلك الغسل حتي يظهر الدم علي الكرسف، فإذا ظهر أعادت الغسل و أعادت الكرسف» «2»، و في صحيح الحلبي: «ثم تصلي حتي يخرج الدم من وراء الثوب» «3» بناء علي تنزيله علي ما يناسب نصوص المقام من كون المعيار علي النفوذ من الكرسف.

و حينئذ يكون مقتضي الجمع بين هذه النصوص و نصوص تثليث الأغسال مع سيلان الدم من الكرسف أن الاكتفاء بالأغسال الثلاثة للتخفيف عن المستحاضة و الإرفاق بها، لأن مقتضي إطلاق هذه النصوص عدم الاكتفاء بها لو تخلل ثقب الدم للكرسف بين الصلاتين اللتين تجمع بينهما.

و فيه- مع أنه لم يحك القول بذلك عن أحد من الأصحاب، و أنه لا يبعد إباء بعض نصوص التثليث عن كونه تخفيفا عما تقتضيه القاعدة و ظهورها في كون السيلان سببا في زيادة الغسل-: أن ذلك لا يناسب إناطة التخفيف بالسيلان، حيث يلزم بناء علي ذلك الاكتفاء فيه بما إذا لم يحبس الدم الكرسف عن الظهور و إن لم يسل.

كما لا يناسب نصوص الغسل الواحد في اليوم، حيث لا يبقي لخصوصية اليوم مورد حينئذ، كما لا يخفي.

و من هنا يتعين حمل النصوص المتقدمة علي مجرد بيان الحاجة للغسل مع ظهور الدم علي الكرسف في قبال الاكتفاء بالوضوء بعد غسل الحيض، و الرجوع في مقدار الغسل إلي نصوص المقام المتضمنة للاكتفاء بالغسل الواحد في اليوم. كما جري عليه

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 2.

ص: 211

______________________________

جمهور الأصحاب رضي اللّه عنهم.

هذا، و في خبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: المستحاضة إذا مضت أيام أقرائها اغتسلت و احتشت كرسفها و تنظر فإن ظهر علي الكرسف زادت كرسفها و توضأت و صلت» «1»، و ظاهره عدم وجوب الغسل و الاكتفاء بالوضوء هنا. و حمل الظهور فيه علي الظهور في جانب الكرسف من جهة الفرج المقابل لعدم ظهوره أصلا لانقطاع الدم- مع أنه لا يناسب كون موضوعه المستحاضة- مخالف الأمر بزيادة الكرسف المنساق منه كونه لتجنب سيلان الدم بعد استيعابه للكرسف الأول. اللهم إلا أن يحمل علي إبدال الكرسف بأكبر منه. علي أنه لا مجال للخروج به عما سبق بعد ضعف سنده و هجر الأصحاب له.

بقي في المقام أمور..
الأول: المعيار في السيلان الذي يعتبر عدمه في المتوسطة و وجوده في الكثيرة هو عبور الدم عن الكرسف

أنه قد أشرنا في المسألة الخامسة و العشرين عند الكلام في تحديد المتوسطة و الكثيرة إلي أن المعيار في السيلان الذي يعتبر عدمه في المتوسطة و وجوده في الكثيرة هو عبور الدم عن الكرسف و لو إلي الخرقة التي يتعصب بها.

إلا أنه لا يبعد لزوم كون العبور المذكور لقوة دفع الدم بنحو لا يمنعه الكرسف، و لا يكفي مجرد تلطخ الخرقة به بسبب مماستها للكرسف من دون أن يستند لقوة دفع الدم، نظير تلطخ اليد به بمس الكرسف، لظهور النصوص المتقدمة في أن المعيار في الفرق بين الصورتين كثرة الدم و قوة دفعه.

و ذلك صالح لحمل إطلاق الجواز في بعضها علي ما يناسب ذلك لو لم يكن هو المنصرف منه. و منه يتضح أنه لا مجال لما ذكره بعضهم من أن المتوسطة نادرة الوقوع، و قد سبق التنبيه علي ذلك عند الكلام في الاكتفاء بالوضوء للقليلة.

الثاني: كما صرح الأصحاب رضي اللّه عنهم في المقام بوجوب غسل واحد لليوم صرحوا بكونه قبل صلاة الصبح.

و هو داخل في معقد الإجماعات السابقة و بها استدل عليه

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 13.

ص: 212

______________________________

غير واحد فعن شرح المفاتيح: «و أما كون الغسل لصلاة الغداة فلعدم قائل بالفصل، إذ لم يقل أحد بأن المتوسطة عليها غسل واحد و ليس لخصوص صلاة الصبح … بل ربما كان بديهي المذهب أنه لو كان غسل واحد فموضعه صلاة الصبح». لكنه يشكل بعدم وضوح كونه إجماعا تعبديا بعد قرب استنادهم لبعض الوجوه الاجتهادية.

و من هنا فقد يستدل عليه بظهور النصوص فيه، بتقريب أن المنصرف من موثقي سماعة كون الغسل لأجل الصلاة لكونه دخيلا فيها بنفسه أو بلحاظ أثره، و هو الطهارة، كسائر موارد اعتبار الغسل، لا لوجوبه نفسيا، و لا غيريا بلحاظ خصوصية الوقت، بأن يكون الشرط في الصلاة وقوعها في يوم يغتسل فيه، لا أن الغسل دخيلا رأسا، بل ما ذكرنا هو الظاهر من قوله في صحيح زرارة: «و إن لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد».

كما أن المنصرف من الموثقين و مقتضي إطلاق الصحيح كونه شرطا في تمام صلوات اليوم، و ذلك يقتضي تقديمه عليها بتمامها- بتقديمه علي أولها، و هي صلاة الصبح- بعد ما هو المعلوم و المنصرف من إطلاق النصوص من كون شرطيته من باب الشرط المتقدم لو كان الشرط هو الغسل بنفسه، أو المقارن لو كان الشرط هو الطهارة المسببة عنه.

و دعوي: أن هذا إنما يقتضي عدم الاجتزاء بالغسل في أثناء اليوم لصلاته السابقة عليه، و لا يمنع من الاكتفاء بالغسل الواحد للصلوات الخمس و تقديمه عليها و لو من يومين، فلو استحيضت المرأة بعد الظهر بالمتوسطة فاغتسلت اجتزأت بغلسها لصلاة صبح اليوم الثاني.

مدفوعة بأن ذلك و إن كان مقتضي إطلاق صحيح زرارة، حيث لم يتضمن إلا أن ما يجب له الأغسال الثلاثة مع الكثيرة يجزي له الغسل الواحد مع المتوسطة، إلا أنه لا بد من الخروج عنه بموثقي سماعة الظاهرين في اختصاص كل يوم بغسل لصلواته، المستلزم لوجوب تقديمه علي تمام صلواته بالتقريب المتقدم، و لا مجال للتشكيك في

ص: 213

______________________________

حجيتهما بما تقدم عند الكلام في الوضوء، فإن ذلك قد يتجه لو لم يثبت حكم المتوسطة بدليل آخر، أما حيث ثبت حكمها بصحيح زرارة فالظاهر صلوحه عرفا للقرينية علي بيان المراد منهما، فيكونان حجة و لو بلحاظ تعاضدهما.

و لذا كان الظاهر الاجتزاء بالغسل الواحد لتمام صلوات اليوم و إن لم تكن من الفرائض الخمس، مع قصور صحيح زرارة عن ذلك. فتأمل.

إن قلت: اختصاص كل يوم بغسل إنما يقتضي تقديمه علي تمام صلواته لو استفيد منه شرطيته لتمام صلواته، كما لعله مقتضي الجمود علي عبارته، أما لو استفيد منه استمرار أثر الغسل بمقدار اليوم، كما لعله الأنسب عرفا، فهو يقتضي الاكتفاء بالغسل لتمام الدورة و لو بالتلفيق من يومين، كما ذكرنا.

قلت: لازم ذلك جواز إيقاع أكثر من خمس فرائض بغسل واحد، فلو اغتسلت آخر النهار للظهرين جاز لها أن تصلي به الظهرين من اليوم الثاني أول الزوال، و هو مخالف لصحيح زرارة، لظهوره في عدم إجزاء الغسل الواحد في المتوسطة عما لا تجزي عنه الأغسال الثلاثة من الفرائض في الكثير.

إن قلت: لا مانع من البناء علي أثر الغسل في الفرض قبل إكمال دورة اليوم و إن لم يصح إيقاع الفريضة به تعبدا، لصحيح زرارة، و تكون فائدته جواز إيقاع غير الفرائض من الصلوات به.

قلت: بعد أن لم يكن ذلك أمرا ارتكازيا، بل تعبديا محضا، فليس هو بأقرب من الجمود علي ظهور الموثقين في اختصاص كل يوم بغسله، لشرطيته لتمام صلواته، المستلزم لعدم بقاء أثر غسل اليوم السابق لليوم اللاحق، فلا يصح إيقاع الفريضة و لا غيرها به و إن لم تتم دورة اليوم عليه.

و من هنا كان ما ذكره الأصحاب رضي اللّه عنهم هو المتيقن من مجموع النصوص، فيقتصر عليه. و لا سيما مع تأيده بالرضوي: «و إن ثقب الدم الكرسف و لم يسل

ص: 214

______________________________

صلت صلاة الليل و الغداة بغسل واحد و سائر الصلوات بوضوء» «1» الذي قد أفتي بمضمونه، بل بعبارته الصدوقان. و مع مطابقته للاحتياط، لأنه لو فرض كفاية الغسل الواقع في أثناء النهار لصلاة الغداة لليوم الثاني فلا يمنع من مشروعية الغسل لها لاستمرار الحدث. فتأمل.

هذا، و يأتي إن شاء اللّه تعالي في المسألة الثلاثين الكلام في حكم ما لو لم تغتسل للصبح لنوم أو نسيان أو جهل أو عصيان أو لتجدد المتوسطة بعد صلاته.

ثم إنه بعد أن كان مقتضي الجمع بين النصوص إيقاع الغسل لصلاة الصبح فمقتضاها إيقاعه بعد الفجر، لظهور قوله عليه السلام في موثقي سماعة: «فعليها الغسل لكل يوم مرة» في تجدد التكليف به بتجدد اليوم و إجزائه لتمام الدورة المقتضي لإيقاع صلوات الليل به حتي النافلة في السحر. و هو مقتضي إطلاق أكثر الأصحاب. لكن في الحدائق: «صرح غير واحد من الأصحاب بأنه لو أرادت ذات الدم المتوسط و الكثير التهجد في الليل قدمت الغسل علي الفجر و اكتفت به. قال في الذخيرة بعد نقل الحكم المذكور: «و لا أعلم فيه خلافا بينهم، و لم أطلع علي نص دال عليه».

أقول: أما في الكثيرة فيأتي في أواخر المسألة التاسعة و العشرين نقله عن جماعة كثيرة و ظهور دعوي الإجماع عليه من بعضهم.

و أما في المتوسطة فلم أعثر علي مصرح به سوي الصدوق في الفقيه و المقنع و محتمل الهداية- حاكيا له في ظاهر الأول عن رسالة والده- و الشهيد الثاني في الروض، و لعله مقتضي إطلاق الدروس و جامع المقاصد. و نبه في الحدائق علي انحصار الدليل عليه بالرضوي المتقدم، الذي لا مجال للتعويل عليه، كما تكرر منا في نظائر المقام. و من هنا لا مجال للخروج عما سبق.

هذا، و في الجواهر: «ظاهره يقضي بكون الحكم بذلك- أي الغسل لصلاة الليل و الغداة- في جميع الليالي. و كأنه مقطوع بعدمه، لما ستعرفه فيما يأتي إن شاء اللّه

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

ص: 215

______________________________

أن المستحاضة متي فعلت ما يجب عليها من الأفعال كانت بحكم الطاهر فلا إشكال حينئذ في استباحتها صلاة الليل في الليلة الثانية بالوضوء مجردا. و تنزيله علي أول ليلة خاصة واضح الفساد. فيتعين حملها حينئذ علي إرادة الرخصة من الأمر لها في تقديم الغسل علي الفجر بمقدار الليل، لكونه في مقام توهم الحظر. و يؤيده ما يأتي من ظهور كلام من تعرض لجواز تقديمها الغسل في الرخصة دون الشرطية في صحة صلاة الليل. أو أنه يحمل علي الندب، أو غير ذلك».

لكنه كما تري يأباه الرضوي و كلماتهم التي هي مشابهة له في اللسان. و أما ما ذكره من أن المستحاضة إذا قامت بوظائفها كانت بحكم الطاهر فهو- لم تم- لا ينافي ذلك، لأن مقتضي الرضوي و كلماتهم كون التقديم من جملة الوظائف. فالعمدة ما ذكرنا من عدم حجية الرضوي.

الثالث: مقتضي إطلاق النصوص الاكتفاء في المتوسطة بعدم سيلان الدم لتبديل الكرسف قبل سيلان الدم منه

و إن كان بحيث لو بقي لسال منه، و لا دليل علي لزوم إبقاء الكرسف مدة طويلة أو وحدته في تمام اليوم.

كما لا يبعد البناء علي ذلك في عدم الثقب المعتبر في القليلة، لإطلاق النصوص أيضا. و لا سيما مع قوله عليه السلام في صحيح الصحاف: «و إن طرحت الكرسف عنها و لم يسل الدم فلتتوضأ و لتصل، و لا غسل عليها» «1»، لقوة ظهوره في تعرض المرأة لتبديل الكرسف في أثناء النهار.

الرابع: مقتضي اقتصار الأصحاب رضي اللّه عنهم في تعيين أحكام المستحاضة علي حال الدم مع الكرسف أنه لا عبرة بسيلانه مع عدم وضع الكرسف،

و إن كان قد ينزل كلامهم علي كون ذكر الكرسف لتحديد حال الدم، فإن كان بحيث لا يثقب الكرسف كانت الاستحاضة قليلة، و إن كان بحيث يثقبه من دون سيلان كانت متوسطة، و إن كان بحيث يثقبه و يسيل منه كانت كثيرة و إن لم يوضع الكرسف فعلا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

ص: 216

(مسألة 29): حكم الكثيرة- مضافا إلي وجوب تجديد القطنة (1)

______________________________

و كيف كان، فلازم كلامهم عدم الأثر لسيلان الدم من دون كرسف إذا كان بحيث لا يسيل معه. و هو مخالف لقوله عليه السلام في صحيح الصحاف: «فإن كان الدم فيما بينها و بين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ و لتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف عنها، فإن طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل … » «1».

و من هنا لا يبعد البناء علي وجوب الغسل حينئذ عملا بالصحيح. و مجرد عدم تعرض الأصحاب لذلك و ظهور مساق كلامهم في خلافه لا يتضح كونه موهنا له بحيث يسقطه عن الحجية. فتأمل جيدا.

الخامس: مقتضي إطلاق النصوص عدم لزوم المبادرة إلي الصلاة الأولي بعد الغسل. و لا مجال لإعمال قرينة الاضطرار المتقدمة في وجه لزوم المبادرة من الوضوء للصلاة، و الآتية في الكثيرة في وجه لزوم المبادرة إليها من الأغسال. للفرق بكون الغسل في المتوسطة شرطا في تمام صلوات اليوم، و ظهور تعذر المبادرة لأكثرها مانع من انصراف الإطلاق للمبادرة فيما يمكن المبادرة إليه منها الذي هو الفرد النادر. كما يفترقان بظهور خصوص بعض الأدلة فيهما في لزوم المبادرة، بخلاف المقام.

و لا مجال مع ذلك لما يظهر من بعض كلماتهم من كون الكلام في الجميع علي نحو واحد.

نعم، سبق اعتبار المبادرة في إجزاء الغسل عن الوضوء للصلاة المذكورة، فمع عدمها لا يجزي عن الوضوء لها و إن لم يجب إعادته. و منه يظهر جواز الوضوء بعده و إن أخل بالمبادرة.

مسألة 29: حكم الاستحاضة الكثيرة
اشارة

(1) كما في المراسم و السرائر و الشرائع و النافع و التذكرة و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و الروض و الروضة و عن الجامع و إشارة السبق- علي إشكال في دلالة كلامه عليه- و غيرها، و هو داخل في معقد الشهرة في المختلف، و نفي الخلاف

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

ص: 217

______________________________

فيه في الرياض، كما نفي وجدانه في الجواهر.

و كأنه لاستفادته ممن ذكره في القليلة و المتوسطة بالأولوية، و إلا فقد أهمله جماعة كثيرة ممن ذكره فيهما. لكن تشكل الأولوية باحتمال خصوصية المقام بالعفو لابتناء الجمع بين الصلاتين علي الاهتمام بالتعجيل، و لمنع الدم عن الخروج الذي قد يلزم من التبديل بين الصلاتين. و لعله لذا اقتصر في المقنعة علي التبديل قبل الغسل، و في النهاية علي التبديل عنده. بل لعله مراد من أهمله، و إنما لم ينبه عليه للاستغناء عنه لرفع الكرسف عادة حين الغسل و الاحتشاء بغيره بعده.

و كيف كان، فقد ظهر مما سبق في المتوسطة و القليلة أنه لا مجال للاستدلال عليه بأنه نجاسة يمكن التحرز عنها فيجب.

نعم، قد استدل أو يستدل عليه بفحوي ما تقدم في المتوسطة، و بقوله عليه السلام في صحيح صفوان: «هذه مستحاضة تغتسل و تستدخل قطنة بعد قطنة و تجمع بين صلاتين بغسل» «1» و قوله عليه السلام في صحيح أبي بصير: «فإذا تمت ثلاثون يوما فرأت دما صبيبا اغتسلت و استثفرت و احتشت بالكرسف في وقت كل صلاة … » «2».

و فيه: أن ما تقدم في المتوسطة- مع عدم تمامية الاستدلال به في مورده، كما سبق- لا مجال للتعدي منه للمقام، فضلا عن الاستدلال بفحواه بعد ما ذكرناه من احتمال خصوصية المقام بالعفو.

و صحيح صفوان- لو تم ظهوره في تبديل القطنة بالقطنة، كما هو غير بعيد، دون إضافة القطنة للقطنة، لعدم سعة الموضع للقطن الكثير- لم يتضمن مدة التبديل.

و حمله علي التبديل لكل صلاة بسبب مانعية القطنة من الصلاة ليس بأولي من حمله علي التبديل بالمقدار المانع للدم عن النزول حتي في غير وقت الصلاة و لو بضميمة الاستثفار، بل لعل الثاني أنسب بظهوره في قلة الفاصل بين القطنتين، لطول الفاصل

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 3.

ص: 218

______________________________

بين الأوقات الثلاثة، و صحيح أبي بصير ظاهر في الاحتشاء مع كل غسل، كما تقدم من المقنعة و النهاية، و لعله لتعذر الغسل مع إبقاء الكرسف الأول بسبب استنقاعه بالدم، لا لمانعية الكرسف الموجود قبل الغسل من الصلاة بعده، فهو راجع للزوم الاحتشاء تجنبا لنزول الدم، لا لشرطية التبديل قبل الصلاتين لهما، فضلا عن شرطية التبديل قبل كل صلاة لها.

و بذلك يظهر أن الأولي الاستدلال بالصحيح علي عدم وجوب التبديل بين الصلاتين. و مثله في ذلك قوله عليه السلام في صحيح زرارة: «فإن جاز الدم الكرسف تعصبت و اغتسلت، ثم صلت الغداة بغسل، و الظهر و العصر بغسل، و المغرب و العشاء بغسل … » «1»، لظهوره في تبعية التعصب للغسل، و مع وحدة التعصب لا بد من وحدة الكرسف.

و أظهر منهما في ذلك قوله عليه السلام في صحيح الصحاف: «و إن لم ينقطع الدم عنها إلا بعد ما تمضي الأيام التي كانت تري الدم فيها بيوم أو يومين فلتغتسل ثم تحتشي و تستذفر و تصلي الظهر و العصر، ثم لتنظر فإن كان الدم فيما بينها و بين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ و لتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف عنها … » «2» لظهوره في أنها لا تطرح الكرسف بين الظهرين، بل تصلي بغسل الحيض و بالاحتشاء السابق عليهما من دون نظر إلي أقسام الاستحاضة، و إنما تحتاج إلي النظر إليها بعد ذلك، و مقتضاه عدم وجوب التبديل حتي لو كانت الاستحاضة كثيرة، كما تقدم نظيره في القليلة و المتوسطة.

و مما تقدم في صحيح زرارة يتضح عدم وجوب تبديل الخرقة الذي ذكره في المقام من ذكر تبديل الكرسف. بل قد يستفاد من الصحيحين الآخرين تبعا، لاحتياج تبديل الخرقة دون الكرسف إلي عناية، فعدم التنبيه عليه فيهما مع ظهورهما في عدم تبديل الكرسف موجب لظهورهما في عدمه. و أولي منه تطهير الفرج الذي ذكره من

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

ص: 219

علي الأحوط، و وجوب الوضوء لكل صلاة (1)،

______________________________

تقدم منه ذكره في القليلة، لامتناعه عادة مع بقاء الكرسف.

بل عدم التبديل و التطهير هو المستفاد من جميع النصوص الظاهرة في لزوم الجمع بين الصلاتين، لظهورها في الاهتمام بالتعجيل، حيث يغفل معه عن التبديل و التطهير، فعدم التنبيه عليهما ظاهر في عدمه، و لا سيما مع ابتناء وظيفتها علي الاضطرار، و تعذر الطهارة الخبثية لها بسبب استمرار الدم.

بل يشكل بملاحظة جميع ما تقدم جواز التبديل و التطهير، لظهور النصوص المتقدمة في لزوم الكيفية التي تضمنتها، و لازمه شرطيتها في الاجتزاء بالغسل الواحد للصلاتين. بل قوله عليه السلام في صحيح معاوية بن عمار: «و تحتشي و تستثفر و لا تحني [تحيي] و تضم فخذيها في المسجد و سائر بدنها خارج» «1» قد يظهر في أن ضم الفخذين لحبس الدم عن الخروج، و من الظاهر التعرض لخروج الدم بالتبديل و التطهير، فلا مجال للبناء علي جوازهما بعد عدم ظهور الأدلة في وجوبهما، لتدل علي العفو عما يستلزمهما من الخروج.

نعم، لو لم يكونا منافيين للتعجيل عرفا و لا مستلزمين لزيادة خروج الدم يتجه جوازهما و عدم مانعيتهما من الاجتزاء بالغسل الواحد للصلاتين. فتأمل جيدا.

(1) كما في إشارة السبق و السرائر و الشرائع و النافع و التذكرة و المنتهي و المختلف و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و جامع المقاصد و الروض و الروضة و ظاهر المسالك و محكي الجامع و التحرير و نهاية الأحكام و الذكري و البيان و الموجز الحاوي و فوائد الشرائع و الجعفرية و شرحيها، و عن كشف الرموز أنه ظاهر الشيخ في الجمل.

و هو داخل في معقد الشهرة التي ادعاها في المختلف، و نسبه لأكثر المتأخرين في محكي كشف الرموز، و لجمهورهم في محكي الكفاية، و لعامتهم في المدارك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

ص: 220

______________________________

و اقتصر علي الغسل في الفقيه و المقنع و الهداية و الناصريات و المبسوط و الخلاف و النهاية و الاقتصاد و الغنية و المراسم و الوسيلة و المدارك، و ظاهر كشف اللثام اختياره، و هو المحكي عن رسالة علي بن بابويه و ابن أبي عقيل و ابني الجنيد و البراج و الحلبي و الأردبيلي و الخراساني، بل ظاهر الناصريات و الخلاف و الغنية الإجماع عليه.

و صرح في المقنعة بأنها تتوضأ مع الغسل و تصلي بوضوئها ما تصلي بغسلها، و تبعه في المعتبر و محكي كشف الرموز و شرح المفاتيح، و عن الذكري أن ابن طاوس قطع به. و لا يبعد كونه مراد جملة ممن تقدم منه تركه استغناء بما ذكروه من وجوب الوضوء مع غير غسل الجنابة من الأغسال عن التنبيه له هنا.

قال في المعتبر بعد أن حكي عن الصدوقين و الشيخين و السيد ما سبق: «و ظن غالط من المتأخرين أنه يجب علي هذه مع الأغسال وضوء مع كل صلاة. و لم يذهب إلي ذلك أحد من طائفتنا. و ربما يكون غلطه لما ذكره الشيخ في المبسوط و الخلاف أن المستحاضة لا تجمع بين فرضين بوضوء، فظن انسحابه علي مواضعها، و ليس علي ما ظن، بل ذلك مختص بالموضع الذي يقتصر فيه علي الوضوء. و الذي اختاره المفيد هو الوجه، و هو لازم للشيخ أبي جعفر، لأن عنده كل غسل لا بد فيه من الوضوء إلا غسل الجنابة، و إذا كان المراد بغسل الاستحاضة الطهارة لم يحصل المراد به إلا مع الوضوء.

أما علم الهدي فلا يلزمه ذلك، لأن الغسل عنده يكفي عن الوضوء، فلا يلزمه إضافة الوضوء إلي الغسل». و قريب مما في صدره ما عن تلميذه في كشف الرموز.

نعم، هو لا يناسب ما تقدم منه في الشرائع و النافع، إلا أن يحمل ما ذكره فيهما علي القول المذكور، و لا سيما مع كون المعتبر شرحا للنافع الذي هو مختصر للشرائع.

كما لا يناسب ما حكاه في كشف اللثام عن جمل السيد من موافقة المفيد، مع مخالفته له في وجوب الوضوء مع الغسل. لكن لم أجده فيه.

و كيف كان، فقد استدل لوجوب الوضوء لكل صلاة..

تارة: بالإجماع المدعي في الخلاف، حيث قال فيه: «المستحاضة و من به سلس

ص: 221

______________________________

البول يجب عليه تجديد الوضوء عند كل صلاة فريضة، و لا يجوز لهما أن يجمعا بوضوء واحد بين صلاتي فرض … دليلنا: إجماع الفرقة، و أخبارهم».

و أخري: بإطلاق قوله تعالي: (إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ … ) «1».

و ثالثة: بقوله عليه السلام في مرسلة يونس الطويلة: «و كذلك أفتي أبي و سئل عن المستحاضة، فقال: … فلتدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل و تتوضأ لكل صلاة.

قيل: و إن سال؟ قال: و إن سال مثل المثعب … » «2».

لكن تقدم عند الكلام في وجوب الوضوء للمتوسطة أنه لا مجال للاستدلال بالمرسلة في غير القليلة. كما أن ما تقدم من الخلاف مختص بها أيضا، لقوله- بعد أن ذكر وجوب الوضوء لكل صلاة-: «هذا إن كان الدم لا يثقب الكرسف، فإن ثقب الدم الكرسف … » ثم ذكر حكمي المتوسطة و الكثيرة كما تقدم منا حكايته عنه، ثم استدل بالإجماع و الأخبار، فاستفادة دعوي الإجماع منه علي وجوب الوضوء للكثيرة غريبة جدا، بل المستفاد منه دعوي الإجماع علي عدمه، كما تقدم منا.

و أما الآية فبعد معلومية عدم كون المراد بها شرطية الوضوء بنفسه في كل صلاة، بل بلحاظ ترتب الطهارة عليه، لا بد من تنزيلها علي حال الحدث الأصغر الذي يكون الوضوء مطهرا منه، بل ورد في موثق ابن بكير «3» - كما عن المفسرين- تفسيرها بالقيام من النوم.

و لا مجال مع ذلك لاستفادة حكم المستحاضة منها مع كونها مستمرة الحدث لا يطهرها الوضوء و لا غيره و عدم ثبوت كون حدثها مطلقا أصغر، بل لا بد في وجوب الوضوء و غيره عليها من الرجوع للنصوص الشارحة لحال حدثها و كيفية التطهير اللازم منه، و يكون الاستدلال بها لا بالآية و نحوها من المطلقات.

______________________________

(1) المائدة: 5.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

ص: 222

______________________________

و من ذلك يظهر ضعف ما في الجواهر من الاستدلال بما تضمن أن في كل غسل وضوء «1»، بدعوي: ظهوره في أن كل حدث موجب للأكبر موجب للأصغر، و حيث كان دم الاستحاضة في المقام حدثا أكبر و لذا وجب الغسل له لزم وجوب الوضوء له أيضا، كما أنه حيث كان الظاهر عموم حدثيته للاستدامة فالخارج بين الصلاتين كالخارج قبلهما كان مقتضاه الغسل و الوضوء لكل صلاة، و سقوط الغسل بالإجماع لا يستلزم سقوط الوضوء.

لاندفاعه- مضافا إلي ما سبق و يأتي من عدم نهوض العموم المذكور بالاستدلال- بأن دليل وجوب الوضوء و الغسل مع الحدث للصلاة لما كان هو عموم اعتبار الطهارة فيها فهو يقصر عن مثل المستحاضة ممن يستمر منه الحدث، و لا بد في البناء علي وجوبهما من الرجوع للأدلة الواردة فيه، و المفروض عدم نهوضها بإثبات وجوب الوضوء لكل صلاة، بل يأتي ظهورها في عدمه.

و أضعف من ذلك ما ذكره من نهوض الوجه المذكور بتوجيه الاستدلال بفحوي ما تضمن وجوب الوضوء لكل صلاة في القليلة و المتوسطة، و دفع ما قيل في منعه من منع الأولوية بعد إيجاب الغسل في المقام.

وجه الضعف أن الوجه المذكور لو تم كان بنفسه مقتضيا للوضوء، و لا ينهض بتقريب الأولوية المذكورة بعد منعها بما ذكر، لأنه لا يقتضي أولوية الكثيرة من المتوسطة و القليلة في وجوب الوضوء، بل مساواتها لهما في تحقيق مقتضيه و هو الحدث الأصغر مع إمكان كون التكليف فيها بالغسل منشأ للإرفاق بالتخفيف بإسقاط الوضوء. علي أنه لا موضوع للأولوية بعد ما سبق منا من تقريب إجزاء الغسل عن الوضوء للصلاتين المتعقبتين له في القليلة و المتوسطة أيضا.

و من هنا لا وجه للقول المذكور إلا الأصل، للزوم الاقتصار في تشريع الصلاة مع الحدث علي المتيقن، نظير ما تقدم تقريبه عند الكلام في وجوب الوضوء للنافلة في

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب الجنابة.

ص: 223

______________________________

القليلة. لكنه محكوم لنصوص المقام، لما سيأتي من دلالتها علي عدم وجوبه، بل قوة ظهورها في ذلك، بنحو لا يبعد رفع اليد به عن بعض الوجوه السابقة لو تم.

و أما القول بوجوب الوضوء مع الغسل لا غير فالظاهر انحصار الدليل عليه بعموم ما تضمن أن في كل غسل وضوء إلا الجنابة.

و الذي ينبغي أن يقال: إن استفيد من العموم المذكور شرطية الوضوء في ترتب أثر الغسل عليه، كسائر شروطه المعتبرة في صحته، اتجه الاستدلال به في المقام بضميمة ما دل علي وجوب الغسل فيه، حيث لا بد من حمله علي الغسل التام.

لكن الظاهر أن بناء من ذهب إلي عدم إجزاء الغسل عن الوضوء ليس علي ذلك، و أنه لو بني علي دخله في الغسل كان من آدابه المستحبة الموجبة لكماله، لا من شروطه المعتبرة في صحته، كما تقدم عند الكلام في المسألة المذكورة من مباحث غسل الحيض.

و إن استفيد منه قصور رافعية الغسل، و أنه إنما يرفع الحدث الأكبر دون الأصغر المصاحب له، مع استقلال كل من الوضوء و الغسل برفع أثره- كما هو مبني القائلين بعدم إجزاء الغسل عن الوضوء- لم ينهض بإثبات وجوب الوضوء في المقام، بعد كون المستحاضة مستمرة الحدث لا يجري عموم اعتبار الطهارة في الصلاة في حقها، إذ كما أمكن أن يعفو الشارع عن الحدث الأكبر المسبب عن استمرار الدم بعد الشروع في الغسل أمكن أن يعفو عن الحدث الأصغر رأسا.

إلا أن يتشبث لعدم العفو عنه بالأصل الذي لو تم اقتضي وجوب الوضوء لكل صلاة، كما سبق. علي أنه قد سبق في مبحث غسل الحيض المنع من التعويل علي العموم المذكور في البناء علي قصور رافعية الغسل للحدث الأصغر.

بل سبق أن من جملة ما يدل علي عدم تماميته نصوص المقام، لخلوها عن التنبيه عليه مع ظهورها في بيان تمام الوظيفة التي يقتضيها حدث الاستحاضة و التي تترتب عليها الصلاة، و لا سيما ما تضمن منها التفصيل بين الكثيرة و القليلة أو المتوسطة، لأن إهمال الوضوء في الكثيرة مع التنبيه عليه في غيرها كالصريح في عدم الحاجة إليه فيها.

ص: 224

______________________________

و من هنا يقوي البناء علي استثناء هذا الغسل من العموم لو تم، كما يظهر من كشف اللثام و ربما جري عليه غيره ممن تقدم. و لا مجال معه لاحتمال الاعتماد علي العموم المذكور و الاستغناء به عن التنبيه علي وجوب الوضوء في نصوص المقام. فإنه بعيد جدا.

هذا، و لو تم ذلك في الوضوء مع الغسل فلا مجال له في الوضوء لكل صلاة، بحيث يجب تجديده للصلاة الثانية عند الجمع بين الصلاتين- كما هو مقتضي القول الأول- لعدم نهوض العموم به، فسكوت النصوص عنه كالصريح في عدمه بعد ورودها لبيان تمام الوظيفة، لعدم ما يصح التعويل عليه في بيانه ليكون مصححا لإهماله لو كان معتبرا بعد عدم المنشأ للبناء علي سببية مطلق الاستحاضة للوضوء، و إنما اختصت أدلتها بغير الكثيرة. و لا سيما مع ظهور نصوص الجمع بين الصلاتين في الاهتمام بالتعجيل الذي لا يناسبه تخلل الوضوء بينهما.

و ما في بعض كلماتهم من التعويل فيه علي عموم الآية. كما تري، لما سبق من عدم نهوض الآية بذلك. و لأن التعويل عليها لا يناسب التنبيه عليه في غير الكثيرة، و لا سيما في النصوص المفصلة بين الكثيرة و غيرها. و من هنا كان هذا القول أضعف الأقوال، بل هو كالمقطوع البطلان، و بعده القول بالاقتصار علي الوضوء مع الغسل.

و كان الأقوي الاكتفاء بالغسل و عدم الحاجة للوضوء أصلا.

ثم إنه حيث كان ظاهر النصوص وجوب التعجيل بالصلاة بعد الغسل- كما يأتي إن شاء اللّه- يشكل الاحتياط بالوضوء بين الصلاتين أو بين الغسل و الصلاة. إلا أن يكون غير مخل بالتعجيل المعتبر.

نعم، يمكن الاحتياط بتقديم الوضوء علي الغسل. و عليه اقتصر في المقنعة. بل سبق في غسل الحيض أنه أحوط حتي بناء علي عدم إجزاء الغسل عن الوضوء.

ص: 225

و الغسل للصبح (1)- غسلان آخران (2)،

______________________________

(1) لما يأتي من وجوب الصلاة عليها بالأغسال الثلاثة. و منه يظهر أن غسل الصبح هنا ليس كغسل الصبح للمتوسطة، بل كبقية أغسال اليوم في وجوب المبادرة بعده للصلاة أو غيره مما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

(2) فيجب عليها في اليوم ثلاثة أغسال، كما صرح به الأصحاب بنحو يظهر منهم عدم الخلاف، بل هو صريح جامع المقاصد و محكي شرحي الجعفرية و شرح المفاتيح، كما ادعي الإجماع عليه في الناصريات و الخلاف و المعتبر و التذكرة و المنتهي و المدارك و ادعي في الغنية الإجماع علي أنها إذا جاءت بها كانت بحكم الطاهر.

و يقتضيه- مضافا إلي ما تضمن وجوبها للمستحاضة، مما تقدم أو تقدمت الإشارة إليه في القليلة- النصوص الظاهرة أو المشعرة بإناطة الأغسال الثلاثة بسيلان الدم مما تقدم التعرض له في المتوسطة، و النصوص المفصلة بين الكثيرة و القليلة أو المتوسطة مما تقدم مكررا في مطاوي المباحث السابقة، و غيرها.

و عليه ينزل ما تضمن أنها تغتسل في وقت كل صلاة كصحيحي يونس بن يعقوب «1» و صحيح أبي بصير «2» و مرسلة يونس الطويلة «3»، فيحمل علي الوقت الوجوبي الذي تشترك فيه صلاتان، دون الفضيلي الذي تنفرد به كل واحدة من الخمس، أو وقت فعل كل منها. و لعله أقرب من تنزيلها علي الأوقات الخمسة و حملها علي الاستحباب، لأن ثقل الحكم المذكور لا يناسب الاقتصار عليه في مقام بيان الوظيفة جدا.

لكن يظهر من الجواهر أنه فهم من قوله عليه السلام في صحيح الحلبي: «تغتسل المرأة الدمية بين كل صلاتين» «4» الأمر بالغسل لكل صلاة، لأنه اللازم من تخلل الغسل بين

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 11. و باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب الحيض حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 2.

ص: 226

______________________________

كل صلاتين بنفسيهما. و حينئذ يتعين حمله علي الاستحباب، لتعذر الوجه الذي ذكرناه فيه حينئذ. لكن يقرب كون المراد به الغسل بين كل صلاتين و صلاتين، نظير قولنا:

يجيئني زيد بين كل يومين، فيطابق النصوص الكثيرة، و إلا فلو كان المراد به ما فهمه لكان التعبير عنه بأنها تغتسل لكل صلاة أظهر و أخصر.

نعم، قرب في المنتهي استحباب ذلك لا من جهة هذه النصوص، قال: «و لو اغتسلت لكل صلاة و توضأت فهو أبلغ للتطهير و كان مستحبا و ليس بواجب. أما استحبابه فلأنه طهر، فيسنّ فيه التكرار، لقوله عليه السلام: الطهر علي الطهر عشر حسنات، و أما عدم الوجوب فلما روي من قولهم عليهم السلام: تغتسل لكل صلاتين. و لا نعرف في ذلك خلافا بين علمائنا».

لكن يشكل بضعف الخبر، لاشتمال سنده علي الإرسال «1». مضافا إلي أن صدق الطهر علي الطهر بالتجديد موقوف علي كون السبب واردا علي الطهارة، و مؤثرا لها، لقابلية الطهارة المسببة عنه للتأكيد، و حيث لم يحرز ذلك في غير الوضوء لا مجال لاستفادة مشروعية التجديد في غيره من الخبر، لأن العام لا يحرز موضوعه.

نعم، لو لم يكن له تطبيق متيقن يتعين حمله علي مشروعية التجديد في جميع الطهارة بمقتضي إطلاقه المقامي، لأن عدم بيان الموضوع حينئذ كاشف عن الاكتفاء عن بيانه بقابلية أسباب الطهارات لتأثيرها في الجملة، حذرا عن لزوم لغويته بسبب عدم تيسر إحراز موضوعه، أما حيث كان تطبيقه في الوضوء متيقنا، لظهور مشروعية التجديد فيه من الصدر الأول، فهو يكفي في رفع اللغوية، فلا مورد للقرينة المذكورة.

و أما حمل الطهر فيه علي نفس الأفعال التي يتوصل بها للطهارة مع قطع النظر عن فعلية تأثيرها فيها. فهو لا يخلو عن تسامح يحتاج إلي قرينة، و ليس هو بأولي من حمله علي خصوص الوضوء، لاحتمال معهودية استعماله فيه، كما قد يناسبه صحيح

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 3.

ص: 227

أحدهما للظهرين تجمع بينهما (1)، و الآخر للعشاءين كذلك. و لا يجوز لها

______________________________

محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهروا» «1».

بل قد يكون هو عين المرسل و الاختلاف بينهما ناشئ عن النقل بالمعني. و لعله لذا لم يعرف من الأصحاب البناء علي مشروعية التجديد في الغسل، فضلا عن الطهارة الخبثية، و اقتصروا فيه علي الوضوء.

اللهم إلا أن يوجه في خصوص المقام بأن المستحاضة حيث كانت مستمرة الحدث فالمنساق من الأدلة كون الاكتفاء بالغسل السابق رخصة، مع مشروعية الغسل لها في كل وقت، لتحقق سببه، بل أولويته، لأنه أبلغ في التطهير، كما تقدم من المنتهي.

هذا، كله مع عدم بطلان الغسل السابق و جواز الدخول به في الصلاة الثانية، لعدم الإخلال بالموالاة المعتبرة، أما مع الإخلال بها فلا إشكال في لزوم تجديد الغسل، علي ما يأتي في المسألة الخامسة و الثلاثين إن شاء اللّه تعالي.

(1) كما صرح به جملة من الأصحاب، كالصدوقين و الشيخين و غيرهم، بل يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عنه، لعدم تعرضهم للخلاف فيه، و لا لدليله.

و يقتضيه قوله عليه السلام في صحيح معاوية بن عمار: «اغتسلت للظهر و العصر تؤخر هذه و تعجل هذه، و للمغرب و العشاء تؤخر هذه و تعجل هذه» «2»، و في صحيح عبد الرحمن أو موثقة: «فلتؤخر الصلاة إلي الصلاة ثم تصلي صلاتين بغسل واحد» «3»، و في مرسلة يونس الطويلة: «و أخري الظهر و عجلي العصر … و أخري المغرب و عجلي العشاء» «4»، و في حديث إسماعيل بن عبد الخالق: «فلتؤخر الظهر إلي آخر وقتها، ثم تغتسل، ثم تصلي الظهر و العصر، فإن كان المغرب فلتؤخرها إلي آخر وقتها ثم تغتسل

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب الوضوء حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب الاستحاضة حديث: 3.

ص: 228

______________________________

ثم تصلي المغرب و العشاء» «1».

و قد يستفاد من قوله عليه السلام في موثق فضيل و زرارة: «و تجمع بين الظهر و العصر بغسل، و تجمع بين المغرب و العشاء بغسل» «2» و في صحيح محمد بن مسلم: «فلتجمع بين كل صلاتين بغسل» «3». إلا أن يحمل الجمع فيهما علي ما يقابل إفراد كل صلاة بغسل، لا علي عدم الفصل بين الصلاتين، لينفع في المقام. فالعمدة النصوص الأول.

مضافا إلي قرب انصراف الإطلاقات إليه، بقرينة كون الطهارة اضطرارية مع استمرار الحدث، حيث يناسب ذلك تجنب ما يمكن تجنبه من زيادة الحدث، نظير ما تقدم في وجه لزوم الموالاة بين الوضوء الصلاة في القليلة و المتوسطة.

و منه يظهر لزوم المبادرة إلي الصلاة الأولي، كما صرح به غير واحد، بل عن جماعة التصريح به، و في الجواهر: «لم أعرف مخالفا فيه، كما عساه يشعر بنفيه ما في المدارك من نقله في القليلة بالنسبة للوضوء دونه، كالمحكي عن الحدائق و غيرها».

و يقتضيه- مضافا إلي الانصراف المذكور، و إلي قضاء المناسبات الارتكازية بأن الأمر بالجمع بين الصلاتين ليس إلا للمحافظة علي المبادرة المذكورة- قول أبي عبد اللّه عليه السلام في صحيح عبد اللّه بن سنان: «المرأة المستحاضة تغتسل التي لا تطهر عند صلاة الظهر و تصلي الظهر و العصر، ثم تغتسل عند المغرب فتصلي المغرب و العشاء، ثم تغتسل عند الصبح فتصلي الفجر … » «4»، و في صحيح أبي المغراء: «و إن كان قليلا فلتغتسل عند كل صلاتين» «5»، و في صحيح إسحاق بن عمار: «و إن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين» «6». لظهور لفظ «عند» في المقارنة العرفية و عدم الفصل.

لكن في كشف اللثام: «الأقرب الجواز. للأصل، و العمومات، و قول الصادق لإسماعيل بن عبد الخالق: «فإذا كان بعد صلاة الفجر فلتغتسل بعد طلوع الفجر، ثم تصلي ركعتين قبل الغداة ثم تصلي الغداة. رواه الحميري في قرب الاسناد»، و عن

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 15.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 12.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 14.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 5.

(6) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 6.

ص: 229

الجمع بين أكثر من صلاتين بغسل واحد (1).

______________________________

السيد الطباطبائي موافقته.

و فيه: أنه لا مجال للأصل مع الدليل. مع أن مقتضاه الاحتياط، كما تقدم في وجوب الوضوء للنافلة في القليلة. و العمومات قد عرفت انصرافها للمبادرة. و الخبر مختص بنافلة الصبح، فيشكل التعدي لغيرها من النوافل، فضلا عن الفصل بغيرها، و لا سيما إذا كان أطول أمدا منها.

و أما الاستدلال بأن تشريع بقية الغايات لها مع جواز الفصل بينها و بين الغسل يناسب جواز الفصل بين الصلاة و بينه و بقاء أثره مع طول المدة. فهو في غير محله، لعدم الإطلاق في دليل تشريع بقية الغايات يقتضي جواز الفصل بينها و بين الغسل- علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي- فكيف يتعدي منها للصلاة، فضلا عن أن يرفع به اليد عما تقدم.

(1) إن كان المراد به أكثر من صلاتين من الخمس اليومية، بأن تصلي الصبح و الظهرين مثلا بغسل واحد، فهو تأكيد لما تقدم و تقدم دليله. و إن كان المراد به غيرها- كأن تضم إلي صلاتي اليوم غيرهما من الصلوات الواجبة كالقضاء و الآيات، او المندوبة كصلاة جعفر، أو تصلي بغسل آخر ثلاث صلوات من غير الخمس كالقضاء و الخسوف و الزلزلة- فلعل الوجه فيه الأصل المتقدم مع عدم ظهور النصوص المتقدمة في أن الأغسال المتقدمة لليوم بحيث تكون المرأة معها بحكم الطاهر فيه يجوز لها إيقاع تمام ما يعتبر فيه الطهارة، بل هي للصلوات الخمس اليومية بنحو الانحلال، فكل غسل قد شرع لبعضها، من دون نظر لغيرها من الصلوات فضلا عن غيرها مما يعتبر فيه الطهارة، فلا مجال للبناء علي إجزائه لها.

بل قد يستشكل في مشروعيته حتي مع تجديد الغسل، للزوم الاقتصار في مشروعية الصلاة مع الحدث علي المتيقن. و يأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالي.

نعم، صرح جماعة بأن المستحاضة إذا أتت بوظائفها كانت بحكم الطاهر، بل ادعي الإجماع علي ذلك في الغنية و التذكرة و محكي شرح الجعفرية و كشف الالتباس

ص: 230

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 5، ص: 231

______________________________

و غيرها. و هو يعطي عموم ترتيب أحكام الطاهر لها- كما صرح به بعضهم، بل نفي الخلاف فيه في المدارك- لا خصوص الصلاة التي تضمنت النصوص تشريع الوظائف لها، لئلا يلزم التأكيد، فإن الصلاة بالوظائف المذكورة قد بينت عند شرحها.

و من هنا صرح جماعة بأنها تصلي بغسلها ما شاءت من الفرائض و النوافل، و عليه جري سيدنا المصنف قدّس سرّه في ظاهر كلامه في مستمسكه.

لكن مقتضي ما في الشرائع و القواعد و غيرهما من التفريع علي الشرطية المذكورة بطلان الصلاة مع الإخلال بشي ء من هذه الأمور كونها مسوقة للمفهوم، فلو استفيد منها العموم المذكور لزم عدم كونها بحكم الطاهر بالإخلال بشي ء من الوظائف المذكورة، و هو مما تأباه جملة من كلماتهم، حيث حرروا الخلاف في توقف كثير مما يذكر من أحكام الطاهر علي بعض الوظائف أو جميعها.

مع أن شرطية الأغسال المذكورة لترتيب أحكام الطاهر إن كان بنحو المجموعية، بمعني أن الإخلال بشي ء منها مستلزم للحكم عليها بالحدث في تمام اليوم، فالظاهر عدم إمكان الالتزام بذلك، كيف و لازمه عدم صحة صلاة الظهرين بغسلهما لو أخلت بغسل الصبح.

و إن كان بنحو الانحلال- بمعني أن المعتبر في ترتيب أحكام الطاهر في كل وقت القيام بوظائف صلاة ذلك الوقت- فهل يبقي أثر الغسل إلي الفراغ من صلاته- كما يناسبه ما تقدم من وجوب التعجيل بالصلاة، المستلزم عرفا لعدم بقاء أثر غسلها أكثر من أمدها- أو إلي خروج وقتها- كما في الروض، و عن بعض حواشي الإرشاد، و يناسبه ما ذكره بعضهم من وجوب تقديم غسل صلاة الصبح لمن تريد صلاة الليل، لوضوح ابتنائه علي عدم كفاية غسل العشاءين لصلاة الليل- أو إلي حين دخول وقت الصلاة الأخري- كما يناسبه تجدد التكليف بالغسل لصلاته- أو إلي حين الغسل للصلاة الأخري- كما لعله مقتضي الإطلاق و عدم تقييد الحكم بالطهارة بوقت خاص، حيث لا تكون بحكم الطاهر في تمام اليوم إلا بذلك- وجوه لا مجال للجزم

ص: 231

______________________________

بشي ء منها، و لا يناسب منهم إهمال التعرض لها لو كان مرادهم بالشرطية التعميم لجميع أحكام الطاهر، لأهميتها في تحديد الشرطية المذكورة و ترتب العمل عليها.

علي أن موضوع كلامهم و معقد إجماعهم جميع الوظائف، و لازم ذلك عدم وجوب تجديد الوضوء لغير الصلاة مما يعتبر فيه الطهارة، كالطواف و المس في القليلة و المتوسطة، فضلا عن الكثيرة، لأن الوضوء المذكور وظيفة لها هو الوضوء للصلاة، فمع قيامها به تكون بحكم الطاهر. و هو- مع بعده في نفسه- مخالف لما صرح به في الروض و عن التحرير و الموجز و شرحه و غيرها من وجوب تجديد الوضوء لجميع ما يعتبر فيه الطهارة، حتي قرب شيخنا الأعظم قدّس سرّه اختصاص الشرطية بالغسل و أنه الذي لا يجب تجديده لبقية الغايات. لكنه مخالف لاطلاقهم، بل عموم كلماتهم.

و من هنا قد يحتمل سوق الشرطية مساق التأكيد لاعتبار الوظائف المذكورة في صحة الصلاة، كما قد يناسبه ما تقدم من بعضهم من تفريع بطلانها علي الإخلال بشي ء من الوظائف، و هو و إن كان مخالفا لظاهر جملة من كلماتهم و صريح جملة أخري، إلا أنه كاف في عدم وضوح حال الإجماع المذكور و عدم حجيته علي العموم المدعي.

و لا سيما مع قرب أن يكون المستند فيه بعض الوجوه الاعتبارية- كاستبعاد عدم مشروعية بقية أحكام الطاهر لها، أو لزوم تجديد الوظائف لكل منها خصوصا الغسل- أو فهمهم من أدلة جميع الوظائف كونها وظيفة لتمام اليوم بلحاظ مطلق أحكام الطاهر، دون خصوص الصلاة، كما يناسبه تحريرهم النزاع في كثير من الفروع المناسبة للمقام لخصوصية فيها من النصوص أو بعض الوجوه الاجتهادية، حيث يظهر من ذلك عدم وضوح معقد الإجماع التعبدي عندهم بنحو يحكم علي كل دليل و يغني عن كل تعليل، بل هو من سنخ الإجماع المعلل القابل للتخصيص كدليله أو تعليله، و الذي هو ليس حجة في نفسه، بل يتعين الخروج عنه مع عدم وضوح تمامية دليله.

مضافا إلي أن سبر كلماتهم شاهد بشدة اضطرابها و عدم تنقيحها في المقام، كما

ص: 232

______________________________

اعترف به بعضهم، حيث يؤكد ذلك ما ذكرنا من التشكيك في الإجماع المذكور بنحو يمنع من الاعتماد عليه في الخروج عما تقتضيه القواعد و الأصول المعول عليها. و من هنا يلزم النظر في كل حكم من أحكام الطاهر لتنقيح ما تقتضيه الأدلة العامة و الخاصة فيه، مع تعميم محل الكلام لجميع أقسام المستحاضة، تتميما للفائدة.

و يأتي في المسألة الأربعين إن شاء اللّه تعالي الكلام فيما يتوقف جوازه التكليفي علي الطهر و في الصوم،

فلا يبقي في المقام إلا أمران:
الأول: الصلاة.

و مقتضي عموم نصوص وجوب الوضوء لكل صلاة في القليلة و الصفرة مشروعيتها بالوضوء، من دون فرق بين اليومية و غيرها الواجبة و غيرها.

و انصراف بعض نصوصها أو اختصاصها باليومية- كصحيح الصحاف المتضمن أنها تغتسل في وقت كل صلاة «1» - لا يقدح بعد عموم غيره.

نعم، قد يدعي- كما عن بعض مشايخنا- لزوم الاقتصار علي المضيقة- بالأصل أو بالعارض- دون غيرها، مما يمكن انتظار البرء به، بقرينة ما تقدم من كون الطهارة في المقام اضطرارية، لكون المستحاضة مستمرة الحدث، نظير ما تقدم من قرينيتها علي حمل الإطلاقات علي التعجيل بالصلاة بعد الطهارة.

لكن في صلوح ذلك للخروج عن العموم المذكور إشكال، بل منع، لعدم ظهور قرينة الاضطرار في ذلك بنحو تكون من القرائن المتصلة المانعة من انعقاد الظهور في العموم، و ليس هو كالتعجيل بالصلاة، لأن الاضطرار أولا و بالذات في الطاهرة، و منه يسري إلي الصلاة و هما و إن كانا متلازمين حقيقة، إلا أنهما ليسا من الوضوح بمرتبة واحدة عرفا، ليكون تحكيم قرينة الاضطرار لإثبات التعجيل ملازما لتحكيمها لإثبات الاختصاص بالصلاة المضيقة، و لا سيما و أن استفادة التعميم هنا من العموم الإفرادي، الذي هو أقوي من الإطلاق الأحوالي الوارد هناك، فتحكيم قرينة الاضطرار هناك لا يستلزم تحكيمها هنا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

ص: 233

______________________________

و دعوي: أن العموم مسوق لبيان شرطية الوضوء للصلاة و صحتها به بعد الفراغ عن مشروعيتها حال الاستحاضة، لا لبيان مشروعية كل صلاة حالها.

مدفوعة: بأن الشك في مشروعية الصلاة حال الاستحاضة ليس لاحتمال كون الخلو عن الاستحاضة شرطا لفعلية ملاكها، ليكون من شروط الأمر، كالخلو من الحيض. فإنه مخالف لإطلاق أدلتها، بل لاحتمال تعذرها بتعذر شرطها- و هو الطهارة- بسبب استمرار الحدث، فإذا كانت نصوص المقام وافية ببيان شرطها تعين البناء علي مشروعية كل صلاة و صحتها معه. و إلا لجري ذلك في الصلاة المضيقة و لزم الاقتصار فيها علي المتيقن، كاليومية مثلا. فلاحظ.

و منه يظهر الحال في المتوسطة، لأن المتيقن من صحيح زرارة «1» و إن كان هو الاجتزاء بالغسل الواحد للخمس اليومية دون غيرها، إلا أن موثقي سماعة «2» - بناء علي ما تقدم في وجوب جعل غسل المتوسطة لصلاة الصبح من نهوضهما بالاستدلال- ظاهران في الاجتزاء بالغسل الواحد لرفع الحدث الأكبر في تمام اليوم، و بالوضوء لكل صلاة فيه فيجري فيه ما تقدم في القليلة.

لكن عن بعض مشايخنا عدم مشروعية الموسعة فيها، و أما المضيقة فيكفي فيها الوضوء، لعموم ما دل علي وجوبه لكل صلاة، دون الغسل، لاختصاص دليله باليومية. و لازمه صحتها لو لم تغتسل لليومية قصورا أو تقصيرا.

و فيه: أنه يظهر حال العموم للمضيقة مما تقدم. كما أن الدليل علي وجوب الوضوء إن كان يعم غير المتوسطة فيأتي الكلام فيه في الكثيرة، و إن كان مختصا بها فهو منحصر بموثقي سماعة- اللذين يظهر منه التعويل عليهما في حكم المتوسطة- فإن فرض اختصاصهما باليومية لم ينهضا بإثبات مشروعية غيرها و لا بالاكتفاء بالوضوء

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5. و قد تقدم عند الكلام في وجوب الغسل الواحد في المتوسطة.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 6. و باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 2. و تقدما عند الكلام في وجوب الوضوء للمتوسطة.

ص: 234

______________________________

له، و إن فرض عمومه لغيرها- كما تقدم أنه الظاهر- كان مقتضاه وجوب الغسل له، كما تقدم.

علي أنه لو فرض اختصاص دليل الغسل باليومية فإلغاء خصوصيتها عرفا قريب جدا بعد كونه من شئون الحدث الذي لا تختص مانعيته بها، بل لعلها أولي بالعفو عنه من غيرها- لو فرض مشروعيته- بسبب كثرة الابتلاء بها المناسب لأولويتها بالتخفيف إرفاقا بحال المرأة.

هذا كله لو كان مراده الاكتفاء بالوضوء حتي لو لم تغتسل لليومية قصورا أو تقصيرا- كما هو مقتضي مساق كلامه و استدلاله- أما لو كان مراده اختصاص الاكتفاء بالوضوء بفرض الغسل في اليوم لليومية، في مقابل وجوب غسل آخر في اليوم لغير اليومية، فهو راجع لما تقدم منا، و لا ينهض ما ذكره بالاستدلال عليه، بل الدليل عليه ما ذكرنا.

و أما الكثيرة فقد ذكرنا آنفا ظهور نصوصها في تشريع الاغسال الثلاثة للخمس اليومية، لا لتمام اليوم. فلا مجال للبناء علي الاكتفاء بها لبقية الصلوات المأتي بها فيه، بل هو لا يناسب ما سبق من وجوب التعجيل بالصلاة المستفاد منه عرفا عدم استمرار أثر الغسل. بل لو أريد به الاكتفاء بالغسل في وقت صلاة للصلاة غير اليومية المأتي بها في وقت صلاة أخري لم يغتسل لها بعد لم يناسب وجوب تجديد الغسل للصلاة الأخري صاحبة الوقت، كما أشرنا إليه عند الكلام في الإجماع المتقدم.

و دعوي: أنه لا مانع من التفكيك بين الصلوات في الغسل الواحد فهو يصح بالإضافة إلي صلاة دون أخري. مدفوعة بأن إمكان ذلك عقلا لا ينافي ظهور النصوص في خلافه بسبب إلغاء الخصوصية عرفا. بل لو لم تظهر الأدلة في خلافه يكفي عدم ظهورها فيه في البناء علي عدم مشروعية الدخول في غير اليومية بغسلها بعد ما سبق من عدم التعويل علي الإجماع المتقدم الذي قيل إن المتيقن منه الصلاة المأتي بها قبل خروج وقت الصلاة التي وقع الغسل لها.

ص: 235

______________________________

نعم، عن بعض مشايخنا تخصيص المشروعية بالمضيقة مع الاكتفاء لها بالوضوء، لعموم ما دل علي وجوبه لكل صلاة و اختصاص ما دل علي الغسل باليومية، نظير ما تقدم منه في المتوسطة، لكن لم يتضح الوجه في العموم المذكور، لاختصاص نصوص الاكتفاء بالوضوء بالقليلة و الصفرة المحمولة عنده عليها. و أما ما في مرسلة يونس الطويلة من إطلاق أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة «1»، فقد تقدم منا في المتوسطة و الكثيرة عدم نهوضه بإثباتها في غير القليلة، كما يظهر مما حكي عنه حملها علي غير الكثيرة، بل هو المناسب لما حكي عنه من الجزم بالاكتفاء في الكثيرة بالغسل و عدم الحاجة للوضوء في اليومية، لوضوح أن اليومية هي الفرد الظاهر أو المتيقن من الصلاة، فإخراجها عن عموم المرسلة و إبقاء غيرها بعيد جدا، بل يتعين حمله علي غير الكثيرة.

مضافا إلي أن مراده من الاكتفاء بالوضوء لغير اليومية إن كان مختصا بفرض الاغتسال لليومية- كما هو مبني الأصحاب- فدليله لا يساعد علي ذلك، بعد عدم تعويله علي الإجماع المتقدم، لأن أدلة الوضوء لم تتضمن الأغسال المذكورة، و مع التعويل عليه لم يحتج إلي الوضوء، لعدم كونه من جملة الوظائف عنده.

و إن كان مطلقا و لو مع عدم الاغتسال لها قصورا أو تقصيرا أشكل بما تقدم في المتوسطة من قرب إلغاء خصوصية اليومية في وجوب الغسل عرفا. غايته أن يتردد الأمر بين الاكتفاء بأغسال اليومية لغيرها، و لزوم تجديد الغسل له، و عدم مشروعيته أصلا، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

و من هنا فمقتضي القاعدة عدم مشروعية الصلاة غير اليومية حتي مع تجديد الغسل لها، بعد كون المرأة مستمرة الحدث، بل قد تكون مستلزمة للخبث الذي لا يعفي عنه بمقتضي القاعدة، و اختصاص ما دل علي الطهارة الاضطرارية و العفو عن الخبث باليومية. و لا مجال مع ذلك لاستفادة مشروعيتها من إطلاقات أدلة التشريع، لأنها إنما تنفع مع القدرة عليها، لا مع تعذرها بتعذر شرطها. و لا تنهض الإطلاقات

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4

ص: 236

______________________________

المذكورة لإثبات القدرة عليها بتشريع الطهارة الاضطرارية لها، كما لا يخفي. و لا مخرج عن ذلك في الموسعة التي يمكن انتظار حال البرء بها.

و أما المضيقة فلا يبعد البناء علي مشروعيتها، لأنه و إن أمكن اختصاص العفو عن الحدث و الخبث باليومية، لأهميتها، إلا أن من البعيد جدا سدّ باب مشروعيتها في حق المرأة. و لا سيما مع قوله عليه السلام في صحيح زرارة بعد بيان وظيفة المستحاضة: «و لا تدع الصلاة علي حال، فإن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: الصلاة عماد دينكم» «1»، حيث قد يستفاد منه أن منشأ تشريع الطهارة الاضطرارية في اليومية هو أهميتها، بلحاظ أن الصلاة عمود الدين الذي هو بإطلاقه يشمل اليومية و غيرها.

مضافا إلي ظهور إجماع الأصحاب و مفروغيتهم عن ذلك، حيث يبعد خفاء الحال فيه عليهم مع شيوع الابتلاء به.

نعم، يلزم الاقتصار علي المتيقن في مشروعيتها بتجديد الغسل لكل صلاتين منها، حيث يبعد اعتبار ما زاد علي ذلك، بل لعل احتماله غير عرفي بعد النظر في كلمات الأصحاب، إذ لو كان للمستحاضة وظيفة رابعة لبانت و لم تهمل في كلماتهم لشدة الحاجة لبيانها.

بل قد يستفاد من النصوص الواردة في اليومية لإلغاء خصوصيتها عرفا. و لا سيما مع ثبوت عموم الوظيفة لغير اليومية في القليلة و المتوسطة، و قرب كون الاقتصار في بيان وظيفة الكثيرة علي اليومية لأهميتها و لزوم الابتلاء بها بخلاف غيرها، لندرة الواجب منه- كصلاة الآيات- و كون ثقل الوظيفة مستلزما لتقدم التصدي للقيام بالمستحبات. بل لعل التعميم مقتضي ما تضمن أنها تجمع بين صلاتين بغسل.

ففي صحيح صفوان: «هذه مستحاضة تغتسل و تستدخل قطنة بعد قطنة و تجمع بين صلاتين بغسل» «2»، و صحيح محمد بن مسلم: «فإن صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كل صلاتين بغسل» «3»، و في صحيح أبي المغراء: «و إن كان قليلا

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 14.

ص: 237

______________________________

فلتغتسل عند كل صلاتين» «1»، و في صحيح إسحاق: «و إن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين» «2»، و في خبر حمران: «و إن لم ينقطع الدم فهي بمنزلة المستحاضة تغتسل لكل صلاتين و تصلي» «3»، و في موثق سماعة: «اغتسلت لكل صلاتين و للفجر غسلا» «4»، و في موثقة الآخر: «فعليها الغسل لكل صلاتين و للفجر غسل» «5»، فإن مقتضي عموم بعضها و عموم الآخر عدم الاختصاص باليومية و العموم حتي للموسعة، بناء علي ما سبق في القليلة من عدم صلوح قرينة الاضطرار للتخصيص في المقام.

لكن قد يدعي انصرافها لليومية، بسبب معهودية الابتلاء بكل صلاتين صلاتين منها، بخلاف غيرها، لعدم شيوع الابتلاء بها علي هذا النحو. اللهم إلا أن تحمل علي بيان أكثر ما يمكن إيقاعه بالغسل الواحد، فتعم غير اليومية، و لذا اتجه عدم التعرض في أكثرها لصلاة الصبح، مع أنه لو أريد بها خصوص اليومية كان اللازم التنبيه عليها.

و لو فرض عدم ظهورها في العموم فلا أقل من كونها مؤيدة لما سبق من التعدي عن اليومية، إذ لا أقل من إشعارها بأن من شأن الغسل بقاءه إلي صلاتين.

و إن كان الاحتياط مع ذلك بالاقتصار في الغسل علي صلاة واحدة إذا كانت طويلة حسنا، بل لعله لازم.

و أما دعوي: أن عدم التعرض في النصوص لغير الأغسال الثلاثة لليومية ظاهر في عدم وجوب الغسل لغيرها. فهي مدفوعة بأن اقتصار النصوص علي بيان الأغسال لليومية لعله ليس لعدم وجوب الغسل لغيرها، بل لعدم التصدي لبيان ما يصحح الدخول في الغير، لندرة الابتلاء به أو لعدم كون منشأ ذات الاستحاضة الكثيرة القيام بها، كما أشرنا إليه آنفا، فلا مجال لاستظهار عدم وجوب الغسل لغير اليومية من مجرد عدم التعرض له.

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 11.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 3.

ص: 238

______________________________

بل مقتضي الأصل وجوبه بعد كون المستفاد من تشريع الغسل لليومية سببية الاستحاضة الكثيرة للحدث الأكبر المستمر، فيجب الاقتصار في إيقاع الصلاة معه علي المتيقن من صورة إيقاع الغسل، كما تقدم في نظائر المقام. علي أن ما سبق كاف في إثبات وجوبه. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

هذا، و في الروض: «أما غسلها فللوقت تصلي به ما شاءت من الفرض و النفل أداء و قضاء، مع الوضوء لكل صلاة و تغيير القطنة و الخرقة و غسلها المحل إن أصابها الدم. و لو أرادت الصلاة في غير الوقت اغتسلت لأول الورد و عملت باقي الأفعال لكل صلاة. و كذا القول لو أرادت صلاة الليل، لكن يكفيها الغسل عن إعادته للصبح». و ما ذكره من كفاية غسلها لخصوص الوقت مبني علي حجية الإجماع المتقدم و تنزيله علي ذلك. كما أن تجديد الغسل لما بعد الوقت مبني علي ما تقدم من مشروعية الصلاة غير اليومية للمستحاضة و مانعية الحدث الأكبر منها.

نعم، مقتضي الاكتفاء بالغسل الواحد للورد عدم اختصاصه بصلاتين، لأن الورد قد يزيد عليهما، و لم يتضح الوجه فيه بعد ظهور النصوص في خصوصية الصلاتين مطلقا أو من اليومية، و لذا لا إشكال ظاهرا في أنها لو فاتتها صلاة الوقت من اليومية فليس لها الاكتفاء بغسل واحد لقضائها مع صلاة الوقت اللاحق و إن كان الجميع في ورد واحد.

الثاني: الطواف.

و لا إشكال في مشروعيته في حق المستحاضة، كما يظهر من كلماتهم في المقام، و في كتاب الحج. و تقتضيه النصوص الواردة في قصة أسماء بنت عميس و غيرها «1» مما يأتي بعضه. كما لا إشكال ظاهرا في إجزاء وظائف المستحاضة فيه، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه».

و لا يخفي أن الكلام فيه..

تارة: من حيثية استلزامه دخول المسجد الحرام، الذي لا يفرق فيه بين أقسام

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس، و باب: 91 من أبواب الطواف.

ص: 239

______________________________

الطواف، و الذي قد يدعي حرمته مع الحدث. و الكلام فيه موكول للمسألة الأربعين.

و أخري: من حيثية اعتبار الطاهرة في صحته، و هو محل الكلام هنا.

و قد سبق في غايات الوضوء أن الحدث الأصغر مانع من طواف الفريضة، دون النافلة، كما تقدم في أحكام الجنابة و الحيض مانعيتهما منه أيضا. بل تقدم في أحكام الجنابة قوة احتمال مانعيتها من طواف النافلة، لإطلاق صحيح أبي جعفر «1». و تقدم في أحكام الحيض أن التعدي من الجنابة للحيض بمجرد ذلك لا يخلو عن إشكال.

و أما النصوص الواردة في الحيض فلا إطلاق لها من هذه الجهة، بل هي بين ما يختص بطواف الفريضة- و هو الأكثر «2» - و ما هو ظاهر في المفروغية عن مانعية الحيض من الطواف من دون أن يكون واردا لبيان ذلك، ليكون له إطلاق من هذه الجهة، كما هو حال ما تضمن حيض المرأة في أثناء الطواف و أنها بعد الطهر تبني علي ما مضي منه أو تستأنف «3»، بل لعله مشتمل علي ما يناسب الاختصاص بالفريضة، كما قد يكون الوجه فيه حرمة الكون علي الحائض في المسجد تكليفا، لا مانعية الحيض من الطواف وضعا.

و مثله في ذلك مرسل حماد الوارد في طواف الوداع: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إذا طافت المرأة الحائض ثم أرادت أن تودع البيت فلتقف علي أدني باب من أبواب المسجد فلتودع البيت» «4»، فإنه و إن كان ظاهرا في عدم جواز طواف الوداع لها الذي هو نافلة، إلا أنه لا مجال للاستدلال به مع احتمال كون منشئه حرمة الكون في المسجد علي الحائض أو عدم تيسر صلاته.

نعم، لو تم إطلاق في نصوص المستحاضة يقضي باعتبار الطهارة منها في طواف النافلة يتجه البناء علي مانعية حدث الحيض منه، إذ لا يحتمل كون حدث

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الطواف حديث: 4.

(2) راجع الوسائل باب: 84، 85، 86، 90 من أبواب الطواف.

(3) الوسائل باب: 85 من أبواب الطواف حديث: 3، 2، 1.

(4) الوسائل باب: 90 من أبواب الطواف حديث: 2.

ص: 240

______________________________

الحيض أخف من حدث الاستحاضة.

و ينحصر الدليل علي ذلك بصحيح عبد الرحمن أو موثقة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المستحاضة أ يطؤها زوجها و هل تطوف بالبيت؟ قال: تقعد قرءها الذي كانت تحيض فيه، فإن كان قرؤها مستقيما فلتأخذ به، و إن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين و لتغتسل و لتستدخل كرسفا، فإن ظهر عن [علي] الكرسف فلتغتسل ثم تضع كرسفا آخر، ثم تصلي، فإذا كان دما سائلا فلتؤخر الصلاة إلي الصلاة، ثم تصلي صلاتين بغسل واحد. و كل شي ء استحلت به الصلاة فليأتها زوجها و لتطف بالبيت» «1».

لظهوره في توقف الطواف علي ما تتوقف عليه الصلاة و مانعية حدثها منه بدونه. كما أن منصرف السؤال عن الطواف كون الملحوظ هو الجهة المختصة به و هي الصحة، الوضعية، لا الحرمة التكليفية التي تجري في مطلق الكون في المسجد الحرام اللازم له. و يقتضي إطلاق عدم الفرق بين طوافي الفريضة و النافلة.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من حمل حلّ الصلاة فيه علي أصل مشروعيتها مقابل الحرمة الذاتية حال الحيض، لا علي تحقق شرط صحتها مقابل حرمتها حال الحدث، و هو راجع إلي توقف حل الطواف و الوطء للمستحاضة علي ما تتوقف عليه مشروعية الصلاة منها، و هو مضي أيام قرئها أو أيام الاستظهار، لا إلي بيان اشتراط إيقاعهما بما تتوقف عليه صحة الصلاة، و هو الوظائف. و يناسب ذلك السؤال عن أصل جواز الوطء و الطواف، لا عن شرطهما.

ففيه: أن السؤال و إن كان عن أصل جواز الوطء و الطواف في مقابل حرمتهما الذاتية لاختلاط الحيض بغيره، إلا أن التصدي في الجواب لبيان وظائف المستحاضة بالإضافة للصلاة، ثم إناطة جواز الوطء و الطواف بما تستحل به الصلاة ظاهر في إرادة إناطة الحل الفعلي بالوظائف. و لا سيما مع ظهور استحلالها الصلاة في فعلها ما يوجب حلها لها، لا بتحققه من دون اختيارها، و إلا فلو لم تكن الوظائف دخيلة فيهما كان

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب المستحاضة حديث: 8.

ص: 241

______________________________

المناسب الجواب بحلهما بمجرد مضي القرء أو الاستظهار من دون تعرض للوظائف.

و مثله ما عن بعض مشايخنا من تقريب إرادة الحل الذاتي بأنه لو كان المراد بيان اعتبار الوظائف في جواز الوطء و الطواف لزم توقف جواز الوطء علي تطهير البدن من الخبث و تغيير الخرقة، و هو باطل ضرورة.

لاندفاعه بعدم نهوض ذلك للقرينية علي رفع اليد عما ذكرنا، حيث يمكن حمل ما تستحل به الصلاة علي خصوص وظيفة رفع الحدث، و لا سيما مع أن توقف صحة الصلاة علي التطهير من الخبث و تغيير الخرقة ليس لخصوصية المستحاضة، بل هو- علي تقدير البناء عليه- راجع لمانعية نجاسة الدم التي تجري في حق غير المستحاضة كمانعية استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه، و ليس ذكرهم لها في وظائف المستحاضة إلا لرفع توهم العفو عنها فيها بسبب كثرة ابتلائها بها.

و مع أن الحديث لم يتعرض للوظيفة المذكورة، فيسهل حمله علي خصوص ما تضمنه مما تتوقف عليه الصلاة. و أما الكرسف فظهور عدم مناسبته للوطء كاف في القرينية علي إرادة ما عداه مما ذكر في الحديث، و هو الغسل. و بالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الحديث الشريف في توقف الطواف علي وظيفة المستحاضة لرفع حدثها، المستلزم لمانعية حدثها منه.

نعم، قد يستشكل في عمومه لطواف النافلة بأن احتمال عدم جواز الطواف للمستحاضة راجع لاحتمال كون الاستحاضة من أفراد الحيض، و إن خالفته في بعض أحكامه- كحرمة الصلاة- أو ملحقة به في بعض أحكامه حقيقة أو احتياطا، و ذلك يناسب انصراف السؤال في الحديث إلي ثبوت الحكمين فيها علي نحو ثبوتهما في الحيض، و إلا فمن البعيد جدا ثبوتهما فيها بوجه أوسع من ثبوتهما فيه، بحيث تكون أشد منه، فإذا فرض قصور مانعية الحيض عن طواف النافلة تعين قصور إطلاق الحديث عنه.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يتم لو كان دليل مانعية الحيض ظاهرا في الاختصاص

ص: 242

______________________________

بطواف الفريضة، حيث يصلح قرينة علي اختصاص اطلاق الدليل في المستحاضة به، أما إذا لم يكن كذلك، بل كان مجملا من هذه الجهة، فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق الدليل في المستحاضة، بل يتعين العمل علي الإطلاق المذكور، كما يصلح بسبب النكتة المذكورة لإثبات عموم مانعية الحيض لطواف النافلة، كما ذكرناه آنفا. فتأمل جيدا.

ثم إنه بعد أن ظهر مانعية حدث الاستحاضة من الطواف فمقتضي الإجماع المتقدم من الأصحاب علي أن المستحاضة بفعلها الوظائف المذكورة تكون بحكم الطاهر الاكتفاء بوظائف الصلاة فيه في جميع أقسامها، فلا يجب تجديد الغسل له، بل و لا الوضوء، لأن نصوص الوظائف كفتاوي الأصحاب إنما تضمنت الوضوء للصلاة لا غير في مطلق المستحاضة أو في غير الكثيرة منها علي الكلام المتقدم.

و ما قد يظهر من بعضهم من وجوب تجديد الوضوء له لأنه بمنزلة الصلاة فيكون تجديده له كتجديده لها من جملة الوظائف. إنما يتم لو ثبت عموم التنزيل و لا مجال له بعد اختصاص دليله بالنبوي الذي لم ترد روايته من طرقنا، و يقرب حمله علي التنزيل في الثواب، لا في الأحكام. فراجع ما تقدم في شرطية الوضوء للطواف.

نعم، يجب الوضوء لصلاته، و مقتضي ما تقدم من لزوم الموالاة بينه و بين الصلاة لزوم إيقاعه بين الطواف و صلاته، و هو لا يخلو عن غرابة لا يبعد قيام السيرة علي خلافها، لابتنائه علي عناية مغفول عنها بسبب كون صلاة الطواف من توابعه التي يتعارف عدم فصلها عنه، فلو كان البناء علي فصلها بالوضوء لظهر و بان.

و حينئذ فهل يسقط الوضوء لها و إن كان من جملة الوظائف أو يتعين تقديمه علي الطواف؟ و جهان، و كلماتهم غير منقحة في المقام.

هذا، و حيث سبق عدم نهوض الإجماع بالاستدلال فمقتضي القاعدة الاقتصار علي المتيقن في إيقاع الطواف حال الحدث، و هو يحصل بالقيام بالوظائف المذكورة، لما تقدم في الصلاة من أنه لو كانت للمستحاضة وظائف أخري غير ما ذكر لليومية لبانت لمزيد الحاجة لظهورها و بيانها.

ص: 243

______________________________

و حينئذ تجتزئ في المتوسطة بغسل اليوم، لما تقدم في الصلاة من ظهور دليله في رافعيته للحدث الأكبر حكما في تمام اليوم، مع لزوم تجديد الوضوء له فيها و في القليلة و تجديد الغسل له في الكثيرة، لأن النصوص و إن اختصت بالصلاة إلا أن اليقين بمشروعيته و الفراغ عنه لا يكون إلا بذلك.

بل قد يدعي لزوم تجديدهما لصلاته أيضا، لو لا ما أشرنا إليه من قرب قيام السيرة علي خلافه. علي أنه يكفي في نفيه صحيح الفضلاء عن أبي جعفر عليه السلام في قصة أسماء بنت عميس، و فيه: «فلما قدموا و نسكوا المناسك سألت النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عن الطواف بالبيت و الصلاة، فقال لها: منذ كم ولدت؟ فقال: منذ ثماني عشرة [فقالت: منذ ثمانية عشر. يب] فأمرها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن تغتسل و تطوف بالبيت و تصلي و لم ينقطع عنها الدم، ففعلت ذلك» «1». لظهوره في بيان تمام الوظيفة لها، فعدم تنبيهه للوضوء بين الطواف و صلاته ظاهر في إجزاء غسلها لها. و غسلها و إن كان للنفاس أيضا، إلا أن الظاهر عدم الفرق بين الأغسال في ذلك.

نعم، هو مختص بصورة الغسل للطواف، و لا يشمل صورة الوضوء له، كما في القليلة و المتوسطة. إلا أن يستفاد من حديث عبد الرحمن المتقدم، فإنه و إن لم يتعرض للوضوء، إلا أن مقتضي عموم قوله عليه السلام فيه: «و كل شي ء استحلت به الصلاة … »

العموم له بعد ثبوت كونه مما تستحل به الصلاة في بعض الموارد، و حيث كان الظاهر منه الاكتفاء بالوظيفة للطواف من دون تجديد لها لصلاته لأنها تابعة له يتجه الاكتفاء به في مورده. و إن كان الاحتياط بتجديد الوضوء للصلاة حسنا، لو لم يكن لازما.

هذا، و قد يدعي أن مقتضي حديث عبد الرحمن الاكتفاء بالإتيان بالوظائف للصلاة من دون حاجة إلي تجديدها للطواف، بل لا يشرع تجديدها له، لعدم استحلال الصلاة بها، و ظاهره انحصار مسوغ الطواف بما تستحل به الصلاة. و بذلك يكون مطابقا للإجماع المتقدم و عاضدا له. و عليه لا يشرع لها الطواف لو تجددت لها

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 19.

ص: 244

نعم يكفي للنوافل أغسال الفرائض (1)

______________________________

الاستحاضة قبل وقت الصلاة، بل لا بد من انتظار وقتها للقيام بالوظيفة لها، ثم يؤتي به بعدها، بناء علي اعتبار الموالاة بين الوظيفة و الصلاة.

لكنه يشكل بأن الظاهر من قوله عليه السلام: «كل شي ء استحلت به الصلاة … »

الإشارة للوظائف المذكورة لبيان شرطيتها بنفسها للطواف، لا لبيان شرطيتها بما أنها قد ترتبت عليها حلية الصلاة فعلا، و إلا كان الأنسب إناطة حلية الطواف بنفس حلية الصلاة، لا بما استحلتها به.

علي أن مقتضي ذلك أنه لو أريد بالصلاة المطلقة التي يكفي فيها صرف الوجود لزم الاكتفاء بأعمال الوظيفة لصلاة واحدة و لو مع التفريط بغيرها، و لو أريد بها تمام صلاة اليوم لزم عدم صحة الطواف إلا بعد اعمالها لتمامها، و لا قائل بكلا الأمرين، بل الظاهر ما ذكرنا من شرطية الوظائف بنفسها المستلزم لتجديدها بعد ظهور دليل التعجيل بالصلاة في انتهاء أمد أثرها بالفراغ منها.

و منه يظهر نهوضه بالاستدلال علي اعتبار وظائف المستحاضة للصلاة بلا حاجة إلي ما سبق من كونه مقتضي الأصل. كما أن المنصرف منه كون اعتبارها فيه علي نحو اعتبارها في الصلاة من حيثية المبادرة و غيرها، كما هو مقتضي الأصل المتقدم أيضا. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

الكلام في النوافل الرواتب

(1) استدل عليه … تارة: بما تقدم من دعوي الإجماع علي أن المستحاضة إذا أتت بوظائفها كانت بحكم الطاهر في ترتيب تمام أحكامها.

و أخري: بما أشرنا إليه آنفا في غير النوافل من الصلوات غير اليومية من دعوي:

أن اقتصار النصوص علي بيان الأغسال لليومية ظاهر في عدم وجوب الغسل لغيرها.

قيل: و لا سيما النوافل الرواتب التي كان يهتم بالإتيان بها في العصور السابقة.

و مقتضي الأول عدم وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة منها، بناء علي ما سبق من عدم وجوب الوضوء مع الغسل في الكثيرة إلا في فرض تجدد حدث آخر أصغر غير

ص: 245

______________________________

الاستحاضة. أما علي الثاني فوجوبه يبتني علي ما تقدم في غير النوافل من الصلوات غير اليومية.

و كيف كان، فيظهر ضعف الوجهين مما تقدم هناك من عدم نهوض الاجماع بالاستدلال، و عدم ظهور النصوص في عدم وجوب الغسل لغير اليومية. و لا خصوصية في ذلك للنوافل الرواتب، لأنه لو سلم اهتمام عامة النساء بها فلا مجال لذلك في المستحاضة الكثيرة التي يصعب عليها أداء الفرائض باغسالها، فضلا عن الغسل لنوافلها. بل لعل عدم السؤال عنها شاهد بالمفروغية عن عدم كون الإتيان بها من شأن المرأة المذكورة بعد ظهور النصوص في التعجيل بالصلاة، و لا سيما بناء علي ما ذكره من وجوب الوضوء لكل صلاة منها.

علي ان الإشكال في النوافل الرواتب لا يختص بحيثية وجوب الغسل لها، بل من حيثية منافاتها للتعجيل أيضا، لاستلزام نافلتي الصبح و الظهر الفصل بين الغسل و صلاته، و نافلتي العصر و المغرب الفصل بين صلاتي غسل واحد.

و عدم إخلال ذلك بالموالاة العرفية في حيز المنع، خصوصا في نافلتي الظهرين، و لا سيما بناء علي وجوب الوضوء لكل صلاة منها.

نعم، قد يتجنب ذلك في نافلتي الصبح و الظهر بتقديمهما علي الغسل، إما بناء علي عدم وجوب الغسل لهما- كما هو مقتضي الوجه الثاني، و التزم به بعض مشايخنا فيما حكي عنه- أو بناء علي الإجماع المتقدم لو أريد به بقاء أثر الغسل في وقت إلي حين الغسل في الوقت الآخر، حيث يتجه حينئذ إجزاء غسل العشاءين لنافلة الصبح، و إجزاء غسل الصبح لنافلة الظهر. لكنه- مع بعده جدا- لا يتم لو لم تكن النافلة مسبوقة بالغسل للصلاة السابقة عليها، لحدوث الاستحاضة الكثيرة بعد أداء تلك الصلاة. أما نافلتا العصر و المغرب فلا دافع للإشكال المذكور فيهما.

ثم إنه قد يقرب الاجتزاء بأغسال الفرائض لنوافلها بأن النوافل تابعة لفرائضها و ملحقة بها شرعا، فيستفاد من نصوصها الاجتزاء بغسلها لها تبعا و عدم

ص: 246

______________________________

إخلال الفصل بها بالموالاة المعتبرة، كالإقامة و سجود السهو و غيرهما نحوهما.

لكنه غير ظاهر بعد كونها صلوات مستقلة، و لذا تقدم تجديد الوضوء لها في القليلة و المتوسطة، فلا مجال لاستفادة الإجزاء لها تبعا. و لا سيما مع ظهور النصوص في التعجيل و احتياج النوافل لوقت معتد به، خصوصا لو وجب تجديد الوضوء لها.

نعم، في حديث إسماعيل بن عبد الخالق: «سالت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المستحاضة كيف تصنع؟ قال: إذا مضي وقت طهرها الذي كانت يطهر [تطهرت.

تطهر. قرب الاسناد] فيه فلتؤخر الظهر إلي آخر وقتها ثم تغتسل ثم تصلي الظهر و العصر، فإن كان المغرب فلتؤخرها إلي آخر وقتها ثم تغتسل ثم تصلي المغرب و العشاء، فإذا كان صلاة الفجر فلتغتسل بعد طلوع الفجر ثم تصلي ركعتين قبل الغداة ثم تصلي الغداة … » «1»، حيث تضمن ذيله الاكتفاء بغسل الفريضة لنافلتها.

لكنه مختص بنافلة الصبح التي لا يلزم من ضمها للفريضة إلا أداء صلاتين قصيرتين بغسل واحد، فلا مجال للتعدي لغيرها مما تؤدي فريضتاه بغسل واحد و هما صلاتان طويلتان. بل التنبيه فيه لنافلة الفجر مع إهمال بقية النوافل قد يوجب ظهوره في عدم جواز ضمها لفرائضها باغسالها.

و من هنا لا مخرج عما سبق في بقية الصلوات من لزوم تجديد الغسل لكل صلاتين.

نعم، لا يبعد نهوض حديث إسماعيل بجواز ضم نافلة الصبح إليها بغسلها، لأن سنده لا يخلو عن الاعتبار، بل هو صحيح بناء علي استغناء قرب الإسناد عن السند لاشتهاره، أو اعتبار سند صاحب الوسائل إليه. علي أنه معتضد بإطلاق ما تضمن أن المستحاضة الكثيرة تغتسل لكل صلاتين مما تقدم فلاحظ.

هذا، و في الفقيه و المقنع أنها تصلي صلاة الليل و الفجر بغسل واحد، و وافقه علي ذلك في المقنعة و الناصريات و المبسوط و النهاية و الخلاف و المراسم و الوسيلة و النافع

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 15.

ص: 247

و إن كان يجب لكل صلاة منها الوضوء (1)، كما سبق.

______________________________

و التذكرة و المنتهي و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و الروض و محكي التحرير و نهاية الأحكام و غيرها، كما قد يظهر من الصدوق في الفقيه نسبته لرسالة والده، بل نسبه في كشف اللثام للأكثر، و ظاهر الناصريات و الخلاف و التذكرة الإجماع عليه.

و في المبسوط و الخلاف و النهاية و المنتهي و ظاهر الدروس أنها تؤخر صلاة الليل إلي قرب الفجر. و هو لو تم كان مقتضيا للاجتزاء باغسال الفرائض لنوافلها بالأولوية.

لكن صرح غير واحد بعدم العثور علي خبر به سوي الرضوي «1»، الذي تكرر منا عدم التعويل عليه.

و أما الاستدلال له بما تضمن أنها تغتسل لكل صلاتين مما تقدم في حكم غير اليومية. فهو كما تري، لأن نافلة الليل صلوات متعددة. علي أن موثقي سماعة مع تضمنهما أنها تغتسل لكل صلاتين قد أفردت صلاة الفجر فيهما بغسل. فلم يبق إلا ظهور دعوي الإجماع ممن سبق. و هو لا ينهض بالخروج عن ظاهر نصوص المقام من الاقتصار في كل غسل علي صلاتين مع التعجيل فيهما. و لعله لذا كان ظاهر كشف اللثام الإشكال في الحكم.

(1) سبق أنه إنما يتم بناء علي وجوب الوضوء لكل صلاة مع أغسال المستحاضة، أما بناء علي عدمه فلو كان المستند في الاجتزاء بأغسال الفرائض للنوافل هو الإجماع علي أن المستحاضة مع قيامها بوظائفها تكون بحكم الطاهر يتجه عدم الوضوء للنوافل إلا مع تجدد سبب للحدث الأصغر غير الاستحاضة.

كما أنه لو كان الوجه فيه عدم وجوب الأغسال لغير الفرائض اليومية فوجوب الوضوء للنوافل يبتني علي عموم وجوبه لكل صلاة في حق المستحاضة- كما تقدم

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 1 من أبواب المستحاضة حديث: 1.

ص: 248

______________________________

دعواه من بعض مشايخنا- أو علي الرجوع للأصل المقتضي للاقتصار في الصلاة مع الحدث علي المتيقن، و هو حال الوضوء. و أما بناء علي ما سبق من لزوم تجديد الغسل لكل صلاتين فالمتعين عدم الوضوء، بناء علي ما سبق من عدم وجوبه لليومية، لعموم الوجه فيه لغيرها.

بقي في المقام أمور.
الأول: حيث سبق منا وجوب تجديد الغسل لكل صلاتين في غير الفرائض اليومية،

لعموم ما تضمن ذلك، أو لأنه المتيقن من جواز الصلاة مع الحدث، فهل يجوز جمع اليومية مع غيرها بغسل، فتصلي الصبح و الآيات بغسل، و الظهرين و نافلتيهما بعشرة أغسال، بأن تجمع بين الظهر و الركعتين الأوليين من نافلة العصر بغسل، و بين الركعتين الأخيرتين منها و العصر بغسل، أو لا. بل تفرد الفرائض اليومية بأغسالها، فلكل من الصبح و الآيات غسلها، و تصلي الظهرين و نافلتيهما بستة أغسال تفرد كلا من النافلتين بغسلين و كلا من الفريضتين بغسل بسبب الفصل بينهما.

و جهان أولهما الأقرب لو كان الدليل هو العموم المذكور. و الثاني أنسب لو كان الدليل هو الاقتصار علي المتيقن من جواز الصلاة حال الحدث، حيث يتجه الاقتصار علي نصوص الفرائض و الجمود علي المتيقن منها من إفرادها بالأغسال.

و لا سيما لو لزم من جمع غير الفريضة معها تقديمها علي الفريضة، حيث يلزم الفصل بها بين الفريضة و الغسل، و المتيقن من النصوص المذكورة جواز الفصل بينهما بفريضة مثلها، كالفصل بالظهر بين الغسل و العصر. بل قد يحتمل تقييد هذه النصوص لإطلاق ما تضمن الغسل لكل صلاتين لو كان هو المعتمد في المقام، فتفرد اليومية بالغسل أيضا. و هو و إن كان بعيدا إلا أنه لا ينافي حسن الاحتياط. فتأمل.

نعم، يتجه جمع الصبح و نافلتها بغسل واحد، لما تقدم.

الثاني: ذكر بعضهم وجوب تأخير الوضوء و الغسل للمستحاضة بأقسامها إلي دخول الوقت.

و هو ظاهر لو لزم من التقديم الفصل بينهما و بين الصلاة، بناء علي

ص: 249

______________________________

لزوم المبادرة منهما إليها. و أما لو لم يستلزم ذلك فقد يستدل عليه بعدم مشروعيتهما قبل الوقت، لا للكون علي الطهارة، لعدم ترتب الطهارة عليهما، بسبب كونها مستمرة الحدث، و لا للصلاة لعدم وجوبها نفسيا قبل الوقت، لتجب مقدمتها غيريا قبله، فلا يمكن التقرب بهما.

لكنه مندفع بأن الأمر النفسي الاستقبالي كما يقتضي وجوب حفظ القدرة علي امتثاله بفعل المقدمات المفوتة قبل الوقت يقتضي مشروعية الإتيان بمقدمته غير المفوتة، و إن أمكن تأخيرها للوقت، كما أطال في تقريب ذلك سيدنا المصنف قدّس سرّه.

بل تقدم منا في المسألة الواحدة و السبعين من مباحث نية الوضوء و في الوضوءات المستحبة من المسألة المائة من فصل غايات الوضوء و غيرهما أن عبادية الطهارات حيث لا ترجع إلي عبادية أوامرها النفسية أو الغيرية بمعني توقف امتثالها علي قصد التعبد بها، بل إلي مجرد الإتيان بها بوجه قربي أمكن التقرب بها بقصد التهيؤ لامتثال الأمر النفسي بغاياتها في وقتها، و إن لم يثبت الأمر شرعيا بالتهيؤ. فراجع.

نعم، في صحيح عبد اللّه بن سنان: «المرأة المستحاضة تغتسل التي لا تطهر عند صلاة الظهر و تصلي الظهر و العصر، ثم تغتسل عند المغرب فتصلي المغرب و العشاء، ثم تغتسل عند الصبح فتصلي الفجر … » «1»، و في صحيح الصحاف: «فلتتوضأ و لتصل عند وقت كل صلاة … » «2»، و في صحيح يونس بن يعقوب: «فلتغتسل عند وقت كل صلاة» «3»، و ظاهر «عند» المقارنة الحقيقية الموقوفة علي دخول الوقت.

و حملها علي المقارنة التسامحية العرفية الحاصلة بالمقاربة لو أضيفت لمثل الصلاة إنما هو لتعذر حملها علي الحقيقية. بل قوله عليه السلام في صحيح يونس بن يعقوب الآخر:

«فلتغتسل في وقت كل صلاة» «4»، و في حديث إسماعيل بن عبد الخالق: «فإذا كان صلاة الفجر فلتغتسل بعد طلوع الفجر» «5»، صريح في إيقاع الغسل بعد الفجر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب النفاس حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 11.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 15.

ص: 250

______________________________

و حملها علي أن الأمر بذلك لأجل المحافظة علي حصول المعاقبة و عدم الفصل بين الوظيفة و الصلاة، لا لخصوصية في التأخير، بقرينة إطلاق غيرها- كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه- غير ظاهر. بل هو بعيد في حديث إسماعيل، لأن التنبيه فيه علي تأخير الغسل عن الفجر بعد فرض حضور صلاته فيه موجب لقوة ظهوره في الاهتمام بالتأخير. و لا سيما مع قرب انصراف الإطلاقات بدوا إلي إيقاع الوظيفة بعد الوقت، لأنه المتعارف ممن يهتم بعدم الفصل بينها و بين الصلاة، خصوصا مع اشتمال جملة من النصوص علي الأمر بتأخير الصلاة إلي الصلاة محافظة علي الوقت الفضيلي لهما، فإنه و إن كان محمولا علي الاستحباب، إلا أنه مانع من ثبوت الإطلاق.

و من هنا كان لزوم التأخير هو الأنسب بالجمع بين الأدلة، خلافا لما في كشف اللثام و غيره و حكي عن نهاية الأحكام بل عن جماعة من جواز التقديم إذا لم يستلزم الفصل بين الوظيفة و الصلاة.

نعم، تقدم الكلام في المتوسطة و الكثيرة في جواز تقديم غسل الصبح لنافلة الليل. و هو لو تم لا ينافي ما ذكرنا، لرجوعه إلي إيقاع الغسل في وقت صلاة يؤتي بها معه، غايته أنه يستلزم إيقاع صلاتي وقتين متعاقبتين بغسل واحد. فراجع و تأمل جيدا.

الثالث: الظاهر التداخل بين الاستحاضة و غيرها من أسباب الحدث الأصغر و الأكبر،

فتكتفي بوضوء أو غسل واحد، كما هو مقتضي إطلاق ما تضمن التداخل في الغسل و الوضوء مما تقدم في المسألة الثالثة و السبعين من مباحث الوضوء، و منه قوله عليه السلام في صحيح زرارة: «فإذا اجتمعت [للّه عليك حقوق] عليك حقوق [للّه] أجزأها عنك غسل واحد» «1» و التعليل في صحيحيه الآخر بقوله عليه السلام: «لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة» «2».

مضافا إلي أن غلبة ابتلاء المستحاضة بأسباب الحدث الأصغر مع عدم التنبيه في نصوصها لتكرار الوضوء الذي هو مغفول عنه بسبب معروفية التداخل في سائر

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 251

(مسألة 30): إذا حدثت المتوسطة بعد صلاة الصبح وجب الغسل للظهرين (1)،

______________________________

أسبابه موجب لظهورها في التداخل في المقام. كما أن ورود بعضها فيمن يستمر بها الدم بعد أيام الحيض أو الاستظهار و الاكتفاء فيها بغسل واحد للصلاة يجعله دليلا علي تداخل غسل الحيض و الاستحاضة، لعدم وقوع الغسل منها إلا بعد الحكم عليها بالاستحاضة.

مسألة 30: إذا حدثت المتوسطة بعد صلاة الصبح وجب الغسل للظهرين

(1) كما في الرياض، و اختاره شيخنا الأعظم قدّس سرّه حاكيا له عن كاشف الغطاء و ولده الفقيه في شرح رسالته و غيرهما. و يقتضيه قوله عليه السلام في صحيح زرارة- بعد أن تعرض فيه لوجوب تثليث الأغسال للصلوات الخمس في الكثيرة-: «و إن لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد» «1»، و في موثقي سماعة: «و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل يوم مرة» «2»، لظهور الأول في شرطية الغسل في تمام الصلوات الخمس، و الثاني في شرطيته في ارتفاع الحدث حكما في تمام اليوم، فعدم الحاجة له لصلاة الصبح، لعدم تحقق موجب الحدث لا ينافي لزومه للباقي.

بل هو مقتضي إطلاق ما تضمن وجوب الغسل بظهور الدم علي الكرسف و ثقبه له مما تقدم التعرض له في دليل حكم المتوسطة، و تقدم حمله علي بيان وجوب الغسل بالثقب مع الرجوع في مقداره لما تضمن الاكتفاء بالغسل الواحد. حيث يكون مقتضي إطلاقه وجوبه و إن كان خروج الدم بعد صلاة الصبح أو بعد خروج وقتها.

مضافا إلي كونه مقتضي الأصل بعد كون المستفاد من النصوص المذكورة سببية الدم المذكور للحدث الأكبر، فيقتصر في جواز إيقاع الصلاة معه علي المتيقن. و منه يظهر ضعف ما يأتي عن المصابيح من أن الأصل و العمومات تنفي ذلك.

و أما دعوي: أن لازم ذلك تعدد الغسل بتجدد المتوسطة في اليوم الواحد،

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 3 و باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 6.

ص: 252

______________________________

فلو كان الدم من المتوسطة عند الصبح ثم قلّ أو انقطع، ثم عاد بقدرها عند الظهرين، ثم قلّ أو انقطع، ثم عاد بقدرها عند العشاءين، وجب ثلاثة أغسال، لوضوح أن غسل الصبح لا أثر له في الظهرين و العشاءين بعد فرض عدم استمرار سببه لهما، بل تجدد في وقتهما دم آخر، نظير الدم المفروض في المقام، و هو مما تأباه نصوص الغسل الواحد، لأن حملها علي استمرار الدم بنحو التوسط بلا شاهد. بل هو بعيد جدا، لابتناء الدم المذكور علي الاختلاف و عدم الاستمرار بحال الواحد، فلا بد من ابتنائها علي عدم سببية ما يحدث بعد صلاة الصبح للغسل.

فهي مندفعة بأن ذلك إنما يقتضي البناء علي عدم وجوب تكرار الغسل في اليوم الواحد و العفو عن تجدد التوسط فيه بعد الغسل له، كالعفو عن استمراره، بعد اشتراكهما في عدم رافعية الغسل الواحد السابق لأثرهما، و لا يلزم بالبناء علي اختصاص حدثية دم المتوسطة بما إذا حدث قبل صلاة الصبح أو اختصاص مانعية حدثه بصلاتها، بحيث لا يجب الغسل بحدوث المتوسطة في أثناء النهار، خروجا عما يقتضيه ظاهر النصوص و الأصل المتقدمين.

هذا، و قد صرح في جامع المقاصد عند الكلام في شرطية الغسل للصوم من مبحث غايات الغسل بعدم وجوب الغسل في محل الكلام، كما هو ظاهر الروض هناك، و كالصريح من الروضة هنا و حاشيتها لجمال الدين و غيرها، و عن شرح المفاتيح أنه تبعه في ذلك، و قد يناسبه ما عن البيان من أن الاستحاضة المتوسطة من أفراد الحدث الأصغر بالإضافة إلي غير الصبح، و ما عن محكي شرح الإرشاد للفخر من أن غسل الاستحاضة للوقت لا للصلاة، حيث لم يعممه لتمام اليوم، بل خصه بوقت صلاة الفجر، لبيان شرطيته في خصوص ما يؤتي به فيه من الصلوات و غيرها مما يتوقف علي الطهارة.

و قد أصرّ علي ذلك في الجواهر، قال: «بل لعل المتأمل في كلماتهم يمكنه تحصيل الإجماع علي ذلك» مستشهدا عليه بتخصيصهم الغسل الواحد بكونه للغداة، كما

ص: 253

______________________________

تقدم من جماعة نقل الإجماع عليه، كما تمموا دلالة النصوص عليه بعدم الفصل و منهم الوحيد في شرح المفاتيح حتي قال فيما حكاه عنه: «بل ربما كان بديهي المذهب أنه لو كان غسل واحد فموضعه صلاة الصبح» كما حكي عن السيد الطباطبائي في مصابيحه قوله: «و ظاهر عبائرهم في المقام أن هذا الغسل غايته خصوص صلاة الغداة … و ربما احتمل أن يكون ذلك لجميع الخمس، فيتوقف عليه صحة الجميع. و علي هذا التقدير فلو رأته في غير وقت الفجر احتمل وجوب الغسل، و الأصل و العمومات تنفي ذلك، و قد صرح بعضهم بنفيه، و هو ظاهر كلام الباقين». ثم قال في الجواهر: «و كأن الحكم من الواضح الذي لا يعتريه الشك». و تعجب من صاحب الرياض من حكمه بوجوب الغسل و استدلاله عليه. حتي قال: «و لا يبعد أن يكون ذلك من بعض تلامذته و اشتبه النساخ فيها، لا منه، لخلو بعض نسخ الرياض عن ذلك كله».

و يشكل بأن الإجماع علي تخصيص الغسل للغداة و عدم الفصل بينه و بين الغسل الواحد- لو كان حجة في نفسه- فالمتيقن منه أنه في مقابل وجوب تكرار الغسل أو الاكتفاء به لغيرها، فلا ينافي كونه شرطا في الجميع، و إنما وجب إيقاعه لها لسبقها، بل هو المنسبق من كلماتهم بضميمة ارتكاز عدم الفرق بين أفراد الدم المذكور في سببيتها للحدث الأكبر و عدم الفرق بين الصلوات في مانعية الحدث منها، و أن الاكتفاء بالغسل الواحد للإرفاق بالاكتفاء بتخفيف الحدث به، لا لعدم مانعية حدثها بالإضافة إلي غير الصبح، كما قد يوهمه الجمود علي التعبير بالغسل للصبح.

و لعله لذا صرح في محكي شرح المفاتيح بأن لغسل المتوسطة مدخلية في جميع ذلك اليوم، لأنها حدث أكبر بالنسبة إليها. و هو المناسب لما يأتي من كشف اللثام فيمن لم تغتسل للصبح مع سبق استحاضتها عليها. و لو لا ذلك لم يكن وجه لما يظهر من جامع المقاصد في مبحث أسباب الوضوء من وجوب الغسل عليها لو انقطع دمها انقطاع برء للظهرين أو العشاءين، كما هو مقتضي إطلاق كل من أوجب الغسل علي المستحاضة لو انقطع دمها انقطاع برء، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه و إلي بعض

ص: 254

______________________________

المؤيدات الأخري، و إن لم يتضح تمامية بعضها. فراجع.

و أما ما في الجواهر من أنه لو سلم مدخلية هذا الحدث في باقي الصلوات فهو إنما يقتضي الغسل لها لو خرج الدم قبل الصبح، لا أنه يوجب الغسل لو خرج بعدها.

قال: «لعدم ثبوت الاحتياج إلي الغسل في هذا الحال، حتي يحتاج إلي إيجاده. فتأمل».

فهو كما تري، لأن عدم الاحتياج للغسل حينئذ إن كان لاختصاص مانعية حدث المتوسطة بصلاة الصبح، فهو خلاف فرض التسليم بمدخلية الحدث في باقي الصلوات. و إن كان لاختصاص سببية خروج الدم للحدث المانع من جميع الصلوات بما إذا كان قبل الصبح، و أن الخارج بعده لا يوجب الحدث، ليمنع من بقية الصلوات، فهو بعيد جدا، لعدم الفرق ارتكازا بين أفراد الدم، و لذا تكون المرأة مستمرة الحدث باستمرار الدم، كما لا فرق ارتكازا بين الحدوث و الاستمرار. و يناسبه إطلاق النصوص المتقدمة.

نعم، لو كان الشرط في صحة بقية الصلوات مجرد صحة صلاة الصبح و أن الاحتياج فيها لغسل الصبح لذلك يتجه البناء علي عدم وجوب الغسل في الفرض.

لكن لا مجال لتنزيل الإجماع و النصوص علي ذلك. و من هنا لا مجال لدعوي الإجماع علي خلاف ما عرفته من النصوص، ليخرج به عنها.

و أشكل من ذلك ما قد يظهر من الجواهر من التأمل في وجوب الغسل بالدم المذكور حتي لغداة اليوم الثاني لو لم يستمر له علي حاله، لدعوي انصراف النصوص إلي وجوب الغسل لغداة اليوم الذي تري فيه الدم. إذ هو كما تري مخالف لما يستفاد من النصوص من عموم سببية الدم للحدث، فلو فرض اختصاص مانعيته بصلاة الغداة لزم الغسل لها في اليوم الثاني بعد فرض عدم رفع الحدث بالغسل لغيرها في يوم رؤية الدم.

نعم، يتجه ما ذكره بناء علي كون المعيار في وظائف المستحاضة علي كمية الدم في وقت الصلاة. لكنه مخالف لمختاره في غير المتوسطة. فلاحظ.

ص: 255

و إذا حدثت بعدهما وجب الغسل للعشاءين (1)، و إذا حدثت قبل صلاة الصبح و لم تغتسل لها عمدا أو سهوا (2) وجب الغسل (3) للظهرين، و عليها إعادة صلاة الصبح (4). و كذا إذا حدثت في أثناء الصلاة وجب

______________________________

(1) لعين ما تقدم.

(2) و منه أو مثله ما لو انكشف بطلان الغسل لها.

(3) يظهر الوجه فيه مما سبق، بل هو أولي منه، لسببية الدم المذكور للحدث الموجب للغسل بلا إشكال، كما لا إشكال في مانعيته من صلاة الصبح، بل عرفت مانعيته من جميع الصلوات، فيجب إزالته لها بالغسل.

قال في كشف اللثام في مبحث أسباب الوضوء: «و أما المتوسطة و الكثيرة فهما توجبان مع الوضوء غسلا أو أغسالا، و لو بالنسبة إلي بعض الصلوات، مع أن الظاهر أنه بالنسبة إلي الجميع، حتي أن لغسل المتوسطة في الصبح مدخلا في استباحة سائر الصلوات، فإنها لو لم تغتسل فيه لزمها إذا أرادت صلاة البواقي».

لكن استشكل فيه في الجواهر حتي مع التسليم بمانعية الحدث من جميع الصلوات. قال: «لعدم ثبوت مشروعيته بعد فوات المحل الموظف شرعا».

و فيه: أن مقتضي إطلاق النصوص عدم فوت محله. و لا ينافيه الإجماع علي لزوم إيقاعه قبل الصبح، إذ قد يكون لأنه أول وقت الحاجة إليه. و به يستغني عن استصحاب مشروعيته، بل لا مجال له، لأنه تعليقي.

هذا مضافا إلي أن فوات محل الغسل لا يستلزم صحة الصلاة بدونه بعد التسليم بمانعية الحدث منها، بل تعذرها بتعذر شرطها، و لا دليل علي كون فوت محل الغسل مطهرا من الحدث حقيقة أو حكما، بل هو كالمقطوع بعدمه.

(4) بلا إشكال. لفقد شرطها، و قد سبق في ذيل المسألة التاسعة و العشرين أن لذات الاستحاضة المتوسطة قضاء الصلوات علي كلام.

ص: 256

استئنافها بعد الغسل (1) و الوضوء (2).

(مسألة 31): إذا حدثت الكبري بعد صلاة الصبح وجب غسل للظهرين و آخر للعشاءين (3) و إذا حدثت بعد الظهرين وجب غسل واحد للعشاءين (4).

______________________________

(1) لإطلاق ما تضمن حدثية الدم و مانعية الحدث من الصلاة، فيلحقها حكم من أحدث في أثناء الصلاة.

(2) بناء علي وجوب ضمه للغسل حتي في الصلاة الأولي. و قد تقدم الكلام في ذلك في حكم المتوسطة.

مسألة 31: إذا حدثت الكبري بعد صلاة الصبح وجب غسل للظهرين و آخر للعشاءين

(3) يعني: مع استمرارها بعد الشروع في غسل الظهرين و إن لم يستمر إلي وقت العشاءين، علي ما تقدم الكلام فيه. أما لو انقطع قبل الشروع في غسل الظهرين فلا يجب الغسل للعشاءين، علي ما يأتي في المسألة اللاحقة.

(4) بلا إشكال ظاهر فيه و فيما قبله. و لا منشأ هنا لاحتمال الارتباطية بين وظائف الاستحاضة الكبري في الأوقات الثلاثة لليوم، بعد إطلاق نصوصها بالإضافة إلي مبدأ حدوثها. و لا سيما مع ظهور صحيح الصحاف «1» في أن المعيار في الغسل للعشاءين علي سيلان الدم قبلهما من دون نظر لحاله قبل الظهرين.

نعم، قد يتجه ذلك فيما لو حدثت بين الظهرين أو العشاءين، حيث قد يحتمل عدم وجوب الغسل للثانية منهما، لأنها نظير ما عدا الصبح في المتوسطة التي سبق عدم وجوب الغسل لها ممن تقدم.

لكن عرفت ضعفه و أنه لا بد من الغسل، بل هو هنا أظهر، لأن ظهور جملة من نصوص الكثيرة في عدم جواز الفصل بين الصلاتين موجب لظهورها في دخل الغسل في كلتيهما، و لذا يأتي أنه لو فرقت بينهما لزم تجديد الغسل للثانية، فلا يتجه عدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

ص: 257

(مسألة 32): إذا انقطع دم الاستحاضة انقطاع برء قبل الأعمال وجبت تلك الأعمال (1)، و لا إشكال. و إن كان بعد الشروع في

______________________________

وجوب الغسل هنا إلا بدعوي اختصاص سببية الدم للحدث بما إذا كان خروجه قبل الصلاتين، دون ما إذا خرج بينهما، نظير ما تقدم من الجواهر في تلك المسألة من اختصاص حدثيته بما إذا خرج قبل الصبح، الذي سبق ضعفه.

هذا مضافا إلي ما أشرنا إليه آنفا من قرب عموم ما تضمن أنها تغتسل لكل صلاتين لغير اليومية، و أنه لا يختص بالظهرين و العشاءين، حيث يتجه إطلاقه لما إذا رأت الدم بين الصلاتين، و يكون مقتضاه تشريع الغسل في الفرض للثانية مع جواز ضم غيرها إليها، و إن لم تكن من اليومية. فلاحظ.

مسألة 32: إذا انقطع دم الاستحاضة انقطاع برء قبل الأعمال وجبت تلك الأعمال

(1) كلماتهم في تحرير فروع انقطاع الدم لا تخلو عن تداخل و اضطراب.

فالأولي الإشارة لمبني المسألة، ثم النظر في صور الانقطاع و فروعه.

فنقول: تكرر منا أن المستحاضة مستمرة الحدث باستمرار خروج الدم. لعدم الفرق ارتكازا في سببية الدم للحدث بين وقت و آخر، و لا بين الحدوث و الاستمرار، و أن الاجتزاء لصلواتها بالوظائف المتقدمة للعفو عن الحدث المتخلل تخفيفا، نظير اجتزاء المسلوس بوظيفته.

و من هنا يتعين البناء علي سببية الدم للحدث بحدوثه و إن لم يستمر إلي وقت الصلاة. و مجرد ظهور النصوص في وجود الدم وقت الصلاة لا ينافي التعميم لفهم عدم خصوصية الوقت عرفا. و إلا فهي ظاهرة في مقارنته للقيام بالوظيفة و اتصاله بها، بقرينة اشتمال جملة منها علي التحفظ بالكرسف. و الاستثفار، و تعجيل الصلاة، و الجمع بين الصلاتين، و بيان الوظيفة في تمام اليوم الظاهر في استمراره في تمامه، مع عدم الإشكال ظاهرا في عدم توقف وجوب الوظائف علي وجوده حين القيام بها.

و دعوي: أن وجوده قبل الوقت ليس منشأ للخطاب بالوظيفة، لعدم الخطاب بالصلاة، فلا مجال لاستفادة سببية للحدث، و إنما يكون منشأ للخطاب بالوظيفة إذا

ص: 258

______________________________

وجد بعد الوقت، تبعا للخطاب بالصلاة. و حينئذ إذا خوطب بالوظيفة بعد الوقت لوجود الدم فيه بمقتضي إطلاق النصوص و استفيد سببيته للحدث، كان ارتفاعه بانقطاع الدم فيه محتاجا للدليل. و لذا يبني علي كونه منشأ للخطاب بالوظيفة بالإضافة لصلاة الوقت اللاحق لو فرض عدم الإتيان بها لذات الوقت الذي خرج فيه الدم.

مدفوعة بأن وجود الدم قبل الوقت لو سلم عدم كونه منشأ للخطاب بالوظيفة بالإضافة للصلاة ذات الوقت، إلا أنه منشأ للخطاب بها بالإضافة إلي غيرها من الصلوات غير الموقتة أو غيرها من الغايات و لو كانت مستحبة.

و علي ما ذكرنا فالمعيار في وجوب الوظائف علي خروج دم لم يتعقبه وظيفة رافعة لأثره، من دون فرق بين الحدوث و الاستمرار، فلو لم تأت بالوظيفة من حين خروج الدم إلي انقطاعه وجبت، كما تجب لو استمر بعد الوظيفة، بل بعد الشروع فيها و لو لحظة، بناء علي صحة الوظيفة حينئذ و لو لضيق الوقت عن استئنافها.

و دعوي: أن استمرار الدم بعد القيام بالوظيفة معفو عنه، و لذا يجوز معه الدخول في الصلاة.

مدفوعة بأن العفو يختص بالصلاة التي يؤتي بالوظيفة لها اكتفاء فيها بتخفيف الحدث للضرورة، و لا دليل علي العفو عنه مطلقا، بل هو خلاف إطلاق ما تضمن اعتبار الطهارة فيما تعتبر فيه بعد ما تقدم من عموم سببية خروج الدم للحدث.

و لعله علي ما ذكرنا يبتني ما في المبسوط و الخلاف من وجوب الوضوء بانقطاع الدم. و لا مجال للإشكال عليه بأن انقطاع الدم ليس من الأحداث، بعد ما نبه له من أن الحدث نفس الدم، فيجب رفعه بعد انقطاعه، و إن اكتفي بالوضوء حاله للضرورة.

نعم، خصه بما إذا كان الانقطاع قبل الصلاة دون ما إذا كان في أثنائها، فضلا عما إذا كان بعدها، و يأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالي. و لعل تخصيصه الوضوء لظهور كلامه في المبسوط في أن الاستحاضة القليلة يتوضأ لها.

لكن لا مجال لذلك في كلام غيره ممن أطلق الاكتفاء بالوضوء للانقطاع للبرء،

ص: 259

______________________________

كما في القواعد و عن جماعة، بل عن نهاية الأحكام التصريح بعدم وجوب الغسل عليها بالانقطاع.

و أما توجيهه في كلام غير واحد بأن دم الاستحاضة يوجب الوضوء مطلقا، و لا يوجب الغسل إلا مع الاستمرار الخاص فعلا أو قوة، دون ما لو انقطع الدم للبرء. فهو كما تري، لاتحاد لسان دليلي سببيته للوضوء و الغسل، و لا سيما مع شمول إطلاقاتهم لفرض الانقطاع في الوقت، بل هو مورد كلام بعضهم. و مثله ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من دعوي: أن وجوب الوضوء للإجماع، لا لإطلاق الأدلة.

لاندفاعها بعدم ظهور الإجماع، فضلا عن حجيته، مع شدة اضطرابهم في المسألة، و ظهور جملة من كلماتهم في أن الحكم مقتضي الإطلاقات و القواعد، لا مقتضي إجماع تعبدي. و من هنا صرح جماعة بأنه مع الانقطاع للبرء يجب ما يقتضيه الدم من وضوء أو غسل، كما في الدروس و جامع المقاصد و الروض و عن الذكري و غيرها.

و كأن تقييد الانقطاع في كلامهم بما إذا كان للبرء- مع إطلاق كلام الشيخ قدّس سرّه أو ظهوره في الانقطاع للفترة- لدعوي: أن انقطاعه للفترة بحكم عدم الانقطاع، كما في جامع المقاصد و غيره. و لعله لعدم خروجها بذلك عن كونها مستحاضة، بمعني كونها ذات المرض الخاص الموجب لخروج الدم فعلا أو قوة.

و يترتب علي ذلك أن الانقطاع لفترة إن كان في الوقت بعد القيام بالوظيفة قبل الإتيان بالصلاة لا يجب معه تجديد الأعمال للصلاة، و إن قيل بوجوبه مع الانقطاع للبرء، بل استمرار خروج الدم حين الانشغال بالوظيفة معفو عنه بالإضافة لصلاتها، كما لو استمر خروجه في تمام الوقت.

نعم، استثني من ذلك بعضهم- كما في جامع المقاصد- ما إذا كانت الفترة تسع للطهارة و الصلاة، فيجب تجديد الوظيفة. لكن لم يتضح وجهه بعد فرض أن الانقطاع للفترة بحكم استمرار الدم. و إن كان قبل الوقت و استمر إلي الوقت يجب تجديد الوظيفة لصلاة الوقت و إن قيل بعدم وجوبه مع الانقطاع للبرء، كما تقدم من جماعة.

ص: 260

______________________________

بل مقتضي ذلك وجوبه حتي لو كان الانقطاع قبل القيام بالوظيفة لصلاة الوقت السابق و استمر إلي صلاة الوقت اللاحق. فلو انقطع الدم قبل الظهر أو بعده لغير برء فقامت بوظيفته للظهرين و صلتهما ثم استمر انقطاعه إلي العشاءين وجب تجديد الوظيفة لهما. قال في التذكرة: «لو كان الدم كثيرا فاغتسلت أول النهار و صامت، ثم انقطع قبل الزوال لم يجب غسل آخر عند الزوال، لا للصوم و لا للصلاة، إن كان للبرء، و لو كان لا له وجب. و لو كانت تعلم عوده ليلا أو قبل الفجر وجب الأغسال الثلاثة».

و كأنه يبتني إما علي أن سبب الحدث هو خروج الدم و أن النقاء المتخلل بين الدميين بحكم خروج الدم، نظير ما ذكر في الحيض، أو علي أن سببه المرض الفعلي اللازم في فرض عود الدم، و عليه فوجوب الوظيفة بخروج الدم لكاشفيته عن سبب الحدث، لا لسببيته بنفسه له، لامتناع سببيتهما معا مع ترتبهما.

كما أنه علي الوجهين يبتني حكم الشك في العود، فيرجع علي الأول لاستصحاب عدم العود، و علي الثاني لاستصحاب المرض. كما يتعين علي الثاني عدم كون الانقطاع مع العود بحكم عدم الانقطاع إذا كان العود لتجدد المرض بعد زواله، لا مع استمرار المرض الواحد و تأثيره الدم المنقطع.

و كيف كان، فلا مجال للأول بعد عدم الدليل علي التنزيل المذكور. و ثبوته في الحيض- لو سلم- لا يقتضيه هنا بعد ظهور الأدلة في تبعية الوظائف للدم. و أما الثاني فقد أشار شيخنا الأعظم قدّس سرّه لوجهه و إن حاول دفعه. قال: «لا شاهد عليه إلا ما ربما يستفاد من إطلاق الروايات من أن هذا المرض الخاص موجب لهذه الأغسال الثلاثة إلي أن يحصل البرء و الشفاء و أنها إذا فعلها [فعلتها. ظ] عوفيت مما فيه. مع أنه لا ريب في صدق المستحاضة و المرأة الدامية عليها قبل الشفاء، كصدق الحائض في أيام النقاء.

و حاصل هذا الوجه: أن المستفاد من كثير من الأخبار أن الحدث الموجب للأغسال هو كونها دامية لا نفس دمها. و لكن الإنصاف أنه خلاف المستفاد من كلمات

ص: 261

______________________________

الأصحاب و معاقد إجماعاتهم من كون حدث الاستحاضة حدثا أو ناقضا أو موجبا للطهارة، كما يظهر ذلك من أكثر الأخبار، سيما الواردة في القليلة، فإن الظاهر أن القليلة و الكثيرة من باب واحد، كما أن كليهما مع السلس و المبطون من باب واحد. فتأمل.

هذا، مع أن الأصل يقضي بالاقتصار في الحكم بالحدثية علي نفس الدم، لأنه المتيقن».

لكن إن أراد من الأصل استصحاب عدم سببية المرض للحدث، فهو- مع معارضته باستصحاب عدم سببية خروج الدم له- غير جار في نفسه بعد كون السببية من الأحكام المنتزعة غير المجعولة. و إن أراد منه استصحاب عدم الحدث حين المرض و انقطاع الدم، فهو إنما يجري في المرض السابق علي خروج الدم، و لا إشكال عندهم في عدم الحدث المقتضي للوظائف معه، و المناسب لكلام من سبق هو الاكتفاء في الحدث بالمرض اللاحق لخروج الدم، و هو مقتضي الاستصحاب للشك في ارتفاع الحدث مع الإتيان بالوظيفة بعد انقطاعه.

و دعوي: أن ذلك إنما يتم بناء علي عدم رافعية الوظيفة للحدث أصلا، أما بناء علي ما سبق منا من رافعيتها للحدث السابق عليها، و أنها تقتضي تخفيف حدث الاستحاضة، فالشك إنما هو في تجدد الحدث ببقاء المرض، و مقتضي الاستصحاب عدم تجدده، لليقين بعدم الحصة الخاصة منه سابقا.

مدفوعة بأن البناء علي ذلك لو أمكن مع كون السبب هو المرض لا نفس خروج الدم فتجدد الحدث لما لم يكن راجعا لتعدد أفراده، بل لاستمرار وجوده مع وحدة وجوده عرفا، فمقتضي الاستصحاب بقاؤه، كما هو الحال في سائر الأمور التدريجية، كالحركة و القراءة و جريان الماء و غيرها. علي ما حقق في محله من مباحث الاستصحاب.

و أما الإجماع فلا مجال لتحصيله بعد عدم توجه القدماء لهذه الخصوصيات و اضطراب كلمات المتأخرين و ذهاب غير واحد منهم لما سبق. كما لا مجال للتعويل عليه بعد معلومية ابتناء كلماتهم علي الرجوع لمفاد النصوص، لا علي جهات تعبدية

ص: 262

______________________________

خفيت علينا.

فالعمدة ما ذكره من ظهور النصوص في سببية نفس الدم للوظائف، بل هو كالمقطوع به من جميعها لا من بعضها، لتعليق الحكم فيها علي نفس الدم بأقسامه الثلاثة، من دون فرق بينها، بل لعله في الكثيرة أظهر، بسبب كثرة نصوصها، و اشتمال جملة منها علي الاستثفار الذي يراد به التحفظ عن سيلان الدم الخارج فعلا.

نعم، علق في بعضها علي عنوان المستحاضة و الدمية. لكن صدقهما في غير حالة خروج الدم مشكل، بل ممنوع. و قياسه علي الحيض تحكم بعد كون الحيض طبيعيا للمرأة في زمن خاص، علي أن ذلك ممنوع في الحيض أيضا، فقد سبق أن النقاء المتخلل بين الدميين طهر، و غاية ما يدعي قيام الدليل علي أنه بحكم الحيض، الذي عرفت أنه مفقود في المقام. و ما ذكره من أنه قد يستفاد من إطلاق النصوص كون المرض بنفسه موجبا للأغسال ما لم يحصل الشفاء، غير ظاهر المأخذ بعد ما ذكرنا.

نعم، في صحيح ابن سنان بعد ذكر الأغسال للدم: «لم تفعله امرأة قط احتسابا إلا عوفيت من ذلك» «1»، و في صحيح الصحاف: «فإنها إذا فعلت ذلك أذهب اللّه بالدم عنها» «2»، و لا إشعار فيهما بما ذكر. بل لازم البناء علي ذلك الاكتفاء في وجوب الوظائف بحدوث المرض في أول أزمنته و إن لم يخرج بسبب الدم بعد، و ببقائه في آخرها بعد انقطاع الدم من دون عود، و لا يظن بأحد البناء علي ذلك. فتأمل.

و من هنا كان القول المذكور في غاية الضعف. و المتعين ما ذكرنا من أن المعيار علي فعلية خروج الدم، غايته أن لا يعتبر في وجوب الوظائف استمراره للوقت، بل يكفي وجوده مع عدم تعقبه بالوظيفة المناسبة له الرافعة لأثره و إن انقطع للبرء أو لفترة، و مع تعقبه بالوظيفة المناسبة لا يجب تجديدها في الوقت اللاحق، سواء كان انقطاعه للبرء أم لفترة. و خلاف ذلك محتاج إلي دليل خاص علي ما يتضح عند الكلام في الفروع التي ذكرها سيدنا المصنف قدّس سرّه في هذه المسألة إن شاء اللّه تعالي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

ص: 263

______________________________

و مما ذكرنا يظهر الحال في اختلاف مراتب الاستحاضة باختلاف مقدار الدم مع عدم انقطاعه، حيث يتعين ترتيب حكم المرتبة العليا السابقة علي الصلاة و إن لم تستمر لوقتها، كما يتعين الاكتفاء به و عدم ترتيب حكم ما دونها، لاندكاك حكم المرتبة الدانية في حكم المرتبة العالية حتي بناء علي عدم وجوب الوضوء للصلاة الأولي في المتوسطة و لجميع الصلوات في الكثيرة، لما سبق من عدم وجوب الوضوء للصلاة الأولي، بل للصلاتين غير المفرقتين بعد الغسل حتي في القليلة. فإذا صارت الاستحاضة متوسطة أو كثيرة بعد صلاة الصبح ثم صارت قليلة قبل الظهر وجب الغسل للظهرين.

و يقتضيه- مضافا إلي ما سبق من عدم خصوصية الوقت في سببية الدم للحدث- قوله عليه السلام في صحيح الصحاف: «ثم لتنظر، فإن كان الدم فيما بينها و بين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ و لتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف عنها، فإن طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل» «1»، لظهوره في لزوم الغسل للعشاءين بسيلان الدم بين الظهرين و المغرب، لا بسيلانه عند المغرب.

و مثله في ذلك إطلاق ما تضمن وجوب الغسل بثقب الدم الكرسف و نفوذه فيه مما تقدم التعرض له عند الكلام في حكم المتوسطة، حيث لم يقيد فيه بحدوثه وقت الصلاة أو استمراره له.

و بذلك صرح في الروضة و كشف اللثام، و إليه مال في جامع المقاصد هنا و نسبه لظاهر البيان، و عليه جري جملة من متأخري المتأخرين، بل عن شرح الروضة أنه ظاهر النصوص و الفتاوي. خلافا لما في الدروس من الاعتبار في كمية الدم بأوقات الصلاة، مستدلا عليه فيه و في محكي الذكري بصحيح الصحاف، و قواه في جامع المقاصد في مبحث غايات الغسل، مدعيا أنه الذي يلوح من الأخبار.

لكن صحيح الصحاف ظاهر في الأول، كما عرفت منا تبعا لغير واحد. و أما

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

ص: 264

______________________________

غيره من الأخبار فلم يتضح دلالتها عليه عدا ما يظهر من جملة منها من فرض استمرار الكثرة، للأمر فيها بالاستثفار و تعجيل الصلاتين بغسل واحد و نحو ذلك.

لكن الجمود علي ذلك يقتضي اعتبار الاستمرار حال الصلاة بل الاستمرار في تمام اليوم، للأمر فيها بالأغسال الثلاثة لتمام صلوات اليوم، و حيث لا مجال للبناء علي ذلك يتعين حملها علي مجرد بيان سببية الدم الذي يسيل من خلف الكرسف للحدث الذي يحتاج في رفعها حكما للغسل لكل صلاتين، و إن لم يستمر لوقت الصلاة، فضلا عن أن يستمر لحالها في مقابل ما لا يحتاج معه إلا للوضوء أو مع الغسل الواحد لتمام اليوم، بقرينة المرتكزات المشار إليها آنفا. و منه يظهر الجواب عن قوله عليه السلام في صحيح الصحاف بعد ما سبق: «و إن كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف الكرسف صبيبا لا يرقي فإن عليها أن تغتسل في كل يوم و ليلة ثلاث مرات … ». علي أنه لا يبعد كون المراد به أنه لا ينقطع بوضع الكرسف، بل يسيل من خلفه، لا أنه يستمر سيلانه. فلا مخرج عما ذكرنا.

و قد يحمل عليه ما في القواعد من اعتبار الاستمرار في وجوب الأغسال الثلاثة، و إلا فغسل واحد أو غسلان، بحمله علي الاستمرار في الجملة و لو بعد الشروع في الوظيفة السابقة في مقابل الانقطاع قبلها، كما يناسبه إطلاقه وجوب الغسل الواحد مع عدم الاستمرار مع وضوح شموله لما إذا انقطع قبل الوقت.

نعم، يصعب تنزيل ما في الروض علي ذلك، حيث قال: «و اعلم أن وجوب الأغسال الثلاثة في هذه الحالة إنما هو مع استمرار الدم سائلا إلي وقت العشاءين، فلو طرأت القلة بعد الصبح فغسل واحد، و بعد الظهر فغسلان خاصة». إلا أنه قد يتعين بلحاظ ما قربه بعد ذلك من أن الاعتبار في كمية الدم بجميع الأوقات و إن كانت منقطعة في وقت الصلاة، قال: «فلو حصلت بعد صلاة الفجر و انقطعت قبل الظهر وجب الغسل لها». و إلا كان كلامه متدافعا.

إلا أن ينزل الأول علي الاستمرار بعد القيام بالوظيفة للوقت السابق، و الثاني

ص: 265

الأعمال قبل الفراغ من الصلاة استأنفت الأعمال (1) و كذا الصلاة،

______________________________

علي الدم في أول حدوثه. لدعوي: أن مقتضي الوظيفة في الوقت العفو عن الاستمرار للوقت الثاني، فلا يجب تكرارها للوقت الثاني إلا مع الاستمرار فيه. و أما الدم في أول حدوثه قبل القيام بالوظيفة له فهو موجب للحدث من دون موجب للعفو عنه، فيجب القيام بالوظيفة له و إن لم يستمر.

لكنه لا يناسب إطلاقه وجوب الغسل لانقطاع الدم للبرء، بل لعل المتيقن منه صورة الانقطاع بعد القيام بالوظيفة في الوقت السابق، لعدم الفرق بين الانقطاع و تبدل حال الدم من الكثرة للقلة بعد التأمل فيما سبق و يأتي. كما لا يناسب ما سبق منه من أن المرأة تصلي بغسلها ما شاءت من الفرائض و النوافل في الوقت، و أنها لو أرادت الصلاة في خارجه لزمها تجديد الغسل، إذ مرجع ذلك إلي عدم العفو عن استمرار خروج الدم بين الوقتين، فلا وجه لجواز صلاة الوقت الثاني معه و إن لم يستمر إلا مع الغسل.

ثم إنه بناء علي أن المعيار في كمية الدم بأوقات الصلاة فلو قل الدم قبل الظهر بعد كثرته و علم بعود الكثرة بعد صلاة الظهرين فقد يجب الغسل لهما عند من يقول بأن الانقطاع للفترة بحكم عدم الانقطاع، علي ما تقدم الكلام فيه، حيث قد يدعي أن عود الكثرة مستلزم لبقاء حكمها كما كان عود الدم بعد انقطاعه مستلزما لبقاء حكمه. فلاحظ.

(1) كما هو مقتضي إطلاق وجوب تجديد الوظيفة بانقطاع الدم للبرء في الدروس و جامع المقاصد و محكي الذكري و حواشي الشهيدين علي القواعد و الجعفرية و شرحيها، و مثله ما تقدم من المبسوط و الخلاف من وجوب تجديد الوضوء لو انقطع قبل الصلاة، لأنه و إن اختص بالانقطاع للفترة أو كان المتيقن منه ذلك، إلا أن تعليله بأن الدم حدث، فيجب الوضوء لانقطاعه يعم الانقطاع للبرء.

بل عن الذكري: اني لا أظن أحدا قال بالعفو عن هذا الدم الخارج بعد الطهارة

ص: 266

______________________________

مع تعقب الانقطاع، إنما العفو عنه مع قيد الاستمرار. انتهي. لكن عن الجامع: ان انقطاع دم الاستحاضة ليس بحدث، فلو انقطع في الصلاة أتمتها، و إن فرغت من الوضوء و انقطع في وقت واحد صلت به. انتهي. و حكي غير واحد نحوه عن المعتبر، و إن لم يتيسر لي العثور عليه فيه، كما مال إليه في المدارك.

و يظهر ضعفه مما تقدم من أن الانقطاع و إن لم يكن حدثا إلا أن نفس جريان الدم سبب للحدث و العفو عنه مع الاستمرار للضرورة لا ينافي وجوب استئناف الوظيفة له مع عدمه.

نعم، استدل عليه في المدارك بعموم الإذن لها في الصلاة بعد الوضوء. و هو موقوف علي عدم صلوح قرينة الاضطرار لحمل العموم علي صورة الاستمرار. و هو لا يخلو عن إشكال.

و دعوي: أن عدم التعرض في النصوص علي كثرتها لحكم الانقطاع شاهد بعدم وجوب تكرار الوظيفة معه للغفلة عنه.

مدفوعة بندرة انقطاع الدم في الأثناء، لابتناء العمل علي التعجيل، و لا سيما في الكثيرة، لأن انقطاع الدم فيها لا يكون دفعيا غالبا، بل بعد مضي زمن تقل فيه تدريجا.

علي أنه لو حصل الانقطاع في الأثناء واقعا فالعلم به نادر جدا، لغلبة وضع الكرسف و التعجيل بالوظيفة و الصلاة من دون تبديل له بينهما، فلو فرض الانقطاع في الأثناء و العلم به في نادر من الموارد أشكل بناء العرف علي الاستمرار في العمل معه، و عدم وجوب التجديد لتحصيل الطهارة التامة، ليكون إغفال التنبيه عليه في النصوص شاهدا بإمضاء بنائهم.

نعم، لا ينبغي التأمل في عدم وجوب الفحص عن الانقطاع في الأثناء، لخروجه عن المتعارف.

هذا و قد سبق أن الانقطاع يقتضي استئناف الوظيفة التي يقتضيها الدم مطلقا وضوءا كانت أو غسلا، لا خصوص الوضوء و إن صرح به بعضهم. فراجع.

ص: 267

و إن كان الانقطاع في أثنائها (1).

______________________________

(1) لعل الأنسب أن يقول: إن كان الانقطاع في أثنائها، إذ لو كان بعد الفراغ منها فهو خارج عن مفروض الكلام، و يأتي التعرض لحكمه، و لو كان قبلها لم يصدق الاستئناف بالإضافة إليها. إلا أن يعلم به بعد الشروع فيها أو بعد الفراغ منها.

و كيف كان، فقد صرح بوجوب استئناف الصلاة لو كان الانقطاع في أثنائها في الدروس و محكي نهاية الأحكام و الموجز و كشف الالتباس. و قد يستظهر من كل من أطلق وجوب الغسل أو الوضوء بالانقطاع، لدعوي: أن مقتضاه وجوبه حتي للصلاة التي انقطع في أثنائها، الراجع لوجوب استئنافها.

إلا أن يحمل كلامهم علي وجوبهما في مقابل الاستغناء عنهما للعفو عن استمرار الدم بعد القيام بالوظيفة السابقة حتي بالإضافة إلي الصلوات اللاحقة، فلا ينافي جواز المضي في الصلاة التي انقطع في أثنائها. و به صرح في المبسوط و الخلاف، و المنتهي و المختلف و محكي البيان، بل نسبه في مفتاح الكرامة لكل من تعرض لهذا الفرع عدا الكتب الأربعة المتقدمة.

قال في السرائر بعد أن حكي ذلك عن المبسوط: «إذا كان انقطاع دم الاستحاضة حدثا فيجب عليها قطع الصلاة و استئناف الوضوء، و إنما هذا كلام الشافعي أورده شيخنا، لأن الشافعي يستصحب الحال. و عندنا أن استصحاب الحال غير صحيح و أن هذه الحال غير ذلك، و ما يستصحب فيه الحال فبدليل، و هو إجماع علي المتيمم إذا دخل في الصلاة و وجد الماء فانا لا نوجب عليها [عليه. ظ] الاستيناف بإجماعنا، لا أنا قائلون باستصحاب الحال». و هو في محله كما اعترف به غير واحد.

و أما الاستدلال عليه في المختلف و غيره بما تضمن حرمة إبطال العمل. فهو كما تري..

أولا: لعدم ثبوت العموم المذكور.

و ثانيا: لعدم نهوضه بإثبات صحته في فرض احتمال عروض المبطل له، علي ما

ص: 268

و إن كان بعد الصلاة (1) أعادت الأعمال و الصلاة (2).

______________________________

تحقق في محله من مسألة الدوران بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و مثله الاستدلال باستصحاب صحتها. لما تحقق هناك من عدم جريانه مع احتمال مبطلية العارض للشبهة الحكمية. بل بناء علي ما تقدم من الإشكال في عموم الأدلة لصورة الانقطاع في الأثناء لا تحرز مشروعية الدخول في الصلاة في الفرض، لا أنها مشروعة يحتمل عروض المبطل لها، ليتجه الاستدلال بعموم حرمة الإبطال، أو استصحاب الصحة، لو غض عما تقدم.

و مما سبق يظهر أنه لا مجال لما عن شرح المفاتيح من جعل المقام كالحدث المتخلل في أثناء الصلاة. إذ فيه: أنه بعد أن كان سبب الحدث هو الدم السابق لا انقطاعه، فإن نهض عموم الأدلة بالعفو عن الحدث في الفرض و مشروعية الدخول في الصلاة كانت بتمامها بطهارة حكمية، و إن قصر عن ذلك لم يكن الدخول فيها مشروعا، لكونها بتمامها مع الحدث.

و لعله لذا قال في الجواهر: «لم أعثر علي من احتمل الصحة ثم التجديد و البناء هنا، كما ذكر في المبطون». فتأمل. و بالجملة: الظاهر عدم الفرق بين الانقطاع قبل الصلاة و الانقطاع في أثنائها، بل يجري في الثاني ما تقدم في الأول.

(1) يعني: مع بقاء وقتها، أما مع خروجه فلا إشكال في عدم وجوب إعادتها.

(2) أما وجوب إعادة الأعمال فهو مقتضي إطلاق من تقدم. كما هو مقتضي الوجه المتقدم حيث يقتضي وجوب إعادتها و لو للصلاة اللاحقة لو فرض عدم وجوب إعادة الصلاة المأتي بها، لأن العفو عن الحدث للصلاة السابقة لا يستلزم العفو عنه للصلاة اللاحقة. و لا سيما مع استمرار الدم بعد الصلاة بفترة، لأن صحة الصلاة إنما تبتني علي العفو عن الدم الخارج قبل الفراغ منها، لا المستمر بعدها.

و أما وجوب إعادة الصلاة فهو و إن نسب في بعض كلماتهم للمشهور، إلا أنه

ص: 269

______________________________

لم يتضح وجه النسبة، بل لا يظهر من الأصحاب البناء عليه، بل قد يظهر من نزاعهم المتقدم في صورتي انقطاع الدم قبل الصلاة و في أثنائها مع عدم تعرضهم لصورة الانقطاع بعدها مفروغيتهم عن عدم وجوب الإعادة في الفرض.

و قد قواه في الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه، مستدلا عليه في الأول بحصول الامتثال، و اقتضاء الأمر الاجزاء، و إطلاق الأدلة. و من الظاهر تفرع الأولين علي الثالث، إذ مع فرض قصور الإطلاق فمقتضي حدثية الدم و عموم مانعية الحدث من الصلاة انكشاف عدم مشروعية الدخول في الصلاة بالانقطاع، فلا امتثال، و لا أمر يقتضي الإجزاء. و مجرد تخيلهما لاعتقاد الاستمرار خطأ لا يقتضي الإجزاء.

فالعمدة في الدليل هو الإطلاق، لظهور الأدلة في الاجتزاء بالوظيفة مع وجود الدم حين الشروع فيها مطلقا أو مع استمراره إلي الفراغ من الصلاة، علي الكلام المتقدم.

نعم، قد يدعي انصرافه عن صورة الانقطاع في الوقت، بسبب ظهور كون الطهارة اضطرارية، فلا يجتزأ بها مع تيسر الصلاة بالطهارة التامة بعد الانقطاع في الوقت. و كأن ذلك هو الوجه فيما احتمله في الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم من وجوب إعادة الصلاة في الفرض. و به جزم غير واحد ممن تأخر عنهما، منهم سيدنا المصنف قدّس سرّه.

لكن ذلك لا يناسب عدم التنبيه في النصوص لتأخير الصلاة إلي آخر الوقت و لا للتدارك علي تقدير الانقطاع، مع ما هو الظاهر من كثرة وقوعه مع التقديم في القليلة و الصفرة، بل في الكثيرة أيضا مع إيقاع الصلاة في الوقت الفضيلي الذي تضمنت النصوص الأمر به.

بل هو لا يناسب ما يظهر منهم من المفروغية عن جواز إيقاع الصلاة الموسعة حال الاستحاضة، حيث يكشف عن أن كون الطهارة اضطرارية لا يقتضي الاقتصار في الصلاة بها علي ما يضطر إليه منها.

و قد أشرنا إلي ذلك عند الكلام في حكم الصلاة غير اليومية للمستحاضة. علي

ص: 270

و هكذا الحكم إن كان الانقطاع انقطاع فترة تسع الطهارة و الصلاة (1).

______________________________

أن ذلك لو تم لزمت الإعادة لو انتقلت الاستحاضة من المرتبة العليا للمرتبة الدانية، لوضوح أن حدث المرتبة العليا أشد، فيلزم الاقتصار علي الأخف مع القدرة بالإعادة معه، و لا يظن منهم البناء علي ذلك.

و إن شئت قلت: لو لا المفروغية عن مضي الصلاة الواقعة و عدم لزوم إعادتها بالقدرة علي تجنب الحدث رأسا أو الأشد منه لكثر السؤال عن ذلك، لكثرة الابتلاء بالفروع المبتنية عليه الراجعة إلي مقام الثبوت و الإثبات و التي يشتبه فيها الحكم، كما كثر السؤال و البيان في فروع التيمم الذي هو أظهر في الاضطرار و النقص من المقام، فعدم التعرض لذلك في النصوص ظاهر في الإجزاء الذي هو مقتضي الطبع الأولي عند المتشرعة، بحيث يحتاج إلي التنبيه. كما أن عدم التعرض له في كلام الأصحاب ظاهر في ذلك، و لو كان البناء علي الإعادة لم يخف عليهم، و لنبهوا له، بسبب شيوع الابتلاء بذلك.

نعم، الظاهر عدم جواز البدار مع العلم أو الوثوق بل الظن بالانقطاع في آخر الوقت، لأن ارتكاز نقص الطهارة مانع من إقدام المكلف علي الاجتزاء بها مع ظهور أمارات القدرة علي الطهارة التامة، فلا يبعد انصراف الإطلاقات عنها بسبب ذلك.

بل لا يبعد ذلك أيضا فيما لو علم بانتقالها للمرتبة الدانية. و قد تقدم في مباحث الوضوء الجبيري ما ينفع في المقام. فراجع المسألة الواحدة و الأربعين و الثامنة و الخمسين من مباحث الوضوء.

(1) تقدم عدم الفرق بين الانقطاع للبرء و الانقطاع للفترة، و أن تفريق بعضهم بينهما بدعوي: أن الثاني بحكم عدم الانقطاع، في غير محله، بل لا يناسب ما صرح به بعض هؤلاء من وجوب إعادة الطهارة حينئذ لو حصل الانقطاع بينها و بين الصلاة، و قد تقدم نقله عن جامع المقاصد، كما حكي عن العلامة في نهاية الأحكام و الشهيد.

و منه يظهر أنه لا موقع للكلام في حكم الشك في حال الانقطاع و أنه للبرء أو للفترة،

ص: 271

______________________________

و إن تقدم أن مقتضي الأصل يختلف فيه باختلاف دليل القول بأن الانقطاع للفترة بحكم عدم الانقطاع. فراجع.

و علي هذا يجري جميع ما تقدم في الانقطاع للبرء من وجوب الوظيفة لو كان الانقطاع قبلها من غير فرق بين الغسل و الوضوء، و وجوب الصلاة لو كان الانقطاع بعد الشروع فيها قبل الفراغ من الصلاة، و صحة الصلاة الواقعة قبل الانقطاع مع وجوب تجديد الوظيفة لما بعدها. لكن قوي في الجواهر وجوب إعادة الصلاة هنا.

و هو لا يناسب ما تقدم منه في الانقطاع للبرء من عدم وجوب الإعادة. بل لعل الانقطاع للبرء أولي بوجوب الإعادة.

هذا، و قد صرح بوجوب انتظار الفترة في المنتهي و غيره. و هو مبني علي قصور إطلاق النصوص، لنظير ما تقدم في الانقطاع للبرء. و لازم ذلك وجوب خمسة أغسال في الكثيرة و المتوسطة لو كان لها خمس فترات تسع كل منها الغسل و صلاة واحدة، كما نبه له في العروة الوثقي و أمضاه غير واحد من محشيها.

و دعوي: أن انقطاع الدم لا يكون أشد حالا من الاستمرار. مدفوعة بأنه لا مانع من ذلك إذا كان التخفيف في صورة الاستمرار لتعذر الطهارة التامة و التشديد في صورة الانقطاع لتحصيلها، حيث تنصرف نصوص التخفيف عن الصورة المذكورة، لورودها مورد الاضطرار، و يرجع فيها للقواعد. و لذا يبني علي جواز الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد للمسلوس عملا بالنص، و وجوب إفراده كل صلاة بوضوء مع الفترة المضبوطة بالنحو المذكور هنا، لانصراف إطلاق النص عنها.

نعم، لو كان تحقق الفترة المضبوطة المعلومة شايعا في المستحاضة امتنع انصراف النصوص عنها و كان عدم التنبيه فيها لزيادة الغسل علي القدر المذكور في النصوص موجبا لظهورها في عدم وجوبه معها، لكنه غير ظاهر، بل غاية الأمر شيوع الفترة غير المعلومة أو غير المضبوطة. و لازم ذلك عدم وجوب تحري الفترة و الفحص عنها.

لخروجه عن المتعارف، نظير ما تقدم في حصول الانقطاع بعد الشروع في الوظيفة قبل

ص: 272

بل الأحوط ذلك أيضا إذا كانت الفترة تسع الطهارة و بعض الصلاة (1)،

______________________________

الفراغ من الصلاة. كما لا يجب تدارك الصلاة لو حصلت الفترة بعدها، نظير ما تقدم في الانقطاع للبرء.

كما أنه إذا كانت الفترة في غير وقت الصلاة لا يجب الزيادة علي الغسل الواحد في المتوسطة، كما لو انقطع الدم ضحي و رجع قبل الظهر، حيث لا يلزم من تجديد الغسل تحصيل الطهارة الاختيارية، فلا موجب لانصراف إطلاق الاجتزاء بالغسل الواحد عن ذلك، بل يجري فيه ما تقدم من لزوم كون الانقطاع أشد حالا من الاستمرار. أما انتظار الفترة المضبوطة في الوقت فلا موجب للبناء علي عدم وجوبه مع كونه مقتضي القاعدة في تحصيل الواجب الاختياري مع القدرة. فتأمل.

(1) تقدم عدم وجوب الإعادة مع سعة الفترة للطهارة و تمام الصلاة، فعدمه مع عدمها أولي، كما قطع به في الجواهر.

نعم، قد يدعي وجوب انتظار الفترة المذكورة مع ضبط وقتها، للاقتصار في الصلاة مع الحدث علي المتيقن، و هو الجزء الذي لا بد من وقوعه مع الحدث دون ما يمكن وقوعه منها بلا حدث أصلا. و هو الوجه في احتمال وجوب الإعادة لو قيل به مع سعة الفترة للطهارة و تمام الصلاة. لكن احتمال التفكيك بين أجزاء الصلاة في اعتبار الطهارة مما يغفل عنه العرف بعد ظهور دليل اعتبارها في الارتباطية، فلا ينصرف لأجله إطلاق النصوص. و لذا صرح غير واحد بعدم الاعتناء بالفترة المذكورة، بل نفي الإشكال فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه، كما قد يظهر من غيره المفروغية عنه.

هذا، و لو بني علي الاعتناء بالفترة المذكورة لزم ترجيح الفترة الأوسع التي تستوعب من أجزاء الصلاة الأكثر. كما أنه لو بني علي لزوم الإعادة بحصول الفترة المذكورة لزم إعادتها مرة أخري بحصول الفترة الأوسع، و لو لم تعلم سعة الفترة إلا بعد مضيها لزم إعادة الصلاة بعدها، لانكشاف بطلان الأولي المأتي بها قبلها و وقوعها في غير محلها، و كذا لو تسامحت في إعادة الصلاة فيها مع العلم من أول حدوثها

ص: 273

أو شك في ذلك (1)، فضلا عما إذا شك في أنها تسع الطهارة و تمام الصلاة، أو أن الانقطاع لبرء، أو فترة تسع الطهارة و بعض الصلاة (2).

______________________________

بسعتها. و كل ذلك مما يكاد يقطع بعدمه، لابتنائه علي تكلف و تعسف مغفول عنه، فعدم التنبيه عليه في النصوص مستلزم لظهورها في عدمه.

(1) بأن احتمل عدم إدراك شي ء من الصلاة و أن الفترة بقدر الطهارة أو تنقص عنها. و عدم وجوب الإعادة هنا أظهر، بل يكاد يقطع بعدمه، إذ قد يستلزم التكرار كثيرا، إذ قد تتكثر الفترات، و حيث لا يعلم بسعة الفترة إلا بعد انتهائها غالبا، يلزم التجديد في كل فترة، لاحتمال سعتها حين حدوثها، حتي تصادف الفترة التي تسع بعض الصلاة، بل أوسع الفترات، بناء علي ما أشرنا إليه من لزوم اختيارها.

هذا، و حيث عرفت عدم وجوب انتظار الفترة التي تسع بعض الصلاة فعدم وجوب انتظار الفترة التي يحتمل سعتها للبعض أظهر.

(2) حيث عرفت عدم وجوب الإعادة مع سعة الفترة للطهارة و تمام الصلاة فعدمه مع الشك في سعتها أولي. بل هو مما يكاد يقطع به، بلحاظ ما أشرنا إليه من استلزام الوجوب التكرار كثيرا لو تعدد الفترات حتي تصادف فترة واسعة، نظير ما سبق مع الشك في سعة الفترة لبعض الصلاة.

هذا، و حيث سبق وجوب انتظار الفترة مع سعتها فهل يجب انتظارها لو علم بوقتها مع الشك في سعتها أو لا؟ و جهان لا يبعد البناء علي وجوب الانتظار، اما مع الشك في مقدار الفترة و امتدادها فلاستصحاب انقطاع الدم، و أما مع تحديدها و الشك في مقدار زمن الطهارة و تمام الصلاة فللشك في القدرة علي الواجب الاختياري الذي يجب معه الاحتياط.

هذا، و في الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم أنها لا تعتني بالفترة حينئذ، للزوم الحرج و عموم النصوص. و يشكل بعدم ظهور الفرق في لزوم الحرج بين العلم بسعة

ص: 274

(مسألة 33): إذا علمت المستحاضة أن لها فترة تسع الطهارة و الصلاة وجب تأخير الصلاة إليها (1)، و إذا صلت قبلها بطلت صلاتها،

______________________________

الفترة و الشك فيها. و أما العموم فحيث فرض قصوره عن صورة وجود الفترة التي تسع الطهارة و تمام الصلاة فالتمسك به مع الشك في سعة الفترة من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

اللهم إلا أن يقال: لو كان الخارج هو مطلق الفترة التي تسع الطهارة و تمام الصلاة لزم كون عدم الإعادة مع عدم العلم بالفترة إلا بعد الصلاة ليس من باب إجزاء الامتثال، بل من باب إجزاء غير الواجب عن الواجب، و هو بعيد جدا. بل الظاهر كون الخارج خصوص الفترة المعلومة من أول الأمر.

و حينئذ يتردد الأمر بين كون الخارج هو مطلق الفترة المعلومة الحصول من أول الأمر و إن لم يعلم بمقدارها، و كونه خصوص الفترة المعلومة الحصول و المقدار معا من أول الأمر، فيلزم البناء علي الثاني اقتصارا في تخصيص العام علي المتيقن.

لكنه لا يخلو عن إشكال، خصوصا مع الشك في سعة الفترة، حيث يكون مقتضي الاستصحاب سعتها.

و قد تحصل من جميع ما سبق: أنه لا يجب الإعادة مع الانقطاع بعد الصلاة لبرء كان أو فترة، و إنما يجب انتظاره مع العلم به أو الظن و ضبط وقته و العلم بسعته للطهارة و تمام الصلاة أو الشك في سعته علي الكلام المتقدم، دون ما إذا علم بعدم سعته لذلك و علم بسعته للطهارة و بعض الصلاة، فضلا عما إذا شك حتي في ذلك.

مسألة 33: إذا علمت المستحاضة أن لها فترة تسع الطهارة و الصلاة وجب تأخير الصلاة إليها

(1) كما تقدم من المنتهي و غيره عند الكلام في حصول الانقطاع بعد الصلاة.

و تقدم الوجه فيه. بل تقدم في الانقطاع للبرء تعميمه للوثوق، بل الظن. كما أن مقتضي ما تقدم منه قدّس سرّه لزوم الاحتياط بانتظار الفترة لو كانت تسع بعض الصلاة لإتمامها، و إن سبق منا المنع منه.

ص: 275

و لو مع الوضوء و الغسل (1). و إذا كانت الفترة في أول الوقت فأخرت الصلاة عنها عمدا أو نسيانا عصت (2)، و عليها الصلاة بعد فعل وظيفتها (3).

(مسألة 34): إذا انقطع الدم انقطاع برء و جددت الوظيفة اللازمة لها لم تجب المبادرة إلي فعل الصلاة (4)، بل حكمها حينئذ حكم الطهارة في

______________________________

(1) أو الوضوء وحده لو كانت الاستحاضة بمرتبة لا تقتضي ما زاد عليه.

إلا أن ينكشف عدم تحقق الفترة بعد ذلك، حيث ينكشف مشروعية الصلاة لها بالوظيفة التي أتت بها معها. لكنه خلاف فرض العلم بتحقق الفترة الذي يختص بصورة الإصابة للواقع، و ليس كالقطع يشمل صورة الخطأ فيه، التي يكون معها جهلا مركبا.

(2) للزوم تحصيل الواجب الاختياري بعد فرض اختصاص تشريع الاضطراري بصورة تعذره، حيث لا يكون في عرضه حينئذ ليتخير بينهما، كما يتخير بين سائر أفراد الواجب التدريجية و منها القصر و التمام، بل يكون في طوله، فهو واجب عينا قبل تحقق الاضطرار، فلا يجوز التفريط فيه بإيقاع النفس في الاضطرار.

(3) لتمامية موضوع تشريعها بتحقق الاضطرار و إن كان مسببا عن تفريطها.

و مجرد عدم الاضطرار إليه في أول الوقت لا ينافي ذلك.

و إن شئت قلت: القدرة علي الواجب الاختياري في بعض الوقت إنما تمنع من تحقق موضوع الواجب الاضطراري ما دامت باقية و لو بتيسر الانتظار، لا بعد ارتفاعها و لو بالتفريط فيه، لإطلاق دليله. و لا سيما مع كثرة حدوث الاستحاضة في أثناء الوقت قبل الصلاة.

(مسألة 34): إذا انقطع الدم انقطاع برء و جددت الوظيفة اللازمة لها لم تجب المبادرة إلي فعل الصلاة

(4) لعدم الموجب لها حينئذ بعد عدم كونها مستحاضة و لا ذات حدث متجدد مستمر، فيقصر عنها ما دل علي وجوب التعجيل مما تقدم. و هكذا الحال في الفترة إذا

ص: 276

جواز تأخير الصلاة (1).

(مسألة 35): إذا اغتسلت ذات الكثيرة لصلاة الظهرين و لم تجمع بينهما عمدا أو لعذر وجب عليها تجديد الغسل للعصر (2)، و كذا الحكم في العشاءين.

______________________________

كان أكثر من مقدار الصلاة، حيث يجوز تأخيرها ما لم يلزم وقوع بعض الصلاة حال رجوع الدم.

و منه يظهر جواز التفريق بين الصلاتين لو انقطع قبل الغسل من الكثيرة للأولي. كما لا يجب تجديد الوضوء للثانية إذا لم يتخلل الحدث بينهما حتي لو قيل بوجوب تجديده مع استمرار الدم، لعدم الناقض لطهارتها بعد فرض انقطاع الدم قبل الطهارة للصلاة الأولي.

كما أنه يتعين في الفرض جواز القيام بالوظيفة قبل الوقت لو كان الانقطاع قبله، لاختصاص ما دل علي وجوب إيقاعها في الوقت بالمستحاضة ذات الدم، لا مطلق ذات حدث الاستحاضة، بل هو مستحب، لعموم ما دل علي استحباب الكون علي طهارة، مما تقدم التعرض له عند الكلام في استحباب الوضوء للكون علي طهارة.

(1) بل هي من أفرادها الحقيقية، لا التنزيلية الحكمية. و لذا ليس عليها القيام بالوظيفة فيما يأتي من الصلوات. و يأتي في المسألة السابعة و الثلاثين ما ينافي ذلك من الجواهر.

(مسألة 35): إذا اغتسلت ذات الكثيرة لصلاة الظهرين و لم تجمع بينهما عمدا أو لعذر وجب عليها تجديد الغسل للعصر

(2) لأنه مقتضي الأمر بالجمع بين الصلاتين في النصوص و الفتاوي، إذ بعد عدم حمله علي الأمر النفسي- لكون المنصرف في الأوامر الواردة في الماهيات التي تقبل الاتصاف بالصحة و الفساد بيان حدودها الشرعية من أجزائها و شرائطها- يتعين حمله علي الإرشاد لعدم الاعتداد بالغسل الواحد للصلاة الثانية مع التفريق، لعدم العفو عن زيادة الحدث الحاصل من التفريق، دون بيان شرطية الجمع في صحة كلتا الصلاتين، المستلزم لوجوب إعادة الظهر مع عدم الجمع، لعدم المنشأ الارتكازي لها،

ص: 277

(مسألة 36): إذا انتقلت الاستحاضة من الأدني إلي الأعلي- كالقليلة أو المتوسطة إلي الكثيرة، و كالمتوسطة إلي الكثيرة- فإن كان قبل الشروع في الأعمال فلا إشكال في أنها تعمل عمل الأعلي للصلاة الآتية (1). أما الصلاة التي فعلتها قبل الانتقال فلا إشكال في عدم لزوم إعادتها (2).

و إن كان بعد الشروع في الأعمال فعليها الاستئناف و عمل الأعمال

______________________________

ليناسب حمل الأمر المذكور عليه، بخلاف ما ذكرنا.

و لعله لذا صرح جماعة من الأصحاب بجواز التفريق مع تجديد الغسل للثانية، بل في جامع المقاصد و المدارك أنه قطعي، و تقدم عند الكلام في تثليث الأغسال للكثيرة عن المنتهي أنه أفضل، مع بيان وجهه. و ما في الرياض و طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه من التوقف في جواز التفريق مع تعدد الغسل في غير محله، سواء أريد به وجوب الجمع نفسيا أم لتوقف صحة كلتا الصلاتين عليه. و نسبته إلي من أطلق وجوب الجمع بغسل واحد في غير محله، بل المنصرف منه ما ذكرنا.

(مسألة 36): إذا انتقلت الاستحاضة من الأدني إلي الأعلي- كالقليلة أو المتوسطة إلي الكثيرة، و كالمتوسطة إلي الكثيرة

(1) لإطلاق دليلها. و قد تقدم في المسألة الثلاثين و الواحدة و الثلاثين ما ينفع في المقام. و لا مجال لتوهم لزوم أعمال الأدني أيضا لها، ليرتفع حدثه السابق بالإضافة لها. لاندفاعه بأن وظيفة الأعلي رافعة لحدث الادني، بناء علي ما تقدم من اندكاك وظيفة الأعلي في وظيفة الاعلي و إجزائها عنها.

و أما بناء علي عدمه- كما لو قيل بوجوب الوضوء لصلاة الصبح في المتوسطة دون الكثيرة- فلأن ابتناء دم الاستحاضة علي التدرج في الخروج كاشف عن سقوط وظيفة الأدني بحصول الأعلي، و إلا لزم الجمع بين وظيفتيهما دائما.

(2) لعدم الموجب له بعد ظهور كون الحدث المتجدد إنما يمنع من الصلاة الواقعة بعده دون الواقعة قبله. بل مقتضي إطلاق دليل الأدني صحتها بعد فرض القيام بوظيفته لها.

ص: 278

التي هي وظيفة الأعلي كلها (1). و كذا إذا كان الانتقال في أثناء الصلاة، فتعمل أعمال الأعلي (2) و تستأنف الصلاة (3)، بل يجب الاستئناف (4) حتي اذا كان الانتقال من المتوسطة إلي الكثيرة (5) فيما إذا كانت المتوسطة محتاجة إلي الغسل و أتت به، فإذا اغتسلت ذات المتوسطة للصبح ثم حصل الانتقال أعادت الغسل (6) حتي إذا كان في أثناء الصبح، فتعيد الغسل

______________________________

(1) لإطلاق دليلها. و تجتزئ بها عن إتمام وظيفة الأدني التي كانت مشغولة بها، لما ذكرناه من اندكاك وظيفة الأدني في وظيفة الأعلي، أو سقوطها بحصول الأعلي.

(2) لإطلاق دليلها.

(3) بناء علي بطلان الصلاة بالحدث في أثنائها، و إلا تعين البناء علي ما مضي من صلاتها و إتمامها بعد القيام بالوظيفة ما لم يحدث مبطل آخر، و تمام الكلام في ذلك في محله.

(4) يعني: استئناف الصلاة بعد القيام بوظيفة الأعلي لو حصل في أثنائها، فيدل علي لزوم وظيفة الأعلي لو حصل قبل الصلاة بالأولوية.

(5) كما هو الحال بالإضافة إلي صلاة الصبح لو حصلت المتوسطة قبلها، و لو حصلت بعدها يتم ذلك بالإضافة إلي أول صلاة بعد حدوثها. و أما لو حصلت الكثيرة في أثناء صلاة لا تحتاج للغسل في المتوسطة فالأمر أظهر.

(6) كما نص عليه في العروة الوثقي. و أقره جماعة من محشيها. قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لأن إتيانها به قبل حدوث الكثيرة لا يجدي في رفع أثرها، فلا بد من رفعه بإعمال مقتضاها و هو الغسل ثانيا».

و قد يقال: هذا إنما يتم مع انقطاع الكثرة قبل الغسل الثاني، حيث يلزم من الغسل الثاني الصلاة بطهارة تامة من حدث الكثير، أما مع استمراره- كما لعله الأظهر في محل الكلام- فحيث لا تختص حدثية دم الاستحاضة بحدوثه، بل تعم استمراره فاستئناف الغسل إنما يرفع الحدث السابق عليه، دون المقارن و اللاحق فالصلاة بعده

ص: 279

و الوضوء (1) و تستأنف الصبح (2). و إذا ضاق الوقت عن تجديد الغسل

______________________________

صلاة بحدث مستمر باستمرار جريان الدم من حين الشروع في الغسل إلي حين الفراغ منها. أما إكمال الصلاة بالغسل الأول المأتي به للمتوسطة في الفرض فهو لا يستلزم إلا الصلاة بحدث مستمر من أثناء الصلاة إلي الفراغ منها، و هو أقل من الحدث في فرض تجديد الغسل و أولي بأن يكون معفوا عنه، فيلزم المكلف اختيار الصلاة به.

لكنه يندفع بأن الحدث مع الصلاة بالغسل الأول و إن كان أقل من الصلاة بالغسل الثاني، إلا أن مقتضي إطلاق سببية الكثيرة للغسل العفو عن الثاني الأكثر دون الأول الأقل، و ليست الأولوية المذكورة ارتكازية عرفية ظاهرة بنحو تمنع من انعقاد الإطلاق المذكور، و لا عقلية قطعية بعد التأمل و النظر، ليلزم الخروج بها عن الإطلاق بعد انعقاده، لإمكان أن يكون للقيام بالوظيفة دخل في العفو عن الحدث إرفاقا و تخفيفا.

كيف و لازم ذلك عدم وجوب الغسل بحدوث الكثيرة حتي في أثناء الصلاة التي لا تقتضي المتوسطة الغسل لها، كالظهر لو وقع الغسل للصبح، بل حتي لو حدثت قبل الصلاة، فيجب المبادرة للصلاة ما لم يمض علي الدم زمان يساوي زمان الغسل.

كما يلزم ذلك في حدوث الكثيرة رأسا بعد النقاء، فتبادر للصلاة قبل مضي زمان الغسل لعين الوجه المذكور. و كذا في القليلة، فلا يجب الوضوء للصلاة بحدوثها، بل لو كانت علي وضوء فحدثت في أثنائها أتمتها، أو قبلها بادرت إليها ما لم يمض زمان يساوي زمان الوضوء. و لا يظن من أحد البناء علي ذلك، حيث يصعب جدا حمل إطلاقات أدلة وظائف المستحاضة علي صورة مضي زمان بقدر زمان الوظائف، كما لعله ظاهر.

(1) بناء علي وجوبه في الكثيرة.

(2) بناء علي بطلان الصلاة بالحدث في أثنائها، و إلا لزم البناء علي ما مضي منها نظير ما تقدم.

ص: 280

و الوضوء اقتصرت علي أحدهما و تيممت عن الآخر، و إذا قصر عنهما تيممت عن كل منهما (1) وصلت، و إذا ضاق الوقت عن ذلك أيضا فالأحوط الاستمرار علي عملها ثم القضاء (2).

(مسألة 37): إذا انتقلت الاستحاضة من الأعلي إلي الأدني استمرت علي عملها بالنسبة إلي الصلاة الأولي (3)، و تعمل عمل الأدني بالنسبة إلي

______________________________

(1) بناء علي عموم بدلية التيمم لضيق الوقت، علي ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّه تعالي. كما تتيمم لو تعذر عليها الغسل بسبب آخر، كالمرض و فقد الماء، بلا إشكال. لعموم دليل بدلية التيمم فيه. و ذلك كله لا يختص بمفروض الكلام، بل يجري في سائر موارد تعذر الوضوء أو الغسل للمستحاضة.

(2) المقام من صغريات فقد الطهورين، و يأتي منه قدّس سرّه في المسألة الواحدة و العشرين من مبحث التيمم لزوم الاحتياط فيه بالوجه المذكور، كما يأتي الكلام في وجهه إن شاء اللّه تعالي.

(مسألة 37): إذا انتقلت الاستحاضة من الأعلي إلي الأدني استمرت علي عملها بالنسبة إلي الصلاة الأولي

(3) لأن التبدل للأدني لا يوجب الطهر من حدث الأعلي، بل لا يرفعه إلا وظيفته. من دون فرق بين كون التبدل في وقت الصلاة الأولي و كونه قبله، علي ما تقدم الوجه فيه في أوائل المسألة الثانية و الثلاثين بعد الكلام في صورة انقطاع الدم رأسا. و لازم ذلك وجوب تجديد وظيفة الأعلي لو حصل التبدل للأدني بعد القيام بوظيفته قبل الفراغ من الصلاة، للزوم تخفيف الحدث، كما يلزم رفعه رأسا مع القدرة لانقطاع الدم، علي ما تقدم.

نعم، مما تقدم يظهر عدم وجوب الفحص عن تبدل الدم، لأن المتعارف هو المبادرة بعد الوظيفة للصلاة و إكمالها من دون فحص. بل قد يدعي عدم وجوب تجديد وظيفة الأعلي لو كان التبدل للأدني لفترة غير طويلة، لعدم ابتناء الاستحاضة الكثيرة علي الاستمرار، بل علي الصعود و النزول في دفعات غير مضبوطة غالبا. فتأمل.

ص: 281

الباقي (1)، فإذا انتقلت الكثيرة إلي المتوسطة أو القليلة اغتسلت و توضأت

______________________________

كما يظهر مما تقدم أن التبدل لو كان بعد الصلاة لم تجب إعادتها بالحدث الأخف في الوقت.

نعم، لا يبعد وجوب انتظار التبدل بها لو كان متوقعا، سواء كان بنحو لا يعود الأعلي، أم بنحو الفترة التي تسع الطهارة و تمام الصلاة. فراجع.

(1) لإطلاق دليل وظيفة الأدني و ظهور دليل وظيفة الأعلي في فرض بقائه أو عدم رفع حدثه، دون ما لو ارتفع و ارتفع حدثه بالقيام بوظيفته. و لعله لا إشكال فيه، بالنظر للنصوص و الفتاوي، و لذا قيد وجوب تثليث الأغسال باستمرار الكثرة في كلام بعضهم، و لم يظهر الخلاف فيه منهم، و إنما وقع الكلام في تحديد الاستمرار، علي ما أشرنا إليه آنفا.

لكن في الجواهر: «لو لا مخافة خرق ما عساه يظهر من الإجماع و تشعر به بعض الأخبار لأمكن القول بإيجابه الأغسال الثلاثة و إن لم يستمر لحظة بعد الغسل، للإطلاق المتقدم». و ظاهره و إن كان فرض انقطاع الدم، إلا أن مقتضي استدلاله شموله لصورة تبدله من الأعلي للأدني. و كأن مراده بالإطلاق مثل قوله عليه السلام في صحيح زرارة:

«فإن جاز الدم الكرسف تعصبت و اغتسلت ثم صلت الغداة بغسل و الظهر و العصر بغسل و المغرب و العشاء بغسل … » «1»، و في موثق سماعة: «المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين و للفجر غسلا … » «2»، لأن الفعل الماضي لا يقبل الاستمرار، بل يصدق مع عدمه.

و يندفع بأن الإطلاق المذكور لم يتضمن كون جواز الدم موجبا للأغسال الثلاثة لخصوص الصلوات الخمس لذلك اليوم أو لخمس صلوات بعده و لو من غير اليوم لو كان حدوثه بعد صلاة الصبح، فإن بني علي الجمود علي الإطلاق لزم الاستمرار علي ذلك مدي الشهور و الأيام، و إن بني علي ملاحظة المناسبات الارتكازية القاضية

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 6.

ص: 282

للظهر و اقتصرت علي الوضوء بالنسبة إلي العصر (1) و العشاءين (2).

______________________________

بتبعية الوظيفة للحدث المسبب عن السيلان لزم اختصاصه بخصوص السيلان الذي لم تتعقبه الوظيفة الرافعة لحدثه، و هو المتعين، كما ذكرنا، بل هو المقطوع به.

(1) لا يخفي أن الاقتصار علي الوضوء لها ليس أثرا للانتقال للأدني، بل هو المتعين علي مبناه قدّس سرّه حتي مع بقاء الاستحاضة علي الكثرة، بل أثر الانتقال للأدني أنها لو فصلت بينها و بين الظهر لم يجب تجديد الغسل لها، حيث تقدم وجوبه مع البقاء علي الكثرة.

و دعوي: أنه يجب تجديد الغسل لو انتقلت للمتوسطة، لأن غسل الظهر إنما يرفع حدث الكثيرة، و لا بد من رفع حدث المتوسطة قبل أول صلاة بعدها، و هي العصر في المقام.

مدفوعة بأن الانتقال للمتوسطة حيث فرض قبل الشروع في غسل الظهر أجزأ غسل الظهر لرفع حدثي الكثيرة و المتوسطة، لتداخل الأغسال. بل لو كان الانتقال بعد الغسل تعين إجزاؤه للعصر، لأن إجزاءه لها مع بقاء الكثرة يقتضي إجزاءه لها مع الانتقال للتوسط بالأولوية، و لا سيما مع ما أشرنا إليه آنفا من ابتناء الاستحاضة الكثيرة غالبا علي الصعود و النزول دون الاستمرار علي نحو واحد، خصوصا بتبديل الكرسف.

و من هنا لا يبعد عدم وجوب الغسل للعصر لو انتقلت قبل غسل الظهر للقليلة و ارتفعت بعده للمتوسطة. نعم، يتجه الغسل للعشاءين. فتأمل.

ثم أن وجوب الوضوء للعصر في فرض الانتقال للمتوسطة أو القليلة لا يتم بناء علي ما سبق منا من عدم وجوب الوضوء في المتوسطة و القليلة للصلاتين الواقعتين بعد الغسل. إلا أن تخل بالمبادرة فيجب تجديد الوضوء، لاختصاص الإجزاء عنه بصورة عدم الفصل، كما تقدم. فراجع.

(2) حيث لا إشكال في وجوب الوضوء لهما و إجزائه بعد فرض الانتقال

ص: 283

(مسألة 38): قد عرفت أنه يجب عليها المبادرة إلي الصلاة بعد الوضوء و الغسل (1). لكن يجوز لها إتيان الأذان و الإقامة (2) و الأدعية

______________________________

للمتوسطة أو القليلة قبل غسل الظهر، كما يظهر مما سبق.

مسألة 38: ما يستثني من وجوب المبادرة

(1) لم يسبق منه التعرض لذلك. نعم، قد يستفاد من ذكره لزوم الجمع بين الصلاتين في الكثيرة، كما قد يستفاد مما سبق في المسألة الرابعة و الثلاثين من عدم وجوب المبادرة علي من قامت بالوظيفة بعد الانقطاع للبرء. و قد تقدم منا التعرض له و لدليله عند الكلام في أحكام أقسام المستحاضة الثلاثة. كما تقدم عدم وجوب المبادرة للصلاة الأولي بعد غسل المتوسطة، غايته أن غسلها لا يجزئ عن الوضوء لها مع عدم المبادرة.

(2) كما قطع به في محكي الذكري، و في المدارك: «و لا يقدح في ذلك الاشتغال بنحو الاستقبال و الأذان و الإقامة من مقدمات الصلاة» و نحوه في جامع المقاصد مضيفا إليه الستر، و مثله في الروض إلا أنه عبر بتحصيل القبلة، الذي لا يبعد كون المراد به الفحص عنها عند الجهل بها الذي هو الظاهر من الاجتهاد فيها الذي حكي عن نهاية الأحكام جوازه، و عن غير واحد إطلاق جواز الاشتغال بمقدمات الصلاة، و زاد عليها في الدروس و محكي نهاية الأحكام انتظار الجماعة.

و الذي ينبغي أن يقال: لا ينبغي التأمل في جواز ما يتعارف وقوعه من كل فصل، كالأذان و الإقامة، لأن تعارف وقوعه موجب للغفلة عن مانعيته، فعدم التنبيه علي مانعيته موجب لظهور إطلاق النصوص في جوازه و عدم نهوض قرينة الاضطرار بالمنع عنه.

و كذا ما يتعارف وقوعه من خصوص الاستحاضة و يحتاج تجنبه إلي عناية كتنشيف البدن و الانتقال للمصلي من المتوضأ و المغتسل و لبس الساتر و الاستقبال و نحوها، للوجه المذكور أيضا.

و أما مثل تحري القبلة و انتظار الجماعة إذا اقتضي زمانا معتدا به فلا يخلو جوازه

ص: 284

المأثورة (1) و ما تجري العادة بفعله قبل الصلاة، أو يتوقف فعل الصلاة علي فعله و لو من جهة لزوم العسر و المشقة بدونه (2)، مثل الذهاب إلي

______________________________

عن إشكال بل لا يبعد عدم جوازه، كما قد يظهر من الخلاف، لعدم تعارفه لا من مطلق المصلي و لا من خصوص المستحاضة، و لا سيما ما تضمنه جملة من النصوص من المحافظة علي الوقت الفضيلي في الصلاتين بتأخير الأولي و تقديم الثانية، لعدم تعارف حصول الجماعة بالنحو المذكور.

(1) بالمقدار المتعارف الذي هو لا يحتاج إلي زمان معتد به ظاهرا، أما ما زاد عليه فلا يخلو عن إشكال.

(2) الظاهر أن المعيار علي المتعارف، كما لو أمكنت الصلاة قريبا من المتوضأ أو المغتسل و كان ما تسجد عليه في متناول يدها، لا يخل الفصل المذكور، و لا تكلف بالوضوء أو الغسل في مكان الصلاة بعد تهيئة ما تسجد عليه، و لا يكفي مطلق المشقة، كما لو لم يتيسر لها ذلك و احتاج الانتقال للمصلي و تهيئة ما تسجد عليه أو تتستر به إلي زمان طويل، بل الظاهر أنه يكون بحكم تعسر الغسل أو الوضوء الذي ينتقل معه للتيمم، لمنافاة ذلك للمبادرة التي يظهر من الأدلة اعتبارها.

نعم، في صحيح معاوية بن عمار: «فإذا جازت أيامها و رأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر و العصر … و تضم فخذيها في المسجد و سائر جسدها خارج.. و إن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت و دخلت المسجد و صلت كل صلاة بوضوء» «1». و ظاهره جواز ذهابها للمسجد و إطلاقها شامل لصورة بعد المسجد و احتياج المضي إليه إلي زمان طويل، فيجوز و لو لم يلزم العسر في الصلاة في غيره.

اللهم إلا أن يمنع ثبوت الإطلاق له، لعدم وروده لبيان جواز الذهاب للمسجد، بل لكيفية الصلاة فيه في صورتي الاستحاضة، مع المفروغية عن الذهاب له، فيقتصر علي المتيقن منه الذي يناسبه وضع المستحاضة، و هو صورة قربه و عدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب المستحاضة حديث: 1.

ص: 285

المصلي و تهيئة المسجد و نحو ذلك، و كذلك يجوز لها الإتيان بالمستحبات في الصلاة (1).

(مسألة 39): يجب عليها التحفظ من خروج الدم (2) بحشو الفرج

______________________________

منافاته للتعجيل.

علي أنه قد يحمل المسجد علي محل الصلاة و السجود في البيت، لا علي المسجد المعروف، لوضوح أن الوضع الذي تضمنه صدر الحديث إنما يتيسر في الجلوس في محل السجود في البيت، بأن ترفع فخذيها و تضمهما لصدرها، و تجلس علي عجيزتها، فيخرج بدنها عن محل السجود، و لا يتيسر في المسجد المعروف إلا بجلوسها علي حافة الباب، الذي هو كالمتعذر في حقها.

و ليس المقصود منه تجنب جلوسها في المسجد بسبب الحدث، كي يناسب المسجد المعروف، دون محل الصلاة، بل تجنب خروج الدم بتخفيف الضغط علي الرحم بسبب الجلوس علي العجيزة و منع خروج الدم بضم الفخذين للصدر، بخلاف ما لو جلست علي قدميها، حيث ينبت القدمان في الحوض، فيضغط الرحم بثقل البدن، من دون أن يمنع الدم بضم الفخذين. فتأمل.

(1) للإطلاق بعد عدم صلوح قرينة الاضطرار للتقييد بسبب الغفلة عن ذلك. لكن المتيقن منه ما لا يحتاج إلي زمان طويل دون غيره، لعدم تعارفه عند عامة المصلين و نحوه في ذلك التطويل في نفس أجزاء الصلاة باختيار السور الطوال غير المتعارفة، خصوصا ما زاد عما ورد استحبابه بالخصوص. فلاحظ.

مسألة 39: يجب عليها التحفظ من خروج الدم
اشارة

(2) كما هو ظاهر الفقيه و المقنع و صريح المعتبر و التذكرة و المنتهي و الدروس و الروض و المدارك و محكي التلخيص و التحرير و نهاية الأحكام و البيان، و نفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه، و قد يظهر مما ذكروه من وجوب تغيير الخرقة- الذي ادعي عليه الإجماع في ظاهر كلام جماعة- المفروغية عنه. فتأمل.

ص: 286

بقطنة و شده بخرقة و نحو ذلك (1)، فإذا قصرت و خرج الدم أعادت الصلاة (2). بل الأحوط إعادة الغسل (3)، و إن كان العدم أقرب (4).

______________________________

بل قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «نسبه إلي ظاهر الأصحاب جماعة، بل قيل: إن الإجماع عليه ما بين ظاهر و صريح مستفيض». و يقتضيه النصوص الكثيرة الآمرة بالاستثفار و التعصب و نحوهما.

(1) لعل منه تجنب بعض الحركات و أنحاء الجلوس الموجبة لخروج الدم، كما أشير إليه في صحيح معاوية المتقدم.

(2) لا يخفي أن ظاهر نصوص المقام كون الأمر بالتحفظ لتجنب خروج الدم، و مقتضي سوقه في مقام بيان وظيفة المستحاضة كونه بلحاظ مانعيته شرعا، لا لكونه مرغوبا عنه للمرأة، لعدم كون بيانه حينئذ وظيفة للشارع، و لا لحرمته نفسيا، لابتناء وظيفة المستحاضة علي كون الغرض منها تصحيح الصلاة و بيان ما يعتبر فيها. و لازم ذلك كون بطلان الصلاة بدونه متيقنا، إما لمبطليته لها رأسا، أو لمبطليته للطهارة التي هي شرط فيها.

و أما الاستدلال علي مبطليته للصلاة بالقاعدة، لمانعية النجاسة من الصلاة.

فهو- مع توقفه علي مانعية الدم المذكور، إما للبناء علي عدم العفو عن دم الاستحاضة مطلقا و لو في المحمول، أو لفرض إصابته البدن أو الثوب بمقدار الدرهم- إنما يتم مع العلم بخروجه حين الصلاة، للعفو عن النجاسة مع الجهل بها حين الصلاة، و عدم وجوب التحفظ منها قبلها إذا لم تكن معلومة.

(3) بل جزم بوجوبه في الروض و الحدائق و محكي نهاية الأحكام و الذكري، و يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه الميل إليه، و في كشف اللثام أنه لو خرج الدم بعد الوضوء بطل.

(4) كما مال إليه في الجواهر. قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لأن سوق الأمر

ص: 287

______________________________

به مساق الأمر بالوضوء و الغسل يقتضي كونه شرطا للصلاة لا غير. مع أن إجمال النصوص في ذلك موجب للرجوع إلي استصحاب عدم الانتقاض».

لكنه يشكل بعدم صلوح السياق المذكور للقرينية علي ذلك بعد كون شرط الطهارة شرطا للصلاة أيضا. و لا سيما مع ظهور دليل التعجيل بالصلاة في الاهتمام بتقليل الدم، بنحو يلزم إعادة الطهارة بدونه. بل لما كان ظاهر الأمر بالتحفظ قدح خروج الدم فمقتضي إطلاقه قدحه و لو خرج قبل الصلاة و لازمه بطلان الطهارة به.

و من هنا كان بطلان الطهارة به مقتضي ظاهر النصوص.

علي أنه لو فرض إجمالها من هذه الجهة فلا مجال لاستصحاب عدم الانتقاض، للقطع بالانتقاض بناء علي ما تكرر من كون المستحاضة مستمرة الحدث، و أن جواز الصلاة لها مع القيام بالوظيفة ليس لعدم ناقضية خروج الدم بعدها لها، بل للعفو عن الحدث و الاكتفاء بتخفيفه. و حينئذ يلزم الاقتصار في العفو علي المتيقن، و هو ما لا يمكن تجنبه، دون ما يخرج بسبب عدم التحفظ. و ما في الجواهر من أن مقتضي النصوص العفو عن حدثيته بعد الطهارة، غير مسلم علي إطلاقه.

نعم، قد يدعي أن جملة من نصوص المستحاضة و إن اشتملت علي التحفظ، إلا أنه اقتصر في جملة منها علي الوضوء و الغسل، و مقتضي إطلاق هذه الطائفة عدم وجوب التحفظ من خروج الدم و عدم مبطليته لا للطهارة و لا للصلاة، فمع فرض إجمال نصوص التحفظ و ترددها بين مبطليته للطهارة و مبطليته للصلاة فقط يتعين البناء علي الثاني اقتصارا في الخروج عن الإطلاق المذكور علي المتيقن.

اللهم إلا أن يقال: إن ما تضمن الاقتصار في بيان الوظيفة علي الوضوء و الغسل لما كان واردا لبيانها مقدمة للصلاة، فهو في مقام بيان شرط الصلاة فإطلاقه إنما ينعقد من حيثيتها، دون حيثية الطهارة بنفسها مع قطع النظر عنها، ليمكن الرجوع له في فرض إجمال نصوص التحفظ. علي أنه قد يمنع انعقاد الإطلاق لنصوص الاقتصار المذكورة، لانصرافها إلي صورة التحفظ، لأنه المتعارف، و لارتكاز ناقضية خروج

ص: 288

______________________________

الدم المقتضي للاقتصار في العفو عنه علي ما لا بد منه. فتأمل.

هذا كله إذا لم يلزم من الاستيثاق بعد خروج الدم ثم الصلاة بعده الاخلال بالموالاة المعتبرة، أما لو أخل بها- كما لو خرج بنحو يحتاج إلي التطهير، أو في آخر الصلاة أو نحو ذلك- فلا ينبغي الإشكال حينئذ في بطلان الطهارة من هذه الجهة.

بقي في المقام أمور..
الأول: قد يستفاد من إطلاقهم وجوب التحفظ في جميع أقسام المستحاضة و عدم اختصاصه بالكثيرة،

بل قد يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عنه، و أن الكلام إنما هو في وقته، علي ما يأتي في الأمر الثاني. لكن لا يبعد عدم وجوبه في القليلة، بمعني عدم قدح زيادة الدم ما لم يبلغ الثقب. لخلو نصوصها و نصوص الصفرة علي كثرتها عن التعرض له، و ورود نصوص التحفظ في غيرها. بل هو الظاهر من صحيح معاوية بن عمار المتقدم عند الكلام في إخلال الخروج إلي المسجد بالمبادرة، لأن التعرض فيه للكثيرة و القليلة، و تضمنه التحفظ في الأولي دون الثانية ظاهر في عدم وجوبه فيها.

نعم، تضمن صحيح الصحاف «1» الأمر به عند الغسل من الحيض من دون تفصيل بين الأقسام، و في خبر زرارة: «ثم هي مستحاضة فلتغتسل و تستوثق من نفسها و تصلي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ [يثقب] الدم، فإذا نفذ اغتسلت و صلت» «2»، و هو ظاهر في القليلة. لكن لا يبعد حمل الأول علي كون الاستيثاق لاحتمال الكثرة الذي تضمن الفحص عنها بعد الصلاتين الأوليين، و الثاني علي كون الاستيثاق للإرشاد إلي تجنب نفوذ الدم الموجب للغسل لا إلي تجنب زيادته من دون أن ينفذ. كما قد يحمل عليه ما تضمنه بعضها «3» من وضع الكرسف، و إلا فالكرسف وحده لا يمنع زيادة خروج الدم في ضمن عدم بلوغ مرتبة الثقب.

كما لا يبعد أيضا عدم وجوب التحفظ في المتوسطة، لاختصاص نصوصه بالكثيرة بقرينة اشتمالها علي حكمها. بل قد يظهر من صحيح زرارة عدمه فيها،

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7، 9، 8، 10، 12.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7، 9، 8، 10، 12.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7، 9، 8، 10، 12.

ص: 289

______________________________

لقوله عليه السلام فيه: «تقعد بقدر حيضها و تستظهر بيومين، فإن انقطع الدم، و إلا اغتسلت و احتشت و استثفرت [و استذفرت] و صلت، فإن جاز الدم الكرسف تعصبت و اغتسلت ثم صلت الغداة بغسل و الظهر و العصر بغسل و المغرب و العشاء بغسل، و إن لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد» «1».

لأن التعرض في ذيله للتعصب في الكثيرة دون المتوسطة ظاهر في التفصيل بينهما فيه، و يحمل ما في صدره من إطلاق الأمر بالاستثفار علي الصلاتين الأوليين بعد غسل النفاس، لاحتمال الكثرة، نظير ما تقدم في صحيح الصحاف. فتأمل.

نعم، لو لزم من عدم التحفظ في القليلة و المتوسطة انتقال الاستحاضة للمرتبة العليا فلا إشكال في ترتب حكمها، كما تقدم حمل بعض النصوص عليه.

الثاني: بناء علي مبطلية خروج الدم بسبب عدم التحفظ للصلاة دون الطهارة يتعين اختصاص التحفظ بحال الصلاة،

كما قد يظهر من الجواهر. و أما بناء علي ما تقدم منا من مبطليته للطهارة أيضا فاللازم عدم اختصاصه بحال الصلاة. و لذا حكي عن بعضهم لزوم تقديمه علي الوضوء في القليلة و المتوسطة بالنسبة إلي غير الغداة، بناء منهم علي عموم وجوب التحفظ لهما.

بل ظاهر المفيد تقديمه حتي علي الغسل، حيث قال في المقنعة: «و إن كان الدم كثيرا فرشح علي الخرق و سال منها وجب عليها أن تؤخر صلاة الظهر عن أول وقتها ثم تنزع الخرق و القطن و تستبرئ بالماء و تستأنف قطنا نظيفا و خرقا طاهرة تتشدد بها و تتوضأ وضوء الصلاة ثم تغتسل … ». لكنه كما تري، لأن الغسل حال التشدد بالخرق كالمتعذر بعد وضوح عدم إرادة الانغماس في الماء أو ما يشبهه ليستنقع الشداد به و يصل للبشرة، لما يستلزمه من تنجس الماء المستنقع فيه بالدم، و تنجس البدن به بعد ذلك فلا يتيسر الصلاة به، خصوصا مع المحافظة علي المبادرة.

علي أن النصوص لا تقتضي ذلك عدا ما قد يشعر به تأخير الغسل عن التعصب

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 290

______________________________

في صحيح زرارة المتقدم، المعارض بتقديمه علي الاحتشاء و الاستثفار في صدره و في غيره من النصوص. بل في صحيح الصحاف: «فلتغتسل ثم تحتشي و تستذفر» «1» و في حديث عبد الرحمن: «فلتغتسل ثم تضع كرسفا آخر» «2». و من ثم قال بعضهم فيما حكي عنه: «ان قضية الأخبار و كلام الأخيار كون الاستظهار بعد الغسل».

نعم، قال في الجواهر: «و مع ذلك فإيجابه محل نظر، لأولوية فعله في أثناء الغسل عليه بعده، و لانصراف الذهن إلي عدم إرادة الإيجاب من ذلك، بل هو لغلبة حصول مشقة الغسل في الأثناء … ». و ما ذكره غير بعيد، و إن كان الظاهر أن تأخير الغسل عن الاستظهار أقرب للتعذر منه للمشقة. و أن ما ذكره قدّس سرّه بعد ذلك من وضوح منع تعذره ممنوع.

و كيف كان، فمقتضي ما تقدم وجوب المبادرة للتحفظ بعد الغسل بالوجه المتعارف.

الثالث: قرب في الروض و محكي الذكري وجوب التحفظ من الدم علي الصائمة في تمام النهار،

بناء علي توقف الصوم علي الغسل، و عن نهاية الأحكام القطع به قال في الروض: «لأن تأثير الخارج في الغسل و توقف الصوم عليه يشعر بوجوب التحفظ كذلك»، و قال في محكي الذكري: «لأن توقف الصوم علي الغسل يشعر بتأثره بالدم».

لكن لا مجال له بناء علي عدم مبطلية الدم للطهارة. بل و كذا بناء علي مبطليته لها، لأن ظاهر النص الآتي التوقف علي الغسل بالنحو الذي يعتبر في الصلاة دون ما زاد علي ذلك، و إلا لاحتاج إلي تنبيه. بل لعل السيرة علي خلافه. و غاية ما يقتضي ذلك توقف صحة الصوم علي التحفظ بالمقدار الذي يتوقف عليه صحة الصلاة.

بل حيث كان مفاد النص الآتي وجوب القضاء علي من لم تغتسل، لا علي من لم تصح منها الصلاة فلا يبعد البناء علي عدم اعتبار التحفظ في الصوم أصلا، لأن اعتباره في الصلاة ليس لعدم صحة الغسل و قصور في تأثيره، بل لظهور نصوصه في

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

ص: 291

______________________________

عدم العفو في الصلاة عن الحدث الزائد بزيادة خروج الدم، المناسب لعموم اعتبار الطهارة فيها، و لم يثبت ذلك في الصوم، كما لا عموم لاعتبار الطهارة فيه. و لذا قد يلتزم بصحته مع بطلان الصلاة بالإخلال بالمبادرة، أو لخلل آخر في نفس الصلاة.

بل لعله لا إشكال فيه بينهم، حيث يبعد جدا بناؤهم علي بطلان الصوم لو انكشف بعد خروج الوقت بطلان الصلاة بزيادة ركن مثلا مع فرض الغسل لها. فلاحظ.

الرابع: النصوص و إن اشتملت علي الاستثفار و الاستذفار و التلجم و التعصب و ضم الفخذين و الاستيثاق، إلا أن الظاهر رجوع الجميع للأخير من دون خصوصية لها

لأنه الأثر المقصود منها، بل لو فرض عدم دخلها في منع خروج الدم لم يجب شي ء منها.

نعم، قد لا يناسب ذلك الاستذفار الوارد منفردا في صحيح الصحاف «1»، و نسخة في صحيح الحلبي و زرارة «2»، حيث فسر في ذيل صحيح الحلبي بالتطيب و الاستجمار بالدخنة و غير ذلك. لكن الظاهر أنه من الكليني، لا من تتمة الحديث.

و لم أعثر علي شاهد له في كلام اللغويين، فإنه و إن ذكر غير واحد منهم أن الذفر شدة الرائحة، إلا أنهم لم يذكروا الاستذفار بالمعني المذكور، بل في لسان العرب و غيره: «و استذفر بالأمر اشتد عزمه عليه و صلب له». و حمله علي ما يناسب المقام غير بعيد و إلا تعين حمله علي الاستحباب، لعدم مناسبته لكثرة الدم، و إهمال الأصحاب له في جملة الوظائف بل لعل ذلك يجري أيضا في ضم الفخذين الذي تضمنه صحيح معاوية بن عمار «3» المتقدم، لإهمالهم له مع احتياجه للتنبيه لو كان واجبا. و لا سيما مع إهماله في بقية النصوص مع ظهور بعضها- كمرسلة يونس «4» و صحيح الصحاف «5» - في فرض كثرة الدم بمرتبة شديدة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7، 2، 5، 1.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 5، ص: 292

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7، 2، 5، 1.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7، 2، 5، 1.

(4) الوسائل باب: 8 من أبواب الحيض حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 7.

ص: 292

مسألة 40: جملة من أحكام المستحاضة
صوم المستحاضة
اشارة

(مسألة 40): الظاهر توقف صحة الصوم من المستحاضة علي فعل الأغسال النهارية في الكثيرة (1)

______________________________

(1) هذا الحكم في الجملة معروف بين الأصحاب، و به صرح في صوم المبسوط و النهاية و المعتبر و المنتهي، و في السرائر و الشرائع و النافع و التذكرة و القواعد و الإرشاد و المختلف و الدروس و ظاهر الفقيه، بل و الكافي و عن ابن الجنيد و التحرير و نهاية الأحكام و الموجز و شرحه و الجعفرية و غيرها.

و ربما يكون تركه في كلام بعضهم ليس للخلاف فيه، بل للاكتفاء بما ذكروه تصريحا و تلويحا من توقف كونها بحكم الطاهر علي الوظائف المذكورة مع مفروغيتهم عن توقف الصوم علي الطهارة في الجملة.

و لعله لذا كان ظاهر بعض كلماتهم المفروغية عنه، و استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، و نفي في الجواهر وجدانه، كما نسبه إلي مذهب الأصحاب في المدارك و محكي الذخيرة و شرح المفاتيح، بل صرح بالإجماع عليه في جامع المقاصد و الروض و محكي حواشي التحرير و منهج السداد و الطالبية و اللوامع.

و اقتصر في مبحث الاستحاضة من المبسوط علي نسبته إلي رواية أصحابنا، و قد استظهر غير واحد منه التردد فيه، كما يستظهر أيضا من المعتبر و المنتهي في المبحث المذكور، لاقتصارهما علي نقل كلامه، و في المدارك و البحار و الحدائق أنه في محله، كما يظهر التردد أيضا من كشف اللثام و الحبل المتين و محكي شرح الإرشاد للأردبيلي و مما عن جماعة من متأخري المتأخرين من تأويل الحديث الآتي بما لا يناسب الحكم المذكور مع انحصار دليله به.

هذا، و يدل علي الحكم المذكور صحيح علي بن مهزيار: «كتبت إليه امرأة طهرت من حيضها أو دم نفاسها في أول يوم من شهر رمضان، ثم استحاضت فصلت و صامت شهر رمضان كله من غير أن تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكل صلاتين، هل يجوز صومها و صلاتها أم لا؟ فكتب: تقضي صومها و لا تقضي

ص: 293

______________________________

صلاتها، لأن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم كان يأمر فاطمة عليها السلام و المؤمنات من نسائه بذلك» «1».

و لعله هو المراد برواية أصحابنا التي سبق ذكرها من المبسوط، إذ لم يذكر في كلماتهم غيره، و لا يضر إضماره بعد كون رواية مثل ابن مهزيار ممن يعلم أنه لا يروي عن غير الإمام، خصوصا مع ظهور رواية قدماء الأصحاب له و إيداعهم إياه في كتب الحديث و استدلالهم به في المفروغية عن كونه من أحاديثهم عليهم السلام.

و قد أورد علي الاستدلال به بوجهين آخرين.

أحدهما: اشتماله علي أمر فاطمة عليها السلام بذلك مع تظافر نصوص الخاصة و العامة بأنها لم تر حمرة قط في حيض و لا نفاس و مع ما هو المعلوم من عدم اخلالها بوظيفة مشروعة. و أما حملها علي فاطمة بنت أبي حبيش المعروفة بكثرة ابتلائها بالاستحاضة، و فيها جرت سنتان من سننها الثلاث التي تضمنتها مرسلة يونس الطويلة «2». فهو بعيد عن ظاهر إطلاق هذا الاسم، و لا سيما مع إلحاقه بالصلاة و السلام عليها.

نعم، في الوسائل و الحدائق و غيرهما أن ذلك مختص برواية الكافي و التهذيب و أنه روي في الفقيه و العلل خاليا عن ذكر اسمها عليها السلام، بل فيهما: «لأن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم كان يأمر المؤمنات من نسائه بذلك». و هو لو تم كفي في دفع الإشكال، لسقوط رواية الكليني و الشيخ بالمعارضة لرواية الصدوق، و قد تحقق في محله عدم الترجيح لنسخة الزيادة.

إلا أن الموجود في الطبعة الحديثة للفقيه موافق لرواية الكافي و التهذيب، و مقتضي ذلك التعارض بين روايتي الصدوق في كتابيه المسقط لهما عن الحجية و انفراد رواية الكافي و التهذيب بها. لكن حيث كان الموجود في بعض طبعاته القديمة كما نقله عنه الجماعة الذين لا يقصر نقلهم عن بعض النسخ فغاية الأمر اختلاف نسخ الفقيه المسقط لها عن الحجية، فلا تنهض بمعارضة رواية العلل، و لا سيما مع اختلاف سندها عن سند الفقيه، بل تنهض رواية العلل بمعارضة رواية الكافي و التهذيب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 4 و باب: 5 منها حديث: 1.

ص: 294

______________________________

و لعل الأولي دفع الإشكال- مضافا إلي أن سقوط التعليل لا يمنع من الاستدلال بأصل الجواب- بأن أمرها عليها السلام بذلك ليس لعمل نفسها، بل لتعليم غيرها. كما ورد نظيره في صحيح زرارة الوارد في قضاء الحائض الصوم دون الصلاة علي بعض نسخه «1». كما قد يحمل عليه أمره صلّي اللّه عليه و آله و سلم لنسائه بذلك، لظهوره في أمرهن كلهن أو أكثرهن به و لم يعرف ابتلاؤهن كذلك بالاستحاضة، فضلا عن أن لا يؤدين وظيفتها، و هن في ظل صاحب الشريعة صلّي اللّه عليه و آله و سلم.

ثانيهما: ما تضمنه من قضاء الصوم دون الصلاة، مع ظهور عدم بناء الأصحاب علي ذلك، بل العكس هو الأنسب بعموم شرطية الطهارة في الصلاة، و استثنائها من عموم: «لا تعاد الصلاة» «2»، و بعدم عموم شرطيتها في الصوم، فلا يبطل بحدث مس الميت مطلقا، و لا بتعمد البقاء علي الجنابة إذا لم يتعمد إحداثها في أثناء النهار، و لا بالبقاء عليها عند طلوع الفجر لا عن عمد.

و في التهذيب بعد ذكر الصحيح: «إنما لم يأمرها بقضاء الصلاة إذا لم تعلم أن عليها لكل صلاتين غسلا، و لا تعلم ما يلزم المستحاضة، فأما مع العلم بذلك فالترك له علي العمد يلزمها القضاء».

لكنه- مع بعد البناء عليه بالنظر لاستثناء الطهارة من عموم: «لا تعاد»، و لظاهر حال الأصحاب- إن رجع إلي حمل قضاء الصوم فيه علي ما يعم الصورة المذكورة لزم أشدية الصوم من الصلاة بالإضافة للطهارة، و قد سبق عدم مناسبتها لما سبق، و إن رجع إلي حمل قضائه علي خصوص صورة تعمد ترك الأغسال مع العلم بوجوبها لزم التباين بين موضوعي التفصيل بين الصوم و الصلاة، فيكون التفصيل المذكور فيه موضوعيا مع اتفاقهما في الحكم، و لا مجال لحمل الصحيح عليه، بل هو تعسف يهون دونه طرح الحديث، لأنه من المشكل. كما ذكره في الجملة سيد المدارك و غيره.

هذا، و قد ذكر غير واحد أن تعذر العمل ببعض فقرات الحديث لا يقتضي

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض حديث: 2.

(2) الوسائل كتاب الصلاة باب: 1 من أبواب الركوع حديث: 5.

ص: 295

______________________________

رفع اليد عنه رأسا بل يبقي حجة فيما يمكن البناء عليه منها. قال في الجواهر: «إذ هو بمنزلة أخبار متعددة، فلا يبعد و هم الراوي في بعض دون بعض سيما في مثل الكتابة التي هي مظنة ذلك».

لكن ذلك إنما يتجه مع عدم الارتباط بين الفقرات. و ليس هو لكونها بمنزلة أخبار متعددة، بل لأن سقوط الفقرة عن الحجية ليس لانكشاف كذب الراوي، بل لمانع يكشف عن كذب الظهور، لخطأ الراوي و وهمه- كما تقدم من الجواهر- و لو بإغفاله القرينة، أو لخلل في الجهة، بحيث لا يكون الغرض من الكلام بيان الواقع، و لا تلازم بين الفقرات في جريان أصالتي الجهة و عدم الخطأ بعد فرض عدم الارتباط بينها.

أما مع الارتباط عرفا بينها فيشكل بناء العرف و العقلاء علي التفكيك بينها في جريان الأصلين. و لا يبعد كون المقام منه عرفا، حيث قد يستفاد من الصحيح عرفا سوق الجواب لبيان التفصيل بين الصوم و الصلاة، لا مجرد بيان حكم كل منهما علي استقلاله.

و لا سيما مع التعليل بأمر النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم بذلك الظاهر أو المشعر بأن ذكره لدفع استغراب التفصيل به و توهم أولوية الصلاة بالقضاء، و لبيان أن المعيار في الأحكام الشرعية علي التعبد، لا علي الاستحسانات، كما يظهر من ملاحظة التعليل بذلك في قضاء الحائض الصوم دون الصلاة و الردع عن القياس فيه «1». و إلا فمعلومية متابعتهم عليهم السلام للنبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في الأحكام تغني عن تنبيههم عليهم السلام لصدور الحكم منه صلّي اللّه عليه و آله و سلم لو كان الغرض منه محض الاستدلال علي كل من الحكمين علي حياله و استقلاله. بل لعل الأنسب بمقامهم عليهم السلام بيان العلل الأخري الخفية التي يختصون بعلمها.

و لو غض النظر عن ذلك فحيث كانت أصالة عدم الخطأ من الأصول العقلائية العرفية فالمرجع في تحكيمها العرف، و ليس احتمال و هم الراوي في عكس التفصيل بأبعد من احتمال و همه في خصوص عدم وجوب قضاء الصلاة، بل لعل الثاني أبعد، لابتنائه علي التفريق بين المتفقين و زيادة قوله: «لا تقضي» و هما أبعد عن الخطأ و الغفلة

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض.

ص: 296

______________________________

من عكس الفرق بين المختلفين، بتخيله علي خلاف واقعه أو بالتعبير عنه كذلك، كما يظهر بملاحظة عموم حالات الخطأ عند الناس.

هذا، مضافا إلي أن السؤال لم يكن عن شرطية الأغسال في الصوم و الصلاة الذي قد يكثر الابتلاء به تبعا للابتلاء بالاستحاضة، بل عن حكم من صامت و صلت بدونها، و من الظاهر قلة الابتلاء بذلك بنحو لا يناسب ما أشير إليه في التعليل من سبق أمره صلّي اللّه عليه و آله و سلم بذلك في مقام تعليم الحكم بنحو يظهر في تكرر ذلك منه صلّي اللّه عليه و آله و سلم و استمراره عليه، الذي هو ظاهر قوله: «كان يأمر»، و إنما المناسب له أن يكون تعليلا للحكم بوجوب قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، لشيوع الابتلاء به، و لا سيما مع اشتمال بعض النصوص «1» علي تعليله بذلك.

و من ثم قرب في محكي المنتقي وقوع الوهم في ذلك، و أن الجواب و التعليل راجع إليه لا لمورد السؤال، بأن يكون المسؤول عنه في المكاتبة كلا الأمرين و اشتبه جواب أحدهما بجواب الآخر. قال: «و ليس بالمستبعد أن يبلغ الوهم إلي وضع الجواب مع غير سؤاله، فإن من شأن الكتابة في الغالب أن تجمع الأسئلة المتعددة، فإذا لم يمعن الناقل نظره فيها يقع له نحو هذا الوهم». و خصوصية الكتابة بقبول الوهم إنما هو في ذلك، لا في تغيير نفس الجواب بزيادة شي ء فيه- كما سبق من الجواهر- بل هي أبعد عن قبول الوهم في ذلك من المشافهة.

هذا، و قد يظهر من الوسائل الميل إليه، حيث أورد الحديث في باب وجوب قضاء الحائض و النفساء الصوم دون الصلاة، ثم أشار لكلام المنتقي و غيره. بل هو الظاهر من الصدوق في العلل، حيث أورده في باب علة قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، مقتصرا عليه و علي حديث آخر يتضمن التعليل بأن الصوم إنما هو في السنة شهر، و الصلاة في كل يوم و ليلة، كما قربه الفقيه الهمداني قدّس سرّه و بعض مشايخنا فيما حكي عنه أيضا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 297

______________________________

لكن قال في الحدائق بعد نقل الوجه المذكور عن المنتقي: «و هو جيد. إلا أن فتح هذا الباب في الأخبار مشكل». و لعل وجه إشكاله أن ذلك ليس بنحو يوجب ظهور الحديث فيما ذكر، أو يصحح حمله عليه عرفا. و مثله أو أبعد منه بقية الوجوه المذكورة في كلماتهم لتوجيه الحديث التي أنهاها في الحدائق إلي ستة، و في البحار إلي ثمانية، بل أكثر، لرجوع بعضها إلي أكثر من وجه واحد.

نعم، لا إشكال في أنه بملاحظة جميع ما سبق يتضح اضطراب الحديث و الريب فيه بالنحو المانع من نهوضه بإثبات الحكم المذكور و حجيته عليه، بل يرد علمه إلي أهله عليهم السلام.

إن قلت: هذا لا يناسب ظهور استفادة جمهور الأصحاب قديما و حديثا الحكم المذكور من الصحيح، لما سبق من تصريح جملة منهم به و ظهور آخرين في البناء عليه من دون تصريح لواحد منهم بالخلاف فيه، مع انحصار الدليل عليه بالصحيح المذكور، المستلزم لاعتمادهم عليه من دون أن تمنعهم الجهة المذكورة، و إنما ظهر التوقف فيه لأجلها من متأخري المتأخرين، و ليست هي بنحو تخفي علي من قبلهم، فعدم توقفهم لأجلها مناسب لوضوح عدم مانعيتها من التعويل عليه، لاطلاعهم علي انحصار و هم الراوي له في الحكم بعدم قضاء الصلاة و لو لعثورهم علي نصوص أخر شاهدة بالحكم أو علي قيام السيرة عليه أو غير ذلك.

قلت: لو تم بناء الأصحاب علي العمل بالصحيح فليس هو بنحو يرفع الإشكال المتقدم بعد أن كان راجعا للمتن لا للسند. مع أنه لم يتضح اعتماد جمهور الأصحاب علي الصحيح في الحكم المذكور. أما من استظهر فتواه به من أهل الحديث من ذكره للصحيح في باب صوم الحائض و المستحاضة من كتابه كالكليني و الصدوق في الكافي و الفقيه، فلعدم ثبوت فهمه الحكم المذكور منه بعد ما سبق من العلل من إثباته في باب علة قضاء الحائض الصوم دون الصلاة.

كما أن من اقتصر علي نسبة الحكم إلي رواية أصحابنا ممن سبق لم يتضح منه

ص: 298

______________________________

التعويل علي الرواية، و لا سيما المعتبر و المنتهي، حيث لم يتضمنا الإشارة لها رأسا، بل نقل كلام الشيخ المتضمن لها لا غير. بل لعل ظاهرهما عدم حمل الرواية التي ذكرها الشيخ علي الصحيح، و إلا كان الأنسب لهما ذكره بنفسه بعد تيسر ذلك بسبب إيداعه في كتب الحديث المشهورة. و أما من أفتي بالحكم صريحا فلم يتضح اعتمادهم فيه علي الصحيح بعد عدم اشارتهم له.

بل قد يكون مبناه عندهم الشرطية التي اشتهرت في كلماتهم و سبق التعرض لها عند الكلام في وظيفة المستحاضة بالإضافة للصلاة غير اليومية، و هي أن المستحاضة إذا فعلت وظيفتها كانت بحكم الطاهر، لابتنائها عندهم علي مانعية حدث الاستحاضة من الصوم و كون وظيفتها بحكم الطهارة منه، فيبطل بدونها و يصح معها.

كما قد يناسبه عدم اقتصار جملة منهم علي الصوم، بل ذكروا غيره مما يمتنع مع الحيض، كدخول المساجد و غيره، كما عمم جماعة منهم الشرط لجميع الأغسال، بل لغيرها و لغير الكثيرة من أقسام المستحاضة، و كل ذلك لا ينهض به الصحيح، بل يبتني في الجملة علي الشرطية المذكورة علي ما يتضح فيما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و لم يتعرض للاستدلال علي الحكم بالصحيح إلا متأخروا المتأخرين فيما عثرت عليه، و منهم بدأت المناقشات في الاستدلال به عليه. و من هنا لا معدل عما سبق من عدم نهوض الصحيح بالاستدلال.

و أما الشرطية المذكورة فقد سبق في تلك المسألة عدم نهوضها بعموم ترتب أحكام الطاهر مع القيام بالوظائف للصلاة بعد ظهور الأدلة في كون المستحاضة مستمرة الحدث. كما لا مجال للاستدلال بمفهومها لإثبات بطلان الصوم مع عدم القيام بالوظيفة بعد اختصاص أدلة مانعية الحدث الأكبر من الصوم بالجنابة التي تضمنت الأدلة مانعيتها منه في الجملة، و بالحيض الذي تضمنت الأدلة مانعيته منه مطلقا، دون غيرهما، و لذا لا إشكال ظاهرا في عدم مانعية مس الميت، و إن كان سببا للحدث الأكبر.

ص: 299

______________________________

نعم، لو ثبت تنزيل حدث الاستحاضة منزلة أحد الحدثين اتجه مشاركته له في كيفية المانعية الثابتة له. و حينئذ فحيث لا إشكال في مشروعية الصوم من المستحاضة يتعين الاقتصار علي المتيقن، و هو حال القيام بالوظائف، لعدم احتمال اعتبار ما زاد عليها. فتأمل. لكن لا دليل علي تنزيله منزلة الجنابة.

و أما تنزيله منزلة الحيض فقد يستدل عليه بقوله في الرضوي: «و الوقت الذي يجوز فيه نكاح المستحاضة وقت الغسل بعد أن تغتسل و تتنظف، لأن غسلها يقوم مقام الطهر للحائض» «1» لأن مجرد تنزيل حال الغسل من الاستحاضة منزلة حال الطهر من الحيض لا يكفي في قصر جواز الوطء علي حال الغسل إلا بضميمة تنزيل أصل حدث الاستحاضة منزلة الحيض الذي يحرم الوطء حاله، و بعموم التنزيل المستفاد من سوقه مساق التعليل يستفاد مانعية الاستحاضة من الصوم.

نعم، تكرر منا عدم نهوض الرضوي بالاستدلال. علي أن لازم ذلك بطلان الصوم بحدوث الاستحاضة في أثناء النهار، لأن الغسل منها إنما يكون بحكم الطهر بالإضافة للزمان اللاحق له، دون السابق عليه، و من الظاهر عموم مانعية الحيض من الصوم لما إذا حدث في أثناء النهار، و لا يظن منهم البناء علي ذلك. بل ظاهرهم المفروغية عن صحة الصوم، بل لا يحتاج إلي المبادرة إلي تجديد الغسل له، غاية ما قد يدعي توقفه علي الغسل للصلاة الآتية.

و دعوي: أن ذلك مقتضي الشرطية المتقدمة الراجعة إلي الاكتفاء في ترتيب أحكام الطاهر- و منها صحة الصوم- علي القيام بوظيفة الصلاة، فمع فرض عدم الاخلال بوظيفة الصلاة- إما لحصول الاستحاضة بعد الصلاة، أو للقيام بوظيفتها لو حصلت قبلها- يتعين صحة الصوم.

مدفوعة بأن ذلك إنما يتم لو كان اعتبار الوظيفة في الصوم تعبديا، أما حيث فرض اعتبارها لكونها موجبة للطهارة الحكمية من حدث الاستحاضة المفروض

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 3 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

ص: 300

______________________________

كونه بمنزلة حدث الحيض فاللازم بطلان الصوم بعد ما هو المعلوم من سببية الدم للحدث قبل القيام بالوظيفة، و أن القيام بها لا يرفعه حكما إلا بعدها، و لذا لا يشرع الدخول في غير الصلاة مما يتوقف علي الطهارة قبل القيام بالوظيفة، و لا يكفي في صحته أو جوازه عدم فعلية التكليف بالوظيفة، لعدم الخطاب بالصلاة.

و قد تحصل من جميع ما سبق: أنه لا مجال للبناء علي توقف صوم المستحاضة علي أغسالها لعدم نهوض الأدلة به. كما لا مجال للتعويل فيه علي الإجماع المدعي في المقام بعد خلو كلام جماعة عنه، و اضطراب كلمات القائلين به في فروعه- كما يأتي- بنحو يظهر منهم الاضطراب في مبناه و الدليل عليه. و ربما يأتي ما يزيد في وضوح ذلك. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم. و منه نستمد العصمة و التسديد.

ثم إنه لو قيل بدخل الغسل في صحة الصوم فلا بد من الكلام في تعيين الغسل المعتبر، و قد قال في صوم المبسوط: «و المستحاضة إذا فعلت من [مع. كذا في مفتاح الكرامة] الأغسال ما يلزمها من تجديد القطن و الخرق و تجديد الوضوء صامت و صح صومها … و متي لم تفعل ما تفعله المستحاضة وجب عليها قضاء الصلاة و الصوم».

و قريب منه في النهاية و السرائر. و مقتضاه توقف صومها علي تمام الأغسال الواجبة علي ذات الكثيرة حتي غسل الليل، كما هو مقتضي إطلاق المعتبر و النافع و الشرائع و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و محكي نهاية الأحكام و التحرير و الإرشاد و حاشيته للمحقق الثاني، و يبعد إرادتهم غسل العشاءين لليلة اللاحقة ليوم الصوم، لأن الشرط المتأخر و إن كان ممكنا، إلا أنه يبتني علي عناية، فيبعد إرادته من الإطلاق من دون تنصيص عليه. بل صرح جماعة بعدم إرادته، بل عن غير واحد القطع بذلك.

فقد يحمل كلام من تقدم علي إرادة غسلهما لليلة السابقة، لكن تردد فيه جماعة، بل ظاهر التذكرة و المنتهي الاكتفاء بغسلي النهار، كما أن ظاهر غير واحد الجزم باعتبارهما معا، و إن حكي عن نهاية الأحكام احتمال الاكتفاء بغسل الفجر مع

ص: 301

______________________________

لزوم تقديمه، و عن الذكري اعتبار غسل العشاءين أو تقديم غسل الفجر، و تابعه في الروض، حيث قال: «و المراد بالأغسال المشترطة في صحة الصوم الأغسال النهارية … و هل يشترط في اليوم الحاضر غسل ليلته الماضية؟ و جهان. و الحق أنها إن قدمت غسل الفجر أجزأ عن غسل العشاءين بالنسبة إلي الصوم. و إن أخرته إلي الفجر بطل الصوم هنا. و إن لم نبطله لو لم يكن غيره». و بملاحظة ما ذكرنا و غيره من كلماتهم يظهر اضطرابهم في ذلك جدا.

و الذي ينبغي أن يقال: إن كان مبني الحكم هو الشرطية المذكورة بعد ابتناء العمل بها علي تنزيل حدث الاستحاضة منزلة حدث الحيض، تعين توقف الصوم علي غسلي النهار. لتكون بحكم الطاهر فيه، و علي غسل العشاءين لليلة السابقة، ليدخل عليها الفجر و هي في حكم الطاهر، لابتناء الاكتفاء بالأغسال الثلاثة حينئذ علي استمرار أثر الغسل في وقت إلي حين غسل الوقت اللاحق- الذي سبق أنه أحد محتملات مبني الشرطية المذكورة- ليتم تحصيل الطهارة الحكمية في تمام اليوم بها.

نعم، بناء علي جواز تقديم غسل الفجر للصائمة أو وجوبه- كما هو ظاهر الروضة و محكي المعالم و مال إليه في الروض و حكي عن الشهيد القطع به- يتجه الاكتفاء به عن غسل العشاءين المذكور، لاختصاص مانعية الحيض من الصوم بما إذا كان في أثناء النهار، و لا إشكال حينئذ في عدم وجوب غسل العشاءين لليلة اللاحقة.

و أما لو ابتنت الشرطية المذكورة علي تنزيله منزلة حدث الجنابة فالمتعين الاكتفاء بغسل العشاءين لليلة السابقة، دون غسلي يومه، إلا أن تقدم غسل الفجر- بناء علي مشروعية تقديمه للصوم- فتجتزئ به عن غسل العشاءين، و لا يعتبر حينئذ غسل الظهرين، فضلا عن غسل العشاءين لليلة اللاحقة.

و أما لو كان مبني الحكم في المقام هو الصحيح فحيث هو لم يتضمن إلا وجوب القضاء علي من لم تأت بالأغسال فهو يدل علي توقف الصوم علي الغسل من المستحاضة في الجملة، من دون أن ينهض بتعيين الغسل الدخيل منها، فضلا عن

ص: 302

______________________________

لزوم جميعها.

و دعوي: أن قوله فيه: «من دون أن تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكل صلاتين» ظاهر في خصوص الظهرين و العشاءين، فيكون التردد بينهما، دون غسل الفجر، لأنه لصلاة واحدة. ممنوعة، بل في ظاهر إرادة وظيفة المستحاضة المعهودة، بما فيها غسل الفجر، كما يناسبه التعبير عن وظيفة المستحاضة الكثيرة في جملة من النصوص بأنها الغسل لكل صلاتين، و قد تقدم قرب حملها علي بيان أكثر ما يقع بالغسل الواحد، أو أن تعميمها لغسل الفجر بلحاظ إمكان إيقاع الفريضة و النافلة به.

علي أن احتمال توقف الصوم علي غسل الظهرين دونه غير عرفي، لعدم مناسبته لكلا المبنيين السابقين و عدم الجهة العرفية المميزة لغسل الظهرين عنه لو كان اعتبار الغسل تعبديا غير مبتن علي أحدهما، فلو فرض قصور النص عنه لفظا كان إلحاقه بفهم عدم الخصوصية لغسل الظهرين قريبا جدا، و لذا كان اعتباره متيقنا بالإضافة لغسل الظهرين بملاحظة كلماتهم المتقدمة و غيرها، فلا إشكال في كونه طرفا للاحتمال من النص.

نعم، الظاهر خروج غسل العشاءين لليلة اللاحقة، لأن الشرط المتأخر و إن أمكن عقلا، إلا أن النص منصرف عنه بسبب مخالفته للارتكاز العرفي، فليس الغسل المذكور إلا كغسل الأيام و الليالي اللاحقة مما لا يحتمل من إطلاق النص دخله، بل يتردد الأمر بين الأغسال الثلاثة الأخر، و هي غسل الليلة السابقة و غسلا يوم الصوم.

هذا، و حيث لا يحتمل عرفا دخل أحدها غير المعين الراجع إلي اعتبار صرف الوجود من الكلي المنحصر بها، فليس الأمر دائرا بين التعيين و التخيير، كي يبتني جريان البراءة في تلك المسألة علي الكلام في تلك المسألة. بل المورد من صغريات العلم الإجمالي، حيث يدور الأمر بين اعتبار الأغسال الثلاثة بتمامها- نظير ما تقدم بناء علي التنزيل منزلة الحيض- و اعتبار غسل الليلة السابقة فقط- نظير ما تقدم بناء علي التنزيل منزلة الجنابة- و اعتبار غسلي النهار فقط، لاحتمال كون مانعية حدث الاستحاضة بنحو خاص، لا يقتضي إلا اعتبار الطهارة الحكمية بالنحو المعتبر في

ص: 303

______________________________

صلاة نهار الصوم فقط، و حيث لا متيقن في البين، لينحل به العلم الإجمالي، يتعين الجمع بينها خروجا عنه.

و منه يظهر ضعف ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من انحلال العلم الإجمالي بالعلم باعتبار أحد غسلي النهار أو كليهما، لعدم احتمال اعتبار غسل الليلة السابقة دونهما. إذ لا وجه لعدم الاحتمال المذكور بعد كونه مناسبا لتنزيل حدث الاستحاضة منزلة حدث الجنابة. و مجرد عدم ظهور النص في التنزيل المذكور لا ينافي احتمال ذلك، فلا مجال لانحلال العلم الإجمالي. كما ظهر بذلك حال بقية أقوال الأصحاب.

و من ذلك يظهر موهن آخر للحكم المذكور من أصله، لأن مثل هذا الحكم العملي لو كان ثابتا لكان المناسب وفاء البيانات الشرعية به و عدم الاقتصار فيه علي الصحيح الذي لا يكفي في بيان الغسل المعتبر حتي يحتاج إلي إعمال قواعد العلم الإجمالي، و لا علي أحد التنزيلين المذكورين اللذين لا إشعار في النصوص بهما، بل لا يمكن الالتزام بتمام لوازم الثاني منهما- و هو التنزيل منزلة الحيض- علي ما سبق عند الكلام فيه.

بقي في المقام أمور..
الأول: تقدم عن الشهيدين و صاحب المعالم وجوب تقديم غسل الفجر للصائمة.

و هو لو تم أغني عن غسل العشاءين لليلة السابقة- كما تقدم من الروض- لوضوح ابتناء احتمال الحاجة إليه علي كونه موجبا للطهارة الحكمية حين طلوع الفجر، و تقديم غسل الفجر- لو تم- مبني علي كونه محققا لذلك. لكن الصحيح لا ينهض بذلك، بل هو ظاهر في اعتبار الأغسال المذكورة- في الجملة- علي النحو الذي شرعت فيه للصلاة، و حيث كان ظاهر دليل تشريعها لزوم تأخيرها عن الفجر فلا مجال لمشروعية التقديم، فضلا عن وجوبه.

هذا، و أما لو ابتني اعتبار الأغسال علي تنزيل حدث الاستحاضة منزلة حدث الجنابة أو منزلة الحيض، فإن تمت الشرطية المتقدمة في كلماتهم علي إطلاقها، و هي أن

ص: 304

______________________________

المستحاضة إن قامت بوظائفها كانت بحكم الطاهر فاللازم عدم تقديم غسل الفجر، بل الاكتفاء به علي النحو الذي شرع للصلاة، و إن لم تتم أصلا- كما سبق منا- أو ابتنت علي بقاء أثر الغسل في وقت إلي خروجه- كما تقدم من الروض و عن غيره- المستلزم لارتفاع أثر غسل العشاءين بعد نصف الليل، فقد يدعي أنه يجري في الصوم ما تقدم منا في غيره مما يتوقف علي الطهارة و يعلم بمشروعيته في حق المستحاضة من لزوم تجديد الوظيفة له، فتغتسل قبيل الفجر للصوم، و إن لم يجز للصلاة، بل يجب تجديده لها.

لكن يقطع بعدم وجوب غسل زائد في حق الصائمة، إذ لو ثبت لظهر و بان بسبب كثرة الابتلاء بالاستحاضة حال الصوم، و مثله وجوب تقديم غسل الفجر، فعدم تعرض الأصحاب للأول أصلا، و لا للثاني إلا لقليل من المتأخرين، شاهد بعدمهما، وفاقا في الثاني لصريح بعضهم و ظاهر المعظم، كما في الجواهر.

الثاني: أن استبعاد الترك غير العمدي في تمام الشهر مانع من حمله عليه و ملزم بحمله علي الترك العمدي و لو للجهل بالحكم

لا يخفي أن الصحيح و إن كان مطلقا لفظا من حيثية كون ترك الأغسال عمديا- مع العلم بالحكم و الجهل به- و كونه غير عمدي، لنسيان الغسل أو انكشاف بطلانه بعد خروج الوقت أو غيرهما، إلا أن استبعاد الترك غير العمدي في تمام الشهر مانع من حمله عليه و ملزم بحمله علي الترك العمدي و لو للجهل بالحكم. و عليه يتعين الرجوع مع الترك غير العمدي لاطلاقات صحة الصوم.

نعم، لو ابتني توقف الصوم علي الغسل علي تنزيل حدث الاستحاضة منزلة حدث الجنابة لزم البناء علي اخلال الترك نسيانا به، لثبوت ذلك في الجنابة في الجملة علي ما يذكر في كتاب الصوم. كما أنه لو ابتني علي تنزيل الاستحاضة منزلة نفس الحيض بطلان الصوم بالترك مطلقا، لمانعية الحيض كذلك.

هذا، و كثرة الابتلاء بذلك و غيره من فروع المسألة لا يناسب عدم ورود النصوص فيها لو كان أصل الحكم ثابتا. و من ثم كان هذا موهنا آخر له، نظير ما تقدم في تعيين الأغسال المعتبرة.

ص: 305

و الأحوط في المتوسطة توقفه علي غسل الفجر (1).

الثالث: أن مقتضي إطلاق فتاوي الأصحاب و معاقد إجماعاتهم عدم الفرق بين صوم شهر رمضان و غيره،

______________________________

و حيث كان الصحيح مختصا بشهر رمضان فالتعميم يبتني علي إلغاء خصوصيته.

لكنه قد يشكل بلحاظ ثبوت عدم العموم في الجملة في تعمد البقاء علي الجنابة، علي ما يذكر في محله، بل عن المعتبر إطلاق عدم قدحه في صوم غير رمضان، و من ثم أطلق في المفاتيح اختصاص مانعية الحدث الأكبر بصوم رمضان.

نعم، لو ابتني الحكم علي تنزيل الاستحاضة منزلة الحيض نفسه تعين العموم، لعموم مانعية الحيض. فلاحظ.

الأحوط توقف صحة صوم الاستحاضة علي غسل الفجر

(1) كما هو مقتضي إطلاق أكثر الكلمات المتقدمة، لأنهم بين من عبّر بتوقف صوم المستحاضة علي الغسل مع غمس القطنة و من عبّر بوجوب قضائه مع الإخلال بالغسل وحده- كما ذكره جماعة- أو مع الإخلال بشي ء من وظائفها- كما تقدم من المبسوط و النهاية و السرائر- بل صرح بالتعميم جماعة منهم من تقدم منه أو عنه دعوي الإجماع، عدا صاحب اللوامع، حيث لم يحك عنه إلا الإطلاق. قال في الجواهر: «فما في البيان و عن الجعفرية و الجامع من التقييد بالكثرة شاذ، أو محمول علي ما يقابل القلة».

و لا يخفي أن الصحيح مختص بالكثيرة، لأنها هي التي يجب الغسل معها لكل صلاتين، فينحصر وجه التعميم بتنزيل حدثها الأكبر منزلة الجنابة أو الحيض، أو بإلغاء خصوصية الكثرة في الصحيح، الذي قد يسهل بلحاظ كون ذكر حكم الكثرة في كلام السائل دون الإمام عليه السلام، كما قد يؤيد بكلمات الأصحاب المتقدمة. و إن كان للتأمل فيه مجال.

هذا، و لو كان الغمس من دون سيلان بعد الفجر فمقتضي إطلاق الأصحاب المتقدم وجوب الغسل للصوم. لكن صرح في جامع المقاصد و الروض و الروضة و غيرها بعدم وجوبه، لما في جامع المقاصد و غيره من تبعية شرطيته للصوم لشرطيته

ص: 306

______________________________

للصلاة. و هو مبني علي ما تقدم منهم من عدم وجوب الغسل للمتوسطة إذا حدثت بعد صلاة الفجر. و تقدم ضعفه.

بل عن الشهيد في حواشيه علي القواعد عدم شرطية الغسل للصوم لو كان الغمس بعد الفجر. الشامل بإطلاقه لما إذا كان قبل صلاته. لكن قال المحقق الثاني في محكي حواشي التحرير: «و هذا يكاد أن يكون مخالفا للإجماع، فإني لا أعلم مخالفا بين أصحابنا في أن المستحاضة يشترط في صحة صومها فعل ما يلزمها من الأغسال النهارية، سواء الواحد و غيره. صرح بذلك جملة من أصحابنا».

و أما توجيهه بأنه يبتني علي تنزيل حدث المستحاضة منزلة حدث الجنابة في عدم إخلاله لو تجدد في أثناء النهار من دون عمد. فهو مستلزم لعدم الفرق في ذلك بين المتوسطة و الكثيرة، مع أن ظاهره لزوم الغسل بالكثيرة للصوم مطلقا و إن حدثت بعد الفجر.

و من ثم عمم احتمال ذلك لهما معا في الروض، معللا له بسبق انعقاد الصوم، الراجع لما ذكرنا. و إن ضعفه و دفعه بعموم توقف الصوم علي الأغسال. لكن العموم المذكور لا يخلو عن إشكال، لظهور الصحيح في استمرار الاستحاضة، الراجع لوجودها قبل الفجر، و لا إطلاق له يشمل تجددها بعده. و حينئذ يكون مقتضي إطلاق أدلة بيان ماهية الصوم عدم توقفه علي الغسل في الفرض، من دون فرق بين الكثيرة و المتوسطة، فضلا عما إذا حدثت المتوسطة بعد صلاة الفجر. فتأمل.

بقي شي ء، و هو أن مقتضي إطلاق ما في النهاية و السرائر من أن المستحاضة لو أخلت بما عليها بطل توقف الصوم علي جميع وظائفها المذكورة في كلماتهم من تغيير القطنة و الوضوء مطلقا و إن كانت قليلة. و هو غير ظاهر الوجه بعد اختصاص الصحيح بالغسل في الكثيرة، و غاية الأمر التعدي للمتوسطة لمشاركتها لها في كون حدثها أكبر. كما أن التنزيل منزلة حدث الجنابة أو منزلة الحيض إنما يتم فيهما.

نعم، قد يوجه التوقف في الكثيرة علي بقية الوظائف بدعوي: أن المستفاد من

ص: 307

كما أن الأحوط وجوبا توقف جواز وطئها علي الغسل (1).

______________________________

الصحيح اعتبار الغسل الذي تصح معه الصلاة، فمع بطلان الصلاة للإخلال ببقية الوظائف يبطل الغسل لها أيضا، للإخلال بالموالاة المعتبرة. فلا يصح به الصوم. و لعله عليه يبتني ما تقدم من المبسوط من اعتبار بقية الوظائف مع الأغسال، لا مطلقا و لو بدونها، كما في القليلة.

لكنه يندفع بأن الصحيح لم يتضمن اعتبار صحة الصلاة في صحة الصوم، و لا اعتبار الغسل الذي يؤتي بها معه، بل تضمن وجوب قضاء الصوم في فرض السائل، و هو عدم القيام بالغسل الذي هو وظيفة الصلاة، و من المعلوم أنه لا يحتمل من السؤال القيام بالغسل وحده، بل الظاهر منه ترك الغسل أصلا، و حينئذ يكفي في بطلان الصوم في فرض السؤال دخل الغسل فيه بنفسه و لو لم تترتب عليه الصلاة.

و إن شئت قلت: عدم جواز الصلاة بالغسل في الفرض ليس لخلل فيه، بل لعدم العفو في الصلاة عن الحدث الزائد بسبب عدم المبادرة، و لا يخل ذلك في الصوم، كما تقدم في ذيل الكلام علي وجوب التحفظ علي الصائمة. فلاحظ.

الأحوط وجوبا توقف جواز وطئها علي الغسل

(1) فقد ذهب إلي التوقف عليه الصدوق في ظاهر الهداية و الفقيه حاكيا له في الثاني عن رسالة والده، و مثله في المراسم مع إضافة الاحتشاء، بل ظاهر المبسوط توقفه عليه و علي الوضوء في الكثيرة، أو مطلقا، كما في المقنعة و النهاية مضيفا فيهما غسل الفرج.

و ظاهر جماعة توقفه علي تمام وظائف المستحاضة حتي تجديد الخرق، كما في الاقتصاد و السرائر و المنتهي، و نسبه في المعتبر لابن الجنيد و مصباح السيد المرتضي، و في كشف اللثام لظاهر الجمل و العقود و الكافي و الإصباح و محكي ابن أبي عقيل، و قد يستظهر من كل من ذكر أنها إن فعلت وظائفها حل لها كل ما يحرم علي الحائض و كانت بحكم الطاهر، كما في الغنية و الوسيلة و الشرائع و القواعد و الإرشاد و غيرها، و نسبه في محكي الذكري و كشف الالتباس و شرح الجعفرية لظاهر الأصحاب،

ص: 308

______________________________

و في التذكرة و المنتهي لظاهر عباراتهم، و في المعتبر: «أومأ الأصحاب إلي ذلك و لم يصرحوا، و معني ما قالوه: و يجوز لزوجها وطؤها إذا فعلت ما تفعله المستحاضة»، و في الرياض أنه المشهور شهرة عظيمة، و لا مجال مع ذلك لما يظهر من جامع المقاصد من اختصاص الخلاف بالغسل، إذ لا تعلق للوضوء بالوطء، فإنه خروج عن ظاهر عباراتهم، بل صريح جملة منها بمحض الاستبعاد.

علي أنه كما أمكن تميز حدث الاستحاضة من بين الأحداث بتوقف حل الوطء معه علي الغسل أمكن تميزه من بينها بتوقف حله علي الوضوء.

هذا، و قد ذهب إلي عدم توقف حلّ الوطء علي الوظائف في المدارك و محكي التحرير و البيان و الموجز و مجمع البرهان، و نبه إلي كراهته بدونها في المعتبر و التذكرة و الدروس و جامع المقاصد و الروض و محكي كشف الالتباس و شرحي الجعفرية.

و كيف كان، فقد استدل علي التوقف علي الوظائف ببعض النصوص..

منها: قوله عليه السلام في موثق عبد الرحمن أو صحيحه بعد التعرض للوظائف:

«و كل شي ء استحلت به الصلاة فليأتها زوجها و لتطف بالبيت» «1». و يظهر مما تقدم منا في مسألة توقف الطواف علي الوظائف اندفاع المناقشة في الاستدلال به، لأن الأمرين قد سيقا فيه بمساق واحد، فلا حاجة إلي التكرار.

و منها: قوله عليه السلام في موثق سماعة بعد ذكر وظيفتي المتوسطة و الكثيرة: «و إن أراد زوجها أن يأتيها فحين تغتسل» «2». و ما في الجواهر من منع دلالته، لاحتمال كون المراد الجواز الذي لا كراهة فيه أو غير ذلك. كما تري، مخالف للظاهر، لوضوح احتياج الحمل علي الكراهة للقرينة.

و أشكل منه ما عن بعض مشايخنا من حمله علي الوطء قبل الغسل لتكتفي بغسل واحد للجنابة و الاستحاضة، و إلا فمن المعلوم عدم إرادة المقارنة الحقيقية بأن يكون الوطء في أثناء الغسل، كما لا مجال لحمله علي المقارنة العرفية بأن يراد الوطء في

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 6.

ص: 309

______________________________

الآن المتصل بالفراغ من الغسل، لعدم التزام القائل به، و لا سيما في المتوسطة التي لا يجب عليها لمجموع صلواتها إلا غسل واحد.

لاندفاعه بأن حمله علي مطلق القبلية بعيد عن ظاهر التوقيت، و علي خصوص ما لا ينافي المقارنة العرفية لا يختص به الاجتزاء بالغسل الواحد. مع أن صرف الكلام للإرشاد إلي التسهيل باختيار مورد الاجتزاء بالغسل الواحد بعيد جدا، لخروجه عن وظيفة الشارع الأقدس، من دون إشعار به في الكلام، بخلاف الشرطية التي هي وظيفة الشارع الأقدس. و أما ما ذكره من عدم القول بلزوم المقارنة العرفية فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

و منها: حديث اسماعيل بن عبد الخالق الذي تقدم عند الكلام في الاكتفاء بأغسال الفرائض للنوافل أنه يقرب حجيته، فإن فيه بعد بيان حكم الكثيرة: «قلت:

يواقعها زوجها؟ قال: إذا طال بها ذلك فلتغتسل و لتتوضأ ثم يواقعها إن أراد» «1».

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن تعليق الجواز فيه علي طول الوقت يشهد بأن المراد تعليق جواز خاص، لا مطلق الجواز مقابل الحرمة، فلا يكون مما نحن فيه.

فقد يندفع بأن ظاهر السؤال فيه إرادة الجواز المقابل للحرمة، فيكون ظاهر الجواب فيه تعليقه علي الأمور الثلاثة من طول الوقت، و الغسل و الوضوء، و قيام الدليل علي كون الأول في مقابل الكراهة لا يمنع من العمل بالظاهر في الأخيرين من شرطيتهما لرفع الحرمة.

علي أن الظاهر أن التعليق علي طول المدة ليس لرفع الكراهة، بل للإرشاد لترك المكروه مع عدم الضيق، فالوطء مكروه مطلقا حتي مع طول المدة و مع الوضوء و الغسل. فلا مخرج عن ظاهر التعليق علي الغسل و الوضوء في كونه لرفع الحرمة.

و لعل ذلك يتضح بملاحظة النظائر. فإذا قيل: إذا قدم المسافر في نهار شهر رمضان هل يأكل في بقية يومه؟ فقيل: إن احتاج للأكل فليتستر بأكله، لم يكن قيام القرينة

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 15.

ص: 310

______________________________

الخارجية علي جواز الأكل من غير حاجة مانعا من حمل الأمر بالتستر علي ظاهره من الوجوب. فلاحظ.

هذا، و قد استدل أو يستدل بنصوص أخر، كموثق مالك بن أعين: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن المستحاضة كيف يغشاها زوجها؟ قال: ينظر الأيام التي كانت تحيض فيها و حيضتها مستقيمة فلا يقربها في عدة تلك الأيام من ذلك الشهر و يغشاها فيما سوي ذلك من الأيام، و لا يغشاها حتي يأمرها فتغتسل ثم يغشاها إن أراد» «1»، و موثقة الآخر: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن النفساء يغشاها زوجها و هي في نفاسها من الدم؟ قال: نعم، إذا مضي لها منذ يوم وضعت بقدر أيام عدة حيضها ثم تستظهر بيوم فلا بأس بعد أن يغشاها زوجها يأمرها فتغتسل ثم يغشاها إن أحب» «2»، و موثق فضيل و زرارة عن أحدهما عليهما السلام: «قال: المستحاضة تكف عن الصلاة أيام أقرائها و تحتاط بيوم أو اثنين ثم تغتسل كل يوم و ليلة ثلاث مرات و تحتشي … فإذا حلت لها الصلاة حل لزوجها أن يغشاها» «3»، و ما في صحيح صفوان عن أبي الحسن عليه السلام:

«تغتسل و تستدخل قطنة بعد قطنة و تجمع بين صلاتين بغسل، و يأتيها زوجها إن أراد» «4»، و صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «في الحائض إذا رأت دما بعد أيامها التي كانت تري الدم فيها فلتقعد عن الصلاة يوما أو يومين، فإن صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كل صلاتين بغسل و يصيب منها زوجها إن أحب و حلت لها الصلاة» «5».

لكن موثقي مالك قد يحملان علي إرادة غسل الحيض و النفاس، فيكون المنهي عنه مطلق الوطء قبل الغسل الواحد، لا الوطء في كل مرة قبل لها بنحو الانحلال، ليرجع إلي مطلوبية أغسال متعددة لتعم غسل الاستحاضة. و ما ذكره شيخنا

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب النفاس حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 12.

(4) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 14.

ص: 311

______________________________

الأعظم قدّس سرّه من بعد ذلك في الأول دون الثاني غير ظاهر الوجه. فتأمل.

علي أنهما لو حملا علي الانحلال يأتي فيهما ما يأتي في حديث إسماعيل. و موثق فضيل و زرارة لو لم يكن ظاهرا في حلّ الصلاة ذاتا المتفرع علي الحكم بعدم الحيض، فلا أقل من عدم ظهوره في حلها فعلا المتفرع علي تحقق شرطها، و هو الطهارة الحكمية بالقيام بالوظيفة. كيف و إن حملت الصلاة فيه علي صرف الوجود لزم الاكتفاء بالقيام بالوظيفة لصلاة واحدة، و إن حملت علي مجموع صلاة اليوم لزم عدم جواز الوطء إلا بعد صلاة العشاءين.

و أما صحيحا صفوان و محمد بن مسلم فهما إنما يدلان علي حلّ وطء المستحاضة ككثير من المطلقات، لا علي لزوم القيام بالوظيفة قبله. و مجرد تأخيره عن ذكر الوظيفة لا يقتضيه. مضافا إلي ما ذكرناه أخيرا في موثق زرارة و فضيل.

فالعمدة النصوص الثلاثة الأول المؤيدة بالرضوي المتقدم في ذيل الكلام في دليل اعتبار الوظيفة في الصوم. و ما في الجواهر من أن التعليل فيه بأن غسلها يقوم مقام الطهر للحائض كالصريح في جواز الوطء مع الإخلال بالوظيفة، لما سبق من جواز وطء الحائض قبل الغسل. كما تري، لأن التعليل إنما تضمن تنزيل الغسل منزلة الطهر من الحيض الذي هو شرط في حل الوطء، لا منزلة الطهارة من حدثه بعد انقطاعه التي هي ليست شرطا في حله، بل في رفع كراهته. و الأمر سهل بعد ضعف الرضوي و عدم صلوحه إلا للتأييد مع كون الدليل النصوص الأول.

نعم، قد يشكل الاستدلال بتلك النصوص، فإن حديث عبد الرحمن ظاهر في وجوب تجديد الوظيفة للوطء، دون ما عليه الأصحاب من الاجتزاء بالقيام بها للصلاة، كما يظهر مما تقدم عند الكلام في طواف المستحاضة.

و مثله في ذلك حديث إسماعيل للأمر فيه بالغسل و الوضوء قبل الوطء، بعد التعرض لوظيفة الكثيرة. و كذا موثق سماعة، لأن مقتضي التوقيت فيه معاقبة الوطء للغسل، و حيث يمتنع تخلل الوطء بين الغسل الموظف للصلاة و الصلاة، كما يبعد

ص: 312

______________________________

حمله علي معاقبته للصلاة المتعقبة توسعا في التوقيت به، و إلا كان الأنسب ذكرها بدل الغسل- علي أنه لا قائل بلزومه- تعين حمله علي تجديد الغسل للوطء. و أظهر منه في ذلك الرضوي.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من تعارف التعبير عن الشرطية المطلقة من دون معاقبة بمثل ذلك، فالمراد من حين تغتسل. فهو كما تري، لأنه- مع مخالفته لظاهر التوقيت- إنما يقتضي اعتبار الغسل في الجملة، لا كل غسل تقتضيه وظيفة المستحاضة، فلا يدل إلا علي اعتبار الغسل الأول الذي هو غسل الحيض بعد مضي أيام العادة، و يخرج عما نحن فيه. و لا يبقي دليل لما عليه الأصحاب إلا مفهوم الشرطية المتقدمة، و قوله في الرضوي بعد ذكر الوظائف: «و متي اغتسلت علي ما وصفت حل لزوجها أن يأتيها» «1». و قد تكرر عدم نهوضهما بالاستدلال.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم ظهور النصوص المتقدمة فيما عليه الأصحاب، بل هي ظاهرة بمجموعها في اعتبار التجديد للوطء، و حيث لا قائل بلزوم ذلك، بل لا مجال للبناء عليه، لامتناع خفائه عادة مع كثرة الابتلاء به، يتعين حمله علي الاستحباب.

و يؤيده، كما يؤيد عدم اعتبار القيام بالوظائف للصلاة، ما سبق من عدم اعتبار الغسل من حدث الحيض، مع ما هو المعلوم من أن حدث الاستحاضة أشد. قال في الجواهر: «و احتمال ابتداء الفرق بانقطاع الدم فيها دونها. ضعيف، لأن الغسل و الوضوء لا يزيل نفس الدم في المستحاضة. إنما يزيل حكمه، و هو الحدث الحاصل منه … و منه يظهر فساد الاستدلال أيضا بكون دم الاستحاضة أذي، فيمتنع الوطء معه، إذ الأفعال لا ترفع الدم، إنما ترفع حكمه».

هذا، مضافا إلي منع عموم الأذي الذي علل به تحريم وطء الحائض في الآية

______________________________

(1) لم أعثر عليه عاجلا في مستدرك الوسائل. و من أراده فليرجع إليه في المطبوع من الرضوي في باب الحيض و الاستحاضة و النفاس و الحامل و دم القرحة و العذرة و الصفراء إذا رأت و ما يستعمل فيها. (منه عفي عنه).

ص: 313

______________________________

الكريمة لدم الاستحاضة.

ثم إنه قد يستدل لعدم الجواز بالاستصحاب، لليقين بالحرمة حال الحيض.

لكن الاستصحاب محكوم لإطلاقات جواز وطء الزوجة و الأمة و المستحاضة. علي أنه مختص بالاستحاضة المسبوقة بالحيض، دون الابتدائية. و بما إذا لم تقم بالوظيفة أصلا، دون ما إذا تحققت و لو مرة، حيث يعلم بالحل حينئذ فيستصحب. و لا يكفي التلازم بين بقاء الحرمة إلي حين القيام بالوظيفة و تجددها بالإخلال بها بعد ذلك إلا بناء علي الأصل المثبت.

كما أنه يبتني في المقام علي التسامح في موضوعه الذي هو خلاف التحقيق، بل الوطء حال الحيض غير الوطء حال الاستحاضة، فلا ينهض الاستصحاب باشتراكهما في الحكم.

بقي شي ء، و هو أنه لو تم الاستدلال بالنصوص المتقدمة لما عليه الأصحاب و غض النظر عما ذكرنا فمن الظاهر أن موثق سماعة و حديث إسماعيل قاصران عن القليلة، لكن عموم حديث عبد الرحمن شامل لها، و إن لم يتعرض فيه لوظيفتها.

و المتيقن منه الوظيفة التي هي من شئون المستحاضة بما هي مستحاضة، و هي الوضوء و الغسل، دون مثل تطهير الفرج و تبديل الخرقة و الاحتشاء، لأنها من شئون النجاسة الخبثية التي لا تختص بها، و لا سيما مع الاقتصار في موثق سماعة و حديث إسماعيل علي الغسل في الكثيرة و المتوسطة. بل قد يكون الاقتصار في موثق سماعة علي الغسل مع كون الوضوء من وظائف المتوسطة شاهدا بعدم توقف الوطء عليه فيها، فلا يتوقف عليه في القليلة بالأولوية.

و به يرفع اليد عن عموم حديث عبد الرحمن و يحمل علي خصوص الغسل في الوطء. كما يرفع به اليد عن ظهور حديث إسماعيل في وجوب ضم الوضوء للغسل، فيحمل علي الاستحباب. و لا سيما مع عدم وجوبه للصلاة في الكثيرة، حيث يبعد جدا كون الوطء أشدّ من الصلاة في اعتبار الطهارة. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

ص: 314

دخول المساجد و قراءة العزائم للمستحاضة

و أما دخول المساجد و قراءة العزائم فالظاهر جوازهما مطلقا (1).

______________________________

(1) أما دخول المساجد فلا إشكال ظاهرا في جوازه مع القيام بالوظائف، كما صرح به جملة من الأصحاب، و يقتضيه إطلاق ما تكرر في كلماتهم من أنها تكون بحكم الطاهر إذا قامت بوظائفها. و يدل عليه غير واحد من النصوص منها ما دل علي جواز طوافها.

لكن استثني في المقنعة و المبسوط و النهاية و الوسيلة و المراسم دخول الكعبة، و قد يستظهر من الكليني، لذكره الحديث المتضمن لذلك في باب طواف المستحاضة.

و هو مرسل يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: المستحاضة تطوف بالبيت و تصلي و لا تدخل الكعبة» «1». خلافا لما في السرائر و التذكرة و المنتهي و عن التحرير و ابن سعيد من الحكم بالكراهة، حملا للمرسل عليها، كما في المنتهي. لكنه خلاف ظاهره. إلا أن يرجع إلي عدم حجيته لإرساله، فيبني علي الكراهة، لقاعدة التسامح، بناء علي شمولها للمكروه. اللهم إلا أن ينجبر بعمل من عرفت. فتأمل.

و أما مع عدم القيام بالوظائف فقد صرح بالجواز في الروض و المدارك و محكي مجمع البرهان و الذخيرة و شرح المفاتيح و جملة ممن تأخر عنهم، و هو مقتضي إطلاق الوسيلة و الدروس، بل قد يكون مقتضي إطلاق الشيخ في النهاية، حيث قال:

«و المستحاضة لا يحرم عليها شي ء مما يحرم علي الحائض، و يحلّ لزوجها وطؤها علي كل حال إذا غسلت فرجها و توضأت وضوء الصلاة أو اغتسلت حسب ما قدمناه»، حيث لا يبعد رجوع القيد للوطء.

لكن قال في الجواهر: «فالمشهور بين الأصحاب، كما في موضع من المصابيح توقف جواز دخوله علي الغسل، و في آخر: قد تحقق أن مذهب الأصحاب تحريم دخول المساجد و قراءة العزائم علي المستحاضة قبل الغسل، إلي أن نقل بعض الأقوال المنافية لذلك، منها جواز دخولها ذلك من دون توقف، كقراءة العزائم أيضا. ثم قال:

______________________________

(1) الوسائل باب 91 من أبواب الطواف، حديث: 2.

ص: 315

______________________________

و لا ريب في شذوذ هذه الأقوال. و حكي هو عن حواشي التحرير أنه قال: و أما حدث الاستحاضة الموجب للغسل فظاهر الأصحاب أنه كالحيض. و عن شارح النجاة الإجماع علي تحريم الغايات الخمس علي المحدث بالأكبر مطلقا عدا المس. ثم قال:

و ظاهرهما الإجماع علي وجوب غسل الاستحاضة لدخول المساجد و قراءة العزائم …

انتهي. قلت: و يؤيده أيضا إطلاق جملة من الأصحاب- كالمصنف و العلامة و غيرهما- وجوب الغسل للغايات الخمس في مبحث الغايات من غير فرق بين الأسباب الموجبة له، كما عن آخرين أيضا، حيث استثنوا مسّ الميت خاصة».

و العمدة في استفادة الإجماع ظهور مفهوم الشرطية المتقدمة في ذلك، و ما ذكره أخيرا من إطلاقهم وجوب الغسل لدخول المساجد من دون استثناء لغسل المستحاضة، كما استثني بعضهم غسل المس. لكن استفادة الإجماع من الأمرين لا يخلو عن إشكال. لعدم وضوح إجماعهم علي المفهوم من الشرطية المذكورة، كما يظهر مما تقدم في وطء المستحاضة و صومها، و قد أطال في الجواهر في ذلك. بل سبق عدم وضوح حدود الشرطية المذكورة في كلامهم و التوقف حتي في منطوقها.

و مثله الإطلاق المذكور، لأن جملة منهم لم يستثنوا غسل المس أيضا، فلا يبعد إرادتهم وجوبه للغايات المذكورة في الجملة مع إيكال تفصيله للكلام في كل غسل غسل. علي أن استفادة الإجماع من مثل هذه الظهورات لا يخلو عن إشكال، و لا سيما مع ما سبق من ظهور بعضهم و صريح آخر في الخلاف.

مضافا إلي الإشكال في حجية الإجماع في مثل هذه المسائل مما ظهر فيه اضطراب كلماتهم و مبانيهم و استدلالاتهم، كما يتضح بملاحظة كثير من الفروع المتقدمة.

و أما الاستدلال بالاستصحاب، لليقين بالحرمة حال الحيض، فتستصحب.

فهو كما تري. إذ فيه: - مضافا إلي اختصاصه بالاستحاضة المسبوقة بالحيض، و ابتنائه علي التسامح في موضوع الاستصحاب- أنه مع عدم الغسل من الحيض يعلم ببقاء الحرمة، لوجوب رفع حدث الحيض في حلّ دخول المساجد، كما تقدم في ذيل المسألة

ص: 316

نعم، لا يجوز مس المصحف و نحوه إلا بعد الغسل و الوضوء (1) بل

______________________________

الثانية عشرة في أحكام الحيض.

و مع الغسل منه يعلم بالحلّ، لتحقق وظيفة المستحاضة به بناء علي التداخل، و يشك في بقائه مع الإخلال بالوظائف فيما بعد، فيكون هو المستصحب، كما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه. و لذا كان الأقوي الجواز مطلقا، وفاقا لمن تقدم. و منه يظهر جواز قراءة العزائم، كما صرح بعضهم.

هذا، و بناء علي عدم الجواز بدون فعل الوظائف فحيث كان الوجه فيه الإجماع المذكور فمقتضي الاقتصار علي المتيقن في الخروج عن مقتضي أصالة البراءة الاقتصار في الحرمة علي صورة عدم فعل الوظائف، أما مع فعلها فيجوز مطلقا حتي في غير وقت الوظيفة.

إلا أن يبتني الإجماع علي تنزيل حدث الاستحاضة منزلة الجنابة أو الحيض، كما يظهر من بعضهم، فإن مقتضي ذلك التحريم مطلقا، لأن المستحاضة مستمرة الحدث، فيقتصر في جواز إيقاع الأمرين معه علي المتيقن من الإجماع، و هو وقت فعل الوظيفة، لما سبق من الإشكال في عموم معقده لما بعد الوقت، و يتعين حينئذ تجديدها لهما بعده، اقتصارا في الخروج عن عموم عدم جواز إيقاعهما علي صورة تخفيف الحدث بالتجديد بعد عدم الإشكال ظاهرا في جواز إيقاعهما في الجملة و عدم حرمة إيقاعهما مطلقا و لو مع التجديد.

نعم، الظاهر عدم وجوب تجديد الغسل في المتوسطة، لظهور دليله في الاجتزاء بالغسل الواحد للطهارة الحكمية في تمام اليوم، كما تقدم نظيره في الطواف. فلاحظ.

مس المستحاضة للمصحف

(1) أما عدم جوازه بدونهما فالظاهر عدم الإشكال فيه. و يقتضيه عموم ما دل علي اعتبار الطهارة فيه. و أما جواز إيقاعه معها مع كونها مستمرة الحدث فهو يبتني علي الشرطية المذكورة في كلماتهم التي تقدم الكلام فيها، و أشرنا إلي الكلام في عمومها

ص: 317

الأحوط استحبابا عدم الجواز مع الفصل المعتد به (1).

______________________________

لما بعد الوقت.

بل قد يستشكل في عمومها لغير الغسل- كما صدر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره- فيلتزم بوجوب تجديد الوضوء مع الفصل المعتد به عن القيام بالوظيفة حتي في الوقت. و لذا حكي عن غير واحد وجوب تجديد الوضوء لكل مشروط بالطهارة، و عن كشف الغطاء التردد في كفاية وضوء واحد لمس واحد مستمر مع الجزم بوجوب تكراره بتكرار المس.

هذا، و حيث تكرر منا عدم التعويل علي الشرطية المذكورة يتعين البناء علي عدم جواز المس مطلقا في حق المستحاضة، و لا فائدة في التجديد بعد كونها مستمرة الحدث.

نعم، إذا وجب المس، لتوقف رفع الهتك عليه أو نحوه، فاللازم الاقتصار في الخروج عن عموم حرمة المس مع الحدث علي المتيقن، و هو صورة تخفيف الحدث بإيقاعه مقارنا للوظيفة و لو بتجديدها له، و لم يتضح من الإجماع أو السيرة ما يوجب الخروج عن ذلك.

(1) كأنه لاحتمال مانعية الحدث المستمر حينئذ من المس. لكن حيث كان الدليل هو الإجماع فمع القطع لأجله بعدم المانعية لا مجال للاحتياط الاستحبابي، و مع عدمه يتعين الرجوع لعموم مانعية الحدث من المس. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

انتهي الكلام في مبحث الاستحاضة صباح الاثنين السادس و العشرين من شهر شعبان في السنة الواحدة بعد الألف و الأربعمائة للهجرة. كما انتهي تبييضه ليلة السبت الرابع عشر من شهر شوال من السنة المذكورة.

ص: 318

المقصد الرابع في النفاس
اشارة

المقصد الرابع في النفاس

مسألة 41: تحديد النفاس و جملة من أحكامها
اشارة

(مسألة 41): دم النفاس (1)

تحديد النفاس

______________________________

(1) الاضافة للاختصاص، بلحاظ سببية النفاس للدم، لأن النفاس بالكسر ولادة المرأة، كما في الصحاح و مختاره و نهاية ابن الاثير و مفردات الراغب و لسان العرب و القاموس و مجمع البحرين و عن غيرها. و لعله المتبادر عرفا.

و لازمه ثبوت النفاس حقيقه لمن لا دم لها حين الولادة، و أن لم تترتب الأحكام، و هو يناسب اشتقاقه من النفس بمعناها المعروف أو من تنفس الرحم، كما احتمله غير واحد. لكن عن المطرزي: أنه ليس بذاك، و صرح في المبسوط و الخلاف و السرائر و المعتبر و عن جماعة بأنه مأخوذ من النفس بمعني الدم.

و يؤيده اطلاقه علي الحيض الذي هو دم من دون ولد. فإن المناسب لذلك كون النفاس عبارة عن خروج دم الولادة، فلا نفاس حقيقة لمن لا دم لها حينها، كما صرح به في الخلاف و المعتبر و المنتهي. و الأمر سهل بعد عدم الإشكال في كون موضوع الأحكام هو خروج الدم، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالي.

و لعله لذا عرفه جماعة من الأصحاب بنفس الدم، و صرح بعضهم بكونه معني اصطلاحيا له. و عليه تكون إضافته للدم بيانية. لكن في كفاية ذلك في كونه معني اصطلاحيا له إشكال، لقرب كونهم بصدد بيان موضوع الأحكام، لا تحديد مفهوم مستحدث.

و أما ما يظهر من بعضهم من كونه معني شرعيا له، فبعيد جدا، لاحتياج

ص: 319

هو دم يقذفه الرحم بالولادة (1)،

______________________________

النقل الشرعي إلي عناية. مضافا إلي عدم الشاهد له من استعمالات الشارع، إن لم يكن الشاهد منها علي خلافه. فلاحظ.

(1) يعني بسببها. لكن لا يعتني باحتمال عدم استناد الدم المتعقب للولادة لها. لأصالة النفاس في الدم المذكور، كما عن بعض الأعاظم قدّس سرّه. قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و العمدة في هذا الأصل- مضافا إلي ظهور الإجماع- بناء العرف عليه».

و حيث كان مقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة الأحكام الإيكال في تشخيصها للطرق العرفية يتعين متابعتهم في المقام. كما قد يستفاد أيضا من الإطلاقات اللفظية لبعض النصوص «1» مما تضمن عنوان الولادة و نحوه دون النفاس، و لم ينبه فيه علي اعتبار العلم باستناد الدم إليها. فتأمل.

هذا، و لا إشكال ظاهرا في صدقه و ترتب أحكامه مع صدق الولد علي ما تضعه و إن لم يكن تام الخلقة أو لم تحله الحياة. قال في مفتاح الكرامة: «الظاهر أنه لا كلام لأحد في الولد الغير التام في أن حاله كحال التام». لعدم الإشكال ظاهرا في صدق النفاس به لغة و عرفا فيشمله الإطلاق.

و أما لو كان مضغه فمقتضي إطلاق الشيخ في المبسوط ترتب الحكم مع السقط ترتب الحكم عليه و به صرح جمع كثير، و في الجواهر: أنه المعروف بينهم، بل لم أجد فيه خلافا. انتهي. و في التذكرة: «فلو رأت مضغه أو علقة بعد أن شهد القوابل أنه لحمة ولد و يتخلق منه الولد كان الدم نفاسا بالإجماع» و نحوه عن شرح الجعفرية.

نعم، توقف فيه في الحدائق، و عن مجمع البرهان و بعض مشايخنا القول بعدمه، لعدم وضوح صدق النفاس و لا الولادة به، بل عن بعض مشايخنا استيضاح عدم صدقهما. و عدم ثبوت الاجماع الحجة. قال في الحدائق: «و الظاهر أن أول من ذكر

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 3.

ص: 320

______________________________

ذلك المحقق في المعتبر و العلامة و تبعهما من تأخر عنهما، و كلام المتقدمين خال من ذلك، كما لا يخفي علي من راجعه».

لكن سبق من المبسوط تعميم الحكم للسقط الشامل للمقام، و قد تلقاه من بعده بالقبول. و يناسبه عدم تعرض الأصحاب لتحديد ما يتحقق به النفاس، لأن تطور المضغة حتي تبلغ نحوا يتضح معه صدق الولد تدريجي يمرّ بمراحل يشتبه فيها بنحو الشبهة المفهومية، فلو لا المفروغية عن عموم الحكم للمضغة لاحتيج للتنبيه علي الحدّ المذكور بنحو يسهل علي العامة تشخيصه.

و من هنا كانت دعوي الإجماع قريبة جدا ككاشفيته عن عموم الحكم شرعا، إذ من البعيد جدا الخطأ في ذلك بعد كثرة الابتلاء به و شيوعه.

نعم، الظاهر عدم ابتناء ذلك علي إلحاقه بالنفاس تعبدا، بل علي عموم النفاس له و صدقه عليه، و أن ذكر الولادة في تعريف النفاس- عند اللغويين- مبني علي الغلبة، مع كون حقيقته إلقاء الحمل و وضعه و إن لم يصر ولدا عرفا، أو إرادة ما يعم إلقاء ما يكون أصلا للولد من الولادة، كما يظهر من جماعة و لعله لذا قال سيدنا المصنف قدّس سرّه:

«لا يبعد الصدق و إن كان لا يخلو من خفاء»، و لا أقل من أدلة المقام كون ذلك هو مراد الشارع منه، إلغاء لخصوصية الولادة- لو كان المراد بها وضع ما يسمي ولدا- كما يناسبه ما هو المرتكز من تبعية الأحكام لحقيقة الدم التي لا يفرق فيها ارتكازا بين صدق الولد علي المضغة و عدمه، مؤيدا بخلو النصوص عن تحديد النفاس مع شدة الحاجة لذلك لو كان المراد به ما يصدق معه الولد، لما سبق من الابتلاء بموارد الاشتباه في صدقه بنحو الشبهة المفهومية.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا- فيما حكي عنه- من ظهور النصوص في تبعية صدق النفاس للولادة. فإن أراد من الولادة فيه ما يعم وضع ما هو أصل الولد، لم ينفع في إثبات مدعاه، و إن أراد منها وضع خصوص ما يصدق عليه الولد عرفا، فهو غير ظاهر المأخذ.

ص: 321

______________________________

و قد يؤيد بما ورد من تعميم حكم العدة للمضغة و أن المعيار فيها علي كونها مبدأ خلق آدمي، ففي موثق عبد الرحمن بن الحجاج أو صحيحه عن أبي الحسن عليه السلام:

«سألته عن الحبلي إذا طلقها زوجها فوضعت سقطا تم أو لم يتم أو وضعته مضغة.

فقال: كل شي ء يستبين أنه حمل تم أو لم يتم فقد انقضت عدتها و إن كان مضغة» «1»، فإن موضوع العدة و إن كان هو الحمل الصادق في الفرض، لا النفاس المفروض التشكيك في صدقه فيه، إلا أن جريهما علي نحو واحد قريب جدا. فتأمل.

و بالجملة: ترتب الحكم بوضع المضغة قريب جدا بالنظر للنصوص و كلمات الأصحاب.

و مما ذكرنا يظهر ترتب الحكم علي العلقة لو أحرز كونها مبدأ نشوء آدمي، كما في الدروس و عن نهاية الأحكام و البيان و الذكري و كشف الالتباس، و قد تقدم من التذكرة و عن شرح الجعفرية الإجماع عليه، كما يظهر من تعليل عدم ترتب الحكم معها و مع النطفة في المعتبر و المنتهي بعدم تعين الحمل معهما المفروغية عن ترتبه لو أحرز كونها مبدأ نشوء آدمي، و أن المانع عدم الإحراز.

لكن توقف فيه في جامع المقاصد حتي مع العلم بذلك، لانتفاء التسمية. قال في الروض: «و لا وجه له بعد فرض العلم. و لأنا إن اعتبرنا مبدأ النشوء فلا فرق بينها و بين المضغة مع العلم» و دفعه في المدارك بعدم صدق الولادة عرفا حتي مع العلم.

و يشكل: بأن المراد بالولادة إن كان هو وضع الولد فهو غير متحقق في المضغة، و إن كان هو ما يعم وضع مبدأ الولد فهو متحقق في العلقة، و لا وجه للفرق بينهما.

اللهم إلا أن يكون وضوح مسانخة المضغة للإنسان لكونهما معا لحما عرفا هو منشأ الفرق بينها و بين العلقة، حيث يكون تبدل العلقة له من سنخ التحول و الاستحالة، و تبدل المضغة له من سنخ التكامل و التطور في الشي ء الواحد عرفا، و المراد بمبدإ نشوء الآدمي الثاني، لا ما يعم الأول.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب العدد حديث: 1.

ص: 322

______________________________

و قد يظهر ذلك من حديث عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم، حيث قد يظهر في أن مبدأ صدق الحمل هو المضغة و أنها أخفي أطواره.

و أظهر من ذلك النطفة المستقرة في الرحم بعد التلقيح. و لعله لذا لم يعرف القول بترتب الحكم عليها. بل نفي غير واحد الإشكال في عدم ترتبه، و إن كان مقتضي التعليل المتقدم من المعتبر و المنتهي ترتبه في فرض إحراز حالها، و قد ينسب للذكري احتماله.

و أما ما سبق من ظهور حالهم في عموم الحكم لكل ما يكون مبدأ نشوء آدمي، لعدم تحديدهم ما يتحقق به النفاس مع شدة الحاجة لتحديده. فلا مجال له هنا، لعدم شيوع الابتلاء بذلك بسبب غلبة تعذر العلم بكون العلقة مبدأ نشوء آدمي- كما صرح به غير واحد- لكثرة ابتلاء النساء بالقاء دم آخر متجمع في الحيض و الاستحاضة مشتبهة بها، و تعذر تمييز النطفة الملحقة قبل تحولها، و ليس الحال كالمضغة التي لا تبتلي المرأة غالبا بإلقاء مشابه لها في غير حال الحمل، فيتيسر تمييزها بسبب ذلك. فلاحظ.

هذا، و حيث فرض عدم نهوض الأدلة بكون الدم المذكور نفاسا فمن الظاهر عدم البناء علي حيضيته لو كان فاقدا لشرائط الحيض، كما لو لم يبلغ اقله او لم ينفصل عن الحيض السابق بأقل الطهر. و أما لو كان واجدا لشرائطه فالبناء علي حيضيته مبني علي ثبوت عموم يقتضي حيضية كل دم بعد البلوغ واقعا، و قد سبق في التنبيه الأول من تنبيهات قاعدة الإمكان تقريب العموم المذكور.

لكن الظاهر قصوره عن الدم في المقام، لاختصاص الدليل عليه بالنصوص الواردة في بعض الموارد الخاصة بضميمة عدم الفصل، الذي لا مجال لإحرازه في المقام بعد مسانخة الدم المذكور لدم النفاس و مباينته لدم الحيض ارتكازا كما سبق قصور قاعدة الإمكان عن إثبات حيضية الدم في مورد الشبهة الحكمية.

و حيث سبق في أول مبحث الاستحاضة تقريب انحصار دم المرأة بالدماء الثلاثة بتردد الدم في المقام بينها، و قد سبق أن اللازم في مثل ذلك ترتيب أحكام

ص: 323

______________________________

الاستحاضة، لأن مقتضي أصالة عدم الحيض و النفاس عدم ترتب أحكامهما و تكليف المرأة بالعبادة، و حيث يعلم ببطلانها مع عدم القيام بوظائف المستحاضة يتعين قيامها بها. فراجع.

ثم أنه لو علم بأن المضغة أو العلقة- علي القول بترتب حكم النفاس عليها- مبدأ نشوء آدمي فلا إشكال. أما لو شك في ذلك بنحو الشبهة الموضوعية فقد صرح غير واحد بقبول شهادة القوابل في ذلك، كما تقدم من التذكرة و عن غيرها دعوي الإجماع عليه. و في الدروس و عن الذكري و غيرها لزوم الأربع.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لا إشكال في حجية شهادة القوابل الأربع في الجملة في إثبات الولادة و النفاس، و إنما الإشكال في حجية شهادة الاثنين و الواحدة، فعن المفيد و غيره ذلك. و يشهد به بعض النصوص الواجب حمله علي الحجية بالنسبة إلي النصف أو الربع جمعا بين النصوص … و الكلام في ذلك موكول إلي محله من كتاب الشهادات».

لكن الظاهر من نصوص الشهادة «1» قبول شهادتهن في الأمور الحسية، كالعذرة، و استهلال المنفوس، الذي هو مورد التفصيل الذي أشار إليه قدّس سرّه، دون الأمور الحدسية الاجتهادية، كالمقام، بل الرجوع إليهن فيها ليس بملاك الشهادة، بل بملاك الرجوع إلي أهل الخبرة، الذي لا يتقيد بعدد و لا نوع و لا عدالة، بل المعيار فيه الثقة بمقتضي بناء أهل العرف، فلا بد في الخروج عنه من دليل، و لا يتضح لنا عاجلا.

و حمله علي الشهادة قياس.

هذا، و لو لم يتيسر طريق للإحراز يتعين البناء علي عدم النفاس لاستصحاب عدمه، و الحكم بالحيض، لقاعدة الإمكان، و مع تعذره فبالاستحاضة، بناء علي ما تقدم في أول بحث الاستحاضة من أنها الأصل في الدم الذي ليس بحيض و لا نفاس.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 24 من أبواب كتاب الشهادات.

ص: 324

معها أو بعدها (1).

______________________________

(1) أما بعدها فهو المتيقن من النص و الفتوي، المدعي عليه الإجماع في كلام غير واحد و أما معها فهو المصرح به في كلام جماعة كثيرة، كالشيخ و الفاضلين و الشهيدين و المحقق الثاني و غيرهم، كما قد يظهر من آخرين، و في جامع المقاصد و عن شرحي الجعفرية و كشف الالتباس أنه المشهور، و ظاهر الخلاف الاجماع عليه عندنا، حيث قال: «الدم الذي يخرج قبل خروج الولد لا خلاف في أنه ليس بنفاس، و ما يخرج بعده لا خلاف في كونه نفاسا، و ما يخرج معه عندنا يكون نفاسا، و اختلف اصحاب الشافعي … ».

و استدل عليه.. تارة: بصدق النفاس به، لأنه دم قد خرج بخروج الولد.

و أخري: بموثق السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام: «قال: قال النبي صلي اللّه عليه و آله: ما كان اللّه ليجعل حيضا مع حبل. يعني: إذا رأت الدم و هي حامل لا تدع الصلاة، إلا أن تري علي رأس الولد إذا ضربها الطلق و رأت الدم تركت الصلاة» «1»، و الصحيح عن زريق (رزيق) عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «ان رجلا سأله عن امرأة حاملة رأت الدم. قال: تدع الصلاة. قلت: فإنها رأت الدم و قد أصابها الطلق فرأته و هي تمخض. قال: تصلي حتي يخرج رأس الصبي، فإذا خرج رأسه لم تجب عليها الصلاة … قلت: جعلت فداك ما الفرق بين دم الحامل و دم المخاض؟ قال: إن الحامل قذفت بدم الحيض، و هذه قذفت بدم المخاض إلي أن يخرج بعض الولد، فعند ذلك يصير دم النفاس … » «2»

و يشكل الأول بعدم وضوح صدق النفاس في المقام بعد عدم التفات العرف لمثل هذه التدقيقات، ليعلم إطلاقهم النفاس في المقام، بل تفريقهم في صدقه بين دم المخاض الخارج قبل خروج جزء من الولد، و المقارن لخروجه قبل إتمام الولادة بعيد.

بل هو مردد ارتكازا بين خصوص الخارج بعد الولادة، فيقصر عنهما معا، و مطلق

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 17.

ص: 325

______________________________

الخارج بسبب تهيؤ الرحم لها، فيشملهما.

كما أن مقتضي الجمود علي تعريف اللغويين بولادة المرأة إذا وضعت- لو كان حجة- قصوره عن المقام. و ما عن بعض مشايخنا من صدق الولادة بالشروع فيها، غير ظاهر. و لا أقل من إجمال النفاس بالإضافة للفرد المذكور، فيرجع لعموم أحكام الطاهر.

و الثاني باشتمال موثق السكوني علي عدم حيض الحامل- الذي سبق عدم الالتزام به- و باحتمال كون التفسير من الراوي. و بضعف حديث زريق «رزيق» لعدم النص علي توثيقه، و عدم وضوح انجباره بعمل الأصحاب بعد عدم إشارة الأكثر له في مقام الاستدلال و عدم إثباته في كتب الحديث المشهورة، و إنما حكي عن مجالس الشيخ قدّس سرّه.

و لعله لذا حدد في الغنية النفاس بما يخرج عقيب الولادة، و حكاه غير واحد عن المرتضي، كما حكاه في كشف اللثام عن الجمل و العقود و الكافي و الإصباح و الجامع.

و يدل عليه موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في المرأة يصيبها الطلق أياما أو يوما أو يومين، فتري الصفرة أو دما. قال: تصلي ما لم تلد … » «1»، و قريب منه موثقة الآخر «2»، إن لم يكن عينه.

اللهم إلا أن يقال: اشتمال موثق السكوني علي عدم حيض الحامل لا يمنع من الاستدلال به في المقام، لما تكرر من إمكان التفكيك في الحجية بين مضامين الحديث الواحد. و ليست الفقرة المذكورة متفرعة علي مفاد النبوي الذي هو عدم حيض الحامل، ليمتنع العمل بها بامتناع العمل به، بل هي أمر زائد علي مفاده راجعة لتحديد مبدأ النفاس. و احتمال كون التفسير من الراوي بعيد، لا يناسب التفصيل الذي تضمنه، لما ذكرناه من زيادته علي مضمون النبوي. فليس من شأن غير الإمام التفسير به.

و زريق (رزيق) و إن لم ينص أحد علي توثيقه إلا أنه قد تستفاد رفعة شأنه مما عن ابن النديم من عدّه من مشايخ الشيعة الذين رووا الفقه عن الأئمة عليهم السلام. فتأمل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب النفاس حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب النفاس حديث: 3.

ص: 326

لا حد لقليل النفاس

و لا حدّ لقليله (1)،

______________________________

و من هنا لا يبعد البناء علي ذلك و الخروج عن ظاهر موثقي عمار بحملهما علي الشروع في الولادة في قبال ما يخرج حالة الطلق قبل ظهور شي ء من الولد. بل جوّز في كشف اللثام كون ذلك مراد من سبق نسبة الخلاف إليه. و قد يؤيده ما سبق من الخلاف من ظهور دعوي الإجماع علي النفاس في المقام. فلاحظ.

(1) بلا خلاف، كما في جامع المقاصد و الحدائق و عن شرحي الجعفرية، و إجماعا، كما في الناصريات و الخلاف و الغنية و المعتبر و المنتهي و التذكرة و الروض و المدارك و كشف اللثام و محكي الذكري و غيرها. و كفي بذلك دليلا في مثل هذه المسألة التي يشيع الابتلاء بها، فيمتنع عادة خفاء حكمها.

مضافا إلي أن المراد بالتحديد إن كان هو نفي نفاسية ما نقص عن الحد- كما هو المراد من التحديد في الحيض- فهو مخالف لإطلاق أدلة أحكام النفاس، حيث لا إشكال في صدقه عرفا حتي مع فقد الحدّ.

و لا مجال للاستدلال عليه بدعوي كون النفاس بمنزلة الحيض، لما يأتي في تحديد أكثر النفاس من عدم ثبوت ذلك. و إن كان هو تحقق النفاس بقدر الحدّ و لو مع انقطاع الدم- كما لعله الظاهر من بياناتهم- فهو مخالف لإطلاق أدلة أحكام الطاهر، لأنها و إن كانت مقيدة بأدلة أحكام النفاس، إلا أن مبدأ النفاس لما كان هو وضع الولد فاستمراره عرفا إنما يكون باستمرار أثره، و هو الدم، و لا أقل من عدم وضوح استمراره بدونه، فيرجع مع انقطاعه لاطلاقات أحكام الطاهر.

هذا، و قد يستدل أيضا بخبر ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن النفساء كم حدّ نفاسها حتي يجب عليها الصلاة، و كيف تصنع؟ قال: ليس لها حدّ» «1»، بدعوي: أن تعذر العمل به في طرف الكثرة لا يمنع من حجيته في طرف القلة.

و يشكل بقوة ظهوره في نفي التحديد من طرف الكثرة بقرينة قوله: «حتي يجب

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب النفاس حديث: 1.

ص: 327

و حد كثيرة عشرة أيام (1) من حين الولادة.

______________________________

عليها الصلاة» فيتعين سقوطه عن الحجية لا حمله علي نفي التحديد من طرف القلة.

نعم، قد يستدل بصحيح علي بن يقطين: «سألت أبا الحسن الماضي عليه السلام عن النفساء و كم يجب عليها ترك الصلاة؟ قال: تدع الصلاة ما دامت تري الدم العبيط إلي ثلاثين يوما، فإذا رق و كانت صفرة اغتسلت و صلّت إن شاء اللّه تعالي» «1»، و حديث الأعمش عن جعفر بن محمد في حديث شرايع الدين: «قال و النفساء لا تقعد أكثر من عشرين يوما إلا أن تطهر قبل ذلك … » «2»، و حديث الفضل عن الرضا عليه السلام في كتابه إلي المأمون: «قال: و النفساء لا تقعد عن الصلاة أكثر من ثمانية عشر يوما، فإن ظهر قبل ذلك صلت» «3».

بدعوي: أن مقتضي الغاية في الأول و الاستثناء في الثاني و إطلاق الثالث انتهاء النفاس بانقطاع الدم و إن قل أمده و لا يمنع من العمل بها في ذلك اشتمالها علي التحديد في طرف الكثرة بما قد لا يلتزم به، لإمكان التفكيك في الحجية بين مضامين الحديث الواحد مع عدم الارتباطية بينها و عدم تفرع بعضها علي بعض. فتأمل جيدا.

الكلام في أكثر النفاس
منها قول المشهور بأن أكثر النفاس عشرة أيام من حين الولادة
اشارة

(1) كما في المقنعة و النهاية و الخلاف و التهذيب و الاقتصاد و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و السرائر و الشرائع و النافع و المعتبر و التذكرة و المنتهي و القواعد و الإرشاد و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و محكي نهاية الأحكام و التحرير و الذكري و البيان و كشف الرموز و جملة غيرها، و قد يظهر من المقنع، حيث أفتي به أولا، ثم ذكر أنه قد روي مضامين أخر، و نحوه في الناصريات، كما حكاه غير واحد عن علي بن بابويه.

و هو الأشهر كما عن الجعفرية، و المشهور، كما في التذكرة و جامع المقاصد و اللمعة و محكي الذكري و كشف الالتباس و فوائد الشرائع و شرح الجعفرية، و مذهب الأكثر، كما في المبسوط و كشف اللثام، بل ظاهر أو محتمل الغنية الإجماع عليه، بل هو

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 16.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 25.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 24.

ص: 328

______________________________

صريح الخلاف و إن صرح فيه أيضا قبل ذلك بوجود الخلاف.

و كيف كان،

فقد استدل عليه بوجوه:
الأول: عموم أحكام الطاهر،

حيث يجب الاقتصار في الخروج عنه علي المتيقن، و هو ما لا يزيد علي الحد المذكور. و يشكل بأن الظاهر كون النفاس كالحيض أمرا واقعيا محدد المفهوم عند العرف، و هو خروج الدم المسبب عن الولادة لا إجمال في مفهومه.

و تحديده شرعا إما أن يرجع إلي بيان حدّه الواقعي الذي يرتفع معه واقعا و إن خفي علي العرف لبقاء الدم، نظير ما سبق في الحيض، أو إلي بيان حدّ أحكامه و أن بقي ببقاء الدم.

و علي الأول يتعين الرجوع لاستصحابه، لتمامية أركانه، و ليس هو من استصحاب المفهوم المردد، لما ذكرنا من عدم الإجمال في المفهوم، و إنما الشك في حال المصداق، كما لا مجال لما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم جريان الاستصحاب في التدريجيات، بعد أن حققنا في محله تبعا له و لغيره من جريانه. و بذلك يستغني عن استصحاب أحكام النفاس الذي قد يشكل بعدم إحراز بقاء الموضوع.

و علي الثاني يتعين الرجوع لإطلاق أدلة أحكام النفاس المقدم علي إطلاق أدلة أحكام الطاهر، لأن تحديده يكون من سنخ التقييد له، فيقتصر فيه علي المتيقن.

هذا، و قد يدعي الاستغناء عن استصحاب النفاس علي الوجه الأول، لأنه حيث كان المعيار في تشخيص الموضوع علي العرف بمقتضي الإطلاقات المقامية، و كان العرف حاكما بتبعية النفاس للدم، فردع الشارع عن ذلك ببيان الحدّ له يقتضي الاقتصار في الخروج عما عليه العرف علي المتيقن مما ردع الشارع عنه في فرض إجمالا، عملا بالإطلاق المقامي في المشكوك، بلا حاجة للاستصحاب.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لعدم بناء العرف علي نفاسية كل يوم يوم بنحو العموم الانحلالي، ليقتصر في الخروج عن العموم المذكور علي المتيقن، بل يرجع بناؤهم إلي أمر واحد، و هو تبعية النفاس لاستمرار الدم، فبيان الشارع لحدّه راجع إلي تخطئتهم

ص: 329

______________________________

في الأمر المذكور و إجمال حدّ النفاس، و يتعين الرجوع للاستصحاب، كما سبق.

نعم، لا مجال للاستصحاب المذكور فيما لو لم تري الدم إلا بعد مضي الحد المحتمل الأقل، كما لو رأته في اليوم الحادي عشر من الولادة، بناء علي أن لازم البناء علي التحديد بالثمانية عشر يوما مثلا البناء علي كونه نفاسا، لوضوح أن الشك في التحديد بالثمانية عشر و احتمال كون الحد عشرة أيام مستلزم للشك في حدوث النفاس الذي يكون المرجع فيه استصحاب عدمه.

كما لا مجال في مثله للرجوع إلي عموم أحكام النفساء علي الوجه الثاني المتقدم، لعدم وضوح بناء العرف علي نفاسيته، بل مقتضي استصحاب عدم النفاس الرجوع لعموم أحكام الطاهر، كما قرر في الاستدلال بهذا الوجه. لكنه فرض نادر.

الثاني: الإجماع

المدعي في الخلاف و الغنية المعتضد بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا، كما في الجواهر. و يشكل بما أشرنا إليه آنفا من صراحة صدر كلام الخلاف في تحقق الخلاف بين أصحابنا. و من ثم قد يكون مرجع الإجماع المدعي منه بعد ذلك إلي الاجماع علي القاعدة المقتضية بنظره للرجوع إلي عموم احكام الطاهر بالوجه المتقدم او الاجماع علي بطلان الأقوال الأخر التي حكاها عن العامة، كما احتمله شيخنا الأعظم قدّس سرّه و إن كان بعيدا عن ظاهر كلامه.

كما ان كلام الغنية غير صريح في دعوي الإجماع علي الحكم المذكور، فإنه بعد أن حدد النفاس بعشرة أيام قال: «و هي و الحائض سواء في جميع الأحكام إلا في حكم واحد، و هو أن النفاس ليس لأقله حد. و ذلك بدليل الإجماع» حيث يحتمل رجوع الإجماع للمستثني وحده. علي ان ظهور حال الخلاف و الغنية و نحوهما مما يكثر فيه دعوي الإجماع في موارد الخلاف تمنع من التعويل علي الإجماع المذكور في المقام، و لا سيما مع ظهور الخلاف من بعض أساطين الأصحاب، و ظهور كلام جملة منهم في أن المسألة من المسائل الخلافية النظرية منهم الشيخ نفسه في المبسوط، حيث اقتصر علي نسبة القول بالعشرة للشهرة دون أن يظهر منه الفتوي به.

ص: 330

______________________________

بل أدني نظر في النصوص و كلام الأصحاب يشهد بكونها من المشكلات التي لا يستوضح حالها من الإجماع و نحوه. و منه يظهر اندفاع ما عن بعض مشايخنا من الاستدلال بالشهرة الفتوائية في المقام، بدعوي امتناع خطئها عادة في مثل هذه المسألة التي يكثر الابتلاء بها.

وجه الاندفاع: أن ذلك إنما يتم مع عدم ظهور الخلاف للشهرة، و لا مجال له في مثل هذه المسألة التي يظهر اضطراب عمل الشيعة و فتاوي فقهائهم فيها من الصدر الأول، كما يظهر بملاحظة بعض نصوص المسألة «1»، و إنما استقرت الشهرة علي العشرة بعد الشيخ، و لا أهمية لمثلها.

الثالث: ما تضمن أن النفاس حيض محتبس،

كما ذكره غير واحد. و يشكل بعدم ثبوت المضمون المذكور من النصوص.

نعم، في خبر مقرن عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: سأل سلمان رحمه اللّه عليا عليه السلام عن رزق الولد في بطن أمه. فقال: إن اللّه تبارك و تعالي حبس عليه الحيضة فجعلها رزقه في بطن أمه» «2». و هو إنما يدل علي أن رزق الولد قبل خروجه من دم الحيض. كما تضمنه صحيح سليمان بن خالد «3»، لا أن النفاس الخارج بعد خروج الولد من سنخ دم الحيض.

نعم، أرسل ذلك في كلام غير واحد إرسال المسلمات. لكنه غير واضح الوجه، بل هو لا يناسب كون الحيض رزق الولد، بل الأنسب به عدم خروج دم الحيض إلا بعد مضي مقدار الطهر بعد الوضع ليتجمع في المدة المذكورة لو لم يتحول للرضاع.

علي أنه لو تم لم يستلزم مشاركته للحيض في حدوده، لظهور أدلة التحديد في ثبوت الحدود للحيض بعنوانه، لا لسنخ دمه. و إنما يتجه ذلك لو ورد بلسان التنزيل الشرعي. و لم يثبت.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 7، 9، 11.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 13.

(3) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 14.

ص: 331

الرابع: بعض النصوص المدعاة في المقام،

______________________________

ففي السرائر: «و ذكر الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان رضي اللّه عنه في جواب سائل سأله فقال: كم قدر ما تقعد النفساء عن الصلاة و كم مبلغ ذلك؟ فقد رأيت في كتابك كتاب أحكام النساء أحد عشر يوما، و في الرسالة المقنعة ثمانية عشر يوما، و في كتاب الاعلام أحدا و عشرين يوما، فعلي أيها العمل دون صاحبه؟ فأجابه بأن قال: الواجب علي النفساء أن تقعد عشرة أيام، و إنما ذكرت في كتبي ما روي من قعودها ثمانية عشر يوما و ما روي في النوادر استظهارا بأحد و عشرين يوما. و عملي في ذلك علي عشرة أيام، لقول الصادق عليه السلام:

لا يكون دم نفاس زمانه أكثر من زمان الحيض» «1».

و في المقنعة: «و أكثر أيام النفاس ثمانية عشر يوما. و قد جاءت أخبار معتمدة بأن أقصي [انقضاء] مدة النفاس مدة الحيض، و هو عشرة أيام. و عليه العمل لوضوحه عندي»، بناء علي ان هذا الذيل من المقنعة، كما هو الموجود في المطبوع منها، المناسب لعبارة التهذيب في شرحها، و عليه جري في المختلف و المدارك و الوسائل و غيرها.

لكن نسبه في جامع المقاصد و الروض و محكي الذكري للتهذيب، و قد يناسبه ما سبق من السرائر من نسبة الثمانية عشر يوما للمقنعة. كما نسبه في كشف اللثام لكلا الكتابين، كل منهما في موضع من كلامه.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «لا يهم تحقيق ذلك، لأن إرسال الشيخ لا يقصر عن إرسال المفيد».

و في التهذيبين بعد أن ذكر حديث ابن سنان المتضمن أنه تسع عشرة ليلة قال:

«و قد روينا عن ابن سنان ما ينافي هذا الخبر، و أن أيام النفساء مثل أيام الحيض … » و في النافع: «و في أكثره روايات أشهرها أنه لا يزيد عن أكثر الحيض». لكن هذه النصوص كما تري لا تنهض بإثبات المطلوب بعد إرسالها.

و دعوي: أن إرسال مثل الشيخين لا يقصر عن إرسال مثل ابن أبي عمير

______________________________

(1) السرائر ص: 5 عند الكلام في أخبار الآحاد في أواخر المقدمة قبيل كتاب الطهارة.

ص: 332

______________________________

و نحوه من أصحاب الاجماع ممنوعة، لابتناء قبول مراسيل هؤلاء علي دعوي أنهم لا يروون و لا يرسلون إلا عن ثقة، و لم يدع ذلك أحد في حق مثل الشيخين، بل لا مجال لدعواه، و لا سيما مع تعدد الوسائط بينهم و بين المعصومين عليهم السلام.

مضافا إلي قرب كونها منقولة بالمعني، و أن المراد بأيام الحيض فيما أرسله في التهذيبين عن ابن سنان أيام العادة، و أن المراد بباقيها النصوص الكثيرة المتضمنة اقتصار النفساء علي مقدار عادتها وحده أو مع الاستظهار، كما يناسبه ظهور ما تقدم من المقنعة و النافع في كثرة النصوص المدعاة، مع أنه ليس في كتب الحديث و الفقه التي بأيدينا عين و لا أثر لنص يتضمن تحديد النفاس بعشرة، و إنما الموجود فيها نصوص العادة، بل هو كالمقطوع به بملاحظة اقتصار الشيخ في التهذيب و المحقق في المعتبر في شرح المقنعة و النافع علي نصوص العادة.

نعم، في الرضوي: «و النفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها، و هي عشرة أيام، و تستظهر بثلاثة أيام، ثم تغتسل، فإذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة، و قد روي: ثمانية عشر يوما، و روي: ثلاثة و عشرين يوما. و بأي هذه الأحاديث أخذه جاز» «1». لكنه- مع ندرته، و ضعفه في نفسه- مشتمل علي الاستظهار زائدا علي العشرة، و مخير بين ذلك و بقية الروايات.

و من هنا يلزم النظر في نصوص الرجوع للعادة، و هي كثيرة، ذكر منها في الوسائل تسعة. منها صحيح زرارة عن أحدهما عليهما السلام: «قال: النفساء تكف عن الصلاة أيامها التي كانت تمكث فيها، ثم تغتسل و تعمل كما تعمل المستحاضة» «2» و صحيحه الآخر عن أبي جعفر عليه السلام: «قلت له: النفساء متي تصلي؟ قال: تقعد قدر حيضها و تستظهر بيومين، فإن انقطع الدم، و إلا اغتسلت و احتشت و استثفرت و صلت … » «3» و غيرهما. و عليها اقتصر الكليني مضيفا إليها ما يدل علي استمراره

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 1 من أبواب النفاس حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 2 و باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 333

______________________________

للثمانية عشر، و يظهر منه عمله بمضمونها. و قد أشار في الجواهر إلي الاستدلال بها تارة: بأن المنساق منها مساواة النفاس للحيض.

و أخري: بأنها أمرت بالرجوع للعادة، و أقصاها عشرة فأقصاها عشرة.

و ثالثة: بأن يراد بأيامها الأيام التي يمكن أن يكون الدم فيها حيضا. و الكل كما تري، لاندفاع الأول- مضافا إلي اختصاص النصوص بذات العادة- بأن مساواة النفاس للحيض في الرجوع للعادة لا يستلزم مساواته له في الحدّ، كيف و مرجع الأمر بالرجوع للعادة حجيتها و لزوم التعيين بها ظاهرا، لا إلي التحديد بها واقعا في الحيض، فضلا عن النفاس، فكما أمكن زيادة الحيض علي العادة واقعا يمكن ذلك في النفاس بل لا إشكال فيه فيما لو كانت العادة دون العشرة، و لذا نصت النصوص علي الاستظهار.

و أما فهم عموم مساواة النفاس للحيض من ذلك بإلغاء خصوصية الرجوع للعادة أو بتنقيح المناط أو عدم الفصل، فهو يحتاج إلي لطف قريحة، أو قرينة خاصة لا تنهض بها نفس النصوص، و قد يأتي الكلام فيها.

و منه يظهر اندفاع الثاني، لأن الرجوع في النفاس للعادة إذا كانت عشرة أيام إنما هو لحجيتها عليه ظاهرا، لا لتحديدها به واقعا، مع أنه مختص بمن تكون عادتها عشرة. و لعله لذا أمر قدّس سرّه بالتأمل.

و أما الثالث فهو مخالف لظاهرها، كما اعترف به قدّس سرّه في الجملة، بل لصريح جملة منها، كصحيح زرارة الأول، لاشتماله علي توصيف الأيام بأنها التي كانت تمكث فيها، و قريب منه غيره. كما لا يناسب ما اشتمل عليه جملة منها من ضم الاستظهار.

نعم، قد يستدل بما تضمن منها الاستظهار للعشرة، و هو صحيح يونس:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن امرأة ولدت، فرأت الدم أكثر مما كانت تري، قال: فلتقعد أيام قرئها التي كانت تجلس ثم تستظهر بعشرة أيام، فإن رأت دما صبيبا فلتغتسل عند وقت كل صلاة … » «1»، بناء علي أن المراد انتهاء الاستظهار بانتهاء العشرة، إما لما

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 3.

ص: 334

______________________________

ذكره الشيخ من أن الباء هنا بمعني (إلي) لقيام حروف الصفات بعضها مقام بعض، أو لأن المراد كون الاستظهار بالانتهاء للعشرة لا بتمامها. و يؤيده صحيحه الآخر الوارد بنفس السند و المتن في الحيض «1».

و قد يوجه الاستدلال به حينئذ بما في الجواهر من أن المراد بالاستظهار طلب ظهور الحال، فلو لم يكن أكثره عشرة لما كان في انتظارها ظهور الحال.

لكنه يشكل بأن طلب ظهور الحال عندهم- كما يظهر مما سبق منهم في الحيض- إنما هو بمعني طلب ظهور حال الدم، و أنه ينقطع علي العشرة أو يستمر بعدها، فإن انقطع انكشف نفاسية ما زاد علي العادة، و إن استمر انكشف عدمها، و من الظاهر أن الانكشاف المذكور- لو تم- تعبدي و لا يستلزم بوجه كون أكثر النفاس عشرة.

علي أنه تقدم في الحيض أن الاستظهار ليس هو طلب ظهور الحال، بل هو الاحتياط و الاستيثاق مراعاة لاحتمال الحيضية أو النفاسية، و حينئذ يمكن تشريع الاحتياط المذكور قبل العشرة، دون ما بعدها و إن كان الاحتمال موجودا، و لذا تضمنت جملة من النصوص هنا و في الحيض الاستظهار باليوم و اليومين و الثلاثة، مع أنها قد لا تبلغ العشرة و تنزيل الجميع علي العشرة كما في الجواهر في غير محله، كما سبق.

و منه يظهر ضعف ما عن بعض مشايخنا من أنه لو لم يكن أكثر النفاس عشرة لم يكن وجه لاقتصار الاستظهار عليها.

ثم أنه قد يستأنس بذلك و بالرجوع للعادة لمساواة النفاس للحيض في الأكثر مؤيدا بتساويهما في الأحكام الأخر، بل في الجواهر أنه يشعر به ما في صحيح زرارة الآخر المتقدم بعد الحكم برجوع النفساء للعادة ثم الاستظهار: «قلت: و الحائض. قال: مثل ذلك سواء، فإن انقطع عنها الدم، و إلا فهي مستحاضة تصنع مثل النفساء سواء … » «2».

لكن الجميع كما تري أشبه بالقياس لا ينهض بإثبات حكم شرعي، و لا سيما

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 335

______________________________

مع اختلافهما في الحدّ الأقل. و لا ظهور للصحيح في مساواة الحائض للنفساء مطلقا، بل في خصوص الرجوع للعادة و الاستظهار، فيجري فيه ما تقدم.

منها اكثر النفاس خروجها قبل الثمانية عشر
اشارة

نعم، قد يستدل بما يأتي من النصوص الدالة علي خروجها من النفاس قبل الثمانية عشر، بناء علي عدم الواسطة بين العشرة و الثمانية عشر، علي ما يأتي الكلام فيه و في بقية الوجوه المستدل بها لهذا القول.

هذا، و قد سبق عن المفيد القول بالثمانية عشر في بعض كتبه، و عليه جري في الفقيه و الهداية و الانتصار و الموصليات و المراسم و محكي جمل المرتضي و ابن الجنيد، و قربه في المختلف و المنتهي و محكي التنقيح في الجملة علي ما يأتي كما نفي عنه البعد في محكي مجمع البرهان. و لعله إليه يرجع ما عن ابن عقيل، فإن كلامه و أن تضمن أن أقصي جلوسها واحد و عشرون يوما، إلا أن ظاهره كون النفاس تعبدا هو الثمانية عشر، و أن ما زاد عليها استظهار. قال قدّس سرّه فيما حكي عنه: «أيامها [عند آل الرسول عليهم السلام] أيام حيضها، و أكثره أحد «1» و عشرون يوما، فإن انقطع دمها في تمام حيضها صلت و صامت، و إن لم ينقطع صبرت ثمانية عشر يوما، ثم استظهرت بيوم أو يومين، و إن كانت كثيرة الدم صبرت ثلاثة أيام، ثم اغتسلت و احتشت و استثفرت و صلت» فيكون نظير ما ذكره الصدوق في الأمالي من أن أكثر النفاس ثمانية عشر يوما و تستظهر بيوم أو يومين كما ربما يرجع اليه ما سبق من السرائر عن المفيد في كتاب الاعلام بأن يختص بكثيرة الدم.

نعم، ما ذكره في صدر كلامه من أن أيامها أيام حيضها لا يناسب ذلك. إلا أن يبتني علي نحو جمع بين النصوص يأتي الكلام فيه.

و الحاصل: أن القول المذكور معتد به بين القدماء، بل في الانتصار: «و مما انفردت به الإمامية القول بأن أكثر النفاس مع الاستظهار التام ثمانية عشر يوما …

______________________________

(1) في نسخة ذكرت في مفتاح الكرامة (أحد عشر يوما). لكنها مع- اختصاصها به و عدم وجودها في كلام غيره ممن نقل كلام ابن أبي عقيل كالمحقق و العلّامة و غيرهم- لا تناسب بقية كلامه. (منه عفي عنه).

ص: 336

______________________________

و الذي يدل علي صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد ذكره.. و أيضا فإن الأيام التي ذكرناها مجمع علي أنها نفاس … و قد تكلمنا في هذه المسألة في جملة ما خرج لنا من مسائل الخلاف». و نحوه ذكر في الموصليات لكن حكي في السرائر عن مسائل خلافه العدول إلي القول بالعشرة، و أنه قال: «عندنا الحد في نفاس المرأة أيام حيضها التي تعهدها، يعني: أكثرها. و قد روي: أنها تستظهر بيوم أو يومين. و روي في أكثره: خمسة عشر يوما. و روي أكثر من هذا. و الأثبت ما تقدم».

بل قد يظهر من السرائر انحصار القول بالثمانية عشر بالمفيد و المرتضي، و أنهما عادا عنه، و أنه ليس في أصحابنا من ثبت عليه. لكن يظهر ضعفه مما تقدم من نسبته لغيرهما، و باحتمال عودهما من العشرة إلي الثمانية عشر، دون العكس. و لا سيما مع ما صرح به في الخلاف و المبسوط من اختلاف أصحابنا في التقدير بالوجهين، الظاهر في ثبوتهم عليه.

و كيف كان،

فيدل عليه جملة من النصوص:
منها: ما ورد في قضية أسماء بنت عميس حين نفست بمحمد بن أبي بكر.

و هي علي طائفتين:

الأولي: ما تضمن مجرد أمر النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لها بوظيفة المستحاضة بعد الثمانية عشر، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: «ان أسماء بنت عميس نفست بمحمد بن أبي بكر فأمرها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم حين أرادت الإحرام من ذي الحليفة أن تحتشي بالكرسف و الخرق و تهل بالحج، فلما قدموا مكة و قد نسكوا المناسك و قد أتي بها ثمانية عشر يوما فأمرها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أن تطوف بالبيت و تصلي و لم ينقطع عنها الدم ففعلت ذلك» «1» و غيره.

و لا يخفي أنها بمدلولها المطابقي إنما تدل علي عدم زيادة النفاس عنها، و لا تنافي انتهاءه قبلها، كما يأتي التنبيه عليه في بعض النصوص، إلا أنه يمكن الاستدلال

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 6.

ص: 337

______________________________

بها بضميمة استبعاد جهل أسماء بالحكم، بحيث يمضي عليها ثمانية أيام أو أكثر قد طهرت من نفاسها و هي ترتب أحكامه، فتترك الصلاة، و تبقي علي حج الإفراد من دون أن تعمل بتشريع المتعة الذي نزل في الحجة المذكورة بعد مضي ما يقرب من عشرة أيام من ولادتها تقريبا. لأنها ولدت في أول خروجهم من المدينة- كما تضمنته بعض النصوص- «1» و نزلت المتعة بعد دخولهم مكة و قيامهم بأعمال العمرة و كان طريقهم ثمانية أو تسعة أيام، كما تضمنته بعض النصوص أيضا، حيث يصلح ذلك منبّها للسؤال عن حكمها، كما سألت عن كيفية إحرامها في أول الأمر، و عن طوافها و صلاتها بالبيت بعد قضاء المناسك.

بل شيوع الابتلاء بالنفاس و عدم الداعي لإخفاء حدّه في عصره صلّي اللّه عليه و آله و سلم مما يمتنع معه عادة خفاء حكمه علي عامة النساء، فضلا عن مثل أسماء ممن يستحكم اتصاله ببيت النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم.

الثانية: ما ورد مورد تحديد النفاس، و هو صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن النفساء كم تقعد؟ فقال: أن أسماء بنت عميس أمرها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أن تغتسل لثمان عشرة [لثماني عشرة. في ثمان عشرة. يب. لثمان عشر. صا] و لا بأس بأن تستظهر بيوم أو يومين» «2» و لعله إليه يرجع مرسل الصدوق «3» في الفقيه.

و قد يستشكل فيه- كما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه- تارة: بأن تذكير العدد يناسب كون المراد الليالي، لا الأيام.

و أخري: بأن اشتماله علي الاستظهار الذي هو فرع الاحتمال مستلزم لعدم كون الحد الثمانية عشر، و إمكان تجاوزه للعشرين، بل لما زاد عليها، حيث لا يظهر منه أن أيام الاستظهار غاية أيام النفاس، مع أنه صرح فيما تقدم من الانتصار بأن الثمانية عشر هي الحدّ مع الاستظهار التام، كما نفي في المبسوط الخلاف في أن حكم الزائد

______________________________

(1) راجع البحار ج: 21 باب: 36 ص: 378 الطبعة الحديثة.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 15.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 21.

ص: 338

______________________________

حكم الاستحاضة.

و ثالثة: بأن صريح صدره السؤال عن الحد، و لم يتعرض في الجواب لذلك، و حينئذ يشكل العمل بأصالة الجهة و أصالة عدم النقصان معا، للعلم بوجود الخلل في أحدهما.

لكن يندفع الأول: بأن التسامح في تذكير العدد و تأنيثه شايع في الاستعمالات، فلا ترفع اليد لأجله عما فهمه الأصحاب و تضمنته النصوص الأخر من إرادة الأيام.

و لا سيما بعد تضمن الحديث الإشارة إلي قصة أسماء المعهودة و قد صرحت جملة من النصوص «1» بأنها بقيت ثمانية عشر يوما. علي أن الأمر يهون بناء علي ما سبق منا في الحيض من تقريب كون المراد بالأيام ما يعم الليالي.

و الثاني بأنه لا مجال للتعويل علي دعوي الإجماع المتقدمة مع ما تقدم من ابن أبي عقيل و الصدوق في الأمالي من مشروعية الاستظهار. و لا سيما مع ما هو المعلوم من أن منشأ بناء الأصحاب علي الثمانية عشر هو النصوص التي قد يمكن تنزيلها علي ما لا ينافي جواز الاستظهار المذكور، بل يمكن كونه وجه جمع بين بعضها، كما يأتي التعرض له.

مع أنه لو تعذر البناء عليه فلا مانع من التفكيك في العمل بالحديث بين الثمانية عشر و الاستظهار لعدم التلازم بين إمكان زيادة النفاس علي الثمانية عشر و وجوب ترتيب أثره، بل يمكن زيادته واقعا مع عدم ترتيب أثره إلا في الثمانية عشر، و حينئذ فحيث سئل في الحديث عن قعود المرأة و ترتيبها أثر النفاس فقد تضمن الجواب قعودها ثمانية عشر بملاك التعبد بالنفاس لسنة أسماء، و ما زاد بملاك الاستظهار، و لا ارتباطية بينهما، ليمتنع العمل بالحديث في أحدهما دون الآخر.

كما يندفع الثالث بأن نقل قصة أسماء بعد السؤال عن تحديد القعود ظاهر في سوقها للتحديد، فيكون الجواب مطابقا للسؤال، و لا موجب مع ذلك للعلم إجمالا بمخالفة أصالة الجهة أو أصالة عدم النقصان للواقع. و من هنا كان الظاهر وفاء

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس.

ص: 339

______________________________

الصحيح بالاستدلال.

نعم، في مرفوع إبراهيم بن هاشم: «سألت امرأة أبا عبد اللّه عليه السلام فقالت: إني كنت اقعد في نفاسي عشرين يوما حتي أفتوني بثمانية عشر يوما. فقال أبو عبد اللّه عليه السلام:

و لم أفتوك بثمانية عشر يوما؟ فقال رجل: للحديث الذي روي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنه قال لأسماء بنت عميس حيث نفست بمحمد بن أبي بكر، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: إن أسماء سألت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم و قد أتي لها ثمانية عشر يوما، و لو سألته قبل ذلك لأمرها أن تغتسل و تفعل ما تفعله المستحاضة» «1»، و نحوه في ذلك حديث حمران المروي عن كتاب الأغسال لابن عياش المتضمن سؤال امرأة محمد بن مسلم حيث كانت تقعد في نفاسها أربعين يوما، ثم افتوها بثمانية عشر يوما لقصة أسماء المذكورة، و فيه: «فقال أبو جعفر عليه السلام: إنها لو سألت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قبل ذلك و أخبرته لأمرها بما أمرها به.

قلت: فما حد النفساء؟ قال: تقعد أيامها التي كانت تطمث فيهن أيام قرئها، فإن هي طهرت، و إلا استظهرت بيومين أو ثلاثة ثم اغتسلت و احتشت … » «2».

و هما صريحان في عدم صلوح قصة أسماء للتحديد، فيلزم لأجلهما رفع اليد عن ظهور صحيح محمد بن مسلم في التحديد بها، و حمله علي التهرب عن الجواب بذكرها الموهم له. كما يرفع بهما اليد عن الطائفة الأولي المبتنية علي استبعاد جهل أسماء بحد النفاس.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال لحمل صحيح محمد علي التهرب عن الجواب بعد تضمنه الاستظهار، حيث يكون بسببه صريحا في التصدي لوظيفة النفساء، فتستحكم معارضته للخبرين المذكورين، و يتأيد مضمونه بالطائفة الاولي بملاحظة ما تقدم في تقريب الاستدلال بها.

مع أن الأول ضعيف في نفسه لاشتماله علي الرفع، و الثاني و إن كان سنده معتبرا في كتاب الأغسال لابن عياش، إلا أنه لم تثبت وثاقة ابن عياش، بل قال

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 11.

ص: 340

______________________________

النجاشي في ترجمته: «رأيت هذا الشيخ و كان صديقا لي و لوالدي و سمعت منه شيئا كثيرا، و رأيت شيوخنا يضعفونه فلم أرو عنه شيئا و تجنبته. و كان من أهل العلم و الأدب القوي و طيب الشعر و حسن الخط. رحمه اللّه و سامحه» مع أن راوي الحديث عن الكتاب المذكور صاحب المعالم و لم يتضح طريقه إليه بعد عدم كونه من الكتب المشهورة، و طول الفاصل الزمني بينهما. و لا سيما مع غرابة ما تضمنه من جهل امرأة محمد بن مسلم الذي هو من أركان الطائفة بالحكم. كما لا مجال لدعوي انجبار ضعف الحديثين بعمل الأصحاب، لعدم وضوح اعتمادهم عليهما، خصوصا الثاني منهما، بل لعله علي النصوص الأخر المتقدمة، لدعوي رجحانها علي نصوص الثمانية عشر.

و منها: ما في العيون بسنده عن الفضل بن شاذان

أن في كتاب الرضا عليه السلام للمأمون في شرايع الدين: «و النفساء لا تقعد عن الصلاة أكثر من ثمانية عشر يوما، فإن طهرت قبل ذلك صلت، و إن لم تطهر حتي تجاوز ثمانية عشر يوما اغتسلت و عملت بما تعمل المستحاضة» «1».

و ما عن بعض مشايخنا من الإشكال في سنده بعدم صحة طريق الصدوق للفضل. غير ظاهر، إذ ليس طريقة إلا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس عن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري و الأول قد أكثر الصدوق الرواية عنه مترضيا عليه، و مثل ذلك ظاهر في رفعة مقامه بنظره الشريف، و الثاني قال عنه الشيخ قدّس سرّه في رجاله: «نيسابوري فاضل»، و ذكر النجاشي أن الكشي اعتمد عليه في كتاب الرجال، و يشهد بذلك النظر في الكتاب المذكور، و اعتماد الكشي عليه- الذي صرح الشيخ أنه بصير بالرجال- ملازم لوثاقته عنده. و هو لا ينافي ما صرح به النجاشي نفسه من أن الكشي قد روي عن الضعفاء. لأنه طعن فيمن يروي عنه لا فيمن يعتمد عليه، علي أن الصدوق بعد أن روي الكتاب المتقدم بالسند المذكور رواه بسند آخر يخالفه قليلا في المتن، ثم قال: «و حديث عبد الواحد بن محمد بن عبدوس رضي اللّه عنه عندي

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من ابواب النفاس حديث: 24 و كتاب عيون أخبار الرضا باب: 35 ج 2 ص 124 طبع النجف الأشرف.

ص: 341

______________________________

أصح» و الظاهر ابتناء التصحيح المذكور منه مع قلة الوسائط علي وثاقتهما عنده، بل ما فوق الوثاقة. فلاحظ.

و أما الإشكال فيه بأنه لا مجال للتعويل علي أصالة الجهة فيه، لكون المكتوب له ممن يخاف سلطانه و جوره. فيندفع بالنظر في مجموع الكتاب، لاشتماله علي جملة كثيرة من أصول الدين و فروعه التي تتميز بها الخاصة، أولي بأن يتقي فيها من هذا الحكم. و لا سيما مع عدم ثبوت القول بالثمانية عشر من العامة، حيث لم ينسبه أحد من أصحابنا إليهم.

غاية الأمر أن الشيخ في التهذيب قال في الجواب عن الأخبار المختلفة المشتركة في عدم الإرجاع للعادة، و منها أخبار الثمانية عشر. «يحتمل أن تكون هذه الأخبار خرجت مخرج التقية، لأن كل من يخالفنا يذهب إلي أن أيام النفاس أكثر مما نقوله، و لهذا اختلفت ألفاظ الأحاديث كاختلاف العامة في مذاهبهم، فكأنهم أفتوا كل قوم منهم علي حسب ما عرفوا من آرائهم و مذاهبهم».

و منها: خبر حنان بن سدير:

«قلت: لأي علة أعطيت النفساء ثمانية عشر يوما، و لم تعط أقل منها و لا أكثر؟ قال: لأن الحيض أقله ثلاثة أيام، و أوسطه خمسة أيام، و أكثره عشرة أيام، فأعطيت أقل الحيض و أوسطه و أكثره» «1» و نحوه مرسل الفقيه «2»، بل لعله هو منقولا بالمعني.

و الإشكال فيهما بوهن التعليل فهو يشبه تعليلات العامة. كما تري، لمألوفية هذا السنخ في التعليلات الواردة للأحكام الشرعية. فالعمدة ضعف سند الأول و إرسال الثاني. و مثله في ذلك مرسل المقنع: «روي: انها تقعد ثمانية عشر يوما» «3» فلا تصلح إلا للتأييد.

و مثلها ما رواه الأعمش عن الصادق عليه السلام في حديث شرايع الدين من قوله:

______________________________

(1) علل الشرائع باب: 217 ص: 291. و رواه في الوسائل بايجاز باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 23.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 22.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 26.

ص: 342

______________________________

«و النفساء لا تقعد أكثر من عشرين يوما، إلا أن تطهر قبل ذلك، فإن لم تطهر قبل العشرين اغتسلت و احتشت و عملت عمل المستحاضة» «1»، بناء علي الجمع بينه و بين نصوص الثمانية عشر بحمل اليومين فيه علي الاستظهار. و منه يظهر وجه الاستدلال بالصحيح الذي أشار إليه في المعتبر. قال بعد نقل كلام ابن أبي عقيل المتقدم: «و قد روي ذلك البزنطي في كتابه عن جميل عن زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام» «2» و نحوه في المنتهي و التذكرة، بل في الأول أن الشيخ رواه أيضا لا بالسند المذكور، و إن لم أجده في التهذيبين. حيث يجمع بينه و بين نصوص الثمانية عشر بحمل ما زاد علي الثمانية عشر علي الاستظهار، كما يجمع بينه و بين صحيح محمد بن مسلم الذي اقتصر في الاستظهار فيه علي اليومين و حديث الأعمش المقتصر فيه علي العشرين علي غير كثيرة الدم، و أن الكثيرة تزيد فيه يوما.

و كذا الحال في صحيح ابن سنان: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: تقعد النفساء تسع عشرة ليلة، فإن رأت دما صنعت كما تصنع المستحاضة» «3» كذا رواه في التهذيب و الاستبصار و المختلف و المنتهي و غيرها.

نعم، رواه في الوسائل عن الشيخ و في الحدائق و الجواهر و غيرها: «سبع عشرة» «4»، فلا يصلح للاستدلال، لصعوبة جمعه مع النصوص المتقدمة. لكن الظاهر أنه اشتباه، لما هو المعلوم من أخذ الوسائل له من التهذيبين، و الظاهر متابعة الحدائق و الجواهر و من بعدهما له.

نعم، لا مجال للاستدلال بصحيح محمد بن مسلم: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام كم تقعد النفساء حتي تصلي؟ قال: ثمانية عشرة، سبعة عشرة ثم تغتسل و تحتشي و تصلي» «5» لأن التخيير المذكور لا يناسب هذا القول و لا نصوصه المتقدمة، و قوة

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 25.

(2) المعتبر ص: 67.

(3) التهذيب ج: 1 ص: 177 طبع النجف الاشرف. و الاستبصار ج: 1 ص: 152 طبع النجف الاشرف.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 14.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 12.

ص: 343

______________________________

ظهورها في لزوم الثمانية عشر. بل لم يعرف القول بمضمونه عن أحد و احتمال كونه ترديدا من الراوي فيما قاله الإمام عليه السلام- مع مخالفته لظاهره- لا يصحح الاستدلال به علي الثمانية عشر، كما صدر من بعضهم. فالعمدة ما سبق.

هذا، و لا بد من البناء علي عدم وجوب الاستظهار المذكور، بصراحة نصوص قصة أسماء علي كثرتها في عدم زيادتها عليها و قوة ظهور صحيح محمد بن مسلم في عدم وجوبه بل ليس مقتضي الجمع المذكور إلا جوازه.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال للجمع المذكور، بلحاظ رواية الفضل كتاب الرضا عليه السلام للمأمون، للنهي فيه عن جلوسها أكثر من ثمانية عشر يوما، حيث لا يناسب جواز الاستظهار لها بالزيادة. و حمله عن النهي عن الجلوس متعبدة بالنفاس، فلا ينافي مشروعية الجلوس استظهارا، بعيد جدا عن ظاهره. و من ثم كان التعارض بينه و بين نصوص الاستظهار مستحكما.

و قد ترجح عليه بكثرة العدد، و بموافقة ما تقدم في الوجه الأول للاستدلال علي العشرة من أن الاستمرار علي أحكام النفاس مقتضي عموم أدلة تلك الأحكام، أو استصحاب النفاس، بناء علي ما تقدم في الحيض من عدم منافات تشريع الاستظهار للاستصحاب. فراجع التنبيه الخامس بعد الكلام في دليل وجوب الاستظهار.

و بذلك يتم ما عن ابن أبي عقيل، و ما عن كتاب الأحكام للمفيد لو رجع إليه، بأن كان مختصا بكثيرة الدم، و إلا لم يكن له وجه ظاهر.

هذا كله في دليل القول بالثمانية عشر. لكن المراد بذلك إن كان هو الرجوع لها مطلقا و لو لذات العادة- كما هو ظاهر من قال بذلك من قدماء الأصحاب، بل صريح بعضهم- فهو مما لا مجال له بلحاظ نصوص الإرجاع للعادة لكثرة عددها، و وضوح دلالتها، و قوة سند جملة منها، و اشتهارها بين الأصحاب رواية و عملا حتي اقتصر عليها الكليني رضي اللّه عنه في باب النفساء مضيفا إليها مرفوع إبراهيم ابن هاشم المتقدم المتضمن عدم صلوح قصة أسماء للتحديد.

ص: 344

منها ما قد يظهر من كلام ابن ابي عقيل بان مقدار النفاس بذات العادة بحسب طبعها

______________________________

و أما ما قد يظهر من كلام ابن ابي عقيل المتقدم من حملها علي بيان مقدار النفاس بذات العادة بحسب طبعها، و إن لزم الخروج عنه مع استمرار الدم بعد العادة للثمانية عشر، و به يرتفع التدافع في كلامه. فهو مخالف لصريحها، حيث تضمنت ترتيب أحكام الاستحاضة مع استمرار الدم بعد العادة مطلقا أو بعد الاستظهار.

و إن كان في خصوص من لا عادة لها، جمعا بين الطائفتين- كما قربه شيخنا الأعظم، و في المنتهي: «كأنه أقرب إلي الصواب» و إليه قد يرجع ما في المختلف و استحسنه في محكي التنقيح، و ربما مال إليه غير واحد من متأخري المتأخرين من حمل النصوص الثمانية عشر علي المبتدئة بأن يراد منها مطلق من لا عادة لها ترجع إليها- فهو بعيد عن نصوص الثمانية عشر، لأن ذات العادة في الحيض إن لم تكن أكثر خارجا من غيرها، فلا أقل من كونها الأصل في النفساء عرفا، و لذا اقتصرت النصوص الأول علي بيان حكمها مع إطلاق عنوان النفساء في موضوعها، فيبعد جدا حمل إطلاق نصوص النفساء علي غيرها.

نعم، لو كان مفادها مجرد بيان أن الثمانية عشر أكثر النفاس- كما تضمنت النصوص أن أكثر الحيض عشرة- كان البناء علي ذلك سهلا، لأن مجرد كون الثمانية عشر أكثر لا تستلزم العلم بنفاسية الدم المستمر إليها المستلزم للعمل عليه، ليكون مقتضي الإطلاق عمل جميع النساء عليه، و يصعب تنزيله علي غير ذات العادة، بل لا بد في العمل عليه مع الاستمرار من ضم الاستصحاب أو قاعدة الإمكان، فلا تنافي أمارية العادة علي عدم نفاسية ما زاد عليها مطلقا أو بعد الاستظهار، ليختص العمل علي الثمانية عشر بغير ذات العادة.

لكن من الظاهر أن النصوص المذكورة لم تتضمن ذلك، بل تضمنت عمل النفساء علي الثمانية عشر، و لا مجال لحمل إطلاقها علي غير ذات العادة، لما ذكرنا.

و يؤيده ما تقدم في مرفوع إبراهيم بن هاشم و حديث حمران من الردع عن الفتوي بالثمانية عشر، لعدم صلوح قصة أسماء للتحديد، لقوة ظهورهما في عدم

ص: 345

______________________________

التحديد بذلك، لا في قصور التحديد به عن ذات العادة، بل ما في الثاني من الإرجاع للعادة بعد إنكار التحديد بالثمانية عشر كالصريح في المفروغية عن التنافي بين التحديدين و عدم إمكان الجمع بينهما.

و ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من سوقهما للردع عن تخيل عموم الثمانية عشر لذات العادة و عن الاستشهاد فيها بقصة اسماء. في غاية البعد، بل الغرابة، إذ لا إشعار فيهما بكون أسماء و لا السائلة ذات عادة، و لا بالردع عن عموم التحديد مع المفروغية عن أصله، بل ظاهرهما الردع عن أصل التحديد، كما ذكرنا. و ليس الاقتصار في الثاني علي بيان حكم ذات العادة كاشفا عن كون الغرض الردع عن العموم لها لا عن أصل التحديد- كما ذكره قدّس سرّه- بل لأنها الأصل في النساء مع المفروغية عن التنافي بين التحديدين، كما ذكرنا.

و أما ما ذكره غير واحد في وجه منع الحمل المذكور من استبعاد عدم العادة لأسماء بنت عميس عند نفاسها بمحمد لأنها تزوجت بأبيه بعد قتل جعفر بن أبي طالب عليه السلام و كانت قد ولدت له عدة أولاد. فهو غير ظاهر، إذ لا استبعاد في كونها مضطربة لم تستقر لها عادة. مع أن مرفوع ابن هاشم و حديث حمران قد تضمنا أن أسماء لم تكن وظيفتها الثمانية عشر، فيكون مقتضي الجمع المذكور أنها ذات عادة. فالعمدة ما ذكرنا. و لعله هو الوجه في ظهور حال القدماء في عدم الفرق بين ذات العادة و غيرها، لإطلاق أصحاب كل من القولين حكم النفساء. و لذا لوّح في الجواهر بأن الجمع المذكور خرق للإجماع المركب.

هذا، و قال الفقيه الهمداني قدّس سرّه: «لو لا مخالفة الإجماع لأمكن الجمع بين بعض الأخبار المتقدمة و هذه الروايات «1» بالالتزام بكون الثمانية عشر حدّ النفاس، فلو جاوزها الدم لرجعت إلي عادتها، لكن يجوز لها بعد العادة أن تعمل عمل المستحاضة اعتناء باحتمال طهارتها، كما لها ترك العبادة اعتناء باحتمال انقطاع الدم قبل بلوغ الحد.

______________________________

(1) و هي روايات الثمانية عشر. (منه عفي عنه).

ص: 346

______________________________

لكن يتوجه علي هذا التوجيه- مع ما فيه من البعد، و مخالفته لفتاوي الأصحاب- عدم تطرقه بالنسبة إلي جملة من الأخبار المتقدمة، منها موثقة الجوهري «1»، و مرسلة المفيد».

بل هو لا يلائم جميع الأخبار، لظهور أخبار الاقتصار علي العادة في لزوم العمل بعدها عمل المستحاضة، و ظهور أخبار الثمانية عشر في البدء بأعمال المستحاضة بعدها لا في انكشاف لزومها من أول الأمر، و ظهور ما تضمن أن أكثر النفاس عشرة- كمرسلة المفيد- في التحديد الواقعي بها.

و ظهور مرفوع ابن هاشم و حديث حمران في عدم التحديد بالثمانية عشر، و ظهور الثاني منهما في التنافي بين التحديدين. و كأن التوجه لمثل هذا الاحتمال ناشئ عن الاهتمام برفع التعارض بين النصوص، فيتعمل بالجمع بينها و إن لم يكن عرفيا.

و من ذلك يظهر ضعف ما احتمله في المدارك من الجمع بالتخيير بعد العادة إلي الثمانية عشر بين ترتيب أحكام النفساء و أحكام الطاهر. فإنه- مضافا إلي فقد الشاهد عليه- مخالف لظهور نصوص الرجوع للعادة جدا، و لمرفوع إبراهيم بن هاشم و خبر حمران في الردع عن التحديد بالثمانية عشر، و لظهور الثاني في التنافي بين التحديدين. و من هنا كان الظاهر استحكام التعارض بين الطائفتين، كما هو ظاهر جمهور الأصحاب رضي اللّه عنهم.

و حينئذ لا ينبغي التأمل في ترجيح نصوص العادة، لقوتها بما سبق، و وهن نصوص الثمانية عشر باختلاف مضامينها، و قرب كون الغرض من سوقها إبطال أقوال العامة المكثرة التي هي من الثلاثين إلي السبعين بما لا يبعد كثيرا عن أقوالهم، و لا عما عليه العرف، مع الاحتجاج له بما لا يسعهم رده من قصة أسماء، بخلاف الرجوع للعادة فإنه أمر اختص به الأئمة عليهم السلام يبعد عما عليه العرف و العامة من دون حجة تلزم خصومهم و تمنع التشنيع عليهم.. بل ربما كان استغرابه مانعا من التصريح به حتي للخاصة في بعض الموارد، و سببا في اختلاف النصوص و عدم

______________________________

(1) و هي رواية حمران المتقدمة المروية عن كتاب الاغسال لابن عياش الجوهري. (منه عفي عنه).

ص: 347

______________________________

إجماعها عليه، كي لا يعرفوا به، حذرا من التشهير بهم و بأحكامهم و أخبارهم عن أئمتهم الأطهار عليهم السلام.

بل ربما كانت مخالفة هذا الحكم لما عليه العرف في مقدار النفاس و صعوبة جري النفساء عليه- التي هي كالمريضة لا يسهل عليها القيام بوظائف المستحاضة- هما السبب في عدم إعلان المعصومين عليهم السلام له من أول الأمر، بل تركوا الناس أولا علي ما عليه العرف، ثم تدرجوا في تقليل مدة النفاس، حتي انتهوا أخيرا للإرجاع للعادة، إما لسبق تشريعه مع المصلحة في تأخير بيانه، أو لسبق تشريع الثمانية عشر، ثم نسخ مع المصلحة في عدم الاجهار بنسخه بالإرجاع للعادة إلا تدريجا بالوجه الخاص.

و بذلك قد يفسر شدة اختلاف المسلمين في تحديده، كما قد يفسر جهل أسماء بنت عميس به، بل جهل امرأة محمد بن مسلم علي ما تضمنته رواية حمران المتقدمة، فكانت تتنفس بأربعين يوما ثم أفتوها بثمانية عشر حتي أرسلت للإمام الباقر عليه السلام فأوضح لها الحال «1».

و بالجملة: لا مجال بعد ما ذكرنا للتعويل علي نصوص الثمانية عشر يوما.

و أولي منها في ذلك صحيح علي بن يقطين «2» المتقدم المتضمن جلوسها ثلاثين مع كون الدم عبيطا، و موثق حفص «3» و خبر الجعفريات «4» المتضمنان قعودها أربعين، و صحيح محمد بن مسلم «5» المتضمن قعودها ثلاثين أو أربعين إلي الخمسين، و موثق الخثعمي «6» المتضمن جلوسها كما جربت مع اولادها، فإن لم تلد قبل ذلك فبين الاربعين إلي الخمسين و مرسل المقنع «7» المتضمن جلوسها بين الأربعين إلي الخمسين، و مرسله الآخر المتضمن قول الصادق عليه السلام: «إن نساءكم لسن كالنساء الأول، إن نساءكم أكثر لحما و أكثر دما فلتقعد حتي تطهر» «8» و نحوه خبر ليث «9» المتقدم المتضمن نفي الحد

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 11.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 16.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 17.

(4) مستدرك الوسائل باب: 1 من أبواب النفاس حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 13.

(6) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 18.

(7) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 28.

(8) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 27.

(9) الوسائل باب: 2 من أبواب النفاس حديث: 1.

ص: 348

______________________________

للنفاس، و قريب منهما في ذلك موثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: النفساء إذا ابتليت بأيام كثيرة مكثت مثل أيامها التي كانت تجلس قبل ذلك، و استظهرت بمثل ثلثي أيامها، ثم تغتسل و تحتشي و تصنع كما تصنع المستحاضة، و أن كانت لا تعرف أيام نفاسها فابتليت جلست بمثل أيام أمها أو أختها أو خالتها، و استظهرت بثلثي ذلك ثم صنعت كما تصنع المستحاضة تحتشي و تغتسل» «1» لقوة ظهوره في إرادة أيام النفاس دون أيام الحيض.

فإن هذه النصوص- مع اختلاف مضامينها و ضعف بعضها- متروكة بين الأصحاب معارضة لنصوص الرجوع للعادة بالتقريب المتقدم في معارضته نصوص الثمانية عشر لها، و هي أولي من نصوص الثمانية عشر بالطرح، لأن كل ما تضمن منها حدا من الحدود أقل عددا من تلك النصوص، و جملة منها موافقة لبعض أقوال العامة صريحا، و الباقي منها أقرب لأقوالهم. قال في الفقيه: «و الأخبار التي رويت في قعودها أربعين يوما و ما زاد إلي أن تطهر معلولة كلها وردت للتقية لا يفتي بها إلا أهل الخلاف». كما أشرنا آنفا إلي عدم القائل بصحيح محمد بن مسلم المتضمن التخيير بين السبع عشرة و الثمان عشرة «2»، و مثله ما أشير إليه في الرضوي السابق «3» مما تضمن التحديد بثلاثة و عشرين، بل تمام مفاده، علي ما سبق في دليل العشرة و من هنا يتعين الاقتصار في المقام علي نصوص الإرجاع لعادة الحيض.

نعم، يبقي الإشكال فيما سبق من عدم نهوضه ببيان حدّ الحيض الواقعي. و هو لا يهم في ذات العادة التي لا تتجاوز عادتها مع الاستظهار العشرة، بناء علي ما يأتي من عدم لزوم تحيضها بالعشرة لو قصرت الأيام المذكورة عنها، حيث لا أثر عملي لتحديد أكثر الحيض فيها، و إنما يظهر الأثر في موردين:

الأول: ذات العادة التي تتجاوز أيامها مع الاستظهار العشرة، حيث يجوز لها

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 20.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 12.

(3) مستدرك الوسائل باب: 1 من أبواب النفاس حديث: 1.

ص: 349

______________________________

استيفاء أيام الاستظهار لو لم يكن أكثر النفاس عشرة، دون ما لو كان كذلك، لأن الاستظهار فرع الاحتمال.

و دعوي: أن مرسل بن المغيرة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: إذا كانت أيام المرأة عشرة لم تستظهر، فإذا كانت أقل استظهرت» «1» ظاهر في عدم جواز الاستظهار بالنحو المستلزم للزيادة علي العشرة، لأن المستفاد عرفا أن عدم جوازه مع كون العادة عشرة إنما هو لأن منتهي القعود عشرة.

مدفوعة- مضافا إلي عدم ثبوت حجية المرسل- بأن استفادة ذلك إنما هي للمفروغية عن عدم تجاوز زمان القعود واقعا العشرة، فلا موضوع مع الزيادة عليها للاستظهار الذي هو فرع الاحتمال، و حيث يختص ذلك بالحيض فلا وجه للتعدي منه للنفاس المفروض عدم ثبوت ذلك فيه. علي أن كون المراد بالأيام في المقام أيام الحيض موجب لانصراف الاستظهار إليه، و لا أقل من كونه المتيقن دون النفاس. فلاحظ.

الثاني: من ليس لها عادة ترجع إليها، كالمبتدأة و المضطربة، حيث يبتني عدم جواز تنفسها بأكثر من عشرة علي ثبوت كونها أكثر النفاس، و إلا كان جواز الزيادة عليها مقتضي ما تقدم منا في الوجه الأول من وجوه الاستدلال للتحديد بالعشرة من أن المرجع في المقام استصحاب النفاس أو عموم أحكامه المقدمان علي عموم أحكام الطاهر. و من هنا كان إثبات التحديد بها مهما جدا.

إذا عرفت هذا فالظاهر انحصار وجه التحديد بها باستفادته من نصوص الرجوع للعادة، لا للتلازم بين الأمرين واقعا، لما تقدم، بل لاستفادته منه عرفا بعد ورود النصوص لبيان حكم مطلق النفساء، لا خصوص ذات العادة منها مع فرض عدم ثبوت التحديد بوجه آخر، فإن إهمال بيان مثل هذا الأمر المهم و الاكتفاء من السائل و المجيب في بيان حدّ النفاس بالإرجاع للعادة مما يناسب المفروغية عن اتفاق النفاس و الحيض في الحدّ واقعا كما اتفقا في الارجاع للعادة في مقام الظاهر. و إلا كان

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 2.

ص: 350

و إذا رأته بعد العشرة لم يكن نفاسا (1)،

______________________________

البيان قاصرا. مؤيدا ذلك بتحديد الاستظهار بالعشرة في صحيح يونس المتقدم «1» الذي ورد نظيره متنا و سندا في الحيض «2»، كما سبق، حيث يقرب جدا وحدة منشئهما، و هو عدم احتمال التجاوز عنها الذي هو موضوع الاستظهار.

و يشهد بما ذكرنا أو يؤيده ظهور مفروغية الأصحاب عن استفادة التحديد المذكور من هذه النصوص، حتي عبر مثل المفيد بالحد المذكور في بيان مفادها، و فهمه مثل الشيخ و غيره مرسلين له إرسال المسلمات، و كان كلامهم و خلافهم منصبا علي التحديد بالعشرة عملا بهذه النصوص أو بالثمانية عشر عملا بنصوصها، إذ يكشف ذلك عن إفادتها التحديد المذكور بالقرينة الحالية الارتكازية المذكورة، و التي لم يحتاجوا للتنبيه عليها لاستيضاحها.

مضافا إلي قرب دعوي الإجماع علي عدم الفصل بين التحديد بالثمانية عشر عملا بنصوصها و التحديد بالعشرة، فمع ثبوت بطلان الأول بنصوص الإرجاع للعادة يتعين الثاني. و ملاحظة مجموع ذلك توجب الاطمئنان بما عليه الأصحاب. و الأمر مع ذلك محتاج للتأمل. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم، و منه نستمد العون و التسديد.

هذا، و قد تقدم من السرائر عن المفيد القول في كتاب أحكام النساء بأحد عشر يوما، و في كتاب الاعلام بأحد و عشرين يوما. و لم يعرف وجههما.

نعم، أشرنا آنفا إلي احتمال رجوع الثاني إلي قول ابن أبي عقيل بأن يكون مختصا بكثيرة الدم، فيشاركه في الاستدلال المتقدم له. ثم إن الكلام في دخول الليل هنا هو الكلام في الحيض. فراجع ما تقدم في الفصل الثالث منه.

إذا رأته بعد العشرة لم يكن نفاسا

(1) إن كان المراد به ما يستمر بعد العشرة مع الرؤية فيها فسيأتي الكلام فيه. و إن كان المراد به ما يبدأ بعد العشرة فالظاهر أنه مفروغ عنه بناء علي التحديد

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب الحيض حديث: 2.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 5، ص: 352

ص: 351

و إذا لم تر فيها دما لم يكن لها نفاس أصلا (1).

______________________________

المتقدم، لأن المراد به التحديد بلحاظ الزمان المتصل بالولادة، لا المنفصل عنها، كما هو المنصرف من جميع نصوص التحديد.

بل هو ظاهر موثق مالك بن أعين الجهني: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن النفساء يغشاها زوجها و هي في نفاسها من الدم؟ قال نعم، إذا مضي لها منذ يوم وضعت بقدر أيام عدة حيضها ثم تستظهر بيوم فلا بأس بعد أن يغشاها زوجها يأمرها فلتغتسل ثم يغشاها إن أحب» «1»، و موثق عبد الرحمن بن أعين الشيباني: «قلت له: إن امرأة عبد الملك ولدت فعدّ لها أيام حيضها ثم أمرها فاغتسلت و احتشت … فقالت: لا تطيب نفسي أن أدخل المسجد … فقال: قد أمر بذا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم … » «2»، و لا أقل من كونه مقتضي استصحاب عدم النفاس الذي سبق في الاستدلال للتحديد بالعشرة جريانه حتي لو لم يثبت التحديد بها و شك في الحدّ.

(1) بلا إشكال ظاهر. و قد نفي الخلاف فيه في جامع المقاصد و محكي أحد شرحي الجعفرية، كما ادعي الإجماع عليه صريحا في التذكرة و المدارك و محكي شرح الجعفرية الآخر، و ظاهرا في كشف اللثام. و في الجواهر: «إجماعا محصلا و منقولا مستفيضا حدّ الاستفاضة، بل لعله متواتر». كما لا يجب الغسل عند علماء أهل البيت، كما في التذكرة، و إجماعا كما في الخلاف.

هذا، و المتيقن من الاجماع المذكور نفي أحكام النفاس فلا يجب الغسل، لأن ذلك هو المهم في مقابل بعض العامة القائلين بوجوبه. و أما انتفاء عنوانه حقيقة فهو و إن صرح به في معقد إجماع بعضهم و جملة من كلماتهم و استدلالاتهم، إلا أنه يشكل حصول العلم به من الإجماع المذكور بعد كونه أمرا واقعيا يحتمل صدقه، كما سبق في تعريف النفاس و قرب كون المراد من معقد الإجماع لبا نفي الأحكام.

و كيف كان، فيكفي الإجماع المذكور في الخروج عن إطلاق نصوص الأحكام

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 9.

ص: 352

و مبدأ حساب الأكثر من حين تمام الولادة (1)،

______________________________

لو فرض صدق النفاس لغة. مضافا إلي قرب انصرافها عن الفرض حينئذ، لارتكاز تبعية الحدث للدم، كما يشهد به ظهور المفروغية عنه في نصوص التحديد فلاحظ.

مبدأ حساب الأكثر من حين تمام الولادة

(1) قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «كما عن شرح البغية التصريح به، و إن لم يعثر علي مصرح به ممن تقدم … مع أنه مما لا ينبغي الإشكال فيه، إذ لو كان الحساب من حين خروج أول جزء من الولد يلزم البناء علي الطهر مع عدم تحقق الولادة فيما لو خرج جزء من الولد و بقي غير منفصل حتي مضي أحد عشر يوما، و هو مقطوع بفساده».

و زاد عليه بعض مشايخنا- فيما حكي عنه- أن عنوان النفساء الوارد في الروايات كما يصدق علي من خرج منها بعض الولد يصدق علي من خرج منها تمام الولد، فمقتضي إطلاق نصوص التحديد البدء بالحدّ حينئذ.

و يندفع الأول: بأن ندرة الفرض المذكور تمنع من حصول القطع بفساد اللازم المزبور من السيرة أو نحوها، بل القطع بفساده مساوق للقطع بالمدعي، و لا يصلح دليلا عليه.

و الثاني بأنه بعد الاعتراف بصدق عنوان النفساء من حين خروج بعض الولد لا ينفع صدقه عند خروج تمامه بعد وضوح وحدة النفاس، حيث لا إشكال في أن مبدأ العدّ حدوث النفاس، لا في أثنائه.

فالعمدة في الاستدلال: أن الظاهر عدم صدق النفاس و النفساء عرفا إلا بعد خروج الولد بتمامه، و وضعها له، فيكون بدء العدّ حينئذ و مجرد ترتب حكم النفاس علي خروج الدم عند خروج بعض الولد و كونه من ماهية دم النفاس، كما يظهر من أحد الخبرين «1» المتقدمين في تلك المسألة لا ينافي عدم صدق النفاس به الذي هو موضوع التحديد. مضافا إلي ظهور موثقي مالك و عبد الرحمن «2» المتقدمين فيما لو لم

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 17.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 4، 9.

ص: 353

لا من حين الشروع فيها، و إن كان جريان الأحكام عليه من حين الشروع (1). و لا يعتبر فصل أقل الطهر بين النفاسين (2)، كما إذا ولدت

______________________________

تر في العشرة دما في أن مبدأ الحساب من حين الوضع و الولادة غير الصادقين إلا بخروج تمام الولد.

(1) كما تقدم في أول المسألة.

كون النقاء المتخلل بين أجزاء النفاس الواحد بحكم النفاس

(2) قد يظهر منه امتناع تخلل ما دون أقل الطهر بين أجزاء النفاس الواحد.

و لازمه كون النقاء المتخلل بين أجزاء النفاس الواحد بحكم النفاس، كما صرح به في مستمسكه و سبقه إليه جملة من الأصحاب، كما في المبسوط و الخلاف و السرائر و المعتبر و الشرائع و التذكرة و المنتهي و القواعد و الإرشاد و الدروس و الروض و الروضة و غيرها، و عن كشف الالتباس نسبته لسائر عبارات الأصحاب، و عن مجمع البرهان الإجماع عليه، و في الجواهر أنه لا يعرف فيه خلافا.

و قد يستدل عليه- مضافا إلي ذلك، و إلي أن النفاس بحكم الحيض أو فرد منه حقيقة- بما تضمن أن أقل الطهر أو القرء عشرة أيام «1».

لكن لا مجال للتعويل علي دعوي الإجماع في الحيض علي ما تقدم، فضلا عن النفاس، الذي قد يظهر منهم تفرع حكمه علي حكم الحيض.

و كون النفاس بحكم الحيض أو فرد منه غير ثابت، علي ما يظهر بمراجعة الوجه الثالث للاستدلال علي أن أكثر النفاس عشرة أيام. علي أنه لا ينفع مع ما تقدم منا من منع ذلك في الحيض. و مع ما سبق هناك من أن النقاء ليس حيضا قطعا، غاية الأمر أنه بحكمه، و حينئذ فكون النفاس بحكم الحيض لا يستلزم كون النقاء المتخلل بين أجزائه بحكم النقاء المتخلل بين أجزاء الحيض.

و أما ما تضمن أن أقل الطهر عشرة فقد سبق منا في الحيض أنه لا بد من حمله علي

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 11 من أبواب الحيض.

ص: 354

______________________________

الطهر بين الحيضتين، دون أجزاء الحيضة الواحدة، فضلا عن أجزاء النفاس الواحد.

و لا سيما مع بنائهم في مسألة التوأم علي أن الطهر المتخلل بين النفاسين لا يلزم أن يكون بقدر العشرة. و لذا نقض بذلك علي الاستدلال المذكور في كشف اللثام هذا و عن بعض مشايخنا الاستدلال بإطلاق ما تضمن رجوع النفساء إلي عادتها و تنفسها بقدر أيامها، حيث يشمل ما إذا تخلل النقاء الدم المرئي في الأيام المذكورة. و يتم في غير ذات العادة بعدم الفرق، حيث يبعد جدا كون النقاء بين الدميين نفاسا في ذات العادة دون غيرها.

و فيه: أن الارجاع للعادة العددية لا ينهض بنفسه ببيان ما يحقق النفاس، و انه يشمل النقاء المتخلل، بل يمكن أن يكون خصوص الدم، فيكون النفاس منه بقدر العادة و لو مع التفرق، فلو رأت بقدر العادة متفرقا في ضمن اثني عشر يوما كان كله نفاسا.

نعم، قد يتم الاستدلال بضميمة ما تضمن أن مبدأ الحساب من حين الولادة إلي مضي مقدار العادة، لأن مضي مقدارها منه يشمل صورة تخلل النقاء. لكن الظاهر أو المنصرف منه فرض وجود الدم فيها، و لذا تضمنت الاستظهار و ترتيب أحكام المستحاضة، فكما لا إشكال في قصورها عما لو لم تر دما في العادة، أو رأته في آخرها أو انقطع قبل مضيها و لم يعد فيها، حيث لا إشكال عندهم في عدم نفاسية النقاء الحاصل في مدة العادة، كذلك لا تشمل النقاء المتخلل بين الدميين في طرفيها.

و ليس خروج تلك الصور تخصيصا مع شمول الإطلاق لها كي يتعين شموله للمقام و يتعين العمل به فيه بعد عدم الدليل علي التخصيص بالإضافة إليه.

و بعبارة أخري: النصوص المذكورة واردة لبيان مقدار الجلوس ظاهرا في ظرف تحقق مقتضيه، و هو الدم، لا في تشريع الجلوس قدر العادة رأسا، كي يكون مقتضي إطلاقه العموم لصورة عدم الدم أو انقطاعه.

كما لا مجال للرجوع للاستصحاب. إذ لو أريد به استصحاب النفاس، فالظاهر عدم صدق النفاس علي النقاء عرفا، لما تقدم عند الكلام في عدم الحد لأقله من أن بقاء

ص: 355

توأمين، و قد رأت الدم عند كل منهما، بل النقاء المتخلل بينهما طهر و لو كان لحظة، بل لا يعتبر الفصل بين النفاسين أصلا، كما إذا ولدت و رأت الدم إلي العشرة، ثم ولدت آخر علي رأس العشرة و رأت الدم إلي عشرة أخري، فالدمان جميعا نفاسان متواليان (1)، و إذا لم تر الدم حين الولادة و رأته قبل

______________________________

النفاس ببقاء الدم. و لو فرض إجماله من هذه الجهة كان من استصحاب المفهوم المردد الذي لا يجري علي التحقيق. و إن أريد به استصحاب أحكامه فهو- مع الإشكال فيه بعدم إحراز الموضوع الذي يجري في غالب استصحابات الأحكام التكليفية التي موضوعها فعل المكلف القابل للتقييد- محكوم لعموم أحكام الطاهر التي يلزم الاقتصار في الخروج عنها علي المتيقن من مورد التخصيص، و هو النفاس بمعني حال الدم. و من هنا يشكل البناء علي ذلك، كما في الحدائق و عن الذخيرة.

و قد تقدم في الحيض ما قد ينفع في المقام، حيث أطلنا الكلام هناك في الاستدلال للوجهين. فراجع.

هذا، و أما البناء علي نفاسية الدم الثاني إذا كان في العادة أو العشرة فهو مبني علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي في الدم المنفصل عن الولادة.

حكم التوأمين
اشارة

(1) قال في الناصريات عند الكلام في مسألة التوأمين: «لست أعرف لأصحابنا نصا صريحا في هذه المسألة. و الذي يقوي في نفسي أن النفاس يكون من مولد الأول … » ثم استدل علي ذلك. و في المبسوط: «و إذا ولدت ولدين و خرج معهما جميعا الدم كان أول النفاس من الولد الأول، و تستوفي أكثر النفاس من وقت الولادة الأخيرة، لأن اسم النفاس يتناولهما … »، و قريب منه في الخلاف و جواهر القاضي و الوسيلة و السرائر و المعتبر و الشرائع و التذكرة و المنتهي و القواعد و الإرشاد و محكي المهذب و الإصباح و الجامع و غيرها، و في الدروس أن لها نفاسين، و هو ظاهر كل من استدل بأن اسم النفاس يتناولهما، بل هو صريح السرائر، و كالصريح مما في المعتبر من

ص: 356

______________________________

قعودها للثاني و إن كان ما بين الولادتين عشرة أو أكثر.

و كيف كان، فلا ينبغي التأمل في نفاسية الدم المتعقب للأول. و قد نسبه إلي علمائنا في المنتهي و التذكرة، و في الجواهر أنه لم يعثر علي مخالف فيه. و أن كان في كفاية ذلك في الاجماع الحجة منع بعد ما سبق من الناصريات من عدم العثور علي نص فيه لأصحابنا، و ما في السرائر، حيث قال بعد تحقيق وجه المسألة بتمامها: «فليلحظ ذلك و يحقق فقد شاهدت جماعة ممن عاصرت من أصحابنا لا يحقق القول في ذلك». لعدم كشف الإجماع عن الحكم الشرعي في المسائل المستحدثة التحرير و التي يبتني الحكم فيها علي النظر، فالعمدة في الدليل صدق النفاس عرفا، فيشمله إطلاق أدلة التحديد المتقدمة، كما أشير إليه في المبسوط و غيره.

و أما ما في صدر كلام المحقق في المعتبر من التردد فيه، لأنها حامل، و لا حيض و لا نفاس مع حبل. فهو كما تري، لأن امتناع اجتماع الحيض مع الحبل لو تم- كما هو مختاره قدّس سرّه- فامتناع اجتماع النفاس معه خال عن الدليل، ليخرج به عن الإطلاق.

و عموم التساوي بينهما ممنوع، كما تقدم. و ليس المعيار في النفاس إلقاء الحمل، كي لا يصدق مع إلقاء بعضه، بل الولادة- الصادقة في الفرض- كما يشهد به الرجوع للغة و العرف، و إطلاق بعض نصوص التحديد و غيرها، حيث تضمن الولادة و الوضع «1».

و بذلك يظهر الفرق بين النفاس و العدة، حيث قيل بعدم خروجها عن العدة بوضع الأول فإن المعيار في الخروج عنها وضع الحمل غير الصادق به، دون الولادة.

فلا وجه لقياس أحدهما بالآخر، كما عن بعض العامة.

غاية الأمر أنه لا يجتمع النفاس بالولد مع الحبل به بناء علي ما سبق- في وجه ابتداء العدّ من إكمال الولادة- من عدم صدق النفاس عرفا إلا بعد انفصال الولد.

و هو أجنبي عن محل الكلام.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 3، 4، 9 و باب: 4 منها حديث: 1، 3.

ص: 357

______________________________

هذا، و لو فرض عدم صدق النفاس به أمكن استفادة إجراء حكمه مما تقدم في وجه جريانه بخروج بعض الولد و أن لم ينفصل مما صرح فيه بترك الصلاة بخروج بعضه أو بالولادة، لدخوله في إطلاقه أو فهمه منه بالأولوية العرفية. فتأمل جيدا.

و أما نفاسية الدم المتعقب للثاني إذا لم يتجاوز اكثر النفاس من ولادته فقد قطع به في المنتهي، بنحو يظهر في عدم الخلاف فيه، و هو داخل في معقد إجماع التذكرة و نفي العثور علي الخلاف في الجواهر، و إن عرفت الإشكال في حجية ذلك.

و لا إشكال فيه مع فصل أقل الطهر بين الدميين، حيث لا أشكال في صدق النفاس به. و أما مع عدم الفصل به فقد يشكل بأنه إن بني علي وحدة النفاس لزم زيادته علي الحدّ، و إن بني علي تعدده فلا بد من الفصل بأقل الطهر، لأن النفاس كالحيض عندهم في الأحكام، كما في الجواهر. قال: «و خصوصا في ذلك، كما يشعر به حكمهم بعدم حيضية الدم السابق علي الولادة بدون تخلل أقل الطهر … و كذا اللاحق بعد انتهاء مدة النفاس … »

و لا يخفي أن مقتضي هذا الوجه- لو تم- عدم نفاسية الثاني شرعا و إن كان نفاسا عرفا، لعدم الإشكال في أن امتناع الزيادة علي الحد إنما تقتضي خروج الآخر عن الحد دون الأول بعد فرض صدق العنوان عليه، و كذا اعتبار فصل أقل الطهر، كما يشهد به ملاحظة كلماتهم في الحيض. و قد تقدم منا توضيحه في الفصل الخامس في الدم المتقطع من مباحث الحيض.

اللهم إلا أن يقال: ما تقدم مختص بالحيض، لاختصاص دليله به، و هو بعض النصوص و قاعدة الإمكان، التي كان ظاهر بعض أدلتها ذلك، دون النفاس الذي كان مقتضي إطلاق أدلته التنفس بعد الولادة، حيث لا يفرق في تطبيقها بين الولادتين، و بعد تعارض التطبيقين يكون المرجع الأصل المقتضي لعدم نفاسية كلا الدميين، لو لا ظهور المفروغية عن الحكم بالنفاس في الجملة في الفرض، فيعمل علي مقتضي العلم الإجمالي في كل منهما، إلا أن يتداخل النفاسان في بعض الوقت- كما لو كان مجموعهما

ص: 358

______________________________

خمسة عشر يوما- حيث يعلم بتنفس المرأة في وقت التداخل- كالخمسة المتوسطة- فيستصحب فيما بعده، كما يستصحب عدمه فيما قبله، و لا يكون العلم الإجمالي منجزا.

فتأمل. بل قد يدعي القطع بنفاسية الثاني مطلقا، فيتعين البناء علي عدم نفاسية الأول كذلك، للوجه المتقدم من امتناع تجاوز النفاس الواحد عشرة و لزوم الفصل بين النفاسين بأقل الطهر.

إلا أن يقال: مقتضي إلحاق النفاس بالحيض- الذي هو مبني هذا الوجه- هو البناء علي نفاسية الأول، دون الزائد علي الحد من الثاني، كما أفتي به أولا في محكي كشف الغطاء، و إن قوّي بعد ذلك ما عليه الأصحاب من كونه نفاسا مستقلا.

فلاحظ.

و كيف كان، فيندفع الوجه المتقدم بأنه إن كان المعيار في النفاس علي وضع الحمل بتمامه يتعين البناء علي وحدة النفاس في المقام، و أن مبدأ العدّ الولادة الثانية.

و ترتيب أحكام النفاس علي الأولي يبتني علي الإلحاق، نظير ترتيبها علي الدم بخروج أول جزء من الولد، كما تقدم، فلا ينافي التحديد.

و إن كان المعيار فيه علي الولادة- كما هو الظاهر، علي ما سبق- فاللازم البناء علي تعدد النفاس و إن اتصل الدم، لأن وحدة الأمر الاستمراري المقومة لفرديته إنما تكون بعدم انقطاعه إذا لم تكن هناك جهة أخري صالحة لاعتبار وحدته و فرديته.

فالطواف مثلا و إن كان أمرا استمراريا إلا أنه لما كان تشريعه سبعة أشواط، فوحدته شرعا إنما تكون بإكمال السبعة و لو مع تخلل الفصل بين أجزائه، كما أن الأربعة عشر شوطا طوافان و إن اتصلت، كما تقدم عند الكلام في اعتبار التوالي في أقل الحيض. و في المقام حيث فرض تبعية النفاسية شرعا و عرفا للولادة تعين تعدده بتعددها و لو مع الاتصال. و لا دليل علي لزوم الفصل بين النفاسين بطهر، بل إطلاق الأدلة ينفيه، كما أشار إليه في كشف اللثام.

و أما ما تضمن أن أقل الطهر عشرة. فهو- مع اختصاصه بما بين الحيضتين، كما

ص: 359

______________________________

تقدم عند الكلام في النقاء المتخلل بين أجزاء النفاس الواحد- إنما يقتضي عدم نقص الطهر في فرض ثبوته عن العشرة، لا لزوم الفصل بين النفاسين بعشرة بحيث يمتنع اتصالهما.

و إلحاق النفاس بالحيض في ذلك للإجماع علي اشتراكهما في الأحكام. كما تري، لا مجال له مع كون المعروف بين الأصحاب في المقام عدم اعتبار الفصل بين النفاسين، و إن لم يبلغ مرتبة الإجماع الحجة، كما تقدم.

و إنما يتجه ذلك لو كان الاشتراك مقتضي عموم دليل لفظي، حيث يتعين الاقتصار في الخروج عنه علي مورد قيام الحجة من إجماع أو غيره، و قد سبق في الوجه الثالث للاستدلال علي تحديد أكثر النفاس بعشرة عدم ثبوت العموم المذكور.

بل لو فرض ثبوته أشكل عمومه للمقام، لأن امتناع اتصال الحيضتين ليس مقتضي دليل شرعي، بل غاية الأمر أن المستفاد مما دل علي تحديد الحيض بالعشرة امتناع حيضية ما زاد عليها متصلا، لعدم المنشأ لتعدد الحيض مع الاتصال، فهي عرفا حيضة واحدة تمنع منها أدلة التحديد، لا حيضتان قام الدليل علي امتناع اتصالهما.

أما النفاس فحيث فرض تعدده بتعدد الولادة فامتناع الاتصال فيه يحتاج إلي دليل، و هو مفقود فيه و في الحيض.

و منه يظهر أن ما تضمن أن أقل الطهر عشرة- لو شمل ما بين النفاسين- لا يمنع من فصل النقاء الذي لا يبلغ العشرة بين النفاسين إذا لم يتجاوز مع دم النفاس الأول أو الثاني العشرة، كما لو رأت الدم بعد ولادة الأول خمسة أيام، ثم نقت خمسة أخري، ثم ولدت الثاني و رأت الدم معه، او رأت الدم بعد ولادة الأول عشرة أيام، ثم نقت خمسة ثم ولدت الثاني و رأت الدم معه خمسة أيام. غاية الأمر أنه يمنع من كون النقاء المذكور طهرا، فيلزم البناء علي نفاسيته إلحاقا بالنفاس الأول أو الثاني، كالنقاء المتخلل بين أجزاء النفاس الواحد عندهم. بل ربما يلتزم بذلك أيضا لو أمكن إلحاقه بكل من النفاسين علي نحو التبعيض لتعذر إلحاقه بخصوص أحدهما، كما لو كان ستة

ص: 360

______________________________

أيام بين نفاسين كل منهما سبعة أيام. و استبعاد ذلك ليس بأولي من استبعاد شمول دليل تحديد الطهر لما يكون بين النفاسين.

نعم، لو امتنع إلحاقه بالنفاسين مطلقا و لو بنحو التبعيض- كما لو كان في الفرض ثمانية أيام- اتجه البناء علي العكس، و إتمام الطهر من أحد النفاسين، و العمل بمقتضي العلم الإجمالي في المقدار الصالح للتتميم من كل منهما، أو إتمامه من خصوص الثاني منهما، عملا بالاستصحاب. فتأمل.

و دعوي: لزوم رفع اليد عن العموم المذكور في المقام، للإجماع علي ترتيب أحكام النفاس في كل من الدميين، المستلزم لعدم اعتبار كون الفاصل بينهما أقل الطهر. مدفوعة بما سبق من عدم ثبوت الإجماع الحجة في المقام. و لا سيما مع أن ظاهر كلام الأكثر فرض الصورة الغالبة، و هي صورة استمرار الدم و تداخل النفاسين من دون فصل بينهما، التي عرفت قصور العموم عن إثبات لزوم الفصل فيها بين النفاسين، و لم يذكر صورة الفصل بين الولادتين بأكثر من عشرة إلا بعض المتأخرين، تبعا لما سبق من المعتبر، و هو لا يكفي في انعقاد الإجماع قطعا.

و مثله ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من معارضة العموم المذكور بعموم ما تضمن تبعية النفاس للولادة و عموم ما دل علي الرجوع للعادة، و عموم ما تضمن عدم زيادة النفاس علي العشرة. قال قدّس سرّه: «فإذا فرضنا أنها رأت الدم عقيب الأول، فانقطع علي مقدار عادتها، كالتسعة، ثم رأت البياض في التسعة، ثم ولدت الثاني و رأت الدم، فإما أن يرفع اليد عن عموم تحيض النفساء مقدار عادتها فنخصصها بمن لم تر بعده قبل أقل الطهر نفاسا آخر، و إما أن يرفع اليد عن عموم جعل أكثر النفاس عشرة، فيقال: ان نفاسها نفاس واحد و هو عشرون مثلا، أو يقال بأن دم الولادة الثانية ليس بنفاس، و إما أن يقال بأن عموم أدلة الطهر مخصصة بما عدا ما بين النفاسين. و من الظاهر عند المتأمل المنصف أولوية التخصيص في العموم الأخير».

وجه الإشكال فيه: ما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن عموم أقل الطهر

ص: 361

______________________________

عشرة، و عموم أكثر النفاس عشرة، يتضمنان التحديد الواقعي، و عموم: تبعية النفاس للولادة، و عموم الرجوع للعادة، يتضمنان طريقيهما لإحراز النفاس في مورد الشبهه الموضوعية، نظير قاعدة الإمكان و حجية العادة في الحيض. و اللازم تقديم عموم التحديد الواقعي لحكومته عرفا علي عموم حجية الطريق في المقام الظاهر، لرافعيته لموضوعه، و هو الإمكان و الشك، حيث يعلم بسبب التحديد الواقعي بكذب الطريق. و لذا لا الإشكال في تقديم عموم تحديد الطهر علي عموم الرجوع للعادة في الحيض، و تقديم عموم تحديد الحيض علي عموم حجية الصفات فيه.

هذا كله بناء علي عموم تحديد أقل الطهر بعشرة لما بين النفاسين. لكن أشرنا آنفا إلي اختصاصه بما بين الحيضتين، فلا موجب لرفع اليد عن العمومات الأخر.

و يتجه ما ذكره الأصحاب، و إن لم يبلغ مرتبة الإجماع الحجة. فلاحظ، و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

بقي في المقام أمران:
الأول: الكلام في الفرق بين القول بوحدة النفاس و بتعدده في التوأمين

ذكر في الروض و الحدائق و محكي الذخيرة و حاشية الروضة أنه يظهر الفرق بين القول بوحدة النفاس و القول بتعدده في النقاء المتخلل بين دميي الولادتين إذا لم يفصل بين الولادتين عشرة أيام أو مقدار العادة، كما لو ولدت الأول فرأت الدم أربعة أيام، ثم نقت يوما أو يومين، ثم ولدت الثاني فرأت الدم و استمر بها. فإن قيل بوحدة النفاس و بدئه بولادة الأول كان النقاء المذكور نفاسا، و إن قيل بتعدده كان طهرا.

لكنه مبني.. أولا: علي ما سبق منهم من نفاسية النقاء المتخلل بين أجزاء نفاس واحد دون المتخلل بين نفاسين، و قد سبق المنع من نفاسيتهما معا.

و ثانيا: علي اختصاص ما تراه بعد الولادة الثانية بالنفاس الثاني، و عدم تداخل النفاسين فيما يتمم العشرة أو مقدار العادة للأول من الثاني، و هو- مع مخالفته لما اعترف به بعض من تقدم كالمحقق الخوانساري في محكي حاشية الروضة من تداخل

ص: 362

______________________________

النفاسين- مخالف لإطلاق أدلة التحديد، بناء علي شمولها للدم المتقطع الذي هو مبني نفاسية الدم الثاني في النفاس الواحد الذي يتوقف علي نفاسية النقاء المتخلل عندهم.

و لا يهم مع ذلك دعوي: أن الدم المتأخر منسوب عرفا للولادة الثانية. علي أنها غير ظاهرة، لعدم كفاية ذلك في الخروج عن إطلاق الأدلة.

و أما دعوي اختصاص ما دل علي امتناع تخلل النقاء بين أجزاء نفاس واحد بما إذا كان كلا الدميين منسوب لولادة واحدة، دون المقام، حيث ينسب الثاني للولادتين معا. فيدفعها- مضافا إلي الانتقاض بالنقاء المتخلل بين أجزاء النفاس الثاني، كما لو استمر الدم بعد ولادة الثاني في الفرض المتقدم ثلاثة أيام ثم نقت ثلاثة أيام ثم رأت الدم يومين- أن ذلك مخالف لإطلاق أن أقل الطهر عشرة الذي هو الدليل عندهم في المقام علي نفاسية النقاء المتخلل بين أجزاء نفاس واحد، حيث يلزم الاقتصار في الخروج عنه علي المتيقن، و غايته ما بين النفاسين غير المتداخلين، دون ما إذا كان في ضمن نفاس واحد و أن كان بعضه متداخلا مع نفاس آخر.

نعم، لو كانت نفاسية الدم الثاني في النفاس الواحد المتقطع مستفادة من أدلة لبية لا إطلاق لها اتجه الاقتصار فيها علي المتيقن، و هو صورة عدم تجدد سبب نفاس أخر، فلا يحرز أن النقاء المفروض متخلل بين دميي نفاس واحد.

الثاني: لو ألقت الولد الواحد قطعا متفرقة

فعن الموجز و كشف الالتباس و غاية المرام القطع بأن حاله حال التوأمين. فإن كان المراد أن حاله حالهما في تعدد النفاس- كما هو ظاهر كشف اللثام و احتمله في محكي الذكري- فهو لا يخلو عن إشكال، بل منع، لعدم صدق الولادة إلا بصدق الولد عرفا علي المولود، و هو لا يكون إلا بإتمام القطع المتعاقبة، إذ كل منها بعض الولد لإتمامه، فلا يصدق بإلقائه الولادة التي هي مبدأ العدّ في مدة النفاس علي ما سبق. و لا وجه لما في الحدائق من إمكان الاستناد للعمومات المتقدمة في البناء علي تعدد النفاس بتعدد الولادة. و لعله لذا تنظر في الدروس في تعدد الولادة.

ص: 363

______________________________

و إن كان المراد ترتيب آثار النفاس علي الدم المقارن لأول جزء لأنه من ماهية دم النفاس، و إن لم يكن له عدّ مستقل به- كما هو المتيقن مما عن نهاية الأحكام من أنه لو سقط عضو من الولد و تخلف الباقي و رأت الدم فهو نفاس- فهو المستفاد مما تضمن ترتب أحكام النفاس بظهور أول جزء من الولد، فانه لو فرض انصرافه إلي صورة الاتصال فخصوصيته ملغية عرفا، حيث يستفاد منه عرفا أن المعيار في ترتب الحكم علي الدم الشروع في الولادة.

خلافا لما في الجواهر من الفرق بين الاتصال و التقطع. كما لا وجه مع ذلك لتوقف ترتب أحكام النفاس عليه علي كونه نفاسا مستقلا، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه. و لا لما يظهر منه أيضا من التنافي بين كونه نفاسا و كون مبدأ العدّ تمام الولادة. بل مقتضي النظر في جميع الأدلة البناء عليهما معا.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من عدم استبعاد كون مبدأ العشرة سقوط معظم الأجزاء التي تصدق معه الولادة و إن بقي بعض الأجزاء، كما لو ولدت الحمل متصلا و بقي منه بعض أصابعه أو نحوه مما لا تتوقف الولادة علي إلقائه. فهو لا يخلو عن إشكال، للفرق عرفا بين ولادة الناقص متصلا و تدرج الأجزاء المتقطعة في الإلقاء بالمقدار الذي يصدق بمجموعه الولد الناقص، لأن اتصال الناقص- و لو بمقدار عضو كاليد- موجب للاعتداد به عرفا، بحيث يصدق عليه الولد و علي وضعه الولادة، بخلاف ما لو تقطع، لأن النظر يكون للأجزاء التي لا يصدق بوضع كل منها الولادة، إلا بلحاظ تماميتها.

علي أن البناء في كلتا الصورتين علي عدم ترتيب أحكام دم النفاس علي ما يقارن وضع الجزء الأخير لو كان بعد مضي أكثر النفاس علي وضع ما يصدق به الولد الناقص بعيد عن المرتكزات جدا. و لا سيما بعد النظر إلي ما تضمن بدء ترتبها بظهور أول جزء من الولد، حيث قد يستفاد من ذلك أن الدم المقارن لأي جزء من الولد محكوم بالنفاس و واجد لحقيقته لإلغاء خصوصية التقدم و التأخر عرفا.

ص: 364

______________________________

نعم، يبقي الإشكال في مدة الاستمرار علي ذلك بعد فرض كون مبدأ العدّ الولادة التي تصدق قبله بوضع المقدار المعتد به من الولد. و من هنا قد يجعل له عدّ مستقل، لا لكونه ولادة بل لدعوي إلغاء خصوصية الولادة في العدّ عرفا، و فهم أن المعيار مطلق عملية الوضع و لو للقطعة. و إليه قد يرجع ما سبق منهم من دعوي تعدد الولادة في المقام. لكنه لا يخلو عن إشكال. و الأقرب الاقتصار علي ما يري من سنخ دم النفاس عرفا. فتأمل.

و مما ذكرنا يظهر حال ما ذكره الفقيه الهمداني قدّس سرّه من أن الأقرب تعدد النفاس إذا كان خروج كل قطعة بمنزلة ولادة مستأنفة عرفا، و إلا فالمجموع نفاس واحد ابتداؤه من أول ظهور الجزء الأول، و منه يبدأ العد، لا من وضع الجزء الأخير، حيث لا وجه له مع وحدة النفاس عرفا، بل عقلا.

إذ فيه.. أولا: أن المعيار في اختلاف الفرضين غير ظاهر، لعدم صدق الولادة إلا بوضع الولد غير الحاصل بوضع الجزء إلا أن يكون بنحو يصدق عليه الولد الناقص، و لا يمكن فرضه في أكثر من قطعة واحدة.

و دعوي: أن وضع القطع المتعددة إن كان بمخاض واحد فمجموعه ولادة واحدة، و إن كان مع اختصاص كل منها بمخاض لزم تعدد الولادات بعدد القطع.

ممنوعة لا يساعد عليها العرف، بل المعيار عندهم في صدق الولادة ما ذكرنا. إلا أن يرجع إلي ما سبق احتماله من أن الموضوع أعم من الولادة. فتأمل.

و ثانيا: أن لازم ما ذكره في الفرض الثاني عدم ترتب حكم النفاس علي الدم المصاحب لوضع القطعة الأخيرة إذا كان بعد مضي أكثر النفاس علي ظهور أول جزء من الولد، و هو بعيد جدا كما سبق.

و ثالثا: أن وحدة الولادة و النفاس لا تنافي كون مبدأ النفاس ظهور أول قطعة، و مبدأ العدّ إكمال الولادة بوضع آخر قطعة، كما يظهر مما سبق، و عليه العمل.

ص: 365

إذا لم تر الدم إلا في العاشر

العشرة و انقطع عليها فذلك الدم نفاسها (1).

______________________________

(1) كما في السرائر و المعتبر و الشرائع و التذكرة و المنتهي و القواعد و الإرشاد و جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك و كشف اللثام و محكي الجامع و غيرها، و يستفاد ممن ذكر الفرع الآتي، و يظهر من غير واحد المفروغية عنه في الجملة.

قال في المدارك: «و اعلم أن هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب. و هو محل إشكال، لعدم العلم باستناد هذا الدم إلي الولادة، و عدم ثبوت الإضافة إليها عرفا».

و قد استدل له في كلام غير واحد بأنه دم بعد الولادة، فيكون نفاسا، و لكنه كما تري، لعدم الدليل علي تحديد النفاس بذلك، بل المتيقن منه الدم المستند للولادة، بل الظاهر اختصاصه به عرفا. و ترتيب أثره علي كل دم متصل بالولادة إنما هو لإحراز ذلك فيه بالأصل المشار إليه في أول هذا الفصل. فراجع.

و مثله ما تضمن تحديد النفاس بالعشرة، لما سبق من عدم ثبوت ذلك في نص معتبر، لينظر في لسانه، غاية الأمر أنه قد يستفاد مما تضمن الرجوع للعادة العددية تبعا، بأن يفهم منه مساواة النفاس للحيض في الحد ثبوتا مع تساويهما في الرجوع للعادة ظاهرا، و من الظاهر أن تحديد الحيض بالعادة العددية و بالعشرة لا يرجع إلي بيان زمان إمكان الحيض و لزوم الحكم به، بل إلي بيان مقداره- كما هو الحال في تحديد النفاس بالعشرة في بعض النصوص غير المعتبرة- و إنما يستفاد إحرازه و وقته من طرق أخري كالعادة الوقتية و التمييز و قاعدة الإمكان، و لا موضوع للعادة الوقتية في النفاس، كما لا إشكال في عدم حجية التمييز فيه.

و أما قاعدة الإمكان فلا دليل علي الرجوع إليها فيه بعد اختصاص أدلتها بالحيض، و كونه فيه ارتكازية دون النفاس، لتوقف العرف عن البناء علي النفاسية مع انفصال الدم عن الولادة بنحو معتد به.

نعم، لو ثبت عموم مساواة النفاس للحيض في الأحكام كان دليلا علي جريان

ص: 366

______________________________

القاعدة المذكورة فيه. لكن سبق عدم ثبوته، و إن جري عليه الأصحاب في غير مورد، و منها المقام. علي أنه لو ثبت كان مقتضاه البناء علي نفاسية الدم و إن كان مبدؤه بعد الولادة بعشرة أيام، لما أشرنا إليه من عدم ورود نصوص التحديد بها للتوقيت، مع أنه ليس بناؤهم علي ذلك. و كأنه لفهمهم من دليل التحديد بالعشرة التوقيت بها، الذي سبق المنع عنه.

نعم، يظهر من نصوص الإرجاع للعادة المفروغية عن نفاسية الدم، و المتيقن منه صورة اتصاله بالولادة حقيقة أو عرفا، لأنه المتيقن من نفاسية الدم الخارج بعدها. و مثلها النصوص المتضمنة أن مبدأ العدّ من تمام الولادة، لما سبق- في حكم النقاء المتخلل بين الدميين- من أنها واردة لبيان مقدار الجلوس بعد الفراغ عن تحقق مقتضيه، و هو الدم، و لا تشمل صورة انفصال الدم.

و بعبارة أخري: جميع نصوص العادة واردة لبيان مقدار جلوس النفساء بعد الفراغ عن كونها نفساء، لا بمعني كونها ذات ولد، بل بمعني كونها ذات دم نفاس، فلا تنهض بإثبات نفاسية الدم، بل يلزم الاقتصار فيه علي المتيقن، و هو ما يكون متصلا بالولادة، حسبما تقتضيه طبيعة النساء المعهودة للعرف.

و من هنا لا مجال للبناء علي نفاسية كل دم تراه في العشرة و أن كان في طرفها، لو لا ظهور مفروغية الأصحاب عنه التي في نهوضها بإثباته إشكال، لعدم وضوح شيوع الابتلاء بذلك، ليبعد خطؤهم فيه، بل هو من الفروع الفرضية التي يبتني كلامهم فيها علي النظر و الاجتهاد و النظر في مفاد الأدلة، فمع عدم ظهور صحة اجتهادهم لا تعويل علي تسالمهم في الخروج عن استصحاب عدم النفاس و عموم أحكام الطاهر.

نعم، لو علم باستناد الدم إلي الولادة كان من أفراد النفاس العرفي، و إن لم يتسن للعرف تشخيصه، فيكون مقتضي إطلاق أدلة أحكام النفساء ترتبها عليه، كما يكون مقتضي إطلاق أدلة التحديد استيفاء الحدّ له- إما بقدر العادة أو العشرة- و أن

ص: 367

______________________________

خرج عن العشرة من حين الولادة- كما عن بعض مشايخنا- لما عرفت من ورود أدلة التحديد بالعشرة و العادة من حين الولادة لبيان المقدار في فرض وجود دم النفاس، لا التوقيت، فلا تنهض بالمنع عن ترتيب أحكام النفاس عليه في الفرض، لخروجه عن موضوعها.

بل يجري ذلك حتي لو انفصل عن الولادة بمقدار العادة أو العشرة. لكن العلم باستناد الدم للولادة في ذلك فرض غير معلوم التحقق في الخارج.

مع أنه لم يتضح عموم مفهوم النفاس عرفا لكل دم يستند للولادة، كما لم يثبت تحديده بذلك بوجه معتبر، بل يقرب اختصاصه عرفا بالدم الطبيعي للنساء، و هو المتصل بالولادة المعدود عرفا من توابعها و آثارها.

كما لم يتضح إطلاق أدلة التحديد بنحو يشمل المنفصل- لو فرض عموم مفهوم النفاس- لأن النصوص بين ما هو مختص بالمتصل و ما هو منصرف إليه. و كذا الحال في إطلاق أحكام النفساء لو فرض عموم مفهوم النفاس. لانحصار الدليل علي جملة منها بالإجماع علي مشاركة النفاس للحيض في الأحكام الذي لا يبعد اختصاصه بما يكون في ضمن العشرة، و بالنصوص الظاهرة في فرض رؤية الدم فيها متصلا بالولادة.

و دعوي: إلغاء خصوصية مواردها، لارتكاز تبعية الحكم للنفاس و أنه موضوع الحدث من دون خصوصية لوقته. ممنوعة، إذ لا مجال لاستبعاد اختلاف حكم النفاس باختلاف ذلك. و لا سيما مع احتمال رجوع التحديد بالعادة أو العشرة أو غيرهما لحكم النفاس شرعا، لا لموضوعه واقعا، كما يناسبه التعرض في الأسئلة و الأجوبة للعمل، و ليس كالتحديد في الحيض بلسان تحديد الموضوع الواقعي، إذ لو تم ذلك رجع إلي عدم ترتب الأحكام علي النفاس في بعض حالاته، فكيف يمكن مع ذلك فهم عدم خصوصية موارد الأدلة المتقدمة؟! و لو فرض الإطلاق في نصوص بعض الأحكام لم يبعد انصرافه للنفساء المعهودة ذات الأحكام الخاصة التي كان المتيقن منها من اتصل

ص: 368

______________________________

دمها بالولادة. و إن كان الأمر لا يخلو عن إشكال. و هو سهل بعد ما ذكرناه أولا من عدم العلم باستناد الدم للولادة في الفرض، و عدم ظهور عموم نفاسية ما يستند إليها. فلاحظ.

هذا، و بناء علي ما عليه الأصحاب من نفاسية الدم المنفصل عن الولادة فقد وقع في كلماتهم إطلاق نفاسية العاشر أو ما يري في العشرة. و لا إشكال فيه عندهم تقريبا لو كانت وظيفة المرأة الرجوع للعشرة، إما لأن عادتها عشرة، أو للبناء علي ذلك حتي فيمن عادتها دون العشرة مطلقا أو إذا لم يتجاوز دمها العشرة- علي ما يأتي الكلام فيه في بعض المسائل الآتية- أو لكونها مضطربة أو مبتدأة.

و أما لو كانت وظيفتها الرجوع للعادة التي هي دون العشرة فقد يشكل التنفس بما يري بعد العادة قبل العشرة. قال في محكي الذكري: «و علي اعتبار العادة ينبغي أن يكون ما صار فيها نفاسا دون ما زاد عليها. و يحتمل اعتبار العشرة إذا لم يتجاوز، كما لو انقطع دم المعتادة علي العشرة. أما مع التجاوز فالرجوع إلي العادة قوي».

و في جامع المقاصد: «و التحقيق أن يقال: علي اعتبار العادة إنما يكون العاشر نفاسا إذا لم يتجاوز الدم العاشر، أو كانت مبتدأة أو مضطربة أو ذات عادة هي عشرة، لمصادفته جزءا من العادة. و كذا لو كانت أقل و صادف الدم جزءا منها، إلا أن ذلك الجزء هو النفاس خاصة مع التجاوز» و قريب منه في الروض و الروضة و المسالك و المدارك و غيرها.

بل استشكل في الرياض في نفاسية ما يري بعد العادة حتي إذا لم يتجاوز العشرة. قال: «للشك في صدق دم الولادة عليه، مع كون وظيفتها الرجوع إلي أيام العادة التي لم تر فيها شيئا بالمرة». و يدفعه ما أشار إليه في الجواهر من عدم الأمر لها بالرجوع للعادة في هذا الحال، لما هو المعروف بينهم من تحيض ذات العادة بتمام العشرة إذا لم يتجاوزها الدم، و ألحق به هو قدّس سرّه تبعا لهم النفاس في ذلك، و لم يحكموا بالاقتصار علي العادة إلا مع تجاوز الدم العشرة.

ص: 369

______________________________

هذا، و قد أصر سيدنا المصنف قدّس سرّه علي نفاسية ما في العشرة مطلقا و لو بعد العادة، و دفع ما سبق منهم بأن ما تضمن اقتصار النفساء علي عادتها مختص بما إذا رأت الدم في العادة، أما مع عدم رؤيته إلا بعدها مع تجاوزه العشرة فنصوص العادة قاصرة عنه، و يتعين البناء علي نفاسيته لقاعدة الإمكان التي عليها المعول في هذه المسائل.

و بملاحظة مجموع ما ذكره يتضح ابتناء كلامه علي التفكيك بين التحديد بالعادة العددية و التحديد بالعشرة، و أن مرجع الأول بيان المقدار من دون نظر للتوقيت، و جعل المبدأ في بعض نصوصه الولادة أو انصراف جميع نصوصه لذلك، إنما هو لفرض وجود الدم حينئذ، لا لبيان وقت التنفس لذات العادة، فلا ينافي تأخر تنفسها بالقدر المذكور أو بغيره مع تأخر الدم، لقاعدة الإمكان، أما الثاني فمرجعه إلي التوقيت، بالعشرة من حين الولادة، فيمنع من تأخر التنفس عن ذلك و لو مع تأخر الدم، و يكون واردا علي قاعدة الإمكان.

و لذا ذكر أنه لو أمكن الجمع بين الأمرين في الدم المنفصل عن الولادة تعين، فلو كانت عادتها أربعة أيام فرأت الدم في ثالث الولادة كان نفاسها إلي سادس الولادة، أو رأته في سادسها كان نفاسها إلي تاسعها.

أما لو تعذر الجمع بين الأمرين كما لو رأته في الفرض في ثامن الولادة، أو كانت عادتها سبعة فرأت الدم في سادس الولادة، فحيث لا مجال لرفع اليد عن التوقيت بالعشرة يدور الأمر بين تخصيص عموم التنفس بقدر العادة بغير الأيام الخارجة عن العشرة، فتتبعض العادة في الفرضين، و تتنفس فيهما إلي العشرة من الولادة بثلاثة في الأول و خمسة في الثاني، و بين قصره علي صورة استيعاب العشرة للعادة، فيخرج الفرضان المتقدمان و نحوهما عن عموم التحيض بالعادة رأسا، و يكون المرجع في التنفس بالدم الحاصل في ضمن العشرة قاعدة الإمكان لا غير.

لكن يشكل ما ذكره قدّس سرّه- مضافا إلي ما سبق من عدم الدليل علي جريان قاعدة الإمكان في النفاس- بما أشرنا إليه آنفا من أن التحديد بالعشرة واقعا مستفاد

ص: 370

______________________________

تبعا من نصوص التحديد بالعادة ظاهرا لذات العادة، فان بني علي رجوع التحديد في النصوص للتوقيت و بيان أمد النفاس من حين الولادة، فكما تدل علي أن النفاس لا يتجاوز واقعا العشرة من حين الولادة، لا حدوثا و لا استمرارا، كذلك تدل علي أنه لا يتجاوز ظاهرا لذات العادة مقدار العادة من حين الولادة، فتكون العادة لصاحبتها حاكمة علي قاعدة الإمكان حكومة الأمارة علي الأصل.

و إن بني علي رجوع التحديد لبيان المقدار دون التوقيت، فهو لا يصلح للتوقيت من حين الولادة لا بقدر العادة ظاهرا و لا بالعشرة واقعا- كما تقدم أنه الظاهر- بل المرجع في الوقت قاعدة الإمكان- المفروض جريانها في النفاس عندهم- و حينئذ كما يمكن في ذات العادة التنفس بالدم المرئي بعدها في ضمن العشرة، يمكنها التنفس به بعدها، سواء حدث بعدها أم فيها و استمر بعدها فلو كانت عادتها ستة ايام تنفست بها سواء رأت الدم في سادس الولادة أم في الثاني عشر و استمر، كما يمكن لغير ذات العادة التنفس بالعشرة سواء رأته في العشرة أم بعدها إذا استمر، كما سبق منا عند الكلام في الدم المنفصل.

و لا مجال للتفكيك بين التحديد بالعادة و التحديد بالعشرة في كون الأول للتقدير و الثاني للتوقيت مع وحدة لسان دليلهما.

و أشكل من ذلك ما ذكره السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي من أن ذات العادة لا تتنفس بالدم المتجاوز عن العشرة من حين الولادة إذا رأته بعد مضي قدر عادتها، أما إذا رأته قبل ذلك تنفست بقدر عادتها منه إن أمكن، كما لو كانت عادتها سبعة أيام و رأته في ثاني الولادة، فإنها تتنفس إلي الثامن، و إن لم يمكن تنفست بما دون عادتها من دون أن تتجاوز العشرة من حين الولادة، كما لو رأته في الفرض في الخامس من الولادة، فإنها تتنفس ستة أيام.

إذ فيه: أن التحديد بالعادة إن كان للتوقيت لزم عدم الاستمرار في التنفس بعد مضي قدرها من حين الولادة، و لا تتم مقدار العادة و إن أمكن قبل مضي العشرة. و إن

ص: 371

______________________________

كان لبيان المقدار، فإن بني علي جريان قاعدة الإمكان في النفاس لزم التنفس بالدم و إن كان مبدؤه بعد مضي قدر العادة من حين الولادة، و إن بني علي عدم جريانها فيه لزم عدم التنفس بالدم المنفصل مطلقا و إن كان مبدؤه قبل مضي مقدار العادة من حين الولادة، خصوصا إذا تعذر تتميم مقدار العادة من حين العشرة. فتأمل جيدا.

و لعله لذا قد يظهر من الجواهر البناء علي أن التحديدين معا لبيان المقدار دون التوقيت، و أن جعل مبدأ الحساب الولادة في بعض النصوص لفرض وجود الدم حينها. و لذا مال إلي أنها لو رأته بعد العادة في ضمن العشرة و استمر كان لها التنفس بقدر عادتها إلي ما بعد العشرة.

نعم، لو رأته بعد العشرة فلا نفاس لها، للفرق بينهما بالإجماع، أو بجريان استصحاب النفاس في الأول و عدمه في الثاني. و هو و إن كان أقرب إلي مفاد النصوص مما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه إلا أنه يشكل أيضا بأنه لا مجال للفرق بين الفرضين بالإجماع، لظهور كلمات الأصحاب في عدم الفرق في نفي نفاسية ما بعد العشرة بين الحدوث و الاستمرار فكما لا يكون الدم الحادث بعدها نفاسا لا يستمر النفاس باستمرار الدم الحادث فيها و تجاوزه لها.

فإن بني علي تماميته لزم البناء علي نفي النفاسية في الموردين، و إن لم ينهض بالحجية- كما هو الظاهر، و يتضح وجهه مما تقدم- فإن بني علي جريان قاعدة الإمكان في النفاس لزم البناء علي النفاسية في الموردين، و الخروج بها عن استصحاب عدم النفاس في الثاني، و إن بني علي عدم جريانها- كما سبق- فحيث كان الدم المنفصل عن الولادة خارجا عن مورد نصوص التحديد الظاهرة في مجرد بيان المقدار دون التوقيت- كما تقدم- يتعين الرجوع فيه لاستصحاب عدم النفاس، من دون فرق بين الفروض المتقدمة، كما تقدم.

نعم، بناء علي ما فهمه الأصحاب من ورود النصوص للتوقيت يتجه نفاسية ما يري في العادة، دون غيره في حق من ترجع لعادتها، كما تقدم من جماعة. فتأمل

ص: 372

و إذا رأته حين الولادة ثم انقطع ثم رأته قبل العشرة و انقطع عليها (1) فالدمان و النقاء بينهما كلها نفاس واحد (2). و أن كان الأحوط استحبابا في النقاء الجمع بين عمل الطاهرة و النفساء.

(مسألة 42): الدم الخارج قبل ظهور الولد ليس بنفاس (3)،

______________________________

جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

إذا رأته حين الولادة ثم انقطع ثم رأته قبل العشرة و انقطع عليها

(1) أما لو لم ينقطع عليها فسيأتي الكلام فيه.

(2) لا إشكال في نفاسية المتصل بالولادة، لأنه المتيقن من أدلة التنفس، كما تقدم. و أما النقاء المتخلل فالكلام في نفاسيته بعد فرض نفاسية الدم الثاني قد تقدم قبيل الكلام في حكم التوأمين، و تقدم هناك التعرض لمن صرح بالحكم المذكور في المتن. و أما الدم الثاني فنفاسيته تبتني علي ما تقدم في الفرع السابق، لأنهما من باب واحد.

و منه يظهر أنه لو لم ينقطع علي العشرة جري فيه ما تقدم هناك، كما في الجواهر.

و لذا صرح في جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة بعدم نفاسيته إذا كان بعد مضي مقدار العادة، و إلا فالنفاس منه ما يكون في العادة لا غير. و كان علي سيدنا المصنف قدّس سرّه الحكم بنفاسيته مطلقا، لقاعدة الإمكان بعد اختصاص نصوص الرجوع للعادة بصورة وجود الدم فيها، فيخرج الفرض عنها. و لا أقل من البناء علي ذلك إذا كان مقتضي العادة العددية بالنحو الذي يناسبها، فلو كانت عادة المرأة سبعة أيام فانقطع في ثاني الولادة و عاد في سادسها و تجاوز العشرة، فيبني علي نفاسية الثاني إلي السابع.

نعم، لو كان انقطاع الأول بعد مضي مقدار العادة اتجه عدم نفاسية الثاني، كما لو استمر بعد العادة.

مسألة 42: الدم الخارج قبل ظهور الولد ليس بنفاس

(3) إجماعا، كما في التذكرة و المنتهي و المختلف و المدارك و محكي حاشية

ص: 373

فإن كان متصلا بالولادة (1) و علم أنه حيض و كان (2) بشرائطه جري عليه حكمه (3)

______________________________

الإرشاد، كما نفي الخلاف فيه في الخلاف و جامع المقاصد و محكي كشف الرموز و التنقيح و شرحي الجعفرية و غيرها. و يقتضيه قوله عليه السلام في موثقي عمار فيمن يصيبها الطلق فتري الصفرة أو الدم: «تصلي ما لم تلد» «1»، و في موثق السكوني: «إذا رأت الدم و هي حامل لا تدع الصلاة إلا أن تري علي رأس الولد» «2»، و نحوه حديث زريق [رزيق] الآتي، و قد تقدمت كلها عند الكلام في نفاسية ما يري حين الشروع في الولادة.

(1) الظاهر أن مراده الاتصال بالدم المسبب عنها المحكوم بالنفاسية، سواء كان خروجه عند الشروع في الولادة بخروج بعض الولد، أم بتمامها، لأن المعيار في احتمال شرطية الطهر علي تخلّله بين الحيض و النفاس، و لا ينفع اتصاله بالولادة لو لم تر حينها الدم، بل تأخر عنها دم النفاس، بل يلحقه ما يأتي في المنفصل. و منه يظهر أنه مع اتصال الدميين لا بد في واجدية ما قبل الولادة لشرط الحيض من مضي ثلاثة أيام عليه إلي حين الشروع في الولادة حيث يحكم بنفاسية الدم، لا إلي حين الفراغ منها.

(2) بناء علي ما تقدم من إمكان حيض الحامل.

(3) لإطلاق أدلته. و أما لزوم الفصل بين الحيض و النفاس بطهر عشرة فهو غير ثابت، كما لم يثبت لزوم الفصل بها بين النفاسين، علي ما سبق في ولادة التوأمين، لأن المقامين من باب واحد.

و دعوي: استفادته في المقام مما دل علي لزوم الفصل بها بين النفاس و الحيض المتأخر بضميمة عدم الفصل كما في الروض. ممنوعة، لأن مجرد عدم الفصل لا ينفع ما لم يرجع إلي الاجماع علي القول بعدم الفصل و هو غير ثابت، و لا سيما مع ثبوت الخلاف من بعضهم، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالي، بل صرح في المنتهي بأن بينهما فرق ما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب النفاس حديث: 1، 3.

(2) الوسائل باب: 4 من أبواب النفاس حديث: 2.

ص: 374

______________________________

كما لا محذور أيضا في لزوم استمرار جلوس المرأة أكثر من عشرة أيام لو كان مجموع الحيض و النفاس زائدا عليهما، إذ ليس مفاد الأدلة إلا عدم زيادة كل منهما علي العشرة، لا عدم زيادة مجموعهما لو اتصلا، و لذا أمكن اتصال النفاسين و زيادة جلوس المرأة علي العشرة في النفاس بمقدار الولادة.

كما أن النصوص النافية لنفاسية ما يخرج قبل الولادة و لزوم الصلاة المتضمنة معه لا تمنع من ذلك أيضا، لابتناء موثق السكوني علي عدم حيض الحامل، و لا بد من رفع اليد عنه في ذلك، لما تقدم، و ظهور موثقي عمار في دم المخاض المسبب عن الطلق، و لا نظر فيهما للدم الخارج حين المخاض المفروض كونه حيضا.

و أظهر منهما في ذلك حديث زريق [رزيق] عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «ان رجلا سأله عن امرأة حاملة رأت الدم. قال: تدع الصلاة. قلت: فإنها رأت الدم و قد أصابها الطلق فرأته و هي تمخض. قال: تصلي حتي يخرج رأس الصبي … قلت: جعلت فداك ما الفرق بين دم الحامل و دم المخاض؟ قال: إن الحامل قذفت بدم الحيض، و هذه قذفت بدم المخاض إلي أن يخرج بعض الولد، فعند ذلك يصير دم النفاس، فيجب أن تدع في النفاس و الحيض، فأما ما لم يكن حيضا أو نفاسا فانما ذلك من فتق في الرحم» «1».

غاية الأمر أنه ظاهر في أن الأصل في دم الحامل أن يكون حيضا ما لم تكن في حال المخاض فالاصل في دمها أن يكون منه لا من الحيض، و هو لا ينافي ترتب أحكام الحيض عليه لو علم بحيضيته، كما هو مفروض المتن، عملا بعموم أدلتها.

بل مقتضي العمومات المذكورة جريان حكمه و إن كان فاقدا لشرائطه، كما تقدم منا عند الكلام فيما يري في غير سن الحيض أو فاقدا لحده من أن أدلة الشروط المذكورة لما كانت بلسان تحديد الحيض الواقعي فلو فرض الخروج عنها و العلم بحيضية فاقدها تعين حملها علي التحديد الغالبي الذي لا ينافي ترتب الأحكام علي الفاقد للحد، لا علي تصرف الشارع في مفهوم الحيض الذي هو موضوع أحكامه،

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الحيض حديث: 17.

ص: 375

و كذا إذا كان منفصلا عنها بعشرة أيام نقاء (1). و إن كان منفصلا عنها بأقل من عشرة أيام نقاء و كان بشرائط الحيض (2)، أو كان متصلا بالولادة و لم يعلم أنه حيض و كان بشرائطه (3) فالأحوط وجوبا الجمع فيه بين أحكام الحيض و الاستحاضة (4).

______________________________

ليخرج فاقد الحدّ عن الحيض شرعا، و لا علي تخصيص عموم أحكامه، كي لا تترتب علي الفاقد و إن كان حيضا كما هو مختار سيدنا المصنف قدّس سرّه. و منه يظهر أنه لو ثبتت شرطية الفصل بين الحيض و النفاس بعشرة، أو عدم زيادة مجموعهما متصلين علي العشرة، لم يمنع من ترتيب أحكام الحيض في الفرض، لأن دليل الشرطين المذكورين علي غرار أدلة الشروط المتقدمة لا يمنع من ترتب حكم الحيض علي الفاقد لو علم بحيضيته.

(1) بلا إشكال بناء علي حيض الحامل. و قد سبق أن المعيار علي دم النفاس، لا علي نفس الولادة.

(2) أما لو كان فاقدا لها فيحكم بعدم ترتب حكم الحيض عليه مع عدم العلم بحيضيته، لعدم جريان قاعدة الإمكان فيه بلا إشكال. و أما مع العلم بحيضيته فيبتني علي ما تقدم.

(3) أما لو كان فاقدا لها فيحكم بعدم ترتب حكم الحيض، لما سبق من عدم جريان قاعدة الإمكان فيه بلا إشكال.

(4) ففي القواعد أنه استحاضة، و قواه في جامع المقاصد و ظاهر الروض و المسالك و محكي الذكري، حيث ذكر أنه لم يثبت كفاية فصل الولادة عن الطهر، و في الدروس: «و دم الطلق استحاضة إلا أن يتخلل بينه و بين الولادة عشرة». بل في الخلاف: «الدم الذي يخرج قبل الولادة ليس بحيض عندنا» كما أطلق في مسألة معاقبة الحيض للنفاس نفي الخلاف في اعتبار الطهر بين الحيض و النفاس.

ص: 376

______________________________

لكن يوهنه استدلاله علي نفي حيضية الدم الذي قبل الولادة بالإجماع علي عدم حيض الحامل المستبين حملها، حيث يظهر منه ابتناء المسألة علي ذلك، كما هو ظاهر المبسوط، و لعله مبني ما في الشرائع من كونه طهرا، لأنه ممن يري عدم حيض الحامل. بل حيث كان مختاره في الخلاف عدم حيض الحامل تعين اختصاص نفيه الخلاف في اعتبار الطهر بين الحيض و النفاس بالحيض المتأخر.

هذا، و يظهر من التذكرة التردد في عدم حيضية الدم السابق علي الولادة، بل قد يظهر من المنتهي و محكي نهاية الأحكام الميل إلي حيضيته و عدم اعتبار فصل أقل الطهر بين الحيض المتقدم و النفاس، كما قواه في المدارك و محكي الحواشي المنسوبة للشهيد علي القواعد و الذخيرة، و يظهر من بعض عباراتهم و صريح آخر عدم الفرق بين اتصال الدميين و الفصل بينهما بأقل من عشرة.

و يظهر وجه البناء علي الحيضية مع اتصال الدميين مما تقدم من عدم الدليل علي لزوم الفصل المذكور، بل مقتضي إطلاق أدلة أحكامه عدمه. مع أنه لو فرض ورود عموم قاض بلزوم الفصل بين الحيض و النفاس يجري فيه بعض ما يأتي في صورة الفصل بأقل من عشرة بينهما كما يظهر بالتأمل فيه. و الظاهر أن وجه توقف سيدنا المصنف قدّس سرّه في ذلك مع جزمه به في صورة العلم بأنه حيض قصور قاعدة الإمكان و العادة و نحوهما من طرق إحراز الحيض عن إحراز الحيضية إذا كان الشك للشبهة الحكمية، كما نبه له في مستمسكه.

لكنه كما تري، إذ بعد فرض قضاء إطلاقات الأحكام بترتبها علي الحيض الواقعي و نفي اشتراط فصل أقل الطهر يتمحض الشك في الشبهة الموضوعية التي هي موضوع قاعدة الإمكان.

نعم، قد تضمن موثقا عمار و حديث زريق [رزيق] المتقدمة الحكم بعدم حيضية دم المخاض الخارج حين الطلق. و مقتضي إطلاقها عدم حيضيته حتي لو تخلل بينه و بين النفاس أقل الطهر، خلافا لما تقدم من الدروس. و بها يخرج عن عموم قاعدة

ص: 377

______________________________

الإمكان. لكن موردها ما إذا بدأ خروج الدم حالة المخاض، و لا تشمل ما لو بدأ قبله و استمر حينه، فيتعين البناء علي حيضيته، لعدم المخرج عن قاعدة الإمكان فيه.

هذا كله مع اتصال الدميين، و أما مع الفصل بينهما بأقل من عشرة فقد استشكل سيدنا المصنف قدّس سرّه في حيضية الدم السابق علي الولادة بمنافاة عموم: أن أقل الطهر عشرة لها، بدعوي: شموله للطهر بين النفاس و الحيض، و إن لم يمنع من اتصالهما، كما سبق في التوأمين.

و يشكل- مضافا إلي ما سبق غير مرة من اختصاصه بما بين الحيضتين- بأنه لا ينهض بالمنع من حيضية الدم السابق إذا أمكن إلحاق النقاء بالحيض- كما لو رأت الدم خمسة ايام ثم النقاء خمسة ثم النفاس عشرة- أو بالنفاس- كما لو رأت الدم عشرة ثم النقاء خمسة ثم النفاس خمسة- أو بهما- كما لو رأت الدم ستة أيام، ثم النقاء ثمانية، ثم النفاس ستة- نظير ما تقدم منا في النقاء المتخلل بين النفاسين في التوأمين. لأن ذلك هو المناسب لما ذكروه من أن عموم التحديد هو الملزم بالبناء علي حيضية النقاء المتخلل بين دميي حيضة واحدة.

و أما ما ذكره قدّس سرّه من أن هذا النقاء ليس بنفاس، لأن النفاس هو الدم حال الولادة أو بعدها، و لا يشمل ما قبلها من الدم فضلا عن النقاء، و ليس بحيض، لأن النقاء لا يكون حيضا إلا إذا تخلل دميي حيضة واحدة. فهو كما تري، لأن تحديد النفاس بالدم الخارج حين الولادة أو بعدها إنما هو بلحاظ النفاس الحقيقي، كتحديد الحيض بأنه الدم المخصوص، و عدم نفاسية الدم الخارج قبل الولادة فضلا عن النقاء حقيقة بلحاظ ذاتيهما لا ينافي نفاسية النقاء حكما فرارا عن محذور نقصان الطهر عن عشرة، كما حكم بحيضيته في بعض الموارد لذلك.

كما أنه لا وجه لاختصاص حيضية النقاء بما إذا تخلل دميي حيض واحد بعد كون منشأ الحكم بحيضيته في ذلك فرارا عن محذور نقص الطهر الذي يجري في المقام، كما اعترف به بعد ذلك.

ص: 378

______________________________

و مثله ما يظهر منه قدّس سرّه من التعويل في المقام علي الإجماع علي كون النقاء طهرا.

إذ لا مجال له بعد عدم دعواه من أحد في المقام، غايته أنه لم يظهر منهم احتمال حدثيته، و هو لا يكفي في تحصيل الإجماع بعد احتمال كون منشئه مجرد الاستبعاد، و لا سيما مع عدم تحرير المسألة ممن يري إمكان حيض الحامل قبل العلامة قدّس سرّه مع اضطرابه فيها و اختلاف كلامه في كتبه.

و من هنا يختص الإشكال بما إذا تعذر إلحاق النقاء بأحد الأمرين من الحيض و النفاس أو كليهما، كما لو رأت الدم عشرة أيام ثم النقاء ستة أيام ثم النفاس عشرة أيام، نظير ما تقدم في التوأمين. و إن كان قد يندفع فيما إذا أمكن تتميم الطهر من آخر الدم الأول مع المحافظة علي حيضية أوله، كما في الفرض المتقدم، فيبني علي حيضية الستة الأولي من الدم فقط، و حينئذ ينحصر الإشكال فيما إذا تعذر ذلك أيضا، كما إذا رأت الدم أربعة أيام، ثم النقاء ثمانية، ثم النفاس عشرة. فتأمل.

و أما ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنه يحتمل أيضا كون النقاء المذكور حدثا ثالثا غير الحيض و النفاس، قال في الجواب عن عمومات تحديد الطهر: «مع أنها إنما تنفي كون الأقل طهرا، فلعله حيض أو نفاس أو حالة حدث بين الحالتين» فيتعين البناء عليه مع تعذر إلحاقه بأحد الحدثين أو تتميمه من الدم الأول. فالظاهر أنه لا مجال للبناء عليه، إذ لازمه البناء علي كون الدميين اللذين يفصل بينهما أقل من عشرة حيضتين، عملا بقاعدة الإمكان، مع كون النقاء حدثا آخر غير ملحق بهم، فظهور امتناع ذلك من النصوص و الفتاوي شاهد ببطلان الاحتمال المذكور. فلاحظ.

نعم، قد يدفع الإشكال في حيضية الدم الأول في الفرض المذكور و في بقية الفروض المتقدمة لو غض النظر عما ذكرناه فيها بما أشرنا إليه في مسألة التوأمين و فصلنا الكلام فيه في الفصل الخامس من مباحث الحيض من أن اعتبار فصل أقل الطهر لا يمنع من حيضية الدم السابق عليه، بل من حدثية ما لم يتم معه الطهر بعده، لأن موضوع قاعدة الإمكان في الحيض هو إمكان حيضية الدم بلحاظ ما سبق عليه

ص: 379

______________________________

و قارنه، لا بلحاظ جميع الجهات حتي اللاحقة له.

و حينئذ حيث فرض تمامية شروط الحيض في الدم السابق علي الولادة، لواجديته لحده و تقدم طهر كامل عليه، فتعقبه بالنقاء الذي لا يبلغ قدر أقل الطهر لا يمنع من حيضيته، بل من نفاسية الدم المقارن للولادة، لأن مرجع التحديد حينئذ إلي أن الطهر لو بدأ لزم أن يستمر عشرة أيام، و لا حدث إلا بعدها، لا أنه لو انتهي لزم أن يتقدم عشرة أيام و لا حدث إلا قبلها.

فإن أمكن البناء علي عدم نفاسية الدم المقارن للولادة، لعدم جريان قاعدة الإمكان فيه حينئذ فهو، و إن فرض القطع بنفاسيته و لو للإجماع المدعي رجع إلي تخصيص عموم تحديد الطهر في المورد، لمنافاته لمفاده، من دون وجه للبناء علي عدم حيضية الدم السابق عليه، لعدم منافاته له.

و كأنه إلي هذا يرجع ما في محكي نهاية الأحكام، قال في تقريب حيضية الدم السابق علي الولادة: «لتقدم طهر كامل عليه. و نقصان الطهر إنما يؤثر فيما بعده لا فيما قبله، و هنا لم يؤثر فيما بعده، لأن ما بعد الولد نفاس إجماعا، فأولي أن لا يؤثر فيما قبله.

و نمنع حينئذ اشتراط طهر كامل بين الدمين مطلقا، بل بين الحيضتين».

هذا كله إذا كانت حيضية الدم السابق مقتضي قاعدة الإمكان، و أما إذا علم بحيضيته وجدانا فالأمر أظهر، لأنه- لو لم يتم ما سبق- يدور الأمر- بعد فرض الإجماع علي نفاسية الدم اللاحق- بين تخصيص عموم أحكام الحيض في الدم السابق و تخصيص عموم تحديد الطهر في المورد، و ليس الأول بأولي من الثاني.

و قد تحصل من جميع ما تقدم: أنه كما لا يعتبر الفصل بين النفاس و الحيض السابق عليه بطهر كذلك لا يعتبر في فرض الفصل بينهما كون الطهر الفاصل عشرة أيام، فيحكم بحيضية الدم الخارج قبل النفاس مع إمكانها، فضلا عما إذا علم بحيضيته.

نعم، لو بدأ ظهور الدم حالة الطلق و المخاض فلا مجال للرجوع في حيضيته

ص: 380

(مسألة 43): إذا تجاوز دمها العشرة من حين الولادة، فإن كانت ذات عادة وقتية و عددية و قد رأت الدم في تمامها- كأن ولدت في أول العادة و رأت الدم من حين الولادة و استمر حتي تجاوز العشرة- اقتصرت في النفاس علي عادتها (1)،

______________________________

لقاعدة الإمكان، فإن علم بحيضته وجدانا فهو، و إلا كان استحاضة، كما تقدم. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

مسألة 43: إذا تجاوز دمها العشرة من حين الولادة رجعت لعادتها في الحيض

(1) كما في التذكرة و المنتهي و القواعد و الإرشاد و المختلف، حاكيا له فيه عن جميع كتبه، و حكاه في مفتاح الكرامة عمن تأخر عنه، و قال: «و لو ادعي مدع إجماع المتأخرين علي ذلك كان في محله» و في الرياض أنه المشهور. و يقتضيه النصوص الكثيرة المتضمنة الرجوع للعادة التي سبق أنها عمدة الدليل علي تحديد الأكثر بالعشرة و به صرح في الدروس و اللمعة و جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و محكي البيان و غيرها.

خلافا للمحقق، قال في النافع: «و تعتبر حالها عند انقطاعه فإن خرجت القطنة نقية اغتسلت، و إلا توقعت النقاء أو انقضاء العشرة، و لو رأت بعدها دما فهو استحاضة» و نحوه في المعتبر، بل فيه أيضا: «لا يرجع النفساء مع تجاوز الدم إلي عادتها في النفاس، و لا إلي عادتها في الحيض، و لا إلي عادة نسائها، بل تجعل عشرة نفاسا، و ما زاد استحاضة حتي تستوفي عشرة، و هو أقل الطهر».

و نسب في كلام بعضهم للأصحاب، بل في الخلاف و التهذيب و المعتبر دعوي الإجماع علي نفاسية العشرة، و مقتضي إطلاق معقده عدم الفرق بين انقطاع الدم عليها و تجاوزه عنها من ذات العادة و غيرها.

و لذا قال في محكي الذكري: «الأخبار الصحيحة المشهورة تشهد برجوعها إلي عادتها في الحيض، و الأصحاب يفتون بالعشرة، و بينهما تناف ظاهر. و لعلهم ظفروا

ص: 381

______________________________

بأخبار غيرها … و حينئذ فالرجوع إلي عادتها- كقول الجعفي في الفاخر و ابن طاوس و الفاضل رحمهما اللّه- أولي. و كذا الاستظهار، كما هو هناك.

نعم، قال الشيخ: لا خلاف بين المسلمين أن عشرة أيام إذا رأت المرأة الدم من النفاس … و الزائد علي العشرة مختلف فيه. فإن صح الإجماع فهو الحجة. و لكن فيه طرح للأخبار الصحيحة أو تأويلها بالتقييد». و كأن نسبته للأصحاب لاقتصارهم علي بيان أكثر النفاس الظاهر في الرجوع إليه مع استمرار الدم، من دون تعرض لحكم ذات العادة.

اللهم إلا أن يبتني اقتصارهم علي بيان الأكثر علي المفروغية حينئذ عن مساواة النفساء للحائض في الوظيفة الواقعية و الظاهرية حينئذ، نظير استدلالهم عليه بالنصوص المتضمنة للرجوع للعادة من دون أن تشير إلي بيان الأكثر.

كما لا يبعد كون ذلك هو مبني دعوي الشيخ الإجماع المتقدم، لسوقه في مساق الأخبار، و مناسبته لما في الاستبصار، حيث ذكر أن نصوص الرجوع للعادة مجمع علي مضمونها، ثم قال: «لأنه لا خلاف في أن أيام الحيض في النفاس معتبرة، و إنما الخلاف فيما زاد علي ذلك.

و لعله لذا كان ظاهر المنتهي ندرة بالقول بالانتظار للعشرة، حيث قال: «لو انقطع الدم لدون العشرة أدخلت قطنة، فإن خرجت نقية اغتسلت وصلت … و إن خرجت ملوثة صبرت إلي النقاء أو يمضي مدة الأكثر، و هي عشرة أيام إن كانت عادتها، و إلا صبرت عادتها خاصة و استظهرت بيوم أو يومين. و كذا البحث لو استمر بها الدم … و بعض المتأخرين غلط هاهنا فتوهم أن مع الاستمرار تصبر عشرة». و كأنه عرض بالمحقق قدّس سرّه.

و كيف كان، فيدل علي الرجوع للعادة الوقتية النصوص الكثيرة المتضمنة لذلك، التي هي عمدة الدليل علي تحديد الأكثر بالعشرة، كما سبق. بل لو فرض تمامية بعض ما يدل علي التحديد بالعشرة غيرها لم يناف ذلك، لأن كون الأكثر عشرة لا

ص: 382

______________________________

يستلزم التحيض بها، و إنما يتحيض بها حينئذ لقاعدة الإمكان أو استصحاب النفاس، و هما محكومان لأمارية العادة المستفادة من النصوص المذكورة فنصوص الرجوع للعادة لا تنافي دليل التحديد المذكور حتي بالعموم و الخصوص.

نعم، قد تضمن جملة من النصوص إضافة الاستظهار لأيام العادة، و منه صحيح يونس المتضمن الاستظهار بعشرة «1» و قد يظهر من المعتبر الاعتماد عليه في مختاره. لكن الاستظهار عنوان خاص غير التعبد بالنفاس يأتي الكلام فيه في المسألة الرابعة و الأربعين إن شاء اللّه تعالي.

ثم إن النصوص المذكورة بين ما عبر فيه بأنها تجلس أيامها التي كانت تجلس فيها أيام حيضها و ما عبر فيه بأنها تجلس قدر أيامها المذكورة. و ظاهر الثاني إرادة العادة العددية، و عليه يحمل الأول، كما يناسبه ما هو المرتكز من عدم التناسب بين وقت الحيض و وقت النفاس، لأن ذات العادة الوقتية كثيرا ما لا تلد في أول أيام عادتها، و حيث لا إشكال في أنها تتنفس بالولادة كان وقت النفاس تابعا لها، و لا تعويل فيه علي العادة الوقتية، بل المعيار علي العادة العددية لا غير، كما هو ظاهر الأصحاب في المقام.

هذا و مقتضي إطلاق المختلف و المنتهي و الإرشاد و اللمعة عدم الفرق في ذلك بين انقطاع الدم علي العشرة و تجاوزه عنها، و هو مقتضي إطلاق النصوص المذكورة.

لكن صرح في القواعد و جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك باختصاص ذلك بما إذا تجاوز الدم العشرة، أما مع انقطاعه عليها فالجميع نفاس، و هو ظاهر التذكرة و الدروس و كشف اللثام.

و استدل عليه بحمله علي الحيض، بناء منهم علي ثبوت التفصيل المذكور فيه.

لكن تقدم في الحيض عدم ثبوت هذا التفصيل فيه، كما تقدم هنا عدم ثبوت عموم إلحاق النفاس بالحيض، فلا مخرج عن إطلاق نصوص الرجوع للعادة. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 3.

ص: 383

و الزائد عليه استحاضة (1)، و إن رأته في أثناء العادة الوقتية جعلت ما يساوي عادتها العددية نفاسا (2)، و الباقي استحاضة، كما إذا كانت العادة سبعة في أول الشهر، فولدت في أول الرابع، و رأت الدم حينئذ، فإن نفاسها إلي العاشر الذي هو سابع الولادة، و كذا إذا رأته بعد العادة الوقتية، كما إذا كانت عادتها الخمسة الأولي من الشهر فولدت في أول السادس منه، كان نفاسها الخمسة الثانية لا غير. و إذا لم يمكن الرجوع إلي عادتها العددية، لكون الدم المرئي في العشرة أقل من العشرة، اقتصرت علي المقدار الذي ينتهي بالعشرة (3)، كما إذا ولدت في المثال الأخير أول الشهر و رأت الدم في الثامن، فإن نفاسها يكون ثلاثة أيام لا غير.

(مسألة 44): إذا رأت الدم في عشرة الولادة و استمر حتي تجاوز العشرة من حين الولادة فإن لم تكن ذات عادة لأنها مبتدئة أو مضطربة أو ناسية (4) كان نفاسها تمام العشرة (5).

______________________________

(1) يعني: واقعا، و إن كان عليها ترتيب آثار النفاس عليه ظاهرا عنده قدّس سرّه من باب الاستظهار عند الشك في تجاوز الدم العشرة. و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي في المسألة الرابعة و الأربعين.

(2) لما سبق من أن المعيار في المقام علي العادة العددية دون الوقتية. و منه يظهر الحال فيما بعده.

(3) تقدم الكلام فيه في الدم المنفصل عن الولادة.

(4) يأتي الكلام في الناسية، لخصوصية لها في المقام.

مسألة 44: حكم غير ذات العادة و ذات العادة إذا رأت الدم في عشرة الولادة و استمر حتي تجاوز العشرة من حين الولادة

(5) كما صرح به جماعة، بل الظاهر عدم الإشكال فيه في الجملة، بناء علي أن العشرة هي أكثر النفاس، لمفروغيتهم ظاهرا عن أصالة النفاس- لقاعدة الإمكان أو

ص: 384

______________________________

لاستصحابه- مع عدم المخرج عنها من عادة أو نحوها، نظير الحيض، كما يناسبه اقتصارهم في بيان وظيفة النفساء علي بيان أكثر النفاس، حيث لا يصلح ذلك لبيان وظيفتها لو لم يرجع للأصل المذكور. و حيث كان الابتلاء بالفرع المذكور شايعا كان خفاء حكمه عليهم و خطؤهم فيه بعيدا جدا، بل ممتنعا عادة.

كما ربما يستفاد من نصوص الإرجاع للعادة، لأن الاقتصار في بيان حكم النفساء علي الحكم برجوعها لعادتها في الحيض لو لم يبتن علي المفروغية عن مشاركة النفساء للحائض في الأمد الواقعي و الظاهري حتي في غير ذات العادة لا يكون مستوفيا لحكم أقسامها، بل يكون ناقصا، نظير ما تقدم في وجه استفادة تحديد أكثر النفاس بالعشرة من النصوص المذكورة. فلاحظ ما سبق هناك، لأن له نفعا في المقام.

و هو لا ينافي ما تكرر منا من عدم ثبوت عموم مشاركة النفساء للحائض، لأن ظهور مفروغية الأصحاب و النصوص المذكورة يغني عن العموم المذكور في المقام.

لكن قال في الذكري: «و لو استمر فحكمها حكم الحائض» و في محكي البيان:

«و لو كانت مبتدأة و تجاوز العشرة فالأقرب الرجوع إلي التمييز ثم النساء ثم العشرة، و المضطربة إلي العشرة مع فقد التمييز». كما احتمل في المنتهي و محكي التحرير جلوسها ستة أو سبعة، و إن قرب في الأول بعد ذلك جلوسها ثمانية عشر، كما تقدم نقله عنه عند الكلام في تحديد أكثر النفاس.

و يظهر منهم أن الوجه فيه عموم مشاركة النفساء للحائض، و أن النفاس حيض حقيقة. و هو لو تم اقتضي اعتبار الأمور الثلاثة بنحو الترتيب، و هي التمييز و أقراء النساء و التحيض بالعدد، كما هو ظاهر الذكري، لا خصوص الأولين، كما يظهر من البيان، و لا خصوص الأخير كما هو محتمل المنتهي و محكي التحرير، و هو- كالأخير- مستلزم لعدم تنفسها بالعشرة أصلا مع تجاوز الدم عنها، و هو مما تأباه كلمات الأصحاب جدا، لظهور تحديدهم لأكثر النفاس بالعشرة في تنفس المرأة بها، كما تقدم.

ص: 385

______________________________

و كيف كان، فقد سبق غير مرة أن عموم التنزيل غير ثابت، و غاية الأمر أن يتشبث في ذلك بما تقدم قريبا من أن المستفاد من نصوص الإرجاع للعادة مشاركة النفساء للحائض في الأمد الواقعي و الظاهري حتي في غير ذات العادة.

لكنه يشكل بأن رجوع الحائض للتمييز لما كان لتعيين الوقت و المقدار معا، و كان ذلك متعذرا في النفساء، لعدم الإشكال ظاهرا في نفاسية الدم المتصل بالولادة مطلقا- و إن كان فاقدا للصفات و كان ما بعده واجدا لها- فلا مجال لاستفادة حجية التمييز في النفاس في خصوص المقدار من دليل المشاركة المذكور، لعدم ابتناء دليل حجيته في الحيض علي الانحلال بنحو يمكن التفكيك فيها بين الوقت و المقدار.

و لأجله قد يشكل الرجوع لأقراء النساء و للعدد في النفاس بدليل المشاركة، لأن حجيتهما في الحيض في فرض فقد التمييز الحجة لترتبهما عليه، فلا ينهض دليل المشاركة بإثبات حجيتهما في النفاس- المفروض فيه عدم حجية التمييز رأسا- ابتداء. فتأمل.

هذا كله بناء علي عموم حجية التمييز و أقراء النساء و التحيض بالعدد في الحيض لمستمرة الدم حتي في الدور الأول. كما لعله المعروف بينهم، أما بناء علي ما تقدم منا من عدم حجيته إلا في الدور الثاني و ما بعده، و أنها في أول الدم ترجع لقاعدة الإمكان و تتحيض بعشرة، فالأمر أظهر، إذ ليس في النفاس إلا دور واحد، و هو المتصل بالولادة، فيكون نفاسها عشرة حتي لو بني علي مشاركة النفساء للحائض مطلقا أو في خصوص الأمد الواقعي و الظاهري.

و مما ذكرنا يظهر أنه لا ينفع في الرجوع لأحد هذه الأمور حمل أيام الأقراء في نصوص المقام علي مطلق الأيام التي يجب التحيض فيها- لعادة أو تمييز أو أقراء النساء أو تحيض بالعدد- لا خصوص أيام العادة. قال في كشف اللثام في تقريب الرجوع لغير العادة مما تقدم: «و يجوز تعميم أيام الأقراء المحكوم بالرجوع إليها لجميع ذلك».

و إليه قد يرجع ما في المنتهي، قال في تقريب احتمال تنفسها بستة أيام أو سبعة:

ص: 386

______________________________

«و لأن قوله عليه السلام: تجلس أيام حيضها التي كانت تحيض، كما يتناول الماضي يتناول المستقبل. و فيه ضعف». إذ بما ذكرنا يتضح أن الأيام التي يجب التحيض فيها لغير ذات العادة هي العشرة في أول رؤية الدم، و هو الدور الأول له، الذي عرفت اختصاص النفاس به. علي أن حمل أيام الأقراء في النصوص علي مطلق الأيام التي يجب التحيض فيها بعيد جدا، و لذا اعترف في المنتهي بضعفه، بل ليس المفهوم منها إلا أيام العادة.

و أضعف من ذلك الاستدلال للرجوع لأقراء نسائها في كلام غير واحد بموثق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: النفساء إذا ابتليت بأيام كثيرة مكثت مثل أيامها التي كانت تجلس قبل ذلك، و استظهرت بمثل ثلثي أيامها ثم تغتسل و تحتشي و تصنع كما تصنع المستحاضة، و إن كانت لا تعرف أيام نفاسها فابتليت جلست بمثل أيام أمها أو أختها أو خالتها، و استظهرت بثلثي ذلك ثم صنعت كما تصنع المستحاضة تحتشي و تغتسل» «1».

إذ فيه: أنه ظاهر جدا في رجوع النفساء لعادتها أو عادة نسائها في النفاس، لا في الحيض، نظير موثق الخثعمي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن النفساء. فقال: كما كانت تكون مع ما مضي من أولادها و ما جربت. قلت: فلم تلد فيما مضي. قال: بين الأربعين إلي الخمسين» «2»، و هو مخالف للنصوص المعول عليها و الفتاوي عدا ما يظهر من صاحب الوسائل، فلا مجال للعمل به في مضمونه، و لا للاستدلال به علي المدعي. و تعذر العمل به في مضمونه لا يصحح حمله علي العادة في الحيض، بنحو يكون دليلا عليه، كما تقدم في الحيض.

علي أنه قد رمي في المعتبر و المنتهي و الروض الموثق بالشذوذ بعد الاستدلال به للمدعي، و في جامع المقاصد أنه لا عمل عليه، كما يناسبه عدم التعرض للرجوع لأقراء النساء و لا لغيره- و هو التمييز و التنفس بالعدد- في كلام الأصحاب، و اقتصارهم علي بيان أكثر النفاس، بنحو يظهر منهم لزوم التنفس بالأكثر، بل ظاهر

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 20.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 18.

ص: 387

و إن كانت ذات عادة عددية اقتصرت عليها (1) في أول الدم (2)، فجعلته

______________________________

جملة من الفروع التي ذكروها المفروغية عنه، و قد سبق استبعاد خطئهم في ذلك، بل امتناعه عادة بسبب شيوع الابتلاء به، و إنما لم يكن الرجوع لعادة الحيض منافيا له، لاستدلالهم بنصوصه الظاهر في عملهم بها، بل هو صريح بعض عباراتهم، كما تقدم.

و من هنا لا مجال للخروج عما يظهر منهم من التنفس بالعشرة، مع عدم وجود عادة في الحيض يرجع إليها.

هذا كله مع تجاوز الدم العشرة، و أما مع عدمه فالظاهر عدم الإشكال بينهم في نفاسية المجموع و يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عنه. و الوجه فيه اختصاص أدلة الرجوع للتمييز و عادة نسائها و التحيض بالعدد بالمستحاضة التي يتجاوز دمها العشرة، دون من لم يتجاوز دمها التي هي حائض أو نفساء في تمام المدة بمقتضي قاعدة الإمكان أو الاستصحاب، بل تقدم من بعضهم البناء علي ذلك حتي في ذات العادة، و إن سبق المنع منه.

بقي شي ء: و هو أنه سبق في الحيض عدم حجية العادة المنسية مطلقا حتي في القدر المتيقن منها لو علم بها إجمالا، فمن كانت عادتها مرددة بين الثلاثة أيام و الخمسة تتحيض بمقتضي الوظيفة المتأخرة عن العادة و إن كان أكثر من خمسة، و حيث كان دليل ذلك مختصا بالحيض يتوقف التعدي منه للنفاس علي إحراز مشاركته للحيض مطلقا أو في خصوص المقام، و هو تعيين الأمد ظاهرا كما هو غير بعيد، و لو لاه كان مقتضي إطلاق ما دل علي رجوع ذات العادة إليها هو حجيتها في المتيقن، و الرجوع في المشكوك لقاعدة الإمكان أو الاستصحاب، و لا تتنفس فيما زاد عليه في ضمن العشرة. و الأمر لا يخلو عن إشكال، فيلزم لأجله الاحتياط، و إن كان الأمر قد يهون بسبب تشريع الاستظهار فلاحظ و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) لما تقدم في المسألة السابقة من اقتصار ذات العادة عليها.

(2) لما تقدم فيمن رأت الدم بعد العشرة من أن نصوص الرجوع للعادة بين ما

ص: 388

نفاسا، و ما زاد عليها استحاضة (1)، فإذا كانت عادتها خمسة أيام و قد ولدت في أول الشهر فالدم في الخمسة الأولي نفاس، و الزائد عليه إلي ما بعد العشرة استحاضة، سواء كانت الخمسة الأولي عادة وقتية لها أم لا (2)، إما لكون عادتها الوقتية في الوقت المذكور، أو بعضها في غيره، أو لعدم كونها ذات عادة وقتية.

(مسألة 45): النفساء بحكم الحائض في الاستظهار عند تجاوز الدم أيام العادة (3)،

______________________________

صرح فيه بأن مبدأ العدّ الولادة، و ما هو منصرف لذلك، و أن الدم المتصل بالولادة هو المتيقن من أصالة نفاسية الدم الخارج بعد الولادة.

(1) يعني: واقعا، و إن كان عليها ترتيب آثار الحيض ظاهرا من باب الاستظهار عنده قدّس سرّه علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة الرابعة و الأربعين إن شاء اللّه تعالي.

(2) لما تقدم في المسألة السابقة من أنه لا عبرة بالعادة الوقتية في النفاس.

مسألة 45: النفساء بحكم الحائض في الاستظهار عند تجاوز الدم أيام العادة
اشارة

(3) كما في الذكري و المسالك، كما تعرض للاستظهار في المنتهي و جامع المقاصد. و لعل إهماله في كلام أكثر الأصحاب اكتفاء بما صرح به بعضهم و يظهر من آخرين من مشاركة النفساء للحائض في الأحكام، و لا سيما مع استدلالهم بالنصوص المشتملة عليه، و ظهور بعض كلماتهم في العمل بها فيه، و منه ما ذكره المحقق في المعتبر من استدلاله بما تضمن الاستظهار للعشرة علي وجوب التنفس بها حتي لذات العادة.

و كيف كان، فالكلام.. تارة: يقع في حكم الاستظهار.

و أخري: في مقداره.

أما حكمه فظاهر مساق كلمات جملة منهم و صريح بعضها أنه علي نحو

ص: 389

______________________________

الاستظهار في الحيض، فيجري فيه ما سبق من الخلاف فيه. و لذا كان ظاهر سيدنا المصنف قدّس سرّه وجوبه وجوبا ظاهريا طريقيا لاحتمال عدم تجاوز الدم العشرة، فمع تجاوزه عنها ينكشف كون ما زاد علي العادة استحاضة، و مع عدمه ينكشف كون الدم بتمامه نفاسا.

و قد سبق منا عدم تمامية ذلك في الحيض فهو لا يتم هنا، لعين الوجه المذكور هناك. كما لا مجال هنا لما سبق منا هناك من تخصيص الاستظهار بالدور الأول، إذ ليس للنفاس إلا دور واحد قد اختلفت النصوص فيه، فاشتمل أكثرها عليه، و اقتصر علي أيام العادة في صحيح زرارة عن أحدهما عليهما السلام: «قال: النفساء تكف عن الصلاة أيامها التي كانت تمكث فيها ثم تغتسل و تعمل كما تعمل المستحاضة» «1»، و موثق عبد الرحمن بن أعين: «قلت له: إن امرأة عبد الملك ولدت فعدّلها أيام حيضها ثم أمرها فاغتسلت و احتشت و أمرها أن تلبس ثوبين نظيفين، و أمرها بالصلاة. فقالت له: لا تطيب نفسي أن أدخل المسجد، فدعني أقوم خارجا منه و أسجد فيه. فقال: قد أمر بذا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم. قال: فانقطع الدم عن المرأة و رأت الطهر، و أمر علي عليه السلام بهذا قبلكم فانقطع الدم عن المرأة و رأت الطهر، فما فعلت صاحبتكم؟ قلت: لا أدري». «2»

و ربما يجمع بين الطائفتين بحمل الاستظهار علي الاستحباب، كما نسب للمشهور في الحيض، و قد سبق هناك أن الجمع المذكور تبرعي، لظهور كل من الطائفتين في لزوم العمل علي مقتضاها، و هو جار هنا، و إن زاد الأمر هناك بإباء بعض النصوص عن الجمع المذكور، و لا نظير له هنا.

و لعل الأقرب الجمع بالتخيير، فإن ذلك و إن كان خلاف ظاهر كل من الطائفتين، لظهورها في لزوم ما تضمنته، إلا أنه لا يبعد عرفا بلحاظ اختلاف نصوص الاستظهار في مقداره، الذي تقدم نظيره في الحيض، و تقدم هناك كما يأتي هنا حمله علي التخيير، فإن التخيير في مقداره مع ظهور كل طائفة في لزوم المقدار الذي تضمنته،

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 9.

ص: 390

______________________________

مناسب للتخيير في أصله مع الاشتراك بينهما في الدوران بين محذورين، و حيث لا يأبي العرف الحمل عليه و الجمع به بلحاظ ذلك. بل سبق أن ذلك مقتضي الجمع بين النصوص، لقوة ظهورها في عدم وجوبه، و ذلك هو العمدة في البناء علي الاستحباب.

لكنه حيث كان مختصا بالحيض فالتعدي منه للنفاس لا يخلو عن إشكال، و إن كان قريبا، فلا ينبغي ترك الاحتياط.

نعم، لا يبعد استحبابه بلحاظ خصوص الوطء، كما يناسبه موثق مالك بن أعين: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن النفساء يغشاها زوجها و هي في نفاسها من الدم؟

قال: نعم، إذا مضي لها منذ يوم وضعت بقدر أيام عدة حيضها ثم تستظهر بيوم فلا بأس بعد أن يغشاها زوجها، يأمرها فلتغتسل ثم يغشاها إن أحب» «1»، لقوة ظهوره في أن الاستظهار مانع للزوج من الوطء و إن احب، و هو إنما يكون مع مطلوبيته و لو استحبابا.

هذا كله في حكم الاستظهار، و أما مقداره فقد اختلفت نصوصه فيه، فأطلق في صحيح يونس «2» من دون ذكر مقدار له، و قدر بيوم في موثق مالك بن اعين المتقدم، و بيومين في صحيح زرارة «3» و موثقة «4»، و في صحيح يونس الآخر «5» أنها تستظهر بعشرة أيام الذي تقدم حمله علي الاستظهار بإتمام العشرة، و في خبر حمران أنها تستظهر بيومين أو ثلاثة «6».

و الظاهر الجمع بينها بالتخيير عرفا بقرينة ثبوت ذلك في الحيض كما تقدم، فانه يصلح للكشف عرفا عن ابتناء الاستظهار علي التخيير بنحو يتعين في وجه الجمع بين النصوص في النفاس، مؤيدا بالتصريح بالتخيير فيه في خبر حمران المشار إليه. و قد سبق في الحيض أن المستفاد حينئذ التخيير بين اليوم و ما زاد عليه إلي العشرة، لا بين خصوص المراتب التي تضمنتها النصوص، كما تقدم هناك التعرض لبعض الوجوه الأخر في الجمع مع بيان ضعفها. فراجع، فإن المقامين من باب واحد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 3.

(6) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 11.

ص: 391

و في لزوم الاختبار عند ظهور انقطاع الدم (1).

و يحرم عليها ما يحرم علي الحائض، و يندب لها ما يندب لها، و يكره لها ما يكره لها (2)

______________________________

(1) كما في النهاية و النافع و المعتبر و المنتهي و التذكرة. و هو مقتضي إطلاق جماعة مشاركة النفساء للحائض في الأحكام، علي ما يأتي، فإن تم الإجماع علي ذلك، و إلا كفي في وجوبه إطلاق بعض نصوصه، و هو موثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«قلت له: المرأة تري الطهر و تري الصفرة أو الشي ء فلا تدري أ طهرت أم لا؟ قال:

فإذا كان كذلك فلتقم فلتلصق بطنها إلي حائط و ترفع رجلها … » «1»، و مرسل يونس عنه عليه السلام: «سئل عن امرأة انقطع عنها الدم فلا تدري اطهرت أم لا؟ قال: تقوم قائما و تلزق بطنها بحائط و تستدخل قطنة … » «2»، فإن موضوعهما الشك في الطهر الحاصل للنفساء أيضا، لا خصوص الطهر من الحيض، كما هو موضوع النصوص الأخر.

مضافا إلي أن عدم جواز ترتيب أحكام الطهر. بمجرد انقطاع الدم عن الخروج للظاهر مقتضي استصحاب النفاس، أو استصحاب خروج الدم- بناء علي ما هو الظاهر من جريانه في التدريجات فتأمل- أو استصحاب الحدث و عدم الطهارة بعد الغسل. و عدم جواز ترتيب أثار النفاس مقتضي المرتكزات المتشرعية و العرفية علي ما تقدم تقريبه هناك بنحو قد يجري هنا.

نعم، تقدم هناك أن مقتضي بعض النصوص «3» عدم وجوب الاختبار ليلا، و بعضها شامل للنفاس. كما تقدم الكلام في كيفية الاختبار و في فروع ذلك بنحو يجري في المقام. فراجع.

يتعلق بالنفاس جميع ما يتعلق بالحيض علي السواء من المحرمات و المكروهات
اشارة

(2) قال في المبسوط: «و يتعلق بالنفاس جميع ما يتعلق بالحيض علي السواء من المحرمات و المكروهات، و نحوه في الشرائع و النافع و المعتبر و المراسم و الوسيلة و محكي

______________________________

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب الحيض حديث: 2.

(3) راجع الوسائل باب: 19 من أبواب الحيض.

ص: 392

______________________________

الجمل، و في المعتبر: «و هو مذهب أهل العلم لا أعلم فيه خلافا» و في المدارك: «هذا مذهب الأصحاب»، و زاد في التذكرة عدم الخلاف في كفارة وطئها، و قال: «و لا نعلم في ذلك خلافا» كما زاد في جامع المقاصد الاشتراك في المندوبات.

بل عمم مشاركتها لها في جميع الأحكام في الاقتصاد و إشارة السبق و الغنية و السرائر و القواعد و الإرشاد و اللمعة، مدعيا في الغنية الإجماع عليه، و في السرائر عدم الخلاف فيه. و في المسالك أنه قول الأصحاب، و في المنتهي: «و حكم النفساء حكم الحائض في جميع ما يحرم عليها و يكره و يباح و يسقط عنها من الواجبات و يستحب، و تحريم وطئها و جواز الاستمتاع بما دون الفرج لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، و إنما يتفاوتان في أقل أيامه، فلا حدّ له هاهنا، و في أكثره علي رأي، و بانقضاء العدة، فإن الحيض علة بخلاف النفاس، إذ المقتضي للخروج من العدة إنما هو الوضع، و بالدلالة علي البلوغ، فإنه يحصل بالحيض دونه، لحصوله بالحمل قبله».

و زاد بعضهم في المستثنيات عدم الرجوع لعادتها في النفاس، و لا لعادة نسائها فيه و في الحيض، و لا للتمييز، و عدم التحيض بالعدد، و عدم اعتبار الفصل بأقل الطهر بين النفاسين، و الخلاف في اعتبار الفصل به بين الحيض و النفاس.

و لعل إهمال هذه المستثنيات في كلام بعض من أطلق الاشتراك في الأحكام لأن مراده بها خصوص الأحكام اللاحقة للحيض و المترتبة عليه، دون ما يرجع إلي تحديده أو تشخيصه، كالرجوع لأقراء النساء و اعتبار الفصل بأقل الطهر، و إنما لم يستثنوا الدلالة علي البلوغ و الخروج عن العدة به لعدم الموضوع لهما فيه، بسبب استنادهما لما هو أسبق منه. و لذا نبه بعضهم علي إنه قد يستند الخروج عن العدة نادرا كما في النفاس من الزنا، لأنه بحكم القرء الذي يستند إليه الخروج من العدة.

نعم، حمل الأحكام علي ما ذكرنا لا يناسب استثناء عدم الحد للأقل في كلام بعضهم، بل هو مناسب لإرادتهم الاشتراك في جميع الجهات.

فلا بد أن يكون عدم استثنائهم بقية الأمور المتقدمة لوضوح حالها، أو للغفلة عنها.

ص: 393

______________________________

و من هنا لا مجال لدعوي الإجماع الحجة علي المشاركة في جميع الأحكام حتي الراجعة لتحديد الحيض و تشخيصه، و لا سيما مع ما هو المعلوم من طريقتهم من الرجوع في تحديد النفاس و تشخيصه لظاهر أدلته الخاصة التي قد تقتضي المشاركة و قد لا تقتضيها.

و لو فرض البناء فيها علي المشاركة فليس هو لكون المشاركة بنفسها موردا لإجماع تعبدي حجة في قبال الأدلة الأخر، بل مقدم عليها، بل لكون دليل الحكم مقتضيا لها و هو المتبع فيها. و لو فرض تحقق الإجماع عليها فهو راجع إلي ثبوت الإجماع علي الحكم نفسه في النفاس لا إلي الإجماع علي عنوان المشاركة.

بل غاية ما يدعي هو الإجماع علي المشاركة في خصوص الأحكام اللاحقة للحيض بعد الفراغ عن تحديده و تشخيصه، كما يظهر منهم الجري علي ذلك في كثير من الموارد مع عدم ظهور دليل عليها غير الإجماع المذكور علي أنه قد يشكل تحصيل الإجماع التعبدي الحجة علي ذلك. لبعد اطلاعهم علي دليل تعبدي يتضمن عموم التنزيل قد خفي علينا، و عدم وضوح جهة ارتكازية تقتضي ذلك أدركها المدعون للمشاركة أو للإجماع عليها، و عدم كون جميع الأحكام شايعة الابتلاء و موردا لسيرة عملية استندوا إليها في الدعويين المذكورتين ليحرز بذلك رأي المعصوم عليه السلام الذي هو المعيار في حجية الإجماع.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن المتيقن من الإجماع هو المساواة في أحكام الحائض كحرمة الصلاة و الصوم و قراءة العزائم و كراهة قراءة القرآن، لأن ذلك هو المستفاد من مثل قوله في الشرائع: «و يحرم علي النفساء ما يحرم علي الحائض، و كذا ما يكره»، دون أحكام نفس الحيض مما يمكن أن يرجع للحائض بنحو العناية، كتحريم وطئها و وجوب الكفارة به و كراهة سؤرها.

ففيه: أن ذلك لا يناسب اقتصارهم في بيان أحكام النفاس علي مثل البيان المذكور، مع ما هو المعلوم من بنائهم علي حرمة الوطء و نحوها، فلا بد من كون

ص: 394

______________________________

مرادهم المشاركة في مطلق أحكام الحيض التحريمية و التنزيهية، كما هو ظاهر عبارة المبسوط المتقدمة أو مطلق أحكامه و لو كانت وضعية، كما هو ظاهر غيرها.

فالعمدة ما عرفت من عدم وضوح الإجماع التعبدي الحجة، لا في مطلق الأحكام اللاحقة للحيض، و لا في خصوص الأحكام التكليفية منها.

هذا، و قد سبق عند الكلام في أكثر النفاس أنه لا مجال لدعوي عموم جريان أحكام الحيض في النفاس لأنه من أفراده حقيقة أو تنزيلا. كما لا مجال للاستدلال عليه بما في صحيح زرارة بعد الحكم برجوع النفساء لعادتها ثم الاستظهار ثم القيام بوظيفة المستحاضة من قوله: «قلت: و الحائض؟ قال: مثل ذلك سواء، فإن انقطع عنها الدم، و إلا فهي مستحاضة تصنع مثل النفساء سواء» «1». لما أشرنا إليه هناك من أنه ظاهر في مساواة الحائض للنفساء في الحكم المذكور في الصحيح، لا مطلقا.

و لو سلم ظهوره في عموم المساواة فمقتضي مساواة الحائض للنفساء ثبوت أحكام النفساء للحائض، دون العكس الذي هو المطلوب، بل هو موقوف إما علي التعبير بمساواة النفساء للحائض، أو بالتساوي بينهما.

و دعوي: أنه لو لم يثبت حكم الحائض للنفساء لم تكن الحائض مثل النفساء بل تزيد عليها. مدفوعة بأن الحكم بأن الحائض مثل النفساء مسوق عرفا لنفي نقص الحائض عن النفساء في الحكم، لا لنفي زيادتها عليه فيه. فينحصر وجه استفادة مشاركة النفساء بالإجماع الذي عرفت حاله.

نعم، لا ينبغي التأمل بعد النظر في كلمات الأصحاب و النصوص في المفروغية عن نحو من المشاركة بين النفساء و الحائض، لا بمعني ثبوت بعض الأحكام لهما معا، بل بمعني الاكتفاء في إثبات الحكم للنفساء بثبوته في الحائض. كما يناسبه أن الأدلة لم ترد- غالبا، بل دائما- لبيان تشريع أحكام النفساء، كما وردت في أحكام الحائض، بل أحكام النفساء بين ما لم يرد فيه نص أصلا، و إنما استفيد من الإجماع أو العمومات،

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 395

______________________________

و ما ورد فيه النص تبعا لبيان حكم آخر، كتحديد النفاس أو غيره، بنحو يظهر في المفروغية عن ثبوت الحكم في النفاس من دون أن يتصدي فيه لبيانه، كما أن النصوص في النفاس لم ترد لبيان خصوصيات أحكامه و فروعها الخفية، كما وردت في الحيض، فلولا المفروغية عن مشاركة النفساء للحائض في الأحكام بنحو يستغني عن إثباتها لها بثبوتها فيها لم يكن وجه للمفروغية عن ثبوت الحكم في النفاس مع عدم تصدي الأدلة لتشريعه فيه، و لا لإهمال التعرض لفروعه و خصوصياته مع شدة الحاجة لبيانها.

لكن المتيقن من ذلك الأحكام الثابتة للحيض من حيثية حدثيته و خبثيته و استقذاره، لأنها جهة ارتكازية يقرب ابتناء مفروغية الأصحاب عن المشاركة في الأحكام- تبعا لما يستفاد من النصوص بالتقريب المتقدم- علي إدراكهم مشاركة النفاس للحيض فيها و لو بمعونة المرتكزات و السيرة المأخوذة يدا بيد متصلة بعصور المعصومين عليهم السلام. و لا ينافيه قصور عبارتهم عن التحديد بذلك، لقرب غفلتهم عن هذه الجهة تفصيلا، و إن كانت مدركة لهم إجمالا. فالبناء علي المشاركة بالوجه المذكور قريب جدا. و استفادة المشاركة فيما زاد علي ذلك في غاية الإشكال، لابتنائه علي أمر تعبدي محض غير ارتكازي يبعد اطلاعهم عليه و خفاؤه علينا، و لا أقلّ من كونه خلاف المتيقن بلحاظ ما تقدم. فلاحظ.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم بحقائق الأحكام، و منه نستمد العون و التسديد.

و من هنا كان المناسب النظر في كل حكم من أحكام الحيض، و في نهوض الأدلة بإثباته للنفساء.
الأول: تحريم العبادات المشروطة بالطهارة،

و يقتضيه- مضافا إلي كونه متيقنا من معقد الاجماع علي مشاركتها للحائض في الأحكام، لأنه من أظهر الأحكام التي هي مورد الابتلاء و يمتنع الخطأ معه عادة، و إن لم ينهض الإجماع بإثبات عموم المساواة في مطلق الأحكام أو خصوص ما ثبت من الحيثية المتقدمة، و إلي كونه مقتضي عموم شرطية الطهارة فيها، و عموم تحريم الصلاة حال الحدث، الذي تقدم في الحيض

ص: 396

______________________________

تقريب دلالته علي الحرمة الذاتية- ما ورد في نصوص تحديد مبدأ النفاس «1» و منتهاه «2» من ترك النفساء للصلاة و موثق عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن عليه السلام: «سألته عن النفساء تضع في شهر رمضان بعد صلاة العصر أ تتم ذلك اليوم أو تفطر؟ فقال:

تفطر ثم لتقض ذلك اليوم» «3»، و قد يشعر بالمفروغية عن عدم مشروعية الصوم لها صحيح ابن مهزيار «4» المتقدم في صوم المستحاضة.

هذا، و الموثق صريح في وجوب قضاء الصوم عليها، و حديث زريق [رزيق] المتقدم في مبدأ النفاس ظاهر في عدم وجوب قضاء الصلاة عليها، لقوله فيه: «قلت فإنها رأت الدم و قد أصابها الطلق فرأته و هي تمخض. قال: تصلي حتي يخرج رأس الصبي، فاذا خرج رأسه لم تجب عليها الصلاة. و كل ما تركته في تلك الحال لوجع أو لما هي فيه من الشدة و الجهد قضته إذا خرجت من نفاسها … » «5».

فإن التنبيه علي قضاء ما يفوتها حال الطلق ظاهر في عدم وجوب قضاء ما يفوتها حال النفاس، و أن التكليف بالقضاء يدور مدار التكليف بالاداء.

و أما بقية فروع حرمة العبادات المشروطة بالطهارة حال النفاس مع وجوب قضائها أو عدمه بعده، فإن تم مشاركة النفساء للحائض في الأحكام الثابتة لها من الحيثية المتقدمة- كما قربناه- أو مطلقا، فهو، و إلا لزم الرجوع لما تقتضيه الأدلة الأخر أو الأصول مما يظهر بالتأمل، و لا يسع المقام تفصيل الكلام فيه، بل قد يظهر بعضه مما تقدم في الحيض.

الثاني: تحريم وطئها.

و يقتضيه- بعد كونه متيقنا من معقد الإجماع علي مشاركتها للحائض بالوجه الذي تقدم في سابقه- موثق مالك بن أعين: «سألت أبا جعفر عليه السلام

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 17 و باب: 4 من أبواب النفاس.

(2) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب النفاس حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 41 من أبواب الحيض حديث: 7.

(5) الوسائل باب: 30 من أبواب الحيض حديث: 17.

ص: 397

______________________________

عن النفساء يغشاها زوجها و هي في نفاسها من الدم؟ قال: نعم، إذا مضي لها منذ يوم وضعت بقدر أيام عدة حيضها ثم تستظهر بيوم فلا بأس بعد أن يغشاها زوجها يأمرها فتغتسل ثم يغشاها إن أحب» «1».

و مقتضاه و إن كان هو الحرمة حتي بعد الطهر من النفاس قبل الغسل، إلا أنه يتعين رفع اليد عنه و حمله علي الكراهة لما ورد في الحيض. بناء علي ما سبق من تقريب مشاركتها للحائض بالوجه المتقدم، لظهور أن ثبوت الحكم للحائض من حيثية الحدث.

و أما ما يظهر من الوسائل من الاستدلال له بموثق ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: إذا انقطع الدم و لم تغتسل فليأتها زوجها إن شاء» «2». فكأنه مبني علي المفروغية عن مشاركتها للحائض، و إلا فالحديث قد حذف منه السؤال بسبب تقطيع الروايات، و مقتضي ذكر الشيخ له في أبواب الحيض كون السؤال فيه عن الحائض، و لا أقل من إجماله، إذ لا مجال للبناء علي إطلاقه بعد ثبوت النقص فيه.

علي أنه لو فرض إطلاقه فمقتضي موثق مالك رفع اليد عنه في النفاس و العمل به في الحيض، لو غض النظر عن مشاركة النفساء للحائض، بحيث يكون الدليل علي الترخيص في الحيض دليلا عليه في النفاس.

هذا، و عن بعض مشايخنا الاستدلال علي الجواز بالسيرة القطعية علي نكاح الكتابيات و المخالفات مع أنهن لا يغتسلن من النفاس أو يغتسلن غسلا باطلا. و هو موقوف علي التعدي عن مورد السيرة لمورد الموثق الظاهر في فرض مشروعية الغسل و صحته من المرأة. و لازمه كراهة مناكحة المخالفات و الكتابيات من الحيثية المذكورة، لما دل علي كراهة الوطء قبل الغسل بعد فرض عدم الفرق بين من يشرع منها الغسل و يصح و غيرها.

نعم، قد يستشكل في دلالة موثق مالك بن أعين علي الحرمة بأن المفروض فيه

______________________________

(1) الوسائل باب: 7 من أبواب النفاس حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب النفاس حديث: 2.

ص: 398

______________________________

استمرار الدم بعد مضي قدر العادة و الاستظهار، و لعل الأمر بالغسل من جهته، نظير ما ورد في المستحاضة، فيلحقه ما تقدم فيها. فتأمل جيدا.

هذا، و قد تقدم في الحيض الكلام في فروع حرمة الوطء، و جريانه في النفاس يبتني علي تمامية مشاركته للحيض، نظير ما تقدم في حرمة العبادات. و منه يظهر الحال في وجوب الكفارة بوطئها، الذي تقدم من التذكرة التنصيص علي عموم المساواة للخلاف المتقدم فيه، ثم قوله: «و لا نعلم في ذلك خلافا» كما هو ظاهر غيره أيضا، فإنه حيث كان من لواحق حرمة الوطء الثابت للحيض من حيثية الأذي و القذر يدخل في موضوع المساواة التي تقدم تقريبها.

و من الغريب تمسك سيدنا المصنف قدّس سرّه بأصالة المساواة فيه مع ما سبق منه من أن المتيقن من معقد الاجماع المساواة في أحكام الحائض، دون أحكام الحيض و إن رجعت للحائض بنحو من العناية. و قد تقدم في الحيض التعرض لبعض الفروع المترتبة علي ثبوت الحكم المذكور في النفاس. فراجع.

الثالث: تحريم دخولها للمساجد.

و العمدة فيه: أنه متيقن من الإجماع علي مشاركتها للحائض في الأحكام، لشيوع الابتلاء به، نظير ما تقدم في سابقيه.

مضافا إلي ظهور المفروغية عنه من موثق عبد الرحمن بن أعين: «قلت له: إن امرأة عبد الملك ولدت فعدّ لها أيام حيضها، ثم أمرها فاغتسلت … فقالت له: لا تطيب نفسي أن أدخل المسجد … فقال: قد أمر بذا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم … » «1»، لأن عدم طيب نفس المرأة بدخول المسجد بعد مضي عدة النفاس الشرعية إنما هو لكون استمرار الدم بعد ذلك يشبه النفاس أو يحتمله، و هو يناسب المفروغية عن عدم دخول المسجد حال النفاس، و ظاهر الجواب الإقرار علي ذلك، و إن تضمن الردع عن التوقف بعد مضي عدة النفاس.

و أما ما ورد في قصة أسماء بنت عميس من عدم طوافها بالبيت في نفاسها،

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 9.

ص: 399

______________________________

فلعله لتوقف الطواف علي الطهارة، لا لحرمة دخول المسجد. و الكلام في فروع ذلك مبني علي مساواتها للحائض في الأحكام مطلقا، أو في خصوص ما ثبت لها من الحيثية المتقدمة، لظهور أن الحكم المذكور من ذلك.

الرابع: تحريم قراءة العزائم.

و الكلام فيه يبتني علي ثبوت المساواة للحائض مطلقا أو في خصوص ما ثبت من الحيثية المتقدمة، لظهور أن الحكم المذكور من ذلك.

و نظيره في ذلك كراهة قراءة غيرها من القرآن لو تمت في الحائض.

و أما الاستدلال علي الحكمين المذكورين بالإجماع و إن لم تثبت به المساواة، للتقريب المتقدم في سوابقه، فلا يخلو عن إشكال، لعدم شيوع الابتلاء بقراءة العزائم، ليمتنع الخطأ فيها عادة. و كراهة قراءة القرآن حيث لم تكن حكما إلزاميا فقد يتسامحون في دليلها.

الخامس: تحريم مس كتابة القرآن المجيد.

و حيث تقدم أنه لا دليل عليه في الحيض إلا عموم مانعية الحدث اتجه عمومه للنفساء. و مثله في ذلك كراهة تعليقه علي ما تقدم في الحيض.

و أما حرمة مس الاسم الشريف فقد سبق في الحيض أن دليلها- لو تم- وارد في الجنب. و لو تم التعدي منه للحائض تعين التعدي للنفساء، لاتحاد الوجه فيهما.

فراجع أول الفصل السابع من مباحث الحيض.

السادس: كراهة سؤرها علي ما تقدم في الأسآر.

و الظاهر أن جريانها في النفساء مبني علي عموم مساواتها للحائض في جميع الأحكام أو في خصوص ما ثبت من الحيثية المتقدمة، حيث لا يبعد كون ثبوت الحكم المذكور للحائض من الحيثية المذكورة.

و إن كان قد يتأمل فيه و يحتمل كونه لخصوصيتها البدنية، دون الاستقذار. فتأمل.

السابع: كراهة الخضاب.

و الظاهر أن جريانها في النفساء مبني علي عموم المساواة لجميع الأحكام، أما بناء علي ما ذكرنا من اختصاصه بما ثبت من الحيثية الخاصة فلا مجال للبناء عليه، لعدم الدليل علي دخلها في ثبوتها للحائض، بل صريح

ص: 400

و تقضي الصوم و لا تقضي الصلاة (1)، و لا يصح طلاقها (2)،

______________________________

بعض نصوصه أن عليته خوف الشيطان «1».

و يشهد بعدم مشاركة النفساء لها في ذلك المرسل عن مكارم الأخلاق عن أبي اللّه عليه السلام: «قال: لا تختضب و أنت جنب، و لا تجنب و أنت مختضب، و لا الطامث، فإن الشيطان يحضرها عند ذلك. و لا بأس به للنفساء» «2»، و في مرسله الآخر عنه عليه السلام:

«قال: تختضب النفساء» «3»، من دون نص بالنهي كما ورد في الحائض.

الثامن: كراهة حضورها عند الميت حال النزع

علي ما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

و لا يبعد ثبوت الحكم المذكور لها من الحيثية المتقدمة، كما يناسبه تعليله في بعض نصوصه بأن الملائكة تتأذي بذلك، و تعميمه في بعضها للجنب «4»، فيدخل في موضوع المساواة التي تقدم تقريبها. فلاحظ.

التاسع: استحباب الذكر لها في أوقات الصلاة.

و الكلام فيه كما في كراهة الخضاب، لأن ثبوته للحائض ليس من الحيثية المذكورة، بل للبدلية عن الصلاة، و من المحتمل عدم مشاركة النفساء لها في ذلك، لأن الابتلاء بالنفاس أقل من الابتلاء بالحيض في غالب النساء، و لأن النفساء مجهدة كالمريضة بنحو يناسب التخفيف عنها حتي في المستحبات و المكروهات. و ربما كانت هناك أحكام أخر يظهر حالها مما تقدم.

فلتلحظ.

تقضي الصوم و لا تقضي الصلاة و لا يصح طلاقها

(1) تقدم الكلام فيه عند التعرض لحرمة العبادات المشروطة بالطهارة عليها.

(2) لا يخفي أن ثبوت الحكم المذكور للحيض تعبدي، و لا قرينة علي كونه من الحيثية المتقدمه التي سبق أنها مورد المساواة الارتكازية، إلا أن الإجماع المدعي في

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة، و باب: 42 من أبواب الحيض

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب الجنابة حديث: 13.

(4) راجع الوسائل باب: 43 من أبواب الاحتضار.

ص: 401

إلي غير ذلك من أحكام الحائض (1).

______________________________

كلماتهم كاف في إثبات مانعية النفاس من الطلاق، و إن لم تثبت به المساواة بعنوانها، لأن شيوع الابتلاء بالحكم مانع من الخطأ فيه عادة. فتأمل. علي أن النصوص وافية به، إذ يقتضيه- مضافا إلي إطلاق ما تضمن اعتبار وقوعه حال الطهر «1» - صحيح جماعة من الفضلاء عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام أنهما قالا: «إذا طلق الرجل في دم نفاس أو طلقها بعد ما يمسها فليس طلاقه إياها بطلاق» «2» و غيره.

و مثله الظهار في دعوي الإجماع، و في النصوص المتضمنة اعتبار الوقوع حال الطهر «3». و في مرسل الصدوق و ابن فضال عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا يكون الظهار إلا علي مثل موضع الطلاق» «4» و ظاهرهم المفروغية عن العمل بمضمونه. و يجري هنا ما تقدم في الحيض من المستثنيات و بعض الفروع المتقدمة، لأن الأدلة فيهما علي نحو واحد. فراجع.

(1) كوجوب الغسل عليها، و كيفيته، و حكمه. أما وجوب الغسل فلا كلام فيه. و يدل عليه من النصوص موثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «و غسل النفساء واجب» «5» و ما ورد في بيان حدّ النفاس.

نعم، في خبر معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سمعته يقول: ليس علي النفساء غسل في السفر» «6». و قد حمله الشيخ قدّس سرّه علي ما إذا تعذر الغسل عليها، لعدم الماء أو لمحذور في استعماله. و هو- كما تري- مخالف لظاهره، لقوة ظهوره في خصوصية السفر، و إن كان غلبة صعوبة الغسل ارتكازا هو الحكمة في الحكم. لكن

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 8، 9 من أبواب مقدمات الطلاق و شروطه.

(2) الوسائل باب: 8 من أبواب مقدمات الطلاق و شروطه حديث: 5.

(3) راجع الوسائل باب: 2 من كتاب الظهار.

(4) الوسائل باب: 2 من كتاب الظهار حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب النفاس حديث: 1.

(6) الوسائل باب: 1 من أبواب النفاس حديث: 3.

ص: 402

______________________________

قد يتعين ما ذكره قدّس سرّه بلحاظ ظهور عدم العامل به علي إطلاقه، و لا سيما عن بعض نسخ التهذيب المخطوطة: (النساء) بدل (النفساء) و في المنتهي أنه مخالف للإجماع.

و يشهد به إهمالهم التعرض للحكم المذكور مع شدة الحاجة لبيانه، لشيوع الابتلاء بمورده، فيمتنع عادة الخطأ في ذلك. مضافا إلي قوة ظهور نصوص قصة أسماء بنت عميس في وجوب الغسل عليها في السفر. و احتمال كونه من حيثية الاستحاضة إن تم يقتضي وجوب غسل النفاس بالأولوية العرفية. فتأمل جيدا. و الأمر سهل بعد ضعف سند الخبر.

و أما كيفية الغسل فالظاهر عدم الإشكال بينهم في أنه كغسل الحيض الذي هو كغسل الجنابة نصا و فتوي، و به صرح جماعة مرسلين له إرسال المسلمات، كما هو داخل في معاقد الإجماع المتقدم علي المساواة. و هو المناسب لعدم التعرض لكيفيته في النصوص، إذ لو لا المفروغية عن كونه كغسل الجنابة و الحيض لاحتيج للسؤال عنه و عن غيره من الأغسال، و لا سيما بناء علي دلالة النصوص علي اعتبار الترتيب في غسلهما علي خلاف مقتضي الإطلاق، حيث يكون ذلك مثارا للسؤال عن غيرهما. بل ذلك هو المناسب للتداخل بين الأغسال.

بل عدم التعرض في نصوصه لكيفية الغسل المجزي عن الغسلين أو الأغسال يشهد بالمفروغية عن ذلك أيضا، كما ذكرناه في مبحث غسل الحيض. و من ثم كان المفهوم من نصوص غسلي الجنابة و الحيض بيان كيفية جميع الأغسال المشروعة، و إنما خص البيان بهما لأهميتهما و كثرة الابتلاء بهما و علي ذلك جري الأصحاب في جميع الأغسال حتي المستحبة.

و أما حكم الغسل فليس مورد الكلام فيه إلا إجزاؤه عن بقية الأغسال و عن الوضوء و انتقاضه بالحدث الأصغر في أثنائه. و يظهر الحال في الأول مما تقدم في المسألة الثالثة و السبعين من مباحث الوضوء، و في الأخيرين مما تقدم في غسل الحيض، لأن الأدلة بالإضافة إليهما علي نهج واحد.

ص: 403

مسألة 46: شروط الحيض المتأخر عن النفاس

(مسألة 46): إذا استمر الدم بعد العشرة شهرا أو أكثر أو أقل، فإن كانت لها عادة بينها و بين النفاس عشرة أيام (1) كان حيضا في أيام العادة

______________________________

(1) ظاهره المفروغية عن اعتبار الفصل بين النفاس و الحيض للتأخر عنه بعشرة أيام، كما صرح به في المبسوط و السرائر و المعتبر و المنتهي و التذكرة و غيرها، بل ظاهر غير واحد المفروغية عنه، و في الخلاف أنه لا خلاف فيه. لكن الذي يظهر من إطلاق جامع المقاصد- أن النفاس يفترق عن الحيض بوجود القول بعدم اعتبار الفصل بين الحيض و النفاس بطهر- وجود الخلاف في ذلك، بل صرح في الروض بتعميم القول المذكور للحيض المتأخر، بل تقدم منه دعوي عدم القول بالفصل بينه و بين الحيض المتقدم الذي سبق وجود الخلاف فيه.

نعم، لم يعرف القول بعدم اعتبار الفصل بين النفاس و الحيض المتأخر و لم ينسب لأحد، كما سبق منع عدم الفصل بينه و بين المتقدم، و تصريح المنتهي بالفرق بينهما.

و كيف كان، فقد استدل علي اعتبار الفصل المذكور في المبسوط و الخلاف و غيرهما بما تضمن أن أقل الطهر عشرة أيام. و يظهر ضعفه مما تقدم في التوأمين، و في الدم السابق علي الولادة.

نعم، يمكن الاستدلال علي لزوم الفصل بين النفاس و الحيض اللاحق له بالنصوص المتضمنة أن المراة مع استمرار دمها بعد أيام النفاس الشرعي تعمل عمل المستحاضة، لعمومه لما إذا صادف ذلك عادتها أو كان بصفات الحيض، فضلا عما إذا لم يكن كذلك.

مضافا إلي صحيح عبد اللّه بن المغيرة عن أبي الحسن الأول عليه السلام: «في امرأة نفست فتركت الصلاة ثلاثين يوما ثم طهرت ثم رأت الدم بعد ذلك. قال: تدع الصلاة، لأن أيامها أيام الطهر قد جازت مع أيام النفاس» «1»، فإنه لو لا المفروغية عن

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب النفاس حديث: 1.

ص: 404

______________________________

لزوم الفصل بين النفاس و الحيض المتأخر بطهر لم يحتج للتعليل المذكور.

و دعوي: أن مقتضي فرض السائل أنها تركت الصلاة ثلاثين يوما كون نفاسها تمام الثلاثين، و حيث لم يردع الإمام عليه السلام عن ذلك فلا بد من تنزيل التعليل علي كون أيام النفاس نفسها طهرا، بأن لا يراد بالطهر ما يقابل الحيض و النفاس معا، بل ما يقابل الحيض وحده، فيدل علي الاكتفاء بالفصل بأيام النفاس، لا لزوم الفصل بين النفاس و الحيض بالطهر منهما معا، غايته أنه يبتني علي فرض كون النفاس ثلاثين يوما، و عدم العمل به في ذلك مستلزم لسقوطه عن مقام الاستدلال، لا الاستدلال به علي لزوم الفصل بين النفاس المحدد بما سبق و الحيض بطهر، كما هو المدعي.

مدفوعة بأنه لم يفرض في السؤال سبق الحيض منها، ليكون المراد الفصل بين الحيضتين بطهر و يمكن حمل الطهر علي حال عدم الحيض و لو قارن النفاس، بل ظاهر فرض النفاس في السؤال كون المراد الفصل بينه و بين الحيض و كون المراد بالطهر الطهر منهما، فيلزم تنزيل الجواب علي أن النفاس الشرعي ليس هو تمام الثلاثين، بل ما دونهما مما يتحقق معه الفصل بالطهر بينه و بين الحيض و إن قارن الدم الزائد عليه الذي جلست فيه المرأة لتخيل نفاسيته. و بذلك يستفاد الردع عما تخيلته المرأة و عملت عليه في النفاس. و لعل عدم التصريح به للمفروغية عن عدم مشروعية جلوسها المدة المذكورة بين الإمام عليه السلام و السائل، أو للتقية، أو لغيرهما.

و أما قدر الطهر بعد المفروغية عن لزوم الفصل به فالظاهر عدم الإشكال في لزوم بلوغه العشرة أيام، و قد يستفاد من الصحيح، بضميمة أن المرتكز كون لزوم الفصل بالطهر لاحتياج الحيض لتجمع الدم بعد نفاده بالنفاس، لاتحادهما سنخا، فيراد بالطهر في الصحيح الطهر المعود الذي لا بد منه قبل الحيض، الذي لا يكون دون العشرة.

و بعبارة أخري: المرتكز أن اعتبار الطهر لأجل ما بعده، و حيث كان ما بعده في المقام هو الحيض كان المناسب اعتبار الطهر المعتبر فيه، و أقله عشرة أيام. فلاحظ.

ص: 405

و استحاضة في غيرها (1).

______________________________

(1) قال في المعتبر: «لا ترجع النفساء مع تجاوز دمها إلي عادتها في النفاس …

بل تجعل عشرة نفاسا، و ما زاد استحاضة حتي يستوفي عشرة، و هو أقل الطهر» و ظاهر ذيل كلامه أن لزوم البناء علي الاستحاضة في الزائد علي العشرة الأولي مختص بالعشرة الثانية، تحقيقا لأقل الطهر، ثم لا ملزم بالبناء علي الاستحاضة، بل ترجع إلي ما تقتضيه القاعدة في حيضية الدم في العشرة الثالثة، علي ما ورد في مستمرة الدم، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

لكن قال في الروض: «و إن كانت ذات عادة جعلت بقدر عادتها في الحيض من الدم نفاسا، و الباقي استحاضة إلي تمام طهرها المعتاد، ثم ما بعده حيضا». و قريب منه في محكي نهاية الأحكام. و ظاهرهما استيفاء قدر الطهر المعتاد، بحيث تنقلب عادتها الوقتية تبعا للنفاس و لو في الدور الأول من الحيض، فإذا كانت عادتها في الحيض سبعة من أول الشهر فولدت في الحادي عشر من الشهر تنفست بسبعة، تم عملت عمل المستحاضة ثلاثة و عشرين يوما- بقدر طهرها المعتاد- و يكون حيضها السبعة من أول العشرة الثانية من الشهر الثاني.

و ما استظهره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن مرادهما استيفاء وقت طهرها و إن لم تستكمل مقداره، فتعمل عمل المستحاضة في الغرض المتقدم ثلاثة عشر يوما، و مرجعه إلي التحيض بوقتها المعتاد- كما في المتن- مخالف لظاهر كلامهما جدا. و لا سيما مع ما في الروض من أن نفاس المبتدئة و المضطربة عشرة، ثم تجعلان ما بعدها استحاضة حتي يمضي شهر من الولادة، و يرجعان في الشهر الثاني لوظيفة مستمرة الدم. فإن المناسب لذلك بناؤه علي عدم التحيض حتي للمعتادة إلا في الشهر الثاني.

و ما استظهره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من تفصيله في ذلك بين المعتادة و غيرها بعيد. و لعله لذا جعل في الجواهر المسألة ذات قولين من دون إشارة للتفصيل المذكور.

قال قدّس سرّه: «ثم إذا استمر الدم في النفساء و جلست الأيام الموظفة لها فهل يعتبر بالنسبة

ص: 406

______________________________

إلي ما عليها من أحكام مستمرة الدم فصل أقل الطهر فحسب ثم ينتقل إلي تعرف حال دمها، أو مضي شهر؟ يظهر من الأصحاب- كالمصنف في المعتبر- الأول. و يحتمل الثاني. و يظهر وجهه مما تقدم لنا في المباحث السابقة في الحيض».

هذا، و مبني القولين علي شمول أدلة وظائف مستمرة الدم للمقام، و إنما الخلاف في أن مقتضي أدلتها إعمالها بمجرد الإمكان- بمضي أقل الطهر- أو بعد مضي شهر من الولادة.

لكن قد يستشكل في ذلك، لعدم الإطلاق في نصوص الوظائف المذكورة لكل من استمر بها الدم بنحو يحتمل كونه حيضا، لاختصاص بعضها بمن استمر بها الدم بعد الحيض، و ظهور ما تضمن منها أخذ عنوان المستحاضة فيمن اختلط حيضها بطهرها أو استمر دمها بعد الحيض، دون من حكم علي دمها في زمان ما بأنه دم استحاضة- كما في المقام- و ظهور ما تضمن أخذ استمرار الدم في الموضوع في إرادة الاستمرار المثير لاحتمال الحيض لتوقعه عرفا من المرأة، فينصرف عمن يستمر دمها بعد النفاس، لما هو المرتكز و لو بسبب العادة من استناد الدم للولادة، فإن لم يكن نفاسا فهو دم علة و استحاضة مسببة عنها، و الحكم بحيضيته لو تم تعبد شرعي لا يناسب المرتكز المذكور، و لا سيما مع ما تقدم من قصور قاعدة الإمكان عن إثبات الحيضية في الدم المستمر إذا لم يكن حيضا حين حدوثه.

و لعله لذا اعترف سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن مورد نصوص مستمرة الدم غير المسبوقة بالنفاس. غاية الأمر أنه استظهر عموم الحكم لها لإلغاء الخصوصية المذكورة عرفا، و لا سيما بملاحظة قوله عليه السلام في مرسلة يونس الطويلة: «ان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم سن في الحيض ثلاث سنن بيّن فيها كل مشكل لمن سمعها و فهمها حتي لا [لم] يدع لأحد مقالا فيه بالرأي» «1» حيث يستفاد منه استقصاء أقسام مستمرة الدم.

و يشكل بلحاظ ما ذكرنا من الخصوصية للدم المستمر بعد الولادة، و الحديث

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب الحيض حديث: 1

ص: 407

______________________________

إنما يدل علي استقصاء أقسام المستحاضة، لا مستمرة الدم.

نعم، لو تم عموم تنزيل النفاس منزلة الحيض كان استمرار الدم معه بمنزلة الاستمرار بعد الحيض موجبا لشمول حكمه و حكم المستحاضة بالمعني المتقدم الذي أخذ في موضوع بعض نصوص وظائف مستمرة الدم. لكن سبق المنع من ذلك.

ثم أنه لو فرض عموم أدلة الوظائف المذكورة للمقام لم يبعد الخروج عنه بنصوص المقام المتضمنة لزوم ترتيب أحكام المستحاضة بعد مضي مدة النفاس الشرعية، فإنها و إن كانت بصدد الحكم بالاستحاضة حدوثا في مقابل استمرار النفاس، الذي هو مقتضي النظر العرفي بدوا، و ذهب إليه العامة و تضمنته جملة من النصوص، و لا أقل من كونه المتيقن منها، إلا أن عدم التنبيه فيها علي كثرتها- كالنصوص المتضمنة لما زاد علي ذلك كالثمانية عشر و غيرها- لترتيب أحكام الحيض بعد ذلك- بمضي أقل الطهر أو الشهر- ظاهر في الاستمرار علي حكم المستحاضة في تمام الدم المستند عرفا للولادة للغفلة عنه بدونه بسبب انسباق الذهن إلي أن البناء علي الاستحاضة في مقابل النفاس المتوهم، فكما كان من جملة الاحتمالات الأقوال و كون تمام الباقي نفاسا، تبعا لنظر العرف البدوي، كذلك ينصرف الذهن من الأمر بإجراء حكم المستحاضة جريانه في تمامه.

و لا سيما بملاحظة حديث حمران «1» المتضمن أن امرأة محمد بن مسلم كانت تقعد في نفاسها أربعين يوما، ثم أفتوها بثمانية عشر لقصة أسماء بنت عميس، و ردع الإمام عليه السلام عن ذلك ببيان التحديد بقدر العادة ثم الأمر بالاستظهار ثم بأعمال المستحاضة، فإن لزوم التحيض مع ذلك ببعض الدم المذكور مغفول عنه جدا مع ذلك و يحتاج الي عناية في البيان خصوصا لو كان المراد التحيض بمضي أقل الطهر، الذي هو خلاف المتعارف في جلوس المرأة. بل هو لا ينافي ما تضمنته النصوص من أمر النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم أسماء بنت عميس بالقيام بأعمال المستحاضة بعد الثمانية عشر يوما من

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب النفاس حديث: 11.

ص: 408

______________________________

دون استفصال عن مقدار عادتها و حال الدم بعدها، إذ لو كانت عادتها العددية سبعة، مثلا، و عليها نفاسها، و بعد عشرة أيام منها تدخل عادتها الوقتية يلزمها التحيض من الثامن عشر، و كذا لو لم يكن لها عادة وقتية، حيث يجب عليها التحيض بالتمييز أو العدد حينئذ، و لو لم يكن لها عادة عددية و كان نفاسها عشرة فكون لزوم البناء علي الاستحاضة لها يومين فقط يحتاج إلي تنبيه، للغفلة عنه بدونه جدا، كما يحتاج للتنبيه علي ذلك في كلام الأئمة عليهم السلام الناقلين للواقعة، لئلا ينسبق خلافه في حق بقية النساء.

و بالجملة: النظر في مجموع نصوص النفساء و ملاحظة ظروف صدورها قد يشرف بالناظر فيها علي القطع بعدم التحيض بالدم المنسوب للولادة عرفا.

و لو غض النظر عن جميع ذلك كفي إطلاق صحيح عبد اللّه بن المغيرة «1» المتقدم، حيث لم يفصل فيه في حيضية الدم الثاني بين كون تمام الدم الأول محكوما بعدم الحيضية و كون آخره محكوما بها لعادة أو تمييز أو غيرهما، و أنه علي الثاني لا بد من مضي أقل الطهر بين الدميين في حيضية الدم الثاني، و لا يكفي مضي الطهر بعد النفاس الشرعي.

و مثله في ذلك صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن امرأة نفست فمكثت [و بقيت. يب. صا] ثلاثين ليلة [يوما] او اكثر ثم [و. صا] طهرت وصلت ثم رأت دما أو صفرة. قال: إن كانت [كان. صا] صفرة فلتغتسل و لتصل و لا تمسك عن الصلاة، فإن [و إن. يب. صا] كان دما ليس بصفرة فلتمسك عن الصلاة أيام قرئها. ثم لتغتسل و لتصل» «2» و من الثاني يظهر أنه لا مجال لاحتمال التحيض مع استمرار دم النفاس حتي بعد الشهر.

و دعوي: أن اشتمالهما علي التنفس بتمام الدم مانع من الاستدلال بهما. ممنوعة، لأن اشتمال الخبر علي ما لا يمكن الالتزام به لا يمنع من العمل به فيما يمكن الالتزام

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب النفاس حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب النفاس حديث: 3.

ص: 409

______________________________

به إذا لم يتضمن تفرعه عليه. و لا سيما مع أنهما لم يتضمنا أمر الامام عليه السلام بالتنفس بتمام الدم، بل مجرد عمل المرأة علي ذلك، و سكوت الامام عليه السلام عن ذلك لا يكون تقريرا له بعد أن كان مصب السؤال و الجواب أمرا آخر لا دخل له بذلك، و لعل عدم الردع لعدم الأثر العملي- بناء علي عدم وجوب التدارك مع الجهل بالحكم لا عن تقصير- أو للمفروغية عن كون عملها في غير محله بين الإمام عليه السلام و السائل، أو غيرهما.

بل سبق تقريب ظهور قوله عليه السلام في صحيح ابن المغيرة: «لأن ايامها أيام الطهر قد جازت مع أيام النفاس» في الردع عن ذلك، و هو المناسب للحكم في صحيح ابن الحجاج بحيضية الدم الثاني من دون اعتبار فصل أقل الطهر، بناء علي ما سبق من لزوم الفصل به بين النفاس و الحيض المتأخر.

و بالجملة: لا مجال للتوقف عن الاستدلال بالصحيحين لذلك. كما لا مجال لحملهما علي صورة عدم اقتضاء القاعدة في مستمرة الدم التحيض بالدم المفروض فيهما، بأن تكون المرأة ذات عادة وقتية لم يصادفها الدم.

إذ فيه: أن إطلاقهما أقوي من إطلاق أدلة القاعدة لو كان شاملا للمقام، فيتعين رفع اليد بهما في المقام عن إطلاق أدلة القاعدة، و لا سيما مع اعتضادهما بما تقدم، و مع ما سبق من أن شمول نصوص القاعدة للدم المسبب عن النفاس مبني علي إلغاء خصوصية مواردها عرفا، إذ لا أقل من كون ما تقدم مانعا من التعميم بالوجه المذكور للدم المستمر المسبب عن النفاس.

نعم، لا بد من كون الاستمرار بنحو يكون الدم دم نفاس عرفا، دون ما لو طالت مدته كثيرا بنحو لا يتعارف في النفاس، و لا سيما لو تبدل حاله، كما لو خف بعد مدة من الولادة حتي أشرف علي الانقطاع ثم كثر، و خصوصا لو تجدد له سبب ظاهر، حيث تقصر النصوص المتقدمة عنه قطعا، فتشمله نصوص مستمرة الدم، و لو بلحاظ ما سبق في كلام سيدنا المصنف قدّس سرّه من إلغاء خصوصية مواردها، فإن ما تقدم منا يرجع إلي خصوصية دم النفاس العرفي، لا خصوصية الدم المسبوق بالولادة و لو لم يكن نفاسا عرفا. فتأمل جيدا.

ص: 410

و إن لم تكن لها عادة (1) و كان هناك تمييز بينه و بين النفاس عشرة أيام كان

______________________________

هذا، و لو بني علي شمول نصوص مستمرة الدم لدم النفاس من دون مخرج عنها، لغض النظر عن جميع ما ذكرنا، فإن بني علي كون النفاس بمنزلة الحيض كانت المرأة كمن استمر بها الدم بعد الحيض، حيث يظهر مما تقدم أنها ترجع بعد مضي أقل الطهر إلي عادتها الوقتية قربت أو بعدت. فإن لم تكن لها عادة وقتية أو نسيتها رجعت للتمييز و لو استلزم الحيض أكثر من مرة في الشهر الواحد، خلافا لما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الإشكال فيه في الناسية، و لما في الجواهر من منافاته فيها و في غيرها لما تضمن أن الحيض في كل شهر مرة «1».

فإن لم تكن ذات تمييز تحيضت بأقراء أقاربها أو بالعدد علي نحو يقتضي التحيض في الشهر مرة، المستلزم في المقام لبدء التحيض بهما بعد مضي شهر من الولادة.

و إن لم يبن علي كون النفاس بمنزلة الحيض كانت المرأة بحكم ذات الدم المستمر المحكوم حين حدوثه بالاستحاضة، كما لو رأت الدم قبل مضي أقل الطهر و استمر. و يظهر مما تقدم أنها ترجع بعد مضي أقل الطهر إلي عادتها ثم إلي التمييز علي الوجه الذي تقدم في الفرض السابق، و مع عدمهما تتحيض بأقراء الأقارب أو بالعدد بعد مضي شهر من الحيض السابق، علي ما سبق في الأمر الثاني من تتميم المسألة العاشرة من مباحث الحيض، و حيث لا حيض سابق في المقام أشكل الحال، و إن كان قد يستفاد من النصوص التحيض بمجرد الإمكان و مضي أقل الطهر.

بل لا إشكال فيه بناء علي نهوض قاعدة الإمكان بإثبات حيضية الدم باستمراره إذا امتنعت حيضيته بحدوثه. لكن سبق المنع من نهوضها بذلك. و منه يظهر حال جملة من كلماتهم في المقام مما تقدم ما لم يتقدم. و لا يسعنا استقصاء الكلام فيها. فلاحظها.

(1) يعني: ترجع إليها، و لو لكونها ناسية لها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب الحيض حديث: 2

ص: 411

حيضا في أيام التمييز و استحاضة في غيرها، و إن لم تكن لها عادة و لا تمييز رجعت إلي اختيار العدد (1)، كما تقدم في الحائض (2). و كذلك إذا كانت ذات عادة أو تمييز و لم يكن بينه و بين النفاس عشرة أيام، فإنها ترجع إلي العدد أيضا (3).

______________________________

(1) مقتضي ما تقدم منه قدّس سرّه رجوع المبتدئة- التي يمكن فرضها في المقام- مع عدم التمييز لعادة أقاربها، ثم التحيض بالعدد، و مراعاة المضطربة الاحتياط بينه و بين التحيض بالعدد. و أما الجزم بالانتقال من التمييز للحيض بالعدد رأسا فيختص عنده قدّس سرّه بالناسية. علي إشكال تقدم التعرض له منا. فراجع.

(2) لم يتقدم منه في الحيض تعيين مبدأ العدد، و يستفاد منه مما يأتي التعجيل بمجرد مضي أقل الطهر، و قد تقدم الكلام في ذلك هنا و هناك.

(3) مقتضاه التعجيل بالتحيض بالعدد و عدم انتظار الدور الثاني للعادة، و لا للتمييز لو كان.

و لا يخلو عن إشكال، بل منع، فإن مقتضي إطلاق رجوع ذات العادة أو التمييز لهما انحصار المرجع بهما. و مجرد تعذر الرجوع لأحدهما في الدور الأول لا يوجب خروجها عنهما و تبدل وظيفتها، بل يلزم انتظار الدور الثاني. و لا يظن منه قدّس سرّه البناء علي ذلك في الحيض كما لو كانت عادة المرأة سبعة أيام اول الشهر فتأخر دمها الي العشرين منه فتحيضت بالسبعة بعد العشرين، ثم استمر دمها الي الشهر الثاني، حيث لا يظن منه قدّس سرّه البناء علي رجوعها للوظيفة المتأخرة عن العادة في الشهر الثاني بعد مضي أقل الطهر، لعدم الفصل بين حيضها و عادتها بعشرة في الشهر المذكور، بل بثلاثة. بل الظاهر أنها لا تتحيض فيه، بل تنتظر وقت عادتها في الشهر الثالث، لما ذكرنا. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

و الحمد للّه رب العالمين و صلي اللّه علي سيدنا محمد و آله الطاهرين.

ص: 412

______________________________

انتهي الكلام في مبحث النفاس ليلة الثلاثاء الثامن و العشرين من شهر ذي الحجة الحرام من السنة الأولي بعد الألف و الأربعمائة للهجرة النبوية علي صاحبها و آله أفضل الصلاة و أزكي التحية. في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف علي مشرفه الصلاة و السلام. بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه نجل العلامة الجليل حجة الإسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

و منه سبحانه نستمد العون و التوفيق، و هو حسبنا و نعم، الوكيل. كما انتهي تبييضه بعد تدريسه ليلة الأربعاء التاسع و العشرين من الشهر المذكور بقلم مؤلفه الفقير حامدا مصليا مسلما.

ص: 413

ص: 414

الفهرست

الفصل السابع: في أحكام الحائض 5

يحرم علي الحائض جميع ما يشترط فيه الطهارة من العبادات و غيرهما مما يحرم علي المحدث، علي كلام في مثل مس اسم اللّه تعالي مما اختص دليله بالجنب 5

الكلام في أن حرمة العبادات علي الحائض ذاتية أو تشريعية 7

ثمرة النزاع في الحرمة الذاتية و التشريعية 13

يحرم وطء الحائض علي الواطئ و عليها 17

هل يكون وطء الحائض كبيرة؟ 20

إدخال بعض الحشفة 20

الوطء في الدبر 22

يجوز الاستمتاع بالحائض بغير الوطء 24

الوطء بعد الطهر من الحيض قبل الغسل منه مع الكلام في مفاد الآية الشريفة 25

هل يقوم التيمم مقام الغسل؟ 29

هل يجب غسل الفرج قبل الوطء؟ 30

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 5، ص: 415

الكلام في وجوب الكفارة بوطء الحائض 32

مقدار الكفارة في وطء الزوجة 34

الكلام في دفع القيمة 39

موارد سقوط الكفارة 41

كفارة وطء الأمة الحائض 43

الكلام في بعض اقسام الأمة 46

الكلام في عموم حكم الزوجة لأقسامها 47

وطء غير الزوجة و الأمة 47

يجوز دفع كفارة الزوجة الحائض وطء الحائض لمسكين واحد 48

الكلام في وجوب الكفارة بالوطء في الدبر، أو بإدخال بعض الحشفة 49

وطء الميتة 49

ص: 415

المعيار في اول الحيض و وسطه و آخره 50

الكلام في تعدد الكفارة بتعدد الوطء 52

لو فجأ الحيض في أثناء الوطء 56

وطء من يخرج حيضها من غير الفرج 57

لو تعذرت الكفارة في المقام و غيره. و حكم ما لو تجددت القدرة عليها بعد فعلا لبدل المسقط 57

المعيار في تعذر الكفارة 62

الكفارة تتبع الواقع لا اعتقاد الزوج 63

الوطء مع اشتباه الحيض 63

قبول قول المرأة في الحيض 64

الكلام في مشاركة النفساء للحائض في حكم الكفارة 67

لا يصح طلاق الحائض و ظهارها بشروط 68

الكلام في الوظيفة مع اشتباه الحيض و التخيير في التعبد به بين الأقل و الأكثر 73

الكلام في أن المدار في هذا الحكم علي الحيض أو حدثه 74

يجب الغسل من الحيض لكل مشروط بالطهارة، و يستحب للكون علي الطهارة 76

كيفية غسل الحيض 77

الكلام في انتقاض غسل الحيض بتخلل الحدث الأصغر فيه 79

الكلام في إجزاء غسل الحيض عن الوضوء 81

الكلام في أن الوضوء مشروع قبل الوضوء أو بعده 91

يجب علي الحائض قضاء الصوم الذي يفوتها حال الحيض مع الكلام في اختصاص ذلك بصوم رمضان و عمومه لغيره 95

لا يجب علي الحائض قضاء الصلاة 97

الكلام فيما لو لم يستغرق الحيض وقت الصلاة، مع تحديد مقتضي الأصل في ذلك الذي يرجع إليه مع فقد الدليل الخاص 99

إذا حاضت المرأة في أثناء الوقت 101

لا يكفي في وجوب القضاء سعته للصلاة بالتيمم أو نحوها من الصلوات الاضطرارية، مع الكلام في تعذر الصلاة التامة من غير جهة الحيض 106

لو علمت المرأة بمفاجأة الحيض لها لما يلزمها المبادرة للصلاة 107

لو شكت في سعة الوقت لها 108

ص: 416

إذا طهرت المرأة في أثناء الوقت 109

إذا لم يسع الوقت الطهارة و ركعة لم يجب عليها الأداء فضلا عن القضاء 109

إذا وسع الوقت الطهارة و الصلاة التامة وجب أداؤها، مع الكلام في أن المعيار في ذلك علي الوقت الاختياري أو الاضطراري أو الفضيلي 112

الكلام فيما لو أدركت من الوقت مقدار أداء الصلاة الاضطرارية 119

الكلام في استحباب القضاء لو طهرت قبل خروج الوقت بمقدار لا يسع الركعة 120

هل يشرع للحائض الغسل من الحدث الأكبر؟ 122

تشرع الأغسال المستحبة من الحائض 126

يشرع الوضوء للحائض 127

يستحب للحائض الوضوء و الذكر في أوقات الصلاة 127

الكلام في أن الوضوء المذكور مطهر 133

الكلام في مشروعية التيمم بدلا عن الوضوء المذكور لو تعذر 134

الكلام في قيام الغسل مقام الوضوء المذكور 135

هل يجزي الوضوء المذكور إذا أحدثت بالأكبر غير الحيض؟ 136

يكره الخضاب للحائض 136

يكره للحائض حمل المصحف و تعليقه و لمس هامشه و ما بين سطوره 137

المقصد الثالث: في الاستحاضة 139

تحديد الاستحاضة مفهوما و بيان صفات دمها 140

لا حدّ لقليل دم الاستحاضة و لا لكثيره و لا للطهر المتخلل بين أفراده 140

تحديد موارد الاستحاضة مع الكلام في انحصار دم المرأة الخارج من الرحم بالحيض و الاستحاضة و النفاس و في الدم الخارج من غير الرحم 141

الكلام في شرطية ناقضية الاستحاضة للطهارة 153

تحديد صور الاستحاضة الثلاث القليلة و المتوسطة و الكثيرة 154

هل يجب الفحص عن صور الاستحاضة الثلاث 159

لو تعذر الفحص عن صور الاستحاضة 163

كيفية الفحص 167

لو صلت من دون فحص 168

هل يجب تبديل القطنة أو تطهيرها في القليلة؟ 169

هل يجب تبديل الخرقة في القليلة؟ 170

ص: 417

هل يجب تطهير الفرج في القليلة؟ 172

يجب في القليلة الوضوء لكل صلاة فريضة 172

الكلام في الصفرة 179

الكلام في جواز الاكتفاء بوضوء واحد لفريضتين، و في الاجتزاء بغسل الحيض أو غيره لفريضتين 185

هل تحتاج النافلة للوضوء؟ مع الكلام في مقتضي الأصل 186

المعيار في وحدة الصلاة 193

لا يعتبر إيقاع الوضوء بداعي الصلاة التي يؤتي بها معه 193

تجب المبادرة للصلاة بعد الوضوء 193

لا يجب إعادة الوضوء لصلاة الاحتياط و الأجزاء المنسية 195

هل يجب إعادة الوضوء لإعادة الصلاة؟ 198

لا تجب إعادة الوضوء لسجود السهو علي تفصيل و كلام 199

الكلام في وجوب الوضوء لكل صلاة في الاستحاضة المتوسة 199

الكلام في وجوب تجديد القطنة في المتوسطة 204

الكلام في وجوب تبديل الخرقة و تطهير الفرج في المتوسطة 212

يجب في المتوسطة غسل واحد في اليوم 212

حكم ما لو تلوثت الخرقة بدم الكرسف و لم ينفذ الدم فيها 212

الكلام في وجوب إيقاع الغسل قبل صلاة الصبح 212

إذا كان عدم سيلان الدم للتعجيل في تبديل الكرسف 216

إذا سال الدم من دون كرسف 216

هل تجب المبادرة من الغسل للصلاة؟ 217

هل يجب تبديل القطنة في الاستحاضة الكثيرة؟ 217

هل يجب الوضوء لكل صلاة في الكثيرة؟ 220

يجب في الكثيرة أغسال ثلاثة 226

الكلام في استحباب الغسل لكل صلاة و في مشروعية الغسل التجديدي في الكثيرة 228

لا يجوز الفصل بين الظهرين و العشاءين، كما تجب المبادرة لهما بعد الغسل 228

الكلام في الجمع بين أكثر من صلاتين بغسل واحد.

مع الكلام في عموم ترتيب أحكام الطاهر مع القيام بوظائف المستحاضة 230

حكم الصلاة غير اليومية المستحاضة 233

ص: 418

حكم الطواف للمستحاضة 239

الكلام في النوافل الرواتب 245

هل يجوز إيقاع الفريضة اليومية مع صلاة غير يومية بغسل واحد 249

هل يجب إيقاع الوظيفة في الوقت أو يجوز تقديمها؟ 249

تتداخل الاستحاضة مع غيرها من أسباب الحدث الأكبر و الأصغر 251

لو حدثت المتوسطة بعد صلاة الصبح 252

إذا لم تغتسل ذات المتوسطة لصلاة الصبح 256

إذا حدثت الكثيرة في أثناء النهار 257

إذا انقطع دم الاستحاضة للبرء أو مع العدد 258

هل المعتبر في كمية أوقات الصلاة 266

لو انقطع الدم قبل إكمال الصلاة 268

إذا انقطع الدم بعد الصلاة قبل خروج الوقت 269

انقطاع الدم لفترة 271

إذا علمت المستحاضة بأن لها فترة 275

إذا انقطع الدم انقطاع برء أو فترة طويلة لم تجب المبادرة للصلاة بعد القيام بالوظيفة 276

إذا لم تجمع ذات الكثيرة بين الصلاتين أوجب تجديد الغسل للثانية 277

إذا انتقلت الاستحاضة من الأدني للأعلي 278

إذا انتقلت الاستحاضة من الأعلي للأدني 281

ما يستثني من وجوب المبادرة للصلاة 284

في وجوب التحفظ من خروج الدم 286

يختص وجوب التحفظ بالكثيرة 289

يبدأ وجوب التحفظ بعد الغسل و لا يختص بحال الصلاة 290

الكلام في وجوب التحفظ علي الصائمة 291

المعيار في التحفظ 292

الكلام في توقف صوم المستحاضة علي الأغسال النهارية، مع تعيين تلك الأغسال 293

الكلام في توقف جواز وطء المستحاضة علي الغسل 308

الكلام في دخول المساجد و قراءة العزائم للمستحاضة 315

الكلام في مس المستحاضة للقرآن و نحوه 317

المقصد الرابع: في النفاس 319

ص: 419

تحديد النفاس مفهوما 319

الكلام في إسقاط المضغة 320

الكلام في إسقاط العلقة 324

الكلام في إلقاء النطفة 324

الدم الخارج حين الشروع في الولادة 325

لا حدّ لقليل النفاس 327

الكلام في أكثر النفاس 328

ما تراه بعد العشرة ليس نفاسا 351

إذا لم تر دما في ضمن العشرة من حين الولادة لم يكن لها نفاس 352

مبدأ العد بعد إكمال الولادة 353

النقاء المتخلل بين الدميين من نفاس واحد 354

لا يعتبر تخلل الطهر بين النفاسين مع الكلام في التوأمين 356

الكلام في الفرق بين القول بوحدة النفاس و بتعدده في التوأمين 362

إذا ألقت الولد قطعة قطعة 363

الكلام فيما لو انفصل الدم عن الولادة 366

الكلام فيما لو عاد دم النفاس بعد انقطاعه 373

الدم الخارج قبل ظهور الولد 373

إذا تجاوز دم الولادة العشرة من حينها تنفست بقدر رعايتها و كان الزائد استحاضة 384

الكلام في غير ذات العادة إذا تجاوز منها العشرة 384

الناسية لعادتها 384

الكلام في استظهار النفساء بعد مضي قدر عادتها 389

الكلام في وجوب الاستبراء علي النفساء 392

الكلام في أحكام النفساء مع الكلام في ثبوت عموم مشاركة النفساء للحائض في الأحكام 392

يحرم علي النفساء العبادات المشروطة بالطهارة 396

يحرم وطء النفساء، مع الكلام فيما لو طهرت من النفاس و لم تغتسل 397

تحريم دخولها المساجد و قراءتها العزائم و من الكتاب و الاسم الشريف 399

الكلام في كراهة سؤر النفساء 400

الكلام في كراهة الخضاب عليها 400

الكلام في كراهة حضورها عند المحتضر 401

ص: 420

الكلام في استحباب الذكر لها في اوقات الصلاة 401

لا يصح طلاق النفساء و ظهارها 401

الكلام في وجوب غسل النفساء و و كيفيته و أحكامه 403

الكلام فيما لو استمر الدم بعد العشرة شهرا أو أكثر.

مع الكلام في شروط الحيض المتأخر عن النفاس 404

الفهرست 415

ص: 421

المجلد 6

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة كتاب الطهارة

تتمة المبحث الرابع

المقصد الخامس في غسل الأموات
اشارة

المقصد الخامس في غسل الأموات (1) و فيه فصول:

الفصل الأول في أحكام الاحتضار
اشارة

الفصل الأول في أحكام الاحتضار

مسألة 1: الكلام في وجوب الاستقبال بالميت حال الاحتضار و جملة من أحكامه
اشارة

(مسألة 1): يجب علي الأحوط توجيه المحتضر إلي القبلة (2)،

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام علي سيدنا و نبينا محمد و آله الطيبين الطاهرين و لعنة اللّه علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

(1) الأنسب بمباحث هذا المقصد أن يقال: في أحكام الأموات.

وجوب الاستقبال حال الاحتضار
اشارة

(2) فقد أوجبه في المقنعة و الوسيلة و الشرائع و المنتهي و الإرشاد و الدروس و اللمعة و الروض و جامع المقاصد و ظاهر النهاية و المبسوط- في بحث القبلة- و التهذيب و المراسم و المختلف، و قواه في نكت النهاية، كما حكاه عن الصدوق- و إن كان كلامه في الفقيه و المقنع و الهداية لا يساعد عليه- و حكي أيضا عن المهذب و الاصباح و التلخيص و الذكري و البيان و الجعفرية و شرحيها. و في الروض و الروضة و المدارك و الحدائق و عن الكفاية أنه المشهور، و في جامع المقاصد و عن شرح الجعفرية أنه الأشهر، و عن الذكري أنه الأشهر نصا و فتوي، و عن المفاتيح أنه مذهب الأكثر.

و في النافع و محكي التنقيح و المفاتيح أنه الأحوط، و ظاهر التذكرة و القواعد و محكي التحرير و غاية المرام التردد فيه. بل صرح بالاستحباب في الخلاف و السرائر- كما في المطبوع منه و حكاه عنه بعضهم، و يناسبه مساق كلامه، و إن نسب له غير

ص: 5

______________________________

واحد القول بالوجوب- و إشارة السبق و المعتبر و كشف اللثام و المدارك، و هو ظاهر النهاية و المبسوط- في بحث أحكام الميت- و الاقتصاد، و حكي عن المصباح و مختصره و الجامع و المفيد في الغرية و السيد المرتضي و كشف الرموز و مجمع البرهان و الكفاية.

و مقتضي نسبته في التذكرة للباقين عدا المفيد و سلار أنه المشهور، بل ظاهر الخلاف دعوي الإجماع عليه.

و كيف كان، فقد استدل للوجوب بجملة من النصوص:
الأول: صحيح سليمان بن خالد:

«سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا مات لأحدكم ميت فسجوه تجاه القبلة. و كذلك إذا غسل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة فيكون مستقبل [مستقبلا بباطن] قدميه و وجهه إلي القبلة» «1».

و فيه: أن ظاهره إرادة التوجيه بعد الموت، بل هو كالصريح منه، فإن حمل الميت علي المشرف علي الموت أو علي نفس الذات المعروضة له في موارد حمل الموت عليه و إن كان مألوفا، نظير قولنا: خبزت الخبز، و طحنت الطحين، و كتبت الكتاب، إلا أن حمل الفعل و هو (مات) علي معني: (احتضر) بعيد في نفسه، خصوصا مع كون فاعله «الميت» الذي يراد منه الذات أو المشرف علي الموت، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الجملة. و إمكان حمل الاحتضار علي الميت بعد حمله علي الذات بنفسها- كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه- عقلي لا عرفي صالح لأن يحمل عليه الكلام. مضافا إلي عدم مناسبة ذلك لأخذ الاستقبال قيدا في التسجية التي هي التغطية بثوب و نحوه، و التي هي بعد الموت بلا إشكال. و حمل التسجية علي التوجيه أو التمديد مما لا شاهد له في كلام أهل اللغة و لا في الاستعمال.

و ما في الجواهر من أن التسجية هنا ليست بمعني التغطية، لأن التغطية مستحبة مطلقا لا مقيدة بالاستقبال، و لأن قوله عليه السّلام: «و كذلك إذا غسل … » كالصريح في أن الحكم السابق هو التوجيه دون التغطية. كما تري؛ لأن استحباب التغطية مطلقا لا ينافي الأمر بالمقيد منها بنحو التعدد المطلوب. كما لا مانع من حمل قوله عليه السّلام: «و كذلك إذا غسل … » علي إرادة تشبيه حالة التغسيل بحالة الموت في القيد، و هو الاستقبال، لا في

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

ص: 6

______________________________

المقيد، و هو التسجية، ليتعين حملها علي التوجيه.

و دعوي: أن الحمل علي حالة الاحتضار مقتضي قرينة السياق بلحاظ قوله عليه السّلام: «و كذلك إذا غسل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة».

مدفوعة: بأن الاستشهاد بقرينة السياق المذكورة إن كان بلحاظ أن الاستقبال يجب حال التغسيل لا بعده- كما يظهر من الجواهر- فمن الظاهر أن مقتضي ذلك هو الاستقبال حال الموت لا قبله حالة الاحتضار، كما هو المدعي. إلا أن يحمل الموت في الصدر علي حال الاحتضار الذي له نحو من الاستمرار كالتغسيل. و قد عرفت منعه.

و إن كان بلحاظ لزوم الاستقبال عند إرادة التغسيل قبله آنا ما- كما يظهر من الحدائق- فمن الظاهر أن تقديم الاستقبال علي التغسيل إنما هو لتوقف إحراز التغسيل حال الاستقبال عليه، و إلا فيكفي في تحقق المطلوب الشرعي الاستقبال حين التغسيل من دون أن يسبقه أصلا. و لا مجال لاحتمال اعتبار ذلك في الموت، لظهور التوقيت بالأمور الآنية الحدوث التي لا استمرار لحال حدوثها في إرادة إيقاع الفعل بعد حدوثها بنحو الموالاة العرفية.

و إن كان بلحاظ ظهور قوله عليه السّلام: «يحفر له … » في إرادة ما قبل التغسيل، لأن الحفر سابق عليه. ففيه: أن بيان الحفر تجاه القبلة ليس لكونه محققا للاستقبال بالميت قبل التغسيل، بل لبيان كيفية الاستقبال المطلوب، بلحاظ أن الحفر حيث يكون في جانب الرجلين فكونه تجاه القبلة مستلزم لكونهما تجاهها، أو لبيان الكيفية التي يسهل معها جريان ماء التغسيل.

و بالجملة: لا تنهض قرينة السياق بصرف الحديث عن ظاهره في إرادة الاستقبال بعد الموت، بل هي به أنسب، لأن الجامع بين حالة التغطية بعد الموت و حالة التغسيل ارتكازي، بخلاف الجامع بين حالتي الاحتضار و التغسيل.

و مثله ما في الجواهر قال: «فإن المعهود من المسلمين في جميع الأعصار توجيه الميت إليها حال الاحتضار، لا بعد الموت، و في المفاتيح أنه قد أطبق العلماء علي أن زمان التوجيه قبل الموت، و إن اختلفوا في وجوبه و استحبابه. انتهي. فإذا كان ذلك هو المعروف وجب صرف اللفظ إليه، بل كان ذلك هو المنساق منه».

ص: 7

______________________________

إذ فيه: أن ذلك لو تم ليس بنحو يوجب رفع اليد عما تقدم. علي أنه غير تام، فإن بقاء الميت بعد الموت متوجها إلي القبلة ليس بعيدا عن السيرة، بل ربما أدعي ظهور الأدلة في وجوبه، كما يأتي إن شاء اللّه تعالي، فلا بعد في حمل النص علي الاستقبال بعد الموت لو كان محتملا منه، فضلا عما إذا كان ظاهرا منه، بل هو كالصريح فيه، كما ذكرنا.

الثاني: موثق معاوية بن عمار:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الميت، فقال: استقبل بباطن قدميه القبلة» «1».

و قد استشكل في الاستدلال به غير واحد بأنه لا قرينة فيه علي كون المسؤول عنه حكم الاستقبال، ليكون ظاهر الأمر به وجوبه، بل قد يكون لبيان كيفية الاستقبال من دون نظر لحكمه. و قد يدفع بما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه من ظهوره في السؤال عن حكم الميت، لأن ذلك هو الظاهر من إطلاق السؤال عن الموضوع. لكن اشتمال الجواب عن بيان كيفية الاستقبال و عدم الاقتصار علي الأمر به مقرب لاحتمال كون المسؤول عنه الكيفية. فتأمل.

مضافا إلي أن ظاهر السؤال فيه عن الميت إرادة المتصف فعلا بالموت، لأن المشتق حقيقة في المتلبس، فيكون ظاهرا في إرادة الاستقبال به بعد الموت، و قد عرفت أنه لا مانع من الحمل عليه.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن الجواب يأبي الحمل علي ذلك، لعدم كون التوجيه إلي القبلة من أحكام الميت بعد الموت، بل ورد الأمر بتعجيل جهاز الميت، فإطلاق الأمر بالاستقبال يقتضي إرادة المحتضر من الميت. فهو كما تري؛ لأن الإطلاق لا يصلح قرينة علي تعيين الموضوع في فرض إجماله، فضلا عن صرفه عن ظاهره، بل يتعين إبقاء الميت علي ظاهره، و هو المتصف فعلا بالموت، و يكون المراد الأمر بالاستقبال به ما دام علي الأرض، كما قربه قدّس سرّه بعد ذلك. و لا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

الثالث: ما رواه الصدوق عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السّلام قال:

«دخل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله علي رجل من ولد عبد المطلب و هو في السوق و قد وجه لغير [إلي غير]

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 4.

ص: 8

______________________________

القبلة، فقال: وجهوه إلي القبلة، فإنكم إذا فعلتم ذلك أقبلت عليه الملائكة و أقبل اللّه عز و جل عليه بوجهه فلم يزل كذلك حتي يقبض» «1».

و قد استشكل في الاستدلال به من وجوه..

أولها: ما ذكره غير واحد من ضعفه في نفسه. و انجباره بفتوي من سبق غير ظاهر، لعدم وضوح اعتمادهم عليه، بل استدل بعضهم- كالشيخ في التهذيب- بغيره.

لكنه يندفع: بأن الصدوق و إن رواه مرسلا في الفقيه، إلا أنه رواه مسندا في العلل عن شيخه محمد بن علي ماجيلويه- الذي أكثر من الرواية عنه في كتبه المعروفة مترضيا عليه، بل قيل: أنه لم يرو عنه فيها إلا مترضيا عليه، و ظاهره جلالته في نفسه زائدا علي كونه ثقة عنده- عن محمد بن يحيي- الظاهر أنه العطار الثقة العين- عن محمد بن أحمد- الظاهر أنه ابن يحيي العطار الذي هو كسابقه- عن أحمد بن أبي عبد اللّه، المنحصر بالبرقي الثقة.

كما رواه في ثواب الأعمال عن شيخه محمد بن موسي بن المتوكل- الذي أكثر الرواية عنه مترضيا عليه، و عن ابن طاوس في فلاح السائل بعد ذكر حديث هو في طريقه: أن رواته ثقات بالاتفاق- عن عبد اللّه بن جعفر- الذي لا إشكال في أنه الحميري الثقة العين- عن أحمد بن أبي عبد اللّه المتقدم.

أما أحمد بن أبي عبد اللّه المذكور فقد رواه عن أبي الجوزاء المنبه بن عبد اللّه عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد.

و أبو الجوزاء قد نص النجاشي علي أنه صحيح الحديث. و صحة الحديث باصطلاح القدماء و إن لم تكن بالمعني المراد للمتأخرين- و هو وثاقة رجال السند- بل بمعني مطابقته للواقع أو للأمارات المعتبرة، فلا يروي المناكير و لا عن الضعفاء، و لا يضطرب في حديثه، إلا أن الاهتمام بوصف الشخص بها إنما هو لأجل بيان أنه يعول علي رواياته، و هو فرع وثاقته في نفسه، فهو ظاهر في المفروغية عن ذلك.

و الحسين بن علوان قال النجاشي في ترجمته: «الحسين بن علوان الكلبي مولاهم، كوفي عامي، و أخوه الحسن، يكني أبا محمد، ثقة، رويا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام».

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 6.

ص: 9

______________________________

و الظاهر منه رجوع التكنية و التوثيق للحسين- كما قربه بعض مشايخنا- لأنه المترجم، و الحسن مذكور تبعا، كما هو كثير النظائر في كلام النجاشي. مضافا إلي أنه من رواة تفسير القمي و الظاهر من كلامه أنه لا يذكر فيه إلا ما رواه الثقات.

و أما عمرو بن خالد فهو الواسطي الذي حكي الكشي عن ابن فضال أنه ثقة «1».

مضافا إلي أنه من رجال كتاب كامل الزيارة، الذي صرح مؤلفه بأنه لا يثبت فيه إلا ما رواه الثقات. و من هنا لا ينبغي التوقف في اعتبار سند الحديث و حجيته في نفسه.

ثانيها: ما في المعتبر من أنه وارد في قضية خاصة لا عموم فيها. و فيه: أنه لا ينبغي التوقف في إلغاء خصوصية المورد في مثل ذلك، إذ خصوصية كونه من ولد عبد المطلب مما قد يقطع بعدم دخلها، و عدم تعرض الامام عليه السّلام للخصوصيات الأخري غير كونه في السوق ظاهر في عدم دخلها.

ثالثها: ما في المعتبر أيضا من أن التعليل فيه كالقرينة الدالة علي الفضيلة، و تابعه عليه غير واحد، حتي قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه تعريضا بمن أنكر ذلك:

«و منع إشعاره بالاستحباب خلاف الانصاف ممن له ذوق سليم». لكن استشكل فيه الفقيه الهمداني قدّس سرّه بأن بيان الفائدة إنما يمنع من الظهور في الوجوب إذا كانت الفائدة عائدة للمخاطب نفسه، بخلاف ما إذا كانت عائدة للغير، كما في المقام، مدعيا ظهور الفرق بينهما حتي استغني عن إيضاحه.

و هو غير ظاهر، لأن الوجه في مانعية ذكر الفائدة العائدة للمخاطب من ظهور الأمر في الوجوب هو تبعية داعوية الأمر لداعوية الفائدة المذكورة، فإذا لم تكن ملزمة لم تكن داعوية الأمر إلزامية، و ذلك يجري في ذكر الفائدة العائدة للغير إذا كان المخاطب يهتم نوعا بنفعه، كما في المقام، لأن المخاطب حضار الميت الذين يهمهم نفعه غالبا، و لذا كان ظاهر ذكر الفائدة في الحديث المتقدم تأكيد الداعي لمتابعة الأمر في نفوسهم. نعم إذا لم يكن الغير ممن يهتم المخاطب بنفعه لم يكن ذكر الفائدة العائدة له موجبا لتبعية داعوية الأمر لداعويتها، لفرض عدم الداعوية لها، فلا تنهض بالقرينية و الخروج عن ظهور الأمر في الوجوب، نظير الفائدة التعبدية العائدة للمخاطب التي

______________________________

(1) رجال الكشي: 201 طبع النجف الأشرف.

ص: 10

______________________________

لا يهتم بتحصيلها نوعا بطبعه.

الرابع: حديث الحسين بن مصعب

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: جرت في البراء ابن معرور الأنصاري ثلاث من السنن، أما أولهن فإن الناس كانوا يستنجون بالأحجار … فاستنجي بالماء … فجرت السنة في الاستنجاء بالماء. فلما حضرته الوفاة كان غائبا عن المدينة، فأمر أن يحول وجهه إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله. و أوصي بالثلث من ماله، فنزل الكتاب بالقبلة، و جرت السنة بالثلث» «1»، حيث قد يظهر من الوسائل الاستدلال به.

و يشكل بأنه- مع عدم وضوح اعتبار سنده- لا ينهض بالمطلوب.. أولا:

لإجمال مورد أمر البراء و عدم وضوح كونه التوجيه حالة الاحتضار، بل قد يكون هو التوجيه بعد الموت حالة الدفن، كما لعله الأنسب بأن يأمر به، إذ لو كان مهتما بالتوجه حالة الاحتضار لكان الأنسب قيامه به بنفسه و محافظته عليه قبل عجزه عنه.

و ثانيا: لأنه إنما أمر بالتوجه إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله و هو حينئذ بالمدينة كما يناسبه ما تضمنه من نزول الكتاب بمدح الاستنجاء بالماء بضميمة ما تضمنته نصوص أخر «2» من حديث النبي صلّي اللّه عليه و آله مع الذي كان يستنجي به حين نزول الآية. و حمله علي أن التوجه للمدينة مستلزم للتوجه لمكة، لأنه في موضع يلزم فيه ذلك، لا يخلو عن تكلف، كالاستشهاد له بقوله عليه السّلام: «فنزل الكتاب بالقبلة»، لوضوح أن الكتاب الشريف لم يتضمن استقبال القبلة إلا في حال الصلاة، فلا بد أن يكون الاستشهاد به بلحاظ تضمنه تشريع أصل الاستقبال و إن لم يكن في المورد الذي أمر به البراء، و حينئذ كما يمكن التوسع فيما يستقبل فيه يمكن التوسع فيما يستقبل و يتوجه إليه. و حمل الكتاب علي ما كتبه اللّه لا علي القرآن الكريم- مع عدم مناسبته لمقابلته بجريان السنة في الثلث- يمنع من الاستشهاد به علي أن القبلة هي الكعبة.

و ثالثا: لأنه لا ظهور له في الوجوب، لعدم ابتناء أمر البراء عليه، و عدم ملازمته لجريان السنن فيه. و أما قوله: «فنزل الكتاب بالقبلة» فحيث ذكرنا في الوجه السابق أن الكتاب لم ينزل بالتوجه للكعبة إلا في الصلاة، و أن الاستشهاد به يبتني علي التوسع،

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة حديث 6.

(2) راجع الوسائل باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة.

ص: 11

______________________________

فمن الممكن أيضا التوسع من حيثية الإلزام و عدمه. و بالجملة: الحديث المذكور لا يخلو عن اضطراب في نفسه، فلا مجال للتعويل عليه في المقام. و لا سيما مع ما في صحيح معاوية بن عمار عنه عليه السّلام: «قال: كان البراء بن معرور الأنصاري بالمدينة و كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بمكة و المسلمون يصلون إلي بيت المقدس فأوصي إذا دفن أن يجعل وجهه إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فجرت فيه السنة و نزل به الكتاب» «1»، و قريب منه صحيحه الآخر «2».

الخامس: مرسل الدعائم

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «من الفطرة أن يستقبل بالعليل القبلة إذا احتضر» «3». حيث يظهر من بعضهم الاستدلال به. و فيه- مع عدم ظهوره في الوجوب، لأن الفطرة أعم منه-: أن إرساله مانع من الاستدلال به. و دعوي: انجباره بالشهرة. ممنوعة، لعدم ظهور حال المشهور في الاعتماد عليه، بل ظاهرهم عدمه.

و أضعف منها دعوي: جبرها لضعف الدلالة فيه و في بقية النصوص المستدل بها، لما هو المعلوم من عدم نهوض الشهرة بضعف الدلالة. إلا أن تكشف عن قرائن قد خفيت علينا، و هو غير حاصل في المقام.

و مثلها الاستدلال ببعض النصوص الظاهرة في بيان كيفية الاستقبال لا في حكمه، كصحيح ابن أبي عمير عن ابراهيم الشعيري [و عن. يب في] غير واحد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في توجيه الميت. قال: تستقبل بوجهه القبلة و تجعل قدميه مما يلي القبلة» «4» و غيره.

هذا، و لو فرض تمامية دلالة بعض النصوص المتقدمة لزم رفع اليد عنها بصحيح سليمان بن خالد المتقدم الذي سبق قوة ظهوره في الأمر بالاستقبال بالميت بعد الموت، فإنه لا يناسب وجوبه قبله جدا. بل غاية ما يمكن البناء علي استحبابه، حيث قد يتسامح فيه فيحسن بيان الأمر به بعد الموت أيضا و لو بملاك آخر. مؤيدا بما في الإرشاد من قول النبي صلّي اللّه عليه و آله حين وفاته لأمير المؤمنين عليه السّلام: «ضع يا علي رأسي في حجرك فقد جاء أمر اللّه تعالي، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك و امسح بها وجهك،

______________________________

(1) الوسائل باب: 61 من أبواب الدفن حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 61 من أبواب الدفن حديث: 2.

(3) مستدرك الوسائل باب: 25 من أبواب الاحتضار و ما يناسبه حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 3.

ص: 12

______________________________

ثم وجهني إلي القبلة و تول أمري … » «1» و نحوه في المناقب «2».

و أما ما في الجواهر من احتمال إرادة الاستمرار علي الاستقبال بعد الموت منه، لا حدوثه بعده مع عدمه حال الاحتضار. قال: «و إلا فمن المعلوم أنه راجح، و يستبعد عدمه منه صلّي اللّه عليه و آله إن لم يمتنع». فهو كما تري، لأنه كالصريح في إرادة الحدوث لا الاستمرار، و لا غرابة في عدم حصوله منه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مع استحبابه، إذ قد لا تساعد عليه الظروف المحيطة به صلّي اللّه عليه و آله من حيثية المكان أو غيره.

و مثله ما ذكره قدّس سرّه من تأييد وجوب الاستقبال باستمرار العمل عليه في الأعصار و الأمصار، قال: «و ليس شي ء من المستحب يستمرون عليه كذلك، بل قد يعدون الموت إلي غيرها من سوء التوفيق و من الأمور الشنيعة. فتأمل».

إذ فيه: أنه لو تم ما ذكره من السيرة و الارتكاز فمن الظاهر أن عامة الناس كثيرا ما يهتمون ببعض المستحبات المتعلقة بالميت بنحو يزيد علي اهتمامهم بالواجبات، و إلا فلو كان الأمر بهذا الظهور لم يقع الخلاف من القدماء.

بل الانصاف أن ملاحظة حالات المحتضرين المختلفة و ما يحيط بهم كثيرا من ملابسات بدنية و نفسية و خارجية تقتضي استبعاد وجوب مثل هذا الأمر الذي كثيرا ما يصعب القيام به، و لا يسهل تشخيص بلوغ الكلفة فيه مرتبة الحرج أو التعذر المسقط للتكليف. نعم لا ينبغي التوقف في استحبابه بعد ما سبق من تمامية سند حديث زيد بن علي، و اعتضاده بمرسل الدعائم المتقدم.

بقي في المقام أمور:
الأول: ظاهر حديث زيد بن علي عليه السّلام الأمر بالاستقبال في تمام حال الاحتضار،

لظهور الفائدة التي تضمنها في الاستمرار في تمام الحال المذكور و مثله في ذلك مرسل الدعائم. غايته أن الأمر به انحلالي بنحو تعدد المطلوب، فالإخلال به أول حال الاحتضار لا ينافي الأمر به في ما يبقي منه، كما فعل صلّي اللّه عليه و آله و سلّم. أما بقية النصوص- لو تمت دلالتها- فالمتيقن منها كون الموت إلي القبلة بحيث يكون متوجها قبله آنا ما- كما قد

______________________________

(1) الإرشاد: 109 طبع النجف الأشرف سنة 1392 ه.

(2) المناقب ج 1: 203 طبع النجف الأشرف.

ص: 13

______________________________

يظهر مما يأتي عن الذكري- لأنه المتيقن من حمل الميت علي المشرف علي الموت، و ليس الاستقبال به حالة الاحتضار إلا لتحصيل ذلك.

نعم، لا يبعد لزوم المبادرة إليه في أول حال الاحتضار ظاهرا لو خيف قصره بحيث يفوت الاستقبال لو لم يبادر إليه، لصلوح الاحتضار عرفا لأن يكون أمارة علي الموت تصلح لتنجيز احتماله. هذا و حيث عرفت اختصاص دليل الاستقبال حال الاحتضار بحديث زيد و مرسل الدعائم، و أن ظاهرهما أو المتيقن منهما الاستحباب تعين البناء علي استحبابه في تمام الحال المذكور. فتأمل جيدا.

الثاني: قال في محكي الذكري: ان ظاهر الاخبار سقوط الاستقبال بموته،

«و أن الواجب أن يموت علي القبلة، و في بعضها احتمال دوام الاستقبال، و نبه عليه ذكره حال الغسل، و وجوبه حال الصلاة و الدفن و إن اختلفت الهيئة عندنا».

هذا، و لا يخفي أن ما كان من النصوص موضوعه المحتضر فلا موضوع له بعد الموت، بل خبر زيد بقرينة الفائدة المذكورة فيه ظاهر في تمامية الغرض من الأمر بالاستقبال إلي حين الموت. و ما كان منها موضوعه الميت فحيث لا يصح الاستدلال به إلا بعد حمله علي المشرف علي الموت أو علي الذات المعروضة له لا بقيده فهي و إن أمكن إرادة الاستمرار لما بعد الموت منها، إلا أن المتيقن من إطلاقها إرادة الموت حالة الاستقبال، لأن أخذ العنوان بلحاظ الأول أو المشارفة في مثل ذلك ظاهر في الاهتمام بحالة حصوله، لا الاكتفاء بصرف وجود الاستقبال و لو آنا ما.

و لا وجه لما في الروض و المدارك من أن مقتضي إطلاق النصوص الاستمرار عليه بعد الموت. و ما عن محكي المصابيح من ظهور صحيح سليمان بن خالد في ذلك.

بل كأنه مبني علي تنزيل الميت علي المتصف فعلا بالموت، الذي لو تم كان قاصرا عن حال الاحتضار، و هو خلاف الفرض. و من هنا يتعين الاقتصار في وجوب الاستقبال علي المتيقن عملا بأصالة البراءة، بناء علي ما هو التحقيق من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية و نحوها مما يكون موضوعه فعل المكلف الذي هو كلي قابل للتقييد، لعدم العبرة بالتسامح العرفي في موضوع الاستصحاب.

و إلا كان مقتضي الاستصحاب وجوب إبقائه مستقبلا ما لم يرفع عن الأرض،

ص: 14

______________________________

إذ لا يجب الاستقبال به حالة الرفع قطعا، فإذا وضع عليها كان مقتضي الاستصحاب عدم وجوب الاستقبال به.

و لا مجال لاستصحاب وجوبه بعده حتي بنحو الاستصحاب التعليقي. و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه ربما يجري، فيقال: كان قبل الرفع بحيث لو وضع لوجب الاستقبال به، فكذا بعد ما رفع. كما تري، فإنه لا يتعين بالقضية التعليقية قبل الرفع، إذ لا معني لوضعه قبل رفعه، بل المتيقن بضميمة وجوب الاستقبال به ما دام علي الأرض، و لا موضوع له بعد الرفع.

و مثله ما ذكره قدّس سرّه من ظهور قوله عليه السّلام في صحيح سليمان: «و كذلك إذا غسل» في عدم وجوب الاستقبال به بين الموت و التغسيل، و إلا كان المناسب أن يقول: إلي أن يغسل. و بذلك يمتنع الرجوع لاستصحاب وجوب الاستقبال ما لم يرفع و إن كان جاريا في نفسه.

لاندفاعه: بأن غلبة نقله قبل التغسيل عن موضعه تمنع من التعبير بما يدل علي استمرار وجوب الاستقبال إلي حين التغسيل، و إن كان واجبا كلما وضع علي الأرض.

فالعمدة ما ذكرنا من عدم جريان الاستصحاب لا قبل رفعه و لا بعده. فلاحظ.

هذا، كله بناء علي ظهور النصوص المتقدمة في الاستقبال حين الاحتضار. أما بناء علي ما ذكرنا آنفا من ظهور صحيح سليمان بن خالد و موثق معاوية بن عمار في الاستقبال به بعد الموت فالكلام يقع تارة: في حكمه، و أخري: في أمده.

أما الأول فلا مجال لاستفادة وجوبه من صحيح سليمان بن خالد، لأن الأمر فيه بالاستقبال قيدا في التسجية- التي سبق أنها بمعني التغطية المستحبة- يمنع من استفادة وجوبه من الأمر المذكور. و مجرد ظهور الأمر في أن المقصود الأصلي بالبيان هو القيد دون المقيد- كما تقدم آنفا- لا يكفي في حمله علي الوجوب بعد فرض عدم وجوب المقيد. فلم يبق إلا موثق معاوية الذي تقدم احتمال حمله علي كيفية الاستقبال دون حكمه، ليكون ظاهر الأمر فيه الوجوب، بل المتيقن منه الرجحان، و لو بنحو الاستحباب. فتأمل.

مضافا إلي ظهور عدم بناء الأصحاب علي ذلك، لعدم تنبيههم عليه، و إنما

ص: 15

______________________________

وقع كلامهم في الاستقبال حال الاحتضار، و من البعيد جدا اكتفاؤهم عن بيانه بمجرد غلبة إبقائه علي حالته حين الاحتضار الذي اختلفوا في وجوب الاستقبال به حينه و استحبابه. إذ قد لا يستقبل به حالة الاحتضار، عصيانا لوجوبه، أو للبناء علي استحبابه، أو لتعذره، فيحتاج لبيان وجوبه بعده لو كان ثابتا، لشدة الحاجة إليه، فعدم بيانهم ظاهر في مفروغيتهم عن عدمه، و حيث لا يمكن عادة خطؤهم في ذلك، بسبب شيوع الابتلاء بالمسألة، و لا سيما في الموارد الملفتة للنظر، كالوقائع الحربية التي يكثر فيها القتلي. لزم البناء علي عدم وجوبه. بل يأتي في صحيح يعقوب بن يقطين «1» التصريح بعدم وجوب الاستقبال حين التغسيل، و هو مناسب لعدم وجوبه قبله، لاستبعاد خصوصية التغسيل في عدم الوجوب، بل الأنسب أولويته بالوجوب. و من هنا يتعين البناء علي الاستحباب. فلاحظ.

و أما الثاني- و هو الكلام في أمد الاستقبال فمن الظاهر أن حديث سليمان بن خالد لم يتضمن بيان أمد الاستقبال، بل مجرد الأمر بإحداثه بعد الموت، إلا أن القطع بعدم إرادة صرف الوجود و لو آنا ما، و لا سيما مع أخذه قيدا في التسجية المبتنية علي الاستمرار، مستلزم لكون المتيقن منه إرادة الاستمرار مدة بقائه علي الأرض.

أما موثق معاوية بن عمار فحيث لم يكن الموضوع فيه الموت، بل الميت الذي هو عنوان استمراري، فهو ظاهر في أن الأمر بالاستقبال يستمر باستمراره، غايته أنه يسقط حالة رفعه و نقله عن موضعه، لاستبعاد الأمر به حينئذ و لو استحبابا، فلا ينافي ثبوته كلما وضع، عملا بإطلاقه. نعم بناء علي أن الموثق غير وارد للأمر بالاستقبال، بل لبيان كيفيته بعد الفراغ عن مشروعيته، فلا إطلاق له في مشروعيته، بل يقتصر فيه علي المتيقن المتقدم، و هو ما قبل رفعه في المرة الأولي. هذا كله قبل إكمال تغسيله، أما بعده فسيأتي الكلام فيه عند التعرض لكيفية الاستقبال إن شاء اللّه تعالي.

الثالث: صرح بعضهم بأنه لا فرق بين الرجل و المرأة في هذا الحكم،

كما صرح غير واحد بأنه لا فرق بين الصغير و الكبير. و من الظاهر أن حديث زيد بن علي عليه السّلام الذي هو عمدة ما تضمن الاستقبال حال الاحتضار وارد في قضية خاصة لا إطلاق

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 16

______________________________

لها، بل مورده الرجل. إلا أن الظاهر إلغاء خصوصيته عرفا و التعدي منه للمرأة.

كما لا يبعد التعدي منه للصغير و إن لم يخل عن إشكال، بلحاظ أن عدم بلوغه مرتبة التكليف و الخطاب و سقوط القلم عنه قد يناسب عدم حصول الفائدة التي تضمنها الحديث أو قلة الاهتمام بتحصيلها له. و أما صحيح سليمان بن خالد و موثق معاوية بن عمار الظاهران في الاستقبال بعد الموت فحيث كان موضوعهما الميت كان إطلاقهما شاملا للمرأة و الصغير بلا إشكال.

نعم، صرح غير واحد بقصور الحكم عن الكافر، بل ظاهر بعضهم المفروغية عنه. و كأنه لظهور كون الحكم المذكور كسائر أحكام الميت المذكورة له متفرعة علي احترامه، و لا حرمة للكافر. و لذا ورد التصريح بعدم ثبوت بعض أحكام الميت له في بعض النصوص، بل الظاهر الإجماع عليه في جميعها، علي ما يذكر في محله. مضافا إلي ما يأتي في غير المؤمن.

بل في الروض: «و قد كان ينبغي اختصاص الحكم بمن يعتقد وجوبه، فلا يجب توجيه المخالف إلزاما له بمذهبه، كما يغسل غسله و يقتصر في الصلاة علي أربع تكبيرات». و مراده بقرينة ذيل كلامه بإناطة الحكم بمن يعتقد ثبوته ليس هو كون اعتقاد المحتضر للوجوب منجزا له ظاهرا في حق الحاضرين له و اعتقاده عدمه معذرا منه في حقهم، لينافي ما هو المعلوم من أن المعيار في تنجيز الحكم علي المكلف اعتقاده، لا اعتقاد من يتعلق به الفعل، كالمحتضر في المقام، و الميت في أحكامه، و المتفق عليه في وجوب النفقة و غيرهم، بل مراده أن اعتقاد المحتضر المخالف لعدم الوجوب رافع له في حق الحاضرين واقعا، لقاعدة الإلزام الجارية في حق المخالفين و نحوهم من أهل الأديان الباطلة. و منه يظهر أنه لا مجال لما في حاشية جمال الدين الخوانساري من الإشكال عليه بأن المناط رأي الحاضر لا الميت.

نعم، قد يشكل ما ذكره قدّس سرّه بعدم وضوح كون المورد من صغريات قاعدة الإلزام، لأن الاستقبال بالميت و إن كان من شئون احترامه، إلا أنه لم يتضح كونه من حقوقه التي يكون سقوطها مقتضي إلزامه، و لا سيما الاستقبال به بعد الموت. و أما الاستشهاد لذلك بأنه يغسل غسله، و يقتصر في الصلاة عليه علي أربع تكبيرات. فلا

ص: 17

______________________________

مجال له، لعدم وضوح ثبوت الأول، و دلالة النصوص الخاصة علي الثاني في الجملة.

و يأتي الكلام فيهما في محله إن شاء اللّه تعالي.

فالعمدة في المقام حديث زيد- الذي هو عمدة الدليل علي الاستقبال حال الاحتضار- وارد في قضية خاصة لا إطلاق لها، و موردها غير المخالف، لعدم ظهور الخلاف و الافتراق بين الأمة إلا بعد النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم. بل التعليل فيه لا يناسب العموم للمخالف. كما أن المتيقن من قوله عليه السّلام في صحيح سليمان بن خالد الوارد في الاستقبال بعد الموت: «إذا مات لأحدكم ميت» هو المؤمن، لأن إضافته للمخاطبين قد يكون بلحاظ اخوته معهم في الدين. نعم الظاهر ثبوت الإطلاق لموثق معاوية بن عمار الذي تقدم أنه وارد في الاستقبال بعد الموت أيضا، بناء علي أنه وارد لبيان الأمر بالاستقبال، لا لبيان كيفيته بعد الفراغ عن مشروعيته، فيحتاج إخراج المخالف منه لدعوي انصرافه عنه بلحاظ عدم أهليته للاحترام. فتأمل.

الرابع: لا إشكال في سقوط وجوب الاستقبال- لو تم في نفسه- واقعا بتعذره.

و الظاهر سقوطه عن التنجز بالجهل بالقبلة و اشتباهها بين جميع الجهات، كما نبه له في الجملة غير واحد، لتعذر الاحتياط فيه بالتكرار، و انحصار الأمر بالاحتمال الذي هو حاصل علي كل حال. لكن عن الذكري احتمال الوجوب بالنسبة للأربع جهات، فضلا عن الجهتين.

و هو كما تري، إذ بناء علي أن الواجب هو الاستقبال في خصوص حال الموت فالجمع بين أكثر من جهة متعذر فيه، و بناء علي أن الواجب الاستقبال في تمام حال الاحتضار فالجمع بين أكثر من جهة فيه و إن كان ممكنا إلا أن الموافقة القطعية الإجمالية معه مقترنة بالمخالفة كذلك، و من ثم لا تترجح علي الموافقة الاحتمالية الحاصلة بتوجيهه إلي جهة واحدة، علي ما ذكرناه عند الكلام في أن التخيير عند الدوران بين محذورين ابتدائي أو استمراري. و إنما يتم ما ذكره لو كان الواجب هو مسمي الاستقبال و لو في آن ما من حال الاحتضار، حيث يمكن حينئذ الاحتياط التام بجعله في حال الاحتضار إلي تمام الجهات الأربع. لكن لا يظن بأحد البناء عليه.

نعم، لا يبعد البناء علي حرمة المخالفة القطعية بالتوجه إلي ما يعلم بخروجه

ص: 18

بأن يلقي علي ظهره و يجعل وجهه و باطن رجليه إليها (1).

______________________________

عن القبلة، لأن تعذر الموافقة القطعية لا يستلزم جواز المخالفة القطعية، علي ما ذكرناه في مباحث العلم الإجمالي من الأصول. كما أن الكلام في سعة الاستقبال مطلقا أو في حال الجهل بها، و الكلام في طرق التعبد بها حال الجهل موكول إلي محله من مباحث القبلة من كتاب الصلاة.

كيفية استقبال المحتضر و الميت
اشارة

(1) كما صرح به جماعة من الأصحاب، و يظهر من غير واحد أنه من المسلمات، بل في المعتبر و التذكرة و المستند و ظاهر كشف اللثام دعوي الاجماع عليه، و عن الذخيرة نفي الخلاف فيه، و عن الخلاف دعوي الإجماع عليه، و يأتي التعرض لما ذكره.

و يقتضيه النصوص الكثيرة المتقدم بعضها بعد الجمع بينها و ضم بعضها إلي بعض، حيث تضمن بعضها الاستقبال بالوجه و القدمين- كصحيحي سليمان بن خالد و ابن أبي عمير عن الشعيري «1» المتقدمين- و بعضها الاستقبال بالقدمين- كموثق معاوية بن عمار «2» المتقدم و مرسل الصدوق «3» - و بعضها الاستقبال بالوجه كصحيح ذريح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «و إذا وجهت الميت للقبلة فاستقبل بوجهه القبلة لا تجعله معترضا كما يجعل الناس، فإني رأيت أصحابنا يفعلون ذلك، و قد كان أبو بصير يأمر بالاعتراض، أخبرني بذلك علي بن أبي حمزة «4». فإذا مات الميت فخذ في جهازه» «5». فإن المستفاد من مجموعها لزوم الامتداد نحو القبلة بنحو تكون في جهة الرجلين، في مقابل ما إذا كانت في جهة الرأس، و الاعتراض الذي عليه بعض العامة، و يراد بالاستقبال بالوجه ما يحصل بسبب انحداره إلي أسفل خصوصا مع رفع الرأس قليلا علي الوسادة و نحوها.

نعم، لم تتضمن النصوص الاستلقاء علي الظهر، بل مقتضي إطلاقها تأدي الوظيفة بالاضطجاع علي أحد الجانبين، و بالانكباب علي الوجه، و بالجلوس مع مدّ الرجلين الذي كثيرا ما يكون المريض عليه. كما يناسبه اشتراك حالتي التغسيل

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 4.

(4) لا يبعد أن يكون قوله: (فإني رأيت … إلي قوله: أبي حمزة) من كلام بعض رجال السند. (منه عفي عنه)

(5) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

ص: 19

______________________________

و الاحتضار في كيفية الاستقبال مع تضمن جملة من نصوص التغسيل «1» إقعاده، و إضجاعه علي كل من الجانبين، في أثناء التغسيل، و منها ما تضمن الأمر بالاستقبال به «2». و هو مقتضي إطلاق المقنعة و الخلاف- مدعيا فيه الإجماع علي الكيفية- و النهاية و المراسم و الوسيلة و غيرها، و لعل ذكر جماعة من الأصحاب الاستلقاء علي الظهر لأنه الأيسر علي المحتضر غالبا، و الأسهل في توجيه الميت بعد الموت، أو لتخيلهم وجوبه بسبب السيرة، التي قد تكون ناشئة عن ذلك، و لا مجال لمتابعتهم فيه بعد ما ذكرنا.

هذا، و لو تعذرت الكيفية المذكورة، كما لو كان منحرف الرجلين فوجوب الممكن منها بامتداد باقي الجسد للقبلة لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح جريان قاعدة الميسور في ذلك بعد عدم تمامية العمومات المستدل بها. اللهم إلا أن يستفاد من النصوص أن ذكر الاستقبال بباطن القدمين للكناية عن امتداد البدن نحو القبلة و إن كانت الأطراف منحرفة عنها، في مقابل الاعتراض، فيدخل ذلك في الاطلاق بلا حاجة لقاعدة الميسور. فتأمل.

و أشكل من ذلك ما في العروة الوثقي من الانتقال إلي الكيفيات الأخري في الاستقبال بتوجيهه جالسا، أو مضطجعا علي الأيمن أو الأيسر مع تعذر الجلوس.

فإن الظاهر أن مراده الاضطجاع علي أحد الجانبين مع الاعتراض الذي هو أحد وجوه الاستقبال حال الصلاة. و يشكل- مضافا إلي ما ذكرناه من عدم جريان قاعدة الميسور في المقام- بأن الاضطجاع لا يعد ميسورا عرفا للكيفية المطلوبة، و لا دليل آخر علي بدليته منها. بل هو بالنحو المذكور ينافي ما تضمن النهي عن الاعتراض، كما أشار إليه في الجواهر. نعم تقدم أن الجلوس في الجملة داخل في الكيفية المطلوبة، و مشمول لإطلاق أدلتها. فلاحظ.

بقي شي ء:

و هو أن يعقوب بن يقطين روي في الصحيح قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الميت كيف يوضع علي المغتسل، موجها وجهه نحو القبلة أو يوضع علي يمينه و وجهه نحو القبلة؟ قال: يوضع كيف تيسر، فإذا طهر وضع كما يوضع في

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت.

(2) الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 3، 5.

ص: 20

بل الأحوط وجوب ذلك علي المحتضر نفسه إن أمكنه ذلك (1)

______________________________

قبره» «1». و مقتضاه تبدل هيئة الاستقبال بعد الغسل.

نعم، الظاهر عدم وجوب ذلك، لعدم تنبيه الأصحاب عليه، حيث يظهر منهم البناء علي عدم الوجوب، و لو كان واجبا لم يخف عليهم لشيوع الابتلاء بذلك، كما تقدم في نظيره.

هل يعتبر استئذان الولي في الاستقبال
اشارة

(1) كما استظهره في الجواهر و شيخنا الأعظم قدّس سرّه. و هو غير بعيد. من دون فرق بين البناء علي كونه واجبا كفائيا و كونه مختصا ببعض المكلفين، كالولي أو الحاضرين، فإن اهتمام الشارع بإيصال النفع إليه بفعل الغير يناسب تكليفه به مع قدرته عليه، و إن كان ذلك لا يناسب الجمود علي مفاد النصوص. بل في الجواهر أنه قد يدعي اختصاص الوجوب به حينئذ، لانصراف الأمر للغير في الأخبار السابقة إلي الغالب من صورة عجزه، بنحو يمنع من حجية إطلاقها في فرض قدرته، و لم يستبعده شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن اهتمام الشارع بإيصال النفع إليه مع عجزه بتكليف الغير لا ينافي عموم تكليف الغير لصورة قدرته، و لا سيما إذا كان معذورا لغفلة أو نحوها، ليعتد بالانصراف المدعي. فتأمل.

هذا، و لو كان الاستقبال به بعد الموت واجبا فلا مجال للبناء علي تكليفه به بحيث يجب عليه تحصيله بتهيئة مقدماته لو احتمل فوته بعد الموت بدونها، لعدم وضوح كون الغرض منه فائدة عائدة إليه، ليجري فيه ما سبق.

بقي في المقام أمران:
الأول: صرح في الشرائع و غيره بأن التكليف بالاستقبال كفائي،

بل في الجواهر:

«بلا خلاف أجده فيه». و قد يظهر من بعض عباراتهم مشاركته لبقية أحكام الميت في وجه ذلك. و لا يخلو عن إشكال بعد كون عمدة الدليل عليه حديث زيد، و لا ظهور له في عموم الخطاب للمكلفين، بل هو ظاهر في تكليف خصوص الحاضرين- كما قد يظهر من كلام المقنعة الآتي في التلقين-. و إلغاء خصوصيتهم عرفا غير ظاهر، لقرب

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 21

______________________________

خصوصيتهم بسهولة ذلك عليهم.

و منه يظهر أنه لا مجال لاستفادة العموم من التعليل، بدعوي: أن اهتمام الشارع بإيصال النفع المذكور للمحتضر لما كان بنحو يقتضي تكليف غيره فلا خصوصية للحاضر فيه. لاندفاعها بأن الاهتمام المذكور قد لا يكون بمرتبة تقتضي تكليف غير الحاضر ممن يكون التكليف عليه أشق من التكليف علي الحاضر.

نعم، بناء علي ما ذكرنا من استحبابه لا يبعد البناء علي عموم المكلفين بلحاظ التعليل المذكور، لعموم حسن إيصال النفع للمؤمن.

هذا، و أما الاستقبال بعد الموت فالمتيقن من صحيح سليمان بن خالد «1» توجه الخطاب به لأهله، و مقتضي إطلاق موثق معاوية بن عمار «2» توجيهه لعموم المكلفين، بناء علي وروده للأمر به، لا لبيان كيفيته بعد الفراغ عن مشروعيته.

هذا، و قد ادعي في الحدائق أن جميع أحكام الميت- و منها أحكام الاحتضار- متوجهة إلي الولي. و هو مبني.. أولا: علي كون المورد من موارد الرجوع للولي. و ثانيا:

علي منافاة الرجوع للولي لتكليف غيره. و سيأتي في الأمر الثاني المنع من الأول، و في المسألة الثانية في الفصل الثاني المنع من الثاني.

الثاني: صرح في العروة الوثقي بلزوم استئذان الولي في الاستقبال المذكور.
اشارة

و قد يظهر مما سبق من الحدائق من الكلام في اختصاص التكليف اختباره.

و قد يستدل عليه بوجوه:

أولها: عموم ما دل علي أن أولي الناس بالميت أولاهم بميراثه،

لدعوي: عمومه للمقام، لعموم بعض معاقد الإجماع الذي هو الدليل عليه. قال في الجواهر: «قد يظهر من جامع المقاصد و غيره فيما يأتي تعميم حكم الولاية بالنسبة إلي سائر أحكام الميت، بل استظهر في الأول الإجماع علي ذلك».

و يشكل بعد ثبوت العموم المذكور، و المتيقن من معقد الإجماع المدعي في جامع المقاصد غير ذلك مما يترتب بعد الموت، كالتغسيل و ما بعده.

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 4.

ص: 22

و ذكر العلماء رضي اللّه عنهم أنه يستحب نقله إلي مصلاه (1)

ثانيها: قوله تعالي: و أولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب اللّه

______________________________

(وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ) «1».

و يشكل بأنه ظاهر في تعيين الأولي بعد الفراغ عن كون المورد من موارد الحاجة للأولي، لا في بيان توقف الأفعال علي مراجعة الولي، فلو تم إطلاق الخطاب بالأحكام يقتضي عدم الحاجة إليه كان واردا عليه.

ثالثها: أن التوجيه المذكور تصرف في بدن المحتضر لا يجوز بغير إذن الولي.

و فيه.. أولا: أن ولي المحتضر نفسه مع كماله، و وليه الخاص مع الحجر عليه.

و لازم ذلك الاستئذان من أحدهما مع الإمكان، و بدونه لا وجه للاكتفاء بإذن الولي في تجهيزه، لاختصاص دليل ولايته بما بعد الموت، بل يلزم الرجوع لما تقتضيه القواعد فيمن لا ولي عليه مع الاحتياج للولي، من الرجوع للحاكم الشرعي- لو تم عموم ولايته- أو لما تقتضيه القواعد في الأمور الحسبية من الاقتصار علي المتيقن باستئذان كل من يحتمل اعتبار إذنه.

و ثانيا: أن مقتضي إطلاق الخطاب بالتوجيه للقبلة حال الاحتضار و بعد الموت في النصوص السابقة جواز التصرف في بدن المحتضر و الميت بذلك من دون إذن، و به يخرج عن عموم الحرمة.

و دعوي: أن النصوص المذكورة واردة لبيان وجوب التوجيه من دون نظر للسلطنة علي القيام به. ممنوعة، بل الظاهر منها جواز القيام به فعلا و سلطنة المخاطبين به عليه بنحو يستغني عن الاستئذان من أي شخص. و لعله لذا ذكر في الجواهر أنه قد يظهر من الأصحاب عدم اعتبار إذن الولي، لعدم تعرضهم لذلك. ثم إنه لا يفرق في ذلك بين البناء علي وجوب الاستقبال و البناء علي استحبابه. كما أنه ينفع في الآداب الآتية، و لو كان في بعضها مخرج عنه ينبه عليه إن شاء اللّه تعالي.

في استحباب نقل المحتضر إلي مصلاه إن اشتد عليه النزع

(1) كما تضمنته جملة من النصوص. ففي موثق ليث أو صحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إن أبا سعيد الخدري قد رزقه اللّه هذا الرأي و أنه اشتد نزعه

______________________________

(1) سورة الأنفال: 75.

ص: 23

______________________________

فقال: احملوني إلي مصلاي فحملوه فلم يلبث أن هلك» «1». و قريب منه غيره في قصة أبي سعيد، و ما تضمن الأمر به ابتداء.

لكن في صحيح عبد اللّه بن سنان عنه عليه السّلام: «إذا عسر علي الميت موته و نزعه قرب إلي مصلاه الذي كان يصلي فيه» «2» و في خبر حريز عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال:

إذا دخلت علي مريض و هو في النزع فقل له: ادع بهذا الدعاء يخفف اللّه عنك … ثم لقنه كلمات الفرج، ثم حول وجهه إلي مصلاه الذي كان يصلي فيه، فإنه يخفف عنه و يسهل أمره بإذن اللّه» «3». و قد يحملان بقرينة النصوص الأخر علي الكناية عن النقل إلي المصلي، و إلا يطرحان لعدم نهوضهما بمعارضة النصوص الأخر، لأنها أظهر، و أشهر رواية، و عليها عمل الأصحاب، مع بعد الجمع بالحمل علي التخيير. فتأمل.

هذا، و أما الاستدلال عليه في المعتبر بأن مواطن الصلاة مظنة الرحمة و هو مقام استرحام. فهو كما تري، إذا الظن بنفسه لا ينهض بالمطلوب، بل لا بد فيه من النصوص، فتكون هي العمدة في المقام.

ثم إن الظاهر من المصلي في النصوص و جملة من الفتاوي المكان الذي يصلي فيه، لأن ذلك هو مفاد الهيئة، و مقتضي التوصيف في بعض النصوص بقوله: «الذي يصلي فيه» و المناسب للأمر في جملة منها بنقل المحتضر و حمله إليه، لظهوره في كون المصلي ثابتا لا ينقل.

لكن في الفقيه و نسخة من المقنع و المسالك و الروض و الروضة و كشف اللثام و عن المدارك و غيرها أنه الذي كان يصلي فيه أو عليه، و ظاهر جملة منها إرادة التخيير بين المكان الذي يصلي فيه و الفراش الذي يصلي عليه. و كأنه لصحيح زرارة:

«قال: إذا اشتد عليه النزع فضعه في مصلاه الذي كان يصلي فيه أو عليه» «4»، بحمله علي التوسع في إطلاق المصلي علي فراش الصلاة لتنزيله منزلة مكانها، فيكون للمصلي فردان: حقيقي، و هو مكان الصلاة، و مجازي، و هو فراشها، أشير لكل منهما في صلة الموصول الذي أريد بتوصيف المصلي به شرحه. و منه يظهر أنه لا يبتني علي استعمال

______________________________

(1) الوسائل باب: 40 من أبواب الاحتضار حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 40 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 40 من أبواب الاحتضار حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 40 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

ص: 24

إن اشتد عليه النزع (1)،

______________________________

المصلي في معنيين، كما أشار إليه سيدنا المصنف قدّس سرّه.

لكن ذلك ليس بأولي من حمل: «أو عليه» في الصحيح علي خصوص الأرض التي يصلي عليها، و يكون العطف بين أمرين متلازمين خارجا، نظير العطف بين المترادفين، كما هو الظاهر من بعض نسخ المقنع، حيث قال: «الذي يصلي فيه أو عنده».

و لعل الثاني أنسب بلحاظ تضمن الصحيح الأمر بوضع المحتضر في المصلي، الظاهر في كونه من سنخ المكان الثابت الذي ينقل إليه المحتضر، لا المنقول الذي يوضع تحته.

و أشكل من ذلك ما في الوسيلة من الجمع بين الأمرين، حيث قال: «و نقله إلي موضع صلاته، و بسط ما كان يصلي عليه تحته» و نحوه ما عن ابن سعيد، حيث لا شاهد علي ذلك. إلا أن يبتني علي دعوي إجمال المصلي في النصوص و تردده بين المكان و الفراش، فيحتاط بالجمع بينهما. و يظهر ضعفه مما تقدم.

(1) كما قيده بذلك في المقنع و المبسوط و النهاية و الوسيلة و السرائر و التذكرة و المنتهي و القواعد و الدروس و غيرها، بل لعله المعروف. لأن النصوص بين ما قيد فيه به كصحيح عبد اللّه بن سنان المتقدم و غيره، و ما اختص مورده به، كحديث ليث المتقدم و غيره.

و أطلق في الشرائع و النافع و المعتبر و الإرشاد و اللمعة، بل في الحدائق أنه ظاهر الأكثر، و إن لم يتضح لنا وجهه بعد ما عرفت منهم. و قد يستدل له- مضافا إلي عموم الوجه الاعتباري المتقدم من المعتبر، و الذي عرفت حاله- بأن المناسبات الارتكازية تقضي بمطلوبية الكون في المصلي، و أن ذكر الفائدة التي تضمنتها النصوص من تسهيل أمره إنما هو لتأكيد الداعي لذلك ببيان الفائدة، لا بنحو تكون قيدا في المطلوبية. و لا سيما و أن الفائدة المذكورة كما تقتضي النقل بعد اشتداد النزع لتخفيف الأمر كذلك تقتضي النقل بدونه لتجنب حصول الشدة.

و استشكل فيه في الجواهر بورود النهي عن مس المحتضر «1»، و بمخالفته لمفهوم

______________________________

(1) الوسائل باب: 44 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

ص: 25

______________________________

الشرط في بعض النصوص الموافق لفتوي الأكثر.

و يندفع: بأنه لا تلازم بين النقل و المس الممنوع عنه، و لو استلزمه أشكل الحال حتي مع اشتداد النزع، و لذا جمع في الرضوي بين الأمر بالنقل مع اشتداد النزع و النهي عن المس «1». و لا مجال للتعويل علي المفهوم مع التعليل المتقدم، بل يتعين حمله علي أنه مسوق لتحقيق مورد شدة الحاجة لذلك، فلا ينافي المطلوبية بدونه. كما قد يمكن ذلك في عبارات الأكثر علي أنها لا تنهض بالخروج عن ظاهر التعليل.

اللهم إلا أن يقال: الوجه المذكور إنما يقتضي رجحان كون المحتضر في المصلي مطلقا، و هو لا يستلزم استحباب نقله إليه في حق الغير، إذ قد ينافي سلطنته أو سلطنة وليه علي نفسه و ماله، بل لا بد في استحبابه في حق الغير فعلا من ترخيص الشارع له فيه، الذي هو أولي بالمحتضر من نفسه، و المتيقن منه صورة اشتداد النزع، لاختصاص النصوص به. و لا مانع من اختصاص الاستحباب بها مع عموم التعليل المتقدم، لأن اهتمام الشارع بالنقل للمصلي أو بحصول فائدته المذكورة للمحتضر قد لا تكون بمرتبة تقتضي رفع اليد عن السلطنة إلا في حال النزع و فعلية الحاجة للفائدة المذكورة.

و بعبارة أخري: الوجه المتقدم إنما يقتضي رجحان كون المحتضر في المصلي مطلقا بحيث يحسن منه نفسه السعي له و لو بالأمر بنقله إليه، و كذا من غيره لو لم يناف السلطنة، كما لو كان مفوضا إليه الأمر من قبله. و يعضده في ذلك ما عن مصباح الأنوار عن سلمي ممرضة الزهراء عليها السّلام قالت: «ثم قالت يا سلمي هلمي ثيابي الجدد فأتيتها بها فلبستها، ثم جاءت إلي مكانها الذي تصلي فيه فقالت: قربي فراشي إلي وسط البيت، ففعلت، فاضطجعت … » «2».

أما مع منافاته للسلطنة فلا يجوز له إلا في حال اشتداد النزع عليه، لأنه المتيقن من النصوص. و منه يظهر أنه لا مجال للاستدلال علي استحباب النقل بنحو ينافي السلطنة بما ورد في قصة أبي سعيد الخدري حتي في صورة اشتداد النزع، لصراحة حديث ليث المتقدم في إذن أبي سعيد نفسه بذلك. اللهم إلا أن تكون حكاية

______________________________

(1) كتاب الفقه الرضوي: 17.

(2) مستدرك الوسائل باب: 30 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

ص: 26

و تلقينه الشهادتين (1)،

______________________________

الامام عليه السّلام للقصة ظاهرة في الحث علي النقل للمصلي، و حيث يغلب تعذر استئذان المحتضر مع اشتداد النزع عليه يكون ظاهرا في عدم اعتبار إذنه. علي أنه يكفي إطلاق صحيحي عبد اللّه بن سنان و زرارة المتقدمين، معتضدا بإطلاق النصوص الأخر التي لم تبلغ أسانيدها درجة الاعتبار. فتأمل.

استحباب تلقين المحتضر الشهادتين و الإقرار بالنبي ص و الأئمة ع و سائر الاعتقادات الحقة
اشارة

(1) و يقتضيه- مضافا إلي رجحانه ذاتا، خصوصا في هذا الحال الذي يكون الملقّن فيه أحوج ما يكون للتذكير بالحق و الثبات عليه- النصوص، ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا حضرت الميت قبل أن يموت فلقنه شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، و أن محمدا عبده و رسوله» «1». بل في خبر أبي خديجة عنه عليه السّلام: «ما من مؤمن يحضره الموت إلا وكّل به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر و يشككه في دينه حتي يخرج نفسه [فمن كان مؤمنا لم يقدر عليه] «2» فإذا حضرتم موتاكم فلقنوهم شهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله حتي يموتوا» «3».

و ظاهره استحباب الاستمرار عليها حتي الموت.

لكن في موثق إسحاق بن عمار عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام: «إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه، فإن من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنة» «4» و نحوه غيره مما هو صريح في استحباب الختم بلا إله إلا اللّه، الذي قد لا يحرز إلا بتكرارها وحدها عدة مرات، و مقتضي القاعدة- بعد غض النظر عن ضعف سند الأول- الجمع باستحباب كلا الأمرين، و إن كان الثاني أفضل لظهور دليله في قوة ملاكه.

و أما الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام و عن حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال إنكم تلقنون موتاكم عند الموت لا إله إلا اللّه، و نحن نلقن موتانا محمد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله» «5». فلا يبعد حمله علي إرادة ضم التلقين بالرسالة للتلقين

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

(2) ما بين القوسين ساقط في رواية الحديث مرسلا في الفقيه.

(3) الوسائل باب: 36 من أبواب الاحتضار حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 36 من أبواب الاحتضار حديث: 9.

(5) الوسائل باب: 36 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

ص: 27

______________________________

بالتوحيد، في مقابل ما قد ينسب للعامة أو يتوهم من مثل موثق إسحاق المتقدم من الاقتصار علي التوحيد، لا علي إرادة الاقتصار علي التلقين بالرسالة، لمنافاته للنصوص الكثيرة المشتملة علي الأمر بالتلقين بالتوحيد.

و أما ما عن الوافي من أن ذلك لأنهم مستغنون عن تلقين التوحيد، لأنه خمّر بطينتهم. فهو كما تري، لأن المراد بموتانا إن كان هو الأئمة عليهم السّلام فلا فرق معتد به بين التوحيد و الرسالة في حقهم. مع أنهم مستغنون عن التلقين مطلقا، و لذا لم يرو في شي ء من الأخبار المتضمنة لنقل كيفية وفاياتهم عليهم السلام. و إن كان هو غيرهم عليهم السّلام من أقربائهم نسبا و سببا و مواليهم و نحوهم، لبيان الحث علي ذلك- كما هو الظاهر- فهم في حاجة للأمرين، بل تضمنت بعض النصوص الآتية تلقينهم عليهم السّلام بعض بني هاشم كلمات الفرج أو نحوها، كما تضمنت النصوص المتقدمة الحث علي تلقين التوحيد، و قد ذكر أكثر ذلك في الحدائق و الجواهر.

هذا، و المعروف بين الأصحاب استحباب التلقين، بل في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه، و في كشف اللثام أنه اتفاقي. لكن في المقنعة: «و إذا حضر العبد المسلم الوفاة فالواجب علي من يحضره من أهل الإسلام أنه يوجهه إلي القبلة … ثم يلقنه: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، و أن محمدا عبده و رسوله و أن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السّلام ولي اللّه القائم بالحق بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و يسمي الائمة له واحدا [واحدا.

ظ] ليقر بالإيمان … و يستحب أن يلقن كلمات الفرج». و هو ظاهر في وجوب التلقين بقرينة عطفه علي الواجب و تعقيبه باستحباب تلقين كلمات الفرج، و إن كان هو بعيدا في نفسه بعد ظهور إطباق الأصحاب علي الاستحباب حتي لم يشيروا إلي خلافه.

و من ثم لا يبعد حمله علي شدة الاستحباب، الذي لو تم جري في الاستقبال أيضا.

و كيف كان، فلا مجال للبناء علي الوجوب بعد ما عرفت من الأصحاب، لما تكرر في نظائره من استبعاد خطئهم في مثل ذلك مما يشيع الابتلاء به. بل نصوص التلقين بالشهادتين و بكلمة الاخلاص وحدها ظاهرة في جواز الاقتصار علي ما تضمنته و عدم وجوب التلقين بما زاد عليه كالولاية. و أما التعليل فلا مجال لسوقه قرينة علي الاستحباب بعد وضوح كون الفائدة دفع خطر الهلكة، حيث لا بعد في

ص: 28

و الإقرار بالنبي صلّي اللّه عليه و آله (1) و الأئمة عليهم السّلام (2)، و سائر الاعتقادات الحقة (3)،

______________________________

وجوب تحصيل ذلك للمحتضر علي من حضره. و لا أقل من عدم نهوض النصوص المشتملة علي التعليل برفع اليد عن النصوص الخالية عنه لو كانت ظاهرة في الوجوب.

فلاحظ.

(1) الإقرار به صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إنما هو بالاقرار برسالته، و هو حاصل بالشهادتين.

(2) كما يقتضيه- مضافا إلي رجحانه ذاتا، كما تقدم في الشهادتين، و إلي ما تقدم في خبر أبي خديجة من رفع التلقين خطر تشكيك الشيطان المحتضر في دينه- خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام و فيه: «فقال: أما إني لو أدركت عكرمة قبل أن تقع النفس موقعها لعلمته كلمات ينتفع بها، و لكني أدركته و قد وقعت موقعها. فقلت: جعلت فداك و ما ذاك الكلام؟ قال: هو و اللّه ما أنتم عليه، فلقنوا موتاكم عند الموت شهادة أن لا إله إلا اللّه و الولاية» «1».

و أما ما في صحيح زرارة: «فقال أبو جعفر عليه السّلام: لو أدركت عكرمة عند الموت لنفعته. فقيل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: بما إذا كان ينفعه؟ قال: يلقنه ما أنتم عليه» «2». فهو لا يدل علي استحباب تلقين المحتضر إذا كان من أهل الحق، بل علي انتفاع من ليس علي الحق بالإقرار به حتي حال الاحتضار، كما تضمنته جملة من النصوص. و حينئذ يدل علي استحباب تلقينه به أو وجوبه عند احتمال الاستجابة ما تضمن الأمر بالدعوة للحق و إرشاد الضالين.

(3) كالبعث و النشور و فرائض الإسلام و القبلة و غيرها من ضروريات الدين المميزة له. و لا دليل عليه من النصوص. و أما استفادته من إطلاق قوله عليه السّلام في حديثي أبي بصير و زرارة: «ما أنتم عليه». فتشكل بأنه- مضافا إلي ما سبق من عدم نهوضه باستحباب التلقين، بل بانتفاع من ليس علي الحق بالإقرار به حين الاحتضار- منصرف إلي الولاية التي بها امتياز عقيدة أهل الحق عن غيرهم ممن كان منهم عكرمة.

فينحصر وجه استحبابه بكونه راجحا ذاتا، و مؤكدا و مجلبا للإقرار بالدين

______________________________

(1) الوسائل باب: 37 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

ص: 29

و تلقينه كلمات الفرج (1)،

______________________________

الذي تضمنت بعض النصوص المتقدمة و غيرها تعرض المحتضر للتشكيك فيه.

نعم، في معتبرة سليمان بن جعفر عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام الحث من النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي الإقرار عند الموت أمام من يحضر بجملة من العقائد الحقة مقدمة للوصية، و أن من ترك الوصية بالنحو المذكور كان نقصا في مروته و عقله «1».

(1) و يقتضيه- مضافا إلي خبر حريز «2» و مرسلتي الكليني «3» و الصدوق «4» غير المتعرضة لشرحها- صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إذا أدركت الرجل عند النزع فلقنه كلمات الفرج: لا إله إلا اللّه الحليم الكريم لا إله إلا اللّه العلي العظيم سبحان اللّه رب السماوات السبع و رب الأرضين السبع و ما فيهن و ما بينهن [و ما تحتهن. في، يب] و رب العرش العظيم و الحمد للّه رب العالمين» «5».

و في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله دخل علي رجل من بني هاشم و هو يقضي فقال له رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: قل: لا إله إلا اللّه العلي العظيم، لا إله إلا اللّه الحليم الكريم سبحان اللّه رب السماوات السبع و رب الأرضين السبع و ما بينهن [و ما تحتهن. فقيه، ئل] و رب العرش العظيم و الحمد للّه رب العالمين. فقالها فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: الحمد للّه الذي استنقذه من النار» «6». و رواه الصدوق مرسلا- كما في المطبوع الجديد منه، و حكاه عنه في كشف اللثام و الحدائق و الرياض، كما حكاه في الجواهر عن نسخة من هامش ما حضره من نسخه، و إن أهمله في الوسائل و محكي الوافي-: «و سلام علي المرسلين و الحمد للّه رب العالمين». كما زاد بعده قوله: «و هذه الكلمات هي كلمات الفرج» «7».

و في معتبرة القداح عنه عليه السّلام: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام إذا حضر أحدا من أهل

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 40 من أبواب الاحتضار حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 37 من أبواب الاحتضار حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 38 من أبواب الاحتضار حديث: 4.

(5) الوسائل باب: 38 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

(6) الوسائل باب: 38 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

(7) الوسائل باب: 38 من أبواب الاحتضار حديث: 2. و من لا يحضره الفقيه ج 1: 77 طبع النجف الأشرف.

ص: 30

______________________________

بيته الموت قال له: قل: [لا إله إلا اللّه الحليم الكريم. يب، ئل] لا إله إلا اللّه العلي العظيم سبحان اللّه رب السماوات السبع و [رب] الأرضين السبع و ما بينهما [بينهن] و رب العرش العظيم و الحمد للّه رب العالمين فإذا قالها المريض قال: اذهب فليس عليك بأس» «1».

و المتعين العمل في تعيين كلمات الفرج علي صحيح زرارة، لتصريحه بشرحها دون غيره، و يتعين الجمع بينه و بين صحيح الحلبي و معتبر القداح باستحباب التلقين بمضمونهما و إن لم يكن مطابقا لكلمات الفرج. و مجرد تقارب مضامينها لا يلزم بكونها جميعا في مقام بيان كلمات الفرج بنحو يمنع من الجمع المذكور. و ما تقدم من الصدوق بعد ذكر مضمون صحيح الحلبي لا يبعد كونه اجتهادا منه. و لو كان من تتمة الرواية فليست بحجة بعد إرساله.

و يجري ذلك في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: القنوت [قنوت] يوم الجمعة في الركعة الأولي بعد القراءة تقول في القنوت: لا إله إلا اللّه الحليم الكريم لا إله إلا اللّه العلي العظيم لا إله إلا اللّه رب السماوات السبع و رب الأرضين السبع و ما فيهن و ما بينهن و رب العرش العظيم و الحمد للّه رب العالمين … » «2».

نعم، في صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا خرجت من بيتك تريد الحج و العمرة إن شاء اللّه فادع دعاء الفرج، و هو لا إله إلا اللّه الحليم الكريم لا إله إلا اللّه العلي العظيم سبحان اللّه رب السماوات السبع و رب الأرضين السبع و رب العرش العظيم و الحمد للّه رب العالمين … » «3». و لا بد من الجمع بينه و بين صحيح زرارة إما بالبناء علي أن كلمات الفرج غير دعائه، أو علي ان الزيادة المذكورة في صحيح زرارة من كمال كلمات الفرج. و ربما ادعي استحكام التعارض بينهما و ترجيح صحيح زرارة بأن التصحيف بالنقص في صحيح معاوية أقرب من التصحيف بالزيادة فيه. و لا يخلو عن إشكال.

و مما تقدم يظهر أن: «و سلام علي المرسلين» ليست من كلمات الفرج، و لعله لذا

______________________________

(1) الوسائل باب: 38 من أبواب الاحتضار حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 7 من أبواب القنوت حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 19 من أبواب السفر الي الحج و غيره حديث: 5.

ص: 31

______________________________

لم يعدها في المقنع و الاقتصاد، خلافا لما تقدم من الفقيه، و لما في الهداية و المقنعة و المبسوط و الغنية و ظاهر التذكرة و المنتهي و الروض و الروضة و غيرها. بل لم يثبت استحباب التلقين بها، إذ لو تضمنتها رواية الصدوق فهي مرسلة. نعم لا بأس بالإتيان برجاء المطلوبية، بل بداعي الاستحباب المطلق، لأن السلام علي المرسلين من أفضل القربات.

و منه يظهر أنه لا مجال للإتيان بها في الصلاة بعنوان أنها من كلمات الفرج- التي قيل باستحبابها في القنوت- بل مطلقا، خلافا لما في المدارك من أنه لا ريب في جوازه، و ما عن المحقق من أنه سئل عنها في الفتاوي فجوزها، لأنها بلفظ القرآن، مع ورود النقل بها. لعدم ثبوت النقل. و مجرد كونها بلفظ القرآن لا يكفي في الجواز إلا أن يؤتي بها بقصده، و هو خارج عن محل الكلام.

و دعوي: دخولها فيما تضمن جواز الدعاء في الصلاة، و في إطلاق صحيح الحلبي:

«قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كلما ذكرت اللّه عز و جل به و النبي صلّي اللّه عليه و آله فهو من الصلاة» «1».

مدفوعة: بأن ما تضمن جواز الدعاء مختص بما يكون بنحو الخطاب للّه تعالي و مناجاته، و لذا علل محللية التسليم للصلاة بأنه من كلام الآدميين المحرم فيها «2».

و الصحيح ظاهر في خصوص نبينا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو هو المتيقن منه، و لم يتضح تعديته لغيره بفهم عدم الخصوصية أو تنقيح المناط. نعم لا بأس بالإتيان بها بقصد القرآنية، كما أشرنا إليه.

و أما ما عن المصباح عن سليمان بن حفص عن الهادي عليه السلام: «قال:

لا تقل في صلاة الجمعة في القنوت: و سلام علي المرسلين» «3». فهو- مع ضعفه في نفسه- مختص بمورده، و محتمل لبيان عدم مشروعيتها بعنوان الورود، لا ما يعم الإتيان بها بقصد القرآن. فتأمل.

بقي في المقام أمور:
الأول: استحباب قراءة الدعاء و سورة الصافات عند المحتضر لتعجيل راحته

أنه قد ورد في صحيح سالم بقراءة هذا الدعاء: «اللهم اغفر لي الكثير من معاصيك و اقبل مني اليسير من طاعتك» «4». كما أرسل الصدوق عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب التسليم حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب التسليم حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب القنوت حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 39 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

ص: 32

______________________________

أنه أمر محتضرا بقول كلمة التوحيد فعجز لغضب أمه عليه، فلما استرضاها صلّي اللّه عليه و آله و سلّم له أمره بها فقالها ثم قال له: «قل: يا من يقبل اليسير و يعفو عن الكثير اقبل مني اليسير و اعف عني الكثير إنك أنت العفو الغفور» «1». و تضمن صحيح سليمان الجعفري استحباب قراءة و الصافات عند المحتضر لتعجيل راحته «2»، كما يظهر منه استحباب قراءة ياسين عنده. و روي غير ذلك مما لا مجال لاستقصائه. فليراجع في مظانه من مستدرك الوسائل و غيره.

الثاني: التلقين لغة و إن كان هو التفهيم، و هو يحصل بإسماع المحتضر الكلام و تفهمه له و إن لم يقله،

إلا أنه يظهر من ذيل موثق إسحاق المتقدم في التلقين بالشهادتين أن الغرض منه متابعة المحتضر فلا بد من تلفظه. كما هو الظاهر من كل ما تضمن أمره بأن يقول شيئا ككلمة الإخلاص و بعض الأدعية و الأذكار، مثل ما تقدم في صحيح الحلبي و غيره. و لعله الأقرب بالنظر لمجموع النصوص و ملاحظة المناسبات الارتكازية كون التلقين محققا لبعض المطلوب، و متابعة المحتضر أكمل فيه.

و أما استحباب قراءة ما ورد التلقين به مع عدم شعور المحتضر فلا تنهض الأدلة به، لعدم صدق التلقين به. و إن كان قد يحسن برجاء تحقق التفهيم به و إن لم يكن مدركا لنا، نظير تلقين الميت عند الدفن. و هو المتعين فيما تضمن مجرد الأمر بقراءة الشي ء عنده، كما تقدم في سورة الصافات و ياسين.

الثالث: قال في الجواهر في تعيين من يستحب منه التلقين:

«و يستحب للولي أو ما دونه أو غيرهما مع فقدهما، بل و مع عدمهما علي الأقوي». و ظاهره تحقق الخلاف أو الإشكال مع عدم إذن الولي. و لم يتضح وجهه بعد إطلاق كثير من الأدلة، نظير ما تقدم في الاستقبال. بل هو أولي بعدم الإشكال، لعدم كون التلقين تصرفا في المحتضر عرفا كي يتوهم حرمته بدون إذن، بل هو راجح في جميع الأوقات رضي الناس أو أبوا. و لا يبعد عدم اختصاص الاستحباب بمن حضره، و إن اختص به الخطاب في بعض النصوص، لإلغاء خصوصيته عرفا بلحاظ قضاء المناسبات الارتكازية بكون ملاك الاستحباب الإحسان للمؤمن و إعانته و تفريج كربته.

______________________________

(1) الوسائل باب: 39 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 41 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

ص: 33

ما يكره حال الاحتضار

و يكره أن يحضره جنب أو حائض (1)،

______________________________

(1) لخبر علي بن أبي حمزة: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: المرأة تقعد عند رأس المريض، و هي حائض في حدّ الموت. فقال: لا بأس بأن تمرضه، فإن خافوا عليه و قرب ذلك فلتنح عنه و عن قربه، فإن الملائكة تتأذي بذلك» «1» و قريب منه خبر الجعفريات عن علي عليه السّلام «2» و في خبر يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «قال: لا تحضر الحائض الميت و لا الجنب عند التلقين، و لا بأس بأن يليا غسله» «3» و قريب منه الرضوي لكن مع التعليل المتقدم «4»، و في مرسل الصدوق الأول عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «لا تحضر الحائض و الجنب عند التلقين، لأن الملائكة تتأذي بهما» «5».

و الظاهر تسالم الأصحاب علي أن النهي للكراهة، و نسبها في المعتبر لأهل العلم.

لكن في المقنع و الهداية أنه لا يجوز، و بذلك عنون الباب في كتاب العلل. و ربما يحمل علي الكراهة، بقرينة التسالم المذكور حتي لم أعثر علي من نسب له الخلاف فيها. و هو العمدة في البناء علي الكراهة. و أما التعليل فلم تتضح قرينيته عليها، إذ لا استبعاد في إلزام الشارع بتجنب ما يؤذي الملائكة. نعم قد يمنع التعويل علي النصوص المتقدمة في البناء علي الحرمة، لضعف سندها، و عدم صلوح عمل الأصحاب في الاستحباب و الكراهة بجبر الضعف، لبنائهم علي التسامح في أدلتها.

اللهم إلا أن تقرب حجية الأول بأن سنده صحيح إلي علي بن أبي حمزة، الذي لا يبعد كونه ثقة في أول أمره، بل من الأعيان الأجلاء، لأنه من وكلاء الإمام الكاظم عليه السّلام المنسوبين إليه، و قد اجتمع عنده المال الكثير بسبب ذلك. و توكيله عليه السّلام غير الثقة المعروف بالدين فيما يعود لمنصب الإمامة من أبعد البعيد لو كان ممكنا عقلا.

كما أنه يبعد جدا رواية الأصحاب عنه بعد انحرافه، لأنه صار من رءوس الفرقة الضالة الواقفة التي كثر الذم لها و التشنيع عليها من الأئمة عليهم السّلام و أصحابهم،

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل باب: 33 من أبواب الاحتضار و ما يناسبه حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 43 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل باب: 33 من أبواب الاحتضار و ما يناسبه حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 43 من أبواب الاحتضار حديث: 3.

ص: 34

______________________________

كما كثر الذم له لأنه كان متعمدا في إخفاء الحق و ترويج الباطل و البهتان. و لا سيما و أن الراوي عنه هذه الرواية الحسن بن محبوب الذي هو من الأجلاء الأعيان حتي عده بعضهم من أصحاب الإجماع.

و بهذا يجمع بين تضعيفه في كلام غير واحد، و توثيقه المستفاد من الشيخ في العدة و ظاهر ابن قولويه، حيث روي عنه في كامل الزيارة الذي التزم بأن لا يروي فيه إلا عن الثقات المشهورين. و يؤيد ما ذكرنا، بل يعضده ما ذكره الشيخ في العدة من أن الأصحاب قد عملوا برواياته. كما قد يرجع إليه ما عن المحقق في المعتبر من قوله:

«ان تغيره إنما كان بعد زمن موسي عليه السّلام فلا يقدح فيما قبله».

فالعمدة في الحمل علي الكراهة ما عرفت من ظهور تسالم الأصحاب رضي اللّه عنهم.

نعم الحديث مختص بالحائض فالتعميم للجنب يبتني علي النصوص الباقية غير المعتبرة.

هذا، و لا يبعد أن المعيار في الحائض حدث الحيض و إن انقطع دمه، لأنه المناسب لمشاركة الجنب لها في الحكم لو تم دليله. كما لا يبعد بناء علي ذلك مشروعية التيمم لهما لرفع الحدث لو اضطر للحضور قبل الغسل، لإطلاق أدلة بدليته. أما مجرد مشروعية التيمم لهما في أنفسهما- لمرض و نحوه- من دون أن يضطر للحضور فلا يخلو ارتفاع الكراهة معه عن إشكال، لأن كون الطهارة معه اضطرارية يناسب عدم ارتفاع الكراهة به، بل تخفيفها، و هو لا ينافي ارتفاع مثل حرمة الدخول للمسجد، للسيرة و نحوها. و ربما يأتي في مبحث التيمم ما ينفع في المقام.

ثم إنه قد يظهر من بعض عبارات الأصحاب استمرار الكراهة لما بعد الموت.

و لم يتضح وجهه بعد ظهور النصوص المتقدمة في خصوصية حال التلقين و خروج النفس، و هو المتيقن من التعليل بإيذاء الملائكة. و لا سيما مع التصريح في خبر يونس و الرضوي بعدم البأس في أن يليا غسله.

نعم، في خبر الجعفي المحكي عن الخصال: أنه لا يجوز إدخالهما الميت قبره «1»، و في الرضوي النهي عن ذلك «2». و في الجواهر: «و لم أجد من أفتي بهما في الكراهة،

______________________________

(1) جواهر الكلام 4: 29.

(2) مستدرك الوسائل باب: 33 من أبواب الاحتضار و ما يناسبه حديث: 3.

ص: 35

و أن يمس حال النزع (1).

و إذا مات يستحب أن تغمض عيناه (2)،

______________________________

فضلا عن غيرهما». لكن ذكره في المقنع و إهمالهم بيان المكروه و المستحب لا يكشف عن عدمه.

هذا، و قد تقدم في المسألة الرابعة و الأربعين من مباحث الدماء في ذيل أحكام النفساء تقريب مشاركة النفساء للحائض في الحكم المذكور. فلاحظ.

ما يستحب بعد الموت

(1) ففي موثق زرارة: «ثقل ابن لجعفر و أبو جعفر جالس في ناحية فكان إذا دنا منه إنسان قال: لا تمسه، فإنه إنما يزداد ضعفا، و أضعف ما يكون في هذه الحال، و من مسه علي هذه الحال أعان عليه، فلما قضي الغلام أمر به فغمض عيناه و شد لحياه … » «1». و مقتضاه تحريم المس- كما ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه- بل شدة حرمته.

و هو مقتضي قاعدة السلطنة، لأنه تصرف في بدن المحتضر لا يجوز بدون إذنه، أو إذن وليه، الذي لا يجوز له الإذن فيما يحتمل إيذاؤه له.

لكن ذلك لا يناسب إهمال الأصحاب للحكم، مع شدة الحاجة لبيانه- لو كان ثابتا- بسبب غفلة العامة عنه، و قيام سيرتهم علي مس المحتضر في الجملة. بل لم ينبه كثير منهم لكراهته، حيث يظهر عدم أهميتها بنظرهم و المفروغية عن عدم الحرمة.

و من هنا لا معدل عن البناء علي الكراهة، حملا للموثق علي المبالغة في الردع عن المس بإطلاق الإعانة مجازا، بلحاظ مرتبة من الإيذاء لا تقتضي الحرمة. نعم لو كان المس بالنحو الذي يترتب عليه الإيذاء المعتد به عرفا يقينا أو احتمالا تعين حرمته، لما سبق من منافاته لقاعدة السلطنة. فتأمل جيدا.

(2) كما ذكره جماعة كثيرة من الأصحاب، و في المنتهي أنه لا خلاف فيه، و في مفتاح الكرامة: «ذكره الأصحاب قاطعين به. و يقتضيه موثق زرارة المتقدم في المس حال النزع، و خبر أبي كهمس الآتيان في التغطية بثوب. و علل أيضا بتجنب قبح منظره، و دخول الهوام فيهما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 44 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

ص: 36

و يطبق فوه (1)، و يشد لحياه (2)، و تمد يداه إلي جانبيه (3) و ساقاه، و يغطي بثوب (4)،

______________________________

(1) كما ذكره جماعة، و في المنتهي أنه لا خلاف فيه. و استدل له بتجنب قبح منظره، و دخول الهوام فيه. و قد يستفاد مما تضمن شد لحييه. و لعله لذا أهمله و اقتصر علي شد اللحيين في التذكرة و محكي نهاية الأحكام و المفاتيح. و أما العكس- كما في السرائر و الشرائع و المعتبر و النافع و القواعد و الإرشاد و اللمعة و محكي التحرير و البيان و التلخيص و غيرها- فلعله يبتني علي دعوي التلازم بينهما. و إن كانت غير واضحة.

(2) كما ذكره جماعة من الأصحاب تقدم بعضهم، و في المنتهي أنه لا خلاف فيه. و يجري فيه ما تقدم في تغميض العينين من النصوص و التعليل.

(3) كما ذكره جماعة، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده في استحبابه، بل نسبه جماعة إلي الأصحاب مشعرين بدعوي الإجماع عليه، و هو كاف في إثباته»، و عن مجمع البرهان: «كأن دليله إجماع أو خبر». و زاد بعضهم مدّ ساقيه، بل نسبه في الروض و كشف اللثام للأصحاب، و في المعتبر: «و تمد يداه إلي جنبيه و ساقاه إن كانتا منقبضتين و لم يمتنعا. ذكر ذلك الشيخان و ابن الجنيد. و لم أعلم ذلك نقلا عن أهل البيت عليهم السّلام و لعل ذلك ليكون أطوع للغاسل، و أسهل للدرج».

و من هنا يشكل البناء علي استحبابه شرعا. و مجرد ذكر الأصحاب له لا يكفي في الإجماع الحجة بعد ما أشرنا إليه آنفا من تسامحهم في المستحبات.

(4) و في المنتهي و جامع المقاصد أنه لا خلاف فيه. و يقتضيه صحيح سليمان ابن خالد «1» المتقدم في الاستقبال، و المتضمن الأمر بالتسجية التي سبق أنها التغطية، و خبر أبي كهمس: «حضرت موت إسماعيل و أبو عبد اللّه عليه السّلام جالس عنده، فلما حضره الموت شدّ لحييه و غمضه و غطي عليه الملحفة» «2»، و نحوه خبره الآخر «3».

و قد تضمنت بعض النصوص أن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم «قد غطي بثوب بعد وفاته» «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب التكفين حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 29 من أبواب التكفين حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 44 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

ص: 37

و أن يقرأ عنده القرآن (1)، و يسرج في المكان الذي مات فيه و إن مات في الليل (2)،

______________________________

(1) تقدم في ذيل الكلام في التلقين الإشارة لصحيح سالم المتضمن قراء سورة الصافات عند المحتضر، و قال في المعتبر بعد ذكره: «و أعلم أن تلاوة القرآن مستحبة قبل خروج روحه ليسهل اللّه عليه الموت، و بعد خروجها استدفاعا عنه»، و عن الذكري: «و يستحب قراءة القرآن بعد خروج روحه، كما يستحب قبله، استدفاعا عنه»، و في الجواهر: «أطلق جماعة استحباب قراءة مطلق القرآن قبل الموت و بعده».

(2) هذا الحكم ذكره جماعة من الأصحاب حتي نسب للمشهور في الروضة، و للأصحاب في جامع المقاصد مدعيا اشتهاره بينهم. و عباراتهم و إن كانت مختلفة في خصوصياته، إلا أنه لا يبعد أن يكون مراد الجميع أن لا يكون الميت ليلا في مكان إلا أسرج فيه، سواء كان هو المكان الذي قبض فيه أم غيره، و سواء مات في الليل أم في النهار و بقي إلي الليل. و إن كان قد يظهر من إطلاق جملة منهم- كسيدنا المصنف قدّس سرّه- أن الاسراج في المكان الذي قبض فيه و إن رفع منه، و من إطلاق آخرين أن الشرط هو الموت ليلا، إلي غير ذلك من الاختلافات في خصوصيات عباراتهم يضيق عن استقصائها المجال.

و كيف كان، فقد صرح غير واحد بانحصار الدليل عليه من النصوص بما استدل به في التهذيب، و هو ما رواه الكليني عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن عثمان بن عيسي عن عدة من أصحابنا قال: «قال: لما قبض أبو جعفر عليه السّلام أمر أبو عبد اللّه عليه السّلام بالسراج في البيت الذي كان يسكنه حتي قبض أبو عبد اللّه عليه السّلام ثم أمر أبو الحسن عليه السّلام بمثل ذلك في بيت أبي عبد اللّه عليه السّلام حتي أخرج به إلي العراق ثم لا أدري بما كان» «1».

و لا مجال للإشكال فيه بالإرسال أو ضعف السند بعد ما سبق- في مبحث مطهرية الماء المضاف من الحدث- من تقريب الاعتماد علي سهل «2»، و ما هو المشهور المنصور من وثاقة عثمان بن عيسي حتي عد من أصحاب الإجماع، و أن روايته له عن

______________________________

(1) الوسائل باب: 45 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

(2) راجع المجلد الثاني: 356.

ص: 38

و إعلام المؤمنين بموته (1)،

______________________________

عدة من أصحابنا يظهر منها استفاضة الحديث بنحو يخرجه عن حكم الإرسال.

و مثله الإشكال فيه في المعتبر بأنه حكاية حال. لاندفاعه: بأنه لا ريب في دلالة الالتزام من الإمامين عليهما السّلام هذه المدة الطويلة علي الرجحان. و احتمال خصوصية الصادقين عليهما السّلام أو جميع الأئمة عليهم السّلام لا يخلو عن بعد.

فالعمدة في الإشكال ما نبه له غير واحد من أن الحديث أجنبي عن المدعي، لأنه كالصريح في الاسراج بعد الدفن مستمرا في البيت الذي كان الميت يسكنه، لا قبله في البيت الذي يوضع فيه، كما هو المدعي.

و أما استفادة المدعي من الحديث بالأولوية. فهي غير ظاهره. و لا تنفع قاعدة التسامح في أدلة السنن في تتميم دلالة الحديث، بل في جبر سنده لو تمت في نفسها.

إلا أن يكون الاستدلال بالشهرة الذي قد يدعي بلوغها مرتبة الإجماع، خصوصا بعد قرب استنادهم لدليل آخر من سيرة أو غيرها، و إلا فمن البعيد جدا أن يخفي عليهم قصور الحديث عن إثبات المدعي. و حينئذ قد يتم ذلك بقاعدة التسامح. بل قال في المعتبر بعد الإشكال في الحديث: «لكنه فعل حسن». لكنه غير ظاهر.

و مثله استفادته مما تضمن النهي عن تركه وحده، و الأمر بقراءة القرآن عنده. إذ فيه: أن ذلك إنما يقتضي الإسراج تبعا، لا استحبابه بخصوصيته شرعا، كما هو المدعي.

هذا، و أما ما تضمنه الحديث فقد قال في الجواهر: «لعلنا نقول به، و إن لم أجد من صرح به، إلا أنه قد تقبله بعض العبارات. فتأمل».

(1) كما صرح به في المبسوط و الخلاف و المعتبر و غيرها. لصحيح أبي ولاد و عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: ينبغي لأولياء الميت منكم أن يؤذنوا إخوان الميت بموته، فيشهدون جنازته و يصلون عليه و يستغفرون له … » «1»، و في صحيح ذريح عنه عليه السّلام: «سألته عن الجنازة يؤذن بها الناس؟ قال: نعم» «2»، و قريب منه مرسل القاسم بن محمد «3».

إلا أن يستشكل في الأخيرين بظهورهما في دفع توهم الحظر و لو كان تنزيهيا،

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4.

ص: 39

ليحضروا جنازته (1)، و يعجل تجهيزه (2)،

______________________________

لما قد يظهر منه من الاهتمام بمظاهر التكريم الدنيوية، أو لمنافاته للتعجيل الذي يأتي الكلام فيه، أو غيرهما. فالعمدة الأول.

نعم، دلت جملة كثيرة من النصوص علي استحباب تشييع المؤمن يأتي التعرض لها في الفصل الثامن. لكنها لا تقتضي استحباب الإعلام.

(1) كما هو مقتضي قوله في المبسوط: «ليتوفروا علي تشييعه» و يناسبه ما في صحيح أبي ولاد و عبد اللّه بن سنان المتقدم من جعل الغاية شهود الجنازة. و لا وجه معه لما في الخلاف من قصر الغاية علي الصلاة.

(2) بلا خلاف كما في المنتهي و جامع المقاصد و المدارك. و صرح بالإجماع عليه في المعتبر و التذكرة و الروض و كشف اللثام و محكي نهاية الأحكام و الذكري و كشف الالتباس، و في الجواهر: «إجماعا محصلا و منقولا مستفيضا».

و يقتضيه جملة من النصوص، ففي صحيح ذريح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «فإذا مات الميت فخذ في جهازه و عجله» «1»، و في خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا ألقين [ألفين] رجلا مات له ميت ليلا فانتظر به الصبح، و لا رجلا مات له ميت نهارا فانتظر به الليل، لا تنتظروا موتاكم طلوع الشمس و لا غروبها، عجلوا بهم إلي مضاجعهم يرحمكم اللّه. قال الناس: و أنت يا رسول اللّه يرحمك اللّه» «2»، و في خبر السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: إذا مات الميت أول النهار فلا يقيل إلا في قبره» «3»، و في مرسل الصدوق: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: كرامة الميت تعجيله» «4» و غيرها.

نعم، قد ينافيه ما دل علي استحباب إعلام المؤمنين بموته ليشيعوه مما تقدم، لأن اجتماع الناس للتشييع يحتاج إلي زمن معتد به. و قد يدعي أن المورد ليس من صغريات التنافي و التعارض بين الدليلين، بل من صغريات التزاحم بين الحكمين، لاختلاف موضوع كل منهما و تأدي ملاك كل منهما بموافقته و لو مع مخالفة الآخر،

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 47 من أبواب الاحتضار حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 47 من أبواب الاحتضار حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 47 من أبواب الاحتضار حديث: 7.

ص: 40

______________________________

فيرجع فيه إلي مقتضي القاعدة فيه من الترجيح مع الأهمية و التخيير مع التساوي.

و هو و إن كان مسلما في الجملة. لكن من الظاهر غلبة التزاحم بينهما موردا، حيث يحتاج إعلام المؤمنين بموته إلي تأخيره غالبا، كما أن التعجيل المأمور به يستلزم غالبا قلة المشيعين، و ذلك يستلزم التنافي بين إطلاقي كل من الحكمين، لقوة ظهورهما في بيان الحكم الفعلي المبتني علي العمل، لا ما يعمم الاقتضائي المزاحم. و من هنا لا يبعد الجمع بينهما بحمل دليل التعجيل علي المتعارف بالنحو الذي لا يصدق معه الانتظار و حمل دليل الإعلام علي ما لا ينافي ذلك، لصعوبة حمل دليل التعجيل علي ما يعمم صورة الانتظار المعتد به لأجل الإعلام، كما لعله ظاهر، خصوصا بملاحظة ما تضمن الأمر بدفن من مات ليلا في الليل، لوضوح أن الدفن ليلا يلازم غالبا قلة المشيعين. لكن لا بمعني اختصاص ملاك كل منهما بذلك، لإباء مناسبة الحكم و الموضوع عنه جدا، بل بمعني أن ملاك الإعلام لا يقوي علي مزاحمة ملاك التعجيل، و إن أمكن استيفاؤه مع التفريط بالتعجيل أو تعذره.

نعم، لو كانت قلة المشيعين منافية لكرامة الميت و عزته و لو لتعارف الانتظار عند الناس علي خلاف الآداب الشرعية لم يبعد مزاحمة ذلك لاستحباب التعجيل، لأن ذلك عنوان زائد علي أصل الإعلام لا تأبي الأدلة ملاحظته. و لا سيما إذا كانت كرامة الميت راجعة لكرامة الدين، بحيث يكون تكريمه من شعائره. بل لو بلغ ذلك مرتبة يستلزم التفريط فيه توهين الميت فقد يحرم، لما هو المعلوم من مذاق الشارع الأقدس من الاهتمام بكرامة المؤمن و حرمته. و ما أكثر ما زوحمت الجهات الأولية بجهات ثانوية مسببة عن الأعراف القائمة و العادات الجارية علي خلاف الآداب الشرعية.

كما لا يبعد نهوض بعض المصالح الأخروية الراجعة للميت بمزاحمة استحباب التعجيل، كآداب التغسيل و التكفين لو لزم من مراعاتها الانتظار. و كذا النقل للأماكن المشرفة التي ورد استحباب الدفن فيها، لعدم إباء أدلة التعجيل الحمل عليه بعد قلة الابتلاء به في تلك العصور بسبب صعوبة النقل أو تعذره، بل قد دلت بعض النصوص عليه في الجملة، علي ما يأتي التعرض له في المسألة السادسة و الستين في مباحث الدفن.

ص: 41

إلا إذا شك في موته (1)،

______________________________

نعم، مقتضي اطلاق النصوص استحباب التعجيل بنحو لا يحسن انتظار الليالي الشريفة لو تم تفاضل الدفن باختلاف أوقاته. و لو ثبت استحباب مراعاتها فليس هو من باب التزاحم، بل من باب التخصيص، لأنه أخص موردا من نصوص التعجيل.

و اللازم النظر في دليله ليقتصر علي مفاده، و لم يتيسر لي العثور عليه، و إن كان ظاهر الجواهر وجوده. و إنما روي في الفقيه بعض النصوص المتضمنة فضيلة الموت يوم الجمعة و ليلتها و ما بين ظهر الخميس و ظهرها «1»، و هي أجنبية عن ذلك.

(1) فإنه و إن احتمل استحباب التعجيل به واقعا، لتحقق الموت، إلا أنه لا يستحب ظاهرا، لعدم احراز موضوعه، و هو الموت، بل مقتضي استصحاب الحياة عدمه. بل يلزم البناء علي حرمته ظاهرا بلا إشكال ظاهر، بل يظهر من جملة من عباراتهم المفروغية عنه، و عن نهاية الأحكام الإجماع عليه. للاستصحاب المذكور المقتضي لحرمة التصرف فيه بالدفن و نحوه، لمنافاته لسلطنته علي نفسه.

و لا مجال لإذن وليه الخاص أو العام فيه مع احتمال ضرره به، لأنه خلاف مقتضي الولاية. مضافا إلي ما هو المعلوم من وجوب الاحتياط في النفوس و الحفاظ عليها مع احتمال التلف، فضلا عن حرمة تعريضها للتلف بفعل ما قد يوجبه.

و من هنا لا يهم اختصاص النصوص ببعض أسباب الموت، كالغرق و نحوه، و لا سيما مع ما في صحيح اسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الغريق أ يغسل؟ قال: نعم و يستبرأ. قلت: كيف يستبرأ؟ قال: يترك ثلاثة أيام قبل أن يدفن [إلا أن يتغير قبل فيغسل و يدفن. يب] و كذلك صاحب الصاعقة، فإنه ربما ظنوا أنه مات و لم يمت» «2»، فإن مقتضي التعليل في ذيله وجوب انتظار كل من يحتمل عدم موته.

و به يخرج عن الحصر الذي قد يوهمه صحيح إسماعيل بن عبد الخالق: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: خمس منتظر بهم إلا أن يتغير [يتغيروا. في يب]: الغريق و المصعوق و المبطون و المهدوم و المدخن» «3».

______________________________

(1) كتاب من لا يحضره الفقيه باب غسل الميت حديث: 30، 29. ج 1: 83 طبع النجف الاشرف.

(2) الوسائل باب: 48 من أبواب الاحتضار حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 48 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

ص: 42

______________________________

علي أن دلالته علي الحصر تبتني علي مفهوم العدد غير الحجة. مضافا إلي أن الأمر بالانتظار فرع فرض حد من شأنه أن يرتب عليه أثر الموت، ليحسن الأمر بالانتظار عنه في خصوص هؤلاء الخمسة. فإن كان هناك طريق شرعي لإحراز الموت- علي ما يأتي الكلام فيه- كان مقتضي الحصر جواز الرجوع إليه في غير الخمسة. لكن مع إطلاق دليل الحد المذكور لا يحتاج للحصر، حيث يلزم الاقتصار في الخروج عنه علي المتيقن كالخمسة. و مع عدم الإطلاق له لا ينفع الحصر في الرجوع للحد المذكور، لما ذكرنا من تفرع الانتظار الذي هو موضوع الحصر علي فرض الحد في المورد. و إن لم يكن هناك حد شرعي فحيث لا معني لإرادة الانتظار بعد العلم بالموت يتعين كون الأمر بالانتظار للردع عن اعتقاد الموت في هؤلاء الخمسة بظهور أماراته العرفية التي من شأنها أن توجب العلم به في غيرهم.

و حينئذ لا يكون الحصر حقيقيا شرعيا، لتبعية العلم لأسبابه التكوينية و لا يقبل التحديد الشرعي، بل لا بد من كون الحصر بهم بالإضافة إلي من هو معرض للابتلاء حين صدور الرواية أو نحوه. و من هنا عمم بعض الأصحاب الكلام لغير مورد النصوص من أسباب الموت. فلاحظ.

هذا، و يأتي الكلام في العلامات التي تحتاج إلي نحو من الانتظار و تنافي التعجيل. و أما العلامات المتصلة بالموت أو المقاربة التي يرتب عليها آثاره بطبعها و لا تكون مراعاتها منافية للتعجيل عرفا فهي أمور موكولة للعرف لا يسعنا ضبطها، و قد تدرك بالتجربة.

نعم، أرسل الصدوق عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «إذا رأيت المؤمن قد شخص ببصره و سالت عينه اليسري و رشح جبينه و تقلصت شفتاه و انتثر منخراه فأي ذلك رأيت فحسبك به»، و عن أبي جعفر عليه السّلام أنه قال: «إن آية المؤمن إذا حضره الموت أن يبيض وجهه أشد من بياض لونه و يرشح جبينه و يسيل من عينه كهيئة الدموع، فيكون ذلك آية خروج روحه، و إن الكافر تخرج روحه سلا من شدقه كزبد البعير» «1». لكن لا مجال للتعويل عليهما مع إرسالهما.

______________________________

(1) كتاب من لا يحضره الفقيه باب غسل الميت حديث: 20، 21. ج 1: 81. طبع النجف الأشرف.

ص: 43

فينتظر به حتي يعلم موته (1).

______________________________

هذا، و قد يشتبه الحال، لعدم تيسر مراعاة العلامات المقارنة للموت، لاحتمال الموت فجأة أو بسبب يتعذر معه النظر إليه حينه- كغرق و نحوه- أو لعدم الحضور عنده حالة النزع أو غير ذلك، فيدخل في محل الكلام.

(1) كما هو صريح بعضهم و ظاهر آخرين، و في المعتبر و التذكرة الإجماع عليه.

و يقتضيه في الجملة موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الغريق يحبس حتي يتغير و يعلم أنه قد مات ثم يغسل و يكفن. قال: و سئل عن المصعوق فقال: إذا صعق حبس يومين ثم يغسل و يكفن» «1». لكن ذكر غير واحد أنه يستبرأ بأمرين.

الأول: علامات الموت. و قد تعرضوا لجملة منها، ففي التذكرة: «كاسترخاء رجليه و انفصال كفيه و ميل أنفه و امتداد جلدة وجهه و انخساف صدغيه» و زاد في جامع المقاصد تقلص أنثييه إلي فوق مع تدلي الجلدة و في كشف اللثام: «و عن أبي علي من علامته زوال النور من بياض العين و سوادها و ذهاب النفس و زوال النبض …

و عن جالينوس الاستبراء بنبض عروق [بين. خ] الأنثيين، أو عرق يلي الحالب و الذكر بعد الغمز الشديد، أو عرق في باطن الألية، أو تحت اللسان، و في بطن المنخر».

و الظاهر أن رجوعهم إليها ليس لحجيتها تعبدا، بل لملازمتها للموت بحيث توجب العلم به. لكن من الظاهر أن بعض هذه العلامات ليس عرفيا، بل هو مبني علي الاجتهاد الخفي و النظر الذي يختلف باختلاف الأشخاص و الأوقات و تطور الطب. فلا يوجب العلم لكل أحد. و الباقي منها لو كان عرفيا فرجوع العرف إليه و إن كان مبتنيا علي حصول العلم منه، إلا أن خطأهم في مثل ذلك ليس عزيزا.

و أما دعوي: لزوم الرجوع لأهل الخبرة في تشخيصه بملاحظة العلامات السابقة أو غيرها، لحجية قولهم و إن لم يلزم منه العلم. فتشكل بانحصار الدليل علي الرجوع إليهم ببناء العقلاء علي الرجوع إليهم في الأمور الاجتهادية الحدسية، و لم يتضح شموله للمقام مع عدم حصول العلم منه، لأهمية الموضوع بنحو لا يحرز

______________________________

(1) الوسائل باب: 48 من أبواب الاحتضار حديث: 4.

ص: 44

______________________________

تعويلهم فيه علي غير العلم. و لا سيما مع إمكان تحصيل العلم به بالانتظار.

نعم، تضمنت النصوص المتقدمة اعتبار التغير، و مثلها صحيح هشام بن الحكم عن أبي الحسن عليه السّلام: «في المصعوق و الغريق. قال: ينتظر به ثلاثة أيام. إلا أن يتغير قبل ذلك» «1».

و قد ذكر غير واحد أنه منصرف للتغير بالريح لكنه غير ظاهر. كالتعويل في حمل التغير فيها عليه علي حديث علي بن أبي حمزة قال: «أصاب [الناس] سنة من السنين صواعق كثيرة، مات من ذلك خلق كثير فدخلت علي أبي إبراهيم عليه السّلام فقال مبتدئا من غير أن أسأله: ينبغي للغريق و المصعوق أن يتربص به [بهما] ثلاثا لا يدفن إلا أن يجي ء منه ريح تدل علي موته. قلت: جعلت فداك كأنك تخبرني أنه قد دفن ناس كثير أحياء. فقال: نعم يا علي قد دفن ناس كثير أحياء ما ماتوا إلا في قبورهم» «2».

إمكان الجمع بينه و بين نصوص التغير بحمله علي بيان أحد أفراد التغير.

فالعمدة أنه حيث لا يراد بها مطلق التغير، لأن الحي قد يتغير ببعض الوجوه لا بد من حمله علي المتيقن، و هو التغير الموجب للعلم بالموت، لأنه المعهود عرفا، و يناسبه ما تقدم في موثق عمار من عطف العلم علي التغير.

و منه يظهر الإشكال فيما في الرياض، فإنه مع اعترافه بانصراف التغير للريح لم يستبعد حمله علي التغير بالعلامات المتقدمة في كلماتهم و إن لم تفد العلم، بدعوي:

أن الشهرة علي الرجوع إليهما تصلح للقرينية علي حمل التغير في النصوص علي الفرد غير المنصرف منه.

وجه الإشكال: أن الشهرة- لو تمت- لا تصلح قرينة علي الخروج عن ظاهر النص. و لا سيما مع أن ظاهر من ذكر العلامات كون الرجوع إليها لأنها توجب العلم، لا لكونها حجة شرعية بدونه، كما ادعاه قدّس سرّه.

الثاني: الانتظار ثلاثة أيام. و ظاهر جماعة أنه منتهي التربص. و يقتضيه صحيحا إسحاق بن عمار و هشام بن الحكم و حديث علي بن أبي حمزة المتقدمة. و لعله يبتني علي اطلاع الشارع الأقدس علي الملازمة بينه و بين الموت و إن خفيت علينا. و كأنه إليه يرجع

______________________________

(1) الوسائل باب: 48 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 48 من أبواب الاحتضار حديث: 5.

ص: 45

و يكره أن يثقل بطنه بحديد (1)

______________________________

قوله في المقنعة: «و لا ينتظر به أكثر من ثلاثة أيام فإنه لا شبهة في الموت بعد ثلاثة أيام».

و ما عن كشف الالتباس من الإجماع علي تحقق الموت بالثلاثة أيام، حيث يبعد جدا اطلاعهم علي خصوصيته في الثلاثة أيام تقتضي ملازمتها للموت غير النصوص.

كما يبعد جدا عن مذاق الشارع الأقدس ابتناء إرجاعه إليها علي كونها أمارة ظنية- بلحاظ الغلبة أو نحوها- و إن كانت قد تتخلف.

و أما ما في الجواهر و غيره من حمل ذكرها في النصوص علي أنها من أسباب العلم التكوينية، و أن المدار علي العلم، كما تقدم من المعتبر و التذكرة. فبعيد جدا، إذ لا يدرك العرف خصوصيتها في ذلك مع قوة ظهور النصوص في خصوصيتها في التربص، و لا سيما صحيح هشام و حديث علي بن أبي حمزة المستثني فيهما التغير و الريح اللذان هما سبب للعلم عند العرف. و من هنا لا يخلو الاكتفاء بالتربص ثلاثة أيام تعبدا- و إن لم يحصل به العلم للمكلف- عن قوة.

نعم، قد لا يناسب ذلك الاكتفاء باليومين في موثق عمار المتقدم، إذ مع اطلاع الشارع علي ملازمة اليومين للموت لا معني لاستحباب التأخير للثلاثة، و مع اطلاعه علي أن الملازم له خصوص الثلاثة يكون الإرجاع لليومين مبنيا علي كونهما إمارة غير علمية قد تخطئ، و قد تقدم أنه بعيد عن مذاق الشارع الأقدس. و مجرد إهمال الأصحاب له لا يكشف عن خلل فيه، لقرب ابتناء إهمالهم علي الاحتياط.

و من هنا قد يحمل التحديد بكل من اليومين و الثلاثة علي أن المدار حصول العلم من أحدهما، و إن كان هو بعيدا عن ظاهر النصوص، لما تقدم. و من ثم قد يتعين الاحتياط بالتأخير حتي يحصل العلم مع كمال التروي و التحفظ، و إن لزم الزيادة علي الثلاثة، لأهمية الموضوع جدا. بل لا ينبغي التأمل في لزوم ذلك في غير مورد النصوص من الأسباب الموهمة للموت، لأن إلغاء خصوصية المورد في مثل ذلك غير ظاهر، كعدم الفصل بين الأسباب بالنحو الكافي في الخروج عن مقتضي الأصل.

فلاحظ. و اللّه سبحانه العالم.

ما يكره بعد الموت

(1) كما نسب إلي المشهور و الأكثر في كلام جماعة. و في المعتبر: «لم يثبت عن

ص: 46

أو غيره (1)، و أن يترك وحده (2).

______________________________

أهل البيت به نقل». و في التهذيب: «سمعنا ذلك مذاكرة من الشيوخ». و استدل عليه في الخلاف بإجماع الفرقة و عملهم. و أما ما في المنتهي من منافاة ذلك للرفق بالميت.

فهو غير ظاهر. هذا و في محكي الذكري عن الفاخر أنه أمر بجعل الحديد علي بطنه، و عن ابن الجنيد: «و يضع علي بطنه شيئا يمنع من ربوها».

لكن في المختلف: «و لم أقف لعلمائنا علي قول يوافق ذلك»، و في جامع المقاصد:

«و إجماع الأصحاب علي خلافه» و نحوه في الروض. و كأنه لعدم الدليل عليه، و ظهور حال الأصحاب في أنه قول للعامة لا يتابعونهم عليه، بل هم بين مفت بالكراهة و ساكت عنه من دون احتمال للاستحباب عندهم.

ثم أن المعروف من الأصحاب أن الكلام في وضع الحديد علي بطن الميت، و في إشارة السبق نهي عن وضعه علي صدره. كما أن ظاهر كون محل الكلام ما بعد الموت. و كأنه لأنه مورد كلام العامة. و أما وضعه حال الاحتضار فهو تصرف يحتاج إلي مسوغ. بل قد يوجب أذاه و الإعانة عليه فتتأكد حرمته.

(1) قال في الروضة: «و لا كراهة في وضع غيره للأصل». لكن حيث عرفت عدم الدليل علي أصل الحكم عدا ما ذكره الأصحاب فلا يبعد كون مرادهم الأعم، كما يناسبه مساق كلماتهم، و إنما ذكروا الحديد لأنه مورد كلام العامة. و لعله لذا صرح بالتعميم لغير الحديد في التذكرة و المنتهي و المسالك و الروض و غيرها.

(2) ففي صحيح أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: ليس من ميت يموت و يترك وحده إلا لعب الشيطان في جوفه» «1»، و في مرسل الصدوق عنه عليه السّلام: «لا تدعن ميتك وحده، فإن الشيطان يعبث في جوفه» «2». و مقتضي إطلاقهما خصوصا الثاني كراهته حتي بعد التغسيل. و من الغريب إهمال جماعة من الأصحاب التعرض لهذا المكروه مع ورود النص به و ذكر ما سبقه، مع عدم النص به.

______________________________

(1) الوسائل باب: 42 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 42 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

ص: 47

ص: 48

الفصل الثاني في الغسل
وجوب التجهيز كفائي

الفصل الثاني في الغسل (1) تجب إزالة النجاسة عن جميع بدن الميت قبل الشروع في

______________________________

(1) حيث لا إشكال في وجوب تجهيز الميت بتغسيله و تحنيطه و تكفينه و الصلاة عليه و دفنه، فقد ذكر الأصحاب رضي اللّه عنهم أن التجهيز المذكور فرض كفائي علي جميع المسلمين لا يختص به بعضهم، بنحو يظهر منهم التسالم علي ذلك، فقد نفي الخلاف فيه في المبسوط و الغنية و المنتهي، و في المعتبر: «و هو مذهب العلماء كافة» و في التذكرة:

«بإجماع العلماء» و نحوه عن نهاية الأحكام، كما صرح بالإجماع في كشف اللثام و محكي الذكري، بل عن مجمع البرهان و ظاهر جماعة ممن تقدم أنه إجماعي بين المسلمين.

و لا يقدح مع ذلك إهمال التنبيه عليه في جملة من كلماتهم، حيث لا يبعد أن يكون منشؤه أنهم بصدد بيان جهات أخر، كشروط أفعال التجهيز و كيفيتها، استغناء عن بيانه بوضوحه، أو للبناء علي أنه مقتضي الإطلاق. كما لا يقدح فيه قول الشيخ في النهاية: «فليأخذ في أمر غسله أولي الناس بالميت أو من يأمره هو به».

لأن الظاهر كونه بصدد بيان أولوية الولي و شرطية إذنه، التي تعرض لهما جماعة ممن صرح بالوجوب الكفائي، و التي لو كانت منافية للوجوب الكفائي- كما يأتي من بعضهم- لاقتضت اختصاص الوجوب بالولي، و لا يعم من يأمره هو بالفعل، كما تضمنه الكلام المتقدم.

و كيف كان، فقد استدل عليه في الجواهر بما تضمن من النصوص الأمر به من غير تعيين للمباشر، قال: «فالأصل- مع العلم بعدم إرادة تكراره من كل مكلف و لا مشاركة الجميع فيه- مما يثبت ذلك و ينقحه. مع أن المستفاد من ملاحظة أخبار الباب- بحيث يشرف الفقيه علي القطع و اليقين- أن المراد إبراز هذه الأمور إلي الوجود

ص: 49

______________________________

الخارجي لا من مباشر بعينه». و ظاهره عدم الاستدلال بإطلاق النصوص، بل بالجمع بين دلالتها علي أصل الوجوب و العلم بعدم إرادة تكراره من كل مكلف و لا اجتماع المكلفين عليه. و هو كما تري، لأن ذلك إنما يكشف عن عدم كونه عينيا في حق جميع المكلفين، و لا ينافي كونه عينيا في حق بعضهم، كالولي، لإمكان سقوط تكليف الشخص عنه بفعل غيره، كتكليف الولد بقضاء ما فات أباه من الصلاة و الصوم، و التكليف بالنفقة علي الأرحام و نحوهما. و منه يظهر ضعف ما ذكره في آخر كلامه من أن مراد الشارع إيجاد هذه الأمور لا من مباشر بعينه. حيث ظهر أن عدم أخذ خصوصية المباشر لا يستلزم عموم التكليف.

هذا، و قد يستدل بإطلاق النصوص المشار إليها في الجواهر، و ذلك لأنه بعد عدم تعيين المكلف به في تلك النصوص يكون مقتضي الإطلاق عدم أخذ خصوصية فيه و سريانه في أفراد المكلفين، و حيث يمتنع البدلية في المكلف يتعين حملها علي تكليف الكل، غايته أن المكلف به صرف الوجود، بناء علي إمكان ذلك علي ما ذكرنا في بحث الواجب الكفائي من الأصول.

لكنه يشكل بأنه لم يتضح الإطلاق من حيثية المكلف في النصوص المذكورة، لأنها بين ما ورد لبيان أصل التشريع- مثل ما تضمن ذكر غسل الميت في ضمن الأغسال الواجبة «1»، و علة تشريع واجبات التجهيز من الغسل و غيره «2» - و ما ورد في مقام البيان من جهات خاصة، مثل ما تضمن الأمر بتعجيل التجهيز، و كيفية أفعاله و شروطها، و ما يظهر منه التعميم من حيثية الميت أو المباشر و بعض أسباب الموت و غير ذلك مما لا مجال معه لاستفادة الإطلاق من الجهة المطلوبة.

كما استدل في التذكرة و المنتهي بما رواه الجمهور من أن أعرابيا سقط عن بعيره فوقص فمات، فقال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «اغسلوه بماء و سدر» «3». فإن كان الاستدلال به بلحاظ الاقتصار علي بيان الكيفية مع الإطلاق في المكلف- كما قد يظهر من

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 3 و باب: 1 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب غسل الميت، و باب: 1 من أبواب التكفين، و باب: 1 من أبواب صلاة الجنازة، و باب: 1 من أبواب الدفن.

(3) التذكرة ج 1: 38 و المنتهي ج 1: 427.

ص: 50

______________________________

المنتهي- أشكل بأن وروده في مقام بيان الكيفية مانع من الإطلاق فيه من حيثية المكلف، كما تقدم.

و إن كان بلحاظ أن الظاهر منه خطاب غير أوليائه بتغسيله، كان نظيره في ذلك ما ورد في العراة الذين يجدون ميتا مطروحا في الطريق «1»، و نحوه مما يأتي عند الكلام فيما لو تعذر الاستئذان من الولي فإنه ظاهر في المفروغية عن وجوب تجهيزه، كما هو كذلك إجماعا.

و حينئذ يشكل بأن تكليف غير الولي بالتجهيز عند تعذر الرجوع إليه أو امتناعه لا يستلزم عموم التكليف لغيره عند إمكان الرجوع إليه، نظير تكليف غير الرحم بالانفاق علي المضطر عند تعذر إنفاق الرحم عليه أو امتناعه.

و من هنا يشكل استفادة الوجوب الكفائي من النصوص، و يكون العمدة فيه الإجماع المتقدم الذي يمتنع فيه الخطأ عادة بسبب شيوع الابتلاء بالحكم و بخصوصياته.

و لا سيما مع قرب كون مضمونه ارتكازيا عند المتشرعة، كما قد يناسبه ما يظهر من جملة من النصوص من المفروغية عن وجوب تجهيز من يتعذر الرجوع لوليه، فإنه لو لا كون عموم التكليف ارتكازيا لاحتياج تكليف غير الولي للسؤال و الدليل. فتأمل.

مضافا إلي عدم التعرض في النصوص علي كثرتها لتعيين المكلف مع شدة الحاجة لتعيينه، و أدلة الولاية ظاهرة في ابتنائها علي نحو من الحق و السلطنة للولي، لا علي محض تكليفه و التضييق عليه، و ذلك مما يناسب عموم التكليف لغيره جدا، كما يأتي، فعدم التعرض لتعيين المكلف قد يظهر في المفروغية عن عمومه.

كما أن ذلك هو المناسب لما يستفاد من بعض النصوص تبعا للمرتكزات من أن تجهيز الميت من شئون حرمة المسلم، ففي موثق الفضل بن يونس: «سألت أبا الحسن موسي عليه السّلام فقلت له: ما تري في رجل من أصحابنا يموت و لم يترك ما يكفن به اشتري له كفنه من الزكاة؟ فقال: أعط عياله من الزكاة قدر ما يجهزونه. فقلت:

فإن لم يكن له ولد و لا أحد يقوم بأمره فأجهزه أنا من الزكاة؟ فقال: كان أبي يقول:

إن حرمة بدن المؤمن ميتا كحرمته حيا، فوار بدنه و عورته و جهزه و كفنه و حنطه

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة.

ص: 51

______________________________

و احتسب بذلك من الزكاة، و شيع جنازته» «1»، و في خبر السكوني عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أنه قال: «صلوا علي المرجوم من أمتي و علي القاتل نفسه من أمتي، لا تدعوا أحدا من أمتي بلا صلاة» «2»، و في موثق عمار عنه عليه السّلام: «أنه سئل عن النصراني يكون في السفر و هو مع المسلمين فيموت. قال: لا يغسله مسلم و لا كرامة و لا يدفنه و لا يقوم علي قبره و إن كان أباه» «3».

و من الظاهر أن حفظ حرمة المؤمن مما يجب علي كل أحد. بل قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تدعوا أحدا من أمتي بلا صلاة» قوي الظهور في ذلك، فإنه و إن كان واردا للتعميم من حيثية الميت إلا أن الخطاب بواو الجماعة ظاهر في عموم التكليف لا مجرد ثبوته علي جنس المكلف، كما لو قيل: لا يترك أحد من أمتي بلا صلاة. و من هنا كان البناء علي أن التكليف كفائي قريب جدا.

لكن أصر في الحدائق علي عدم كون التكليف كفائيا، لعدم ظهور الأخبار فيه، بل في اختصاص التكليف بالولي. نعم لو لم يكن للميت ولي، أو كان و أخل بتكليفه و لم يكن هناك حاكم شرعي يجبره علي القيام به انتقل الحكم إلي المسلمين بالأدلة العامة، كما تشير إليه أخبار العراة المشار إليها آنفا. و قريب منه ما ذكره أخوه في إحيائه علي ما حكاه عنه في الجواهر. كما حكي غير واحد عن المرتضي اختصاص التكليف بالولي، علي ما يأتي في المسألة الخامسة عشرة.

و يشكل..

تارة: بما عرفت من نهوض الأدلة بإثبات عموم التكليف.

و أخري: بما أشرنا إليه آنفا من أن أدلة الولاية ظاهرة في ابتنائها علي نحو من الحق و السلطنة للولي في تعيين كيفية الامتثال، لا علي محض تكليفه و التضييق عليه، للتعبير فيها عنه بأنه أحق، و أن من تقدم من دون إذنه غاصب «4».

و أما مثل قوله عليه السّلام في مرسل ابن أبي عمير: «يصلي علي الجنازة أولي الناس

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 37 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 18 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) راجع الوسائل باب: 23، 24 من أبواب صلاة الجنازة.

ص: 52

الغسل (1) علي الأحوط، و إن كان الأقوي كفاية إزالتها عن كل عضو قبل

______________________________

بها أو يأمر من يحب» «1». فهو غير ظاهر في بيان المكلف بالصلاة، بل من يباشرها، و هو لا يلازم اختصاص التكليف به، كيف و قد يلزم مباشرة غير الولي، كما في مورد اعتبار المماثلة إذا لم يكن الولي مماثلا. و يزيد ذلك وضوحا بملاحظة قوله عليه السّلام: «أو يأمر من يحب» لوضوح أن أمر المكلف بشي ء غيره بالقيام به لا يقتضي مشاركته له في التكليف به، بل ذلك يناسب ما ذكرنا من ابتناء الولاية علي السلطنة المذكورة مع عموم التكليف، حيث يكون اختياره لفعل من يأمره موجبا لاختصاص الامتثال بفعل المأمور، فيجب علي المأمور الامتثال بفعله بعد دخوله في عموم التكليف. و من ثم أشرنا آنفا إلي أن أدلة الولاية تناسب عموم التكليف لغير الولي. فلاحظ.

و ثالثة: بأنه بعد دعواه عدم الدليل علي الوجوب الكفائي لا وجه لما ذكره أخيرا من انتقال التكليف لغير الولي بالأدلة العامة، فإن الأدلة العامة لو وجدت نهضت باثبات كون التكليف كفائيا من أول الأمر بعد ما عرفت من عدم نهوض أدلة الولاية بتقييدها. و أما مثل نصوص العراة فهي مختصة بما إذا تعذر إعلام الولي، و لا تشمل صورة امتناعه.

نعم، قد يدعي أن الولاية تنافي عموم التكليف. و يأتي الكلام فيه عند الكلام في الدليل علي الولاية إن شاء اللّه تعالي.

إزالة النجاسة عن بدن الميت

(1) كما في الغنية و الشرائع المعتبر و التذكرة و المنتهي و الإرشاد و الدروس و اللمعة و محكي التحرير و نهاية الأحكام و البيان و غيرها. بل في الغنية و التذكرة و محكي نهاية الأحكام و كشف الالتباس و المفاتيح دعوي الإجماع عليه، و في المنتهي و عن مجمع البرهان أنه لا خلاف فيه، و في المدارك أنه مقطوع به في كلام الأصحاب، و عن الكفاية أنه المعروف من المذهب.

و قد استدل عليه- مضافا إلي الإجماع المتقدمة دعواه، و إلي ما تضمن ذلك في غسل الجنابة بضميمة ما تضمن مساواة غسل الميت له- بجملة من النصوص، ففي صحيح الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن [غسل] الميت فقال:

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 53

______________________________

أقعده و اغمز بطنه غمزا رفيقا، ثم طهره من غمز البطن، ثم تضجعه ثم تغسله تبدأ بميامنه … » «1»، و في صحيح معاوية بن عمار: «أمرني أبو عبد اللّه عليه السّلام أن أعصر بطنه ثم أوضيه بالأشنان ثم أغسل رأسه بالسدر … » «2»، بناء علي أن التوضئة بالأشنان هي تنظيف الدبر بعد عصر البطن، كما يأتي نظيره في بعض النصوص.

و في صحيح العلاء بن سيابة عنه عليه السّلام أنه قال: «إذا قتل في معصيته يغسل أولا منه الدم ثم يصب عليه الماء صبا … » «3».

كما قد يستدل أيضا بقوله عليه السّلام في موثق عمار: «ثم تمر يدك علي بطنه فتعصره شيئا حتي يخرج من مخرجه ما خرج، و يكون علي يديك خرقة تنقي بها دبره … ثم تغسله بجرة من ماء القراح … » «4»، و في المرسل عن يونس: «ثم صب الماء في الآنية و ألق فيها حبات كافور، و افعل به كما فعلت في المرة الأولي ابدأ بيديه، ثم بفرجه، و امسح بطنه مسحا رفيقا، فإن خرج منه شي ء فأنقه، ثم اغسل رأسه … » «5». فإنه و إن تضمن الموثق التطهير قبل الغسلة الثالثة و المرسل التطهير قبل الثانية، إلا أن المفروض فيهما خروج النجاسة منه حينئذ، و مقتضاهما عدم جواز الشروع في الغسلتين المذكورتين قبل التطهير، و يتعدي منها للأولي لو ابتلي بالنجاسة قبلها بفهم عدم الخصوصية.

نعم، لا مجال للاستدلال بما تضمن الأمر بغسل الفرج قبل بعض الغسلات «6»، كما ذكره جملة من الأصحاب أيضا، لأنه حيث لم يفرض فيه نجاسة الفرج يتعين كونه من آداب التغسيل الخارجة عما نحن فيه، نظير ذكره في المرسل المتقدم. فالعمدة ما عرفت.

لكن يشكل الاستدلال بالإجماع لقرب كون ذكرهم التقديم لأنه أسهل من الإزالة في الاثناء، و أبعد عن تنجس يد الغاسل او ماء الغسل، مع كون المهم هو خلو كل موضع من بدن الميت عن النجاسة حين غسله، كما يناسبه تعليل الحكم في المعتبر و التذكرة- مضافا إلي النصوص- بالفرار عن تنجس ماء الغسل بملاقاتها، و بأنه إذا وجبت إزالة النجاسة الحكمية فوجوب إزالة العينية عنه أولي، و في جامع المقاصد تعقيبا علي ما في القواعد من وجوب البدء بإزالة النجاسة قال: «لا شبهة في وجوب

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 15 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(5) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(6) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 54

______________________________

إزالة النجاسة عنه، لتوقف تطهيره عليها».

و إلا فوجوب التقديم نفسيا أو غيريا لتوقف صحة الغسل عليه ليس ارتكازيا، ليستغني عن بيانه، بل تعبديا محتاجا للبيان، و لم يتعرض له جماعة من الأصحاب كالصدوق و الشيخين و غيرهم. و من هنا لا مجال لإحراز الإجماع التعبدي علي التقديم بالنحو الكافي في الاستدلال.

و أما ما تضمن ذلك في غسل الجنابة فهو لا ينهض بالمدعي علي ما ذكرنا في المسألة الواحدة و الستين من مباحث الوضوء في أوائل فصل شرائطه. مع أنه لا مجال لقياس المقام بالجنابة، لأن غسل الخبث عن بدن الجنب موجب لطهارته، بخلاف بدن الميت، لعدم طهارته إلا بعد الغسل، علي ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي.

و أما النصوص فمن القريب جدا تنزيلها علي ما سبق تنزيل كلمات الأصحاب عليه، لمطابقته للارتكاز. و يناسبه خلو جملة من النصوص الواردة في بيان كيفية الغسل و آدابه عن التعرض لذلك، و لو كان معتبرا لكان أمرا تعبديا محتاجا لعناية و تنبيه. كما يناسبه ورود نظيره في غسل الجنابة و لزوم حمله علي ما ذكرنا بقرائن مذكورة في محلها.

و من هنا لا ينبغي التأمل في عدم وجوب تقديم إزالة النجاسة علي الشروع في الغسل.

بل لا يجب تقديمها علي غسل الموضع لو لم يستلزم تنجس الماء لاعتصامه بالكرية أو المادة، و إنما يكفي زوالها حين غسله بسبب جريان الماء، لعدم الدليل علي لزوم الإزالة حينئذ، و ظهور اختصاص النصوص المتقدمة بصورة الغسل بالماء القليل غير المعتصم.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 6، ص: 55

و دعوي: أن الاكتفاء بغسل واحد للتطهير و غسل الميت يحتاج إلي دليل، لأصالة عدم التداخل. مدفوعة: بأن التداخل مقتضي الإطلاق من دون مخرج عنه في أمثال المقام، علي ما تقدم توضيحه في أوائل فصل شرائط الوضوء. مضافا إلي ما يأتي من امتناع زوال نجاسة دون أخري. فلاحظ.

نعم، لا يبعد لزوم إزالتها لو أوجبت انفعال ماء الغسل، لعدم اعتصامه، لأن الطهارة الخبثية شرط في ماء الغسل. و دعوي: أن ماء الغسل ينفعل بملاقاة جسد الميت بناء علي ما هو المعروف من نجاسته قبل الغسل، فلا بد من البناء علي العفو عن

ص: 55

______________________________

النجاسة الحاصلة حين الغسل. مدفوعة بأن العفو عن نجاسته بملاقاة البدن التي لا بد منها في الغسل لا يستلزم العفو عن نجاسته بملاقاة النجاسة التي علي البدن.

بل عدم العفو هو المستفاد من أدلة اعتبار الطهارة في الماء المستعمل في رفع الحدث، المطابق لارتكازيات المتشرعة، و المعتضد بالنصوص المتقدمة، لأن المتبادر منها بيان الكيفية المعتبرة في صحة الغسل. و أما حملها علي الفرار عن الاستقذار العرفي، أو عن تنجس البدن بعد إكمال غسله لو انتقلت بسببه من موضع لآخر، من دون دخل لها بصحة الغسل. فهو بعيد عن ظاهرها جدا. فتأمل جيدا.

بقي شي ء، و هو أنه حيث كان المعروف نجاسة بدن الميت، و عدم طهارته إلا بعد الغسل، فهل المعتبر في المقام مجرد إزالة عين النجاسة الخارجية عن الميت، أو لا بد معها من الغسل المعتبر في التطهير من تلك النجاسة؟

ظاهر غير واحد أو صريحهم الثاني. لكن جعل في الروض الحكم المذكور تعبديا، لئلا يلزم طهارة المحل من نجاسة دون نجاسة. بل في الجواهر: «لا مانع من ثبوت الطهارة من نجاسة خاصة مع ثبوت نجاسة الأخري [أخري. ظ] إذ هما من الأحكام الشرعية التعبدية التي ليس للعقل فيها مدخلية. نعم هي تدور مدار التوقيف من الشارع، فلا ينبغي الإشكال فيه بعد ثبوته من الشارع. و لا إشكال في الثبوت … ». بل يظهر من المدارك أنه مطابق للقواعد، قال: «أو يقال: إن النجاسة العارضة إنما تطهر بما يطهر غيرها من النجاسات، بخلاف نجاسة الموت، فإنها تزول بالغسل و إن لم يكن مطهرا لغيرها، فاعتبر إزالتها أولا لتطهير الميت بالغسل. و هذا أولي مما ذكره في المعتبر من أن تقديم الإزالة لئلا ينجس ماء الغسل بملاقاتها، أو لأنه إذا وجب إزالة الحكمية فالعينية أولي».

أقول: البناء علي وجوب الغسل إن كان لأصالة عدم التداخل- كما يظهر من الجواهر- فقد عرفت أن التداخل مقتضي الإطلاق، و لا مخرج عنه في مثل المقام، خصوصا مع امتناع زوال نجاسة دون أخري.

و إن كان لتجنب نجاسة الماء بملاقاة الموضع النجس، بدعوي: أن العفو عن تنجسه به لتنجسه من حيثية الموت لا يستلزم العفو عن تنجسه به لتنجسه من حيثية

ص: 56

______________________________

ملاقاته للنجاسة. أشكل بعدم الإطلاق في دليل اعتبار طهارة الماء يقتضي المانعية من الجهتين و لو مع وحدة الموضع النجس بحيث يجب التخفيف مهما أمكن، لأن تعدد نجاسة الملاقي ليس كتعدد الملاقي موجبا لتعدد نجاسة الملاقي. علي أن تنجس الماء من حيثية ملاقاة الميتة يمنع ارتكازا من تطهير الموضع النجس به من حيثية ملاقاته النجاسة الخارجية، بل لا بد من إزالة النجاستين معا بغسل واحد و العفو عن تنجس الماء بملاقاة الموضع المتنجس بهما. و لذا كان التطهير من نجاسة دون أخري مخالفا للقاعدة.

و إن كان للإجماع- بناء علي أنه الدليل في المسألة- فكلمات الأصحاب لا تقتضي الإجماع علي ذلك، لأنه و إن عبر في الغنية بالغسل إلا أن الأكثر قد عبروا بإزالة النجاسة، و هو إن لم يكن ظاهرا في الاكتفاء بإزالة عين النجاسة- و لو بضميمة المفروغية عن عدم طهارة بدن الميت قبل الغسل، بخلاف الجنب- فلا أقل من عدم ظهوره في لزوم الغسل.

بل التعليل المتقدم من المعتبر و التذكرة يناسب الاكتفاء بإزالة العين، و إن كان للنصوص فهو و إن كان مقتضي التعبير بالتطهير في صحيح الفضل و الجمود علي الغسل في صحيح العلاء، إلا أنه يلزم رفع اليد عنهما بصحيح معاوية بن عمار- بناء علي أنه من أدلة المسألة- و موثق عمار، لصراحتهما في الاكتفاء بإزالة العين بالأشنان و الخرقة، و يعضدهما التعبير بالتنقية في مرسل يونس. فيتعين حمل الصحيحين علي أن الغسل و التطهير لإزالة العين، و هو المناسب لارتكاز امتناع التطهير من نجاسة دون أخري، الذي أشرنا إلي وجهه.

و بذلك يخرج عن أصالة عدم التداخل أو محذور تنجس الماء بملاقاة الموضع المتنجس لو سلم نهوضهما بإثبات لزوم الغسل. و قد أشار إلي بعض ما تقدم في كشف اللثام، ثم قال: «فالظاهر أن الفاضلين و كل من ذكر تقديم الإزالة أو التنجية أرادوا إزالة العين لئلا يمتزج بماء الغسل، و إن لم يحصل التطهير». و ما ذكره قريب جدا.

نعم، قد لا يتم ذلك فيما لو كانت النجاسة لا يظهر منها الغسل مرة واحدة كالبول، لأن مقتضي إطلاق دليلها لزوم تعدد الصب في تطهير الميت منه. و مجرد

ص: 57

الشروع فيه (1)، ثم تغسيله (2)

______________________________

نجاسته بالموت لا يقتضي عدم تنجسه بغيره، و لا عدم ترتب حكم التنجس المذكور.

و حينئذ لا يكتفي في تطهيره بتغسيله غسل الميت، بناء علي عدم صلوح الغسلتين الأوليين للتطهير من الخبث، لخروج الماء فيهما بالخليط عن الإطلاق. و ليس في النصوص المتقدمة ما ينافي ذلك، لاختصاصها بالغائط، و التعدي منه لغيره مما يكفي فيه المرة لفهم عدم الخصوصية لا يقتضي التعدي لما يعتبر فيه التعدد. غاية الأمر أن غسلة تغسيل الميت تجزي عن إحدي الغسلتين.

لكنه لا يناسب إغفال النصوص التنبيه عليه مع كثرة ابتلاء الميت بالبول في حال مرضه أو بعده، و غفلة المتشرعة عن تطهيره قبل الغسل بالوجه المذكور، للجهل بمحله بسبب عدم تميزه بلون أو حجم، و لمعهوديتهم تنجس بدن الميت بالموت و عدم طهارته إلا بعد الغسل، كغفلتهم عن تطهيره بعده، لأن منتهي تطهير الميت عندهم تغسيله. و إن كان في بلوغ ذلك حدّ الخروج عن إطلاقات الأدلة إشكال. فلاحظ.

(1) لعل مراده ما سبق منا من إزالة النجاسة عن كل موضع قبل غسله. و إلا فلو أريد به خصوص الأعضاء الثلاثة التي يجب الترتيب بينها عندهم أشكل ما ذكره بعدم الدليل، لأن مقتضي الجمود علي مفاد النصوص لزوم الإزالة عن تمام البدن قبل الشروع فيه، و تنزيلها علي ما يناسب القواعد يقتضي الاكتفاء بما ذكرنا.

وجوب تغسيله ثلاثة أغسال هو المعروف بين الأصحاب

(2) وجوب تغسيله ثلاثة أغسال هو المعروف بين الأصحاب المنسوب للمشهور و الأكثر في كلام جماعة، بل في المعتبر و المدارك و عن كشف الرموز و الذخيرة أنه مذهب الأصحاب عدا سلار، و ادعي الإجماع عليه في الخلاف و محكي الغنية، و إن أشكل استفادته منها. و يقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح ابن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«سألته عن غسل الميت. فقال: اغسله بماء و سدر ثم اغسله علي أثر ذلك غسله أخري بماء و كافور و ذريرة إن كانت. و اغسله الثالثة بماء قراح. قلت: ثلاث غسلات لجسده كله؟ قال: نعم» «1». و قريب منه صحيح سليمان بن خالد «2» و معتبر الحلبي: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يغسل الميت ثلاث غسلات مرة بالسدر، و مرة بالماء يطرح فيه الكافور،

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

ص: 58

______________________________

و مرة أخري بالماء القراح، ثم يكفن» «1» و غيرها مما تضمن بيان كيفية الغسل «2».

و خالف سلار فاكتفي في بيان الواجب بالغسل مرة بالماء القراح و حكم باستحباب الغسلتين الأخريين. و استدل له تارة: بالأصل. و أخري: بما تضمن أن غسل الميت كغسل الجنابة كصحيح محمد بن مسلم «3»، و ثالثة: بما تضمن أن الميت الجنب يغسل غسلا واحدا «4»، و إذا ثبت الواحد مع الجنابة فمع عدمها أولي.

و يدفع الأول: بأن الأصل إنما يقتضي البراءة لو كان الواجب الغسل بنفسه، لدوران الواجب حينئذ بين الأقل و الأكثر، أما لو كان هو الطهارة المسببة عنه فمقتضي الأصل الاشتغال بها، للشك في المحصل، و المستفاد من جملة من النصوص- تبعا للمرتكزات- الثاني، مثل ما تضمن تعليل تشريعه بمطلوبية طهارة الميت في هذا الحال «5». و بأنه يجنب بالموت «6»، و ما تضمن بدلية التيمم عنه «7»، مع وضوح أن مبني البدلية علي أن التراب أحد الطهورين، و قوله عليه السّلام في صحيح يعقوب: «فإذا طهر وضع كما يوضع في قبره» «8» و غيره.

هذا، مع أن الأصل لا ينهض في قبال ما سبق من النصوص.

و أما الثاني: فهو محمول بقرينة ما سبق علي التشبيه في الكيفية. و أما ما تضمن تعليل تغسيله بأنه يجنب، فهو لا ينفع في استدلاله، لإمكان خصوصية جنابة الميت في عدم الإزالة إلا بالأغسال الثلاثة. و كذا ما تضمن تعليل تغسيله غسل الجنابة بذلك «9»، لأن وجوب تغسيله غسل الجنابة لا ينافي وجوب ما زاد عليه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(2) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) راجع الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب غسل الميت حديث: 3، 4.

(6) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت.

(7) الوسائل باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 3 و باب: 19 من الأبواب المذكورة حديث: 2 و باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 1.

(8) الوسائل باب: 5 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(9) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت.

ص: 59

______________________________

و أما الثالث: فقد أجيب عنه بأن المراد به بيان التداخل بالاكتفاء بغسل الميت المشتمل علي الأغسال الثلاثة. قال في المختلف: «و ليس بدال علي صورة النزاع، لأن غسل الميت عندنا واحد، إلا أنه يشتمل علي ثلاثة أغسال».

و هو متجه بالإضافة لجملة من النصوص المتضمنة أنه يغسل غسلا واحدا، بل هو كالصريح من موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سئل عن المرأة إذا ماتت في نفاسها كيف تغسل؟ قال: مثل غسل الطاهر، و كذلك الحائض، و كذلك الجنب، إنما يغسل غسلا واحدا فقط» «1».

لكن في حديث أبي بصير عن أحدهما عليهما السّلام «في الجنب إذا مات: قال: ليس عليه إلا غسلة واحدة» «2»، و في صحيح العيص عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن رجل مات و هو جنب. قال: يغسل غسلة واحدة بماء ثم يغتسل بعد ذلك» «3» بناء علي أن المراد من قوله: «ثم يغتسل» اغتسال المغسّل لا تغسيل الميت. فإن تأنيث الغسلة ظاهر في وحدتها، و لا يعهد التعبير عن غسل الميت بالغسلة، فيكونان ظاهرين في الاجتزاء بغسلة واحدة، و لا سيما مع تقييدها في الثانية بالماء، لوضوح أن تغسيل الميت بغسلاته الثلاثة ليس بالماء وحده.

اللهم إلا أن يراد بذلك بيان تداخل إزالة الحدثين في الغسلة الواحدة و إن انفرد الموت بالغسلتين الأخريين، إذ لا دخل للخليط في رفع الجنابة، خصوصا بناء علي جواز خروج الماء عن الإطلاق بالخليط. مع أن حمل الغسلة علي الغسل الواحد المشروع- و إن تضمن أغسالا متعددة- قد يكون أقرب من رفع اليد عن ظهور النصوص الكثيرة في وجوب الأغسال الثلاثة، و لا سيما مع عدم الإشارة في شي ء من النصوص الواردة في شرح غسل الميت علي كثرتها لخلافه، مع شدة الحاجة للبيان فيها، و إلا فاستفادة شرح غسل الميت تبعا عند بيان التداخل مما لم يعهد النظير له في الفقه.

مضافا إلي ما عرفت من بناء الأصحاب علي التثليث حتي لم يعهد الخلاف فيه من غير سلار. و لا أقل من كون ذلك بمجموعه موجبا للتوقف في الحديثين و صيرورتهما من المشكل الذي يرد علمه لقائله عليه السّلام. و لا سيما مع احتمال كون المراد

______________________________

(1) الوسائل ج 2 باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(2) الوسائل ج 2 باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(3) الوسائل ج 2 باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

ص: 60

بماء السدر ثم بماء الكافور (1).

______________________________

بالذيل في الثاني تغسيل الميت، فيدل علي عدم التداخل، و يخرج عما نحن فيه، كما تضمنه بعض روايات العيص نفسه.

و من هنا لا مخرج عما عليه الأصحاب تبعا للنصوص الكثيرة من وجوب تثليث الأغسال، بل هو من الوضوح بحد قد يلحق معه بالضرورات الفقهية. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

الكلام في وجوب الخليطين في الغسلتين
اشارة

(1) وجوب الخليطين في الغسلتين المذكورتين هو المعروف من مذهب الأصحاب المدعي عليه الإجماع في الخلاف، و في مفتاح الكرامة أن فيه كل ما في التثليث من نقل الإجماع و الشهرة.

و يقتضيه النصوص الكثيرة المتقدم بعضها عند الكلام في اعتبار التثليث.

لكن كلام الوسيلة ظاهر في الاستحباب، حيث اقتصر في بيان الواجب علي تثليث الغسلات، و قال في بيان المستحبات: «و غسله أولا بماء السدر، و ثانيا بماء جلال الكافور، و ثالثا بالماء القراح». و ما في المختلف و المدارك من نسبة استحباب الترتيب إليه، و عن الشهيد أنه يلوح منه. مخالف لظاهر كلامه جدا. و أصرح منه ما عن ابن سعيد حيث قال: «و إن من الواجب غسله ثلاثة أغسال علي صفة غسل الجنابة …

و يستحب إضافة قليل سدر إلي الماء الأول، و نصف مثقال من كافور إلي الثاني». بل نسب عدم ذكر السدر في الغسل الأول للصدوق في الفقيه و الهداية، حاكيا له عن والده، و للشيخ في النهاية و المبسوط، و إنما ذكر الصدوق غسل يدي الميت بالسدر، و الشيخ غسل فرجه به، قبل الشروع في الغسل، كما ذكروا غسل رأسه برغوته، و هي خارجة عن الغسل الواجب.

و من ثم قال في مفتاح الكرامة: «فقد كثر الموافقون لابن حمزة علي الظاهر».

لكن ملاحظة مجموع كلام الشيخ في كتابيه تشهد بمفروغيته عن كون الغسلة الأولي بماء الإجانة التي وضع السدر فيها و منه أخذت الرغوة لغسل الرأس و به يغسل فرجه. بل الظاهر أن ذلك مراد الصدوق في كتابيه، و لا سيما بملاحظة كلامه في

ص: 61

______________________________

المقنع، حيث يظهر جريه فيها علي نهج واحد، و لذا كان الظاهر انحصار الخلاف بابني حمزة و سعيد.

و قد يستدل لهما ببعض النصوص:
الأول: خبر معاوية بن عمار

المتقدم: «أمرني أبو عبد اللّه عليه السّلام أن أعصر بطنه، ثم أوضيه بالأشنان، ثم أغسل رأسه بالسدر و لحييه، ثم أفيض علي جسده منه ثم أدلك به جسده ثم أفيض عليه ثلاثا، ثم أغسله بالماء القراح ثم أفيض عليه بالماء الكافور و بالماء القراح، و أطرح فيه سبع ورقات سدر» «1». لكنه ظاهر في الإفاضة علي جسده من السدر. غاية ما فيه ذكر الماء القراح مرتين مرة قبل ماء الكافور و مرة معطوفا عليه بالواو، و هو موجب لاضطرابه كالأمر بطرح سبع ورقات من السدر في ذيله.

اللهم إلا أن يحمل الغسل الأول بالماء القراح علي الاستحباب للتنظيف من أثر السدر، و يحمل عطف ماء القراح بعد ذلك علي ماء الكافور علي الترتيب و لو بقرينة النصوص الأخري، و يحمل الأمر بطرح سبع ورقات سدر في الذيل علي بيان المقدار المعتبر من السدر في الغسل الأول. فتأمل.

الثاني: صحيح يعقوب بن يقطين:

«سألت العبد الصالح عليه السّلام عن غسل الميت أ فيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال: غسل الميت تبدأ بمرافقه فيغسل بالحرض ثم يغسل وجهه و رأسه بالسدر ثم يفاض عليه الماء ثلاث مرات … و يجعل في الماء شي ء من السدر و شي ء من كافور … » «2». و هو كما تري صريح في اعتبار الخليطين، و إن كان مجملا في كيفية خلطهما، حيث يحتمل جمعهما في ماء واحد يكون به الغسلات الثلاث، بل لعله الظاهر منه بدوا، فيلزم حمله علي النحو الذي ذكره الأصحاب بقرينة النصوص الباقية.

الثالث: صحيح الفضل بن عبد الملك

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و فيه: «ثم تغسله تبدأ بميامنه و تغسله بالماء و الحرض، ثم بماء و كافور، ثم تغسله بالماء القراح. و اجعله في أكفانه» «3». لكنه صريح في اعتبار الخليط و إنما يخالف ما عليه الأصحاب في إبدال السدر بالحرض في الغسلة الأولي، و حيث لا قائل بذلك و لا بالتخيير بينه و بين السدر يتعين طرحه، أو حمله علي استحباب الجمع بينهما- كما قد ينزل عليه معتبرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

ص: 62

ثم بالماء القراح (1)، كل واحد منها كغسل الجنابة الترتيبي (2).

______________________________

الكاهلي «1» - أو بدليته عنه عند التعذر أو غير ذلك. كما يلزم نحو ذلك في بعض النصوص الأخر التي قد توهم خلاف ما عليه الأصحاب تبعا للنصوص الكثيرة المعتبرة السند الواضحة الدلالة.

وجوب الترتيب بين الغسلات
اشارة

(1) الظاهر عدم الخلاف في وجوب الترتيب بين الغسلات، بل هو داخل في معقد الإجماع المتقدم، و قد عرفت الإشكال في نسبة الخلاف فيه لابن حمزة. و يقتضيه النصوص المتقدمة، و ما قد يوهم عدم وجوبه كصحيح يعقوب المتقدم محمول علي ما لا ينافيه بقرينة النصوص الأخر. كما أن مقتضي ذلك عدم الإجزاء مع مخالفة الترتيب، بل يلزم الإعادة علي ما يطابقه، كما صرح به بعضهم. و ما يظهر من التذكرة من التردد فيه، لحصول الإنقاء المقصود من الغسلات، في غير محله.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، و قد ادعي الإجماع عليه في الانتصار و المعتبر و محكي الذكري و ظاهر التذكرة، و عن كشف الالتباس أنه لا خلاف فيه، كما نفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه.

و قد استدل عليه بوجوه:
الأول: الإجماع

المذكور. و يشكل بأن كلمات جملة من الأصحاب خصوصا القدماء خالية عن التنصيص علي الترتيب المذكور، مع ما هو المعلوم من شدة الحاجة للتنبيه عليه لو كان واجبا، لاحتياجه إلي عناية في مقام العمل و خروجه عن الإطلاق.

بل يظهر من كلام بعضهم ما ينافيه.

ففي المقنع: «ثم يؤخذ من الماء ثلاث حميديات ثم يقلب علي ميامنه فيصب عليه ثلاث حميديات من قرنه إلي قدمه، ثم يقلب علي مياسره فيصب عليه ثلاث حميديات من قرنه إلي قدمه. فهذا الغسل الأول». و مقتضاه عدم الترتيب بين الرأس و الجسد، بل يغسل كل شق من الرأس مع مثله من البدن. كما أنه ظاهر في جواز تقديم الأيسر علي الأيمن. إلا أن يحمل- بقرينة كلامه في بقية كتبه- علي قلبه بنحو يبدو

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 63

______________________________

الأيمن أولا، ثم قلبه بنحو يبدو الأيسر. و لا يبعد حينئذ حمل الترتيب بين الشقين علي الاستحباب، و لا سيما بملاحظة عدم تيسر غسل تمام الشقين دفعة واحدة غالبا.

كما صرح في الفقيه و الهداية بغسل شقه الأيمن من قرنه إلي قدمه ثم شقه الأيسر كذلك، حاكيا عن رسالة والده، لكن بعد غسل رأسه برغوة السدر ثم بثلاث حميديات. و كذا في المبسوط و النهاية و التذكرة و المنتهي، لكن بعد غسل الجانب الأيمن من رأسه ثم الجانب الأيسر منه.

و الجمع بين تقديم غسل الرأس و غسل البدن من القرن إلي القدم كما يمكن لوجوب الأول و استحباب التعميم للرأس في الثاني ليوافق المشهور يمكن أن يكون لعكس ذلك- كما لعله الأنسب بالهداية و الفقيه جمعا مع ما في المقنع، و بتعليل غسل الرأس أولا بذهاب ما فيه من الوسخ فيكون التطهير أبلغ في المنتهي- فيدل علي عدم وجوب الترتيب، و يمكن أن يكون لوجوب كلا الأمرين، كما هو ظاهر التذكرة و كالصريح من المنتهي حيث صرح بغسله من قرنه إلي قدمه بالسدر وجوبا، ثم صرح بوجوب تقديم الرأس محافظة علي الترتيب المعهود و في مفتاح الكرامة بعد أن حكي الجمع المذكور عن نهاية الأحكام ذكر أنه قد يلوح منه الاستحباب.

أما في المقنعة فقد قال: «ثم يأخذ رغوة السدر فيضعه علي رأسه و لحيته بمقدار تسعة أرطال من ماء السدر، ثم يقلبه علي مياسره لتبدو له ميامنه و يغسله من عنقه إلي تحت قدميه بمثل ذلك من ماء السدر … ثم يقلبه علي جنبة الأيمن لتبدو له مياسره فيغسلها كذلك، ثم يرده إلي ظهره فيغسله من أم رأسه إلي تحت قدميه بماء السدر، كما غسل رأسه بنحو تسعة أرطال من ماء السدر إلي أكثر من ذلك»، و قد جمع بين غسله قبل جانبيه، ثم غسله مع بدنه حين رده إلي ظهره، و نحوه في المراسم، فيجري فيه ما سبق. مضافا إلي أنه قد يظهر في إلحاق الرقبة بالبدن خلافا لما قد ينسب للمشهور من إلحاقها بالرأس.

و مع كل ذلك يشكل التعويل علي دعاوي الإجماع المتقدمة. و لا سيما مع ظهور حال الكليني في العمل بحديثي الكاهلي و يونس الآتيين، لذكره لهما في باب غسل الميت، و مع عدم العثور علي كلام بعض القدماء كابن الجنيد و نحوه ممن ديدنهم تعليم

ص: 64

______________________________

كيفيات خاصة للأفعال، خصوصا مع سبق نقل ما يظهر منه عدم الالتزام بالترتيب في غسل الجنابة عن بعضهم، و مع بعد اطلاعهم علي غير ما اطلعنا عليه من ألسنة النصوص، حيث يشكل انعقاد الإجماع التعبدي مع ذلك، علي ما تقدم نظيره في غسل الجنابة. فراجع.

الثاني: أن الترتيب حيث ثبت في غسل الجنابة ثبت هنا للإجماع علي عدم الفرق بينهما في ذلك،

كما في الانتصار و المعتبر، و للنصوص، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: غسل الميت مثل غسل الجنب، و إن كان كثير الشعر فرد عليه [الماء] ثلاث مرات» «1» و غيره مما يظهر منه أن الغسل المذكور من أفراد غسل الجنابة حقيقة «2» و لذا شاع تشبيهه به، بل قد يستظهر من الخلاف الإجماع عليه، حيث قال: «غسل الميت كغسل الجنابة ليس فيه وضوء. و في أصحابنا من قال: يستحب فيه الوضوء …

دليلنا عمل [إجماع. خ ل] الفرقة علي ما قلناه و من قال من أصحابنا بالوضوء فيه عول علي أخبار مروية في هذا الباب … ». و إن كان المتيقن منه الإجماع علي التشبيه في نفي وجوب الوضوء.

و كيف كان، فالاستدلال المذكور مبني علي وجوب الترتيب في غسل الجنابة، و قد سبق الإشكال في ذلك بالنظر للنصوص و كلمات الأصحاب، و منهم المحقق في المعتبر، حيث صرح بعدم اعتبار الترتيب فيه بين الجانبين. بل بلحاظ ذلك يكون هذا الوجه دليلا لنفي وجوب الترتيب.

الثالث: النصوص

.. منها: موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: « … ثم تبدأ فتغسل الرأس و اللحية بسدر حتي ينقيه، ثم تبدأ بشقه الأيمن، ثم بشقه الأيسر، و إن غسلت رأسه بالخطمي فلا بأس، و تمر يدك علي ظهره و بطنه بجرة [بجزء. خ ل يب] من ماء حتي تفرغ منهما، ثم بجرة [بجزء. خ ل يب] من كافور يجعل في الجرة من الكافور نصف حبة، ثم تغسل رأسه و لحيته ثم شقه الأيمن ثم شقه الأيسر، و تمر يدك علي جسده كله، و تنضب [تنصب. يب] رأسه و لحيته شيئا … ثم تغسله بجرة من ماء

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت.

ص: 65

______________________________

القراح. فذلك ثلاث جراد [جرار. يب] فإن زدت فلا بأس» «1».

لكنه يشكل: بأن ملاحظة مجموعة تشهد بوروده لبيان الكيفية الكاملة من دون تعيين للواجب منها من غيره، فلا ينهض بتقييد الإطلاقات. علي أن التعبير في صدره بغسل الرأس و اللحية بسدر قد يظهر في كثرة السدر للتنظيف من الوسخ مقدمة للغسل بدل الغسل بالرغوة الذي تضمنته بعض النصوص المحمولة علي الاستحباب، كما يناسبه جعل الغاية التنقية المناسب لكونه من مقدمات الغسل، و قوله: «و إن غسلت رأسه و لحيته بالخطمي فلا بأس» الذي قد يظهر في التخيير بينه و بين السدر، و إهمال ذلك في الغسل الثالث بالماء القراح الذي يراد به مجرد إيصال الماء للبشرة بعد تنقيتها. و حينئذ يكون المراد بالشقين ما يعم الرأس.

كما لا يراد بالترتيب بينهما إكمال النصف الأيمن قبل الشروع في الأيسر، حيث لا يناسب الأمر مع ذلك بإمرار اليد علي الظهر و البطن بجرة من ماء في الغسل الأول، و لا بإمرار اليد علي الجسد كله في الغسل الثاني، و لا بنصب الرأس و اللحية الذي هو عبارة عن نضحهما بالماء، أو بنصبهما الذي لا يبعد كونه مقدمة لوصول الماء إليهما بالإفاضة. بل الترتيب بين الطرف الأيمن و الطرف الأيسر مع إكمال الغسل بغسل الظهر و البطن. إلا أن يحمل غسل الظهر و البطن علي التكرار. لكن لا بد من حمله حينئذ علي استحباب الجمع. و حينئذ كما يمكن إجزاء الأول وحده يمكن إجزاء الثاني وحده، و لا سيما مع عدم الإشارة للأول في الغسل الثالث. و دعوي: الاكتفاء بذكره في الأولين عن ذكره فيه، غير ظاهرة.

و منها: صحيح الحلبي عنه عليه السّلام: «ثم تبدأ بكفيه و رأسه ثلاث مرات بالسدر ثم سائر جسده و ابدأ بشقه الأيمن … فإذا فرغت من غسله بالسدر فاغسله مرة أخري بماء و كافور و بشي ء من حنوط، ثم اغسله بما بحت مرة أخري … » «2». و فيه: أن ظاهره لزوم تقديم الكفين و الرأس علي سائر البدن. و حمل غسل الكفين علي الاستحباب، و تعميم قوله: «و سائر جسده» لهما، ليس بأولي من البناء علي ذلك في غسل الرأس، كما يناسبه الأمر فيه و في الكفين بالتثليث، و عدم ذكر غسلها في الغسلين الأخيرين.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 66

______________________________

و منها: صحيح الكاهلي- بناء علي ما تقدم في مبحث الكر من وثاقة محمد بن سنان- عنه عليه السّلام: «ثم تحول إلي رأسه و ابدأ بشقه الأيمن من لحيته و رأسه ثم ثن بشقه الأيسر من رأسه و لحيته و وجهه … ثم أضجعه علي شقه الأيسر ليبدو لك الأيمن ثم اغسله من قرنه إلي قدميه و امسح يدك علي ظهره و بطنه ثلاث غسلات ثم رده علي جانبه الأيمن ليبدو لك الأيسر فاغسله بماء من قرنه إلي قدميه، و امسح يدك علي ظهره و بطنه ثلاث غسلات بماء الكافور و الحرض، و امسح يدك علي بطنه مسحا رفيقا … » «1» ثم ذكر نحو ذلك في الغسلتين الأخيرتين.

و يظهر حاله مما تقدم من ظهوره في بيان الكيفية الكاملة، و اشتماله علي تكرار غسل الرأس مرة قبل البدن و مرة معه. مع ما فيه من نحو من الاضطراب.

علي أنه لا بد من رفع اليد عنها بما هو ظاهر في عدم وجوب الترتيب المذكور.

ففي صحيح الفضل بن عبد الملك عنه عليه السّلام: «ثم تضجعه ثم تغسله تبدأ بميامنه و تغسله بالماء و الحرض ثم بماء و كافور ثم تغسله بماء القراح» «2» حيث لم يتضمن تقديم الرأس.

و قريب منه في ذلك صحيح معاوية بن عمار عنه عليه السّلام: «ثم اغسل رأسه بالسدر و لحييه ثم أفيض علي جسده منه ثم أدلك به جسده ثم أفيض عليه ثلاثا ثم أغسله بالماء القراح ثم أفيض عليه بالماء الكافور و بالماء القراح» «3»، و صحيح يعقوب بن يقطين عن العبد الصالح: «تبدأ بمرافقه فيغسل بالحرض، ثم يغسل وجهه و رأسه بالسدر ثم يفاض عليه الماء ثلاث مرات … و يجعل في الماء شي ء من السدر و شي ء من الكافور» «4»، و صحيح ابراهيم بن هاشم عن رجاله عن يونس عنهم عليهم السّلام: «ثم اغسل رأسه بالرغوة و بالغ في ذلك … ثم أضجعه علي جانبه الأيسر و صب الماء من نصف رأسه إلي قدميه ثلاث مرات و ادلك بدنه دلكا رفيقا، و كذلك ظهره و بطنه، ثم أضجعه علي جانبه الأيمن و افعل به مثل ذلك» «5»، ثم أمر في الغسلتين الأخيرتين بمثل ذلك.

فإن الظاهر منها إرادة استحباب غسل الرأس بالسدر، كما يناسبه عدم ذكره في

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(5) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 67

______________________________

الغسلتين الأخيرتين في الصحيحين الأولين، و الأمر بكون غسله بالرغوة في الأخير.

و يعضدها في ذلك إطلاق صحيح سليمان بن خالد: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الميت كيف يغسل؟ قال: بماء و سدر، و اغسل جسده كله، و اغسله أخري بماء و كافور، ثم اغسله أخري بماء. قلت: ثلاث مرات؟ قال: نعم» «1»، فإن تعرضه بعد السؤال عن كيفية غسل الميت للترتيب بين الغسلات و بقية الواجبات مع إهمال الترتيب في نفس الغسلات موجب لقوة ظهوره في عدم وجوبه.

و لا مجال لاحتمال الاعتماد فيه علي وضوح لزومه في غسل الجنابة الذي هو أظهر الأغسال.. أولا: لعدم وضوح ذلك في غسل الجنابة.

و ثانيا: لعدم مناسبته للتأكيد علي استيعاب الغسلة لتمام الجسد، لأن وضوح كونه كغسل الجنابة يناسب وضوح كونه مستوعبا. و أظهر منه في ذلك صحيح ابن مسكان «2» المتقدم عند الاستدلال لوجوب تثليث الغسلات، لاشتماله علي الاستفسار من السائل عن الاستيعاب المذكور.

و بالجملة: شدة اختلاف النصوص الواردة في تعليم كيفية التغسيل و اشتمالها علي كثير مما لا يمكن البناء علي وجوبه، بل قد يحمل بعضه علي مجرد دخله في سهولة الغسل مانع من التعويل علي ما قد يستظهر منه وجوب الترتيب، و الخروج به عما ظاهره عدم وجوبه من الإطلاقات و غيرها.

علي أن الحكم المذكور لما كان مخالفا للإطلاقات و لسيرة العرف، لظهور ثبوت غسل الميت عند العرب في الجاهلية و يبعد بناؤهم فيه علي الترتيب، فلو كان ثابتا لم يكن المناسب بيانه بهذه الصورة العابرة غير الموضحة في ضمن بيان الكيفيات التي يعلم جواز الخروج عنها في الجملة، بل ينبغي التعرض له بصورة مستقلة متعمدة جلية مؤكدة، مع التعرض لفروعه و ما يتعلق به، نظير ما ورد في الوضوء، بل هو أولي بذلك من الوضوء، علي ما سبق نظيره في غسل الجنابة، كما سبق التنبيه لبعض النكات النافعة في المقام، لأن المقامين علي نهج واحد. و لعله لهذا و نحوه لم ينبه علي وجوب الترتيب بالنحو المذكور من تقدم نقل كلامه من مشايخ الطائفة الذين هم أقرب عهدا

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من ابواب غسل الميت حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 2 من ابواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 68

______________________________

بعصر صدور الأخبار و آنس بمؤدياتها و أكثر محافظة علي متابعة مضامينها. فلاحظ.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

بقي في المقام أمور:
الأول: تقدم في غسل الجنابة أن ما تضمنته بعض النصوص من عدم جواز تقديم تمام البدن علي الرأس لا مجال لرفع اليد عنه،

بل يلزم البناء عليه. و لا يبعد البناء عليه في المقام، لإطلاق دليل تشبيه غسل الميت بغسل الجنابة في النصوص و الفتاوي علي ما تقدم في الوجه الثاني للاستدلال علي وجوب الترتيب.

و لصحيح العلاء بن سيابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فيمن قتل في معصيته: «قلت:

فإن كان الرأس قد بان من الجسد و هو معه كيف يغسل؟ فقال: يغسل الرأس، و إذا غسل اليدين و السفلة بدئ بالرأس ثم بالجسد» «1». و لا خصوصية لمقطوع الرأس في ذلك عرفا، إلا بلحاظ شدة الحاجة للتنبيه علي عدم جواز تأخيره فيه، لأن تأخيره في غيره لما كان خارجا عن المتعارف لم يحتج للتنبيه علي المنع منه كثيرا.

و أما دعوي: أن مقتضي الصحيح لزوم تقديم الرأس علي الجسد لا مجرد عدم تأخيره عنه مع إجزاء غسله معه.

فمندفعة: بأن تنزيله علي مجرد عدم تأخيره عن الجسد بقرينة ما تقدم هنا و في الجنابة من النصوص المطلقة و الظاهرة في جواز غسله معه أقرب عرفا من الجمود علي مورده و هو مقطوع الرأس محافظة علي مدلوله المطابقي، و هو لزوم تقديمه علي الجسد. فتأمل.

الثاني: تضمنت جملة من النصوص المتقدمة الأمر بالبدء بالميامن،

و ظاهرها بدوا و إن كان هو الوجوب، إلا أنه يقرب حملها علي الاستحباب، بقرينة خلو جملة من النصوص الواردة في مقام تعليم كيفية الغسل و المطلقات الشارحة له و ما ورد في الجنابة عنه، بنحو يقوي ظهورها في عدم وجوبه، و لا سيما مع اشتمال بعض النصوص علي البدء بميامن الرأس الذي لا إشكال في استحبابه عندهم، و ظهورها في بيان الكيفية الكاملة، نظير ما ذكرناه في أصل الترتيب.

______________________________

(1) الوسائل باب: 15 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 69

الثالث: لو تم الدليل علي الترتيب المذكور فظاهره إلحاق الرقبة بالبدن

______________________________

لعدم شمول الرأس لها قطعا و عدم تبعيتها له عرفا، و إنما استفيد إلحاقها به في غسل الجنابة، لظهور بعض نصوصه في غسل البدن بوضع الماء علي المنكبين، و لا إشارة لذلك في نصوص المقام. اللهم إلا أن يستفاد إلحاقها به هنا من ذلك بضميمة ما تضمن تشبيه غسل الميت بغسل الجنابة، حيث قد يصلح للقرينية علي شرح كيفية الترتيب المعتبر فيه، و إن أو همت نصوصه خلافه. فلاحظ.

الرابع: صرح في القواعد بسقوط الترتيب بالارتماس،

و تبعه في ذلك في الإيضاح و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و محكي الذكري و فوائد الشرائع و الجعفرية و كشف الالتباس و غيرها، بل لعله مقتضي إطلاق تشبيهه بغسل الجنابة في كلام جماعة.

و قد استدل له بإطلاق التشبيه المذكور في صحيح محمد بن مسلم المتقدم في الوجه الثاني للاستدلال علي وجوب الترتيب. و أما الإشكال فيه تارة: بضعف السند كما في المدارك. و أخري: بظهوره في التشبيه بغسل الجنابة في الترتيب- كما في كشف اللثام و الجواهر- و لا سيما مع معروفيته في تلك الأزمنة.

فهو مندفع بأنه ليس في طريقه إلا إبراهيم بن مهزيار الذي تستفاد وثاقته من كونه من رجال كامل الزيارة معتضدا بجملة من القرائن قد تصلح بمجموعها لإفادته لا مجال لإطالة الكلام فيها، كما أن اختصاص التشبيه فيه بالترتيب مخالف لإطلاقه. و مجرد المعروفية لا تكفي في رفع اليد عنه.

نعم، قد يستفاد من قوله عليه السّلام في ذيله: «و إن كان كثير الشعر فرد عليه [الماء] ثلاث مرات» أن المفروض في التشبيه الغسل التدريجي بالصب، فلا إطلاق له يشمل الغسل بالارتماس.

لكنه لو تم لا يقتضي دلالته علي عموم لزوم الترتيب، بحيث لا يسقط مع الارتماس، بل غايته قصوره عن إفادة إجزاء الارتماس، و يكون مجملا من هذه الجهة، فيرجع فيه للنصوص الأخر المتضمنة أن غسل الميت من أفراد غسل الجنابة، كصحيح عبد الرحمن بن حماد: «سألت أبا ابراهيم عليه السّلام عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟

ص: 70

______________________________

قال: … فإذا مات الميت سالت منه تلك النطفة بعينها لا غيرها. فمن ثم صار الميت يغسل غسل الجنابة» «1» و غيره، و مقتضاها مشاركته له في الكيفية.

اللهم إلا أن يقال: النصوص المذكورة إنما تضمنت وجوب تغسيل الميت غسل الجنابة، و ذلك لا يدل علي أن كل غسل من أغساله فرد من أفراد غسل الجنابة، ليدخل في إطلاق أدلة كيفية غسل الجنابة المتضمنة للارتماس، بل لا يمكن البناء علي ذلك، لما هو المعلوم من أن غسل الجنابة مزيل لها، و لا يعقل إزالتها ثلاث مرات. بل يتردد الأمر بين أن يكون مجموع أغساله غسلا واحدا للجنابة في حقه، لخصوصية جنابته في عدم الإزالة إلا بها، و أن يكون غسل جنابته ببعض أغساله و وجوب ما زاد عليه لخصوصية الموت من دون أن يكون غسلا للجنابة.

و علي الأول يكون غسل جنابته مخالفا لغسل جنابة الحي في الكيفية، المستلزم لاختصاص أدلة كيفية غسل الجنابة المتضمنة للارتماس بغسل الحي، لصراحتها في كفاية الغسل الواحد في الطهارة من الجنابة المختصة بالحي، و تحتاج معرفة كيفية غسل جنابة الميت لدليل آخر.

و علي الثاني تثبت الكيفية المذكورة لأحد الأغسال من دون تعيين، غاية الأمر قضاء المناسبات بكونه الغسل الأخير الذي لا يعتبر فيه الخليط. لكن لا مجال للبناء عليه بمجرد ذلك، و لا سيما مع عدم ثبوت الوجه الثاني و احتمال الأول.

و من هنا لا مجال لاستفادة كفاية الارتماس من النصوص المذكورة، و ينحصر الأمر بالإطلاقات. لكن الاستدلال بها يتوقف علي عدم استفادة الوجوب من النصوص المتضمنة للكيفيات المتقدمة، المستلزم لعدم وجوب الترتيب حتي مع الغسل التدريجي بالصب، و هو خارج عن مبني كلام الأصحاب في المقام.

و من هنا يتجه ما في التذكرة و محكي نهاية الأحكام من الإشكال في سقوط الترتيب بالرمس، بل قوي عدمه في كشف اللثام، و جعله الأظهر في الجواهر، و مال إليه في المدارك.

نعم، استدل عليه في كشف اللثام و الجواهر- مضافا إلي ظهور الأخبار المفصلة

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

ص: 71

______________________________

لكيفيات الغسل- بالأصل، و الاحتياط، و ظهور الفتاوي و معاقد الإجماعات المفصلة لكيفيات الغسل، و التأسي.

و هو كما تري؛ فإن الأصل و الاحتياط يرجعان لوجه واحد محكوم لظواهر الأدلة الدالة علي سقوط الترتيب أو عدمه. كما أن المتيقن من الفتاوي و معاقد الإجماعات صورة الغسل التدريجي، لا بنحو تنهض بالمنع من الارتماسي، و لا سيما مع تصريح بعض مدعي الإجماع بسقوط الترتيب مع الارتماس أو بالإشكال فيه، و مع اشتهار التشبيه بغسل الجنابة في كلامهم. و أما التأسي فهو لا ينهض بنفسه دليلا علي الوجوب.

هذا، و أما الغسل الترتيبي برمس العضو بدل الصب عليه فلا يبعد البناء علي صحته، كما ذكره غير واحد، بل ادعي شيخنا الأعظم قدّس سرّه الاتفاق عليه. لإطلاق الأدلة بعد إلغاء خصوصية الصب في النصوص الشارحة لكيفية الغسل، و حملها علي المتعارف من الغسل التدريجي بالماء القليل.

ثم إنه بناء علي مشروعية التغسيل بالرمس- إما بنحو الغسل الارتماسي أو الترتيبي- فقد تقدم في غسل الجنابة جواز الارتماس في الماء غير المعتصم. و لا مجال له هنا، لانفعال الماء بملاقاة جسد الميت، فينجس و يمتنع التغسيل به. و لذا قيد غير واحد ممن بني علي الاكتفاء بالغسل الارتماسي بالارتماس في الكثير.

و دعوي: عدم تنجس الماء بجسد الميت في المقام، أو عدم مانعية تنجسه به من تغسيله به، و إلا فهو يتنجس بملاقاته حتي لو كان ترتيبيا بنحو الصب، فلو لا العفو عن ذلك لتعذر تغسيله بغير المعتصم.

مدفوعة: بأنه يكفي في التخلص عن المحذور المذكور العفو عن ملاقاة الماء للميت إذا كان واردا و عابرا عليه، كما هو المتعارف، فيكون هو المتيقن من العفو، أما العفو عنه مع ورود الميت علي الماء و رمسه به و مكثه فيه الخارج عن المتعارف، فهو مخالف لإطلاق أدلة الانفعال و لزوم طهارة المطهر المطابق للارتكاز، حتي لو بني علي إمكان التطهير بغمس المتنجس في الماء القليل، لأن العفو عن انفعال الماء بالمتنجس في مقام تطهيره به من الخبث، لا يستلزم العفو عنه في مقام التطهير به من الحدث، كما في المقام. و أما إطلاق دليل التشبيه بغسل الجنابة لو تم. فهو لا يقتضي العفو في المقام،

ص: 72

______________________________

لأن دليل مشروعية الارتماس ناظر لتصحيح الغسل من حيثية فقد الترتيب، لا من جميع الحيثيات حتي لو لزم منه تنجس الماء.

و أشكل من ذلك ما في كشف اللثام حيث قال: «و إن لم يشترط الإطلاق في الأولين لم يشترط الكثرة فيهما». إذ فيه: أن عدم اشتراط الإطلاق لا ينافي اعتبار الطهارة حين الوصول لجسد الميت، و هي منتفية بملاقاة أول جزء من الجسد عند رمسه. و منه يظهر أنه لو اجتزئ فيهما بغير المطلق امتنع رمسه في غير المطلق حتي لو كان كثيرا، لعدم عاصمية الكثرة في المضاف.

هذا، و في المسالك بعد أن ذكر سقوط الترتيب بالغمس قال: «و علي ما بيناه من وجوب نيات ثلاث يحصل التغاير بين الأغسال الثلاثة. و علي القول بإجزاء نية واحدة لا بد من تميز الغسلات بوضع الخليط مرتبا ليتحقق العدد و الترتيب». و ظاهره الاجتزاء بغمسة واحدة في ماء واحد، و إن تعدد الغسل إما بتعدد النية مع سبق جعل الخليطين فيه، أو بالتدرج في وضع الخليطين فيه مع وحدة النية.

و هو- مع ابتنائه علي الاكتفاء في كل غسلة بالبقاء تحت الماء من دون غمس جديد، الذي لا يبعد مطابقته لإطلاق الأدلة علي ما سبق في غسل الجنابة- يتوقف..

أولا: علي أن المعتبر في كل من الغسلتين الأوليين خليطها و لو مع ضم الخليط الآخر، و إلا تعذر تحقق كلتا الغسلتين مع عدم التدرج في وضع الخليطين، و خصوص الثانية منهما مع التدرج فيه، لاستلزامه تحققها حالة وجود الخليطين معا لا خصوص الكافور.

و ثانيا: علي أن وجود الخليطين لا يمنع من الغسلة الثالثة، لعدم خروج الماء بهما عن الإطلاق، و لأن المراد بالغسل بالماء القراح عدم اشتراط الخليط، لا اشتراط عدمه.

و كلاهما محل إشكال، و يأتي تمام الكلام فيهما في المسألة التاسعة إن شاء اللّه تعالي.

و لو تم الأمران اتجه تحقق الغسلات الثلاث مع سبق جعل الخليطين و وحدة النية باستمرار الغمسة الواحدة، حيث تقع الغسلة الأولي في الآن الأول، و الثانية في الثاني، و الثالثة في الثالث، و لا حاجة معه إلي التدرج في وضع الخليطين.

الخامس: تقدم في أول فصل أجزاء الوضوء أن المقدار الواجب من الماء ما يصدق معه وصول الماء للبشرة و مسّه لها و لو بمعونة اليد،

و إن لم يتحقق الجريان

ص: 73

______________________________

عرفا، بل و لا الغسل، و أن ما تضمنته جملة من الأدلة من الجريان و الغسل محمول بقرينة غيرها علي أن الغرض منهما وصول الماء للبشرة.

و يشكل الاكتفاء بذلك في غسل الميت، كما يبعد بناء الأصحاب رضي اللّه عنهم عليه و إن أوهمه إطلاق التشبيه بغسل الجنابة في كلماتهم، لما هو المرتكز- المعتضد ببعض النصوص- من ابتنائه علي التنظيف من الخبث الذي لا يكتفي فيه بذلك، و أن ترتب الطهارة من الخبث علي الطهارة من الحدث فيه لأن سبب الطهارة من الحدث بنحو يصلح للأمرين.

كما يناسبه ما في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: إنما الوضوء حدّ من حدود اللّه ليعلم اللّه من يطيعه و من يعصيه، و إن المؤمن لا ينجسه شي ء، إنما يكفيه مثل الدهن» «1»، لظهوره في تفرع الاكتفاء بمثل الدهن علي عدم التنجس، و أنه لو تنجس- كما في المقام- لم يكفه ذلك.

و ظهور النصوص الواردة في تعليم كيفية تغسيل الميت علي كثرتها و اختلاف مضامينها في المفروغية عن كثرة الماء، فإنه و إن أشكل ظهورها في الوجوب، لنظير ما سبق في التثليث، من ظهورها في بيان الكيفية الكاملة المبنية علي الإسباغ، إلا أن اتفاقها في ذلك، بل الأمر في صحيح الكاهلي «2» بالإكثار من الماء من دون أن يدل غيرها أو يشعر بخلافه صالح للتأييد.

بل قد يدل عليه ما رواه الصدوق بسنده عن الصفار: «أنه كتب إلي أبي محمد عليه السّلام:

كم حدّ الماء الذي يغسل به الميت؟ كما رووا أن الجنب يغسل بستة أرطال من ماء و الحائض بتسعة فهل للميت حدّ من الماء الذي يغسل به؟ فوقع عليه السّلام: حدّ غسل الميت يغسل حتي يطهر إن شاء اللّه تعالي. قال الصدوق: هذا التوقيع في جملة توقيعاته عليه السّلام عندي بخطه عليه السّلام في صحيفة» «3» و قريب منه ما رواه الشيخ من التوقيع المذكور «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 27 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 27 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 74

______________________________

فإن عدوله عليه السّلام عن التحديد بالأمر الحسي و هو وصول الماء إلي تمام البشرة إلي التحديد بأن يطهر الميت قد يظهر في مطلوبية كثرة الماء بالنحو الصالح لترتب التطهير عليه عند العرف. و لا مجال لحمله علي ما يترتب عليه التطهير تعبدا، كي يمكن شموله لصورة قلة الماء، لأن ذلك هو المسؤول عنه و الذي طلب بيان الحدّ لأجله، فلا يمكن الجواب بالتحديد به.

و دعوي: أن السؤال فيه ليس عن الحد اللازم، بقرينة ذكر تحديد غسل الجنب بستة أرطال و الحائض بتسعة. مدفوعة: بأن ذلك لا يناسب الجواب بالتحديد بترتب الطهارة، فلا بد من حمله علي بيان الحدّ الواجب إما عدولا عما هو المسؤول عنه، أو لابتناء السؤال علي تخيل وجوب الحدين المذكورين لغسل الجنب و الحائض.

و منه يظهر أن المكاتبة لا تمنع من حمل التحديد الآتي علي الاستحباب. و لعل ما ذكرنا كاف في الخروج عن إطلاق التشبيه بغسل الجنابة في صحيح محمد بن مسلم المتقدم «1» و جملة من كلمات الأصحاب رضي اللّه عنهم، فيحمل علي التشبيه في استيعاب الماء للبشرة مطلقا أو مع الترتيب. و أما إطلاق الغسل فهو لو تم لا يقتضي الاكتفاء بذلك، كما أشرنا إليه.

هذا، و في خبر فضيل سكرة: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك هل للماء الذي يغسل به الميت حدّ محدود؟ قال: إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال لعلي عليه السّلام: إذا أنا مت فاستق لي سبع [ست] قرب من ماء غرس فاغسلني و كفني و حنطني … » «2». و لا بد من حمله علي الاستحباب جمعا مع مكاتبة الصفار المتقدمة و غيرها من النصوص الظاهرة أو الصريحة في الاكتفاء بأقل من ذلك، لتضمنها وضع ماء كل غسلة في الإجانة أو الاكتفاء في كل غسلة بجرة من ماء «3»، حيث يبعد جدا كون سعة الإجانة و مقدار الجرة قربتين أو أكثر، بل لا ريب في عدم وجوب المقدار المذكور.

نعم، قد يكون عدم النص علي توثيق فضيل سكرة مانعا من التعويل علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 28 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3، 10.

ص: 75

و لا بد فيه من النية (1)،

______________________________

الحديث في إثبات الاستحباب الشرعي للمقدار المذكور فيه. إلا أن يعتضد بما في صحيح حفص بن البختري عنه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: يا علي إذا أنا مت فاغسلني بسبع قرب من بئر غرس» «1».

فإنه و إن لم يرد مورد التحديد إلا أنه حيث كان متضمنا تحديد ماء غسله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يبعد البناء علي استحبابه للتأسي، و لقرب ظهور وصيته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في رجحان القدر المذكور فيه. لكنه يقتضي استحباب السبع قرب، لا الست كما هو المعروف من رواية فضيل، و إن كان الموجود في بعض طبعات الوسائل إضافة «سبع» في إحدي نسختي الحديث.

وجوب النية في غسل الميت
اشارة

(1) كما في الخلاف و إشارة السبق و القواعد و ظاهر التذكرة و في الدروس و اللمعة و جامع المقاصد و المسالك و الروض و الروضة و محكي الكافي و المهذب و التحرير و الذكري و البيان و كشف الالتباس و فوائد الشرائع و الجعفرية و شرحيها و غيرها. و في المدارك و عن المفاتيح و الذخيرة أنه مذهب أكثر الأصحاب، و عن الكفاية أنه المشهور، و في جامع المقاصد أنه مذهب المتأخرين عدا المحقق في المعتبر، بل في بعض نسخ الخلاف دعوي الإجماع عليه، كما حكاه عنه في المعتبر و غيره، و إن ادعي غير واحد عدم عثوره عليها فيه.

و تردد فيه في المعتبر و المدارك و محكي نهاية الأحكام و مجمع البرهان، كما عن ظاهر المفاتيح و الكفاية، بل عن المنتهي الجزم بالعدم، و إن كان ما عثرت عليه من كلامه لا يخلو عن اضطراب، و في مفتاح الكرامة: «و هو الذي حكاه جماعة عن السيد في المصريات». كما قد يستفاد من إهمال التنبيه عليها في جملة من الكتب، كالمقنعة و المبسوط و النهاية و الاقتصاد و الغنية و الوسيلة و السرائر و الشرائع و النافع و الإرشاد و غيرها، و إن احتمل كون إهماله في جملة منها للمفروغية عن أن الغسل من العبادات، و أن غسل الميت كغسل الجنابة.

و كيف كان، فيظهر من جملة منهم أن منشأ التوقف في وجوب النية احتمال كون

______________________________

(1) الوسائل باب: 28 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 76

______________________________

الغرض منه تطهير الميت من نجاسة، لما هو المعلوم من أن إزالة النجاسة لا يحتاج إلي نية.

لكنه كما تري لا يناسب النصوص الكثيرة المتضمنة تعليل وجوب الغسل بأن الميت يجنب «1»، و المتضمنة تشريع التيمم بدله «2»، لما هو الظاهر من أن التيمم مطهر من الحدث، و المتضمنة إجزاء غسله عن غسل الجنابة «3»، لما هو المرتكز من أن التداخل فرع اتحاد السنخ، بحيث يصلح العمل الواحد للقيام بالوظيفتين، و لا سيما مع تعليله في صحيح زرارة بقوله عليه السّلام: «لأنهما حرمتان اجتمعا في حرمة واحدة» «4». مؤيدا بسوقه في بعض النصوص «5» في سياق بقية الأغسال التي من شأنها الطهارة غير الخبثية.

بل لعل ذلك هو الفارق الارتكازي عند المتشرعة بين الغسل بالضم و الغسل بالفتح، و إن لم يتضح مأخذه من اللغة. و مجرد ترتب الطهارة الخبثية علي غسل الميت لا ينافي ذلك، لإمكان قيام الغسل بالوظيفتين، أو ترتب ارتفاع الخبث علي ارتفاع الحدث. و بالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم تمحض غسل الميت في التطهير من الخبث.

نعم، لم يتضح عموم اعتبار النية في التطهير من الحدث، و لا في الغسل بالضم، لانحصار الدليل عليه في بقية الأغسال بالإجماع الذي لا مجال لدعواه في المقام بعد ما عرفت. و مجرد ظهور كلام من خالف فيه في استناده للشبهة المتقدمة التي عرفت دفعها لا يكفي في استفادة الإجماع علي العموم المذكور بالنحو الكافي في الحجية، و إن كان صالحا للتأييد.

و من هنا فقد استدل عليه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأن عباديته من مرتكزات المتشرعة، و لا فرق عندهم بينه و بين بقية الطهارات في كونها عبادة يعتبر فيها ما يعتبر في سائر العبادات. قال: «و هذا الارتكاز حجة علي ثبوته في الشرع، و إلا لم ينعقد، لوجوب الردع عنه».

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 3، 1 من أبواب غسل الميت.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 3. و باب: 19 من الأبواب المذكورة حديث: 1 و باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 1.

(3) راجع الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت.

(4) الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 1 من أبواب غسل الجنابة حديث: 3.

ص: 77

______________________________

لكنه يشكل بعدم وضوح الارتكاز المذكور فضلا عن حجيته. و لا سيما مع عدم شيوع مزاولة تغسيل الميت بين المتشرعة، و إنما يختص به بعض الناس ممن يمكن استناد ارتكازهم لو تم لمعروفية الحكم في فتاوي العلماء، من دون أن يحرز اتصاله بعصور المعصومين عليهم السّلام و وضوحه، ليكشف عدم ردعهم عن مطابقته للحكم الشرعي.

كما استدل عليه في الجواهر و غيره بما تضمن من النصوص أن غسل الميت غسل الجنابة أو مثله، و حيث ثبت اعتبار النية في غسل الجنابة بالإجماع لزم اعتباره في غسل الميت، قضية للعينية أو المماثلة.

و قد استشكل فيه سيدنا المصنف قدّس سرّه بأنه موقوف علي عموم التشبيه لمثل النية التي هي خارجة عن الغسل بالمرة، و إنما تكون شرطا في ترتب الأثر لا غير. و قد يرجع إليه ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

فإن أراد أن النية ليست شرطا شرعيا في غسل الجنابة، لامتناع أخذ ما لا يتأتي من قبل للأمر في متعلقه، و إنما يؤتي بها لتوقف ترتب الأثر عليها، فلا يشملها إطلاق التنزيل. فهو مندفع بما هو التحقيق من إمكان اعتبارها شرعا بنحو تكون قيدا في المأمور به لفظا أو لبا، و خصوصا في الطهارات، علي ما فصل في مبحث التعبدي و التوصلي، كما تقدم في المسألة الواحدة و السبعين من مباحث الوضوء التعرض لوجه خصوصية الطهارات.

و إن أراد انصراف الأدلة إلي التشبيه و التنزيل بلحاظ الكيفية الخارجية، دون مثل النية التي هي فعل قلبي. فهو ممنوع، و لا مخرج من إطلاق التشبيه.

فالعمدة الإشكال فيه- مضافا إلي ما سبق في الارتماس من قصور ما ظاهره كون غسل الميت من أفراد غسل الجنابة الحقيقية، و أن الاستدلال قد يمكن بما تضمن تشبيهه به- بما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره من أن اعتبار النية في غسل الميت- لو تم- ليس علي نحو اعتباره في غسل الجنابة، إذ المعتبر في غسل الميت النية من المغسل و في غسل الجنابة من المغتسل، فالدليل المذكور بعد قصوره عن إثبات اعتبارها بالنحو الثاني لا ينهض بإثبات اعتبارها بالنحو الأول. نعم قد ينفع في إثبات اعتبارها في غسل المغتسل قبل القتل إذا وجب قتله برجم أو قصاص بدلا عن تغسيله بعده. فتأمل.

ص: 78

______________________________

و منه يظهر الإشكال في الاستدلال بالإطلاقات المقامية بدعوي: أن ثبوت اعتبار النية في غير غسل الميت كاف في إثبات اعتبارها فيه، لأن الظاهر من الأمر بالغسل في المقام بعد عدم شرح يختص به هو المعهود من ماهية الغسل في سائر الموارد.

فإن ذلك لو تم لا يقتضي اعتبارها فيه علي نحو يخالف اعتبارها في سائر الموارد.

و مثله ما ادعي من أن الأصل التعبدية في الأوامر، لما تحقق في مبحث التعبدي و التوصلي من عدم تمامية الأصل المذكور، سواء أريد به مقتضي طبع الأمر أو إطلاقه في كل مورد، أم مقتضي عموم دليل خارج، أم مقتضي الأصل العملي. فراجع.

فلعل الأولي: الاستدلال علي اعتبار النية بأصل الاشتغال الذي سبق عند الكلام في وجوب تثليث الأغسال أنه المرجع عند الشك في اعتبار شي ء في غسل الميت لرجوع الشك فيه للشك في المحصل.

نعم، قد يدعي أن الأصل المذكور مورود للإطلاقات الشارحة لغسل الميت، التي لم تتعرض علي كثرتها للنية، بناء علي ما هو التحقيق من أن مقتضي الإطلاق التوصلية، علي ما حقق في مبحث التعبدي و التوصلي.

اللهم إلا أن تكون معروفية عبادية بقية الأغسال مانعة من انعقاد ظهور الإطلاقات المذكورة في نفي اعتبار النية في غسل الميت و موجبة لكون المتيقن منها بيان الكيفية الخارجية، و لا سيما مع ورود نظيرها في غسل الجنابة، و مع ما سبق من ظهور حال الأصحاب في المفروغية عن اعتبار النية لو كان الغسل رافعا للحدث، فإن ذلك كله لو لم ينهض بالحجية علي اعتبار النية فلا أقل من نهوضه بمنع انعقاد ظهور الإطلاقات في عدم اعتبارها، فلا تنهض بمنع الرجوع للأصل المتقدم.

هذا، و قد فصل الفقيه الهمداني فذهب إلي أنه لا يعتبر في الغسل النية، بمعني الداعي القربي، بل بمعني القصد له بعنوانه و بماله من الماهية الشرعية، معتمدا في نفي الأول علي ما سبق في الجملة بضميمة دعوي أن مقتضي الأصل في ذلك البراءة، و في إثبات الثاني علي أن المتبادر من الأمر بالغسل و الوضوء في جميع الموارد ليس إلا الطبيعة المعهودة المعروفة لدي المتشرعة علي سبيل الإجمال، لا مطلق غسل البدن أو الأعضاء المعهودة كيف اتفق، و لا يمكن الاطلاع علي تلك الماهية و لا قصدها إلا

ص: 79

علي حسب ما عرفت في الوضوء (1)

______________________________

بقصد عنوانها إجمالا. من دون فرق بين أن يتعلق الأمر بأن يغتسل أو يتوضأ بنفسه و أن يتعلق بأن يغسل غيره أو يوضئه، و ليس المفهوم من الثاني إلا سقوط اعتبار مباشرة المغتسل و المتوضئ، لا الاكتفاء بمطلق الغسل من دون قصد.

و يشكل بأن كون الغسل و الوضوء طبيعة معهودة مخترعة للشارع و إن كان مسلما إلا أنه لا يستلزم اعتبار قصد عنوانهما فيهما، بحيث لا يصحان بدونه، نظير التحية الشرعية، التي هي صيغة خاصة للسلام، و لا يعتبر في صحتها قصد عنوانها الشرعي. و حينئذ فإن كان مقتضي الإطلاق أو الأصل نفي اعتبار النية في الغسل لم يعتبر فيه كلا النحوين، و إلا اعتبر فيه كلاهما.

كما أن ما ذكره من أن مرجع الأمر بتغسيل الغير و توضئته إلي سقوط اعتبار مباشرة المغتسل و المتوضئ لو اطرد لا يكفي في المدعي مع ما تقدم في مبحث الوضوء من أنه مع عدم مباشرة المتوضئ للوضوء تكون النية به منه لا من الموضئ له.

و أشكل من ذلك ما قد يظهر منه من محاولة التوفيق بذلك بين القولين بحمل كلام من اعتبر النية علي إرادة المعني الأول، و كلام من نفاه علي إرادة الثاني.

إذ فيه: أن حمل كلام من اعتبرها علي المعني الأول لا يناسب استدلالهم بما يرجع إلي أصالة التعبدية في الأوامر، كقوله تعالي: وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «1»، و قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «لا عمل إلا بنية» «2».

كما أن حمل كلام من لم يعتبرها علي المعني الثاني لا يناسب استدلالهم باحتمال كون تشريع الغسل لإزالة نجاسة بدن الميت، كما اعترف به في الجملة. بل يظهر من الجواهر الإجماع علي عدم الفصل بين الأمرين.

(1) من الاكتفاء بالاندفاع عن الداعي القربي و إن كان ارتكازيا إجماليا من دون حاجة إلي إخطاره و استحضار صورته في الذهن تفصيلا. كما لا حاجة إلي

______________________________

(1) البينة: 5.

(2) الوسائل ج 1 باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1.

ص: 80

______________________________

نية الوجوب و الرفع و الاستباحة و غيرها. بل لا موضوع لنية الاستباحة بعد عدم تكليف الميت بما يتوقف علي الطهارة. إلا أن يراد به استباحة الصلاة عليه، و الظاهر خروجه عن محل كلامهم في نية الاستباحة في الطهارات.

بقي في المقام أمور:
الأول: ظاهر الدروس و عن الذكري الاكتفاء بنية واحدة للأغسال الثلاثة،

و هو الذي جزم به في المدارك و الجواهر و محكي مجمع البرهان و الكفاية، بل نسبه في الجواهر لصريح جماعة و ظاهر آخرين. لظهور الأدلة في كونه عملا واحدا، لإطلاق اسم غسل الميت عليه، و عدم ترتب الآثار إلا علي جميعه، و للتعبير عنه في نصوص التداخل مع بقية الأغسال الواحد «1» و غير ذلك.

خلافا لإشارة السبق و المسالك و الروض و الروضة و الرياض فأوجبوا تجديدها لكل غسل. قال في الروض: «لتعدد الأغسال اسما و صورة و معني»، و لما يأتي في كلام جامع المقاصد، و لعموم ما تضمن أنه لا عمل إلا بنية المقتضي لاعتبارها حتي في أجزاء العمل الواحد لو لا الإجماع علي عدم وجوبه، الذي لا مجال له في المقام بعد ما عرفت، و لا سيما مع عدم سقوط بعضها بتعذر الآخر، كما يأتي.

و خير بين الأمرين في جامع المقاصد و محكي فوائد الشرائع. قال في الأول:

«لأنه في المعني عبادة واحدة و غسل واحد مركب من مجموع غسلات يترتب علي فعله عدة أمور، فينوي له عند أول الغسلات، و في الصورة ثلاثة أغسال، لوجوب الترتيب في أعضاء كل مرة، و ثبوت التشبيه بين كل مرة و غسل الجنابة في النصوص و كلام الفقهاء، فلا يمتنع إفراد كل غسل بنية عند أوله. و لا يجوز إفراد أبعاض الغسلة بنية، كما في سائر الأغسال».

هذا، و الظاهر ابتناء النزاع المذكور علي أن النية المعتبرة هي الاخطارية التفصيلية عند الشروع في العمل ثم الاكتفاء بالنية الارتكازية الإجمالية حال الاستمرار فيه.

و حيث سبق عند الكلام في النية من مبحث الوضوء أنه لا دليل علي اعتبار النية بالنحو المذكور فلا يتسني لنا تحديد معيار وحدة العمل و أنه عبارة عن العمل الارتباطي أو

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت.

ص: 81

______________________________

العمل الواحد عرفا أو غيرهما، لينظر في ترجيح أحد القولين علي تقدير البناء عليها.

نعم، الظاهر عدم تمامية ما ذكره في جامع المقاصد وجها لمختاره، لأنه أشبه بالجمع بين المتنافيين. بل الأولي الاستدلال له بأنه لا يحتمل مبطلية النية الإخطارية التفصيلية لو جددت في أثناء العمل الواحد. و ما تقدم من جامع المقاصد من منع تجديد النية لأجزاء الغسل الواحد غريب جدا. إلا أن يرجع لما يأتي. و عليه يكون الاكتفاء بالنية الإجمالية في الأثناء رخصة لا عزيمة، و لازم ذلك رجوع مراد من اكتفي بنية واحدة إلي التخيير الذي اختاره قدّس سرّه كما يناسبه ما تقدم عند الاستدلال لتعدد النية بعموم ما تضمن أنه لا عمل إلا بنية.

ثم إنه حيث أشرنا هنا إلي ما سبق في مباحث الوضوء من الاكتفاء بالنية الإجمالية الارتكازية، لكفايتها في تحقق الداعي القربي و في العبادية يظهر أنه لا موضوع لهذا النزاع، حيث لا تعتبر النية التفصيلية لا عند الشروع في الغسل و لا في أثنائه، إلا أن تتوقف عليها النية الإجمالية التي تكفي في تمامه.

نعم، قد يحرر النزاع المذكور بوجه آخر، فإنه حيث كان امتثال الأمر الضمني لا يصلح للمقربية إلا بلحاظ كونه امتثالا للأمر الاستقلالي بتمام المركب، فلا بد من قصده في طول قصد امتثال الأمر الضمني. و حينئذ فالأغسال المذكورة إن كانت مأمورا بها بأمر واحد ارتباطي لزم الاندفاع عن الأمر المذكور و لا يكون قصد أوامرها الضمنية إلا تبعيا، و إن كان كل منها مأمورا به بأمر استقلالي لزم الاندفاع عن أمره الخاص به المباين لأمر غيره، و لا مجال لقصد أمر واحد فيها جميعا، لعدم وجوده. و لعله إلي هذا نظر في جامع حيث منع من تجديد النية لأجزاء الغسل الواحد و إن لم يبعد مخالفته لظاهر كلامه.

و من هنا كان الظاهر الاقتصار علي نية واحدة للأغسال الثلاثة، بمعني الاندفاع فيها عن الأمر الواحد المتعلق بغسل الميت، لظهور الأدلة في كونه ارتباطيا بالإضافة للأغسال لا انحلاليا.

و لا ينافيه ما سبق من الروض من اختلافها اسما و صورة و معني- لو تم- كما هو ظاهر، و لا سيما مع وحدة الأثر المترتب عليها، و هو الطهارة الحدثية و الخبثية. و لا تشبيهه بغسل الجنابة، فإنه و إن لزم حمله علي تشبيه كل غسل به إلا أنه لا بد من حمله

ص: 82

______________________________

علي التشبيه به في الكيفية الخارجية، لا في وجوب النية- لما تقدم- فضلا عن كيفيتها.

كما لا ينافيه عدم سقوط بعض الأغسال بتعذر غيره، لابتناء جميع موارد قاعدة الميسور علي تبدل الأمر الضمني بالميسور إلي أمر استقلالي به.

و دعوي: أن لازم ذلك عدم صحة الغسل الأول لو أتي به المكلف بانيا علي الاقتصار عليه إما لتخيل العجز عن غيره، أو للتسامح و البناء علي الإخلال به عصيانا، فلا يكتفي بضم الباقي إليه لو انكشفت القدرة عليه، أو عدل عن عصيان أمره، أو أراد غيره إتمام الواجب.

مدفوعة: بأنه لا مانع من البناء علي ذلك لو رجع إلي قصد امتثال خصوص الأمر المتعلق بالغسل المأتي به وحده، أما لو رجع إلي قصد الشروع في امتثال الواقعي، لتخيل اختصاصه به بسبب تخيل العجز عن غيره، أو لتيسر الامتثال بالباقي لو أراد ذلك غيره مع عدم العجز عنه فلا مانع من البناء علي الصحة حينئذ. و هذا هو الحال في جميع موارد قاعدة الميسور، كما لو دخل في الصلاة بتخيل العجز عن الركوع أو السجود التامين، فانكشفت القدرة عليهما عند الوصول لمحلهما.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر الأمر بغسل الميت و إن كان هو الارتباطية بالإضافة إلي الأغسال، إلا أن المناسبات الارتكازية قد تقتضي حمله علي الانحلال، بمعني كون الغسل الأول مطلوبا استقلاليا نفسيا، و غيريا بلحاظ شرطيته في الثاني، و كذا الثاني بالإضافة للثالث، لما هو المرتكز من استقلال كل غسل بأثره الحاصل بإصابة الماء للجسد، و هو مرتبة من الطهارة و إن لم يترتب عليه ما بعده، فإن تمت الأغسال حصلت الطهارة التامة المطلوبة، و إن اقتصر علي بعضها لم يحصل إلا بعض مراتبها.

لكن في بلوغ المناسبة المذكورة حدّ القرينية الصارفة لظاهر الأمر بغسل الميت إشكال، و لا سيما مع عدم وضوح الفرق بين الأغسال الثلاثة فيما بينها و أجزاء الغسل الواحد التي يبعد جدا البناء علي كون مطلوبيتها انحلالية لا ارتباطية. نعم لا بأس بالاحتياط بقصد التقرب و الامتثال للأمر الواقعي علي ما هو عليه من إجمال.

هذا، و أما ما في جامع المقاصد من التخيير- لو كان ناظرا في تحرير النزاع إلي ما ذكرنا- فهو أضعف الوجوه المذكورة في المقام، لضعف الوجه المذكور له في كلامه،

ص: 83

______________________________

بل هو كالجمع بين المتنافيين، لوضوح أن المعيار في وحدة النية علي الأمر الاستقلالي الذي يمتنع وقوعه بالوجهين. فلاحظ.

الثاني: صرح في جامع المقاصد و الروض و الروضة و المدارك و محكي الذكري بأن النية نية الصاب.

لكن عن الذكري الاجتزاء بنية المقلب أيضا، بدعوي: أن الصاب كالآلة.

و قد استبعده في المدارك، و رده في جامع المقاصد و الروض بأن الغاسل حقيقة هو الصاب، لتقوم الغسل بإجراء الماء، بل ذلك منه لا يناسب اجتزاءه بنية الصاب.

نعم عن حواشي الشهيد أن الشيخ حتمها علي الغاسل، و أوجبها علي الصاب لا لتوقف الأغسال عليها، بل لتحصيل الثواب، فلو فقدت نية الغاسل فهو باطل.

و الذي ينبغي أن يقال: إن النية إنما تجب علي الغاسل، و هو الذي يستند إليه وصول الماء لبدن الميت بحيث لا يتوسط في البين فعل اختياري من غيره، و هو يختلف، حيث يكون تارة: هو الصاب كما لو أبدي المقلب بدن الميت و اعتزله ثم صب الصاب الماء عليه، و أخري: هو المقلب، كما لو صب الصاب الماء و لم يتخلل ما لم يغسل من بدن الميت إلا بإمرار المقلب يده عليه و تحريكه، و ثالثة: كليهما بنحو الاشتراك بحيث لا يصل الماء إلا بفعلهما معا، و رابعة: كلا منهما بنحو الاستقلال، كما لو أوصل الصاب الماء لبدن الميت، و أرجعه الصاب عليه بإمرار يده.

و يلزم في الأولي نية الصاب، و في الثانية نية المقلب، و في الثالثة نيتهما معا، و في الرابعة نية أحدهما، و أيهما سبق كان الآخر لغوا. و لعل اشتباه بعض الصور ببعض هو الذي سبب الخلاف المتقدم، فلاحظ.

الثالث: صرح غير واحد بجواز تعدد الغاسل بنحو الاشتراك و بنحو التوزيع،

بل يظهر منهم المفروغية عن ذلك. و يقتضيه إطلاق جملة من الأدلة الشارحة لغسل الميت. و كذا إطلاق ما تضمن أنه يغسله أولي الناس به أو من يأمره «1». و مجرد خطاب شخص واحد به أو تعليمه له في بعض الأخبار لا يصلح لتقييد الإطلاق.

و لا سيما مع أمر جماعة به في جملة من الأخبار، مثل ما ورد في المحروق و المجدور من

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 26 من أبواب غسل الميت.

ص: 84

(مسألة 2): إذا كان المغسل غير الولي فلا بد من إذن الولي (1)،

______________________________

قوله عليه السّلام: «فأمرهم أن يصبوا عليه الماء صبا» «1» و قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «يمموه» «2»، و ما ورد فيمن مات مع غير المسلمين من قوله عليه السّلام: «يغتسل النصاري ثم يغسلونه» «3» و كذا ما ورد فيمن ليس له محرم و لا مماثل «4».

و أما ما ذكره شيخنا الاستاذ قدّس سرّه من منافاة التوزيع لوحدة العمل شرعا. فهو كما تري، لأن وحدة العمل شرعا تابعة لحدوده الشرعية، فلا تقتضي وحدة المباشر إلا بدليل.

مسألة 2: وجوب الرجوع إلي الولي في أحكام الميت
اشارة

(1) قد استفاضت كلمات الأصحاب في الجملة بلزوم الرجوع للولي في جميع أحكام الميت. و هي و إن اختلفت بين ما اشتمل علي ذلك في جميعها، و ما اشتمل عليه في بعضها، إلا أنه لا يبعد رجوع الثاني للأول، و أن عدم التعرض له في باقيها ليس للخلاف فيه، بل غفلة بسبب المفروغية عنه التي تظهر من جملة من كلماتهم.

و قد ادعي في الخلاف و المنتهي الإجماع علي ذلك في الصلاة علي الميت، كما ادعي في التذكرة الإجماع علي أن الولي أولي من الوالي بالصلاة، و علي أن للولي إفراد ميته بصلاة، و في المعتبر الإجماع علي عدم جواز تقدم غير الولي. و لعله لذا ذكر في الحدائق أن ذلك مما لا خلاف فيه نصا و فتوي، و هو و إن ذكره في الغسل إلا أن مساق كلامه يناسب إرادة العموم، و استظهر في جامع المقاصد الإجماع علي الكلية المذكورة، و في الجواهر: «و لعله كذلك و إن تركه بعضهم في بعض المقامات» ثم أطال في النقل عنهم ثم قال: «إلي غير ذلك من كلماتهم المتفرقة التي يحصل للفقيه القطع من ملاحظتها بالأولوية المتقدمة».

و كيف كان، فقد استدل عليه في جملة من كلماتهم بقوله تعالي: وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ «5». و فيه: أنه إنما يتضمن تعيين الأولي في الأرحام بعد الفراغ عن كون المورد مما يرجع فيه للأولي، كالميراث المفروغ عن انتقاله بعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 19 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) راجع الوسائل باب: 22 من أبواب غسل الميت.

(5) الأنفال الآية: 75، الأحزاب الآية: 6.

ص: 85

______________________________

الميت لغيره، و لا تصلح لبيان المورد الذي يرجع فيه للأولي لو احتمل عدم الحاجة إليه، نظير التشييع.

و ربما لا يكون استدلالهم به لإثبات لزوم الرجوع للولي في أحكام الميت، بل لتعيين الولي و أنه الأولي بالميراث بعد المفروغية عن كون الأحكام المذكورة من موارد الرجوع للولي.

و أما دعوي: أن كون المقام من موارد الرجوع للولي مقتضي أصالة حرمة التصرف في بدن الميت، و فيما يحتاج إليه تجهيزه من مال محترم للورثة في الكفن و الحنوط و الدفن و غيره.

فهي مدفوعة: بعدم الدليل علي حرمة التصرف في بدن الميت، لاختصاص دليل السلطنة بحال الحياة، و كذا دليل حرمة دم المسلم و ماله «1» الذي قد يستفاد منه حرمة مطلق التصرف في بدنه، و لو بقرينة جعل الغاية له طيب النفس. بل مقتضي إطلاق أدلة أحكام الميت الظاهرة في الوجوب الكفائي- كما تقدم- جوازه لكل أحد من غير إذن.

و أما التصرف في الأموال المذكورة فهو محتاج إلي إذن مالكيه حتي في حق الولي الذي قد لا يكون مالكا لتمامها كالزوج، بل قد لا يكون مالكا لشي ء منها.

فلا بد أن يكون محل الكلام ما إذا لم يلزم التصرف فيها بغير إذنهم، و لو لعزل الميت مالا خاصا لتجهيزه، أو لبذل باذل لمال آخر.

فالعمدة في المقام النصوص الواردة في الموارد المتفرقة، ففي مرسلي ابن أبي عمير و البزنطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: يصلي علي الجنازة أولي الناس بها أو يأمر من يحب» «2»، و في موثق السكوني عنه عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام: «قال: قال أمير المؤمنين: إذا حضر سلطان من سلطان اللّه جنازة فهو أحق بالصلاة عليها إن قدمه ولي الميت، و إلا فهو غاصب» «3»، و نحوها النصوص الآتية في أولوية الزوج، و في صحيح زرارة: «أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القبر كم يدخله؟ قال: ذاك إلي الولي، إن شاء

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب مكان المصلي حديث: 1 و باب: 1 من أبواب القصاص حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 2، 4.

(3) الوسائل باب: 23 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 2، 4.

ص: 86

______________________________

أدخل وترا، و إن شاء شفعا» «1»، و في مرسل الصدوق: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: يغسل الميت أولي الناس به أو من يأمره الولي بذلك» «2».

و أما الاستدلال في كلام جماعة بموثق غياث بن ابراهيم أو صحيحه عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السّلام: «أنه قال: يغسل الميت أولي الناس به» «3». فلا مجال له، لأنه ظاهر في طلب المباشرة، و هو أعم من الولاية، و لا سيما مع ما هو المعلوم من حمله علي الاستحباب. و مثله في ذلك ما تضمن الأمر بنزوله في القبر و مباشرته التلقين فيه «4»، و بعد إكمال الدفن و انصراف المشيع «5». غاية الأمر أنه قد يشعر بالمفروغية عن الرجوع في أمور الميت لشخص خاص يكون هو الأولي به. فتأمل.

و في النصوص الأول كفاية، و هي و إن لم تنهض بإثبات عموم المدعي بنفسها، لاختصاصها بالزوج في جميع أحكام زوجته، و بغيره في الصلاة و الدفن، دون التغسيل، لعدم الدليل عليه إلا مرسلة الصدوق الضعيفة، و دون التكفين و التحنيط، إلا أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه ادعي عدم الفصل في المقام.

بل لا يبعد فهم ذلك من النصوص بإلغاء خصوصية مواردها، و لو بضميمة السيرة العرفية الارتكازية، لمناسبة الحكم المذكور للجهات العاطفية و الأدبية، و لما هو المعلوم من توقع التشاح و التشاكس في القيام بالأحكام المذكورة و اختيار خصوصيات تطبيقها، الذي لا يدفعه إلا الرجوع لشخص خاص فيها. بل ثبوت الولاية في الصلاة مع عدم استلزامها تصرفا في الميت يناسب ثبوتها في باقي أحكامه مما يستلزم التصرف فيه بالأولوية العرفية.

و يؤيد ذلك ظهور مفروغية الأصحاب، حيث لا يبعد تسالمهم عليه طبقة بعد طبقة متصلا بعصور المعصومين عليهم السّلام و لو بضميمة الجهات الارتكازية المشار إليها.

بل الظاهر قضاء مرتكزات المتشرعة باستنكار الاستقلال عن الولي في تجهيز الميت، فضلا عن مسابقته أو مزاحمته، و عدّه من أفحش الظلم و العدوان.

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الدفن حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 26 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 26 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 20 من أبواب الدفن حديث: 7، 5.

(5) راجع الوسائل باب: 35 من أبواب الدفن.

ص: 87

______________________________

و بملاحظة جميع ذلك لا ينبغي التوقف في عموم الولاية، فضلا عن أصل ثبوتها في الجملة. و منه يظهر ضعف ما عن الكافي من إنكار الأولوية مطلقا. و لعله يريد أمرا أخر، كالأولوية في المباشرة، و إن كانت هي ثابتة في الجملة أيضا. و كلامه ليس بأيدينا.

هذا،

و حيث ظهر ثبوت الولاية في الجملة فينبغي الكلام في أمور متعلقة بتحديدها و ما يتعلق بها:
الأول: أن ظاهر الأصحاب كون الأولوية المذكورة علي نحو الوجوب،

بل هو صريح جملة منهم. لكن في الغنية: «و المستحب أن يقدم للصلاة أولي الناس بالميت أو من يأمره»، و ظاهر ذيل كلامه دعوي الإجماع علي ذلك، و في المنتهي: «يستحب أن ينزل القبر الولي أو من يأمره الولي إن كان رجلا، و إن كان امرأة لا ينزل قبرها إلا زوجها أو ذو رحم لها». و هما و إن كانا ناظرين للمباشر إلا أن عطف من يأمره الولي عليه ظاهر في بنائهما علي كون الأولوية علي الاستحباب و به صرح في المستند.

و عن كشف اللثام: «و هو قوي، للأصل، و ضعف الخبر سندا و دلالة، و منع الإجماع علي أزيد من الأولوية». و فيه: أن الأصل يختلف باختلاف الأحكام، فهو و إن كان يقتضي البراءة في التكفين و التحنيط و الدفن، إلا أنه يقتضي الاحتياط في الغسل، لما تقدم عند الكلام في وجوب التثليث في الأغسال من رجوع الشك فيه للشك في المحصل. و أما الخبر فقد سبق وفاء جملة من النصوص المعتبرة بالدلالة علي الأولوية، و هي ظاهرة في الوجوب، و لا سيما موثق السكوني المتضمن أن من يتقدم بدون إذن الولي غاصب. و بها يستغني عن الإجماع الذي لو تم فظاهر بعض معاقده و صريح بعضها الوجوب.

و بما ذكرنا يظهر و هن الإجماع المتقدم من الغنية. و ربما يحمل ككلام المنتهي علي استحباب المباشرة، بقرينة بقية كلامهما و كلام الأصحاب، و إن لزم نحو إشكال في عبارتهما.

و أضعف من ذلك الاستدلال علي عدم الوجوب بقيام السيرة علي عدم تعطيل الفعل للاستئذان من الولي، و عسر التوقف عليه. لمنع السيرة المذكورة بعد غلبة

ص: 88

______________________________

حضور الولي و توليه شئون ميته، فإما أن يصرح بالإذن أو يظهر حاله فيه. و المتيقن من عدم استئذانه مع عدم حضوره صورة تعذر أو تعسر الاستئذان منه، و هو- مع قلته- خارج عن مفروض الكلام. و لعله هو المنشأ لدعوي عسر التوقف علي الإذن.

الثاني: قال في محكي مجمع البرهان: كون الأولوية بمعني عدم جواز اشتغال الأبعد بأحكام الميت إلا بإذن الأقرب،

«و لو مع عدم صلاحيته له، ما نري له دليلا قويا». و قريب منه في المدارك. و ظاهرهما قصور دليل الولاية في حق من ليس له المباشرة. و هو مبني علي استفادة الولاية مما تضمن الأمر بالمباشرة، كحديث غياث المتقدم، حيث لا مجال مع تقييده في مورد لاستفادة الولاية منه فيه.

و يظهر ضعفه مما تقدم من عدم نهوض ذلك بإثبات الولاية، و أن الدليل عليها ما تضمن إناطة الفعل بنظر الولي، و من الظاهر أن عدم رجحان مباشرته في مورد لا ينافي إناطة الفعل بأمره، ليستلزم سقوط ولايته.

الثالث: ظاهر كلام الأصحاب، بل صريح جماعة أن مقتضي الولاية لزوم صدور الفعل من الولي أو بنظره.

لكن ذهب بعض مشايخنا أن مقتضاها عدم جواز مزاحمته من دون أن يلزم استئذانه، لدعوي: عدم نهوض أدلتها بأكثر من ذلك.

و يشكل: بأن ذلك لا يناسب جميع نصوص المسألة المتقدمة، كصحيح زرارة المتضمن إيكال الأمر إليه، و مراسيل ابن أبي عمير و البزنطي و الصدوق المتضمنة للترديد في المباشر بين الولي و من يأمره، لظهوره في انحصار الأمر بهما، و موثق السكوني الظاهر في عدم خروج المباشر عن كونه غاصبا إلا بتقديم الولي، و نصوص أولوية الزوج المتضمنة أنه أحق، لوضوح أنه لا يراد به التفضيل، إذ لا معني له في الحق اللازم، بل المراد أنه صاحب الحق، و كما لا يجوز مزاحمة صاحب الحق لا يجوز تقدمه من دون إذنه، و لعله لذا صرح في الجواهر بضعف احتمال ذلك. فلا معدل عما هو ظاهر الأصحاب.

الرابع: أشرنا في ذيل الكلام في الوجوب الكفائي إلي ما يظهر من غير واحد من الأصحاب من منافاة ولاية شخص خاص له.

قال في جامع المقاصد في مبحث الصلاة علي الميت جماعة: «و لا يخفي أن إذن الولي إنما تعتبر في الجماعة، لا في أصل

ص: 89

______________________________

الصلاة، لوجوب ذلك علي الكفاية، فكيف يناط برأي أحد من المكلفين، فلو صلوا فرادي بغير إذن أجزأ»، و نحوه في الروض إلا أنه نسب ذلك لظاهر الأصحاب كما نسبه لهم في محكي الذخيرة.

و هو لو تم لا يختص بالصلاة، بل يجري في غيرها من الواجبات الكفائية المتعلقة بالميت. و من ثم يكون عدم تنبيههما عليه فيها مستدركا عليهما.

بل قال في المسالك في أول مبحث أحكام الأموات: «لا منافاة بين الأولوية و وجوبه علي الكفاية، فإن توقف فعل غير الولي علي إذنه لا ينافي أصل الوجوب عليه». و لعله لذا أنكر صاحب الحدائق و أخوه فيما سبق نقله عنهما كون وجوبها كفائيا مع الولاية، و خصاه بما إذا لم يكن هناك ولي أو كان و تعذر قيامه بوظيفته، حيث تسقط ولايته عند الأصحاب.

و عمدة الوجه في منافاة ولاية شخص خاص لكون الوجوب كفائيا أن إذن الولي لغيره إن كانت شرطا لوجوب الفعل علي الغير لزم اختصاص التكليف بالولي قبل الإذن و عدم تكليف غيره حتي يسقط اعتبار إذنه، لامتناعه أو فقده، فلا يكون التكليف كفائيا مطلقا، و هو خلاف ظاهرهم. و إن كانت شرطا للواجب لزم وجوب تحصيلها بإقناعه، كما هو شأن جميع مقدمات الواجب، كما يلزم التكليف بما هو خارج عن الاختيار، لعدم القدرة علي إذن الغير، بل هي تابعة لاختياره.

و منه يظهر ضعف ما في المدارك قال: «و قد يقال: إنه لا منافاة بين كون الوجوب كفاية و بين إناطته برأي بعض المكلفين، علي معني أنه إن قام به سقط الفرض عن غيره، و كذا إذا [إن] أذن لغيره، و قام به ذلك الغير، و إلا سقط اعتباره و انعقدت الصلاة جماعة و فرادي بغير إذنه». لوضوح أن سقوطه عن الغير فرع تكليف الغير به قبل فعله، فلا بد من بيان وجهه و دفع المنافاة بينه و بين اعتبار إذن الولي. كما أن سقوط اعتبار إذنه مع عدم قيامه بوظيفته و عموم التكليف حينئذ ليس موردا للكلام، و إنما الكلام في عموم التكليف قبل ذلك.

و مثله ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن العجز المذكور و إن كان يوجب سقوط التكليف عن العاجز إلا أنه لقصور فيه لا فعله، و إلا ففعله كفعل الولي

ص: 90

______________________________

مشتمل علي المصلحة، و ربما يكون ذلك العجز في الولي لنوم أو نحوه، و مثل ذلك لا يصحح دعوي اختصاص التكليف بالولي القادر، كالمنتبه.

لاندفاعه: بأن مجرد عدم القصور في فعل غير الولي بحيث يجزي لو أذن له فيه لا ينافي عدم تكليفه بسبب تعذر الفعل عليه، كما لا يكون عدم قصور فعل الصبي منافيا لعدم تكليفه بسبب رفع القلم عنه. و لا مجال لقياسه بطروء العجز علي الولي، لأنه إن كان عجزا غير مستوعب للوقت لم يوجب سقوط التكليف بناء علي إمكان الواجب المعلق، و إن كان مستوعبا فلا إشكال في كونه موجبا لسقوط التكليف، لكنه بسبب ندرته لا ينافي إطلاقهم تكليفه اعتمادا علي وضوح توقف التكليف علي القدرة، بخلاف غير الولي، فإن غلبة ابتلائه بالولي و عدم قدرته علي إذنه له قد يناسب عدم إطلاقهم تكليفه لو كان تكليفه مشروطا بالإذن عندهم.

و من هنا فالذي ينبغي أن يقال: إن كان المراد منافاة الولاية لإطلاق الوجوب الكفائي في حال ثبوتها، فهو في محله، لامتناع التكليف بالفعل المقيد بإذن الولي في فرض عجز المكلف عن الفعل المقارن لها من جميع الجهات، بل يتعين حينئذ الالتزام باختصاص التكليف بمن يقدر علي الفعل المذكور في الجملة، علي ما يأتي توضيحه.

و لا مانع من البناء علي ذلك جمعا بين الأدلة، كما لا مانع من تنزيل كلماتهم عليها جمعا بينها أيضا، حيث صرحوا بالأمرين.

و لا وجه لما تقدم من جامع المقاصد و الروض من رفع اليد عن الأولوية في أصل الصلاة لأجل كون التكليف كفائيا، كيف و لو أمكن ذلك في الصلاة بتنزيل الأولوية فيها علي خصوص الجماعة لم يمكن في غيرها من واجبات التجهيز. علي أنه فيها مخالف لإطلاق النصوص المتقدمة، لأن المصلي علي الجنازة و المأمور بها و المقدم لها قد يصلي وحده منفردا و قد يصلي إماما.

نعم، لا يبعد انصرافه عن صلاة المأموم، لأن صلاة الولي علي الجنازة لا تكون بها، كما أن أمره ليس بها و تقديمه ليس لها، و لم تتضمن نصوص الولاية إلا هذه العناوين. كما أن السيرة ليست علي الاستئذان فيها، إلا أن يكون منشؤها ظهور حال الولي في إذنه لكل أحد بها، لرغبته غالبا في تكثير المصلين علي ميته، من دون تعلق

ص: 91

______________________________

الغرض بخصوصيات الأشخاص، فتعريضه الميت لأن يصلي عليه مع تعارف عدم الاستئذان فيها يكون ظاهرا في إذنه لكل أحد.

لكن الاكتفاء بذلك في إثبات ولايته عليها لا يخلو عن إشكال، بل منع بعد ما سبق من قصور النصوص و السيرة عنها، و لا سيما مع عدم مساعدة ارتكازيات المتشرعة علي ذلك، لأنها بنظرهم احسان محض للميت- كالدعاء له و تشييعه- لا يترتب عليها شي ء من الاعتباريات المناسبة للإرجاع للولي. و من هنا يقوي عدم اعتبار إذنه تصريحا و لا ظاهرا، كما لا تخل كراهته، بل و لا منعه. فلاحظ.

و إن كان المراد منافاة الولاية لأصل الوجوب الكفائي، بحيث يستلزم اختصاص التكليف بالولي في فرض فعلية ولايته- كما سبق من صاحب الحدائق و أخيه- فهو ممنوع جدا، لأن الولاية و إن اقتضت سقوط التكليف عن العاجز عن الفعل بإذن الولي من جميع الجهات، إلا أنه لا تنافي تكليف القادر عليه، إما بقيامه بالمباشرة، لإذن الولي له فعلا أو أمره به، أو لقدرته علي إقناعه بالإذن، و إما بفعل بعض مقدماته، كإعلام الولي بموت ميته ليقوم بتجهيزه أو إعلام من يأذن الولي بمباشرته، أو إقناع أحدهما بالقيام بالفعل، أو إعانته علي تحقيقه بفعل بعض المقدمات الموصلة له و نحو ذلك، فلا تمنع الولاية من وجوب ذلك كفائيا مع عدم الانحصار و عينيا معه.

كما لا يمنع اعتبار المماثلة من وجوب الأمور المذكورة في حق غير المماثل خصوصا لو كان هو الولي. كيف و كثيرا ما يتعذر القيام ببعض واجبات الميت بتمام مقدماته غير الحاصلة علي شخص واحد، كما يتعذر عليه القيام بكثير من الواجبات الكفائية كالجهاد و حفظ المسلم و تطهير المسجد و غيرها، و هو راجع إلي توقف حصول الواجب من كل شخص علي اختيار غيره فلو كان ذلك مانعا من تكليفه به لامتنع التكليف بذلك الواجب كفائيا، و هو معلوم البطلان.

و من هنا لا معدل عن الجمع بين الولاية و الوجوب الكفائي بتنزيل الوجوب الكفائي علي ما يناسبها، من دون وجه لرفع اليد عنها رأسا كما يظهر من جامع المقاصد و الروض، و لا لرفع اليد عنه رأسا، كما يظهر من صاحب الحدائق و أخيه.

ص: 92

______________________________

ثم إن الثمرة بين كون التكليف كفائيا في حق الكل مع ولاية الولي و كونه عينيا مختصا بالولي تظهر في جواز استئجار الولي علي الفعل علي الثاني دون الأول بناء علي عموم عدم جواز أخذ الأجرة علي الواجب.

و في لزوم مباشرة المأذون من الولي للفعل عينيا مع الانحصار بشخص واحد و كفائيا مع عدمه، دون الثاني، لوضوح أن إذن المكلف لشخص في امتثال تكليفه لا يوجب لزومه عليه.

و في وجوب الاحتياط مع الشك في تحقق الفعل من الولي أو مأذونه علي الأول، لإحراز الفراغ عن التكليف المعلوم، دون الثاني، للعلم بعدم التكليف به مع بقاء ولاية الولي.

نعم، لا يبعد عدم وجوب الاحتياط علي الأول لو كان الميت تحت يد الولي أو مأذونه مع ظهور حاله في إرادة القيام بتجهيزه، لقيام السيرة علي عدم الاعتناء باحتمال تفريط من يكون الميت تحت يده أو عجزه إذا ظهر منه الاهتمام به و إن لم يكن وليا علي تجهيزه. بل لا يبعد عمومها لما إذا لم يظهر من حاله ذلك حملا له علي الصحة ما لم يظهر من حاله خلافه أو عجزه. فلاحظ.

الخامس: مقتضي ثبوت ولاية الولي علي خصوصيات التجهيز أنه لو أمر أو أذن بوجه خاص لم يجز التخلف عنه،

بل يجب إيقاعه عينا مع انحصار القدرة عليه بشخص خاص و كفاية مع عدم الانحصار.

لكن لا يبعد عدم وجوب ذلك مع لزوم نحو كلفة غير متعارفة، لعدم مناسبة الوجوب حينئذ لمرتكزات المتشرعة. و إن كان الأمر محتاجا للتأمل.

و كيف كان، فلو امتنع المأمور أو المأذون من إيقاعه علي الوجه المأذون فيه بنحو يعلم بعدم وقوع الفعل منه كان علي الولي اختيار غيره، لأن مقتضي ولايته المحافظة علي الواجب، باختيار الفرد الذي يتسني تحصيله، فإن اختار فردا آخر و حصل ذلك الفرد سقط التكليف الكفائي، و لا إثم حتي علي الممتنع من القيام بالفعل علي النهج الذي أمر أو أذن به الولي أول مرة.

و كذا إن امتنع الولي من اختيار فرد آخر، لأنه يخرج بذلك عن مقتضي ولايته،

ص: 93

______________________________

فتسقط ولايته، و يكون الفعل من دون إذنه أو بإذن غيره محققا لتمام المطلوب. نعم لو لم يعلم الولي بامتناع المأمور أو المأذون أشكل سقوط ولايته، و إن وجب تحقيق الفعل من دون إذنه حينئذ، لأنه الميسور محافظة علي أصل الواجب، فيكون الممتنع آثما لتفويته الواجب التام مع قدرته عليه إلي أن فات. فتأمل جيدا.

السادس: لا يبعد البناء علي عموم الولاية للخصوصيات الكمالية في واجبات التجهيز-

كغسل الرأس بالرغوة عند التغسيل- فلا يجوز إيقاعها إلا بإذنه المستفاد منه صريحا أو بشاهد الحال، إلا أنه لا يجب امتثال أمره بها بعد فرض عدم وجوبها، لأن متابعة الولي إنما تجب لتحقيق الواجب.

نعم، لو لم تكن زائدة علي الواجب، بل مقومة لفرده، لأنها من أفضل الأفراد- كالغسل بماء الفرات لو قيل باستحبابه- تعين متابعته فيها، كما يتابع في غيرها من الخصوصيات الفردية، علي ما تقدم في الأمر الخامس.

السابع: الظاهر أن الولاية لا تسقط بإسقاط الولي.

إذ لو كانت من سنخ الحق المملوك عرفا فلا دليل علي عموم سقوط الحق بالإسقاط. بل لعل المتيقن من ذلك بالنظر للمرتكزات العرفية ما إذا كان الحق «1» متعلقا بالغير- ليسقط عنه، و يكون في سعة منه- بحيث يكون هناك من عليه الحق كما يكون من له الحق، إما لكون الحق في ذمته أو نفسه، كالدين و حق القصاص، أو في عين مملوكة له، كحق الجناية في العبد و حق الرهانة في العين المرهونة، أو في معني متعلق به، كحق الخيار القائم بالعقد بين الطرفين المقتضي لنحو من النقص في متعلقه.

أما الحق في المقام فلا يكون ثابتا علي أحد، أما الميت فظاهر، و أما بقية المكلفين فلأنه و إن لم يسغ لهم القيام بواجبات الميت إلا بنظر صاحب الحق، إلا أن ذلك الحكم شرعي لا يرجع إلي ملكية شي ء عليهم، بل هو كعدم جواز تصرفهم في ملك الغير بغير إذنه. فالمقام نظير حق حضانة الأب الراجع إلي إيكال أمر ولده إليه و عدم جواز تصرف غيره فيه بدون إذنه من دون أن يكون حقا علي أحد، ليقبل الإسقاط بل لا يبعد ذلك في حق حضانة الأم. و تمام الكلام في محله.

______________________________

(1) هذا في الحق العرفي أما الحق الاصطلاحي فلسنا بصدد تحقيق حاله.

ص: 94

______________________________

علي أنه لم يتضح بعد كون الولاية في المقام من الحقوق، لأن نصوص ولاية الزوج و إن تضمنت أنه أحق بزوجته، إلا أن حمل الحق علي ما يساوق الملكية لا يخلو عن إشكال، بل قد يراد به مجرد أولوية التصرف. و كذا موثق السكوني المتضمن أن السلطان إذا تقدم من دون أن يقدمه الولي كان غاصبا، حيث لا يبعد إرادة مجرد كونه متعديا حيث قد قام بما لا سلطنة له عليه، و ادعي لنفسه أولوية لم يجعلها اللّه تعالي له. فتأمل.

و بالجملة: لا مخرج عن إطلاق نصوص الولاية الأحوالي المقتضي لبقائها بعد الإسقاط. و لا أقل من كونه مقتضي استصحاب الولاية، لأن الظاهر أنها في المقام نحو من الوضع و الاعتبار الذي له نحو من التقرر القابل للاستصحاب، لا منتزعة من مجرد عدم جواز قيام الغير بواجبات الميت من غير إذنه، ليجري فيه إشكال الاستصحاب في الأحكام التكليفية من احتمال تبدل الموضوع في حال الشك عن حال اليقين. فتأمل.

الثامن: قد يظهر منهم عدم صحة الصلاة و الغسل لو وقعا بدون إذن الولي،

لما أشرنا إليه آنفا من أن مقتضي الجمع بين إطلاق أدلة واجبات التجهيز و أدلة الولاية التقييد بالعمل الواقع بإذن الولي، فلا يجزي غيره.

لكن لازم ذلك إعادة التحنيط و التكفين و الدفن لو لم يقعا بإذن الولي، لعدم الفرق في لسان الأدلة بينها و بين الغسل و الصلاة، و حيث لا يظن الالتزام بذلك من أحد يتعين حمل جعل الولاية علي كون الاستقلال عن الولي محرما في نفسه بلحاظ كونه تعديا، من دون أن يرجع إلي تقييد الواجب بما يقع عن إذنه، كما قد يشعر التعبير بأنه غاصب في موثق السكوني، و بأن الزوج أحق في نصوصه. و حينئذ إذا وقع الواجب بدونه أجزأ وفات موضوع الولاية.

نعم، لا ينبغي التأمل في بطلان التغسيل و الصلاة مع تعمد عدم الرجوع للولي و الالتفات لحرمته، لامتناع التقرب بهما مع وقوعهما بوجه مخالف لمقتضي الولاية اللازم.

و منه يظهر الإشكال فيما في الجواهر، حيث قال: «نعم يحتمل قويا القول بوجوب مراعاة تلك الأولوية تعبدا من غير أن يكون لها مدخل في صحة الأفعال، كما عساه يشعر به لفظ «الغاصب» و غيره، إلا أني لم أعرف قائلا به، و إن أمكن حمل

ص: 95

و هو الزوج بالنسبة إلي الزوجة (1)،

______________________________

بعض كلمات الأصحاب عليه. فتأمل».

وجه الإشكال: أن لفظ «الغاصب» و إن ناسب عدم التقييد- كما سبق- إلا أنه يقتضي امتناع التقرب بالعمل الذي يكون به الغصب. و ما عن محكي النراقي في اللوامع من البناء علي الصحة، لأن المنهي عنه خارج عن العبادة. كما تري، لأنه لو تم عدم النهي عن نفس الغسل و الصلاة الواقعين من دون إذن الولي، بل عن معني ملازم لهما، فالغسل و الصلاة حيث كانا محققين للاستغلال المذكور و منافيين لمقتضي الولاية الإلزامي امتنع التقرب بهما. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

ولاية الزوج
اشارة

(1) كما في المبسوط و النهاية و الاقتصاد و الوسيلة و الشرائع و المعتبر و التذكرة و المنتهي و الإرشاد و غيرها، بل استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، و في الجواهر و عن الذكري نفي وجدانه، و في المعتبر و ظاهر التذكرة دعوي الاتفاق عليه، و في حاشية المدارك أنه متسالم عليه بينهم بلا تأمل. و يقتضيه حديث أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن المرأة تموت من أحق أن يصلي عليها؟ قال: الزوج. قلت:

الزوج أحق من الأب و الأخ و الولد؟ قال: نعم» «1»، و نحوه حديثه الآخر، لكن في ذيله: نعم و يغسلها» «2»، و خبر إسحاق بن عمار عنه عليه السّلام: «قال: الزوج أحق بامرأته حتي يضعها في قبرها» «3».

لكن في المدارك: «المستند في ذلك ما رواه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار … قال في المعتبر: و مضمون الرواية متفق عليه. قلت: إن كانت المسألة إجماعية فلا بحث، و إلا أمكن المناقشة فيها، لضعف المستند، و لأنه معارض بما رواه الشيخ في الصحيح عن حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: في المرأة تموت و معها أخوها و زوجها أيهما يصلي عليها؟ فقال: أخوها أحق بالصلاة عليها» «4». و أجاب الشيخ عن هذه الرواية بالحمل علي التقية، و هو إنما يتم مع التكافؤ في السند، كما لا يخفي».

و فيه: أنه لا مجال لرد جميع نصوص المشهور بضعف السند، إذ ليس في سند

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 24 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4.

ص: 96

______________________________

حديث أبي بصير الأول إلا إسماعيل بن مراد الذي تقدم عند الكلام في اعتبار التوالي في أقل الحيض تقريب الاعتماد علي ما يرويه، خصوصا إذا كان عن يونس، كما في هذا الحديث، و لا في سند الثاني إلا علي بن أبي حمزة الذي تقدم عند الكلام في حضور الجنب و الحائض عند المحتضر الاعتماد علي رواياته.

و أما خبر إسحاق بن عمار فمقتضي تعبيره عنه بالموثق حجيته، إلا أنه لم يتضح الوجه في كونه موثقا مع اشتمال سنده علي علي بن ميسرة الذي لم يثبت توثيقه.

نعم لا يهم ضعفه مع ظهور كونه مستند الأصحاب في الكلية المذكورة، كما يناسبه الاقتصار عليه في مقام الاستدلال في جملة من كلماتهم، بل تقدم من المعتبر بالاتفاق علي مضمونه. لكفاية ذلك في انجباره، و وهن صحيح حفص و إن كان معتضدا بخبر عبد الرحمن عنه عليه السّلام «1»، بل لم يعرف من أحد التعويل عليهما.

و من هنا يقرب ما ذكره الشيخ قدّس سرّه من حملهما علي التقية، حيث حكي عن جماعة من العامة أو ممن تذكر أقواله في أقوالهم عدم ولاية الزوج، كسعيد بن المسيب و الزهري و أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد في إحدي الروايتين.

إذا عرفت هذا فيقع الكلام في أمور:
الأول: ذكر في الروض و الروضة و المسالك أنه لا فرق في الحكم المذكورة بين الدائمة و المتمتع بها،

و عليه جري شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غير واحد ممن تأخر عنه.

و هو مقتضي إطلاق النص و الفتوي. لكن قال جمال الدين الخوانساري في حاشية الروضة: «الظاهر انصراف الأدلة إلي الدائم، كما في الميراث و نحوه». و هو كما تري، فإن عدم الميراث في المنقطعة ليس للانصراف، بل للأدلة الخاصة.

و أشكل منه ما في الرياض و المستند من أن إطلاق الزوج بالإضافة إلي المتمتع بها حقيقة لا يخلو عن مناقشة و كلام». فإنه غريب جدا.

نعم، في الجواهر: «علي إشكال في المنقطع، خصوصا إذا انقضي الأجل بعد موتها، لبينونتها حينئذ منه. بل لا يبعد ذلك بمجرد موتها و إن لم ينقض الأجل،

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5.

ص: 97

______________________________

لكونها كالعين المستأجرة إذا فاتت، كما لا يخفي علي من أحاط خبرا بأحكام المتعة في محلها». و كأنه يريد أن المستفاد من أدلة النكاح المنقطع أن المدار في اعتباره علي النفقة، بحيث تكون مقومة له، و لذا يتبعض المهر لو أخلت بالبذل في بعض المدة، فإذا ماتت فحيث يحرم عليه الاستمتاع بها فقد انتهي النكاح بالموت بنحو ينكشف عن عدم اعتباره من أول الأمر في تمام المدة، لتعذر المنفعة فيها، كما لو تلفت العين المستأجرة قبل انقضاء الأجل.

لكن ذلك لا يناسب ما حكي عنه- و هو التحقيق- من أن النكاح المنقطع متحد في الماهية مع النكاح الدائم. بل لازمه تبعض المهر بالموت أو تعذر التمكين من نفسها عليها أو تعذر استيفاء منفعة الاستمتاع علي الزوج، نظير ما يذكر في الإجارة، و لا يظن منه و لا من غيره الالتزام بذلك.

و من هنا لا بد من البناء علي عدم كون الموت كاشفا عن قصور النكاح من أول الأمر، بل يبطل كما يبطل النكاح الدائم علي ما يأتي. و أما تبعض المهر عليها في مدة امتناعها من التمكين فهو غير مبتن علي تقوم النكاح بالمنفعة، بل هو تعبد محض، أو من سنخ العقوبة لها، نظير عقوبة الدائمة إذا نشزت بعدم النفقة الذي لا مجال له في المنقطعة، لعدم استحقاقها لها ذاتا.

و أما ما ذكره من خصوصية ما إذا انقضي الأجل بعد موتها في سقوط الولاية، لبينونتها منه حينئذ، فيشكل بأن الظاهر بطلان النكاح بالموت حتي الدائم، لعدم قابلية الميت لعلقته و اعتبارها عرفا، كما يدل عليه ما في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«سئل عن الرجل يغسل امرأته؟ قال: نعم من وراء الثوب، و لا ينظر إلي شعرها و لا إلي شي ء منها، و المرأة تغسل زوجها، لأنه إذا مات كانت منه في عدة، و إذا ماتت هي فقد انقضت عدتها» «1»، و صحيح زرارة المتضمن سوق التعليل المذكورة لتغسيلها له دون العكس «2». و يناسبه عدم ترتب جميع آثاره، فيجوز للزوج أن يتزوج الخامسة و أختها و بنتها، كما لا تثبت للزوجة مع موت زوجها النفقة.

______________________________

(1) الوسائل ج 2 باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 11.

(2) الوسائل ج 2 باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 13.

ص: 98

______________________________

و ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من إمكان الالتزام ببقاء النكاح و تخصيص أحكامه المذكورة بغير حال موت أحد الزوجين. إن أراد به الإمكان العقلي فهو مسلم و لا ينفع، و إن أراد به الإمكان العرفي فهو ممنوع، و لا يناسبه طريقتهم في الاستدلال علي هذه الاحكام. و ثبوت أحكام العدة علي الزوجة أو جواز النظر للزوجين أو نحو ذلك تعبدي لا يبتني علي بقاء الزوجية ارتكازا.

و من هنا يتعين البناء علي أن موضوع أدلة الولاية ليس هو الزوجية حين الولاية، كي تقصر عما لو انقضت المدة بعد الموت، بل الزوجية حين الموت المتحققة في الفرض المذكور، كما هي المعيار في جواز تغسيل أحد الزوجين الآخر الذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي، و لذا صرح بعضهم بجواز تغسيل الزوجة زوجها بعد خروجها عن العدة، بل بعد تزويجها.

الثاني: ظاهر جامع المقاصد عدم الفرق بين الحرة و الأمة،

و به صرح في المسالك و الروض و الرياض و المستند و غيرها. و في طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه و محكي الذخيرة أنه مقتضي إطلاق النص و الفتوي، و في مفتاح الكرامة أنه ظاهر إطلاقهم.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و ظاهر ذلك و نحوه من كلماتهم أنه من المسلمات.

و لولاه لأمكن الإشكال في إطلاق النصوص، بدعوي: انصرافه إلي الحرة التي كانت مالكة نفسها في الحياة و بالموت تكون نسبتها إلي كل من عداها نسبة واحدة، لا مثل المملوك للغير في الحياة و الممات. مع أن تقييد النصوص المذكورة أولي من تقييد قاعدة السلطنة علي الأملاك».

لكن لا مجال لاستفادة التسالم الحجة مما تقدم بعد ابتنائه علي مجرد استفادة الحكم من الإطلاق الذي ادعي قدّس سرّه انصرافه. فالعمدة في المقام إطلاق النصوص المتقدمة التي لم يتضح انصرافها بوجه معتد به بعد كون ولاية الزوج تعبدية، إذ ليس تقديمه علي الولد و الأب ارتكازيا.

و لا مجال لمعارضته بقاعدة السلطنة و حرمة التصرف في مال المسلم إلا بطيبة نفسه، لتخصيص القاعدة المذكورة بأدلة الوجوب الكفائي المقتضية لجواز التصرف في الميت بالتجهيز و لو لم يرض مالكه، غاية الأمر أن مقتضي إطلاق أدلة الولاية لزوم كون

ص: 99

______________________________

التصرف المذكور بإذن الولي، و حيث لم يرد في المملوك بالخصوص إطلاق يقتضي ولاية مالكه، بل ليس إلا الأدلة العامة التي يقدم عليها إطلاق دليل ولاية الزوج لزم تحكيمه في المقام. و يأتي إن شاء اللّه تعالي عند الكلام في ولاية المالك ما ينفع هنا. فتأمل جيدا.

الثالث: صرح في المسالك بعدم الفرق بين المدخول بها و غيرها.

و هو كذلك، لإطلاق النص و الفتوي، و لعل عدم تعرضهم حتي من تأخر عنه لذلك لوضوحه.

الرابع: صرح في المسالك بعموم الحكم للمطلقة رجعيا.

و وجهه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بالأخبار المتضمنة أنها زوجة. فإن مقتضي إطلاق التنزيل ترتب جميع أحكام الزوجة عليها، و منها الحكم المذكور. لكن قال بعد ذلك: «نعم يمكن أن يقال: إن عموم تنزيل الرجعية منزلة الزوجة لا يشمل مثل هذا الحكم. و لذا قال في المنتهي: لو طلق امرأته فإن كان رجعيا ففي جواز تغسيل الآخر له نظر». و لم يتضح وجه قصور العموم المذكور لو كان ثابتا عن مثل هذا الحكم.

فالعمدة عدم ثبوت العموم المذكور، لعدم عثورنا علي ما يتضمن اللسان المذكور أو نحوه من النصوص، و إنما تضمنت بعض الآيات و جملة من النصوص ثبوت كثير من أحكام الزوجة لها، كوجوب النفقة علي الزوج و عدم الخروج من بيته إلا بإذنه و جواز تزينها له و حرمة أختها عليه و التوارث بينهما.

و كأن الأصحاب رضي اللّه عنهم استفادوا من جميع ذلك عموم التنزيل. و هو لا يخلو عن إشكال. و لا سيما مع ثبوت بعض هذه الأحكام للبائن، كالميراث الذي يثبت في مطلقة المريض إلي سنة، و مع عدم ثبوت بعض أحكام الزوجة للمطلقة رجعيا كجواز الاستمتاع بالوطء و غيره، إذ لو لم يكن من مختصات الزوجة لم يتحقق به الرجوع.

فلاحظ.

و أشكل من ذلك ما عن بعض مشايخنا من البناء علي أنها زوجة حقيقة، مستدلا بما تضمن بينونتها من الزوج بانتهاء العدة، حيث يستفاد منه بقاؤها علي الزوجية قبله و إن كانت معلقة متزلزلة. مضافا إلي بعض القرائن التي لا يبعد أن يكون منها مشاركتها للزوجة في كثير من أحكامها.

لاندفاعه بقرب أن يراد ببينونتها الكناية عن انقطاع العصمة بينهما الراجع إلي

ص: 100

______________________________

عدم الحق له عليها في الرجعة و الطاعة و نحوهما، نظير انقطاع عصمة صاحب الخيار عن العين بانتهاء أمد الخيار مع خروجها عن ملكه بالعقد. و إلا فليس استفادة البقاء علي الزوجية من التعبير بالبينونة بأولي من استفادة الخروج عنها من التعبير بالرد و الرجوع في أثناء العدة المذكورة. بل الثاني هو المتعين بملاحظة المرتكزات العرفية، تبعا لما هو المعلوم من اتحاد الطلاق الرجعي و البائن مفهوما، و ما هو المرتكز من أن الخروج عن الزوجية في البائن مقتضي نفس الطلاق بمفهومه، لا من لوازمه الشرعية و أحكامه الخارجة عنه. فإن لازم ذلك الخروج عن الزوجية بالطلاق الرجعي أيضا بعد فرض صحته و نفوذه فعلا. بل الالتزام برجوع الزوجية بمجرد انقلاب طلاق الخلع من البائن للرجعي برجوع المرأة بالبذل بعيد جدا.

هذا، و لو تم كون المطلقة رجعيا زوجة حقيقة فهي من أفرادها الخفية التي لا تبعد دعوي انصراف إطلاقات الأحكام و منها الولاية في المقام عنها. فلاحظ.

الخامس: قال في المنتهي في فروع تعيين أولياء الميت: الحر أولي من العبد و إن كان الحر بعيدا و العبد أقرب،

«لأن العبد لا ولاية له في نفسه ففي غيره أولي. و لا نعلم فيه خلافا». و هو شامل بإطلاقه أو تعليله للزوج، و به صرح غيره. لكن في الرياض: «قيل: و لعل الزوج مستثني من الحكم المزبور، للنص. و فيه: أنه عام أيضا يمكن تخصيصه بالحر، لما ذكره في المنتهي. و بالجملة: التعارض بينهما تعارض العموم و الخصوص من وجه، يمكن تخصيص كل بالآخر. ففي الترجيح نظر».

لكن الظاهر لزوم تقديم عموم عدم ولاية العبد المستفاد من قوله تعالي: عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَليٰ شَيْ ءٍ «1»، فإنه و إن لم يكن ظاهرا إلا في المفروغية عن عدم قدرة العبد المضروب به المثل، لأخذه وصفا له من دون أن يتضمن الحكم علي العبد بعدم القدرة، ليكون له إطلاق يشمل جميع العبيد و يكون ظاهرا في إرادة القدرة و السلطنة الاعتبارية- التي منها الولاية في المقام- لأنها التي تقبل الجعل و النفي دون الخارجية التكوينية، إلا أنه يستفاد منه ذلك بضميمة النصوص المستدل فيها به علي نفي ولاية العبد علي الطلاق، كصحيح زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قالا: المملوك لا

______________________________

(1) النحل الآية: 75.

ص: 101

______________________________

يجوز طلاقه و لا نكاحه إلا بإذن سيده. قلت: فإن كان السيد زوجه بيد من الطلاق؟

قال: بيد السيد. ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَليٰ شَيْ ءٍ. أ فشي ء الطلاق؟» «1»، و قريب منه غيره «2».

فإن الاستدلال به موقوف علي سوقه لعموم نفي سلطنة العبد. و إنما يقدم هذا العموم علي عموم الولاية في المقام مع أن بينهما عموما من وجه لأن نسبته إلي جميع عمومات الولاية نسبة واحدة، و تقديمها عليه موجب للغويته و عدم بقاء مورد له، و الترجيح بينها بلا مرجح عرفي، فيتعين تقديمه علي جميعها، و حكومته عليها عرفا، لكونه بصدد بيان شرط الولاية في موضوعها. و منه يظهر أن عدم ولاية العبد علي الميت مستفاد من نفس العموم المستفاد منه نفي ولايته علي نفسه بلا حاجة إلي التشبث بالأولوية المتقدمة من المنتهي.

ثم إنه بعد البناء علي عدم ولاية الزوج العبد علي زوجته فالظاهر جريان ما يأتي من الكلام فيما لو سقطت الطبقة الأولي عن الولاية من الانتقال للمرتبة المتأخرة عنه أو عدم اعتبار إذن الولي. و لا مجال للبناء علي ولاية مولاه بدله، لعدم الدليل علي عموم قيامه فيما من شأنه الولاية عليه.

السادس: حكي في الروض عن بعض الأصحاب القول بولاية الزوجة علي زوجها،

لإطلاق الزوج عليها لغة. و رده بأن الأدلة لم تتضمن إطلاق ولاية الزوج، بل خصوص ولاية الزوج علي زوجته. و هو في محله. مضافا إلي قرب انصراف الزوج إلي ما يقابل الزوجة عرفا.

بل لا ينبغي التأمل في عدم ولاية الزوجة علي زوجها بالنظر للسيرة، و للنصوص المتضمنة لزوم تقديم الولي في صلاة غيره و الرجوع إلي أمره في الدفن، لظهورها في شيوع حضور الولي في تشييع الجنازة، المستلزم لشيوع حضور الزوجة فيه و مسئوليتها عنه لو كانت الولاية لها، لكثرة وفاة الرجال عن زوجاتهم، و من الظاهر عدم شيوع حضور النساء في التشييع، فضلا عن مسئوليتهن عنه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 45 من أبواب مقدمات الصلاة و شرائطه حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 66 من أبواب نكاح العبيد و الاماء حديث: 4، 2.

ص: 102

ولاية الأرحام
اشارة

ثم المالك (1)، ثم الطبقة الأولي في الميراث (2)، و هم الأبوان

______________________________

(1) كما في الجواهر و عن البرهان القاطع القطع به، و الظاهر المفروغية عنه و إن لم ينص عليه الأكثر، لما يستفاد منهم من أن المعيار في الولاية الميراث.

و قد استدل عليه سيدنا المصنف قدّس سرّه بقاعدة السلطنة، نظير ما تقدم منه فيما لو كانت الزوجة أمة. و استشكل فيه شيخنا الاستاذ قدّس سرّه بأنه لا يتم فيما لا يقتضي تصرفا في بدن الميت كالصلاة.

و أما دفعه بعدم الفصل. فهو قد يتم لو لم يكن مقتضي إطلاق الأدلة في الصلاة ولاية غير المالك، و إلا كان مقتضي عدم الفصل المدعي أن الولي علي الصلاة ولي علي غيرها أيضا، فيتعارض الدليل في الصلاة مع الدليل في سبب عدم الفصل. إلا أن يدعي تقديم قاعدة السلطنة لأقوائيتها. فتأمل.

هذا، مضافا إلي ما سبق منا فيما لو كانت الزوجة أمة من أن قاعدة السلطنة مخصصة بأدلة الوجوب الكفائي.

فالعمدة أن ما يأتي في ولاية الأرحام ينفع في المقام. و هو كما يقتضي تأخر المالك عن الزوج- علي ما ذكرناه فيما سبق- يقتضي تقدمه عليهم، كما يتضح عند الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

(2) المذكور في كلام جملة من الأصحاب أن الولي هو الأولي بالميراث، كما في المبسوط و الخلاف و إشارة السبق و الوسيلة و السرائر و الشرائع و النافع و المعتبر و التذكرة و المنتهي و المختلف و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و محكي الجمل و العقود و المهذب و غيرها، و عن المفاتيح أنه الذي صرح به الأكثر.

و قد ينزل عليه ما ذكره غيرهم من أنه الأولي به، كما يناسبه جمع غير واحد بين الأمرين في موضعين، و تفسير بعضهم الأولي به بالأولي بميراثه، كما في الخلاف مدعيا عليه الإجماع، كالإجماع المدعي في المنتهي و محكي غيره علي ولاية الأولي بالميراث.

و لعله لذا نفي في الحدائق الخلاف في أولوية الأولي بالميراث نصا و فتوي، و استظهر في جامع المقاصد الإجماع عليه.

ص: 103

______________________________

و المتيقن منهم إرادة ولاية الولي بالميراث في الجملة في مقابل ولاية غيره، و لذا صرح جماعة منهم بترجيح بعضهم علي بعض، كالذكور علي الإناث و الأب علي الأولاد عند الاجتماع. و لعله عليه يحمل ما في المقنعة و الاقتصاد و المصباح و مختصره و الجامع من تقييده بالذكور، لا أن مرادهم نفي ولايتهن لو انحصر الوارث بهن.

و كيف كان، فقد يستدل عليه بأمور:
الأول: ما استفاض الاستدلال به في كلام جماعة

أولهم- فيما عثرنا عليه- الشيخ في الخلاف، و هو قوله تعالي: وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ «1»، قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «بناء علي أن المراد الأولوية من كل جهة حتي الأمور المتعلقة بتجهيزه، لا خصوص إرثه. يشهد للتعميم المذكور حذف المتعلق، المعتضد باستدلال الفحول بها في المقام، كالفاضلين و الشهيدين و المحقق الثاني».

و قد يستشكل فيه بوجهين:

أحدهما: أن ذلك ورد في موضعين من الكتاب العزيز، قال تعالي في سورة الأنفال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ. وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهٰاجِرُوا مٰا لَكُمْ مِنْ وَلٰايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّٰي يُهٰاجِرُوا. وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ … وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ … وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولٰئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ «2»، و قال سبحانه في سورة الأحزاب: النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهٰاجِرِينَ إِلّٰا أَنْ تَفْعَلُوا إِليٰ أَوْلِيٰائِكُمْ مَعْرُوفاً كٰانَ ذٰلِكَ فِي الْكِتٰابِ مَسْطُوراً «3».

و مقتضي السياق في الآية الأولي إرادة الأولوية في الحياة بالمناصرة و المؤازرة.

كما أن مقتضي سوق الثانية في سياق ولاية النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إرادة الأولوية في التصرف في الحياة أيضا، إلا أن العلم بعدم ثبوتها في حق الأرحام إلا نادرا- كما في حال الصبي

______________________________

(1) الأنفال الآية: 75، الأحزاب الآية: 6.

(2) الأنفال الآية: 72- 75.

(3) الأحزاب الآية: 6.

ص: 104

______________________________

- مانع من الحمل عليها، و ملزم بحملها علي الأولوية في الميراث، كما يناسبه- مضافا إلي الاستشهاد بها عليه في كثير من النصوص- الاستثناء الظاهر فيما يدفع من دون استحقاق، و يشهد به موثق حنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت له: أي شي ء للموالي؟

فقال: ليس لهم من الميراث إلا ما قال اللّه تعالي ذكره: إِلّٰا أَنْ تَفْعَلُوا إِليٰ أَوْلِيٰائِكُمْ مَعْرُوفاً» «1».

و لا مجال مع ذلك لجعل حذف المتعلق قرينة علي عموم الأولوية، ليتم الاستدلال به في المقام. كما لا يصلح استدلال الفحول لجبر ضعف الدلالة.

لكنه قد يدفع: بأن إرادة الأولية في خصوص النصرة و المؤازرة من الأولي و في خصوص الميراث من الثانية لا يناسب وحدة لسانهما و حذف المتعلق فيهما، كما لا يناسب جعل الثانية في سياق ولاية النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم. و لذا يقرب كون المراد بهما معا ما هو المرتكز خصوصا في عرف العرب الذين نزلت الآية خطابا لهم من تعيين الأرحام للولاية عن الإنسان في كل ما يحتاج فيه للولي مما له، كالتركة و المنصب، أو عليه، كقضاء الدين و نحوه و المؤازرة و النصرة، و منه المقام.

و يناسبه الاستشهاد بهذه الجملة الشريفة في جملة من النصوص لجريان الإمامة في ولد الحسين عليه السّلام من بعده دون ولد الحسن و غيرهم من الهاشميين و أنها في الأعقاب لا تعود في أخ و لا عم «2»، و لا سيما مع عدم التعرض في أكثرها لتعيين إحدي الآيتين، المناسب لوحدة المراد بها. نعم لا بد من الفراغ عن الحاجة للولي و لو استحبابا، كما ذكرناه في ردّ الاستدلال بها لوجوب الرجوع للولي في واجبات التجهيز.

ثانيهما: أنه لا يقتضي أولوية الرحم الأقرب من الأبعد، كما هو مبني الترجيح بالميراث، بل أولوية ذوي الأرحام من غيرهم. و يؤكد ذلك الاستشهاد به لذلك في النصوص، كصحيح محمد بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: اختلف أمير المؤمنين عليه السّلام و عثمان بن عفان في الرجل يموت و ليس له عصبة يرثونه و له ذو

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب ميراث ولاء المعتق حديث: 4.

(2) الكافي باب ثبات الإمامة في الأعقاب و أنها لا تعود في أخ و لا عم و لا غيرهما من القرابات. حديث: 1.

و باب ما نص اللّه عز و جل و رسوله علي الأئمة عليهم السلام واحدا فواحدا حديث: 1، 2، 7. ص:

285- 291 الطبعة الحديثة.

ص: 105

______________________________

قرابة لا يرثون [و ليس لهم سهم مفروض «1»] فقال علي عليه السّلام: ميراثه لهم، يقول اللّه تعالي: وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ و كان عثمان يقول: يجعل في بيت مال المسلمين» «2»، و غيره «3».

و يندفع: بأن ذلك و إن كان مقتضي الجمود علي مدلوله اللفظي، إلا أن مناسبة الحكم و الموضوع كما تقتضي ترجيح الرحم علي غيره تقتضي ترجيح أقرب الأرحام علي بعيدهم، بنحو يستفاد من الآية عرفا تبعا، بحيث يكون مدلولها ترجيح القريب علي البعيد مطلقا، كما يناسبه النصوص المشار إليها آنفا المستدل فيها بالعموم المذكور لتعيين الإمامة في ولد الحسين عليه السّلام من بعده، و النصوص المستدل فيها به لحجب أقرب الأرحام لأبعدهم عن الميراث، كخبر الفضل بن يسار: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: و اللّه ما ورث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله العباس و لا علي عليه السّلام، و لا ورثته إلا فاطمة عليها السّلام، و ما كان أخذ علي عليه السّلام السلاح و غيره إلا لأنه قضي دينه. ثم قال وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ» «4».

و من هنا لا يبعد نهوض العموم المذكور بتعيين من له الولاية علي تجهيز الميت.

و يؤيده استدلال جماعة من أعاظم الأصحاب رضي اللّه عنهم بها في المقام بنحو يظهر في وضوح دلالتها عليه عندهم، كوضوح دلالتها في الميراث، حيث يقرب كشف ذلك عما ذكرنا من كون ذلك هو المفهوم العرفي منها بلا حاجة إلي تكلف التأويل و التوجيه.

كما قد يناسبه استدلال عامة قريش علي أولويتهم بالإمامة بأنهم شجرة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تعقيب أمير المؤمنين عليه السّلام علي ذلك بأنهم احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة، و استدلال بني العباس بذلك لأنفسهم، حيث لا يبعد اعتماد الكل علي الكبري المذكورة. بل استدل بعض شيعة بني العباس بالآية نفسها. فلاحظ.

______________________________

(1) هذه الزيادة مأخوذة من مرسلة العياشي [الوسائل باب: 8 من أبواب موجبات الإرث حديث: 9] و بها يتم المعني. (منه عفي عنه)

(2) الوسائل باب: 5 من أبواب ميراث الأعمام و الأخوال حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب ميراث الأعمام و الأخوال حديث: 3 و باب: 5 منها حديث: 6 و باب: 1 من أبواب ميراث ولاء العتق حديث: 3، 5.

(4) الوسائل باب: 4 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد حديث: 4.

ص: 106

______________________________

هذا، و يظهر من الفقيه الهمداني قدّس سرّه تقريب الاستدلال بالآية الشريفة بأن الولاية علي تجهيز الميت من سنخ الحقوق، فتكون بمنزلة الميراث. لكنه يشكل بأن الحقوق إنما تكون بمنزلة الميراث إذا كانت ثابتة للميت حال حياته، لتكون من تركته بعد وفاته، دون ما إذا كانت حادثة بعد وفاته، كما في المقام.

و أشكل من ذلك ما ذكره من كون هذا هو الوجه في استدلال الأصحاب بالآية الشريفة. لوضوح أن هذا الوجه لو تم محتاج إلي عناية و تنبيه بنحو لا يناسب مساق استدلالهم بها. فالعمدة ما سبق.

نعم، ليس مقتضاه دوران الولاية مدار الإرث- كما قد يظهر من جملة من عباراتهم- فضلا عن أخذه في موضوعها، بل جعلها للأقرب دون الأبعد. و ذلك هو المعيار النوعي في الميراث، و إن كان قد يخرج عنه تخصيصا، كما في ميراث الزوجين، أو لتطبيق الشارع الأقربية بعناية تخفي علي العرف، كما لعله في مثل تقديم ولد الولد علي الجد، و ابن الأخ و الأخت علي العم و الخال.

الثاني: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه

من أنه مقتضي ما ورد في قضاء الولي عن الميت ما فاته من صوم و صلاة من الجمع بين تكليف ولي الميت أو الأولي به بذلك، و تكليف الأولي بميراثه به، فمن الأول صحيح الصفار: «كتبت إلي الأخير عليه السّلام:

رجل مات و عليه قضاء من شهر رمضان عشرة أيام و له وليان هل يجوز لهما أن يقضيا عنه جميعا خمسة أيام أحد الوليين و خمسة أيام الآخر؟ فوقع عليه السّلام: يقضي عنه أكبر ولييه عشرة أيام ولاء عشرة أيام إن شاء اللّه» «1» و صحيح حماد عمن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن الرجل يموت و عليه دين من شهر رمضان من يقضي عنه؟

قال: أولي الناس به. قلت: و إن كان أولي الناس به امرأة؟ قال: لا إلا الرجال» «2» و نحوهما غيرهما «3».

و من الثاني صحيح حفص بن البختري عنه عليه السّلام: «في الرجل يموت عليه صلاة أو صيام. قال: يقضي عنه أولي الناس بميراثه. قلت: فإن كان أولي الناس

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 6، ص: 107

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب أحكام شهر رمضان حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب أحكام شهر رمضان حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 23 من أبواب أحكام شهر رمضان حديث: 7، 13. و باب: 12 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 6، 18.

ص: 107

______________________________

به امرأة؟ قال: لا إلا الرجال» «1». فإن مقتضي الجمع بين الطائفتين أن أولي الناس بالإنسان هو أولي الناس بميراثه.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه- و أشار إليه في الجواهر- من أن تفسير الأولي بالأولي بالميراث في القضاء لا يقتضي تفسير الأولي به هنا، لعدم التلازم بين المقامين. مضافا إلي أن المشهور، بل كان يكون مسلما بينهم تخصيص القضاء بالولد الذكر الأكبر، فكيف يمكن حمل المقام عليه؟!.

فيندفع بأن الذي فسر بالأولي بالميراث ليس هو الأولي بالقضاء عن الميت، كي لا يلزم من تفسيره به تفسير الأولي بتجهيزه به، بل هو الأولي بالميت الذي هو موضوع كل من الأولوية بالقضاء و الأولوية بالتجهيز في النصوص، فلا بد من العمل به في تحديد الموضوع الواحد لكلا الحكمين، و إن كان دليله واردا في الأول. كما أن اختصاص القضاء بالولد الأكبر لو تم ليس لاختصاص الولي أو الأولي به، لصراحة بعض النصوص المتقدمة في إمكان تعدد الولي و كونه امرأة، بل لدليل خارجي لا دخل له بتفسير الأولي و الولي الذي هو محل الكلام.

الثالث: أنه مقتضي نصوص المقام المتضمنة إيكال الأمر للأولي.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «فإن المراد إن كان أولي الناس بإرثه ثبت المطلوب، و إن كان الأولي به من كل جهة- كما يدل عليه حذف المتعلق- فيستكشف من أولوية الوارث بالإرث كونه أولي بالميت في جميع الأمور، إذ لا يمكن فرض كون غيره كذلك، و إلا لكان ذلك الغير وارثا».

و يشكل: بأن أحكام الميت مختلفة من حيثية الولي، فالأولي بالإرث جميع أهل الطبقة الأولي من الأرحام و أحد الزوجين، و الأولي بالحبوة خصوص الولد الذكر الأكبر، و الأولي بالقضاء عنه هو أو مطلق الولي الأكبر الرجل، و الأولي بإنفاذ الوصية الوصي، و ليس هناك من هو أولي به في جميع شئونه كي يمكن حمل الكلام عليه بقرينة حذف المتعلق. و الحمل علي خصوص الأولي بالميراث ليس بأولي من الحمل علي الأولي بغيره. بل الظاهر منه إرادة الأولي بالميت نفسه، و يراد به عرفا عمن يتولي شئونه و يقوم مقامه في كل ما من شأنه أن يحتاج فيه إلي ولي، كما تقدم في الاستدلال

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب أحكام شهر رمضان حديث: 5.

ص: 108

______________________________

بالآية الشريفة.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه: من أنه لا يراد بالأولي بالميت في نصوص المقام الأولي به نفسه، بل الأولي بشأن من شئونه، فلم يتضح وجهه بعد أن كان يصح عرفا أن ينسب الأولي للشخص نفسه بلحاظ المعني الذي ذكرناه من غير حاجة للتقدير، و منه الآية الشريفة و قوله تعالي: النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «1» و غيرهما.

و مثله ما ذكره بعد ذلك من احتمال أن يراد بالنصوص فعلية هذه الأفعال، و يكون المراد بالأولي بالميت من له ولاية ذلك شرعا، قال: «يعني: يغسل الميت مثلا من له ولاية ذلك شرعا، أو يأمر بالتغسيل من له ولاية هذه الأفعال. و حينئذ تكون النصوص مجملة، لإجمال من له ولاية هذه الأفعال.

نعم، قد يكون مقتضي الإطلاق المقامي تنزيله علي من له ولاية ذلك عرفا». إذ فيه: أن النصوص المذكورة لما كانت واردة لبيان من له الفعل فلا فائدة في اسناده للولي الشرعي، بل لا بد من حمله علي أمر آخر. كما لا مجال لرفع الإجمال- لو سلم- بالإطلاق المقامي، لأن مقتضي الإطلاق المذكور الرجوع للعرف في تشخيص الموضوع الذي يطلعون علي تشخيصه، و لا اطلاع للعرف علي تشخيص الولي الشرعي، و إنما يتجه الرجوع لهم لو كان الموضوع هو الأولي بماله من مفهوم عرفي، لا بقيد كونه شرعيا.

و كيف كان، فلا مخرج عما ذكرنا من أن المراد الأولي بالميت بنفسه، و حيث لم يشخص في النصوص يكون مقتضي إطلاقها المقامي الرجوع في تشخيصه للنصوص.

و الظاهر أن المدار فيه عندهم علي القرب و شدة العلاقة.

و لعله لذا قال في المدارك في مبحث الغسل ردا علي الأصحاب «و لا يبعد أن يراد بالأولي بالميت هنا أشد الناس به علاقة، لأنه المتبادر. و المسألة محل توقف». و في مبحث الصلاة بعد ردّ أخبار الرجوع للولي بضعف السند: «و مع ذلك فليس فيها تصريح بأن المراد بالأولوية في الميراث … و لو قيل: إن المراد بالأولي هنا أمس الناس بالميت رحما و أشدهم به علاقة، من غير اعتبار بجانب الميراث، لم يكن بعيدا».

و عن المفاتيح: «الأظهر أن المراد بالأولي أشدهم به علاقة، لأنه المتبادر». بأن

______________________________

(1) الأحزاب الآية: 6.

ص: 109

______________________________

لا يكون مرادهما تفسير الأولي بالأقرب علاقة، بل مفهومهما ما ذكرنا مع جعل المعيار في تحديد مصداقهما أقربية العلاقة، لأنها هي المعيار عند العرف الذين يرجع إليهم في تشخيص الموضوع عند عدم البيان الشرعي.

و لو تم ذلك فلا مجال لما أورده في الحدائق علي صاحب المدارك من ابتناء ما ذكره علي أن المراد بالأولي معني التفضيل الذي لا يصدق إلا بلحاظ شدة العلاقة، مع أن الظاهر سوق الأولي بالميت للكناية عن ملكية التصرف و السلطنة عليه، لأن ذلك هو معني الأولي لغة، و هو لا يقبل التفضيل، بل الإنسان إما أن يملك التصرف أو لا يملكه.

لاندفاعه حينئذ بأنه إنما يتجه لو كان مراد صاحب المدارك تفسير مفهوم الأولي لا تحديد مصداقه تبعا لما عليه العرف.

و أما ما في الجواهر من أن الأخبار صريحة في إرادة التفضيل و أن الأصحاب لم ينكروا ذلك، علي معني أن الأحق بالإرث مقدم علي غيره. فهو كما تري، لأن صيغة التفضيل كثيرا ما تجرد عن إفادته، و منه المقام و نظائره، لوضوح أنه لا ولاية علي الميت لغير الأولي به، و لا أرث لغير الأحق به. فالعمدة ما ذكرنا.

نعم، قد يشكل ما في المدارك و المفاتيح بأنه إن كان المراد بشدة العلاقة شدة العلاقة الاجتماعية المسببة عن العشرة و التعاون و التآلف و التوادد و نحوها فالظاهر عدم كونها معيارا عند العرف في الولاية و الأولوية.

و إن كان المراد بها شدة العلاقة النسبية و الرحمية لقربها و قوتها لم يبعد عما عليه الأصحاب، لما هو المعلوم من أن الأمس رحما هو الوارث غالبا و إن أمكن اختصاص الإرث ببعضهم و مشاركة غيرهم لهم كالزوجة أو منع الأقرب منهم ببعض الموانع مما لا يظن بصاحبي المدارك و المفاتيح البناء علي الولاية معها. و يأتي الكلام في حكم ذلك إن شاء اللّه تعالي.

و بالجملة: لا يبعد بناء العرف علي أن الأقرب رحما هو الأولي بالميت غالبا، فينصرف إليه الكلام بمقتضي الإطلاق المقامي. لكن لا مجال للرجوع للإطلاق المقامي بعد ما عرفت من نهوض الوجهين الأولين بتعيين الولي و الأولي إلا في المورد الذي يقصران عنه. فلا بد من تحديد مفادهما.

ص: 110

______________________________

و لا يخفي أن مقتضي الجمود علي الآية الشريفة أن الولي هو الأقرب رحما للميت و إن لم يكن وارثا لمانع من رق أو قتل أو كفر، أو لكون الميت عبدا ميراثه لمولاه، أو حجب بمن ليس أقرب عرفا، كحجب ابن الابن للجد و الأخ، كما لا ولاية لغيره و إن ورث معه، كالزوجة. كما أن مقتضي نصوص القضاء عن الميت أن الولي هو الوارث و إن لم يكن هو الأقرب رحما.

لكن لا مجال للبناء علي ولاية الرحم إذا كان رقا، لعموم عدم سلطنة العبد، نظير ما تقدم في الفرع الخامس من فروع ولاية الزوج. و كذا إذا كان الميت رقا، لانصراف الآية عنه، تبعا لاختصاص القضية التي تضمنتها بغيره، بل الأولي به عرفا في حياته و بعد وفاته هو مالكه. و لا سيما مع أن أظهر آثار أولوية أولي الأرحام هو الميراث، و عدم أولوية الرحم فيه مع رقية الميت من الوضوح بحدّ قد تصلح للقرينية المانعة من انعقاد ظهور الآية في العموم له.

و كذا ما تضمن مانعية القتل و الكفر من الميراث. بل المناسبات الارتكازية تقتضي استفادة مانعيتهما من ولاية التجهيز مما دل علي مانعيتهما من الميراث، لارتكاز أن مبني مانعية القتل من الميراث الحرمان و العقوبة، و مبني مانعية الكفر منه انقطاع العصمة، و هما بالمانعية من الولاية علي التجهيز أنسب.

و لا أقل من صلوح ما ذكرنا لترجيح عموم أولوية الأولي بالميراث المستفاد من نصوص قضاء الولي علي عموم أولوية أولي الأرحام المستفاد من الآية الشريفة، فيحكم الأول في هذه الموارد و يحمل الثاني علي بيان مقتضي الأولية و إن لم تكن فعلية في الموارد المذكورة.

بل لا يبعد بسبب ذلك تحكيمه في حجب الرحم بمن ليس أقرب منه عرفا، لكشف ذلك عن أقوائيته من عموم الآية، و لا سيما مع قرب ابتناء حجبه علي أقربية الحاجب بنظر الشارع، لأقوائية علاقته، و إن خفي ذلك علي العرف، فيخرج عن عموم الآية موضوعا. فلم يبق إلا الزوجة إذا لم تكن أقرب، حيث يكون مقتضي عموم الآية الشريفة عدم ولايتها، و مقتضي العموم الآخر ولايتها مع بقية الورثة، و لا يبعد تقديمه لما سبق من أقوائيتة بسبب كثرة التخصيص في الآية. و لا سيما مع

ص: 111

______________________________

اعتضاده أو تأييده بظهور تسالم الأصحاب علي أولوية الأولي بالميراث. فتأمل.

هذا، كله مع وجود الأرحام، و أما مع عدمهم و انتقال الميراث لغيرهم فينفرد في المقام عموم أولوية الأولي بالميراث، معتضدا بالإطلاق المقامي، الذي تقدم تقريبه في الوجه الثالث للاستدلال، حيث لا إشكال في اقتضائه أولوية المالك، ثم العتق، ثم ضامن الجريرة، لبناء العرف علي ذلك. بل لا يبعد اقتضاؤه أولوية الإمام عند انحصار الوارث به.

و قد ظهر من جميع ما تقدم أن ولاية المالك مع وجود الأرحام و عدمهم مستفادة من عموم أولوية الأولي بالميراث و من الإطلاقات المقامية، و لا تتوقف علي قاعدة السلطنة التي لا يخلو الاستدلال بها عن إشكال، علي ما تقدم عند الاستدلال عليها قبل الكلام في ولاية الأرحام. فراجع.

كما ظهر أنه لو سقطت الطبقة الأولي عن الولاية لأحد الموانع المتقدمة تعينت الطبقة التي بعدها للولاية، لأنها هي الوارثة فتدخل في عموم ما تضمن أن الأولي بالميت هو الأولي بميراثه. بل لا يبعد دخولها في عموم أولوية أولي الأرحام، لأنه و إن اقتضي أولوية الأقرب دون الأبعد، إلا أن اقتضاء ذلك لما لم يكن لاختصاص الملاك به، بل لترجيحه علي غيره بسبب أقوائية العلاقة فمع فرض سقوطه عن الولاية يستفاد عرفا ثبوتها للأقرب من بعده، لتحقق المقتضي فيه و هو الرحمية من دون مزاحم يقتضي ترجيح غيره عليه.

و لا يبعد بناء العرف علي ذلك أيضا، فيكون مقتضي الإطلاق المقامي لأدلة المقام. هذا ما تقتضيه الأدلة العامة المتقدمة. و ربما يظهر من النصوص و كلمات الأصحاب خلافه في بعض الموارد، و يأتي الكلام فيه عند الكلام في فروع ترتيب الطبقات إن شاء اللّه تعالي. و منه سبحانه نستمد العون و التوفيق.

بقي شي ء:

و هو أنه قال في الجواهر: «و قد يظهر من بعض متأخري علماء البحرين هنا أن المراد بالولي المحرم من الوارث، لا مطلقه، و مع تعدده فالترجيح لأشدهم علاقة به، بحيث يكون هو المرجع له في حياته و المعزي عليه بعد وفاته.

و كأنه لظهور أخبار الباب في كون الولي ممن له مباشرة التغسيل فعلا و لو عند عدم

ص: 112

______________________________

المماثل، كقوله عليه السّلام: يغسله أولي الناس به «1»، و في موثقة الساباطي: الصبية يغسلها أولي الناس بها من الرجال «2»، و في الحسن: تغسله أولاهن به «3». فلا يتم حينئذ إرادة مطلق الوارث.

و قد يستأنس له أيضا بإطلاق الولي علي خصوص المحرم في بعض أخبار حج المرأة من دون وليها. كما أنه علل ما ذكره من الترجيح المتقدم مع فرض التعدد بما ورد من أخبار تولي الباقر عليه السّلام أمر ابن ابنه «4»، و الصادق عليه السّلام أمر اسماعيل «5»، دون الصادق عليه السّلام في الأول، و أولاد اسماعيل في الثاني. و ما ذاك إلا لأنهما المرجع في ذلك، و دخول الجميع تحت عيلولتهما هناك».

و الكل كما تري! لأن النصوص الثلاثة الأول لم تتضمن اعتبار المحرمية في الولي، و مجرد أمر الولي بالتغسيل لا يدل علي شرطية قدرته علي المباشرة في ولايته، لإمكان تقييد الأمر بصورة مشروعية مباشرته.

و أصالة العموم إنما تنهض في إثباته بالإضافة إلي الحكم الذي يرد الكلام لبيانه، لا لما يستفاد تبعا منه خصوصا إذا كان علي خلاف أصالة العموم، كما في المقام، لأن اعتبار المحرمية في الولي خلاف عموم الأدلة المتقدمة، و ليس تخصيصها بأولي من تقييد هذه الأدلة بل تخصيص هذه اولي بلحاظ ما ذكرنا من عدم سوق هذه الأدلة لبيان شروط الولي.

علي أن الثاني قد يحمل علي الصبية التي لا تبلغ السن الذي يعتبر معه المماثلة في المغسل. كما قد يحمل هو و الثالث علي الضرورة التي قد يدعي عدم اعتبار المماثلة معها تبعا لبعض النصوص، علي ما يذكر في محله.

و أما ما ورد في الحج فلعل المراد به صحيح صفوان: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

قد عرفتني بعملي، تأتيني المرأة أعرفها بإسلامها و حبها إياكم و ولايتها لكم ليس لها

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

(4) الوسائل باب: 85 من أبواب الدفن حديث: 6.

(5) الوسائل باب: 29 من أبواب التكفين حديث: 2، 1.

ص: 113

______________________________

محرم. قال: إذا جاءت المرأة المسلمة فاحملها، فإن المؤمن محرم المؤمنة. ثم تلا هذه الآية:

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ» «1»، و من الظاهر أن المراد بكون المؤمن محرم المؤمنة التوسع و المجاز لبيان جواز حمله لها و رعايته إياها كما يرعاها محرمها، و هو المراد بالولي في الآية، لا أنه محرم حقيقي، و لا الولي الذي يملك التصرف الذي هو المراد في المقام.

و بالجملة: لا تنهض الأدلة المتقدمة بإثبات اعتبار إمكان المباشرة في الولي، بل لا يمكن البناء علي ذلك، لأن لازمه ترجيح النساء في بعض الفروض علي الرجال في الولاية، و لا يظن منهم البناء علي ذلك.

و أما ما أشير إليه من تولي الباقر عليه السّلام أمر ابن الصادق عليه السّلام و تولي الصادق عليه السّلام أمر اسماعيل فهو قضية خارجية لا إطلاق لها ينفع في المقام، لإمكان ابتنائهما علي معلومية رضا باقي الأولياء بتصرف كبير العائلة، أو علي إعمال ولايتهما العامة في عائلتهما.

فلا مخرج عما ذكرناه آنفا من أن شدة العلاقة غير النسبية ليست معيارا عند العرف.

علي أن عدم الإشارة في كلام جمهور الأصحاب لمثل هذه التفاصيل كاف في عدم البناء عليها بعد ظهور كثرة الابتلاء بالمسألة المانع عادة من خفاء حكمها عليهم. فلاحظ.

تذنيبان:
الأول: قال في كشف اللثام: و عن أبي علي يعني ابن الجنيد أن الأولي بالصلاة علي الميت إمام المسلمين، ثم خلفاؤه، ثم إمام القبيلة.

و في الكافي: أولي الناس بإمامة الصلاة إمام الملة، فإن تعذر حضوره و إذنه فولي الميت أو من يؤهل للإمامة. و يجوز أن لا يخالفا المشهور. لكن يسمع الآن تقديم أبي علي الجد علي الابن. و هو ظاهر في أنه لا يري أولوية الأولي بالميراث مطلقا. و في الجواهر: أنه حكي عن ابن الجنيد تقديم الجد علي الأب أيضا. و كأن حمل كلامهما علي ما لا يخالف المشهور بتنزيله علي الأولوية في المباشرة، لا في الولاية التي هي محل الكلام. لكنه لا يناسب ما حكاه عن الكافي من تفريع أولوية الولي علي تعذر حضور الإمام و إذنه معا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 58 من أبواب وجوب الحج و شرائطه حديث: 1.

ص: 114

______________________________

و كيف كان، فقد يستدل علي تقدم إمام الأصل الحق رتبة في الولاية بأنه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، و يتفرع عليه تقدم ولاية ولاته و نوابه الخاصين، بل العامين- لو قيل بسعة نيابتهم لذلك- لأن الوكيل يقوم مقام الأصيل.

لكن عموم ولايته و إن كان مسلما، كما أنه مقدم علي جميع أدلة السلطنة و الولاية من دون خصوصية للولاية علي الميت، إلا أن ولايته المذكورة ليست بنحو تقتضي وجوب الرجوع إليه و لزوم استئذانه، بل عدم جواز مخالفته، كما هو المعلوم من السيرة و غيرها مما تضمن استقلال الكامل في التصرف في نفسه و ماله و ما وليّ عليه. فهو مساوق لما دل علي وجوب طاعته، و لقوله تعالي: وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ «1»، و ذلك خارج عن محل الكلام.

كما أن الظاهر أن نصبه لولاته و نوابه الخاصين فضلا عن العامين- لو ثبت نيابتهم عنه- ليس بنحو يقتضي قيامهم مقامه في المولوية المذكورة، كيف و لم يكن مبناه علي التصدي لها في تصرفاته إلا نادرا كما يناسبه موثق السكوني المتقدم عند الكلام في لزوم الرجوع للولي في أحكام الميت.

و أما تقديم الجد علي الأب فقد يستدل له بما تضمن تولي الإمام الباقر عليه السّلام أمر ابن الصادق عليه السّلام الذي تقدمت الإشارة إليه في ذيل الكلام في ولاية الأرحام عند التعرض لما حكاه في الجواهر عن بعض علماء البحرين. و يظهر ضعفه مما تقدم.

كما قد يستدل له بما تضمن من النصوص أن الجد أولي من الأب في تزويج البكر مستدلا في بعضها بقوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «أنت و مالك لأبيك»، و معللا في آخر بأنها و أباها للجد «2». و مقتضاهما تقدمه علي الولد أيضا، خصوصا بناء علي ما يأتي الكلام فيه من تقدم الأب عليه.

و يشكل: بأنه لا مجال للتعدي عن مورد النصوص للمقام. و أما النبوي

______________________________

(1) الأحزاب الآية: 36.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد حديث: 8، 5. و بقية النصوص المذكورة في الباب المذكور.

ص: 115

______________________________

و التعليل فهما- مع قرب انصرافهما للشئون المتعلقة بالحياة، دون ما بعد الموت، الذي هو محل الكلام- مستلزمان لولاية الأب و الجد علي البالغ الرشيد، بل ملكهما لماله، و حيث يتعذر البناء علي ذلك يتعين الخروج عن ظاهرهما و حملهما علي الحكم الأدبي، كما يناسبه ما في صحيح الحسين بن أبي العلاء: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما يحل للرجل من مال ولده؟ قال: قوته [قوت] بغير سرف إذا اضطر إليه. قال: فقلت له: فقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله للرجل الذي أتاه فقدم أباه، فقال له: أنت و مالك لأبيك.

فقال: إنما جاء بأبيه إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه هذا أبي و قد ظلمني ميراثي عن أمي فأخبره الأب أنه قد أنفقه عليه و علي نفسه، و قال: أنت و مالك لأبيك، و لم يكن عند الرجل شي ء. أو كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يحبس الأب للابن؟!» «1».

و لا بد أن يكون الاستشهاد بالنبوي و التعليل بما تقدم لإسكات الخصم أو الإقناع بالحكم ببيان الحكمة دون العلة التي يدور الحكم مدارها وجودا و عدما، أو نحو ذلك، و إن كان مخالفا لظاهره.

و بالجملة: لا مجال للاستدلال بعمومهما في المقام، فضلا عن الخروج بهما عما تقدم مما يقتضي تأخر الجد عن الأب و الولد في الولاية، لأنهما أقرب منه رحما للميت و أولي بميراثه. و أما أولوية إمام القبيلة- لو أريد بها أولويته في الولاية لا في المباشرة- فهي خالية عن الدليل و مخالفة لما تقدم.

الثاني: فهل المدار علي استئذان جميع أهل الطبقة حتي لو كان المتولي بعضهم، أو يكتفي بإذن أحدهم مطلقا، أو أنه ما لم يمنع غيره

قال في الجواهر: ثم إنه حيث ظهر أن المتجه ما ذكره الأصحاب …

فهل المدار علي استئذان جميع أهل الطبقة حتي لو كان المتولي بعضهم، أو يكتفي بإذن أحدهم مطلقا، أو أنه ما لم يمنع غيره. وجوه أحوطها الأول إن لم يكن أقواها. و إن كان يمكن أن يؤيد ما بعده بصدق اسم الولي علي كل واحد منهم، فيكتفي بإذنه، لاندراجه تحت الأدلة حينئذ، سيما الثالث، أي مع عدم منع غيره. فتأمل».

و لعله إنما أمر بالتأمل لأن نصوص المقام لا تتضمن تعيين الولي إلا بلحاظ الإطلاقات المقامية أو بضميمة الأدلة الشارحة للولي بالأولي بالميت و الأولي بميراثه، و من الظاهر أن مقتضي ذلك عدم صدق الولي علي كل واحد من أهل الطبقة بانفراده،

______________________________

(1) الوسائل باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8.

ص: 116

و الأولاد (1)، ثم الثانية (2)، و هم الأجداد (3) و الإخوة (4)، ثم الثالثة (5)،

______________________________

بل علي المجموع بما هو مجموع، لبناء العرف علي ذلك، فيكون مقتضي الإطلاقات المقامية، و لعدم صدق الأولي بالميت و بميراثه عليهم إلا كذلك. و أظهر من ذلك ما تضمن من نصوص المقام عنوان الأولي بالميت.

و منه يظهر تعين الوجه الأول. و أما الثالث فهو و إن كان أحوط من الثاني إلا أنه أضعف منه، لأنه إن فرض صدق الولي علي أحدهم تعين الاكتفاء بإذنه و إن منع غيره، لأن النصوص لم تتضمن المنع عن مخالفة الولي، بل لزوم وقوع الواجبات بإذنه، و المفروض صدقه بإذن أحدهم.

نعم، لا إشكال في الاكتفاء بإذن المتولي لأمر الميت منهم أو من غيرهم إذا علم أن توليه بإذنهم، لقيامه حينئذ مقامهم. بل و كذا لو احتمل ذلك، حملا له علي الصحة، كسائر من يتصرف فيما تحت يده لو احتمل ثبوت السلطنة له عليه و لو لإذن صاحب السلطنة له.

(1) و إن نزلوا، لقيام أولاد الأولاد مقام آبائهم في الميراث، فيشملهم ما دل علي أولوية الأولي بالميراث. و به يخرج عن عموم أولوية الأقرب رحما و عن الإطلاقات المقامية المقتضية لأولوية الأب في المقام و كونهم في مرتبة الجدّ و الاخوة.

نعم، لا بد في ولايتهم من فقد من يترقبون به له، لاختصاص ميراثهم منه بذلك. معتضدا بحديث الكناسي الآتي. كما أنه بناء علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة اللاحقة من ترجيح الأب علي الأولاد يلزم تقدمه عليهم، فيكونون بينه و بين الطبقة الثانية في الميراث.

(2) كما هو مقتضي عموم أولوية الأولي بميراثه. و يقتضيه في الجملة أيضا عموم ما تضمن أولوية الأقرب رحما للميت المطابق للإطلاقات المقامية. و إن كانت بعض التفاصيل لا تناسبهما، كما يأتي.

(3) و إن علوا علي نحو ما تقدم في أولاد الأولاد.

(4) و يقوم أولادهم مقامهم، علي نحو ما تقدم في أولاد الأولاد.

(5) لما تقدم في الطبقة الثانية.

ص: 117

و هم الأعمام و الأخوال (1)، ثم المولي المعتق (2) و ضامن الجريرة (3)، ثم الحاكم الشرعي (4).

(مسألة: 3) البالغون في كل طبقة مقدمون علي غيرهم (5). و الذكور

______________________________

(1) و يقوم أولادهم مقامهم علي نحو قيامهم مقامهم في الميراث.

(2) يعني: الذي له الولاء. لما تقدم من عموم أولوية الأولي بالميراث و الإطلاقات المقامية.

(3) لما تقدم في الولي المعتق.

(4) حيث سبق أن مقتضي عموم أولوية الوارث هو ولاية الامام، فحيث يتعذر الرجوع إليه لغيبة امام العصر عليه السّلام إن تم عموم نيابة الحاكم الشرعي عن الامام يتعين استئذانه، و إن لم يتم- كما تقدم في المسألة الرابعة و العشرين من مباحث الاجتهاد و التقليد- جري في المقام ما يأتي في المسألة الرابعة من هذه المباحث.

مسألة: 3 فروع تعيين الأولياء

(5) لما هو المعلوم المتسالم عليه بينهم ظاهرا من عدم ولايته بنفسه لأن المستفاد من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة عموم عدم أهليته للاستقلال بالتصرف إلغاء لخصوصية مواردها عرفا. بل ثبوت عدم سلطنته علي التصرف في نفسه بمثل النكاح و الطلاق و في ماله قد يقتضي عدم ولايته علي غيره بالأولوية العرفية. و منه يظهر أن تقديم البالغ في المقام ليس لترجيحه مع تمامية مقتضي الولاية في الصبي، بل لقصور الصبي عن مقام الولاية. و لذا لا يتولي أمر الميت لو انحصر الميراث به.

هذا، و قد احتمل في جامع المقاصد و الروض و كشف اللثام قيام وليه مقامه، و إن لم يظهر منهم التعويل علي الاحتمال المذكور. و يشكل باختصاص ولاية الولي بالحقوق المتعلقة بالمولي عليه، سواء كانت له أم عليه، و لم يتضح كون الولاية علي الميت في المقام حقا للولي علي المكلفين، و لا حقا عليه للميت. بل غاية ما يستفاد من الأدلة أخذ نظره قيدا في واجبات التجهيز، و المفروض قصورها عن الصبي، فراجع ما تقدم في الأمر السابع من ملحقات مسألة لزوم استئذان الولي. و تأمل.

مضافا إلي أن الولاية لو كانت من الحقوق فحيث كان مرجعها إلي اعتبار نظر

ص: 118

______________________________

الولي كان موضوع الحق نفس نظره، و هو مما يتعذر قيام الولي به، لأن الولي إنما يقوم بنظر نفسه، لا بنظر المولي عليه.

و بعبارة أخري: دليل ولاية الولي علي القاصر إنما يقتضي قيامه مقامه في السلطنة علي الحق الذي له و عليه، فيبيع ماله و يستوفي دينه و يؤدي الحق عنه و نحو ذلك مما لا يلزم منه تبدل موضوع الحق و لا تقتضي قيامه مقامه في نفس الحق الذي له و عليه بنحو يقتضي تبدل الموضوع، فلو استحق السكني في دار أو استحق عليه القصاص بضرب لم يقم الولي مقامه في السكني و الضرب.

و في المقام لو كانت الولاية من الحقوق فحيث كان موضوع الحق نظر الولي فمع قصوره لا مجال للبناء علي قيام نظر وليه مقام نظره، لاستلزامه تبدل موضوع الحق، لا تبدل موضوع السلطنة مع انحفاظ موضوع الحق.

و هذا يجري في سائر موارد قصور من له الولاية بالأصل، فلا مجال لقيام وليه مقامه في الولاية، بنحو تكون ولايته علي ما يولي عليه بالأصل مقتضي ولايته عليه كما يكون مقتضاها ولايته علي ملكه.

نعم، يمكن أن يكون وليا علي ما يولي عليه بدله في عرض ولايته عليه نفسه، لواجديته لموضوع الولاية علي ذلك الشي ء، كما لو جنّ الأب و قيل بولاية الحاكم الشرعي علي من لا ولي له، فإن ذلك كما يقتضي ولايته عليه يقتضي ولايته علي أولاده، من دون أن تكون ولايته عليهم مقتضي ولايته عليه. و لا مجال لذلك في المقام، لفرض أن موضوع الولاية علي الميت- كالرحمية أو الميراث- مختص بالقاصر، و غير حاصل في وليه. بل يتعين حينئذ اختصاص من في طبقته من الورثة بالولاية.

أما لو انحصر الإرث به فلا يبعد البناء علي ولاية الأقرب من بعده و إن لم يكن وارثا، لأن عموم أولوية الأولي بالميراث و إن كان قاصرا عن المورد، إلا أن عموم أولوية الأقرب رحما يقتضي أولوية الشخص المذكور، بناء علي ما تقدم في آخر الكلام في مقتضي الأدلة العامة من أن العموم المذكور و إن اقتضي أولوية الأقرب- و هو القاصر في المقام دون الشخص المذكور، و المفروض عدم البناء علي مقتضاه- إلا أن اقتضاءه ذلك ليس لاختصاص الملاك بالأقرب، بل لترجيحه علي غيره، بسبب

ص: 119

مقدمون علي الإناث (1).

______________________________

أقوائية العلاقة، فمع فرض سقوطه عن الولاية يستفاد منه عرفا ثبوتها للأقرب من بعده، لعدم المزاحم. بل سبق قرب بناء العرف علي ذلك في تعيين الأولي بالميت، فيكون مقتضي الإطلاق المقامي لأدلة المقام. و بلحاظه يتجه الانتقال للأبعد من طبقات الورثة و إن لم يكن رحما، كالمولي المعتق و ضامن الجريرة و الإمام كما قواه في العروة الوثقي، و إن تردد في جامع المقاصد و الروض و محكي الذكري.

و بما ذكرنا يظهر اندفاع ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه في تقريب عدم ولاية الطبقة المتأخرة من أنه لا ريب في أن القاصر أولي و أمس رحما بالميت ممن بعده، فإذا لم يشمله دليل الولاية لا يشمل من بعده بعد عدم واجديته لموضوع الولاية، لعدم كونه وارثا.

وجه الاندفاع: أن دليل ولاية الوارث لما كان قاصرا عن المقام لم يمنع من ولاية الطبقة المتأخرة إذا كانت مستفادة من الآية بالتقريب المتقدم، و لعل السيرة الارتكازية علي ما ذكرنا. ثم إن الظاهر أن الكلام المتقدم كما يجري في الصبي يجري في غيره من القاصرين، كالمجنون و المغمي عليه و غيرهما ممن ليس بأهل للولاية.

(1) الظاهر عدم الإشكال بينهم في أهلية المرأة للولاية، و ثبوتها لها في الجملة، و لذا تكون الولاية لها عند عدم الذكر في طبقتها جزما، كما في جامع المقاصد. و يقتضيه- مضافا إلي العمومات المتقدمة- صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت: المرأة تؤم النساء؟ قال: لا، إلا علي الميت إذا لم يكن أحد أولي منها … » «1».

و إنما الكلام في ترجح الذكر عليها مع اتحاد الطبقة، حيث صرح بذلك جماعة من الأصحاب إما في جميع الأحكام- كما في القواعد و الروض و الروضة- أو في بعضها، كالغسل- كما في الدروس و محكي التحرير- أو الصلاة- كما في المنتهي و الإرشاد، نافيا الخلاف فيه في الأول- أو فيهما- كما في الشرائع- بنحو لا يبعد أن يكون مراد الجميع العموم. و قد اعترف غير واحد بعدم الدليل عليه بنحو يقتضي الخروج عن مقتضي الأدلة المتقدمة، و إطلاق جماعة من الأصحاب أن الأولي بالميت هو الأولي بميراثه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 120

______________________________

قال في الجواهر: «نعم قد يشهد له الاعتبار، لكون الرجال غالبا أعقل و أقوي علي الأمور و أبصر بها. إلا أنه لا يصلح لأن يكون مستندا شرعيا». و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «و تقديم الابن علي الأم في خبر الكناسي «1» - علي ما قيل- لم أجده فيما يحضرني من نسخ الوسائل و الحدائق و الجواهر و مرآة العقول و غيرها».

كما لا مجال للاستدلال عليه بالسيرة، لأنه و إن كان الغالب تولي الرجال أمر الميت، إلا أنه قد لا يكون للبناء علي اختصاص الولاية بهم. بل لإيكال الأمور إليهم من الباقين، لتعلق الغرض لهم بالخصوصيات دون غيرهم، أو لأنهم أبصر، أو لغير ذلك، نظير الإيكال في كثير من الموارد لبعض الرجال، كالأكبر و الأوجه و نحوهما.

بل قد يوكل الأمر لبعض أفراد الطبقة المتأخرة لذلك.

و من ثم يشكل البناء علي الترجيح المذكور. و لا سيما مع قرب كون ذكر جماعة له لبيان الأولوية في المباشرة، نظير تقديم الأقرأ و الأفقه في الإمامة، كما قد يظهر من المبسوط و السرائر، أو الأولوية عند التشاح و الاختلاف، كما احتمله في الجواهر. و مع اضطراب كلام الأصحاب في ذلك و عدم وضوح الدليل عليه لا مجال للخروج عن مقتضي العمومات المتقدمة.

هذا، و قد خص في جامع المقاصد الترجيح المذكور بما إذا كان الميت رجلا، و ظاهره حمل كلام بعض من أطلق- كالعلامة في القواعد- عليه. كما قد ينسب له أن الأولي النساء.

فإن كان مراده الاختصاص المذكور في خصوص التغسيل، أشكل بأن الولاية لا تبتني علي المباشرة، بل علي اعتبار إذن الولي و إن تعذرت مباشرته- كما ذكره في الروض- و لذا نسب لغير واحد من متأخري الأصحاب التصريح بالإطلاق. و لو كان مراده عموم الاختصاص المذكور لجميع أحكام الميت- كما هو مورد كلام القواعد- فهو أشكل.

لكن في المدارك: «و قد يقال: إن الرواية المتقدمة التي هي الأصل في هذا الحكم [يعني: الولاية] إنما تتناول من يمكن وقوع الغسل منه، و متي انتفت دلالتها علي العموم وجب الرجوع في غير ما تضمنته إلي الأصل و العمومات». و مراده بالرواية

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب موجبات الإرث حديث: 2.

ص: 121

و في تقديم الأب في الطبقة الأولي علي الأولاد (1)،

______________________________

موثق غياث: «يغسل الميت أولي الناس به» «1». و يندفع بما تقدم في الاستدلال علي لزوم الرجوع للولي من أن الموثق ليس من أدلة الولاية، فلا يهم اختصاصه بمن له المباشرة.

و بالجملة: لو تم دليل ترجيح الذكور لزم البناء علي مقتضاه عموما أو خصوصا، و تعذر المباشرة لا ينافي العموم.

(1) كما صرح به في الصلاة علي الميت في المبسوط و الخلاف و الوسيلة و السرائر و الشرائع و المنتهي و التذكرة و القواعد و غيرها. و في جامع المقاصد و محكي شرحي الجعفرية أنه المشهور، بل في الخلاف و ظاهر التذكرة الإجماع عليه، و في المدارك: «هذا مذهب الأصحاب لا أعلم فيه مخالفا».

و قد استدل عليه: تارة: بانصراف إطلاق أنه يصلي علي الجنازة أولي الناس بها إليه. و أخري: بأنه أشفق و أرق، فيكون أقرب إلي إجابة الدعاء. و ثالثة: بولايته علي الولد. و رابعة: بما تضمن تولي الصادق عليه السّلام أمر اسماعيل دون أولاده «2».

و الكل كما تري. لاندفاع الأول: بمنع الانصراف المذكور. و الثاني: بأنه لا ينهض بإثبات حكم شرعي. و الثالث: باختصاص ولايته علي الولد بحال صباه، و المفروض خروجه عنه، و إلا دخل فيما تقدم من ترجيح البالغين علي غيرهم.

و الرابع: بأنه وارد في قضية خاصة لا إطلاق لها، و قد تبتني علي عدم وجود ولد لإسماعيل صالح للولاية، أو علي تفويضهم الأمر له عليه السّلام أو علي إعمال ولايته العامة في أهل بيته. و قد تقدم نظيره.

و من هنا قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «فإطلاق أولاهم بميراثه و آية أولوا الأرحام محكم»، و جعل في الجواهر الإجماع المذكور هو المستند.

لكن لم يتضح الإجماع المذكور بعد عدم التعرض لذلك من قبل الشيخ، و عدم خلوّ كلامهم عن الاضطراب. قال في المبسوط: «فإن حضر جماعة الأولياء كان الأب أولي، ثم الولد، ثم ولد الولد، ثم الجد من قبل الأب و الأم … و جملته أن من كان

______________________________

(1) الوسائل باب: 26 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب التكفين حديث: 1، 2.

ص: 122

و الجد علي الأخ (1)،

______________________________

أولي بميراثه كان أولي بالصلاة عليه»، و قريب منه في السرائر، و مقتضي فرض حضور جماعة من الأولياء في صدره الفراغ عن ولاية الجميع و أن الترجيح في المباشرة، لا في الولاية، كما أن جعل معيار الأولوية أولوية الميراث في ذيله لا يناسب الترجيح المذكور في الولاية، و نحوه في الثاني ما في الخلاف، حيث قال: «أحق القرابة الأب، ثم الولد.

و جملته من كان أولي بميراثه كان أولي بالصلاة عليه … دليلنا: إجماع الفرقة، و قوله تعالي: وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ … ». و ربما يظهر نحو ذلك من غير واحد من كلماتهم.

و من هنا لا يبعد أن يكون الاستدلال بالآية لتعيين طبقات الولاية القابلة لتعدد الأولياء، و الترجيح بلحاظ المباشرة لإمامة الصلاة التي لا تقبل التعدد، كما يناسبه التعليل المتقدم بأنه أشفق و أقرب إلي إجابة الدعاء، و اقتصارهم في بيان الترجيح المذكور علي الصلاة دون غيرها من واجبات التجهيز، عدا الروضة فقد ذكره في جميع الأحكام و لا مجال مع ذلك للخروج عن الأدلة العامة المقتضية للاشتراك في الولاية.

نعم، لا يبعد نهوض بعض الوجوه المتقدمة و نحوها بالترجيح في المباشرة، بمعني أولوية جري الأولياء عليه. و مع تشاحهم حيث لا يمكن العمل بقول الكل فقد يلزم الترجيح المذكور، لاحتمال ثبوته شرعا المستلزم لليقين ببراءة الذمة بموافقة محتمل الرجحان، حيث يدور الأمر بين سقوط نظرهما معا بسبب تعذر الجمع و سقوط نظر خصوص المرجوح. فتأمل.

هذا، و قد ذكر في العروة الوثقي أن الأم أولي من الأولاد الذكور. و كأنه لبعض ما تقدم، مثل كونها أشفق و أرق، فتكون أقرب إلي إجابة الدعاء. و يظهر ضعفه مما تقدم. بل لعله مخالف لمقتضي السيرة. كما هو مخالف لما ذكروه من تقديم الذكور علي الإناث. و كأنه لذا لم يعرف موافق له، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

نعم، لو تم تقديم الأب علي الأولاد، فقد يتجه تقديمها علي البنات و الزوجة، و إن لم يخل عن إشكال.

(1) فقد قدمه الشيخ في مساق كلامه المتقدم في تقديم الأب علي الولد، و كذا الحلي، مع تصريحهما بعمومه للجد من الأم، و وافقهما في التذكرة و المنتهي و جامع

ص: 123

و الأخ من الأبوين علي الأخ من أحدهما (1)،

______________________________

المقاصد و الروض مع تخصيصهم له بالجد للأب، بل قد يظهر من جامع المقاصد عدم الولاية للجد للأم مطلقا لعدم عدّه له في مراتب الأولياء حتي مع الأخ للأم، و كلهم ذكر ذلك في الصلاة.

و كيف كان، فقد حاول توجيهه في التذكرة بأن الأب أشفق، و في المنتهي بأن الجد أقرب إلي إجابة الدعاء، و في جامع المقاصد و الروض باختصاص الجد بالتولد، و في الجواهر بأنه له الولاية علي الميت و أبيه في بعض أحوالهما.

و الجميع كما تري لا ينهض بالخروج عن عموم أولوية الأولي بالميراث و الأقرب رحما. و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن الإنصاف أنه لا يبعد كون الجد أقرب عرفا الي الميت، فيشمله عموم و أولوا الأرحام. فهو في غاية المنع، إذا المعيار في القرب النسبي قلة الوسائط، و هو غير حاصل في المقام.

و غاية ما يدعي أن مقام الأبوة يقتضي التقدم عرفا، فيلزم الجري عليه بمقتضي الإطلاق المقامي. لكن لا مجال للإطلاق المقامي مع البيان الشرعي. و من هنا لا مجال للخروج عما سبق، و لا سيما مع ما سبق من اضطراب كلام الشيخ و الحلي و غيرهما.

و ربما يأتي ما ينفع في المقام.

(1) كما في المبسوط و السرائر في المساق المتقدم، و وافقهما في الشرائع و المنتهي و القواعد و الإرشاد و جامع المقاصد و المسالك و الروض و غيرها. و في الروض و محكي شرح الجعفرية أنه المشهور، بل قد يظهر من محكي الذكري الإجماع عليه، كما نفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه. و كأنه بلحاظ عدم التصريح بالخلاف و إلا فهو مقتضي إطلاق جماعة.

و قد يستدل عليه بصحيح هشام بن سالم عن الكناسي عن أبي جعفر عليه السّلام:

«قال: ابنك أولي بك من ابن ابنك، و ابن ابنك أولي بك من أخيك. قال: و أخوك لأبيك و أمك أولي بك من أخيك لأبيك، و أخوك لأبيك أولي بك من أخيك لأمك.

قال: و ابن أخيك لأبيك و أمك أولي بك من ابن أخيك لأبيك. قال: و ابن أخيك من

ص: 124

______________________________

أبيك أولي بك من عمك. قال: و عمك أخو أبيك من أبيه و أمه أولي بك من عمك أخي أبيك من أبيه. و عمك أخو أبيك من أبيه أولي بك من عمك أخي أبيك لأمه.

قال: و ابن عمك أخي أبيك من أبيه و أمه أولي بك من ابن عمك أخي أبيك لأبيه.

قال: و ابن عمك أخي أبيك من أبيه أولي بك من ابن عمك أخي أبيك لأمه» «1».

و دعوي: إجمال موضوع الأولوية فيه و احتمال اختصاصها بالميراث بلحاظ الحجب- كتقديم الأخ للأبوين علي الأخ للأب- أو كثرة النصيب- كتقديم الأخ للأب علي الأخ للأم- فلا تنفع في المقام.

مدفوعة: بأن حذف متعلق الأولوية موجب لظهور إطلاقها في الشمول لما نحن فيه، نظير ما تقدم في آية أولي الأرحام.

و مثلها دعوي: منافاة الحديث للآية المذكورة، لأن مقتضاها كون المعيار في الأولوية القرب النسبي المستلزم للتساوي بين كثير مما تضمن الحديث الترتيب فيه.

لاندفاعها: بأن الآية لم تتضمن كون القرب النسبي معيارا في الأولوية، لما سبق من أن مدلولها المطابقي أولوية الرحم من غيره، غاية الأمر أن المناسبات الارتكازية تقضي بأن علقة الرحمية إذا كانت معيارا في الأولوية كانت الأقربية الناشئة من قلة الوسائط معيارا فيها، و من الظاهر أن كون الأقربية معيارا إنما هو بلحاظ قوة علاقة الرحمية بها، و القوة لا تختص بالأقربية، بل تحصل بتأكد العلقة لتوسط كلا الأبوين فيها.

بل لا يبعد كون الاتصال بالأب أقوي عرفا من الاتصال بالأم و إن لم يستلزم الأقربية.

و دعوي: أن ذلك لا يناسب الاستشهاد بالآية الكريمة في النصوص المشار إليها آنفا- عند التعرض لمفاد الآية- لتعيين الأقرب لميراث المال و الإمامة، لظهورها في أن المعيار في الأولوية هي الأقربية لا غير.

مدفوعة: بأن النصوص المذكورة مسوقة لتعيين الأقرب في مقابل ترجيح الأبعد عليه، لا لبيان كون الأقربية هي العلة المنحصرة للتقديم بنحو يستلزم اشتراك المتساوين في القرب، و إنما يبني علي اشتراك المتساوين في القرب للإطلاق و عدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب موجبات الإرث حديث: 2.

ص: 125

______________________________

المرجح، فمع ما سبق من ظهور الآية في مرجحة قوة العلاقة لا تنهض بالنصوص المذكورة برفع اليد عن ذلك.

و بهذا يتضح حال ما تضمن أن الأولي بالميت هو الأولي بميراثه، فإنه إنما يقتضي عدم الترجيح بينهم بإطلاقه، و لا يمنع منه بدليل خارج، كالحديث المتقدم.

فالعمدة في الإشكال في الحديث المتقدم عدم ثبوت وثاقة الكناسي، سواء كان هو يزيد، كما في الكافي و التهذيب و الوسائل، أم بريد، كما في الجواهر.

اللهم إلا أن يقال: مقتضي ذكر الشيخ يزيد في أصحاب الباقر عليه السّلام، و بريد في أصحاب الصادق عليه السّلام، كون المراد به في الحديث الأول، و هو أبو خالد يزيد الكناسي، و وقوع التصحيف في الجواهر.

و ما عن الشيخ من عدّ يزيد من أصحاب الصادق أيضا لم نجده في كتابه، كما صرح به بعضهم أيضا. و حينئذ فقد حكي عن المجلسي الأول تقريب اتحاده مع يزيد أبي خالد القماط الذي نص النجاشي علي وثاقته. و قرب بعض مشايخنا الاتحاد بعدم تعرض الشيخ للقماط مع أنه صاحب كتاب، فلولا اتحاده مع الكناسي لم يكن وجه لإهماله، و لا سيما مع كون القماط كوفيا و الكناسة محلة بالكوفة. لكنه لم يجزم بالاتحاد بلحاظ ذكر البرقي كلا الرجلين الظاهر في التعدد. و يعضده عدم اشتراكهما في الرواة عنهما حسبما ذكروه في ترجمتهما، و عدّ الكناسي في أصحاب الباقر و الكناسي في أصحاب الصادق عليه السّلام.

نعم، قد يستفاد وثاقة الكناسي من رواية هشام بن سالم و الحسن بن محبوب و غيرهما من الثقات عنه. و من هنا قد يتجه التعويل علي الرواية، و لا سيما مع ظهور حال الكليني و الشيخ و غيرهما في التعويل عليها في الميراث. و إن كان الأمر غير خال عن الإشكال.

هذا، و لو غض النظر عن الحديث المذكور فلا ينبغي التأمل في ترجيح الأخ للأبوين علي الأخ للأب، لأنه أولي منه بالميراث- كما نبه له في بعض كلماتهم- و لما ذكرناه في آية أولي الأرحام. و أما ترجيحه علي الأخ للأم و ترجيح الأخ للأب- عند عدم الأخ للأبوين- عليه فهو مقتضي ما ذكرناه في آية أولي الأرحام.

ص: 126

و الأخ من الأب علي الأخ من الأم (1)، و العم علي الخال (2) إشكال.

______________________________

لكن يعارضها إطلاق ما تضمن أولوية الأولي بالميراث المقتضي لاشتراكهما في الولاية. و إن لم يبعد تقديم الآية، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن دخل الميراث في الولاية و الأولوية إنما هو بلحاظ كشفه عن قوة العلاقة، و هو غير كاشف عنها في المقام، إذ لازمه اختلاف علاقة الأخ للأب في حال وجود الأخ للأبوين عنه في حال فقده، فتكون في الأول أضعف من علاقة الأخ للأم، و في الثاني مساوية لها، و هو خلاف المقطوع به، فلا بد من كون ترتب أقسام الأخوة في الميراث لا يبتني علي قوة علاقتهم بالميت. و الأمر محتاج للتأمل.

هذا، و قد استدل علي تقديم الأخ للأبوين علي الأخ للأم في كلام بعضهم بأن الثاني يتقرب بمن لا ولاية لها مع الأب، فكذا فرعها مع فرعه. و بأنه أكثر نصيبا.

و يشكل الأول- مع ابتنائه علي ترجيح الذكور علي الإناث الذي سبق الإشكال فيه- بأن قصور الأم عن مقام الولاية مع الأب قد يكون لأنها أضعف رأيا منه، و حينئذ لا يستلزم ذلك قصور من يتقرب بها مع من يتقرب به إذا كان مساويا له في الرأي، لاتحادهما في الجنس. و الثاني بأن كثرة النصيب لا ترجع للأولوية في الميراث.

(1) كما في المبسوط و السرائر في المساق المتقدم و المنتهي و جامع المقاصد و الروض و المسالك و غيرها، و في الروض أنه المشهور، و نفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه. و كأن مراده التصريح بالخلاف، و إلا فهو مقتضي إطلاق جماعة، و لا سيما من اقتصر علي بعض المرجحات المتقدمة.

و كيف كان، فيقتضيه حديث الكناسي المتقدم، و آية أولي الأرحام بالتقريب المتقدم، و ما تقدم من بعضهم من أن الأخ للأب أكثر نصيبا، و أن من يتقرب به متقدم علي من يتقرب به الأخ للأم. و يظهر حال الجميع مما مر.

(2) كما في المبسوط و السرائر في المساق المتقدم و جامع المقاصد و المسالك و الروض مدعيا فيه أنه المشهور. و يظهر الحال فيه مما تقدم. نعم لا يتضمنه حديث الكناسي. و إن لم يبعد استفادته منه تبعا، لظهوره في تقديم جانب الأب علي جانب الأم. و كذا الحال في الأخوال، و في أولادهم و أولاد الأعمام، كما ذكر ذلك في الروض

ص: 127

و الأحوط وجوبا الاستئذان من الطرفين (1).

(مسألة 4): إذا تعذر استئذان الولي- لعدم حضوره مثلا- أو امتنع عن الإذن (2)

______________________________

و المسالك مدعيا في الأول أنه المشهور.

و قد يستفاد مما تقدم تقديم الجد للأب علي الجد للأم. بل قد يستفاد من حديث الكناسي تقديم الأب علي الأم، لأن تقديم من يتصل به يناسب تقديمه عليها. بل من الآية أيضا إذا تم التقريب المتقدم، لأنه إذا كانت علاقة من يتصل بالأب أقوي فلا بد من كون علاقة الأب أقوي. إلا أن يقال: لما كان المعيار في قوة العلاقة نظر العرف، فلا تلازم بين الأمرين عندهم، و مجرد مناسبته لحديث الكناسي لا تكفي.

(1) و مع التشاح يتعين الاحتياط بموافقة من تقدم احتمال ترجيحه، للعلم بعدم ولاية الآخر حينئذ.

هذا، و في الحدائق أنه لو تعدد الأولياء فمقتضي قوله عليه السّلام في صحيح الصفار المتقدم عند الاستدلال علي أن الولي هو الوارث: «يقضي عنه أكبر ولييه» «1» هو ترجيح الأكبر.

و فيه: أنه ظاهر في نفسه في تعدد الأولياء، المستلزم لابتناء اختصاص القضاء بالأكبر علي تقييد إطلاق وجوب القضاء علي الولي بالأكبر، لا علي اختصاص الولاية به. و مجرد ثبوت هذا التقييد في دليل القضاء لا يستلزم ثبوته في دليل التجهيز. فلاحظ.

(مسألة 4): إذا تعذر استئذان الولي

(2) قال في محكي الذكري: «أن في إجباره نظرا ينشأ من الشك في أن الولاية هل هي نظر له أو للميت». فإنها إن كانت من حقوق الميت كان للحاكم إجباره، و إن كانت من حقوقه لم يكن له إجباره، لأن الإنسان إنما يجبر علي أداء ما عليه، و لا يجبر علي استيفاء ماله، إلا بلحاظ تبعة بقائه له من وجوب أدائه بعد ذلك كما في الدين، الذي لا مجال له في المقام.

هذا، و قد سبق في ذيل الكلام في وجوب الرجوع للولي عدم وضوح كون الولاية من الحقوق المملوكة.

______________________________

(1) الوسائل ج 10 باب: 23 من أبواب أحكام شهر رمضان حديث: 3.

ص: 128

و عن مباشرة التغسيل. وجب تغسيله (1) و لو بلا إذن (2).

______________________________

نعم، لا يبعد ظهور أدلتها في كون ثبوتها للولي إرفاقا به و مراعاة لجانبه، لا تكليفا عليه ليلزم بالقيام به و لو من باب الأمر بالمعروف، كما قد يناسبه قوله عليه السّلام:

«أو يأمر من يحب» الظاهر في كون المعيار حبه و رغبته، و قوله: «ذاك إلي الولي» الظاهر في كونه له لا عليه، و ما تضمن أن الزوج أحق بزوجته الظاهر في كون الولاية حقا له، لا عليه. و لا أقل من عدم الإطلاق لدليل الولاية يشمل حال امتناعه، فضلا عن أن يستفاد سلطنة الحاكم علي إجباره. و كأنه لذلك يرجع ما في الجواهر، حيث قال: «و لا ريب في قوة العدم. للأصل، مع ما يستفاد من فحاوي الأدلة».

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أنه لو سلم ظهور الأدلة في ابتناء الولاية علي الإرفاق بالولي إلا أن ظاهرها كون ثبوتها علي نحو ثبوتها لسائر الأولياء إرفاقا بالمولي عليه أيضا. فهو غير ظاهر، لإمكان اختلاف الولاية باختلاف الموارد.

نعم، لا يبعد ابتناء الولاية في جميع الموارد علي عدم الاضرار بالمولي عليه، و هو أمر آخر. و لعله لذا اعترف قدّس سرّه في آخر كلامه بأن وفاء الأدلة بما ذكره لا يخلو عن إشكال.

(1) و كذا غيره من واجبات التجهيز. بلا إشكال ظاهر، حيث لا يحتمل سقوط تجهيز الميت بتعذر استئذان الولي. و يقتضيه في صورة غيبة الولي ما ورد في العراة الذين يجدون ميتا قذفه البحر «1»، و فيمن يموت و ليس معه قرابة مسلم «2» و غيرهما.

(2) قد يدعي وجوب الاستئذان من الحاكم بدلا عن الولي، لأنه يقوم مقامه في القيام بماله و أداء ما عليه.

لكنه موقوف.. أولا: علي عموم ولاية الولي لحال تعذر الاستئذان منه. و أدلة الولاية لا تنهض بذلك. بل المتيقن منها صورة إمكان الاستئذان منه و صدور الفعل عن نظره، كما تقدم في الممتنع.

و ثانيا: علي قابلية ولاية الشخص لأن يقوم وليه بها بدلا عنه. و قد سبق المنع من ذلك عند الكلام في حكم غير البالغ. فراجع.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة.

(2) راجع الوسائل باب: 19 من أبواب غسل الميت.

ص: 129

______________________________

كما قد يدعي وجوب الاستئذان من الحاكم ابتداء، لأنه ولي من لا ولي له، أو من باب ولاية الحسبة، من دون أن يكون في طول الولي و قائما مقامه.

و يشكل: بأن ذلك إنما يتم فيما ثبت احتياجه للولي، و لو للأصل، حيث لا يعلم حينئذ جواز العمل أو صحته بدون الرجوع إليه، لا في مثل المقام، حيث كان مقتضي إطلاق أدلة واجبات التجهيز صحة العمل بدون إذن أحد، و كذا مقتضي أصل البراءة، إذ يلزم الاقتصار في الخروج عن ذلك علي المتيقن من دليل وجوب الرجوع للولي، و هو إمكان الرجوع للأولياء التي تضمنتهم الأدلة المتقدمة.

إن قلت: مقتضي إطلاق ما تقدم مما تضمن لزوم الرجوع للولي، كصحيح زرارة الوارد في الدفن «1» و موثق السكوني، و المرسلين الواردة في الصلاة «2» و غيرها اعتبار إذن الولي و إن لم يكن في طبقات الميراث، و قصور دليل ولاية طبقات الميراث عن حال تعذر الاستئذان منهم لا يوجب رفع اليد عن الإطلاق المذكور، بل يتعين ولاية غيرهم الذي هو الحاكم المتعين للولاية في مثل ذلك، إما لأنه ولي من لا ولي له أو من باب ولاية الحسبة.

قلت: النصوص المذكورة لا إطلاق لها يقتضي أن كل ميت له ولي يلزم صدور تجهيزه عن إذنه، لعدم ورودها لبيان لزوم وجود الولي، بل لبيان وجوب استئذانه و الرجوع إليه، فهي ظاهرة في المفروغية عن وجوده في الجملة، فلا تدل إلا علي لزوم صدور التجهيز عن إذنه في فرض وجوده، كما هو الغالب، من دون أن تدل علي نفي احتمال عدم وجوده في بعض الموارد.

علي أنه لو فرض إطلاقها بالنحو المذكور فما تضمن تعيين الولي بطبقات الميراث وارد عليها، حيث يكون مقتضي الجمع بينه و بينها لزوم استئذان طبقات الميراث، فمع فرض عدم ولاية الوراث يتعين قصور الإطلاقات المذكورة، فلا مخرج عن مقتضي إطلاقات الواجب و أصل البراءة من صحة العمل بدون إذن أحد.

نعم، لو كان مفاد دليل ولاية طبقات الميراث مجرد إثبات ولايتهم من دون

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب الدفن حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2، 1، 4.

ص: 130

(مسألة 5): إذا أوصي أن يغسله (1) شخص معين لم يجب عليه القبول (2)،

______________________________

تعيين للولي فيهم و حصره بهم اتجه الرجوع لإطلاق النصوص المذكورة- لو تم- في إثبات لزوم الرجوع للولي في التجهيز المستلزم لولاية الحاكم، لما تقدم. لكن لا مجال لإنكار ظهورها في الحصر. فتأمل.

هذا، و قد ذكرنا عند الكلام في حكم غير البالغ أن سقوط الطبقة الأولي عن الولاية موجب لولاية الطبقة التي بعدها و إن لم تكن وارثة و لا أمس رحما بالميت. فلو تم ذلك بالإضافة للإمام عليه السّلام لتعذر الرجوع للطبقات السابقة عليه في الميراث لزم الرجوع للحاكم الشرعي، بناء علي عموم نيابته عنه عليه السّلام. إلا أن عموم النيابة غير ثابت، كما أشرنا إليه آنفا. و حينئذ يتعين عدم اعتبار إذن أحد في المقام، كما لعله المطابق لسيرة المتشرعة و ارتكازياتهم.

مسألة 5: إذا أوصي أن يغسله شخص معين لم يجب عليه القبول
اشارة

(1) لا فرق بين التغسيل و غيره من واجبات التجهيز.

(2) قال قدّس سرّه: «لعدم الدليل علي الوجوب». و يشكل: بأنه بعد فرض نفوذ الوصية و تقدم الموصي علي الولي- كما يأتي منه قدّس سرّه- ينحصر الواجب بما أوصي به، فيجب القيام به بمقتضي فرض كون الوجوب كفائيا علي الموصي، كما يجب علي غيره التسبيب له و الإعانة عليه، كما لو أمره الولي بذلك، كما تقدم في الأمر الخامس من فروع وجوب الرجوع للولي.

و بذلك يفترق عن الوصية بسائر الأفعال، كما لو أوصي بأن يقرأ زيد القرآن عنه، و أن يحج عمرو عنه، و أن يزور بكر عنه و نحوها، لعدم وجوبها في أنفسها لا علي الموصي بفعلها، و لا علي غيره. و وجوبه من جهة الوصية لا دليل عليه بعد اختصاص ما دل علي أنه لا يجوز للوصي رد الوصية بعد الموت، بل قبله إذا لم يبلغ الخبر بالوصية بالولاية- التي هي الوصية العهدية- لا بالفعل.

و منه يظهر أنه لا فرق في نفوذ الوصية في المقام و لزوم العمل بها علي الموصي بالفعل بين قبوله بها و رده لها في حياة الموصي و بعد وفاته، لاختصاص ما دل علي

ص: 131

لكن إذا قبل (1) لم يحتج إلي إذن الولي (2).

______________________________

جواز ردّ الوصية في حياة الموصي إذا وصله الخبر بما يكون وجوبه من جهة الوصية، و هي الوصية بالولاية، دون ما يجب مع قطع النظر عنها. و عليه يكون القبول الواجب هو العمل بمقتضي الوصية، لا الالتزام الإنشائي بمضمونها.

كما ظهر عدم الفرق في عدم لزوم الوصية بالفعل غير الواجب بين الصور المذكورة، لاختصاص ما دل علي عدم جواز ردّ الوصية إذا لم يبلغ الموصي خبر الرد بالوصية بالولاية، دون الوصية بالفعل، بل تبقي الوصية بغير الواجب من الأفعال طلبا محضا يستحب القيام به بعنوان إجابة المؤمن، و لو قبلها لا يكون قبولها إلا وعدا محضا يستحب القيام به، كسائر الوعود.

(1) الظاهر أن مراده بالقبول ليس هو الالتزام الانشائي- نظير القبول العقدي- لأن نفوذ الوصية لا يتوقف علي ذلك، بل هي تنفذ مطلقا، غايته أن الوصي له الرد في حياة الموصي، فينفذ رده إذا بلغ الموصي الخبر. و هو مختص بمن يوصي إليه بالولاية، دون الفعل. بل مراده بالقبول مجرد الرضا بالعمل الذي أوصي به الميت و عدم الامتناع عن القيام به.

فيكون مرجع كلامه قدّس سرّه إلي نفوذ الوصية المذكورة مطلقا، غايته أنها لا تقتضي وجوب العمل علي من يطلب منه، بل جوازه، فيرد عليه ما سبق.

(2) قال في المختلف: «قال ابن الجنيد: الموصي إليه أولي بالصلاة من القرابات.

و لم يعتبر علماؤنا ذلك» و بعدم النفوذ صرح في المنتهي و التذكرة و المسالك و محكي الموجز و شرحه و الذكري، و قد يظهر من الروض، بل هو الظاهر من كل من لم يذكره في عداد الأولياء و أطلق ولاية غيره. و لعله لذا نسبه في المختلف لعلماؤنا- كما سبق- و في المسالك للمشهور. لكن مال في جامع المقاصد للنفوذ، و نفي البأس عنه في المدارك.

و كيف كان، فقد استدل لابن الجنيد بعموم نفوذ الوصية.

و يشكل.. تارة: بما أشار إليه في المختلف من اختصاص العموم المذكور بالوصية بالمال، لاختصاص عموم نفوذ الوصية بالآية الشريفة، و موضوعها الخير. قال تعالي:

ص: 132

______________________________

لاختصاص عموم نفوذ الوصية بالآية الشريفة، و موضوعها الخير. قال تعالي: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ فَإِنَّمٰا إِثْمُهُ عَلَي الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خٰافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1».

غاية الأمر أنه قد ثبت نفوذ الوصية ببعض الأمور الأخري، كالولاية علي الأطفال، فيقتصر فيها علي مورده.

و أخري: بما ذكره غير واحد من لزوم رفع اليد عن العموم المذكور بعموم ولاية الأرحام و طبقات الميراث، لوروده عليه و رفعه لموضوعه، لما هو المعلوم من اختصاص عموم نفوذ الوصية بالوصية بالمعروف التي لا تتضمن حيفا و إثما- كما تضمنته الآية و النصوص «2» - و مقتضي عمومات الولاية كون الوصية المذكورة متضمنة للحيف و التعدي علي الأولياء، فلا تنفذ.

هذا، و قد يدعي قصور عموم الولاية عن مزاحمة وصية الميت.. تارة: لما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الذي يستظهر من الأخبار أن هذه الولاية مراعاة لحق الميت، بل هي الحكمة الأصلية لتشريعها، فلا يناسب إهمال حال الميت و طرح قوله و مخالفة ما أمر به. و قد يرجع إليه ما في جامع المقاصد من أن الميت ربما آثر شخصا لعلمه بصلاحه فطمع في إجابة دعائه، فمنعه من ذلك و حرمانه ما أمله بعيد، بل في المدارك أنه غير موافق للحكمة.

و أخري: لما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن ولاية الوصي بحسب ارتكاز العقلاء من باب ولاية الميت مآلا، و أدلة الولاية إنما تقتضي أولوية الأقرب من الأبعد، لا أولويته من الميت نفسه، فتقصر عن صورة تصدي الميت للأمر بجعل الوصي، بل عموم نفوذ الوصية هو المحكم.

و لو تم أحد الوجهين فقد لا يحتاج إلي عموم نفوذ الوصية- ليستشكل بعدم ثبوته، كما سبق- لأنه إذا فرض قصور أدلة تعيين الولي بمن سبق فلا يبعد كون مقتضي

______________________________

(1) البقرة الآية: 180- 182.

(2) راجع الوسائل باب: 8، 11 من أبواب الوصايا.

ص: 133

______________________________

الإطلاقات المقامية لأدلة وجوب الرجوع لولي الميت و الأولي به هو ولاية الوصي، إذ الظاهر بناء العرف علي أولوية الوصي من غيره، لأن الميت أولي عرفا من غيره في تعيين شئون التجهيز، فيتعين الوصي بتعيينه.

لكن الإشكال في تمامية الوجهين المذكورين. فقد تنظر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الوجه الأول. و كأنه لأن كون الولاية مراعاة لحق الميت لا يلازم نفوذ وصيته، لإمكان تشخيص مقتضي حقه و مصلحته لنظر الولي دونه، علي أنه لم يتضح كون جعل الولاية مراعاة لحق الميت فقط، بل لا يبعد كونه مراعاة لحقه و حق الولي أو لحق الولي فقط بمقتضي رحميته منه و علاقته به، كما أشرنا إليه عند الكلام في امتناع الولي عن القيام بمقتضي الولاية.

كما يشكل الثاني بأن ولاية الميت علي نفسه قبل الموت و بعده ليست أقوي عرفا من ولايته علي ماله، و حيث كان دليل ولاية الولي علي التجهيز مسانخا لدليل الميراث، بل بعضه بلسانه، و لم يكن مبني الوصية علي التقدم علي الميراث فلا وجه لتقدمها علي الولاية. خصوصا في ولاية الزوج علي زوجته التي لا يبعد مساوقتها لولايته عليها في حياتها في بعض شئونها و ابتناؤها علي كونه أولي بها من نفسها. كما لا إشكال في ذلك عرفا في ولاية المالك.

فالعمدة في نفوذ الوصية قرب مطابقته لمرتكزات المتشرعة، كما يناسبه معروفية الوصية بشؤون التجهيز عندهم، فقد شاع إعداد الإنسان كفنه و قبره، بل تضمنته النصوص في الجملة، كما تواترت بوصايا المعصومين عليهم السّلام بشؤون تجهيزهم من كيفية الواجبات و من يتولاها و نحو ذلك، كما تضمن بعضها وصية البراء بن معرور «1».

و قال في التذكرة في بيان حجة العامة علي نفوذ الوصية: «و لأن أبا بكر أوصي أن يصلي عليه عمر، و عمر أوصي أن يصلي عليه صهيب، و أوصت عائشة أن يصلي عليها أبو هريرة، و ابن مسعود أن يصلي عليه الزبير، و يونس بن جبير أن يصلي عليه أنس بن مالك، و أبو سريحة أوصي أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فجاءه عمرو بن حريث و هو أمير الكوفة ليتقدم فيصلي عليه فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصي أن يصلي عليه زيد

______________________________

(1) الوسائل باب: 61 من أبواب الدفن حديث: 1.

ص: 134

______________________________

ابن أرقم، فقدم زيدا. و هذا منتشر».

و مبناهم علي الالتزام بالوصية، كما يناسبه ما في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: كتب أبي في وصيته أن أكفنه في ثلاثة أثواب أحدها رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة و ثوب آخر و قميص، فقلت لأبي: لم تكتب هذا؟ فقال:

أخاف أن يغلبك الناس، و إن قالوا: كفنه في أربعة فلا تفعل … » «1»، و نحوه غيره.

بل هو المقطوع به بملاحظة سيرتهم و ارتكازياتهم حتي شاع الاحتجاج بالوصية في مخالفة رغبات الحكام و التذرع بها لإعلان السخط عليهم و استنكار أعمالهم، بل هي آخر حجر يرميه المعارض في وجوههم، فقد أوصي عبد اللّه بن مسعود و عبد الرحمن بن عوف أن لا يصلي عليهما عثمان «2».

و قد سبقت إلي ذلك الصديقة الطاهرة عليها السّلام فكان لوصيتها من الظهور و الانتشار و الأثر البالغ الباقي ما ليس لغيرها. و كل ذلك لبناء المسلمين علي تنفيذ الوصايا بالتجهيز و عدم التوقف علي إذن الولي، و إلا كان هو المسؤول أمام الحاكم.

و لعله إلي ذلك يرجع الاستدلال بسيرة السلف في كلام بعض أصحابنا. و يؤيده الاعتبار الذي أشير إليه فيما تقدم من جامع المقاصد و المدارك.

اللهم إلا أن يقال: الوجه الأخير لا يخرج عن الاستحسان الذي لا ينهض بالاستدلال، و السيرة قد تبتني علي تنفيذ الوصية برضا الولي احتراما لرغبة الميت و تنفيذا لإرادته، لأنه في حال أحوج ما يكون لذلك و أدعي للشفقة و الرحمة و تحرك العواطف، و علي ذلك جري عرف الناس و إن لم يجب شرعا، و بذلك يكون عذرا أمام الغير من حاكم أو غيره.

و لذا كثيرا ما يهتم أهل الميت و نحوهم بتنفيذ وصاياه الخارجة عن تجهيزه المعلوم عدم وجوب تنفيذها عليهم شرعا مما يتعلق به كذكره بأعمال الخير و نحوها، أو بغيره مما يهتم به، كشئون أولاده بعد بلوغهم و نحوها. و قد يكون الاهتمام بتنفيذ بعضها لخصوصية في الموصي، كما في وصايا المعصومين عليهم السّلام، و قد أوصي الكاظم عليه السّلام

______________________________

(1) الكافي ج 3: 144 الطبعة الجديدة. باب تحنيط الميت و تكفينه حديث: 7.

(2) كتاب الغدير ج 9: 5، 87.

ص: 135

______________________________

للرضا عليه السّلام و جعل أمر زواج أخواته بيده «1»، كما اشتهرت وصية الصديقة الزهراء عليها السّلام أمير المؤمنين عليه السّلام أن يتزوج بنت أختها أمامة، و أرسل عنه عليه السّلام أنه قال: «أربع ليس لي الي فراقه [فراقها. ظ] سبيل: بنت [أبي العاص. ظ] أمامة أوصتني بها فاطمة بنت محمد صلّي اللّه عليه و آله … » «2» إلي غير ذلك مما لا يتسني سبره و استقصاؤه.

و لا مجال مع ذلك للقطع من السيرة المذكورة بنفوذ الوصية بالتجهيز شرعا، بنحو لا يجوز للولي نقضها. و لا سيما مع ظهور حال الأصحاب في عدم البناء علي ذلك في فتاواهم، و لو كانت السيرة بنحو تنهض بإثبات ذلك لكان من الوضوح بنحو لا يناسب خفاءه عليهم. و من هنا أشكل الحال كثيرا. و قد يلزم لأجله مراعاة الاحتياط بمحافظة الولي علي تنفيذ الوصية. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم و منه نستمد العون و التوفيق.

بقي في المقام أمران:

الأول: قال في المسالك: «و الولاية منحصرة فيمن ذكر، فلا ولاية للموصي إليه بها، علي المشهور، مع وجود الوارث. نعم لو فقد كان أولي من الحاكم». و علي ذلك جري شيخنا الأعظم قدّس سرّه. هذا و عدم ولاية الوصي مع الوارث يبتني علي ما سبق.

أما ولايته مع عدمه بحيث يكون مقدما علي الحاكم فهو يبتني.. أولا: علي عموم نفوذ الوصية للوصية بالتجهيز و إن كان محكوما لعموم ولاية الوارث.

و ثانيا: علي كون المورد من موارد لزوم الرجوع للولي، فيلزم الرجوع للحاكم لأنه ولي من لا ولي له، أو من باب ولاية الحسبة. إذ حينئذ يكون مقتضي عموم نفوذ الوصية ولاية الوصي، فيرتفع معه موضوع وجوب الرجوع للحاكم. أما لو لم يثبت عموم نفوذ الوصية للمقام فولاية الوصي محتملة كولاية الحاكم لو كانت ولاية الحاكم من باب ولاية الحسبة، فيلزم الاحتياط باستئذان كل منهما و لو بني علي أنه ولي من لا ولي له كان هو المقدم، لأصالة عدم ولاية الوصي.

كما أنه بناء علي عدم كون المورد من موارد لزوم الرجوع للولي فلا موجب

______________________________

(1) الكافي باب الاشارة و النص علي أبي الحسن الرضا (ع) حديث: 15 ج 1: 316 الطبعة الجديدة و عيون أخبار الرضا (ع) باب: 5 ص: 27 طبعة النجف الأشرف.

(2) البحار ج 43: 192 الطبعة الجديدة.

ص: 136

______________________________

للرجوع للحاكم مطلقا حتي مع عدم الوصي، كما تقدم. إلا أن يثبت عموم نيابته عن الإمام، فتكون ولايته في طول ولايته بما أنه من طبقات الميراث، فيجري فيه مع الوصي ما سبق فيهم.

الثاني: قال في العروة الوثقي: «إذا أوصي الميت في تجهيزه إلي غير الولي ذكر بعضهم عدم نفوذها إلا بإجازة الولي. لكن الأقوي صحتها … » و ظاهره أن من يقول بعدم نفوذ الوصية مع وجود الولي يقول بنفوذها مع إجازته. و لم أعثر علي مصرح به.

بل قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعد تقريب عدم نفوذ الوصية: «و مما ذكرنا يظهر أنه لا أثر لإجازة الولي في حياة الميت أو بعد مماته».

و كيف كان، فإن كان المراد بنفوذها بإجازة الولي صحة العمل مع رضاه به حين وقوعه، فلا إشكال فيه. لكنه مقتضي ولايته حين العمل، لا مقتضي إجازته الوصية.

و إن كان المراد به لزوم العمل بالوصية لو أجازها بنحو ليس له العدول عن مقتضي إجازته، فهو- مع ابتنائه علي أن عدم نفوذ الوصية لمزاحمتها لحق الولي، لا لاختصاص عموم النفوذ بالوصية بالمال- محتاج للدليل.

و كأن الوجه فيه إطلاق بعض أدلة الإجازة، كصحيحي محمد بن مسلم و منصور بن حازم و موثق أبي أيوب جميعا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: في رجل أوصي بوصية و ورثته شهود، فأجازوا ذلك، فلما مات الرجل نقضوا الوصية، هل لهم أن يردوا ما أقروا به؟ فقال: ليس لهم ذلك، و الوصية جائزة عليهم إذا أقروا بها في حياته» «1».

لكن الوصية فيه و إن لم يصرح بكونها بالمال إلا أنها منصرفة لها بسبب فرض الوارث، حيث ينسبق منها كونها مزاحمة لإرثه، لا لحق آخر له، و لا سيما مع ما هو المعلوم من أن الولي قد يكون بعض الورثة، بل قد لا يكون وارثا فعلا، لقصور الوارث عن مقام الولاية.

نعم، قد يستفاد نفوذ الإجازة في المقام مما تضمن نفوذها في الوصية بالمال بإلغاء خصوصية المال أو بتنقيح المناط. لكنه لا يخلو عن إشكال، خصوصا، بلحاظ ما سبق من عدم وضوح كون الولاية من الحقوق، لتكون من سنخ المال.

______________________________

(1) الوسائل باب: 13 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 1.

ص: 137

و إذا أوصي أن يتولي تجهيزه شخص معين (1) جاز له الرد (2) في حياة الموصي (3)، و ليس له الرد بعد ذلك (4).

______________________________

هذا، و أما الإشكال فيه بأن الإجازة في حياة الوصي إجازة علي الحق قبل ثبوته، الذي هو كإسقاط ما لم يجب، لأن الولاية إنما تثبت بعد الموت. فهو لو تمّ منع من الإجازة في الوصية بالمال أيضا، لأن الوارث لا يملكه إلا بعد الموت، و لا مجال للتعويل عليه في المنع من صحة الإجازة بعد دلالة النصوص عليها في الجملة.

فالعمدة ما ذكرنا من قصور النصوص عن المقام.

(1) بأن يصدر عن نظره و إن لم يباشره، نظير الولي الشرعي.

(2) ينبغي أن لا يكون موردا للإشكال، لأن عموم الآية- لو شمل المقام- إنما يقتضي حرمة تبديل الوصية، لا لزوم القيام بها، بل مقتضي قاعدة السلطنة جواز الرد.

و ما دل علي عدم جواز ردّ الوصي الوصية مختص بالرد بعد وفاة الموصي أو في حياته إذا لم يبلغه الخبر. و لا موجب للزوم الولاية من غير جهة الوصية، بخلاف الوصية بنفس أفعال التجهيز، حيث تقدم أن وجوب القبول بها مقتضي فرض كون وجوبها كفائيا.

(3) الظاهر أنه يجري هنا ما يجري في الوصية العهدية من لزوم وصول الخبر بالرد للموصي في نفوذه، لعدم ورود دليل خاص في المقام.

(4) قال قدّس سرّه: «فمقتضي عموم ما دل علي عدم جواز رد الوصية وجوب القبول إذا لم يرد حال حياة الموصي، إذ لم يتضح للمورد خصوصية بالنسبة إلي غيره من الموارد في جواز الرد حال الحياة و عدمه بعد الوفاة، لإطلاق النصوص المتضمنة للحكمين الشاملة للمورد.

اللهم إلا أن يدعي انصرافه إلي خصوص صورة لزوم ضياع الوصية لو لم يقبل الوصي، بل ذلك ظاهر بعض النصوص، فلا يشمل ما كان واجبا علي عامة المكلفين و قد جعل الشارع له وليا. فتأمل».

و لعل الأمر منه قدّس سرّه بالتأمل للإشارة إلي أنه لا ضابط لاستلزام رد الوصية ضياعها، بل هو يختلف باختلاف حال الوصية في السهولة و الصعوبة، و باختلاف

ص: 138

و وجب الاستئذان منه دون الولي (1).

______________________________

حال الورثة في الأمانة و المعرفة و القوة، بحيث لا يسيطر عليهم من يلزمهم بتنفيذها من حاكم أو غيره. و ذلك جار في المقام أيضا، فقد لا يقوم الولي بأداء الواجب و ما عينه الميت علي وجهه قصورا أو تقصيرا.

و إناطة عدم جواز الرد في الجميع باستلزام الضياع مما لا يظن بأحد البناء عليه، كما لا دليل عليه في النصوص الواردة في الرد، لعدم ظهور شي ء منها في ذلك، بل في أن الرد إنما لا يجوز إذا تعذر علي الموصي تعيين وصي آخر، لصدوره بعد وفاته أو عدم بلوغ الخبر له به في حياته، و هو جار في المقام، لعدم المخرج فيه عن الإطلاق الذي أشار إليه قدّس سرّه. فلاحظ.

(1) بناء علي ما سبق منه من نفوذ الوصية بالتجهيز، و ما سبق من الإشكال جار هنا سواء كان المراد به الوصية بالأفعال الصادرة عن إذنه التي ترجع إلي تقييد الأفعال المذكورة بما يصدر عن إذنه، و التي هي من سنخ الوصية بالفعل، أم الوصية بالولاية، نظير جعله وليا علي أطفاله. بل يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن الثاني أولي بالإشكال. و إن كان هو غير ظاهر، فإنه إن فرض عموم نفوذ الوصية للوصية بغير المال و تقديمه علي عموم الولاية لزم نفوذ الوجهين، و إلا لزم عدم نفوذهما معا.

تنبيه:

بناء علي نفوذ الوصية في المقام فهي لا تختص بتعيين المباشر للتجهيز و الولي عليه الذي يقع بنظره، بل تعم الوصية بتعيين الخصوصيات الفردية الأخري للواجب، كمكان الغسل و الدفن و ماء الغسل و كيفيته، لعين الوجه المتقدم.

و أما الآداب الخارجة عن الواجب- كتثليث الغسل في كل غسل و الأدعية المأثورة و التلقين و نحوها- فلا إشكال في عدم وجوب قبول الوصية بها علي من يوصي بمباشرتها، لما سبق من أن دليل الوصية لا يقتضي نفوذ الوصية بالفعل، و إنما يجب القيام بها في المقام لفرض وجوب أصل الماهية كفاية و نفوذ الوصية في تعيين الفرد الواجب، فمع فرض عدم وجوب الماهية الموصي بها ذاتا لا مجال للبناء علي

ص: 139

(مسألة 6): يجب في التغسيل طهارة الماء (1) و إباحته (2)، و إباحة السدر و الكافور (3)، بل الفضاء الذي يشغله الغسل (4)، و مجري الغسالة (5) علي الأحوط وجوبا. و منه السدة التي يغسل عليها (6) إذا كان ماء الغسل يجري عليها (7)، أما إذا كان لا يجري عليها فمع عدم الانحصار (8) يصح الغسل عليها (9).

______________________________

وجوبها بالوصية.

و أما الوصية بالولاية فهي لو نفذت لا تقتضي مباشرة الوصي بالعمل و لا تصحح إلزامه الغير به، بل سعيه في تحقيق الموصي به بالوجه المتعارف و إن استلزم صرف المال ما لم يتجاوز الثلث، علي ما هو الحال في سائر الوصية بالولاية.

مسألة 6: بقية شروط التغسيل من طهارة الماء و إباحته و إباحة متعلقات الغسل

(1) بلا إشكال ظاهر. و يظهر الكلام فيه مما تقدم في الوضوء.

(2) كي يمكن التقرب بالغسل به، بناء علي كونه تعبديا يعتبر فيه النية، علي ما تقدم في أول هذا الفصل. كما تقدم في الوضوء جملة من الفروع المتعلقة بذلك الجارية في المقام.

(3) الكلام فيه هو الكلام في سابقه.

(4) علي ما تقدم الكلام فيه في الوضوء.

(5) علي ما تقدم في الوضوء.

(6) لأن ما يقتضي اعتبار إباحة مجري الماء يقتضي إباحة كل ما يمر به، لا خصوص ما يستقر فيه، كالبالوعة.

(7) بل و أن لم يجر عليها إذا كان الغسل تصرفا فيها من وجه آخر، كما لو استلزم تقليب الميت عليها.

(8) يعني: بإمكان الغسل علي سدة أخري أو من غير سدة.

(9) يعني: و يجب. أما الوجوب فلإطلاق أدلته بعد فرض القدرة علي إيقاعه من دون أن يستلزم التصرف المحرم، لفرض عدم الانحصار.

و أما الصحة فلأن مجرد ملازمة الفعل الحرام لا تمنع من التقرب به إذا لم يكن

ص: 140

أما معه فيسقط الغسل (1)، لكن إذا غسل حينئذ صح الغسل (2). و كذلك التفصيل في ظرف الماء إذا كان مغصوبا (3).

(مسألة 7): يجزي تغسيل الميت قبل برده (4).

______________________________

سببا توليديا للحرام.

(1) لمزاحمته بحرمة التصرف في المغصوب، فيسقط و يكتفي بالتيمم علي ما يذكر في مبحث التيمم من الاكتفاء في مشروعيته بمزاحمة وجوب الطهارة المائية بكل تكليف آخر. و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي في المسوغ الثاني من مسوغات التيمم.

(2) لأن سقوطه بالمزاحمة لا ينافي مشروعيته و إمكان التقرب به بلحاظ ملاكه.

نعم تقدم في الوضوء من الإناء المغصوب الإشكال في التقرب بالعمل العبادي التدريجي إذا كان مبني الاستمرار فيه علي نية الاستمرار في الحرام الذي هو مقدمة له، و ذلك جار في المقام. فراجع.

(3) تقدم تفصيل الكلام فيه في مبحث الوضوء.

مسألة 7: يجزي تغسيل الميت قبل برده

(4) كما هو مقتضي إطلاق الأصحاب في المقام. و يقتضيه إطلاق بعض النصوص، كصحيح ذريح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: فإذا مات الميت فخذ في جهازه و عجله» «1» و نحوه مرسل العيص «2»، لوضوح أن التغسيل أول أفعال التجهيز.

بل قد يستفاد من النصوص المتضمنة وجوب غسل الميت، لأنها و إن وردت في مقام تشريعه، إلا أن عدم التعرض فيها لوقته موجب لظهورها و لو بإطلاقاتها المقامية في عدم اعتبار أمر فيه زائد علي الموت. و لا سيما مع التعليل في جملة منها بأنه يجنب بالموت، لوضوح أنه لا يعتبر في وقت غسل الجنابة أمر زائد عليها.

بل في الروض في تعقيب كلامه الآتي المتضمن عدم توقف العلم بالموت علي البرد:

«و عن عبد اللّه بن سنان عنه عليه السّلام: يغتسل الذي غسل الميت. و إن غسّل الميت إنسان بعد موته و هو حار فليس عليه غسل، و لكن إذا مسه و قبله و قد برد فعليه الغسل … و هذا

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 47 من أبواب الاحتضار حديث: 6.

ص: 141

______________________________

الحديث كما يدل علي صدق الموت قبل البرد، كذلك يدل علي جواز تغسيله قبله … ».

لكن الحديث المذكور و إن كان معتبرا سندا، إلا أن الموجود في الكافي و التهذيبين و الوسائل «1» و عن الوافي و غيره روايته هكذا: «و إن قبّل الميت إنسان بعد موته و هو حار فليس عليه غسل»، و يناسبه سياق الذيل. و من هنا يطمأن بوقوع التصحيف في نقله، أو في النسخة التي نقل منها. و من هنا لا مجال للتعويل علي روايته له. و ينحصر الدليل بالإطلاقات.

هذا، و قد يستفاد عدم مشروعية التغسيل قبل البرد مما تضمن عدم وجوب الغسل بالمس قبله بناء علي اشتراكهما في علة واحدة، كما يناسبه ما في حديث محمد بن سنان عن الرضا عليه السّلام: «قال: و علة اغتسال من غسل الميت أو مسه لما أصابه من نضج الميت، لأن الميت إذا خرج منه الروح بقي أكثر آفته، فلذلك يتطهر منه و يطهر» «2».

لكن ظاهر هذا الحديث أن العلة فيهما معا خروج الروح، فيكون الغسلان معا تابعان لها لا للبرد، و ثبوت اعتبار البرد في وجوب غسل المس لا يقتضي ذلك في التغسيل.

و مثله الاستدلال بما تضمن من النصوص الكثيرة وجوب الغسل علي من غسل الميت، بضميمة معلومية كون الغسل المذكور من صغريات غسل المس الذي يعتبر فيه البرد، حيث يدل علي المفروغية عن وقوع الغسل بعد البرد و عدم وقوعه قبله.

لاندفاعه: بأن النصوص المذكورة حيث لم ترد لبيان عدم مشروعية التغسيل قبل البرد فلا إطلاق لها من هذه الجهة، بل قد تبتني علي غلبة حصول البرد و لو في آخره كغلبة حصول المس حال التغسيل. فالظاهر أنه لا مخرج عن إطلاقات التغسيل التي ذكرناها.

نعم، ذهب جماعة إلي عدم نجاسته حينئذ، و قد استدل عليه في محكي الذكري بعدم القطع بالموت، و في المدارك بعدم تحقق انتقال الروح منه. و ربما يحمل عليه الاستدلال في كلامهم بالاستصحاب، و إن لم يبعد ظهور كلام جامع المقاصد في إرادة استصحاب الطهارة، لعدم ثبوت عموم نجاسة الميت.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب غسل الميت حديث: 15.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب غسل الميت حديث: 12.

ص: 142

(مسألة 8): إذا تعذر السدر و الكافور فالأقوي وجوب تغسيله ثلاث مرات بالماء القراح (1).

______________________________

و مقتضي ذلك عدم ترتيب جميع أحكام الموت، و منها وجوب التغسيل، و إن لم يصرحوا هم بذلك، بل يظهر مما يأتي من الروض عدم ظهور قائل بذلك، و إن كان هو ظاهر أو صريح كاشف الغطاء.

لكن لا مجال لمنع القطع بالموت قبل البرد، فإن القطع و إن لم يكن له ضابط إلا أن الظاهر أنه كثيرا ما يتضح الموت قبل البرد. قال في الروض في توضيح ذلك: «و إلا لما جاز دفنه قبل البرد، و لم يقل به أحد، خصوصا صاحب الطاعون، و قد أطلقوا القول باستحباب التعجيل مع ظهور علامات الموت، و هي لا تتوقف علي البرد، مع أن الموت لو توقف القطع به علي البرد لما كان لقيد البرد فائدة بعد ذكر الموت … و كل حديث دل علي التفصيل بالبرد و عدمه دل علي صدق الموت قبل البرد … ».

و أما ما في الحدائق من الجواب علي ذلك، حيث قال: «لا نمنع الموت حال الحرارة، و إنما نمنع انفصال الروح بكليتها في تلك الحال، و ذلك فإن الروح بعد خروجها من البدن يبقي لها اتصال به كاتصال شعاع الشمس بعد غروبها بما أشرقت عليه و آثار ذلك الاتصال باقية ما دامت الحرارة موجودة، و بعد البرد ينقطع ذلك و يقطع بخروجها بجميع متعلقاتها و آثارها، فلا منافاة حينئذ».

فهو كما تري فإن بقاء بعض آثار الحياة لا ينافي انفصال الروح بكليتها، بل كيف يمكن منع انفصالها كذلك مع الاعتراف بصدق الموت. علي أنه مع صدقه يلزم ترتب جميع أحكامه التي تضمنتها النصوص و منها النجاسة و مشروعية التغسيل، و لا وجه للتوقف فيها مع إطلاق أدلتها. فكلامه لا يخلو عن اضطراب و تدافع.

مسألة 8: إذا تعذر السدر و الكافور فالأقوي وجوب تغسيله ثلاث مرات بالماء القراح
اشارة

(1) أما عدم سقوط التغسيل رأسا و الانتقال للتيمم فالظاهر عدم الإشكال فيه بينهم، و في الحدائق أن الظاهر اتفاق الأصحاب عليه، و في الجواهر: «بلا إشكال و لا خلاف أجده بين كل من تعرض لذلك من الأصحاب، كالشيخ و الحلي و الفاضلين و الشهيدين و المحقق الثاني و غيرهم من متأخري المتأخرين».

ص: 143

______________________________

بل يظهر منهم المفروغية عنه، حيث لم يتعرضوا للكلام فيه، بل في وحدة الغسل و تعدده. و أما ما في النهاية و السرائر من أنه لا بأس بتغسيله بالماء القراح، فالظاهر أن المراد به الوجوب، لأنه إذا شرع وجب، كما في الجواهر.

و كأنه لقاعدة الميسور المستفاد جريانها في الطهارات من ملاحظة الموارد الكثيرة كالأقطع و الجبائر و غيرها، و في خصوص المقام مما ورد في المحرم من أنه يصنع به ما يصنع بالمحل إلا أنه لا يمسّ طيبا «1»، حيث كان مقتضي إطلاق بعضه عدم استعمال الكافور حتي في غسله، لا في خصوص التحنيط.

بل لا يبعد ارتكازيتها عند المتشرعة، خصوصا بملاحظة ما تضمن تعليل التغسيل بأن الميت يجنب، لما هو المعلوم من أن المطهر من الجنابة هو الماء، و أن الخليط مطلوب لخصوصية في الميت، فتعذره لا يوجب سقوط التغسيل بالماء من جهة الجنابة.

و كأن ذلك هو الوجه في عدم ورود السؤال عن تعذر الخليطين و الفروع المناسبة له في النصوص- و منها ما ورد في المورد، كما سيأتي- علي كثرة الابتلاء بذلك، حيث لا يحتمل كون منشأ عدم السؤال وضوح سقوط الغسل مع ما هو المعلوم من ابتناء الطهارات علي الميسور في كثير من الموارد، و لا سيما مع كون المتعذر غير مقوم للغسل ارتكازا، بل قوامه الماء.

و بالجملة: الظاهر وضوح عدم سقوط الغسل في الفرض بعد النظر في مجموع النصوص و كلمات الأصحاب و المرتكزات المتشرعية. و إن كان هو خلاف مقتضي الأصل في الواجب الارتباطي بعد عدم نهوض الاستصحاب بإثبات وجوب الميسور، و عدم ثبوت عموم يشهد لقاعدة الميسور، علي ما ذكرناه في الأصول مفصلا بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا. و ربما يأتي عند الكلام في وحدة الغسل و تعدده ما ينفع في المقام.

هذا، و قد قرب في الحدائق سقوط الغسل و وجوب التيمم. مستدلا عليه- مضافا في سقوط الغسل إلي الأصل المتقدم- بأنه ربما يلوح من موثق عمار: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما تقول في قوم كانوا في سفر لهم يمشون علي ساحل البحر فإذا هم برجل ميت قد لفظه البحر و هم عراة، و ليس عليهم إلا إزار، كيف يصلون عليه

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 13 من أبواب غسل الميت.

ص: 144

______________________________

و هو عريان، و ليس معهم فضل ثوب يكفنونه [به]؟ قال: يحفر له … » «1»، و نحوه مرسل محمد بن أسلم عن الرضا عليه السّلام «2» حيث لم يتعرض الإمامان عليهما السّلام لذكر الغسل.

قال: «و الظاهر أنه لا وجه لسقوطه إلا فقد الخليطين فإن ظاهر تلك الحال يشهد بتعذر وجوده … لا يقال: أن الواجب مع تعذر الغسل التيمم، و هذان الخبران خاليان من التعرض له أيضا. لأنا نقول: غايتهما في ذلك أن يكونا مطلقين في هذا الحكم فيجب تقييدهما بما دل علي الحكم المذكور من الأخبار- كما سيأتي في المسألة- بخلاف الغسل، فإنه ليس هنا ما يوجب تقييد إطلاقها، إذ لا رواية في المسألة كما عرفت».

أقول: أما الأصل فقد عرفت حاله. و أما الحديثان فعدم تعرض الإمامين عليهما السّلام لذكر الغسل فيهما لا يكشف عن عدم وجوبه، لأنهما عليهما السّلام بصدد بيان كيفية الصلاة المسؤول عنها، لا بصدد بيان تمام الوظيفة المتعلقة بالميت المذكور. بل إهمال السؤال عن حكم الغسل مع عدم الخليطين قد يظهر في المفروغية عن وجوبه بسبب ما ذكرناه آنفا، إذ لا يحتمل كون عدم السؤال للمفروغية عن سقوطه، كما سبق.

و أما استفادة وجوب التيمم في المقام من النصوص فتشكل بأن نصوص التيمم الواردة في تيمم الميت مختصة بما إذا تعذر الغسل لعدم وجود المماثل الرحم أو لتعذر استعمال الماء لفقده أو لمحذور في استعماله كخوف تناثر جلد الميت، علي ما يأتي في محله، و لا تشمل ما لو تعذر الخليطان مع إمكان استعمال الماء.

و هو الحال أيضا في عمومات تشريع التيمم من الكتاب و السنة، فإنها إنما تقتضي بدليته عن الماء لا عن غيره مما له دخل في التطهير مع إمكان استعمال الماء. فلو بني علي الجمود علي مقتضي النصوص ثم الرجوع للأصل- و غض النظر عما ذكرنا- لزم البناء علي سقوط الغسل و التيمم معا، و لو بني علي الاحتياط لزم الجمع بينهما معا، و إن بني علي متابعة الأصحاب فقد سبق ظهور كلامهم في المفروغية عن وجوب الغسل، كما سبق تقريب القرائن الأخري الشاهدة له، حيث يبعد معها التعويل علي الأصل المذكور. أما وجوب التيمم وحده فلا شاهد عليه أصلا.

إذا عرفت هذا فقد اختلف الأصحاب في عدد الغسل حينئذ فقد أطلق في

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 145

______________________________

المقنعة و المبسوط و النهاية أنه يغسل بالماء القراح، و إن لم يبعد ظهور عبارة النهاية في الاكتفاء بالواحد، حيث قال: «فلا بأس أن يغسل بالماء القراح و يقتصر عليه»، لمناسبته لإمكان عدم الاقتصار، و هو لا يكون إلا بالإضافة للتثليث، أما بالإضافة للخليط فالمفروض تعذره.

و هو الظاهر أيضا من الشرائع و صريح المعتبر و النافع و المدارك و محكي التلخيص و مجمع البرهان، و عن الذكري أنه أفقه، و ظاهر المختلف التردد، و في المنتهي أن في عدد الغسل إشكالا، بل عن التحرير أن في كفاية الواحد إشكالا.

و قرب في التذكرة وجوب الثلاث. و به جزم في القواعد و الإرشاد و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و الروض و محكي نهاية الأحكام و التحرير و التنقيح و كشف الالتباس و فوائد الشرائع و شرحي الجعفرية و غيرها، و في السرائر أنه لا بأس بتغسيله ثلاثا بالماء القراح.

و كيف كان، فعدم سقوط كل غسل بتعذر خليطه مقتضي قاعدة الاشتغال، بناء علي ما سبق منا عند الكلام في وجوب تثليث الأغسال من أن وجوب التغسيل ليس لنفسه، بل بلحاظ أثره و هو الطهارة، فلا بد من إحرازها فحيث فرض في المقام عدم سقوط التغسيل يتعين الاقتصار علي ما يعلم بترتب الطهارة الاضطرارية عليه، و هو لا يكون إلا بالتثليث.

و قد يستدل عليه أيضا بما ورد في المحرم من أنه يصنع به كما يصنع بالمحل إلا أنه لا يقربه طيبا «1»، بدعوي: أن مقتضاه تثليث الغسلات من دون كافور، كما ذكره في الجواهر. لكنه لا يخلو عن إجمال، لإمكان أن يراد منه سقوط الغسلة الثانية المشتملة علي الكافور، لا فعلها مجردة عنه الذي هو مبني الاستدلال. و لعله المناسب لارتكاز كون الاهتمام بالغسلة ذات الخليط لأجل خليطها، فمع سقوطه تسقط.

و إن كان الإنصاف أن ذلك أبعد عن عبارة النصوص المشتملة علي استثناء نفس الطيب من تمام تجهيز المحلّ- و هو في المقام الكافور- لا غسلته، و سقوط غسلته تبعا له لا يناسب الاستثناء باللسان المذكور، كما لا يناسب مبني الأصحاب في المقام.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب 13 من أبواب غسل الميت.

ص: 146

______________________________

نعم، استشكل شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الاستدلال المذكور بأن المتعذر شرعا كالمتعذر عقلا، دون العكس. مع أن الحكم الثابت في مورد خاص لتعذر شرعي لا يسري إلي التعذر العقلي. انتهي.

لكنه كما تري، فإن عدم تقريب الكافور من المحرم ليس لمزاحمة وجوبه من جهة الموت بحرمته من جهة الإحرام، ليرجع للتعذر الشرعي، بل للتخصيص، و لذا لا يكون مشروعا واجدا للملاك حتي لو وقع جهلا أو غفلة. فالاستدلال به في المقام ينبغي أن لا يبتني علي قياس أحد التعذرين بالآخر- كما يظهر من الجواهر- بل علي الاستئناس بما ورد فيه لمعرفة مبني اعتبار الخليطين من قبل الشارع، إلغاء لخصوصية مورد النص عرفا. و عليه يبتني ما سبق منا من الاستشهاد به لعدم سقوط الغسل من أصله. و من هنا يقرب كونه عاضدا أو مؤيدا لمقتضي الأصل المتقدم.

هذا، و قد استدل في جامع المقاصد و غيره بأن بعض النصوص قد تضمن تغسيله في الأوليين بماء و سدر، و بماء و كافور، فالمأمور به شيئان، فإذا تعذر الخليطان أو أحدهما بقي الأمر بتغسيله كما كان.

و قد يظهر من جامع المقاصد أن الاستدلال المذكور يبتني علي عدم الارتباطية بين الواجبين المذكورين، الذي لا إشكال معه في عدم سقوط أحدهما بتعذر الآخر، لأنه تعرض بعد ذلك للاستدلال علي عدم السقوط بأن وجوب المركب يقتضي وجوب أجزائه فلا وجه لسقوط بعضها بتعذر الآخر.

و استشكل فيه بأن وجوب المركب إنما يقتضي وجوب أجزائه حيث هي أجزاء، لا مطلقا، و الماء عند تعذر السدر ليس جزءا لماء السدر، فإن مقتضي ذلك ابتناء الاستدلال المتقدم منه علي عدم الارتباطية.

و حينئذ يشكل بأن مقتضي الجمع بين ما تضمن وجوب غسل الميت و ما تضمن شرحه بالأغسال الثلاثة هو ثبوت الارتباطية بين الأغسال الثلاثة- و أنها بمجموعها تجب بوجوب واحد وارد علي غسل الميت المركب منها- فضلا عن الارتباطية بين أجزاء و شروط كل غسل منها. و لا سيما مع ما هو المعلوم من أن المراد بالغسل بالماء و الخليط غسل واحد بهما، لا الغسل بكل منهما علي انفراده، حيث لا يكون الخليط

ص: 147

______________________________

جزءا من الواجب، بل قيدا فيه، و من الظاهر أن الانحلالية في القيد و المقيد أصعب منها في الأجزاء.

و مما ذكرنا يظهر عدم الفرق من هذه الجهة بين التعبير بماء و سدر و ماء و كافور و التعبير بماء السدر و ماء الكافور، كما ورد التعبيران معا في النصوص. و ما يظهر منه و من غيره من الفرق بين التعبيرين في غير محله. علي أن لو تم الفرق بينهما لزمهم بيان الوجه في تحكيم الثاني علي الأول دون العكس.

و أما لو ابتني كلامهم علي الارتباطية بين الواجبين فعدم سقوط أحدهما بتعذر الآخر يبتني علي قاعدة الميسور أو الاستصحاب المشار إليهما آنفا. و من ثم قال سيدنا المصنف قدّس سرّه في مبني الكلام في تعدد الغسل و وحدته: «و ينبغي ابتناء الخلاف المذكور علي اعتبار إطلاق الماء في الغسلين الأولين و اعتبار إضافته، فعلي الأول يتعين الأول لقاعدة الميسور و الاستصحاب في وجه، و علي الثاني يتعين الثاني، لعدم صدق الميسور عرفا، و لتعدد الموضوع كذلك، فلا مجال للقاعدة و الاستصحاب».

و ما ذكره قدّس سرّه من التفصيل في جريان القاعدة و الاستصحاب في محله، بناء علي جريانهما في الواجبات الارتباطية. و مجرد كون الخليط شرطا عرفا لا جزءا من الغاسل بناء علي اعتبار إطلاق الماء لا يقدح في جريانهما بعد عدم كونه مقوما له عرفا.

نعم، ذكرنا آنفا عدم تماميتهما في الارتباطيات. و مجرد البناء علي الميسور بالإضافة لأصل التغسيل، لما سبق من تسالم الأصحاب الذي لا يبعد مطابقته لمرتكزات المتشرعة و غيره من القرائن كما سبق، لا يستلزم ثبوتها في المقام بعد وضوح الخلاف بينهم، و خفاء الحال بالإضافة للارتكازيات، إذ كما يمكن أن يكون الخليط مكملا للغسلة مع تقوم الغرض منها بالماء كذلك يمكن أن يكون مقوما لها- و إن لم يخرج الماء به عن الإطلاق- تبعا لتقوم الغرض منها به، فلا غرض منها مع فقده، كما يظهر مما يأتي من المعتبر.

ثم أنه قد استدل لسقوط الغسلة بتعذر خليطها.. تارة: بأصل البراءة من وجوب الغسلة بعد عدم جريان قاعدة الميسور و الاستصحاب في الارتباطية.

و أخري: بما في المعتبر من أن المراد بالسدر الاستعانة علي إزالة الدرن و بالكافور

ص: 148

و ينوي بالأولين البدلية عن الغسل بالسدر و الكافور (1).

______________________________

تطييبه و حفظه من إسراع التغير و تعرض الهوام، و مع عدمهما لا فائدة في تكرار الماء مع حصول النقاء.

و يظهر حال الأول مما تقدم منا من أن الجاري في المقام قاعدة الاشتغال، لا البراءة.

و أما الثاني فيشكل بأنه لو سلم كون ذلك هو الغرض من السدر و الكافور إلا أنه لم يتضح كونه تمام الغرض من الغسلتين، بل قد يكون هناك غرض زائد علي ذلك يتأتي من الماء وحده. و عدم الفائدة في تكرار الماء مع حصول النقاء ممنوع، بل قد يكون التطهير من حدث الموت أو نجاسته موقوفا علي تعدد الغسل، كما اعتبر في بعض موارد التطهير من الخبث. و من هنا لا مجال للخروج عما تقدم.

(1) قال في جامع المقاصد: «لا بد من تمييز الغسلات بعضها عن البعض الآخر، لوجوب الترتيب بينها، و ذلك بالنية، بأن يقصد تغسيله بالقراح في موضع ماء السدر، و كذا في ماء الكافور» و نحوه في الروض و المسالك.

و فيه: أن لزوم الترتيب بين الغسلات لا يستلزم لزوم قصده، بل مقتضي إطلاق أدلة شرح غسل الميت عدمه و الاكتفاء بالترتيب بينها و إن لم يقصد. و غايته ما ثبت هو لزوم قصد التقرب بغسل الميت. و به يخرج عن مقتضي أصالة الاشتغال التي عرفت أنها المرجع في الطهارات، و علي هذا لو عكس الترتيب بينها جهلا أو خطأ صح ما لا ينافي الترتيب منها و اقتصر في التدارك علي ما يطابقه، فلو غسل بالماء القراح أولا ثم بالكافور ثم بالسدر صح التغسيل بالسدر و وجبت إعادة غسلة الكافور ثم غسلة الماء القراح لا غير. و حينئذ لو فقد الخليط لا يبقي موضوع للترتيب، بل يكون وقوع كل غسلة في موقعها قهريا بلا حاجة للنية.

و أشكل من ذلك ما قد يظهر منه و هو صريح المتن و العروة الوثقي من لزوم قصد بديلة الغسلة بالقراح عن الغسلة ذات الخليط. لوضوح أن عنوان البدلية إنما يتنزع بين المتباينين كالعين و القيمة لا بين التام و الناقص الذي يبتني وجوبه علي عدم سقوط الميسور بالمعسور، كما هو الحال في المقام ارتكازا، لأن قاعدة الميسور و إن لم تثبت إلا أنه إذا ثبت عدم سقوط الغسلة بتعذر خليطها فهو مبتن عليها، لا علي بدلية

ص: 149

______________________________

الغسلة بالقراح عن الغسلة بالخليط.

نعم، لو ثبتت البدلية فاحتمال اعتبار قصدها مطابق لقاعدة الاشتغال، التي لا مخرج عنها في المقام، لأن الإطلاقات إنما تضمنت شرح الغسل الاختياري لا الاضطراري فالعمدة ما ذكرنا من عدم ابتناء المقام علي البدلية.

و نظير ما سبق في الإشكال ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن عدم تمييز الغسلات بالنية إنما يتم لو فرض كون الأغسال الثلاثة من قبيل أفراد طبيعة واحدة، لا تمايز بينها. و لكنه غير ظاهر. و مجرد الاتفاق في الصورة لا يستلزم الاتفاق في الحقيقة، و مقتضي قاعدة الاشتغال لزوم التعيين بالقصد.

إذ فيه: أن احتمال لزوم التعيين بالقصد في المقام إن كان لوجوب تعيين الغسلات التامة به فهو مدفوع بإطلاق أدلة شرح غسل الميت، و إن كان لخصوصية في الغسلات الناقصة من الخليط، فهو لا يناسب ما ذكرناه من ارتكاز ابتناء وجوب الغسلات المذكورة علي أنها الميسور من الواجب، حيث لا يناسب ذلك وجوب أمر زائد فيها لا يعتبر في الواجب التام.

مضافا إلي أن ذلك لو تم لا يقتضي قصد عنوان البدلية. إلا أن يكون مرادهم به ما يساوق تمييز الغسلات بالنية، و ذكر البدلية لضيق التعبير. و لعله لبعض ما ذكرنا أو نحوه قال في الجواهر بعد ما ذكر ما تقدم من جامع المقاصد: «و فيه تأمل، بل منع».

اللهم إلا أن يقال: ما ذكروا أن كان مطابقا للمرتكزات المشار إليها إلا أن في بلوغ ذلك مرتبة القطع المانع من قاعدة الاشتغال إشكال، بل منع، حيث قد يحتمل اعتبار التعيين تحقيقا لموضوع الترتيب بعد ارتفاعه بتعذر الخليط، خصوصا بناء علي اعتبار خروج الماء بالخليط عن الإطلاق، حيث لا يكون الغسل بالماء القراح عند تعذره ميسورا منه، بل بدلا عنه عرفا، فيتجه احتمال لزوم التمييز بين الغسلات بالنية و إن لم يجب التمييز بها بين الغسلات ذات الخليط. و إن كان الانصاف بعد الاحتمال المذكور.

بقي في المقام أمور:
الأول: قال في التذكرة: «لو لم يجد السدر ففي تغسيله بما يقوم مقامه من الخطمي و نحوه إشكال»

و نحوه ما عن نهاية الأحكام و شرح الجعفرية. و حيث لا

ص: 150

______________________________

نصّ علي البدلية المذكورة فلا مجال للبناء علي مشروعية الغسل بالخطمي و إن تأدي به التنظيف. بل لا مجال لاحتمال مشروعيته مع ذلك- ليجب بمقتضي قاعدة الاشتغال، لأن كونه موردا للابتلاء و محتاجا للبيان لا يناسب إهماله في النصوص و الفتاوي.

و أما قوله عليه السّلام في موثق عمار: «ثم تبدأ فتغسل الرأس و اللحية بسدر حتي ينقيه …

و إن غسلت رأسه و لحيته بالخطمي فلا بأس» «1». فهو أجنبي عما نحن فيه، لظهوره في غسل خصوص الرأس و اللحية الذي هو من آداب الغسل، لا ما يكون جزءا منه، و في كون الخطمي في عرض السدر لا في طوله مشروطا بتعذره. نعم لا إشكال في جواز ذلك لا علي أن يكون غسلا شرعيا. و كأنه إليه قوله في الجواهر: «و عندي لا إشكال في الجواز و عدم الوجوب».

و منه يظهر أنه لا مجال لاحتمال بدلية غير الخطمي، لأن عدم الإشارة لذلك في النصوص و الفتاوي مع كونه موردا لابتلاء و محتاجا للبيان لو كان ثابتا شاهد بعدمه.

و أما قوله في المقنعة: «و إذا لم يوجد للميت سدر و كافور و أشنان غسل بالماء القراح». فالظاهر أن ذكر الأشنان فيه ليس لكونه بدلا اختياريا أو اضطراريا عن أحد الخليطين في الغسل الواجب، بل لما ذكره قبل ذلك من استحباب تنجية الميت به مقدمة له. و نحوه قوله في المبسوط: «و يستعد شي ء من السدر لغسل رأسه، فإن لم يوجد فالخطمي أو ما يقوم مقامه في تنظيف الرأس» فليس مراده بدلية الخطمي في الغسل الواجب- كما قد يظهر من جامع المقاصد حمله عليه- بل في غسل خصوص الرأس المستحب، نظير ما تقدم في موثق عمار، و إن خالفه في ظهوره في كون البدلية اضطرارية و ظهور الموثق في كونها اختيارية.

الثاني: ما تقدم جار فيما لو تعذر أحد الخليطين، فيجب الميسور من الغسل أيضا،

كما صرح به بعضهم. و يجري فيه ما تقدم من سقوط غسل المتعذر و عدمه، و لزوم الترتيب بالنية لو تعذر الكافور و عدمه. و أما لو تعذر السدر فيمكن الترتيب الخارجي بتوسط غسلة الكافور بين غسلتي قراح. و وجوبه أظهر.

الثالث: أنه لو وجد الخليطان بعد الغسل بالماء القراح و قبل الدفن وجبت الإعادة

ذكر في جامع المقاصد و الروض و حاشية المدارك و محكي الذكري

______________________________

(1) الوسائل ج 2 باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 12.

ص: 151

______________________________

و غيرها أنه لو وجد الخليطان بعد الغسل بالماء القراح و قبل الدفن وجبت الإعادة، لأن تشريعه للضرورة. و اقتصر في الرياض علي أنه أحوط، و زاد في المدارك أن الأظهر العدم. قال: «لتحقق الامتثال المقتضي للإجزاء».

و يشكل بأن الاجتزاء بالناقص لما كان للضرورة كان إطلاق دليل تشريعه بالتعذر منصرفا لصورة التعذر المستمر، دون الموقت، فضلا عن مثل المقام مما لم يكن لدليل تشريعه إطلاق يقتضي مشروعيته بالتعذر، و إنما استفيد من الأدلة اللبية المتيقن منها التعذر المستمر. و لا سيما مع كون الناقص عرفا من سنخ الميسور من التام، لا من سنخ البدل عنه، حيث يكون الامتثال به ارتكازا للأمر الضمني بالناقص، لا لأصل الأمر بالتام، فلا وجه لإجزاءه عنه مع تجدد القدرة عليه، إذ الامتثال إنما يقتضي الإجزاء عن الأمر الممتثل، لا عن غيره. فلا مخرج عن إطلاق وجوب الغسل التام في المقام.

هذا، و ظاهر من تقدم المفروغية عن عدم وجوب الإعادة مع تجدد القدرة بعد الدفن. بل في حاشية المدارك: «و أما بعد الدفن فلعل عدم الاعادة حينئذ فيه إجماعي. و مع ذلك موجب للنبش الحرام. و مع ذلك لم يثبت من العموم الشمول له، لأنه واجب قبل الدفن، لا مطلقا» و قريب منه في الرياض. و كأنه لأجل ذلك أو بعضه اقتصر في العروة الوثقي علي الاحتياط بالتغسيل لو اتفق خروج الميت، لا بنحو يقتضي وجوب إخراجه.

لكنه يشكل: بأن مرجع ما تضمن وجوب التغسيل قبل الدفن إلي وجوب إيقاع التغسيل قبله، بحيث لا يشرع الدفن بدونه، لا إلي شرطية وجوب التغسيل بعدم الدفن، ليسقط وجوب التغسيل معه، فإن ذلك خلاف إطلاق ما تضمن وجوب تغسيل الميت.

و مقتضي ذلك انكشاف عدم مشروعية الدفن بظهور القدرة علي التغسيل التام. و حينئذ لا دليل علي حرمة النبش في الفرض، لعدم إطلاق دليلها بنحو يشمل النبش المتعقب للدفن غير المشروع. كي يصلح لمزاحمة وجوب التغسيل الذي هو مقتضي الإطلاق. و لذا يأتي في المسألة الثامنة و الستين جواز النبش إذا دفن الميت بلا تغسيل. فلم يبق إلا الإجماع الذي أشار إليه، و لم يتضح انعقاده في المقام بالنحو الكافي في الحجية و المخرج عن إطلاق دليل وجوب التغسيل التام.

ص: 152

______________________________

و لعل المتيقن منه بعد التأمل في المرتكزات ما لو تعرض به الميت للهتك، حيث لا يبعد كون إجزاء الغسل الناقص هو المتيقن من السيرة الارتكازية علي مشروعية الناقص، لبنائهم علي وجوب المسارعة له حذرا من ذلك. و لولاه لم تشرع الأبدال الاضطرارية بالتعذر، بل ينتظر القدرة علي التام مهما طال الزمان. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

الرابع: لو تعذر التغسيل ثلاثا اقتصر علي ما يمكن مرة أو مرتين.

كما يظهر الوجه فيه مما تقدم في تعذر الخليطين. و به صرح في الشرائع و جملة ممن تأخر عنه، بنحو يظهر من جملة منهم أنه مفروغ عنه، حيث لم يحرروا الخلاف فيه، بل في تعيين التغسيل الواجب.

فقد ذهب في جامع المقاصد و الروض و المسالك إلي وجوب تقديم الأسبق.

قال في الجواهر: «لوجوب البدأة به المستفاد من الأدلة، مع ظهور عدم تقييد ذلك بالتمكن مما بعده، كظهورها في اشتراط الترتيب القاضي بعدم صحة القراح حتي يسبق بالغسلين، فالأصل يقضي بسقوطه عند تعذر شرطه. من غير فرق بين الاختيار و الاضطرار. و للاستصحاب في بعض الوجوه، بل قاعدة الميسور عند التأمل، لأنه هو الميسور من المكلف به».

و كأن المراد بالاستصحاب استصحاب وجوب الترتيب مع قطع النظر عن إطلاق أدلته، كما ذكره في الروض. كما أن اختصاص الغسل الأول بكونه ميسورا بلحاظ عدم اشتراطه بما بعده و اشتراط ما بعده به، المستلزم لتيسره و تعسر ما بعده.

لكن لا يخفي أن وجوب البدء بالأسبق لم يستفد إلا مما دل علي وجوب الترتيب، فهو راجع إليه لا وجه آخر في قباله.

و حينئذ فوجوب الترتيب في الواجبات الاستقلالية- كالظهرين- و إن كان يستفاد منه عرفا شرطية المتقدم في المتأخر، دون العكس، و لذا يصح المتقدم لو انفرد، و لا يصح المتأخر إلا مع سبقه به. إلا أنه لا يستفاد منه في الواجبات الارتباطية ذلك، بل مقتضي الارتباطية شرطية كل منهما في الآخر، كبقية ما يعتبر في المركب. و الاكتفاء ببعضها عند تعذر الباقي يبتني علي رفع اليد عن الارتباطية، و كما يمكن رفع اليد عن

ص: 153

______________________________

المتأخر يمكن رفعها عن المتقدم، و المعيار إنما هو الأهمية بنظر الشارع الأقدس، و لو لإدراكه استقلال بعضها بأثره عند تعذر غيره، دون العكس.

و مثله في الإشكال ما أشار إليه في الروض من وجوب امتثال الأمر بحسب الممكن، و الخليط مأمور به مع إمكان الجمع بينه و بين الماء. لاندفاعه بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن في صرف الماء في الغسل بالخليط تفويت جهة زائدة أيضا، و هي الخلوص من الخليط المعتبر في الغسل الثالث.

و لعله لذا قال في الدروس: «و لو وجد ماء غسلة قدم السدر. و يقوي القراح».

بل عن الذكري: «و لو وجد ماء لغسلة واحدة فالأولي القراح، لأنه أقوي في التطهير، و لعدم احتياجه إلي جزء آخر». و كأن أقوائية القراح لما هو المرتكز من استناد التطهير إليه- كما في بقية الطهارات- المناسب لكون الغسل بالخليط بلحاظ جهة زائدة لا تنهض بمزاحمة التطهير المطلوب في الميت، و لا سيما بملاحظة ما تضمن أنه جنب يغسل للجنابة، لما هو المعلوم من أهمية رفع الجنابة، و كذا ما تقدم من مشروعية الغسل مع تعذر الخليطين، الكاشف عن استقلال القراح بأثره في الجملة.

و لعل الأولي أن يقال: إن كان الخليط المعتبر في الغسلة بنحو يخرج الماء عن الإطلاق فلا يبعد ترجيح القراح. و كذا إن كان بنحو لا يخرجه عن الإطلاق و كان المعتبر في القراح عدم صدق الخلط. لأن القراح لو لم يكن معلوم الأهمية لما سبق فلا أقل من كونه محتملا لها، فيقطع معه ببراءة الذمة. و إن كان بنحو لا يخرجه عن الإطلاق و كان المراد بالقراح ما يساق الإطلاق يلزم الجمع بين الخليطين في الغسلة الواحدة إن لم يخرج الماء به عن الإطلاق، لما فيه من الجمع بين المحتملات و المحافظة علي خصوصية الخليطين بالمقدار الممكن الذي هو مقتضي قاعدة الاشتغال التي تكرر أنها المرجع في المقام. و هو الذي احتمله في حاشية المدارك.

و منه يظهر الحال فيما لو كان المقدور غسلين، حيث يتعين علي الأولين الغسل أولا بأحد الخليطين- مخيرا بينهما أو مع ترجيح السدر- ثم الغسل بالقراح، و علي الأخير يكفي الغسل أولا بالسدر ثم بالكافور و الاجتزاء به عن الغسل بالقراح.

قال في محكي الذكري: «و لو وجد لغسلين فالسدر مقدم، لوجوب البدأة به. و يمكن

ص: 154

______________________________

الكافور، لكثرة نفعه». و يظهر الحال فيه مما ذكرنا.

اللهم إلا أن يقال: في بلوغ الوجه المذكور للترجيح حدّ القطع إشكال، بل منع. فإن أمكن الجمع بين المحتملات بنحو يقطع بمشروعية الغسل المأتي به- كما هو الحال علي بعض المباني المشار إليها- فهو، و إلا فإن علم بالتساوي بين الأغسال بنظر الشارع علم بتشريع كل منها تخييرا، و إن دار الأمر بين التساوي و رجحان أحدها المعين عند المكلف علم بمشروعية ذلك المعين فيجب الاقتصار عليه. و إن علم أو احتمل رجحان أحدها غير المعين عند المكلف لزم التخيير مع عدم إحراز مشروعية المأتي به، لأن المتيقن من التشريع في تزاحم الواجبات الارتباطية المحتمل اختلافها بالأهمية إنما هو للأهم واقعا، فمع احتمال كون الأهم الطرف غير المأتي به لا يحرز مشروعية المأتي به، بخلاف تزاحم الواجبات الاستقلالية، للعلم بمشروعية كل منها حتي غير الأهم. غايته أنه يجب تقديم الأهم لفعلية التكليف به، فمع عدم تعيين الأهم يتعين التخيير عقلا، لعدم تنجز الأهمية حينئذ.

و إنما يجب التخيير في الواجبات الارتباطية مع عدم إحراز مشروعية المأتي به من باب وجوب الإطاعة الاحتمالية للتكليف المعلوم، نظير التخيير عند الاضطرار إلي بعض غير معين من أطراف العلم الإجمالي. و حينئذ يتعين الاحتياط بضم التيمم للغسل في المقام. إلا أن يدعي العلم بعدم وجوب الاحتياط المستلزم لمشروعية المأتي به و إن لم يكن أهم. و عهدة ذلك علي مدعيه.

بقي شي ء:

و هو أنه ذكر في جامع المقاصد و الروض و المسالك و محكي البيان وجوب التيمم بدل الغسل الفائت، و اقتصر في الدروس علي كونه مقتضي الاحتياط.

و جزم في الذكري بعدم وجوب التيمم، لحصول مسمي الغسل. و لا ينبغي التأمل في وجوبه بناء علي أن الواجب مع تعذر التغسيل رأسا ثلاثة تيممات، لرجوعه إلي بدلية التيمم عن كل واحد من الأغسال، لا عن جميعها، و حيث كان الاكتفاء ببعضها مع تعذر الباقي لأنه الميسور منها، لا لبدليته عن الكل تعين وجوب التيمم بدل المتعذر.

و أما بناء علي وجوب تيمم واحد يتعذر أصل التغسيل فيشكل مشروعية التيمم، لعدم ثبوت بدليته عن بعض الطهارة المائية، بنحو يجمع بينه و بين استعمال

ص: 155

(مسألة 9): يعتبر في كل من السدر و الكافور (1) أن لا يكون كثيرا

______________________________

الماء. و لا سيما بناء علي أن الترجيح للغسل بالماء القراح، حيث لا يعهد بدلية التيمم عن الغسل بغيره. نعم حيث لا إطلاق لدليل الاكتفاء بالغسل الناقص في المقام فلا محرز للاجتزاء به عن التيمم. بل مقتضي قاعدة الاشتغال- التي تكرر أنها المرجع في المقام- لزوم ضمه بدلا عما ينقص من الأغسال.

اللهم إلا أن يقال: بعد فرض ظهور دليل تشريع التيمم عند تعذر الغسل في بدلية تيمم واحد عن الغسل فالمعهود في تشريع الطهارة المائية الناقصة الاكتفاء بها عن التيمم، بنحو يحتاج تشريعه في المقام إلي عناية خاصة مغفول عنها، فمرجع الإجماع و ارتكازيات المتشرعة علي تشريع الطهارة الناقصة إلي عدم مشروعيته معها، و ليس احتمال مشروعيته إلا مساوقا لاحتمال عدم مشروعيتها.

و لعل من سبق منه وجوب ضم التيمم إنما بني علي ذلك لبنائه علي وجوب تعدد التيمم مع تعذر التغسيل رأسا، كما أن ما سبق من الذكري من عدم وجوبه قد يبتني علي ما حكي عنه من الاكتفاء بتيمم واحد عند تعذر التغسيل. و منه يظهر أن الاحتياط- لو كان له موضوع و لو بنحو الرجحان دون الإلزام- إنما يكون علي هذا المبني بالجمع بين الغسل الميسور و تيمم واحد لاحتمال عدم مشروعية كل واحد منهما، و إنما يتجه تعدد التيمم مع تعدد الغسل المتعذر علي المبني الأول لا غير.

مسألة 9: يعتبر في كل من السدر و الكافور أن لا يكون كثيرا
اشارة

(1) عبارات الأصحاب في المقام ليست علي نهج واحد فقد صرح بالاكتفاء بمسمي السدر و الكافور في الشرائع و المنتهي و القواعد و جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك، كما صرح به في الكافور في المختلف، و في السدر في محكي نهاية الأحكام و التحرير و البيان و فوائد الشرائع و شرحي الجعفرية و تخليص التلخيص و التنقيح و مجمع الفائدة، و عنه و عن الكفاية و في المدارك أنه المشهور.

و كأنه بملاحظة إطلاق جماعة من قدماء الأصحاب و متأخريهم، ففي الاقتصاد:

«و يحصّل أيضا شي ء من السدر للغسلة الأولي، و قليل من الكافور للغسلة الثانية»، و نحوه في السرائر، و هو الظاهر من المبسوط، و في النهاية: «و يستعد أيضا شي ء من السدر لغسل رأسه و جسده و شي ء من الكافور للغسلة الثانية»، و عن الجامع: قليل

ص: 156

______________________________

سدر، كما أطلق جماعة كثيرة الغسل بماء السدر و بماء الكافور، بل في الفقيه: «و شي ء من جلال الكافور» و نحوه في الهداية حاكيا له عن رسالة والده.

لكن ارتكاز كون الغرض من السدر التنظيف و من الكافور التطيب قد يصلح للقرينية علي إرادة خصوص المقدار لهما من الإطلاقات المذكورة، لا الاكتفاء بوضع المسمي، كما هو مقتضي كلام الأولين. و لا سيما مع تفريق بعضهم بين السدر و الكافور بالتنبيه علي القلة في الثاني دون الأول، كما عرفت ممن تقدم.

و عليه جري في المراسم حيث أطلق السدر و قدر الكافور بنصف مثقال أو ما أمكن، و عن الجامع تقديره بنصف مثقال أيضا مع اقتصاره- كما تقدم- في السدر علي القلة التي يبعد إرادة المقدار المذكور منها، بل في المقنعة: «فيؤخذ من السدر المسحوق رطل و نحو ذلك … و من الكافور الجلال وزن نصف مثقال إن تيسر، و إلا فما تيسر منه و إن قلّ». و عن المهذب تقدير السدر برطل و نصف، لوضوح تأدي الأثر المطلوب من الكافور بالقليل منه بخلاف السدر.

بل إطلاق الجماعة الكثيرة ماء السدر و ماء الكافور لا يناسب الاكتفاء بالمسمي في الخليطين، بحيث يكفي ما يصدق عليه الاسم قبل الخلط بالماء، بل ظاهره- كما يأتي- الاعتداد بوجودهما بعد الخلط، و هو الذي احتمله بعضهم في كلام بعض من أطلق الاكتفاء بالمسمي ممن تقدم، و إن كان هو خلاف ظاهر كلامهم، بل خلاف صريح من اكتفي بسبع ورقات. و بالجملة لا يبعد كون مراد المشهور ما ذكرنا.

و هو الذي يقتضيه النظر في مجموع النصوص، لأنه و إن أطلق في بعضها، ففي صحيح يعقوب بن يقطين: «و يجعل في الماء شي ء من السدر و شي ء من كافور» «1»، إلا أن الجهة المتقدمة في كلام الأصحاب تجري فيه أيضا. مضافا إلي أن بقية النصوص لا تناسب ذلك، لأنها علي طوائف ثلاث:

الأولي: ما تضمن الغسل بالسدر و الكافور، ففي موثق عمار: «ثم تبدأ فتغسل الرأس و اللحية بسدر حتي ينقيه، ثم تبدأ بشقه الأيمن، ثم بشقه الأيسر … و تمرّ يدك

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

ص: 157

______________________________

علي ظهره و بطنه بجرة من ماء حتي تفرغ منهما، ثم بجرة من كافور … » «1»، و في صحيح الحلبي: «ثم تبدأ بكفيه و رأسه ثلاث مرات بالسدر، ثم سائر جسده … فإذا فرغت من غسله بالسدر فاغسله مرة أخري بماء و كافور و بشي ء من حنوط … » «2»،

و في معتبره: «مرة بالسدر، و مرة بالماء يطرح فيه الكافور» «3» و غيرها.

الثانية: ما تضمن الغسل بالماء و الخليط، ففي صحيح ابن مسكان: «اغسله بماء و سدر، ثم اغسله علي أثر ذلك غسلة أخري بماء و كافور و ذريرة إن كانت» «4»، و نحوه صحيح سليمان بن خالد «5» و غيره.

و ثالثة: ما تضمن الغسل بماء السدر و ماء الكافور، ففي صحيح الكاهلي:

«ثم ابدأ بفرجه فاغسله بماء السدر و الحرض فاغسله ثلاث غسلات و أكثر من الماء، فامسح بطنه مسحا رفيقا ثم تحول إلي رأسه … ثم أضجعه علي شقه الأيسر ليبدو لك الأيمن ثم اغسله من قرنه إلي قدميه … و امسح يدك علي ظهره و بطنه ثلاث غسلات بماء الكافور و الحرض … » «6».

و من الظاهر أن الطائفة الأولي و إن وجب التصرف فيها، لامتناع الغسل بكل من السدر و الكافور وحده، كما لا يراد به ما يخلط بقليل من الماء حتي يكون كالوحل، لعدم صدق الغسل به و عدم مناسبته لبقية النصوص الصريحة في الغسل بالماء المخلوط بهما و بإفاضته، إلا أن نسبة الغسل لهما لا بد أن يكون للاعتداد بوجودهما في الماء و لو بلحاظ الأثر المطلوب منهما.

و هو المناسب أيضا لنسبة الغسل لهما مع الماء بنحو التشريك في الطائفة الثانية، بل لإضافة الماء إليهما في الثالثة، إذ لو لم يرد بها خروجه عن الإطلاق، فلا أقل من الاعتداد بوجودهما في الماء بعد وضعهما فيه، و لو بلحاظ التميز بالأثر، و لا يكفي الاعتداد بهما قبل وضعهما فيه، بحيث يصدق مسماهما علي ما يوضع منهما فيه قبل وضعه، كما عرفت أنه مقتضي إطلاق من اكتفي بالمسمي، لأن ذلك و إن كان مصححا للإضافة، إذ يكفي فيها أدني ملابسة إلا أن ما ذكرناه أظهر في نفسه و أنسب ببقية النصوص.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

(6) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 158

______________________________

و يؤيد ذلك ما في مرسل يونس «1» من الأمر بغسل الآنية بين الغسلات الثلاث الظاهر في إرادة تنظيفها من بقاء خليط الغسلة السابقة للاعتداد بوجوده في مائها.

بل لا يبعد ظهور بعض النصوص في غسل الميت بالماء القراح بين غسلتي السدر و الكافور لتنظيفه أيضا من بقايا السدر فلاحظ موثق عمار المتقدم و خبر معاوية الآتي.

و إن كانا غير خاليين عن إجمال.

كما يؤيده أيضا اختلاف التعبير في السدر و الكافور، بحيث يظهر في القلة في الكافور دون السدر، علي ما تقدم في حديثي الحلبي، و في موثق عمار: «الجرة الأولي التي يغسل بها الميت بماء السدر و الجرة الثانية بماء الكافور نقيت [يفت] فيها فتا قدر نصف حبة» «2»، و في مرسل يونس: «و اعمد إلي السدر فصيره في طشت وصب عليه الماء … ثم صب الماء في الآنية و ألق فيها حبات كافور» «3»، فإن الاختلاف المذكور مناسب لما ذكرنا من اختلاف قدر ما يترتب عليه الأثر المطلوب من كل منهما.

و يناسبه ما تقدم من المقنعة من تقدير السدر بنحو رطل و عن المهذب من تقديره برطل و نصف، حيث لا وجه له إلا الرجوع للجهة الارتكازية التي أشرنا إليها. بل عدم التعرض في النصوص علي كثرتها و اختلاف السنتها لبيان مقدار السدر مناسب لوضوح الجهة المذكورة، و إلا فالاكتفاء بأدني المسمي لا يناسبه الذوق و يكون مثارا للسؤال و لا تعيين لغيره إلا ما ذكرنا. و من هنا لا ينبغي التأمل في اعتباره. بل لا يبعد حمل كلام جماعة كثيرة عليه، كما سبق.

نعم، حكي في الشرائع و المنتهي قولا بوجوب مقدار سبع ورقات من السدر.

و في الجواهر: «و لم نعرف قائله، و لا من نسب إليه ذلك». لكن في التذكرة: «السدر و الكافور لا يبلغ بهما إلي سلب الإطلاق، لصيرورة الماء مضافا، فلا يفيد التطهير. بل ينبغي أن يكون في الماء قدر سبع ورقات من سدر» و نحوه عن نهاية الأحكام. و صرح باستحبابه في جامع المقاصد و الروض، و في الدروس باستحباب أن لا يقل عن ذلك.

و كأنه لصحيح معاوية بن عمار: «أمرني أبو عبد اللّه عليه السّلام أن أعصر بطنه ثم أوضيه بالأشنان ثم أغسل رأسه بالسدر و لحييه ثم أفيض علي جسده منه، ثم أدلك

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 159

بمقدار يوجب خروج الماء عن الإطلاق إلي الإضافة (1)، و لا قليلا بحيث

______________________________

به جسده، ثم أفيض عليه ثلاثا، ثم أغسله بالماء القراح و أطرح فيه سبع ورقات سدر» «1»، و خبر ابن عبيد: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الميت، قال: تطرح عليه خرقة … ثم يغسل رأسه بالسدر و الأشنان ثم بالماء و الكافور ثم بالماء القراح يطرح فيه سبع ورقات صحاح من ورق السدر في الماء» «2».

لكنهما- مع ضعف سند الثاني منهما- كالصريحين في وضع ذلك في ماء الغسل الأخير، كما ان ظاهر الأول و صريح الثاني كون الأوراق صحاحا غير ممروسة في الماء، فيخرجان عن محل الكلام و يتعين حملهما علي الاستحباب.

(1) كما صرح به في الغسل الأول في إشارة السبق و في الغسلين معا في التذكرة و القواعد و جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك و محكي نهاية الأحكام و البيان و فوائد الشرائع و شرح الجعفرية و كشف الالتباس و ظاهر الجامع، و استظهر في الحدائق أنه المشهور.

و قد استدل عليه بوجوه:

الأول: الأصل، الذي تكرر أن مقتضاه في المقام الاشتغال و لزوم الاحتياط.

و هو موقوف علي عدم احتمال اعتبار الكثرة المخرجة عن الإطلاق، و علي قصور إطلاقات المقام عن نفي اعتبار الشرط المذكور، و يظهر الحال فيهما مما يأتي.

الثاني: إطلاق التشبيه بغسل الجنابة، المستفاد من صحيح محمد بن مسلم «3» المتقدم عند الكلام في وجوب تثليث الأغسال.

و فيه: أن المستفاد من أدلة مطهرية الماء من الجنابة أمر واحد عرفا، و هو استقلال الماء المطلق بالمطهرية، و مبني اعتبار الخليط في غسل الميت علي رفع اليد عن ذلك في غسل الميت و مخالفته لغسل الجنابة فيه، و معه يشكل الاستدلال بإطلاق التشبيه لاعتبار إطلاق الماء في غسل الميت.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 160

______________________________

نعم، لو كان مفاد أدلة مطهرية الماء من الجنابة أمران بنحو الانحلال: توقف مطهريته علي إطلاقه، و عدم اعتبار أمر آخر في مطهريته، لم يكن رفع اليد عن إطلاق التشبيه في الثاني بأدلة اعتبار الخليط منافيا للاستدلال بإطلاق التشبيه علي الأول.

لكن لا يتضح ذلك من الأدلة.

علي أن الاستدلال بالإطلاق المذكور موقوف علي قصور إطلاقات الخليطين عن نفي اعتبار الشرط المذكور، و إلا كانت تلك الإطلاقات مقدمة عليه، لأنها أخص، و لزم صرفه إلي جهات أخر من التشبيه.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 6، ص: 161

هذا، و أما الاستدلال علي إطلاق التشبيه المذكور في المقام بما تضمن أن الميت يجنب و أنه يغسل غسل الجنابة «1» فيظهر ضعفه مما تقدم عند الكلام في سقوط الترتيب برمس الميت في الماء. فراجع.

الثالث: ما تقدم من التذكرة من اعتبار إطلاق الماء في مطهريته. و يظهر اندفاعه مما تقدم في سابقه، فإن إطلاق الماء إنما يعتبر في استقلاله بالمطهرية الذي لا مجال له في المقام بعد فرض اعتبار الخليط، و غاية ما يثبت له حينئذ الدخل في المطهرية من دون استقلال، و لا دليل علي اعتبار الإطلاق في ذلك.

بل قد يدعي أن المطهرية لا تستند للغسل بالخليط، بل هو شرط في فعلية مطهرية الغسل بالقراح نظير التطهير من الخبث الذي قيل أنه شرط في التطهير من الحدث، حتي ادعي أن الغرض منه التنظيف و التطييب لدفع الهوام، علي ما ذكر في المعتبر- فيما تقدم منه في مسألة تعذر الخليطين- و غيره.

و دعوي: أن مقتضي الجمع بين ما تضمن أن الغرض من غسل الميت تطهيره، و ما تضمن شرح الغسل بالأغسال الثلاثة استناد التطهير للأغسال المذكورة و مطهريتها بتمامها.

مدفوعة: بأنه يكفي في كون التطهير غرضا من الأغسال الثلاثة كون بعضها شرطا في فعلية تأثير الباقي للطهارة من دون ان تستند الطهارة إليه.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت.

ص: 161

______________________________

الرابع: الطائفة الثانية من النصوص المتقدمة المتضمنة نسبة التغسيل للماء و الخليط بنحو العطف، فقد استدل بذلك في جامع المقاصد و غيره. و كأنه لدعوي:

أن مقتضي ذلك صدق الماء علي ما يغسل به، و هو لا يكون إلا مع إطلاقه.

و فيه: أنه لما لم يكن العطف في المقام لبيان تعدد الغسل، بل لتعدد ما يغسل به مع وحدة الغسل، و كان المعلوم ابتناؤه علي الجمع بينهما بالمزج و الخلط، لا بتميز الخليط عن الماء مع كونه فيه، كان ظاهرا في اعتبار اتحاد الماء و الخليط صورة بالمزج، و لازم ذلك في بدو النظر أن لا يصدق كل منهما وحده علي ما يغسل به، كما هو الحال في نظائره، كقولنا: أكلت من الإناء سمنا و عسلا، و شربت في الكأس ماء و لبنا، و لبست ثوبا كتانا و قطنا، و غير ذلك، و مرجعه إلي خروج الماء عن الإطلاق.

نعم، يصعب البناء علي ذلك في الكافور، للتصريح في موثق عمار بكفاية نصف حبة منه في الجرة كما تقدم، و يبعد جدا خروج مائها به عن الإطلاق، بل لو خرج به عنه عرفا لقوة رائحته، فغاية ما يصدق عليه به أنه ماء كافور، لا أنه ماء و كافور، لعدم الاعتداد بوجوده المذكور في الخليط بالنحو الذي يصح إطلاق العنوانين عليه بنحو الانضمام.

و من هنا قد يتعين حمل التشريك في الغسل بينه و بين الماء الذي هو مفاد العطف علي كونه بلحاظ ترتب الغرض العرفي عليه غير غرض الماء وحده، و هو التطييب، و إن لم يصدق الماء و الكافور بنحو الانضمام علي الخليط. و حينئذ يقرب كون ذلك هو المصحح للعطف و التشريك في السدر أيضا، لوحدة السياق، و لذا سبق حمل الطائفتين الأخريين عليه، و أنه المنصرف من الإطلاق.

و عليه أيضا لا مجال للاستدلال بهذه الطائفة من النصوص علي اعتبار الإطلاق في الماء، لأن ذلك إنما يتم لو نسب الغسل فيها للماء وحده، أما مع النسبة إليه مع الخليط بنحو الانضمام فالمعيار تحقق المصحح للنسبة للأمرين، و لا إشكال في شموله لصورة الإضافة.

و من الغريب أن سيدنا المصنف قدّس سرّه مع استدلاله بالنصوص المذكورة علي اعتبار الإطلاق في الماء استدل بها أيضا علي أنه لا بد من كون السدر بمقدار يصدق معه الغسل به، مع ظهور أنه ليس المراد بها إلا غسل واحد لو نسب للماء وحده لم

ص: 162

______________________________

ينسب للسدر وحده و لا لهما بنحو التشريك. فلاحظ.

الخامس: صحيح يعقوب بن يقطين: «سألت العبد الصالح عن غسل الميت أ فيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال: غسل الميت تبدأ بمرافقه فيغسل بالحرض ثم يغسل وجهه و رأسه بالسدر ثم يفاض عليه الماء ثلاث مرات … و يجعل في الماء شي ء من السدر و شي ء من كافور … » «1».

فقد استدل به سيدنا المصنف قدّس سرّه بنحو يظهر منه قوة ظهوره في اعتبار إطلاق الماء. و كأنه لقوله عليه السّلام: «يفاض عليه الماء» لعدم شمول إطلاق الماء المضاف منه.

و يشكل بأن الذيل حيث اشتمل علي جعل السدر و الكافور في الماء فلا بد من تحكيم مفاده علي الإطلاق المذكور، و حيث صرح قدّس سرّه بلزوم كون السدر بحيث يصدق معه الغسل به و لزوم حمل إطلاق الصحيح عليه- كما تقدم منا أيضا- عملا بطوائف النصوص الثلاث فلا فرق بين الصحيح و تلك النصوص.

و لا سيما مع ما سبق منا من قرب انصراف إطلاق الصحيح لذلك من جهة القرينة الارتكازية العرفية، و مع ما أشار قدّس سرّه إليه من اشتمال صدر الصحيح علي غسل الرأس بالسدر الظاهر في الاعتداد بوجود السدر في الماء، حيث يقرب جدا كون الماء الذي يفاض علي البدن من الماء الذي يغسل به الرأس، لا ماء آخر يخلط به السدر بنحو آخر.

و قد ظهر بما ذكرنا: أن الحكم في المقام طوائف النصوص الثلاث فلا بد من النظر فيها.

و الظاهر أن الطائفتين الأوليين ظاهرتان بدوا في اعتبار كثرة الخليط بنحو يزيد علي خروج الماء علي الإطلاق، بحيث يصح نسبة الغسل له وحده- كما في الأولي- أو مع الماء- كما في الثانية- علي ما تقدم في الجملة، كما لا يبعد ظهور الثالثة في اعتبار الإضافة، لأن ذلك أقرب من حملها علي أدني ملابسة مع الخليط. إلا أنه حيث يصعب الالتزام بأحد الأمرين في الكافور- كما تقدم- فلا يبعد تنزيل النصوص المذكورة علي ما ذكرناه آنفا من اعتبار الاعتداد بالخليط في الماء، بحيث يظهر الأثر المطلوب عرفا من

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

ص: 163

______________________________

الغسل به. بل لعل ذلك هو المنصرف من إطلاق صحيح يعقوب أيضا، كما تقدم.

و من الظاهر أن ذلك إن لم يستلزم في السدر خروج الماء عن الإطلاق فلا إشكال في كونه من أظهر أفراده، فيكون مقتضي إطلاق النصوص المذكورة عدم اعتبار بقاء الماء علي الإطلاق، و لم يتضح ما يوجب الخروج عن ذلك.

و لعله لذا حكي عن ظاهر الذكري و الحبل المتين التوقف في ذلك، بل في المدارك: «و إطلاق الأخبار و اتفاق الأصحاب علي ترغية السدر- كما نقله في الذكري- يقتضيان الجواز»، و إلي الجواز جنح في الحدائق و الجواهر في صدر كلامه.

نعم، ما ذكره في المدارك- تبعا للذكري- من الاستدلال علي عدم اعتبار إطلاق الماء بالاتفاق علي الترغية إن كان بلحاظ ظهور كلامهم في غسل الرأس بالرغوة التي لا إشكال في عدم صدق الماء عليها و لو بنحو الإضافة.

فمن الظاهر أن الغسل بها إنما يراد به كونها من مقدمات الغسل مع اتباعها بصب الماء المزيل لها، و إلا فتضميخ الرأس بها و طليه لا يصدق معه الغسل عرفا و لا تساعد نصوص المقام علي الاكتفاء به في غير الرأس.

مع أن الاستدلال بها موقوف علي كون الغسل بها جزءا من الغسل الواجب، و هو غير ظاهر، بل عبارات بعضهم كمرسل يونس المنفرد بالتعرض للرغوة «1»، و الذي تضمن غسل الرأس مع البدن بعد ذلك، و لذا تقدم منا الاستدلال به علي عدم وجوب الترتيب بين الرأس و البدن في غسل الميت. و إن كان بلحاظ أن ظهور رغوة السدر في الماء بنحو معتد به حتي تعزل لغسل الرأس مستلزم لخروج مائها به عن الإطلاق. فهو لو سلم موقوف علي كون ماء الرغوة هو تمام ماء الغسلة، و لا يظهر من مرسل يونس ذلك، حيث قال عليه السّلام فيه: «و اعمد إلي السدر فصيره في طشت و صب عليه الماء و اضربه بيدك حتي ترتفع رغوته، و اعزل الرغوة في شي ء وصب الآخر في الاجانة التي فيها الماء».

إذ غاية ما يلزم حينئذ إضافة ماء الطشت، لا إضافة ماء الاجانة الذي يغسل به الميت بعد صب ماء الطشت فيه، لإمكان كونه كثيرا لا يغلبه ماء الطشت. بل يظهر

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الجنابة حديث: 3.

ص: 164

______________________________

من الرياض أن ذلك موجب لكون المرسل دليلا علي اعتبار الإطلاق في ماء الغسل.

و إن كان هو غير ظاهر أيضا، لأن كون الغسل بماء الاجانة بعد وضع ماء الطشت فيه، لا بماء الطشت وحده، لا يستلزم إطلاق ماء الغسل، لإمكان قلة ماء الاجانة أو كثرة نسبة الخليط في ماء الطشت بنحو يغلب ماء الاجانة و يخرجه عن الإطلاق فغايته عدم دلالة المرسل علي كلا القولين. فالعمدة في الدلالة علي عدم اعتبار الإطلاق في الماء هو الإطلاق بالتقريب الذي تقدم.

و يؤيده أن مقدار الخليط الذي تقدم ظهور النصوص فيه و مساعدة المرتكزات العرفية عليه لما كان من أفراده الظاهرة في السدر صورة إضافة الماء- كما تقدم- بل المحافظة علي إطلاق الماء معه في النصوص علي كثرتها و الفتاوي ممن عدا الحلبي و العلامة و من بعده مع شيوع الابتلاء به موجب لقوة ظهور إطلاقها في عدم اعتباره.

و إلا كان موردا للبيانات الكثيرة و احتاج مقدار الخليط للتحديد الشرعي الرافع للتحير في مقام العمل.

و لا سيما مع أن بين ما يتيقن معه بإطلاق الماء و ما يتيقن معه بإضافته جملة من المراتب مورد للاشتباه و التردد عند العرف. و ربما يأتي عند الكلام في بيان المراد من القراح ما ينفع في المقام.

و منه يظهر أنه لا مجال لدعوي الشهرة علي اعتبار إطلاق الماء، بل ظاهر من لم ينبه علي ذلك عدمه. و لا سيما مع تحديد المفيد له برطل، و ابن البراج برطل و نصف، و لم يظهر من غيرهما التنبيه إلي لزوم المحافظة علي الإطلاق مع ذلك بتكثير الماء أو نحوه.

هذا، و أما الكافور فقد سبق التصريح في موثق عمار بكفاية نصف حبة منه، و في مرسل يونس: «و ألق فيه حبات كافور» «1». و في خبر مغيرة مؤذن بني عدي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: غسل علي بن أبي طالب عليه السّلام رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بدأه بالسدر و الثانية بثلاث مثاقيل من كافور و مثقال من مسك» «2».

و حيث لا يظهر من الأصحاب التحديد بشي ء من المقادير المذكورة فلا مجال للخروج عن مقتضي الإطلاق المشار إليه. و لا سيما مع ضعف الأخير و إجمال

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 11.

ص: 165

لا يصدق أنه مخلوط بالسدر و الكافور (1). و يعتبر في الماء القراح أن يصدق خلوصه منهما، فلا بأس أن يكون فيه شي ء منهما إذا لم يصدق الخلط (2).

______________________________

الحبة، و إن كان قد يحتمل إنها المثقال، كما يناسبه ما في المقنعة و المراسم من تحديده بنصف مثقال أو ما أمكن و عن ابن سعيد من تحديده بنصف مثقال و إن قيل أنه لا ظهور لكلامهم في الوجوب، إذ لم يتضح وجه تفسيرها بذلك.

نعم، لا بأس بالعمل عليها بتنزيلها علي اختلاف مراتب الفضل. فلاحظ.

و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) عنوان الخلط لم يؤخذ في الأدلة، كما اعترف به قدّس سرّه، بل لعل صدقه يلازم خروج الماء عن الإطلاق. فالظاهر ما سبق آنفا من أن المعيار ظهور الأثر المطلوب عرفا من السدر و الكافور في الغسل بهما، و هو التنظيف و التطييب. و لعله يرجع ما ذكره قدّس سرّه من أن مقتضي الجمع بين الأدلة أن يكون مقدار السدر بحيث يصدق معه الغسل به. و إن سبق أنه بظاهره ينافي ما ذكره من اعتبار إطلاق الماء.

(2) عبارات الأصحاب رضي اللّه عنهم و معاقد إجماعاتهم قد تضمنت وصف ماء الغسلة الثالثة بالقراح. و قد يظهر منهم اعتبار خلوصه من الخليطين بحيث لا يصدق عليه انه ماء سدر و ماء كافور، كما هو مقتضي المقابلة بينه و بين ماء الغسلتين الأوليين.

بل قوي في الجواهر اعتبار خلوه منهما بنحو يقدح القليل منهما أيضا و إن لم يصدق به أنه ماء السدر و ماء الكافور. إلا أن يكون قليلا جدا، بنحو لا ينافي الخلوص عرفا. بل في جامع المقاصد: «و في الصحاح: القراح الذي لا يشوبه شي ء. و ربما توهم بعضهم من هذا التفسير أن الماء المشوب بشي ء- كماء السيل مثلا المشوب بالطين- لا يجوز تغسيل الميت به، لعدم كونه قراحا». و قريب منه كلام غيره.

و ما أبعد ما بين ما حكي عن البعض المذكور و ما في الروضة، حيث قال:

«و هو المطلق الخالص من الخليط، بمعني كونه غير معتبر فيه، لا أن سلبه عنه معتبر، و إنما المعتبر كونه ماء مطلقا».

و لا يخفي أن النصوص بين ما تضمن غسله بماء قراح أو بحت، و هو الأكثر،

ص: 166

______________________________

و ما تضمن غسله بماء، و هو صحيح سليمان بن خالد: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الميت كيف يغسل؟ قال: بماء و سدر، و اغسل جسده كله، و اغسله أخري بماء و كافور، ثم اغسله أخري بماء … » «1»، و صحيح يعقوب بن يقطين المتقدم «2»، بعد ما هو المعلوم من اختصاص السدر و الكافور فيه بالغسلتين الأوليين. و قد يدعي أن الأول أخص، لأن القراح هو الماء الخالص علي ما صرح به اللغويون، كما تقدم عن الجوهري و يأتي عن غيره، كما صرحوا أيضا بأن البحت هو الخالص من كل شي ء.

لكن لم يتضح كون أخذ الخلوص في تفسير القراح في كلمات اللغويين، للتقييد تأسيسا، بل قد يكون للتوضيح تأكيدا لمقتضي الإطلاق، لبيان إرادة المطلق، بأن يراد الخلوص بمرتبة تصحح إطلاق الماء عليه، كما قد يناسبه تفسيره في أساس البلاغة بما لا يشوبه شي ء من سويق و لا غيره، و قريب منه في لسان العرب و القاموس، و في نهاية ابن الأثير أنه الذي لم يخالطه شي ء يطيب به، كالعسل و التمر و الزبيب.

كما لعل ذلك هو المعيار في صدق عنوان البحت أيضا. و لا أقل من تنزيلهما علي ذلك في النصوص، جمعا مع ما تضمن إطلاق الماء- كالصحيحين- المعتضد بارتكاز عموم مطهرية الماء. و لا سيما مع ما هو المعلوم من كثرة الابتلاء بماء الطين و نحوه من مياه السيول و الأنهر و نحوها، و صعوبة البناء علي عدم جواز تغسيل الميت بها جدا.

و لازم ذلك الاكتفاء بعدم خروج الماء عن الإطلاق و لو مع اختلاطه بالسدر أو الكافور.

و دعوي: أن ذلك لا يناسب مقابلته بماء السدر و الكافور في الغسلتين الأوليين.

مدفوعة- مضافا إلي توقف ذلك علي اعتبار الإطلاق في ماء الغسلتين الأوليين، و قد عرفت ضعفه-: بقرب كون المقابلة لبيان شرطية الخليط في الأوليين، دون الثالثة، فإن ذلك إن كان خلاف ظاهر التركيب بدوا فلا أقل من قرب الحمل عليه بقرينة ارتكاز عموم مطهرية الماء المناسب لإطلاق الماء في الصحيحين. و إلا فالبناء علي مانعية الخليط حتي لو لم يخرج الماء به عن الإطلاق مستلزم لعدم جواز التغسيل بماء الطين و نحوه، و هو بعيد جدا لا يناسب مرتكزات المتشرعة و لا سيرتهم

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

ص: 167

______________________________

و لا كلمات الأصحاب رضي اللّه عنهم و إن حكي عن بعضهم و يظهر من جمال الدين في حاشيته علي الروضة التوقف فيه و أولوية الاقتصار علي المتيقن.

و أما اعتبار الخلوص من خصوص السدر و الكافور، بقرينة المقابلة المذكورة.

فهو لا يناسب معني القراح و البحت، لأن الظاهر من إطلاق العرف و اللغة عدم كونهما من العناوين الإضافية التي تصدق بلحاظ شي ء دون آخر، كي يسهل حملهما علي الخلوص من خصوص السدر و الكافور بقرينة المقابلة المذكورة، بل هما عنوانان حقيقيان يراد بهما الخلوص عن كل شي ء، و لذا لا يصدق علي الماء المشوب بالعسل أنه قراح بلحاظ عدم اختلاطه بالملح. فلو حمل دليلهما علي الخلوص حتي مما لا يوجب الإضافة لم يكن وجه للتخصيص بالسدر و الكافور.

و أما الاستدلال علي اعتبار الخلوص من الخليط حتي بالمقدار الذي لا يوجب سلب إطلاق الماء.. تارة: بالأصل. و أخري: بأنه مقتضي العدول عن التعبير بالإطلاق و الماء المطلق إلي التقييد بالبحت و القراح في الفتاوي و أكثر الأخبار. و ثالثة: بالأمر في مرسل يونس بغسل الآنية بين الغسلات من أثر ماء الخليط بعد صبه.

فمدفوع: بأن الأصل مورود لاطلاقات مطهرية الماء، و لإطلاق الماء فيما تقدم من صحيحي سليمان بن خالد و يعقوب بن يقطين «1» بعد ما تقدم من تحكيمه علي بقية النصوص. و العدول عن عنوان الإطلاق و المطلق للقراح و البحت في كلام الأصحاب لعله لمتابعة النصوص، لا لبنائهم علي اعتبار أمر زائد علي الإطلاق.

كما قد يكون التعبير بهما في النصوص للمقابلة مع ماء الغسلتين المعتبر فيهما الخليط مع عدم كون عنوان الإطلاق و المطلق لغويين و لا عرفيين، بل اصطلاحيين مستحدثين في عرف أهل الاستدلال، و لذا لم تتضمنهما نصوص مطهرية الماء و غيرها من الاستعمالات الشرعية و العرفية، و إنما تضمنت إطلاق الماء مجردا عن التقييد بهما، كما تضمن ذلك من نصوص المقام صحيحا سليمان و يعقوب.

و أما ما تضمنه مرسل يونس من الأمر بغسل الآنية فمما لا مجال للبناء علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 6، 7.

ص: 168

______________________________

وجوبه بعد النظر في النصوص الأخر و كلمات الأصحاب، لعدم التعرض له إلا في كلام نادر منهم. بل أثر ماء الخليط في الإناء بعد صبه من القلة بالنحو الذي لا ينافي خلوص الماء الذي يصب فيه للغسلة اللاحقة عرفا، و لا سيما في الكافور، فمن البعيد جدا مانعيته في المقام خصوصا من ترتب الأثر علي ماء الكافور و لو اختلط بأثر ماء السدر.

و منه يظهر ضعف ما في الجواهر من عدم استبعاد حمل المرسل علي الوجوب، لخصوصية في غسل الأموات، كما اعتبر فيه ماء السدر و ماء الكافور زائدا علي الغسل بالماء.

وجه الضعف: أنه لا يناسب ما صرح هو به من جواز خلط القليل جدا الذي لا ينافي في الخلوص عرفا. مضافا إلي وضوح الفرق بين اعتبار أمر زائد علي الغسل بالماء المطلق في المطهرية لخصوصية الموت- و هو الغسل بالخليط- و عدم مطهرية بعض أفراد المطلق، لمألوفية الأول و عدم منافاته للارتكاز، نظير اعتبار التراب في التطهير من الولوغ، و عدم مألوفية الثاني و منافاته للمرتكزات.

و لذا استبعد قدّس سرّه احتمال مانعية غير الخليطين- مما يتعارف اختلاط الماء به كالطين و نحوه- تعبدا تخصيصا لعموم مطهرية الماء.

و بالجملة: من القريب جدا عدم مانعية اختلاط الماء بما لا يخرجه عن الإطلاق من الخليطين و غيرهما، كما سبق من الروضة و يظهر من المدارك، بل قد يحمل عليه كلام المشهور. غاية الأمر أن ذلك يؤيد ما سبق منا من عدم اعتبار الإطلاق في ماء الغسلتين الأوليين. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

بقي في المقام فروع تتعلق بالخليطين
اشارة

ينبغي التعرض لها في ذيل هذه المسألة لمناسبتها لها، دون غيرها من المسائل الآتية:

الأول: قال في جامع المقاصد عند الكلام في السدر: و يعتبر كونه مطحونا

لأن المراد به التنظيف، و لا يتحقق بدون طحنه. نعم لو مرس الورق الأخضر بالماء حتي استهلك أجزاؤه كفي ذلك. و قريب منه في المسالك. لكن في الروض: «و في وجوب ذلك نظر».

و كأنه لإطلاق قوله عليه السّلام في صحيح يعقوب بن يقطين: «و يجعل في الماء شي ء

ص: 169

______________________________

من السدر و شي ء من كافور» «1». و عدم وضوح كون التنظيف علة يناط بها الحكم، لعدم الإشارة إليه في النصوص، غاية الأمر أن يكون حكمة لا يضر تخلفها.

و يشكل: بأن انحصار فائدة السدر عرفا في التنظيف إن لم يصلح للقرينية علي تقييد الإطلاق فلا أقل من مانعيته من ظهوره في نفي اعتبار المزج، المستلزم للرجوع للأصل المقتضي للاحتياط، كما تكرر غير مرة مضافا إلي أن ذلك لا يناسب بقية طوائف النصوص المتضمنة للتغسيل بالسدر و بالماء و السدر و بماء السدر، لوضوح عدم صدق العناوين المذكورة مع عدم مزج السدر بالماء. و يؤيده ما في مرسل يونس «2» من غسل الإناء بين الغسلات.

بل قد يظهر من حديثي معاوية و عمار «3» غسل الميت نفسه بين الغسلتين الأوليين بالماء القراح، كما تقدم الكلام فيه، حيث لا يبعد كون الغرض من ذلك رفع أثر السدر الذي لا يعلق بالإناء و جسد الميت إلا مع مزجه بالماء.

و أما ما يظهر من صحيح معاوية «4» و صرح به في خبر ابن عبيد «5» من وضع سبع ورقات صحاح في الماء فقد تقدم عند الكلام في مقدار السدر أنه أجنبي عن محل الكلام لظهورهما في وضعه في ماء الغسلة الثالثة القراح. و لأجل ذلك قد يشكل الاكتفاء بما سبق من جامع المقاصد من الاكتفاء بمرس الورق الأخضر في الماء، لعدم وضوح كفاية ذلك في ترتب الأثر المطلوب من السدر. و منه يظهر الحال في الكافور، لجريان جميع ما تقدم فيه أو أكثره، بل صرح في موثق عمار «6» بأنه يفت فتا في جرة الماء.

الثاني: قد وقع التعبير بجلال الكافور في جملة من كلمات قدماء الأصحاب رضي اللّه عنهم

كما في المقنع و الفقيه و الهداية- حاكيا له فيها عن رسالة والده- و المقنعة و الخلاف و الغنية و المراسم و الوسيلة و السرائر.

قال في مفتاح الكرامة: «و نقل مثل ذلك عن ابن سعيد … و الجلال الخالص و قال الوحيد في حاشية المدارك: «قال جدي رحمه اللّه: ذهب أكثر القدماء إلي أن الكافور

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(5) الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 2

(6) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 170

______________________________

يجب أن يكون من جلاله يعني: الخام الذي لم يطبخ. و نقل عن الشيخ أبي علي في شرح نهاية والده حيث أوجب أن يكون الغسل و الحنوط من الجلال: أن الكافور صمغ يقع من شجر. فكلما كان جلالا و هو الكبار من قطعه لا حاجة له إلي النار. و يقال له:

الخام. و ما يقع من صغاره في التراب فيؤخذ و يطرح في قدر ماء و يغلي حتي يتميز من التراب. فذلك لا يجزي في الحنوط. انتهي. و لعل منشأ حكمهم ما يقال: أن مطبوخه يطبخ بلبن خنزير ليشتد بياضه، أو بالطبخ ربما يحصل [العلم] العادي بالنجاسة من حيث أن الطابخ من الكفار. لكن ظاهر الأخبار إجزاء المطبوخ أيضا. و وجهه عدم حصول اليقين بالنجاسة، و الأصل في الأشياء الطهارة حتي يحصل عدمها. و لهذا ما فصل المتأخرون. و ربما حكم باستحباب [الخام]. و لعل وجهه الخروج عن الخلاف، و الخلوص عن شبهة النجاسة. فتأمل».

و عن الوافي حكاية ما تقدم عن أبي علي عن بعض فقهائنا. و لما تقدم قد يرجع ما في المبسوط و النهاية من اعتبار كون كافور الحنوط مما لم تمسه النار إلي كونه من جلاله.

لكن في السرائر عند الكلام في التحنيط: «و تحصيل الكافور. و الأعلي في الاستحباب وزن ثلاثة عشر درهما و ثلث الذي لم تمسه النار الخالص [الخام. خ] الجلال. و معني الجلال الجليل، و هو الجيد. يقال: جليل و جلال و طويل فهو من أوزان المبالغة في أوصاف الجودة».

و كيف كان، فلا إشكال في أن مقتضي إطلاق النصوص عدم اعتبار الجودة و عدم مانعية الطبخ من حيث هو، بل و لا من حيثية استلزامه النجاسة أيضا لو لا مفروغية الأصحاب عن مانعيتها، كما تقدم في شروط ماء الغسل. و حينئذ لا بد من إحراز طهارته و لو بالأصل، لعدم اليقين بالنجاسة مما تقدم نقله.

نعم، لو فرض اعتصام ماء الغسل حين وضع الكافور فيه إلي أن يستهلك فيه فلا تمنع نجاسة الكافور لو كان بالقدر المطلوب في الغسل.

ثم إنه قال في مجمع البحرين: «و في حديث غسل الميت: و تغسله مرة أخري بماء و شي ء من جلال الكافور. أي بقليل و يسير منه». و لم أعثر علي الحديث المذكور عاجلا. كما لم يتضح وجه التفسير بالقليل إن كان للجلال، لأن مادة: «جلل» و إن

ص: 171

______________________________

كانت من الأضداد، حيث تستعمل في الخطير و الحقير، إلا أن القلة هنا مستفاد من تنكير «شي ء» و «من» التبعيضية.

هذا، و قد عبر في إشارة السبق بماء الكافور الخالص. و لم يتضح وجه اعتبار الخلوص في الكافور بعد إطلاق النصوص. إلا أن يكون خلطه بغيره بنحو لا يصدق معه وضع الكافور في الماء، بل يكون الموضوع فيه عرفا حقيقة ثالثة مباينة للكافور و خليطه، لا أمر مركب منهما. فلاحظ.

الثالث: قال في المقنع: «و يلقي في الماء شي ء من جلال الكافور و شي ء من ذريرة».

و لم أعثر عاجلا علي ذكر الذريرة في غيره. نعم قال في المقنعة: «ثم ليستعد لغسله فيؤخذ من السدر المسحوق رطل … و من الكافور الجلال وزن نصف مثقال …

و من الذريرة الخالصة من الطيب المعروفة بالقمحة مقدار رطل إلي أكثر من ذلك … ».

لكن لم يذكر بعد ذلك وضعها في ماء الغسل كالكافور، بل ذكر استعمالها عند التكفين.

و كيف كان، فلم أعثر علي ما يتضمنها في الغسل عدا قوله عليه السّلام في صحيح ابن مسكان: «ثم اغسله علي أثر ذلك بماء و كافور و ذريرة إن كانت» «1». و هو إن لم يكن ظاهرا في نفسه في الاستحباب، بقرينة الشرط، فلا أقل من لزوم حمله عليه، بقرينة خلوّ بقية النصوص عن الذريرة علي كثرتها و قوة ظهور جملة منها في بيان تمام الواجب، و كذا بقية كلمات الأصحاب رضي اللّه عنهم و من هنا صرح في المنتهي بالاستحباب، و قد يحمل عليه ما تقدم من المقنع.

و مثله في ذلك قوله عليه السّلام في خبر مغيرة مؤذن بني عدي الوارد في تغسيل النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «و الثانية بثلاث مثاقيل من كافور و مثقال من مسك» «2». و لا سيما مع ضعف سنده و كونه حكاية حال لا ظهور لها في الوجوب قطعا.

نعم، قد ينافي الاستحباب أيضا ما في معتبرة محمد بن مسلم و أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تجمروا الأكفان و لا تمسحوا موتاكم بالطيب إلا الكافور، فإن الميت بمنزلة المحرم» «3».

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 172

______________________________

اللهم إلا أن يقال: التعبير بالطيب ظاهر في إرادة التحنيط دون التغسيل الذي هو مورد الحديثين المتقدمين. و أما عموم التعليل المذكور فيه فكما أمكن الخروج عنه في الكافور الذي تضمنه الحديث و بقية أدلة التحنيط يمكن الخروج عنه في التغسيل للحديثين المتقدمين الدالين علي رجحان إضافة الذريرة و المسك لماء الغسلة الثانية.

هذا، و في صحيح الحلبي: «فاغسله مرة أخري بماء و كافور و بشي ء من حنوط» «1». و قد يحمل علي كون عطف الحنوط تفسيريا. و لعل الأولي حمله علي طيب آخر جريا علي ما يظهر من بعض النصوص «2» من تعارف التحنيط بغير الكافور عند العامة. نعم قد يحمل علي التقية، لا إشعاره بأن التغسيل به متفرع علي التحنيط به. فتأمل.

و أما ما في معتبر الكاهلي من ضم الحرض للكافور، فهو لا يخلو عن اضطراب، لقوله عليه السّلام فيه حسب رواية التهذيب: «ثم رده علي قفاه فابدأ بفرجه بماء الكافور فاصنع كما صنعت أول مرة اغسله بثلاث غسلات بماء الكافور و الحرض، و امسح يدك علي بطنه مسحا رفيقا، ثم تحول إلي رأسه فاصنع كما صنعت أولا بلحيته من جانبيه كليهما و رأسه و وجهه بماء الكافور ثلاث غسلات» «3»، فإن إفراد الكافور في أول هذا الكلام و آخره لا يناسب ضم الحرض إليه فيما بينهما.

و قد رواه في الوسائل بحذف الصدر «4». مضافا إلي عدم مناسبة الحرض المقصود به الغسل و التنظيف للكافور المقصود به التطييب، و إنما يناسب السدر، و لذا تضمن صدر الحديث غسل الفرج بالسدر و الحرض. علي أن في الحديث اضطرابا من جهات أخري تظهر بملاحظته.

الرابع: في صحيح الفضل بن عبد الملك و ما تضمنه من كون الغسلة الأولي بالحرض- الذي هو الأشنان- مخالف لبقية النصوص و فتاوي الأصحاب.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن [غسل] الميت. فقال: أقعده و اغمز بطنه … ثم تغسله تبدأ بميامنه و تغسله بالماء و الحرض ثم بماء و كافور … » «5». و ما تضمنه من كون الغسلة الأولي بالحرض- الذي هو الأشنان- مخالف لبقية النصوص و فتاوي الأصحاب. و حمله علي بدليته عن السدر

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(2) راجع الوسائل باب: 6 من أبواب التكفين.

(3) التهذيب ج 1: 99 طبع النجف الأشرف.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

ص: 173

(مسألة 10): إذا تعذر الماء أو خيف تناثر لحم الميت بالتغسيل يمم (1)،

______________________________

اختيارا أو عند تعذره بلا شاهد. فلا مجال للتعويل عليه. و أبعد منهما حمله علي ضمه للسدر، بأن تكون الغسلة بهما معا، فإنه حمل يأباه العرف.

نعم، قد يحمل عليه بعض النصوص المتضمنة للجمع بينهما، ففي معتبر الكاهلي: «ابدأ بفرجه بماء السدر و الحرض فاغسله ثلاث غسلات و أكثر من الماء فامسح بطنه مسحا رفيقا ثم تحول إلي رأسه و ابدأ بشقه الأيمن … » «1»، و في خبر ابن عبيد: «ثم يغسل رأسه بالسدر و الأشنان ثم بالماء و الكافور … » «2».

لأن عدم التعرض فيهما لماء السدر في الغسلة الأولي قد يناسب إرادة إيقاعها بالماء المذكور فيهما أولا لغسل الفرج و الرأس. لكن في بلوغ ذلك حدا لظهور الحجة إشكال، بل منع، بل يقرب وقوع سقط في الروايتين، كما يناسبه ما في بعض النصوص من غسل البدن بالسدر بعد غسل الفرج أو الرأس بغيره. فلا مخرج عما هو المعروف نصا و فتوي.

مسألة 10: إذا تعذر الماء أو خيف تناثر لحم الميت بالتغسيل يمم
اشارة

(1) إجماعا، كما في الخلاف و التذكرة و محكي التهذيب- و إن لم أجده فيه- و نهاية الأحكام، و في المنتهي في فرض تعذر الماء: «و لا نعرف في ذلك خلافا بين علمائنا»، و في المدارك أنه مذهب الأصحاب، بل صرح غير واحد أنه إجماعي بين المسلمين عدا الأوزاعي، و في الحدائق أنه مما لا خلاف فيه بين الأصحاب، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده بين رؤساء الأصحاب»، و عن الكفاية و المفاتيح أنه المشهور، و في مفتاح الكرامة: «إلا انه استثني في الأخير الأوزاعي. و كأنه أراد بالمشهور الإجماع».

و جملة من معاقد الإجماعات و إن كانت هي المحترق الذي يخاف تناثر جلده بالتغسيل، إلا انه يظهر من كثير من كلماتهم المفروغية عن عدم الفرق بينه و بين سائر صور تعذر التغسيل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 174

______________________________

و كيف كان، فالكلام في مقامين:

المقام الأول: في أن سقوط التغسيل يقتضي الانتقال للتيمم،

و لا يدفن الميت بدون تطهير.

و يقتضيه- مضافا إلي ظهور الإجماع عليه مما تقدم، و إلي عموم بدلية التيمم و الأصل بالتقريب الآتي لهما، و إلي خبر زيد الآتي في المقام الثاني- صحيح عبد الرحمن بن أبي نجران: «أنه سأل أبا الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام عن ثلاثة نفر كانوا في سفر، أحدهم جنب، و الثاني ميت، و الثالث علي غير وضوء، و حضرت الصلاة و معهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم، من يأخذ الماء و كيف يصنعون؟ قال: يغتسل الجنب، و يدفن الميت بتيمم، و يتيمم الذي هو علي غير وضوء، لأن غسل الجنابة فريضة، و غسل الميت سنة، و التيمم للآخر جائز» «1».

لكن في المدارك بعد أن ناقش خبر زيد الآتي بضعف السند قال: «فإن كانت المسألة إجماعية علي وجه لا يجوز مخالفته فلا بحث، و إلا أمكن التوقف في ذلك، لأن إيجاب التيمم زيادة تكليف، و الأصل عدمه، خصوصا إذا قلنا إن الغسل إزالة نجاسة، كما يقوله المرتضي رضي اللّه عنه.

و ربما ظهر من بعض الروايات عدم الوجوب أيضا، كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن عليه السّلام في الجنب و المحدث و الميت إذا حضرت الصلاة و لم يكن معهم من الماء إلا بقدر ما يكفي أحدهم. قال: يغتسل الجنب، و يدفن الميت، و يتمم الذي هو علي غير وضوء، لأن الغسل من الجنابة فريضة، و غسل الميت سنة، و التيمم للآخر جائز».

و يشكل بعدم وضوح كون مقتضي الأصل البراءة، لأن الشك في المقام ليس في وجوب التيمم لنفسه، بل مقدمة للطهارة التي لا يحتمل عدم وجوبها لعدم الموضوع، بل لتعذرها بسبب تعذر الغسل و عدم مشروعية التيمم، و مرجع ذلك إلي الشك في القدرة علي الواجب الذي يلزم معه الاحتياط.

و دعوي: أن الطهارة المائية معلومة السقوط بالتعذر، و الترابية يشك في حدوث

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 175

______________________________

التكليف بها.

مدفوعة: بأن الظاهر وحدة سنخ أثر الطهارتين و إن اختلف بالكمال و النقص، و أن الاختلاف إنما هو في سببهما فوجوب الطهارة الترابية بعد تعذر المائية لا يبتني علي تبدل التكليف تبعا لتبدل المكلف به، لتجري البراءة من حدوث الثاني، لاحتمال عدم الموضوع له، بل علي تبدل سبب المكلف به مع وحدته و وحدة التكليف به، المستلزم لكون الشك في المقام في سقوطه بالتعذر الذي عرفت لزوم الاحتياط معه. فتأمل.

و أما صحيح ابن الحجاج فقد ذكر غير واحد أنه لا وجود له في كتب الحديث.

و كأن مراده به حديث عبد الرحمن بن أبي نجران المتقدم، حيث روي في التهذيبين بإسقاط لفظ: «بتيمم».

لكنه أسند فيها إلي ابن أبي نجران عن رجل عن أبي الحسن عليه السّلام، و إرساله مانع من حجيته في نفسه، فضلا عن رفع اليد به عن صحيحه المتقدم برواية الفقيه. و لا سيما و أن الذي يظهر من الوسائل رواية المرسل عن الشيخ مشتملا علي لفظ: «بتيمم» مطابقا لما في الفقيه.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن سوق التعبير يناسب جدا سقوط لفظ «بتيمم» فكأنه بلحاظ أنه لو وجب تيمم الميت لكان الأنسب بسياق الحكم باغتسال الجنب و تيمم غير المتوضئ أن يقال: (و ييمم الميت)، و لا يذكر الدفن الذي هو كالصلاة من الجنب بعد الاغتسال و من غير المتوضئ بعد التيمم لا يحتاج إلي بيان، و لا سيما مع خلوّ خبر الأرمني الوارد في التزاحم بين الميت و الجنب عن ذكر التيمم، حيث قال عليه السّلام: «يغتسل الجنب و يدفن الميت، لأن هذا فريضة و هذا سنة» «1». لكن في بلوغ ذلك حدا يوجب سقوط الحديث عن الحجية إشكال، بل منع.

نعم، حكي سيدنا المصنف قدّس سرّه عن نسخة معتبرة من الفقيه سقوط لفظ:

«بتيمم» من الصحيح، كما رواه عنه كذلك في مبحث التيمم من المدارك، و هو ظاهر محكي الوافي. بل التأمل قاض بأنه لا يحتمل عادة رواية ابن أبي نجران للحديث عن أبي الحسن عليه السّلام تارة: بلا واسطة، كما في الفقيه. و أخري: بواسطة رجل، كما في التهذيبين،

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 176

______________________________

بل كالمقطوع به روايته له بأحد الوجهين لا غير و أن الآخر تصحيف، و لازم ذلك البناء علي وحدة الحديث و اضطرابه سندا و متنا، و لا وجه معه للتعويل علي ما تقدم من الفقيه.

و أما الاستدلال عليه بحديث زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السّلام: «قال: أتي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله نفر فقالوا: إن امرأة توفيت معنا و ليس معها ذو محرم فقال: كيف صنعتم بها؟ فقالوا: صببنا عليها الماء صبا. فقال: أما وجدتم امرأة من أهل الكتاب تغسلها؟ فقالوا: لا. فقال: أ فلا يمموها؟!» «1»، بناء علي اعتبار سنده، كما يظهر مما تقدم في نظيره في مسألة وجوب الاستقبال بالمحتضر.

فهو موقوف علي العمل به في مورده، و يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّه تعالي. نعم قد يصلح للتأييد لو لم يعمل به في مورده، لأن عدم العمل به لا ينافي مشروعية التيمم عند تعذر التغسيل، لإمكان ابتناء عدم العمل علي كون المماثلة شرطا في التيمم، كما هي شرط في التغسيل، فسقوطه للتعذر بعد الفراغ عن مشروعيته لو لم يكن متعذرا، كما هو مقتضي الخبر المتقدم. فلاحظ.

هذا، و قد يستدل علي وجوب التيمم في المقام بعموم بدليته عن الطهارة المائية المستفاد مما تضمن أن التراب أحد الطهورين، و أن رب الماء هو رب التراب «2» و نحوهما.

و قد استشكل فيه في الجواهر بقصوره عن غسل الميت.. أولا: لظهوره في رفع الأحداث خاصة، و غسل الميت رافع للحدث و الخبث معا.

و ثانيا: لظهوره في قيام التراب مقام الماء عند استقلاله بالمطهرية، فلا يشمل غسل الميت الذي لا بد في مطهرية الماء فيه من ضم الخليطين له.

و يندفع الأول: بأن ذلك إنما يمنع من رفع التيمم للخبث في المقام لا من رفعه للحدث، و وجوبه لذلك، بل لو كان رفع الخبث في المقام أثرا لرفع الحدث لا في عرضه تعين ارتفاعه بالتيمم تبعا له، و إن لم يكن التيمم مشروعا لرفعه مباشرة.

و أما الثاني: فقد دفعه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بقوله: «لما هو المركوز في أذهان

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(2) راجع الوسائل باب: 14، 21، 23، 24، 25 من أبواب التيمم.

ص: 177

______________________________

المتشرعة من استقلال الماء في الطهورية، و لما دل علي انحصار الطهور في الماء و التراب مثل قولهم عليهم السّلام: هو أحد الطهورين. و قولهم عليهم السّلام في بيان الطهور: إنما هو الماء و التراب، و نحو ذلك. و حينئذ فيجب استعمال التراب بدل ماء السدر و الكافور، كما يجب بدل القراح».

و كأنه راجع إلي دعوي: أن الطهورية لا تستند للخليطين، كي لا يقوم التيمم مقامهما في ذلك، بل هما شرط في فعلية تأثير الماء فيها، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

فإن قيل باعتبار إطلاق ماء الخليطين فلا مانع من استناد الطهارة للأغسال الثلاثة، و عليه يبتني ما سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من قيام التراب مقام ماء السدر و الكافور. و إن قيل بعدم اعتباره فهي لا تستند للغسلين الأولين، بل يكونان بتمامهما شرطا في مطهرية الغسل الثالث و لا يقوم التيمم إلا مقامه.

و فيه: أنه لا إطلاق لدليل الانحصار ينافي دخل الخليط في المطهرية من حدث الموت، لو ورد مثل قولهم عليهم السّلام: هو أحد الطهورين، في مقام بيان مطهرية التراب كالماء، فلا ينافي قصور الماء عن الاستقلال بالمطهرية في بعض الموارد. كما أن مثل قولهم عليهم السّلام: «إنما هو الماء و الصعيد» «1»، قد ورد لبيان عدم جواز الوضوء باللبن، فلا ظهور له في استقلال الماء بالمطهرية في جميع موارد الحاجة إليه. كما أن الارتكاز المدعي في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه غير ظاهر بنحو يعتد به في شرح أدلة تغسيل الميت و حملها علي استقلال الماء بالمطهرية بالوجه المدعي. و لا سيما مع ما تضمنته النصوص الكثيرة من أن النورة طهور «2».

علي أنه لم يتضح من أدلة البدلية إطلاق مطهرية التراب حتي في مورد تقييد مطهرية الماء، لينفع في المقام. و لذا لا يظن بأحد دعوي: أن مقتضاها إطلاق مطهرية التيمم حتي لو فرض تقييد مطهرية الوضوء بالاستنجاء، كما قد توهمه بعض النصوص و الفتاوي، علي ما تقدم في أول الفصل الثاني من أحكام الخلوة. فلا تنفع الدعوي المذكورة- لو تمت- في دفع الإشكال المذكور.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 2 من أبواب الماء المضاف.

(2) راجع الوسائل باب: 28، 30، 32 من أبواب آداب الحمام.

ص: 178

______________________________

و العمدة في دفعه: أنه حيث تقدم وجوب الغسل بالماء عند تعذر الخليطين فهو راجع إلي استقلال الماء بالمطهرية- و لو ببعض مراتبها- في فرض تعذر الغسل التام، و ذلك كاف في مشروعية التيمم و الدخول تحت عموم بدليته عن الغسل، فهو كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه بدل عن الغسل الاضطراري إن لم يكن بدلا عن الغسل التام.

ثم إنه قد يستشكل في استفادة مشروعية التيمم في المقام من العموم المذكور..

تارة: بأنه يعتبر في التيمم طهارة أعضائه من الخبث، و لا مجال لها في المقام حتي لو فرض طهارة بدن الميت بعد إكمال التيمم الصحيح.

و أخري: بأن المتيقن من العموم قيام التيمم مقام الغسل الذي هو فعل التيمم، لا مقام التغسيل الذي هو فعل غيره.

و يندفع الأول: بأن دليل اعتبار طهارة أعضاء التيمم- لو تم- مختص بحال الاختيار، دون صورة تعذر التطهير، كما في المقام.

و الثاني: بعد الفرق بين الغسل و التغسيل ارتكازا من حيثية سنخ الطهارة، و لا سيما بلحاظ ما تضمن أن الميت يغسل غسل الجنابة و ما تضمن تقديم الغسل علي الموت في بعض الموارد، غاية الأمر عدم اعتبار المباشرة في الثاني للتعذر، و هو قد يكون في غير غسل الميت من الأغسال.

المقام الثاني: في تحديد موارد سقوط التغسيل الموجب للانتقال للتيمم.

تحقق في محله أن المعيار العام في مشروعية التيمم هو التعذر الخارجي لنفس الطهارة المائية- كما لو فقد الماء- أو لشرطها- كما لو فقد في المقام المماثل، بناء علي شرطيته في المائية دون الترابية علي ما يأتي الكلام فيه- أو لزوم محذور منها من حرج أو ضرر أو مزاحمة بتكليف آخر.

و اختصاص نصوص المقام ببعض الفروض لا يمنع من البناء علي عموم مشروعية التيمم، لإلغاء خصوصيتها عرفا، بعد كون المنسبق منها ابتناء تشريعه فيها علي نحو مشروعيته في سائر الموارد، خصوصا بناء علي الاستدلال علي مشروعية التيمم بعموم بدليته عن الطهارة المائية، كما تقدم، حيث يجري فيه ما يجري في سائر موارد مشروعيته. و من ثم كان ظاهر الأصحاب، بل صريح بعضهم التعميم المذكور،

ص: 179

______________________________

بنحو يظهر في المفروغية عنه.

و مما نصوا عليه من ذلك ما لو خيف تناثر جلد الميت، و هو معقد الإجماع في كلام بعضهم. لكن في الهداية: «و المجدور و المحترق إن لم يمكن غسلهما صب عليهما الماء صبا، و يجمع ما سقط منهما في أكفانهما»، و نحوه في المقنع إلا أنه اكتفي بالخوف من سقوط شي ء من الجلد بمسه، و كذا في الفقيه و إن لم يتعرض فيه لجمع ما سقط منه في الكفن.

و قد استظهر منه في الحدائق الخلاف في الاجتزاء بالتيمم في محل الكلام، كالرضوي: «و إن كان الميت مجدورا أو محترقا فخشيت إن مسسته سقط من جلوده جلده شي ء فلا تمسه، و لكن صب عليه الماء صبا، فإن سقط منه شي ء فاجعله في أكفانه» «1»، بدعوي: أن مقتضي الأمر بجمع ما يسقط منه في أكفانه وجوب التغسيل بالصب و إن لزم منه تناثر جلده.

لكنه كما تري فإن ترتب تناثر الجلد من الصب لا يستلزم توقع ذلك قبل التغسيل، ليدل الأمر بالصب علي عدم مشروعية التيمم معه، بل حيث كان الأمر بالصب للفرار من تناثر الجلد بالمس كان ظاهره عدم توقع تناثر الجلد بالصب، و إن كان قد يتحقق علي خلاف ما يتوقعه المغسل، فلا ينافي وجوب التيمم لو خيف تناثر الجلد بالصب أيضا، فضلا عما إذا علم به.

غاية الأمر أنه يدل علي أن تناثر الجلد من الصب من دون توقع سابق لا يكشف عن عدم مشروعية التغسيل بالصب ذاتا، بحيث لا يجزي و يجب التيمم، بل يصح و يجزي.

و لا بأس بالبناء علي ذلك، لأن عدم فعلية الأمر بالتغسيل واقعا بسبب المزاحمة لا ينافي فعلية ملاكه، فيجزي مع تحقق التقرب به، للغفلة عن لزوم المحذور المذكور منه، كما هو الحال في نظائر المقام، كانكشاف ترتب الضرر علي المغسل بعد الفراغ منه.

و كيف كان، فحيث لا إشكال ظاهرا في عدم جواز تقطيع جلد الميت فلا ينبغي التأمل في أنه لو لزم ذلك من مسه دون صب الماء عليه حرم المس و الدلك، و إن

______________________________

(1) كتاب فقه الرضا عليه السلام: 18. و مستدرك الوسائل باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 180

______________________________

كان راجحا في نفسه- كما يظهر من بعض نصوص تغسيل الميت «1» - و وجب التغسيل بالصب و نحوه، كما هو ظاهر ما تقدم من الهداية و به صرح في المقنعة، لعدم مزاحمة الاستحباب للحرمة. بل يكفي الخوف من ذلك، كما تقدم من الفقيه و المقنع، و به صرح في المبسوط و النهاية و المعتبر و المنتهي و التذكرة.

و يقتضيه صحيح ضريس- بناء علي ما هو الظاهر من وثاقة محمد بن سنان، علي ما تقدم في مبحث تحديد مساحة الكر- عن علي بن الحسين أو عن أبي جعفر عليهما السّلام: «قال: المجدور و الكسير و الذي به القروح يصب عليه الماء صبا» «2»، و معتبر زيد بن علي ما تقدم في نظيره في وجوب الاستقبال بالمحتضر- عن آبائه عليهم السّلام عن علي عليه السّلام: «أنه سئل عن رجل يحترق بالنار، فأمرهم أن يصبوا عليه الماء صبا، و أن يصلي عليه» «3».

فإنه بعد عدم احتمال خصوصية العناوين المذكورة فيهما من حيث هي بوجوب الصب، و عدم التصريح فيهما بالعلم بسقوط جلد الميت بمسه حين الغسل، ينصرف إطلاق الأمر المذكور فيهما إلي صورة الخوف من ذلك.

بل لعله مقتضي القاعدة، لأن مقتضي جعل الولاية علي تجهيز الميت لزوم ملاحظة الولي مصلحته و الاحتياط لها بترك ما يحتمل منافاته لها، كالمس في المقام، كما قد يظهر أيضا من سبر النصوص المتضمنة الأمر بالرفق في مسح جسده و غمزه عند التغسيل «4». و يعضده الرضوي المتقدم. بل لا ينبغي التأمل بعد الرجوع لمرتكزات المتشرعة في أن للميت حرمة تمنع من التصرف فيه تصرفا يحتمل تعريضه في الضرر و المحذور المذكور.

كما لا إشكال في الانتقال للتيمم لو لزم المحذور المذكور من الصب أيضا، و هو المتيقن من كلماتهم و معقد إجماعاتهم المتقدمة، لما أشرنا إليه آنفا من أنه يكفي في مشروعية التيمم لزوم محذور من الطهارة المائية. مضافا إلي خبر زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السّلام: «قال: إن قوما أتوا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه مات صاحب

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت.

(2) الوسائل باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(4) راجع الوسائل باب: 2، 9 من أبواب غسل الميت.

ص: 181

______________________________

لنا و هو مجدور، فإن غسلناه انسلخ. فقال: يمموه» «1».

بل قد يدعي أن مقتضاه وجوب التيمم بتعذر الدلك و عدم الانتقال للصب لو لم يلزم منه المحذور المذكور، لانصراف التغسيل فيه للمتعارف المشتمل علي الدلك، و لأن ظاهر حال المجدور عدم تناثر جلده بمجرد صب الماء.

لكنه غير ظاهر، لعدم وضوح الانصراف بنحو معتد به، و اختلاف حال المجدور، و لا سيما و أن استيعاب الجسد للماء عند الصب يحتاج إلي تقليب الميت، و قد يستند تناثر الجلد له.

فلا مجال للخروج به عما تقتضيه القاعدة من عدم الانتقال للتيمم مع إمكان الغسل بالصب و نحوه مما لا يستلزم المحذور المذكور و يتحقق به الغسل الاختياري التام. و لا أقل من كون ذلك مقتضي الجمع بينه و بين حديثي ضريس و زيد المتقدمين، فيحملان علي تجنب المحذور المذكور بالصب، و يحمل هو علي لزومه منه. علي أن ضعف سنده مانع من التعويل عليه في ذلك لو تم ظهوره فيه.

و دعوي: انجباره بالعمل. ممنوعة بعد مطابقة فتوي الأصحاب للقاعدة، علي ما سبق، حيث لا يبعد اعتمادهم في الحكم عليها لا عليه، كما هو ظاهر المعتبر أو صريحه. و لا سيما مع أن وجوب التيمم مع عدم لزوم المحذور من الصب مخالف لتصريح جماعة منهم. نعم لا يبعد كون تسالمهم علي وجوب التيمم و دعواهم الإجماع عليه كاشفا إما عن ارتكازية القاعدة التي أشرنا إليها بنحو يوجب وضوح مؤداها عندهم أو عن تعويلهم علي الخبر المذكور بنحو يصلح لجبره. فلو فرض عدم وضوح أحد الأمرين بخصوصه كان ذلك منهم كافيا في إحراز أحدهما إجمالا و إثبات مشروعية التيمم في محل الكلام.

بل الانصاف أن التسالم المذكور بنفسه صالح لإثبات وجوب التيمم بسبب كثرة الابتلاء بالمسألة المانع عادة من خفاء الحكم فيها علي الأصحاب.

و بذلك يقرب الاكتفاء في مشروعية التيمم بخوف لزوم المحذور المذكور من الصب و عدم لزوم العلم بذلك، لأن أغلب كلماتهم و بعض معاقد إجماعاتهم

______________________________

(1) الوسائل باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 182

علي الأحوط وجوبا، ثلاث مرات (1)،

______________________________

قد تضمنت الاكتفاء بالخوف، بل لم يعتبر العلم فيما عثرت عليه منها، و إنما عبر بعضهم- كالشيخ في الخلاف- بعدم إمكان الغسل، و لا يبعد أن يراد به عدم الإمكان بلحاظ المفروغية عن منجزية الخوف، كما يساعده النظر في بقية كلماتهم.

و لا سيما بملاحظة ما سبق في صورة خوف المحذور المذكور من المس دون الصب من تقريب دلالة النصوص علي منجزية الخوف و اقتضاء القاعدة له، لعدم الفرق في اقتضاء القاعدة له بين الموردين، و قرب ارتكازيتها بنحو تصلح للقرينية علي شرح مراد من عبر بعدم الإمكان.

بل سبر كلماتهم يشهد بمفروغيتهم عن منجزية الخوف، حيث اكتفوا به و لم يتعرضوا لوجه منجزيته، و لا للاختلاف المشار إليه في عبارات الأصحاب، مع وضوح عدم نهوض خبر زيد الذي استدلوا به في المقام به، لظهور فرض انسلاخ الجلد فيه في العلم به. و من هنا لا يبعد البناء عليه تبعا لهم، و لما عرفت من القاعدة.

فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) ففي القواعد: «يممه مرة علي إشكال». و قرب التثليث في التذكرة و جامع المقاصد و الروض و محكي نهاية الأحكام و الموجز و فوائد الشرائع و كشف الالتباس و حاشية الشهيد الثاني علي القواعد، و جزم به في المسالك.

و اكتفي بالمرة في الذكري و كشف اللثام و محكي مجمع البرهان و غيرها و نسبه شيخنا الأعظم قدّس سرّه لجماعة من متأخري المتأخرين، و في المدارك أنه ينبغي القطع به، و هو ظاهر من أطلق من الأصحاب، و لذا نسبه لظاهرهم في الذكري و لاطلاقهم في كشف اللثام و لظاهر إطلاق النص و الفتاوي في الرياض.

و يقتضيه إطلاق النصوص المتضمنة للتيمم في المقام، كصحيح عبد الرحمن بن أبي نجران و خبري زبد بن علي، بناء علي نهوضها بالاستدلال عليه. بل إطلاق أدلة بدلية التيمم عن الماء أيضا- بناء علي ما تقدم من الاستدلال به في المقام- لظهوره في قيام التيمم مقام الماء في الطهارة المطلوبة منه، و حيث كان ظاهر أدلة غسل الميت وحدة الطهارة المطلوبة منه، تبعا لوحدة ماهيته شرعا، و إن كان مركبا من أغسال

ص: 183

______________________________

ثلاثة، تعين الاجتزاء بدله بتيمم واحد.

و إليه يرجع قوله في الذكري: «لإطلاق الأمر، و لأن الغسل واحد، و إنما تعدد باعتبار كيفيته».

هذا، و إن قيل بأن المطهر هو الغسل الأخير فالأمر أظهر كما نبه له في الذكري أيضا.

و مما ذكرنا يظهر ضعف ما في التذكرة من الاستدلال لتثليث التيمم بأنه بدل عن ثلاثة أغسال.

و أما ما في جامع المقاصد و غيره من أن كونها في قوة غسل واحد لا يخرجها عن التعدد، و إذا وجب التعدد في المبدل منه مع قوته ففي البدل الضعيف بطريق أولي. فهو كما تري! لوضوح أن بدلية التيمم ليست عرفية ارتكازية، لتدرك كيفية تأثيره، بل تعبدية، كما أنها مبنية علي نقص الطهارة الحاصلة به عن الطهارة المائية، فلا مانع من نقصه في بعض الجهات عنها، كما ثبت ذلك في بعض الفروق. فلا مجال للخروج بما ذكره عما سبق.

تتميم: حيث يتعين الصب من دون دلك فهل يجب تثليث الغسل أولا؟

قال في الذكري: «يلوح من الاقتصار علي الصب الاجتزاء بالقراح، لأن الماء من الأخيرين لا يتم فائدتهما [فائدته. ظ] بدون الدلك غالبا. و حينئذ الظاهر الاجتزاء بالمرة، لأن الأمر لا يدل علي التكرار».

و لا يخفي أن مقتضي استدلال الأصحاب علي وجوب الصب بما تقدم من أن الدلك مستحب، و الاستحباب لا يزاحم التحريم، المفروغية عن كون الصب من أفراد الغسل التام الواجب، و أن التنازل إنما يكون عن خصوصية الدلك المستحبة من دون نقص في الغسل.

و هو المناسب لما ذكروه في كيفية الغسل من استحباب الدلك، لما يظهر من نصوص تعليم الغسل «1»، أو لأنه أبلغ في وصول الماء، من دون أن ينبهوا للفرق بين الغسلات، و أنه يجب الدلك في بعضها، لعدم تحقق الفائدة منه بدونه. كما لم ينبه لذلك في النصوص. بل ظاهر قوله عليه السّلام في صحيح يعقوب بن يقطين: «ثم يفاض الماء عليه

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت.

ص: 184

______________________________

ثلاث مرات … و يجعل في الماء شي ء من السدر و شي ء من كافور» «1» الاجتزاء بالإفاضة في الجميع. كما هو مقتضي إطلاق تشبيهه بغسل الجنابة «2» المصرح فيه بعدم وجوب الدلك. بل لعله مقتضي إطلاق جملة من النصوص المتضمنة للغسل، لما هو المعهود في سائر الأغسال بالاكتفاء بالصب.

و ما أشار إليه من عدم تمامية فائدة الخليطين بدون الدلك، غير ظاهر بنحو يصلح للخروج عما سبق. و لا سيما مع ما هو المعلوم من عدم كون المراد بالغسل بهما الاستعانة بهما في الغسل، نظير الغسل بالصابون في عصورنا، بل خلط ماء الغسل بهما بنحو يصدق الغسل به عرفا، إما لإطلاقه- كما سبق من جملة منهم- أو لقلة الخليط بنحو لا يخرج به الماء عن صورته و إن كان مضافا. بل لا مجال لاحتمال توقف فائدة الكافور العرفية- و هي التطييب- علي الدلك.

و أما ما تقدم في حديثي ضريس و زيد و الرضوي من صب الماء، فإطلاقه و إن كان يقتضي الاكتفاء بالصب مرة واحدة بالماء المطلق، إلا أنه ليس واردا لبيان الواجب من تمام الجهات، و لذا لم يتضمن وجوب استيعاب الماء لجسد الميت، بل لبيان الاجتزاء بالصب و عدم جواز الدلك، فلا ينهض بالخروج عن مقتضي إطلاق أدلة تغسيل الميت من وجوب الأغسال الثلاثة بالخليطين و القراح. بل عدم التنبيه فيها لسقوط الخليطين قد يوجب ظهورها- و لو بمقتضي الإطلاق المقامي- في وجوبهما، حيث لا يبعد ظهورها في بيان ما يمتاز به الميت في موردها عن غيره في كيفية التغسيل، فاقتصارها علي بيان الصب يوجب ظهورها في المشاركة في غيره لسائر أفراد الميت.

هذا، و لو تم ما ذكره من سقوط الخليطين تبعا للدلك فوجوب تثليث الغسل بالقراح و عدمه يبتني علي ما تقدم في المسألة الثامنة من فرض تعذر الخليطين، لعدم الفرق بين تعذر الغسل بهما لفقدهما و تعذره لتعذر شرطه- و هو الدلك- في جريان ما سبق من الأصل و غيره.

و أما ما ذكره قدّس سرّه من أن الأمر لا يدل علي التكرار. فهو و إن تم، بل هو بإطلاقه يقتضي الاجتزاء بالمرة، إلا أن المراد بالأمر إن كان هو ما تضمنته النصوص

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 185

ينوي بواحد منها ما في الذمة (1).

(مسألة 11): يجب أن يكون التيمم بيد الحي (2).

______________________________

المتقدمة فقد سبق أنه ليس لها إطلاق ينفع في المقام. و لو كان لها إطلاق كفي في نفي وجوب الخليطين، و لا يحتاج معه للاستدلال علي سقوطهما بما ذكره أولا من عدم تمامية فائدتهما بدون الدلك. و إن كان المراد بالأمر غير ذلك فلم نعثر علي ما يقتضيه لينظر في مفاده.

(1) إما كونه بدلا عن تمام غسل الميت، أو عن أحد الأغسال المناسب للترتيب، لأن في ذلك جمعا بين احتمالي وجوب التيمم مرة واحدة و وجوبه ثلاث مرات. ثم إن هذا مبني علي لزوم تعيين المبدل عنه في التيمم، و الكلام فيه موكول لمبحث التيمم.

مسألة 11: يجب أن يكون التيمم بيد الحي
اشارة

(2) كما في الروض و المسالك و الجواهر و غيرها، و ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه المعروف في كيفيته، و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «نسب التصريح به إلي كل من تعرض للكيفية».

لكن في المقنعة: أنه ييمم كما ييمم الحي العاجز بالزمانة، و في الخلاف: «يتيمم بالتراب مثل الحي»، و في الشرائع: «كما يتيمم الحي العاجز»، و في كشف اللثام:

«كتيمم الحي».

و ظاهر هذه الكلمات أن الضرب بيد الميت، لأن ذلك هو الواجب في تيمم الحي العاجز عن المباشر، كما صرحوا به، لظهور النصوص في أن الضرب من أجزاء التيمم، لا من مقدماته، علي ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالي.

و من هنا كان ذلك ظاهر كل من أطلق التيمم، لظهوره في قيام المباشر بتمام التيمم لا ببعضه، كما هو الحال في سائر موارد سقوط المباشرة. و لذا ذكر في الروض أن إطلاقاتهم تحتاج إلي تقييد.

و كيف كان، فقد أيد في الجواهر الأول بالاعتبار، لكون التيمم بدل الغسل المكلف به الحي، فلا مدخلية لضرب الأرض بيد الميت. و يظهر ضعفه مما تقدم، لأن الحي لما كان مكلفا بأن ييمم الميت كان اللازم قيامه بالحركة المؤدية لتمام أجزاء تيممه،

ص: 186

______________________________

و منه الضرب و المسح بيد الميت، كما لو تيمم الميت بنفسه.

نعم، يتجه ذلك لو تقوم التيمم بمسح الجبهة و ظهر الكفين بأثر الأرض، نظير تقوم الغسل بغسل الجسد بالماء، و كان الضرب خارجا عن حقيقته، كتناول الماء في الغسل، و لم يعتبر في المسح أن يكون بيد المتيمم، كما لا يعتبر كون الغسل بيد المغتسل، بل له أن يغتسل بالارتماس و بالاستعانة بخرقة تبتل بالماء و نحوهما. لكن لا مجال للبناء علي كلا الأمرين، خصوصا الثاني، علي ما يتضح في محله. فالاستدلال المذكور ضعيف جدا.

قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «نعم يمكن أن تكون غلبة تعذر الضرب بيد الميت موجبة لانصراف النص الآمر بالتيمم إلي الضرب بيد الحي. لكن لا مجال لدعوي ذلك بالنسبة إلي عمومات البدلية».

و الوجه فيه: أن الغلبة المذكورة لا توجب الغلبة في مورد العمومات بعد شمولها للحي الذي يغلب فيه القدرة علي الضرب و المسح بيده، فلا تنهض بالقرينة عليها، كي تخرجها عن ظهورها فيما سبق.

نعم، لو تمت الغلبة في نصوص تيمم الميت و نهوض تلك النصوص بالاستدلال كانت صالحة لتقييد مقتضي العمومات و الخروج عنها في الميت.

لكن سبق الإشكال في الاستدلال بتلك النصوص لاضطرابها أو ضعف سندها أو عدم العمل بها في موردها. مع أن الغلبة قد تختص بمثل المجدور، حيث يحتاج الضرب بيديه و المسح بهما إلي الضغط عليهما بنحو قد يغلب تسلخ جلده. و كذا بعض أفراد المحترق، دون سائر من يتعذر تغسيله من أفراد الميت، حيث لا يتضح تعذر ذلك فيه إلا أن يتيبس جلده و ليس هو غالبيا.

و من هنا لا مخرج عما هو ظاهر النص و الفتوي من لزوم الضرب و المسح بيد الميت مع الإمكان. و أما مع تعذره فالاكتفاء بالضرب و المسح بيد الحي مبني علي ما يأتي في العاجز عن الاستقلال بالتيمم إن شاء اللّه تعالي. بل قد يكون هنا أظهر، بلحاظ النصوص الواردة في تيمم الميت الذي يكثر فيه تعذر ذلك. فلاحظ.

ص: 187

و الأحوط استحبابا (1) مع الإمكان أن يكون بيد الميت أيضا.

(مسألة 12): يشترط في الانتقال إلي التيمم الانتظار إذا احتمل تجدد القدرة علي التغسيل (2).

فإذا حصل اليأس جاز التيمم (3). لكن إذا اتفق تجدد القدرة قبل الدفن وجب التغسيل (4)، و إذا تجددت بعد الدفن و خيف علي الميت من الضرر

______________________________

(1) مما تقدم يظهر أن ذلك هو الواجب. و لا أقل من كون ضمه مقتضي الاحتياط الوجوبي، كما ذكره بعض مشايخنا دامت بركاته.

تنبيه:

حيث يجب الضرب بيد الحي فقد قال في المسالك: «و ليغسل الماسح يده بعد كل مسح علي بدن الميت»، و قال في الروض: «و الأولي تطهير يد اللامس بعد كل لمس حيث يمكن».

و كأنه يبتني علي ما يظهر من الروض من انفعال ملاقي الميتة- من الانسان أو مطلقا- و لو مع الجفاف. لكن اعتبار طهارة الماسح مطلقا في التيمم يحتاج إلي دليل، بل يدفعه إطلاق أدلة شرح التيمم. غاية الأمر أنه ادعي الإجماع علي اعتبار طهارة أعضاء التيمم، و المتيقن منه أعضاء المتيمم نفسه، لا أعضاء من ييممه. و لعله لذا كان ظاهر ما تقدم من الروض الاستحباب.

مسألة 12: يشترط في الانتقال إلي التيمم الانتظار إذا احتمل تجدد القدرة علي التغسيل

(2) لأن موضوع التيمم ليس مجرد عدم القدرة علي التغسيل و لو آنا ما، بل عدم القدرة في تمام الوقت، لأن ذلك هو المناسب لظهور الأدلة في كون بدليته اضطرارية. و لذا لا يجوز المبادرة مع العلم بتجدد القدرة في الوقت. غاية ما قد يدعي الاكتفاء ظاهرا باحتمال عدم القدرة في تمام الوقت و عدم وجوب إحرازه بالانتظار و نحوه، و تمام الكلام في ذلك موكول لمبحث التيمم.

(3) بلا إشكال ظاهر، لأن غلبة عدم تيسر العلم صالح للقرينية علي الاكتفاء في ترتيب أثر عدم الوجدان باليأس.

(4) لانكشاف عدم مشروعية التيمم، لعدم تحقق موضوعه و هو التعذر

ص: 188

أو الهتك لم يجب التغسيل، و إلا ففي وجوب نبشه و استيناف الغسل إشكال.

و كذا الحكم فيما إذا تعذر السدر و الكافور (1).

(مسألة 13): إذا تنجس بدن الميت بعد الغسل أو في أثنائه بنجاسة خارجية أو منه وجب تطهيره (2).

______________________________

المستوعب للوقت. بل لو فرض مشروعيته بعدم الوجدان في وقته فحيث دلت الأدلة علي بطلان التيمم بوجدان الماء لزم في المقام بطلانه، فيجب الغسل تحصيلا للطهارة المستمرة، حيث لا يبعد كون المستفاد من الأدلة أن تغسيل الميت لذلك، لا لتحصيل الطهارة له آنا ما كي يكتفي بحصولها حين التيمم قبل بطلانه.

و منه يظهر أنه لا مجال لقياس المقام بالصلاة التي لا يبعد البناء علي إجزائها و عدم وجوب إعادتها بوجدان الماء في أثناء الوقت، للفرق بالاكتفاء في صحة الصلاة بالطهارة حينها. علي أنه لا تعويل علي القياس بعد مخالفة إجزاء الصلاة للقاعدة.

(1) تقدم الكلام في ذلك في الفرع الثالث من الفروع الملحقة بالمسألة الثامنة في تعذر الخليطين، و ما ذكرناه هناك يجري في محل الكلام من تعذر أصل التغسيل و الانتقال للتيمم.

مسألة 13: إذا تنجس بدن الميت بعد الغسل أو في أثنائه بنجاسة خارجية أو منه وجب تطهيره

(2) كما صرح به جماعة من الأصحاب بنحو يظهر منهم المفروغية عنه، بل قد يدخل في معقد إجماع الخلاف، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه، بل ظاهر الأصحاب الإجماع عليه، كما اعترف به في كشف اللثام و غيره».

و يقتضيه صحيح الكاهلي و الحسين بن المختار- بناء علي وثاقة محمد بن سنان علي ما تقدم في تحديد مساحة الكر- عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألناه عن الميت يخرج منه الشي ء بعد ما يفرغ من غسله. قال: يغسل ذلك و لا يعاد عليه الغسل» «1»، و حديث روح بن عبد الرحيم- الذي لا يبعد كونه موثقا- عنه عليه السّلام: «قال: إن بدا من الميت شي ء بعد غسله فاغسل الذي بدا منه و لا تعد الغسل» «2»، و مرفوع سهل:

«قال: إذا غسل الميت ثم أحدث بعد الغسل فإنه يغسل الحدث و لا يعاد الغسل» «3».

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 32 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 32 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 189

و لو بعد وضعه في القبر (1).

______________________________

و قد يؤيد بما تضمن قرض الكفن إذا تنجس «1» مما يأتي، لأن البدن أولي بإزالة النجاسة من الكفن، و بما تضمن الأمر بشد الفخذين في التكفين «2»، حيث لا يبعد كون الغرض منه منع خروج النجاسة. و بتعليل وجوب التغسيل «3» بأنه ليطهر من أدناس أمراضه، حيث لا يبعد كون المراد به النجاسة الخبثية.

هذا، و النصوص المتقدمة و إن اختصت بما يخرج من الميت بعد الغسل، إلا أن الظاهر إلغاء خصوصيته عرفا و تعميم الحكم للنجاسة الخارجية، و لما يصيبه في أثناء الغسل في الموضع المغسل. و أما ما يصيب الموضع غير المغسل منه فشرطية إزالته في اتمام الغسل تبتني علي ما تقدم في أول هذا الفصل من الكلام في وجوب تطهير الميت قبل الغسل.

و أما وجوب غسل النجاسة تعبدا لو تعذر تغسيله فلا يبعد استفادته من النصوص المتقدمة و من التعليل المتقدم لوجوب التغسيل بأنه يطهر من أدناس أمراضه. اللهم إلا أن يستشكل في ذلك بأن غسل النجاسة مع عدم تغسيل الميت لا يوجب التطهير، لنجاسة بدن الميت عينا، إلا أن نقول بمطهرية التيمم من الحدث و الخبث معا كالغسل. فتأمل جيدا.

(1) قال في الجواهر في شرح عبارة ماتنه: «لكن ظاهره كغيره، بل كاد يكون صريح الذكري، أنه لا فرق في ذلك بين طرحه في القبر و عدمه، بل و لو توقف إزالتها علي خروجه منه … و ربما يظهر من المحكي عن الأردبيلي الإجماع علي وجوب إزالة النجاسة عن البدن قبل الدفن مطلقا». لكن في جامع المقاصد: «نعم يجب غسل النجاسة علي كل حال و إن وضع في القبر إلا مع التعذر، و لا يجوز حينئذ إخراجه بحال، لما فيه من هتك الميت. مع أن القبر محل النجاسة».

و يشكل بعدم وضوح لزوم الهتك من إخراج الميت من القبر، و إنما يلزم

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 32 من أبواب غسل الميت، و باب: 24 من أبواب التكفين.

(2) راجع الوسائل باب: 1 من أبواب غسل الميت.

(3) الوسائل ج 2 باب: 1 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 190

______________________________

من المثلة به التي هي غير مفروضة في المقام. كما أن كون القبر محل النجاسة لا ينافي وجوب تطهيرها، عملا بإطلاق النصوص السابقة، و إنما المتيقن العفو عن ذلك بعد تحقق الدفن، و لذا التزم قدّس سرّه بوجوب التطهير في القبر لو أمكن من دون إخراج.

و مثله ما في الجواهر و عن الحدائق من ظهور سياق النصوص فيما قبل الوضع في القبر. للإشكال فيه بعدم المنشأ لذلك بعد إطلاق النصوص. بل هو لا يناسب ما في الجواهر في آخر كلامه، حيث استجاد ما تقدم من كلام جامع المقاصد مع التصريح فيه بوجوب التطهير حتي بعد الوضع في القبر إذا لم يتوقف علي الإخراج.

هذا، و في صحيح ابن أبي عمير و أحمد بن محمد عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: إذا خرج من الميت شي ء بعد ما يكفن فأصاب الكفن قرض منه [من الكفن]» «1»، و في صحيح الكاهلي عنه عليه السّلام: «قال: إذا خرج من منخر الميت الدم أو الشي ء بعد الغسل و أصاب العمامة أو الكفن قرض [قرضه] بالمقراض» «2».

و الظاهر أن الأمر بقرض الكفن فيهما للتسهيل تجنبا لبلله و نزعه الذي كثيرا ما يتوقف عليه تطهيره، و مقتضي ذلك عدم وجوب تطهير جسد الميت لتوقفه كثيرا علي نزع الكفن منه، و لو أمكن بدونه استلزم غالبا بلل الكفن، فيكون اقتصارهما علي قرض الكفن موجبا لظهورهما في عدم وجوب تطهير البدن إذا كان خروج النجاسة بعد التكفين مطلقا و لو لم يوضع في القبر. و لأجلها يحمل إطلاق نصوص الغسل علي صورة خروج النجاسة قبل التكفين، و هو جمع سهل لا كلفة فيه.

و أما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من كون الاقتصار علي قرض الكفن فيهما قرينة علي إرادة صورة تعذر الغسل منهما. فهو كما تري لا يناسب إطلاقهما جدا، بل الأقرب ما ذكرنا، كما لعله ظاهر.

نعم، بناء علي اختصاص مشروعية القرض بما إذا كان الميت قد وضع في القبر يتجه اختصاص عدم وجوب تطهير الجسد به. لكن يأتي في المسألة الواحدة و الثلاثين عند الكلام في الكفن المنع من ذلك إن شاء اللّه تعالي.

فالبناء علي عدم وجوب تطهير الجسد بعد التكفين في مورد عدم نزع الكفن

______________________________

(1) الوسائل باب: 32 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 32 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

ص: 191

نعم لا يجب ذلك بعد الدفن (1).

(مسألة 14): إذا خرج من الميت بول أو مني لا تجب إعادة غسله (2).

______________________________

قريب جدا. لو لا عدم استثناء الأصحاب ذلك من عموم وجوب التطهير عدا السيد في الرياض مستدلا عليه بالحرج و الإجماع، و هو غير ظاهر، بل سبق من الجواهر ظهور كلماتهم في العموم.

و لعله لذا سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه التكلف بحمل الصحيحين علي صورة تعذر الغسل. اللهم إلا أن يكون اقتصار بعض من تعرض للقرض عليه قرينة علي إرادتهم الاستثناء المذكور، و لا سيما مع ذكرهم للحكمين في سياق واحد، و تنصيص من نص علي عموم وجوب التطهير غفلة عن مفاد الصحيحين. بل في المنتهي: «لو خرجت النجاسة منه بعد وضعه في أكفانه لم يجب إعادة الغسل عليه في قول أهل العلم كافة، لأن ذلك حرج عظيم و يحتاج إخراجه من أكفانه إلي مشقة عظيمة».

و تعليله كالصريح في الإجماع علي عدم وجوب إخراجه من أكفانه. و تطهيره و هو فيها مما لا يظن من أحد دعوي وجوبه، بل كثيرا ما يمتنع. و الإجماع المذكور و إن لم يتضح إلا أنه يكفي في عدم استيضاح الإجماع علي عموم وجوب التطهير بنحو يمنع من الخروج عما يقتضيه الجمع بين الأدلة. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) بلا إشكال ظاهر، لما هو المعلوم من تعرض الميت حينئذ للنجاسة من دون أن يشار إلي وجوب إزالتها حينئذ في النصوص و الفتاوي، كما أن السيرة علي عدمه.

مسألة 14: إذا خرج من الميت بول أو مني لا تجب إعادة غسله

(2) كما صرح به جماعة من الأصحاب، و نسب للأكثر في المختلف و المدارك، و للأشهر في محكي الكفاية، و للمشهور في كشف اللثام، و في حاشية المدارك أن بناء فتوي الأصحاب عليه، بل في الخلاف الإجماع علي عدم وجوب الإعادة لو خرج شي ء بعد الغسل الثالث، و في المعتبر و التذكرة أنه ظاهر من عدا ابن أبي عقيل، و لم يعرف الخلاف فيه إلا منه، حيث يظهر من جماعة نسبة القول بوجوب إعادة الغسل لو خرج أحد النواقض بعد إكماله، و ادعي الوحيد إشعار كلامه بوجوب استئناف الغسل لو خرج شي ء في أثنائه، لا في إعادته لو خرج بعد إكماله.

ص: 192

______________________________

و كيف كان، فقد يبني وجوب استئناف الغسل لو خرج أحد النواقض في أثنائه علي ثبوت ذلك في غسل الجنابة، لعموم التشبيه في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: غسل الميت مثل غسل الجنب، و إن كان كثير الشعر فرد عليه [الماء] ثلاث مرات» «1».

و فيه- مع عدم ثبوت ذلك في غسل الجنابة، و لو ثبت فهو مختص بالحدث الأصغر، و أما الأكبر فوجوب استئنافه مقتضي القاعدة الجارية في الحدث حتي بعد إكمال الغسل، و التي يأتي الكلام فيها هنا-: أن قوله عليه السّلام: «و إن كان كثير الشعر … »

قد يوجب انصراف التشبيه للكيفية الخارجية، دون غيرها من أحكام غسل الجنابة التي منها وجوب الاستئناف بتخلل الحدث.

و مثله الاستدلال بمفهوم الشرطية السابقة المتضمنة عدم وجوب إعادة الغسل إذا خرج الشي ء بعد إكماله. إذ فيه: أن الشرطية مسوقة لتحقيق الموضوع، فلا ينهض مفهومها بإثبات وجوب استئناف الغسل بما يخرج قبل إكماله.

كما قد يستدل لوجوب إعادة الغسل لو خرج أحد النواقض بعد إكماله بأن الحدث ناقض للغسل فوجب إعادته ليخرج من الدنيا طاهرا.

و ما في جامع المقاصد من أنه لا يراد بغسل الميت و وضوءه رفع الحدث. غير ظاهر بعد ملاحظة النصوص المتضمنة تعليل وجوبه بأن الميت يجنب «2» و غيرها مما تقدم التعرض له في تحقيق مقتضي الأصل عند الكلام في وجوب تثليث الأغسال.

و مثله ما يظهر من غير واحد من عدم وجوب استمرار الطهارة له، بل يكفي حصولها آنا ما بإكمال الغسل و إن انتقضت بعد ذلك. لاندفاعه بأن ارتكازية تعليل وجوب الغسل بأنه يجنب تقتضي مطلوبية بقائه علي الطهارة في عالم الآخرة بعد أن لم يكن المراد حصولها حالة حدوث الموت كالوضوء للنوم، و لا لفعل خاص كطهارة الحي للصلاة. و لا سيما مع ظهور حديث ابن سنان في أن ذلك مطلوب في الطهارة من الخبث، لقوله عليه السّلام: «علة غسل الميت أنه يغسل لأنه يطهر و ينظف من أدناس أمراضه

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

ص: 193

______________________________

و ما أصابه من صنوف علله، لأنه يلقي الملائكة و يباشر أهل الآخرة، فيستحب إذا ورد علي اللّه عز و جل و لقي أهل الطهارة و يماسونه و يماسهم أن يكون طاهرا نظيفا متوجها به إلي اللّه عز و جل ليطلب وجهه و ليشفع له. و علة أخري أنه يخرج منه المني الذي منه خلق، فيجنب فيكون غسله له» «1» و قريب منه حديث الفضل بن شاذان «2».

نعم، المتيقن من النصوص المتقدمة اهتمام الشارع برفع حدث الجنابة أو مطلق الحدث الأكبر، دون الحدث الأصغر، فلا وجه لوجوب الطهارة بحصول سببه. كما لا دليل علي مشروعية الغسل لإزالته وحده، بل في ضمن الأكبر، و كذا لا دليل علي تشريع الوضوء وحده حينئذ للميت، و إن حكي عن بعض العامة. بل لما كان الرافع للحدث الأكبر هو الغسل الواحد بالماء المطلق فلا وجه لإعادة غسل الميت بتمامه- كما هو ظاهر ما عن ابن أبي عقيل- بعد وضوح عدم مبطلية الخارج له من أصله، بل غاية الأمر أن يوجب له الحدث الذي يحصل به في الحي.

مضافا إلي ما نبه له في المختلف و غيره من عدم الدليل علي حدث الميت بخروج النواقض المعهودة في الحي منه. و دعوي: أن ذلك لا يناسب ما تضمن تعليل جنابة الميت بخروج المني الذي خلق منه بموته من فيه أو غيره «3».

مدفوعة: بأن جنابته بخروج المني منه بحدوث الموت لا يستلزم جنابته بخروجه منه بعده، حيث يكون بنظر العرف كسائر الجمادات. و لا سيما و أن جنابته بخروج المني المذكور تعبدية لا تناسب سببية خروج المني من الحي لجنابته، لاختصاصها بخروج مني الإنسان نفسه بالوجه المعهود، دون مني غيره و لذا لا تجنب المرأة بخروج مني الرجل منها.

نعم، سبق عند الكلام في سببية الجماع للجنابة قوة احتمال جنابة الميت به، و هو و إن كان مناسبا لجنابته بخروج المني منه إلا أن ذلك وحده لا يكفي بعد انصراف إطلاقات سببية أسباب الجنابة عن الميت. و الاستناد في جنابته بالجماع لجهات خاصة مانعة من الانصراف لا يتضح التعدي بها عنه لخروج المني. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(3) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

ص: 194

______________________________

هذا، كله بحسب القواعد، و أما بلحاظ النصوص الخاصة فيه علي عدم ناقضية خروج الغائط منه للغسل الأول قوله عليه السّلام في مرسل يونس: «ثم صب الماء في الآنية و ألق فيه حبات كافور، و افعل به كما فعلت في المرة الأولي، ابدأ بيديه ثم بفرجه و امسح بطنه مسحا رفيقا، فإن خرج منه شي ء فانقه، ثم اغسل رأسه … » «1»،

و علي عدم ناقضيته للغسلين الأوليين معا قوله عليه السّلام في موثق عمار: «ثم تمر يدك علي بطنه فتعصره شيئا حتي يخرج من مخرجه ما خرج، و يكون علي يديك خرقة تنقي بها دبره، ثم ميل برأسه شيئا، فتنفضه حتي يخرج من منخره ما خرج ثم تغسله بجرة [بجرد] من ماء القراح … » «2». بل ظاهر الأول عدم انتقاض غسل اليدين و الفرج الذي هو من آداب الغسل بذلك.

كما يدل علي عدم إعادة الغسل بخروج أحد النواقض بعد إكماله النصوص المتقدمة في أول المسألة السابقة المصرح فيها بغسل ما خرج و عدم إعادة الغسل لأجله و مرسل ابن أبي عمير و أحمد بن محمد المقتصر فيه علي قرض الكفن.

و هذه النصوص تناسب ما ذكرناه أخيرا من عدم ناقضية ما يخرج من الميت لطهارته، حيث يبعد جدا ناقضيته و عدم وجوب الطهارة منه، بل عدم رجحانها، حيث لا يظهر منها و لا من غيرها استحباب التطهير.

و دعوي: أن ذلك لا يناسب التعبير بالحدث في مرفوع سهل المتقدم. مدفوعة- مضافا إلي ضعفه- بقرب كون المراد بالحدث السبب المعهود بذاته، لا بما أنه سبب للحدث و ناقض للطهارة، كما يناسبه قوله: «فإنه يغسل الحدث» لوضوح أن الغسل للذات بنفسها لا بلحاظ مسببها.

نعم، قد يدعي انصراف إطلاقات تلك النصوص لأسباب الحدث الأصغر، لندرة خروج المني من الميت. لكنه ممنوع، لأن مجرد الندرة لا تقتضي الانصراف المعتد به. علي أنه لا ندرة في غير المني من أسباب الحدث الأكبر، كدم الحيض و النفاس، حيث قد تموت المرأة عند قوة اندفاعهما، فيخرجان بعده. بل في مرفوع الحسن بن محبوب و أحمد بن محمد: «قال: المرأة إذا ماتت نفساء و كثر دمها أدخل إلي السرة في

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 195

و لو قبل الوضع في القبر (1).

(مسألة 15): لا يجوز أخذ الأجرة علي تغسيل الميت (2)،

______________________________

الأديم أو مثل الأديم نظيف ثم يكفن بعد ذلك». و زاد الحسن في سند آخر: «و يحشي القبل و الدبر بالقطن». و كذا رواه الصدوق مرسلا عن الصادق عليه السّلام إلا أنه قال:

«و تنظف ثم يحشي … » «1».

و هو ظاهر في الاهتمام بتجنب النجاسة الخبثية و دفعها عن الكفن، دون الحدث، لظهوره في توقع خروج الدم من دون أن ينبه فيه لتأخير غسلها مهما أمكن و تعصيرها ليخرج ما يمكن خروجه قبله، و يضعف دفع الدم. فلاحظ.

(1) فإنه المتيقن من الخلاف المتقدم، بل تقدم في آخر المسألة السابقة من المنتهي دعوي الإجماع علي عدم وجوب إعادة الغسل بعد وضع الميت في أكفانه، المستلزم لأولوية حال ما بعد الوضع بالإجماع.

مسألة 15: لا يجوز أخذ الأجرة علي تغسيل الميت

(2) قال في المقنعة: «و التكسب بتغسيل الأموات و حملهم و دفنهم حرام، لأن ذلك فرض الكفاية أوجبه اللّه تعالي علي أهل الإسلام»، و نحوه أو قريب منه في النهاية و المراسم و السرائر و الشرائع و المنتهي و التذكرة و القواعد و غيرها، و في المسالك: «هذا هو المشهور بين الأصحاب و عليه الفتوي، و ذهب المرتضي إلي جواز أخذ الأجرة علي ذلك لغير الولي، بناء علي اختصاص الوجوب به» و ظاهره أن الشهرة في مقابل المرتضي الذي يبتني خلافه علي اختصاص الوجوب بالولي، و أنه لو بني علي عموم التكليف بأفعال التجهيز- كما تقدم- فلا خلاف في التحريم.

بل حكي عن المحقق الثاني دعوي الإجماع علي عموم حرمة أخذ الأجرة علي الواجبات، كما ادعي هو و غيره الإجماع في كثير من الواجبات الكفائية- كالقضاء و تعليم صيغة النكاح- فضلا عن العينية. و لعله لذا قال في الرياض في تقريب عدم جواز أخذ الأجرة علي الواجبات: «بلا خلاف، بل عليه الإجماع في كلام جماعة. و هو الحجة»، و في الجواهر: «بلا خلاف معتد به أجده فيه» و عن كاشف الغطاء في شرح

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 196

______________________________

القواعد أن دعوي الإجماع المحصل غير بعيد عند المحصل»، و عن مجمع البرهان:

«كأن دليله الإجماع».

لكن أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه في توهين دعوي الإجماع المذكورة بنقل جملة من كلماتهم تشهد بخلافها، كما أطال في كتاب التجارة من الجواهر في تقريب استنادها إلي ظهور الإجماع في جملة من الموارد لخصوصيات فيها، لا لعموم حرمة أخذ الأجرة علي الواجبات، و مع ذلك لا مجال للتعويل علي الإجماع المذكور لا في عموم الدعوي المذكورة، و لا في خصوص واجبات التجهيز. و احتمال خصوصيتها بإجماع تعبدي. مما لا تناسبه كلماتهم السابقة جدا.

و أما ما ذكره غير واحد من مانعية الوجوب من حيث هو لأخذ العوض. فلم يثبت لعدم وضوح الوجوه المذكورة له في كلماتهم علي كثرتها، كما أطلنا الكلام فيه في تعقيب كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه بما لا مجال له في المقام.

كما أنه لم يثبت عموم منافاة قصد أخذ الأجرة للعبادية في الغسل و الصلاة من واجبات التجهيز، لما تقدم في مباحث النية من شرائط الوضوء من أن انضمام الداعي غير القربي المباح للداعي القربي لا يمنع من صحة العبادة إذا كان الداعي القربي بحيث يصلح لأن يستقل بالداعوية، حيث يجري ذلك في المقام.

نعم، لو لم يصلح الداعي القربي للاستقلال بالداعوية لم تصح العبادة، سواء كان قصد أخذ الأجرة صالحا للداعوية الاستقلالية أم لم يكن، بل كان الداعي الفعلي مجموع الداعيين بنحو الانضمام.

و أما دعوي: أن جعل الأجرة لما كان بإزاء العمل العبادي، فلا بد في استحقاقها من قصد التقرب، و لو مع قصد الأجرة بنحو داعي الداعي. فهي مندفعة: بأن داعي الداعي هو الداعي الحقيقي، فإن لم يكن قربيا لم يكف الداعي المباشر في المقربية. و قد تقدم في مبحث النية في الوضوء ما ينفع في المقام.

هذا، و قد يمنع من أخذ الأجرة في خصوص واجبات التجهيز لدعوي: أن المستفاد من أدلة تشريعها عدم وجوبها ابتداء، بل لأنها من حقوق الميت المملوكة له علي المكلفين، فيجب عليهم أداؤها، و العمل المملوك علي الإنسان ليس له أن يأخذ

ص: 197

و يجوز أخذ العوض علي بذل الماء و نحوه مما لا يجب بذله مجانا (1).

(مسألة 16): يجوز أن يكون المغسل صبيا (2)

______________________________

عليه أجرا. و هو غير ظاهر، بل غاية ما يستفاد من الأدلة كون تشريعها بلحاظ احترام الميت و ثبوت الحرمة له، و هو أعم من استحقاقه و ملكيته لها.

نعم، في جامع المقاصد عن ابن البراج المنع من أخذ الأجرة علي مستحبات التجهيز، لإطلاق النهي، و نحوه في المسالك و محكي الإيضاح، ناسبا ذلك في الأول لبعض الأصحاب. و ظاهره إطلاق النهي شرعا عن أخذ الأجرة علي أفعال التجهيز، فيكون دليلا مختصا بالمقام. لكن لم أعثر علي ما يقتضي ذلك، بل في مفتاح الكرامة:

«و لم نقف علي نهي في الباب، و لا ذكره أحد غيرهم من الأصحاب».

ثم إنه قد يدعي أن جواز أخذ الأجرة علي الواجبات لا يلازم صحة الإجارة عليها، بل تبطل الإجارة عليها مطلقا أو علي خصوص العبادية منها، و ينحصر استحقاق الأجرة بمثل الجعالة. و تفصيل الكلام في وجه ذلك موكول إلي محله من المكاسب المحرمة عند الكلام في أخذ الأجرة علي الواجبات، لمسانخته لذلك و كونه من شئونه و لواحقه.

(1) حيث يتضح مما يأتي إن شاء اللّه تعالي في شرح المسألة التاسعة و الثلاثين أن الواجب كفاية هو أفعال التجهيز بنفسها، لا بنحو يجب بذل المؤن مقدمة لها، و مع عدم وجوب البذل لا منشأ لاحتمال حرمة أخذ العوض.

مسألة 16: يجوز أن يكون المغسل صبيا

(2) كما في المعتبر و المنتهي و كاشف الغطاء و جعله الوجه في التذكرة و هو المناسب لما في المبسوط و السرائر من أن الذكر أولي من الأنثي بالصلاة علي الميت إذا كان ممن يعقل الصلاة.

و يقتضيه إطلاق بعض الأدلة الشارحة للتغسيل و الصلاة. و توجيه الخطاب في بعضها لشخص خاص بنحو يظهر بدوا في مباشرته لا يصلح للتقييد بعد معلومية عدم إرادة تقييد الواجب الكفائي بمباشرته. كما لا يقتضيه اختصاص التكليف بالبالغين، إذ كما يمكن تكليف كل بالغ بالأعم من فعله و فعل غيره من البالغين

ص: 198

______________________________

كذلك يمكن تكليفة بالأعم من فعلهم و فعل الصبي.

و أما ما ذكره بعض مشايخنا من أن مقتضي الإطلاق وجوب الأفعال علي المكلفين، سواء قام بها الصبي أم لا، الراجع لعدم الاجتزاء بفعله.

فيشكل بأنه حيث لا يراد من توجيه الخطاب للمكلفين لزوم قيام كل شخص بالعمل، لفرض كون التكليف كفائيا يجزي فيه فعل أحدهم فلا بد من رجوعه لتكليف كل شخص بالماهية و إن صدرت من غيره، كما هو الحال في سائر التكاليف الكفائية علي ما تحقق في محله. و تقييد الماهية المكلف بها بفعل البالغ يحتاج إلي دليل، بل حيث سبق أن مقتضي إطلاق بعض الأدلة الشارحة عدمه لزم البناء عليه.

و بعبارة أخري: ظاهر توجيه الأمر للمكلفين بالعمل هو تكليف كل منهم بالعمل الصادر منه بالمباشرة، و حيث لا مجال لذلك في مثل المقام من الواجبات الكفائية، فالأمر دائر في مصحح توجيه الآمر لهم بين إرادة تكليف كل منهم من دون نظر للمباشر و إرادة التكليف بفعل أحدهم من دون نظر للمكلف، و لا إشكال في أن الأول أظهر.

و أما حمله علي تكليف كل منهم بفعل أحدهم فلا مجال للحمل عليه، لابتنائه علي تعدد مصحح النسبة للكل. و لا أقل من إجمال هذه الأدلة من هذه الجهة فلا يخرج عما سبق من الإطلاق. و حينئذ يتعين الإجزاء، و لا مجال لما ادعاه من الإطلاق، لأن إطلاق التكليف لا يقتضي بقاءه بعد حصول فرد من أفراد الماهية المكلف بها.

و لو فرض عدم تمامية ما ذكرناه من الاطلاق و إجمال المكلف به من هذه الجهة كان مقتضي اصالة البراءة عدم التقييد بذلك، بناء علي ما هو المشهور المنصور من جريان البراءة عند الشك في تقييد الواجب.

و أما ما عن بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن ما يحتمل اشتراط عدمه في التكليف إنما تجري البراءة من التكليف مع وجوده حين تحقق موضوع التكليف، بحيث يحتمل عدم حدوث التكليف رأسا، كما لو احتمل اشتراط التكليف بصلاة الزلزلة بعدم المطر، فحدثت الزلزلة حال المطر، دون ما لو وجد بعد تحقق موضوع التكليف المستتبع لفعليته، كما في المقام، حيث لا يجهز الصبي الميت إلا بعد موته و انشغال ذمة المكلفين بتجهيزه، بل مقتضي قاعدة الانشغال بالتكليف، بل إطلاق دليله عدم

ص: 199

______________________________

سقوطه بغير امتثال المكلف.

فهو إنما يتم لو لم يحتمل شمول الماهية المأمور بها لفعل الصبي، بأن علم بقصور فعل الصبي و احتمل كونه مسقطا للتكليف من دون أن يكون وافيا بملاكه، و لازمه وجوب منعه محافظة علي ملاك التكليف الفعلي، و لا ملزم بالبناء علي ذلك بعد ما عرفت من إمكان عموم الماهية لفعل الصبي.

و منه يظهر ضعف ما في الدروس و الجواهر من عدم الاجتزاء بفعل الصبي مستدلا في الثاني باستصحاب الشغل، و معلومية عدم إجزاء الندب عن الواجب.

لاندفاعه بأن المرجع مع الشك في تقييد المأمور به البراءة، لا الاشتغال. و أن كون المورد من إجزاء الندب عن الواجب موقوف علي قصور ماهية الواجب عن المكلفين، و قد سبق منعه، و أن مقتضي الإطلاق أو الأصل كون فعل الصبي من أفراد الماهية الواجبة علي المكلفين و إن كان مستحبا في حق الصبي نفسه.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن لا مجال للتوقف في إجزاء الندب عن الواجب مع العلم بفرديته له و إن لم يكن واجبا، كما في المقام، لأن موضوع المشروعية في الصبي هو موضوعها في البالغ، و الاختلاف بينهما في اللزوم و عدمه لا غير. فهو موقوف علي المفروغية عن فردية فعل الصبي للماهية الواجبة، و لا مجال له بالنظر لما تقدم من كلماتهم.

و مجرد مشروعية عبادة الصبي أعم، لإمكان نقصها عن فعل البالغ، نظير الفرد الاضطراري المشروع من المضطر غير المجزي لغيره مع تيسر التام. اللهم إلا أن يستفاد ذلك من إطلاقات أدلة الخطاب بالواجب العيني و الكفائي، لظهورها بدوا في الشمول حتي للصبيان و الاجتزاء بفعلهم كغيرهم، و دليل رفع القلم ظاهر في رفع الإلزام دون المشروعية بالنحو المقتضي للإجزاء. و هذا يكون عاضدا لما سبق في وجه الإجزاء.

و منه يظهر أنه لا مجال لما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه من أن فعل الصبي إنما يجري في حق نفسه، كما لو صلي في الوقت ثم بلغ قبل خروجه، لا في حق غيره، كما في المقام.

لاندفاعه: بأنه إن تم الوجه المذكور فهو كما يقتضي الإجزاء في حق نفسه بعد بلوغه يقتضي الإجزاء في حق غيره، و إن لم يتم فلا مجال لاستفادة الإجزاء في حق نفسه

ص: 200

إذا كان تغسيله علي الوجه الصحيح (1).

______________________________

في الواجبات العينية، لأن الخطاب يقصر عن الفعل السابق علي توجهه علي المكلف، و حينئذ يمكن استفادة الإجزاء في الواجبات الكفائية، لأن فعله متأخر عن توجه الخطاب للمكلفين، فلا مانع من شموله له إذا اقتضاه الإطلاق أو الأصل، كما تقدم، فإجزاء فعل الصبي عن نفسه و غيره في التكاليف الكفائية أيسر إثباتا من إجزائه عن نفسه في التكاليف العينية.

علي أن مقتضي ما ذكره أن الصبي إذا صلي ثم بلغ قبل الدفن أجزأ فعله في حق نفسه دون غيره من المكلفين، و لا يظن من أحد البناء علي ذلك.

(1) بأن كان واجدا لتمام ما يعتبر في التغسيل، و منه قصد القربة بناء علي ما هو الظاهر من الاعتداد بقصده.

هذا، كله في مقام الثبوت، و أما في مقام الإثبات عند الشك في صحة عمله فظاهر من أطلق إجزاء عمل الصبي من دون تنبيه علي عدم الاعتداد به ظاهرا هو كونه علي نحو عمل البالغ ثبوتا و إثباتا، فلا يتوقف الاجتزاء به علي العلم بصحته.

و كأنه لقاعة الصحة المعول عليها في سائر موارد الشك في فعل الغير.

لكن في كشف الغطاء: «و لا يصح من غير المكلف، إلا أن يكون مميزا علي الأصح فيصح. و لا يرفع الوجوب علي [عن خ ل] الناس، لعدم إمكان الاطلاع الباطني، و أصل الصحة هنا غير جار». و هو الذي صرح به بعض مشايخنا دامت بركاته، بدعوي: أن الدليل علي قاعدة الصحة لما كان هو السيرة فهي و إن ثبتت في بعض أفعال الصبي، كالتطهير و نحوه مما يتعارف قيامه به، إلا أنها لم تثبت في المقام، لعدم تعارف قيام الصبي بأفعال التجهيز.

و لعله لذا توقف السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقي في الاجتزاء بفعل الصبي إذا لم يعلم بواجدتيه للشرائط. و كأن تخصيصه لذلك بما يتوقف علي قصد القربة لعدم تيسر العلم بتحقق قصد القربة، بخلاف غيره مما يعتبر في صحة الأفعال، و إلا فمن البعيد جدا تفريقه بين ما يتوقف علي قصد القربة و غيره في الاجتزاء به ظاهرا مع الشك في صحته، لعدم ظهور وجه الفرق بينهما في جريان قاعدة الصحة مع الشك.

ص: 201

(مسألة 17): يجب في المغسل أن يكون مماثلا للميت في الذكورة و الأنوثة (1)،

______________________________

و كيف كان، فيشكل ذلك بأن الدليل علي قاعدة الصحة ليس هو سيرة المتشرعة التعبدية- نظير سيرتهم علي مطهرية الغيبة- ليدعي قصورها عن فعل الصبي في المقام لما سبق، بل سيرة العقلاء المبتنية علي ارتكازياتهم، و من الظاهر عدم خصوصية البلوغ بنظر العقلاء، بل المعيار عندهم علي التمييز، و حيث كانت السيرة في المقام تابعة للارتكازيات العقلائية، لا لأمور خارجية- من أمر سلطان أو تباني جماعة خاصة أو نحوهما- كفي في جواز التعويل عليها عدم ثبوت الردع عنها، و لا يعتبر ثبوت إمضائها، علي ما ذكرناه في مبحث حجية خبر الواحد من الأصول.

علي أنه قد يستفاد إمضاؤها من سيرة المتشرعة المعلوم عدم استنادها لجهات تعبدية، بل لسيرة العقلاء تبعا للمرتكزات التي لا يفرق فيها بين البالغ و غيره.

و لو لا ذلك لأشكل التعويل علي قاعدة الصحة و نحوها مما كان مستنده السيرة في كثير من الموارد التي لا تحرز فيها سيرة المتشرعة المتصلة بعصور المعصومين عليهم السّلام بسبب عدم شيوع الابتلاء بها في عصورهم، كتغسيل الميت بالارتماس و بيع الصبي في المعاملات الضخمة، و عمل المستعجل، و غيرها، و لا يظن من أحد الالتزام بذلك.

فلاحظ.

مسألة 17: يجب في المغسل أن يكون مماثلا للميت في الذكورة و الأنوثة
اشارة

(1) قال في التذكرة: «و الأصل أن يغسل الرجال الرجال، و النساء النساء».

و الظاهر عدم الخلاف في اعتبار المماثلة اختيارا في غير موارد الاستثناء المذكورة في كلمات الأصحاب، بل صرح بالاتفاق علي ذلك في الروض و محكي الذكري، و في المعتبر: «و لا يغسل الرجل أجنبية و لا المرأة أجنبيا، و هو إجماع».

و نسب في التذكرة عدم تغسيل الأجانب المرأة إلي علمائنا، و عدم تغسيل الأجنبيات الرجل إلي العلماء كافة عدا رواية عن أحمد، و في المدارك: أن الأصحاب قاطعون بأنه ليس للرجل أن يغسل من ليست له بمحرم.

و يقتضيه النصوص الآتية في المسألة العشرين المصرحة بدفنه بلا غسل مع

ص: 202

______________________________

فقد المماثل «1»، و غيرها مما تضمن لزوم تغسيل الذمي المماثل عند فقد المسلم المماثل «2»، و غسل الوجه و اليدين و التيمم «3» و غير ذلك مما يأتي بعضه.

بل النظر في النصوص الواردة في المستثنيات و غيرها شاهد بالمفروغية عن اعتبار المماثلة في الجملة، الذي يكون المتيقن منه صورة القدرة علي تغسيل المماثل، إذ لولاه لا موجب للسؤال عن فروع ذلك، كما لعله ظاهر. فتأمل. و أما لو تعذر تغسيل المماثل فسيأتي الكلام فيه في المسألة العشرين إن شاء اللّه تعالي.

هذا، و قد أنكر شيخنا الأستاذ قدّس سرّه اعتبار المماثلة في صحة الغسل، و نزل الأخبار المانعة عن تغسيل غير المماثل علي الحرمة التكليفية العرضية بلحاظ حرمة النظر و اللمس اللازمين للتغسيل غالبا، لعدم الخلاف ظاهرا في عموم حرمة النظر لحال الموت، و لأن الأحكام المتعلقة بالحي بما هو جسم موضوعها الجسم عرفا، و الحياة من أحواله غير المقومة له، فإطلاق أدلتها يشمل حال الموت. و قد اعترف قدّس سرّه بمخالفة ما ذكره لظاهر كلمات الأصحاب، و أن ظاهرهم شرطية المماثلة للتغسيل، عدا صاحب المدارك، فإن ظاهره الجري علي ما ذكره هو قدّس سرّه.

لكن لم أعثر عاجلا في المدارك علي ما يشعر بما ذكره قدّس سرّه عدا ما ذكره في الصبي و الصبية من تبعية جواز التغسيل لجواز النظر و اللمس، و ليس ذلك مختصا به، بل أشار إليه في المعتبر، و ذكر في غيره.

و الظاهر أن تعرضهم له يبتني علي دعوي أن حرمة النظر و اللمس من لوازم المانعية الوضعية بنحو يستدل بعدمها علي عدمها، لا علي كون المانع هو الحرمة بنفسها للمزاحمة من دون مانعية وضعية، فإنه مخالف لما ذكروه تبعا للنصوص من الكلام و النزاع في الصبي و الصبية و المحارم مع وضوح عدم حرمة النظر لهم، فإن ذلك كالصريح في أن محل الكلام اشتراط المماثلة في نفسها مع قطع النظر عن المزاحمة بالحرمة التكليفية.

و قد يصلح فهمهم لذلك من النصوص للكشف عن اطلاعهم علي ما يقتضي

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 21 من أبواب غسل الميت.

(2) راجع الوسائل باب: 19 من أبواب غسل الميت.

(3) راجع الوسائل باب: 22 من أبواب غسل الميت.

ص: 203

فلا يجوز تغسيل الذكر للأنثي و لا العكس. و يستثني من ذلك صور:

(الأولي): أن يكون الميت طفلا لم يتجاوز ثلاث سنين (1) فيجوز

______________________________

صرفها إليه، دون ما ذكره قدّس سرّه. بل هو مقتضي إطلاق أدلة المنع من تغسيل غير المماثل، خصوصا لو استلزم عدم التغسيل أصلا، إذ لو لم يكن مبنيا علي اشتراط المماثلة، بل علي المزاحمة بالحرمة التكليفية، لكان اللازم تقييده بما إذا لزم منه المحذور المذكور و لم يمكن التخلص منه. بل لا ينبغي التأمل في ذلك بعد النظر فيما ورد في الصبيان و المحارم الذين لا إشكال في جواز النظر إليهم لغير المماثل.

و أما ما ذكره قدّس سرّه من حمل تلك الأخبار علي الأحكام الأدبية، نظير النهي عن إقعاد الرجل الصبية في حجره إذا بلغت ست سنين. فإن أراد به حمل تلك الأخبار علي كراهة التغسيل فهو خلاف ظاهرها، الذي عول عليه الأصحاب في الجملة، و إن أراد به حملها علي الإلزام و يكون منشؤه تلك الجهة الأدبية، فهو من الغرابة بمكان، إذ لا معني لكون الحكم الأدبي غير الإلزامي منشأ للحرمة. و لا سيما إذا استلزم ترك التغسيل، لأن رفع اليد عن الحكم الإلزامي- و هو في المقام وجوب التغسيل- لمزاحمته بالحكم الأدبي مما يمنع منه العقل و لم يعهد من الشرع.

إلا أن يرجع إلي كون الجهة الأدبية من سنخ الحكمة لتشريع المانعية الوضعية، فيرجع لما ذكرنا. و لو تم ما ذكره كان المناسب التنبيه في الأخبار علي ستر ما يحرم أو يكره النظر إليه مع الحكم بجواز التغسيل.

و بالجملة: لا مجال للخروج عن ظاهر النص و الفتوي من شرطية المماثلة في التغسيل في الجملة كما نبه له في الجواهر. و ما قد يوجد في الأخبار و كلمات الأصحاب من ذكر حرمة اللمس و النظر لا بد من حمله علي إرادة التلازم بينها و بين الشرطية موردا، أو علي كونها حكمة في تشريعها. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

و يستثني من ذلك صور:
الأولي: أن يكون الميت طفلا لم يتجاوز ثلاث سنين
اشارة

(1) أما الصبي فالظاهر عدم الإشكال في جواز تغسيل النساء له. قال في التذكرة: «أجمع العلماء علي أن للنساء غسل الطفل مجردا من ثيابه و إن كان أجنبيا، اختيارا و اضطرارا … لكن اختلفوا في تقديره»، و نحوه عن نهاية الأحكام و في المنتهي:

ص: 204

______________________________

«لا بأس بأن يغسل النساء الصبي. و هو قول العلماء كافة، و اختلفوا في حده»، ثم ذكر الحدود المختلف فيها و أقلها عند علمائنا ثلاث سنين، و في الروض: «فجواز تغسيل النساء لابن ثلاث إجماعي» و في الجواهر: «الاجماع عليه محصل فضلا عن المنقول».

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق أدلة شرح غسل الميت بعد قصور أدلة اعتبار المماثلة عنه لأن موضوعها الرجل- موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سئل عن الصبي تغسله امرأة؟ فقال: إنما تغسل الصبيان النساء. و عن الصبية تموت و لا تصاب امرأة تغسلها. قال: يغسلها رجل أولي الناس بها» «1»، و حديث أبي النمير مولي الحرث بن المغيرة النضري: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: حدثني عن الصبي إلي كم تغسله النساء؟

فقال: إلي ثلاث سنين» «2». و من الثاني يعلم وجه التحديد بثلاث سنين. و به يخرج عن إطلاق الأول و إطلاقات التغسيل.

قيل: و ضعف سنده منجبر بعمل المشهور، ففي مفتاح الكرامة: «فإني وجدت أكثر كتب الأصحاب ناطقة به». و يؤيده إيداع المشايخ الثلاثة له في الكافي و الفقيه و التهذيب بنحو يظهر منهم التعويل عليه، و لا سيما مع ظهور حال الأولين في بنائهما علي الاقتصار علي النصوص المعتبرة.

علي أنه لا وجه لضعف سنده بعد روايته بعدة طرق معتبرة عن أبي النمير الذي تستفاد وثاقته من كونه من رواة كامل الزيارة، لأنه و إن اقتصر فيه علي عنوان: «أبي النمير» من دون توصيفه بما تقدم، إلا أن الأصحاب لم يذكروا شخصا آخر يسمي أبا النمير غير من تقدم. و قد يؤيد وثاقته أن للصدوق إليه طريقا.

و أما الصبية فجواز تغسيل الرجل لها هو المعروف بين الأصحاب، و ادعي الإجماع عليه في التذكرة و الروض و محكي نهاية الأحكام.

و يقتضيه إطلاقات أدلة شرح غسل الميت بعد قصور أدلة اعتبار المماثلة، لأن موضوعها المرأة، نظير ما تقدم في الصبي. و لا ينافيه ما تقدم في موثق عمار من الأمر بكون المغسل لها أولي الرجال بها، لأن أولي الرجال أعم من المحرم من وجه، فلا بد من حمل الأمر به علي الاستحباب، لعدم القائل بتعيينه لزوما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 23 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 205

______________________________

كما أن فرض عدم وجدان امرأة تغسلها فيه لا يصلح دليلا علي عدم جواز تغسيل الرجال لها اختيارا، لعدم ورود التقييد به في كلام الإمام عليه السّلام، و إنما ذكر في كلام السائل، و قد يكون بلحاظ تعارف تغسيل النساء لها أو استحبابه شرعا. أو وجوبه في الجملة و لو بعد الثلاث.

لكن في المعتبر: «و عندي في ذلك توقف … » ثم ذكر رواية أحمد بن محمد الآتية وردها بالارسال و الإضمار و اضطراب المتن، ثم قال: «فالأولي المنع. و الفرق بين الصبي و الصبية أن الشرع أذن في اطلاع النساء علي الصبي، لافتقاره إليهن في التربية، و ليس كذلك الصبية. و الأصل حرمة النظر».

و يشكل بأن جواز النظر مقتضي أصل البراءة، بل الاستصحاب في وجه.

و عموم حرمة النظر غير ثابت، إذ لا منشأ له إلا إطلاق الأمر بغض النظر في الآية الشريفة «1» بلحاظ حذف المتعلق فيه، لكن حيث يعلم بعدم إرادة حرمة النظر لكل شي ء لزم الاقتصار علي المتيقن، و هو المرأة الكبيرة التي أمرت بالحجاب في سياق الآية، و يكون النظر إليها مثيرا للشهوة و مظنة للمفسدة، دون الصغيرة، خصوصا الميتة، كما لا يشمل وجوب الغض علي النساء الصبي بلا إشكال.

و لا سيما مع قرب ملازمة عدم وجوب التحجب لجواز النظر عرفا، فيدل علي الجواز حينئذ ما تضمن من النصوص عدم وجوب التحجب علي الصبية «2»، و أظهر منها ما تضمن جواز حمل من لم تبلغ الخمس أو الست سنين و تقبيلها «3». بل هو في الجملة مقتضي السيرة القطعية، خصوصا في الصغيرة جدا، كبنت ثلاث سنين.

علي أن حرمة النظر و اللمس لا تستلزم عدم مشروعية التغسيل، غاية الأمر أن تكون مزاحمة لوجوبه، فمع إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال بالتغسيل بنحو لا يستلزمها يتعين اختياره، و مع تعذره يتوقف تقديم حرمة النظر و اللمس علي إحراز أهميتها، و هو في غاية الإشكال.

______________________________

(1) النور الآية: 30.

(2) راجع الوسائل باب: 126 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه.

(3) راجع الوسائل باب: 127 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه.

ص: 206

______________________________

و الحاصل: أنه لا مخرج في الصبية عن الإطلاقات، عدا حديث أبي النمير المتقدم المتضمن التحديد في الصبي بثلاث سنين، لأن التحديد بها في الصبي يقتضي التحديد بها في الصبية بالأولوية العرفية. و مما ذكرنا يظهر ضعف ما يظهر من المدارك من إناطة جواز التغسيل لغير المماثل فيهما معا بجواز النظر.

ثم إنه قد تضمنت جملة من كلماتهم ما ينافي التحديد المذكور ففي المقنع: «و إذا ماتت جارية في السفر مع الرجال فلا تغسل و تدفن كما هي بثيابها إن كانت بنت خمس سنين، و إن كانت بنت أقل من خمس سنين فلتغسل»، و في الفقيه بعد أن ذكر حديث أبي نمير المتقدم قال: «و ذكر شيخنا محمد بن الحسن رضي اللّه عنه في جامعه في الجارية تموت مع الرجال في السفر. قال: إذا كانت بنت أكثر من خمس سنين أو ست دفنت و لم تغسل، و إذا كانت ابنة أقل من خمس سنين غسلت. و ذكر عن الحلبي حديثا في معناه عن الصادق عليه السّلام».

و في المقنعة: «فإن مات صبي مسلم بين نسوة مسلمات لا رحم بين واحدة منهم و بينه و ليس معهن رجل و كان الصبي ابن خمس سنين غسله بعض النساء مجردا من ثيابه، و إن كان ابن أكثر من خمس سنين غسلنه من فوق ثيابه و صببن عليه الماء صبا و لم يكشفن له عورة و دفنه بثيابه بعد تحنيطه بما وصفناه، فإن ماتت صبية بين رجال مسلمين ليس لها فيهم محرم و كانت بنت أقل من ثلاث جردوها و غسلوها و إن كانت لأكثر من ثلاث سنين غسلوها في ثيابها و صبوا عليها الماء صبا و حنطوها بعد الغسل و دفنوها في ثيابها».

و في المراسم: «أنه يجوز للنساء اختيارا تغسيل ابن خمس سنين مجردا، و يغسلن ابن أكثر من ذلك بثيابه. أما الرجال فلا يغسلون الصبية إلا من كان لها ثلاث سنين، فإنهم يغسلونها بثيابها، فإن كانت لأقل من ثلاث سنين غسلوها مجردة».

و في الوسيلة: «أن الصبي إن مات بين نساء مسلمات فإن كان ابن ثلاث سنين غسلنه النساء مجردا، و إن كان لأكثر من ذلك غسلنه من فوق الثياب، و إن كان مراهقا لم يغسلنه و دفن من غير غسل. و الصبية إن ماتت بين رجال مسلمين فإن كان لها ثلاث سنين غسلها الأجنبي من فوق ثيابها، و إن كانت لأكثر من ذلك دفنت من غير غسل.

ص: 207

______________________________

هذا، و لم نعثر علي ما يناسب هذه التحديدات من النصوص عدا حديث الحلبي المشار إليه فيما تقدم من الفقيه الذي حكي عن الذكري أن الصدوق رواه في كتاب مدينة العلم مسندا عنه و مرسل محمد بن أحمد بن يحيي المذكور في التهذيب: «روي في الجارية تموت مع الرجل فقال: إذا كانت بنت أقل من خمس سنين أو ست دفنت و لم تغسل» «1»، بناء علي ما عن ابن طاوس- و يناسبه الاعتبار و حديث الحلبي- من أن لفظ «أقل» و هم و أن الصحيح «أكثر».

لكن الجهل بسند حديث الحلبي و إرسال حديث أحمد مانع من التعويل عليهما في الخروج عما تقدم، و لم يتضح انجبارها بالعمل المتقدم بعد ظهور الاضطراب في كلماتهم، كما سيأتي. علي أن مقتضي حمل الشيخ حديث أحمد علي عدم تغسيلها مجردة- ليطابق ما تقدم من المقنعة من تغسيل بنت أكثر من ثلاث سنين بثيابها- أن لفظ أقل ليس وهما، و أنه محمول علي الأقل من الخمس قليلا بحيث لا تنقص عن الثلاث، فلا يطابق حديث الحلبي.

ثم إنه لو فرض حجيتها في التحديد بالخمس فهما و إن اختصا بالصبية إلا أنه حيث تقدم أن التحديد فيها بالثلاث يستفاد من التحديد بها في الصبي- الذي تضمنه حديث أبي النمير- بالأولوية العرفية يتعين رفع اليد بهما عن إطلاق حديث أبي النمير و حمله علي حال الاختيار، فإنهما أخص منه. لظهورهما في فرض عدم تيسر تغسيل المرأة للصبية.

و منه يظهر الإشكال فيما تقدم من المقنعة و المراسم و الوسيلة من التحديد في الصبية بالثلاث و في الصبي بالخمس. فإنه إن بني علي الاقتصار في العمل بالنصوص علي موردها لزم العكس، و إن بني علي التعدي عنها بلحاظ الأولوية المشار إليها لزم عدم الفرق في الحد بين الصبي و الصبية.

و أشكل من ذلك ما تقدم من الوسيلة من التفصيل في الصبي الذي يزيد علي خمس سنين بين المراهق فلا يغسل و غيره فيغسل من فوق الثياب. لأن التغسيل من وراء الثياب لم يتضمنه شي ء من النصوص الواردة في الصبي و الصبية، كي يتوهم كونه شاهد جمع بين إطلاق موثق عمار المتضمن تغسيل غير المماثل لهما و إطلاق

______________________________

(1) الوسائل باب: 23 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 208

______________________________

عدم تغسيلهما بعد الثلاث أو بعد الخمس في بقية النصوص، و إنما ورد في الرجل و المرأة- كما يأتي إن شاء اللّه تعالي في المسألة العشرين- فإن بني علي العمل به لزم عدم الفرق بين المراهق و غيره في التغسيل من وراء الثياب- كما قد يحمل عليه ما تقدم من المقنعة، علي ما يأتي إن شاء اللّه- و إن بني علي عدم العمل به لزم المنع من التغسيل فيهما معا. و قد يرد نحو ذلك علي المراسم، كما يظهر بالتأمل في تمام كلامه و فيما تقدم.

و الذي تحصل من جميع ما تقدم: أنه لا مخرج عما يقتضيه حديث أبي النمير من التحديد بثلاث سنين في الصبي و الصبية معا، كما هو المشهور.

اللهم إلا أن يقال: لما كان مقتضي إطلاق موثق عمار جواز تغسيل الرجل للصبية مع الاضطرار و لو تجاوزت الثلاث سنين كان بينه و بين حديث أبي النمير عموم من وجه بضميمة ما سبق من أن التحديد بالأقل في الصبي يقتضي التحديد به في الصبية بالأولوية العرفية، فيتنافيان فيمن يتجاوز الثلاث سنين مع تعذر المماثل، فمقتضي الموثق تغسيل غير المماثل له، و مقتضي حديث أبي النمير عدم تغسيله له، و بعد تساقطهما يكون المرجع إطلاقات أدلة شرح غسل الميت القاضية بوجوب تغسيله له.

و مرجع ذلك إلي اختصاص التحديد بالثلاث في الصبي و الصبية بصورة تيسر المماثل، و مع عدمه يسقط اعتبار المماثلة فيهما فيغسله غير المماثل و إن لم نقل بذلك في الكبيرين.

و لا بأس بالبناء علي ذلك إذا اقتضاه الجمع بين النصوص و إن لم أعثر علي قائل به، لأن كلماتهم في غاية الاضطراب، مع عدم شيوع الابتلاء بالمسألة، كي يمتنع عادة خفاء حكمها عليهم. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

بقي في المقام أمران:
الأول: ظاهر نصوص التحديد أن المعيار في الحد حال الموت، لا حال التغسيل،

لظهور أن المعيار في السن عرفا علي مدة الحياة المنتهية بالموت، لا علي زمن الولادة و لو بلحاظ ما بعده. و بذلك صرح غير واحد أولهم- فيما عثرت عليه- الشهيد الثاني في الروض و الروضة و المسالك، خلافا للمحقق الثاني في ظاهر جامع المقاصد، حيث

ص: 209

للذكر و للأنثي تغسيله، سواء كان ذكر أم أنثي، مجردا عن الثياب أم لا (1)،

______________________________

قال: «و لا يخفي أن الثلاث سنين هي نهاية الجواز، فلا بد من كون الغسل واقعا قبل تمامها … » و يظهر ضعفه مما ذكرنا.

الثاني: ظاهر التحديد بالثلاث في حديث أبي النمير إكمالها،

كما هو ظاهر جماعة من الأصحاب و صريح بعضهم، لأن الظاهر من التحديد بالغاية الآنية التي لا استمرار لها دخولها في حكم المغيي. و لا أقل من كون ذلك مقتضي إطلاق أدلة شرح تغسيل الميت بعد إجمال الغاية من هذه الجهة.

لكن صرح في المبسوط و الشرائع و ما تقدم من المراسم و محكي الإصباح باعتبار النقص عن الثلاث سنين، و يحتمله ما تقدم من المقنعة و كأنه يبتني علي خروج الغاية عن حكم المغيي الذي تقدم ضعفه في المقام. نعم بناء علي أن المعيار في التحديد علي حال التغسيل، دون حال الموت، يتعين عدم الشروع فيه قبل الثلاث، بحيث ينتهي قبل تجاوزها، كما تقدم من جامع المقاصد، و تقدم ضعفه أيضا.

(1) كما هو مقتضي إطلاق جماعة و صريح آخرين، بل في الجواهر نفي وجدان الخلاف فيه في الصبي، و تقدم من التذكرة و محكي نهاية الأحكام دعوي الإجماع عليه فيه. و يقتضيه فيهما معا إطلاق النصوص و عدم التنبيه فيها لإبقاء الثياب، لأن المتعارف هو التجريد منها حال التغسيل. و منه يظهر جواز التجريد فيمن يزيد علي الثلاث سنين إن قيل بجواز تغسيل غير المماثل له مطلقا أو عند فقد المماثل، لإطلاق نصوصه أيضا.

و منه يظهر ضعف ما تقدم من المقنعة و المراسم و الوسيلة من عدم التجريد في الصبي و الصبية، علي اختلاف الحدود المذكورة في كلماتهم. نعم تقدم احتمال ابتناء بعض كلماتهم علي إلحاقه بالرجل الذي تضمنت بعض النصوص تغسيل غير المماثل له من وراء الثياب عند فقد المماثل، و يأتي الكلام فيها في المسألة العشرين إن شاء اللّه تعالي، و إن كان مقتضي ما تقدم منا خروج الصبي و الصبية في ذلك عن حكم الرجل، لإطلاق موثق عمار. فلاحظ.

ص: 210

وجد المماثل له أم لا (1).

(الثانية): الزوج و الزوجة، فإنه يجوز لكل منهما تغسيل الآخر (2)،

______________________________

هذا، و في جامع المقاصد: «و الظاهر من إطلاق النص و الأصحاب كون كل منهما مجردا عدم وجوب ستر العورة»، و به صرح بعضهم. لكن من الظاهر أن نصوص الصبي و الصبية لم تتضمن جواز التجريد ليكون مقتضي إطلاقه عدم وجوب ستر العورة، و إنما استفيد جوازه تبعا من إطلاقها التغسيل، لتعارفه حينه، كما تقدم، و لا مجال لذلك في كشف العورة، لعدم تعارفه حين الغسل.

فالعمدة في جوازه الأصل ما لم يثبت حرمة النظر للعورة.

نعم لو أريد الاستدلال بالإطلاق لعدم شرطية ستر العورة للغسل، لا لعدم وجوبه تكليفا، كان متجها.

(1) كما هو مقتضي إطلاق جملة من الأصحاب و صريح بعضهم، بل تقدم من التذكرة و محكي نهاية الأحكام دعوي الإجماع عليه في الصبي. و يقتضيه فيه ظاهر صدر موثق عمار، بل هو كالصريح في جواز تغسيل النساء له اختيارا، معتضدا بإطلاق أدلة شرح غسل الميت، الذي هو الدليل علي جواز تغسيل الرجل للصبية اختيارا أيضا.

و قد تقدم عند الكلام فيها أن فرض عدم وجدان امرأة لتغسيلها في ذيل موثق عمار لا يمنع من ذلك، لأن التقييد به في كلام السائل. و منه يظهر الإشكال فيما تقدم من المقنعة و الوسيلة، حيث يظهر من التقييد فيهما بعدم المماثل كونه قيدا في جواز التغسيل فيهما معا، و نحوه ما يظهر من النهاية و السرائر، و في الصبية من المبسوط.

الثانية: الزوج و الزوجة
اشارة

(2) الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم في الجملة و لو مع فقد المماثل، كما يظهر بملاحظة كلماتهم. و قد ادعي في الخلاف الإجماع علي جواز تغسيل كل من الزوجين الآخر، كما نفي في المنتهي الخلاف فيه بين علمائنا مع فقد المماثل و ما قد يوهمه ما في الوسيلة من الخلاف في ذلك- حيث أطلق لزوم تغسيل المماثل مع وجوده و اقتصر علي تغسيل الرحم مع فقد المماثل- يبعد منه البناء عليه بعد ما ذكرنا.

و كيف كان، فيدل علي جواز تغسيل كل من الزوجين صاحبه- بعد الإجماع-

ص: 211

______________________________

النصوص الكثيرة التي يأتي التعرض لبعضها.

نعم، في صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يموت و ليس معه إلا النساء.

قال: تغسله امرأته، لأنها منه في عدة، و إذا ماتت لم يغسلها، لأنه ليس منها في عدة» «1».

و قد حمله الشيخ علي عدم تغسيلها مجردة، بقرينة النصوص المتضمنة تغسيله لها من وراء الثياب.

و دعوي: أنه لا يناسب التعليل، لظهوره في صيرورتها بالموت أجنبية كسائر الأجنبيات، بناء علي عدم جواز تغسيل الرجل الأجنبية حتي عند الضرورة.

مدفوعة: بإمكان صرف التعليل لخصوصية مرجوحية نظره إليها و مسه لها، كما يناسبه ما في صحيح الحلبي عنه عليه السّلام: «سئل عن الرجل يغسل امرأته؟ قال: نعم من وراء الثوب لا ينظر إلي شعرها و لا إلي شي ء منها. و المرأة تغسل زوجها، لأنه إذا مات كانت في عدة منه، و إذا ماتت هي فقد انقضت عدتها» «2».

و لا سيما مع عدم كون التعليل ارتكازيا، ليأبي الحمل المذكور، لوضوح أن عدة الوفاة بائنة لا تبتني علي بقاء علقة الزوجية و ترتب أحكامها. علي أنه قدّس سرّه لم يمنع من تغسيل الرجل الأجنبية من وراء الثياب.

فالعمدة في الإشكال في الحمل المذكور أنه ليس حملا عرفيا، بل لا يبعد استهجان إطلاق النهي عن التغسيل بلحاظ التجريد عن الثياب حاله.

فلعل الأولي حمله علي التقية، لموافقته للمحكي في ظاهر الخلاف و غيره عن الثوري و أبي حنيفة و أبي يوسف و محمد. لكن الذي حكاه في التذكرة عنهم النهي عن تغسيله لها مع وجود امرأة تغسلها و جوازه مع عدمها من وراء الثياب.

و كيف كان، فلا مجال للتعويل علي الصحيح مع هجره عند الأصحاب و معارضته للنصوص الكثيرة المعول عليها عندهم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 13.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 11.

ص: 212

سواء أ كان مجرد أم من وراء الثياب (1)،

______________________________

(1) كما في التهذيب «1» و المعتبر و التذكرة في تغسيل الزوجة زوجها، بل هو ظاهرهم في تغسيل الزوج زوجته أيضا، كما هو صريح المدارك فيهما معا حاكيا له عن الكاتب و الجعفي و المرتضي في شرح الرسالة، كما حكاه غيره عن نهاية الأحكام و كشف الالتباس و مجمع البرهان و الكفاية.

و هو الظاهر ممن أطلق جواز التغسيل، كما في الخلاف و اللمعة و لا سيما مع التنبيه للغسل من وراء الثياب في غير الزوجين كما في إشارة السبق و الغنية و المراسم و القواعد، و في المقنع و ظاهر الفقيه أنه لا بأس أن ينظر كل منهما للآخر بعد الموت، و نحوه عن الجامع مستثنيا فيه العورة. و لعله لذا جعله الأشهر في الرياض.

و يدل عليه في تغسيل الزوجة زوجها- مضافا إلي إطلاق نصوص التغسيل بالتقريب المتقدم في الصبي و الصبية، و منها ما ورد في تغسيل الزوجة زوجها، خصوصا صحيح زرارة المتقدم، لأن التعليل فيه يناسب جواز التجريد و النظر حال التغسيل- صحيح الحلبي المتقدم، لأن التنبيه فيه علي كون تغسيل الزوج لزوجته من وراء الثياب مع نهيه عن النظر موجب لظهور السكوت فيه عن ذلك في تغسيل الزوجة له في عدم وجوبه فيه، بل هو كالصريح منه بملاحظة التنبيه علي الفرق بينهما في التعليل الذي تضمنه.

و قريب منه في ذلك صحيح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و فيه: «فإن كان زوجها معها غسلها من فوق الدرع و يسكب الماء عليها سكبا، و لا ينظر إلي عورتها، و تغسله امرأته إذا مات. و المرأة إذا ماتت ليست بمنزلة الرجل، المرأة أسوأ منظرا إذا

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 6، ص: 213

______________________________

(1) قال في التهذيب بعد ذكر أخبار تغسيل الزوج زوجته من وراء الثياب: (هذه الأخبار كلها دالة علي أنه ينبغي له أن يغسلها من فوق الثياب. و أما المرأة فإن الأولي أيضا أن تغسل الرجل من فوق الثياب … ) فإن التعبير في تغسيل المرأة للرجل بالأولي كالصريح في الاستحباب، و بلحاظ السياق يقرب حمل:

(ينبغي) في تغسيل الرجل للمرأة علي الاستحباب أيضا. لكن قد يوهن ذلك بأنه عبر بنظير العبارة المذكورة في الاستبصار ثم صرح في ذيل كلامه بالفرق بين الرجل و المرأة بوجوب كون تغسيله المرأة من فوق الثياب و استحباب تغسيلها له من فوقها. (منه عفي عنه)

ص: 213

______________________________

ماتت» «1»، و نحوه معتبر داود بن سرحان «2». لاشتمالهما علي التفصيل و التعليل بالنحو المشابه لصحيح الحلبي.

بل قد يدل عليه صحيح عبد اللّه بن سنان: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل أ يصلح له ان ينظر إلي امرأته حين تموت أو يغسلها إن لم يكن عندها من يغسلها و عن المرأة هل تنظر إلي مثل ذلك من زوجها حين يموت؟ فقال: لا بأس بذلك، إنما يفعل ذلك أهل المرأة كراهية أن ينظر زوجها إلي شي ء يكرهونه منها» «3»، فإن السؤال فيه و إن كان عن نظر الزوجة لزوجها، إلا أنه لا يبعد كون المراد به ما يعم تغسيلها له بقرينة سياقه في مساق السؤال عن نظر الزوج لزوجته و تغسيله لها، و حيث كان ظاهر الجواب جواز نظره لها حتي حال التغسيل المناسب لجواز التجريد- و إن منع منه أهلها لغرض لا يتعلق بالشارع- يجري ذلك في نظر الزوجة لزوجها.

بل لا يبعد استفادة جواز تغسيلها مجردا من جواز تغسيله لها مجردة بالأولوية و لو بلحاظ النصوص المتضمنة للتعليل بما تقدم، أو لعدم الفصل، لأن كل من قال بجواز تغسيله لها مجردة قال بجواز تغسيلها له مجردا، و لا عكس.

و أما في تغسيل الزوج زوجته فيدل علي جواز تجريدها- مضافا إلي إطلاق نصوص التغسيل بالتقريب المتقدم، و إلي صحيح عبد اللّه بن سنان المتقدم، كما سبق تقريبه- صحيح منصور بن حازم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يخرج في السفر و معه [يسافر مع. فقيه] امرأته أ يغسلها؟ قال: نعم و أمه و أخته و نحو هذا [و نحوهما.

فقيه] يلقي علي عورتها خرقة» «4»، فإن الاقتصار علي وضع الخرقة كالصريح في جواز التجريد من الثياب.

هذا، و أوجب كون غسل كل من الزوجين صاحبه من وراء الثياب في ظاهر أو صريح المبسوط و النهاية و السرائر و المنتهي و المختلف و الارشاد و الدروس و جامع المقاصد و الروض و محكي التلخيص و البيان و حواشي الشهيد الثاني، و عن الذكري أنه المشهور في الأخبار، و في السرائر أنه الأظهر عند أصحابنا، و في المختلف و محكي

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 12.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 1، 2.

ص: 214

______________________________

تخليص التلخيص أنه مذهب الأكثر، و في المسالك و الروضة أنه المشهور، و في الروض أنه المشهور في الأخبار و الفتوي.

و صرح في الاستبصار بالوجوب في تغسيل الزوج زوجته و بالاستحباب في تغسيل الزوجة زوجها، و إليه مال في كشف اللثام في الجملة.

و كيف كان، فيقتضيه في تغسيل الزوج زوجته ما تقدم من صحيحي الحلبي و الكناني و معتبر داود بن سرحان و صحيح محمد بن مسلم: «سألته عن الرجل يغسل امرأته؟ قال: نعم من وراء الثوب» «1»، و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سئل عن الرجل يموت و ليس عنده من يغسله إلا النساء. قال: تغسله امرأته أو ذو قرابته إن كان له و تصب النساء عليه الماء صبا. و في المرأة إذا ماتت يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها» «2»، و معتبره عنه عليه السّلام: «في المرأة إذا ماتت و ليس معها امرأة تغسلها. قال:

يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها إلي المرافق» «3»، و قريب منه موثق سماعة «4».

و أما في تغسيل الزوجة زوجها فيقتضيه موثق الحسن بن محمد الكندي عن غير واحد عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يموت و ليس عنده من يغسله إلا النساء. فقال تغسله امرأته أو ذات محرمه، و تصب عليه النساء الماء صبا من فوق الثياب» «5»، و خبر زيد الشحام: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن امرأة ماتت و هي في موضع ليس معهم امرأة غيرها. قال: إن لم يكن فيهم لها زوج و لا ذو رحم دفنوها بثيابها و لا يغسلونها، و إن كان فيهم زوجها أو ذو رحم لها فليغسلها من غير أن ينظر إلي عورتها. قال: و سألته عن رجل مات في السفر مع نساء ليس معهن رجل. فقال: إن لم يكن له فيهن امرأة فليدفن في ثيابه و لا يغسل، و إن كان له فيهن امرأة فليغسل في قميص من غير أن تنظر إلي عورته» «6».

لكن نصوص تغسيل الزوج زوجته و إن كانت معتبرة في نفسها كثيرة العدد إلا أنها محمولة علي الاستحباب، أو علي الإرشاد بلحاظ سوء منظر المرأة، أو بلحاظ تعارف عدم اطلاع الرجل عليها بعد الموت و لو لكراهة أهلها ذلك، كما تشير إلي

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(4) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(6) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

ص: 215

______________________________

ذلك النصوص المتقدمة و غيرها، كل ذلك بقرينة صحيحي عبد اللّه بن سنان و منصور بن حازم المتقدمين الظاهرين في جواز التجريد من الثياب.

إذ مع إمكان الجمع العرفي بذلك لا وجه للترجيح بالشهرة، كما قد يشعر به ما تقدم عن الذكري و من الروض. و ما في الروض و غيره من لزوم حمل المطلق علي المقيد إنما يتجه لو لم يكن المطلق أقوي ظهورا في الإطلاق من المقيد في الإلزام، لا في مثل المقام، حيث لا إشكال في أن حمل هذه النصوص علي ما ذكرنا أهون من حمل الصحيحين علي لزوم التغسيل من وراء الثياب، بل لعل حملهما علي ذلك متعذر عرفا.

و إنما يتجه ذلك بالإضافة إلي الإطلاقات الأخر التي أشرنا آنفا إلي الاستدلال بها، و هو غير مهم بعد كفاية الصحيحين في الاستدلال علي جواز التجريد من الثياب.

و منه يظهر الحال في خبري عبد الرحمن و زيد الشحام المستدل بهما لوجوب تغسيل الزوجة زوجها من وراء الثياب، حيث لا بد من حملهما علي الاستحباب أو نحوه، إذ لا مجال لرفع اليد بهما عن النصوص الكثيرة المتضمنة جواز تجريده من ثيابه.

و لا سيما مع قوة احتمال كون الأمر بصب الماء من فوق الثياب في خبر عبد الرحمن لتجنب نظر النساء له المفروض فيه قيامهن بصب الماء مقدمة للتغسيل الذي تقوم به المرأة أو ذات المحرم. و قوة ظهور خبر زيد الشحام في أن وضع الثوب لتجنب النظر للعورة لا لأجل وجوب ستر تمام الجسد، كما يؤكده الاقتصار في صدره علي عدم النظر لعورة المرأة عند التعرض لتغسيلها. علي أنه ضعيف السند بأبي جميلة.

و من ثم يشكل استفادة استحباب كون تغسيل الرجل من وراء الثياب عند استقلال زوجته به بحيث لا ينظر إليه غيرها. إلا أن يثبت استحباب ذلك في مطلق تغسيل الميت. و يأتي الكلام في المسألة الخامسة و العشرين إن شاء اللّه تعالي.

هذا، و قد قال في المنتهي في وجه وجوب تغسيل الزوجة زوجها بثيابه: «لئلا تنظر إلي شي ء من عوراته و قد انقطعت العصمة عنها».

و هو كما تري فإن انقطاع العصمة بالموت في الجملة لا ينافي جواز النظر إلحاقا لحال الموت بحال الحياة، كما دلت عليه النصوص الكثيرة المتقدمة و غيرها المصرح في بعضها بأن لثبوت العدة عليها دخل في ذلك، و مرجعه إلي بقاء شي ء من العصمة. و من

ص: 216

______________________________

هنا لا مخرج عن القول بجواز التجريد من الثياب في كل منهما. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

بقي في المقام أمور:
الأول: مقتضي إطلاق من ذهب لجواز التجريد من الثياب حال تغسيل أحد الزوجين للآخر عدم وجوب ستر العورة

و جواز نظر كل منهما لها من الآخر، كما هو مقتضي إطلاق ما تقدم من المقنع و الفقيه من جواز نظر كل منهما للآخر، و به صرح غير واحد في العصور القريبة.

لكن تقدم عن الجامع استثناء العورة. و يقتضيه فيهما معا خبر زيد الشحام المتقدم، و في تغسيل الزوج الزوجة ما تقدم من صحيحي الكناني و منصور بن حازم، و معتبر داود بن سرحان المشار إليه. و بها يخرج عن إطلاق صحيح عبد اللّه بن سنان المتقدم المتضمن جواز نظر كل منهما للآخر بعد الموت.

لكن حيث تقدم ضعف خبر زيد أشكل التعويل عليه في الخروج عن إطلاق صحيح ابن سنان في الزوج المعتضد بإطلاق صحيح الحلبي المتضمن للتعليل بأنها منه في عدة. و لا سيما مع قرب ظهور صحيح الكناني و معتبر داود بن سرحان في الفرق بينه و بين الزوجة بمقتضي النهي فيهما عن النظر لعورتها دونه، و لزم الاقتصار في حرمة النظر علي عورة الزوجة للنصوص الواردة فيها المشار إليها.

و دعوي: أن التعليل في صحيح الكناني و معتبر داود بن سرحان بأسوئية منظر المرأة يناسب الحمل علي الكراهة أو الإرشاد، و لا سيما بملاحظة التعليل في صحيح عبد اللّه بن سنان المتقدم بأن أهلها إنما يمنعونه كراهية أن ينظر إلي شي ء يكرهونه منها، و في صحيح محمد بن مسلم بأنهم إنما يمنعونه تعصبا «1». و أما صحيح منصور ابن حازم فمن القريب أن يكون الأمر فيه بإلقاء الخرقة علي العورة راجعا إلي الأم و الأخت، دون الزوجة.

مدفوعة: بأن الظاهر رجوع التعاليل المذكورة للتغسيل من وراء الثياب و التجنب عن النظر لتمام جسد الزوجة اللازم من التغسيل بدونه، و لبيان وجه منع

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

ص: 217

______________________________

أهلها من أصل التغسيل و النظر، فلا تنهض بالقرينية علي صرف النهي في الصحيحين عن النظر لخصوص العورة علي الكراهة.

كما أن رجوع الأمر بإلقاء الخرقة علي العورة في صحيح منصور إلي خصوص الأم و الأخت لا يناسب إفراد الضمير، و مستلزم لرجوعه للمتعلق المتوسط، و هو غير معهود، بل المعهود رجوعه للجميع أو لخصوص الأخير، و هو في المقام «و نحو هذا» أو «نحوهما»، و حيث يعلم بعدم رجوعه له، كما لا يناسبه تأنيث الضمير، يتعين رجوعه للكل، كما هو المناسب لسياقها في مساق واحد بعطف بعضها علي بعض عطف المفرد بنحو يظهر في كون ذكر الأم و من بعدها تبعا للزوجة المسؤول عنها، و إلحاقا بها، فلا يناسب اختصاصهن ببيان الكيفية دونها. بل قوله: «و نحو هذا» أو «و نحوهما» مشعر جدا باتحاد حكم الكل و أنها علي نهج واحد. و لذا اتجه الاستدلال به علي جواز تغسيل الزوجة مجردة من ثيابها.

و من هنا يكون مقتضي الجمع بين الأدلة الفرق بين الزوج و الزوجة. لو لا ظهور عدم القائل به و استبعاده في نفسه، لاشتراكهما في السبب المسوغ للنظر للعورة حال الحياة، و هو الزوجية، فمن البعيد جدا رافعية الموت له في أحدهما دون الآخر، و ذلك يناسب إلحاق الزوج بالزوجة في الحرمة إلغاء لخصوصية مورد النصوص المتقدمة، أو إلحاقها به في الجواز، و لو مع البناء علي الكراهة أو شدتها فيها. و لعل الأول أولي بلحاظ أن دليل حرمة النظر في الزوجة خاص، و دليل جوازه في الزوج الإطلاق، و إن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

الثاني: قال في جامع المقاصد: و لم أقف في كلام علي تعيين ما يعتبر في التغسيل من وراء الثياب.

«و الظاهر أن المراد ما يشمل جميع البدن. و حمل الثياب علي المعهودة يقتضي استثناء الوجه و الكفين و القدمين، فيجوز أن تكون مكشوفة».

و يشكل.. أولا: بأنه مع فرض أن حمل الثياب علي المعهودة يقتضي استثناء ما ذكر لا وجه لاستظهار أن المراد ما يشمل جميع البدن.

و ثانيا: بأن الثياب المعهودة في المرأة لم يتضح تعارف عدم سترها للوجه و الكفين و القدمين، و في الرجل يتعارف عدم سترها للرأس و الرقبة أيضا.

ص: 218

______________________________

و ثالثا: بأن بعض النصوص و إن تضمن الأمر بالتغسيل بالثياب، إلا أن جملة منها قد تضمنت التغسيل في القميص، كصحيح الحلبي و معتبرة و موثق سماعة التي تقدم الاستدلال بها في كيفية تغسيل الزوجة، و خبر زيد الشحام المتقدم في كيفية تغسيل الزوج- أو الدرع، الذي هو قميص المرأة- كصحيح الكناني و معتبر داود بن سرحان المتقدمين في كيفية تغسيل الزوج- و مقتضاها ظهور تمام الرأس و الرقبة، بل قسم من الزندين و الساقين، لغلبة قصر القميص و الكمّين، أو انكماشها، كما قد يناسبه قوله عليه السّلام في موثق سماعة: «يدخل زوجها يده تحت قميصها إلي المرافق» «1» و قريب منه معتبر الحلبي المتقدم في كيفية تغسيل الزوجة.

و عليه يحمل الثوب في صحيح الحلبي المتقدم في تغسيل أحد الزوجين للآخر و صحيح محمد بن مسلم المتقدم في كيفية تغسيل الزوجة و بها ترفع اليد عن ظهور الثياب في بعض النصوص في العموم الاستيعابي. و لا سيما و أن الثياب تختلف كما و كيفا باختلاف الأشخاص و الأوقات.

و شرطية تمام ما هو ملبوس حال الموت قليلا كان أم كثيرا يكاد يقطع بعدمها.

كيف و قد يتعذر معها العلم بوصول الماء لتمام البدن بالنحو المعتبر في الغسل. كما أن حملها علي ما يستر تمام البدن أو خصوص قسم منه يحتاج إلي قرينة. إلا أن يثبت تحريم النظر بدليل خارج، فلا يبعد صلوحه للقرينية علي حمل الثياب علي ما يستر تمام ما يحرم النظر إليه من البدن.

و من هنا فقد يستدل لحرمة النظر لتمام البدن بصحيح الحلبي المتقدم في الاستدلال علي تغسيل كل من الزوجين للآخر المتضمن النهي عن النظر إلي شعر الزوجة و إلي كل شي ء منها معللا بأنه ليس منها في عدة. لكن لا مجال للتعويل عليه في الخروج عن النصوص المقتصر فيها علي القميص المعتضدة بما في صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن امرأة توفيت أ يصلح لزوجها أن ينظر إلي وجهها و رأسها؟ قال: نعم» «2». بل لعل السيرة علي خلاف صحيح الحلبي، فلا بد من طرحه أو حمله علي الكراهة أو التقية. فلاحظ.

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 219

و سواء وجد المماثل أم لا (1).

الثالث: المناسبات الارتكازية تقضي بأن لزوم التغسيل في الثياب أو القميص-

______________________________

لو قيل به في المقام أو غيره- ليس لشرطيته فيه تعبدا، بل تجنبا للنظر المحرم فيدل علي حرمة النظر، و يتأدي الغرض منه بتجنب النظر مع التجريد و لازم ذلك عدم بطلان الغسل مع التجريد و إن استلزم النظر، لعدم الاخلال بشرطه و عدم اتحاده مع النظر، ليمتنع التقرب به. و مثله ستر العورة.

الرابع: قال في الروض: «و يختص اللمس بما جاز نظره من الأعضاء».

و هو لا يناسب التصريح بإدخال الزوج يده تحت قميص زوجته في صحيح الحلبي و معتبرة و موثق سماعة المتقدمة، إذ هو قوي الظهور في جواز اللمس. و هو المناسب لعدم التنبيه علي تجنب اللمس في بقية نصوص التغسيل من وراء الثياب، لما هو المعلوم من تعارف إدخال اليد تحتها عند التغسيل و عدم الاكتفاء فيه بصب الماء فوقها، فلو كان اللمس كالنظر للزم التنبيه إما علي عدم إدخال اليد تحت الثياب أو علي لف خرقة عليها عند إدخالها، كما نبه له في بعض نصوص تغسيل غير المماثل «1».

(1) كما هو ظاهر الخلاف و صريح المراسم و السرائر و المعتبر و التذكرة و المنتهي و المختلف و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و غيرها، و حكي عن الجعفي و أبي علي و السيد المرتضي في شرح الرسالة و الجمل، و في السرائر أنه الأظهر عند أصحابنا، و عن تخليص التلخيص أنه المشهور، و عن الذكري أنه المشهور في الصدر الأول، و عن كشف الالتباس أنه إليه ذهب المتأخرون، و نسب للأكثر في المختلف و محكي نهاية الأحكام، و في جامع المقاصد و الروض و محكي الكفاية أنه الأشهر، بل ظاهر الخلاف الإجماع عليه، كما هو صريح المنتهي و التذكرة في تغسيل الزوجة زوجها مع الاقتصار في تغسيل الزوج زوجته علي نسبته للأكثر.

و يقتضيه في تغسيل الزوج زوجته صحيح عبد اللّه بن سنان المتقدم المتضمن تعليل منع أهلها بكراهية أن ينظر زوجها إلي شي ء يكرهونه منها، و صحيح محمد

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

ص: 220

______________________________

ابن مسلم: «سألته عن الرجل يغسل امرأته؟ قال: نعم، إنما يمنعها أهلها تعصبا» «1»، فإن التعرض فيهما بعد الحكم بالجواز لتعليل منع الأهل بأمر يخصهم ظاهر في عدم منع الشارع في مورد منعهم، و حيث كان المتيقن من مورد منعهم حال الاختيار كانا ظاهرين جدا في عموم الجواز للحال المذكور، فلا يضر اختصاص مورد السؤال في الأول بحال الاضطرار و عدم وجود من يغسلها.

و خبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: الزوج أحق بامرأته حتي يضعها في قبرها» «2»، لظهوره بقرينة الغاية في أولويته بالمباشرة، لا في مجرد الولاية بإعمال نظره و لو بصدور الفعل من غيره. و حمل الأحقية علي خصوص حال الاضطرار و فقد المماثل بعيد جدا، فهو كالصحيحين السابقين قوي الظهور في عموم جواز التغسيل لحال الاختيار.

و أظهر منه في ذلك معتبر أبي بصير عنه عليه السّلام: «قلت له: المرأة تموت من أحق الناس بالصلاة عليها؟ قال: زوجها. قلت: الزوج أحق من الأب و الولد و الأخ؟

قال: نعم، و يغسلها» «3»، لوضوح أن عطف الغسل علي الصلاة يناسب مشاركته لها في عموم أولوية الزوج بها لحال الاختيار.

مضافا إلي إطلاق بعض النصوص الشامل لحال الاختيار، كصحيح محمد بن مسلم: «سألته عن الرجل يغسل امرأته؟ قال: نعم من وراء الثوب» «4»، و صحيح منصور بن حازم المتقدم المتضمن الاكتفاء بإلقاء خرقة علي عورتها، فإن السؤال فيه و إن تضمن فرض خروجها معه في السفر المناسب لخصوصية السفر في إحداث الداعي له لمباشرة التغسيل، إلا أن ذلك أعم من الاضطرار الشرعي، و صحيح الحلبي المتقدم المتضمن التفريق بين الزوج و الزوجة بالتغسيل من وراء الثياب فيها، معللا بأنها منه في عدة و ليس هو منها في عدة. و منه يعلم وجه الجواز اختيارا في تغسيل الزوجة، كما يدل عليه إطلاقات نصوص شرح تغسيل الميت.

خلافا للشيخ في التهذيبين فصرح باختصاص ذلك بحال فقد المماثل، و هو ظاهر إشارة السبق و الغنية، و قد يشعر به ما في النهاية.

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 221

______________________________

و يستدل لهم- مضافا إلي إطلاق أدلة اعتبار المماثلة- بمعتبر أبي حمزة- بناء علي ما تقدم في مبحث تحديد مساحة الكر من وثاقة محمد بن سنان- عن أبي جعفر عليه السّلام:

قال: لا يغسل الرجل المرأة إلا أن لا توجد امرأة» «1»، و معتبر أبي بصير- بناء علي ما تقدم في مكروهات حال الاحتضار من اعتبار رواية علي بن أبي حمزة البطائني-:

«قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يغسل الرجل امرأته في السفر و المرأة زوجها في السفر إذا لم يكن معهم رجل» «2».

و ما ورد في تعليل تغسيل أمير المؤمنين عليه السلام لسيدة النساء بأنها صديقة، كخبر مفضل بن عمر: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: من غسل فاطمة عليها السّلام قال: ذاك أمير المؤمنين. فكأنما استضقت [استفظعت] ذلك من قوله، فقال لي: كأنك ضقت مما أخبرتك به؟ فقلت: قد كان ذلك جعلت فداك. فقال: لا تضيقن، فإنها صديقة لم يكن يغسلها إلا صديق. أما علمت أن مريم لم يغسلها إلا عيسي» «3»، أو بأنها زوجته في الدنيا و الآخرة، كما روي في حديثه عليه السّلام مع ابن عباس «4». فإنه لو جاز اختيارا لم يحتج للتعليل بأحد الأمرين.

و فيه: أنه ليس لأدلة اعتبار المماثلة إطلاق ينفي جواز تغسيل أحد الزوجين الآخر اختيارا، بل هي واردة في خصوص الأجنبي، بقرينة تضمنها عدم تغسيل الميت و دفنه بثيابه، و من الظاهر أن ذلك إنما يكون في فرض عدم أحد الزوجين و المحارم، لعدم الإشكال في وجوبه عليهم عند فقد المماثل، و إنما قيل بعدم وجوبه عند فقده علي خصوص الأجنبي. فلاحظ ما تقدم من نصوصه. علي أن الإطلاق المذكور لو تم مقيد بما سبق من النصوص الدالة و لو بإطلاقها علي جواز تغسيل كل من الزوجين الآخر اختيارا، لأن إطلاق الخاص مقدم علي إطلاق العام.

و أما معتبر أبي حمزة فإن كان الاستدلال به باعتبار اختصاص الرجل و المرأة فيه بالزوجين فهو و إن كان محتملا بالنظر للاستعمال العرفي، إلا أن ظهوره فيه ممنوع،

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 14.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

(4) رواه عن البحار في الحدائق ج: 2 ص: 386 طبع النجف الأشرف.

ص: 222

______________________________

و لو تم فقد يجري فيه في الجملة ما يأتي في معتبر أبي بصير، و إن كان باعتبار عمومهما للزوجين كان أعم مطلقا من النصوص الأول الظاهرة في جواز تغسيل الزوج زوجته اختيارا، فيخصص بها، و أعم من وجه من النصوص المطلقة الواردة في الزوجين، و بعد تساقطهما يكون المرجع في تغسيل الزوج زوجته اختيارا إطلاق نصوص شرح تغسيل الميت.

كما أن الاستدلال بمعتبر أبي بصير لتوقف جواز التغسيل في كلا الزوجين علي فقد المماثل- كما هو المدعي- موقوف علي كون تقييد تغسيل الزوجة زوجها بفقد الرجل في ذيله قرينة علي تقييد تغسيل الزوج زوجته في صدره بفقد المرأة، و أنهما علي نهج واحد.

و لو تم ذلك فالمعتبر لا ينهض بمعارضة النصوص المتقدمة القوية الظهور في جواز تغسيل الزوج زوجته اختيارا، فضلا عن أن يتقدم عليها، بل يتعين تقديمها عليه بحمله علي الاستحباب، أو علي عدم سوق الشرطية فيه للمفهوم، بل لتنقيح مورد الحاجة لتغسيل أحد الزوجين للآخر- المقتصر عليها عرفا- لبيان عدم سقوط التغسيل بفقد المماثل.

و أما الاستدلال به لتوقف جواز تغسيل الزوجة زوجها علي فقد المماثل دون العكس فسيأتي الكلام فيه.

و أما تعليل تغسيل أمير المؤمنين عليه السّلام لسيدة النساء عليها السّلام بما تقدم فهو ليس بنحو يخرج به عما سبق، لإمكان الجمع بينهما بحمله علي العدول عن التعليل بالجواز الذاتي للتعليل بالجواز العرضي لنكتة خفيت علينا.

بل يقرب حمل التعليل في خبر المفضل علي كونه تعليلا لوقوع الفعل منه عليه السّلام لا لجوازه، و ان استفظاع السائل إنما هو لذلك بلحاظ عدم تعارفه، إما لمرجوحيته شرعا، أو لشدة تألمه عليه السّلام للمصيبة، فاستفظع إلزام الظروف القاسية له عليه السّلام بمباشرة ذلك.

و إلا فالنظر في النصوص و كلام فقهاء المسلمين يشهد بعدم كون التحريم من الوضوح بحدّ يوجب استفظاع ذلك منه عليه السّلام خصوصا من مثل المفضل الذي لا ريب عنده في عصمته عليه السّلام. علي أنه لا يخلو عن ضعف في السند.

ص: 223

______________________________

نعم، المناسب للتعليل بالوجه الثاني أن يكون تعليلا للجواز لا لمجرد المباشرة.

لكنه- مع ضعفه جدا، بل يقرب عدم روايته من طرقنا- مناسب لأن يكون استثناء لهما عليهما السّلام من التعليل في صحيح زرارة المتقدم لمنع تغسيل الزوج زوجته حتي عند فقد المماثل بأنه ليس منها في عدة الذي سبق عدم إمكان التعويل عليه في قبال النصوص الكثيرة المعول عليها عند الأصحاب.

بل الظاهر أن تغسيله عليه السّلام لها عليها السّلام لم يكن خفيا علي عامة المسلمين و فيهم أعداء اللّه الذين كانوا يتربصون به الدوائر و يبتغون عليه المآخذ، و من البعيد أن يكون الوجه فيه التعليل بأحد الوجهين الذي هو خفي علي العامة، بل المناسب كون الجواز و لو في ذلك العصر من الوضوح بحدّ لا يفتح معه عليه عليه السّلام باب التشنيع و التهريج. فلاحظ.

هذا، و المنسوب للشيخ قدّس سرّه في المبسوط هو القول بالمشهور، و هو الجواز اختيارا في الزوجين معا، لكن ظاهر كلامه لا يساعد عليه، بل علي التفصيل بين تغسيل الزوج زوجته، فيجوز مطلقا، لما ذكره من أنه أحق بها من كل أحد، و تغسيل الزوجة زوجها فالأحوط فيه الاقتصار علي فقد الرجال، لأنه ذكر أن الأحوط في تغسيل الرجل تقديم الرجال علي النساء المحارم، و صرح في بعض فقرات كلامه بأن المراد بالمحارم ما يعم الزوجة.

و التفصيل بذلك كما لم ينسب له لم ينسب لغيره، بل لم يشر إليه فيما عثرت عليه من كلماتهم، بل يظهر مما تقدم من التذكرة و المنتهي أن جواز تغسيل الزوجة زوجها اختيارا أظهر من جواز تغسيله لها كذلك، حيث ادعي فيهما اتفاق العلماء علي الأول و اقتصر علي نسبة الثاني للأكثر، و يناسبه النظر في الأسئلة و التعاليل الواردة في النصوص علي اختلافها، حيث يظهر أن الشبهة في تغسيل الزوج زوجته أظهر، كما هو المناسب لارتكاز أن تجنب اطلاع الرجال علي خفايا النساء و عوراتهن و تولي شئونهن أولي من تجنب اطلاع النساء علي خفايا الرجال و عوراتهم و تولي شئونهم.

و مع ذلك فلا يبعد كون التفصيل المذكور هو الأوفق بالجمع بين النصوص، لأن الدليل علي جواز تغسيل الزوجة زوجها اختيارا ليس إلا الإطلاقات، و منها إطلاق صحيح الحلبي. كما تقدم، و مقتضي الجمع بينها و بين معتبر أبي بصير حملها علي صورة

ص: 224

من دون فرق بين الحرة و الأمة (1)،

______________________________

فقد الرجل، لا رفع اليد عن ظهور المعتبر المذكور في الإلزام بحمله علي الاستحباب أو عدم سوق الشرطية للمفهوم، و إنما التزمنا بذلك في تغسيل الزوج زوجته لقوة ظهور جملة من نصوص في جوازه اختيارا، و لا نظير لها في تغسيل الزوجة زوجها.

نعم، لو تم ما تقدم احتماله من أن تقييد تغسيل المرأة زوجها في ذيل معتبر أبي بصير بفقد الرجل قرينة علي تقييد تغسيل الرجل زوجته في صدره بفقد المرأة لأنهما علي نهج واحد فالظاهر نهوض نصوص جواز تغسيل الزوج زوجته اختيارا برفع اليد عن كلا التقييدين فيه و حملهما معا علي الاستحباب أو عدم سوق الشرطية للمفهوم، لوحدة سياقهما، بل تفرع أحدهما علي الآخر.

لكنه ليس من الظهور بنحو ينهض في المقام بذلك، إذ لا أقل من صلوح نصوص جواز تغسيل الزوج زوجته اختيارا للتشكيك في كون تغسيل كل من الزوجين للآخر علي نهج واحد المانع من قرينية الذيل علي الصدر.

و إن كان يؤيده جدا ما سبق من الأصحاب و النصوص و المناسبة الارتكازية.

مضافا إلي ما أشرنا إليه آنفا عند الاستدلال لجواز التجريد من الثياب بصحيح عبد اللّه بن سنان من تقريب عموم السؤال فيه لتغسيل الزوجة زوجها، فيعم حال الاختيار كما عمه تغسيل الزوج زوجته بقرينة التعليل لأنهما في سياق واحد.

إلا أن الاكتفاء بذلك في القرينية علي مفاد النصوص المتقدمة و الخروج عما يقتضيه الجمع المتقدم بينها إشكال، لاحتمال خصوصية الزوج في جواز مباشرته تغسيلها اختيارا بلحاظ حقيته و ولايته عليها، و إن كان بعيدا. و من هنا كان الاحتياط المتقدم من المبسوط في محله جدا.

نعم، لو ثبت جواز تغسيل أم الولد سيدها اختيارا فالظاهر عدم الإشكال معه في جواز تغسيل الزوجة زوجها، لما هو المرتكز من ابتناء ذلك فيها علي إلحاقها بالزوجة. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

(1) كما صرح به في التذكرة و الذكري و جامع المقاصد و المسالك و الروض

ص: 225

و الدائمة و المنقطعة (1) و كذا المطلقة المرجعية (2) إذا كان الموت في أثناء العدة (3).

______________________________

و الروضة و غيرها. كما صرح في المنتهي و الذكري و جامع المقاصد و الروضة و المسالك و غيرها بعدم الفرق بين المدخول بها و غيرها. كل ذلك لإطلاق النص و الفتوي.

و انصراف بعض هذه، لتعارفه بدوي لا يمنع من التمسك بالإطلاق.

(1) كما في المسالك. لإطلاق النص و الفتوي. و استشكل في الجواهر في المنقطعة، خصوصا إذا انتهي الأجل بعد الموت قبل التغسيل. و كأنه لما تقدم منه في وجه الإشكال في عموم ولاية الزوج لها.

و قد تقدم في الفرع الأول من لواحق الكلام في ولاية الزوج علي الزوجة التعرض له و دفعه. بل لا يبعد كونه هنا أضعف. فراجع و تأمل.

(2) كما نبه لذلك في تغسيل الزوج زوجته أو تغسيل الزوجة زوجها أو تغسيل كل منهما الآخر في المعتبر و التذكرة و الذكري و جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك و محكي التحرير و نهاية الأحكام و الموجز و غيرها. لما اشتهر من أن المطلقة الرجعية بحكم الزوجة. و تنظر فيه في المنتهي. و لعله لعدم ثبوت ذلك عنده. و قد تقدم الكلام فيه في الفرع الرابع من لواحق الكلام في ولاية الزوج علي الزوجة. فراجع.

(3) و أما إذا كان بعد انقضائها فهي أجنبية بلا إشكال، كالمطلقة غير الرجعية حتي في العدة.

تتميم و فيه أمران:
الأول: قال في الذكري: «و لا عبرة بانقضاء عدة المرأة عندنا، بل لو نكحت جاز لها تغسيله، و إن كان الفرض بعيدا عندنا».

و ظاهر المعتبر المفروغية عنه، و به صرح غير واحد، و قد اهتموا في تقريب وقوعه خارجا، لاستبعاد بقاء الميت مدة العدة من دون تغسيل و دفن، لتفسخه عادة. و إن كان هو في عصرنا ميسورا بتعارف الاستعانة بالثلاجات الحافظة.

ص: 226

______________________________

هذا، و يظهر من كشف اللثام و الحدائق و مفتاح الكرامة المناقشة في ذلك، و نسب في الأخيرين للمدارك ففي الحدائق: «قال في المدارك: قال بعض المحققين:

و لا يقدح انقضاء عدة الزوجة في جواز التغسيل، بل يجوز و إن تزوجت. و فيه نظر، لصيرورتها و الحال هذه أجنبية. قال في الذكري: و لا عبرة بانقضاء عدة المرأة عندنا، بل لو نكحت جاز لها تغسيله، و إن كان الفرض بعيدا. و هو كذلك، أخذا بالإطلاق.

انتهي. أقول: لا يخفي أن ما ذكره في الذكري هو عين ما نقله عن بعض المحققين، فلا معني لتنظره في الأول و اختياره ما في الذكري. إلا أن يحمل ما نقله عن بعض المحققين علي عدة الطلاق، و كلام الذكري علي عدة الوفاة، حيث إن ظاهر كلامهم الفرق بين العدتين» «1».

و كيف كان، فالكلام.. تارة: في عدة الوفاة. و أخري: في عدة الطلاق.

أما عدة الوفاة فمقتضي الإطلاق جواز التغسيل حتي بعد انقضائها لأن المراد بالزوجية المسوغة لمباشرة التغسيل هي الزوجية حين الموت، لا حين التغسيل، لما هو المعلوم و تقدم غير مرة من ارتفاع الزوجية بالموت، و أن عدة الوفاة بائنة، فلا يلزم من بقائها بقاء الزوجية، كي يناط جواز التغسيل بها، و إذا كان المسوغ هو الزوجية حين الموت فمقتضي الإطلاق مسوغيتها و لو بعد انقضاء العدة. و قد تكرر منا أن الندرة لا توجب قصور الإطلاق عن موردها.

نعم، تضمن صحيحا زرارة و الحلبي المتقدمان في أول في مسوغية الزوجية للتغسيل تعليل تغسيل الزوجة زوجها بأنها منه في عدة، و ظاهر كشف اللثام و صريح الحدائق سوقهما دليلا لعدم جواز التغسيل بعد انقضاء العدة.

لكن صحيح الحلبي ظاهر في أن ذلك تعليل للتغسيل من وراء الثياب، لا لأصل التغسيل، و تقدم حمل صحيح زرارة عليه أو علي التقية أو طرحه، لما تضمنه

______________________________

(1) ما نقله عن المدارك لا يخلو عن اضطراب، لظهور ما تضمنه صدر كلامه في عدة الوفاة أيضا، لأنه نسب العدة للزوجة، لا للمطلقة. و لذا نسب له في مفتاح الكرامة الخلاف فيها. لكن لم يشر فيه لذيل كلام المدارك المتضمن لنقل كلام الذكري و تعقيبه. كما أن الموجود في المطبوع عندي من المدارك خصوص الذيل المذكور دون الصدر، بنحو قد يظهر في وجود سقط. و كذا في بعض النسخ المخطوطة و في بعض النسخ المطبوعة نقل بتمامه مع تقديم و تأخير. فلاحظه. (منه عفي عنه)

ص: 227

______________________________

صحيح الحلبي و غيره من النصوص الكثيرة من جواز تغسيل الزوج زوجته، مع عدم الإشكال في أنه ليس منها في عدة، و به صرح في الصحيحين المذكورين. فلا مخرج عن مقتضي الإطلاق.

و أما عدة الطلاق فمن المعلوم أن المراد بها الرجعية، و قد يدعي أنها و إن كانت بحكم الزوجة إلا أن اعتبار العدة مبني علي التحديد بأمدها، و ليس كاعتبار الزوجية من شأنه الاستمرار، ليكتفي في ترتب حكمها ثبوتها حين الموت، فانتهاء أمد العدة موجب لجريان حكم الأجنبية عليها، لعدم كونها زوجة حين الموت، ليترتب عليها حكم الزوجية بعده، و عدم كونها ذات عدة رجعية، لتكون بحكم الزوجة.

و يشكل بأن مبني جواز تغسيل المطلقة رجعيا لزوجها و تغسيله لها عموم كونها بحكم الزوجة لو تم، و حيث أشرنا آنفا إلي أن مسوغية الزوجية للتغسيل ليس بلحاظ بقائها بعد الموت، بل للاكتفاء بثبوتها حينه لزم الاكتفاء في مسوغية العدة الرجعية له بثبوتها حين الموت، و إن ارتفعت بعده، عملا بعموم التنزيل المذكور، فانقضاء العدة كانقضاء مدة النكاح المنقطع الذي تقدم بقاء جواز التغسيل بعده. هذا كله بناء علي مسوغية العدة الرجعية للتغسيل، و إلا فلا موضوع لهذا الكلام، كما لا يخفي.

الثاني: قال في التذكرة: «لو كانت الزوجة كافرة لم يكن لها غسل زوجها، إلا مع عدم المحارم»

و نحوه في المنتهي، و زاد أنه ليس له أن يغسلها، لأن المسلم لا يغسل الكافر.

و الوجه في الأول: أن دليل تغسيل الزوجة زوجها ناظر لصحة التغسيل من حيثية عدم المماثلة، لا من جميع الجهات، فلا ينافي بطلانه من حيثية الكفر، لقصور الفعل معه من حيثية النية أو انفعال الماء، بناء علي نجاسة الكافر.

نعم، في فرض عدم مانعية الكفر، لعدم المماثل و الرحم المسلم لا يبعد جواز تغسيلها له، لأنه و إن خرج عن مورد النصوص الواردة في تغسيل الزوجة زوجها المحمولة علي فرض إسلامها، بقرينة كونها في رتبة سابقة علي الأرحام، إلا أن المستفاد منها عرفا عدم اعتبار المماثلة في الزوجين مطلقا.

و مثل ذلك يجري في الرحم غير المماثل الكافر. كما أن الكلام في كونها في عرض

ص: 228

(الثالثة): المحارم (1)

______________________________

المماثل الكافر أو في رتبة متأخرة عنه يبتني علي ما تقدم في الزوجة المسلمة، و الكلام في الرحم الكافر يبتني علي ما يأتي في الرحم المسلم.

و أما الثاني فالوجه فيه: أن دليل تغسيل الزوج زوجته ناظر لتصحيح الغسل في فرض مشروعيته، لا مطلقا، ليدل علي صحة تغسيل الزوجة الكافرة علي خلاف ما تضمنته عمومات عدم مشروعية تجهيز الكافر.

الثالثة: المحارم

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب في الجملة و لو مع فقد المسلم المماثل و الزوجة، و استظهر في كشف اللثام عدم الخلاف فيه، و في مفتاح الكرامة: «لم أجد فيه مخالفا» و في التذكرة: «ذهب إليه علماؤنا» و في الرياض: «بلا خلاف في الجملة» و في الجواهر: «بلا خلاف أجده في الجملة، بل هو إجماعي».

نعم، قد يظهر من عدم ذكره في الإرشاد التوقف فيه، بل هو الظاهر من الاقتصار علي نسبته للرواية في إشارة السبق.

و النصوص به مستفيضة تقدم بعضها في الزوجين، و يأتي بعضها. و بها يخرج عن إطلاق ما تضمن اعتبار المماثلة، أو الاقتصار في جواز تغسيل غير المماثل علي الزوجين، كصحيح الكناني المتقدم عند الكلام في تغسيل أحد الزوجين الآخر أو غيره.

نعم، في خبر زيد الشحام: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن امرأة ماتت و هي في موضع ليس معهم امرأة غيرها. قال: إن لم يكن فيهم لها زوج و لا ذو رحم دفنوها بثيابها و لا يغسلونها، و إن كان فيهم زوجها أو ذو رحم لها فليغسلها من غير أن ينظر عورتها. قال: و سألته عن رجل مات في السفر مع نساء ليس معهن رجل. فقال: إن لم يكن له فيهن امرأة فليدفن في ثيابه و لا يغسل، و إن كان له فيهن امرأة فليغسل في قميص من غير أن تنظر إلي عورته» «1». فإن الاقتصار في ذيله علي الزوجة في تغسيل الرجل مع التعميم في صدره للزوج و الرحم في تغسيل المرأة ظاهر في عدم تغسيل المحارم للرجل.

لكن لا مجال للخروج به عن النصوص الكثيرة الصريحة في تغسيل الأقارب

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

ص: 229

______________________________

و المحارم للرجل، بل لا بد من رفع اليد عن ظهور ذيله المذكور، و لو بحمل المرأة علي ما يعم المحرم، و يكون هو الوجه في العدول عن التعبير بالزوجة المناسب للتعبير بالزوج في صدره إلي التعبير بها، أو بالاكتفاء بالتعميم في الصدر عن التعميم في الذيل للمفروغية عن كون اعتبار المماثلة في الرجل و المرأة بنحو واحد، بل أولوية التعميم في الرجل منه في المرأة، أو برفع اليد عن ظهور الذيل في الحصر و إن كان قويا. علي أنه قد ذكرنا في بعض مواضع هذا الشرح أن قول الراوي في أثناء الحديث: «و سألته» يقرب معه عدم وحدة الكلام، فلا يكون صدره قرينة علي ذيله، بل يكون الذيل كسائر المطلقات التي يلزم تقييدها. مضافا إلي أن الخبر لا يخلو عن ضعف في السند أشرنا إليه آنفا.

هذا، و قد اختلفت النصوص الواردة في المقام في عنوان موضوع الحكم فقد أخذ عنوان المحرمية في أكثرها، كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سأله عن المرأة تموت في السفر و ليس معها ذو محرم و لا نساء. قال: تدفن كما هي بثيابها. و عن الرجل يموت و ليس معه إلا النساء ليس معهن [ذو محرم و لا] رجال. قال: يدفن كما هو بثيابه» «1»، و نحوه في ذلك صحيح داود بن فرقد «2»، و موثق سماعة «3» و غيرهما من النصوص الكثيرة.

و أخذ في بعضها عنوان الرحمية و القرابة كخبر زيد الشحام المتقدم و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سئل عن الرجل يموت و ليس عنده من يغسله إلا النساء. قال: تغسله امرأته أو ذات قرابته إن كانت له، و يصب النساء عليه الماء صبا» «4»، و من الظاهر أن بين العنوانين عموما من وجه، لأن القرابة و الرحم قد لا يكون محرما، كابني العم و الخال و ابنتيهما، و المحرم قد لا يكون رحما كالمحرم الرضاعي، بل لا يبعد ذلك أيضا في محرم المصاهرة.

لكن لا يظهر من الأصحاب التوجه لهذا الاختلاف و الاهتمام به، فإن عباراتهم و إن اختلفت، حيث عبّر.. تارة: بالمحرم، كما في السرائر و المراسم و المعتبر و المختلف.

______________________________

(1) الوسائل باب: 21 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 21 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

(4) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 230

______________________________

و أخري: بالرحم و القرابة، كما في الخلاف و الغنية و القواعد «و ثالثة»: بالرحم المحرم، كما في المبسوط و التذكرة و المنتهي، إلا أنه لم يشر أحد منهم للخلاف المذكور في النصوص و الفتاوي، بنحو يظهر منهم عدم الخلاف من هذه الجهة، و أن مراد الكل أمر واحد، كما يناسبه تعبير بعضهم بالأمرين في فقرات كلماتهم المختلفة، كما في النهاية و الوسيلة، و تعبير من عبر بالرحم المحرم في بيان موضوع الجواز بالرحم في بعض الفروع المناسبة له.

و ملاحظة مجموع كلماتهم تشهد بأن مراد الكل هو المحرم، حيث حدده غير واحد بمن يحرم نكاحه مصرحا بعضهم بأن الرحم الذي يحل نكاحه كالأجنبي، و استدل بعضهم علي الحكم بجواز النظر، إلي غير ذلك مما لا إشكال بملاحظته في إرادتهم المحرم، بل استدل غير واحد بالحديثين المتقدمين لذلك من دون تنبيه إلي ما ذكرنا.

و ذلك و إن لم يكف في تفسير عنواني الرحم و القرابة في الحديثين المذكورين، حيث لا يكفي فهم الأصحاب في الخروج عن المفهوم اللغوي و العرفي، إلا أن الظاهر كفاية النصوص الأخر المستفيضة المتضمنة للمحرم في إثبات ما عليه الأصحاب و تنزيل الحديثين عليه من باب الجمع العرفي، لصراحة جملة منها في جواز التغسيل له، و صراحة جملة منها أيضا في عدم جواز التغسيل لغيره، فتصلح الطائفة الأولي لرفع اليد عن ظهور الحديثين في الحصر، لأن ظهورها في الجواز مطلقا أقوي من ظهورها فيه، كما تصلح الطائفة الثانية لتقييد القرابة و الرحم فيهما بالمحرم، لأنه أقرب عرفا من تقييد الطائفة المذكورة بغير القرابة.

كل ذلك تبعا للمرتكزات العرفية و المتشرعية علي أن منشأ الحكم المذكور هو جواز النظر و اللمس المشترك بين الزوجين و المحرم، بل بلحاظ ذلك قد يكون سوق القرابة و الرحم في مساق الزوجين في الحديثين المتقدمين مناسبا للتقييد المذكور، بنحو يكون أقرب من تقييد غير المحرم في الطائفة المذكورة بما إذا لم يكن رحما.

معتضدا بما عرفت من ظهور حال الأصحاب في أن الموضوع هو المحرم، بل الظاهر عدم الإشكال بينهم في أن الرحم غير المحرم كالأجنبي، علي ما صرح به بعضهم، حيث لا يبعد ابتناؤه علي ما ذكرناه من ارتكازية الجمع المذكور.

ص: 231

بنسب أو رضاع أو مصاهرة (1).

______________________________

و لعله عليه يبتني ما تقدم من استدلال بعضهم بالحديثين علي حكم المحرم، لا علي تفسير الرحم و القرابة فيهما به، فإنه بعيد جدا. و من هنا يلزم متابعة الأصحاب في كون موضوع الحكم هو المحرم.

هذا، و في صحيح عبد اللّه بن سنان: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا مات الرجل غسلته امرأته، و إن لم تكن امرأته معه غسلته أولاهن به، و تلف علي يديها خرقة» «1». و الظاهر عدم إرادة الأولي بالميراث، لإمكان كون الوارث غير النساء المصاحبات للميت، بل الأولوية العرفية المستندة للنسب و غيره من جهات القرب و العلاقة عند العرف، فهو أعم من القرابة فضلا عن المحرم.

و حينئذ يدور الأمر بين تقييده بالمحرم بلحاظ ما سبق- نظير ما تقدم في حديثي زيد و الحلبي- مع حمل لف الخرقة علي الاستحباب، و يكون مما نحن فيه، و حمله علي غيره مع إبقاء ظهوره في وجوب لف الخرقة علي حاله، و يكون في عداد ما يأتي في الرجل الذي يموت بين نساء أجانب.

و لعل الأول أولي، لأن حمل النساء المصاحبات للرجل علي خصوص غير محارمه بعيد جدا، خصوصا مع فرض وجود الأولي به فيهن، بل هو كالحمل علي الفرد النادر، أما حمل لف الخرقة علي الاستحباب فليس بذلك البعيد. و لعله لذا استدل به غير واحد علي حكم المحارم من دون تأمل في دلالته. فلاحظ.

(1) كما صرح بالتعميم للنسب و الرضاع في المعتبر و التذكرة و غيرهما، و بالتعميم لهما و للمصاهرة في الدروس و المسالك و الروضة و المدارك، و في الرياض و الجواهر في معقد الإجماع و نفي الخلاف المتقدم منهما، و هو مقتضي إطلاق غير واحد ممن عبر بالمحرم.

نعم، عبر بعضهم- كالشيخ في المبسوط بالرحم المحرم، و هو قد يظهر في عدم التعميم للرضاع و المصاهرة، و إن لم يبعد عدم إرادة الحصر بالرحم، و أن المدار

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

ص: 232

و الأحوط وجوبا اعتبار فقد المماثل (1)،

______________________________

علي المحرمية، نظير ما في التذكرة، حيث قال: «و للرجل أن يغسل من ذوي أرحامه محارمه … يعني بالمحارم من لا يجوز للرجل نكاح واحدة منهن نسبا أو رضاعا …

ذهب إليه علماؤنا».

و كيف كان، فالتعميم مقتضي إطلاق النصوص المتضمنة لعنوان المحرم الصادق علي الكل، و التي عرفت أن المعول عليها في المقام، و أن غيرها مما تضمن عناوين أخر منزل عليها.

(1) حيث اعتبره في المعتبر و التذكرة و اللمعة و الدروس و ظاهر المراسم و الوسيلة و القواعد، بل الغنية، و جعله في المبسوط الأحوط في الرجل و الأولي في المرأة.

و نسبه في كشف اللثام لظاهر الأكثر، و في الجواهر أنه ظاهر المشهور أو صريحه، و في الحدائق و طهارة شيخنا الأعظم و محكي الكفاية أنه المشهور، بل ظاهر الحبل المتين الإجماع عليه.

و قد استدل له بصحيح عبد اللّه بن سنان: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

إذا مات الرجل مع النساء غسلته امرأته، و إن لم تكن امرأته معه غسلته أولاهن به … » «1»، بناء علي ما تقدم من حمل أولاهن به فيه علي المحارم، حيث يلزم من تأخرها رتبة عن الزوجة تأخرها عن المماثل الذي هو في رتبة الزوجة أو مقدم عليها علي الكلام السابق، و لذا قيل بعدم الفصل بين تأخره عن الزوجة و تأخره عن المماثل.

و به يخرج عما دل بإطلاقه علي مساواة المحرم للزوجة و التخيير بينهما، كقوله عليه السّلام في صحيح الحلبي المتقدم «تغسله امرأته أو ذات قرابته إن كانت» و في حديث عبد الرحمن المتقدم في تغسيل الزوجة زوجها: «تغسله امرأته أو ذات محرمة» «2».

و لا سيما مع قرب كون تقدم الزوجة علي المحرم ارتكازيا عرفيا، حيث يضعف فيهما إطلاقه المقتضي للتخيير بينهما.

كما يستدل عليه أيضا بإطلاق معتبر أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: لا

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

(2) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

ص: 233

______________________________

يغسل الرجل المرأة الا أن لا توجد امرأة» «1». فإن الخروج عنه في الزوجين لما تقدم لا يقتضي الخروج عنه في المحرم، بل يتعين حمله عليه حينئذ، بناء علي عدم وجوب تغسيل الأجنبي حتي عند فقد المماثل، لئلا يبقي بلا مورد، و هو أولي عرفا من حمله علي الاستحباب مع إبقائه علي عمومه للزوجين. فلاحظ.

ثم إنه قد استدل سيدنا الأعظم قدّس سرّه بإطلاق أدلة اعتبار المماثلة.

و يشكل بأنه لا دليل علي الإطلاق المذكور إلّا النصوص المتضمنة عدم تغسيل الرجل الذي يموت مع النساء و المرأة التي تموت مع الرجال، و لا بد من تنزيلها علي فرض عدم المحرم و الزوج، كما تضمنته جملة من النصوص، لما هو المعلوم من أنه مع وجوده لا يسقط التغسيل، بل يجب و لو لكونه فردا اضطراريا. فالعمدة الحديثان المتقدمان.

هذا، و قد صرح في السرائر بجواز تغسيل المحرم اختيارا، و وافقه عليه في المنتهي و المختلف و المدارك و كشف اللثام، و محكي التلخيص و الكفاية و الذخيرة، و هو مقتضي إطلاق النافع، و في السرائر أنه الأظهر عند أصحابنا، و ظاهر المختلف نسبته لأكثر علمائنا.

و استدل له بإطلاق صحيح منصور بن حازم: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يخرج في السفر و معه امرأته [يسافر مع امرأته] أ يغسلها؟ قال: نعم و أمه و اخته و نحو هذا [و نحوهما] يلقي علي عورتها خرقة» «2» معتضدا بإطلاقات تغسيل الميت، و مؤيدا باقترانه بالزوجة في بعض النصوص، و مع ظهور بعضها في كونه في عرضها، كحديثي الحلبي و عبد الرحمن المتقدمين.

و أورد عليه بأن فرض السفر فيه ظاهر في فرض الاضطرار و عدم المماثل.

و يظهر اندفاعه مما تقدم عند الاستدلال به في الزوجين من أن فرض السفر و إن كان مناسبا لخصوصيته في أحداث الداعي لمباشرة الزوج التغسيل، إلا أنه أعم من الاضطرار الشرعي.

نعم، لا إشكال في أن ذلك موجب لضعف إطلاقه و سهولة تقييده بالحديثين المتقدم الاستدلال بهما لاعتبار فقد المماثل. و مثله في ذلك إطلاقات تغسيل الميت،

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 10، 1، 2.

(2) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 10، 1، 2.

ص: 234

______________________________

فتقيد بالحديثين المذكورين. و ليس اقتران المحرم بالزوجة في بعض النصوص صالحا لرفع اليد عنهما. و لا سيما مع عدم وضوح عموم مشروعية تغسيل الزوجة زوجها لحال الاضطرار، كما تقدم. و حديثا الحلبي و عبد الرحمن قد عرفت تنزيلهما علي الترتيب، جمعا مع صحيح عبد اللّه بن سنان.

ثم إن بعض مشايخنا (دامت بركاته) قد استشكل في الاستدلال بإطلاقات شرح تغسيل الميت بأنها مقيدة بارتكاز المتشرعة علي اعتبار المماثلة، و لذا وردت الأسئلة في النصوص الكثيرة عن حكم موت الرجل بين النساء، و المرأة بين الرجال، فلولا المفروغية بمقتضي المرتكزات عن اعتبار المماثلة لم يكن وجه للأسئلة المذكورة.

لكنه كما تري؛ لأن منشأ الأسئلة المذكورة لو لم يكن هو تعارف مباشرة المماثل بالنحو المثير للشك في جواز تغسيل غيره، بل هو ما ادعاه من ارتكاز لزوم المماثلة- كما هو غير بعيد، و أشرنا إليه في أول الكلام في اعتبار المماثلة- إلّا أن الارتكاز المذكور ليس بالنحو الذي يمنع من انعقاد إطلاقات التغسيل، بحيث لا يرجع إليها في مورد الشك، بل هو أنما يقتضي اعتبار المماثلة في الجملة و لو لتجنب محذور النظر و اللمس المحرمين من دون أن تكون شرطا في صحة الغسل، أو مع شرطيتها في خصوص مورد حرمة النظر و اللمس، و حيث يقصر ذلك عن المحرم لم يمنع من التمسك بإطلاقات التغسيل فيه، و لعله لذا فرض في بعض نصوص السؤال عن فقد المماثل فقد المحرم أيضا، بل و أحد الزوجين أيضا، المناسب لمفروغية السائل عن عدم اعتبار المماثلة فيهم في الجملة.

و من هنا لا ينبغي التوقف في نهوض الإطلاقات في نفسها بإثبات جواز تغسيل المحرم اختيارا. و لذا تمسك (دامت بركاته) بالإطلاقات المذكورة في الصبي و الصبية، مدعيا أن مقتضاها جواز التغسيل ما لم يحرم النظر و اللمس. فالعمدة ما ذكرنا من لزوم رفع اليد عنها بالحديثين المتقدمين.

نعم، بناء علي عدم ابتناء لزوم المماثلة علي شرطيتها في التغسيل، بل علي مزاحمة وجوب التغسيل لحرمة النظر و اللمس كما تقدم من شيخنا الاستاذ قدّس سرّه و يقتضيه بعض استدلالاتهم في المقام، يتعين جواز تغسيل المحرم اختيارا، كما جزم به قدّس سرّه

ص: 235

و كونه من وراء الثياب (1).

______________________________

لكن تقدم ضعفه.

(1) كما في المبسوط- في الرجل- و النهاية و الوسيلة و السرائر و المعتبر و النافع و الشرائع و القواعد و التذكرة و المنتهي و المختلف و اللمعة و الدروس و غيرها. و في كشف اللثام و الحدائق و عن الكفاية أنه المشهور، و في الرياض و مفتاح الكرامة أن عليه الشهرة العظيمة، و عن الذخيرة نسبته للأصحاب، و في الحبل المتين أنهم قطعوا به.

و يقتضيه جملة من النصوص ففي موثقة عمار في الرجل: «تغسله عمته و خالته في قميصه» و في المرأة: «غير أنه يكون عليها درع، فيصب الماء فوق الدرع» «1». و في موثق سماعة في الرجل: «تغسله امرأة ذات محرم منه، و تصب النساء عليه الماء و لا تخلع ثوبه». و في المرأة: «و إن كان معها ذو محرم لها غسلها من فوق ثيابها» «2» و قريب منهما غيرهما. و بها يخرج عما أطلق فيه تغسيل المحرم من دون تنبيه إلي كونه من وراء الثياب.

نعم، قد يشكل الاستدلال بما تضمن الأمر بتغسيل المحرم من فوق الثياب في سياق الزوجين كقوله عليه السّلام في حديث عبد الرحمن: «تغسله امرأته أو ذات محرمه و تصب النساء عليه الماء صبا من فوق الثياب» «3» لأن رفع اليد عن ظهوره في الإلزام في الزوجين قد يمنع من التعويل علي ظهوره فيه في المحرم.

و اضعف منه ما في المعتبر من الاستدلال بان المرأة عورة، فيحرم النظر إليها، و إنما جاز مع الضرورة من وراء الثياب جمعا بين التطهير و الستر. لوضوح اندفاعه بعدم حرمة نظر المحرم للمرأة و لا للرجل إن كان كلامه يعمه تبعا، و إلا كان استدلاله غير مستوف للمدعي. فالعمدة النصوص الأول.

لكن لا مجال للتعويل عليها في قبال صحيح منصور «4» الصريح في الاكتفاء بوضع الخرقة علي العورة، و قريب منه خبر زيد الشحام «5» المتقدم أيضا المقتصر في صدره علي تجنب النظر للعورة في تغسيل المرأة، و معتبر زيد بن علي- الذي يظهر وجه اعتباره مما تقدم في نظيره في السند من أخبار الاستقبال بالمحتضر- و فيه: «و إذا

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

(3) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

ص: 236

(الرابعة): المولي، فإنه يجوز له تغسيل أمته (1)

______________________________

كان معه نساء ذات محرم يؤزرنه و يصببن عليه الماء صبا و يمسسن جسده و لا يمسسن فرجه» «1»، بناء علي أن المراد به لفّ المئزر- كما هو غير بعيد- لا التغطية بالازار.

فإن مقتضي الجمع بينهما و بين النصوص الأول حمل النصوص الأول علي الاستحباب، مع جواز التجريد، كما هو ظاهر إطلاق الغنية و المراسم و محكي الكافي و الاصباح، و صريح المدارك و محكي الكفاية، بل قد يظهر من محكي الذكري، حيث علل التغسيل من وراء الثياب بالمحافظة علي العورة، و إليه مال غير واحد من متأخري المتأخرين.

ثم إن ما تقدم في صحيح ابن سنان «2» من لفّ المحرم علي يدها خرقة عند تغسيل الرجل أما أن يحمل علي خصوص حال غسل الفرج أو علي الاستحباب، جمعا مع معتبر زيد المتقدم المصرح فيه بأنهن يمسسن جسده دون فرجه. كما أن ما تقدم منا في فروع تغسيل الميت بثيابه في الزوجين جار هنا.

نعم، لا إشكال ظاهرا في عدم جواز نظر المحرم للعورة حتي بناء علي جواز تغسيله مجردا، و هو مقتضي صحيح منصور بن حازم و معتبر زيد و خبر زيد الشحام من نصوص المقام.

الرابعة: المولي
اشارة

(1) قطعا، كما في جامع المقاصد و المدارك و عن محكي حاشية الجمال. و به صرح في التذكرة و المنتهي و القواعد و الروض و الروضة و محكي البيان و الذكري و غيرها.

و نسب في الحدائق للمشهور و في مفتاح الكرامة للأكثر، بل عن مجمع البرهان الظاهر أنه لا خلاف فيه، و عن محكي حاشية الجمال أنه مقطوع به في كلام الأصحاب.

و استدل له بإطلاقات أدلة تغسيل الميت. و يشكل بأنها مقيدة بإطلاقات أدلة اعتبار المماثلة الواردة في موت المرأة بين رجال لا نساء معهم «3».

و أضعف من ذلك الاستدلال بالأصل، إذ لو أريد به أصل البراءة من شرطية

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 6. و قد تقدم منا في أول الكلام في تغسيل المحارم.

(3) الوسائل باب: 20، 21، 22 من أبواب غسل الميت.

ص: 237

______________________________

المماثلة حتي بالإضافة إلي المالك فقد ذكرنا غير مرة أن المرجع مع الشك في شرط الغسل الاشتغال للشك في المحصل.

و إن أريد به أصالة البراءة من حرمة النظر و اللمس أو استصحاب حلهما من حال الحياة، أشكل بما سبق من أن مرجع لزوم المماثلة ليس هو تجنب النظر و اللمس المحرم، بل شرطيته تعبدا في الغسل و لو مع عدم استلزامه لهما. غاية ما قد يدعي ملازمة حرمة النظر و اللمس في مورد لاشتراط المماثلة فيه، فيبتني التمسك بالأصل المقتضي لجوازهما في المملوكة لإثبات جواز تغسيلها علي الأصل المثبت. علي أن الأصل- كيفما قرر- محكوم لاطلاقات أدلة اعتبار المماثلة المشار إليها.

و أما ما في المستند من أنها من المحارم، لأن المراد بذات المحرم المحرم في حال الحياة كما في الزوجة، و لا أقل من احتماله، فلا يعلم خروجها من العمومات. فهو كما تري، لوضوح أن المراد بالمحرم من يحرم نكاحها مؤبدا بنسب أو رضاع أو مصاهرة- كما صرح به غير واحد مرسلين له إرسال المسلمات- لا من يحل النظر إليها، و لذا جعل في النصوص و الفتاوي في مقابل الزوجة، و إطلاقه في بعض عباراتهم علي الزوجة توسع قطعا، بلحاظ مشاركتها لها في جواز النظر الذي هو الخاصية المهمة في المقام.

و لو فرض الشك في ذلك فلا مجال للرجوع لاطلاقات تغسيل الميت المقتضية للجواز بعد تخصيصها بأدلة اعتبار المماثلة، بل المرجع إطلاق الأدلة المذكورة بعد فرض إجمال دليل تخصيصها بالمحرم و الشك في شموله للمملوكة. و مثله ما ذكره غير واحد من أنها في معني الزوجة في اللمس و النظر و الاستمتاع. لوضوح عدم نهوض مثل ذلك بإثبات حكم شرعي بل هو أشبه بالقياس.

و من هنا قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «فالعمدة ما تقدم مما يؤذن بالإجماع لو تم»، و ذكر في الجواهر أن دعوي القطع ممن لا يعمل بالظنيات يجري مجري الإجماع. لكن لم يتضح مما تقدم ثبوت إجماع تعبدي صالح لإثبات حكم شرعي، لقرب ابتناء كلام من ذهب إلي ذلك من المتقدمين علي بعض الوجوه المتقدمة خصوصا الأخير لتخيل تنقيح

ص: 238

______________________________

مناط حكم الزوجة به، لا علي أخذهم له من تسالم متصل بعصور المعصومين عليهم السّلام أو نحوه مما يكشف عن الحكم الشرعي المودع عندهم، و جري من بعدهم عليه للوجوه المتقدمة، أو لتخيل انعقاد الإجماع عليه.

و من هنا كان الأوفق بالأدلة المنع، كما يظهر من بعض مشايخنا.

لكن الإنصاف أن من البعيد جدا جواز تغسيل الزوجات و المحارم بأقسامهن، دون الأمة، لأنها و إن كانت خارجة عن كلا العنوانين، كما لا دليل علي إلحاقها بأحدهما بخصوصه، إلّا أنها واجدة للجهة المشتركة بينهما، و هي جواز النظر حال الحياة الذي هو المنشأ ارتكازا لجواز التغسيل في القسمين، كما يناسبه النظر في جملة من نصوص المنع عن تغسيل الأجنبي، لظهورها في الاهتمام بتجنب النظر و اللمس المحرمين، حيث تضمنت الأمر بالدفن بالثياب، و النهي عن كشف المحاسن التي أمر اللّه بسترها و عن اللمس و نحو ذلك.

و إلا فمن البعيد جدا دخل خصوصية كل من القسمين في جواز تغسيله، و هما فعلية النكاح في الزوجة، و حرمته مؤبدا في المحرم، لعدم دخلهما ارتكازا و عدم التناسب بينهما، بل بينهما أشد التنافر ارتكازا.

بل قد تستفاد موضوعية الجهة المذكورة- و هي جواز النظر- للحكم من قوله عليه السّلام في صحيح منصور المتقدم بعد السؤال عن تغسيل الزوجة: «نعم، و أمه و أخته و نحو هذا [و نحوهما]» «1»، فان التعميم لنحو المذكورات من دون تنبيه لجهة الشبه التي هي موضوع الحكم ظاهر في التعويل في تشخيصها علي ارتكازيتها، و ليست تلك الجهة في المقام هي المحرمية، لعدم وضوح خصوصيتها بعد فرض ثبوت الحكم للزوجة أيضا مع الأم و الأخت، و إشعار الكلام بساقه في مشاعتهما للزوجة و مسانخة الكل في موضوع الحكم، حيث يستفاد منه عرفا أن الموضوع هو الجهة المشتركة بين الكل، و هي جواز النظر حال الحياة، و هو حاصل في الأمة.

و من القريب أن يكون وضوح الحكم في الأمة و ارتكازيته بسبب ما ذكرنا

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 1، 2.

ص: 239

إذا لم تكن مزوجة (1)

______________________________

هو المنشأ لظهور تسالم من تعرض من الأصحاب للحكم، عليه، و الوجوه المتقدمة في كلماتهم لما كانت لتقريب مقتضي الارتكاز غفلوا عن وهنها و جهات الإشكال فيها. و من هنا كان جواز تغسيل المولي أمته قريبا جدا. و ان كان الأمر غير خال عن الإشكال. فلا يترك الاحتياط بتجنب ذلك اختيارا، و الاقتصار علي حال الضرورة، و فقد المماثل و الزوج و المحرم.

بل لزوم فقد المماثل و الزوج هو اللازم حتي بناء علي تمامية ما ذكرنا، لما سبق من اختصاص تغسيل المحرم بحال الضرورة و أن الزوج ينفرد عنه بجواز تغسيل زوجته اختيارا، و إلحاق الأمة بالزوجة و إن كان أقرب من إلحاقها بالمحرم، لابتناء جواز النظر إليها علي جواز الاستمتاع بها إلّا أن في بلوغه حدّ الاستدلال إشكال، كما تقدم، فيتعين الاقتصار علي المشترك بينهما، و هو جواز التغسيل حال الضرورة. فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

ثم إنه و إن لم أعثر علي من خص جواز تغسيل المولي أمته بأم الولد، إلّا أنه قد يحتمل بلحاظ ما يأتي في وجه خصوصيتها عند الكلام في تغسيل الأمة مولاها، بل قد يظهر من الدروس ذلك، لأنه اقتصر علي قوله: «و أم الولد كالزوجة». و يظهر الحال فيه ما يأتي هناك.

(1) كما في التذكرة و القواعد و الروض و الروضة و غيرها، و يقتضيه ما في جامع المقاصد من اعتبار جواز الوطء في جواز التغسيل، كما يناسبه ما في المنتهي من الاستدلال عليه بأنها منكوحة و له الاطلاع علي عوراتها. و هو متجه بناء علي أن دليل الحكم ذلك، أو الإجماع المقتصر فيه علي المتيقن.

أما بناء علي ما ذكرناه من قرب كون مبناه جواز النظر إليها فلا مجال لاستثنائها.

و لعله لذا أطلق في المدارك، بل عن مجمع البرهان.

الظاهر أنه لا خلاف في جواز تغسيل المولي أمته مطلقا. إلّا أن يريد بالإطلاق ما يقابل التقييد بأم الولد. و منه يظهر الحال فيمن كانت أختها موطوءة، بناء علي حرمة وطئها و حل النظر إليها. و لذا استثناها في جامع المقاصد من جواز تغسيل الأمة مولاها.

ص: 240

و لا في عدة غير (1) و لا محللة (2) و لا مبعضة (3) و لا مكاتبة (5).

______________________________

(1) كما في التذكرة و الروض و عن نهاية الأحكام و كشف الالتباس، مدعيا فيه أنه المشهور، و يقتضيه ما تقدم من جامع المقاصد، كما يناسبه ما تقدم من المنتهي.

و يظهر الوجه فيه مما تقدم في المزوجة.

(2) لم أعثر عاجلا علي من صرح به. نعم يستفاد مما تقدم من جامع المقاصد، كما يناسبه ما في المنتهي بناء علي تحريم وطئها بمجرد التحليل، اما بناء علي توقفه علي وطء المحللة له، فيكون هو الداخل في كلامهما. و يعرف الوجه فيه مما تقدم في المزوجة.

هذا، و قد يدعي أن عدم جواز تغسيل مولي الأمة المحللة لها يستلزم جواز تغسيل المحللة له إياها، سواء كان مبني الحكم جواز الاستمتاع أم جواز النظر. بل علي الثاني يجوز تغسيله لها بمجرد تحليل النظر له و إن لم يحلل له الوطء.

و يشكل بعدم وضوح كون حلّ الوطء أو النظر بالوجه المذكور غير المبني علي الاستحقاق كافيا في الدخول تحت المسوغ المتقدم. أما لو كان مبني الحكم الإجماع فقصوره عن ذلك ظاهر جدا.

(3) كما في التذكرة و محكي الذكري و يقتضيه ما تقدم من جامع المقاصد، كما يناسبه ما تقدم من المنتهي، بناء علي عدم جواز وطئها مطلقا حتي في بعض الوقت بالمهاياة، بل مطلقا بناء علي أن مرادهما من جواز الوطء الجواز المطلق المستقر المبني علي الاستحقاق، لا المختص ببعض الوقت أو غير المبني علي الاستحقاق.

و لعله المتيقن من استدلالهم بإلحاقها بالزوجة، كما هو المتيقن من الإجماع المدعي. و كذا بناء علي ما ذكرناه من قرب ابتناء الحكم علي جواز النظر، إذ المتيقن منه الجواز المطلق المستحق، دون المختص بزمن خاص بالمهاياة. و إن كان اللازم أو الأولي مراعاة الاحتياط. و منه يظهر الكلام في المشتركة. فتأمل جيدا.

(4) كما في التذكرة و الروض و الروضة و محكي الذكري و ظاهر جامع المقاصد، مع التصريح في بعضها بعدم الفرق بين المشروطة و المطلقة لحرمة الوطء بنفس الكتابة.

ص: 241

و أما تغسيل الأمة لمولاها فجوازه محل إشكال (1)

______________________________

و يظهر الكلام فيها مما تقدم في المزوجة.

هذا، و قد صرح في التذكرة و محكي الذكري بجواز تغسيلها إذا كانت مظاهرة أو مولي منها. و تنظر فيه في الروض. و كذا في الزوجة. لكنه في الزوجة خلاف الإطلاق. و حرمة الوطء لطارئ لا يوجب قصوره كما في المحرمة. و كذا في الأمة لو كان الوجه إلحاقها بالزوجة. و أظهر من ذلك ما لو كان الوجه جواز النظر.

نعم، قد يتجه لو كان الوجه فيها الإجماع، حيث قد يدعي قصور المتيقن منه عنهما، و إن كان بعيدا.

و أما تغسيل الأمة لمولاها فجوازه محل إشكال

(1) قال في القواعد: «و ملك اليمين كالزوجة»، و مقتضي إطلاقه جواز تغسيلها لمولاها مطلقا أم ولد كانت أم غيرها، كما ذهب إليه في الجواهر و المستند و محكي البيان و مجمع البرهان، و إن حكي عنه احتمال المنع في غير أم الولد.

و هو متجه بناء علي الاستدلال في الفرع السابق بإطلاقات أدلة التغسيل أو الأصل، لدعوي انصراف إطلاق أدلة اعتبار المماثلة عن السيد و أمته. و كذا بناء علي ما تقدم من المستند من دخولها في المحرم، و علي ما تقدم منا من تقريب أن المعيار جواز النظر، بناء علي ما يأتي من بقاء جواز النظر بعد الموت.

و مثل ذلك ما تقدم من غير واحد من إلحاقها بالزوجة لجواز الاستمتاع بها، لأن المراد به كونها كذلك إلي حين الموت، و هو حاصل في المقام.

لكن خصّ غير واحد الجواز بأم الولد، إما مع التوقف في غيرها، كما في التذكرة و المنتهي و محكي التحرير و نهاية الأحكام و الذكري، أو مع البناء علي عدم الجواز، كما في المعتبر و جامع المقاصد و الروض و الروضة، و قد تقدم عند الكلام في تغسيل المولي أمته من الدروس الاقتصار علي تنزيل أم الولد منزلة الزوجة بل منع في المدارك من تغسيل الأمة مولاها مطلقا و إن كانت أم ولد، و إليه مال في الحدائق، و توقف في محكي الكفاية.

و قد وجه المنع مطلقا في المدارك بخروجها عن ملكه، فحرم عليها النظر إليه،

ص: 242

______________________________

و يشكل بعدم وضوح حرمة نظرها إليه بخروجها عن ملكه بالموت، لقصور إطلاق دليل حرمة النظر عن حال الموت، بل البناء في سائر الموارد علي إلحاقه بحال الحياة المقتضي لجواز النظر في المقام، كما هو ظاهرهم. بل لا يبعد كونه مقتضي السيرة، لما هو المعلوم من شيوع الابتلاء بمعاشرة الإماء مواليهن و مباشرتهم و الاطلاع علي خفاياهم إلي آخر لحظات حياتهم، و مع ذلك يبعد تجنبهن لهم بمجرد موتهم، للغفلة عنه، و احتياجه لعناية لو كانت لظهرت و بانت.

و أشكل من ذلك ما في المعتبر من الاستدلال بذلك لعدم جواز تغسيل غير أم الولد للمولي مع الاستدلال لجواز تغسيل أم الولد له ببقاء علقة الملك بوجوب العدة و الكفن و المئونة.

للإشكال فيه: بأنه إن بني علي حرمة نظر الأمة لمولاها بموته بسبب خروجها عن ملكه لم يفرق في ذلك بين أم الولد و غيرها. و بقاء العلقة بوجوب العدة- مع عدم وضوح اختصاصه بأم الولد، بل قيل بجريانه في مطلق المملوكة- لم يتضح دخله في جواز النظر، و لا في جواز التغسيل. و صحيحا زرارة و الحلبي «1» المتقدمان في الزوجين قد سبق لزوم الخروج عن ظاهرهما.

و مثله بقاء العلقة بوجوب الكفن و المئونة. علي أنه يجري في مطلق المملوكة عند موتها و بقاء سيدها، دون العكس الذي هو محل الكلام.

و مثله في الإشكال ما في جامع المقاصد و الروضة من الاستدلال لعدم جواز تغسيل غير أم الولد سيدها بخروجها عن الملك. إذ لو أريد به مانعية الخروج من الملك بلحاظ حرمة النظر جري فيه ما تقدم.

و لو أريد به مانعيته بنفسه مع قطع النظر عن حل النظر و حرمته أشكل بأنه لم يتضح من الأدلة دخل الملكية بنفسها في التحليل، ليلزم التحريم بدونها، و لذا لا إشكال ظاهرا في عدم جواز تغسيل المرأة لمملوكها لمجرد ملكيتها له. و كذا ما في التذكرة و المنتهي و جامع المقاصد و الروض من أنها قد انتقلت إلي الوارث لوضوح أنه لا مانع من تغسيل مملوك غير الميت له، غاية ما قد يدعي لزوم استئذان مالكه، علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 13، 14.

ص: 243

______________________________

إشكال فيه بلحاظ عموم الوجوب الكفائي له.

و أشكل من الكل ما في التذكرة و المنتهي من أنه ليس بينهما من الاستمتاع ما تصير به في حكم الزوجة. لوضوح أنه- مع عدم جريان ذلك في الموطوءة غير أم الولد- لا يراد من الاستمتاع في الزوجة فعليته، بل جوازه، و هو جار في مطلق الإماء غير المستثنيات المتقدمة.

و من هنا كانت كلماتهم في التفريق بين تغسيل المولي لأمته و تغسيلها له في غاية الإشكال، كالإشكال في جملة من وجوه الفرق بين تغسيل أم الولد للمولي و تغسيل غيرها من إمائه له.

نعم، قد استدل غير واحد لجواز تغسيل أم الولد لمولاها بموثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه: «ان علي بن الحسين عليه السّلام اوصي أن تغسله أم ولد له إذا مات، فغسلته» «1». و لا مجال للإشكال في سنده- كما يظهر من غير واحد- بعد رواية الشيخ قدّس سرّه له بسنده الصحيح عن محمد بن أحمد بن يحيي الذي هو من الأعيان عن الحسن بن موسي الخشاب الذي هو من رجال كامل الزيارة، و قال فيه النجاشي:

«من وجوه اصحابنا مشهور كثير العلم و الحديث»، عن غياث بن كلوب الذي عده الشيخ في العدة من ثقات العامة الذين عملت الطائفة بأخبارهم عن إسحاق بن عمار المنصوص علي وثاقته.

فالعمدة الإشكال في متنه بمنافاته لما تضمنته جملة من النصوص من أن الإمام لا يغسله إلّا إمام «2»، بنحو يظهر من بعضها معروفية ذلك بين الشيعة. و مثله خبر مفضل المتقدم المتضمن تعليل تغسيل أمير المؤمنين عليه السّلام سيدة النساء عليها السّلام بأنها صديقة لا يغسلها إلّا صديق «3».

بل ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه منافاته أيضا لما ورد في تغسيل الإمام الباقر عليه السّلام لأبيه عليه السّلام، و إن لم أعثر عاجلا عليه. إلّا أن يريد به ما يأتي من الرضوي و مرسل الدعائم. و احتمال كون المراد من الصديق معني حاصل في أم ولد زين العابدين عليه السّلام

______________________________

(1) الوسائل باب: 25 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) تراجع النصوص المذكورة في الكافي ج: 1 ص: 384 الطبعة الجديدة. و رجال الكشي ص 394.

(3) الوسائل باب: 24 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

ص: 244

______________________________

- كما قد يظهر من الفقيه الهمداني قدّس سرّه- غريب جدا.

و دعوي: إمكان الجمع بين الموثق و النصوص المذكورة بحمل الموثق علي المصلحة في نفس الوصية، كتجنب حضور بعض الأشخاص أو مشاركتهم، و هو لا يمنع من الاستدلال بالوصية، لظهورها في المفروغية عن جواز تغسيل أم الولد لسيدها.

مدفوعة: بأن ذلك مخالف لقوله عليه السّلام في الموثق «فغسلته» مع أن المفروغية بالنحو الذي يجنب الغير و لو لشيوع مذهب بعض العامة لا تستلزم ثبوت الحكم واقعا ليكفي في الاستدلال بعد فرض تعذر الأخذ بظاهر الوصية.

و مثلها دعوي: حملة علي الإعانة في بعض الغسل، كما قد يؤيد بالرضوي:

«و نروي أن علي بن الحسين عليهما السّلام لما مات قال الباقر عليه السّلام: لقد كنت أكره أن أنظر إلي عورتك في حياتك، فما أنا بالذي أنظر إليها بعد موتك. فأدخل يده و غسل جسده، ثم دعا أم ولد له فغسلت مرأته [فغسلت مراقه «1». فغسلت عورته. بحار. و غسلت عورة مرأته. الرضوي] و كذلك فعلت أنا بأبي». «2» و نحوه مرسل الدعائم «3».

لاندفاعها بقوة ظهور الموثق في قيامها بتمام الغسل، و ظهور تلك النصوص في لزوم قيام الإمام بتمام غسل الإمام الذي لا يستلزم النظر للعورة و لا مسها، و ظهور الرضوي و مرسل الدعائم في أن اشراك أم الولد لرأي مبتدأ للإمام الذي يقوم بالتغسيل، من دون وصية من أبيه.

______________________________

(1) و المراق: بفتح الميم و تشديد القاف أسفل من البطن فما تحته من المواضع التي رق جلودها. واحدها مرقّ. و في النهاية: و لا واحد له، و ميمه زائدة. و منه حديث الغسل: أنه بدأ بيمينه يغسلها ثم غسل مراقه بشماله. و منه: انه اطلي حتي بلغ المراق ولي هو ذلك بنفسه. مجمع البحرين الطبعة الجديدة.

و البحار كتاب الإمامة. باب: 2، من أبواب ما يتعلق بوفاته من أحوالهم عليهم السّلام عند ذلك و قبله و بعده و أحوال من بعدهم ج: 27 ص: 288. الطبعة الجديدة و يؤيده ما ورد في وفاة الإمام الكاظم عليه السّلام [البحار باب: 9 من أبواب تاريخه عليه السّلام ج: 48 ص: 225. الطبعة الجديدة] و الإمام الرضا عليه السّلام [البحار باب: 21 من أبواب تاريخه عليه السّلام ج: 49 ص: 293 و ما بعدها الطبعة الجديدة] لأن ما تضمنه من تولي تغسيلهما من قبل الإمام القائم بعدهما مع ما فيه من العناية يناسب الاهتمام بالكبري المذكورة.

بل قد يناسبه ما ورد في تغسيل أمير المؤمنين عليه السّلام لسلمان الذي قد يكون عن بلوغه درجة تلحقه بالأوصياء عليهم السّلام. (منه عفي عنه)

(2) مستدرك الوسائل: باب: 22 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل: باب: 22 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 245

و إن كان الأحوط وجوبا مع الانحصار تغسيلها إياه (1).

(مسألة 18): إذا اشتبه ميت بين الذكر و الأنثي (2) غسله كل من

______________________________

فالجمع المذكور غير عرفي و لا شاهد عليه. و ليس هو بأقرب من حمل الموثق و الرضوي و مرسل الدعائم علي غسل العورة للتنظيف الذي هو من مقدمات الغسل و يحتاج للتعمق و المبالغة في المس، و المناسب قيام أم الولد و نحوها به. فيخرج عما نحن فيه. علي أن جواز غسل أم الولد للعورة الذي هو بعض الغسل لا يستلزم جواز قيامها بتمامه الذي هو محل الكلام. و عدم الفصل بالنحو المتمم للاستدلال بالموثق غير ثابت.

و من هنا يشكل التعويل عليه في إثبات الفرق بين أم الولد و غيرها. نعم لو نهض بالاستدلال لم يبعد نهوضه بإثبات جواز تغسيل المولي لأم ولده لو فرض عدم نهوض ما تقدم منا بإثباته، فيكون وجها لما تقدم من الدروس. فلاحظ. و اللّه سبحانه العالم.

مسألة 18: إذا اشتبه ميت بين الذكر و الأنثي
اشارة

(1) مما تقدم في تغسيل المولي أمته يتضح أن ذلك هو اللازم حتي بناء علي تمامية ما ذكرناه في وجه سقوط اعتبار المماثلة بين المولي و أمته. نعم لو تم الاستدلال بموثق إسحاق بن عمار اتجه الجواز اختيارا أيضا. و كذا بقية الوجوه المذكورة في كلماتهم فلاحظها.

(2) حرروا الكلام في هذا الفرع في الخنثي المشكل. و ألحق به في جامع المقاصد غيره ممن اشتبه حاله، و في الروض العضو المشتبه. و الكل من باب واحد، كما في الجواهر.

و الظاهر أن مورد كلامهم من يعتبر في تغسيله المماثلة لو علم حاله، دون من لم يتجاوز الثلاث سنين، كما نبه له في التذكرة و جامع المقاصد و الروض و محكي الذكري و البيان و غيرها. كما أنه لو كانت له أمة فعن أبي علي انها تغسله. و هو جيد بناء علي جواز تغسيل الأمة مولاها اختيارا، كما نبه له في كشف اللثام و غيره، أما بناء علي عدمه فهي كالمحارم التي يأتي الكلام فيها.

ثم إن المحكي عنه أنه اقتصر في بيان حكم الخنثي علي ذلك. و من الظاهر أنه قد لا تكون للخنثي أمة. و احتمال أنه يجب حينئذ شراء أمة من تركته- كما عن بعض

ص: 246

الذكر و الأنثي (1)

______________________________

الشافعية، بل ربما يحكي عنه أيضا- كما تري، إذ- مع أنه قد يتعذر ذلك- المتيقن من أدلة تغسيل الأمة مولاها- لو تمت- المملوكة له إلي حين موته، دون المشتراة من تركته التي هي خارجة عن ملكه. و مجرد خروج مؤنة التجهيز من التركة لا يقتضي ملكيته للأمة المشتراة بها، و لا دخولها في الأدلة المتقدمة.

(1) لزوما، عملا بمقتضي العلم الإجمالي، بناء علي ما سبق من أن مرجع الوجوب الكفائي تكليف كل شخص بالماهية الحاصلة بفعله أو فعل غيره، و أنه بذلك يكون غير المماثل مكلفا بتحصيل التغسيل من المماثل، فإن لازم ذلك في المقام هو علم كل أحد من أفراد كل من الصنفين إجمالا بوجوب تغسيل الخنثي و نحوه إما بمباشرة صنفه أو بمباشرة الصنف الآخر، فلا يحرز الخروج عن عهدة التكليف الكفائي إلّا بتحقق التغسيل من كلا الصنفين.

نعم، بناء علي أن مرجع التكليف الكفائي تكليف كل شخص بفعله بالمباشرة مع القدرة و إن كان يسقط عنه بفعل غيره يتعين في المقام اختصاص التكليف بتغسيل كل صنف بأفراد صنفه، فمع تردد الميت بين الصنفين لا يعلم أفراد كل منهما بتكليفه بتغسيله، و مقتضي الأصل في حقه البراءة.

و كأنه إلي هذا نظر في الجواهر، حيث قال: «فلعل الأحوط تكرير الغسل مرتين من كل من الرجال و النساء. و إن كان لا يلزمون بذلك، لأصالة براءة ذمة كل منهما..

فهما كواجدي المني في الثوب المشترك» و وافقه شيخنا الاستاذ قدّس سرّه. و قد يرجع إليه ما في كشف الغطاء من الفتوي أولا بأنه يدفن من غير غسل، و ان قال بعد ذلك:

«و للقول بعدم اعتبار المماثلة هنا وجه».

لكن تحقق في محله ضعف المبني المذكور. بل من البعيد جدا التزامهما بلوازمه في المقام التي منها أن لا يكلف العاجز عن الاستقلال بمباشرة التغسيل و تهيئة مقدماته بالسعي لتحصيله بفعل الغير أو باعانته و لو باعلامه أو تهيئة المقدمات له. علي أنه لو فرض تمامية المبني المذكور أمكن في المقام فرض العلم الإجمالي في حق كل أحد إما بحرمة نظره و مسه للميت أو بوجوب تغسيله له، فيجب إحراز الخروج عنه بالجمع

ص: 247

______________________________

بين الأمرين إلّا أن يسقط الغسل عنه بقيام شخص من صنفه به، كما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه إلّا أن يفرض خروج أحد الطرفين عن الابتلاء في حق شخص، فلا يكون العلم منجزا في حقه، و إن كان منجزا في حق غيره.

هذا، و قد صرح غير واحد بوجوب تغسيل المحرم له من الرجال و النساء، كما في التذكرة و المنتهي و القواعد و الإرشاد و الدروس و جامع المقاصد و الروض و محكي الذكري و البيان و غيرها. و هو متجه بناء علي جواز تغسيل المحرم غير المماثل اختيارا، كما تقدم من المنتهي.

و أما بناء علي الاقتصار فيه علي الاضطرار- كما تقدم من غير واحد من هؤلاء- فقد وجهه بالضرورة في جامع المقاصد و محكي الذكري و البيان. و وجه في الأول الضرورة بعدم الوقوف علي مماثل، كما وجه الحكم بذلك في الروض. و يشكل بأن عدم الوقوف علي مماثل الذي تتحقق به الضرورة و الذي هو المسوغ لتغسيل المحرم هو عدم وجوده، لا عدم معرفته مع وجوده، كما في المقام، فلا ضرورة في المقام بعد إمكان تغسيل كل من الصنفين.

لكن قال الفقيه الهمداني قدّس سرّه: «العبرة بحسب الظاهر إنما هو بالاضطرار إلي حصول الغسل من غير المماثل، لا عدم إمكان حصوله من المماثل في الواقع، و معلوم أن الضرورة متحققة في فعل من يغسله و لو عند إرادة الاحتياط، فيصح غسله و لو علي تقدير عدم المماثلة. فليتأمل». ثم أيده بما يأتي منه في تقريب سقوط اعتبار المماثلة و عدم وجوب الاحتياط و لو عند فقد المماثل.

و هو كما تري! أولا: لان دليل اعتبار الضرورة في جواز تغسيل المحرم ليس إلّا ما تقدم من صحيح عبد اللّه بن سنان «1» المتضمن اعتبار فقد الزوجة في تغسيل المحرم و معتبر أبي حمزة «2» المتضمن عدم تغسيل الرجل المرأة إلّا عند عدم المرأة، و مقتضاهما اعتبار فقد الزوجة و المماثل الراجع لتعذر الغسل منهما، لا مجرد الاضطرار لتغسيل غير المماثل، كما ذكره قدّس سرّه.

و ثانيا: لأن الاضطرار لتغسيل غير المماثل في المقام لما لم يكن خارجيا لتعذر

______________________________

(1) الوسائل باب 20 من ابواب غسل الميت حديث 6.

(2) الوسائل باب 20 من ابواب غسل الميت حديث 10.

ص: 248

______________________________

المماثل- كما في مفروض النص- بل لأجل لزوم الاحتياط فهو متفرع علي فرض اعتبار المماثلة و وجوب التكرار لإحرازها فكيف يكون موجبا لسقوط الاحتياط و الاكتفاء بتغسيل المحرم و إن لم يكن مماثلا.

نعم، لو لم يكن موضوع الاكتفاء بتغسيل المحرم الاضطرار الفعلي لتغسيل غير المماثل، بل الاضطرار المعلق علي عدم الاكتفاء بتغسيل المحرم اتجه تحققه في المقام و سقوطه بتغسيل المحرم، حيث يصدق أن الخنثي لو لم يكتف بتغسيل المحرم له لاضطر لتغسيل غير المماثل له احتياطا لإحراز تغسيل المماثل. لكن النص لا يناسب ذلك، لوضوح أن المحرم الذي تضمن النص تغسيله للميت لما لم يكن مماثلا فقيامه بالتغسيل من أفراد تغسيل غير المماثل المضطر إليه، لا دافعا له، فموضوع تغسيل غير المحرم الاضطرار الفعلي لتغسيل غير المماثل.

و ثالثا: لأن لزوم الاحتياط بالجمع بين تغسيلي الصنفين لا يقتضي الاضطرار لتغسيل غير المماثل، لوضوح أن الميت لا يغسل مرتين حقيقة، بل صورة، و ليس تغسيله الحقيقي إلّا ما يقع من المماثل الواقعي، و كل من الصنفين إنما يأتي بصورة التغسيل برجاء أن يكون تغسيلا حقيقيا، لكونه هو المماثل.

و من هنا كان ما ذكره قدّس سرّه في غاية الإشكال. و يزيده إشكالا ما التزم به من اختصاص التكليف بالتغسيل بالمحرم، و أن غيره و إن أجزأ تغسيله بالاحتياط بالتكرار غير مكلف بذلك ظاهرا، لعدم علم كل من الصنفين بتكليفه بالتغسيل بعد عدم إحراز كونه مماثلا.

إذ فيه: أنه يبتني علي أن كلا الصنفين في المقام نظير واجدي المني في الثوب المشترك الذي استشكل هو قدّس سرّه فيه عند الكلام في فرض فقد المحرم بنظير ما تقدم منا في تعقيب ما سبق من الجواهر. علي أن مقتضي دليل وجوب تغسيل المحرم عند الاضطرار عدم صحة التغسيل من غيره، فإن بني علي شموله لزم عدم صحة تغسيل غير المحرم حتي بالتكرار، و إلا لم يكن وجه للاكتفاء بتغسيل غير المحرم حتي مع التكرار. فتأمل جيدا.

ثم إنه بناء علي وجوب تغسيل المحرم للخنثي لو فقد المحرم أو تعذر تغسيله

ص: 249

______________________________

ففي التذكرة و جامع المقاصد انه يدفن بغير غسل، و في المنتهي أن الأقرب جواز صب الماء عليه للرجل و المرأة.

و الأول متجه بناء علي أن عدم معرفة المماثل في حكم تعذره- الذي عرفت أنه مبني تقديم المحرم- حيث كان المعروف بينهم سقوط الغسل مع تعذر المماثل و المحرم و نحو من المستثنيات.

و أما الثاني: فيشكل بأنه إن كان عدم معرفة المماثل في حكم تعذره لزم سقوط الغسل، كما التزم هو قدّس سرّه به في صورة تعذر المماثل، و استشكل في الاكتفاء بصب الماء من فوق الثياب قال: «و صب الماء عليه من غير عصر الثوب غير مطهر فلا اعتداد به». و إن لم يكن في حكم تعذره- كما عرفت أنه التحقيق- لزم الجمع بين تغسيلي الرجل و المرأة، عملا بالعلم الإجمالي، كما ذكرناه في صورة وجود المحرم.

لكن قال في الجواهر: «اللهم إلّا أن يستند في ذلك إلي عموم ما دل علي وجوب غسل كل ميت، مع تنزيل اشتراط المماثلة علي معلومية حال الميت. لكن قضية ذلك عدم الالتزام بتقديم المحارم مع وجودهم.

نعم، لعل ذلك أولي و أقرب للاحتياط، و ربما يحمل عليه كلام من سمعت من الأصحاب، و إن بعد ذلك جدا في كلام بعضهم. و هو الذي يقوي في نفسي».

و ما ذكره قدّس سرّه من أن مقتضي الأصل عدم اعتبار كون التغسيل من وراء الثياب سوف يأتي الكلام فيه.

كما أن ما ذكره من أن مقتضي تنزيل اشتراط المماثلة علي معلومية حال الميت عدم تقديم المحارم و إن كان أولي و أحوط متين جدا، و إن كان تنزيل كلماتهم علي مجرد أولوية تقديم المحرم بعيد جدا، خصوصا ممن علل بالضرورة، لا سيما من حكم بسقوط التغسيل مع فقد المحرم، كما تقدم من التذكرة و جامع المقاصد. فهو اختيار له لا مجال لحمل كلام الأصحاب عليه، و قد سبقه إليه في كشف الغطاء فيما تقدم من كلامه. و هو عدول منه قدّس سرّه عما ذكره آنفا من عدم وجوب التغسيل علي كل من الرجال و النساء، و خروج عن إطلاق أدلة اعتبار المماثلة، مثل ما تضمن أن الرجل لا يغسل المرأة إلّا أن لا تكون امرأة، و أن المرأة إذا ماتت بين الرجال لا يغسلها إلّا

ص: 250

______________________________

زوجها أو محرمها، و الرجل إذا مات بين النساء لم تغسله إلّا زوجته أو محرمه و نحو ذلك، فيحتاج التنزيل علي خصوص حال معلومية الميت- كما ذكره هنا- لدليل و مجرد تعارف ذلك لا يكفي في قصور الإطلاق عن غيره، كما في سائر الموارد. كيف و لازمه اختلاف التكليف واقعا في حق الناس باختلافهم في العلم بحال الميت و الجهل به، و لا يظن بأحد الالتزام بذلك.

و قد سلك الفقيه الهمداني قدّس سرّه في توجيه الاكتفاء بتغسيل أحد الصنفين مع فقد المحرم مسلكا آخر. و حاصله: أن اعتبار المماثلة ليس لشرطيتها في الغسل بحيث يكون تغسيل غير المماثل قاصرا ملاكا، بل لجهة عرضية، و هي توقف تغسيل غير المماثل علي النظر و اللمس المحرمين المانع من التقرب به حينئذ، فمع تجنب ذلك في المقام بتغسيل أحد الصنفين له من وراء الثياب أو نحوه يتعين البناء علي صحة الغسل لإمكان التقرب به بلحاظ واجديته لملاك الفعل المطلوب، و مع صحته لا حاجة لإعادته من الصنف الآخر، لإحراز وقوع التغسيل من المماثل.

و يشكل: بأنه إن رجع إلي أن تجنب النظر و اللمس المحرمين اللازمين غالبا من تغسيل غير المماثل حكمة لاعتبار المماثلة و شرطيتها في الغسل لم ينفع في تصحيح الغسل في المقام إلّا بضميمة قصور دليل اعتبارها عن مثل المقام الذي أنكره في صدر كلامه.

و إن رجع إلي أن حرمة النظر و اللمس لما كانت مزاحمة لوجوب التغسيل وجب الجمع بينهما في مقام الامتثال بتغسيل المماثل أو نحوه من دون أن تكون المماثلة شرطا في الغسل كان مطابقا لما تقدم في أول الكلام في اعتبار المماثلة من شيخنا الأستاذ قدّس سرّه و توجه عليه ما سبق في دفعه.

مضافا إلي أن لازمه صحة تغسيل غير المماثل لمعلوم الذكورية أو الانوثية مع تجنب النظر و اللمس المحرمين فضلا عن تغسيله للخنثي. بل يتعين صحة تغسيله للخنثي حتي مع النظر و اللمس، بناء علي أن كلا من الصنفين بالإضافة إليهما فيه كواجدي المني في الثوب المشترك، علي ما يأتي الكلام فيه، بل حتي بناء علي تنجز حرمتهما في حقهما، لأن النظر ملازم للتغسيل لا متحد معه، ليمنع من التقرب به، و كذا اللمس في بعض الصور.

ص: 251

من وراء الثياب (1).

______________________________

بل بناء علي ذلك لا وجه لتخصيص الاكتفاء بغسل أحد الصنفين في المقام بصورة فقد المحرم، كما يظهر منه قدّس سرّه. كما أنه يتعين- بناء علي ذلك- صحة قصد امتثال الأمر بالتغسيل، و لا يتعين قصد الملاك، لأن ملازمة الواجب للحرام إنما تسقط الأمر مع انحصار الامتثال بالفرد اللازم له، لا في مثل المقام حيث فرض إمكان تغسيل كل من الصنفين اللذين أحدهما مماثل للميت.

بل إذا فرض تجنب أحد الصنفين للنظر و اللمس لا وجه لخروج تغسيله عن حيز الأمر مع واجديته لملاكه. و من هنا كان ما ذكره قدّس سرّه في غاية الاضطراب و الإشكال. و لا يتضح المخرج عما ذكرنا من الجمع بين تغسيل كل من الصنفين من دون فرق بين وجود المحرم و عدمه عملا بمقتضي العلم الإجمالي.

هذا، و عن المهذب أن الخنثي ييمم و لا يغسل. و لا وجه له مع تيسر تغسيل المحرم و لو مع التكرار، بناء علي جواز نظره له حين التغسيل. و كذا مع تيسر تغسيل غير المحرم من دون لزوم محذور، إما لعدم حرمة النظر و اللمس ظاهرا أو مع تجنبهما، و أما لو لزم المحذور فهو متجه، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالي.

(1) أما مع كون المغسل هو المحرم فلا وجه له بناء علي ما سبق من الاكتفاء في تغسيله بستر العورة. بل و كذا بناء علي وجوب تغسيله من وراء الثياب، سواء كان ذلك لحرمة نظر المحرم لمحرمه بعد الموت- كما هو الظاهر، علي ما يتضح في فروع تغسيل أحد الزوجين للآخر- أم لشرطية الستر في التغسيل.

أما علي الأول فلأن حرمة نظر المحرم لمحرمه بعد الموت- لو تم- مختص بالمحرم غير المماثل، و كل من الصنفين لا يحرز ذلك في حق نفسه، فمقتضي أصالة البراءة جواز نظره إليه، فهما نظير واجدي المني في الثوب المشترك. و ما يأتي من الكلام في أن مقتضي الأصل الموضوعي بالنظر للآية الكريمة حرمة النظر مختص بغير المحرم، لاختصاص الآية به بعد استثناء المحارم فيها.

و أما علي الثاني فلأنه مع الجمع بين تغسيلي المحرم من الصنفين يعلم بتحقق

ص: 252

______________________________

الغسل الصحيح، و هو الغسل من المماثل الذي لا يعتبر فيه ستر الميت بلا إشكال.

و أما مع تغسيل غير المحرم فقد يوجه وجوب ستر الميت في حق كل من الصنفين بأصالة عدم كون الخنثي من صنف المغسل، لأن مقتضي حذف المتعلق في آيتي الأمر بالغض من البصر للرجال و النساء عموم من يجب الغض عنه للصنفين، و خروج المماثل من باب التخصيص لذلك العموم، و قد تحقق في محله من مباحث العموم و الخصوص أن الأصل الموضوعي المحرز لعدم عنوان الخاص كاف في إثبات حكم العام، فبأصالة عدم كون الخنثي رجلا من باب استصحاب العدم الأزلي يحرز الرجل حرمة نظره إليه، و بأصالة عدم كونه امرأة تحرز المرأة حرمة نظرها إليه.

و لا يمنع من ذلك العلم الإجمالي بكذب أحد الأصلين و مخالفة مؤداه للواقع، لاختصاص الأثر العملي لكل من الأصلين بأحد الصنفين، و لا أثر للأصل الآخر في حقه، كي يلزم مخالفتهما لمقتضي علم إجمالي منجز.

و يشكل بأن وضوح عدم إرادة عموم غض النظر عن كل شي ء ملزم بالاقتصار في متعلق الغض المقدر علي ما هو المتيقن و تقتضيه المناسبات الارتكازية و هو غير المماثل دون مطلق الإنسان، و لا سيما مع أن وضوح جواز النظر للمماثل من سنخ القرينة المتصلة المانعة من انعقاد الظهور في العموم.

لكن قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في أواخر مبحث القطع من فرائده: «عموم وجوب الغض عن المؤمنات إلّا عن نسائهن أو الرجال المذكورين في الآية يدل علي وجوب الغض عن الخنثي، و لذا حكم في جامع المقاصد بتحريم نظر الطائفتين لها، كتحريم نظرها إليهما. بل ادعي سبطه الاتفاق علي ذلك. فتأمل جدا».

و كأنه لأن استثناء نسائهن يناسب كون موضوع وجوب الغض علي النساء المقدر في الآية الشريفة هو مطلق الإنسان، لا خصوص الرجال، و مقتضي السياق و المقابلة كون ذلك هو المقدر في موضوع وجوب الغض علي الرجال أيضا، و يكون جواز نظر الرجل للرجل للإجماع المخصص للعموم المذكور، لا لقصور عنوان العام عنه، و يتم ما تقدم.

و فيه: أن الاستثناء المذكور انما هو من عموم النهي عن إبداء الزينة، لا من

ص: 253

______________________________

عموم الأمر بغض النظر الذي هو محل الكلام. و ليست وحدة السياق بالنحو الصالح للقرينية علي وحدة الموضوع المقدر و لا سيما بعد ما سبق من قضاء المناسبات الارتكازية باختصاص موضوع الأمر بالغض بغير المماثل أو كون وضوح جواز النظر للمماثل من سنخ القرينة المتصلة المانعة من انعقاد الظهور في العموم.

و أما الاتفاق المدعي فلم يثبت، لعدم شيوع تحرير المسألة، و احتمال ابتناء قول من ذهب لحرمة النظر للخنثي علي كلا الصنفين علي الاحتياط المتخيل لزومه بسبب العلم الإجمالي، مع الغفلة عن عدم منجزيته، و أن المورد نظير واجدي المني في الثوب المشترك.

بقي في المقام أمران:
الأول: أن وجوب تغسيل المحرم الخنثي من وراء الثياب الذي بني عليه جملة من الأصحاب يبتني علي ما تقدم في مطلق تغسيل المحارم.

و مما تقدم يظهر أنه يكفي فيه القميص و إن استلزم النظر لما زاد عليه. أما تغسيل غير المحرم له من وراء الثياب لو تم فهو يبتني علي حرمة النظر إليه، و مقتضاه كون الثياب بالنحو الساتر لجميع ما يحرم نظر الأجنبي إليه. كما أن مقتضي ذلك حرمة اللمس أيضا، بخلاف المحرم، حيث لا يحرم اللمس في حقه كما تقدم.

و من هنا فقد يتعذر التغسيل المذكور أو يكون حرجيا، فيلزم التزاحم بين حرمة النظر و اللمس و وجوب التغسيل، و مقتضي ذلك الانتقال للتيمم، بناء علي ما لعله الظاهر من الأدلة من أنه يكفي في مشروعيته لزوم أدني محذور شرعي أو عقلي من الطهارة المائية من دون نظر لأهميته. و ما يأتي من عدم التيمم مع تعذر تغسيل المماثل مختص بالتعذر الحقيقي، دون مثل المقام مما كان التعذر من جهة لزوم المحذور من الاحتياط، مع عدم لزوم المحذور من تغسيل المماثل الواقعي و إن كان مجهولا.

و ربما يبتني عليه ما تقدم عن ابن البراج في المهذب من لزوم التيمم، كما أشرنا إليه أنفا. لكن ذلك موقوف علي عدم لزوم المحذور من التيمم، و إلا كان التزاحم بين حرمة النظر و اللمس و مطلق الطهارة، و حيث لا يتضح الأهم منهما يتعين التخيير لكن لا يبعد لزوم الاقتصار علي التيمم لو اختار المكلف الطهارة، لأنه أخف محذورا. فلاحظ.

الثاني: ما تقدم يجري في كل مشتبه بين الصنفين و لا طريق لتعيينه،

كما أشرنا

ص: 254

(مسألة 19): إذا انحصر المماثل (1) بالكافر الكتابي (2)

______________________________

إليه في أول المسألة. و جريانه في الخنثي المشكل مبني علي كونه من صغريات ذلك.

أما بناء علي طريقية القرعة أو عدّ الأضلاع أو نحوها لتعيينه فلا إشكال في لزوم إجراء حكم الصنف الذي يقتضيه الطريق كما أنه بناء علي أنه صنف ثالث يكون مقتضي إطلاق أدلة شرح التغسيل جواز تغسيل كل من الصنفين له، لقصور إطلاق أدلة اعتبار المماثلة عنه بلا إشكال.

كما يكون مقتضي الأصل جواز نظر كل منهما إليه، لخروجه عن عموم أدلة حرمة النظر أيضا، بناء علي ما سبق من أن المتيقن من إطلاق الآية الشريفة وجوب الغض عن غير المماثل، إذ مرادنا به غير المماثل من خصوص الصنفين المعهودين، دون الصنف الثالث المفروض.

و الكلام في كلا الأمرين لا يسعه المقام، و قد تعرض الأصحاب له في مبحث الميراث. و مثل الخنثي في ذلك الممسوح و نحوه. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم العاصم.

مسألة 19: إذا انحصر المماثل بالكافر الكتابي

(1) لا إشكال ظاهرا في اختصاص مورد الكلام في المسألة بصورة فقد أحد الزوجين و المحرم، و أن عدم تصريح بعضهم بذلك لوضوحه. و ذلك لاختصاص دليل تغسيل الكافر بصورة فقد المحرم، و لموثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سئل عن الرجل يموت في السفر و ليس معه رجل مسلم و معه رجال نصاري و معه عمته و خالته مسلمتان كيف يصنع في غسله؟ قال: تغسله عمته و خالته في قميصه، و لا تقربه النصاري. و عن المرأة تموت في السفر و ليس معها امرأة مسلمة و معها نساء نصاري و عمها و خالها معها مسلمان. قال: يغسلونها و لا تقربها النصرانية كما كانت تغسلها..» «1»، و حيث كان الزوجان في عرض المماثل المسلم و في رتبة سابقة علي المحرم تعين تقديمهما علي الكافر أيضا.

(2) أطلق الكافر في المقنعة و المبسوط و النهاية و المراسم و الوسيلة و الشرائع و التذكرة و المنتهي و الارشاد و القواعد و غيرها. و هو داخل في معقد دعوي الشهرة

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من ابواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 255

أمره المسلم (1)

______________________________

في الدروس و الذكري و جامع المقاصد و الروض و الروضة بل و معقد دعوي الإجماع الآتية من التذكرة.

بل لم أعثر عاجلا علي من قيد بالكتابي عدا ما عن ابن سعيد و ما قد يستظهر من الكافي و الفقيه، حيث اقتصرا علي ذكر موثق عمار الآتي الوارد في النصراني.

و في حاشية المدارك للوحيد: «و علي تقدير تسليم العمل بالرواية فموردها أهل الذمة، لا أي كافر يكون، كما هو ظاهر عبارة المصنف. إلّا أن يتمسك بعدم القول بالفصل، أو عدم تعقل فرق بين من يقول بنجاسة الكل، و إن بناء المحقق و من وافقه علي أن الحكم في صورة لا يباشر الكافر الماء فأما النية فالحال في الكل واحد بأن الكافر من قبيل الآلة، فينوي الآمر، أو أنه لا يشترط في هذا الغسل النية، كما نقل عن السيد رحمه اللّه فتأمل».

لكن في الجواهر: «و لا ريب في ضعف ذلك كله، إذ عدم الوصول للفارق ليس وصولا للعدم فالمتجه حينئذ التقييد بالذمي … » و قريب منه ما ذكره الفقيه الهمداني. و هو متين. و التعدي عن مورد النص لدعوي فهم عدم الخصوصية عرفا في غير محله، حيث لا بعد في خصوصيته بالنظر إلي اختلاف بعض أحكامه شرعا عن بقية الكفار.

نعم، اللازم التخصيص بالكتابي الذي هو مورد النص، كما تقدم عن ابن سعيد و جري عليه الفقيه الهمداني و بعض من تأخر عنه. بل لا يبعد كونه مراد الوحيد و صاحب الجواهر، بحمل كلامهما علي من هو قابل للذمة. كما قد يحسن الاحتياط بالتعميم لمطلق الكافر. فلاحظ.

(1) كما في المقنعة و المبسوط و النهاية و الوسيلة و المراسم و المنتهي و التذكرة و القواعد و الإرشاد و غيرها. و هو داخل في معقد دعوي الشهرة في جامع المقاصد و الروض، و في معقد دعوي الإجماع الآتية من التذكرة. لكن تركه في الشرائع و اللمعة.

قال في كشف اللثام: «إذا كان المسلم أو المسلمة يصب الماء و ينوي لم يبق إشكال في الوجوب و الصحة … و يمكن أن يكون ما ذكروه من أمر المسلم أو المسلمة إشارة

ص: 256

أن يغتسل أولا (1)، ثم يغسل الميت (2).

______________________________

إليه، كما احتمل مثله الشهيد فقال: «الظاهر أنه لتحصيل هذا الفعل، لا أنه شرط، لخلو الرواية منه. و للأصل إلّا ان يقال: ذلك الأمر يجعل فعل الكافر صادرا عن المسلم، لأنه آلة له، و يكون المسلم بمثابة الفاعل. فيجب النية منه».

لكن حمل كلماتهم علي ذلك بعيد عن ظاهرها، و لا سيما و أنهم ذكروا ذلك أيضا بالإضافة إلي اغتسال الكافر نفسه قبل تغسيله الميت. فهو لو كان شرطا بنظرهم لكان شرطا تعبديا يدفعه اطلاق موثق عمار الآتي.

و من ثم لا يبعد حمل كلماتهم علي مجرد كون الأمر هو السبب المتعارف لصدور ذلك من الكافر، فلو صدر العمل منه بدونه صح، كما استظهره الشهيد أولا.

نعم، لا مجال لذلك في كلام الوسيلة، حيث خص ذلك بصورة وجود المسلم و صرح بأنه لو مات بين كفار لا مسلم فيهم دفن من غير غسل، حيث يظهر منه عدم مشروعية تغسيلهم من دون أمر المسلم لهم.

إلّا أن يدعي أن ذلك منه ليس لشرطية أمر المسلم في تغسيلهم، بل لشرطية حضوره و إن لم يأمر جمودا علي مورد الحديثين الآتيين. لكنه بعيد جدا، لإلغاء خصوصية المورد المذكور عرفا.

(1) كما في المقنعة و المبسوط و النهاية و التذكرة و المنتهي و القواعد و الإرشاد و غيرها، و هو داخل في معقد دعوي الشهرة في الذكري و جامع المقاصد و الروض و معقد دعوي الإجماع الآتي من التذكرة، معللا له فيها بالتعبد أو إزالة النجاسة الطارئة. و العمدة فيه موثق عمار الآتية الظاهر في الوجوب. و معه لا وجه لتركه في الوسيلة و المراسم و الشرائع و اللمعة.

(2) كما يظهر من الكليني و الصدوق حيث ذكرا موثق عمار الآتي، و به صرح في المقنعة و التهذيب و المبسوط و النهاية و المراسم و الوسيلة و الشرائع و التذكرة و المنتهي و القواعد و الارشاد و اللمعة و الروض و حكي في الذكري عن الصدوقين و ابن الجنيد و الصهرشتي و ابن سعيد، و في غيرها عن التحرير و نهاية الأحكام و البيان. و في الذكري و الدروس و جامع المقاصد و الروض و الروضة أنه المشهور، و في التذكرة أنه

ص: 257

______________________________

مذهب علمائنا، و في الذكري: «و لا أعلم فيه مخالفا سوي المحقق».

و يقتضيه موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت: فإن مات رجل مسلم و ليس معه رجل مسلم و لا امرأة مسلمة من ذوي قرابته و معه رجال نصاري و نساء مسلمات ليس بينه و بينهن قرابة. قال: يغتسل النصاري ثم يغسلونه فقد اضطر. و عن المرأة المسلمة تموت و ليس معها امرأة مسلمة و لا رجل مسلم من ذوي قرابتها، و معها نصرانية و رجال مسلمون [ليس بينها و بينهم قرابة] قال: تغتسل النصرانية ثم تغسلها» «1».

و معتبر زيد بن علي- بناء علي ما تقدم في نظيره في وجوب الاستقبال بالمحتضر- عن آبائه عن علي عليهم السّلام قال: «أتي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نفر فقالوا: ان امرأة توفيت معنا و ليس معها ذو محرم. فقال: كيف صنعتم؟ فقالوا: صببنا عليها الماء صبا. فقال: أو ما وجدتم امرأة من أهل الكتاب تغسلها؟ قالوا: لا. قال: أ فلا ييمموها.! [يممتموها. يب]» «2».

هذا، و لم يتعرض لذلك في المقنع و الهداية و الخلاف و إشارة السبق و الغنية و السرائر، و زاد في الذكري ابن أبي عقيل و الجعفي و القاضي في كتابيه، ثم قال:

«و للتوقف فيه مجال، لنجاسة الكافر في المشهور فكيف يفيد غيره الطهارة؟»، كما يظهر التوقف فيه من الدروس، حيث قال: «و المشهور جوازه من الكافر و الكافرة» و منعه في المعتبر، لضعف الرواية و تعذر النية». و من محكي الجامع حيث نسبه لرواية ضعيفة. كما صرح بالتوقف فيه في جامع المقاصد. و قرب عدم مشروعيته و الدفن من غير غسل في المعتبر، و تبعه الشهيد الثاني في ظاهر الروضة و محكي حواشيه علي القواعد و الأردبيلي في مجمعه و الوحيد في حاشيته علي المدارك و صاحب الحدائق، و في المدارك: «و الحق أنه متي ثبت نجاسة الذمي أو توقف الغسل علي النية تعين المصير إلي ما قاله في المعتبر، و إن نوزع فيهما أمكن إثبات هذا الحكم بالعمومات، لا بخصوص هذين الخبرين».

و يستفاد من هذه الكلمات و غيرها أن الحكم لما كان علي خلاف القاعدة بلحاظ شهرة القول بنجاسة الكافر المستلزمة غالبا لنجاسة بدن الميت و ماء التغسيل، و عدم صلوحه للنية المعتبرة في تغسيل الميت، فلا مجال لإثباته بالحديثين المتقدمين لوجوه:

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 19 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 258

______________________________

الأول: ما تكرر في كلام جملة منهم من ضعف الحديثين، حتي قال في المدارك:

«و هما ضعيفتا السند جدا». و قد علله في المعتبر بأن رجال سند الأول فطحية، و رجال سند الثاني زيدية.

و يندفع.. أولا: بما اشتهر و جري عليه بعض من تقدم منهم المحقق في مواضع من كلامه من عمل الطائفة مما يرويه الإمامي الثقة. و قد حققنا في محله أنه المتعين.

و ثانيا: بأن عمل من سبق من أعيان الأصحاب بالحديثين مع مخالفتهما للقاعدة كاف في جبر سندهما لو كانا ضعيفين. و لا يتضح ابتناء إهمال جملة ممن تقدم للحكم علي خلافهم فيه، بل لعله لعدم بنائهم علي استيفاء فروع التغسيل، لإهمالهم فروعا أخري، كما يظهر بمراجعة كلماتهم.

الثاني: ما ذكره في الحدائق و حاشية المدارك من غيرهما من أن النصوص في نجاسة أهل الكتاب و طهارتهم مختلفة. و هذه من جملة نصوص الطهارة، و حيث يبني علي تقديم نصوص النجاسة بتعيين طرح هذين الحديثين في جملة نصوص الطهارة بالمعارضة.

و فيه: أنه لو سلم تقديم نصوص نجاسة الكافر فدلالة هذين الحديثين علي طهارة أهل الكتاب مبني علي عموم طهارة الماء في تغسيل الميت، و لا مانع من رفع اليد عن ذلك في المقام بالحديثين المتقدمين بعد ظهور العمل بهما من القائل بنجاسة الكافر و القائل بطهارته، كما اعترف به في الحدائق و يقتضيه ملاحظة من سبق منه العمل بهما، فلا يعتبر طهارة الماء من هذه الجهة في هذا التغسيل، و لا سيما مع ما تضمنه موثق عمار من التعليل بالاضطرار، فإنه ظاهر في ابتناء الغسل هنا علي مخالفة بعض الشروط الأولية من جهة الضرورة، و يكون كالحاكم علي عمومات أحكامه الأولية.

غاية الأمر أن يكون الحديثان بعد فرض العمل بهما موجبين لقوة الظن بطهارة أهل الكتاب، و ليس هو بحيث يمنع من الجمع بين العمل بهما في المقام و تقديم نصوص نجاسة الكافر لو اقتضته القاعدة.

و من الغريب ما في حاشية المدارك من حمل الحديثين لأجل ذلك علي التقية، لذهاب العامة لطهارة أهل الكتاب، مع أن المحكي عن المشهور عندهم عدم صحة تغسيلهم للميت، لأنه عبادة تفتقر للنية، حتي اقتصر في المنتهي علي حكاية القول

ص: 259

______________________________

بجواز تغسيله عن سفيان الثوري، و في التذكرة علي حكايته عن مكحول.

و أما دعوي: منع استلزام التغسيل للمباشرة الموجبة للانفعال، أو إمكان استمرار صب الماء بعد المباشرة بنحو يتحقق التطهير ثم التغسيل. فهي كما تري، لأن مجرد إمكان تجنب انفعال ماء التغسيل و بدن الميت إنما يندفع به الإشكال مع صلوحه للقرينية علي حمل النص عليه، و لا إشكال في عدم صلوحه لذلك بعد احتياجه لعناية زائدة في مقام العمل مغفول عنها، فعدم التنبيه عليها في النص و الفتوي مستلزم لظهورهما في عدم اعتبار ذلك.

نعم، قد يدعي أن رفع اليد عن عموم شرطية الطهارة في ماء التغسيل ليس بأولي من رفع اليد عن انفعال الماء و بدن الميت بملاقاة الكافر في المقام لو لم يكن الثاني أولي بسبب كون نجاسة الكافر تعبدية، و اعتبار الطهارة في ماء التغسيل ارتكازية. فتأمل.

الثالث: فقده للنية، لعدم تأتي النية من الكافر، لعدم اعتقاده المشروعية، و لعدم الاعتداد بنية الكافر، كما في سائر العبادات لعدم صلاحية الكافر للتقرب. و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن محل الكلام صورة تأتي النية من الكافر إما لغفلته عن اعتقاده، أو لرجاء المطلوبية، و أن عدم صلاحية الكافر للتقرب ليس مستفادا من أدلة عقلية لا تقبل التخصيص، بل من أدلة لفظية و لبية قابلة له.

فهو كما تري، لأن ما يتحقق من الكافر هو القصد للغسل المشروع عند المسلمين، و هو غير كاف في التغسيل، بل لا بد معه من نية التقرب، و لا يظهر من النص و الفتوي فرض حصولها من الكافر، بل ظاهرهما عدم اعتباره.

و دعوي: أن فرضهم وقوع الغسل منه ظاهر في فرض وقوعه بتمام شروطه، و منها نية القربة.

مدفوعة: بأن وضوح عدم تأتي النية المذكورة من الكافر بمقتضي طبعه، و ابتناء وقوعها منه بالوجه الذي ذكره قدّس سرّه علي عناية مغفول عنها كاف في القرينية علي عدم فرض وقوعها، بل فرض عدمه.

و منه يظهر ضعف ما في المنتهي من أهلية الكافر للنية، إذ أهليته لها- لو تمت، كما قيل في مثل العتق- لا يقتضي تحققها في المقام بعد ما ذكرنا.

ص: 260

______________________________

و مثله ما قد يدعي من تحقق النية من المسلم الأمر، و أن الكافر بمنزلة الآلة، كما تقدم من الشهيد. لاندفاعه بعدم تضمن النص الأمر المذكور، كما تقدم، و عدم كفايته في النية بعد استقلال الكافر بالاختيار، حيث لا يكون معه من سنخ الآلة.

و أشكل من ذلك ما تقدم من كشف اللثام من عدم الإشكال في الصحة و الوجوب مع تولي المسلم الصب و النية. لرجوعه إلي كون المغسل هو المسلم غير المماثل، و ليس من الكافر إلّا تقليب الميت أو نحوه من مقدمات التغسيل، و هو مما يأباه النص جدا، كيف و معه لا حاجة إلي الكافر، إذ لا محذور في إعانة غير المماثل في مقدمات التغسيل، و إنما الممنوع منه قيامه بالتغسيل المفروض حصوله.

فالعمدة في الجواب: أن اعتبار النية في غسل الميت ليس مقتضي قاعدة عقلية غير قابلة للتخصيص، بل هو مقتضي قاعدة الاشتغال- كما تقدم- و هي لا تنهض هنا في قبال النص المعتبر. بل لو تم الاستدلال عليها ببعض الوجوه المتقدمة هناك، كالإجماع و الارتكازيات لم تجر في المقام مع ما تضمنه موثق عمار من التعليل بالاضطرار الظاهر في فقد الغسل لبعض ما يعتبر في غسل الميت، و مع ظهور شهرة العمل بمضمونه بين الأصحاب.

فالوجه المذكور أشبه بالاجتهاد في قبال النص، كما ذكره غير واحد. بل الاهتمام به من المحقق في المعتبر لا يناسب تردده في أصل اعتبار النية في غسل الميت، كما تقدم قفي موضعه.

و بالجملة: لا مجال للخروج بالوجوه المتقدمة عن الحديثين بعد اعتبار سندهما، و وضوح دلالتهما، و اعتماد الأصحاب عليهما.

نعم، قد يدعي أن الغسل المذكور ليس غسلا حقيقيا شرعيا، بل صوريا، كما صرح به في جامع المقاصد و الروض و استقر به في الجواهر، و يناسبه ما في التذكرة و الإيضاح من عدم حصول الطهارة به، و ما عن الذكري من عدم حصول الطهارة الحقيقية به.

و قد يوجه.. تارة: بما في الجواهر من مناسبة ذلك لفقده للنية المعتبرة في التغسيل.

و أخري: بما في الروض من نجاسة الكافر، فلا يفيد غسله تطهيرا.

ص: 261

______________________________

و لا يخفي أن ذلك لا يناسب النص و الفتوي، لظهورهما في كون ذلك هو التغسيل المشروع في هذا الحال لتطهير الميت و إن كان اضطراريا، حتي تضمن معتبر زيد تقديمه علي صب غير المماثل الماء.

و ما في الجواهر من ظهور أخبار الباب و كلمات الأصحاب في أن ذلك من الأغسال الاضطرارية الصورية. كما تري، لأن مجرد كونه اضطراريا لا يستلزم كونه صوريا غير مفيد للطهارة. كما لا يستلزمه خلوه عن النية، لما تقدم من أن اعتبارها في غسل الميت ليس مقتضي قاعدة عقلية غير قابلة للتخصيص.

و أما نجاسة الكافر الخبثية- لو تمت- و استلزامها انفعال الماء و بدن الميت- لو تم أيضا و غض النظر عن الاحتمال المتقدم- فهما لا يصلحان للقرينية علي عدم مطهرية الغسل الصادر منه من حدث الموت، لعدم السنخية كي يدعي منافاته لقاعدة أن فاقد الشي ء لا يعطيه الارتكازية، بل سبق أن اعتبار طهارة الماء في الغسل مقتضي أدلة تعبدية يمكن رفع اليد عنها بالحديثين.

و أما الطهارة من النجاسة الخبثية المستندة للموت، فإن قيل بأنها متفرعة علي مطهرية الغسل من الحدث، و أنها أثر لطهارة الميت من الحدث، لا للغسل مباشرة، فالمتعين ترتبها، لتحقق سببها.

و إن قيل بأنها مترتبة علي الغسل رأسا في عرض الطهارة من الحدث فقد يمنع من ترتبها، لقاعدة أن فاقد الشي ء لا يعطيه، لأن ارتكازيتها تصلح للقرينية في المقام.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لقوة ظهور الحديثين في كون الغسل المذكور من أفراد غسل الميت ذي الآثار المعهودة، غاية ما يلتزم به هو نجاسة بدن الميت العرضية بسبب ملاقاة الكافر و تنجس الماء به، مع طهارته من النجاسة المسببة عن الموت بسبب الغسل، لأن التفكيك بين النجاستين ليس عزيزا.

بل لا يتضح منافاته لقاعدة أن فاقد الشي ء لا يعطيه، لقوة احتمال اختلاف سنخ النجاستين، مع كون طهارة عين الميت بالغسل تعبدية غير ارتكازية و لا عرفية، لأن التطهير العرفي إنما يكون لظاهر الجسم عن النجاسة العرضية بغسله. فتأمل.

و مثله في الإشكال ما في جامع المقاصد و الروض و الجواهر من أن مقتضي

ص: 262

و المغسل هو الذي يتولي النية (1) علي إشكال. و الأحوط استحبابا نية

______________________________

تكليف الكافر بالفروع تكليفه في المقام بأن يسلم و يغسل الميت التغسيل الحقيقي التام، لأنه مقدور له و الاجتزاء بغسله حال كفره و امتناعه عن الإسلام لا يستلزم إجزاءه في حقه بحيث لا يعاقب علي الغسل الحقيقي التام، بل في المقام أمران، الأمر بالغسل الحقيقي، و الأمر بالغسل الاضطراري المذكور عند عصيان التكليف بالغسل الحقيقي من دون أن يكون غسلا حقيقيا، و لا قائما مقامه.

وجه الإشكال فيه: أن عدم إجزائه عن الكافر لا يستلزم كونه غسلا صوريا مباينا لغسل الميت، بل يكفي كونه غسلا ناقصا اضطراريا، مع إمكان تدارك النقص بالغسل التام، و إن كان الغسل الناقص غسلا حقيقيا تترتب عليه الطهارة الاضطرارية.

كما تترتب علي التيمم في فرض منع بعض المكلفين من استعمال الماء المباح في التغسيل، حيث يشرع التيمم في حق الآخرين الذين يتعذر عليهم التغسيل و إن لم يجز في حقه بنحو يسقط العقاب عنه.

و بالجملة: لا مجال للخروج عن ظاهر الحديثين من كون الغسل المذكور حقيقيا مطهرا تترتب عليه سائر أحكام الغسل و إن كان اضطراريا. و يترتب علي ذلك عدم وجوب الغسل بمس الميت بعده، عملا بإطلاق ما تضمن عدم وجوب الغسل بمس الميت بعد تغسيله، خلافا لما صرح به في القواعد و جامع المقاصد و الروض و عن غيرها. و استوجهه في الجواهر من وجوب الغسل بمسه بعده، بناء منهم علي عدم كونه غسلا حقيقيا.

(1) لما تقدم من عدم كونه من سنخ الآلة بعد استقلاله بالاختيار، و نية الآمر تحتاج إلي عناية مغفول عنها، فعدم التنبيه في موثق عمار الوارد في مقام بيان الوظيفة للأمر و لها مستلزم لظهوره في عدم اعتبارهما. و دعوي: غلبة حصول الأمر، فعدم التنبيه في الموثق له لا يوجب ظهوره في عدم اعتباره.

مدفوعة: بأن الغالب حصوله لإحداث الداعي للكافر نحو التغسيل، لا لشرطية فيه، فضلا عن شرطية نية الأمر، فعدم التنبيه في الموثق للشرطية المذكورة ظاهر في عدمها.

ص: 263

كل من الآمر و المغسل (1). و إذا أمكن التغسيل بالماء المعتصم- كالكر و الجاري- تعين ذلك حينئذ (2)، إلا إذا أمكن أن لا يمس الماء و لا بدن الميت، يتخير حينئذ بينهما (3). و إذا أمكن المخالف قدم علي الكتابي (4).

______________________________

و مما تقدم يظهر ان النية المعتبرة هي نية التغسيل المشروع عند المسلمين، لأنها هي الميسورة من الكافر، دون نية التقرب به، و إنما تعتبر نية التقرب لو كانت النية من الآمر.

(1) مراعاة للاحتمال المتقدم من كشف اللثام و محكي الذكري و غيرهما. بل جزم السيد الطباطبائي في العروة الوثقي و بعض من تأخر عنه باعتبار نية الآمر. و مما تقدم يظهر ضعفه جدا.

(2) كما نبه له في العروة الوثقي، عملا بمقتضي القاعدة من تجنب نجاسة الماء و بدن الميت، بناء علي لزومهما من ملاقاة الكافر. و لا ينافيه عدم التنبيه له في الحديثين، لندرة تيسر ذلك، كما نبه له سيدنا المصنف قدّس سرّه. و لا سيما مع التعليل في موثق عمار بالاضطرار، لما هو المعلوم من أن الضرورة تقدر بقدرها.

(3) لاشتراكهما في تجنب المحذور المذكور.

(4) كما في العروة الوثقي. و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه: «للقطع بالأولوية، و إن كان الدليل قاصرا عنه». و هو في محله، و إن قال في الجواهر: «بل لا يبعد عدم إلحاق المخالف بهم، فضلا عن غيره. فتأمل».

بل قد يدعي أن شيوع الابتلاء بتغسيل المخالفين في الصدر الأول بسبب قلة أهل الحق و تخفيهم و اختلاطهم بالمخالفين موجب للاطمئنان بالاكتفاء بتغسيلهم اختيارا، إذ لو كان البناء علي الاقتصار فيه علي مورد الضرورة و التقية لكثر السؤال عنه و عن فروعه في النصوص، و لعله لذا قال في محكي البيان: «الأقرب الإجزاء» و في جامع المقاصد: «و هو حسن إن غسله غسل أهل الإيمان، و إلا فلا». و إن كان الأمر غير خال عن الإشكال.

و كيف كان، فحيث يتيسر منهم نية القربة يتعين البناء علي اعتبارها، عملا بالقاعدة.

ص: 264

و الأحوط وجوبا أمره بالغسل أيضا (1) ثم يغسل الميت. و إذا أمكن المماثل بعد ذلك أعاد التغسيل (2).

______________________________

(1) جزم في العروة الوثقي بعدم الحاجة لاغتساله، و أقره علي ذلك غير واحد من محشيها. و قال سيدنا المصنف قدّس سرّه في توجيهه: «لظهور دليل الاغتسال في كونه من جهة النجاسة غير الحاصلة في المخالف. و احتمال كونه من جهة احتمال النجاسة العرضية الموجودة في المخالف لا يساعده لفظ الاغتسال. لكن من الجائز أن يكون من جهة الجنابة الحاصلة فيه، بل هو أقرب، لأن الغسل من روافع الحدث لا الخبث.

مع أن القطع بالأولوية بدون الاغتسال غير حاصل».

اللهم إلا أن يقال: لا محذور في تغسيل المخالف إلّا عدم الاعتداد بنيته، و هو في الكافر أشد، فما دل علي اغتفار ذلك فيه عند الضرورة يدل علي اغتفاره في المخالف، لفهم عدم الخصوصية، بل للأولوية، كما تقدم، و وجوب الاغتسال لما كان مختصا بالكافر فلا وجه للتعدي منه للمخالف بعد عدم دخله في المحذور المذكور ارتكازا، و إنما يحتمل دخله في جهات أخر لا يعلم وجودها فيه. فتأمل.

(2) كما في التذكرة و الإيضاح و جامع المقاصد و الروض و محكي نهاية الأحكام و الذكري و البيان و غيرها، و في الجواهر: «لم أجد فيه خلافا بين من تعرض له».

نعم، استشكل فيه في القواعد و محكي التحرير. و العمدة في وجوب الإعادة أن مقتضي ما تقدم و ظاهر موثق عمار كون الغسل المذكور ناقصا قد شرع لمكان الضرورة، و قد ذكرنا غير مرة أن قرينة النقص و الاضطرار تقتضي اعتبار تعذر العمل التام في تمام الوقت، و مقتضاه عدم المبادرة إلّا مع اليأس من القدرة عليه في تمام الوقت، فمع تيسر العمل التام ينكشف عدم مشروعية العمل الاضطراري الناقص حين وقوعه، لعدم تحقق موضوعه من أول الأمر.

و بهذا يظهر الفرق بين الفرض و ما لو غسل الميت المحرم ثم تهيأ المماثل أو أحد الزوجين، بناء علي اشتراط تغسيل المحرم بفقدهما، لعدم ظهور الأدلة في نقص غسل المحرم، بل غايته تقديم غيره عليه لأولويته بالمباشرة، و حيث كان مقتضي إطلاق الأدلة مشروعية تغسيل المحرم بمجرد عدم حضور المماثل أو أحد الزوجين بالوجه

ص: 265

(مسألة 20): إذا لم يوجد المماثل حتي المخالف و الكتابي (1) سقط الغسل (2). لكن الأحوط استحبابا تغسيل غير المماثل من

______________________________

المتعارف تعين الاجتزاء بتغسيله حتي مع اتفاق حضورهما بعد ذلك. فتأمل.

نعم، لا يتم الوجه الذي ذكرنا لو تيسر تغسيل المماثل المسلم أو نحوه في الفرض بعد مضي زمان وجوب الدفن لتغير الميت و نحوه. و حينئذ يشكل وجوب الإعادة.

فلاحظ. هذا. و أما ما تقدم من غير واحد من عدم كون تغسيل الكافر تغسيلا حقيقيا و عدم حصول الطهارة به. فهو- مع عدم تماميته، كما تقدم- لا يكفي في وجوب الإعادة، لأن مقتضي إطلاق دليل بدليته عن الغسل الحقيقي إجزاؤه عنه.

نعم، لو تم ما تقدم منهم أخيرا من عدم بدليته عن الغسل التام، و إنما هو تكليف آخر عند تعذر امتثاله من دون أن يسقطه يتعين الإتيان بالغسل التام عند القدرة عليه بعد فرض عدم سقوطه لا بالامتثال، و لا ببدله.

مسألة 20: إذا لم يوجد المماثل حتي المخالف و الكتابي سقط الغسل

(1) يعني: في فرض فقد الزوج أو الزوجة و فقد المحرم.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، و في الجواهر: «علي المشهور بين الأصحاب شهرة كادت تكون إجماعا». و نسبه في المعتبر للرواية المشهورة، و في التذكرة لعلمائنا.

و قال في الخلاف: «إذا ماتت امرأة بين رجال لا نساء معهم و لا زوجها و لا أحد من ذوي أرحامها دفنت بغير غسل و لا تيمم … دليلنا: الأخبار المروية عن الأئمة عليهم السّلام في هذا المعني و إجماعهم عليها. و قد بينا القول في الرواية الشاذة في الكتابين المقدم ذكرهما».

و أراد بالأخبار ما تقدم التعرض له في أول المسألة السابعة عشرة من النصوص الكثيرة التي تقدم الاستدلال بها لاعتبار المماثلة في الجملة المتضمنة دفن الميت من غير تغسيل، لأن مواردها صورة الضرورة بفقد المماثل و المحرم و الزوج. فلتلحظ.

و أما معتبر أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: لا يغسل الرجل المرأة إلّا أن لا توجد امرأة» «1». فهو إنما يدل علي جواز تغسيل الرجل المرأة عند فقد المرأة في الجملة لا مطلقا، لأن نقيض السلب الكلي الايجاب الجزئي. و من ثم سبق حمله علي المحرم.

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من ابواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 266

وراء الثياب (1)،

______________________________

و لو فرض إطلاقه تعين رفع اليد عنه بالنصوص السابقة، فيقيد بها أو يحمل علي مجرد المشروعية، نظير حمل النصوص الآتية علي الاستحباب.

(1) فقد صرح بوجوبه في شرح كلام المقنعة من التهذيب، و حكي عن ظاهر الحلبي، و عن المفاتيح في الرجل، و يظهر من التهذيب أنه عليه ينزل ما في المقنعة من الأمر بتغسيل النساء الصبي المتجاوز خمس سنين بثيابه و تغسيل النساء الصبية المتجاوزة ثلاث سنين بثيابها عند فقد المماثل، و جعله في الغنية و كشف اللثام الأحوط، و عن البيان أنه لا بأس به.

و يقتضيه صحيح عبد اللّه بن سنان: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: المرأة إذا ماتت مع الرجال فلم يجدوا امرأة تغسلها غسلها بعض الرجال من وراء الثوب.

و يستحب أن يلف علي يديه [يده] خرقة» «1»، و خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام: «في رجل مات و معه نسوة ليس معهن رجل. قال: يصببن عليه الماء من خلف الثوب و يلففنه في أكفانه من تحت الصدر … و المرأة تموت مع الرجال ليس معهن امرأة. قال:

يصبون الماء من خلف الثوب و يلففونها في أكفانها … » «2». و غيرهما مما يأتي.

لكن يتعين حملها علي الاستحباب- كما في الاستبصار و زيادات التهذيب- بقرينة النصوص الأول الصريحة في عدم وجوب التغسيل. و حمل تلك النصوص علي فرض كونه عريانا- كما في شرح كلام المقنعة من التهذيب- بعيد جدا، بل مخالف لما صرح به في بعضها من دفنه بثيابه. و مثله حمل هذه النصوص علي المحرم، فلا يبقي الاستحباب في غيره دليل. فإن ما ذكرنا أقرب منه عرفا.

بل صريح بعض هذه النصوص صورة فقد المحرم. كما يأتي، فالمتعين الاستحباب، كما يناسبه أو يدل عليه صحيح داود بن فرقد قال: «مضي صاحب لنا يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن [سمعت صاحبا لنا يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول] المرأة تموت مع الرجال ليس فيهم ذو محرم هل يغسلونها و عليها ثيابها؟ فقال: إذا يدخل ذلك عليهم، و لكن يغسلون كفيها» «3». لظهوره في أن عدم التغسيل ليس لعدم

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من ابواب غسل الميت حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 22 من ابواب غسل الميت حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 22 من ابواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 267

______________________________

المشروعية، بل للتسهيل و التخفيف، لصعوبة التغسيل بالوجه المذكور، حيث يراد بالثياب ما يستر تمام ما يحرم النظر إليه.

و ما في المستند من حمله علي العيب، لأن الدخل بالتحريك العيب، كما في مجمع البحرين، فيكون صريحا في عدم الاستحباب. كما تري، لعدم وضوح كون الدخل بالتحريك مما يصاغ منه الفعل الماضي- خلافا لما يظهر من مجمع البحرين- بل الظاهر أن المراد بالفعل في الصحيح ما يصاغ من الدخول، و يكون كناية عن الضيق و الحرج.

و لو سلم فهو يدل علي أن سقوط التغسيل دفعا لعيب الناس و نحوه مما هو من سنخ المزاحم الذي لا ينافي رجحانه ذاتا. فلاحظ.

و أما ما في الجواهر من الإشكال في استحباب التغسيل للنهي صريحا في بعض النصوص، و الأمر بدفنها كما هي بثيابها في آخر. مضافا إلي ظهور كثير من كلمات الأصحاب في الحرمة، فلعل الأحوط الترك حينئذ. انتهي.

فهو مدفوع بقرب النهي و نحوه علي كونه واردا لدفع توهم الوجوب. و ظهور بعض كلمات الأصحاب في الحرمة- لو تم و لم تحمل علي ما حملت عليه النصوص- ليس بنحو ينهض بالخروج عن مقتضي الجمع بين الأدلة، و لا سيما مع ما تقدم من جماعة. علي أن الحرمة لو تمت تشريعية لا يمنع احتمالها من الاحتياط بالتغسيل.

و أما ما ذكره أيضا من استلزامه التنجيس الذي لم يثبت العفو عنه هنا. فيدفعه أنه تكفي النصوص المتقدمة في إثبات العفو عنه. علي أنه لم يتضح لدليل مانعية النجاسة إطلاق يشمل مثل النجاسة بملاقاة بدن الميت، كيف و لازمه وجوب تبديل ثياب الميت- مع القدرة- لو عرق فيها قبل موته، لتنجسها بملاقاته بعد الموت.

و من هنا لا مجال لما تقدم منه من جعل ترك التغسيل أحوط، و إن سبقه في المبسوط، بل قد يظهر منه عدم جوازه.

ثم إن نظير الجمع المذكور يجري في غير التغسيل مما تضمنته النصوص، كغسل الكفين الذي تقدم في صحيح داود، و نحوه خبر جابر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سئل عن المرأة تموت و ليس معها محرم. قال: يغسل كفيها» «1».

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 6، ص: 269

ص: 268

______________________________

و غسل موضع التيمم من المرأة الذي تضمنه صحيح المفضل بن عمر: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك ما تقول في المرأة تكون في السفر مع الرجال ليس فيهم لها ذو محرم و لا معهم امرأة فتموت المرأة ما يصنع بها؟ قال: يغسل منها ما أوجب اللّه عليه التيمم و لا تمس و لا يكشف لها شي ء من محاسنها التي أمر اللّه بسترها.

قلت: فكيف يصنع بها؟ قال: يغسل بطن كفيها ثم يغسل وجهها ثم يغسل ظهر كفيها» «1». و قد صرح في التهذيب و النهاية بجواز العمل به. و ما في المبسوط من أن تركه أحوط غير ظاهر، إلا أن يوجه بما يأتي في التيمم و يأتي دفعه.

و مثلهما غسل موضع الوضوء منها الذي تضمنه موثق أبي بصير: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن امرأة ماتت في سفر و ليس معها نساء و لا ذو محرم. فقال: يغسل منها موضع الوضوء و يصلي عليها و تدفن» «2». و كذا التيمم الذي تضمنه معتبر زيد ابن علي المتقدم في تغسيل الكافر للمسلم و فيه: «فقالوا: صببنا عليها الماء صبا.. فقال:

أ فلا يمموها؟.» «3». لكن في المبسوط أن الأحوط تركه، بل قد يظهر منه عدم جوازه، كما هو صريح المعتبر و ظاهر التذكرة، مدعيا عليه فيها الإجماع. و قد استدل فيهما باستلزامه النظر المحرم و إن كان دون النظر اللازم من الغسل.

و فيه: أنه لم يتضح حرمة النظر للوجه و الكفين، بل لا يبعد جوازه، كما تناسبه بعض نصوص المقام و غيرها. و الكلام فيه موكول لمحل آخر. علي أنه لو كان محرما في نفسه كفت النصوص المتقدمة في إثبات العفو عنه في المقام.

و دعوي: وهنها بهجر الأصحاب، حيث لم يتعرضوا لما عدا التغسيل مما تضمنته هذه النصوص.

مدفوعة: بأن إهمالهم لبيان المستحب لا يكشف غالبا عن هجر دليله بنحو يسقطه عن الحجية إذا كان واجدا لموضوعها.

نعم، لا إشكال ظاهرا في عدم وجوب الأمور المذكورة، كما صرح به بعضهم، و تقدم من الخلاف. و التذكرة دعوي الإجماع علي عدم وجوب التيمم، كما ادعي في المستند الإجماع علي عدم وجوب ما عدا التغسيل مما تقدم. و يقتضيه السكوت عنها في

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من ابواب غسل الميت حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 22 من ابواب غسل الميت حديث: 5.

(3) الوسائل باب: 22 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

ص: 269

من غير لمس و نظر (1)،

______________________________

النصوص النافية للتغسيل و الآمرة بدفن الميت بثيابه مع شدة الحاجة للبيان لو كانت واجبة. و مثله إهمال الأصحاب للتعرض له.

ثم إن مقتضي نصوص التغسيل من وراء الثياب أولويته من التيمم، و مقتضي معتبر زيد العكس، و لا يبعد ترجيح نصوص التغسيل. فتأمل.

كما لا إشكال ظاهرا في أن التغسيل أفضل من الاقتصار علي غسل مواضع الوضوء، و هو أفضل من الاقتصار علي غسل مواضع التيمم، و هو أفضل من الاقتصار علي غسل الكفين، لأن ذلك هو مقتضي الجمع العرفي بين نصوص الكل.

هذا كله في المرأة.

أما الرجل فلم يرد فيه شي ء مما تقدم عدا التغسيل من وراء الثياب في الجملة، فالبناء علي استحباب بقية الأمور فيه موقوف علي إلغاء خصوصية المرأة في نصوصها، و هو يحتاج إلي لطف قريحة.

(1) فقد صرح في التهذيب بعدم جواز مس النساء الرجل حين التغسيل، و في الغنية و عن الحلبي الأمر بتغميض العينين.

و الظاهر عدم الإشكال في حرمة النظر و اللمس في الجملة، و أنه الحكمة في سقوط التغسيل، بل صرح به في الجملة في بعض النصوص، فقد تقدم في صحيح ابن سنان أنه يستحب أن يلف الرجل علي يده خرقة، و هو محمول علي الوجوب في فرض لزوم المس بدونه، بقرينة النهي عن المس في صحيح المفضل بن عمر المتقدم.

و في معتبر زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السّلام: «قال: إذا مات الرجل في السفر مع النساء ليس فيهن امرأته و لا ذو محرم من نسائه. قال: يوزرنه إلي ركبتيه و يصببن عليه الماء صبا و لا ينظرن الي عورته، و لا يلمسنه بأيديهن و يطهرنه» «1»، و في خبر أبي سعيد: «يحل لهن أن يمسسن منه ما كان يحل لهن أن ينظرن منه إليه و هو حي، فإذا بلغن الموضع الذي لا يحل لهن النظر إليه و لا مسه و هو حي صببن الماء عليه صبا» «2».

و لعل الاختلاف بين الرجل و المرأة في هذه النصوص للاختلاف بينهما في مقدار ما

______________________________

(1) الوسائل باب: 22 من أبواب غسل الميت حديث: 13.

(2) الوسائل باب: 22 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 270

ثم ينشف بدنه بعد التغسيل قبل التكفين (1).

(مسألة 21): إذا دفن الميت بلا تغسيل عمدا أو خطأ جاز بل وجب نبشه لتغسيله (2) أو تيممه (3). و كذا إذا ترك بعض الأغسال و لو سهوا أو تبين بطلانها أو بطلان بعضها (4). كل ذلك إذا لم يلزم محذور من هتكه

______________________________

يجوز النظر إليه لغير المماثل. و للكلام في ذلك مقام آخر. فلاحظ.

(1) كما في العروة الوثقي. و كأنه لتجنب محذور تنجس الكفن او الثياب بماء الغسل الذي تقدم من الجواهر. و يظهر ضعفه مما تقدم. بل لا مجال لحمل النصوص المتقدمة عليه، لاحتياجه إلي عناية مغفول عنها، و لا سيما مع ظهور نصوص سقوط التغسيل في الدفن بالثياب، فعدم التنبيه في النصوص عليه موجب لظهورها في عدمه.

نعم، يأتي في المسألة الخامسة و العشرين استحباب تنشيف الميت بعد التغسيل مطلقا، و لا بأس بالبناء عليه هنا لو لم يلزم منه محذور النظر و اللمس المحرمين اللذين لا يبعد كون حكمة سقوط التغسيل تجنبهما، و لذا أمر في بعض نصوصه بالدفن بالثياب الظاهر في كون التكفين فوقها، بل لا يبعد الاجتزاء بها عن بعض قطع الكفن. فإن ذلك لا يجتمع مع التنشيف، كما لعله ظاهر.

مسألة 21: إذا دفن الميت بلا تغسيل عمدا أو خطأ جاز بل وجب نبشه لتغسيله أو تيممه

(2) كما في المنتهي. لإطلاق وجوب التغسيل، خلافا للخلاف، حيث صرح بعدم جواز النبش سواء قرب العهد أم بعد، مستدلا بعموم أخبار حرمة النبش.

و وافقه في المعتبر و التذكرة لدعوي أن النبش مثله، و لا يستدرك الغسل بالمثلة.

و الثاني: ظاهر المنع. و يشكل الأول بعدم وضوح المراد بالأخبار المذكورة، بل لا إطلاق لدليل حرمة النبش يشمل الفرض، ليعارض إطلاق وجوب التغسيل، فضلا عن أن يتقدم عليه. و قد تقدم في الفرع الثالث من فروع تعذر الخليطين في ذيل المسألة الثامنة ما ينفع في المقام.

(3) إما لكون التيمم هو الوظيفة قبل الدفن أو لانقلاب الوظيفة إليه بعده.

كل ذلك لإطلاق دليله.

(4) لوجوب التغسيل التام، فيجري فيه ما سبق.

ص: 271

أو الإضرار ببدنه (1).

(مسألة 22): إذا مات الميت محدثا بالأكبر كالجنابة أو الحيض لا يجب تغسيله إلا غسل ميت (2) فقط.

______________________________

(1) كما نبه له في الجملة في المنتهي. لما تقدم في ذيل المسألة الثامنة في الفرع الثالث من فروع تعذر الخليطين من عدم جواز تعريض الميت لذلك.

مسألة 22: إذا مات الميت محدثا بالأكبر كالجنابة أو الحيض لا يجب تغسيله إلا غسل ميت فقط

(2) كما صرح به غير واحد، و في المعتبر: أنه قول أكثر أهل العلم، و في التذكرة:

«و هو قول من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار» كما ادعي في المنتهي الإجماع عليه ممن عدا الحسن. و يقتضيه مضافا إلي ذلك، لامتناع خطأ الإجماع في مثل هذا الحكم الذي يشيع الابتلاء به عادة- النصوص الكثيرة المتضمنة للاكتفاء بغسل الميت، كصحيح زرارة: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: ميت مات و هو جنب كيف يغسل و ما يجزيه من الماء؟ قال: يغسل غسلا واحدا يجزي ذلك للجنابة و لغسل الميت؛ لأنهما حرمتان اجتمعا في حرمة واحدة» «1»، و موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنه سئل عن المرأة إذا ماتت في نفاسها كيف تغسل؟ قال: مثل غسل الطاهر. و كذلك الحائض، و كذلك الجنب، إنما يغسل غسلا واحدا فقط» «2» و غيرهما.

و أما الاستدلال عليه- كما قد يظهر من المنتهي- بعدم الدليل علي وجوب رفع حدث الجنابة و نحوه عن الميت بعد كون المتيقن أن وجوب رفع الحدث المذكور غيري، لمقدميته لمثل الصلاة مما لا يكلف به الميت. فهو لا يخلو عن إشكال يظهر بمراجعة ما تقدم منا في المسألة الرابعة عشرة فيما لو خرج من الميت أحد النواقض بعد التغسيل. فالعمدة ما تقدم.

نعم، في خبر العيص: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يموت و هو جنب.

قال: يغسل من الجنابة ثم يغسل بعد غسل الميت» «3». لكن ضعف سنده مانع من التعويل عليه في نفسه، فضلا عن رفع اليد به عما تقدم.

و لا سيما مع إمكان حمله علي غسله من خبث الجنابة، كما ذكره في المستند و مع

______________________________

(1) الوسائل باب 31 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب 31 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب 31 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

ص: 272

(مسألة: 23): إذا كان محرما لا يجعل الكافور في ماء غسله الثاني (1)

______________________________

قرب اضطراب ما روي عن العيص في ذلك، ففي صحيح له عنه عليه السّلام: «قال إذا مات الميت و هو جنب غسل غسلا واحدا ثم اغتسل بعد ذلك» «1»، و في صحيح له آخر عنه عليه السّلام: «يغسل غسله واحدة بماء ثم يغتسل [يغسل. يب. صا] بعد ذلك «2»، و في خبر له ثالث عنه عليه السّلام: «غسل غسلا واحدا ثم يغسل بعد ذلك» «3».

و ظاهر الصحيح الأول اغتسال المغسل بعد تغسيله للميت، لا تغسيل الميت غسلين، كما هو ظاهر الصحيح الثاني علي نسخة الوسائل المطبوعة حديثا، و المناسب لتوصيف الغسل الأول بالوحدة في الأحاديث الثلاثة، إذ لا حاجة له لو أريد الغسل لخصوص الجنابة، لمعلومية وحدته، و حينئذ يبعد تعدد روايات العيص الأربعة و حكايتها عن أسئلة متعددة، بل يقرب كونها رواية واحدة حاكية عن سؤال واحد مضطربة بسبب النقل بالمعني.

و من هنا يشكل البناء علي استحباب تعدد تغسيل الميت في الفرض و إن احتمله في التهذيبين و المنتهي، و لم يستبعده في المستند، بعد أن حكي عن والده العدم، بل ظاهر المعتبر أن عدم الاستحباب كعدم الوجوب في أنه قول أكثر أهل العلم. فلاحظ.

مسألة: 23: إذا كان محرما لا يجعل الكافور في ماء غسله الثاني

(1) فقد أطلق جماعة من قدماء الأصحاب و متأخريهم أن المحرم لا يقرب طيبا، و في الخلاف الإجماع علي أنه لا يقرب كافورا، كالإجماع في الغنية علي أنه لا يطيب به، و ظاهر غير واحد المفروغية عنه و أن الخلاف في كشف رأسه و غيره.

و مقتضي إطلاق جملة منهم عدم الفرق بين الغسل و الحنوط، كما صرح بالتعميم لهما في السرائر و القواعد و التذكرة و غيرها، و هو معقد الإجماع المدعي في جامع المقاصد، بل ادعي في المنتهي الإجماع علي ذلك في الغسل. فما في كشف اللثام من احتمال اختصاص أكثر عبارات الأصحاب بالحنوط غير ظاهر.

نعم، لا يبعد كونه مقتضي الجمود علي المتيقن من النهي في كلام بعضهم عن قرب الكافور منه، حيث يحتاج تعميمه إلي قرب مائه إلي عناية، و أظهر منه التعبير بالإمساس. لكن مناسبة الإحرام للتعميم تصلح قرينة عليه.

______________________________

(1) الوسائل باب 31 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) الوسائل باب 31 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

(3) الوسائل باب 31 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

ص: 273

______________________________

و من هنا لا يبعد أن يكون اقتصار بعضهم- كما في الغنية و الوسيلة- علي التنبيه له في الحنوط ليس للخلاف في الغسل، بل للاكتفاء في التعميم للغسل علي المناسبة المذكورة، أو للغفلة عن استقصاء الفروع. كما لعله الوجه في إهمال بعضهم التنبيه عليه في الغسل و التحنيط معا.

و كيف كان، فيقتضيه صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام و عنه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن المحرم إذا مات كيف يصنع به؟ قال: يغطي وجهه و يصنع به كما يصنع بالحلال غير أنه لا يقربه طيبا» «1»، لوضوح أن تقريب الطيب للميت كناية عن تطييبه به، و هو شامل للتغسيل بماء الكافور.

نعم، في موثق أبي مريم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: خرج الحسين بن علي عليه السّلام و عبد اللّه و عبيد اللّه ابنا العباس و عبد اللّه بن جعفر و معهم ابن للحسن يقال له عبد الرحمن فمات بالأبواء و هو محرم فغسلوه و كفنوه و لم يحنطوه و خمروا وجهه و رأسه و دفنوه» «2»، و الاقتصار فيه علي عدم التحنيط مع إطلاق التغسيل ظاهر في إرادة التغسيل المعهود المشتمل علي الغسل بماء الكافور.

و قريب منه في ذلك موثقة الآخر في بيان قصة عبد الرحمن بن الحسن عليه السّلام و فيه: «فكفنوه و خمروا وجهه و رأسه و لم يحنطوه» «3» فإن عدم التعرض فيه للغسل و الاقتصار علي التنبيه علي عدم التحنيط موجب لظهوره في عدم الخروج في كيفية التغسيل عن المعهود. و نحوهما معتبر ابن أبي حمزة عن أبي الحسن عليه السّلام: «في المحرم يموت. قال: يغسل و يكفن و يغطي وجهه و لا يحنط و لا يمس شيئا من الطيب» «4».

لما ذكرنا من أن مقتضي إطلاق التغسيل إرادة المعهود منه بعد ظهور كون قوله عليه السّلام فيه: «و لا يمس شيئا من الطيب» في تأكيد قوله: «و لا يحنط» لانصراف الإمساس له دون مثل الغسل بماء الكافور، كما هو الحال في جملة أخري من نصوص المقام قد تضمنت الإمساس، منها موثق سماعة: «سألته عن المحرم يموت، فقال:

يغسل و يكفن بالثياب كلها و يصنع به كما يصنع بالمحل غير أنه لا يمس الطيب» «5».

اللهم إلّا أن يقال: انصراف إمساس الطيب عن مثل التغسيل بماء الكافور

______________________________

(1) الوسائل باب 13 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(2) الوسائل باب 13 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(3) الوسائل باب 13 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(4) الوسائل باب 13 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(5) الوسائل باب 13 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 274

______________________________

لو تم في نفسه لا مجال له في المقام، حيث كان مقتضي المناسبة الارتكازية أن المنشأ له حرمة الطيب علي المحرم، فيقرب كونه كناية عن مطلق التطيب و لو بالتغسيل المذكور، فيكون عطفه في معتبر ابن أبي حمزة من عطف العام علي الخاص لا تفسيريا للتأكيد.

و منه يظهر أنه لا مجال للتعويل علي موثقي أبي مريم الحاكيين لقصة عبد الرحمن ابن الحسن عليه السّلام، لأنها قد وردت في صحيحي عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه و عبد اللّه ابن سنان «1» مع ابدال قوله: «و لم يحنطوه» بقوله عليه السّلام فيهما: «و لم يمسه طيبا» الذي عرفت قرب ظهوره في العموم، و حيث كانت القضية واحدة قد اختلف الصحيحان و الموثقان في نقلها، فإن لم يترجح الصحيحان فلا أقل من التساقط و الرجوع إلي إطلاق الإمساس في موثق سماعة المتقدم غير المتعرض للقصة المذكورة، الذي عرفت قرب شموله للتغسيل، و إطلاق قرب الطيب في صحيح محمد بن مسلم الذي لا إشكال في شموله له.

هذا، كله مضافا إلي أن دلالة النصوص المذكورة- و عمدتها الموثقان- علي جواز التغسيل بماء الكافور لو كانت صالحة لأن يعول عليها في نفسها إنما تكون بالإطلاق، و ليس هو بأقوي من إطلاق صحيح محمد بن مسلم الظاهر في عموم المنع، بل الظاهر أن مطابقة الثاني لمناسبة الحكم و الموضوع التي هي من سنخ القرائن المتصلة موجبة لأقوائيته و تقديمه. و لا سيما مع بعد الجمود علي التحنيط الذي تضمنه الموثقان و عدم التعدي لغيره، كتطيب الميت أو الكفن بالذيرة و نحوه.

و يؤيد ما ذكرنا ما عن ابن عباس: «ان محرما و قصت به ناقته فمات، فذكر ذلك للنبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: اغسلوه بماء و سدر و كفنوه و لا تخمروا رأسه، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا» «2».

و مما ذكرنا يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث قال: «و لو لا الإجماع علي عدم جواز تغسيله بماء الكافور أمكن الخدشة فيه من حيث ظهور الأخبار في المنع

______________________________

(1) الوسائل باب 13 من أبواب غسل الميت حديث: 1، 3.

(2) مستدرك الوسائل باب 13 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 275

______________________________

عن التحنيط، و في تغسيله التغسيل المعهود الذي منه إدخال جزء قليل من الكافور في الماء الثاني». فإن ذلك لو تم في بعض الأخبار بنحو يصلح لأن يعول عليه لا يتم في باقيها، الذي عرفت أنه يلزم تنزيل غيره عليه. بقي في المقام أمران:

الأول: صرح غير واحد بعدم الفرق بين أنواع المحرم حتي من أفسد حجه.

و يقتضيه إطلاق غير واحد من النصوص المتقدمة، لأن فساد الحج لا يستلزم فساد الإحرام كي يخرج عن موضوعها.

الثاني: صرح جمهور الأصحاب بعدم وجوب كشف رأس المحرم في التكفين، و في جامع المقاصد و كشف اللثام أنه قول الأكثر و في المختلف أنه قول المشهور، و هو داخل في معقد إجماع الخلاف المتقدم و في التذكرة: «و لا يمنع من المخيط و لا من تغطية الرأس و الرجلين. قاله الشيخ و أكثر علمائنا». و يقتضيه أكثر نصوص المسألة مما تقدم و غيره تصريحا أو عموما أو إطلاقا.

و عن المرتضي في شرح الرسالة أن الأشبه أن لا يغطي رأسه، و عن ابن أبي عقيل أنه يكشف رأسه و وجهه «1»، و عن الجعفي أنه زاد كشف رجليه.

و استدل له.. تارة: بما تقدم عن ابن عباس معتضدا بمرسل الصدوق عن الصادق عليه السّلام: «من مات محرما بعثه اللّه ملبيا» «2».

و أخري: بأن حكم الإحرام باق بعد الموت، و لذا حرم الطيب. و كلاهما- كما تري- لا ينهض بالاستدلال في نفسه فضلا عن الخروج به عما تقدم.

للإشكال في الأول بعدم ثبوت خبر ابن عباس من طرقنا، و مرسل الصدوق- مع ضعفه في نفسه غير دال علي المطلوب. و في الثاني بأنه لا ريب في ارتفاع حكم الإحرام بالموت، لسقوط الميت عن التكليف. و حرمة تطييبه لا تقتضي حرمة تعريضه لمحرمات الإحرام الأخري بفهمه من دليله إلّا بإلغاء خصوصيته عرفا، و هو غير ظاهر، أو بالقياس الباطل عندنا.

______________________________

(1) قيل: أي لا يغطي وجهه ان كان امرأة و لا يغطي رأسه ان كان رجلا.

(2) الوسائل باب 13 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

ص: 276

إلّا أن يكون موته بعد طواف الحج (1)

______________________________

(1) كما عن نهاية الأحكام، و في الحدائق و الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه لا يخلو عن قوة لقصور النصوص عنه، أما الحاكية لموت عبد الرحمن بن الحسن عليه السّلام فلتضمنها بالأبواء في طريق مكة، و أما النصوص المطلقة فلأن المنصرف منها كون عدم تطييب الميت المحرم لحرمته عليه حين الموت، فلا تشمل من حل له الطيب حينه.

و منه يظهر أن المدار علي حلية الطيب للمحرم، علي الخلاف في حليته بمجرد طواف الحج أو بعد صلاته بها أو بعد السعي الواجب فيه في حج التمتع، كالخلاف في حليته بأحد الأمور المذكورة أو بمجرد الفراغ من مناسك مني يوم النحر في حج القران و الإفراد.

أما عمرة التمتع فالظاهر عدم الإشكال في عدم التحلل منها مطلقا إلّا بالتقصير، كعدم الإشكال في عدم الاحلال من العمرة المفردة إلّا به أو بالحلق.

و من ثم يشكل ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه- تبعا للعروة الوثقي- من إلحاق طواف العمرة بطواف الحج. كما يشكل إطلاقه المذكور في الحج مع ذهابه إلي جواز الطيب للمفرد و القارن بمجرد الإتيان بمناسك مني يوم النحر، و عدم جوازه للمتمتع إلّا بالفراغ من السعي.

هذا، و في شرح الإرشاد للأردبيلي: «و الظاهر أن الحكم باق ما دام كونه محرما حرّم عليه الطيب. و يحتمل إلي كونه محرما في الجملة. و يحتمل كونه محرما بحيث ما صار محلا أصلا، فيجب بعد الحلق. لأن دعوي الإجماع قبله معلوم و بعده غير معلوم، و الأصل يؤيده، و عموم غسل الميت بالكافور كذلك، و عدم صدق المحرم عليه ظاهر، لأنه يلبس و يأكل ما لا يفعله المحرم، و عدم دليل يعتد به غير الإجماع، و هو هنا غير ظاهر التحقق».

و هو كما تري، حيث لا قصور في النصوص بعد وضوح دلالتها و اعتبار أسانيدها و استفاضتها، حيث يلزم الخروج بها عن الأصل و عموم تغسيل الميت بماء الكافور، و حيث كان لجملة منها إطلاق كان مقتضاه ثبوت الحكم ما دام الإحرام

ص: 277

و العمرة (1). و كذلك لا يحنط بالكافور (2)، بل لا يقرب إليه طيب آخر (3). و لا يلحق به المعتدة للوفاة و المعتكف (4).

(مسألة: 24): يجب تغسيل كل مسلم حتي المخالف (5) عدا صنفين:

______________________________

باقيا الذي لا ينافيه التحلل من بعض محرماته، لو لا ما عرفت من المناسبة الموجبة لفهم دوران الحكم مدار حرمة الطيب حال الموت، و هو يجري حتي لو سلم ما ذكره من قصور الإطلاق عما لو حل له بعض محرمات الإحرام بمحلل.

(1) عرفت الإشكال في إلحاق طواف العمرة بطواف الحج، و أنه لا يتحلل منها من حرمة الطيب إلّا بالتقصير أو الحلق.

(2) فانه متيقن مما تقدم من النصوص و الفتاوي.

(3) كما هو مقتضي إطلاق جملة من النصوص و الفتاوي و بعض معاقد الإجماعات، بل تحريم الكافور مع وجوبه بالأصل للميت يقتضي تحريم غيره من الطيب مما لا يحل له بالأولوية العرفية بعد ارتكاز أن المنشأ له حرمة الطيب علي المحرم.

(4) و إن حرم عليهما الطيب حال الحياة. و بذلك صرح جماعة. لسقوط حكم العدة و الاعتكاف بالموت، لخروج الميت عن قابلية التكليف، كما تقدم في المحرم، و إلحاقهما بالمحرم في حرمة التطييب بعد الموت قياس باطل عندنا.

مسألة: 24: يجب تغسيل كل مسلم حتي المخالف عدا صنفين
اشارة

(5) أما وجوب تغسيل أهل الحق من دون فرق بين أقسامهم و عدم مانعية الذنوب منه فهو المتيقن من النصوص و الفتاوي. كما أن عدم وجوب تغسيل من لا يجري عليه أحكام الإسلام ممن ينتحله كالنواصب و الغلاة كعدم تغسيل الكافر الصريح بأقسامه مما لا إشكال فيه بينهم و أرسل في كلماتهم إرسال المسلمات.

ففي المستند: «و إن كان كافرا فلا يجوز غسله و لا كفنه و لا دفنه و لا الصلاة عليه بإجماعنا المحقق و المحكي متواترا»، و في الجواهر: «و لا يغسل الكافر إجماعا محصلا [و. ظ] منقولا علي لسان مثل الشيخ و العلامة و الشهيد و غيرهم»، و قد ادعي في الخلاف الإجماع علي عدم تغسيل المشرك، و في التهذيب إجماع الأمة علي عدم تغسيل

ص: 278

______________________________

الكافر، و في التذكرة إجماع علمائنا علي عدم تغسيله بأقسامه، إلي غير ذلك من كلماتهم.

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك- موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه سئل عن النصراني يكون في السفر و هو مع المسلمين فيموت. قال: لا يغسله مسلم و لا كرامة، و لا يدفنه و لا يقوم علي قبره، و إن كان أباه» «1»، و يتعدي لغيره من أقسام من لا يقر بالشهادتين بفهم عدم الخصوصية، و بالإجماع علي عدم الفصل، مؤيدا بما عن المرتضي في شرح الرسالة: «انه روي عن يحيي بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام النهي عن تغسيل المسلم قرابته الذمي و المشرك و أن يكفنه و يصلي عليه و يلوذ به» «2»، و منه يظهر الحال فيمن يحكم بكفره ممن ينتحل الإسلام.

و أما سائر المخالفين ممن تحرم دماؤهم فقد وقع الكلام بين الأصحاب في تغسيلهم و عدمه، حيث صرح بوجوب تغسيلهم العلامة في القواعد و جملة ممن تأخر عنه، و في الجواهر: «فالمشهور تحصيلا و نقلا في الذكري و الروض و الحدائق و الرياض التغسيل» و عن المفاتيح انه مذهب الأكثر، كما هو ظاهر كل من أطلق وجوب تغسيل المسلم، كما في الوسيلة و التذكرة، خصوصا مع الاقتصار علي استثناء الخوارج و الغلاة، كما في الإرشاد، و في التذكرة و عن نهاية الأحكام الإجماع علي وجوب تغسيل المسلم، و عن مجمع البرهان: «و أما وجوب تغسيل المسلم فلعل دليله الإجماع».

لكن عبر في الشرائع بالجواز، و في المبسوط و النهاية و عن الجامع و البيان و الذكري كراهته، و في جامع المقاصد و عن الذكري و كشف الالتباس أنه المشهور، و في الدروس أنه الأشهر.

و قد حمل الأول في الجواهر علي الوجوب. و كأنه لأنه إذا شمله دليل المشروعية وجب بعموم دليل وجوب غسل الميت. كما حمل غير واحد الثاني علي كراهة المباشرة، إلّا أن ينحصر الأمر به فيجب، كما يناسبه التصريح بذلك من بعض من صرح بالوجوب الكفائي.

نعم، صرح بحرمة تغسيلهم لغير تقية في المقنعة، و هو ظاهر التهذيب في شرحه و المراسم و السرائر و محكي المهذب، و قربه في كشف اللثام- علي تفصيل- و المدارك

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب غسل الميت: حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 18 من أبواب غسل الميت: حديث: 2.

ص: 279

______________________________

و حاشيتها، و ظاهر المعتبر التوقف، و في كشف اللثام أنه لم يعثر علي موافق للعلامة في التنصيص علي الوجوب.

و من هنا لا مجال لما ذكره غير واحد من الاستدلال للوجوب بالإجماع علي تغسيل كل مسلم. بل يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه عمدة الدليل في المقام.

و دعوي: أن الخلاف المتقدم في وجوب تغسيلهم ليس للخلاف في عموم وجوب تغسيل المسلم، بل لشبهة كفرهم، فمع ثبوت إسلامهم لا مخرج عن الإجماع علي العموم المذكور المعتضد ببعض القرائن في كلمات الأصحاب، مثل ما ذكروه في حكم اختلاط قتلي المسلمين بالمشركين. و دفن الذمية الحامل من المسلم، و نحوهما مما يظهر منه المفروغية عن عموم تجهيز المسلم.

مدفوعة: بأن تعليل عدم وجوب تغسيلهم بكفرهم مما انفرد به الشيخ في التهذيب من القدماء، و يأتي الكلام فيه. و ظاهر من تبعه من المتأخرين في الاستدلال به عدم إرادة الكفر الحقيقي بلحاظ الدنيا، بل بلحاظ الآخرة، حيث إنهم كالكفار في انقطاع الولاية بيننا و بينهم و عدم نفع إسلامهم لهم بعد الموت، و التغسيل من شئون الآخرة التابعة للولاية و الاحترام.

و ليس اعتضاد دعوي الإجماع بما سبق من كلماتهم بأولي من اعتضاد دعوي الاختصاص بإطلاقهم كثيرا من أحكام الميت و آداب التجهيز كالدعاء للميت حين التغسيل و تكريمه و الرفق به و كتمان عيبه و تلقينه شهادة الحق و كتابتها علي كفنه و غير ذلك مما يناسب المفروغية عن اختصاصه بالمؤمن الصالح لذلك، بل يأتي أن الفروع المذكورة في كلمات الأصحاب رضي اللّه عنهم لا تناسب بناءهم علي وجوب تغسيلهم ذاتا كالمؤمن، و لأجل ذلك لم تخل كلماتهم عن الاضطراب المانع من تمامية دعوي الإجماع علي العموم و التعويل عليها، بل

يلزم النظر في بقية ما استدل أو يستدل به عليه، و هي أمور:
الأول: ما في الجواهر من استصحاب جريان أحكام المسلم عليه.

و يشكل- مضافا إلي ما تكرر منا من الإشكال في جريان استصحاب الأحكام التكليفية بعدم وحدة الموضوع غالبا- بأن مرجع الشك في المقام إلي احتمال كون وجوب التغسيل من أحكام خصوص المؤمن لا مطلق المسلم، و الاستصحاب

ص: 280

______________________________

المذكور لا يحرز كونه من أحكام مطلق المسلم. علي أن المتيقن حال الحياة جريان أحكام الحي من احترام الدم و المال و نحوه، و المشكوك بعدها جريان أحكام الموت، و هي مباينة للمتيقن. و عنوان أحكام الإسلام انتزاعي ليس مجعولا و لا موردا للأثر ليستصحب، فالاستصحاب المذكور أشكل من القسم الثالث لاستصحاب الكلي الذي كان المشهور المنصور عدم جريانه.

الثاني: ما دل علي عموم وجوب الصلاة علي المسلم.

قال في الجواهر: «إذ لا قائل بالفرق، سيما مع اشتراط الصلاة بالغسل، بل لعل الصلاة أولي بالمنع».

لكن وجه الأولوية إن كان ثبوت وجوب تغسيل بعض من لا تجب الصلاة عليه كالطفل، دون العكس إلّا لمانع، كالشهيد. أشكل بأن ذلك لا يكفي في الأولوية بنحو يكون دليلا في مورد احتمال العكس.

و إن كان هو أن الصلاة أظهر في الموالاة و الاحترام من الغسل فالاكتفاء فيها بالإسلام يقتضي الاكتفاء به في الغسل. أشكل بأن الصلاة المبنية علي الموالاة و الاحترام هي الصلاة علي المؤمن المشتملة علي الدعاء له، دون الصلاة علي المخالف المشتملة علي الدعاء عليه، بل هي مظهر العداء و المقاطعة، فوجوبها لا يقتضي وجوب التغسيل المبتني علي الاحترام ارتكازا. فتأمل.

فالعمدة ما ذكره أولا من عدم القول بالفرق المعتضد بارتكاز أن أفعال التجهيز كالعمل الواحد المبني علي حرمة الميت في الجملة، و لذا سيقت في النصوص و الفتاوي في مساق واحد، و عدم ثبوت بعضها في بعض الموارد لخصوصيات خاصة من تعذر أو عدم المقتضي أو نحوهما، لا للتفصيل بينها من الحيثية المذكورة. و لا سيما ما ذكره من شرطية الغسل في الصلاة.

و أما ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من أن دليل الترتيب و الشرطية إنما يدل عليهما في ظرف مشروعية الغسل، فلا يصلح للدلالة علي أصل المشروعية. فهو إنما يمنع من الاستدلال بذلك لا من كونه مؤيدا لما ذكرنا في تقريب عدم الفصل المدعي في المقام. و به يتضح إمكان الاستدلال بما دل علي وجوب غير الصلاة من أفعال التجهيز. نعم ذلك كله مبني علي تمامية عموم وجوب الصلاة أو غيرها في حق

ص: 281

______________________________

المخالف، و هو موكول إلي محله. فتأمل.

الثالث: ما أشار إليه في الجواهر من إيجاب تغسيل الميت في بلاد الإسلام

قال: «ما عساه يشعر به فحوي أخبار الباب و كلام الأصحاب من إيجاب تغسيل الميت في بلاد الإسلام، بل أبعاضه و إن لم يعرف مذهبه، و لا أصل يلحقه بالإمامي».

لكن لم يتضح المراد بالأخبار المذكورة. غاية ما في الباب موثق عمار: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما تقول في قوم كانوا في سفر لهم يمشون علي ساحل البحر، فإذا هم برجل ميت عريان قد لفظه البحر و هم عراة ليس عليهم إلّا إزار كيف يصلون عليه و هو عريان و ليس معهم فضل ثوب يكفنونه [به]؟ قال: يحفر له و يوضع في لحده … ثم يصلي عليه و يدفن» «1»، و قريب منه مرسل محمد بن أسلم فيمن كسر بهم في بحر فخرجوا علي الشط فإذا هم برجل ميت عريان «2»، و ما ورد فيمن أكله السبع أو الطير فبقيت عظامه من غير لحم أو يقتل فيقطع «3».

و الأولان- مع عدم التعرض فيهما للغسل- لا ظهور لهما في كون الميت في بلاد الإسلام، فلا بد من حملهما علي مجرد بيان كيفية الصلاة من دون نظر لتحديد مورد الوجوب ثبوتا و لا إثباتا.

و النصوص الأخيرة حيث كانت واردة في مقام البيان من جهة خاصة لا مجال للاستدلال بإطلاقها، و إنما يتجه الاستدلال بها لو كانت ظاهرة في فرض الجهل بالميت و أنه مؤمن أو مخالف، و لا ظهور لها في ذلك، بل لا يبعد حملها علي صورة معرفته و أنه ممن يجب تجهيزه.

نعم قد يظهر في فرض الجهل بالميت صحيح إسحاق بن عمار عن الصادق عن أبيه عليهما السّلام: «أن عليا وجد قطعا من ميت فجمعت ثم صلي عليها ثم دفنت» «4»، لأن توليه عليه السّلام لذلك دون أهل الميت يناسب عدم معرفتهم.

لكن الظاهر أنه وجدها في الكوفة أو نحوها من البلدان الداخلة في طاعته و الدائنة بإمامته في الجملة التي كان يجري عليها أحكام الإيمان واقعا أو مداراة أو

______________________________

(1) الوسائل باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

(3) راجع الوسائل باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة.

(4) الوسائل باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 282

______________________________

ظاهرا لغلبة دعوة الإيمان فيها، نظير أصالة الإسلام في البلاد التي يغلب فيها.

و أما كلمات الأصحاب فلو فرض استفادة ذلك منها، فحيث تقدم خلافهم في تغسيل المخالف لا طريق لإحراز اتفاقهم علي ذلك مع العلم بكون الميت مخالفا، و لو فرض إحراز اتفاقهم عليه مع الجهل بإيمانه فقد يكون لبنائهم علي وجوب الاحتياط في ذلك للاهتمام بحرمة الإيمان حتي مع احتماله، من دون أن يكشف عن عموم وجوب التجهيز واقعا لغير المؤمن.

الرابع: ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه

حيث قال- بعد ان ناقش في دلالة الأخبار و قرب الاستدلال بالإجماع-: «ثم لو سلمنا عدم ثبوت الإجماع علي الكلية كفي في المسألة ما دل علي أنه يجب المعاملة مع المخالف معاملة المسلمين المؤمنين في الأمور المتعلقة بالمعاشرة التي من أهمها أن لا يعامل مع موتاهم معاملة الكلاب. هذا واضح لمن لاحظ تلك الروايات».

و فيه: أنه إنما يقتضي وجوب التجهيز أو استحبابه حيث يكون دخيلا في المداراة الواجبة و المستحبة لدفع شرهم أو لجلب قلوبهم باختلاف الظروف و المناسبات، كالصلاة خلفهم و عيادة مرضاهم و تشييع جنائزهم، لا مطلقا، كما هو المدعي.

و دعوي: كونه عاما حكمته المداراة، لا بد فيها من عموم الأدلة، كعموم أدلة احترام الدم و المال، و المفروض عدم وفاء النصوص و الإجماع به. كدعوي: أن المداراة الظاهرية لا يتأتي بها الغرض، إذ قد يطلعون علي حقيقتها فتزيد حنقهم. إذ هي لا تختص بالمقام، بل تجري في جميع ما ورد الأمر به للمداراة، كالصلاة خلفهم و عيادة مرضاهم و نحوهما مما لا مجال للبناء علي وجوبه واقعا و لو لم تتوقف عليه المداراة.

الخامس: إطلاق النصوص أو عمومها،

كقوله عليه السّلام في موثق سماعة: «غسل الميت واجب» «1»، و في مضمر أبي خالد: «أغسل كل الموتي: الغريق و أكيل السبع و كل شي ء إلّا ما قتل بين الصفين، فإن كان به رمق غسل، و إلّا فلا» «2»، و ما ورد في الزوج و الزوجة و المحارم و أولياء الميت، و نحو ذلك مما تشمل بإطلاقاتها المخالف، علي ما ذكره في الجواهر.

______________________________

(1) الوسائل باب: 1 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 283

______________________________

و قد استشكل شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الاستدلال بالموثق بأنه وارد مورد تشريع غسل الميت بنحو القضية المهملة، نظير ما تضمن تشريع بعض الصلوات، و في المضمر بأن ظاهر العموم فيه بقرينة تفصيل أفراده و استثناء الشهيد منه إرادة التعميم من حيثية أسباب الموت. كما قد يشكل عموم بقية النصوص بورودها في مقام البيان من جهات خاصة، كمشروعية تغسيل الزوج و المحارم و لزوم مراجعة الولي و نحو ذلك، من دون أن يكون لها إطلاق من حيثية أفراد الميت يشمل المخالف.

أقول: حمل الموثق علي القضية المهملة لا يناسب سوق غسل الميت في سياق جملة من الأغسال قد أخذت فيها بعض الخصوصيات و الشروط، حيث قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الجمعة فقال: واجب في السفر و الحضر، إلّا أنه رخص للنساء في السفر و قلة الماء. و قال: غسل الجنابة واجب، و غسل الحائض إذا طهرت واجب، و غسل الاستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف فجاز الدم الكرسف … و غسل الميت واجب … و غسل الزيارة واجب إلّا من علة … »، فالظاهر ثبوت الإطلاق له.

كما قد يستفاد إطلاق وجوب تغسيل المسلم من موثق عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت: فإن مات رجل مسلم و ليس معه رجل مسلم و لا امرأة مسلمة من ذوي قرابته … قال: يغتسل النصاري ثم يغسلونه فقد اضطر. و عن المرأة المسلمة تموت و ليس معها امرأة مسلمة و لا رجل مسلم من ذوي قرابتها، … قال: تغتسل النصرانية ثم تغسلها» «1»، فإنه و إن كان واردا لبيان حكم تعذر التغسيل من المسلم المماثل إلّا أن إطلاق عنوان الإسلام فيه ظاهر في المفروغية عن وجوب غسل المسلم، و ليس هو كإطلاق عنوان الرجل أو المرأة أو الميت في النصوص الواردة لبيان أحكام أخر، بل هو عنوان عرضي زائد علي الموت مناسب للاحترام الذي يبتني عليه تجهيز الميت. فالتنبيه له ظاهر في المفروغية عن كونه معيارا في وجوب التغسيل.

و نحوه في ذلك موثقة الآخر في المسلم يموت مع رجال نصاري و معه عمته و خالته المسلمتان، و المرأة المسلمة تموت مع نساء نصاري و معها عمها و خالها

______________________________

(1) الوسائل باب: 19 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 284

______________________________

المسلمان «1». مؤيدا بقوله عليه السّلام في موثقة المتقدم في النصراني يموت مع المسلمين:

«لا يغسله مسلم و لا كرامة و لا يدفنه … » «2» حيث يشعر بأن التغسيل كسائر أفعال التجهيز كرامة منه للمسلم لا يستحقها منه إلّا مسلم.

كما يعتضد أو يؤيد بما ورد في بقية أفعال التجهيز- التي سبق في الوجه الثاني تقريب عدم الفرق بينها- كمعتبر طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عليهما السّلام:

«قال: صل علي من مات من أهل القبلة و حسابه علي اللّه» «3»، و خبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: صلوا علي المرجوم من أمتي و علي القاتل نفسه من أمتي، لا تدعو أحدا من أمتي بلا صلاة» «4»، كما قد يشعر به معتبر أبي خديجة عنه عليه السّلام: «قال: الكتان كان لبني إسرائيل يكفنون به موتاهم، و القطن لأمة محمد «صلي اللّه عليه و آله» «5».

هذا، و لكن عنوان الإسلام و الأمة و نحوهما كما أخذت في المقام أخذت في كثير من الأحكام المبنية علي الحرمة و الولاية، حيث ورد في النصوص المستفيضة بيان حق المسلم علي المسلم و ثبوت الأخوة بينهما و الأمر بتوقير المسلم و حبه و الدعاء له و النصيحة له و النهي عن إهانته و إيذائه و سبه و خذلانه و ترويعه و غشه و مماكرته و مهاجرته و تعييره و اغتيابه إلي غير ذلك، فإن ذلك كما ورد في كثير من النصوص علي عنوان المؤمن ورد في كثير منها علي عنوان المسلم «6» مع ما هو المعلوم من اختصاصه بالمؤمن الذي وجبت موالاته، دون غيره ممن تجب البراءة منه.

و الظاهر أن ذلك ليس مبنيا علي تخصيص هذه النصوص مع عمومها في نفسها لغير المؤمن، بل لاختصاصها ابتداء بالمؤمن، بلحاظ أن الإيمان هو الأصل في الإسلام، لا بمعني البناء علي إيمان المسلم عند الشك في حاله، بل بمعني أن دين

______________________________

(1) الوسائل باب: 20 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 18 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 37 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 37 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 20 من أبواب التكفين حديث: 1.

(6) يوجد ذلك في جملة من أبواب الأحكام: تجهيز الميت و العشرة و الأمر بالمعروف و جهاد النفس و الدعاء و غيرها من الوسائل.

ص: 285

______________________________

الإسلام لما كان يدعو للإيمان إلي أصوله كان الإيمان مقتضي الإسلام بطبعه و إن خرج عنه أكثر المسلمين، حيث يصح مع ذلك إرادة الإيمان من الإسلام كما يناسبه شيوع التعاطف بينهما في الاستعمالات بنحو عطف التفسير، و إطلاقه في بعض النصوص مرادا به الإيمان، كصحيح ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «عجبت للمرء المسلم لا يقضي اللّه عزّ و جلّ له قضاء إلّا كان خيرا له، إن قرض بالمقاريض كان خيرا له و إن ملك مشارق الأرض و مغاربها كان خيرا له» «1».

و ظهور المسلم مع الإطلاق في مطلق من يشهد الشهادتين بسبب فهمه منه عرفا تبعا لشرحه في الأدلة، و إن كان مسلما إلّا أنه لا ينافي حملة علي خصوص المؤمن في الموارد المذكورة و نحوها من موارد الاحترام و الولاية. و منه المقام، حيث لا إشكال في أن المرتكز عرفا- كما يستفاد من جملة من النصوص- أن تجهيز الميت يبتني علي حرمته و كرامته المناسبة لولايته، كما يناسبه في خصوص التغسيل أيضا ما تضمن تعليله بأنه يجنب و انه ينبغي طهارته لمباشرة أهل الطهارة من الملائكة و ليشفع له «2».

و من هنا يشكل ظهور موثقات عمار المتقدمة في العموم للمخالف، و لا سيما مع عدم ورودها لتحديد من يجب تجهيزه، بل لبيان أحكام أخر مع ظهورها في المفروغية عن وجوب تجهيز المسلم، حيث لا يبعد الاتكال فيها علي القرينة الارتكازية المذكورة في إرادة المؤمن من المسلم، و مع ورود نظير ذلك في بعض نصوص تجهيز الميت، كقوله عليه السّلام في موثق ميسر: «من تبع جنازة مسلم أعطي يوم القيامة أربع شفاعات و لم يقل شيئا إلّا قال الملك: و لك مثل ذلك» «3»، و في مرسل الصدوق: «ضمنت لستة علي اللّه الجنة: رجل خرج في جنازة مسلم فمات فله الجنة … » «4»، و في النبوي: «من احتفر لمسلم قبرا محتسبا حرمه اللّه علي النار و بوأه بيتا من الجنة … » «5»، كما قد يكون عدم ردع الإمام عليه السّلام عن إطلاق العنوان و تنبيهه- تفضلا- لاعتبار الإيمان لمحذور من تقية و نحوها بعد أن لم يكن عليه السّلام متصديا لتحديد موضوع التجهيز.

______________________________

(1) الوسائل باب: 75 من أبواب الدفن حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب الدفن حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب الدفن حديث: 5.

(5) الوسائل باب: 2 من أبواب الدفن حديث: 2.

ص: 286

______________________________

و أما معتبر طلحة بن زيد فالتعبير بأهل القبلة فيه و إن كان ظاهرا في العموم لجميع فرق المسلمين، لظهور الفرق و الاختلاف فيهم في عهد الصادق عليه السّلام إلّا أن طلحة بن زيد لما كان عاميا فمن القريب أن يكون الإيهام بالتعبير المذكور واردا للمداراة و التقية مع إرادة خصوص أهل الحق منهم، لأنهم الحقيقيون بالقبلة، و يكون الإطلاق فيه بلحاظ الذنوب التي يرجي معها العفو و الرحمة، لظهوره في أن الصلاة عليه كرامة له لأجل إسلامه و كونه من أهل القبلة مع عدم القطع عليه بالهلكة، بل يوكل حسابه للّه، مع ما هو المعلوم من المذهب من القطع علي المخالفين بالهلكة، و ما تضمنته النصوص في كيفية الصلاة عليهم من عدم الدعاء لهم، بل جواز الدعاء عليهم و اللعن لهم، الذي لا يناسب كونها كرامة لهم.

بل حمل أهل القبلة في كلامه عليه السّلام علي ظاهره مع إخراج النصاب و الخوارج و نحوهم ممن وقع الاتفاق علي عدم وجوب تجهيزهم عنه بعيد جدا مع ما هو المعلوم من شيوع إطلاق العنوان المذكور علي الناكثين و القاسطين و المارقين الذين لا يخرجون عن الأقسام المذكورة.

و أما خبر السكوني فإطلاق الأمة فيه في كلام النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لو لم يكن لفرض نجاتها و وحدتها لعدم ظهور الفرّق بعد فيها، فلا أقل من عدم ظهوره في العموم لفرقها الهالكة. و لا سيما مع ظهوره في تكريم الأمة بالصلاة عليها. و قد يكون عدم تنبيه الإمام الصادق عليه السّلام علي اختصاص ذلك بالفرقة الناجية منها للتقية أو نحوها، لأن السكوني عامي أيضا. و لا بد أن يكون التعميم فيه بلحاظ ما تضمنه من اقتراف الذنوب التي لا تخرج عن الأمة المرحومة و لا توجب القطع بالهلكة.

كما أن معتبر أبي خديجة لا إطلاق له، لأن الحكم فيه بأن القطن كفن لهذه الأمة إنما هو لبيان رجحان تكفينها به دون غيره في فرض مشروعية التكفين، و لا يقتضي عموم مشروعيته لجميع أفراد الفرق المنتسبة لها و إن كانت هالكة، و لا سيما بملاحظة ما سبق من شيوع إرادة أهل الحق من الأمة.

فلم يبق إلّا إطلاق موثق سماعة، و لا يبعد نهوض ما سبق من ارتكاز كون التغسيل كرامة للميت و حفظا لحرمته بتقييده بالمؤمن، أو عدم الإطلاق فيه من هذه

ص: 287

______________________________

الجهة، و الا فمن البعيد انعقاد إطلاق الميت فيه بنحو يشمل الكافر، بحيث يكون خروجه للتخصيص بدليل منفصل، و حيث لا يكون قصوره عن الكافر ارتكازا إلّا بلحاظ كون التغسيل كرامة للميت لا يستحقها الكافر فهو جار في حق كل من لا يستحق الكرامة المذكورة من الفرق الهالكة التي لا ولاية بينها و بين المؤمنين، و لا أقل من التوقف فيه.

و لا سيما مع ورود نظير الإطلاق في جملة من الأحكام المختصة بالمؤمن، كما يظهر بملاحظة ما ورد في ثواب من غسل ميتا فأدي فيه الأمانة بكتمان عيبه «1»، و ما تضمن تعليل كراهة تسخين الماء للميت بالنهي عن تعجيل النار له «2»، و ما تضمن استحباب إيذان إخوان الميت بموته ليصلوا عليه و يستغفروا له فيكتسب و يكتسبون الأجر «3»، و ما تضمن إطلاق الدعاء للميت في شرح الصلاة عليه «4»، و ثواب تشييعه «5»، و كيفية المشي فيه «6»، و حمله «7»، و حفر القبر له «8»، و تلقينه و الدعاء له عند وضعه في قبره و بعد انصراف الناس عنه «9»، إلي غير ذلك مما أخذ فيه عنوان الجنازة و الميت من دون تقييد بالمؤمن، مع ما هو المعلوم من الاختصاص به.

و الظاهر أن المصحح لذلك المفروغية عن اختصاص تلك الأحكام به كسائر أفعال التجهيز لمناسبتها لموالاته و حرمته. بل من البعيد جدا أن لا يطهر المخالف من الحدث حال حياته لبطلان غسله و وضوئه ثم يهتم الشارع الأقدس بتطهيره منه بعد موته بتغسيل المؤمن له، و هو ذاهب إلي النار و مقدم علي مقارنة الشياطين و الكفار.

و يؤيد ما ذكرنا إن لم يدل عليه قوله تعالي: وَ لٰا تُصَلِّ عَليٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 8 من أبواب غسل الميت.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 1 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(4) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب صلاة الجنازة.

(5) راجع الوسائل باب: 2 من أبواب الدفن.

(6) راجع الوسائل باب: 5 من أبواب الدفن.

(7) راجع الوسائل باب: 7 من أبواب الدفن.

(8) راجع الوسائل باب: 11 من أبواب الدفن.

(9) راجع الوسائل باب: 20، 21، 30 من أبواب الدفن.

ص: 288

______________________________

وَ لٰا تَقُمْ عَلي قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ مٰاتُوا وَ هُمْ فٰاسِقُونَ «1»، فإن ظاهر النهي و التعليل فيه عدم مشروعية تجهيزهم، فلا بد أن يكون ما صدر منه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الصلاة عليهم بأربع تكبيرات- كما تضمنته جملة من النصوص- ليس لمشروعية الصلاة المذكورة و وجوبها، بل لمحض المداراة لأهلهم و ذويهم و دفعا للفضيحة عنهم بإعلان نفاق ميتهم مع كونها صلاة صورية و اختصاص الصلاة المشروعة بالصلاة المعهودة التامة التي يدعي فيها للميت و يستغفر له بخمس تكبيرات، كما يناسبه أيضا ما في الصحيح عن أم سلمة: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إذا صلي علي ميت كبر و تشهد، ثم كبر و صلي علي الأنبياء و دعا ثم كبر و دعا للمؤمنين [و استغفر للمؤمنين و المؤمنات] ثم كبر الرابعة و دعا للميت، ثم كبر الخامسة و انصرف، فلما نهاه اللّه عزّ و جلّ عن الصلاة علي المنافقين كبر و تشهد، ثم كبر و صلي علي النبيين، ثم كبر و دعا للمؤمنين، ثم كبر الرابعة و انصرف و لم يدع للميت» «2»، لظهوره في أن الصلاة بأربع تكبيرات صدرت منه لمجرد نهيه عن الصلاة علي المنافقين، لا لتشريع صلاة خاصة لهم.

و يناسبه أيضا ما في صحيح الحلبي عنه عليه السّلام: «قال: لما مات عبد اللّه بن أبي سلول حضر النبي صلّي اللّه عليه و آله جنازته فقال عمر: يا رسول اللّه أ لم ينهك اللّه أن تقوم علي قبره؟! فسكت. فقال: أ لم ينهك اللّه أن تقوم علي قبره؟! فقال: ويلك و ما يدريك ما قلت: أني قلت: اللهم احش جوفه نارا و املأ قبره نارا و اصله نارا … » «3». لظهوره في المفروغية عن عدم تشريع صلاة أخري غير المنهي عنه و أن إنكار عمر لجهله بحال ما صدر من النبي و تخيله انه من الصلاة المنهي عنها.

نعم، الآية الشريفة واردة في المنافقين و كذا عمله صلّي اللّه عليه و آله و المراد بهم في عصره من يظهر من الاعتراف بالدين ما لا يبطن، إلّا أن من القريب جدا التعدي منهم لجميع الفرق الضالة المنتحلة للإسلام، حيث تكشف الآية عن أن موضوع التجهيز ليس هو مجرد الإسلام العاصم للدم و المال و الذي عليه مدار التناكح و التوارث،

______________________________

(1) التوبة: 84.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 4 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4.

ص: 289

______________________________

لعدم الإشكال في حصوله من المنافقين، و حينئذ يقرب أن يكون موضوعه خصوص الإسلام المنجي من الهلكة و المستتبع لوجوب الموالاة و الموادة، و هو المختص بالفرقة المحقة الناجية، و إلحاق غيرها بالمنافقين المذكورين، كما يناسبه صحيح إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «سألته عن الصلاة علي الميت. فقال:

أما المؤمن فخمس تكبيرات، و أما المنافق فأربع و لا سلام فيها» «1»، لأن الشائع في عصره عليه السّلام إطلاق المنافق علي المخالفين، دون المعني المتقدم، لعدم شيوع الابتلاء به و معرفته حينئذ.

كما أن الظاهر أن الأمر منه عليه السّلام بالصلاة عليهم بأربع تكبيرات ليس لتشريع صلاة جديدة بل للتأسي بصلاة النبي صلّي اللّه عليه و آله علي المنافقين لوحدة المناط المصححة أيضا لإطلاق عنوان المنافق عليهم. فتأمل جيدا.

كما قد يؤيد أيضا بأن وجوب تجهيزهم يقتضي تجهيزهم التجهيز المشروع، و الاكتفاء بتجهيز ذويهم- خصوصا التغسيل الذي هو عبادة لا يصح من المخالف لا يكون إلّا لتقية أو نحوها، و ذلك يناسب السؤال عن حكم القدرة علي تجهيزهم التجهيز الصحيح التي كثيرا ما تتحقق في حق الشيعة، فعدم التعرض لذلك في النصوص يناسب المفروغية عن عدم تكليف أهل الحق بتجهيزهم المناسب لما عرفت من المرتكزات إلّا إذا توقفت عليه المداراة الواجبة، فتجب بملاك وجوب التقية المعلوم عند الشيعة، و يأتي لذلك مزيد توضيح.

و الحاصل: أن ملاحظة جميع ما تقدم و التأمل فيه موجب للاطمئنان بعدم وجوب تجهيزهم، و لا أقل من كونه مقتضي الأصل بعد عدم وضوح دليل معتد به علي الوجوب. و إن كان الأمر محتاجا لمزيد من الملاحظة و التأمل.

هذا، و قد استدل في التهذيب علي عدم جواز تغسيل المخالف بأنه كافر تترتب عليه أحكام الكافر إلّا ما خرج بالدليل، و الكافر يحرم تغسيله إجماعا، و لموثق عمار المتقدم في أول المسألة. و هو بظاهره واضح الدفع، لأن كفر المخالف لا يناسب اكتفاء النبي صلّي اللّه عليه و آله بالشهادتين في الإسلام و لا النصوص الكثيرة الشارحة له بالإقرار

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5.

ص: 290

______________________________

بهما و الحاكمة بأنه أعم من الإيمان «1»، و موضوع الإجماع و الموثق علي عدم تغسيل الكافر ما يقابل ذلك و يقصر عن المخالف قطعا. نعم قد يستأنس بالموثق لعموم الحكم للمخالف بظهوره في كون التغسيل كرامة للميت لا تناسب انقطاع الولاية بين المؤمن و المخالف، كانقطاعها بينه و بين الكافر. و مجرد اعتصام ماله و دمه و نحوه بالإسلام لا ينافي ذلك. لكنه- لو تم- مخالف لظاهر كلامه قدّس سرّه هذا و يأتي بعض ما يتعلق بالمقام في أوائل الفصل السابع.

بقي في المقام أمور.
الأول: اشرنا في صدر الكلام في المسألة إلي تصريح جملة من الأصحاب بكراهة تغسيل المخالف.

و قد حمل في المدارك و غيرها الكراهة ممن حكم بعموم الوجوب الكفائي له علي أقلية الثواب، كما هو الحال عندهم في سائر موارد الكراهة في العبادات، علي كلام لا مجال لتفصيله موكول لمبحث اجتماع الأمر و النهي من الأصول.

و كأن وجه الكراهة ملازمته لعنوان ثانوي يقتضيها، و هو كونه مظهرا لتكريمه فلا ينبغي صدوره من المؤمن في ظرف إمكان تأدي الواجب بفعل غيره من المخالفين.

بل قد تثبت الكراهة في تغسيل بعض المؤمنين من المتجاهرين بالفسق، حيث قد يكون في تصدي بعض المؤمنين من ذوي المكانة لتغسيله نوع تشجيع و ترويج للفسق، فينبغي تجنبه و الاكتفاء بتغسيل غيره ممن ليست له تلك المكانة من المؤمنين و لا يلزم منه المحذور المذكور.

بل قد يبلغ الأمر مرتبة الحرمة، فيجب تصدي الغير مع وجوده، و مع عدمه و الانحصار بمن يلزم منه المحذور المذكور يقع التزاحم بين وجوب تجنب المحذور المذكور و وجوب التجهيز، فيقدم الأهم و لا ضابط لذلك.

لكن مقتضي القاعدة- مع عدم لزوم محذور محرم- هو وجوب تولي المؤمن لتغسيل المخالف مع القدرة بناء علي دخوله في عموم وجوب التغسيل، لبطلان عبادة المخالف عند الأصحاب، و لا سيما مع مخالفة غسلهم لغسلنا في الكيفية.

______________________________

(1) راجع الكافي كتاب الإيمان و الكفر باب الشرائع و باب دعائم الإسلام و باب: ان الإسلام يحقن به الدم و باب: ان الإيمان يشرك الإسلام و الإسلام لا يشرك الايمان و باب: ان الإسلام قبل الايمان ج 2 ص:

17- 28 الطبعة الحروفية.

ص: 291

______________________________

اللهم إلّا أن يخرج عنها بالسيرة علي الاجتزاء بفعلهم، حيث لا مجال لحملها علي خصوص صورة تعذر قيام المؤمن به، لما هو المعلوم من كثرة الابتلاء بموارد القدرة علي ذلك، فلو كان البناء علي وجوب تولي المؤمن ذلك لبان و ظهر و كثر السؤال عنه و عن فروعه و خصوصياته، بل لوقع الهرج و المرج، و حيث لم يحصل شي ء من ذلك كشف عن المفروغية عن الاجتزاء بتغسيل المخالفين لأمثالهم، و معه لا مانع من كراهة تولي المؤمن لذلك.

هذا، و لكن ذلك كما لا يمكن أن يكون للاجتزاء بتغسيل المخالف للمخالف، مع وجوب تغسيل المخالف كفائيا علي المؤمن يمكن أن يكون لعدم وجوب تغسيل المخالف علي المؤمن، بل الثاني هو الأنسب بمقتضي الجمع بين الأدلة، لأن إطلاق أدلة شرح التغسيل و أدلة بطلان عبادة المخالفين أقوي من إطلاق وجوب التغسيل بنحو يشمل المخالف لو تم، فجعل السيرة المذكورة مقيدة للإطلاق الثاني أولي من جعلها مقيدة للإطلاقين الأولين. و من هنا سبق منا تأييد عدم وجوب تغسيل المخالف بالسيرة المذكورة. فلاحظ.

ثم إنه قال في كشف اللثام: «و نص المفيد علي الحرمة لغير تقية. و هو الوجه عندي إذا قصد إكرامه لنحلته أو لإسلامه، و حينئذ لا استثناء لتقية أو غيرها.

و بالجملة: فجسد المخالف كالجماد لا حرمة له عندنا، فإن غسل كغسل الجمادات من غير إرادة إكرام لم يكن به بأس. و عسي أن يكون مكروها لتشبيهه بالمؤمن. و كذا إن أريد إكرامه لرحم أو صداقة و محبة. و إن أريد إكرامه لكونه أهلا له لخصوص نحلته أو لأنها لا يخرجه عن الإسلام و الناجين حقيقة فهو حرام. و إن أريد إكرامه لإقراره بالشهادتين احتمل الجواز». و لا يخفي ما في كلامه من الاضطراب، قد يكون منشؤه اختلاف عبارات الأصحاب و اضطراب كلماتهم. و لا سيما بملاحظة ما ذكره أولا من الحرمة إذا قصد إكرامه لإسلامه، و ما ذكره أخيرا من احتمال الجواز إذا قصد إكرامه لإقراره بالشهادتين.

و الذي ينبغي أن يقال: محل الكلام هو الغسل المقصود به المشروعية، و ليس التكريم و نحوه إلّا علة أو حكمة لتشريعه من دون أن يكون قصده قيدا فيه، فبناء

ص: 292

______________________________

علي اختصاص المشروعية بالمؤمن يكون تغسيل غيره محرما حرمة تشريعية، و لا يحرم الإتيان بصورة الغسل إلّا إذا كان فيه تكريم له و تأييد لمذهبه.

و هو الذي يحل للتقية، لتأديها به من دون توقف علي قصد الغسل المشروع، إلّا مع فرض غفلة المكلف عن تأديها بدونه، و أما بناء علي عموم المشروعية للمخالف فيكون تغسيله واجبا كفائيا، و إن كره أو حرم مباشرته مع تأدي الواجب بفعل الغير علي ما سبق الكلام فيه.

و أما قصد تكريم المخالف لرحميته أو نحوها من الجهات العاطفية فهو حرام مطلقا لحرمة موادة أهل الضلال و وجوب بغضهم و البراءة منهم بلا إشكال. و أولي بالحرمة قصد تكريمه لنحلته. و وجوب تغسيله لو تم ليس لجواز قصد تكريمه، بل هو تعبد محض. و كذا إكرامه لإقراره بالشهادتين، بل هو كإكرام الكتابي لإقراره باللّه سبحانه، لعدم صلوح بعض العقائد الحقة للتكريم، لأن الموجب للدخول في ولاية اللّه تعالي إنما هو تحقق جميعها.

الثاني: صرح في كتاب الجنائز من المبسوط و الخلاف و كتاب الجهاد من المنتهي و التذكرة بعدم تغسيل القتيل من أهل البغي،

و ذكر في كتاب الباغي من الخلاف أنه يغسل و يصلي عليه، و به صرح في مبحث الجنائز من المنتهي، بل قد يحمل عليه كلام كل من اقتصر في الاستثناء من وجوب تغسيل المسلم علي الغلاة و الخوارج أو مع النواصب، لأن الخوارج في العرف الفرقة المعروفة المتدينة بكفر أمير المؤمنين عليه السّلام بالتحكيم، لا كل من خرج علي الإمام.

بل قد يظهر من المنتهي الإجماع منا علي تغسيل الباغي، حيث اقتصر علي نسبة الخلاف إلي أبي حنيفة. و ظاهر المعتبر و التذكرة في كتاب الطهارة التوقف.

و استدل الشيخ للأول بأنه كافر. كما استدل في المنتهي للثاني بأنه مسلم. و يظهر حال الأول مما تقدم في استدلاله به لعدم تغسيل المخالف. و الثاني يبتني علي ثبوت عموم المسلم الذي عرفت الإشكال فيه.

علي أنه لو تم لزم الخروج عنه بما هو الظاهر من سيرة أمير المؤمنين عليه السّلام في البغاة عليه، حيث لم يعرف عنه تجهيزهم. بل روي ابن الأثير في الكامل أنه عليه السّلام أنكر

ص: 293

______________________________

علي من دفن أهل النهروان و قال: «أ تقتلونهم ثم تدفنونهم» «1». و مقتضاه منافاة جواز القتل للتجهيز، فيعم جميع البغاة، و لا يختص بمورده.

و في مرسل الاحتجاج عن صالح بن كيسان: «أن معاوية قال للحسين عليه السّلام:

هل بلغك ما صنعنا بحجر بن عدي و أصحابه شيعة أبيك؟ فقال عليه السّلام: «و ما صنعت بهم؟ قال: قتلناهم و كفناهم و صلينا عليهم. فضحك الحسين عليه السّلام فقال: خصمك القوم يا معاوية، لكنا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم و لا غسلناهم، و لا صلينا عليهم و لا دفناهم [و لا قبرناهم]» «2».

نعم، لا مجال للاحتجاج بهما بعد عدم تمامية سندهما. فالعمدة سيرته عليه السّلام المشار إليها.

ثم إن المتيقن من البغاة الذين لا يجوز تجهيزهم من خرج علي الإمام العادل أو نائبه من دون نظر لعقيدته. دون غيرهم ممن دخل في حرب محرمة، كما لو اشترك المسلم مع الكفار في ضرب بيضة الإسلام من دون إمام عادل يحكم المسلمين، حيث لا يخلو جريان الحكم عليه عن إشكال، لأن قتال المسلمين للدفع عن بيضة الإسلام و إن كان مشروعا، بل واجبا مطلقا و لو مع عدم الإمام العادل، إلّا أن ذلك وحده لا يكفي في جريان حكم البغاة علي من قاتلهم و إن حرم فعله و حل قتله، لعدم أخذ عنوان البغاة و لا تحديده في الأدلة.

و أظهر من ذلك ما لو كان المقاتل مجبورا أو لم يتنقح له مشروعية الحرب من المسلمين الذين يقاتلهم، لشبهة موضوعية أو حكمية، لأن ذلك و إن لم يكف في جواز قتاله لهم إلّا أنه لم يتضح له جريان حكم البغاة عليه بعد ما تقدم، و عدم الابتلاء به في عصور المعصومين عليهم السّلام و موضوع سيرة أمير المؤمنين عليه السّلام غيره و التعدي منه له يحتاج إلي دليل. فلا مخرج عن عموم وجوب تجهيز المسلم أو المؤمن علي الكلام المتقدم.

الثالث: مقتضي إطلاق سيدنا المصنف قدّس سرّه هنا وجوب تغسيل المخالف علي الوجه المشروع عندنا

كما صرح به في المستند و الجواهر و غيرهما، و جعله في الحدائق

______________________________

(1) كامل بن الأثير: ج 3 ص: 348. طبعة دار صادر و دار بيروت.

(2) الوسائل باب: 18 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 294

______________________________

المتعين بناء علي وجوب التغسيل و استدل عليه غير واحد بأنه مقتضي إطلاق أدلة شرح التغسيل بعد فرض عموم وجوبه للمخالف.

لكن صرح جمهور الأصحاب بأنه يغسل غسل أهل الخلاف. من دون فرق بين من حكم بحرمة غسله إلّا لتقية- كما في المقنعة و غيرها- و من اقتصر علي كراهته- كما في المبسوط و النهاية- و من زاد عليها التعبير بجواز التغسيل- كما في الشرائع- أو التصريح بالوجوب الكفائي- كما في القواعد و الإرشاد و غيرهما- و في جامع المقاصد:

«و ظاهرهم أنه لا يجوز تغسيله غسل أهل الولاية، و لا نعرف لأحد تصريحا بخلافه».

و قد استدل عليه في كلام غير واحد بقاعدة الإلزام المستفادة من النصوص المتضمنة جريان أحكامهم عليهم، و أنهم يلزمون بما ألزموا به أنفسهم، و أن من دان بدين قوم لزمته أحكامهم «1».

و قد استشكل فيه.. تارة: بما في الجواهر من أن التغسيل خطاب للمغسل، لا للميت.

و أخري: بما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من عدم ظهور شمولها للأموات.

و يندفع الأول بأن الإلزام إنما يكون في الأحكام الموجهة لغير الملزم المتعلقة به، فلو وجب الإنفاق علي شخص لا يجب في دينه النفقة عليه جاز إلزامه بعدم وجوب الإنفاق و إن كان المخاطب بالإنفاق هو المؤمن. و الثاني بعدم الوجه في التوقف في شمول القاعدة للأموات مع إطلاق أدلتها، فلو كان من دين الموصي عدم نفوذ الوصية بالثلث جاز لورثته المؤمنين إلزامه بذلك.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال وجوه:

الأول: أن غاية مقتضاها جواز الإلزام بالاقتصار علي تغسيلهم، لا لزومه و حرمة الاقتصار علي تغسيلنا- كما هو ظاهر الأصحاب- لورودها مورد الإرفاق بالمؤمنين، كما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

و دعوي: أنه مع جواز الاقتصار علي تغسيلهم فاختيار تغسيلنا مظهر موادة منهي عنه.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب 3 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه و باب: 4 من أبواب ميراث الأخوة و الاجداد.

ص: 295

______________________________

مدفوعة: بأنه لا مجال لاستفادة النهي عنه من الحيثية المذكورة بعد فرض كون الجواز مقتضي الجمع بين عموم دليل التشريع و قاعدة الإلزام.

نعم، لو كان الداعي لاختيار تغسيلنا الموادة كانت الموادة بنفسها محرمة. لكن الداعي قد يكون أمرا آخر، ككون تغسيلنا أيسر علي المؤمن و لو بسبب معرفته به و عدم احتياجه لتعلمه.

الثاني: أن موضوع القاعدة لما كان هو الإلزام فهي انما ترفع الأحكام المتمحضة في الخير للملزم و نفعه، وضعية كانت، كملكيتة، أم تكليفية كحرمة التصرف في ماله بغير إذنه، و ظاهر أدلة المقام و إن كان هو كون التغسيل خيرا للميت في الجملة، كما هو مقتضي المرتكزات أيضا، إلّا أنه لم يتضح تمحضه في ذلك، بل قد يكون لأمر راجع لغيره أيضا مما يقدم عليه من أمر الآخرة، نظير ما لو وجب تطهير المريض عند إرادة إدخاله المسجد، فإن التطهير و إن كان خيرا للمريض ارتكازا، إلّا أن فيها مراعاة لحرمة المسجد، و بلحاظ مثل ذلك لا يصدق الإلزام.

الثالث: أن قاعدة الإلزام لو جرت في المقام فهي إنما تقتضي عدم وجوب تغسيلهم التغسيل الصحيح المشروع عندنا بعد بنائهم علي عدم وجوبه، لا وجوب تغسيلهم التغسيل الثابت عندهم بعد كونه باطلا غير واجب عندنا، لأنها لا تقتضي بدلية مقتضي ديننا بمقتضي دينهم في حقهم، بل مجرد إلزامهم بمقتضي دينهم، و هو لا يقتضي إلّا ما ذكرنا.

و دعوي: أن وجوب تغسيلهم التغسيل الثابت عندهم هو مقتضي الجمع بين قاعدة الإلزام و وجوب التغسيل في الجملة الذي لا مجال لرفعه بالقاعدة المذكورة بعد كونه متفقا عليه بيننا و بينهم، فإذا وجب تغسيلهم و لم يجب أو لم يجز التغسيل بالوجه الصحيح عندنا لا بد من وجوب التغسيل الثابت عندهم و إلزامهم بصحته، لأنه مقتضي دينهم.

مدفوعة: بأن الخلاف بيننا و بينهم و إن كان في تعيين التغسيل لا في وجوبه، إلّا ان التشريع ثبوتا ليس إلّا لقضية واحدة، و هي وجوب التجهيز بالوجه الخاص الصحيح عندنا غير الواجب عندهم، و المفروض أن مقتضي قاعدة الإلزام عدم

ص: 296

______________________________

وجوبه علينا لهم إلزاما بمقتضي دينهم. و وجوب تغسيلهم التغسيل الصحيح عندهم يحتاج إلي دليل آخر غير القاعدة بعد ما أشرنا إليه من عدم تضمنها البدلية.

نعم، لو كان التشريع ثبوتا لقضيتين وجوب التغسيل، و كونه بالوجه الخاص المشروع عندنا، كان موضوع قاعدة الإلزام تعيين التغسيل، فيجوز أو يجب اختيار التغسيل الباطل عندهم بعد فرض عدم نهوضها بسقوط أصل التغسيل، لكونه مجمعا عليه بيننا و بينهم.

و كذا لو كانت قاعدة الإلزام إثباتية راجعة إلي حجية رأيهم ظاهرا لنا في الأحكام المتعلقة بهم، لا ثبوتية راجعة إلي تبدل الحكم المتعلق بهم واقعا في حقنا، إذ يتعين حينئذ اختصاصها بتعيين التغسيل المختلف فيه بيننا و بينهم، دون أصل وجوبه المتفق عليه.

لكن من المعلوم وحدة قضية التغسيل الشرعية ثبوتا و كون قاعدة الإلزام ثبوتية، فهي تقتضي رفع القضية المذكورة، من دون أن تقتضي ثبوت حكمهم في حقنا.

اللهم إلّا أن يقال: مفاد قاعدة الإلزام و إن كان هو إلزامهم بحكمهم، دون بدليته عن حكمنا، إلّا أن البدلية إذا كانت مقتضي نفس حكمهم الملزم به تعين البناء عليها لخصوصية المورد، كما لو كان الضمان عندنا بالمثل و عندهم بالقيمة فحكمهم بعدم وجوب المثل ليس استقلاليا، بل تابع لحكمهم بأن الضمان بالقيمة و إلزامهم بحكمهم إنما يكون بدفع القيمة بدلا عن المثل، و أما حرمانهم من المثل من دون دفع القيمة فهو ليس حكما لهم، ليصح إلزامهم به.

و نظيره المقام، لأن حكمهم بعدم وجوب غسلنا متفرع علي أن الغسل الواجب عندهم هو الغسل الآخر، فإلزامهم بحكمهم إنما يكون بالتغسيل بغسلهم لا بترك الغسلين.

نعم، يتجه ذلك لو لم يكن مقتضي حكمهم البدلية، كما لو وجب عندهم خدمة الزوجة لزوجها في شئون البيت و جاز خروجها من بيته بغير إذنه إذا لم يناف حقه، فلو كان الزوج مخالفا جاز لها إلزامه بجواز خروجها من بيته بغير إذنه من دون أن تخدمه في البيت، لعدم ابتناء خدمتها له علي البدلية عن خروجها بغير إذنه، بل كل منهما حكم مستقل عن الآخر من أحكام الزوجة.

ص: 297

______________________________

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال بقاعدة الإلزام الوجهان الأولان.

و مثلها في ذلك ما في كشف اللثام من الاستدلال لوجوب التغسيل بغسلهم بأنه إنما يضطر إليه تقية و شبهها. و بأن في غسلنا زيادة الإكرام.

إذ فيه: أنه لا بد في التقية من حصول سببها الذي لا يختص بتغسيل المخالف، بل قد يحصل في تغسيل المؤمن أيضا. و زيادة الإكرام مستند للجعل الشرعي لوجوب التغسيل و كيفيته المفروض عمومه للمخالف.

نعم، لو لم يكن مبني تغسيل المخالف هو وجوبه ذاتا، بل للتقية و المداراة اتجه الاقتصار علي تغسيله بالوجه الثابت عندهم لغلبة تأدي التقية و المداراة به حتي مع علمهم ببطلانه عندنا لأنهم يهتمون غالبا بحصول ما هو الصحيح عندهم، و يصح الاعتذار لاختياره بذلك. فيحرم حينئذ تغسيله التغسيل الصحيح عندنا بما هو مشروع لهم، لما فيه من التشريع المتفرع علي البناء علي حرمتهم و أنهم بحكم المؤمن.

و من ثم لا يبعد أن يكون ذلك هو الوجه فيما تقدم من الأصحاب من أنه مع الاضطرار لتغسيل المخالف يغسل غسل أهل الخلاف، و يكون الجري عليه مع الحكم بوجوب تغسيلهم ذاتا- كما في القواعد و الإرشاد- للغفلة عن التنافي بين الأمرين و عدم مساعدة الأدلة علي الجمع بينهما.

كما لا يبعد أن يبتني عليه أيضا ذهاب المشهور لكراهة مباشرة تغسيلهم، حيث يكون في مباشرة تغسيلهم و لو بالوجه غير المشروع عندنا نحو من التكريم لهم الذي هو مرجوح ذاتا، بل قد يكون محرما لغير التقية، كما صرح به جملة ممن تقدم، و قد لا يأباه كلام بعض من نسبت له الكراهة.

و مما ذكرنا يظهر الحال فيما في الروض و المسالك و حكي عن جماعة من أنه مع الجهل بكيفية تغسيلهم يغسله غسل أهل الحق. حيث لا إشكال فيه مع كون مبني التغسيل المداراة و التقية، لتأديهما به حينئذ، لاستلزامه غالبا عدم حضور أهل الخلاف أو جهلهم بكيفية التغسيل عندهم- كي يتعذر الاستعلام منهم- فلا يكون الغسل الصحيح عندنا منافيا لها، بل مؤديا لها. غاية الأمر أنه لا يجب علي ذلك الاهتمام بتماميته مع عدم توقف التقية و المدارة عليه.

ص: 298

______________________________

أما بناء علي وجوب تغسيلهم ذاتا و تبدل الوظيفة في حقهم بتغسيلهم بالوجه الثابت عندهم فتبدل الوظيفة باختيار الغسل المشروع عندنا بمجرد الجهل بالغسل الثابت عندهم يحتاج إلي دليل. و لعله لذا تنظر فيه في جامع المقاصد.

و قد ظهر من جميع ما تقدم أن كلمات الأصحاب و تفريعاتهم في المسألة لا تناسب وجوب تغسيل المخالف ذاتا و عموم الأدلة له كالمؤمن، بل للمداراة و التقية المناسب للاختصاص بها، و مرجوحيته، بل حرمته تشريعا، بل ذاتا لو استلزم تكريمه، بدونها، كما تقدم من المقنعة و غيرها. و معه لا مجال لدعوي الإجماع علي وجوب التغسيل و الاستدلال بها في المقام، كما أشرنا إليه في صدر المسألة.

الرابع: قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: ثم لو غسل غسلنا فالظاهر ترتب الآثار عليه

من الطهارة و سقوط الغسل بمسه. و لو غسل غسلهم فالظاهر أنه كذلك، وفاقا لجامع المقاصد. و لعله للأمر به، فكان كالبدل الصادر من شخص مجتهد أو مقلد بالنسبة إلي غيره المخالف له في كيفية التغسيل. و أما تغسيلهم لموتاهم فلعله كذلك و إن لم يقع عليه أمر من اللّه، فيكون تغسيلهم كصلاتهم الموجبة للقبض المشروط في صحة الوقف. فتأمل.

و اللازم ابتناء المسألة علي ما تقدم من كون تغسيلنا لهم علي الكيفية المشروعة عندنا أو عندهم تغسيلا حقيقيا مشروعا ذاتا كتغسيل المؤمن، أولا، بل هو تغسيل صوري للمداراة أو التقية أو الإلزام.

فعلي الأول لا إشكال في ترتب آثار التغسيل الصحيح عليه، عملا بإطلاق أدلة تلك الآثار، بلا حاجة لقياسه علي ما يصدر من مجتهد أو مقلد بالإضافة إلي غيره، بل لا مجال له بعد كون الغسل في المقام صحيحا واقعا بنظر من يريد ترتيب الأثر.

و علي الثاني يحتاج ترتيبها إلي دليل خاص. و لا مجال لقياسه علي ما يصدر من مجتهد أو مقلد بالنسبة إلي غيره ممن يخالفه في الكيفية. لعدم ثبوت ذلك في المقيس عليه. و للفرق ببطلان الغسل في المقام حتي بنظر القائم به.

و مثله الكلام في تغسيلهم لموتاهم «1». و لا مجال لقياسه بصلاتهم الموجبة للقبض

______________________________

(1) أشرنا لحال تغسيلهم لموتانا في ذيل الكلام في تغسيل الكافر للمسلم في المسألة التاسعة عشرة.

ص: 299

______________________________

- بناء علي شرطيته لصحة القبض- لان القبض ليس بخصوص الصلاة الصحيحة، بل بالتصرف الحاصل بالصلاة الفاسدة أيضا، و لذا يتحقق من المؤمن بصلاته الفاسدة خصوصا مع الجهل بفسادها، بل بمقدمات الصلاة من الدخول للمسجد و نحوه.

علي أنه لو فرض كونه مختصا بالصلاة الصحيحة فدليل مشروعية الوقف عل عباداتهم مع فسادها يقتضي تبعا تحقق القبض بها، و إلّا احتاج للتنبيه و بيان ما يحقق القبض المصحح للوقف. إلّا أن يكون المراد الوقف للعام الذي لا يختص بعباداتهم، كالمسجد.

و حينئذ فالتزام عدم تحقق القبض بعباداتهم- لو كان مشروطا بالعبادة الصحيحة- ليس محذورا. إلّا أن يستفاد تحقق القبض بها من السيرة، لشيوع الابتلاء بعباداتهم في العصور السابقة مع البناء علي ترتيب أثر صحة الوقف.

و حينئذ فقد يجري نظير ذلك في المقام، بدعوي: أن حمل ما تضمن من النصوص سقوط غسل مس الميت بتغسيله علي خصوص المؤمن أو علي خصوص الغسل الصادر منه و لو لغيره بعيد جدا، لشيوع الابتلاء بغيره في عصر صدور تلك النصوص بنحو يغفل معه عن الاختصاص المذكور و يحتاج للتنبيه. و إن كان الأمر غير خال عن الإشكال.

الخامس: بناء علي عدم جواز تغسيل المخالف فلا إشكال ظاهرا في إلحاق أطفال المؤمنين بهم في الأحكام،

بل هو المتيقن مما تضمن تجهيز الطفل، و المناسب لإلحاق أطفال المسلمين و الكفار بآبائهم من السيرة و غيرها. بل لا يبعد البناء علي وجوب تجهيز أطفال المخالفين، إذ بعد إلحاقهم بآبائهم في الإسلام فلا يبعد كون الإسلام بنفسه مقتضيا للاحترام المناسب للتجهيز، كما يناسبه ما يأتي في المستضعف.

و إنكار الحق من سنخ المانع منه، و هو غير حاصل في طفل المخالف، و إلحاقه بأبيه في ذلك لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح حال السيرة في مثل ذلك.

نعم، لا إشكال في أن مقتضاها الاجتزاء بتجهيز أوليائهم من المخالفين لهم و عدم وجوب تصدي المؤمن لتجهيزهم بالوجه الصحيح و لو بإعمال عناية، نظير ما تقدم في الأمر الأول، فتأمل.

و نحو ذلك يجري في المستضعف و مجهول الحال، لفرض عدم إنكار الحق

ص: 300

______________________________

إنكارا يؤاخذ به من الأول، و الشك في ذلك في الثاني، و الأصل عدمه. و في صحيح الحلبي في الصلاة عليهما: «و إن كان المستضعف منك بسبيل فاستغفر له علي وجه الشفاعة [منك] لا علي وجه الولاية» «1».

و ظاهره أن له نحوا من الحرمة تستوجب جواز الشفاعة، و ما ذلك إلّا لحرمة الإسلام. بل قد تضمنت جملة من النصوص «2» رجاء السلامة للمستضعفين و نحوهم ممن لم يتحقق منهم جحود للحق لا يعذرون فيه، و إن لم يعرفوا الحق.

بل بعضها صريح في سلامتهم، ففي حديث إسماعيل الجعفي المتضمن بيان الدين الذي لا يسع الناس جهله: «قلت: فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال:

لا، إلّا المستضعفين. قلت: من هم؟ قال: نساؤكم و أولادكم. ثم قال: أ رأيت أم أيمن؟ فإني أشهد أنها من أهل الجنة، و ما كانت تعرف ما أنتم عليه» «3». و ذلك يناسب حرمتهم و وجوب تجهيزهم فتأمل جيدا. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

السادس: صرح غير واحد بوجوب تغسيل ولد الزنا،

و ادعي في الخلاف الإجماع عليه، و في المنتهي: «و لا نعرف فيه خلافا إلّا من قتادة». و قد استدل عليه فيهما بعموم تغسيل من قال: «لا إله إلّا اللّه» و تغسيل المسلم. لكن عرفت الإشكال في العموم.

بل مقتضي النصوص الكثيرة المروية من طرف الفريقين ان ولد الزنا لا يحب أمير المؤمنين عليه السّلام، و مرجعه إلي أنه يموت علي النصب الذي صرحوا بعدم جريان حكم الإسلام معه.

و يزيد الأمر إشكالا بناء علي عدم وجوب تغسيل المخالف و من جحد الحق، و لا سيما بملاحظة النصوص الكثيرة المتضمنة أنه لا يطيب و لا يدخل الجنة «4».

إلّا أن يجمع بين ذلك و بين الإجماع المدعي بلزوم ترتيب آثار الإسلام و الإيمان

______________________________

(1) الوسائل ج 3 باب: 2 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4.

(2) تراجع النصوص المذكورة في الكافي كتاب الكفر و الإيمان و أبواب الضلال و المستضعف و المرجون لأمر اللّه و أصحاب الأعراف ج 2 ص: 401- 408 الطبعة الحديثة.

(3) اصول الكافي: ج: 2، ص 450 الطبعة الحديثة، كتاب الكفر و الإيمان باب المستضعف حديث: 6.

(4) البحار ج: 5 ص: 285 الطبعة الحديثة، راجع الوسائل باب: 14 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة من كتاب النكاح.

ص: 301

______________________________

بمجرد ظهور حال الإنسان في أحدهما إلي حين الموت، و لا ينظر إلي ما خفي علي الناس مما يتجدد في سكرات الموت، بل يختص أثره بعالم الآخرة. و لا سيما مع ما في صحيح ابن أبي يعفور: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن ولد الزنا يستعمل، إن عمل خيرا جزي به، و إن عمل شرا جزي به» «1».

و في الصحيح عن أبي بكر الظاهر أنه الحضرمي الثقة: «قال: كنا عنده و معنا عبد اللّه بن عجلان، فقال عبد اللّه بن عجلان: معنا رجل يعرف ما نعرف، و يقال: انه ولد زناء، فقال: ما تقول؟ فقلت: إن ذلك ليقال له. فقال: إن كان ذلك كذلك بني له بيت في النار من صدر يرد عنه وهج جهنم و يؤتي برزقه» «2».

لظهورهما في إمكان سلامته و نجاته. و لا بد من مزيد فحص و سبر للنصوص و تأمل فيها. و ربما يأتي في نجاسة ولد الزنا من مباحث نجاسة الكافر ما ينفع في المقام.

السابع: أشرنا آنفا إلي إلحاق الأطفال بآبائهم المسلمين و الكفار في جريان أحكام الإسلام و الكفر عليهم،

كما صرح به غير واحد، و الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده، بل الإجماع بقسميه عليه»، و عن وسائل الكاظمي في أطفال الكفار: «لا كلام في جريان حكم آبائهم في الدنيا من نجاسة و غيرها عليهم». و هو إجماع.

و يقتضيه السيرة القطعية علي ترتيب أحكام الإسلام و الكفر عليهم تبعا لآبائهم و إن لم يصفوا أحدهما. و في حديث حفص الذي لا يبعد اعتباره: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل من أهل الحرب إذا اسلم في دار الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك. فقال: إسلامه إسلام لنفسه و لولده الصغار و هم أحرار، و ولده و متاعه و رقيقه له. فأما الولد الكبار فهم في ء للمسلمين، إلّا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك … » «3»، و في مرسل الصدوق: «قال علي عليه السّلام: إذا أسلم الأب جرّ الولد إلي الإسلام، فمن أدرك من ولده دعي إلي الإسلام، فإن أبي قتل … » «4».

______________________________

(1) البحار ج: 5 ص: 285 الطبعة الحديثة.

(2) البحار ج: 5 ص: 287 ح 12.

(3) الوسائل باب: 43 من أبواب جهاد العدو: حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 3 من أبواب حد المرتد من كتاب الحدود و التعزيزات: حديث: 7.

ص: 302

______________________________

كما يقتضيه أيضا ما دل في الموارد المتفرقة علي إجراء الأحكام عليهم، كإعطائهم الزكاة و الكفارات و مناكحتهم و توارثهم و غير ذلك مما يذكر في محله. و منه في المقام الإجماع المدعي في المستند علي تغسيل أطفال المسلمين و السيرة القطعية علي ذلك، و النصوص الواردة في تجهيز الأطفال.

نعم، لا إطلاق فيها، لأنها بين ما ورد في قضية خارجية. و ما ورد لبيان كيفية تجهيزهم و واجباته. فالمرجع في العموم لأطفال غير المؤمنين الإطلاقات لو تمت، أو سبق في الأمر الخامس.

هذا، و المصرح به في كلام غير واحد كفاية إسلام أحد الأبوين في إجراء حكم الإسلام علي الطفل، و هو معقد إجماع الجواهر المتقدم. لكن الخبرين المتقدمين مختصان بإسلام الأب. و هو المتيقن من السيرة، لارتكاز تبعية الولد لأبيه عرفا، دون أمه. فالاعتماد علي إطلاق معقد الإجماع المتقدم في إثبات أحكام الإسلام بإسلام الأم لا يخلو عن إشكال.

كما أن المتيقن من السيرة أيضا ما إذا لم يكن الطفل مستقلا بالنظر و الإذعان بالإسلام أو الكفر، أما مع ذلك فمقتضي إطلاق الأدلة الشارحة لهما كونه مسلما أو كافرا حقيقة. فتلحقه أحكامهما بمقتضي إطلاق أدلتها و إن خالف أباه. و تحصيل السيرة علي خلاف ذلك في غاية الإشكال بعد ندرة ذلك. كما لا مجال للتعويل علي إطلاق معقد الإجماع، نظير ما سبق. و مثله حديث حفص، لقرب انصراف الصغر فيه إلي ما يكون سببا لعدم التوجه للإسلام و الكفر. فتأمل.

نعم، لا إشكال في شمول إطلاق المرسل للمميز، حيث فرع فيه علي جرّ الأب ولده إلي الإسلام عدم قبول الكفر منهم بعد الإدراك الذي لا إشكال في ظهوره في البلوغ الذي يؤاخذ معه علي الكفر، فيشمل بإطلاقه المميز المصرّ علي الكفر حال إسلام أبيه. إلّا أن ضعفه بالإرسال مانع من التعويل عليه في الخروج عن مقتضي القاعدة المتقدمة. و مجرد موافقة فتوي الأصحاب له لا يكشف عن اعتمادهم عليه الموجب لانجباره. و أما حديث رفع القلم عن الصبي فهو مختص برفع التكليف و المؤاخذة، و لا ينافي ترتب الأحكام الأخر، تبعا لترتب موضوعاتها. فالتعميم لا

ص: 303

______________________________

يخلو عن إشكال، و لا بد من مزيد التأمل.

ثم إن الظاهر أنه يكفي في الإلحاق بكل منهما التولد من الزنا. لصدق الولد به عرفا، بل شرعا، لعدم ثبوت ردع الشارع عن ثبوت النسب بالزنا، و إن ثبت ردعه عن بعض أحكامه معه، علي ما تقدم مفصلا في تحديد سنّ اليأس في الفصل الثاني من مباحث الحيض، و حينئذ فحيث كان مبني السيرة علي التبعية ارتكازا البنوة يتجه البناء عليها معه. و عدم وضوح ذلك من سيرة المتشرعة، لقلة الابتلاء به واقعا أو ظاهرا في عصرنا، لا يهم بعد ظهور تفرعها علي سيرة العرف علي التبعية في سائر الملل و الأديان التي كان المعيار فيها ارتكازا مجرد البنوة. كما أنه حينئذ مقتضي إطلاق حديث حفص و المرسل المتقدمين.

لكن في الجواهر: «نعم قد يشكل في ولد الزنا من كل منهما. و لا يبعد عدم جريان حكم الإسلام عليهما، و إن قلنا بطهارتهما. لكن قد يقال بوجوب تغسيلهما، لا للحكم بإسلامهما، بل لعدم الحكم بكفرهما، فتشملهما حينئذ العمومات الدالة علي تغسيل كل ميت. سيما مع ما دل علي أن كل مولود يولد علي الفطرة، و في الخلاف الإجماع علي أن ولد الزنا يغسل و يصلي عليه. و احتمال التفصيل بين ولد الزنا من المسلم و بينه من الكافر، فيلحق الأول بأبيه لغة دون الثاني ضعيف. بل لعل العكس أولي منه، لنفي ولد الزنا من المسلم شرعا، و عدم ثبوت ذلك في حق الكفار».

و هو كما تري يبتني:

أولا: علي غض النظر عن السيرة و الإطلاق اللذين أشرنا إليهما. بل الإنصاف أن وجوب تغسيل ولد الكافر من الزنا دون ولده من النكاح المعتبر مما تأباه المرتكزات المتشرعية جدا.

و ثانيا: علي ثبوت عموم تغسيل كل ميت، و قد سبق أن الدليل عليه ينحصر بموثق سماعة الذي سبق الإشكال في دليليته.

ثالثا: علي الاستشهاد بإجماع الخلاف المتقدم علي تغسيل ولد الزنا، مع أنه وارد لبيان تغسيله بعد فرض إسلامه، كما يناسبه استشهاده بعموم تغسيل من قال: «لا إله إلّا اللّه» في مقابل عدم قبول إسلامه، لا لبيان وجوب تغسيله مطلقا و لو كان طفلا لا

ص: 304

______________________________

يصف الإسلام من مسلم أو كافر. فهو أجنبي عن محل الكلام.

رابعا: علي الاستدلال بنصوص الولادة علي الفطرة التي اعترف في كتاب اللقطة بعد أن ذكر بعضها بإجمال دلالته و إعراض الأصحاب عنه. مع أنها قد تضمنت أن الفطرة هي التوحيد، و هو أعم من الإسلام، بل لا إشكال في صدق الكفر معه لو لم تتم بقية أركان الإسلام.

و أما صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام. فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم علي التوحيد، قال: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ و فيه المسلم و الكافر» «1».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: حُنَفٰاءَ لِلّٰهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ قال: الحنيفية من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه. قال: فطرهم علي المعرفة به. قال زرارة: و سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَليٰ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَليٰ … الآية قال: أخرج من ظهر آدم ذريته إلي يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم و أراهم نفسه، و لو لا ذلك لم يعرف أحد ربه. قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: كل مولود يولد علي الفطرة. يعني: المعرفة باللّه خالقه. كذلك قوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّٰهُ*» «2».

و صحيح فضيل بن عثمان الأعور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ما من مولود يولد إلّا علي الفطرة فأبواه اللذان يهودانه و ينصرانه و يمجسانه. و إنما أعطي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الذمة و قبل الجزية عن رءوس أولئك بأعيانهم علي أن لا يهودوا أولادهم و لا ينصروا.

و أما أولاد أهل الذمة اليوم فلا ذمة لهم» «3».

فلا دلالة لها علي أن الفطرة هي الإسلام بأصوله زائدا علي التوحيد، لتفسير الإسلام و الحنيفية في الأولين بالتوحيد و معرفة اللّه عزّ و جلّ، كما يظهر من تتمتهما.

______________________________

(1) أصول الكافي ج: 2 ص 12 الطبعة الحديثة باب: فطرة الخلق علي التوحيد من كتاب الإيمان و الكفر حديث: 2.

(2) أصول الكافي ج: 2 ص 12 الطبعة الحديثة باب: فطرة الخلق علي التوحيد من كتاب الإيمان و الكفر حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 48 من أبواب جهاد العدو و ما يناسبه: حديث: 3.

ص: 305

______________________________

و ما في الثالث من نسبة التهويد و التنصير و التمجيس للأبوين إنما هو بمعني كونهما سببا في إضافة أصول الأديان المذكورة علي مقتضي الفطرة- و هو التوحيد- في الولد، لا بمعني إخراجهما له عن الإسلام بأصوله المعروفة إلي الأديان المذكورة المباينة له.

و إلا لزم الحكم علي أولاد الكفار بالإسلام قبل أن يخرجهم آباؤهم إلي الكفر علي خلاف مقتضي الذمة الذي تضمنه الحديث.

علي أن من المعلوم أن المراد من ولادة المولود علي الفطرة تقبله لها بحسب طبعه، لا فعلية عقيدته بها التي هي المعيار في الإسلام، لما هو المعلوم من قصوره عن الإذعان بها حين ولادته إلي مدة طويلة، و لا إجراء أحكامها عليه تعبدا، لظهورها في بيان قضية واقعية خارجية، لا شرعية تعبدية عملية.

و مثله ما أشار إليه في ذيل كلامه من التفصيل بين ولد المسلم و الكافر بإلحاق الأول بأبيه لغة دون الثاني أو بالعكس لثبوت نفي الأول من أبيه شرعا دون الثاني.

لأن الأول تحكم قطعا. و الثاني مخالف لإطلاق أدلة النفي لو تمت دلالتها.

و إمضاء النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لحوق بعض الأولاد بآبائهم بحسب حكم الجاهلية المخالف لما عليه الإسلام قد يبتني علي إمضاء نكاح كل قوم عليهم، لعدم كونه عندهم زنا، أو علي إمضاء حكم الجاهلية في الأنساب الذي جروا عليه، كإمضاء كثير مما جروا عليه قبل سيطرة الإسلام. لا علي الفرق بين الكافر و المسلم مطلقا في نفي ولد الزنا. لمنافاته لإطلاق أدلة النفي لو تمت. و لذا لا إشكال ظاهرا في الحكم بقاعدة الفراش في حق الكفار، مع أن دليلها هو دليل نفي ولد الزنا المدعي في المقام.

الثامن: ما تقدم من إلحاق الطفل بأبيه أو أبويه في الإسلام و الكفر يجري في المجنون الذي يتصل جنونه بصغره،

لعدم الفرق بينهما في السيرة. و ما في الجواهر من الإشكال في ذلك، لثبوت التبعية في حق الطفل دون غيره. كما تري، لعدم أخذ الطفل في عموم لفظي للتبعية، و عدم الفرق بينه و بين المجنون في السيرة.

و إما لو لم يتصل جنونه بصغره فالظاهر جريان حكم ما قبل جنونه عليه، فإن جن بعد إسلامه بقي علي الإسلام، و إن جن بعد كفره بقي علي الكفر. كل ذلك للسيرة، بل قد يكون مقتضي الاستصحاب، علي ما يأتي. و في المستند دعوي الإجماع

ص: 306

______________________________

علي وجوب تغسيل مجانين المسلمين.

و أما استدلاله عليه علي وجوب تغسيل أطفالهم بالعمومات. فهو موقوف علي عموم تغسيل كل ميت، الذي سبق الكلام فيه. و إن ثبت اقتضي تغسيل مجانين الكفار و أطفالهم أيضا. و لا مخرج عنه إلّا السيرة أو الإجماع اللذين لو تما فيه تما في تغسيل مجانين المسلمين و أطفالهم بلا حاجة للعمومات، إذ ليس ملاكهما إلّا الإلحاق بالأب في الدين، و بقاء حكم ما قبل الجنون.

هذا، و في مبحث اللقطة من الجواهر بعد الحكم لتبعية الطفل و المجنون لأبويه في الإسلام قال: «بل الظاهر عدم الفرق في التبعية المزبورة بين إسلام الأب و إسلام الجد و إن علا و الجدات للأب أو الأم مع فرض عدم وجود الأقرب. أما معه فقد استشكل فيه الفاضل و ولده. و الأقوي فيه التبعية، تغليبا للإسلام، و لصدق القرابة المقتضية مع حياة الأقرب و موته، و كذا الذرية و الولد و غير ذلك مما هو دليل للتبعية مع موت الأقرب. و لا ينافيها أحقية الأبوين من غيرهما في بعض الأحوال».

و هو كما تري، لعدم وضوح الدليل علي عموم تغليب الإسلام بنحو يشمل المقام. و النبوي: «الإسلام يعلو و لا يعلي عليه» «1» - مع عدم وضوح حجيته، لعدم العثور عاجلا علي روايته في كتب أصحابنا إلّا مرسلا قاصر الدلالة علي ذلك. و عدم أخذ عنوان القرابة و غيرها مما ذكره في دليل التبعية، لينظر في عمومه للمقام.

بل ليس في المقام إلّا النص المتقدم المختص بالأب الظاهر منه الصلبي دون الجد، و لا أقل من خروجه عن المتيقن منه. و الإجماع الذي اعترف بعدم تحققه مع وجود الأقرب. و السيرة التي يشكل إحرازها معه أيضا، بل لا يبعد عدمها.

نعم، يظهر منه الإجماع علي التبعية للأبعد مع فقد الأقرب، كما لا يبعد ثبوت السيرة عليها حينئذ. بل لا يبعد عمومها لغير الآباء كالإخوان و الأعمام و الأخوال و غيرهم مع تبعية الطفل لهم خارجا و عدم وجود الأقرب. بل قد تكون التبعية الخارجية شرطا حتي في التبعية للجد، لعدم وضوح السيرة بدونه.

______________________________

(1) حكي عن كنز العمال: ج 1 ص 246 و الجامع الصغير: ج 1 ص 122.

ص: 307

______________________________

اللهم إلّا أن يقال: المتيقن من السيرة مساورتهم، لما في تركها مع التبعية الخارجية من الحرج العظيم علي المتبوع حينئذ، الذي يبعد من حال المتشرعة الوقوع فيه. و لعل ذلك يبتني علي طهارتهم، كما عليه جماعة من العامة و الخاصة، غاية الأمر انهم لا يساورون للنجاسة العرضية التي لا يعتد باحتمالها مع التبعية للمسلم. و لم يتضح شيوع ابتلاء من يري نجاستهم الذاتية ليتضح الحال من سيرتهم. علي أن البناء علي الطهارة لا يكشف عن البناء علي الإسلام، لإمكان التفكيك بينهما، كما يظهر مما يأتي من بعضهم في تبعية المسبي للسابي، فلا مجال للبناء علي التبعية في الإسلام و ترتيب جميع أحكامه و آثاره، كحل نكاحه و صيرورته مرتدا باختبار الكفر بعد البلوغ.

بل مقتضي الأصل عدم ترتب كثير من أحكامه، لأصالة البراءة من وجوب تجهيزه، و استصحاب نجاسته المتيقنة قبل إسلام المتبوع. بل لا يبعد جريان استصحاب الكفر في حقه بلحاظ الحال المذكور. لأن الظاهر الحكم عليه بالكفر تبعا لأبيه، فيستصحب، لا أنه محكوم بأحكام الكفر فقط ليرجع للأصل في كل بنفسه. فتأمل.

و مما تقدم يظهر الحال في التبعية للنساء كالأم و الجدات و الأخوات و الخالات، حيث تقدم في الأمر السابع الإشكال في التبعية للأم في الإسلام مع وجود الأب و عدم إسلامه. و مع فقده تبتني التبعية لها و لغيرها منهن علي ما ذكرناه هنا في الرجال من الكلام في كفاية التبعية الخارجية.

التاسع: صرح في المبسوط بإسلام الطفل المسبي منفردا عن أبويه تبعا للسابي.

و حكي ذلك عن الإسكافي و القاضي و الشهيد، و عن الإيضاح نسبته لظاهر الأصحاب، و في مفتاح الكرامة: «و به طفحت عباراتهم في أبواب الفقه.

لكن يظهر التوقف فيه من غير واحد، كالمحقق في الشرائع و العلامة في القواعد و غيرهما بل صرح بعدمه في جامع المقاصد و المسالك و حكي عن العلامة و ولده.

و قد استدل علي الإلحاق.. تارة: بالسيرة علي ترتيب أحكام الإسلام عليه كطهارته و تجهيزه.

و أخري: بنصوص الولادة علي الفطرة المتضمنة نسبة التهويد و التنصير و التمجيس للأبوين، فمع انفصاله عنهما يرجع لمقتضي الفطرة. و لعله إليه يرجع

ص: 308

______________________________

الاستدلال بانقطاع تبعيته لأبويه بانفصاله عنهما.

و ثالثة: بلزوم الحرج من إجراء أحكام الكفر عليه.

و يشكل الأول: بما تقدم في التبعية لغير الأب من الأقارب من احتمال ابتناء السيرة علي الطهارة علي عدم البناء علي نجاسة الكافر الذاتية، أو علي خصوصية الطهارة من بين أحكام الإسلام. و السيرة علي غير الطهارة كالتجهيز و المناكحة غير ظاهرة.

و الثاني: بما تقدم من أن نصوص الفطرة أجنبية عن محل الكلام، و ظاهر نسبة كفر الولد للأبوين فيها كونه السبب في التزامه به بعد استقلاله و تمييزه، لا في الحكم عليه به حال طفولته، و إلا لم يجعل عدمه من شروط الذمة، كما تقدم في صحيح فضيل.

علي أنه لو سلم فمقتضي إطلاقه التبعية لهما و لو بعد انفصاله عنهما.

و أما الاستدلال بانقطاع تبعيته لأبويه. فهو- مع توقفه علي كون المعيار في التبعية الاتصال، لا مجرد البنوة- لا يقتضي الحكم بإسلامه و ترتيب أحكامه، إلّا بضميمة أصالة الإسلام التي لا دليل عليها.

و أما الثالث: فهو مختص بالنجاسة التي التزم بعدمها غير واحد ممن منع التبعية في الإسلام، بل قيل بظهور كلماتهم في عدم الخلاف في ارتفاعها. و يوكل الكلام فيها إلي مبحث النجاسات. و هناك وجوه أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور ضعفها.

نعم، لو تم ما سبق منا من احتمال كفاية التبعية الخارجية في التبعية في الإسلام فقد يتجه البناء علي ذلك هنا. لأنه و إن تقدم اختصاصه بصورة فقد الأب، إلّا أن وجود الأبوين في المقام لا أثر له بعد انفصال الطفل عنهما بالنحو الحاصل في السبي، حيث لا شأنية له معه في الرجوع لهما و العيش في كنفهما، و لا يستحقانه بحسب أبوتهما.

و ليس هو كعيشه بين غير أبويه لأمر طارئ قابل للزوال، كفقر أو سفر، أو غير قابل له لكن لا يقتضي رفع استحقاقهما و ولايتهما علي الطفل، كعجز لازم لمرض أو غيره.

و من ثم فقد يساق حكمهم في المقام مؤيدا لما ذكرنا من الاحتمال.

لكنه لو تم لزم التبعية في الإسلام للسابي مع انفصاله عن أبويه بعد السبي، كما لو سباه معهما ثم ماتا، و كما لو سباه الكافر ثم باعه من مسلم، مع تصريح الشيخ في المبسوط و غيره بعدم التبعية في الأول، كما صرح غيره بعدمها في الثاني. و من ثم لا

ص: 309

______________________________

يتضح مبني الحكم عندهم إلّا محض التعبد الذي لا بد فيه من دليل تعبدي من نص أو إجماع كاشف عن رأي المعصوم، و كلاهما مفقود في المسألة، و بناؤها علي ما يناسب السيرة و المرتكزات في الجملة يقتضي كون المعيار أمرا آخر. و لذا لا مجال للبناء عليه، و يتعين الرجوع إلي ما يقتضيه الأصل المشار إليه في ذيل الأمر السابق.

العاشر: صرح جمهور الأصحاب بأن لقيط دار الإسلام محكوم بالإسلام،

و في الجواهر أنه لا خلاف فيه بين الأصحاب. و الظاهر أن مراد الكل الحكم عليه به ظاهرا، لا واقعا كالحكم به بإسلام الأبوين، و به صرح بعضهم. و قد اختلفوا في تحديد دار الإسلام، إلّا أنهم حيث صرحوا بعدم اختصاص الحكم بها، بل يجري في دار الحرب إذا كان فيها مسلم و لو كان أسيرا، و لم تؤخذ بعنوانها في النصوص، فلا يهم الكلام في تحديدها.

كما أنه حيث لم يكن في المسألة نصوص فاللازم النظر في كلمات الأصحاب، و يظهر منهم الاتفاق علي الحكم بإسلام اللقيط إذا كان في البلد مسلم مستوطن يمكن تولده منه، و إن كان المسلم أسيرا في دار الحرب، و إنما الكلام فيما لو لم يكن المسلم مستوطنا، كالتجار المارين.

و قد يستدل علي الحكم المذكور.. تارة: بتغليب جانب الإسلام المستفاد من مثل النبوي المتقدم: «الإسلام يعلو و لا يعلي عليه». و أخري: بنصوص الفطرة.

و ثالثة: بالنصوص الكثيرة المتضمنة أن اللقيط حر لا يملك «1». و رابعة: بالإجماع.

و يشكل الأول بما سبق في إسلام أبعد الآباء من عدم وضوح دليل علي عموم التغليب. و النبوي- مع عدم حجيته، كما سبق- ظاهر في عزة الإسلام و قوته ثبوتا تشريعا أو تكوينا، لا في تغليب جانبه بمثل التبعية ثبوتا، فضلا عن تقديم احتماله إثباتا لينفع في المقام.

و مثله الثاني، كما يظهر مما تقدم في تبعية ولد الزنا لأبيه.

كما يندفع الثالث: بأن الحرية أعم من الإسلام، لثبوتها للذمي. مع أن التعبد

______________________________

(1) تراجع النصوص المذكورة في الوسائل باب: 96 من أبواب ما يكتسب به من كتاب البيع، و كتاب العتق و باب: 22 من كتاب اللقطة.

ص: 310

______________________________

ظاهرا ببعض أحكام الإسلام لموافقته للأصل، أو لأهمية احتماله تبعا لأهميته، لا يستلزم التعبد بنفس الإسلام مع مخالفته للأصل.

علي أن مقتضي الوجهين الأولين تقديم احتمال الإسلام مطلقا و لو مع القطع بعدم وجود مسلم يحتمل تولده منه في البلد لا مارا و لا مستوطنا، كما لو احتمل كون اللقيط نفسه مسلما ضائعا أو منهوبا أو نحو ذلك، و لا يظهر منهم البناء علي ذلك.

كما أن ذلك مقتضي إطلاق النصوص المذكورة في الوجه الثالث. إلّا أن يدعي انصرافها إلي ما يوجد في بلاد الإسلام، فالتعميم لغيره- كما تقدم منهم- يحتاج إلي دليل.

و أما الرابع فيشكل بعدم وضوح كون اتفاق من تقدم مبنيا علي إجماع تعبدي، بل يقرب ابتناؤه علي بعض الوجوه الاعتبارية، كتغليب الإسلام و الاحتياط له و نحوهما.

فالعمدة في المقام السيرة الارتكازية. و لعل المتيقن من موردها البلاد الغالب فيها الإسلام، كما يناسبه بعض النصوص المتقدمة في الوجه الثالث للاستدلال علي وجوب تغسيل المخالف، و ما تضمن جواز الصلاة في الجلد الذي يصنع في الأرض التي يغلب فيها المسلمون، كصحيح إسحاق بن عمار عن العبد الصالح عليه السّلام: «أنه قال: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني، و فيما صنع في أرض الإسلام. قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام. قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» «1».

لأن الظاهر من مجموع النصوص و الفتاوي أن أمارة التذكية هي يد المسلم، فلولا صلوح الغلبة للحكم بإسلام من صنع الجلد لم تكن صالحة للحكم بتذكيته.

و لعله إلي هذا يرجع ما في المعتبر في المقام، حيث قال: «إذا وجد ميت فلم يعلم لمسلم هو أم كافر، فإن كان في دار الإسلام غسل و كفن و صلي عليه، و إن كان في دار الكفر فهو بحكم الكافر، لأن الظاهر أنه من أهلها و لو كان فيه علامات المسلم، لأنه لا علامة إلّا و يشارك فيها بعض أهل الكفر»، و قريب منه في المنتهي، لكن مع الاكتفاء بعلامة الإسلام في الحكم بإسلام من يوجد في دار الكفر.

حيث لا يبعد كون المعيار في نسبة الدار إلي الإسلام أو الكفر عندهما علي الغلبة تبعا للعرف. فلاحظ. و الأمر محتاج لمزيد فحص و تأمل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 311

الأول: الشهيد (1) المقتول في المعركة (2) مع الإمام (3) أو نائبه (4) الخاص (5)،

______________________________

و لنكتف بهذا المقدار من فروع المسألة، و يأتي الكلام في بقية الفروع في المسألة الواحدة و السبعين و ما بعدها في أواخر أحكام الأموات إن شاء اللّه تعالي. و منه نستمد العون و التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

الموردان اللذان سقط غسل الميت فيهما
الأول الشهيد
اشارة

(1) بلا إشكال فيه في الجملة. و قد ادعي عليه إجماع أصحابنا في الخلاف و الغنية و المنتهي و التذكرة و المدارك و كشف اللثام و محكي نهاية الأحكام و الذكري و كشف الالتباس و مجمع البرهان، بل في المعتبر نسبته لإجماع أهل العلم عدا سعيد بن المسيب و الحسن البصري، كما خص الخلاف بهما في التذكرة، و في المنتهي أنه لا يعرف الخلاف فيه من غيرهما. و في الجواهر: «لا يغسل و لا يكفن و يصلي عليه إجماعا في الجميع محصلا و منقولا مستفيضا إن لم يكن متواترا، كالأخبار». و النصوص به كثيرة يأتي بعضها.

(2) يأتي تحديد ذلك منه قدّس سرّه.

(3) و هو المتيقن من الفتاوي، للاقتصار عليه في المقنعة و المراسم و الشرائع و القواعد و محكي التحرير. و من الظاهر أن المراد به ما يعم النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، كما صرح به بعضهم. و يناسبه الاستدلال منهم بسيرته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، لأنه إمام أيضا، و إن كان الجمود علي عباراتهم يقتضي القصور عنه.

(4) كما صرح بالتعميم لهما مقتصرا عليهما في المبسوط و النهاية و الوسيلة و السرائر و المنتهي و محكي المهذب و الجامع. و لا يبعد أن يكون مرادا لمن اقتصر علي الإمام، لأنه في طوله، و متابعته متابعة له و لعله لذا نسبه للمشهور في مجمع البرهان.

(5) كما قيد بذلك في الروض و العروة الوثقي. و أما ما في الوسيلة من التعبير عن نائب الإمام بمن أقامه للجهاد فحيث يبعد إرادته الإقامة لخصوص وظيفة الجهاد، بل المراد الإقامة له و لو في ضمن بقية الوظائف يرجع للإطلاق. و لعل التقييد بالخاص في كلام من سبق لعدم بنائهم علي جعل النيابة العامة، كما يناسبه نسبة سيدنا المصنف قدّس سرّه التقييد لجملة ممن أطلق النائب، و إلا فلو فرض عموم نيابة الحاكم

ص: 312

أو في حفظ بيضة الإسلام (1).

______________________________

الشرعي تعين عموم الحكم للجهاد معه، لعدم المنشأ للتقييد من النصوص و الفتاوي بعد فرض عمومها للنائب.

و لا سيما مع الابتلاء بالنيابة العامة في عصر سلطان المعصومين عليهم السّلام حيث ورد أنهم قد ينصون علي أنه عند قتل المنصوب الخاص يختار المسلمون لهم أميرا، و الفرق بينه و بين المنصوب الخاص بعيد جدا.

(1) كما هو مقتضي إطلاق الجهاد اللازم أو السائغ أو بحق في الغنية و إشارة السبق و الدروس، و هو معقد الإجماع المتقدم من الغنية. بل صرح بالتعميم في المعتبر و جامع المقاصد و الروض و الروضة، كما حكي عن الذكري و الموجز و مجمع البرهان و المفاتيح و ظاهر الكافي و غيرها، و احتمله في التذكرة و محكي نهاية الأحكام و كشف الالتباس، بل لعله مقتضي إطلاق الشهيد في الخلاف و الإرشاد و اللمعة و محكي البيان، و هو معقد الإجماع المتقدم من الخلاف.

و يقتضيه صحيح أبان بن تغلب: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: الذي يقتل في سبيل اللّه يدفن في ثيابه، و لا يغسل، إلّا أن يدركه المسلمون و به رمق ثم يموت بعد فانه يغسل و يكفن و يحنط … » «1»، و نحوه صحيحه الآخر «2».

بل هو مقتضي إطلاق الشهيد في جملة من النصوص، منها صحيح إسماعيل بن جابر و زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: كيف رأيت الشهيد يدفن بدمائه؟ قال:

نعم يدفن في ثيابه بدمائه و لا يحنط و لا يغسل و يدفن كما هو … » «3».

و المنع من عمومه- كما في كشف اللثام- أو دعوي إجماله- كما صدرت من سيدنا المصنف قدّس سرّه- في غاية الإشكال بعد الرجوع للعرف و اللغة، حيث يظهر منهما أن الشهيد هو القتيل في سبيل اللّه من دون خصوصية لأمر الإمام. بل قد يظهر بملاحظتهما و بملاحظة النصوص عمومه لمن لم يتصد للقتال إذا قتل من أجل الحق، و بذلك أطلق علي مثل أمير المؤمنين عليه السّلام.

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

ص: 313

______________________________

نعم، يقصر عما إذا لم يكن القتال مشروعا بلا إشكال. و مثله في ذلك مضمر أبي خالد: «اغسل كل الموتي الغريق و أكيل السبع و كل شي ء إلّا ما قتل بين الصفين، فإن كان به رمق غسل، و إلا فلا» «1».

و ما ذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه من احتمال عدم وروده في مقام البيان. لا يناسب الاستثناء فيه الظاهر في الحصر و العموم، و لا التفصيل بين من يكون به رمق و غيره الظاهر في التصدي لبيان خصوصيات الحكم و عدم الاكتفاء ببيان أصل التشريع.

و بالجملة: لم يتضح الوجه في أخذ إذن الإمام أو نائبه في الحكم بعد الإشارة في النصوص إليه، و إنما المستفاد منها اعتبار كون القتال مشروعا و بحق، لاختصاص عنوان الشهيد به و مناسبة التكريم الذي هو مبني الحكم له. و من ثم قال في المعتبر بعد ذكر النصوص المطلقة: «فاشتراط ما ذكره الشيخان زيادة لم يعلم من النص».

بل لا يبعد كون التقييد بذلك في كلام الشيخين و غيرهما ممن سبق للتنبيه علي قصور الحكم و الموضوع عن المقتول مع سلاطين الجور و عدم مشروعية الجهاد معهم و لو بداعي ترويج الإسلام، لا عن غيره من موارد القتال بحق. فلاحظ.

و مما تقدم يظهر عموم الحكم لقتيل أهل البغي في فرض مشروعية قتالهم، كما صرح به جماعة من الأصحاب، بل الظاهر عدم الإشكال فيه عندنا، و هو داخل في معاقد الإجماعات المتقدمة، كما صرح بالإجماع عليه بالخصوص في التذكرة و المنتهي، و في الخلاف: «دليلنا أنه أجمعت الفرقة أنه شهيد، و إذا ثبت كان حكمه حكم قتيل المعركة».

و يقتضيه- مضافا إلي ذلك، و إلي إطلاقات النصوص المتقدمة، و إلي سيرة أمير المؤمنين عليه السّلام في قتلي أصحابه في حروبه الثلاثة، حيث لم يعرف عنه تغسيلهم- موثق عمار عن جعفر عن أبيه عليه السّلام: «أن عليا عليه السّلام لم يغسل عمار بن ياسر و لا هاشم بن عتبة المرقال و دفنهما في ثيابهما و لم يصل عليهما» «2»، و خبر أبي البختري وهب بن وهب عنه عليه السّلام:

«ان عليا عليه السّلام لم يغسل عمار بن ياسر و لا عتبة يوم صفين و دفنهما في ثيابهما و صلي عليهما» «3»، و ما في الأول من عدم الصلاة عليهما مطروح أو مؤول علي ما يتضح في محله.

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 12.

ص: 314

و ينبغي التنبيه لأمور يتم بها تحديد محل الكلام:
الأول: قد يدعي عموم سقوط الغسل لمن يقتل في الجهاد ضد الكفار مع سلاطين الجور

______________________________

بلحاظ كونه الشائع في عصر صدور أكثر النصوص و هي الواردة عن الصادقين عليهما السّلام لو لم ينحصر الأمر فيه، فعدم التنبيه فيها لعدم المورد لها أو ندرته موجب لظهورها في العموم له.

و فيه: أن مناسبة كون الحكم تكريما للقتيل، و إطلاق عنوان الشهيد عليه يقتضي فرض مشروعية قتاله، و لا مجال للبناء عل مشروعية القتال معهم بعد بلحاظ النصوص و الإجماع، فلا بد من كون عدم التنبيه في نصوص المقام لخروج القتال المذكور عن موضوعها للتقية، أو لظهور الحال للمخاطب، أو لأنها بصدد بيان حكم الشهيد في نفسه لبيان الوظيفة في الأفراد المذكورة عند العامة الذين يرون مشروعية قتالهم.

الثاني: قال في الجواهر بعد أن قرب العموم لكل جهاد مشروع:

«نعم قد يشعر قوله عليه السّلام في مضمر أبي خالد: إلّا ما قتل بين الصفين، باعتبار تقابل العسكرين في جريان خصوص هذا الحكم علي الشهيد، فلا يشمل من قتل من المسلمين بدون ذلك، كالمقتول اتفاقا أو كان عينا من عيونهم، أو نحو ذلك.

إلّا أن غيره من الأخبار مما اشتملت علي التعبير بالقتل في سبيل اللّه شاملة له.

و لعله الأقوي، لإطلاق جميع الأصحاب بالنسبة إلي ذلك، فيمكن حينئذ تنزيل قوله:

«بين الصفين»، علي ما لا ينافيه. فتأمل».

و لعله أشار بالأمر بالتأمل للإشكال فيما ذكره.. تارة: بأن المضمر لما كان مشتملا علي الاستثناء كان ظهوره في الحصر أقوي من إطلاق بقية النصوص، فيحكم عليها.

نعم، قد يشكل الاستدلال به بلحاظ ضعف سنده، لاشتماله علي غير واحد من المجهولين و المضعفين. إلّا أن تكون رواية الكليني و الشيخ له بنحو يظهر في الاعتماد عليه و استدلال جماعة من الأصحاب به جابرا لضعفه. فتأمل.

و أخري: بقرب انصراف إطلاقات الشهيد و المقتول في سبيل اللّه إلي الفرد المعهود من فرض التهيؤ للقتال، كما يناسبه تقسيمه إلي من يدركه المسلمون و به رمق و من لا

ص: 315

______________________________

يدركونه، الظاهر في المفروغية عن فرض القتال و انشغال المسلمين به عن قتيلهم.

و ثالثة: بأنه لا مجال لاستفادة ذلك من إطلاق الأصحاب بعد اشتراط جملة منهم في ثبوت الحكم للشهيد موته في المعركة، و تعرضهم لحكم ما لو مات بعد تقضي الحرب أو النقل من ساحة القتال، لظهور كلامهم في المفروغية عن فرض القتال بين الطرفين، و ما ذلك إلّا لفهمهم له من النصوص الذي قد يكون المنشأ له ما تقدم أو نحوه. و من ثم كان سقوط التغسيل فيمن ذكره في غاية الإشكال. و مثله الأسير الذي يقتل صبرا، لجريان ما سبق فيه.

و أما ما في موثق طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن علي بن الحسين: «قال:

سئل النبي صلّي اللّه عليه و آله عن امرأة أسرها العدو فأصابوا بها حتي ماتت، أ هي بمنزلة الشهيد؟

قال: نعم إلّا أن تكون أعانت علي نفسها» «1»، فمن القريب أن يراد منه التنزيل في الأجر و الفضيلة، لا ما يعم الحكم المذكور. بل حيث لم يكن سقوط الغسل من أحكام مطلق الشهيد فإطلاق التنزيل منزلة الشهيد لا ينفع في إثباته.

نعم، لو كان قتله في أثناء المعركة و من لواحقها و شئونها لم يبعد عموم الحكم له، لأنه عرفا من توابع الجهاد ذي الحكم المذكور، كما قد تناسبه السيرة، حيث ورد قتل بعض الأسري في معارك صفين و كربلاء، و لم يعرف تغسيلهم بعد المعركة. و إن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

الثالث: قد يدعي عموم سقوط الغسل لمن قتل مظلوما في سبيل أمر راجح

من أمر بمعروف و نهي عن منكر، أو إقامة فريضة، أو تبني دعوة حقة، من دون أن يتصدي للقتال. لكن لا مجال له بالنظر لما سبق، و بالنظر للسيرة، بل لا إشكال في تغسيل من قتل بالنحو المذكور بالسيف، أو السم من المعصومين عليهم السّلام.

مضافا إلي قرب انصراف الشهيد في النصوص لخصوص من يتصدي للقتال في الجهاد المعروف. و مثله سبيل اللّه، لأن سبيله تعالي و إن كان يصدق حقيقة علي كل مطلوب له، إلا أنه لا يبعد انصرافه عند المتشرعة لخصوص الجهاد بسبب شيوع إطلاقه عليه في الكتاب و السنة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

ص: 316

______________________________

و لا سيما بملاحظة معتبر يونس بن يعقوب: «ان رجلا كان بهمدان ذكر أن أباه مات و كان لا يعرف هذا الأمر فأوصي بوصية عند الموت، و أوصي أن يعطي شي ء في سبيل اللّه، فسئل عنه أبو عبد اللّه عليه السّلام كيف نفعل، و أخبرناه أنه كان لا يعرف هذا الأمر. فقال: لو أن رجلا أوصي إلي أن أضع في يهودي أو نصراني لوضعته فيهما …

فانظروا إلي من يخرج إلي هذا الأمر [الوجه] يعني: بعض الثغور فابعثوا به إليه» «1».

و لا ينافيه ما في بعض النصوص الواردة في المال الموصي به في سبيل اللّه من أن سبيل اللّه شيعتنا «2»، و في آخر من أنه يصرف في الحج، لأنه أفضل سبله «3»، و في ثالث من أنه عليه السّلام قال: «هاتها» ثم أمر بدفعها لعيسي شلقان «4».

لأن التصدي في هذه النصوص للتطبيق ظاهر في عدم كونه عرفيا، بل هو إما تعبدي، أو بلحاظ المفهوم الحقيقي، كما لعله الظاهر من الثالث، لظهور صدره في أن ذلك هو مراد الموصي، لإصراره علي العنوان المذكور من دون تفسير له و ظهور ذيله في لزوم متابعته، بخلاف معتبر يونس، لظهوره في أن البعث به لمن يخرج للثغور مقتضي مراد الموصي بطبعه من دون كلفة، لكونه المفهوم من كلامه عرفا، و أن التوقف الموجب للسؤال إنما هو لاحتمال عدم وجوب موافقة مراده، كما يظهر من تمهيده عليه السّلام ببيان أهمية موافقة الوصية.

نعم، لو فرض التصدي للقتال في ذلك لمشروعيته بأمر الإمام عليه السّلام أو بدونه دخل في الجهاد المشروع و لحقه الحكم، لما سبق. فلاحظ.

الرابع: يجب غسل من قتل دون أهله و ماله

علي ما صرح به جماعة كثيرة، و في المعتبر و التذكرة و المنتهي و الروض و محكي نهاية الأحكام دعوي الإجماع عليه. فإن النصوص و إن تضمنت مشروعية قتاله، إلّا أنه لا يصدق عليه القتل في سبيل اللّه بعد كون الغاية منه أمرا آخر، كما لا يبعد انصراف ما تضمن عنوان القتل بين الصفين إلي الجهاد المعهود الذي تضمنه قوله تعالي: إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ «5». و أما ما تضمن من تلك النصوص أنه شهيد، فلا يبعد حمله علي

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من كتاب الوصايا حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 33 من كتاب الوصايا حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 33 من كتاب الوصايا حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 33 من كتاب الوصايا حديث: 3.

(5) الصف: 4.

ص: 317

و يشترط فيه أن يكون خروج روحه في المعركة (1)

______________________________

التنزيل بلحاظ الثواب، دون عموم التنزيل، فضلا عن التطبيق الحقيقي. و لذا كان ظاهر الأصحاب المفروغية عن اختصاص الحكم بالجهاد المعروف، و عدم شموله للمقام.

كما لا يشمل جملة ممن أطلق عليه عنوان الشهيد في الأخبار، كما حكوه في المبطون و المطعون و الغريق و المهدوم عليه و النفساء «1»، مدعين الإجماع علي وجوب التغسيل في جملة منهم.

و الأمر فيهم أظهر مما سبق، لعدم صدق أكثر العناوين المتقدمة في النصوص عليهم، و مجرد إطلاق الشهيد عليهم- لو تم- لا ينفع، لأن سقوط الغسل ليس من أحكام مطلق الشهيد، بل خصوص القتيل، كما يظهر من مجموع النصوص المتقدمة.

مضافا إلي السيرة، و بعض النصوص الواردة في الغريق و النفساء «2».

(1) اختلفت عبارات الأصحاب في المقام. ففي المبسوط: «و من حمل من المعركة و به رمق ثم مات نزع عنه ثيابه و غسل»، و نحوه في النهاية و إشارة السبق و السرائر، و هو مقتضي ما في الغنية من حصر سقوط الغسل بقتيل المعركة، و ما في المراسم من تغسيل قتيل غير المعركة من قسمي القتيل بين يدي الإمام، و ما في الشرائع و النافع و القواعد و الدروس و الروضة من اشتراط الموت في المعركة في سقوط التغسيل، و نسبه للأصحاب في المدارك و محكي مجمع البرهان، بل في الثاني: «و كأنه إجماعي»، و في جامع المقاصد أنه مقتضي إطلاق الأصحاب، و في الحدائق أنه المفهوم من كلامهم.

لكن اعتبر في الخلاف و المنتهي في وجوب غسله مع نقله من المعركة موته بعد انقضاء الحرب، و اكتفي في المعتبر و التذكرة في وجوب الغسل بأحد الأمرين من نقله من المعركة حيا و انقضاء الحرب حيا.

و في جامع المقاصد و الروض و المدارك و محكي الذكري و مجمع البرهان أن

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 6، ص: 318

______________________________

(1) تضمن ذلك مرسل الدعائم المروي في البحار ج: 81 ص: 245 الطبعة الحديثة، باب: 48 آداب الاحتضار و أحكامه من أبواب الجنائز من كتاب الطهارة.

(2) تراجع النصوص المذكورة في باب: 48 من أبواب الاحتضار و باب: 31 من أبواب غسل الميت من الوسائل.

ص: 318

______________________________

ظاهر الأخبار كفاية إدراك المسلمين له حيا في وجوب التغسيل و إن لم تنقض الحرب و لا نقل من المعركة، و حكي القول به عن المهذب. بل في المقنعة: «و المقتول في سبيل اللّه … إذا مات من وقته و لم يكن عليه غسل … و إن لم يمت في الحال و بقي ثم مات بعد ذلك غسل».

و أما ما في الإرشاد و التبصرة و اللمعة من إطلاق سقوط الغسل عن الشهيد، فكأنه غير مراد لهما، بل مرادهما الإشارة لبيان سقوط تغسيله في الجملة، لأن الكتب المذكورة متون غير مبتنية علي التفصيل، و إلا فمن البعيد بناؤهما علي الإطلاق مع ظهور اتفاق الأصحاب علي التقييد في الجملة، و شهادة النصوص به، و بناؤهما عليه في جملة من كتبهما. إلّا أن يبتني الإطلاق المذكور علي أخذ القيد في عنوان الشهيد و لو اصطلاحا.

و كيف كان، فاللازم النظر في النصوص.

و قد أطلق في بعضها سقوط الغسل عن الشهيد كصحيح إسماعيل بن جابر و زرارة «1» المتقدم في أول الكلام في حكم الشهيد. لكن لا بد من الخروج عنه بما تضمن التقييد و عدم شمول ذلك لبعض أفراده، علي الخلاف في تحديده. و قد أطلق في جملة منها تغسيل من به رمق، كصحيح أبان بن تغلب «2» و موثق أبي مريم أو صحيحة «3» و مضمر أبي خالد «4» المتقدم.

و لعله هو الوجه فيما تقدم من المقنعة من اعتبار موته من وقته. إلّا أنه حيث يبعد إرادة من يموت بمجرد الإصابة، لغلبة تأخر الموت عنها قليلا، كما لا طريق غالبا لإحراز ذلك و إن وجد ميتا في المعركة، بل مقتضي الاستصحاب حياته بعد الإصابة، فلا يكون الحكم عمليا، تعين كون المعيار في بقاء الرمق أمرا آخر غير الإصابة، بل قد يكون ذلك موجبا لإجمال ما تقدم من المقنعة أيضا.

و من هنا لا يبعد حمل الإطلاق في النصوص المتقدمة علي ما إذا كان به رمق حين الوصول إليه و الاطلاع علي حاله، لا بعد الإصابة مباشرة. بل هو المتعين بلحاظ صحيح أبان الآخر «5» المتقدم في أول الكلام في حكم الشهيد المتضمن استثناء

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

ص: 319

______________________________

خصوص من أدركه المسلمون و به رمق من عدم وجوب التغسيل. و كأنه لأجل ذلك سبق عن المهذب و الذكري و من تبعهما أن ذلك هو المستفاد من النصوص.

و دعوي: أن الظاهر اتحاد صحيحي أبان، و أن الاختلاف بينهما ناشئ عن النقل بالمعني، فيلزم إجراء حكم اضطراب المتن عليهما و سقوطهما معا عن الحجية.

مدفوعة: بأنه لو تم اتحادهما فحيث كان الفرق بينهما بالإجمال و التفصيل تعين حجية المفصل منهما عرفا، و لم يلحقهما حكم التعارض المسقط لهما عن الحجية بعد فرض حجية النقل بالمعني، لأصالة عدم خطأ الراوي في فهم التفصيل من الإمام عليه السّلام و لا في بيانه.

و لا سيما مع ما ذكرنا من القرينة علي عدم إرادة بقاء الرمق بالإضافة إلي الإصابة، حيث لا يبعد صلوحها بنفسها لتفسير الإطلاق بالوجه المطابق للصحيح المفصل. فلا مجال لرفع اليد عما تضمنه الصحيح المذكور من كون المعيار عدم بقاء الرمق حين إدراك المسلمين له.

لكن الظاهر أو المتيقن من إدراك المسلمين له حيا إدراكهم له حين تفقدهم للجرحي لإسعاف من يمكن إسعافه منهم أو لنحو ذلك، لا مجرد مشاهدتهم له حال انشغالهم عنه بالقتال، لعدم وضوح صدق الإدراك بذلك، و لغلبة قتال الجماعة الكثيرة بنحو ينظر بعضهم لبعض عند تساقطهم و يمر بعضهم علي بعض في الحال المذكور مع كثرة الإصابات غير المميتة في الوقت، و الالتزام بوجوب التغسيل في ذلك بعيد جدا، نظير ما تقدم في النصوص التي أطلق فيها وجوب الغسل ببقاء الرمق.

بل تقدم في بعض النصوص أن أمير المؤمنين عليه السّلام لم يغسل هاشم المرقال «1»، مع أنه ورد في التاريخ أنه لم يمت بمجرد إصابته بل له حديث بعدها قبل موته «2».

و علي هذا يتعين الاكتفاء في وجوب التغسيل بحياته بعد انقضاء الحرب عند تفقد المصابين، و بحياته عند نقله من المعركة و لو مع بقاء الحرب، لتهيؤ جماعة لتفقدهم في أثنائها، كما تقدم من المعتبر و التذكرة.

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 12.

(2) كتاب واقعة صفين: لنصر بن مزاحم ص 353، 355.

ص: 320

______________________________

بل مقتضي ذلك وجوب تغسيله لو أدركه هؤلاء حيا و هو في مكانه و مات قبل نقله من المعركة و قبل انقضاء الحرب، اما لدخولهم وسط المعركة لتفقد المصابين، أو لغلبة المسلمين علي أرض المعركة مع استمرار الحرب.

بل لا يبعد الاكتفاء ببقائه حيا بعد انقضاء الحرب مدة معتدا بها، بحيث لو تفقدوه بعدها لوجدوه حيا و إن مات قبل أن يدركوه أما لعدم تفقدهم له أو لتأخرهم عن تفقده مدة طويلة علي خلاف ما يقتضيه وضع الحرب، حيث لا يبعد فهم عدم خصوصية الإدراك عرفا من النص إلّا لملازمته للأمد المذكور.

و لعل هذا هو المراد مما في الخلاف من الإجماع علي وجوب تغسيل من مات بعد انقضاء الحرب. و إلا فلا مجال للبناء علي إطلاقه بنحو يشمل من مات بعد انقضائها بأمد قصير فلم يدركوه بعد إطلاق النصوص المذكورة المحمول علي الموت قبل إدراكه حيا.

و منه يظهر ضعف ما تقدم من المشهور من إطلاق سقوط تغسيل من مات في المعركة، بل هو معقد إجماع غير واحد، كالخلاف و الغنية و المعتبر و التذكرة، فإنه شامل لما إذا لم يدركوه لعدم التفقد أو للتأخر فيه مدة طويلة علي خلاف ما يقتضيه وضع الحرب، بل لمن أدركوه حيا عند تفقدهم للمصابين قبل انقضاء الحرب أو بعده فلم ينقلوه من المعركة حتي مات، و قد عرفت أن مقتضي النص وجوب التغسيل خصوصا في الثانية.

و لا مجال للخروج عنه بالإجماع المدعي، لقرب استناد المجمعين له و إن لم يطابقه كلامهم. بل قد يدعي انصراف كلامهم عما إذا مات بعد انقضاء الحرب، و لا سيما مع الإجماع المتقدم من الخلاف. و يأتي تمام الكلام في ذلك.

و أضعف منه ما تقدم من الخلاف و المنتهي من عدم تغسيل من نقل من المعركة حيا و مات قبل انقضاء الحرب، فإنه مناف لإطلاق وجوب التغسيل بإدراك المسلمين له حيا. و أما ما في المنتهي من الاستدلال له بما روي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «أنه قال يوم أحد: من ينظر ما فعل سعد بن الربيع. فقال رجل: أنا أنظر لك يا رسول اللّه، فنظر فوجده جريحا به رمق. فقال له: ان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في

ص: 321

______________________________

الأموات. فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عني السلام. قال: ثم لم أبرح أن مات» «1» قال قدّس سرّه: «و لم يأمر النبي صلّي اللّه عليه و آله بتغسيل أحد منهم».

ففيه: أن النبوي- مع ضعفه بالإرسال- أجنبي عن المدعي، و إنما يدل- لو تم عدم أمره صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بتغسيل أحد منهم- علي عدم وجوب تغسيل من مات في المعركة و إن أدركه المسلمون حيا بعد انقضاء الحرب، الذي سبق أنه مقتضي إطلاق المشهور، و إن كان مخالفا لإطلاق النص و الإجماع المتقدم من الخلاف.

و من ثم احتمل سيدنا المصنف قدّس سرّه حمل نصوص المقام علي ما إذا أدركه المسلمون و حملوه من المعركة حيا- فيوافق المشهور- بقرينة النبوي المذكور المعتضد بالسيرة. قال: «إذ الظاهر أنه لم يكن من دأب النبي صلّي اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام تغسيل من تنقضي الحرب و به رمق ثم يموت في المعركة». لكن حمل النص علي ذلك بعيد عن ظاهره جدا، لظهور أن الإدراك سابق علي النقل، فإناطة الحكم به لا يناسب كون موضوعه النقل جدا، و جعل الإدراك كناية عن النقل تكلف غير عرفي.

نعم، يناسبه مرسل دعائم الإسلام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال في الشهيد إذا قتل في مكانه فمات دفن في ثيابه و لم يغسل، و إن كان به رمق و نقل عن مكانه فمات غسل و كفن» «2». لكن لا مجال للتعويل عليه في نفسه، فضلا عن رفع اليد به عما سبق.

و أما دعوي السيرة المذكورة فليست هي بأولي من دعوي السيرة أيضا علي عدم تغسيل من كانت إصابته قاتلة عرفا، بحيث يكون منتظرا من أجلها و إن تأخر موته بعد انقضاء الحرب بقليل أو نقل من المعركة قبل موته لتجنيبه الوطء الموهن له أو المجهز عليه، حيث لا يبعد شيوع ذلك في الحروب، خصوصا لذوي الشأن، بل نقل تاريخيا في جملة منها، كحرب بدر التي نص المؤرخون علي نقل عبيدة بن الحارث فيها، و واقعة الطف و لم يعهد التغسيل فيهما. بل في معتبر زيد بن علي عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: إذا مات الشهيد من يومه أو من الغد

______________________________

(1) حكي عن سيرة ابن هشام علي هامش الروض الأنف ج: 2 ص: 141 و ذكره مع اختلاف بعض الخصوصيات ابن الأثير في تاريخه ج: 2 ص 611 طبعة دار صادر و دار بيروت.

(2) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 322

قبل انقضاء الحرب (1) أو بعدها بقليل (2) و لم يدركه المسلمون و به رمق، فإذا أدركه المسلمون و به رمق غسل علي الأحوط وجوبا (3). و إذا كان في

______________________________

فواروه في ثيابه، و إن بقي أياما حتي تتغير جراحته غسل» «1».

لكن من الظاهر أنه لا مجال للخروج عن النصوص المتقدمة المعول عليها عند الأصحاب بالحديث المذكور بعد تصريح الشيخ بعدم العمل عليه لموافقته للعامة الذي يشهد له إعراض الأصحاب عنه، كما لا مجال للتعويل في الخروج عنها علي دعوي السيرة في المقامين بعد عدم وضوح أسانيد الوقائع، و عدم القطع بعدم صدور التغسيل في ظرف تيسره.

و إن كان الإنصاف أن مفاد النصوص لا يخلو عن مشقة لا تناسب مقام العمل، خصوصا في الحروب العظيمة. و من ثم لا يخلو الأمر عن إشكال. و اللّه سبحانه و تعالي العالم. و منه نستمد التوفيق و التسديد.

(1) مقتضاه سقوط تغسيله لو أدركه المسلمون المعدون لتفقد المصابين حيا في المعركة قبل انقضاء الحرب، و قد سبق أنه مخالف لإطلاق النص الذي يأتي منه قدّس سرّه التوقف في الخروج عنه بالشهرة و غيرها. إلّا أن يكون قوله: «و لم يدركه المسلمون … »

قيدا لهذا أيضا، لا مختصا بما بعده.

(2) الظاهر أن المراد به ما إذا كان عدم الإدراك ناشئا عن سرعة موته بعد الحرب في مقابل ما إذا كان ناشئا عن عدم تصديهم لتفقد القتلي أو تأخرهم علي خلاف ما يقتضيه وضع الحرب. و قد تقدم منا التعرض لذلك.

(3) كأنه لأن مقتضي إطلاق النص وجوب تغسيله، و مقتضي إطلاق المشهور المعتضد بالنبوي و السيرة التي تقدم منه قدّس سرّه تقريبها عدم وجوبه. لكن من الظاهر أن التغسيل لا يطابق الاحتياط لا لأن حرمته ذاتية في حق الشهيد، بل لتوقفه علي غسل الدم عنه، مع ظهور النصوص في وجوب إبقائه عليه، كما صرح به في صحيح إسماعيل بن جابر و زرارة المتقدم و غيره، و هو الظاهر من الأمر في بقية النصوص

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 323

المعركة مسلم و كافر و اشتبه أحدهما بالآخر وجب الاحتياط (1)

______________________________

بدفنه كما هو في ثيابه.

و من هنا يتعين استفراغ الوسع في مفاد الأدلة، ثم التخيير، لعدم وضوح المرجح لأحد الاحتمالين، و لا مجال للاحتياط، للدوران بين محذورين.

(1) كما مال إليه في المعتبر. قال: «و لو قيل بمواراة الجميع ترجيحا لجانب حرمة الإسلام كان صوابا».

و قد يظهر من المبسوط و الخلاف جوازه مع جواز التمييز بحجم الذكر فيرتب حكم المسلم علي صغيره و حكم الكافر علي كبيره، و اقتصر علي الثاني في النهاية و الشرائع و القواعد و المختلف و الدروس و اللمعة و جامع المقاصد و حكي عن جماعة لحديث حماد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يوم بدر: لا تواروا إلّا من كان كميشا. يعني من كان ذكره صغيرا. و قال: لا يكون ذلك إلّا في كرام الناس» «1»، و رواه عن حماد مرسلا في محكي الذكري «2».

و أرسل في المبسوط عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنه قال: «ينظر مؤتزرهم، فمن كان صغير الذكر يدفن» «3» و أرسل نحوه في الخلاف عنه عليه السّلام «4».

و الإشكال فيه باستلزامه النظر للعورة المحرم، هين بعد ظهور النص في جوازه، تبعا لإعمال الأمارة المذكورة. و لا حاجة معه إلي دعوي إمكان النظر بواسطة جسم ترتسم فيه العورة، كما في الجواهر لاحتياجه إلي عناية مغفول عنها، فعدم التنبيه عليه في النص ظاهر في جواز النظر للبشرة.

نعم، قد يدعي وجوب اختيار النظر بتوسط ما ترتسم فيه الصورة لو أمكن بوجه متعارف، لان النص و إن كان ظاهرا في جواز النظر، إلّا أن ارتكاز كون جوازه للضرورة لتوقف إعمال الأمارة عليه موجب لقصوره عما لو أمكن إعمالها بدونه.

______________________________

(1) الوسائل باب: 65 من أبواب جهاد العدو حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 39 من أبواب الدفن حديث: 3.

(3) المبسوط ج: 1 ص: 182 الطبعة الحديثة الحروفية.

(4) الخلاف ج: 1 ص: 109 الطبعة الحجرية الأولي.

ص: 324

______________________________

و كيف كان، فلا يصلح ذلك لرفع اليد عن النص.

و إما الإشكال في ذلك بعدم حجية مرسل المبسوط و الخلاف، و حديث حماد لا إطلاق له، بل هو مختص بواقعة بدر.

فقد يدفع: بأن التعليل في ذيل حديث حماد موجب لظهوره في العموم و إلغاء خصوصية مورده عرفا. و إن كان قد يشكل ذلك بأن التعليل لا يخلو عن إجمال. لأن الخصوصيات البدنية الخلقية و إن كانت قد تناسب بعض الخواص النفسية الخلقية، إلّا أنها ليست بنحو تصلح عرفا للأمارية علي الإسلام الخاضع لعوامل كثيرة مباينة لتلك الخواص.

و من ثم يبعد صلوحه للقرينية علي عموم الأمارية لغير مورده من موارد العلم الإجمالي في الحروب، فضلا عن موارد العلم الإجمالي في غير الحروب و موارد الحروب غير المقرونة بالعلم الإجمالي و غيرها من موارد الاشتباه و الشك في إسلام الميت.

بل يظهر من الحدائق و محكي الذكري عدم الإشكال في قصور الأمارية عما لو اشتبه موتي المسلمين بالكفار في غير الشهداء. و إن لم يتضح الوجه فيه بعد فرض التعدي عن موارد النص تحكيما للتعليل. و لعله لما ذكرنا احتمل سيدنا المصنف قدّس سرّه أن يكون المقصود من ذيل الحديث بيان وجه المناسبة و رفع الاستيحاش، لا التعليل للحكم.

و يزيد في الإشكال أن حرب بدر التي هي مورد الحديث و التعليل ليست بنحو يناسب اشتباه القتلي و عدم تمييزهم، حيث لم يعرف فيها تمثيل أو تقطيع الرؤوس أو وطء القتلي بأرجل الخيل أو الناس، مع قلة القتلي، خصوصا من المسلمين، و معروفيتهم، بل نص المؤرخون فيها علي كثير من الخصوصيات غير المناسبة لذلك جدا، كأسماء القتلي و خصوصيات أبدانهم و ألبستهم و كيفية قتلهم، كما لم يشر في الحديث الشريف للاشتباه المذكور و أنه هو الداعي للنداء بذلك.

و من ثم لا يبعد حمل الحديث علي من رخص بمواراته من المشركين- و لو في القليب- لكرامته في نفسه و إن لم يكن مسلما. و لعل حرمة دفن الكافر قد شرعت قبل ذلك، أو أريد من المواراة أمرا غير الدفن الشرعي.

علي أن الحديث و إن عبر عنه بالصحيح أو الحسن، للبناء علي كون الراوي له

ص: 325

______________________________

حماد بن عيسي، كما في المختلف و الجواهر و غيرهما إلّا أنه لم يثبت ذلك بعد اختلاف نسخ التهذيب الذي هو مصدرها الوحيد فيما يظهر، فقد تضمن بعض نسخه المخطوطة ذلك، و تضمن بعضها «حماد بن يحيي» الذي لم تثبت وثاقته، و اقتصر عليه في المطبوعة حديثا في النجف الأشرف، كما اثبت في النسخة التي رأيتها من المطبوعة الحجرية الإيرانية مع الوجه الأول إما في الطبع أو أضيف بعده تصحيحا مع التنبيه علي كونه كذلك بخط المصنف.

و لعله لذا اقتصر عليه في المعتبر و جمع بين النسختين في الوسائل المطبوعة حديثا. مضافا إلي أنه قد رواه مرسلا في محكي الذكري عن حماد اللحام، و هو مردد بين ابن بشير و ابن واقد، و كلاهما غير ثابت الوثاقة. و لعله لذا قال في السرائر: «و هذه رواية شاذة لا يعضدها شي ء من الأدلة» فإن احتياجها للعاضد إنما هو بعد فرض عدم حجيتها في نفسها، و قال في المعتبر: «و توقف بعض الأصحاب استضعافا للرواية».

اللهم إلا أن يقال: لا عبرة بإرسال الذكري و لا سيما مع عدم العثور علي ما تضمنه في شي ء من نسخ التهذيب، و لا فيما نقل عنه. و اختلاف نسخ التهذيب بين ابن عيسي و ابن يحيي غير ضائر، لأن ابن يحيي و إن لم ينص أحد علي توثيقه إلّا أنه يمكن استفادة توثيقه من رواية البزنطي عنه، لما قيل من أنه لا يروي و لا يرسل إلّا عن ثقة، و لا أقل من تصحيح هذا الحديث لوقوعه في سنده. و قد تقدم الكلام في ذلك في المسألة السابعة عشرة من فصل الماء المطلق عند الكلام في تحديد الكر. فراجع.

فالعمدة في الإشكال ما تقدم من اختصاص الحديث بمورده، و عدم مناسبة مورده للاشتباه، حيث لا مجال معه للبناء علي أمارية الأمر المذكور.

هذا، و في السرائر: «و الأقوي عندي أن يقرع عليهم، لأن كل أمر مشكل عندنا فيه القرعة بغير خلاف، و هذا من ذاك»، و في الروضة: «و للقرعة وجه».

و استشكل فيه في المعتبر.. تارة: بأن الأصحاب لم يستعملوا القرعة في العبادات.

و أخري: بأنه لو اطرد العموم لبطلت البحوث الفقهية. لكن الأخير إنما يقتضي عدم الرجوع للقرعة في الشبهة. الذي لا يبعد دعوي التسالم عليه و قصور كلام السرائر عنه. و لا مانع من عمومها علي الشبهة الموضوعية التي منها المقام.

ص: 326

بتغسيل كل منهما (1)

______________________________

و الأول لم يتضح الوجه فيه بنحو يمنع من تنقيح موضوع العبادة بالقرعة في الشبهة الموضوعية، كما في المقام. كيف و قد ورد الرجوع إليها في اشتباه الشاة الموطوءة بغيرها من الغنم «1»، و لازمه جواز جعل ما اقتضت القرعة عدم وطئه هديا أو أضحية أو زكاة أو غيرها من العبادات.

فالعمدة في الإشكال عليه: أن الدليل علي العموم المذكور إن كان هو الإجماع المدعي في كلامه قدّس سرّه فلا مجال له بعد ظهور الخلاف منهم في كثير من الموارد، و منها المقام. و إن كان هو النصوص فلم نعثر منها علي ما يتضمن الإطلاق الشامل للمقام عدا حسنة محمد بن حكيم: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن شي ء فقال لي: كل مجهول ففيه القرعة. قلت له: إن القرعة تخطئ و تصيب. قال: كلما حكم اللّه به فليس بمخطئ» «2».

لكن عمومها لكل مجهول مستلزم لكثرة تخصيصها، لما سبق من عدم العمل بها في الشبهات الحكمية، و لزوم الخروج عنها في جميع موارد أدلة الأصول الشرعية، لأنها أخص منها، و في كثير من موارد الاشتباه الأخر كاشتباه درهم الودعي بين شخصين و ميراث الغرقي و المهدوم عليهم و الخنثي المشكل و اشتباه القبلة و الثوبين المشتبهين و الإنائين المشتبهين و غير ذلك مما دل الدليل الخاص علي عدم الرجوع فيه للقرعة، و ذلك يوجب طروء الإجمال علي العموم بنحو يسقطه عن الحجية.

و لا سيما مع إعراض الأصحاب عن العموم المذكور و اشتهار القول بينهم بوجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي و عدم الرجوع للقرعة فيها و في كثير من الموارد الأخر. علي ما ذكرناه في مباحث العلم الإجمالي من الأصول. و من هنا لا مخرج عما يقتضيه العلم الإجمالي من الاحتياط. و أما لو لم يقترن الاشتباه بالعلم الإجمالي فقد تقدم الكلام فيه في ذيل الكلام في وجوب تغسيل كل مسلم.

(1) لا مجال للاحتياط بالتغسيل بعد العلم بعدم وجوبه إما لكون الميت مسلما

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 4.

(2) الوسائل باب: 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوي من كتاب القضاء حديث: 11.

ص: 327

و تكفينه (1) و دفنه (2).

______________________________

شهيدا أو لكونه كافرا. نعم إنما يحتاط بذلك في غير ميت المعركة أو ميت المعركة الذي لا يسقط تغسيله، ليكون الاشتباه مستلزما للعلم الإجمالي بالتكليف.

(1) حيث يأتي عدم تكفين الشهيد إلّا أن يجرد فالاحتياط بالتكفين إنما يكون مع التجريد أو فرض عدم كون المسلم ميتا في المعركة ممن سقط تكفينه بذلك، و إلا يعلم بعدم وجوب التكفين، نظير ما تقدم في الغسل.

(2) لتوقف الاحتياط عليه بعد فرض العلم الإجمالي بوجوبه.

و دعوي: أن التكفين و الدفن حيث كانا توصليين فظاهر النهي عنهما في حق الكافر عموم حرمتهما لما إذا أتي بهما لا بقصد المشروعية، فيكون المورد من الدوران بين محذورين و يتعذر الاحتياط، و ليس الحال فيهما كالعبادات التي لا محذور في الإتيان بها في مورد احتمال الحرمة برجاء المشروعية.

كما لا مجال لاحتمال أن الكافر لا يحرم تجهيزه، بل لا يجب فقط، لمنافاته لظاهر الأصحاب، و لقوله عليه السّلام في موثق عمار في النصراني يموت مع المسلمين: «لا يغسله مسلم و لا كرامة و لا يدفنه و لا يقوم علي قبره و إن كان أباه» «1».

مدفوعة: بأن منصرف كلماتهم و الموثق المذكور إنما هو حرمة تجهيز الكافر المبني علي احترامه، دون القيام ببعض أفعال التجهيز بدواع آخر، كدفنه بداعي تجنب رائحته، و منه المقام، حيث لا يبتني تكفينه و دفنه علي احترامه، بل علي الاحتياط للمسلم و الاهتمام بحرمته.

و لعل هذا هو الوجه في ظهور مفروغية الأصحاب عن إمكان الاحتياط. علي أنه لا يبعد دعوي أهمية وجوب تجهيز المسلم من حرمة تجهيز الكافر، فمع فرض العلم بهما إجمالا يتعين إهمال الثاني عملا احتياطا للأول. فلاحظ.

هذا، و حيث لا إشكال في وجوب الصلاة علي الشهيد- كما يأتي- كان علي سيدنا المصنف قدّس سرّه التنبيه لها في بيان مقتضي الاحتياط، بل هي أولي بالذكر من

______________________________

(1) الوسائل باب: 18 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 328

______________________________

التغسيل و التكفين اللذين عرفت الكلام فيهما. و قد ذكر للاحتياط فيها في المبسوط و الخلاف وجهين:

الأول: أن يصلي علي كل منهم منفردا بنية الصلاة عليه بشرط إيمانه.

الثاني: ان يصلي عليهم جميعا بنية خصوص المؤمنين منهم.

و استحسن الثاني في الروضة، و في السرائر أنه الأظهر من أقوال أصحابنا. لكنه قد يشكل باحتمال استلزامه بعد المؤمن عن المصلي و فصله بالكافر الذي لا تشرع الصلاة عليه. إلّا ان يكون العدد قليلا بحيث لا يستلزم البعد المفرط. و من هنا كان الأول أولي، بل لازما لو لزم المحذور المذكور من الثاني.

و أما الإشكال في الأول- كما في الجواهر- باستلزامه عدم الجزم بالنية.

فيندفع: بعدم اعتبار الجزم بالنية في المقام و غيره من العبادات بعد عدم الدليل عليه و اقتضاء الأصل عدمه، علي ما تحقق في محله. بل لا إشكال في ذلك مع فرض تعذر الجزم.

و أشكل من ذلك ما يظهر منه قدّس سرّه من جواز الصلاة مع الجزم بالنية علي كل واحد برجاء كونه مسلما، نظير الدفن. لظهور حرمة الصلاة علي الكافر و لو تشريعا، فيلزم من الجزم بالنية في الكل الوقوع في الحرام. و ما قد يظهر منه قدّس سرّه من عدم حرمة الصلاة علي الكافر، بل ليست هي إلّا غير واجبة. غريب، لما فيها من الدعاء للميت الذي لا إشكال في حرمته في حق الكافر، فهي أولي بالحرمة من الدفن الذي تقدم ظهور النص و الفتوي في حرمته.

ثم إن الاحتياط المتقدم في الصلاة و إن جاز مطلقا إلّا أنه لا يجب إلّا بناء علي عدم صلوح حجم الذكر أو القرعة لتعيين المسلم، كما نبه له غير واحد. إذ لو فرض تعيينه بحجم الذكر كان مقتضي التعيين ترتيب تمام أحكام المتعين، و منها الصلاة، كما ذكره في المبسوط و الخلاف.

و لا ينافيه اختصاص النص بالدفن، لأنه إذا فرض كون المستفاد منه ترتب الدفن علي إحراز الإسلام و عدمه علي إحراز عدمه كان المفهوم منه عرفا عدم الفرق بين الأحكام. و لو فرض تعيينه بالقرعة كان مقتضي عموم دليلها عدم الفرق بين

ص: 329

______________________________

الأحكام أيضا. و منه يظهر الإشكال فيما قد يظهر من السرائر و المختلف من لزوم الاحتياط المذكور، مع ما تقدم من الأول من الرجوع للقرعة و من الثاني من الرجوع لحجم الذكر.

بقي في المقام أمور:
الأول: لا إشكال ظاهرا في وجوب الصلاة علي الشهيد،

و به صرح غير واحد، بل في الخلاف دعوي الإجماع عليه، و هو داخل في معقد إجماع الجواهر المتقدم، كما هو المناسب لاقتصارهم علي استثناء الغسل و الكفن. و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق أدلة الصلاة- ما في صحيحي أبان «1» و غيرهما من صلاة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي حمزة، و ما في خبر وهب «2» المتقدم من صلاة أمير المؤمنين عليه السّلام علي عمار رضي اللّه عنه و لا بد مع ذلك من رفع اليد عما في موثق عمار المتقدم «3» في أوائل الكلام في حكم الشهيد من عدم صلاة أمير المؤمنين عليه السّلام علي عمار و هاشم المرقال رضي اللّه عنها كما ذكره غير واحد. و ربما يحمل علي التقية، لموافقته لبعض العامة.

الثاني: كما صرح الأصحاب بعدم تغسيل الشهيد صرحوا بعدم تكفينه،

و صرح بالإجماع عليه في التذكرة و المدارك و الجواهر- فيما تقدم- و في طهارة شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «إجماعا محققا و مستفيضا»، و في المعتبر أنه إجماع أهل العلم عدا سعيد ابن المسيب و الحسن البصري فإنهما أوجبا غسله، و خص الكلام بهما في التذكرة أيضا، و حكي دعوي الإجماع عليه عن الخلاف و الغنية و المنتهي و نهاية الأحكام و الذكري.

و كشف الالتباس و مجمع البرهان.

و كأنه للتصريح بدفنه في ثيابه في بعضها كالخلاف و الغنية، و استفادته من مساق كلام بعضها كالمنتهي.

و كيف كان، فيقتضيه جملة من النصوص الواردة في الشهيد المتقدم بعضها، و في موثق أبي مريم عن الصادق عليه السّلام: «أنه قال: الشهيد إذا كان به رمق غسل و كفن

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 7، 9. و يوجد أيضا في حديث: 8 و كلها تأتي في حكم التكفين مع تجريد الشهيد من ثيابه.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 12.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

ص: 330

______________________________

و حنط و صلي عليه، و إن لم يكن به رمق كفن في أثوابه» «1».

و في الروض: «و دفن الثياب معه واجب فلا تخيير بينها و بين تكفينه بغيرها عندنا». و هو مطابق لظاهر النص و الفتوي. كما أن ظاهر النصوص سقوط تحنيطه أيضا، كما يظهر بأدني تأمل فيها، و لا سيما ما تضمن التفصيل بين من أدركه المسلمون و به رمق و غيره و نبه علي التحنيط في الأول دون الثاني و أنه يدفن بثيابه الظاهر في عدم تغيير حاله و لو بإزالة الدم عن المساجد أو كشف ثيابه عنها.

و منه يظهر استفادة ذلك من الأصحاب و إن لم يصرحوا به، لتعبيرهم بعبارات النصوص و جريهم علي مقتضاها. و لعل عدم تنبيههم عليه لظهور عباراتهم في انه من لواحق التكفين و توابعه. فلاحظ.

هذا، و قد صرح بوجوب تكفينه لو جرد في القواعد، و تبعه في جامع المقاصد و كشف اللثام، و وافقه الشهيد الثاني في الروض و جمال الدين في حاشية الروضة، و في الجواهر أنه صرح به جماعة من الأصحاب، و في مفتاح الكرامة: «كأن هذا الحكم معلوم عندهم، و لذا لم ينص عليه أحد فيما أجد إلّا الشهيد و المحقق الثاني و الفاضل الهندي».

و استدلوا عليه بما في صحيح أبان بن تغلب: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الذي يقتل في سبيل اللّه أ يغسل و يكفن و يحنط؟ قال: يدفن كما هو في ثيابه، إلّا أن يكون به رمق [فإن كان به رمق] ثم مات فإنه يغسل و يكفن و يحنط و يصلي عليه، لأن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله صلي علي حمزة و كفنه [و حنطه] لأنه كان [قد] جرد» «2».

لكنه معارض بصحيحه الآخر المتقدم في أول الكلام في حكم الشهيد، و في ذيله: «أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كفن حمزة في ثيابه و لم يغسله، و لكنه صلي عليه» «3»، و صحيح إسماعيل بن جابر و زرارة المتقدم هناك أيضا، و في ذيله: «ثم قال: دفن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عمه حمزة في ثيابه بدمائه التي أصيب فيها، و رداه النبي صلّي اللّه عليه و آله برداء فقصر عن رجليه، فدعا له بإذخر فطرحه عليه، و صلي عليه سبعين صلاة و كبر عليه سبعين تكبيرة» «4».

و حيث أشرنا آنفا إلي قرب وحدة السؤال في صحيحي أبان و الاختلاف إنما هو بسبب النقل بالمعني جري عليهما حكم الرواية المضطربة و سقطا معا عن الحجية

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

(4) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 331

______________________________

في ذلك لو لم يسقط خصوص الأول، لاضطرابه في نفسه، حيث سيقت فيه قضية حمزة عليه السّلام تعليلا لوجوب تغسيل من به رمق، و هي أجنبية عنه.

و لو غض النظر عن ذلك فغاية ما قد يمكن في وجه الجمع بينه و بين الصحيحين الأخيرين حمل تجريد حمزة الذي تضمنه الصحيح المذكور علي أنه لم يكن بنحو يتعذر إرجاع ثيابه إليه. لأنه لم يكن طمعا في ثيابه، بل للتمثيل به، و حمل ما تضمنه من تكفينه و ما تضمنه الصحيحان الآخران من تكفينه في ثيابه علي إرجاع ثيابه إليه و تكفينه بها، الذي مقتضي إطلاق غيرها مما تضمن تكفين الشهيد بثيابه و دفنه بها. و حينئذ لا يبقي من نصوص المقام ما ينهض بإثبات وجوب تكفينه بغير ثيابه لو جرد منها و تعذر إرجاعها إليه، الذي هو ظاهر من تقدم، أو صريحه.

فالعمدة في الاستدلال علي ذلك إطلاقات أدلة التكفين بعد قصور ما تضمن عدم تكفين الشهيد عن المورد، لاشتماله علي أنه يكفن في ثيابه أو يدفن فيها، حيث لا مجال معه لإثبات أن سقوط تكفين الشهيد حكم مستقل عن دفنه بثيابه، و أن تعذر الثاني في مورد لا يوجب قصور الأول عنه.

نعم، قد يؤيد ذلك و عدم وجوب التكفين في المقام بأن ثياب الشهيد لا يتحقق بها المطلوب من التكفين، لعدم سترها لتمام البدن، فلو لا عدم ابتناء سقوط تكفينه علي بدلية ثيابه عنه لكان المناسب وجود إضافة ما يستر بقية البدن إليها، كما قد يؤيده أيضا ما هو المشهور من تجريد سيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام و عدم نقل تكفينه. و إن كان في كفاية ذلك في الخروج عن إطلاق الأدلة إشكال ظاهر.

و منه يظهر الحال فيما لو وجب تجريد الشهيد عن ثيابه- كما يأتي- أو كان عاريا قبل قتله، حيث يجري فيه ما سبق. نعم مقتضي الإطلاق سقوط التكفين مع بقاء ثيابه عليه و إن كانت غير مستوعبة لأكثر البدن كالمئزر، لأن عدم التعارف لا يوجب قصور الإطلاق. و لو جرد عن بعض ثيابه لم يبعد الاجتزاء بالباقي عما يناسبه من الكفن. فتأمل.

ثم إن الفاضل الهندي في كشف اللثام مع استدلاله علي وجوب التكفين مع التجريد بصحيح أبان الأول ذكر أن الشهيد و إن لم يجز نزع ثيابه و تكفينه بغيرها، إلّا

ص: 332

______________________________

أنه يجوز زيادته علي الثياب مستدلا بصحيح إسماعيل بن جابر و زرارة المتقدم. و هو كما تري، لظهور منافاة الصحيح المذكور للاستدلال الأول. نعم يتجه الاستدلال به بناء علي ما سبق منا من تقريب سقوط صحيح أبان عن الحجية أو الجمع بينه و بين الصحيحين الآخرين بالوجه المتقدم.

كما يتجه الاستدلال لجواز الزيادة أيضا بالأصل بعد عدم الدليل علي الحرمة، إذا ليس مفاد النصوص إلّا كفاية الثياب عن الكفن، و هو لا يستلزم حرمة الزيادة عليها. و لا ينافيه ما تضمن أنه يدفن كما هو، إذ بعد العلم بجواز تغيير حاله في الجملة فالمتيقن منه إرادة عدم نزع الثياب، و لا سيما و أنه لم يرد إلّا في صحيح أبان الأول المتضمن لقوله: «يدفن كما هو في ثيابه» و في صحيح إسماعيل و زرارة الذي جمع فيه بين ذلك و بين زيادة الرداء لحمزة عليه السّلام. و ما الإشكال فيه باستلزامه التبذير و السرف، فلا مجال له بناء علي الاستدلال له بالصحيح. بل لا يبعد كفاية احتمال المشروعية الحاصل منه في عدم صدق التبذير و السرف عرفا. فلاحظ.

هذا، و أما ما في العروة الوثقي من أنه لا يبعد جواز تكفينه فوق ثياب الشهادة، فظاهره إرادة تمام الكفن المشروع، و لا مجال لإثبات مشروعيته بعد خلو النصوص عنه، و تخصيصها لعمومات التكفين، بل ظاهر التعبير في موثق أبي مريم المتقدم بتكفينه في ثيابه عدم مشروعية كفن آخر له، لحكومته علي عمومات الكفن و تعيينه في حق الشهيد بالثياب.

و أما إلباسه تمام قطع الكفن لا بعنوان الكفن المشروع فقد يشكل بلزوم التبذير و السرف الصادقين في المقام بعد عدم المنشأ لاحتمال المشروعية، ليعتد به العقلاء و يمنع من صدقهما، بخلاف ما تقدم في الرداء.

الثالث: حيث سبق اتفاق النص و الفتوي علي دفن الشهيد في ثيابه فقد اختلفت عباراتهم فيما يدفن معه و ما ينزع منه
اشارة

بعد الاتفاق ظاهرا علي وجوب دفن تمام ما يصدق عليه الثياب أصابه الدم أو لا، كما يقتضيه إطلاق الفتاوي و معاقد الإجماعات السابقة، بل صرح بالتعميم للحالين جماعة و ادعي الإجماع عليه في المعتبر و التذكرة و المدارك، و قد يظهر من جامع المقاصد، و في الجواهر: «إجماعا بقسميه».

ص: 333

______________________________

و يقتضيه إطلاق النصوص المتقدمة.

و مجرد ذكر الدم مع الثياب في بعض النصوص لا يقتضي تقييدها به فيه، فضلا عن تقييد غيره مما لم يذكر فيه الدم. بل ذكر التكفين في الثياب في موثق أبي مريم ظاهر في وجوب دفنها لأجل التكفين، لا لخصوص الدم الذي قد يكون فيها.

كما أن الظاهر الاتفاق أيضا علي عدم دفن السلاح و إن أصابه دم، كما نفي الخلاف عنه في السرائر، أطلق ابن الجنيد فيما حكي عنه عدم دفن الحديد. و يناسبه عدم تنبيههم علي دفنه مع اقتصار جملة منهم علي دفن الثياب التي لا إشكال في خروجه عنها.

و لا ينافيه اقتصار جملة منهم في المستثنيات علي غيره بعد عدم وضوح المستثني منه له، كما يناسبه معتبر زيد الآتي، حيث نبه فيه لاستثناء غيره مما هو أقرب للثياب منه من دون تعرض له، حيث لا يبعد ظهوره في المفروغية عن نزعه، و إلّا فمن البعيد جدا وجوب دفنه مع نزع غيره مما تضمنه الحديث المذكور.

و هو المناسب للسيرة، حيث كان السلاح يتوارث و لو مع قتل أصحابه، و لم يعرف دفن شي ء منه مع القتيل المعتضدة بمرسل غوالي اللآلي الآتي عند الكلام في المنطقة.

و بذلك يخرج عما قد يستفاد من الأمر بدفن الشهيد بدمائه في صحيح إسماعيل ابن جابر و زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «قلت له: كيف رأيت الشهيد يدفن بدمائه؟

قال: نعم في ثيابه بدمائه و لا يحنط و لا يغسل … » «1». بل لا يبعد كون ذكره فيه تمهيدا لبيان عدم التحنيط و التغسيل، أو لبيان عدم مانعية تنجس الثياب به من دفنه فيها، لا لبيان دفنه مطلقا و لو كان في غير البدن و الثياب، بحيث يشمل بإطلاقه الدم المراق علي الأرض مثلا.

و مثل السلاح توابعه كقراب السيف و حمائله، بل كل ما لا يكون من سنخ الثياب، كالخاتم و الساعة اليدوية و حلي المرأة- بناء علي عموم حكم الشهيد لها- لجريان ما سبق في الجميع.

و إنما وقع الكلام في جملة من الأمور،
اشارة

إما للكلام في دخولها في الثياب، أو في

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

ص: 334

______________________________

وجود الدليل علي استثنائها.

منها: السراويل.

ففي ظاهر المعتبر و التذكرة دفنه مطلقا و إن لم يصبه دم، و هو مقتضي إطلاق دفنه في ثيابه في كلام بعضهم، و الاقتصار علي استثناء غيره في الوسيلة و السرائر و الشرائع و النافع و القواعد و الدروس. و العمدة فيه دخوله في إطلاق الثياب عرفا. و كأن ما في المسالك و عن الميسي من نسبة دخوله فيها للمشهور بلحاظ الخلاف في شمول حكمها له، و إلّا فمن البعيد الخلاف في صدق الثياب عليه.

لكن صرح بنزعه إلّا أن يصيبه دم في المقنعة و إشارة السبق و المراسم و محكي رسالة الصدوق الأول و ابن الجنيد، و به صرح في المقنعة مدعيا الإجماع عليه.

و كأن الوجه فيه معتبر زيد بن علي عن آبائه قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ينزع عن الشهيد الفرو و الخف و القلنسوة و العمامة و المنطقة و السراويل إلّا أن يكون أصابه دم [فيترك. خصال] فإن أصابه دم ترك، و لا يترك عليه شي ء معقود إلّا حل» «1»، و رواه الصدوق مرسلا عنه عليه السّلام، كما روي في محكي دعائم الإسلام عنه عليه السّلام مرسلا «2» أيضا.

و لا مجال للإشكال فيه بضعف السند بعد عدم اشتمال سنده علي من قد يناقش فيه إلّا محمد بن خالد و أبي الجوزاء و الحسين بن علوان و عمرو بن خالد. و الأول- مع كونه من رواة كامل الزيارة- قد نص الشيخ علي وثاقته و يؤيده بعض القرائن المذكورة في المطولات. و لا يعارض برمي النجاشي له بأنه ضعيف في الحديث، حيث يقرب أن يريد به روايته عن الضعفاء و اعتماده المراسيل الذي حكي عن ابن الغضائري رميه به صريحا، فلا ينافي وثاقته في نفسه.

و أما الباقون فقد تقدم تقريب الاعتماد علي حديثهم في نظير الحديث المذكور المستدل به علي وجوب توجيه المحتضر للقبلة. فراجع.

مضافا إلي قرب انجباره بعمل من سبق و بعمل الكليني و الصدوق، حيث يظهر من ذكرهما له في الكافي و الفقيه اعتمادهما عليه. و كذا الشيخ في التهذيب، حيث

______________________________

(1) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(2) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

ص: 335

______________________________

استدل به علي ما تقدم من المقنعة. و إن كانت كلماتهم في المقام لا تخلو عن اضطراب، لعدم جريهم في المستثنيات علي مبني واحد من العمل بالحديث أو طرحه. فلاحظها.

و كيف كان، فلا مجال لرفع اليد عنه بعد ما ذكرنا من اعتبار سنده.

نعم، الظاهر قصور إطلاقه عما لو لم يكن في ثياب الشهيد ساتر لعورته غير السراويل حيث لا يظن من أحد الالتزام بعدم وجوب ستر عورته، و تبديله بساتر آخر يحتاج إلي تنبيه، لظهور الحديث في الاكتفاء بباقي الثياب، و لعل وجه الإطلاق فيه تعارف لبسه مع الاستغناء في الستر عنه في عصر صدور الحديث، و مع قصوره عن الفرض المذكور يتعين فيه إبقاء السراويل و عدم تبديله بساتر آخر، عملا بإطلاق ما تضمن وجوب دفن الشهيد بثيابه و تكفينه فيها.

و منها: العمامة.

حيث صرح بعدم نزعها مطلقا في جامع المقاصد و غيره و يظهر ممن اقتصر في بيان ما ينزع علي غيرها، كما في المقنعة و المبسوط و النهاية و الخلاف و الغنية و المراسم و الوسيلة و السرائر و المعتبر و الشرائع و النافع و القواعد و الدروس و عن ابن الجنيد و نهاية الأحكام، بل مقتضي ما تقدم من الخلاف الإجماع عليه، و كذا ما في الغنية، كما هو مقتضي إطلاق دفنه في ثيابه في كلام بعضهم، و الاقتصار في المنزوع علي ما لا يصدق عليه اسم الثوب في المدارك، كل ذلك بناء علي ما هو الظاهر، و في المسالك و عن الميسي نسبته للمشهور من دخولها في الثياب. و هو الوجه في الحكم المذكور بضميمة إطلاق ما تضمن دفن الشهيد بثيابه.

لكن في مفتاح الكرامة: «المفيد نص علي أن العمامة ليست من الثياب، و لم يدخلها الأصحاب في الكسوة في الكفارة، و اختلفوا فيها في الحبوة، فتأمل».

و لعل أمره بالتأمل لأن موضوع الكفارة في الآية الشريفة الكسوة، و بعض النصوص و إن تضمن تفسيرها بالثوب، إلّا أن في جملة منها تفسيرها بقوله عليه السّلام:

«ثوب يواري عورته» «1»، و نصوص الحبوة بين ما تضمن أن منها الكسوة، و ما تضمن أن منها ثياب جلده، حتي قال عليه السّلام في غير واحد منها: «الثياب ثياب جلده» «2»،

______________________________

(1) تراجع النصوص المذكورة في باب: 14، 15 من أبواب الكفارات من الوسائل.

(2) تراجع النصوص المذكورة في الوسائل باب: 3 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد.

ص: 336

______________________________

و قصور العبارات المذكورة عن العمامة لو تم لا يستلزم عدم دخولها في مطلق الثياب الذي تضمنته نصوص المقام. و ما حكاه عن المفيد غير ظاهر من العرف، بل و لا من اللغة، حيث فسرت الثياب باللباس. و لا أقل من دخولها في الثياب تبعا، و لا سيما في المقام، حيث تضمنت النصوص دفنه كما هو، كما تضمنت تكفينه بثيابه و العمامة من أجزاء الكفن المستحبة.

و من ثم لا يبعد استفادة عدم نزعها ممن تقدم حتي لو لم تكن من الثياب حقيقة و لا سيما مع تنبيه جملة منهم علي حكم ما هو أبعد منها عن الثياب، فلو لا بناؤهم علي عموم حكم الثياب لها لكانت أولي بالتنبيه.

نعم، عن رسالة علي بن بابويه التصريح بنزعها مع عدم إصابة الدم لها و بعدمه مع إصابته. و كأن الوجه فيه ما تضمن دفنه بدمائه الذي تقدم عند الكلام في السلاح و نحوه و ضعف الاستدلال به، أو معتبر زيد بن علي المتقدم، بناء علي رجوع الاستثناء فيه لجميع المذكورات و عدم اختصاصه بالسراويل.

لكنه لا يناسب تذكير الضمير. و من ثم يقوي نزعها مطلقا. و إن كان الاحتياط بالتفصيل حسنا، لان عدم تمامية الاستدلال بما تقدم لا ينافي كونه منشأ للاحتمال المعتد به عند العقلاء، و لا سيما مع فتوي علي بن بابويه الذي هو قريب من عصر صدور النصوص، فلا يصدق مع ذلك التبذير و السرف. خصوصا بملاحظة ما تضمن استحباب العمامة للميت. فتأمل.

و منها: القلنسوة.

حيث صرح بدفنها مطلقا في جامع المقاصد و غيره، و يستفاد ممن اقتصر في بيان ما ينزع علي غيرها، كما في المبسوط و النهاية و الخلاف- فيما تقدم من كلامه في السراويل المتضمن لدعوي الإجماع- و الوسيلة و الشرائع و النافع و القواعد و الدروس، و ما عن ابن الجنيد و نهاية الأحكام، و كذا ممن أطلق عدم نزع الثياب، أما لكونها منها- كما في المسالك و عن الميسي أنه المشهور- أو لدخولها معها تبعا بالتقريب المتقدم في العمامة.

لكن نزعها مطلقا في التذكرة و ظاهر المعتبر. و هو المتجه، لا لخروجها عن الثياب- لما عرفت- بل لمعتبر زيد المتقدم الذي عرفت ظهوره في رجوع الاستثناء

ص: 337

______________________________

لخصوص السراويل و منه يظهر ضعف التفصيل فيها بين إصابة الدم و عدمها، كما في المقنعة و المراسم و السرائر و محكي رسالة علي بن بابويه، و في الغنية الإجماع علي ذلك.

و قد أشرنا عند الكلام في العمامة إلي ضعف الاستدلال بما تضمن دفن الشهيد بدمائه.

كما يجري هنا ما تقدم فيها من حسن الاحتياط بالدفن.

و منها: المنطقة.

حيث يستفاد دفنها مطلقا من كل من اقتصر في بيان ما ينزع علي غيرها، كما في المقنعة و الغنية و المراسم و الوسيلة و الشرائع و النافع و الدروس، بل في الغنية الإجماع علي ما تضمنه، و كذا من أطلق دفنه بثيابه، لأنها إن لم تكن من الثياب حقيقة فهي تابعة لها عرفا، نظير ما تقدم في العمامة.

نعم، لو كانت من الجلد كان نزعها مطلقا مقتضي اطلاع نزع الجلود في الخلاف و التذكرة و جامع المقاصد، و الروض و الروضة و عن ابن الجنيد، بل في الأول دعوي الإجماع عليه. كما صرح بالتفصيل في المنطقة بين إصابة الدم و عدمه في محكي رسالة علي بن بابويه.

و كأن مستنده معتبر زيد المتقدم، بناء علي رجوع الاستثناء فيه لجميع ما تضمنه، لا لخصوص السراويل. لكن تقدم أنه خلاف ظاهره، و أن مقتضاه نزع ما عدا السراويل مطلقا، و منه المنطقة. و يؤيده فيما لو كانت جلدا مرسل غوالي اللآلي عن ابن عباس: «أمر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بقتلي أحد أن ينزع عنهم الحديد و الجلود و أن يدفنوا بدمائهم و ثيابهم» «1».

و منها: الفرو.

فقد صرح بنزعه مطلقا في الشرائع و المعتبر و التذكرة و الروض و الروضة، و هو مقتضي إطلاق نزعه في النافع، و إطلاق نزع الجلود في الخلاف و جامع المقاصد و عن ابن الجنيد، و تقدم من الخلاف دعوي الإجماع عليه.

و استدل غير واحد عليه و علي عدم دفن الجلود مطلقا بخروجها عن الثياب، و اختصاص الثياب عرفا بالمنسوج. لكنه إنما يتم في بعض الجلود، دون مثل الفرو مما هو من سنخ الثياب، حيث لو لم يكن منها حقيقة فهو تابع لها عرفا، بل الظاهر تبعية بعض ما لا يكون من سنخ الثياب من الجلود، نظير ما تقدم في المنطقة. و لعله لذا كان

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

ص: 338

______________________________

عدم نزع الفر و ظاهر جماعة ممن اقتصر في المنزوع علي غيره، كما في المراسم و الوسيلة و القواعد.

لكن ذلك كله مع غض النظر عن معتبر زيد المتقدم، أما بلحاظه فينزع مطلقا، لما تقدم من اختصاص التفصيل فيه بين إصابة الدم له و عدمها بالسراويل. و يؤيده مرسل غوالي اللآلي المتقدم. و منه يظهر ضعف التفصيل في الفر و بين إصابة الدم و عدمها، كما في المقنعة و الغنية- مدعيا عليه الإجماع- و إشارة السبق و السرائر و قد يظهر من المبسوط و النهاية، كما حكي عن رسالة علي بن بابويه و نهاية الأحكام.

و ما تقدم في العمامة من ضعف الاستدلال له بما تضمن دفن الشهيد بدمائه و من حسن الاحتياط بالدفن جار هنا. نعم لا بد من دفن الفرو المخيط مع غيره من ثياب الشهيد بنحو يكون تابعا و ملحقا به، لقصور معتبر زيد عنه، فيشمله إطلاق ما تضمن دفن الشهيد بثيابه.

و منها: الخف.

فقد صرح بنزعه مطلقا و لو مع إصابة الدم له في المقنعة و الشرائع و المعتبر و التذكرة و القواعد و الروض و الروضة و محكي المهذب، و هو مقتضي إطلاق نزعه في النافع و ظاهر الوسيلة، و إطلاق نزع الجلود في الخلاف و جامع المقاصد و عن ابن الجنيد، بل في الخلاف و الغنية دعوي الإجماع علي ما تضمناه. و صرح بالتفصيل فيه بين إصابة الدم و عدمها في إشارة السبق و المراسم و السرائر و محكي رسالة علي بن بابويه، و جعله مقتضي الرواية في المبسوط و النهاية. و كأن المراد بها معتبر زيد، كما يستفاد من الروض.

لكن تقدم ظهوره في نزعه مطلقا، كما تقدم ضعف الاستدلال للتفصيل بما تضمن دفنه بدمائه.

هذا، و لم يعرف عن أحد القول بدفنه مطلقا، بل نفي في الجواهر الخلاف في عدم وجوب دفنه مع عدم إصابة الدم له، ثم قال: «بل الإجماع بقسميه عليه» و كأنه للقطع بخروجه عن الثياب، و عدم وضوح تبعيته لها.

و كيف كان، فالأقوي نزعه مطلقا، لذلك بعد ما تكرر من عدم صلوح ما تضمن دفنه بدمائه لإثبات وجوب دفن غير الثياب إذا أصابه الدم، و لمعتبر زيد المؤيد

ص: 339

______________________________

بمرسل غوالي اللآلي المتقدم. و يلحق به النعل و نحوه مما يتعارف لبسه في عصورنا، و لقرب إلغاء خصوصية الخف عرفا في معتبر زيد، و لمشاركته له في الخروج عن الثياب، نعم لا يلحق به الجورب، لقصور المعتبر عنه، لقرب إلحاقه بالثياب و إن لم يكن منها عرفا. فتأمل.

بقي شي ء:

و هو أنه صرح في العروة الوثقي بأن ثياب الشهيد إذا كانت مملوكة للغير أو مرهونة عنده و لم يرض بإبقائها تنزع، و أقره علي ذلك جماعة من محشيها.

و علله سيدنا المصنف قدّس سرّه بعدم صلاحية النصوص للترخيص في التصرف بمال الغير، أو موضوع حقه.

لكن عدم صلاحيتها لذلك إن كان لقصور إطلاقها عن فرض عدم ملكية الشهيد لثيابه. فهو في غاية الإشكال بعد ظهور كون إضافة الثياب له بلحاظ لبسه لها حين الشهادة، لا بلحاظ ملكيته لها، فضلا عن طلقيتها لتقصر عن مثل المرهون.

و لذا لا يجوز تبديل ثيابه المملوكة التي قتل فيها بثياب أخري مملوكة له، و يجب دفنه في ثياب شهادته المملوكة لغيره مع رضا المالك، و كذا الثياب المعينة من قبل الدولة أو بسبب الوقف علي المجاهدين.

و إن كان لورودها لبيان وجوب الدفن بالثياب من حيثية الشهادة استثناء من عموم كيفية تكفين الميت، لا من جميع الجهات و علي كل حال و إن لزم محاذير آخر لا دخل لها بحكم الميت، كحرمة التصرف في ملك الغير. فهو مسلم، إلّا أن لازمه كون المورد من صغريات التزاحم، لوجود جهتين فيه متنافيتي الأثر، فحيثية الشهادة تقتضي الدفن بالثياب، و حيثية ملك الغير لها أو ثبوت حقه فيها تقتضي عدم الدفن مع عدم رضاه، فمع إمكان الجمع بإرضاء الغير أو رفع حقه عن الثياب بمثل شرائها منه أو وفاء دينه يتعين العمل عليه، و مع تعذره يقع التزاحم بين وجوب الدفن بالثياب و حرمة التصرف فيها، و يتوقف وجوب نزعها علي أهمية الثاني، و هو غير بعيد، خصوصا مع تعديه في لبسه للثياب، لعدم إذن المالك أو صاحب الحق. و لا أقل من احتمال أهميته الموجب للاحتياط فيه.

نعم، لو أذن في لبسها و القتال فيها المعرض للشهادة مع علمه بحكم الشهيد لم

ص: 340

______________________________

يبعد سقوط حقه و حرمة النزع، لأن المنساق من أدلة وجوب دفن الشهيد بثيابه كون ذلك من حقوقه الراجع نفعها إليه، و حيث كان حدوث موضوع الحق و سببه بإذن المالك لزم عليه. و لا أقل من أهمية حق الشهيد في الفرض أو احتمالها. فلاحظ.

الرابع: صرح الشيخ و جماعة بعموم سقوط التغسيل عن الشهيد لما إذا كان جنبا،

بل هو المعروف بين الأصحاب المنسوب للأكثر تارة و للمشهور أخري. تمسكا بإطلاق نصوص سقوط تغسيل الشهيد، و بالأصل. و يتضح الكلام فيهما مما يأتي.

خلافا لما عن ابن الجنيد في الكاتب و المرتضي في شرح الرسالة، فأوجبا تغسيله.

و استدل لهما:

تارة: بما روي في قضية حنظلة من الراهب. قال في المعتبر: «فإن النبي صلّي اللّه عليه و آله قال:

ما شأن حنظلة؟ فإني رأيت الملائكة تغسله. قالوا: انه جامع ثم سمع الهيعة فخرج إلي القتال» «1».

و أخري: بما تضمن تغسيل الميت و هو جنب غسلين «2».

و ثالثة: بأنه غسل واجب لغير الموت فلا يسقط بالموت.

و يشكل الأول- بعد تسليم كون الواقعة بالنحو المذكور بعد عدم ثبوته مسندا من طرقنا، و لا سيما مع عدم اشتمال مرسلي الصدوق «3» و علي بن ابراهيم «4» علي تعليل تغسيل الملائكة لحنظلة بجنابته- بأن تغسيل الملائكة لحنظلة لا يدل علي وجوبه علينا في حق غيره، و لا سيما مع احتمال تغسيل الملائكة لكل ميت عن جنابة، لعدم ظهور الرواية في اختصاص حنظلة بذلك من بينهم، بل من بين قتلي أحد.

و أضعف منه الثاني، لأن الأمر في تلك النصوص بغسلين يشهد باختصاصها بغير الشهيد الذي يسقط تغسيله للموت، فمع عدم العمل بها في موردها للنصوص الدالة علي الاكتفاء فيه بغسل الميت كيف يتعدي منه للشهيد و يستفاد منه تغسيله للجنابة؟!.

______________________________

(1) المعتبر: ص 84.

(2) راجع الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل باب: 30 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 341

______________________________

و أما الثالث فقد دفعه في الجواهر- بعد تسليم أن غسل الجنابة واجب نفسي- بأن وجوبه قبل الموت كسائر التكاليف التي تسقط بالموت عمن كلف بها، و لا تنتقل لغيره.

و يشكل بأن المستفاد مما تضمن تعليل وجوب غسل الميت بأنه يجنب «1» و تعليل كفاية غسل واحد لمن مات جنبا بأنهما حرمتان اجتمعا في حرمة واحدة «2» اهتمام الشارع بطهارة الميت من الجنابة الثابتة قبل موته و تكليف غيره بذلك. و قد تقدم في المسألة الرابعة عشرة ما ينفع في المقام.

و مثله دفعه بأنه اجتهاد في مقابل النص. إذ هو موقوف علي نهوض إطلاق عدم تغسيل الشهيد بإثبات عدم تغسيله للجنابة، و هو لا يخلو عن إشكال، لأن المنساق منها بيان عدم وجوب تغسيله للموت استثناء من عموم تغسيل الميت، فلا ينافي وجوب تغسيله للجنابة.

نعم، لو كان الابتلاء بشهادة الجنب و نحوه من أفراد المحدث بالأكبر شايعا كان عدم التنبيه لوجوب تغسيله في نصوص الشهيد موجبا لظهورها في سقوطه تبعا، لكونه مغفولا عنه في نفسه بسبب عدم معهودية تغسيل الميت لغير الموت. لكنه غير ظاهر، لندرة الابتلاء بشهادة الجنب بنحو يعلم بجنابته لينبه إلي حكمها، و إلا لظهر الحال من السيرة.

و كذا الاستدلال لعدم التغسيل برواية واقعة حنظلة المتقدمة، كما أشار إليه في الجواهر، بدعوي: أنه لو وجب غسل الجنابة لم يسقط عنا بفعل الملائكة.

إذ فيه- تسليم كون الواقعة علي النحو المتقدم-: أنه لا مانع من إجزاء تغسيلهم، بل هو المتعين بعد معلومية كون اثره التطهير، حيث لا يبقي معه موضوع لتغسيلنا، و إنما يحتمل وجوب التغسيل لعدم ثبوت قيام الملائكة به و احتمال اختصاص ذلك بحنظلة.

و الذي ينبغي أن يقال: لا ينبغي التأمل في عدم وجوب التغسيل بناء علي أن مرجع سقوط تغسيل الشهيد إلي عدم وجوب تطهيره من حدث الموت، إما لأن إبقاءه علي

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

(2) مستدرك الوسائل باب: 27 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 342

______________________________

حالته أهم من تطهيره، أو لتطهيره بمثل تغسيل الملائكة مما يخفي علينا و لا يستلزم تغيير حاله الظاهر لنا، إذ بعد كون حدث الموت من سنخ الجنابة- كما تضمنته النصوص المشار إليها- لا يفرق بينه و بين الجنابة السابقة عليه ارتكازا في كون إبقاء الشهيد علي حالته أهم من رفعه و التطهير منه، أو في زواله بما يزيل حدث الموت.

و أما بناء علي أن مرجعه إلي عدم سببية موت الشهيد لحدثه فلا موضوع للغسل فقد يشكل الحال بالإضافة للحدث السابق، الذي تقدم ظهور النصوص المشار إليها في وجوب رفعه.

اللهم إلّا أن يقال: لما لم تكن النصوص المشار إليها واردة لبيان وجوب رفع حدث الجنابة السابق عن الميت، بل استفيد ذلك منها تبعا لبيان حال تغسيل الميت فلا إطلاق لها يقتضي وجوب رفعه عند عدم سببية الموت للحدث و عدم وجوب تغسيل الميت. مضافا إلي أن استلزام التغسيل لتغيير حاله مع ظهور النصوص في حرمته موجب للتزاحم بين التكليفين حتي لو فرض نهوض الإطلاق بوجوب التغسيل من الجنابة. و غاية الأمر التساقط، لعدم ثبوت أهمية التطهير لو لم يحتمل العكس.

نعم، ذلك مختص بما إذا استلزم التغسيل تغيير حاله لإصابته بما يدميه، أما لو لم يكن عليه دم فلا محذور في التغسيل لو فرض نهوض الإطلاق به، بل لو لزم المحذور المذكور منه لزم الانتقال للتيمم. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

الخامس: قال في المبسوط: «و حكم الصغير و الكبير و الذكر و الأنثي سواء إذا قتل في المعركة»

و وافقه جماعة، و زاد في المعتبر: «و العبد كالحر» و وافقه غير واحد، و في الجواهر أنه لا خلاف فيه، و في القواعد: «و الشهيد الصبي و المجنون كالعاقل» و ظاهر كشف اللثام في شرحه الإجماع عليه عندنا. و استدل لذلك بإطلاق الأدلة. و بأن في قتلي بدر و أحد و كربلاء أطفال و لم ينقل تغسيلهم.

لكن قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه: «الظاهر من حسنة أبان و صحيحته المقتول في سبيل اللّه، فيخص بمن كان الجهاد راجحا في حقه أو جوهد به، كما إذا توقف دفع العدو علي الاستعانة بالأطفال و المجانين». و قريب منه في الجواهر، و ربما يحمل عليه إطلاق من تقدم.

ص: 343

______________________________

و هو حسن، لعدم وضوح صدق العنوان المذكور و الشهيد في غير ذلك ممن قتل طارئا علي المعركة، كالمجنون العابر و الطفل الشارد، أو من لم يشرع القتال به، فضلا عمن يقتله العدو عند هجومهم أو غلبتهم ممن لا حول له و لا طول من الكبار و الصغار من دون أن يدخل في المعركة و يكون في عداد الجيش. كما لا يبعد انصراف عنوان من قتل بين الصفين- لو تم دليله- عن ذلك.

و أما الوقائع المشار إليها فهي خاصة لم تثبت بالوجه المنافي لذلك، ليمكن الاستدلال بها في الخروج عن عموم أحكام الميت.

السادس: صرح جماعة من الأصحاب بعدم الفرق في ثبوت حكم الشهيد بين أسباب القتل.

قال في المبسوط: «لا فرق بين من أن يقتل بحديد أو بخشب أو بحجارة أو برفس.. عمدا أو خطأ بسلاح أو غير سلاح شوهد قاتله أو لم يشاهد» و نحوه كلام غيره، و زاد غير واحد عموم الحكم لمن عاد إليه سلاحه فقتله، و يظهر من بعض عباراتهم وضوح ذلك، مستدلين عليه بعموم النصوص. و هو في محله، لو لا تضمن بعضها أنه يدفن بدمائه، الظاهر في فرض كون قتله مستلزما لخروج الدم منه، فيقصر إطلاقه عن غيره.

لكن من القريب حمله علي إرادة وجوب دفنه في الدماء علي تقدير وجودها، لا تقييد سقوط التغسيل بوجودها، كما هو الحال في الثياب، حيث لا يكون اشتمال النصوص علي الدفن فيها موجبا لتقييد سقوط التغسيل بوجودها بنحو لا تشمل من قتل عاريا، و إلا فمن البعيد جدا قصور الحكم عمن قتل بإصابة غير مدمية، و لا سيما مع إطلاق أكثر النصوص و عدم اشتمالها علي الدماء، كصحيحي أبان و موثق أبي مريم و مضمر أبي خالد، حيث لا مجال للخروج عن الإطلاق المذكور بالنص المشار إليه، بعد أن لم يكن بلسان التقييد.

السابع: صرح في المبسوط و الخلاف بجريان حكم الشهيد علي من مات في المعركة و ليس به أثر القتل،

و وافقه في المعتبر و التذكرة و غيرهما، و نسبه في الحدائق إلي جماعة، ثم قال: «بل الظاهر أنه المشهور». و استدل له في الخلاف بظاهر الحال. خلافا لابن الجنيد- فيما حكي عنه- و العلامة في المنتهي، و في الحدائق أنه أوفق بالقواعد

ص: 344

______________________________

الشرعية، و في الجواهر أنه لا يخلو عن قوة، و هو الظاهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه، لعدم ثبوت الشهادة، لاحتمال استناد الموت لغير القتل.

و ظاهر الاستدلالين أن محل الكلام ثبوت حكم الشهيد ظاهرا مع الشك في استناد الموت للقتل- لاحتمال مثل موت الفجأة- بعد الفراغ عن ثبوت حكم الشهيد واقعا لو استند الموت للقتل مطلقا.

و لا يبعد حينئذ ما ذكره ابن الجنيد، لأصالة عدم كونه شهيدا، أو عدم كون الموت بنحو الشهادة بنحو استصحاب العدم الأزلي، الحاكم علي أصالة البراءة من التغسيل، الذي تمسك به بعضهم لدعوي عدم حجية عموم وجوب تغسيل الميت مع الشك في مصداق الخاص، و الوارد علي وجوب الاحتياط للعلم الإجمالي إما بوجوب التغسيل و التكفين، أو بوجوب الدفن في الثياب من دون تغسيل.

و أما ظهور الحال فهو- لو سلم- غير معلوم الحجية بعد عدم وضوح السيرة بسبب ندرة الابتلاء بذلك، لغلبة ظهور أثر القتل في موتي المعركة. فتأمل جيدا.

نعم، لا ينبغي التأمل في جريان حكم الشهيد لو ظهر أثر القتل، و ظاهر الحدائق عدم الخلاف فيه، كما استظهره شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و في الجواهر أن الظاهر عدم الإشكال فيه عند الأصحاب. إذ لا طريق للقطع باستناد موته للقتل، و لا أقل من احتمال قتله نفسه، أو موته فجأة قبل أصابته بالأثر، فلو لا المفروغية عن التعويل علي ظاهر الحال لظهر المعيار في إحراز ذلك من السيرة أو غيرها.

هذا، و قد يظهر من بعض عباراتهم اعتبار ظهور أثر القتل ثبوتا في جريان حكم الشهادة واقعا، ففي المختلف في بيان الأقوال: «و قال ابن الجنيد: الشهيد من وجد به أثر فعل من عدوه الذي كان به خروج نفسه ظلما، و من لو يوجد به أثر ذلك عمل به كما يعمل بالأموات»، و في المنتهي بعد أن نسب لأبي حنيفة و أحمد وجوب الغسل:

«حجة أبي حنيفة أن الحكم معلق علي من وجد فيه بحكم [كلم. ظ]، لقوله عليه السّلام:

ادفنوهم بكلومهم. و الأصل وجوب الغسل فلا يسقط بالاحتمال. و كلام أبي حنيفة عندي قوي». بل ظاهر ما تقدم عن ابن الجنيد اعتبار كون الأثر بفعل العدو، فلا يشمل مثل من تردي من فرسه، أو قتله المسلمون خطأ، أو عاد إليه سلاحه فقتله.

ص: 345

الثاني: من وجب قتله برجم أو قصاص (1)

______________________________

و ظاهر ما تقدم عن أبي حنيفة اعتبار الجرح، فلا يكفي مثل الحرق و الغرق و دوس الخيل و إن كان بفعل العدو. و حينئذ يدخل في الفرع السابق. و يظهر ضعفه مما تقدم فيه.

الثامن: نبه في الحدائق إلي أن ما تضمنه معتبر زيد بن علي من أنه لا يترك علي الشهيد شي ء معقود إلّا حلّ

مما يلزم العمل عليه و إن لم يتعرض له الأصحاب فيما أعلم. و هو في محله بناء علي ما سبق عند الكلام في نزع السراويل من اعتبار سنده، و لا سيما مع تأييده بالرضوي «1».

و لعل عدم تعرض الأصحاب له لعدم بناء جملة منهم علي اعتبار سند الخبر. بل قد أشرنا آنفا إلي أن ذكره في الكافي و الفقيه و التهذيب قد يظهر في التعويل عليه و لو تم فظاهره التعويل علي تمام مضمونه، و منه الحكم المذكور. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

الثاني: من وجب قتله برجم أو قصاص
اشارة

(1) و عليهما اقتصر في المقنع و المبسوط، و النهاية و بعض نسخ الخلاف و في السرائر، و ظاهر المعتبر و التذكرة و غيرها، و نسب للأكثر و ظاهر السرائر المفروغية عنه. و هو مقتضي الجمود علي النص الآتي.

و أطلق ذلك لكل من وجب قتله في الشرائع و القواعد و الإرشاد و ظاهر جامع المقاصد و المسالك و الروض و المدارك و محكي كشف الالتباس، كما حكي عن الجامع و البيان و الموجز، و عن الذكري التصريح به، و جعله الأقرب في الدروس، و نسبه في الروض للأصحاب و في الحدائق لظاهرهم.

و كأنه لفهم عدم الخصوصية من النص، أو دعوي المشاركة في العلة. و الأول ممنوع، و الثاني غير ثابت، بل يتعين الاقتصار علي مورد النص، كما قربه في المنتهي و كشف اللثام و محكي نهاية الأحكام. كيف و قد ورد في صحيح العلاء بن سيابة بيان كيفية تغسيل القتيل في معصيته «2»، و في مرسل الصدوق أن المصلوب ينزل بعد ثلاثة

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 15 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 346

فإنه يغسل (1)

______________________________

أيام و يغسل «1»، و بمضمونه أفتي هو و غيره.

هذا، و قد اقتصر في المقنعة و المراسم علي المقتول قودا، و في بعض النسخ الخلاف علي المرجوم، و في محكي التحرير علي المرجوم و المحدود. و الكل غير ظاهر الوجه بعد ما سبق.

(1) هذا الحكم في الجملة مما لا إشكال فيه بينهم، و ادعي في الخلاف الإجماع عليه، و في الحدائق أن عليه اتفاق الطائفة سلفا و خلفا و الأصحاب قديما و حديثا، و نفي الخلاف فيه في السرائر، كما نفي العلم بمخالف فيه في المعتبر و محكي الذكري.

و لعل عدم التعرض له في مثل الهداية و الاقتصاد و إشارة السبق و الغنية و الوسيلة و النافع و اللمعة ليس للخلاف فيه، بل للاختصار و عدم البناء علي استقصاء الفروع، و إن كان ذلك خلاف ظاهر إشارة السبق و الوسيلة، لاقتصارهما في الاستثناء من عموم وجوب تغسيل القتيل علي غيره.

و كيف كان، فيقتضيه خبر مسمع كردين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: المرجوم و المرجومة يغسلان و يحنطان [يغتسلان و يتحنطان. يب] و يلبسان الكفن قبل ذلك ثم يرجمان و يصلي عليهما. و المقتص منه بمنزلة ذلك يغسل و يحنط [يغتسل و يتحنط.

يب] و يلبس الكفن [ثم يقاد] و يصلي عليه» «2». و به يخرج عن عموم وجوب تغسيل الميت، الظاهر، بل الصريح في التغسيل بعد الموت.

نعم، هو ضعيف السند، حيث روي في الكافي مسندا بطريق ضعيف، و في التهذيب بالطريق المذكور و بطريق آخر فيه إرسال، و في الفقيه مرسلا عن أمير المؤمنين عليه السّلام، كما اشتمل علي المضمون المذكور الرضوي «3».

كما أنه معارض بصحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام المروي في تفسير القمي في رجل محصن أقر أربع مرات عند أمير المؤمنين عليه السّلام بالزنا، و فيه: «فلما كان

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب حد المحارب حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 17 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل باب: 17 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 347

______________________________

من الغد أخرجه أمير المؤمنين عليه السّلام بالغلس و صلي ركعتين ثم حفر حفيرة و وضعه فيها … فأخذ أمير المؤمنين عليه السّلام حجرا فكبر أربع تكبيرات فرماه، ثم أخذ الحسن عليه السّلام مثله، ثم فعل الحسين عليه السّلام مثله. فلما مات أخرجه أمير المؤمنين عليه السّلام و صلي عليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا تغسله؟ قال: قد اغتسل بما هو منها طاهر إلي يوم القيامة … » «1»، و نحوه ما عن البحار عن كتاب مقصد الراغب عن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بسنده الصحيح عن أبي جعفر «عليه السلام» «2»، إلّا أن فيه: «قد اغتسل بماء هو طاهر … »، و قريب من صحيح أبي بصير مرفوع أحمد بن محمد بن خالد «3».

فإن عدم تعرضه عليه السّلام لبيان أفعال التجهيز مقدمة للرجم و سؤالهم منه عليه السّلام عن تغسيله بعده ظاهر في عدم سبق تغسيله و تكفينه، و أن مراده بالاغتسال في الجواب الكناية عن الطهارة بإقامة الحد عليه، و لا سيما مع تعليله في المرفوع بقوله عليه السّلام: «لقد صبر علي أمر عظيم». فيكون مقتضي الجمع بينه و بين خبر مسمع حمل الخبر علي استحباب سبق التغسيل علي الرجم من دون أن يتوقف عليه سقوط الغسل بعد الموت.

علي أنه يعارضهما في ذلك صحيح أبي مريم عن أبي جعفر عليه السّلام في امرأة أقرت أربع مرات بالزنا عند أمير المؤمنين عليه السّلام، و فيه: «فتربص بها حتي وضعت، ثم أمر بها بعد ذلك فحفر لها حفيرة في الرحبة و خاط عليها ثوبا جديدا، و أدخلها الحفيرة إلي الحقو و موضع الثديين، و أغلق باب الرحبة و رماها بحجر … فقالوا له:

قد ماتت فكيف نصنع بها؟ قال: فأدفعوها إلي أوليائها و مروهم أن يصنعوا بها كما يصنعون بموتاهم» «4»، لقوة ظهوره في عدم سبق التغسيل و التكفين علي الرجم و عدم سقوطهما بعده.

إلّا أن يجمع بينه و بين صحيح أبي بصير بالبناء علي استحباب التغسيل بعد الموت مع عدم تقديمه علي الرجم و عدم وجوبه، فيكون مقتضي الجمع بين النصوص الثلاثة- لو غض النظر عن ضعف الأول- عدم وجوب تغسيل المرجوم بعد الموت

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 97 طبعة النجف الأشرف.

(2) مستدرك الوسائل باب: 17 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 14 من أبواب حد الزنا حديث: 4.

(4) الوسائل باب: 16 من أبواب حد الزنا حديث: 5.

ص: 348

______________________________

مطلقا و إن لم يغسل قبل الرجم، مع استحبابه حينئذ بعده، و أفضل منه تقديم تغسيله علي الرجم. لكنه لا يخلو عن تكلف قد يأباه لسان كل منها.

و من ثم لا يبعد استحكام التعارض بينها، و يكون عموم وجوب تغسيل الميت مرجحا للأخير أو مرجحا بعد سقوطها جميعا عن الحجية، خصوصا خبر مسمع الذي هو ضعيف في نفسه.

هذا، كله مقتضي القواعد الأولوية. إلّا أنه لا مجال له بالنظر لإطباق الأصحاب علي ما تقدم، حيث يسقط معه الصحيحان بإعراضهم، و ينجبر ضعف خبر مسمع بعملهم، فيكون العمل عليه لا غير. قال في المعتبر بعد أن نبه لضعف الخبر المذكور:

«غير أن الخمسة أفتوا بذلك و أتباعهم، و لا أعلم لأصحابنا فيه خلافا و لا طعنا بالإرسال مع العمل». و لذا جري علي ذلك بعض من شأنه شدة الاهتمام بصحة السند و قوة الخبر، كابن إدريس في السرائر و الشهيد الثاني في الروض و المسالك و السيد في المدارك. و يأتي من الحدائق بعض الكلام في ذلك.

إذا عرفت هذا فينبغي الكلام في أمور:
الأول: ظاهر الأصحاب و معاقد الإجماع و نفي الخلاف المتقدمين وجوب الوجه المذكور،

بل هو صريح جماعة. لكن في كشف اللثام التنظر في ذلك، للأصل و عدم انتهاض الدليل عليه. و عن الذكري أنه يمكن تخيير المكلف، لقيام الغسل بعده بطريق أولي مقامه.

و فيه: أن الخبر إن كان حجة فهو ظاهر في الوجوب و إن كان بلسان الجملة الخبرية. و حمله علي الرخصة- كما في الحدائق- مخالف لظاهره جدا. و لا سيما و أن الوجه المذكور أشق نفسيا و عملا من الغسل و التجهيز بعد الموت. و إن لم يكن حجة لزم البناء علي عدم مشروعية الغسل قبل الرجم و القود و عدم الاجتزاء به بعد ذلك لو وقع، عملا بعموم وجوب تغسيل الميت. و ما تقدم عن الذكري من التعليل لا ينهض بالخروج عن ظاهر الخبر و لا يصلح دليلا علي حكم شرعي.

و اشكل منه ما في الروض حيث تردد بين الوجهين و توقف، ثم قال: «هذا بالنسبة إلي الآمر، أما المأمور فيجب عليه امتثال الأمر إن وجد».

ص: 349

______________________________

إذ فيه: أنه لا دليل علي وجوب امتثال الأمر مع عدم وجوبه علي الآمر. و لا سيما مع عدم اشتمال النص علي الأمر، بل علي اغتسال المرجوم و المقتص منه، فإن حمل علي الوجوب وجب عليه القيام بذلك و إن لم يؤمر، كما يأتي، و إن لم يحمل عليه فكما لا يجب الأمر لا يجب امتثاله لو حصل.

اللهم إلّا أن يبتني ذلك منه علي ما ذكره قبل ذلك- و يأتي الكلام فيه- من كون الآمر هو الإمام أو نائبه، حيث قد يدعي وجوب الإطاعة لخصوصيتهما.

الثاني: ظاهر الأصحاب و معاقد الإجماع و نفي الخلاف المتقدمين الاجتزاء بالتغسيل المذكور عن التغسيل بعد الموت،

و هو صريح جماعة، بل في المعتبر أنه لا ريب فيه، و نحوه كلام غيره، معللا في كلامهم بقيام الغسل السابق مقام غسل الميت، أو هو من أفراده، فلا يشرع التعدد. علي أنه يكفي في ذلك ظهور النص في الاجتزاء المذكور.

لكن في الحدائق بعد أن نبه إلي ضعف الخبر و معارضته بعمومات تغسيل الميت المستفيضة و المتضمنة نجاسته و جنابته بالموت قال: «و تخصيص تلك الأخبار بما هي عليه من الكثرة و الصراحة بهذا الخبر الضعيف مشكل. علي أنه لا يعقل سبق التطهير علي وقوع النجاسة و حصولها، كما لا يخفي. و لو لا اتفاق الطائفة علي هذا الحكم سلفا و خلفا لكان الأظهر الوقوف علي تلك الأخبار. و كيف كان فالأجود عندي إعادة غسله».

و هو كما تري، فإن تخصيص العمومات بالخبر الضعيف المعول عليه عند الأصحاب غير عزيز. و لا سيما علي مسلكه قدّس سرّه في العمل بالأخبار. و التغسيل المذكور لما كان سابقا علي الموت الذي هو سبب النجاسة و الحدث فهو غير مطهر منهما، بل إما مانع من تأثير سببهما لهما، أو واجب تعبدا مع تأثير الموت النجاسة و الحدث و عدم وجوب رفعهما لخصوصية المورد. كما أنه بعد الاعتراف بمانعية اتفاق الأصحاب من العمل بالعمومات لا وجه لحكمه بإعادة الغسل.

اللهم إلّا أن يرجع ذلك منه إلي رفع اليد عما ذكره أولا و العدول عنه، فيلزم حينئذ البناء علي كفاية الغسل بعد الموت لا وجوب إعادته بعد التغسيل بعده. إلا أن يكون مبنيا علي الاحتياط بالجمع بين المحتملين، للتوقف في المسألة. لكن لا يبعد ظهور النص في عدم جواز التغسيل بعد الموت و لو للمحافظة علي بقاء أثر القتل من

ص: 350

______________________________

الدم و نحوه، نظير ما تقدم في الشهيد. و لا أقل من كونه خلاف الاحتياط.

اللهم إلا أن يبتني كلامه علي ما تقدم منه من حمل النص علي الرخصة في التقديم دون العزيمة. أو يرجع إلي التعويل علي العمومات و طرح الخبر مع الاحتياط الاستحبابي بموافقته بتقديم التغسيل. و يظهر ضعفهما مما سبق.

الثالث: صرح أكثر الأصحاب بأن الشخص المذكور يؤمر بالاغتسال و غيره من أفعال التجهيز مع كونه هو المباشر له،

و هو معقد الإجماع و نفي الخلاف المتقدمين، و ظاهر جملة من كلماتهم المفروغية عن كونه هو المباشر. و يقتضيه خبر مسمع علي رواية التهذيب له.

نعم، في المقنع أنه يغسل و يكفن و يحنط. و هو المطابق للخبر المذكور علي رواية الكافي له، و مرسل الفقيه و الرضوي. لكن ذكر سيدنا المصنف قدّس سرّه أنه لا ريب في وجوب مباشرته له، و ادعي في الجواهر القطع بعدم إرادة مباشرة الغير ذلك، و أنه لأجله يحمل الخبر علي أقرب المجازات، و هو تولي الغير للأمر، فإنه حيث كان سببا لوقوع الفعل من الشخص المذكور صح نسبته للآمر.

أقول: المجاز المذكور بعيد جدا لا يصح الحمل عليه عرفا. و المجاز الشائع ليس إلّا حمل أمر الشخص بالشي ء علي مسئوليته و تكليفه به و لو مع صدوره من غيره من دون أن يلزم مباشرته له، لا بنحو لا يجوز له مباشرته و ليس منه إلّا الأمر به، كما هو المدعي في المقام. كما أن القطع المذكور إن كان مستندا للاعتبار، بلحاظ عدم معهودية تغسيل الحي القادر. فليس هو بنحو يوجب القطع و يصحح الخروج عن ظاهر النص.

و إن كان مستندا للإجماع فلا مجال له بعد مخالفة مثل الصدوق في المقنع، و ظهور حاله و حال الكليني في الفقيه و الكافي في مطابقة ظاهر الرواية المودعة فيهما، كالرضوي الذي لو لم يكن رواية عن الإمام عليه السّلام فهو فتوي لبعض الأعلام. بل لا يبعد أن يكون معقد الإجماع و نفي الخلاف أصل تقديم أفعال التجهيز علي الموت، و أن يكون منشأ عدول من عثرنا علي كلامه- ممن دأبه تحرير الفتاوي و عدم متابعة ألسنة النصوص كالمفيد و من بعده- إلي الأمر هو الاعتبار المتقدم، لا العثور علي خطأ الرواية بالوجه المذكور.

ص: 351

______________________________

و لا سيما مع ما هو المعلوم من أضبطية الكافي و نقل التهذيب عنه في أحد طريقيه و اعتضاده بمرسل الفقيه، و عدم الابتلاء بالحكم ليتضح الحال من السيرة.

فمتابعة المشهور في ذلك في غاية الإشكال، اذ لو لم يصلح ذلك لترجيح رواية الكافي، فلا أقل من التوقف.

هذا، و لو بني علي متابعة المشهور في مباشرة المرجوم و المقتص منه فقد عرفت أن المذكور في كلماتهم أمر الغير له به، و أنه داخل في معقد الإجماع و نفي الخلاف المتقدمين، و ادعي في الجواهر ظهور اتفاق الأصحاب عليه.

و استدل عليه بأنه هو الذي يتصور بدليته عن غسل الميت المخاطب به غير الميت، فيكون الأمر حينئذ من الغير المكلف قائما مقام تغسيله له بعد موته. علي أنه قد يؤيد برواية الكافي، بناء علي ما سبق منه من حملها علي أقرب المجازات، و هو تولي الغير الأمر. قال: «بل قد يدعي بناء علي ما ذكرنا اشتراط صحة الغسل بتحقق الأمر، فلو اغتسل من دون أمر به لم يكن مجزئا».

و يشكل: بأن رواية الكافي إن ثبتت لرجحانها علي رواية التهذيب تعين البناء علي تولي الغير لأفعال التجهيز و عدم اكتفائه بالأمر، لما سبق من الإشكال في الحمل المذكور، و إن لم تثبت لمعارضتها برواية التهذيب فلا وجه للتأييد بها. و بدليته عن غسل الميت المخاطب به غير الميت لو استلزمت تكليف غير الميت به فهو إنما يقتضي وجوب الأمر عليه مقدمة لتحصيله، لا لشرطيته فيه بنحو لا يجزي لو وقع من دون أمر، لأن المتيقن في وجه لزوم المباشرة علي الغير توقف تحقق الواجب عليها، لا شرطيتها فيه، و لذا يجزي لو وقع بدونها و لو بفعل غير المكلف كالصبي، علي ما تقدم. علي أنها لو كانت شرطا في غسل الميت فشرطيتها فيه لا تستلزم شرطية بدلها و هو الأمر في بدله و هو غسل الحي.

و من هنا لا ينبغي التأمل في عدم شرطيته في الغسل، عملا بإطلاق النص.

كما لا ينبغي التأمل في وجوبه نفسيا لو كان الشخص المذكور جاهلا بوجوب تقديم الغسل بملاك وجوب تعليم الأحكام، كما حكي عن بعضهم الاقتصار عليه، و لو كان عالما به فبملاك الأمر بالمعروف، و عليه اقتصر شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

ص: 352

______________________________

بل لا يبعد وجوبه غيريا لامتثال التكليف بالغسل، لكون وجوب الغسل المذكور كفائيا لا يختص بالشخص المذكور، فكما يجب علي الشخص المذكور فعله بالمباشرة يجب علي غيره التسبيب له بالأمر، نظير أمر غير المماثل المماثل بتغسيل الميت.

لأن ظاهر في مثل ذلك و إن كان هو اختصاص التكليف بالمباشر، إلا انه لا يبعد كون بدلية هذا الغسل ارتكازا عن غسل الميت الواجب في حق الكل كفاية صالحة للقرينية علي عموم التكليف به مثله. و لا سيما مع ما هو المعلوم من كون الشخص المذكور بحال من الانفعال و الاضطراب النفسي يغلب معه عدم التوجه لامتثال مثل هذا التكليف لو خلي و نفسه، فلو اختص التكليف به لزم كثرة فوته منه، حيث لا يبعد كون ذلك بمجموعه قرينة علي عموم التكليف.

و يترتب علي ذلك لزوم إعانته علي الامتثال بتهيئة مقدماته، نظير تكليف غير المماثل بإعانة المماثل. كما يترتب عليه و علي الوجهين السابقين عدم اختصاص وجوب الأمر بشخص خاص، بل يعم كل مكلف، كما هو مقتضي إطلاق الأكثر. خلافا لما في جامع المقاصد و الروض و غيرهما من اختصاصه بالإمام او نائبه. إلا أن يراد به الرجوع إليهما في وقت إقامة الحد. و لما قد يدعي من اختصاصه بمن يجوز له مباشرة تغسيل الشخص لو كان ميتا، كالمماثل، كما هو المناسب لما تقدم من الجواهر في وجه شرطية الأمر في الغسل، و إن ذكره فيها احتمالا، و نسبه لبعضهم، و رده بإطلاق الأصحاب.

هذا، و في العروة الوثقي الاكتفاء بكل من نية الآمر و المغتسل المباشر، و أقره بعض الأعاظم قدّس سرّه. و لم يتضح الوجه فيه، إذ لو كان الأمر بمنزلة المباشرة و المغتسل المباشر بمنزلة الآلة تعين اعتبار نية الآمر. و إن لم يكن المباشر بمنزلة الآلة، بل مستقلا بالعمل- كما هو الظاهر- و الأمر واجب نفسي أو غيري لمقدميته خارجا او شرطيته شرعا، تعين اعتبار نية المباشر، كما صرح به جماعة من محشي العروة الوثقي.

الرابع: قال في جامع المقاصد: «و لا يقدح في الاجتزاء به الحدث تخلل او تأخر.

و احتمل مساوية لغسل الجنابة في الذكري. و هو ضعيف، للأصل» و قريب منه في الروض و غيره. و الوجه فيه الإطلاق.

و إما تنزيل غسل الميت منزلة غسل الجنابة فينحصر الدليل عليه بصحيح محمد

ص: 353

______________________________

ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: غسل الميت مثل غسل الجنب، و إن كان كثير الشعر فرد عليه «الماء» ثلاث مرات» «1». و الظاهر أو المتيقن منه التشبيه في الكيفية، و لا سيما بملاحظة الذيل.

نعم، تضمن جملة من النصوص أن الميت يجنب بالموت و انه لذلك يغسل، و ظاهره كون غسل الميت من أفراد غسل الجنابة، بل صرح في بعضها بأنه يغسل غسل الجنابة «2».

لكن الاستدلال بذلك موقوف علي ثبوت الإطلاق لدليل انتقاض غسل الجنابة بتخلل الحدث في أثنائه بنحو يشمل مثل غسل الميت لو كان غسل جنابة حقيقة، و هو غير ثابت، بل هو لو تم مختص بغسل الحي من الجنابة، كما يظهر بمراجعة المسألة المذكورة علي أن الاستدلال به و بصحيح محمد بن مسلم موقوف علي كون الغسل السابق علي الرجم و القصاص في المقام غسل ميت مقدم علي الموت، بحيث تترتب عليه جميع أحكام غسل الميت، و هو لا يخلو عن إشكال بل المتيقن مسانخته له أو إجزاءه عنه لا غير. بل لو كان غسل الميت غسل جنابة فمن المعلوم، عدم كون الغسل السابق في المقام غسل جنابة، لعدم تحقق الجنابة بعد.

هذا، و لا إشكال في سببية الحدث الأكبر أو الأصغر المتخلل أو المتأخر لمسببه، فيجب رفعه لغاياته لو ابتلي بها. أما وجوب التطهر منه قبل الموت مع قطع النظر عنها فهو يبتني علي وجوب تطهير الميت منه، و هو غير ثابت في الحدث الأصغر، بل غاية ما يمكن إثباته هو وجوب تطهيره من الجنابة أو مطلق الحدث الأكبر، علي ما تقدم في المسألة الرابعة عشرة. فراجع، و تأمل.

الخامس: صرح في جامع المقاصد و الروض بعدم إجزاء هذا الغسل عن غيره من الأغسال.

معللا في الثاني بعدم نية الرفع أو الاستباحة فيه. و لأصالة عدم تداخل المسببات مع اختلاف الأسباب. و هو كما تري، لعدم اعتبار نية الرفع و الاستباحة في إجزاء الغسل عن غيره، و لذا تجزي الأغسال المستحبة عن الواجبة، علي ما تقدم.

و أصالة عدم التداخل لو تمت بدوا في الأغسال لزم رفع اليد عنها بعموم

______________________________

(1) الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) راجع النصوص المذكورة في الوسائل باب: 3 من أبواب غسل الميت.

ص: 354

______________________________

ما تضمن التداخل فيها مما تقدم في المسألة الثالثة و السبعين من أحكام الوضوء، كقوله عليه السّلام في صحيح زرارة: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة و الحجامة [و الجمعة. خ ل] و عرفة و النحر و الحلق و الذبح و الزيارة، فإذا اجتمعت عليك حقوق [اللّه] أجزأها عنه غسل واحد» «1» و التعليل في صحيحه الآخر لإجزاء غسل واحد للميت الجنب بقوله عليه السّلام: «لأنهما حرمتان اجتمعا في حرمة واحدة» «2». و من ثم تنظر في محكي الذكري في عدم الإجزاء.

نعم، بناء علي لزوم تغسيل الغير له- كما تقدم الكلام فيه في الأمر الثالث- يشكل إجزاءه، لاختلاف كيفية الغسل، حيث يعتبر في بقية الأغسال مباشرة المغتسل مع القدرة. و إجزاء تغسيل الميت بعد الموت عنها، كما تضمنته النصوص لا يقتضي إجزاء التغسيل السابق علي الموت بعد الفرق بينهما بتعذر مباشرته لها بعد الموت و قدرته عليها قبله.

و دعوي: أن هذا الغسل من أفراد غسل الميت أو بدل عنه، فيلحقه حكمه.

مدفوعة.. أولا: بأن تغسيل الميت إنما يجزي عن تغسيله بقية الأغسال، لا عن اغتساله لها، كما هو المطلوب قبل الموت.

و ثانيا: بأن هذا الغسل إن كان من أفراد غسل الميت الحقيقية فإطلاق دليل إجزاء غسل الميت عن غيره من الأغسال يقصر عنه و يختص بالتغسيل بعد الموت، و إن كان بدلا عنه فالمتيقن من دليل بدليته عنه إجزاؤه عنه، لا عن غيره، لعدم الإطلاق لدليل البدلية يعم جميع الأحكام.

هذا، و لا يبعد إجزاؤه عن الوضوء مطلقا، بناء علي عموم إجزاء كل غسل عنه. أما بناء علي اعتبار مباشرة المغتسل فظاهر. و أما بناء علي اعتبار تغسيل الغير له فلصدق الغسل عليه الذي هو موضوع دليل إجزاء الغسل عن الوضوء، و لذا لا إشكال ظاهرا في إجزاء غيره من الأغسال عن الوضوء لو قام بها غير المغتسل لتعذر المباشرة عليه. فتأمل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 43 من أبواب غسل الجنابة حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 31 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 355

______________________________

و مما ذكرنا يظهر الحال في إجزاء غير هذا الغسل عنه. فإنه إن أعتبر فيه المباشرة- علي ما تقدم الكلام فيه- و اكتفي فيه بغسل واحد بالقراح مثلها- علي ما يأتي الكلام فيه- تعين إجزاؤها عنه. و إن اعتبر قيام الغير به، أو لزم فيه التثليث و الخليطين، لم يجز عنه، كما نبه له في الروض. نعم علي الثاني قد يلتزم باجزائها عن الغسلة الثالثة بالقراح لو وقعت بعد الغسلتين الأوليين بالخليطين.

السادس: قال في جامع المقاصد: و لو سبق موته وجبت الإعادة … و لو قتل بسبب آخر فكذلك،

«سواء بقي الأول، كالقصاص مع ثبوت الرجم، أم لا، كما لو عفي عن القود، لأن الظاهر وجوب التجديد، لأصالة عدم إجزاء الغسل للسبب الآخر» و نحوه في الروض، و ذكر في المسالك و سبقهما إليه في الدروس، و نسب لجماعة.

أقول: لا إشكال في وجوب إعادة الغسل بعد الموت لو مات بعد الغسل بسبب لا يقدم له الغسل، كما لو اغتسل للرجم فمات حتف أنفه أو قتل بلا حق، و به صرح في التذكرة و محكي نهاية الأحكام و غيرهما. لاختصاص النص المتقدم المتضمن إجزاء الغسل السابق علي الموت بما إذا مات بالسبب الذي يشرع تقديم الغسل له، فيرجع في غيره لعموم وجوب تغسيل الميت.

و أما لو مات قتلا بسبب يشرع تقديم الغسل له مباين للذي اغتسل له جنسا- كما لو اغتسل للرجم فقتل قصاصا، أو اغتسل للقصاص ثم عفي ولي المقتول فقتله الحاكم بالرجم- أو مصداقا مع اتفاقهما في الجنس- كما لو اغتسل للقصاص عن شخص فعفي وليه و قتله ولي قتيل آخر قصاصا- فوجوب إعادة الغسل بعد الموت مبني علي وجوب الإعادة للسبب الآخر قبله، فإن قيل بالاجتزاء بالغسل الأول و عدم وجوب الإعادة للسبب الجديد قبل القتل تعين عدم التدارك بعده، لحصول الواجب. و إن قيل بوجوب التجديد له فمع فرض عدمه لا إشكال في وجوب تدارك الغسل بعد الموت، لاختصاص النص الدال علي عدم التغسيل بعد القتل بما إذا سبق الغسل بالوجه المشروع له، و لا يعم ما إذا لم يسبق له، بل يرجع فيه لعموم وجوب تغسيل الميت.

و دعوي: ظهور النص في انحصار مشروعية غسل الشخص المذكور بغسله

ص: 356

غسل الميت المتقدم تفصيله (1)،

______________________________

قبل القتل. ممنوعة، بل لا ظهور له إلّا في لزوم تقديم غسله، من دون نظر له إلي ما لو لم يقدم قصورا أو تقصيرا، كي يمنع من الرجوع فيه لعموم وجوب تغسيل الميت.

نعم، مقتضي صحيح أبي بصير المتقدم و غيره عدم وجوب تغسيله حينئذ. لكن تقدم أن مقتضاه عدم وجوب تقديم التغسيل علي القتل أيضا، مع بناء الأصحاب علي وجوبه. و من ثم يسقط عن الحجية بالإعراض. فراجع.

إذا عرفت هذا، فوجوب التجديد للسبب الآخر مبني علي تعين الغسل الواقع للسبب المقصود به، و هو غير ظاهر من النص، بل لا يبعد قضاء المناسبات الاتكازية عدم تعينه له، لعدم دخل القصد ارتكازا في تأثير الغسل، بل لعله مقتضي إطلاق النص، إذ لم يدل إلّا علي وجوب تقديم أفعال التجهيز علي القتل، و هو حاصل في الفرض مع تبدل السبب.

نعم، لو تجدد السبب الآخر لاستحقاق القتل بعد الغسل- كما لو عفي ولي الدم عن القاتل بعد الغسل فقتل آخر و طالب وليه بالقصاص- فلا إشكال ظاهرا في وجوب إعادة الغسل، لانكشاف عدم مشروعية الغسل الأول، و ظهور النص في فرض استحقاق القتل حين الغسل السابق عليه. فلاحظ.

السابع: الظاهر عدم الإشكال بينهم في اختصاص الوظيفة المذكورة بالمسلم الذي يجب تجهيزه،

لأنها بدل التجهيز الواجب. لكن قد يظهر العموم للكافر مما في المبسوط و التذكرة من التنبيه علي اختصاص وجوب الصلاة عليه بما إذا كان مسلما. و هو غريب. و لعله مبتن علي الغفلة عن عدم الحاجة لتقييد الصلاة بالمسلم، لاختصاص جميع الأفعال به، لا علي البناء علي العموم في غيرهما، كما قد توهمه عبارتهما.

(1) كما في الايضاح و جامع المقاصد و المسالك و المدارك و ظاهر الروض، و حكي عن نهاية الأحكام و الذكري و الموجز الحاوي و كشف الالتباس. و استشكل فيه في القواعد و ظاهر كشف اللثام، بل مقتضي قول المفيد في المقنعة: «فيغتسل كما يغتسل من الجنابة» الاقتصار علي غسلة واحدة بالماء القراح، و ظاهر التهذيب في

ص: 357

______________________________

شرحه إقراره عليه، كما ساقه احتمالا في الروض. و يستدل له بإطلاق النص، و عدم معهودية التكرار في غسل الحي، و أصالة البراءة.

لكن تكرر غير مرة أن الأصل في الطهارات الاحتياط، و الغسل في المقام و إن لم يكن عن حدث يراد رفعه به، إلّا أنه مطلوب بلحاظ ترتب نحو من الطهارة عليه، نظير الأغسال المستحبة، أو بلحاظ مانعيته من تأثير الموت للحدث، فلا بد من الاحتياط فيه بكل ما يتحمل دخله في الأثر المطلوب منه. و عدم معهودية التكرار في غسل الحي لا ينهض بالتأييد، فضلا عن الاستدلال، في مثل المقام مما كان تشريع الغسل فيه بنحو غير معهود، حيث يجزي عن غسل الميت مع وقوعه قبل الموت. و أما الإطلاق فلا مجال له علي رواية الكافي و ما ماثلها، لعدم معهودية التغسيل إلّا بالتثليث، و لا يراد بالتغسيل الغسل العرفي ليكون مقتضي إطلاقه الاكتفاء بالمسمي، بل خصوص الماهية الشرعية المحتاجة للشرح.

و أما علي رواية التهذيب فإطلاق الاغتسال و إن كان ظاهرا في الغسل الواحد المعهود، إلّا أنه لا مجال في خصوص المقام، حيث سبق الاغتسال مقدمة للقتل، لبيان الاجتزاء به عن الغسل بعد الموت المعهود فيه الكيفية الخاصة، و لا سيما مع ذكره في سياق التحنط و لبس الكفن، حيث يقرب معه إرادة كيفية غسل الميت المعهودة، و الاقتصار في البدلية علي وقته دون كيفيته.

و لعله إلي هذا يرجع ما عن بعضهم من أنه غسل ميت قدم، و إلا فلا معني لكونه غسل ميت مع تقديمه علي الموت.

و كيف كان، فلو لم يكن ذلك موجبا لظهور الإطلاق في مساواة الغسل المذكور لغسل الميت في الكيفية- كما ادعاه غير واحد- فلا أقل من كونه مانعا من ظهور الإطلاق في كفاية الغسلة الواحدة بالقراح و ملزما بالرجوع للأصل المقتضي للاحتياط، كما سبق.

ص: 358

و يحنط (1) و يكفن كتكفين الميت (2)

______________________________

(1) كما في المقنع و المقنعة و المبسوط و النهاية و المراسم و السرائر و المعتبر و المنتهي و التذكرة و القواعد و الدروس و غيرها. و ترك في الخلاف و الشرائع و الإرشاد و غيرها. و كأنه للاختصار، كما يأتي في التكفين.

هذا، و لا يبعد التخيير فيه بين مباشرة التحنط له و قيام غيره به، لأنه توصلي لا يعتبر فيه القصد، بل يكفي حصوله كيف اتفق. و لو بني علي الجمود فيه علي مفاد النص جري فيه ما تقدم في التغسيل.

(2) كما في الكتب المتقدمة المشتملة علي التحنيط عدا المبسوط، كما تركه من تقدم منه ترك التحنيط. قال في مفتاح الكرامة: «و الظاهر اتفاق الكل علي إرادة الكل، لكن بعضهم اختصر و بعضهم لم يختصر» و نحوه في الجواهر. و هو غير بعيد، إذ لا وجه للتفصيل بينهما بعد اشتمال النص المتقدم- الذي هو دليل المسألة- علي الكل.

و يجري في المباشر له ما تقدم في التحنيط.

هذا، و في الجواهر: «و لم أجد أحدا من الأصحاب تعرض لغسل ما يخرج منه من الدم علي الكفن، و لا لكيفية تكفينه إذا أريد القصاص منه. و لعله يترك موضع القصاص ظاهرا».

و الظاهر أن عدم تعرضهم لغسل ما يخرج من الدم علي الكفن للمفروغية عن عدم وجوبه، كما هو ظاهر النص المتقدم أيضا، لأن عدم التنبيه عليه مع غلبة الابتلاء به أو دوامه موجب لظهوره في عدم وجوبه. بل لا يبعد عدم جوازه، حيث يقرب ارتكاز أن حكمة تقديم الغسل المحافظة علي أثر القتل، كالشهيد، فيستفاد من النص بالقرينة المذكورة.

و أما ترك موضع القصاص منه فهو ارتكازي جمعا بين الأمرين، فيلزم الاقتصار علي ما لا بد منه في القصاص.

و لا وجه لما في العروة الوثقي من ترك اللفافة رأسا إلي ما بعد القتل. و أشكل منه تعميمه ذلك للمرجوم، مع وضوح عدم مانعية الكفن التام من الرجم. بل ظاهر

ص: 359

ثم يقتل فيصلي عليه (1) و يدفن بلا تغسيل.

(مسألة 25): قد ذكروا للتغسيل سننا، مثل أن يوضع الميت في حال التغسيل علي مرتفع (2)

______________________________

ما تقدم في صحيح أبي مريم «1» استيعاب الثوب الذي خاطه أمير المؤمنين عليه السّلام لتمام جسد المرجومة لسترها به.

نعم، قد لا يناسب ذلك النصوص الواردة فيما لو هرب المرجوم من الحفيرة «2»، لأن اللفافة تمنع من الفرار. إلّا أن يقال: عدم إحكام شدها يناسب سهولة نزعها و لجوء المرجوم إليه عند الشدة.

(1) بلا إشكال ظاهر، و به صرح جماعة كثيرة، و ادعي في المعتبر و التذكرة الإجماع عليه، كما هو داخل في معقد إجماع الخلاف المتقدم، و لم ينقل الخلاف فيه إلّا عن بعض العامة. و يقتضيه- مضافا إلي عموم وجوب الصلاة- النصوص المتقدمة حتي صحيح أبي بصير و نحوه و صحيح أبي مريم.

مسألة 25: قد ذكروا للتغسيل سننا و مكروهات
مستحبات التغسيل
مستحبات التغسيل التي ذكره المصنف
منها وضع الميت في حال التغسيل علي مرتفع

(2) كما في الغنية و النافع و المعتبر و جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك و المدارك و كشف اللثام، مدعيا في الأول الإجماع عليه و في المقنعة انه يرفع علي ساجة أو شبهها. و في المبسوط و النهاية أنه يجعل علي ساجة أو سرير، و نحوه في الوسيلة و الدروس، و في المنتهي أنه لا خلاف فيه، و في التذكرة أنه يوضع علي لوح أو سرير، و اقتصر علي السرير في المقنع، و علي الساجة في النهاية و الشرائع و القواعد و الارشاد و اللمعة.

و ظاهر الغنية و كشف اللثام إن المستحب هو وضعه علي مرتفع، و أن الأمور المذكورة مصاديق له. لكن ظاهر المعتبر و جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك و المدارك استحباب الأمرين بنحو تعدد المطلوب، و أن استحباب المرتفع للتوقي من رجوع ماء الغسل إليه، و استحباب الساجة و نحوها لصيانة بدن الميت عن التلطخ بالتراب و نحوه.

______________________________

(1) تقدم في أوائل؟؟؟؟ في حكم المرجوم؟؟؟ المقتص منه؟؟.

(2) راجع الوسائل باب: 15 من أبواب حد الزنا.

ص: 360

______________________________

و هو لو تم لا يقتضي خصوصية الساجة، بل و لا الخشب، و إن ذكره في المسالك، كما في الجواهر. لكن قال: «لكن الأولي تقديمه [يعني الساج] علي الخشب ثم الخشب علي غيره». كما زاد في التذكرة و جامع المقاصد و الروض و الروضة و المسالك و المدارك و غيرها أن يكون رأسه أعلي من رجليه، معللا في كشف اللثام بأن ينحدر الماء من أعلاه إلي أسفله، دون العكس، إذ قد يخرج من أسفله شي ء، و في غيره يتجنب اجتماع الماء تحته، و لم يتضح المراد به.

هذا، و الظاهر لزوم وضعه بنحو لا يرجع ماء الغسالة إليه، و لا يتجمع تحته بالنحو غير المتعارف، لتنجسه به و عدم ثبوت العفو عنه. و سكوت الأخبار عنه لا يدل علي العفو، لعدم الغفلة عنه بعد كونه علي خلاف المتعارف. و أما ما عدا ذلك فالتعليلات المتقدمة لا تنهض بإثبات استحبابه شرعا.

و مثلها ما في المنتهي من تعليل استحباب الساجة أو السرير بأنه إذا وضع علي الأرض سارع إليه الفساد و أتته الهوام إذ هو ممنوع جدا، و لو لزم فقد يحرم، لما فيه من هتك الميت و الإضرار ببدنه. و أما ما في الجواهر في تقريب استحباب وضعه علي المرتفع من أنه يرشد إليه ما عساه يشعر به ما في بعض الأخبار من الأمر بوضعه علي المغتسل. فكأنه يشير به إلي ما في مرسل يونس من قوله عليه السّلام: «إذا أردت غسل الميت فضعه علي المغتسل مستقبل القبلة» «1» و هو كما تري ظاهر في الأمر بالاستقبال، لا بوضعه علي مرتفع.

هذا، و في صحيح سليمان بن خالد: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا مات لأحدكم ميت فسجوه تجاه القبلة. و كذلك إذا غسل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة، فيكون مستقبل باطن [مستقبلا بباطن] قدميه و وجهه إلي القبلة» «2».

و مقتضي الجمود عليه حفر موضع المغتسل، و هو لا يناسب ما تقدم من الأصحاب و لا المقطوع به من السيرة. و من ثم لا يبعد حمله علي حفر موضع الغسالة، فيدل علي كونها في جانب الرجلين، لانحدار الماء منه المناسب لكونه أخفض من جانب الرأس، كما تقدم منهم. فتأمل.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

ص: 361

منها أن يكون تحت الظلال

و أن يكون تحت الظلال (1)

______________________________

(1) كما في إشارة السبق و الشرائع و النافع و القواعد و الإرشاد، و اليه يرجع علي الظاهر الحكم باستحباب تغسيله تحت سقف في المبسوط و النهاية و الغنية و الوسيلة و المعتبر و المنتهي و التذكرة و الدروس، كما يناسبه قوله في التذكرة: «و يستحب أن يكون تحت سقف، و لا يكون تحت السماء». و نحوه في النهاية و المبسوط، و من ثم نسب الأول في جامع المقاصد إلي الأصحاب، و الثاني إلي علمائنا في التذكرة، كما ادعي عليه الإجماع في الغنية و اتفاق الأصحاب في المعتبر.

و يقتضيه موثق طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ان أباه كان يستحب أن يجعل بين الميت و بين السماء سترا. يعني إذا غسل» «1». و قد يظهر من غير واحد التوقف في سنده، لأن طلحة عامي- كما في رجال النجاشي و الفهرست- أو تبري- كما في رجال الشيخ- من دون نص علي توثيقه. لكن يكفي في توثيقه أنه من رواة كامل الزيارة و تفسير القمي، معتضدا بما في الفهرست من أن كتابه معتمد، و برواية جماعة من الأعيان عنه، كصفوان بن يحيي و عبد اللّه بن المغيرة و عثمان بن عيسي و غيرهم.

قال في المعتبر: «و لعل الحكمة كراهية أن يقابل السماء بعورة الميت». و نحوه كلام غيره. و هو كما تري، لعدم فرض كشف عورة الميت. إلّا أن يراد بالعورة تمام البدن.

هذا، و في صحيح علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السّلام: «سألته عن الميت هل يغسل في الفضاء؟ قال: لا بأس، و إن ستر بستر فهو أحب إلي» «2». و هو ظاهر في ستره من جميع الجهات. و ما قد يظهر من المعتبر من اتفاق الحديثين في المفاد و اعتضاد الأول بالثاني، في غير محله، بل يلزم الجمع بينهما بحمل الثاني علي الأفضلية.

و يكون هو الوجه لما في التذكرة من استحباب أن يغسل في بيت، فإن لم يكن بيت ستر بثوب. و لا حاجة معه للتشبث بما علله به من كراهة النظر للميت، لإمكان أن يكون فيه عيب كان يطلب كتمانه إلّا أن يكون مراده به ستره عن الناظرين من جهاته الأربع و إن لم يظلل عليه بسقف أو نحوه، حيث يقصر الصحيح عن إثبات

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 30 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 362

و أن يوجه إلي القبلة (1)

______________________________

استحبابه. اللهم إلا أن يستفاد من الصحيح استحباب الستر بنحو الانحلال، و أن أفضله التام من جميع الجهات، كما هو غير بعيد عن المرتكزات، فلاحظ.

منها أن يوجه إلي القبلة

(1) أما أصل مشروعية الاستقبال فهو اتفاق أهل العلم، كما في المعتبر.

و بضميمة ذلك قد يستفاد استحبابه ممن لم يذكره- كسلار في المراسم- إذ لو كان واجبا عنده لم يهمله. و به صرح في الخلاف و الغنية و الوسيلة و الشرائع و النافع و المعتبر و المختلف و القواعد و الإرشاد و اللمعة و الروضة و الروض و المدارك و محكي المسائل المصرية للمرتضي و جمل الشيخ و عقوده و الاصباح و الجامع و التحرير و البيان و مجمع البرهان و غيرها، و نسبه في المدارك للأكثر، و قد يظهر من الخلاف الإجماع عليه، و هو كالصريح من الغنية. و يظهر من التذكرة التردد بينه و بين الوجوب.

كما يظهر القول بالوجوب مما في مبحث القبلة من المبسوط من وجوب معرفتها لاستقبالها في جملة من الأمور منها تغسيل الميت، و هو كالصريح من الدروس بل صريح المنتهي و جامع المقاصد و المسالك و الحبل المتين و محكي فوائد الشرائع و شرحي الجعفرية و ظاهر الذكري، كما قد يستفاد من إطلاق ذكره في كيفية التغسيل أو إلّا مر به حاله في المقنع و الهداية و المقنعة و النهاية و المبسوط، و إن كان قد يخدش باشتمال كلامهم علي كثير من المستحبات.

و قد استدل للوجوب بالأمر به في صحيح سليمان بن خالد و مرسل يونس المتقدمين في استحباب وضعه علي مرتفع، و صحيح الكاهلي: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الميت: فقال: استقبل بباطن [ببطن] قدميه القبلة حتي يكون وجهه مستقبل القبلة ثم تلين مفاصله … » «1». لكن لا مجال لاستفادة الوجوب من صحيح سليمان بعد تضمنه عطف حال التغسيل علي حال ما بعد الموت، و الاستقبال في المعطوف عليه قد أخذ قيدا في التسجية المستحبة. كما أن مرسل يونس و صحيح الكاهلي حيث تضمنا كثيرا من الخصوصيات غير الواجبة من المستحبات و غيرها كان الظاهر منهما بيان

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 363

كحالة الاحتضار (1). بل هو الأحوط استحبابا.

______________________________

الكيفية الكاملة شرعا و المناسبة للواقع في ظرف صدورهما، لا خصوص الواجبة، نظير ما تقدم في الاستدلال بهما و بأمثالهما لوجوب الترتيب.

علي أنه لو سلم ظهورها في الوجوب لزم رفع اليد عنها بصحيح يعقوب بن يقطين: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الميت كيف يوضع علي المغتسل موجها وجهه نحو القبلة أو يوضع علي يمينه و وجهه نحو القبلة؟ قال: يوضع كيف تيسر، فإذا طهر وضع كما يوضع في قبره» «1». و أما الإشكال فيه:

تارة: بما في جامع المقاصد من عدم وجوب ما تعسر قطعا.

و أخري: بما في الحبل المتين من أنه يدل علي التخيير بين الوجهين المذكورين في السؤال، فلا يدل علي جواز تركهما معا. قال: «ففي الحديث دلالة علي أنه إذا تعسر توجيهه علي هيئة المحتضر و تيسر التوجيه علي هيئة الملحود فلا عدول عنه، لأنه أحد توجيهي الميت. فتأمل. فهو كما تري.

لاندفاع الأول: بانه لما لم يكن المتيسر منحصرا بوجه واحد فمقتضي إطلاق الجواب إجزاء ما تيسر و لو مع تيسر الاستقبال و من ثم كان ظاهر التعبير المذكور عدم الوجوب.

و الثاني: بأن السؤال و إن اختص بالوجهين إلّا أن إطلاق الجواب شامل لغيرهما. و لو سلم فلازمه التخيير بينهما لزوما مع تيسرهما معا، و هو مما لا يظن بأحد الالتزام به، فيتعين حمله علي التخيير بين المشروع و غيره لعدم ابتناء تشريعه علي الإلزام، لا علي التخيير أو الترتيب بين الواجبين، كما يظهر منه. و لعله لما ذكرنا أمر بالتأمل.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الصحيح في عدم وجوب الاستقبال حال التغسيل، و به يرفع اليد عن ظهور ما تقدم في الوجوب لو تم.

(1) الظاهر المفروغية عنه، و في الجواهر: «بلا خلاف أجده بين أصحابنا في الكيفية». بل ظاهر الخلاف و الغنية و المعتبر الإجماع عليه. و يقتضيه صحيحا سليمان

______________________________

(1) الوسائل باب: 5 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 364

و أن ينزع قميصه من طرف رجليه (1)

______________________________

بن خالد و الكاهلي المتقدمان. لكن في المبسوط في بيان مقدمات التغسيل: «مستقبل القبلة عرضا، علي ما بيناه».

و هو لا يخلو عن تدافع، لأن ما تقدم منه بيانه هو الوجه الذي عليه الأصحاب، حيث قال في أول أحكام الاحتضار: «فإذا حضر الإنسان الوفاة استقبل بوجهه القبلة، فيجعل باطن قدميه إليها علي وجه لو جلس لكان مستقبلا للقبلة، و كذلك يفعل به حال الغسل. فأما في حال الدفن و الصلاة عليه يجعل معترضا … ». و من البعيد جدا خروجه عما عليه الأصحاب. و لعل في النسخة تصحيفا.

هذا، و ظاهرهم كالنص انحصار الاستقبال المشروع بذلك. و ما تقدم من الحبل المتين قد عرفت ضعفه.

منها أن ينزع قميصه من طرف رجليه

(1) كما صرح به جماعة كثيرة من الأصحاب منهم الشيخان و ابن حمزة و الفاضلان و الشهيدان و المحقق الثاني، و في جامع المقاصد أنه لا كلام فيه بين الأصحاب. و كأن مراده أنه لا كلام لهم في استحباب كون النزع عند إرادته بالنحو المذكور، لا استحباب النزع بالنحو المذكور مقدمة للغسل، لظهور بعض كلماتهم في كونه بعد الغسل، كما يأتي.

و علل بتجنب تلطخ أعالي بدنه بالنجاسة التي قد يتعرض لها ثوب الميت حال مرضه أو موته. و هو كما تري لا ينهض بإثبات حكم شرعي. و مثله تعليله بأنه أسهل علي الميت، لعدم وضوح الدليل علي استحباب الأسهل إذا لم يتوقف عليه الرفق المأمور به في بعض النصوص «1».

نعم، في صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ثم يخرق القميص إذا غسل و ينزع من رجليه» «2».

و هو و إن كان واردا في نزعه بعد التغسيل، إلّا أن الظاهر إلغاء خصوصيته.

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب غسل الميت.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8.

ص: 365

و إن استلزم فتقه (1)، بشرط إذن الوارث (2).

______________________________

اللهم إلّا أن يقال: إلغاء الخصوصية عرفا يبتني علي كون منشأ ذلك سهولة النزع أو نحوها، و لا إشعار في الصحيح به، بل قد يكون منشؤه أن إصابة الثوب المبتل بماء الغسالة لأسافل البدن أهون و أولي من إصابته لأعاليه، و ذلك لا يجري قبل التغسيل.

هذا و في الرضوي: «و تنزع قميصه من تحته أو تتركه عليه إلي أن تفرغ من غسله لتستر به عورته» «1». و هو يتمم المطلوب لو كان حجة في نفسه.

(1) مقتضي إطلاق عبارات جملة من الأصحاب استحباب الفتق أو الشق و إن لم يتوقف عليه النزع، و هو مقتضي إطلاق الصحيح أيضا.

نعم، لا يبعد انصرافه كعباراتهم إلي ما لو ترتبت عليه فائدة ما كسهولة النزع.

قال في المقنعة: «ثم ينزع قميصه- إن كان عليه قميص- من فوقه إلي سرته، يفتق جيبه أو يخرقه، ليتسع عليه في خروجه».

هذا، و في جامع المقاصد: «أكثر عبارات الأصحاب بالفتق، و في البيان عبر بشق القميص، و هو في خبر عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام، و هل بينهما فرق؟

المتعارف أن الفتق بموضع الخياطة، و لكن أهل اللغة ساووا بينهما. صرح بذلك في القاموس و غيره».

لكن لا إشكال في اختصاص فتق الثوب عرفا بموضع الخياطة، و الشق إما مختص بغيره، كالخرق الذي تضمنه النص، أو أعم منه. نعم إذا شرع الخرق الذي تضمنه النص شرع الفتق، لإلغاء خصوصية الخرق عرفا، بل لا يبعد أولويته. و لعل اقتصار النص علي الخرق لتعارف الفصل من أسفل الجيب، الذي لا خياطة فيه غالبا.

(2) كما في جامع المقاصد و المسالك و الروضة و المدارك، معللا في الأول بأنه إتلاف لحكم مستحب. و كأنه يشير إلي أن المورد من صغريات التزاحم، و الاستحباب لا يزاحم الحرمة. لكن في الجواهر: «قد يتأمل فيه، لإطلاق خبر عبد اللّه بن سنان …

مع انجباره بإطلاق عبارات الأصحاب، و ملاحظة غالب أحوال الناس في ذلك من

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 366

و الأولي أن يجعل ساترا لعورته (1)

______________________________

استنكار طلب الإذن و عدم تيسره غالبا. فلعل الأقوي حينئذ القول به مطلقا، سيما مع عدم تحقق النهي عنه».

و كأنه لا يريد بذلك ترجيح إطلاق الخبر لاعتضاده بالقرائن المذكورة علي عموم حرمة التصرف في ملك الغير، كي يشكل بما أشرنا إليه من أن المقام من صغريات التزاحم الذي يقدم معه الإلزامي علي غيره، لا التعارض الذي يرجح معه أقوي الدليلين، بل يريد قوة ظهور الخبر في رفع الشارع اليد عن استئذان المالك في المقام.

و قد يقرب بما أشار إليه من تعارف عدم الاستئذان، لعدم تيسره و احتقار الثوب غالبا، حيث يكون مغفولا عنه لذلك، فعدم التنبيه في الخبر إليه مع ذلك يوجب ظهوره في عدم وجوبه، فلا يبقي ملاكه، كي يزاحم ملاك الاستحباب و يمنع من فعليته. و إن كان الأمر لا يخلو عن إشكال. كما لا يبعد أن يكون مراده بانجبار الخبر بما ذكره اعتضاده بذلك، لا انجبار ضعفه، إذ هو صحيح، كما تقدم.

نعم، الظاهر الاقتصار علي المتعارف من عدم أهمية الثوب و الرغبة نوعا عنه، و عدم منع الوارث أو من يقوم مقامه من ذلك، لأنه المتيقن من التعارف الذي يبتني عليه ظهور الخبر، دون الصورتين المذكورتين.

و أولي منهما بالمنع ما لو علم بكون الثوب مغصوبا أو مستأجرا أو عارية ممن يحتمل عدم رضاه بخرقه أو فتقه، كما هو ظاهر. هذا و حيث كان جواز الخرق و الفتق بدون إذن لو تم مستفادا من صحيح ابن سنان الآمر بالخرق فعمومه لما قبل الغسل تابع لعموم الصحيح، الذي تقدم الكلام فيه.

أن يجعل ساترا لعورته
اشارة

(1) قال في الفقيه: «و ينزع القميص من فوقه إلي سرته و يتركه إلي أن يفرغ من غسله ليستر به عورته، فان لم يكن عليه قميص ألقي علي عورته ما يسترها به» و نحوه في الهداية، و قريب من صدره في المقنع، و ظاهره عدم نزع قميصه حين التغسيل، بل ستر عورته به بعد نزعه من أعلاه لأسفله بنحو يكون كالإزار.

و قد يستدل له بمرسل يونس: «فإن كان عليه قميص فأخرج يده من القميص

ص: 367

______________________________

و اجمع قميصه علي عورته و ارفعه عن رجليه إلي فوق الركبة و إن لم يكن عليه قميص فألق علي عورته خرقه» «1»، لكنه تضمن أيضا رفعه عن رجليه إلي فوق الركبة. و لعله لذا قال في الدروس: «و فتق قميصه و إخراج يده منه و جمعه علي عورته». بل قد يحمل علي مجرد بيان كيفية ستر العورة بالقميص، دون استحبابه، كما يأتي.

و أما ما في المتن من خصوصية القميص بعد نزعه في ستر العورة وحدها فلم أعثر عاجلا علي من سبقه إليه عدا السيد في العروة الوثقي. كما لم أعثر علي ما يناسبه في النصوص. بل قد خير بين القميص و غيره في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال: إذا أردت غسل الميت فاجعل بينك و بينه ثوبا يستر عنك عورته، إما قميص و إما غيره» «2».

هذا، و قد صرح في الوسيلة بوجوب تغسيل الميت مجردا من ثيابه مستور العورة إلّا لعذر. و لعله لتنجس القميص بماء التغسيل فينجس به الميت و يمتنع تغسيله، و المتيقن في العفو و الطهارة بالتبع بعد التغسيل هو ما لا بد منه فيه، و هو الخرقة الساترة للعورة.

و كأن مراده من العذر ما أشار إليه قبل ذلك من لزوم التغسيل في الثياب في فروع اعتبار المماثلة. لكن النصوص كما دلت علي التغسيل في الثياب في تلك الفروع و علي العفو عن الخرقة الساترة للعورة دلت علي التغسيل في القميص في مطلق الميت، كما يأتي.

و أما الاستدلال له بمرسل يونس المتقدم. فيشكل- مضافا إلي عدم مطابقته لمدعاه، لتضمنه ستر ما زاد علي العورة- بلزوم تنزيله علي ما لا ينافي النصوص المذكورة مما يأتي بيانه. و من ثم لا إشكال في ضعف ما ذكره، و لم أعثر علي موافق له فيه.

بل الأصحاب بين من حكم باستحباب التغسيل في القميص، كابن أبي عقيل- فيما حكي عنه- و صاحب الحدائق و الفقيه الهمداني و سيدنا المصنف «قدس سرهما» و قد يظهر من المختلف و الروضة الميل إليه، بل ظاهر الحبل المتين اختياره، و نسبه في الروضة للأكثر. و من حكم بجوازه مع استحباب التجريد كما قد يظهر ممن ذكر نزع القميص من جانب الرجلين قبل التغسيل، و به صرح الشيخ و الفاضلان و غيرهم

______________________________

(1) الوسائل باب: 30 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 368

______________________________

و نسب للمشهور في المختلف و غيره. و من خير من دون رجحان لأحد الطرفين، كما في الجواهر، و حكاه عمن لم يتضح صحة نسبته إليه.

و الظاهر الأول، للنصوص الكثيرة، ففي صحيح ابن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قلت: يكون عليه ثوب إذا غسل؟ قال: إن استطعت أن يكون عليه قميص فغسله [تغسله] من تحته» «1» و نحوه صحيح سليمان بن خالد «2». و في صحيح يعقوب بن يقطين عن العبد الصالح: «فقال: غسل الميت: تبدأ بمرافقه … و لا يغسل إلّا في قميص يدخل رجل يده و يصب عليه من فوقه» «3». و عن ابن أبي عقيل: «تواترت الأخبار عنهم عليهم السّلام أن عليا عليه السّلام غسل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في قميصه ثلاث غسلات» «4».

و قد ذكر بعضها في البحار «5».

و استدل للثاني بمرسل يونس و صحيح عبد اللّه بن سنان المتقدمين. و بما في المعتبر قال: «و أما أن تجريده أفضل فلأنه أمكن للتطهير. و لأن الثوب قد ينجس بما يخرج من الميت، و لا يطهر بصب الماء، فينجس الميت و الغاسل» و زاد في التذكرة:

«و لأن الحي إذا اغتسل تجرد فالميت أولي».

و الكل كما تري، لقرب حمل مرسل يونس علي بيان وجوب ستر العورة و كيفية سترها بالقميص لمن لا يريد تغسيل الميت به، لا رجحان تجريده منه و الاقتصار علي ستر العورة به.

إذ لا أقل من كونه مقتضي الجمع بينه و بين النصوص السابقة. فإنه أقرب من حمل تلك النصوص علي مجرد بيان الجواز- كما يظهر من المعتبر- أو علي كون التغسيل في القميص لستر العورة به لا غير، لتطابق مرسل يونس، فإنها كالصريحة في خلافهما. و كذا ما في التذكرة من حملها علي ما لو أمن من خروج النجاسة من الميت و إصابتها الثوب.

إذ هو- مع منافاته للوجهين الآخرين المتقدمين منه- بلا شاهد. فالمتعين ما ذكرنا.

و أما صحيح عبد اللّه بن سنان فهو ظاهر أو صريح في نزع القميص بعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 14.

(5) البحار الطبعة الحديثة ج 22 باب وفاته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و غسله و الصلاة عليه ص: 518 ح: 27. و ص: 526 ح:

31. و ص: 544 ح: 59. و ص: 546 ح: 64. و غيرها.

ص: 369

______________________________

القميص، لا قبله، كما تقدم، و لا سيما بملاحظة السياق. و لو فرض حمله علي النزع بعد التغسيل تعين حمله جمعا مع النصوص المذكورة علي بيان كيفية نزع القميص في ظرف إرادته، لا علي استحباب نزعه. و أما الوجوه الباقية فهي لا تخرج عن الاجتهاد في مقابل النص.

و من هنا لا مخرج عن ظاهر النصوص المذكورة، الذي قد يبتني علي ملاحظة الآداب العامة في عدم انكشاف الإنسان أمام غيره الذي هو قطعي في الحي و قريب في الميت، إلحاقا له به في الحرمة، فيحسن لأجلها تحمل مشقة التغسيل من وراء الثياب، و إن لم يكن لازما.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 6، ص: 370

و مما تقدم يظهر ضعف القول بالتخيير من دون رجحان لأحد الطرفين. و ما في الجواهر من أنه مقتضي الجمع بين هذه النصوص و ما دل علي تغسيله مجردا مستور العورة خاصة، كمرسل يونس و صحيح الحلبي المتقدمين. كما تري، لما سبق من إباء هذه النصوص الحمل علي مجرد الجواز، و لزوم تنزيل مرسل يونس علي ما تقدم لأجلها. و أما صحيح الحلبي فهو لا يدل إلّا علي وجوب ستر العورة و جواز الاقتصار علي ذلك من دون أن ينافي استحباب القميص الذي تضمنته هذه النصوص. و من ثم لا مخرج عنه لأجلها.

هذا، و حيث سبق نهوض هذه النصوص بإثبات العفو عن تنجس القميص و طهارته تبعا الذي هو خلاف الأصل، و يأتي الكلام فيه في مبحث المطهرات إن شاء اللّه تعالي، فاللازم الاقتصار علي ما تضمنته، و هو القميص، و لا يزاد عليه ثوب آخر، حيث لا طريق لإثبات العفو عنه و طهارته تبعا، فضلا عن رجحان التغسيل فيه.

و ما في العروة الوثقي من جواز التغسيل من وراء الثياب في غير محله أو محمول علي خصوص القميص في مقابل التجريد.

كما أن المتيقن من ذلك ما إذا كان القميص طاهرا في نفسه، و لا يشمل ما لو كان نجسا من غير جهة التغسيل. و لعله لذا حكي عن ابن أبي عقيل أن السنة تغسيله في قميص نظيف. فلاحظ.

بقي شي ء، و هو أنه لا إشكال بينهم ظاهرا في حرمة النظر لعورة الميت

ص: 370

______________________________

مع حرمة النظر إليه حال حياته، كما يناسبه تصريحهم كالنصوص بوجوب سترها. و أما مع جواز النظر إليه حال حياته- كالطفل و الزوج و الزوجة و نحوهم- فلا يبعد انصراف إطلاق النص و الفتوي عنه.

نعم، تقدم في ذيل الكلام في تغسيل أحد الزوجين الآخر الكلام في جواز نظر المغسل منهما لعورة الميت، مع عدم الإشكال في مرجوحيته. كما لا يبعد كراهة النظر لعورة الطفل حال الحياة فضلا عن حال الموت إذا لم يكن صغيرا جدا لا يعتد بعورته، و لا سيما إذا بلغ سنا يكره مخالطة المخالف له. فتأمل.

هذا، و المنساق مما تضمن وجوب سترها من النصوص المشار إليها أنه لتجنب النظر المحرم إليها، لا لوجوبه نفسيا، فيقصر عما لو لم يلزم النظر من كشفها، لعمي من يحضره أو ظلمة تمنع منه أو لمنع نفسه من النظر. لكن صرح غير واحد باستحباب الستر حينئذ. و في المعتبر: «الأحوط الستر ليحصل الأمن من زلل الطبع و الغفلة»، و قريب منه ما في المسالك. و هو كما تري خروج عن فرض الأمن من ذلك، خصوصا في مثل الأعمي. إذ مع فرض الاحتمال قد يجب الاحتياط بالستر، عملا بإطلاق النصوص. إلّا أن يكون ضعيفا غير معتد به، فيحتاج الاستحباب معه للدليل. فتأمل.

و في الجواهر في تقريب استفادة الاستحباب من النصوص: «نعم قد يقال: إن وجوب الستر إنما هو علي المنظور، و إلا فالناظر إنما يحرم عليه النظر، و بعد سقوط الأول هنا بالموت فلم يبق إلّا الثاني، و هو لا يستلزم وجوب الستر، لعدم التوقف عليه، فيستحب خصوص الستر حينئذ استظهارا و حذرا من الغفلة و نحوها. و حينئذ فلا ينبغي أن يخص الحكم بما ذكر، بل هو علي إطلاقه. فتأمل جيدا».

و فيه: أنه خلاف ظاهر النصوص المذكورة في المقام و غيرها في غيره من موارد الأمر بالستر، حيث يستفاد منه عرفا أن وجوب الستر لتجنب النظر المحرم، لا تعبدا مع الأمن منه. و من ثم لا يحتمل الوجوب مع الأمن من النظر عملا بظاهر الأمر علي أن فرض كون الاستحباب للاستظهار و الحذر من الغفلة يقتضي قصوره عن فرض الأمن من ذلك. إلّا أن يريد كونه حكمة للاستحباب لا علة له، أو استظهار الشارع بتشريع الستر حذرا من حصول الغفلة و لو مع اعتقاد المكلف عدمها.

ص: 371

و أن تلين أصابعه برفق (1)، و كذا جميع مفاصله (2)،

______________________________

و كيف كان، فقد يدعي استحباب الستر تأدبا محافظة علي كرامة الميت و لو مع الأمن من الناظر، كما دلت عليه في الجملة النصوص في الحي، و يناسبه المرتكزات في الميت. و قد يستفاد من استحباب تغسيله في قميص و ما تضمن تغطيته بعد الموت و تظليله و ستره حال التغسيل و غير ذلك. فتأمل جيدا.

منها أن تلين أصابعه برفق، و كذا جميع مفاصله

(1) كما في الفقيه و الهداية و المقنعة و النهاية و إشارة السبق و المراسم و الشرائع و النافع و التذكرة و القواعد و الإرشاد و الدروس. و إليه يرجع ما في المبسوط و الوسيلة من إطلاق تليين الأصابع مع إمكانه و عدم امتناعها، و في المعتبر: «و هو مذهب أهل البيت عليهم السّلام»، و في الخلاف دعوي إجماع الفرقة و عملهم علي تليين أصابع الميت. و أما ما في المختلف و جامع المقاصد و الروض من نسبته للمشهور فهو بلحاظ ما يأتي من ابن أبي عقيل في جميع المفاصل.

و استدل له في كلام بعضهم بكونه أطوع للغسل و التطهير. و هو كما تري لا ينهض بإثبات حكم شرعي. و كأنه إليه يرجع ما في المعتبر من أن انقباض كفه يمنع من التمكن من تطهيرها. و إلّا فهو بظاهره يقتضي الوجوب. و لعله خارج عن محل الكلام.

فالأولي الاستدلال له بما يأتي في جميع المفاصل. مضافا إلي الرضوي: «و تلين أصابعه و مفاصله ما قدرت بالرفق» «1». المعتضد بذكر الأصحاب له طبقة بعد طبقة، خصوصا مثل الصدوق الذي دأبه الاقتصار علي مفاد النص، حيث اقتصر كالأكثر علي الأصابع من بين المفاصل بالذكر.

(2) كما هو مقتضي إطلاق السرائر و المنتهي و الدروس. و عن ابن أبي عقيل:

«لا تغمز له مفصلا. بذلك تواترت الأخبار عنهم عليهم السّلام. و قد قيل في خبر شاذ عنهم أنه تلين مفاصله». و كأن مراده بالأخبار المتواترة معتبر طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: كره أن يقص من الميت ظفر أو يقص له شعر أو يحلق له عانة أو

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 372

و أن يغسل رأسه برغوة السدر (1)،

______________________________

يغمز له مفصل» «1». و صحيح حمران: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا غسلتم الميت منكم فارفقوا به و لا تعصروه و لا تغمزوا له مفصلا» «2». و لم أعثر عاجلا علي غيرهما. و بالخبر الشاذ صحيح الكاهلي. و فيه: «ثم تلين مفاصله فإن امتنعت عليك فدعها» «3» مؤيدا بالرضوي المتقدم في تليين الأصابع.

لكن الظاهر عدم تعارض الطائفتين. فإن الأولي إن لم تكن ظاهرة في نفسها في الغمز المنافي للرفق- حيث فسر الغمز بالعصر و الكبس باليد في اللغة، كما يناسبه السياق في صحيح حمران، حيث لا يبعد كون النهي فيه تأكيدا و شرحا لقوله: «فارفقوا به- فلا أقل من كونه مقتضي الجمع العرفي بينهما و بين الثانية، لظهور صحيح الكاهلي في التليين غير المنافي للرفق، كما يناسبه قوله: «فان امتنعت عليك فدعها». و حينئذ يشهد للأول ما تضمن الأمر بالرفق أيضا «4».

هذا، و قد قال في المختلف بعد الاستدلال لابن أبي عقيل بمعتبر طلحة:

«و الجواب: أنه محمول علي كراهية ذلك بعد الغسل، فان الشيخ رحمه اللّه قال: يكره بعد الغسل تليين المفصل». و يشكل بأن الحمل المذكور بلا شاهد، بل قد يأباه سياق المذكورات في الحديث، لأن المناسب وقوعها قبل الغسل.

بل صحيح حمران كالصريح في إرادة الغمز حين الغسل الذي يكون الغرض منه تسهيل الغسل، و المنع منه حينه يقتضي المنع منه قبله مقدمة له، لفهم عدم الخصوصية عرفا، و لا سيما مع تمهيده بالأمر بالرفق المعلوم عدم الفرق فيه بين أحوال الميت.

منها أن يغسل رأسه برغوة السدر
اشارة

(1) لا يبعد كون المراد به غسلا مستحبا زائدا علي الواجب مقدما عليه، لا من أجزاء الغسلة الأولي، لأنه المناسب لما تقدم منه من اعتبار عدم خروج الماء بالسدر عن الإطلاق، فيطابق ما في إشارة السبق و الشرائع و القواعد و الإرشاد و الروض و محكي التحرير و ظاهر المنتهي و جامع المقاصد.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(4) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب غسل الميت.

ص: 373

______________________________

و قد جمع بينه و بين غسل الميت بعده من قرنه إلي قدمه بالماء في الهداية- حاكيا له عن رسالة والده- و الفقيه و المبسوط، و تقدم في بحث الترتيب احتمال حمل الأول علي الاستحباب، كما تقدم من المقنعة و المراسم نحو آخر في بيان الغسل، مع التعرض له، كما يحتمله ما في الوسيلة و الروضة من الاقتصار علي غسل الرأس بالرغوة من دون أن يظهر في مباينته للواجب و تقديمه عليه.

و كيف كان، فيقتضيه قوله عليه السّلام في مرسل يونس: «و اعمد إلي السدر فصيره في طشت و صب عليه الماء و اضربه بيدك حتي ترتفع رغوته و اعزل الرغوة في شي ء …

ثم اغسل رأسه بالرغوة و بالغ في ذلك … ثم أضجعه علي جانبه الأيسر وصب الماء من نصف رأسه إلي قدميه … » «1». و قريب منه الرضوي «2». فإن مقتضي الجمع بينه و بين ما تضمن تحديد غسل الميت بالغسلات الثلاث لجسده كله حمل ما زاد علي الاستحباب، و منه الغسل بالرغوة، و لا سيما مع مناسبة الغسل بالرغوة للتنظيف الخارجي من الوسخ الظاهر، لا للتطهير من الحدث و الخبث المطلوب من التغسيل الواجب، كما يناسبه أيضا الأمر فيه بالمبالغة.

لكن في المدارك: «و المستفاد من الأخبار أن تغسيل الرأس برغوة السدر محسوب من الغسل الواجب، لا أنه مستحب متقدم عليه» ثم استدل عليه بالمرسل و صحيح الحلبي و الكاهلي اللذين يأتي الكلام فيهما إن شاء اللّه، و تبعه علي ذلك في الحدائق و الرياض و محكي الكفاية، و زاد في كشف اللثام أن ذلك ظاهر عبارات الأصحاب أيضا، و عن مختصر المصباح التصريح أو الظهور بأن ذلك من الغسل الواجب.

و في الجواهر: «و لعل القول باستحباب ذلك و جعله من أجزاء الغسل بناء علي ما تقدم سابقا من عدم اشتراط بقاء الإطلاق في غسلة السدر لا يخلو عن قوة».

و كأن منشأه محافظتهم علي الترتيب المعتبر في غسل الميت عندهم، لعدم اشتماله علي غسل آخر للرأس وحده، لكن من الظاهر أنه لا يناسب التصريح فيه بصب الماء عليه بعد ذلك من نصف رأسه إلي قدمه، و نحوه في ذلك غيره.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 374

______________________________

إذ الترتيب المذكور لا يناسب وجوب الأمرين، و حمل الثاني علي الاستحباب ليس بأولي من حمل الأول عليه، بل هو الأولي بقرينة ما تقدم من كونه مقتضي الجمع و غيره. و من ثم تقدم منا تقريب عدم اعتبار الترتيب، و الاستدلال عليه بالمرسل و غيره. فراجع.

نعم، لو كان دليل الترتيب قويا، بحيث لا يمكن رفع اليد عنه تعين تنزيلها علي ما ذكروه. لكنه ليس كذلك، كما يظهر مما تقدم عند الكلام فيه. و يظهر منه أيضا حال كلمات الأصحاب في المقام، لأن ما تقدم من كشف اللثام مبني علي إجماعهم علي الترتيب، و قد تقدم منعه. فراجع.

بقي في المقام أمور:
الأول: لا يبعد استحباب غسل الرأس بالسدر قبل التغسيل إن لم يغسل بالرغوة

لظهور بعض النصوص في ذلك ففي صحيح الكاهلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«ثم تحول إلي رأسه و ابدأ بشقه الأيمن من لحيته و رأسه ثم ثن بشقه الأيسر من رأسه و لحيته و وجهه فاغسله برفق، و إياك و العنف، و اغسله غسلا ناعما، ثم أضجعه علي شقه الأيسر ليبدو لك الأيمن، ثم أغسله من قرنه إلي قدميه … » «1».

و تقريب دلالته بنظير ما تقدم في مرسل يونس. و قريب منه صحيح يعقوب بن يقطين عن العبد الصالح عليه السّلام، و فيه: «ثم يغسل وجهه و رأسه بالسدر ثم يفاض عليه الماء ثلاث مرات … و يجعل في الماء شي ء من السدر و شي ء من كافور» «2».

فإن ظاهر الإفاضة عليه استيعاب تمام بدنه بها، و به يتحقق الغسل الواجب، فيكون غسل الرأس قبله هو المستحب بالتقرب المتقدم. و لا سيما مع التعبير عن غسل الرأس بأنه بالسدر، و عن الإفاضة بأنها بالماء مع جعل شي ء من السدر فيه، لإشعاره بكثرة السدر في غسل الرأس المناسب لكون الغرض منه التنظيف من الوسخ مقدمة للغسل المطهر من الحدث و الخبث، و مع عطف اللحية علي الرأس المناسب لكون المراد به موضع الشعر، لا ما يقابل البدن بتمامه.

كما قد يستفاد ذلك من صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ثم تبدأ بكفيه

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

ص: 375

______________________________

و رأسه ثلاث مرات بالسدر ثم سائر جسده» «1»، لأن التعبير بسائر الجسد و إن كان ظاهرا فيما عدا المغسول منه أولا، إلّا أن فرض غسل اليدين مع الرأس يمنع هذا الظهور، لبعد استثنائهما من سائر الجسد. و من ثم لا يبعد كون المراد به تمام الجسد، فيجري فيه ما تقدم في سابقه. فتأمل.

و كذا موثق عمار عنه عليه السّلام: «ثم تبدأ فتغسل الرأس و اللحية بسدر حتي ينقيه، ثم تبدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر، و إن غسلت رأسه و لحيته بالخطمي فلا بأس.

و تمر يدك علي ظهره و بطنه بجرة من ماء … » «2»، لأن المقابلة بين الرأس و الشقين و إن أوهمت كون المراد بهما ما عدا الرأس، إلّا أن التعبير في غسل الرأس بالسدر المشعر كثرته، و عطف اللحية علي الرأس الكاشف عن كون المراد به موضع الشعر لا تمام ما يقابل البدن و جعل الغاية الإنقاء، و التنبيه فيه بعد ذلك لغسله بالخطمي يقرب كون المراد بالشقين ما يعم الرأس، و يكون المراد بتقديم غسل الرأس غسله استحبابا بالسدر الكثير و الخطمي لتنقيته من الوسخ مقدمة للتغسيل الواجب.

و منه يظهر قيام الخطمي مقام السدر في ذلك، كما نبه له في التذكرة و المنتهي و محكي نهاية الأحكام و التحرير. بل عمم فيها لما يقوم مقامه في تنظيف الرأس. و كأنه لإلغاء خصوصيتهما و فهم أن الغرض التنقية. فتأمل.

و أما ما يظهر من غير واحد من الاستدلال ببعض هذه النصوص أو جميعها علي الغسل بالرغوة. فلا مجال له، لابتناء الغسل بالرغوة علي عناية لم يشر إليها في هذه النصوص. فلا بد أن يحمل التعبير بالسدر علي مائه، أو كثرته بنحو يكون منظفا كالأشنان و الخطمي و الصابون.

الثاني: صرح في النافع و المعتبر و التذكرة و محكي نهاية الأحكام بغسل تمام بدن الميت بالرغوة،

بل في المعتبر: «و هو مذهب فقهاء أهل البيت عليهم السّلام». و صريح التذكرة و محكي نهاية الأحكام كونه مستحبا قبل الغسل الواجب لا جزءا منه، و قد يظهر ذلك من المعتبر، لأنه ذكره في مستحبات الغسل بعد أن صرح في بيان الواجب منه بالتغسيل بماء السدر. و لم يتضح مستنده من النصوص، حيث لم يتعرض منها للرغوة

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 376

______________________________

إلا مرسل يونس و الرضوي و هما مختصان بالرأس و اللحية.

و استدل له في المعتبر و التذكرة بخبر معاوية بن عمار: «أمرني أبو عبد اللّه عليه السّلام أن أعصر بطنه ثم أوضيه بالاشنان ثم أغسل رأسه بالسدر و لحييه، ثم أفيض علي جسده منه ثم أدلك به جسده، ثم أفيض عليه ثلاثا ثم أغسله بالماء القراح ثم افيض عليه بالماء الكافور» «1»، و يظهر من المعتبر دلالة غيره أيضا. و كأن المراد به ما تضمن الغسل بالسدر.

لكن ذكرنا أن حمل السدر علي رغوته بعيد، بل يتعين حمله علي مائه، جمعا مع غيره من النصوص، بل هو الظاهر من خبر معاوية في نفسه، بقرينة اشتماله علي الإفاضة منه علي الجسد، لوضوح عدم صدق الإفاضة في الرغوة. علي أنها ظاهرة في الغسل الواجب للاكتفاء به في غسلة السدر. نعم لا مجال لذلك في خبر معاوية لاشتماله علي الإفاضة عليه ثلاثا بعد دلك الجسد في الإفاضة الأولي.

الثالث: مقتضي بعض النصوص المتقدمة استحباب غسل الرأس أمام كل من الغسلتين الأخيرتين بمائهما أيضا

ففي مرسل يونس: «ثم صب الماء في الآنية و ألق فيه حبات كافور، و افعل به كما فعلت في المرة الأولي ابدأ بيديه … ثم اغسل رأسه، ثم أضجعه علي جنبه الأيسر و اغسل جنبه الأيمن … كما فعلت أول مرة … » «2»، و في صحيح الكاهلي: «ثم تحول الي رأسه فاصنع كما صنعت أولا بلحيته ثم من جانبيه كليهما و رأسه و وجهه بماء الكافور ثلاث غسلات … ثم اغسله بماء قراح كما صنعت أولا تبدأ بالفرج ثم تحول إلي الرأس و اللحية و الوجه حتي تصنع كما صنعت أولا بماء قراح» «3».

و في موثق عمار: «ثم بجرة من كافور يجعل في الجرة من الكافور نصف حبة، ثم تغسل رأسه و لحيته ثم شقه الأيمن … ثم تغسله بجرة [بجرد] من ماء القراح … » «4».

نعم، حملها علي الاستحباب يبتني علي عدم وجوب الترتيب، علي ما تقدم في الغسلة الأولي.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 377

منها أن يغسل فرجه بالاشنان

و فرجه بالاشنان (1)

______________________________

(1) ففي المقنعة و المراسم غسل موضع النجو منه بالحرض. و لعله اليه يرجع ما في الاقتصاد و إشارة السبق و السرائر من أنه ينجيه به و عن مختصر المصباح أنه ينجيه به ثلاثا، حيث لا يبعد اختصاصه بغسل موضع النجو، كما ربما يرجع إليه ما في النافع و الإرشاد و المصباح من غسل فرجه به. و إن كان عمومه للقبل أظهر، لأنه المتيقن من العورة عرفا، كما حمله عليه في الروض و اختاره.

و به صرح في الفقيه، حيث قال: «ثم يلف علي يده اليسري خرقة يجعل عليها شيئا من الحرض- و هو الاشنان- و يدخل يده تحت الثوب و يصب عليه غيره الماء من فوق إلي سرته و يغسل قبله و دبره، و لا يقطع الماء عنه، و قريب منه في الهداية حاكيا له عن رسالة والده.

و يدل علي ما ذكروه في الجملة خبر معاوية: «أمرني أبو عبد اللّه عليه السّلام أن أعصر بطنه ثم أوضيه بالاشنان» «1»، فإن تعقب التوضئة لعصر البطن المناسب لتوقع خروج شي ء منه موجب لظهورها في غسل مخرج النجو بالاشنان لتنقيته مما خرج بالعصر أو قبله.

و ما في كشف اللثام من اشتماله علي غسله به، و الظاهر غسل جميع بدنه. مما لم يتضح مأخذه. كما أن ظاهره الاستدلال بصحيح يعقوب بن يقطين: «تبدأ بمرافقه فيغسل بالحرض» «2».

لكن في مجمع البحرين بعد ذكر هذا الحديث أو نحوه: «قال بعض الشارحين:

المراد بالمرفق العورتان و ما بينهما. و لم نظفر بما يدل عليه من الكتب. و لعل الكلمة بالغين المعجمة بدل القاف، فصحفت».

و كأنه يشير إلي ما عن ابن الأعرابي من ان المرافغ أصول اليدين و الفخذين» فيحمل علي غسل ما بينهما معها، و هو موضع العورة. لكن الاحتمال المذكور لا يكفي في الاستدلال، كاحتمال الكناية بالمرافق عن العورتين، لمناسبتهما لمعناها

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

ص: 378

______________________________

الحقيقي المذكور في اللغة، و هو المغتسل و الكنيف و نحوهما، لعدم وضوح القرينة علي الكناية المذكورة، إذ يحتمل أيضا إرادة غسل مرفق اليد فما دونه. فالعمدة خبر معاوية بالتقريب المتقدم.

هذا، و في الوسيلة أنه ينجيه بماء السدر و الحرض، و زاد في الدروس أنه يفعل ذلك ثلاثا، و زاد عليها في المبسوط و النهاية أنه يكثر من صب الماء حينها، و في الشرائع و التذكرة و القواعد و محكي المهذب و الجامع أنه يغسل فرجه بهما، و قد سبق ظهوره في القبل أيضا، و كذا ما في جامع المقاصد من غسل العورة بهما. و زاد في المنتهي أنه يفعل ذلك ثلاث مرات أو أكثر.

و يشهد له في الجملة ما في صحيح الكاهلي: «ثم ابدأ بفرجه بماء السدر و الحرض فاغسله ثلاث غسلات و أكثر من الماء … » «1». لكنه زاد فيه غسله بماء القراح مع غسلته أيضا و أطلق في الغنية غسل فرجه مدعيا عليه الإجماع و ظاهره الغسل بالماء القراح.

و قد يشهد به صحيح حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الميت يبدأ بفرجه ثم يوضأ وضوء الصلاة … » «2»، و خبر عبد اللّه بن عبيد عنه عليه السّلام: «تطرح عليه خرقة ثم يغسل فرجه و يوضأ وضوء الصلاة … » «3»، و خبر أم أنس عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في تغسيل المرأة، و فيه: «فإذا أردت غسلها فابدئي بسفليها فألقي علي عورتها ثوبا ستيرا، ثم خذي كرسفة فاغسليها فأحسني غسلها، ثم أدخلي يدك من تحت الثوب فامسحيها بكرسف ثلاث مرات و أحسني مسحها قبل أن توضيها، ثم وضئيها بماء فيه سدر» «4».

و مرسل يونس: «ثم اغسل فرجه و نقه» «5». و إن لم يبعد عن سياقه حمله علي الغسل بماء السدر. و لا سيما مع ظهوره في غسله أيضا قبل كل من الغسلتين الأخيرتين بمائهما، فيطابق ما في ذيل خبر أم أنس المتقدم.

و اقتصر في المعتبر علي تنقية عورته أو عورتيه بالخرقة، مدعيا عليه الإجماع، و مستدلا عليه بصحيح الكاهلي و مرسل يونس اللذين عرفت مفادهما. و لا مجال لحملهما

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 379

و أن يبدأ بغسل يديه (1)

______________________________

علي مجرد التنقية، لاشتمالهما علي تكرار الغسل في الغسلات مع حصول التنقية قبلها.

كما لا مجال للاستدلال عليه بما في موثق عمار: «ثم تمر يدك علي بطنه فتعصره شيئا حتي يخرج من مخرجه ما خرج و يكون علي يديك خرقة تنقي بها دبره» «1» لأنه ذكر ذلك بين الغسلة الثانية و الثالثة.

نعم، لا يبعد كون المستفاد من مجموع النصوص مطلوبية التنقية قبل الغسل بأي وجه حصلت و هي من النجاسة محتملة الوجوب علي ما تقدم في مقدمات الغسل و من غيرها يلزم البناء علي استحبابها مع كون الواجب هو إيصال الماء للبشرة. و أن الأفضل أن تكون بما يغسل به كالأشنان و السدر، بل قد يتعينان بنحو المزج، لاعتبار بعض ما تضمنهما من النصوص، و أفضل من ذلك أن يكون الغسل المذكور ثلاثا مع الاكثار من الماء. و أفضل منه تكرار الغسل قبل كل من الغسلتين الأخيرتين بمائهما.

و يناسبه مع ما في جامع المقاصد من غسله في الثانية بماء الكافور و الحرض و في الثالثة بالقراح وحده، و إن لم يتضح الوجه في ضم الحرض للكافور. كما يناسبه في الجملة ما عن الذكري: «و يستحب غسل يديه و فرجيه مع كل غسلة، كما في الخبر و فتوي الأصحاب».

و في موضع من الرضوي الأمر بغسله ثلاثا مع كل غسلة، فإن قل اجتزئ بمرة مع كل غسلة، و في موضع آخر منه التثليث مع التصريح بغسل قبله و دبره بثلاث حميديات، و هي جمع حميدي إناء كبير، كما عن الذكري، و قيل الإبريق الكبير في الغاية.

منها أن يبدأ بغسل يديه

(1) كما في الفقيه و الهداية- حاكيا له عن رسالة والده- و الاقتصاد و المراسم و الغنية- مدعيا فيه الإجماع عليه- و السرائر و الشرائع و النافع و المعتبر- مدعيا فيه أنه مذهب فقهائنا أجمع، و أن عليه عمل الأصحاب- و التذكرة- ناسبا له إلي علمائنا- و القواعد و اللمعة و الروضة و محكي جمل العلم و العمل، و عن الذكري نسبته للأصحاب. لكن قد يظهر بدوا من المعتبر و التذكرة كونه من الغسل الواجب و أن

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 380

______________________________

المستحب إنما تقديمه، إلا أنه لا يناسب ما ذكراه تبعا للمشهور من وجوب الترتيب علي النحو المعروف في غسل الجنابة.

هذا، و قد يظهر من إطلاق بعض الأصحاب غسلهما بالماء القراح، كما صرح به في المراسم و السرائر، و يقتضيه قوله عليه السّلام في مرسل خيثمة: «تبدأ فتغسل يديه ثم توضيه وضوء الصلاة، ثم تأخذ ماء و سدرا … » «1».

لكن في الفقيه و الهداية غسلهما بثلاث حميديات بماء السدر، و هو ظاهر غير واحد ممن يظهر منه كونه من شئون الغسل الواجب، كالمتن و غيره ممن يأتي التعرض له عند الكلام في الترتيب بين هذا المستحب و غيره مما تقدم.

و يدل عليه قوله عليه السّلام صحيح الحلبي: «ثم تبدأ بكفيه و رأسه ثلاث مرات بالسدر ثم سائر جسده … فإذا فرغت من غسله بالسدر فاغسله مرة أخري بماء و كافور و بشي ء من حنوط ثم اغسله بماء بحت غسلة أخري» «2»، كما هو ظاهر قوله عليه السّلام في مرسل يونس: «و اعمد الي السدر فصيره في طشت و صب عليه الماء و اضربه بيدك حتي ترتفع رغوته و اعزل الرغوة في شي ء و صب الآخر في الاجانة التي فيها الماء ثم اغسل يديه ثلاث مرات كما يغسل الإنسان من الجنابة إلي نصف الذراع ثم اغسل فرجه و نقه ثم اغسل رأسه بالرغوة.. ثم أضجعه علي جانبه الأيسر و صب الماء من نصف رأسه إلي قدميه … ثم صب الماء في الآنية و ألق فيه حبات كافور و افعل به كما فعلت في المرة الأولي و أبدأ بيديه ثم بفرجه … و اغسله بماء قراح كما غسلته في المرتين الأوليتين» «3» و مثله في ذلك الرضوي «4».

نعم، مقتضي عطف غسل الرأس علي غسل اليدين اشتراكهما في أنهما جزء من الغسل الواجب أو زائدان عليه، و التفريق بينهما غير ظاهر، فلاحظ ما تقدم في غسل الرأس. ثم إنه تقدم في غسل الفرج أن صحيح يعقوب بن يقطين قد تضمن غسل مرافقه بالحرض، و تقدم احتمال كون المراد به غسل اليدين إلي المرفقين. و لو تم لم يبعد

______________________________

(1) الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(4) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 381

الي نصف الذراع (1)، في كل غسل (2) ثلاث مرات (3)، ثم بشق رأسه

______________________________

الجمع باستحباب كل من الأمرين أو بالتخيير، و لعل الأول أولي.

(1) كما في الدروس و جامع المقاصد و المسالك و الروضة و الرياض. لما تقدم في مرسل يونس. و كأنه المراد مما في الرضوي المتقدم إليه الإشارة: «تبتدئ بغسل اليدين إلي نصف المرفقين». و يجمع بينهما و بين صحيح الحلبي المقتصر علي الكفين بالحمل علي الاختلاف في الفضل.

و أما ما في صحيح يعقوب فلو كان المراد به غسل اليدين فحيث كان بالحرض لا يجري فيه الجمع المذكور، بل يتعين الاقتصار فيه علي تمام المقدار المذكور غايته يجري فيه ما سبق من الجمع بسبب اختلاف ما يغسل به.

(2) كما في الدروس و اللمعة و الروضة و المسالك و ظاهر الفقيه و الهداية- حاكيا له عن رسالة والده- و الاقتصاد و السرائر، كما قد يظهر من المعتبر و التذكرة.

و يقتضيه ما تقدم من مرسل يونس و الرضوي. كما قد يظهر من صحيح الحلبي. و أما مرسل يعقوب فلو أريد به غسل اليدين مختص بالغسلة الأولي و قد سبق مقتضي الجمع بينه و بين غيره.

(3) كما في الاقتصاد و السرائر و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و الروضة و الرياض و محكي المصباح و مختصره. و قد يرجع إليه ما تقدم من الفقيه و الهداية من غسله بثلاث حميديات، لاستلزامه تقطع الغسل. فتأمل. كما قد يحمل عليه ما في المعتبر و التذكرة و القواعد من غسل كل عضو ثلاث مرات.

و إن لم يبعد ظهوره في الأعضاء الثلاثة التي اشتهر وجوب الترتيب بينها.

و كيف كان، يقتضيه ما تقدم من صحيح الحلبي و مرسل يونس و الرضوي.

و عن الذكري دعوي الإجماع عليه.

بقي الكلام في الترتيب بين المستحبات المتقدمة فاعلم أن ظاهر الفقيه و الهداية و محكي مختصر المصباح تقديم غسل اليدين ثم غسل الفرج ثم غسل الرأس بالرغوة.

و هو المطابق لمرسل يونس، كما هو مقتضي الجمع بينه و بين صحيح الحلبي المتضمن

ص: 382

الأيمن ثم الأيسر (1)، و يغسل كل عضو ثلاثا في كل غسل (2)

______________________________

البدء برأسه و كفيه و صحيح الكاهلي المتضمن غسل فرجه ثم رأسه.

و يناسبه الاقتصار علي غسل الفرج ثم غسل الرأس بالرغوة في المقنعة و المبسوط و النهاية و المراسم، و علي غسل اليدين ثم غسل الفرج في الاقتصاد و السرائر.

لكن ظاهر المعتبر و التذكرة تقديم غسل الفرج، ثم غسل الرأس بالرغوة، ثم غسل اليدين ملحقا بالغسل الواجب، كما هو ظاهر العروة الوثقي و المتن، و نحوه ما في الدروس من تقديم غسل الفرج علي غسل اليدين.

كما أن ظاهر القواعد تقديم غسل الرأس بالرغوة ثم غسل الفرج و اليدين.

و لم يتضح الوجه فيهما.

(1) كما في المبسوط و النهاية و الشرائع و النافع و المعتبر و التذكرة و القواعد و الدروس و غيرها. و في المعتبر أنه مذهب فقهائنا أجمع و أن عليه عمل الأصحاب، و نسبه في التذكرة لعلمائنا.

و يقتضيه- مضافا إلي إطلاق قوله عليه السّلام في صحيح الفضل بن عبد الملك: «ثم تغسله تبدأ بميامنه» «1» - قوله عليه السّلام في صحيح الكاهلي: «ثم تحول إلي رأسه و أبدأ بشقه الأيمن من لحيته و رأسه ثم ثن بشقه الأيسر من رأسه و لحيته و وجهه فاغسله برفق» «2».

نعم، لا يظهر منه كون ذلك في الغسل الواجب، للأمر فيه بعد ذلك بغسل تمام شقيه حتي الرأس، فراجع ما تقدم في غسل الرأس بالرغوة أو السدر.

منها أن يغسل كل عضو ثلاثا في كل غسل و يمسح بطنه في الأوليين إلا الحامل

(2) كما في المبسوط و النهاية و النافع و الشرائع و المعتبر و التذكرة و المنتهي و القواعد و الإرشاد و الدروس و اللمعة و غيرها، و في المعتبر أنه مذهب فقهائنا أجمع، و أن عليه عمل الأصحاب، و في التذكرة: «قاله علماؤنا». و عن الذكري الإجماع علي تثليث غسل أعضائه كلها من اليدين و الفرجين و الرأس و الجنبين.

و يقتضيه قوله عليه السّلام في صحيح الكاهلي: «ثم اغسله من قرنه إلي قدميه، و امسح

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 383

و يمسح بطنه (1)

______________________________

يدك علي ظهره و بطنه ثلاث غسلات» «1»، ثم ذكر فيه مثل ذلك في بقية الغسلات علي نحو من الاضطراب في متنه لا دخل له بما نحن فيه.

و أما قوله عليه السّلام في مرسل يونس: «ثم أضجعه علي جانبه الأيسر و صب الماء من نصف رأسه إلي قدميه ثلاث مرات … ثم أضجعه علي جانبه الأيمن و افعل به مثل ذلك … ثم صب الماء في الآنية و ألق فيه حبات كافور و افعل به كما فعلت في المرة الأولي … و اغسله بماء قراح كما غسلته في المرتين الأوليتين» «2».

فهو ظاهر في تكرار الصب مع وحدة الغسل للاستظهار في الغسلة الواحدة بقرينة وحدة الدلك. و مثله في ذلك قوله عليه السّلام في خبر معاوية: «ثم اغسل رأسه بالسدر و لحييه ثم أفيض علي جسده منه ادلك به جسده ثم أفيض عليه ثلاثا … » «3».

اللهم إلّا أن يستفاد منهما تثليث الغسلات بتعدد الصب مع الدلك في الأولي منها للاستظهار، كما يظهر من الرضوي، حيث تضمن تثليث غسل كل من الأعضاء الخمسة من اليدين ثم الفرج ثم الرأس ثم الجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر في كل غسل من الأغسال الثلاثة، ثم قال: «فيكون الغسل ثلاث مرات كل مرة خمسة عشر صبة» «4».

نعم، لم يتضمن تثليث غسل الرأس وحده إلّا الرضوي. ثم إن المستفاد من جملة من كلماتهم- منها ما تقدم من الذكري- استحباب التثليث في غسل الفرج و اليدين أيضا. و تشهد به بعض النصوص. فلتلحظ.

(1) يأتي اتفاق النص و الفتوي علي ذلك في الجملة. و في جامع المقاصد:

«و الغرض به التحفظ من خروج شي ء. و أنكره ابن إدريس لمساواة الحي الميت في الحرمة». و ظاهره أن ابن إدريس حرم المسح المذكور بلحاظ ما أشار إليه في التعليل من احتمال خروج شي ء بسببه، و أنه محرم في الميت كما هو محرم في الحي، لما تضمن أن حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(4) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(5) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب ديات الاعضاء.

ص: 384

______________________________

و يأتي عن الشهيد نسبة ذلك إليه أيضا. لكن لم أعثر علي ذلك في السرائر، بل المنسوب له موافقة الأصحاب، و هو الموجود في موضعين من السرائر.

نعم، قال في بيان المكروهات: «و لا يقعده و لا يغمز بطنه»، قال في مفتاح الكرامة بعد أن حكي ذلك عنه: «فنسب إليه الشهيد و الكركي إنكار ذلك بعد الاعتراف به في أول الباب. و لعل المراد لا يغمزه غمزا شديدا، أو لا يغمزه قاعدا. فتأمل» و لعل أمره بالتأمل للإشارة إلي أن التعليل المتقدم للمنع لا يناسب إرادة الكلام المذكور.

و كيف كان، فالتعليل المتقدم لا ينهض بالمنع. إذ حرمته في الحي إن كانت بلحاظ كونه تصرفا في بدنه، فلا دليل علي جريانها في الميت، لابتناء جميع التصرفات فيه علي ذلك. و إن كانت بلحاظ هتكه فحصوله في المقام ممنوع، إذا كان المسح بالنحو المتعارف، و لا سيما مع كون الغرض منه تجنب خروج شي ء بعد الغسل بسبب بعض الحركات التي لا بد منها. هذا مضافا إلي ما أشرنا إليه من إجماع النص و الفتوي علي رجحان ذلك، حيث لا بد من الخروج به عما قد تقتضيه القواعد العامة.

هذا، و قد اشتملت جملة من النصوص علي المسح إلّا أنها علي طائفتين:

الأولي: ما تضمن المسح حين صب الماء في أثناء الغسل. و الظاهر أن الغرض منه الاستظهار لاستيلاء الماء علي البشرة و قبولها له و نفوذه فيها. و هو لا يختص بالبطن و يجري في جميع الغسلات. ففي صحيح الكاهلي: «و أكثر من الماء فامسح بطنه مسحا رفيقا ثم تحول إلي رأسه … فاغسله برفق و إياك و العنف و اغسله غسلا ناعما ثم أضجعه … ثم اغسله من قرنه إلي قدميه و امسح يدك علي ظهره و بطنه ثلاث غسلات … » ثم تضمن الأمر بالغسل بالكافور و القراح علي نحو الغسلة بالسدر «1»، كما تضمنه مرسل يونس بعد قوله في بيان الغسل بالسدر: «و ادلك بدنه دلكا رفيقا» «2»، و في موثق عمار: «و تمر يدك علي ظهره و بطنه بجرة من ماء … ثم بجرة من كافور …

و تمر يدك علي جسده كله» «3» و في خبر معاوية بن عمار: «ثم أفيض علي جسده منه ثم أدلك به جسده» «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

ص: 385

في الأوليين (1)

______________________________

الثانية: ما تضمن المسح قبل الشروع في الغسلة لخروج ما يسهل خروجه من الغائط و هو يختص بالبطن. و الظاهر أن محل كلامهم في المقام هذا دون الأول و من ثم يأتي الكلام في مفاده عند التعرض لكلماتهم.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة، و ادعي الإجماع عليه في الغنية و المعتبر و ظاهر الخلاف. و علل في كلام غير واحد بخروج ما يسهل خروجه تحفظا من خروجه بعد الغسل. هذا و ظاهر المتن إرادة المسح حين الغسل و في أثنائه، كما هو ظاهر التعبير بنظير ذلك في الهداية- حاكيا له عن رسالة والده- و الفقيه و المقنعة و الغنية و الاقتصاد و المراسم و السرائر و النافع و الشرائع و القواعد و المنتهي و اللمعة، و نحوه ما في الوسيلة و الإرشاد من غمز بطنه فيهما. لكن صرح غير واحد من شراح بعضها بأن المراد المسح قبل كل منهما، كما صرح به في الخلاف و المعتبر و التذكرة و الدروس و المنتهي في الأولي. و إن كان ظاهر الفقيه و الهداية المسح بعد كل منهما، بل هو كالصريح مما يأتي من المنتهي.

كما أنهم صرحوا بعدم استحباب المسح في الثالثة، و في المعتبر و التذكرة و جامع المقاصد و الروض و عن الذكري و ظاهر نهاية الأحكام الإجماع عليه. و علل في كلام بعضهم بحصول المطلوب بالمرتين. بل في الخلاف و الوسيلة و الدروس و جامع المقاصد و الروض و عن الذكري و الجامع كراهيته، و ظاهر الخلاف الإجماع عليه.

و عن الشهيد: «لأنه تعرض لكثرة الخارج». و قد يظهر من المنتهي أيضا حيث علله بأن المسح هناك يستعقب الغسل، فإذا خرج منه شي ء أزاله ماء الغسل، بخلاف الغسلة الأخيرة.

هذا، و لا يخفي أن التعاليل المذكورة لا تنهض بإثبات حكم شرعي، بل هي لا تناسب الأحكام المذكورة، إذ لو كان الغرض الاقتصار علي إخراج ما يخرج بأدني حركة لزم الاكتفاء بمرة واحدة، و لو كان الغرض إخراج كل ما يمكن خروجه لزم استحباب الثلاث، بل الزيادة عليها. و من ثم ينبغي النظر في النصوص، و إن لم يظهر منهم الاهتمام بمفادها.

ص: 386

______________________________

و ظاهرها الاكتفاء بالمسح مرة واحدة مع الاختلاف في محلها. فظاهر بعضها أنها قبل الغسلة الأولي، ففي صحيح الفضل: «أقعده و اغمز بطنه غمزا رفيقا ثم تضجعه من غمز البطن ثم تضجعه ثم تغسله … » «1»، و في خبر معاوية بن عمار: «أمرني أبو عبد اللّه عليه السّلام أن أعصر بطنه ثم أوضيه بالاشنان ثم أغسل رأسه بالسدر» «2». و في خبر أم أنس: «أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: إذا توفيت المرأة فأرادوا أن يغسلوها فليبدأوا ببطنها فلتمسح مسحا رفيقا إن لم تكن حبلي، فإذا كانت حبلي فلا تحركيها، فإذا أردت غسلها فابدئي بسفليها … » «3».

و ظاهر بعضها أنه بعد الغسل الأول قبل الشروع في الثاني، ففي مرسل يونس:

«ثم صب الماء في الآنية و ألق فيه حبات كافور، و افعل به كما فعلت في المرة الأولي ابدأ بيديه ثم بفرجه و امسح بطنه مسحا رفيقا فإن خرج منه شي ء فأنقه، ثم اغسل رأسه … » «4». كما قد يظهر من صحيح الكاهلي، لقوله بعد ذكر الغسل الأول علي اضطراب فيه: «و امسح يدك علي بطنه مسحا رفيقا، ثم تحول إلي رأسه فاصنع كما صنعت أولا بلحيته ثم من جانبيه كليهما و رأسه و وجهه بماء الكافور … » «5» و في ثالث أنه بعد الغسل الثاني قبل الشروع في الثالث، ففي موثق عمار: «ثم تمر يدك علي بطنه فتعصره شيئا حتي يخرج من مخرجه ما خرج، و يكون علي يديك خرقة تنقي بها دبره …

ثم تغسله بجرة [بجرد] من ماء القراح … » «6».

و منه يتضح عدم مناسبة ما ذكره الأصحاب لمفاد النصوص، سواء كان مقتضي الجمع بينها استحباب مضامينها بنحو الجمع و تعدد المطلوب، أم بنحو التخيير. و لا سيما ما صرح به في الخلاف و يقتضيه كلام الأكثر من عدم استحباب المسح قبل الثالثة، بل صرح هو و جماعة بكراهته، لأنه مناف لصريح موثق عمار. و من ثم يشكل متابعتهم فيما ذكروه، كما لا مجال للتعويل علي دعاوي الإجماع المتقدمة منهم، لما هو الظاهر من طريقتهم من التسامح في أدلة المستحبات و المكروهات و عدم التقيد فيها بمفاد النصوص.

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(5) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(6) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 387

______________________________

نعم، في الرضوي بعد ذكر إقعاده و غمز بطنه قبل الشروع في الغسل ثم تطهيره و ذكر الغسل الأول، قال: «ثم اقلبه إلي ظهره و امسح بطنه مسحا رفيقا، و اغسله مرة أخري بماء و شي ء من الكافور … و أغسله الثالثة بماء قراح و لا تمسح بطنه في ثالثة» «1».

و هو قد يناسب ما عليه الأصحاب. لكنه قد يحمل علي النهي عن مسح البطن و دلكها أثناء الغسلة الثالثة تحفظا من خروج النجاسة المنجسة. علي أنه لا ينهض برفع اليد عما سبق من النصوص المعتبرة سندا الظاهرة دلالة.

ثم إن في صحيح يعقوب بن يقطين: «و لا يعصر بطنه، إلا أن يخاف شيئا قريبا، فيمسح [به] رفيقا من غير أن يعصر … » «2». و مقتضاه الاقتصار في المسح علي ما إذا خيف أن يكون هناك شي ء قريب قد يخرج بنفسه لو لم يخرج بالعصر، دون ما لو لم يحتمل ذلك و إنما احتمل إيجاب المسح دفع ما ليس من شأنه أن يخرج بنفسه و لا يبعد حمل النصوص المتقدمة علي ذلك جمعا معه، و يكون الاقتصار فيها علي المرة الواحدة لغلبة عدم الخوف من ذلك بعدها. فلو فرض الخوف بعد بسبب تغسيله بعض الغسلات، لخصوصية فيه، أو لتعرضه لحركة عنيفة احتمل تحرك شي ء بسببها يحتمل خروجه شرع تكرار المسح و لو في غير الموضع الذي تضمنته النصوص المتقدمة، كما لو خيف منه بعد إكمال الغسل و خشي خروجه عند نقله من المغتسل لموضع التكفين.

كما أن مقتضي الجمع بينه و بينها أيضا الاقتصار علي المسح الرفيق الذي تضمنته بعض تلك النصوص أيضا، و هو الذي لا يخرج به إلّا ما يكون قريبا يخشي من عدم المسح خروجه بنفسه. و عليه ينزل الغمز الرفيق في صحيح الفضل و العصر في موثق عمار و خبر معاوية. و لعله مراد الأصحاب و إن أطلق بعضهم العصر، و آخر الغمز. بل ظاهر صحيح يعقوب حرمة العصر الزائد علي المقدار المذكور، و لا يبعد البناء عليه.

و لعل منشأه تجنب احتمال خروج ما ليس من شأنه الخروج، لأنه نحو من الهتك المنافي لحرمة الميت من دون مصحح له، بخلاف المسح برفق المقتضي لخروج الشي ء القريب، لأنه فيه تجنب احتمال خروجه بنفسه بنحو يكون أهتك للميت و أشكل علي

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

ص: 388

إلّا الحامل التي مات ولدها في بطنها (1) فيكره ذلك (2)، و أن يقف

______________________________

من يقوم بتجهيزه. فلاحظ.

(1) أما لو كان حيا فيجب إخراجه مهما أمكن علي ما يأتي في المسألة الواحدة و السبعين إن شاء اللّه تعالي.

(2) كما في الوسيلة و المنتهي و كشف اللثام و محكي الجامع. و لعله المراد من استثنائه من الاستحباب في السرائر و الشرائع و النافع و القواعد و الإرشاد و الدروس.

بل قد يظهر الحرمة من المعتبر و التذكرة و جامع المقاصد و الروض و الروضة و محكي الذكري، لتعليله في كلامهم بخوف الإجهاض، و لا سيما المعتبر، لقوله فيه: «لأنه لا يؤمن معه الإجهاض، و هو غير جائز، كما لا يجوز التعرض لإجهاض الحية. و يؤيد ذلك ما روته أم أنس … » ثم ذكر الخبر المتقدم في تحديد المسح المستحب.

لكن التعليل المذكور يقصر عن المسح برفق الذي تضمنته النصوص المتقدمة، لبعد حصول الإجهاض به جدا. و ضعف سند الخبر مانع من التعويل عليه في نفسه، فضلا عن الخروج به عن إطلاق تلك النصوص المقتضي للاستحباب.

نعم، لو كان المسح عنيفا فلا ينبغي التأمل في كراهته فيها كما في غيرها، علي ما يظهر من النصوص المتقدمة و غيرهما مما تضمن الأمر بالرفق بالميت و النهي عن العنف به «1».

بل قد تقدم تقريب حرمة مسح خصوص البطن بعنف عملا بظاهر صحيح يعقوب. و أولي بذلك ما إذا احتمل الإجهاض به، لأنه أولي بالهتك من خروج الغائط.

بل يشمله حينئذ ما تضمن أن حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا «2»، المطابقة للمرتكزات.

نعم، لا مجال لما في الجواهر من التمسك فيه بالاستصحاب. للإشكال فيه:

أولا: بتعدد الموضوع حقيقة علي ما هو الحال في أكثر موارد استصحاب الأحكام التكليفية.

و ثانيا: بأن المحرم حال الحياة مع قطع النظر عن الاحترام هو قتل الجنين،

______________________________

(1) راجع الوسائل باب: 9 من أبواب غسل الميت.

(2) راجع الوسائل باب: 25 من أبواب ديات الأعضاء.

ص: 389

الغاسل علي الجانب الأيمن للميت (1)

______________________________

و المفروض في المقام موته، و بلحاظ الاحترام فالدليل كما دل علي تحريم ما ينافيه في الحي دل علي تحريم ما ينافيه في الميت، بلا حاجة للاستصحاب، بل لعل إجهاض المرأة الميتة أظهر في منافاة الاحترام من إجهاض الحية.

هذا، و في جامع المقاصد: «و لو أجهضت فعشر دية أمه. نبه علي ذلك في البيان» و نحوه في الروض. لكن في مفتاح الكرامة: «و لم أجد ذكر ذلك في البيان، و إنما استثني الحامل التي مات ولدها».

و كيف كان، فثبوت الدية لا يخلو عن إشكال، لأن الظاهر أن موضوع الدية في إجهاض الحية هو قتل الجنين، لا مجرّد الإجهاض، ليكفي ما تضمن أن حرمة الميت كحرمة الحي في إثباتها. و الأمر محتاج لمزيد فحص و تأمل.

منها أن يقف الغاسل علي الجانب الأيمن للميت

(1) كما في النهاية و الغنية و الوسيلة و السرائر و الشرائع و النافع و القواعد و الإرشاد و التذكرة و عن المصباح و مختصره و الجمل و العقود و المهذب و الجامع، و في الغنية الإجماع عليه. لكن اقتصر علي الوقوف علي جانبه من دون ذكر لليمين في المقنعة و المبسوط و التهذيبين و المراسم و المنتهي، و في المعتبر أنه أولي. و كأنه لاقتصار النص عليه، و هو ما رواه في المعتبر مرسلا عن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: و لا يجعله بين رجليه في غسله، بل يقف من جانبه» «1»، و أرسل في غيره أيضا.

لكن في الجواهر بعد ذكر إجماع الغنية علي خصوص اليمين: «و هو الحجة فيه بعد المسامحة. مع عموم التيامن المندوب إليه … نعم قد يقال باستحباب مطلق الجانب مع زيادة الفضيلة في الأيمن. فتأمل».

و لعل أمره بالتأمل إشارة لعدم وضوح عموم التيامن بنحو يشمل المقام و نحوه من الوقوف علي يمين الغير. و لا سيما مع تعرض الميت للتقليب تبعا لما يقتضيه التغسيل. مع أن ظهور الخبر في استحباب الوقوف علي الجانب لا يخلو عن إشكال، بل يقرب كون ذكره لمجرد تجنب جعله بين رجليه، لعدم تعارف غيرهما. فلاحظ.

______________________________

(1) المعتبر ص: 74.

ص: 390

منها أن يحفر للماء حفيرة

و أن يحفر للماء حفيرة (1)

______________________________

(1) ظاهره ككثير من عبارات الأصحاب إفراد غسالة كل ميت بحفيرة، و إن كان قد يظهر من بعضهم كفاية حفيرة واحدة لماء التغسيل و لو لأموات متعددين.

و كلماتهم في المقام لا تخلو عن اضطراب.

و توضيح الحال: أنه لا إشكال عندهم في كراهة إرسال ماء التغسيل في الكنيف- علي ما يأتي في المكروهات- لمكاتبة الصفار إلي أبي محمد عليه السّلام المروية في الصحيح: «هل يجوز أن يغسل الميت و ماؤه الذي يصب عليه يدخل إلي بئر كنيف، أو الرجل يتوضأ وضوء الصلاة أن ينصب ماء وضوئه في كنيف؟ فوقع عليه السّلام: يكون ذلك في بلاليع» «1».

و حيث كان محمولا علي كراهة الكنيف فهو ظاهر جدا في عدم كراهة البالوعة، لأن ابتداء الإمام عليه السّلام بالتنبيه لها و اختيارها علي الكنيف لبيان كراهته كالصريح في عدم كراهتها، و مقتضي إطلاقه عدم الفرق في عدم كراهتها بين إمكان الحفيرة و تعذرها. و يناسبه الرضوي: «و لا يجوز أن يدخل الماء ما ينصب عن الميت من غسله في كنيف. و لكن يجوز أن يدخل في بلاليع لا يبال فيها أو حفيرة» «2».

فما يظهر من المبسوط و النهاية و التذكرة و عن نهاية الأحكام، بل هو صريح الوسيلة من اشتراط ارتفاع كراهة البالوعة بتعذر الحفيرة. غير ظاهر الوجه. و كأن ما في جامع المقاصد و عن الذكري من الإجماع علي اختصاص الكراهة بالكنيف دون البالوعة، مبني علي تنزيل كلام من سبق علي مجرد أولوية الحفيرة من البالوعة. و إن كان في غير محله.

و مثله ما في الغنية و إشارة السبق و السرائر و الشرائع و النافع و المنتهي و القواعد و الإرشاد و الدروس و غيرها من استحباب الحفيرة لماء الغسل، بل في الغنية الإجماع عليه، حيث لا شاهد بذلك من النصوص عدا ما استدل به في المعتبر و المنتهي و غيرهما، و هو صحيح سليمان بن خالد: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا مات لأحدكم ميت فسجوه تجاه القبلة، و كذلك إذا غسل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة، فيكون

______________________________

(1) الوسائل باب: 29 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 391

و أن ينشف بدنه بثوب (1) نظيف (2)

______________________________

مستقبل باطن [مستقبلا بباطن] قدميه و وجهه إلي القبلة» «1».

و هو مبني علي تنزيل حفر موضع المغتسل علي حفر موضع ماء الغسالة، كما تقدم تقريبه عند الكلام في استحباب وضع الميت علي مرتفع. لكنه لو تم ظاهر في استحباب الاستقبال بالميت حال التغسيل، لأن قوله عليه السّلام: «يحفر … » مسوق لبيان الاستقبال، كما يشهد به التفريع في قوله: «فيكون … » لا لبيان مطلوبية الحفر، أو كون الحفيرة تجاه القبلة، و فرض الحفر فيه تجاه القبلة لتعارف الحفيرة و المفروغية عن كونها في جانب الرجلين. و منه يظهر ضعف ما في جامع المقاصد من الاستدلال به لاستحباب كون الحفيرة تجاه القبلة زائدا علي استحباب الحفيرة.

هذا، و قد علل في المعتبر استحباب الحفيرة بأنه ماء مستقذر، فيحفر له ليؤمن من تعدي قذره. و هو لو تم إنما يقتضي كراهة التعرض لتعدي قذره، لا استحباب خصوص الحفيرة. و من ثم يشكل البناء علي استحباب اتخاذ الحفيرة و ترجيحها علي البالوعة، فضلا عن إفراد غسالة كل ميت بحفيرة. و لعله لذا اقتصر في اللمعة علي استحباب إرسال الماء في غير الكنيف، الذي لا يبعد رجوعه إلي كراهة إرساله في الكنيف، لما تقدم، و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالي.

منها أن ينشف بدنه بثوب نظيف أو نحوه

(1) كما صرح به غير واحد، و في المنتهي: «و لا نعلم فيه خلافا»، و في المعتبر و التذكرة و عن نهاية الأحكام الإجماع عليه. و يقتضيه قوله عليه السّلام في صحيح الحلبي:

«حتي إذا فرغت من ثلاث غسلات جعلته في ثوب نظيف. ثم جففته» «2»، و في موثق عمار: «ثم تجففه بثوب نظيف» «3»، و في مرسل يونس: «ثم نشفه بثوب طاهر» «4».

و علل أيضا بأن أكفانه إذا ابتلت أسرع إليها الفساد. لكنه غير ظاهر، و لا سيما مع إمكان جفاف الكفن قبل الدفن.

(2) كما تضمنته النصوص المتقدمة. و إليه ينصرف إطلاق من أطلق من

______________________________

(1) الوسائل باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 2.

(2) الوسائل باب 2: من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب 2: من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(4) الوسائل باب 2: من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 392

أو نحوه (1).

______________________________

الأصحاب، خصوصا مع استدلالهم بالنصوص، لما هو المعلوم من لزوم طهارة بدن الميت قبل الدفن.

(1) كالمنديل، لإلغاء خصوصية الثوب في النصوص. بل لا يبعد كون المستفاد منها بمناسبة الحكم و الموضوع استحباب إدراجه في الكفن جافا و لو لطول الفاصل بينه و بين التغسيل أو لتعرضه للهواء الحار.

مستحبات التغسيل التي لم يذكره المصنف
اشارة

و بقي في المقام بعض ما قيل باستحبابه أو تضمنت النصوص الأمر به مما لم يذكره سيدنا المصنف قدّس سرّه.

منها: توضئة الميت وضوء الصلاة.
اشارة

و ظاهر الاستبصار أو صريحه وجوبه، كما قد يستظهر من محكي كلام أبي الصلاح الحلبي، و حكاه في كشف اللثام عن صريح النزهة، و قال: «و حكي عن المحقق الطوسي».

و قد يحمل عليه إطلاق ذكره في بيان كيفية الغسل في المقنعة و محكي المهذب، و إطلاق الاستدلال عليه في التهذيب، و جعله أحد القولين في المعتبر و النافع، و نسبه في المنتهي لبعض أصحابنا، و في المنتهي لجماعة.

و في النهاية: «و قد رويت أحاديث أنه ينبغي أن يوضأ الميت قبل غسله. فمن عمل بها كان أحوط».

و الأحاديث المذكورة هي صحيح حريز: «أخبرني أبو عبد اللّه عليه السّلام قال:

الميت يبدأ بفرجه ثم يوضأ وضوء الصلاة» «1». و خبر عبد اللّه بن عبيد: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الميت. قال: تطرح عليه خرقة ثم يغسل فرجه و يوضأ وضوء الصلاة … » «2» و في خبر خيثمة عنه عليه السّلام: «تبدأ فتغسل يديه ثم توضيه وضوء الصلاة ثم تأخذ ماء و سدرا … » «3».

و قد استدل بنصوص آخر تضمنت التعبير بالوضوء لا يبعد ظهورها في التنجية تقدمت عند الكلام في غسل الفرج.

______________________________

(1) الوسائل باب 6: من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب 6: من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب 6: من أبواب غسل الميت حديث: 4.

ص: 393

______________________________

و مثله الاستدلال بما تضمن أن كل غسل فيه وضوء إلّا غسل الجنابة «1». حيث لا يبعد قصوره عن تغسيل الميت، و لا سيما مع عدم ترتب غايات الوضوء عليه. و لو فرض عمومه له فلا يبعد كونه محكوما أو مورودا لما تضمن أن غسل الميت مثل غسل الجنابة، و أن الميت يغسل غسل الجنابة «2». فتأمل.

و من الغريب ما في المختلف من الجواب عن ذلك بمنع المماثلة من كل وجه، و الإلزام الاتحاد و نفي المماثلة، و إذا حمل علي البعض لم يتم الاستدلال. إذ فيه- مع اختصاصه باللسان الأول دون الثاني- أنه يكفي في التعدد اختلاف الذات تبعا لاختلاف الحدث و السبب. فالعمدة ما تقدم.

لكن المعروف من مذهب الأصحاب عدم الوجوب، بل عن التنقيح عن بعض الفضلاء أنه لم يقل أحد بالوجوب، و قد يظهر مما يأتي من الخلاف و من التذكرة المفروغية عن عدمه. و قد صرح باستحبابه في الغنية و إشارة السبق و المعتبر و النافع و المنتهي و المختلف و القواعد و الإرشاد و الدروس و المدارك و ظاهر جامع المقاصد و المسالك و الروض، و عن المصباح و مختصره و الجامع و الذكري و البيان و غيرها، و نسب للأكثر في الغنية و محكي غيرها و للمشهور في المسالك و المدارك و محكي كشف الرموز، و عن الكفاية أنه أشهر، و في الحدائق أن الظاهر شهرته عند المتأخرين.

و كأنه للجمع بين النصوص المتقدمة و النصوص الكثيرة الشارحة لكيفية التغسيل الخالية عن التعرض له. و ما في الحدائق من أنها من سنخ المطلق المقيد بالنصوص الآمرة بالوضوء، كما تري، لأن ظهورها في بيان تمام الواجب أقوي من ظهور النصوص الآمرة بالوضوء في الوجوب.

و مثله دعوي: أن الوضوء إن وجب فليس جزءا من الغسل، بل واجبا في قباله، فعدم التنبيه له فيها في مقام شرح الغسل لا يدل علي عدم وجوبه.

لاندفاعها: بأن جملة منها قد تعرضت لما يصنع بالميت من مقدمات التغسيل و لواحقه و آدابه من حين وضعه علي المغتسل و تجريده من ثيابه إلي تنشيفه و تكفينه،

______________________________

(1) راجع الوسائل باب 35: من أبواب الجنابة.

(2) راجع الوسائل باب 3: من أبواب غسل الميت.

ص: 394

______________________________

فعدم التعرض له فيها يجعلها كالصريحة في عدم وجوبه حتي تبعا للغسل. فلاحظ صحاح الحلبي و الكاهلي و الفضل و موثق عمار و مرسل يونس «1». و لعل الأظهر منها في ذلك صحيح يعقوب بن يقطين: «سألت العبد الصالح عليه السّلام عن غسل الميت أ فيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال: غسل الميت تبدأ بمرافقه فيغسل بالحرض، ثم يغسل وجهه و رأسه بالسدر ثم يفاض عليه الماء ثلاث مرات … » «2».

لظهور أن المسؤول عنه هو الوضوء مع غسل الميت علي النحو الذي ورد في غيره من الأغسال، فإعراض الإمام عليه السّلام عن ذكره في الجواب كالصريح في عدم وجوبه، كما اعترف به في الجملة في الحدائق مع مناقشته في غيره بما سبق.

بل قد يظهر منه عدم استحبابه، لقرب كون السؤال فيه عن أصل المشروعية، لا عن خصوص الوجوب، و لا سيما مع التعرض في الجواب لبعض المستحبات. و يؤيده تعرض جملة من النصوص الشارحة لكيفية التغسيل و الخالية عنه- مما أشير إليه آنفا- لكثير من المستحبات و الخصوصيات الخارجة عن الغسل، إذ لو كان مستحبا لكان المناسب جدا التعرض له فيها معها.

و من ثم احتمل بعضهم حمل النصوص الآمرة به علي التقية، لإطباق الجمهور عليه، كما في المنتهي، أو علي استحبابه كما في التذكرة. و قد يشعر به الإعراض عن جواب السؤال عنه في صحيح يعقوب المذكور.

و لعله لذا نسب تركه لعمل الطائفة و إجماعهم. قال في المبسوط: «و قد روي أنه يوضأ الميت قبل غسله، فمن عمل بها كان جائزا، غير أن عمل الطائفة علي ترك العمل بذلك، لأن غسل الميت كغسل الجنابة، و لا وضوء في غسل الجنابة» و في الخلاف: «غسل الميت كغسل الجنب ليس فيه وضوء. و في أصحابنا من قال: يستحب فيه الوضوء قبله. غير أنه لا خلاف بينهم أنه لا تجوز المضمضة و الاستنشاق فيه …

دليلنا عمل [إجماع] الفرقة علي ما قلناه. و من قال من أصحابنا بالوضوء فيه عول علي أخبار مروية في هذا الباب ذكرناها في الكتابين».

و عن السرائر رمي الرواية المتضمنة للوضوء بالشذوذ. لكن لم أجده فيه، و إنما

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2، 5، 9، 10، 3، 7.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2، 5، 9، 10، 3، 7.

ص: 395

______________________________

الموجود فيه بعد الإشارة للرواية و مخالفتها للطائفة علي نحو ما تقدم من المبسوط:

«فإذا كان عمل الطائفة علي ترك العمل بذلك فإذن لا يجوز العمل بالرواية، لأن العامل بذلك يكون مخالفا للطائفة. و فيه ما فيه».

و لعله لجميع ما تقدم يظهر التردد حتي في استحبابه من التذكرة و محكي نهاية الأحكام، كما مال إلي عدم مشروعيته في الحدائق، و قد يظهر من كل من تركه عند بيان الواجبات و المستحبات. فتأمل.

بقي في المقام أمور:
الأول: مقتضي إطلاق غير واحد أن الوضوء علي نحو وضوء الحي بالماء المطلق،

و إن كان قد يظهر من استدلال بعضهم بمثل خبري معاوية بن عمار و أم أنس المتقدمين في غسل الفرج المشتملين علي التوضئة بالاشنان و بماء السدر عدم تعين الماء المطلق. لكن أشرنا آنفا إلي ضعف الاستدلال المذكور، لظهور الخبرين في التنجية، فلا مخرج عن إطلاق النصوص المتقدمة الظاهر في إرادة الماء المطلق. و لا سيما خبر خيثمة، للتنبيه فيه علي السدر بعد التعرض للوضوء.

نعم، في مرسل دعائم الإسلام عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «و كل غسلة منها كغسل الجنابة يبدأ فيوضأ كوضوء الصلاة … » «1». و ظاهره أن لكل غسلة وضوؤها التابع لهما و بمائها. لكن لم أعثر عاجلا علي موافق له من الأصحاب، و إنما اقتصروا علي وضوء واحد. نعم صرح في العروة الوثقي باستحباب الوضوء قبل كل من الغسلين الأوليين. و لم أعثر علي موافق له و لا شاهد من النصوص.

الثاني: المذكور في كلام جملة ممن تقدم هو الوضوء قبل الغسل،

كما هو مقتضي النصوص المتقدمة. لكن حكي عن جماعة التصريح بالتخيير بين تقديمه علي الغسل و تأخيره عنه. و كأنه للبناء علي كون الوضوء في المقام من صغريات عموم: في كل غسل وضوء. مع البناء علي ابتناء العموم المذكور علي التخيير المزبور.

و يظهر الأشكال في الأول مما تقدم هنا من عدم نهوض العموم بذلك، و في الثاني مما تقدم عند الكلام في العموم المذكور في المسألة التاسعة عشرة في فصل أحكام الحيض.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 396

الثالث: تقدم من الخلاف نفي الخلاف في عدم جواز المضمضة و الاستنشاق،

______________________________

كما نفي في الغنية الخلاف في نفيهما. و أفتي في المنتهي بكراهتهما.

هذا، و لا إشكال ظاهرا في عدم كفاية إدخال الماء في الفم و الأنف في صدق المضمضة و الاستنشاق، بل لا بد فيهما من تحريكه في الفم بشي ء من القوة، و جذبه في الأنف، كما يظهر مما تقدم في مستحبات الوضوء.

و من الظاهر تعذر ذلك في الميت، فيسقطان لأجله حتي لو فرض عموم إطلاقات استحبابهما في الوضوء بدوا لتوضئته، و لو لا ذلك لكفي فيهما ما تضمن الأمر بهما في غسل الجنابة بضميمة ما تضمن مماثلة غسل الميت له أو أنه من أفراده «1»، و إن لم يؤت بالوضوء أو لم نقل بمشروعيته.

و أما مجرد إدخال الماء في فم الميت أو أنفه أو مع تحريكه فيه بتحريك رأسه فلا دليل علي تشريعه بعد عدم صدق المضمضة و الاستنشاق عليه. بل يدل علي مرجوحية إدخاله في الأنف قوله عليه السّلام في مرسل يونس: «و اجتهد أن لا يدخل الماء منخريه و مسامعه» «2». لأنه و إن ورد في حال غسل الرأس بالرغوة، إلّا أن الظاهر عدم الخصوصية له عرفا. بل قد يتعدي منه للفم لإلغاء خصوصية الأنف و المسامع عرفا.

نعم، يشكل البناء علي حرمته، لقرب ظهوره في الكراهة، و لا سيما مع كثرة التعرض له عند غسل الرأس. بل يبعد بناؤهم علي الحرمة حينئذ.

و منها: إمرار الغاسل يده علي بدن الميت حين الغسل،

كما صرح به في المعتبر و التذكرة و غيرهما. كما قد يستفاد مما ذكره في الوسيلة من استحباب كون الصاب غير الغاسل، و ما ذكره غيره من أن الغسل يكون ناعما. إذ ذلك لا يتجه إلّا مع مسح بدن الميت حين الغسل و عدم الاكتفاء بصب الماء، فهو ظاهر في المفروغية عنه.

بل قد يحتمل منه البناء علي وجوبه، كما قد يشعر به ما في المنتهي من تعليل الاكتفاء بصب الماء علي المجدور و نحوه بالضرورة، كما قد يحمل عليه إطلاق الأمر بالمسح في المقنعة. بل هو الظاهر من التعبير في كلام جماعة بالغسل، كما تقدم في أول

______________________________

(1) راجع الوسائل باب 3: من أبواب غسل الميت.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 397

______________________________

فصل كيفية الوضوء، لو لا ظهور المفروغية عن اتحاد الأغسال في الكيفية، و أن المعيار فيها وصول الماء للبشرة، كما تقدم هناك. غاية الأمر أنه تقدم الكلام في مقدار الماء الواجب في خصوص تغسيل الميت في أوائل الكلام في كيفيته.

و كيف كان، فيدل علي رجحان المسح و الدلك ما تقدم من النصوص في أول الكلام في استحباب مسح بطن الميت.

نعم، لا يبعد حملها علي الاستحباب بقرينة ما تقدم من ظهور المفروغية عن اتحاد الأغسال في الكيفية، كالمفروغية عن عدم وجوب الدلك في المقام، كما يظهر من جملة من كلماتهم، بل قد يظهر من كشف اللثام الإجماع عليه. و للاكتفاء بالإفاضة في صحيح يعقوب بن يقطين «1».

اللهم إلّا أن يخرج عن ذلك في الغسلة الأولي بماء السدر، فيلزم فيها الدلك، لأن التنظيف الذي هو الغرض من السدر ارتكازا لا يتأتي بمجرد الصب و الإفاضة.

و لعله لذا اقتصر في خبر معاوية بن عمار «2» علي الدلك في الغسلة المذكورة. فتأمل جيدا.

و منها: جعل الغاسل علي يده خرقة.

فقد ذكر ذلك حال غسل العورة أو تنقيتها في الفقيه و الهداية- حاكيا له فيها عن رسالة والده- و المقنعة و المراسم و الوسيلة و المعتبر و التذكرة و غيرها. و ظاهر المعتبر الإجماع عليه و قد يظهر من إطلاق الفقيه و الهداية و المقنعة و المراسم و غيرها وجوب ذلك، لمناسبته لحرمة مس العورة من الحي، بل الظاهر عدم الإشكال بينهم في حرمة مس عورة الميت في غير حال التغسيل، كما يظهر مما يأتي من التذكرة.

و كيف كان، فيقتضيه ظاهر قوله عليه السّلام في صحيح الحلبي: «فإذا أردت أن تغسل فرجه فخذ خرقة نظيفة فلفها علي يدك اليسري ثم أدخل يدك من تحت الثوب الذي علي فرج الميت فاغسله من غير أن تري عورته» «3» معتضدا بمرسل الدعائم و الرضوي «4».

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2، 3.

ص: 398

______________________________

و أما قوله عليه السّلام في موثق عمار: «و يكون علي يدك خرقة تنقي بها دبره» «1». فلا يبعد عدم سوقه للأمر يجعل الخرقة حذرا من المس، بل للأمر بالتنقية مع المفروغية عن وضع الخرقة حينها، لحرمة المس، أو لعدم استكمال التنقية باليد أو للاستقذار. فهو نظير قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في خبر أم أنس: «فإذا أردت غسلها فابدئي بسفليها فألقي علي عورتها ثوبا ستيرا ثم خذي كرسفة فاغسليها فأحسني غسلها، ثم أدخلي يدك من تحت الثوب فامسحيها بكرسف ثلاث مرات و أحسني مسحها قبل أن توضئيها ثم وضئيها بماء فيه سدر» «2».

فالعمدة صحيح الحلبي، لظهور الأمر فيه في الوجوب، و لا سيما مع ما تقدم من مناسبته لحرمة المس في الحي و الميت في غير حال التغسيل.

و دعوي: أن حمله علي الاستحباب هو المناسب لسكوت بقية النصوص عنه، و لا سيما ما تعرض منها لغسل الفرج.

مدفوعة: بقرب الاتكال في النصوص المذكورة علي ارتكاز الحرمة لما سبق، فلا مجال لجعلها قرينة علي عدم الوجوب و رفع اليد عن ظهور الصحيح فيه. و منه يظهر ضعف ما في الوسيلة و التذكرة و قد يظهر من المعتبر من استحباب جعل الخرقة علي اليد عند التنجية و عدم وجوبه. و ما في التذكرة من منع التحريم مع الحاجة. كما تري، لأن الحاجة لتنقية العورة و غسلها لا يستلزم الحاجة للمس مع إمكان وضع الخرقة.

مع عدم صلوح ذلك للخروج عن ظاهر الصحيح.

هذا، و في صحيح ابن مسكان: «أحب لمن غسل الميت أن يلف علي يده الخرقة حين يغسله» «3». و في الرضوي: «و يكون الغاسل علي يده خرقة» «4».

و مقتضاهما استحباب التغسيل مع الخرقة حتي في غير العورة. و به صرح في الدروس و المستند. و لم أعثر علي موافق لهما، بل صرح بإلقائها بعد غسل الفرج في المقنعة و المراسم، و في الوسيلة باستحباب غسل ما عدا العورة بدونها، بل ظاهر

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(2) الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 6 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) مستدرك الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 399

______________________________

التذكرة وجوبه، حيث قال: «عملا بالأصل». و كأنه لأن مقتضي القاعدة تنجس الخرقة بملاقاة بدن الميت فيمتنع تغسيله بها.

لكن مقتضي الصحيح العفو عن النجاسة المذكورة و عدم مانعيتها من التغسيل، و لا موجب لرفع اليد عنه بعد ما أشرنا إليه آنفا من عدم موهنية إعراضهم عن الحديث له مع صحته، و عدم جبر عملهم به مع ضعفه، في المستحبات و المكروهات.

و منها: إضافة الذريرة للكافور في ماء الغسلة الثانية،

كما يظهر من المنتهي، لقوله عليه السّلام في صحيح ابن مسكان: «ثم اغسله علي أثر ذلك غسلة أخري بماء و كافور و ذريرة إن كانت» «1».

كما أن في خبر مغيرة الوارد في تغسيل النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «و الثانية بثلاثة مثاقيل من كافور و مثقال من مسك» «2». و لا بأس بالعمل بهما إذا لم يخرج الماء بإضافة الذريرة أو المسك عن كونه ماء كافور، و إلّا أشكل بظهور النصوص الكثيرة المعول عليها عند الأصحاب في اعتبار ذلك، بل هو المجمع عليه بينهم.

و مثله ما قد يستظهر من صحيح الكاهلي من إضافة الحرض للسدر في ماء الغسلة الأولي، لقوله عليه السّلام فيه: «ثم أبدأ بفرجه بماء السدر و الحرض فاغسله ثلاث غسلات و أكثر من الماء فامسح بطنه مسحا رفيقا ثم تحول إلي رأسه و ابدأ بشقه الأيمن … » «3»، حيث لم ينبه فيه إلي الاقتصار علي السدر في ماء الغسلة الأولي بعد غسل الفرج به و بالاشنان. و قد يعتضد بما في صحيح الفضل «4» من الاقتصار فيه علي الحرض، بحمله علي استحباب جعله مع السدر جمعا بين جميع النصوص. فإن ذلك كله مخالف لظاهر بقية النصوص المعول عليها من الاقتصار علي ماء السدر. إلّا أن لا يخرج بإضافة الحرض عن كونه ماء سدر. فتأمل.

و منها: نفض رأسه لتنظيف أنفه،

كما نبه له في المنتهي، لما في موثق عمار من قوله عليه السّلام بعد ذكر الغسلتين الأوليين: «ثم ميل برأسه شيئا فتنفضه حتي يخرج من منخره ما خرج» «5».

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 11.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 9.

(5) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 400

و منها: غسله بست أو سبع قرب،

______________________________

علي ما تقدم الكلام فيه في تحديد ماء الغسل، في أوائل الكلام في كيفيته.

و منها: غسل الغاسل يديه،

كما صرح به جماعة علي اختلاف في تفصيله، بل ادعي بعضهم الإجماع. كما صرح به في العروة الوثقي بغسل رجليه إلي الركبتين إذا أراد أن يكفنه.

أما النصوص ففي مرسل يونس الأمر بعد كل من الغسلين الأولين بغسل الغاسل يديه إلي المرفقين «1» و في صحيح محمد بن مسلم: «يغسله ثم يغسل يديه من العاتق ثم يلبسه أكفانه» «2» و في صحيح يعقوب بن يقطين: «ثم يغسل الذي غسله يده قبل أن يكفنه إلي المنكبين ثلاث مرات … » «3». و في موثق عمار: «ثم تغسل يديك إلي المرافق و رجليك ثم تكفنه» «4» و مقتضي الجمع بينها استحباب غسل اليدين بين الغسلين الأولين، و بين الغسلين الأخيرين إلي المرفقين مرة واحدة، عملا بالمرسل، و كذا بين التغسيل و التكفين عملا بالموثق.

و أفضل من الأخير غسلهما إلي المنكبين مرة واحدة عملا بصحيح محمد بن مسلم ثم ثلاثا عملا بصحيح يعقوب. كما أن مقتضي الموثق استحباب غسل الرجلين إلي الركبتين بين التغسيل و التكفين.

هذا، كله بناء علي حمل النصوص علي الاستحباب، للمفروغية عن طهارة اليدين تبعا، فإن تم و إلّا لزم حملها علي الوجوب لتطهيرها من النجاسة الحاصلة من مماسة بدن الميت قبل إكمال التغسيل و من إصابة ماء غسله، و إن عفي عن نجاستها في أثناء كل غسلة بنحو لا يضر إصابتها له حينه. و ربما يأتي الكلام في ذلك في مبحث الطهارة بالتبعية.

و منها: وضوء الغاسل إذا كان جنبا،

كما في الفقيه. لحديث شهاب بن عبد ربه:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب أ يغسل الميت، أو من غسل ميتا أله [فله] أن يأتي أهله ثم يغتسل؟ قال: هما سواء، و لا بأس بذلك، اذ كان جنبا غسل يديه و توضأ

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 1 من أبواب غسل المس حديث: 1.

(3) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(4) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

ص: 401

______________________________

و غسل الميت و هو جنب، و إن غسل ميتا ثم أتي أهله توضأ ثم أتي أهله، و يجزيه غسل واحد لهما» «1».

و منها: غسل الأواني،

من ماء كل غسلة للغسلة اللاحقة، كما نبه له بعضهم.

و تضمنه مرسل يونس «2» المحمول علي الاستحباب قطعا، لاستهلاك ما يتبقي في الإناء من الخليط في ماء الغسلة اللاحقة، و لخلو بقية النصوص عن التنبيه له، مع شدة الحاجة إليه لو كان واجبا.

و منها: الدعاء بالمأثور،

كما نبه له بعضهم. و في صحيح إبراهيم بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: ما من مؤمن يغسل ميتا مؤمنا و يقول و هو يغسله: يا رب عفوك عفوك، إلّا عفا اللّه عنه» «3»، و في معتبر سعد الاسكاف عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: أيما مؤمن غسل مؤمنا فقال إذا قلبه: اللهم [إن] هذا بدن عبدك المؤمن قد أخرجت روحه منه و فرقت بينهما فعفوك عفوك عفوك، إلّا غفر اللّه له ذنوب سنة إلّا الكبائر» «4».

و منها: كتم عيب الميت.

كما في المعتبر و العروة الوثقي. و كأنه لصحيح سعد ابن طريف عن أبي جعفر عليه السّلام: «قال: من غسل ميتا فادي فيه الأمانة غفر له. قلت:

و كيف يؤدي فيه الأمانة؟ قال: لا يخبر بما يري [رأي]» «5»، و نحو حديث عبد اللّه ابن سنان «6»، و زاد في مرسل الصدوق: «وحده إلي أن يدفن الميت» «7». بدعوي: أن بيان الثواب ظاهر في الاستحباب.

لكن تطبيق عنوان أداء الأمانة ظاهر في حرمة الإبداء. و مجرد بيان ترتب الثواب أعم من الاستحباب مع أن ظاهر النصوص كون الكتم شرطا في ترتب الثواب علي التغسيل الذي يستحب المباشرة فيه عينا، لا أن الثواب عليه بنفسه، فهو ظاهر أو مشعر بأن الإبداء من سنخ المانع من ترتب الثواب علي التغسيل أو المحبط له، و ذلك مناسب لتحريمه، كما هو كالصريح من النبوي: «من غسل ميتا فأدي فيه الأمانة كان له بكل شعرة منه عتق رقبة، و رفع له مائة درجة. قيل: يا رسول اللّه و كيف يؤدي

______________________________

(1) الوسائل باب: 34 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) الوسائل باب: 7 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(4) الوسائل باب: 7 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(5) الوسائل باب: 8 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(6) الوسائل باب: 8 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(7) الوسائل باب: 8 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 402

و ذكروا أنه يكره إقعاده حال الغسل (1) و ترجيل شعره،

______________________________

فيه الأمانة؟ قال: يستر عورته، و يستر شينه، و إن لم يستر عورته و شينه حبط أجره و كشفت عورته في الدنيا و الآخرة» «1».

و من هنا لا يبعد البناء علي حرمة إبداء كل ما يكون إبداؤه نقصا علي الميت و شينا له عرفا، كما يظهر من الوسائل، و إن لم يبلغ مرتبة الهتك و التوهين اللذين لا إشكال في حرمتهما لا من جهة نصوص المقام.

بل لا يبعد حرمة إبداء ما كان الميت في حياته مهتما بستره، بحيث لا يرضي بظهوره حتي بعد الموت، لغرض خاص، و إن كان هو تخيل منافاة ظهوره لكرامته و لم يكن مخلا بها عرفا. كل ذلك عملا بظاهر تطبيق الأمانة في نصوص المقام، حيث لا يبعد كون مصحح تطبيقها عدم تيسر اطلاع المغسل علي العيب لو لا التغسيل، فتسليطه عليه من سنخ الاستئمان علي السر منه تعالي.

نعم، ما لا يهتم الميت بستره لا يبعد جواز إبدائه إذا لم يكن موهنا للميت، لانصراف النصوص عنه.

هذا، و مقتضي إطلاق النصوص عموم ما ينبغي ستره لغير العيوب البدنية، كخروج القذر من جوفه و نحوه مما يوجب شينه، حتي ما يتجدد بعد الموت. و لعله إليه يرجع التحديد المتقدم في مرسل الصدوق. و إلّا فمن البعيد رجوعه لوجوب الكتمان، لبعد خصوصية حال ما قبل الدفن فيه. كما لا يبعد أن يستفاد من النصوص تبعا مرجوحية كثرة المطلعين علي الميت حال تغسيله و رجحان الاقتصار علي من يحتاج إليه للتغسيل و نحوه. و كذا حرمة إبداء غير المغسل لو اطلع علي الأمر المستور، لإلغاء خصوصية المغسل عرفا، و قرب كون ذكره لغلبة تعرضه للاطلاع. فلاحظ.

و اللّه سبحانه العالم.

مكروهات التغسيل
اشارة

(1) كما صرح به جماعة كثيرة، و في الحدائق أنه المشهور، و في كشف اللثام «قطع به معظم الأصحاب» و في الخلاف أن عليه إجماع الفرقة و عملهم، و نسبه في

______________________________

(1) الوسائل باب: 8 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 403

______________________________

التذكرة لعلمائنا. لما في صحيح الكاهلي: «و إياك أن تقعده أو تغمز بطنه … » «1».

و لما ذكره غير واحد من أنه مؤذ للميت و مناف للرفق به المأمور به عموما و خصوصا في الميت. لكن الثاني ممنوع و الأول معارض بصحيح الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن [غسل] الميت. فقال: أقعده و اغمز بطنه غمزا رفيقا … » «2». بل في المدارك: «و قد ورد في عدة روايات الأمر بإقعاده» و إن لم أعثر عاجلا علي غير صحيح الفضل.

هذا، و قد قال في كشف اللثام بعد ذكر صحيح الفضل: «و حمل علي نصب رأسه شيئا، كما قال عليه السّلام في خبر عمار: «و تنصب رأسه و لحيته شيئا ثم يعصر بطنه».

و يجوز كونه بمعني اخدمه، و أن يكون بكسر الهمزة من قعد له إذا ترصده، كقوله تعالي: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. لكن الأول مخالف للظاهر جدا.

و ما في حديث عمار و إن ورد كما نقله في المطبوع حديثا من التهذيب، إلّا أنه ورد في الوسائل و الحدائق نقلا عنه بالضاد المعجمة. و لعل المراد به الكناية عن إخراج ما تجمع في الرأس و اللحية من ماء التغسيل، لأن نضوب الماء ذهابه في الأرض، كما يناسبه عطف اللحية علي الرأس، إذ لو أريد به ما ذكره لم يحسن العطف، حيث يكون المراد بالرأس تمام العضو.

و الثاني و إن نقل في اللغة من معاني أقعد، ففي لسان العرب: «و يقال: قعدت الرجل و أقعدته أي خدمته، و أنا مقعد له و مقعّد، و أنشد: تخذها سرية تقعده. و قال الآخر:

و ليس لي مقعد في البيت يقعدني و لا سوام و لا من فضة كيس

إلّا أن الظاهر أنه مجازي بلحاظ ملازمة خدمة الشخص لراحته المناسبة لقعوده، و يبعد الحمل عليه في المقام لخلوه عن المناسبة.

و الثالث لا يناسب تعدية الفعل للميت بنفسه في الحديث، لا باللام كما في الآية الشريفة. و بالجملة: ليست الوجوه المذكورة مقبولة عرفا في مقام الجمع بين الحديثين. و مثلها حمل صحيح الفضل علي بيان الجواز. فالظاهر استحكام التعارض

______________________________

(1) الوسائل باب 2 من أبواب غسل الميت حديث 5.

(2) الوسائل باب 2 من أبواب غسل الميت حديث 5.

ص: 404

و قص أظافره (1)

______________________________

بين الصحيحين.

و من ثم يتعين ما في التهذيبين و غيرهما من طرح صحيح الفضل لموافقته للعامة، فقد حكي في الخلاف استحباب إقعاد الميت عن جميع فقهائهم، و نسبه للجمهور في المنتهي، كما نسب في المعتبر الخلاف في الكراهة لجميع فقهائهم. و لا وجه مع ذلك لما في المعتبر من أنه لا يبعد العمل بذلك، و لا معني لتنزيله علي التقية.

هذا، و عن ابن سعيد النص علي تحريم إقعاد الميت، و ظاهر الغنية الإجماع علي عدم جوازه. و لا يبعد تنزيل كلامهما علي الكراهة. و إلّا أشكل ببعد خفاء ذلك علي الأصحاب مع شيوع الابتلاء به، حتي لم يتعرضوا لاحتمال التحريم، فضلا عن أن يفتوا به. و لو لا ذلك كان المتعين البناء علي الحرمة، عملا بظاهر صحيح الكاهلي بعد سقوط صحيح الفضل بالمعارضة و عدم حمله علي بيان الجواز، كما تقدم.

ثم إنه اقتصر في الخلاف في كراهة الاقعاد علي حال التغسيل. و أطلق في المعتبر و الشرائع و القواعد و غيرها، و إن ذكروه في حال التغسيل. بل صرح في كشف اللثام بالتعميم لكل حال. و يقتضيه إطلاق خبر الكاهلي. مضافا إلي بعد خصوصية الحال المذكور في الكراهة. بل لعله أولي بعدمها، لكونه في معرض الحاجة له. فلاحظ.

(1) تعرض الأصحاب لهذين و لما يأتي من حلق الرأس و العانة و قص الشارب و تخليل الظفر، و لنتف الابط و الختان و نحوها، و يظهر من جملة من كلماتهم المفروغية عن اتحاد حكم الكل أو الجل و إن اختصت الأدلة بالبعض، و إن كان قد يظهر من بعضها الاختلاف بينها فيه.

و كيف كان، ففي المقنعة: «و لا يجوز أن يقص شي ء من شعر الميت و لا من أظفاره» و زاد في المبسوط و النهاية و السرائر: «و لا يسرح رأسه و لا لحيته»، و قريب منه في إشارة السبق مع زيادة الختان، و حرم في محكي الجامع قص الظفر و تسريح الرأس و اللحية، و زاد في الوسيلة قص الشعر و حلقه.

و في الخلاف: «لا يجوز تسريح لحيته كثيفة كانت أو خفيفة.. دليلنا إجماع

ص: 405

______________________________

الفرقة»، ثم قال: «لا يجوز تقليم أظافير الميت و لا تنظيفها من الوسخ بالخلال …

دليلنا الإجماع المتردد»، ثم قال: «حلق شعر العانة و الابط و حف الشارب و تقليم الأظفار للميت مكروه … دليلنا إجماع الفرقة»، ثم قال: «حلق رأس الميت مكروه و بدعة.. دليلنا إجماع الفرقة و طريقة الاحتياط التي قدمناها». و في الغنية: «و لا يجوز قص أظفاره و لا إزالة شي ء من شعره بدليل الإجماع المشار إليه».

لكن صرح في المعتبر و الشرائع و النافع و القواعد و الإرشاد بكراهة ترجيل شعره و قص أظفاره، و اليه يرجع ما في اللمعة من استحباب تركهما، و ادعي في المعتبر الإجماع عليه، و نسبه في كشف اللثام إلي الأكثر، و في جامع المقاصد و الروض إلي المشهور بعد أن زادا عليه تنظيف أظفاره من الوسخ بالخلال، و الحق بهما في المعتبر حلق الرأس و العانة و الابط و حف الشارب و تسريح اللحية، و في الدروس:

«يكره … قص أظفاره و تنظيفها بالخلال و تسريح لحيته و رأسه … و كذا حلق الرأس و العانة و الابط و حفّ الشارب».

و في التذكرة: «يكره قص أظفار الميت و ترجيل شعره. ذهب إليه علماؤنا أجمع، حتي أن الشيخ في الخلاف قال: لا يجوز تسريح اللحية. و كذا حلق العانة و نتف الإبط و حف الشارب مكروه عند علمائنا أجمع … و قال أحمد بالجواز … فروع:

أ: لا يحلق رأس الميت عند علمائنا. و قال الشيخ انه بدعة … ب: يكره تسريح اللحية و إن كانت ملبدة … لأدائه إلي نتف شعره … ج: لو لم يكن الميت مختتنا لم يختن بعد موته … د: ينبغي إخراج الوسخ بين أظافره بعود لين، و إن شد عليه قطنا و يتبعها به كان أولي … ».

و في المنتهي: «قال علماؤنا: لا يجوز قص شي ء من شعر الميت و لا من ظفره و لا يسرح رأسه و لا لحيته … لنا: ما رواه الشيخ في الحسن عن ابن أبي عمير … فروع:

الأول: حلق العانة عندنا مكروه … لنا ما تقدم، و لأن أخذها إنما يكون بعد الإشراف علي عورة الميت و هو حرام … الثاني: لا فرق بين أن يكون الأظفار طويلة و قصيرة و بين أن يكون تحتها وسخ أو لا في كراهية القص … الرابع: نتف الإبط مكروه، لما تقدم … الخامس: لا يجوز حلق رأس الميت … لنا: ما تقدم … السادس:

ص: 406

______________________________

لا يجوز ختن الميت إذا لم يكن مختونا بالإجماع، و لما تقدم … ». و من جميع ذلك يظهر استحكام الخلاف بينهم.

و أما ما في الجواهر من أن دعاوي الإجماع المتقدمة علي التحريم من الخلاف و المنتهي يحتمل تنزيلها علي شدة الكراهة، بقرينة التعبير بالكراهة في بعض كلماتهما الأخري المتقدمة، كما يحتمل مثل ذلك في دعوي الغنية. فلا تحرز دعوي الإجماع علي التحريم، و لا تبقي إلّا دعواه من المعتبر و التذكرة علي الكراهة المعتضدة بالشهرة.

و لأجله يمكن رفع اليد عن ظهور بعض النصوص الآتية في الحرمة. فهو كما تري لا يناسب بقية فقرات كلامهما. بل التأمل في بعض فقرات كلام التذكرة و المنتهي و غيرها، و نقلهم للخلاف، و استدلالهم، يشهد بأن المراد من الكراهة في معقد الإجماع ما يعم الحرمة في قبال الإباحة أو المشروعية المحكية عن العامة.

علي أنه لو تم إرادتهم الكراهة المصطلحة فلا مجال للتعويل علي دعوي الإجماع المذكورة بعد ظهور القول بالتحريم من متقدمي الأصحاب. و ليست الشهرة المدعاة- لو تمت- إلّا بين المتأخرين الذين لا تصلح شهرتهم للطعن في النصوص بالهجر، و لا للقرينية علي مفاد النصوص و صرفها علي ظاهرها. و من هنا لا مجال للتعويل علي أمثال ذلك، بل يلزم النظر في مفاد النصوص.

و يدل علي الحرمة منها موثق عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الميت يكون عليه الشعر فيحلق عنه أو يقلم [ظفره] قال: لا يمس منه شي ء اغسله و ادفنه» «1». و حديث أبي الجارود «2»: «أنه سأل أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يتوفي أ نقلم أظافيره و ننتف ابطاه و نحلق عانته إن طالت به من المرض؟ فقال: لا» «3»،

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(2) لا يبعد كونه موثقا، إذ ليس في سنده إلّا أبو الجارود الذي قيل عنه انه تبري و ورد فيه بعض الذم، لكن الذم- مع ضعف الطريق الذي روي به- لا ينافي وثاقته المستفادة من وقوعه في إسناد كتابي كامل الزيارة و تفسير القمي. و ما عن المفيد من عده من الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال و الحرام و الفتيا و الأحكام الذين لا يطعن عليهم و لا طريق إلي ذم واحد منهم، مؤيدا بأن له أصلا و برواية الأجلاء عنه و اشتهار رواياته بين الأصحاب. فتأمل جيدا.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 407

______________________________

و مرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يمس من الميت شعر و لا ظفر، و إن سقط منه شي ء فاجعله في كفنه» «1».

و أما صحيح غياث أو موثقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: كره أمير المؤمنين عليه السّلام أن يحلق عانة الميت إذا غسل أو يقلم له ظفر أو يجز له شعر» «2» و موثق طلحة بن زيد عنه عليه السّلام: «قال: كره أن يقص من الميت ظفر أو يقص له شعر أو يحلق له عانة أو يغمز له مفصل» «3». فالكراهة فيهما إن لم تكن ظاهرة في نفسها في المنع- كما هو مقتضي مدلولها اللغوي- فاللازم حملها عليه بقرينة النصوص الأول. و لا أقل من عدم نهوضها بصرف النصوص الأول عن ظاهرها و هو التحريم، و لا سيما مرسل ابن أبي عمير المتضمن دفن ما ينفصل عنه معه، لظهور أن الاهتمام بدفنه معه يناسب الاهتمام بإبقائه عليه، بل هو ارتكازا من سنخ الميسور منه الذي يكشف الاهتمام به عن شدة الاهتمام التام. و منه يظهر ضعف ما في المعتبر، حيث قال: «و الذي أراه في ذلك كله الكراهية، لأن التكاليف المختصة بالميت موقوفة علي الدلالة الشرعية، و حيث لا دلالة فلا تكليف، و حيث لا منع فلا تحريم».

ثم إن مقتضي إطلاق موثق عبد الرحمن حرمة فصل كل شي ء عن الميت حتي غير الشعر و الظفر، فلا يجوز ختانه أو فصل بعض أجزاء بدنه الأخري، بل هو المستفاد من باقي النصوص بالأولوية العرفية و يظهر من المعتبر الإجماع عليه. نعم قد تقصر النصوص من مثل ترجيل الشعر و تمشيطه، لأن مرسل ابن أبي عمير و إن تضمنا النهي عن مس الشعر و الظفر و أي شي ء منه، إلّا أنه لا يراد به المعني الحقيقي، فالمتيقن منه إرادة الفصل بالحلق و نحوه، لا ما يعم مثل التمشيط.

و لذا قد يحكم بكراهة ذلك احتياطا لاحتمال سقوط الشعر بسببه. اللهم إلّا أن يدعي أن حمل النهي عن المس علي الكناية عن مطلق التغيير الشامل لذلك أقرب عرفا للمعني الحقيقي من حمله علي الكناية عن خصوص الفصل و الإزالة. و من ثم لا يبعد البناء علي عموم الحرمة لذلك. و لا سيما مع احتمال سقوط شي ء بسببه، حيث قد يكون إطلاق النهي احتياطا للاحتمال المذكور. فتأمل جيدا.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 11 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

(3) الوسائل باب: 11 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

ص: 408

و جعله بين رجلي الغاسل (1)،

______________________________

هذا، و أما تخليل الأظافر فمقتضي القاعدة وجوبه لو كان مانعا من وصول الماء للظاهر الذي يجب غسله من الحي، و الظاهر أنه المراد مما في الروض من وجوبه، و جوازه لو لم يكن كذلك، لكون ما تحته من الباطن، أو لعدم بلوغه مرتبة الحجب.

بل قد يستفاد استحبابه مما تضمن الأمر بغسل المواضع التي يجتمع فيها الوسخ مبالغة في التنظيف، كغسل الرأس و اللحية برغوة السدر، و غسل الفرج بالحرض و الاشنان.

و لعله عليه أو علي الأول يحمل ما تقدم من التذكرة.

لكن تقدم من غير واحد البناء علي حرمته أو كراهته، بل يظهر من محكي الذكري منافاة ما في التذكرة للإجماع. و يشهد به قوله عليه السّلام في صحيح الكاهلي: «و لا تخلل أظفاره» «1».

و حمله علي ما يوجب فصل بعض اللحم بعيد جدا، بل لعله ممتنع عرفا. كما يبعد أيضا حمله علي خصوص ما لا يتوقف عليه وصول الماء للظاهر الذي يجب غسله من الحي. و إن كان الحمل المذكور قد يلزم جمعا مع مقتضي القاعدة. فتأمل.

و لو بني علي العمل به لزم البناء علي الحرمة، كما هو ظاهر ما تقدم من الخلاف.

و لا وجه للبناء علي الكراهة بعد مخالفتها للظاهر و مشاركتها للحرمة في مخالفة مقتضي القاعدة أو موافقته.

(1) كما صرح به جماعة، و نفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه، و اليه يرجع ما صرح به جماعة من كراهة ركوبه الذي نفي في مفتاح الكرامة وجدان الخلاف فيه. كما قد يرجع إليه ما في الغنية من استحباب أن لا يتخطاه، مدعيا عليه الإجماع. و يقتضيه مرسل عمار المتقدم في استحباب وقوف المغسل علي جانب الميت: «و لا يجعله بين رجليه في غسله … » «2». و هو- مع ضعفه في نفسه- محمول علي الكراهة، جمعا مع صحيح العلاء بن سيابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا بأس أن تجعل الميت بين رجليك

______________________________

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) المعتبر: ص 74.

ص: 409

و إرسال الماء في الكنيف (1)،

______________________________

و أن تقوم من فوقه فتغسله إذا قلبته يمينا و شمالا تضبطه برجليك كي لا يسقط لوجهه» «1». فإن جواز ذلك لأجل ضبط الميت، و عدم الأمر بضبطه بوجه آخر، و لو بتجنب تغسيله في موضع يتعرض فيه للسقوط، لا يناسب حرمته في نفسه جدا.

و منه يظهر ضعف ما في الحدائق من أن الأظهر تخصيصه بحال الضرورة و تعذر الغسل بدون ذلك، كما هو ظاهر سياق الصحيح. إذ لو أراد ثبوت الحرمة في غير حال الضرورة و ارتفاعها معها- كما هو الأنسب بما ذكره غير مرة من منع الجمع بين النهي و الترخيص بالحمل علي الكراهة- أشكل بما ذكرناه من ضعف خبر عمار الذي ينحصر به الدليل علي الحرمة، و عدم مناسبة الصحيح للحرمة في غير حال الضرورة، لعدم اختصاصه بحال الاضطرار للتغسيل بالنحو المستلزم لسقوط الميت، كما تقدم.

و لو أراد ثبوت الكراهة في غير حال الضرورة و ارتفاعها حالها، فمقتضي إطلاق مرسل عمار عموم ملاك الكراهة لحال الضرورة. و لا ينافيه الصحيح، لأن الجواز في مورده أعم من فعلية الكراهة، فضلا عن ثبوت ملاكها.

نعم، لا مجال لفعلية الكراهة مع الضرورة و فرض وجوب التغسيل. لكنه بحكم العقل، لا للجمع بين المرسل و الصحيح.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة من الأصحاب، كما تقدم عند الكلام في استحباب الحفيرة، و تقدم هناك دعوي الإجماع من جامع المقاصد و محكي الذكري علي كراهة الكنيف دون البالوعة. كما تقدم الاستدلال عليه بمكاتبة الصفار إلي أبي محمد عليه السّلام المروية في الصحيح: «هل يجوز أن يغسل الميت و ماؤه الذي يصب عليه يدخل إلي بئر كنيف؟ أو الرجل يتوضأ وضوء الصلاة أن ينصب ماء وضوئه في كنيف؟ فوقع عليه السّلام:

يكون ذلك في بلاليع» «2».

لكن في الفقيه: «و لا يجوز أن يدخل الماء الذي ينصب عن الميت من غسله في بئر كنيف … ». و هو موافق لظاهر المكاتبة و الرضوي الآتي في عدم الجواز. و قد

______________________________

(1) الوسائل باب: 33 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الوسائل باب: 29 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 410

و حلق رأسه أو عانته (1)، و قص شاربه (2)، و تخليل ظفره (3)،

______________________________

يظهر من الحدائق الميل إليه. لكن لا مجال للبناء عليه بعد ظهور مفروغية الأصحاب عن الجواز في المقام و في الوضوء، حتي لم يذكره جماعة كثيرة في الوضوء مع شدة الحاجة للتنبيه عليه لو كان محرما، و امتناع خطئهم عادة في حكمه مع كثرة الابتلاء به في المقامين، خصوصا الثاني، و ذلك كاف في حمل المكاتبة علي الكراهة. بل قد تكون فتوي الصدوق بها و تعبيره بعدم الجواز لمطابقة مضمون النص، لا لفتواه بالحرمة.

و كأنه علي ذلك يبتني ما في المعتبر من نسبة القول بالكراهة له.

ثم إنه تقدم إن مقتضي النص عدم كراهة البالوعة، و في المسالك: «و المراد بها بالوعة الماء كالمطر و نحوه، لا بالوعة البول، فإنها كنيف» و نحوه في الروض. و هو قد يتم فيما يتخذ للبول و يعد له- كما لعله ظاهره- اذ لو لم يكن كنيفا عرفا فمناسبة الحكم و الموضوع قد تقضي بعموم الحكم له. فتأمل. و أما ما يتفق وقوع البول فيه من دون أن يعد له فلا وجه لإلحاقه به.

نعم، في الرضوي: «و لا يجوز أن يدخل الماء ما ينصب عن الميت من غسل في كنيف «1» و لكن يجوز أن يدخل في بلاليع لا يبال فيها أو حفيرة» لكن تقدم غير مرة الإشكال فيه، و كذا الحال فيما يتفق وقوع الغائط فيه. و أوضح منهما ما يقع فيه غير البول و الغائط من النجاسات، و لا سيما مع قلة البلاليع الخالية عنها. و من ثم استظهر في كشف اللثام عموم البالوعة لما يشمل عليها، و وافقه صاحب الجواهر و الفقيه الهمداني «قدس سرهما».

(1) تقدم الكلام فيه عند الكلام في ترجيل الشعر و قص الأظافر، و تقدم أن الأقرب التحريم.

(2) الحال فيه كما قبله.

(3) تقدم الكلام فيه عند الكلام في ترجيل الشعر و قص الأظافر.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 25 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 411

و غسله بالماء الساخن بالنار (1) أو مطلقا (2)، إلّا مع الاضطرار (3)

______________________________

(1) كما في المقنعة و النهاية و الخلاف و الغنية و الوسيلة و التذكرة و المنتهي و غيرها. بل في المنتهي و الخلاف الإجماع عليه. و يقتضيه صحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السّلام: لا يسخن الماء للميت» «1»، و معتبر يعقوب بن يزيد عن عدة من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: لا يسخن للميت الماء، و لا تعجل له النار» «2» و مرسل عبد اللّه بن المغيرة عنهما عليهما السّلام: «لا يقرب الميت ماء حميما» «3». و في المنتهي: «و لأن الماء البارد يفيده استمساكا و الحار يفيده استرخاء، فكان الأول أولي».

و مقتضي إطلاق النص و الفتوي عموم الكراهة لغير صورة الغليان، إذ بعد عدم إمكان استعمال الماء بدرجة الغليان، فكما يتحقق الغرض بتبريد الماء بعد غليانه يحصل بكسر برودته بالماء المغلي و بتسخينه بدون الغليان، و لعله الأكثر. و معه لا وجه لما في المراسم من الاقتصار علي النهي عن أن يغلي الماء للغسل. كما أن مقتضي النص و صريح بعضهم العموم لغير التغسيل من مورد الحاجة لاستعمال الماء للميت.

نعم، لا إشكال في قصوره أو انصرافه عن صورة برودة الماء المسخن حين مماسته للميت و اختصاصه بصورة مماسته له قبل أن يبرد، كما لعله ظاهر.

(2) كما هو مقتضي إطلاق غير واحد. و يقتضيه إطلاق الصحيح و المرسل. بل لا يبعد فهم عدم الخصوصية للنار عرفا من حديث يعقوب.

(3) فقد استثني في الخلاف ما إذا كان علي الميت نجاسة لا يقلعها إلّا الماء الحار، كما استثني هو و جماعة شدة البرد الذي يخاف منه الغاسل علي نفسه، و ظاهره الإجماع علي زوال الكراهة حينئذ، بل صرح في المنتهي بعدم الخلاف فيه في الثاني.

و يقتضيه فيه مرسل الصدوق، حيث قال في الفقيه: «و روي في حديث آخر: إلّا أن يكون شتاء باردا، فتوقي الميت مما توقي منه نفسك» «4». و ظاهره ارتفاع ملاك الكراهة حينئذ و حصول جهة الرجحان، بخلاف الأول و غيره من موارد الضرورة، حيث ترتفع فعلية الكراهة مع بقاء ملاكها.

______________________________

(1) الوسائل باب: 10 من أبواب غسل الميت حديث: 1، 3.

(2) الوسائل باب: 10 من أبواب غسل الميت حديث: 1، 3.

(3) الوسائل باب: 10 من أبواب غسل الميت حديث: 1، 3.

(4) الوسائل باب: 10 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 412

و التخطي عليه حين التغسيل (1).

______________________________

هذا، و في المقنعة الاقتصار حينئذ علي التسخين قليلا، و هو المناسب لقوله في المرسل: «فتوقي الميت..» لظهوره في تعلق الغرض بتجنيب الميت البرودة، فيقتصر عليه، عملا بإطلاق النصوص الأول.

كما قد يستفاد أيضا من الرضوي: «و لا تسخن له ماء إلّا أن يكون ماء باردا جدا، فتوقي الميت مما توقي منه نفسك، و لا يكون الماء حارا شديد الحرارة، و ليكن فاترا» «1». لكن ظاهر النهي عن شدة برودة الماء و لو مع حرارة الجو.

(1) لم أعثر عاجلا علي من تعرض له عدا ما تقدم من الغنية من الإجماع علي استحباب أن لا يتخطاه حين التغسيل. و قد تقدم احتمال رجوعه إلي كراهة جعله بين رجلي الغاسل. و لو أريد منه أمرا في قباله فقد يستفاد من دليل ذلك، حيث يناسب كون الملاك فيه منافاته لتكريم الميت، و هو مشترك بين الأمرين. فلاحظ.

و بقي من المكروهات التي عثرت عليها عاجلا في كلام الأصحاب الوقوف بين رجلي الميت، حيث ذكره في الوسيلة، و لم أعثر علي مستنده. و لعله لمنافاته لتكريم الميت، و إن كان لا يخلو عن خفاء. كما بقي مكروهات أخر يظهر الكلام فيها مما تقدم، كغمز مفاصل الميت، و التعنيف به، اللذين يظهر حالهما مما تقدم في استحباب تليين أصابعه، و مسح بطنه في الغسلة الأخيرة و مسح بطن الحامل مطلقا، اللذين تقدم الكلام فيهما في استحباب مسح بطن الميت. و غيرها. فلتلحظ.

تتميم:

صرح في المقنعة و المبسوط و النهاية و السرائر بأنه إذا سقط شي ء من شعر الميت أو ظفره وضع معه في كفنه، و ظاهر المعتبر و غيره المفروغية عنه، و ظاهرهم الوجوب كغيرهم ممن صرح بدفن ما يسقط من لحمه، كما في المقنع أو جميع ما يسقط منه، كما في الدروس.

كما أن الظاهر بناء من اقتصر علي الشعر و الظفر علي العموم للحم و غيره بالأولوية. بل صرح بوجوب دفن كل ما يسقط من الميت في الشرائع و المنتهي

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب: 10 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 413

______________________________

و القواعد و الإرشاد، و عن الذخيرة: «لا أعلم فيه خلافا».

و في التذكرة: «و إن سقط من الميت شي ء غسل و جعل معه في أكفانه بإجماع العلماء، لأن جمع أجزاء الميت في موضع واحد أولي»، و نحوه عن نهاية الأحكام، و عن جماعة ممن تأخر عنه أنه فهم منه الوجوب. لكن التعليل فيه قد يشعر بالاستحباب الذي حكي عن الجامع النص عليه.

و الأولي الاستدلال للوجوب بظاهر قوله عليه السّلام في مرسل ابن أبي عمير المتقدم في حكم ترجيل الشعر و قص الظفر: «و إن سقط منه شي ء فاجعله في كفنه» «1».

و استدل له في المنتهي بأنه جزء منه، فكان له حكم الكل، لاستوائهما في صفة الموت. و هو كما تري، لعدم الإطلاق لدليل وجوب أفعال التجهيز يشمل جميع أجزاء الميت بعد انفصالها، خصوصا مثل الشعر مما لا تحله الحياة و يعد من التوابع.

و ما ورد في جريان بعض أحكامه أو تمامها علي ما ينقطع منه «2» لو تم يقصر أو ينصرف عن الأجزاء الصغيرة، فضلا عن مثل الشعر فالعمدة مرسل ابن أبي عمير الذي تقدم غير مرة حجية مراسيله. و لا سيما مع قرب استناد جملة ممن تقدم إليه و تعويلهم عليه.

هذا، و مقتضي ما في التذكرة التغسيل أيضا، و به صرح في جامع المقاصد و الروض و المسالك و الجواهر.

و قد يستدل بما تقدم من المنتهي، الذي قد يستفاد من المرسل الجري عليه، و أن الحكم فيه بجعل الساقط في الكفن إنما هو لأنه جزء من الميت يلحقه حكمه، و ذلك يقتضي تغسيله مثله. لكن تقدم الإشكال فيما تقدم من المنتهي. و ما في المرسل قد يبتني علي مطلوبية ضم ما يسقط من الميت إليه لأنه إلي إبقائه علي حاله الذي هو المطلوب الأولي. بل لما كان مقتضي إلحاق أجزاء الميت المنفصلة به في الأحكام المحافظة علي الترتيب المعتبر في تغسيله لو كان متصلا. و هو محتاج إلي عناية مغفول عنها، فالسكوت عن التنبيه إليه فيه موجب لظهوره في عدم ابتناء جعله في الكفن علي ذلك.

______________________________

(1) الوسائل باب: 11 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) راجع الوسائل باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة.

ص: 414

______________________________

نعم، قد يدعي وجوب تجنيبه النجاسة الخبثية لو طرأت عليه، لمناسبة ذلك لحال الميت بعد الغسل. فتأمل جيدا.

بقي شي ء،

و هو أن في خبر عبد الحميد بن أبي جعفر الفراء: «أن أبا جعفر عليه السّلام انقلع ضرس من أضراسه فوضعه في كفه، ثم قال: الحمد للّه، ثم قال: يا جعفر إذا أنت دفنتني فادفنه معي، ثم انقلع أيضا آخر فوضعه علي كفه ثم قال: الحمد للّه، يا جعفر إذا أنا مت فادفنه معي» «1». و مقتضاه استحباب دفن سن الانسان المقلوع حال حياته معه بعد وفاته.

لكن ظاهر بعض النصوص الأمر بدفنه حين قلعه، كالصحيح عن عبد اللّه بن الحسين بن زيد عن آبائه عن علي عليه السّلام عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أمرنا بدفن أربعة: الشعر و السن و الظفر و الدم» «2» و غيره.

و لعل مقتضي الجمع العرفي البناء علي أفضلية الأول، لأن وصيته عليه السّلام بدفنه معه مع كون دفنه حين قلعه أيسر ظاهرا في أفضلية دفنه معه. فلاحظ. و اللّه سبحانه و تعالي العالم.

و الحمد للّه رب العالمين.

انتهي الكلام في أحكام غسل الميت ليلة الأحد العاشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث بعد الألف و الأربعمائة للهجرة النبوية علي صاحبها و آله أفضل الصلاة و أزكي التحية، في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف علي مشرفه أفضل الصلاة و السلام، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد الطباطبائي الحكيم) عفي عنه.

كما انتهي تبيضه بعد تدريسه عصر اليوم المذكور بقلم مؤلفه حامدا مصليا مسلما.

______________________________

(1) الوسائل باب: 77 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

(2) الوسائل باب: 77 من أبواب آداب الحمام حديث: 4.

ص: 415

ص: 416

الفهرست

المقصد الخامس في غسل الأموات و فيه فصول 5

(الفصل الأول): في أحكام الاحتضار 5

الكلام في وجوب الاستقبال بالميت حال الاحتضار 5

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مصباح المنهاج - كتاب الطهارة، 6 جلد، مؤسسة المنار، قم - ايران، ه ق مصباح المنهاج - كتاب الطهارة؛ ج 6، ص: 417

وقت الاستقبال و مدته 13

الاستقبال بعد الموت 14

حكم الكافر و المخالف 17

لو اشتبهت القبلة 18

كيفية الاستقبال. مع الكلام فيما لو تعذرت الكيفية المطلوبة 19

كيفية الاستقبال بعد التغسيل و حكمه 20

الكلام فيمن يكلف بتحقيق الاستقبال، و أنه يعم المحتضر نفسه 21

الكلام في وجوب استئذان الولي 22

استحباب نقل المحتضر إلي المصلي إن اشتد عليه النزع أو مطلقا 23

استحباب التلقين، مع الكلام فيما يلقن به 27

تحديد كلمات الفرج 30

ما يكره حال الاحتضار. و منه حضور الجنب و الحائض 34

تحقيق حال علي بن حمزة البطائني 34

يكره مس المحتضر حال النزع 36

ما يستحب بعد الموت 36

الكلام في تعجيل التجهيز، و في منافاته لإعلام المؤمنين بموته 39

الكلام فيمن اشتبه موته 42

علامات الموت 44

ص: 417

الكلام في مدة الانتظار مع الاشتباه 45

ما يكره بعد الموت 46

(الفصل الثاني): في الغسل 49

وجوب التجهيز كفائي 49

الكلام في وجوب إزالة النجاسة عن بدن الميت قبل تغسيله 53

هل يعتبر غسل النجاسة بالنحو المعتبر في التطهير منها 56

وجوب الأغسال الثلاثة 58

الكلام في وجوب الخليطين السدر في الغسلة الأولي و الكافور في الثانية 61

الكلام في وجوب الترتيب في كل غسلة 63

الكلام في خصوصية تقديم الرأس علي البدن 69

البدء بالميامن 69

إلحاق الرقبة بالرأس 70

الكلام في تغسيل الميت بالرمس في الماء 70

الكلام في عموم تنزيل غسل الميت غسل الجنابة 71

مقدار ماء غسل الميت 73

وجوب النية في غسل الميت 76

هل يكفي نية واحدة للأغسال الثلاثة؟ 81

الكلام فيمن ينوي الغسل 84

الكلام في تعدد الغاسل 84

وجوب الرجوع للولي في أحكام الميت 85

الكلام في أن الولاية علي نحو الوجوب أو الاستحباب 88

الكلام في ولاية من له المباشرة 89

الكلام في أن مرجع الولاية وجوب مراجعة الولي أو عدم جواز مزاحمته 89

الكلام في منافاة الولاية للوجوب الكفائي 91

الكلام في عموم الولاية لصلاة المنفرد و المأموم 91

الكلام في وجوب متابعة الولي لو طلب صورة خاصة أو من شخص خاص 93

الولاية في المستحبات 94

لا تسقط الولاية بالإسقاط 94

ص: 418

الكلام في صحة العمل الواقع بدون إذن الولي 95

الكلام في ولاية الزوج علي زوجته 96

عموم الحكم للتمتع بها 97

الكلام في عموم الحكم للأمة 99

لا فرق بين المدخول بها و غيرها 100

الكلام في المطلقة رجعيا. مع الكلام في عموم جريان أحكام الزوجة عليها 100

الكلام فيما لو كان الزوج رقا 101

لا ولاية للزوجة علي زوجها 102

ولاية المالك علي مملوكه 103

ولاية الأرحام. مع الكلام في الآية الشريفة 103

الكلام في أولوية الإمام 114

الكلام فيما لو تعدد الأولياء من طبقة واحدة 116

فروع تعيين الأولياء 117

الكلام في الصبي و إن وليه هل يقوم مقامه في الولاية؟ 119

لو انحصر الميراث بالصبي 119

الكلام في ترجيح الذكور علي الإناث 120

ترجيح أب الميت علي أولاده، علي كلام 122

الكلام في ترجيح الجد علي الإخوان 123

ترجيح الأخ من الأبوين علي الأخ من أحدهما، و الأخ من الأب علي الأخ من الأم و العم علي الخال 124

لو تعذر استئذان الولي 128

الكلام في الوصية بالتجهيز، و في تقدم الوصي علي الوارث و الحاكم 131

الوصية بمستحبات التجهيز 139

بقية شروط التغسيل من طهارة الماء و إباحته و إباحة متعلقات الغسل 140

تغسيل الميت قبل برده 141

إذا تعذر الخليطان 143

هل يقوم مقام السدر شي ء 150

إذا تعذر أحد الخليطين 151

ص: 419

إذا تيسر الخليطان بعد الغسل بالخالي منهما 151

إذا تعذر التغسيل ثلاثا 153

مقدار الخليطين 156

الكلام في الماء القراح 160

لزوم مزج الخليطين بالماء 169

الكلام في لزوم كون الكافور من جلاله الذي لم يطبخ 170

الكلام في ضم غير الكافور إليه في الغسل 172

الكلام في الغسل بالحرض 173

التيمم عند تعذر التغسيل 174

الكلام في المجدور و المحترق 180

هل يجب تعدد التيمم بدل الأغسال الثلاثة أو يكفي تيمم واحد؟ 183

هل يجب تعدد الغسل في مورد وجوب الصب من دون ذلك 184

كيفية التيمم للميت 186

الكلام في تطهير من يتيمم الميت يده 186

تحديد التعذر الذي يشرع معه التيمم 188

الكلام في وجوب تطهير بدن الميت لو تنجس بعد الغسل أو في أثنائه 189

إذا خرج من الميت بعد الغسل أو في أثنائه أحد نواقض الطهارة 192

الكلام في أخذ الأجرة علي تغسيل الميت. مع الإشارة لحال عموم الواجبات 196

الكلام في تغسيل الصبي للميت 198

اعتبار المماثلة بين الميت و المغسل في الجملة مع الكلام في أنه يبتني علي شرطيتها في صحة التغسيل أو مجرد حرمة النظر 202

تغسيل النساء الصبي، و الرجال الصبية 204

المعيار في السن علي حال السن لا حال الموت 209

الكلام في تغسيل غير المماثل للصبية و الصبي مجردا عن ثيابه 210

تغسيل أحد الزوجين للآخر، مع الكلام في جواز تجريده من ثيابه 211

نظر أحد الزوجين لعورة الآخر بعد موته 217

المعيار في الثياب التي يجب أو يستحب التغسيل فيها 218

التغسيل في الثياب ليس لشرطيتها بل لتجنب النظر 220

ص: 420

الكلام في اللمس 220

الكلام في تغسيل أحد الزوجين للآخر اختيارا 222

عموم الكلام في الزوجة للأمة و المنقطعة 225

الكلام في المطلقة الرجعية، و فيما إذا افتضت عدتها بعد الموت 226

الكلام في الزوجة الكافرة 228

الكلام في تغسيل المحارم من دون مماثلة 229

الكلام في تغسيل المحرم غير المماثل اختيارا 235

هل يجوز تجريد المحرم غير المماثل من الثياب؟ 236

الكلام في تغسيل المولي أمته 237

مستثنيات الأمة من هذا الحكم 240

تغسيل الأمة مولاها 242

من إذا اشتبه الميت و تردد بين الذكر و الأنثي 246

الكلام في نظر كل من الرجل و المرأة للخنثي و نحوه ممن يشتبه حاله 246

لو تعذر تغسيل الخنثي بالنحو المطابق للاحتياط اللازم هل ينتقل التيمم؟ 252

الكلام في تغسيل الكافر للمسلم مع الاضطرار 255

يترجح المخالف علي الكافر 264

إذا تعذر المماثل و نحوه 266

من دفن بلا تغسيل صحيح 271

تغسيل الميت المحدث بالحدث الأكبر 272

تغسيل الميت المحرم 273

المحرم الذي أفسد حجه 276

هل يجوز تغطية رأس المحرم و رجليه؟ 276

لا يغسل الكافر و من يلحق به 278

الكلام في تغسيل المخالف 278

الكلام في حكمهم بكراهة تغسيل المخالف 291

الكلام في حكم البغاة 293

كيفية تغسيل المخالف 294

الكلام في ترتيب الأثر علي تغسيل المخالف، كطهارة جسده و نحوها 299

ص: 421

الكلام في أطفال المخالفين 300

الكلام في المستضعف و مجهول الحال 300

تغسيل ولد الزنا 301

قاعدة إلحاق الولد بأبيه في الإسلام و الكفر 302

الكلام في إلحاق ولد الزنا بأبيه 304

تبعية المجنون لأبيه 306

تبعية المسبي للسابي 308

لقيط دار الإسلام 310

الكلام في سقوط غسل الشهيد، و في تحديده 312

اعتبار خروج روح الشهيد في المعركة في سقوط غسله علي كلام 318

إذا اشتبه المسلم بالكافر في المعركة 324

كيفية الصلاة مع اشتباه المسلم بالكافر 329

وجوب الصلاة علي الشهيد 330

الكلام في تكفين الشهيد 330

الكلام فيما يدفن مع الشهيد و ما ينزع منه 333

إذا كانت ثياب الشهيد مملوكة للغير 340

إذا كان الشهيد جنبا 341

عموم الحكم لأقسام الشهيد من الذكر و الأنثي و الصغير و الكبير 343

عموم الحكم لجميع أنحاء القتل 344

من وجد في المعركة و ليس به أثر القتل 344

لا يترك علي الشهيد شي ء معقود إلا حلّ 346

المرجوم و المقتص منه يقدم غسلهما و تكفينهما علي القتل 346

يجب تقديم الغسل و التكفين و لا يجوز تأخيرهما 348

لا يجب إعادة الغسل بعد الموت 350

الكلام فيمن يباشر التغسيل و التكفين، و أنه هل يعتبر الأمر به؟ 351

هل ينتقض هذا الغسل بالحدث المتخلل بينه و بين القتل؟ 353

الكلام في تداخل هذا الغسل مع غيره من الأغسال 354

الكلام فيما لو مات بسبب غير الذي غسل له 356

ص: 422

اختصاص هذه الوظيفة بالمسلم. مع الكلام في تثليث الأغسال 357

تحنيط المرجوم و المقتص منه و تكفينهما، مع الكلام في وجوب تطهير الكفن من الدم بعد القتل 359

تجب الصلاة علي المرجوم و المقتص منه بعد القتل 360

مستحبات التغسيل: وضع الميت علي مرتفع 360

وضع الميت تحت الظلال حين التغسيل 362

توجيه الميت للقبلة حين الغسل 363

نزع قميص الميت من طرف رجليه، مع الكلام في فتقه بإذن الوارث أو بدونه 365

تغسيل الميت في قميصه 367

ستر عورة الميت 367

تليين أصابع الميت و مفاصله 372

غسل رأسه برغوة السدر، مع الكلام في غسل سائر جسده 373

غسل اليدين 380

الترتيب بين شقي الرأس 382

التثليث في غسل الأعضاء 383

مسح بطن الميت، مع الكلام في تحديده و موقعه 384

مسح بطن الحامل 389

وقوف الغاسل علي جانب الميت الأيمن 390

الكلام في استحباب الحفيرة لماء الغسل 391

تنشيف الميت بعد التغسيل 392

الكلام في مشروعية وضوء الميت، و وجوبه 393

الكلام في ماء الوضوء 396

الكلام في محل الوضوء 396

مضمضة الميت و استنشاقه 397

إمرار الغاسل يده علي بدن الميت حين التغسيل 397

جعل الغاسل خرقة علي يده حين التغسيل 398

إضافة الذريرة و الحرض للكافور و السدر 400

تنظيف أنف الميت 400

ص: 423

مقدار ماء التغسيل 401

غسل الغاسل يديه و رجليه 401

وضوء الغاسل إذا كان جنبا 401

غسل الأواني بين الغسلات 402

الدعاء بالمأثور 402

كتم عيب الميت 402

مكروهات التغسيل: إقعاد الميت 403

ترجيل شعر الميت و قص أظفره و شاربه و حلق عانته و شاربه 405

تخليل الأظافر 405

ركوب الميت 409

إرسال ماء الغسل في الكنيف 410

تسخين الماء للميت 412

تخطي الميت 413

الوقوف بين رجلي الميت 413

يجب دفن ما يسقط من الميت معه 413

دفن ما يسقط من الحي 415

الفهرست 417

ص: 424

المجلد 7

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

الجزء السابع

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

(5)

ادامة المقصد الخامس: في غسل الاموات وفيه فصول

الفصل الثالث: في التكفين

يجب تكفين الميت (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين. ولعنة الله عل أعدائهم أجمعين. اللهم أعن ووفق وأرشد وسدد.

(1) بلا إشكال ظاهر، وفي الجواهر: "وهو كالتغسيل وغيره من أحكامه لا خلاف نصاً وفتوى في وجوبه" ،بل هو من الضروريات الفقهية التي قد تلحق بالضروريات الدينية. وفي معتبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام): "إنما أمر أن يكفن الميت ليلقى ربه عزوجل طاهر الجسد، لئلا تبدو عورته لمن يحمله أو يدفنه، لئلا..."(1). ويظهر من جملة من كلماتهم والنصوص المفروغية عنه.

كما أنه يظهر من جملة من النصوص الواردة في التغسيل وجوب تكفين كل من يجب تغسيله، لذكرها بعد الفراغ من بيان التغسيل(2). ومقتضاها - كإطلاق بعض النصوص - عمومه للرجل والمرأة والصبي، بل هو المستفاد من بعض النصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت وغيرها.

ص: 5

(6)

بثلاثة أثواب (1).

الصريحة الواردة في المرأة والصبي(1) وربما يستشكل في دلالة بعضها، إلا أن في الباقي كفاية. والظاهرعدم الإشكال أيضاًفي كون وجوبه كفائياً. ويظهرالوجه فيه مماتقدم في التغسيل.

(1) إجماعاً، كما في الخلاف والغنية، وما في كلام جملة من الأصحاب من نسبته للمشهور تارة وللأكثر أخرى إنما هو بلحاظ خلاف سلار حيث ذكر أن أسبغ الكفن سبع قطع، ثم خمس، ثم ثلاث، وأن الواجب قطعة واحدة. ومن ثم ادعى إجماع من عدا سلار في المعتبر ومحكي الذكرى وكشف الرموز وغيرها. وقال في الجواهر في رده:" وهو ضعيف، للإجماع المنقول مستفيضاً أو متواتراً كالسنة على خلافه".

ويشهد للمشهور جملة من النصوص، كموثق سماعة:" سألته عما يكفن به الميت. قال: ثلاثة أثواب... "(2) ومعتبر عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: الميت يكفن في ثلاثة سوى العمامة والخرقة يشد بها وركيه، لكيلا يبدو منه شيء. والخرقة والعمامة لابد منهما وليستا من الكفن"(3).

وعليه وعلى غيره مما تضمن عدم زيادة الكفن على الثلاثة من النصوص الكثيرة(4) ينزل ما تضمن عدّ الخمسة بتمامها من الكفن، كمعتبر معاوية بن وهب عنه (عليه السلام): "يكفن الميت في خمسة أثواب: قميص لا يزر عليه وإزار وخرقة يعصب بها وسطه وبرد يلف فيه وعمامة يعتم بها ويلقي فضلها على صدره"(5).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب غسل الميت حديث: 1، وباب: 22 منها حديث: 5، وباب: 2 من أبواب التكفين حديث: 5، 9، 16، 18، وباب: 14 منها حديث: 4، وباب: 25 منها حديث: 1، وباب: 26 منها حديث: 1، 2، وباب: 13 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3، وباب: 15 منها حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب التكفين حديث: 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 12.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 13.

ص: 6

كما لابد من البناء على استحباب ما زاد عليها بعد خروجه عن الكفن، للمفروغية ظاهراً عن عدم وجوب غير الكفن. ولاسيما مع التصريح في صحيح زرارة ومرسلة يونس الآتيين بأن ما زاد على الثلاثة سنة خارج عن الفريضة.

كما أن مفروغيتهم عن عدم الفرق في الكفن المفروض بين الرجل والمرأة تلزم بحمل النصوص الظاهرة في زيادة المرأة على الرجل على الاستحباب، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، والمرأة إذا كانت عظيمة في خمس: درع ومنطق وخمار ولفافتين "(1) ومعتبر عبد الرحمن بن أبي عبدالله:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المرأة في كم تكفن؟ قال تكفن في خمسة أثواب أحدها الخمار "(2) ومرسل يونس عنهما (عليهما السلام):" الكفن فريضته للرجال ثلاثة أثواب، والعمامة والخرقة سنة، وأما النساء ففريضته خمسة أثواب"(3).

ولاسيما مع أن مقتضى الأول التفصيل بين المرأة العظيمة الجثة وغيرها، وهو مع عدم بناء الأصحاب عليه لا يناسب الحكم الإلزامي، بل الاستحباب الذي يتأكد مع عظم الجثة.

هذا وقد استدل لسلار بصحيح زرارة: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): العمامة للميت من الكفن هي؟ قال: لا إنما الكفن المفروض ثلاثة أثواب أو ثوب تام لا أقل منه يوارى فيه جسده كله، فما زاد فهو سنة إلى أن يبلغ خمسة، فما زاد فمبتدع. والعمامة سنة..."(4).

وقد استشكل فيه غير واحد بأنه مستلزم للتخيير بين الأقل والأكثر.

ويندفع بأنه إن أريد به امتناع التخيير المذكور، فقد حقق في محله أنه ممكن عقلاً إذا لم يستند الغرض من الأمر للأقل وحده دائماً، بل له وحده في ظرف انفراده للأكثر بمجموعه في ظرف تحققه، وهو ممكن في المقام. ولاسيما مع كون إلباس الثوبين غير

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 9، 18، 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 7

المستوعبين للبدن سابقاً على إلباس الثوب المستوعب له، حيث يستند للأول ستر ما تحته، وللثاني في ستر ما يزيد عليه، وللثالث ستر باقي البدن، ولا دخل للاحق في أصل ستر ما تحت السابق، بل في تكثيفه.

وإن أريد به منافاته لمدعى سلار من اختصاص الواجب بالواحد، فما ذهب إليه سلار لا دليل عليه، وما دل عليه الصحيح لا قائل به. فهو كما ترى، لوضوح أن التخيير لو تم فالثلاثة أفضل فردي التخيير، وحيث لا فرق عملي بين ذلك وبين وجوب الواحد مع استحباب الزائد فلا طريق لإحراز مخالفة مراد سلار لمفاد النص، لقرب عدم توجهه للخصوصية المذكورة، ونظره لمقام العمل الذي لا يفرق فيه بين الوجهين.

على أن الجمود على لسان الصحيح وإن كان يقتضي التخيير بين الأقل والأكثر ولو بالنحو المذكور إلا أن المفهوم منه عرفاً هو وجوب الثوب التام وحده وشدة استحباب ضم الثوبين الآخرين له، وجعل الثلاثة أحد طرفي التخيير بل أولهما لأهمية الاستحباب المذكور، حتى لا ينبغي ترك العمل به.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنه بعد ظهور الصحيح في التخيير بين الأقل والأكثر الممتنع فلابد من تأويله بحمله على الفرق بين حالتي الاختيار والاضطرار، أو البناء على التصحيف بالنحو المناسب لإحدى النسخ الآتية، أو حمله على التقية.

فالأولى الإشكال في الاستدلال المذكور بما ذكره غير واحد من أن الصحيح وإن روي ب - (أو) كما تقدم في التهذيب حسبما هو الموجود في الطبعة الحديثة، والوسائل عن التهذيب، إلا أنه روي بالواو في الكافي حسبما هو موجود في الطبعة الحديثة، وحكاه غير واحد عنه، كما حكي عن بعض نسخ التهذيب، وهو الذي اقتصر عليه في المعتبر المطبوع في مقام نقل الرواية، وحينئذٍ لا يصلح شاهداً لسلار، بل يتعين حمله على وجوب كون أحد الأثواب الثلاثة تاماً، فيطابق المشهور.

ص: 8

وأما حمله على التخيير، ليناسب كلام سلار، فهو موقوف على استعمال الواو في التخيير، وهو غير ثابت ولا عرفي.

كما حكى في الروض عن كثير من النسخ، وفي الحبل المتين عن بعض نسخ التهذيب، وفي المدارك عن كثير منها، وفي كشف اللثام عن أكثرها، وفي الرياض عن أكثر المعتبرة حذف العاطف والمعطوف هكذا:" الكفن المفروض ثلاثة أثواب تام لا أقل منه ".وهو الذي اقتصر عليه في المطبوع من التذكرة، كما حكاه في المدارك عن المعتبر وجملة من كتب العلامة، فيكون قوله:" تام... "بيان حال الكفن المفروض الذي هو ثلاثة أثواب، فيطابق المشهور أيضاً.

وكيف كان فلا مجال للاستدلال بالحديث مع الاختلاف المذكور في نقله، فضلاً عن رفع اليد به عما سبق المعتضد بما عرفت من الأصحاب. مع موافقة القول بالاكتفاء بالثوب التام لبعض العامة.

هذا وفي صحيح عبدالله بن سنان:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): كيف أصنع بالكفن؟ قال: تؤخذ خرقة فيشد بها على مقعدته ورجليه. قلت: فالإزار؟ قال: لا، إنها لا تعد شيئاً، إنما تصنع لتضم ما هناك... ثم الكفن قميص غير مزرور ولا مكفوف، وعمامة يعصب بها رأسه ويرد فضلها على رجليه"(1). ومقتضى ذيله انحصار الكفن بالقميص والعمامة، وحيث ثبت استحباب العمامة يكون مقتضاه انحصار الواجب بالقميص.

نعم مقتضى صدره المفروغية عن كون الإزار من الكفن، لظهور السؤال والجواب فيه في احتمال بدلية الخرقة عن الإزار، والردع عن ذلك بأنها لا تعد من أجزاء الكفن، لتجزي عن الإزار، بل تجعل لغرض خاص أجنبي عنه.

لكنه يقتضي نحواً من التدافع بين الصدر والذيل، لا ظهور الحديث في كون الكفن هو القميص والإزار معاً، وقد يدفع التدافع بحمل الصدر على استحباب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8.

ص: 9

(10)

(الأول): المئزر (1).

الإزار والذيل على بيان الكفن الواجب، وعلى كل حال فهو لا يناسب المشهور من كون الكفن ثلاث ثياب.

نعم لابد من رفع اليد عن ظاهر الحديث، لعدم القائل بمضمونه على جميع الوجوه، لأن الظاهر كون مراد سلار الثوب التام الشامل لتمام البدن كما حكاه عنه في التذكرة، ويناسبه استدلالهم له بما تقدم لا الاكتفاء بالقميص، كما قد يظهر من الصحيح. ولاسيما مع ما أشرنا إليه من التدافع في الحديث، ومع تضمنه العمامة دون غيرها مما يظهر من النصوص أنه أهم منها، حيث يقرب التقطيع فيه وعدم نقله بتمامه، وأن بقية القطع قد ذكرت في تتمته. فلاحظ.

(1) كما هو ظاهر أو صريح كثير من الكتب، كالمقنعة والمبسوط والنهاية والاقتصاد والخلاف وإشارة السبق والغنية والمراسم وإن كان مستحباً عنده والوسيلة والسرائر والمعتبر والتذكرة وغيرها، وإن عبر في بعضها بالإزار، لتحديد بعضهم موضعه من الجسد بما يناسب المئزر المذكور، وتصريح آخر بفرشه عند تهيئة الكفن بعد القميص أو عليه أو لفه على الميت قبله، وغير ذلك مما يشهد بإرادتهم من الإزار المئزر بالمعنى المذكور في المتن، الذي يأتي صحة إطلاقه عليه لغة وعرفاً.

وهو داخل في معقد الإجماع المدعى في الخلاف والغنية ومحكي الذكرى والتنقيح وشرح الجعفرية. وكأن مرادهم به الإجماع ممن يرى وجوب الثلاثة، دون سلار، كما صرح به في المعتبر. كما قد يكون بلحاظه نسب للأكثر أو المشهور في كلام جماعة. وبالجملة: لا يظهر الخلاف فيه من المفيد إلى عصر صاحب المدارك.

لكن يظهر من الصدوق أن الواجب بدله ثوب فوق القميص يلف جميع الجسد، وأن الحبرة تقوم مقام الثالث. قال في المقنع: "ثم يكفن في قميص غير مزرور ولا مكفوف، وإزار يلف على جسده بعد القميص، ثم يلف في حبر يماني عبري أو

ص: 10

ظفاري نظيف" وفي الفقيه: "وغاسل الميت يبدأ بالكفن فيقطعه، يبدأ بالنمط فيبسطه ويبسط عليه الحبرة... ويبسط الإزار على الحبرة، ويبسط القميص على الإزار... ويأخذ جريدتين... ويلفها جميعاً..." ثم قال في بيان التكفين بعد إكمال الغسل: "ثم يضع الميت في أكفانه ويجعل الجريدتين معه إحداهما من عند الترقوة ويلصقها بجلده، ويمد عليه قميصه من الجانب الأيمن، والجريدة الأخرى عند وركه من الجانب الأيسر ما بين القميص والإزار ثم يلفه في إزاره وحبرة".

نعم قال بعد ذلك: "وقبل أن يلبسه قميصه يأخذ شيئاً من القطن... ويشد فخذيه إلى وركه بالمئزر شداً جيداً، لئلا يخرج منه شيء" .لكن عدم ذكره المئزر عند إعداد الكفن وذكر الفائدة المتقدمة له، يناسب كون المراد به اللفافة المستحبة الخارجة عن الكفن والتي أشير إليها في صحيح عبد الله بن سنان المتقدم، وقد تبع في العبارة المذكورة الرضوي. وهو المناسب لما في الهداية، حيث قال بعد أن ذكر إعداد قطع الكفن بالوجه المتقدم مع حذف واختصار: "ويلفها جميعاً وبعد مئزراً".

كما يناسب ذلك ما حكاه في المعتبر وغيره عن ابن الجنيد: "لا بأس أن يكون الكفن ثلاثة أثواب يدرج فيها إدراجاً أو ثوبين وقميصاً" .لما يأتي في الاستدلال للقول المذكور من تقريب ظهور إطلاق الأثواب في الشمول، ولا يجري فيه ما يأتي من المخرج عن ذلك في النصوص. وهو المناسب أيضاً لما في محكي رسالة علي بن بابويه وكلام ابن أبي عقيل من جعل الإزار فوق القميص، كما يأتي توضيحه في آخر الاستدلال للقول المذكور.

وقد تنبه لذلك في المدارك ومال للتخيير المذكور في كلام ابن الجنيد، وتبعه فيما حكي في المفاتيح والكفاية والذخيرة وشرح الفقيه للأمين الاسترابادي.

ومنه يظهر الإشكال فيما في حاشية المدارك، من أنه لا يظهر من الفقهاء مخالف، وأن الصدوق موافق. والكتاب لم تعلم منه المخالفة، ولا تأمل أحد في هذا الحكم قبل صاحب المدارك، وبعض من تبعه، بل ربما يكون مقلداً له.

ص: 11

كما ظهر أنه لا مجال للاستدلال على وجوب المئزر بالإجماع، ولاسيما مع أنه يبعد جداً إطلاعهم على أدلة خفيت علينا بعد كثرة النصوص الواردة في المسألة، فاللازم النظر في مفادها.

وقد استدل بجملة منها للمشهور.

منها: ما تضمن التعبير عن أحد الأثواب بالإزار(1). بدعوى: أنه وإن أريد بالإزار في كلام الفقهاء في المقام ما يقابل المئزر، وهو ما يلف تمام البدن، إلا أن المراد به في النصوص المئزر، لتراد فهما، كما يستفاد من جملة من كتب اللغة، كالصحاح ومختاره والنهاية وحكي في لسان العرب وكتب الفقه عن غيرها. ولاسيما مع ما صرحوا به من أن معقد الإزار هو الحقو حيث لا يناسبه كون المراد به ما يلف تمام البدن.

ويؤيده كثرة استعماله بمعناه في كثير من النصوص الواردة في الحمام(2) ، وفي الاستمتاع بالحائض(3) ، وفي لباس المصلي(4) ، وفي الإحرام(5).

مضافاً إلى ما في بعض نصوص المقام من القرائن الدالة على ذلك، مثل ما تقدم في صحيح عبدالله بن سنان من ردع توهم إجزاء الخرقة عن الإزار، إذ لو أريد به ما يلف تمام البدن لم يكن منشأ للتوهم المذكور، وقوله (عليه السلام) في معتبر معاوية بن وهب المتقدم: "يكفن الميت في خمسة أثواب: قميص لا يزر عليه، وإزار، وخرقة يعصب بها وسطه، وبرد يلف فيه..." (6) لأن توصيف البرد وحده بأنه يلف عليه مشعر أو ظاهر في عدم كون الإزار كذلك، وقوله (عليه السلام) في موثق عمار: "ثم تكفنه... تبدأ فتبسط اللفافة طولاً... ثم الإزار طولاً حتى يغطي الصدر والرجلين... ثم الخرقة عرضه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8، 13. وباب: 14 منها حديث: 3، 4.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9، 11، 12، 14، 15، 18، 31، 39. من أبواب آداب الحمام.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب الحيض.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 22، 23 من أبواب لباس المصلي.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 9 باب: 50، 51، 53 من أبواب تروك الإحرام.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 13.

ص: 12

قدر شبر ونصف، ثم القميص، تشد الخرقة على القميص بحيال العورة وبالفرج حتى لا يظهر منه شيء..."(1) ، حيث صرح فيه بأن الإزار يلف الصدر والرجلين، ولو كان المراد به ما عبر عنه الفقهاء بالإزار في المقام لكان يلف تمام البدن.

لكن تفسير الإزار بالمئزر بالمعنى المذكور وإن كان مسلماً واستعماله فيه شايع، إلا أنهم صرحوا باستعماله في معان أخر لا تناسب المعنى المذكور، ففي القاموس أنه الملحفة، وحكاه في لسان العرب عن اللحياني، ثم قال:" وقيل: الإزار كل ما واراك وسترك. عن ثعلب. وحكي عن ابن الأعرابي: رأيت السروي يمشي في داره عرياناً. فقلت له: عرياناً؟! فقال: داري إزاري "،وفي مجمع البحرين:" وفي كلام البعض من أهل اللغة: الإزار بالكسر ثوب شامل لجميع البدن... وفي الصحاح(2) وغيره: الميزر الإزار يلتحف به "بل إطلاقه في كلام متقدمي الأصحاب كالشيخين على ما يلف جميع البدن يشهد بقِدَم المعنى المذكور عند العرف.

والإنصاف: أن النظر في مجموع النصوص والاستعمالات يناسب استعمال الإزار في الثوب الساتر مع الاختلاف في المستور باختلاف الاستعمالات والموارد، فيراد به تارة: خصوص موضع المئزر المعهود الذي يطلق عليه في عرفنا الوزرة.

وأخرى: ما فوقه مع عدم استيعاب البدن، كما يناسبه ما تقدم في موثق عمار، وما في صحيح رفاعة:" حدثني من سمع أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يصلي في ثوب واحد متزراً به. قال: لا بأس به إذا رفعه إلى الثندوتين(3)"(4). وقريب منه خبر سفيان بن السمط(5) لأن الاتزار لبس الإزار.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

(2) لم أجد عاجلاً ذلك في الصحاح.

(3) الثندوة من الرجل كالثدي من المرأة.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 22 من أبواب لباس المصلي حديث: 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 22 من أبواب لباس المصلي حديث: 5.

ص: 13

وثالثة: تمام البدن حتى الرأس، كما يناسبه ما تقدم من تفسيره بالملحفة(1) أو نحوها في كلام بعضهم، واشتهر عرفاً، وجرى عليه الفقهاء في المقام.

وحينئذٍ إن كان المراد من الاستدلال المتقدم بنصوص الإزار نفي وجوب الأخير فقد يكون في محله، لنهوض بعض القرائن المتقدمة وغيرها مما يأتي إن شاء الله تعالى به. وإن كان المراد به إثبات كفاية الأول فهو لا يخلو عن إشكال بعد ما تقدم، بل هو لا يناسب ما تقدم في موثق عمار. وأشكل من ذلك ما لو أريد به وجوبه وعدم جواز خلو قطع الكفن عنه، كما قد يظهر من بعض كلماتهم.

ومنها: ما تضمن التكفين بثوبي الإحرام، كصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "كان ثوبا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اللذان أحرم فيهما يمانيين عبري وأظفار. وفيهما كفن" (2) ومعتبر يونس بن يعقوب عن أبي الحسن الأول (عليه السلام): "اني كفنت أبي في ثوبين شطويين كان يحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وعمامة كانت لعلي بن الحسين، وفي برد اشتريته بأربعين ديناراً..." (3) بضميمة ما يذكر في كتاب الحج من أن ثوبي الإحرام إزار يتزر به ورداء.

وفيه مع عدم وضوح تعيين الإزار في الإحرام بنحو يطابق المئزر بالمعنى المذكور، بل هو محتاج إلى نظر في الأدلة لا يسعه المقام -: أن ذلك حيث لم يتضمن وجوب التكفين في ثوبي الإحرام فلا ينهض بإثبات وجوب ما يناسبهما في الكفن. مضافاً إلى أن التكفين بثوبي الإحرام لا يستلزم إلباسهما للميت على نحو لبس الحي لهما في الإحرام، بل لا إشكال في عدم وجوب التردي بالرداء، وحينئذٍ يمكن بسط الإزار طولاً بنحو يلف به تمام البدن أو أكثره، كما يمكن جعل الثوبين أو أحدهما من أجزاء الكفن المستحبة.

********

(1) إن فسرت الملحفة بما يغطي تمام البدن ولو فسرت بما يغطي تمام الجسد المقابل للرأس كما يظهر من بعضهم كان ذلك مناسباً للمعنى الثاني.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التكفين حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 14

بل قد اقتصر عليهما وعلى القميص والبرد في معتبر يونس، فإما أن يكون البرد هو المستحب ويكون بأحد ثوبي الإحرام اللف الواجب، وحينئذٍ يمكن حصوله بهما معاً، أو يكون البرد هو الواجب، ويكون أحدهما مستحباً، ولا طريق معه لإثبات وجوب المئزر.

كما أن صحيح معاوية بن عمار يعارض ما تضمن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفن في ثوبين صحاريين وثوب حبرة(1) ، وفي موثق سماعة: "والصحارية تكون باليمامة" (2) وفي موثق زرارة: "ثوبين صحاريين وثوب يمنة عبري أو أظفار"(3). قال الشيخ:" الصحيح عندي من ظفار، وهما بلدان ".وقيل:" يمنة بالضم بردة من برود اليمن، وظفار حصن بها "فإن مقتضى مجموع ذلك أن الثوبين الصحاريين ليسا يمانيين، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكفن إلا بثوب يماني واحد كما هو صريح مرسل عيسى بن المستفاد(4) ، فإذا كان ثوبا إحرامه يمانيين كان أحدهما في كفنه لا كلاهما، فينافي مفاد صحيح معاوية بن عمار. فلاحظ.

ومنها: صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، والمرأة إذا كانت عظيمة في خمسة: درع ومنطق وخمار ولفافتين"(5) ، بدعوى: أن المنطق هو المئزر، حيث ذكر غير واحد من اللغويين أن المنطق كمنبر والنطاق شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها فترسل الأعلى على الأسفل إلى الأرض، والأسفل ينجرّ على الأرض، ووجوبه في المرأة يستلزم وجوبه في الرجل، لعدم الفرق بينهما إلا في المستحبات.

وفيه: أن الصحيح حيث تضمن لفافتين فليس حمل المنطق فيه على الوجوب واللفافة الثانية على الاستحباب بأولى من حمل اللفافتين على الوجوب وحمل المنطق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 3، 6، 11، 17.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 6، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 11.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 9.

ص: 15

على الاستحباب ولو بتنزيله على الخرقة التي يشد بها وركا الميت، لعدم بعدها عن التفسير المتقدم الذي لا يتضح انطباقه على المئزر، ولاسيما مع تفسيره أيضاً بكل ما يشد به الوسط كالمنطقة. ويناسبه ما في صحيحي العيص بن القاسم وعمرو بن أبان في حديث إحرام أسماء بنت عميس وهي نفساء من قوله (عليه السلام): "فأمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستثفرت وتمنطقت بمنطق وأحرمت"(1) ، بناءً على روايته هكذا في الوسائل حسب ما في الطبعة الحديثة وروى نحوه في مجمع البحرين في مادة (نطق). لكن في المطبوع حديثاً من الكافي:" وتنطقت بمنطقة"(2) ، ومن التهذيب: "تمنطقت بمنطقة"(3). إلا أن يستدل به أيضاً بملاحظة ما يظهر من اللغويين من أن المنطق والمنطقة والنطاق بمعنى واحد.

هذا وقد يستدل للقول الآخر المتقدم من ابن الجنيد وغيره وهو وجوب ثلاثة ثياب شاملة أو ثوبين شاملين وقميص بأمرين:

الأول: ما تضمن أن الكفن ثلاثة أثواب - كصحيح محمد بن مسلم المذكور، وموثق سماعة ومرسل يونس(4) المتقدمين في أول المسألة - بضميمة ما تضمن الاجتزاء بثوبين وقميص، كمعتبر بن يعقوب المتقدم قريباً وغيره. قال سيدنا المصنف (قدس سره):" وكأن الوجه في اعتبار الشمول في الأثواب الثلاثة أو الثوبين من أن الثوب أعم من الشامل قطعاً، ولذا يشمل القميص هو أن ظاهر تكفين الميت بالثياب أو إدراجه فيها هو ستره بكل واحد منها على نحو الشمول... وفيه: أنه لو سلم كون الشمول مأخوذاً في التكفين والإدراج في أنفسهما فلا نسلم ظهورهما لو أضفنا إلى المتعدد في الشمول بالإضافة إلى كل واحد من المتعدد، بل يجوز أن يكون على نحو التجزئة والتبعيض".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 49 من أبواب الإحرام حديث: 2.

(2) الكافي ج: 4 ص: 444.

(3) تهذيب الأحكام ج: 5 ص: 389.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 6، 7، 9.

ص: 16

وأما الاستدلال على إرادة الشمول في كل ثوب بما في ذيل صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: كتب أبي في وصيته أن أكفنه في ثلاث أثواب، أحدها رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة وثوب آخر وقميص... وعممه بعد بعمامة. وليس تعد العمامة من الكفن، إنما يعد ما يلف الجسد"(1). فهو في غير محله إذ الظاهر أن المراد من الجسد فيه ما يقابل الرأس، والمراد بلفه لفه في الجملة ولولا بنحو الاستيعاب، كما يناسبه ما في صدره من عدّ القميص من أجزاء الكفن، مع وضوح عدم استيعابه الجسد المقابل للرأس، فضلاً عما يعمه.

نعم قد يشعر به خبر سهل بن اليسع الأشعري: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الثياب التي يصلي فيها الرجل ويصوم أيكفن فيها؟ قال: أحب ذلك الكفن. يعني: قميصاً. قلت: يدرج في ثلاثة أثواب؟ قال: لا بأس والقميص أحب إلي"(2). إذ لو أريد بالإدراج في الثلاثة ما يعم ستر بعضها لبعضه لم يصلح للمقابلة بالقميص، نظير ما تقدم في كلام ابن الجنيد.

إلا أن في كفاية ذلك في الحجية على إرادة الاستيعاب في الثوب إشكالاً بل منعاً. ولاسيما مع احتمال أن يكون منشأ المقابلة بين القميص والإدراج هو ابتناء التكفين بالأول على الإلباس وبالثاني على اللف، لا بلحاظ الاستيعاب وعدمه، ومع عدم ثبوت صحة سند الحديث، وعدم ظهوره في الوجوب، بل في مجرد الاجزاء، وعدم تضمن غيره مما ورد مورد الإلزام التعبير بالإدراج في الأثواب، ليتوهم صلوح الخبر للقرينية على ذلك. مضافاً إلى ما يأتي من ظهور بعض النصوص في عدم ابتناء إطلاق التحديد بالأثواب الثلاثة على الاستيعاب.

ثم إنه قد يدعى أن ما تضمن تحديد الكفن بالأثواب الثلاثة حيث كان وارداً مورد العمل فلابد من وفائه بالبيان بنحو يترتب عليه العمل ولو بضميمة القرائن الحالية الارتكازية أو غيرها، وحيث لا يراد منه الإطلاق بنحو يكتفي بمسمى

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 10، 5.

ص: 17

الثياب الثلاثة، كثلاث مآزر أو مئزرين ولفافة أو غيرها، لما هو المرتكز من أن لكل ثوب غرضاً يفي به لا يفي به غيره، وهو لا يناسب التخيير الذي يقتضيه الإطلاق، فلابد من كون المراد الثياب الثلاثة بكيفية خاصة لا يجتزأ بغيرها، وحيث لم تعين تلك الكيفية حين التحديد تعين حملها على الاستيعاب، لعدم المرجح لأجزاء بدن الميت، ولاسيما مع ثبوت لزوم الاستيعاب في بعضها. فهو نظير ما لو قيل في بيان التغسيل: صب عليه ثلاثاً، وعلم بلزوم الاستيعاب في بعض الصبات.

ودعوى: أن الغرض الارتكازي من التكفين هو ستر الميت، وهو يقتضي الاكتفاء باستيعاب المجموع، لا كل واحد من الثياب. مدفوعة بأن ذلك لا يناسب لزوم الاستيعاب في أحدها، لأن وجوب ضم غيره إليه لابد أن يكون لغرض زائد على ستره، وحينئذٍ يجري في الباقي ما تقدم من لزوم الحمل على الاستيعاب بعد عدم إرادة الإطلاق، لما تقدم، وعدم القرينة على التعيين.

لكن هذا الوجه وإن كان قريباً في نفسه، إلا أنه لا يتضح بنحو يصلح للاستدلال. ولاسيما مع تضمن بعض النصوص ما لا يناسب ابتناء التحديد على الاستيعاب، كصحيح محمد بن مسلم المتقدم، إذ لو ابتنى تكفين الرجل فيه بثلاثة أثواب على استيعاب كل منها لم يتجه مقابلته بالخمسة المذكورة في المرأة التي منها الدرع والمنطق، ولا استثناء العمامة والخرقة في قوله (عليه السلام) في معتبر عبدالله بن سنان:" الميت يكفن في ثلاثة سوى العمامة والخرقة "(1) وكذا ما تضمن التكفين في خمسة منها الخرقة والعمامة أو الخمار(2). ومن هنا لا يبعد ابتناء التحديد بعد عدم إرادة الإطلاق منه، لما تقدم على الإشارة لثياب معهودة، مستوعبة أو غيرها، وحيث خفيت علينا يكون التحديد مجملاً من هذه الجهة. فلاحظ.

الثاني: صحيح حمران بن أعين:" قال أبو عبدالله (عليه السلام): إذا غسلتم الميت منكم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 13، 18.

ص: 18

فارفقوا به... فقلت: فالكفن؟ قال: يؤخذ خرقة فيشد بها سفله، ويضم فخذيه بها ليضم ما هناك، وما يضع من القطن أفضل، ثم يكفن بقميص ولفافة وبرد يجمع فيه الكفن"(1). بدعوى: ظهور اللفافة فيما يلف تمام البدن.

وأنكر ذلك شيخنا الأعظم وسيدنا المصنف (قدس سرهما). لكنه كما ترى مخالف لمقتضى إضافة اللفافة للميت المستفادة من مساق الكلام. ولاسيما مع وروده في مقام تعليم الكيفية الملزم بوفاء البيان به مع القطع بعدم إرادة مسمى اللف، وعدم القرينة على تعيين قسم خاص من الجسد له. ولعله لذا كان الظاهر مفروغيتهم عن الاستدلال على وجوب الإزار الشامل للبدن بما تضمن الأمر باللفافة.

وأما دعوى: أن قوله (عليه السلام): "وبرد يجمع فيه الكفن" ظاهر أو مشعر بعدم تحقق الجمع بغير البرد. فهي مندفعة مع عدم نهوض ذلك بالخروج عن ظاهر اللفافة بقرب كون الغرض به التنبيه على لزوم كون البرد مستوعباً، لعدم ظهوره في نفسه في الاستيعاب، بخلاف اللفافة، حيث لا يحتاج فيها للتنبيه على ذلك، لظهورها في نفسها فيه ولاسيما مع وصف البرد بأنه يجمع فيه الكفن، لا أنه يجمع فيه الميت، فإن جمع اللفافة للميت نفسه لا تنافي اختصاص البرد بجمع الكفن. ومن هنا كان الظاهر تمامية الاستدلال بالصحيح. كما لا يبعد حينئذٍ تنزيل صحيح محمد بن مسلم المتقدم عليه على النحو الذي تقدم.

نعم قد يكون مقتضى الجمع بينهما وبين موثق عمار(2) المتقدم المصرح فيه بأن الإزار يغطي الصدر والرجلين تنزيل اللفافة فيها على ما يلف الجسد المقابل للرأس، أو على الأفضلية، مع كون الواجب لف ما عدا الرأس. وما عن الذكرى وقد يظهر من جماعة ممن يأتي في تحديد المئزر من حمل موثق عمار على الاستحباب. غير ظاهر الوجه، حيث لا مخرج عن ظهوره في الوجوب، لأن نصوص المئزر مجملة من حيثية سعته ومطلقة من حيثية كيفية لفه على الميت، وهو من سنخ المبين أو المقيد. ولا ينافيه

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 5، 4.

ص: 19

ما تقدم في معتبر معاوية بن وهب(1) من توصيف البرد باللف دون الإزار، إذ قد يكون منشؤه عدم وجوب كون الإزار لافاً لتمام جسد الميت، بل لما عدا الرأس منه. كما لم يتضح من النصوص ما ينافي ذلك.

بل قد يؤيده ما تضمنه موثق عمار المذكور ومرسل يونس(2) من إلباس الميت القميص أولاً ثم الإزار ثم اللفافة أو الحبرة، حيث يقرب جداً كون الأعلى هو الأوسع الأشمل. بل جعل المئزر بالمعنى الذي ذكره المشهور على القميص بعيد جداً، لا يناسب الطريقة المألوفة في كيفية اللباس، كما لا يناسب الغرض الارتكازي منه، وهو ستر العورة، ولذا صرح من بنى عليه بكونه تحت القميص، بخلاف جعل الإزار الشامل لتمام البدن أو ما عدا الرأس عليه، فإنه مناسب للمألوف جداً. ومن ثم أشرنا آنفاً إلى قرب كون ذلك هو المراد لعلي بن بابويه وابن أبي عقيل حيث ذكرا أن القميص تحت الإزار. وإن أطلقا الإزار، ولم يوضحا المراد منه فيما حكي من كلامهما.

نعم قد لا يناسب ذلك توهم إجزاء الخرقة عن الإزار الذي أشير إليه في صحيح عبدالله بن سنان(3) المتقدم. لكن في كفاية ذلك في الخروج عن مقتضى الجمع المتقدم بين النصوص إشكال، بل منع، لعدم خلوّ الصحيح عن الإجمال، وعدم التصريح فيه بالتوهم المذكور، وإنما يحمل عليه بدلالة الاقتضاء، بنحو لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة. ولاسيما مع احتمال أن يكون قول السائل: "قلت: فالإزار؟" يراد به السؤال عن أن الإزار هو الثوب الثاني من أثواب الكفن، لتوهم أن الخرقة هي الثوب الأول، فيجعل الإزار بعدها، ويكون الردع عن ذلك لبيان أن الكفن يبدأبالقميص، فيناسب ما ذكرنا.

ومن جميع ما تقدم يظهر أنه لا مجال لما ذكره في الجواهر احتمالاً ولم يرتضه،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 13.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8.

ص: 20

وفي طهارة شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه حكي عن بعض معاصريه، من التخيير بين الإزار الشامل والمئزر بالمعنى المتقدم، جمعاً بين صحيح حمران ونصوص الإزار ونحوها مما تقدم الاستدلال به للمئزر.

إذ فيه: أنه فرع نهوض تلك النصوص بإثبات الاكتفاء بالمئزر المذكور بحيث تصلح لرفع اليد عن ظهور الصحيح وغيره في الوجوب التعييني، وقد عرفت عدم نهوضها بذلك. مضافاً إلى عدم مناسبة التخيير المذكور لموثق عمار.

ومثله ما ذكره في الجواهر احتمالاً من استحباب المئزر. إذ لو أريد به أنه أفضل فردي التخيير فهو فرع البناء على التخيير. مع أنه لو تم فمقتضى الجمع العرفي أفضلية الأشمل. ولو أريد به استحباب ضمه للإزار الشامل فلا دليل عليه، لظهور نصوص الإزار في الاكتفاء به، وليس عليه دليل آخر ليحمل على الاستحباب.

ثم إن ما تقدم من الوجه وإن لم أعثر على مصرح به من الأصحاب، إلا أن كلام الصدوق لا يأباه، لقرب حمل ما صرح به في الفقيه من لف الميت بالإزار والحبرة على استحباب شمول الإزار للرأس، وحمل ما صرح به في المقنع من لفّ الجسد به عليه أيضاً، أو على لفّ الجسد المقابل للرأس، لا مع الرأس، أو يكون ذلك منه مبنياً على العمل بظاهر صحيح حمران وإهمال غيره، كموثق عمار، أو تنزيله عليه اجتهاداً منه في ذلك.

كما أن كلام المفيد لا يخلو عن إجمال، لأنه وإن ذكر المئزر بنحو يظهر منه إرادة المعنى الذي ذكره المشهور، إلا أنه ذكر معه اللفافيتن ثم قال: "والسنة أن يكون إحدى اللفافتين حبرة يمنية" ،وقد يظهر من ذلك وجوب اللفافة الثانية وأن السنة مختصة بكونها حبرة، المستلزم لكون المئزر هو المستحب.

هذا مع اضطراب الأصحاب في ذلك، واختلاط الواجب بالمستحب في عبارات جملة منهم، والاطمئنان بعدم عثورهم على أدلة لم تصل إلينا. ومن هنا لا مجال لرفع اليد عن مفاد النصوص لو خالف المشهور عندهم.

ص: 21

ويجب أن يكون ساتراً ما بين السرة والركبة (1).

وأما دعوى: لزوم رفع اليد عن ذلك لمخالفته للسيرة المستمرة، حيث يبعد جداً رفعهم اليد عما هو الواجب مع شدة اهتمامهم في مثل ذلك بكثير من المستحبات. فهي مندفعة بأن المتولين لذلك غالباً لما كانوا جماعة مخصوصين من عامة الناس فسيرتهم مستندة للتعليم من أهل العلم تبعاً للفتاوى المشهورة فلا يبعد خطؤها تبعاً لخطأ تلك الفتاوى. ولا يحرز اتصالها بعصور المعصومين (عليهم السلام) بنحو يعلم باستنادهم لهم، ويمتنع خطؤها عادة. ومن ثم لا مجال للخروج بها عن مفاد النصوص الذي ذكرناه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم. ومنه نستمد العون والتسديد.

(1) كما في المسالك والروض والروضة والرياض، وفي الحدائق أنه مراد الأصحاب، وفي جامع المقاصد أنه يجب أن يستر السرة والركبة، وفي المقنعة والمراسم من سرته إلى حيث يبلغ من ساقيه، وعن المصباح ومختصره من سرته إلى حيث يبلغ المئزر. والجميع لا يخلو عن إشكال، لصدق المئزر عرفاً بدون ذلك، كما اعترف به سيدنا المصنف (قدس سره) وسبقه إليه في الجواهر. وتحديد معناه العرفي بالأول في الروض والرياض وعن بعض مشايخنا، وبالثاني في جامع المقاصد. ممنوع.

ومثله ما عن بعض مشايخنا من الاستشهاد للأول بما تقدم من اللغويين من أن معقد الإزار الحقو، بدعوى: محاذاة الحقو للسرة. إذ فيه مع أنه لا ينهض بتحديد أسفل المئزر -: أن أعلى الحقو أسفل من السرة.

وكذا الاستدلال بما في صحيح الحلبي في الاستمتاع بالحائض: "تتزر بإزار إلى الركبتين وتخرج سرتها"(1) ، وفي موثق أبي بصير:" تتزر بإزار إلى الركبتين وتخرج ساقيها وله ما فوق الإزار"(2). لعدم ظهورهما في تحديد الإزار، بل تحديد موضع الاستمتاع. بل قد يظهر منهما عدم مطابقة الحد المذكور للإزار. نعم لا إشكال في عدم كفاية ستر

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب الحيض حديث: 1، 2.

ص: 22

(23)

(الثاني): القميص (1).

العورة فيه، وإن احتمل كونه حكمة لوجوبه، حتى احتمل في الروض كفايته.

هذا وتقدم عن الذكرى استحباب ستره الصدر والرجلين، وقد يرجع إليه ما في المبسوط والنهاية من استحباب كونه من صدره إلى الرجلين، وأن الوجه فيه حمل موثق عمار على الاستحباب، وتقدم الإشكال فيه.

وأشكل منه ما يظهر من الوسيلة ومحكي الجامع من استحباب ما يبلغ من الصدر إلى الساقين، وفي المسالك والروض والروضة من استحباب ستره ما بين صدره وقدمه. حيث لا يطابق حتى موثق عمار لو حمل على الاستحباب.

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب المذكور في كتب جماعة من قدماء الأصحاب ومتأخريهم، كما تقدم من كتب الصدوق الثلاثة، وكذا المقنعة والمبسوط والخلاف والاقتصار وإشارة السبق والغنية والوسيلة والسرائر والشرايع والنافع والتذكرة والمنتهى ومحكي مصباح المرتضى وصريح العماني وغيرهم. وهو داخل في معقد إجماع الخلاف والغنية، كما حكي دعواه عليه عن الذكرى والتنقيح وشرح الجعفرية، ونسب للمشهور في التذكرة والمختلف وغيرهما.

ويقتضيه جملة من النصوص المتقدمة عند الكلام في وجوب الثياب الثلاثة وفي وجوب المئزر، كصحيحي عبدالله بن سنان ومحمدبن مسلم ومعتبرمعاوية بن وهب(1) وصحيح حمران وموثق عمارومرسل يونس(2).

وتقدم عن ابن الجنيد التخيير بين ثياب ثلاثة يدرج فيها الميت وثوبين وقميص، ووافقه في المعتبر والروضة والمدارك والمستند والحدائق حاكياً له عن جملة من متأخري المتأخرين، وقد يظهر من ذكر الصدوق في الفقيه المرسل الآتي بناؤه عليه. جمعاً بين

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8، 9، 13.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3، 4، 5.

ص: 23

النصوص المذكورة وخبر سهل بن اليسع: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الثياب التي يصلي فيها الرجل ويصوم أيكفن فيها؟ قال: أحب ذلك الكفن. يعني: قميصاً. قلت: يدرج في ثلاثة أثواب؟ قال: لا بأس به، والقميص أحب إلي"(1). ومرسل الفقيه:" وسئل موسى بن جعفر (عليه السلام) عن الميت يموت أيكفن في ثلاثة أثواب بغير قميص؟ قال: لا بأس بذلك، والقميص أحب إلي"(2).

وقد يستشكل في الاستدلال المذكور مضافاً إلى ضعف الحديثين بقرب اتحاد المرسل مع خبر سهل، والاختلاف بينهما بسبب النقل بالمعنى. والخبر لا ظهور له في استحباب مطلق القميص، بل خصوص القميص الذي يصلي فيه، فلا ينافي وجوب مطلق القميص. قال في الرياض بعد ذكر ذلك: "وهو وإن كان بعيداً، إلا أنه لا بأس بالمصير إليه جمعاً بين الأدلة" .بل عن بعض مشايخنا أن ظاهر الخبر في نفسه وحكاه في الجواهر عن بعضهم.

وفيه: أن المسؤول عنه أولاً وإن كان هو خصوص ثياب الصلاة، إلا أن الجواب بأنه الكفن المحبوب، ثم قوله (عليه السلام): "يعني: قميصاً" ظاهر في رجحان القميص من بين ثياب الصلاة، لا لكونه من ثياب الصلاة، بل لخصوصية كونه قميصاً، فيكون راجحاً من الجهتين معاً، وذلك هو الذي نبه السائل لمعرفة حكم القميص مطلقاً، حيث قابله بالدرج في الأثواب الثلاثة الذي لا يصدق مع كون أحدها قميصاً، لعدم صدق درج الميت الذي هو عبارة عن إدخاله وتضمينه بإلباسه القميص، لعدم استيلائه عليه، كما أجاب (عليه السلام) بترجح القميص، لا بترجح ثوب الصلاة. ومن ثم يكون حمل القميص في الذيل على خصوص قميص الصلاة بعيداً جداً. كما لا مجال لتكلفه في مقام الجمع مع نصوص القميص، لسهولة الجمع عرفاً بحمل تلك النصوص على الاستحباب.

فالعمدة ضعف سند الحديث، لروايته عن محمد بن سهل عن أبيه، وسهل وإن نص النجاشي على توثيقه، إلا أن ولده محمداً لم ينص على توثيقه أحد. وإن كان

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 5، 20.

ص: 24

(25)

يجب أن يكون ساتراً ما بين المنكبين إلى نصف الساق (1)

من القريب جداً استفادة وثاقته من رواية غير واحد من الأجلاء عنه ومنهم أحمد بن محمد بن عيسى الذي أخرج البرقي من قم لأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل. بل في تنقيح المقال عن الخرائج أنه روى تكفين أحمد له بكفن أرسله له الإمام (عليه السلام) في حياته، وهو مشعر أو ظاهر في تفقد الإمام (عليه السلام) له واختصاص أحمد به. مضافاً إلى تصريح النجاشي برواية جماعة لكتابه الظاهر في اهتمامهم به واشتهاره بينهم، وأن للصدوق طريقاً إليه في مشيخة الفقيه، فإن ذلك بمجموعه يوجب الوثوق بظهور وثاقة الرجل بين الأصحاب، كما هو المناسب لظهور تعويل الصدوق على الخبر من إثباته مضمونه في الفقيه، وعمل المحقق به خروجاً عن ظهور النصوص الأخر في تعين القميص مع عدم بنائه على التسامح في الأسانيد وعدم ظهور عمل معتد به جابر له لو كان ضعيفاً.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من مانعية إعراض المشهور عن الخبر من التعويل عليه. فهو في غاية الإشكال، لعدم تحقق الإعراض الموهن بعد عمل مثل الصدوق وابن الجنيد والمحقق بالخبر، واحتمال كون اقتصار جملة من الأصحاب على القميص لأنه أفضل أو أحوط، لا للجزم بوجوبه لوهن الخبر. ولاسيما مع ظهور اضطرابهم في المسألة. فتأمل جيداً. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) كما في جامع المقاصد والمسالك والروض والروضة ومحكي فوائد الشرايع وشرحي الجعفرية وغيرها. وفي المسالك والروضة تعليله بأنه المتعارف. قال في الجواهر: "وربما يحتمل الاكتفاء به وإن لم يبلغ نصف الساق. وهو مشكل، لندرته في زمان صدور الأخبار" وسبقه إليه في الرياض.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): "لكن لو تم ففي وجوب الأخذ به تأمل" .والوجه فيه عدم صلوح الغلبة لتقييد الإطلاق المذكور، كما تكرر غير مرة. إلا أن توجب تحديد مفهوم القميص عرفاً بمقتضاها كما قد يظهر من المستند في المقام بحيث يبتني

ص: 25

(26)

(الثالث): الإزار (1).

إطلاقه على غيرموردها على المجاز أو النقل، ودون إثبات ذلك خرط القتاد. ومقتضى الأصل الاكتفاء بالأقل، بناء على ما هو التحقيق من الرجوع للبراءة مع الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

نعم في موثق عمار المتقدم: "ثم الخرقة عرضها قدر شبر ونصف ثم القميص تشد الخرقة على القميص بحيال العورة والفرج حتى لا يظهر منه شيء" وفيه أيضاً: "ثم بالخرقة فوق القميص على إلييه وفخذيه وعورته"(1). ومقتضاهما ستر القميص للعورة، بل مقتضى الثاني ستر الإليين والفخذين أيضاً. وهو المناسب لما يظهر منه ومن مرسل يونس(2) من كونه أول الثياب الملبوسة. ولا يبعد لزوم المقدار المذكور وإن صدق القميص بدونه، تعويلاً على ذلك. فتأمل.

هذا وفي الروضة استحباب كونه إلى القدم، وفي المسالك أنه يجوز بإذن الورثة أو وصية الميت النافذة، واحتمل في الروض جوازه ولو مع عدمهما. وأطلق في جامع المقاصد جوازه معللاً بأنه الغالب. ولعله يرجع إلى أن الغلبة المذكورة مانعة من حمل إطلاق ما تضمن أن الكفن من أصل المال على إرادة غير الغالب من القميص. ويشكل مع تسليم الغلبة بأنه بعد فرض إطلاق القميص بنحو يشمل ما لا يصل إلى القدم وجواز الاقتصار على ذلك يحتاج جواز فرض ما زاد عليه على الورثة إلى دليل. ويأتي في المسألة الثانية والثلاثين ما ينفع في المقام. وكيف كان فلم يتضح الاستحباب الذي تقدم من الروضة. غاية ما يدعى حسن الاحتياط بالزيادة لو فرض احتمال عدم صدق القميص على ما دونه للشبهة المفهومية.

(1) بلا إشكال ظاهر، وهو داخل في معقد إجماع الخلاف والغنية وغيرهما مما تقدم، بل لعله متيقن منه كما يظهر منهم المفروغية عنه عند تعرضهم

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4، 3.

ص: 26

(27)

ويجب أن يغطي تمام البدن (1)

للخلاف في غيره.

ويقتضيه غير واحد من النصوص المتقدمة وإن لم يعبر عنه فيها بالإزار، كصحيح محمد بن مسلم المتضمن في المرأة للفافتين(1) ، ومعتبر معاوية بن وهب المتضمن للفه بالبرد(2) ، وموثق عمار المتضمن للفافة(3) ، وصحيح حمران المتضمن للفافة وبرد يجمع فيه الكفن(4). من دون أن يظهر لها معارض عدا ما قد يستفاد من عدم ذكره في صحيح عبدالله بن سنان(5) ، الذي تقدم الكلام فيه في آخر الكلام في وجوب ثلاثة ثياب. فراجع.

(1) بلا إشكال ظاهر، وهو المتيقن من اللف واللفافة اللذين تضمنهما ما تقدم من النصوص. نعم قد يقصران عن إثبات وجوب تغطية أعلى الرأس وأسفل القدمين. لكن لا يبعد استفادته تبعاً، لفهم أن الغرض من اللف ستر تمام البدن. ولاسيما بملاحظة قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة المتقدم:" إنما الكفن المفروض ثلاثة أثواب أو ثوب تام لا أقل منه يواري فيه جسده كله"(6) ، حيث لا إشكال ظاهراً في كون التخيير بين الثلاثة أثواب والثوب التام من سنخ التخيير بين الأقل والأكثر. ويكون الأمر أظهر على نسخة إبدال (أو) بالواو بناء على ما تقدم عند الكلام في وجوب الثياب الثلاثة. وأما على نسخة حذف (وثوب) فمقتضاه ستر تمام البدن بتمام الثياب، لا بخصوص الثوب الأخير. وحينئذٍ يمكن تتميم المدعى بصحيح حمران المتضمن أن الثوب الأخير يجمع الكفن(7). إذ مقتضاه أنه مع قصور ما تحته يجب الستر به، ومع الستر بما تحته يكون هو فوقه.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 9، 13.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4، 5.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8، 1.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 27

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد النظر في مجموع النصوص والفتاوى في اعتبار كون الثوب الأخير الذي عبر عنه في كلماتهم بالإزار مستولياً على تمام البدن.

بل في جامع المقاصد أنه يجب أن يكون بحيث يشد من قِبَل الرأس والرجلين، وجرى على ذلك في الروض والرياض ومحكي فوائد الشرايع وشرحي الجعفرية. وصرح باستحباب ذلك في المسالك والروضة وكشف اللثام وغيرها مع التصريح بمطلق الستر ولو بالخياطة. لكن لا دليل على الوجوب، بل ولا الاستحباب. إلا أن يرجع إلى رجحان الاحتياط عقلاً، خروجاً عن شبهة الخلاف. وما في الرياض من عدم تبادر الستر بالخياطة من الأخبار. غير ظاهر بنحو يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق أو الأصل.

هذا وفي جامع المقاصد أيضاً: "ويعتبر في الجميع شمول البدن في جانب العرض. وينبغي أن يكون عرض اللفافة بحيث يمكن جعل أحد الجانبين على الآخر. كما يشهد به الأخبار، ويشعر به كونها لفافة وفوق الجميع".

أقول: أما شمول الجميع للبدن في جانب العرض فلا ينبغي التأمل فيه في الأثواب الثلاثة. والظاهر عدم الإشكال فيه بينهم. أما الإزار الذي تعرضت له النصوص فإن كان هو المئزر الذي ذكره المشهور فمن الظاهر أخذ اللف في مفهومه، لابتناء استعماله على عقد طرفيه بعد لفه، وعليه يبتني ما تقدم منهم التصريح به من أن معقد الإزار هو الحقو. وإن كان هو الإزار الذي ذكره الصدوق وذكرناه فقد تقدم أن الدليل عليه صحيح حمران المتضمن للفافة، وموثق عمار المصرح بتغطية الصدر والرجلين مع بسطه وجعل الميت مستلقياً عليه.

وأما القميص فمن الظاهر خياطته بنحو يحيط بالبدن. وأما ما تعارف في عصورنا من إطلاقه على ما له جانبان يلتقيان بالأزرار، فلا يبعد كونه مستحدثاً، كما يناسبه ما تضمن الأمر بشق القميص ونزعه من الرجلين من النص(1) والفتوى. نعم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8.

ص: 28

مقتضى التصريح في جملة من النصوص(1) بأنه لا يزر جواز ظهور ما يتعارف ظهوره من الصدر مع عدم الزر.

وأما الإزار الذي تعرض له الأصحاب وأرادوا به الثوب الشامل، فما تقدم في وجه استيعابه طولاً يقتضي لزوم استيعابه عرضاً، كما لا يخفى.

وأما ما ذكره أخيراً من كون الإزار المذكور بحيث يجعل أحد جانبيه على الآخر ولا يكتفى بمجرد اتصالهما فما ذكره هو والشهيد الثاني في الروض من شهادة الأخبار به لم يتيسر لي ما يشهد له، إذ لم أعثر إلا على الرضوي: "وتلفه في إزاره... وتبدأ بالشق الأيسر وتمد الأيمن، ثم تمد الأيمن على الأيسر"(2) ، ومن البعيد إرادتهما له.

نعم لا ينبغي التأمل في ظهور النصوص المتضمنة لعنوان اللف واللفافة فيه. وما في الروض من تحقق اللف بمجرد شمول البدن ولو بالخياطة، بعيد جداً عن المفهوم العرفي لها.

إلا أن تنزل على كون اللف لأجل ستر البدن أو مستحباً، جمعاً مع صحيح زرارة الظاهر في وجوب موارة الكفن لتمام جسد الميت لا غير. ولعله لذا صرح غير واحد بكفاية ذلك وإن استحب ما زاد عليه. عدا السيد في الرياض، معللاً بعدم تبادر الستر بمثل الخياطة من النصوص، نظير ما تقدم منه في الستر طولاً. وهو غير ظاهر. إلا أن يرجع لما ذكرناه من عدم صدق اللف بدونه.

فإن أمكن رفع اليد عنه بصحيح زرارة على ما تقدم فهو، وإلا تعين البناء على وجوبه. ثم إن الظاهر جريان نظير الكلام المذكور في الإزار الآخر الذي ذكرناه أو ذكره الصدوق، لأن عمدة الدليل عليه صحيح حمران(3) المتضمن لعنوان اللف، وموثق عمار(4) المتضمن لتغطية الصدر والرجلين. بل قد يجري ذلك في المئزر الذي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8، 13، 21. وباب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3. وباب: 28 من أبواب التكفين حديث: 2.

(2) الرضوي ص: 17. ومستدرك الوسائل ج: 2 باب: 12 من أبواب التكفين حديث: 1.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 5، 4.

ص: 29

ذكره المشهور، حيث لا يبعد ابتناء استعماله على اللف. فلاحظ.

بقي شيء. وهو أن المذكور في المقنعة والمبسوط والنهاية أن المئزر تحت القميص، وجرى عليه في التذكرة والمنتهى وظاهر السرائر، وصرح بوجوبه في القواعد، ونسبه في محكي الذكرى للمشهور تارة كما في كشف اللثام وللأصحاب أخرى، ثم قال:" ونقل الأصحاب فيه الإجماع ".قال في مفتاح الكرامة:" هذا الإجماع المستفيض نقله كما يظهر من نسبته للأصحاب ما وجدته. لكنه معلوم، لأن الأصحاب بين مصرح بالترتيب المذكور هنا وآت بلفظ (ثم) أو عاطف بالواو مقدم المئزر على القميص والقميص على الإزار...".

ولم أعثر على ما يشهد لذلك من الأخبار، وإن كان هو المناسب لطبيعة اللباس، بناء على أن المراد بالمئزر ما ذكره المشهور، كما تقدم في آخر الكلام فيه. والذي تضمنه موثق عمار ومرسل يونس(1) أن القميص تحت الإزار، وتقدم أن المناسب لذلك كون الإزار هو الذي ذكرناه أو ذكره الصدوق، لا المئزر الذي ذكره المشهور. ولاسيما مع ما في موثق عمار من أنه يغطي الصدر والرجلين.

وبناءً على ما تقدم من أن الواجب هو الإزار المذكور يتعين المحافظة على الترتيب الذي تضمنه الحديثان، كما جرى عليه الصدوق، وحكاه في الحدائق عن علي بن بابويه وابن أبي عقيل، وإن أطلقا الإزار ولم يحدداه. وأما بناءً على وجوب المئزر الذي ذكره المشهور، فإن كان الحديثان المذكوران من أدلته كما ذكره غير واحد لزم العمل بمضمونهما في الترتيب أيضاً. ومن ثم كان كلام المشهور مضطرباً لا يناسب أدلتهم، كما يظهر مما تقدم أيضاً.

وبما ذكرنا يظهر أن الاحتياط بمطابقة مفاد النصوص وما ذكره المشهور لا يكون إلا بالجمع بين المئزر والإزار الذي ذكرناه أو ذكره الصدوق، مع كون الأول تحت القميص أو ما هو بمنزلته لو قيل به، والثاني فوقه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3، 4.

ص: 30

(31)

والأحوط وجوباً في كل واحد منها أن يكون ساتراً لما تحته غير حاكٍ عنه، وإن حصل الستر بالمجموع (1).

(1) قال في جامع المقاصد:" وهل يشترط أن يكون كل واحد من هذه الأثواب بحيث يستر العورة في الصلاة، أم يكفي حصول الستر بالمجموع؟ الظاهر الأول، لأنه المتبادر من الأثواب، ولأنه أحوط. وإلى الآن لم أظفر في كلام الأصحاب بشيء من ذلك نفياً وإثباتاً ".ووافقه في الروض والروضة مقتصراً في الأول على التبادر في مقام الاستدلال عليه، مع اعترافه بأنه خلاف ظاهر صحيح زرارة المتقدم، وفيه:" الكفن المفروض ثلاثة أثواب وثوب تام لا أقل منه يوارى فيه جسده كله"(1). وجرى عليه في الروضة ومحكي شرح الجعفرية.

وظاهرهما المفروغية عن وجوب الستر في الجملة بالمجموع أو بكل واحد. ويقتضيه صحيح زرارة المذكور، لعدم صدق المواراة بدون ذلك.

وأما ما في الحدائق من حمل قوله (عليه السلام): "يواري فيه جسده" على مجرد لزوم استيعاب الكفن للجسد وشموله في مقابل نقصه عنه، كما هو المناسب للتأكيد بقوله: "كله" ،فيكون ذلك مؤكداً لقوله: "تام لا أقل منه" .ولذا مال لعدم اعتبار الستر حتى بالمجموع، عملاً بالأصل. ويناسبه ما سبقه إليه المحقق الأردبيلي في محكي مجمع البرهان من قوله: "لا أعرف دليل كون الأثواب بحيث تستر البدن لوناً وحجماً".

فهو كما ترى، لأن إرادة الاستيعاب والشمول لا تنافي إرادة الستر أيضاً، كما هو ظاهر أو صريح عنوان المواراة، فهو مسوق لبيان لزوم استيعاب الأثواب الموارية للجسد، لا مجرد استيعاب الأثواب ولو لم تكن موارية. ويعضد الصحيح في ذلك معتبر الفضل بن شاذان: "إنما أمر أن يكفن الميت ليلقى ربه عزوجل طاهر الجسد، ولئلا تبدو عورته لمن يحمله أن يدفنه. ولئلا ينظر [يظهر] الناس على بعض حاله وقبح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 31

منظره"(1).

بل لا يبعد كون الستر مأخوذاً من مفهوم الكفن لغة، فعن ابن الأعرابي أن الكفن بالسكون التغطية، وعن بعضهم أنه الأصل لإطلاق الكفن على ثياب الميت. وقد يناسبه ما في الحديث الذي ذكره اللغويون:" أهدى لنا شاة وكفنها "أي: مما يغطها من الرغفان، وقولهم:" كفنت الخبزة في الملة، وكفنت الجمر بالرماد إذا واريتهما بهما ".لكن في أساس البلاغة أن ذلك مجاز، وأن الكفن ثياب الميت، وحينئذٍ يحتاج إثبات أخذ الستر في مفهومه لدليل. نعم لا يبعد كون مصحح الإطلاق المجازي المذكور هو ستر الشاة والخبزة والجمر بالأمور المذكورة، لا مجرد كونها تحتها، فيناسب أخذ الستر في مفهوم كفن الميت.

والعمدة الحديثان المتقدمان المؤيدان بذلك، وبمناسبة اعتبار الستر للغرض الارتكازي من التكفين، حيث قد يقرب لأجله انصراف النصوص والفتاوى إليه. ويكون عدم ذكره في كلام قدماء الأصحاب وجملة من متأخريهم للمفروغية عنه بسبب الانصراف المذكور، لاللخلاف فيه، بل يبعد منهم جداً الخلاف فيه.

هذا وأما مواراة كل ثوب لما تحته فما تقدم من جامع المقاصد في وجه اعتباره من أنه المتبادر من الثوب وكونه أحوط لا ينهض بإثباته، لوضوح عموم الثوب الرقيق الذي لا يواري عرفاً، ولذا تضمنت النصوص التنبيه لعدم الاجتزاء به في الصلاة(2) ، وجواز ترقيق المرأة الثياب لينظر إليها من يريد تزويجها(3).

إلا أن يرجع ذلك منه إلى دعوى الانصراف في خصوص المقام ونحوه من موارد الأمر بلبس الثوب أو إلباسه أو نحوهما، لأن الغرض النوعي من اللبس هو الستر، ولاسيما في مثل الكفن الذي يبعد إرادة التجمل منه. لكن في بلوغه حداً يصلح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21، 22 من أبواب لباس المصلي.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 36 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه حديث: 11.

ص: 32

معه التوقف في الإطلاق إشكال، فضلاً عن أن ينهض بإثبات التقييد. كما أن الاحتياط لا يصلح وجهاً لإثبات الوجوب مع ما هو التحقيق من الرجوع في مثل المورد من موارد الشك في شرط الواجب للبراءة، فضلاً عن أن يخرج به عن الإطلاق لو تم.

وكذا الاستدلال عليه بما في الغنية من الإجماع على عدم جواز التكفين بما لا تجوز الصلاة فيه. إذ هو لو تم ظاهر في عدم جواز اشتمال الكفن على ما تبطل الصلاة فيه ولو مع غيره كالنجس وأجزاء ما لا يؤكل لحمه، لا اعتبار كون كل قطعة من الكفن مما تجوز به الصلاة منفرداً، بنحو لا تكفي فيه الثياب الثلاثة التي لا يستر كل منها وتستر بمجموعها، وإن جازت بها الصلاة، حيث لا إشكال في كفاية ذلك في اللباس المعتبر فيها.

وعن بعض مشايخنا الاستدلال على ذلك بانحلال التكليف بتكفين الميت إلى تكاليف ثلاثة، وحيث أخذ الستر في معنى الكفن لزم كون كل واحد من الأكفان ساتراً، وإلا لم يكن كفناً. ولا يخفى أنه لو تم أخذ الستر في مفهوم الكفن فإن كان مجموع الثياب كفناً واحداً لم يعتبر الستر إلا في مجموعها وإن قلنا بأنها واجبات انحلالية استقلالية، لأن وجوب كل واحد منها بنفسه أعم من أن يكون كفناً تاماً، وإن كان كل منها كفناً لزم كونه ساتراً وإن قلنا بأنها واجبات ارتباطية، إذ لا مانع من وجوب ثلاثة أكفان بنحو الارتباطية.

وعلى ذلك لا أثر لوحدة التكليف بها بنحو الارتباطية وتعدده بنحو الانحلال في ذلك، ليهم تحقيقه هنا، بل العمدة في وجوب كون كل منها ساتراً بعد الفراغ عن أخذ الستر في مفهوم الكفن دعوى: أن كل ثوب كفن، كما قد يناسبه إطلاق الأكفان بالجمع على ما يكفن فيه الميت من القطع في النصوص(1) واستعمالات العرف.

لكن التعبير عنها بالكفن بنحو الإفراد أظهر وأشيع، بل الجمع في نفسه نادر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 9. وباب: 22 منها حديث: 5. وباب: 35 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 33

جداً. وحمل الإفراد على الجنس لو أمكن في بعض الموارد ليس بأولى من حمل الجمع على كونه بلحاظ تعدد ثياب الكفن الواحد. على أنه بناءً على أخذ الستر في مفهوم الكفن فحيث يضاف الكفن للميت يكون ظاهراً في ستر تمامه الذي لا يكون إلا بمجموع الثياب، حيث لا إشكال في عدم وجوب الاستيعاب في بعضها. ولو تعدد المستوعب كان ستر الميت مستنداً لأولها لو كان صفيقاً، وما بعده يستر ما تحته لا الميت. وبالجملة: لو لم يكن ظاهر الكفن تمام الثياب فلا أقل من عدم ثبوت صدقه على كل منها، ليتم الاستدلال المذكور.

هذا وأما ما تقدم من الروض من ظهور صحيح زرارة في الاكتفاء بستر المجموع فلا مجال له بناء على روايته بأو، حيث يكون ظاهراً في اعتبار مواراة الثوب الواحد لو اقتصر عليه من دون نظر لحال الثياب الثلاثة لو كفن بها. واحتمال رجوع "يواري..." للكفن لا للثوب المذكور مخالف لظاهر تركيب الكلام. وكذا بناء على روايته بالواو، بناء على ما تقدم في توجيهه، حيث يدل على اعتبار كون الثوب الأخير موارياً وحده من دون نظر لغيره. بل قد يستفاد منه اعتبار ذلك في بقية الثياب، لعدم الفصل بينها في ذلك، أو لأن المفهوم من الأدلة عدم الفرق بين الثياب إلا في مقدار السعة والشمول. وإن كان كلاهما غير خال عن الإشكال.

نعم بناءً على روايته بحذف العاطف والمعطوف معاً فقد يدعى ظهوره في الاكتفاء بمواراة الثياب الثلاثة التي هي الكفن المفروض بمجموعها وعدم اعتبار مواراة كل منها. لكنه يشكل بأنه ليس مسوقاً لبيان اعتبار أصل المواراة، بل اعتبار استيعابها لتمام الجسد. فهو إنما يدل على كفاية استناد مواراة تمام الجسد لمجموع الثياب، وعدم اعتبار كون كل منها موارياً له بتمامه الذي هو ممتنع لما تقدم من استناد مواراة الجسد لأول الثياب، ولا نظر له إلى اعتبار كون كل منها موارياً لما تحته أوعدمه.

ومن هنا ينحصر الوجه في البناء على عدم اعتبار ذلك بالأصل أو الإطلاق، بناءً على ما سبق من عدم وضوح الانصراف لخصوص الساتربنحو يمنع من الإطلاق،

ص: 34

(35)

(مسألة 26): لابد في التكفين من إذن الولي على نحو ما تقدم في التغسيل (1)، ولا يعتبر فيه نية القربة (2).

فضلاًعن أن يكون دليلاًعلى التقييد.

(1) وتقدم الاستدلال عليه هناك بما يجري في المقام وسائر أفعال التجهيز.

(2) كما نبّه له غير واحد في العصور المتأخرة، وفي الجواهر أنه ينبغي القطع به فيما عدا التغسيل من أحكام الميت. وقال: "ولعله بعد ظهور الإجماع من الأصحاب على ذلك لأن المفهوم من الأدلة بروز هذه الأمور إلى الخارج من غير اعتبار لها. ولظهور وجه الحكمة فيها، وأنها ليست من الأمور التي يقصد بها تكميل النفس ورياضتها والقرب ونحو ذلك".

لكن الإجماع وإن كان مناسباً لعدم تنبيه جمهور الأصحاب لاعتبار ذلك مع الحاجة للتنبيه له لو كان معتبراً، لغفلة عامة الناس عنه بسبب كون الغرض الظاهر منه لهم مواراة البدن وستره، إلا أن في كفاية ذلك في استفادة الإجماع الحجة إشكالاً أو منعاً. ولاسيما مع تعارف قيام المغسل به المناسب لوحدة الداعي لهما، حيث قد يغفل مع ذلك عن التنبيه له اكتفاء بظهور اعتبار النية في الغسل.

وما ذكره بعد الإجماع لا ينهض بالاستدلال ما لم يبلغ حدّ القطع، الذي عهدته على مدعيه. بل أنكره في المستند. قال: "ولذا لا يسقط التكليف بحصول ذلك الستر من غير المكلف، كريح أو سيل أو نحوه" .وإن كان ما ذكره لا يخلو عن إشكال، كما يظهر مما يأتي. فالعمدة في وجهه ما حقق في مبحث التعبدي والتوصلي من الأصول من أن مقتضى الأصل في الأوامر التوصلية.

لكن في الروض بعد التعرض للتحنيط والتكفين: "والنية معتبرة فيهما، لأنهما فعلان واجبان. لكن لو أخل بها لم يبطل الفعل. وهل يأثم بتركها؟ يحتمله، لوجوب العمل، ولا يتم إلا بالنية، لقوله (عليه السلام): لا عمل إلا بنية. وعدمه أقوى، لأن القصد

ص: 35

بروزهما للوجود كالجهاد... ولكن لا يستتبع الثواب إلا إذا أريد بها التقرب إلى الله تعالى، كما نبه عليه الشهيد (رحمه الله) في القواعد" .ولا يخفى التدافع بين اعتبار النية وعدم وجوب الإعادة ولا الإثم بتركها.

ومن ثم قرب في المستند وجوب الإعادة بتركها، لوجوب امتثال الأمر المتوقف عليها عرفاً. وإن كان يشكل بأن الامتثال بمعنى موافقة الأمر وإن كان واجباً عقلاً غير موقوف على النية، وبمعنى التعبد به وقصد امتثاله موقوف على النية قطعاً إلا أنه غير واجب عقلاً، ويحتاج وجوبه واعتباره في المأمور به شرعاً للدليل. والحديث المذكور في الروض لا ينهض به، كما تقدم في مبحث النية من الوضوء، وأطلنا الكلام فيه وفي غير ذلك من جهات المسألة في الأصول.

نعم الظاهر توقف حصول الثواب على النية، كما تقدم من الروض، لأن إطلاق أدلة الثواب وإن اقتضى عدمه، إلا أن مناسبة الثواب للجزاء على الطاعة وشكر الله تعالى للعبد على فعله قرينة عامة على التقييد بالنية، كما في سائر الموارد التي أطلق فيها الثواب على العمل.

ويناسبه ما في مرسل ابن أبي عمير: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: من ترك الخمر لغير الله سقاه الله من الرحيق المختوم. فقلت: فيتركه لغير الله. قال: نعم صيانة لنفسه" (1) ونحوه خبر حماد بن عمرو وأنس بن محمد(2). فإن تأكد الراوي من كون الترك لغير الله تعالى شاهد بعدم مألوفيته له، وعدم مناسبته لما تقتضيه القواعد العامة الارتكازية في استحقاق الثواب، وإن كان هو مقتضى إطلاق كثير من أدلة الثواب.

على أن ذلك مقتضى الحديث المتقدم من الروض ونحوه، حيث يكون حاكماً على الإطلاقات المذكورة، بناء على ما هو الظاهر من وروده لبيان إناطة الثواب بالنية، كما تقدم في مبحث اعتبار النية من الوضوء، وذكرناه في مبحث التعبدي والتوصلي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 14 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 9 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 18.

ص: 36

(37)

(مسألة 27): إذا تعذرت القطعات الثلاث اقتصر على الميسور (1)

من الأصول.

ومنه يظهر ضعف ما في الجواهر، حيث قال: "مع احتمال أن يقال هنا بحصول الثواب مع عدم النية، لظواهر الأدلة ما لم ينو العدم. بل ربما ظهر من المحكي عن الأردبيلي حصوله معه أيضاً. وهو لا يخلو من وجه" .والأمر سهل، لخروجه عن محل الكلام من تعيين الحكم الشرعي أو الوظيفة العملية.

بقي الكلام في حكم وقوع الفعل من غير المكلف، كالصبي. وإطلاق دليل التكليف وإن كان قد يمنع منه ويقتضي مباشرة المكلف، إلا أنه لا إطلاق يقتضي ذلك في المقام، كما يظهر بمراجعة ما تقدم في المسألة السادسة عشرة في تغسيل الصبي للميت. بل ذكرنا هناك أن مقتضى إطلاق جملة من النصوص الشارحة لتغسيل الميت الاجتزاء بتغسيل الصبي له. وقد يجري نظيره في المقام. بل إجزاؤه في التغسيل مع كونه تعبدياً يقتضي إجزاءه في التكفين بالأولوية العرفية. ولا أقل من كونه مقتضى أصالة البراءة فيهما، على ما أوضحناه هناك.

بل الأصل المذكور يقتضي الاجتزاء هنا بحصول النتيجة من غير الفاعل المختار، كالريح، وإن لم يجتزأ به هناك، لكون الغسل تعبدياً يعتبر فيه النية. وأما ما يظهر مما تقدم من المستند من المفروغية عن عدم إجزائه، فهو غير ظاهر الوجه. بل يبعد بناء المتشرعة على ذلك، إذ لازم عدم الاجتزاء به أنه لو أوقعت الريح في أثناء تكفين الميت بعض أجزاء الكفن في الموضع المناسب له من بدن الميت لزم رفعه وإرجاعه إلى محله بيد المكلف، وهو أمر مغفول عنه بعيد عن مقتضى السيرة بعد كون الغرض الارتكازي من التكفين ستر بدن الميت الحاصل بذلك.

(1) كما في العروة الوثقى. والمتيقن منه وجوب الميسور من القطع الثلاث، لا من أبعاضها، فيرجع لما في الدروس والروض والروضة من الاقتصار على الممكن

ص: 37

من العدد. أما كلمات الأصحاب الأخرى فلا تتضمن الإطلاق المذكور على اختلاف فيها. فقد قيد في الخلاف والسرائر وغيرهما وجوب القطع الثلاث بالقدرة والاختيار، وصرح بالاقتصار على ما يستره في المبسوط، وعلى الإزار في الوسيلة والنافع والمعتبر حاكياً عن ابن الجنيد والمرتضى، كما صرح بوجوب قطعة واحدة مع الضرورة في الشرايع والتذكرة والمنتهى والقواعد وجامع المقاصد، بل في التذكرة والرياض دعوى الإجماع عليه، وفي الحدائق نفي الخلاف فيه، وفي الجواهر نفي وجدانه، كما نفى شيخنا الأعظم والفقيه الهمداني الإشكال فيه، وفي النهاية: "وإن لم يكن للميت ما يكفن به من هذه الثياب وكانت له قميص مخيطة فلا بأس أن يكفن فيها إذا كانت نظيفة".

وكيف كان فحيث كان مقتضى الأصل سقوط المركب الارتباطي بتعذر بعض أجزائه فوجوب الميسور في المقام إما أن يبتني على كون التكليف بأجزاء الكفن منحلاً إلى تكاليف متعددة لا يكون تعذر امتثال بعضها مسقطاً للآخر، كما استظهره في الجواهر وتقدم عن بعض مشايخنا، أو على وجوب الميسور في الارتباطيات.

والأول لا يناسب أدلة الكفن وأدلة تحديده، لظهورها في وحدة التكليف، وتعلقه بمجموع الكفن، نظير ما تقدم في التغسيل عند الكلام في وجوب الغسلة مع تعذر خليطها من المسألة الثامنة.

والثاني لا مجال للاستدلال عليه بقاعدة الميسور، لما تكرر غير مرة من عدم ثبوتها كلية، لا بالإجماع، ولا بالعموم، ولا بالاستصحاب، على ما أوضحناه في التنبيه الخامس من تنبيهات مسألة دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين من كتابنا (المحكم في أصول الفقه). كما لامجال للاستدلال عليه في خصوص المقام بالنصوص، لعدم وفائها به على عمومه.

ومثله الاستدلال في كلماتهم تارة: بأنه حال ضرورة، فيقتصر على الممكن. وأخرى: بأنه مع عدم الكفن يدفن عارياً، فالاقتصار على بعضه أولى. وثالثة: بالإجماع المستفاد مما تقدم من تصريحاتهم.

ص: 38

لاندفاع الأول بأن الضرورة إنما تقتضي سقوط المتعذر، ولا تقتضي وجوب الباقي إلا بضميمة أحد المبنيين السابقين اللذين عرفت حالهما. والثاني بأنه لا يقتضي الوجوب، بل غايته الاستحباب. لو لم يناقش فيه بأنه فرع اهتمام الشارع ببعض الكفن، ولا يلزم منه إتلاف المال بلا مسوغ. والثالث بعدم ثبوت الإجماع على عموم وجوب الميسور بعد قصور أكثر كلماتهم عنه، واختصاصها بوجوب قطعة واحدة أو خصوص الإزار أو القميص.

والذي ينبغي أن يقال: الظاهر عدم الإشكال تبعاً للمرتكزات المتشرعية في عدم سقوط الكفن رأساً بتعذر شيء منه، وهو المتيقن مما تقدم من كلماتهم. وقد يستفاد من بعض النصوص، كموثق عمار: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): ما تقول في قوم كانوا في سفر لهم يمشون على ساحل البحر، فإذا هم برجل ميت عريان قد لفظه البحر وهم عراة وليس عليهم إلا إزار، كيف يصلون عليه وهو عريان وليس معهم فضل ثوب يكفنونه [به]. قال: يحفر له ويوضع في لحده، ويوضع اللبن على عورته، فيستر عورته باللبن وبالحجر ثم يصلى عليه... ولا يصلى عليه وهو عريان حتى توارى عورته"(1). وقريب منه مرسل محمد بن أسلم، إلا أن فيه:" إذا لم يقدروا على ثوب يوارون به عورته فليحفروا..."(2). لظهور السؤال فيهما في المفروغية عن وجوب التكفين لو كان معهم فضل ثوب يكفنونه به. ولا يراد به التكفين التام، لعدم مناسبته لحالهم، ولا لقوله: "فضل ثوب..." .كما يناسبه أيضاً ما يأتي عند الكلام في مقدار الواجب عند تعذر التام.

هذا ولا يبعد وجوب الثوب الساتر لتمام بدن الميت مع القدرة عليه، كما صرح به من تقدم، لارتكاز أن ذلك هو الغرض المهم من التكفين، وأن وجوب ما زاد على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 39

ذلك لغرض زائد عليه.

ويناسبه التعليل في معتبر الفضل بن شاذان(1) المتقدم عند الكلام في وجوب كون الكفن ساتراً غير حاك لما تحته، وموثق الفضل بن يونس الكاتب فيمن لم يترك ما يكفن به ولم يكن له من يقوم بأمره، وفيه بعد السؤال عن تكفينه من الزكاة: "قال: كان أبي يقول: إن حرمة بدن المؤمن ميتاً كحرمته حياً، فوارِ بدنه وعورته وجهزه وكفنه وحنطه واحتسب بذلك من الزكاة"(2) ، لأن تشبيه بدن الميت بالحي في الحرمة وتفريع التكفين على ذلك يناسب اهتمام الشارع بستره، لأن ذلك هو المفهوم من مقتضى الحرمة عرفاً. فتأمل.

والظاهر أنه إليه يرجع ما تقدم من جماعة من وجوب قطعة واحدة مع الضرورة الذي هو معقد الإجماع ونفي الخلاف والإشكال المتقدمة، لارتكاز أهمية الثوب التام، ولذا صرح في جامع المقاصد بتقديم الإزار حينئذٍ. ولاسيما مع سوقه في كلام بعضهم في مقابل قول للعامة بوجوب ثوب واحد تام حتى مع الاختيار، ومع ما في التذكرة والمنتهى من وجوب تتميم ستره لو نقص الثوب بحشيش ونحوه.

نعم لا مجال للاستدلال عليه بفعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك بحمزة (عليه السلام) كما في المنتهى إذ لم أعثر على ما تضمن ذلك عدا ما في صحيح إسماعيل بن جابر وزرارة من قوله (عليه السلام) بعد الحكم بدفن الشهيد في ثيابه بدمائه:" دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه حمزة في ثيابه بدمائه التي أصيب فيها، ورداه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برداء فقصر عن رجليه، فدعا له باذخر فطرحه عليه"(3). وهو كما ترى قد تضمن دفن حمزة (عليه السلام) في ثيابه، ومن الظاهر الاكتفاء بها في الشهيد، فلابد من حمل ترديته بالرداء على الاستحباب، ويخرج عما نحن فيه. على أنه معارض بما تضمن تجريد حمزة من ثيابه، كما تقدم عند الكلام في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 33 من أبواب التكفين حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

ص: 40

تكفين الشهيد.

ومثله الاستدلال لما ذكرناه من وجوب الثوب الشامل بما تقدم في صحيح زرارة من قوله (عليه السلام): "إنما الكفن المفروض ثلاثة أثواب أو ثوب تام..." (1) بدعوى حمل الثلاثة على الاختيار والواحد على الضرورة. إذ فيه: أنه لا شاهد على الحمل المذكور. مع عدم نهوض الحديث بإثبات كفاية الثوب المذكور بعد اختلاف نسخه، على ما سبق في أول الكلام في التكفين. فالعمدة في إثبات الثوب الشامل ما تقدم.

ثم إنه لو تعذر الثوب الشامل فوجوب الثوب الناقص قريب جداً للمرتكزات، كما تقدم من النهاية، خصوصاً بملاحظة مناسبته لاحترام الميت الذي أشير إليه في موثق الفضل بن يونس، لأن الاحترام المذكور قابل للتبعيض ارتكازاً، كالاهتمام بستره الذي أشير إليه في معتبر الفضل بن شاذان. ومقتضاه تقديم الأشمل من الثوبين.

ولو استشكل في ذلك فلا مجال للإشكال في وجوب ما يستر العورة، كما صرح به في الرياض والجواهر، لأنها أولى من سائر أجزاء البدن بالستر. ولاسيما مع ذكرها بالخصوص في معتبر الفضل بن شاذان وموثق الفضل المتقدمين.

نعم لا مجال للاستدلال عليه بما تقدم في موثق عمار ومرسل محمد بن أسلم من سترها باللبن ونحوه، ولا ما في الثاني من اشتراط ذلك بما إذا لم يجدوا ثوباً يستر عورته. لاحتمال أن لا يكون ذلك واجباً بملاك التكفين، بل لأجل الصلاة عليه، كما قد يناسبه قوله (عليه السلام) في الموثق: "ولا يصلى عليه وهو عريان..." ونحوه المرسل وغيره(2).

هذا وأما وجوب غير ذلك كالثوبين مع القدرة كما هو مقتضى المتن وغيره مما تقدم فيشكل إقامة الدليل عليه، فضلاًعن الدليل على وجوب ضمّ أبعاض الثوب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 8.

ص: 41

وإذا دار الأمر بينهما يقدم الإزار (1) وعند الدوران بين المئزر

المتعذر بتمامه للثوب الميسور. وإن كان كلاهما مقتضى قاعدة الميسور التي استدل بها غير واحد في المقام وغيرها مما تقدم التعرض له. فلاحظ.

(1) كما في كشف الغطاء وتقدم من جامع المقاصد. وتأمل في الجواهر في وجوبه وإن كان أحوط. ووجوبه ظاهر بناء على ما سبق منّا. وأما بناء على عموم وجوب الميسور في المقام أو مطلقاً، فلقرب صدق تمام الميسور على الإزار عرفاً وبعضه على غيره وإن كانا متباينين حقيقة، بعد كونه أقرب للتكفين التام، ومحققاً لأكثر مما يحققه غيره من فائدته.

ولا أقل من كونه أهم بسبب ذلك، فيرجح مع التزاحم، سواءً قلنا بأن التكليف بقطع الكفن انحلالي أم ارتباطي، إذ على الأول يكون المورد من صغريات التزاحم بين التكليفين الذي يرجح معه الأهم بلا إشكال.

وعلى الثاني فالمورد وإن لم يكن من صغريات التزاحم بين التكليفين، بل من موارد العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين المتباينين بعد فرض سقوط التام بالتعذر، إلا أن ابتناء التكليف بأجزاء المركب على الميسور مستلزم عرفاً لتمامية ملاك التكليف بكل جزء، ولذا يجب لولا المزاحم ولو مع تعذر غيره. فمع فرض اختلاف الأجزاء في الأهمية لابد من كون المجعول شرعاً هو الأهم بعينه. فالأهمية في المقام تستلزم جعل الأهم كما تستلزمه في التزاحم الحكمي.

نعم لو لم يحرز فعلية الملاك في كل جزء واحتمل عدم فعلية ملاك الأهم في ظرف التزاحم لم تجد أهميته في نفسه في إحراز جعله. لكنه لا يناسب عرفاً كون المورد من صغريات قاعدة الميسور.

ومن هنا لم يتضح الوجه فيما عن بعض مشايخنا (دامت بركاته) من التوقف في الترجيح بالأهمية في الواجبات الضمنية الارتباطية. فتأمل جيداً.

ص: 42

(43)

والقميص يقدم القميص (1)، وإن لم يكن إلا مقدار ما يستر العورة تعين الستربه (2)، وإذا دار الأمر بين ستر القبل والدبر تعين ستر القبل (3).

(مسألة 28): لا يجوز اختيار التكفين بما لا تجوز الصلاة فيه (4)

-

(1) كما في جامع المقاصد وكشف الغطاء، وجعله في الجواهر أحوط وإن تأمل في وجوبه. ويظهر الحال فيه مما تقدم منّا عند الكلام في وجوب الميسور وفي وجه ترجيح الإزار.

هذا بناءً على وجوب المئزر، وأما بناء على ماتقدم منامن وجوب الإزار الشامل لتمام البدن عدا الرأس فيكون الترجيح له على القميص لو تم ترجيح القميص على المئزر. بل لا يبعد ترجيحه وإن كان ناقصاً إذا كان أشمل من القميص.

(2) كما تقدم من الرياض والجواهر. وتقدم وجهه.

(3) كما في كشف الغطاء لأهميته ارتكازاً فيتعين. ولاسيما مع معلومية أن الاهتمام بستر العورتين انحلالي لا ارتباطي.

(4) كما في الغنية والوسيلة والسرائر والنافع والقواعد والدروس وجامع المقاصد والمسالك والروض والروضة وكشف اللثام، وفي الغنية دعوى الإجماع عليه، وعن محكي مجمع البرهان: "وأما اشتراطهم كون الكفن من جنس ما يصلى فيه وكونه غير جلد فكأن دليله الإجماع" .لكن ذلك لا ينهض دليلاً على الكلية المذكورة بحيث يستغنى معه عن الدليل على الصغريات بعد الاقتصار على الحرير في كثير من الكتب، كالمبسوط والنهاية والاقتصاد والشرايع والتذكرة والمنتهى والإرشاد وغيرها، وبعد ظهور بعضها في أن المعيار على دليل الصغريات، كالمعتبر، حيث تضمن الإشارة للكلية المذكورة والاستدلال على بعض صغرياتها وإهمال إجزاء ما لايؤكل لحمه منها.

ص: 43

اختياراً (1) للرجال (2)، فلا يجوز بالحرير (3)،

ومثله الاستدلال بصحيح أبي بصير ومحمد بن مسلم(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لاتجمروا الأكفان ولاتمسحوا موتاكم بالطيب إلا بالكافور، فإن الميت بمنزلة المحرم" (2) بضميمة عدم جواز الإحرام فيما لا تجوز الصلاة فيه.

إذ فيه مع عدم وضوح الدليل على الكلية المذكورة في الإحرام -: أن التنزيل المذكور لا مجال للبناء على عمومه بنحو اللزوم بعد كثرة اختلاف الميت عن المحرم في الأحكام حتى إذا مات حال الإحرام، حيث لا يجري عليه من أحكام المحرم إلا منعه من الطيب حتى الكافور، وبعد كون تطيب الميت بغير الكافور الذي هو مورد التنزيل مكروهاً لا محرماً.

ومن ثم لا يبعد حمله على الكراهة بلحاظ الأمور المبتنية على التزيين والتجمل وإن كان ذلك أيضاً قد لا يناسب ما تضمن التكفين بالثياب الجيدة المزينة. فتأمل. ومن هنا لا مجال للتعويل على الكلية المذكورة في حكم صغرياتها، بل يلزم النظر في دليل حكم صغرياتها.

(1) كما في كشف اللثام ولعله مراد الكل.

(2) كما في الوسيلة والنافع والدروس وجامع المقاصد والروضة وكشف اللثام. ولعله مراد الكل، كما يناسبه تفريعهم عليه حرمة التكفين بالحرير. ولاسيما مع تصريح جملة منهم بعموم المنع منه للمرأة مع جواز الصلاة لها فيه.

(3) كما هو المعروف بين الأصحاب المصرح به في كلام جماعة كثيرة، كالشيخ

********

(1) لصحة طريق الصدوق (قدس سره) إليه، إذ ليس فيه من قد يتوقف فيه عدا القاسم بن يحيى وجده الحسن بن راشد، والظاهر وثاقتهما، كما أوضحنا ذلك عند الاستدلال برواية الخصال على الاستصحاب من الأصول، فلا يهم مع ذلك عدم ثبوت اعتبار طريق الكليني للحديث عن محمد بن مسلم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 44

(45)

ومن بعده طبقة بعد طبقة. وادعى الإجماع عليه في المعتبر ومحكي شرحي الجعفرية والمفاتيح، كما ادعي عليه أيضاً بعد تقييده بالمحض في التذكرة ومحكي الذكرى وظاهر نهاية الأحكام. ولعله المتيقن مما تقدم من الغنية من دعوى الإجماع على عدم التكفين فيما لا تجوز الصلاة فيه. ولعله استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه. وما عن الكفاية من نسبته للمشهور غير ظاهر الوجه.

وكيف كان فعمدة الدليل عليه مضمر الحسن بن راشد: "سألته عن ثياب تعمل بالبصرة على عمل العصب [القصب] اليماني من قز وقطن هل يصلح أن يكفن فيها الموتى؟ قال: إذا كان القطن أكثر من القز فلا بأس"(1).

وقد يستشكل فيه بضعف سند الحديث، لاشتراك الحسن بن راشد بين البغدادي الثقة الذي هو من وكلاء الإمام الهادي (عليه السلام) وأصحابه وأصحاب أبيه (عليه السلام)، ومولى بني العباس الذي اختلف في وثاقته، وإن كان الظاهر أنه ثقة من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام) والطفاوي المضعف الذي هو من أصحاب الرضا (عليه السلام) أو في طبقتهم. ويندفع كما نبه له غير واحد بأن الظاهر في المقام كون الراوي هو البغدادي، لأن راوي الحديث عنه هو محمد بن عيسى الذي هو من رواة الشخص المذكور، ولا يروي عن مولى بني العباس، بل عن حفيده القاسم بن يحيى، ولا عن الطفاوي، بل الراوي عن الطفاوي ليس إلا علي بن السندي. ولأن الصدوق قد روى المضمر مرسلاً عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، وقد عرفت أن البغدادي من أصحابه دون الآخرين.

ومثله الإشكال بأن البأس أعم من الحرمة، ولو أريد منه الحرمة في المقام سقط المضمر عن الحجية بإعراض الأصحاب، لأنهم بين مقيد للحرير بالمحض، ومطلق فيشمل ما كان الخليط فيه أكثر ما لم يكن الحرير مستهلكاً أو لا يشمل المخلوط أصلاً كما هو الظاهر ومعبر بما لا تجوز الصلاة فيه، فيختص بما إذا كان حريراً محضاً. ومن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 45

ثم ادعى في الجواهر القطع بعدم الحرمة في بعض أفراد مفهوم الشرطية التي تضمنها المضمر.

لاندفاعه بظهور البأس في المقام في الحرمة، وبناء المشهور على الجواز في بعض الصور قد يكون لبنائهم على اشتراك الكفن مع لباس الصلاة في الحكم. فإن تم فهمهم كان قرينة على حمل النهي في المضمر على الكراهة في بعض الأفراد، لا على رفع اليد عن ظهوره في الحرمة رأساً، بل يكون ذلك بنفسه دليلاً على حرمة الحرير المانع من الصلاة. وإن لم يتم فلا موجب لرفع اليد عن ظهوره في عموم الحرمة لتمام أفراد المفهوم. فلاحظ.

هذا وقد يستدل بنصوص أخر قد تصلح لتأييد المضمر ولا تستقل بالاستدلال.

منها: ما تضمن النهي عن التكفين بكسوة الكعبة، كخبر مروان بن عبد الملك:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل اشترى من كسوة الكعبة شيئاً فقضى ببعض [ببعضه] حاجته، وبقي بعضه في يده هل يصلح بيعه؟ قال: يبيع ما أراد ويهب ما لم يرده ويستنفع به ويطلب بركته. قلت: أيكفن به الميت؟ قال: لا "(1) وغيره، بدعوى: أن النهي عن التكفين به مع الترخيص في الانتفاعات الأخرى ليس إلا لكونه حريراً، كما استظهر ذلك في المنتهى والذكرى وغيرهما.

وفيه: أنه لا قرينة على ذلك، ولا على أن الكسوة لا تكون إلا حريراً، بل قد يكون لمنافاته لتكريم الكسوة، لتعرضها به للنجاسة، أو لكونها سوداء أو مزخرفة، فيكره التكفين بها.

ومنها: صحيح أبي بصير ومحمد بن مسلم المتقدم عند الكلام في عموم عدم جواز التكفين بما لا تجوز الصلاة فيه، بضميمة ما تضمن عدم جواز الإحرام بالحرير. وفيه بعد تسليم عدم جواز الإحرام بالحرير أن الصحيح لا ينهض بعموم تنزيل الميت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 46

منزلة المحرم، كما سبق.

ومنها: مرسل الدعائم عن علي (عليه السلام): "أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى أن يكفن الرجال في ثياب الحرير"(1). ولا مجال للتعويل عليه مع ضعفه، ومع قوة ظهوره في اختصاص النهي بالرجال مع عدم بناء المشهور عليه. ونحوه الرضوي:" لا تكفنه في كتان ولا ثوب إبريسم"(2).

وأضعف من ذلك التمسك له تارة: بإعراض السلف عنه مع اهتمامهم بإجادة الأكفان والتنوق فيها، كما تضمنته النصوص(3) أيضاً. وأخرى: باستصحاب حرمة لبسه حال الحياة.

لاندفاع الأول بعدم الدليل على الإعراض، وعدم دليليته على الحرمة. والثاني بأن المحرم حال الحياة اللبس على اللابس، وحرمة إلباسه على الغير لو تم متفرع على حرمة لبسه بعنوان حرمة الإعانة على الإثم، والمشكوك بعد الوفاة تحريم التكفين والالباس على الغير بعنوانه، من دون أن يحرم عليه. وكفى بهذا في تعدد الموضوع المانع من جريان الاستصحاب لو غض النظر عما هو التحقيق من كفاية الموت فيه في استصحاب الأحكام التكليفية.

ومن هنا كان الظاهر انحصار الدليل عليه بالمضمر المعتضد بمعروفية الحكم بين الأصحاب، وتكرر دعوى الإجماع عليه منهم، حتى أن الشيخ حمل حديث السكوني الآتي على التقية لموافقته للعامة، حيث يظهر منه معروفية المنع عندنا. ولعله لذا قال في محكي مجمع البرهان: "كأن دليله الإجماع".

هذا وأما الاستدلال على الجواز في رواية إسماعيل بن أبي زياد السكوني من

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 18 من أبواب التكفين حديث: 2.

(2) الرضوي: 18.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التكفين.

ص: 47

قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "نعم الكفن الحلة، ونعم الأضحية الكبش الأقرن"(1). فهو موقوف على اختصاص الحلة بالحرير، ولا يتضح ذلك بعد مراجعة كلمات اللغويين، فقد قيل: إن الحلة هي كل ثوب جيد، وقيل: هي رداء وقميص وتمامها العمامة، كما قيل: إنها ثلاثة قميص وإزار ورداء، وقيل أيضاً: الحلل الوشي والحبرة والخز والقز والقوهي والمروي والحرير. نقل ذلك في لسان العرب، وفي نهاية ابن الأثير ومختار الصحاح: إنها برود اليمن، وفي القاموس: إنها برد أوغيره، إلى غير ذلك من كلماتهم، وبعضها كما ترى صريح في أنها قد لا تكون حريراً، كما يناسبه ما في الحديث المنقول في لسان العرب من أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كسا علياً (عليه السلام) حلة سيراء، لوضوح أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يكسوه ثوب حرير وإن كان قد يهديه له.

وهو المناسب للحديث المستدل به أيضاً، لظهوره في رجحان التكفين بالحلة، لا في مجرد جوازه، مع إجماع المسلمين على عدم رجحان التكفين بالحرير، بل هم بين قائل بالحرمة، وقائل بالكراهة مطلقاً، أو في غير المرأة من دون أن يحكم بالاستحباب فيها على ما نقله في المعتبر والتذكرة والمنتهى. فلا يبعد أن يبتني رجحان الحلة على تحقق الكفن الكامل بها، لأنها ثلاثة أثواب، كما تقدم من بعضهم، أو لاشتمالها على القميص، كما تقدم من آخر.

ومن هنا يظهر أنه لا مجال لما تقدم من الشيخ من حمله على التقية على تقدير انحصار الحلة بالحرير، بل الأولى رده مع ضعف السند بمخالفة الإجماع.

ثم إن مقتضى إطلاق بعضهم وصريح جماعة عدم الفرق بين الرجل والمرأة، ومنهم مدعو الإجماع في المسألة، بنحو قد يظهر منهم دخوله في معقد الإجماع، بل هو كالصريح من قوله في الذكرى:" ولا في الحرير للرجل والمرأة باتفاقنا ".ويقتضيه إطلاق المضمر ونصوص النهي عن التكفين في كسوة الكعبة والرضوي، وإعراض السلف، بخلاف باقي الوجوه المتقدمة لو تمت.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب التكفين حديث: 2.

ص: 48

(49)

ولا بما لا يؤكل لحمه (1)

ومن ثم استشكل في العموم للمرأة في المنتهى ومحكي نهاية الأحكام. قال في الأول:" هل يحرم تكفين النساء فيه عندي إشكال ينشأمن جوازلبسهن له في الصلاة، بخلاف الرجل، ومن عموم النهي".

لكن جواز لبسهن له في الصلاة لا يستلزم جواز تكفينهن به، لينافي عموم النهي الذي اعترف به، بل غاية ما يدعى العكس، وهو أن عدم جواز اللبس في الصلاة يستلزم عدم جواز التكفين، وهو لا ينفع في المدعى.

هذا وقد صرح في المسالك ومحكي فوائد الشرايع بعدم الفرق بين الصغير والكبير. ويظهر الوجه فيه مما تقدم.

(1) قطعاً، كما في جامع المقاصد. وهو المستفاد من كل من ذكر عدم جواز التكفين بمالا تجوز الصلاة به ممن تقدم، كما ينحصر الدليل عليه بما تقدم في الاستدلال للكبرى المذكورة مما سبق ضعفه. ويظهر منه عدم تمامية الإجماع في المقام، إذ تقدم عدم تماميته على الكبرى المذكورة، وليس للمقام خصوصية فيه عدا ما تقدم من جامع المقاصد من دعوى القطع، حيث ذكر في الجواهر أنها ممن لا يعمل بالظنيات تجري مجرى الإجماع. لكنه ممنوع.

وأما الاستدلال على ذلك بأنه مقتضى قاعدة الاشتغال بعد عدم ثبوت إطلاق للكفن يقتضي جواز ذلك. ففيه مع أن المرجع في مثل المقام البراءة -: أن الإطلاق مقتضى ما تضمن تحديد الكفن بثلاثة أثواب ونحوه مما تقدم، فإن جملة من ذلك وإن كان وارداً لبيان الكفن من حيثية العدد، فقد يتوقف في ثبوت الإطلاق من جهة أخرى كجنس الثياب، إلا أن الاقتصار في صحيح حمران(1) وموثق سماعة(2) المتقدمين

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 6.

ص: 49

ولا بالنجس (1) حتى إذا كانت نجاسته معفواً عنها (2) بل الأحوط

على التحديد بذلك في جواب السؤال عن الكفن ظاهر في الإطلاق من حيثية الجنس أيضاً، بل وغيرها أيضاً، عدا حيثية سعة الثياب، لما تقدم عند الاستدلال لوجوب الإزار الشامل. فراجع.

وأشكل من ذلك ما في كشف الغطاء من عدم جواز استصحاب الكفن لشيء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه. إذ هو خال عن الدليل. والكبرى المتقدمة لو تمت إنما تمنع من خصوص التكفين به، دون مثل ذلك.

(1) إجماعاً، كما في الذكرى. ويقتضيه في الجملة الإجماع المتقدم دعواه على عدم جواز التكفين بما لا يجوز الصلاة فيه، وإن تقدم عدم تمامية الكبرى المدعى عليها، فلا ينفع الاستدلال بها في المقام. وفي المعتبر:" ويشترط طهارة الأكفان. وهو إجماع. ولأنه لو لحقها نجاسة بعد التكفين وجب إزالتها، فقبل التكفين أولى".

والاستدلال المذكور متين جداً قد تبعه فيه غير واحد. ولعل عدم تعرض كثير منهم لاعتبار الطهارة في الكفن للاستغناء بما ذكروه من وجوب تطهيره مما يصيبه بعد التكفين به. ويأتي الكلام فيه في المسألة الواحدة والثلاثين إن شاء الله تعالى، أو لما تقدم من جملة منهم من عدم جواز التكفين بما لا تجوز الصلاة فيه.

ودعوى: أن ما تضمن إزالة النجاسة التي تصيب الكفن بعد التكفين به مختص بالنجاسة الخارجة من الميت، دون الخارجية التي هي محل الكلام.

مدفوعة بإلغاء خصوصية المورد المذكور عرفاً. بل وجوب تجنب النجاسة الخارجية أولى عرفاً من وجوب إزالة النجاسة الخارجة من الميت نفسه. ولاسيما مع كون إزالتها أصعب ومع توقع الابتلاء بها بعد الدفن من دون أن تزال.

(2) كما هو مقتضى إطلاق معقد الإجماعين المتقدمين. وكذا الاستدلال المتقدم، لأن إطلاق ما تضمن إزالة النجاسة الخارجة من الميت يعم ما لو كانت معفواً عنه

ص: 50

وجوباً أن لا يكون من جلد المأكول (1).

في الصلاة.

وأما ما عن بعض مشايخنا من أن إلحاق النجاسة الكثيرة الخارجية بالنجاسة الخارجة من الميت، للعلم بعدم الفرق، لا يستلزم إلحاق النجاسة الخارجية القليلة به بعد قصور الإطلاق عنه.

فيشكل بأن الإلحاق ليس للعلم بعدم الفرق، بل لإلغاء خصوصية مورد النصوص عرفاً، وفهم العموم منهاولوبضميمة الأولوية العرفية المشارإليها آنفاً، وهو يقتضي الإلحاق في الموردين، لفهم أن المعتبر طهارة الكفن. وإلا فلو بني على الاقتصار على مورد العلم بعدم الفرق وفتح باب التشكيك في خصوصيات الموارد فلا وجه للتوقف في خصوص ما يعفى عنه في الصلاة، بل يلزم التوقف في كثير من الصور المتصورة بلحاظ نوع النجاسة وقدرها.

نعم لو انحصر الدليل على اعتبار طهارة الكفن بكبرى عدم جواز التكفين بما لا تجوز الصلاة فيه للزم العفو عما يعفى عنه في الصلاة. لكن تقدم عدم تمامية الكبرى المذكورة. مع عدم انحصار الدليل بها لو تمت.

(1) فقد منع منه في المعتبر والتذكرة وجامع المقاصد والروض والمسالك والمدارك ومحكي نهاية الأحكام والذكرى والبيان والموجز وشرحي الجعفرية وكشف الالتباس وغيرها، وعن حواشي الشهيد الثاني نسبته للأكثر.

خلافاً لما في الروضة من جواز التكفين به. بل قد ينسب لكل من اقتصر على المنع مما لا يجوز الصلاة فيه - كالغنية والوسيلة والنافع والقواعد والدروس - فضلاً عمن اقتصر على المنع من الحرير، كبعض من تقدم. لكنه لا يخلو عن إشكال، لقرب كونهم بصدد بيان الشرط في ثياب الكفن بعد المفروغية عن لزوم كونه من سنخ الثياب التي يأتي القول بعد صدقها على الجلود.

ص: 51

وكيف كان فقد استدل عليه في المعتبر وغيره بما حاصله: أن الثياب إنما تصدق عرفاً على المنسوج ونحوه دون مثل الجلود، وحيث تضمنت الأدلة شرح الكفن بثلاثة أثواب فلا مجال للاجتزاء بالجلود.

وبذلك يخرج عن إطلاق القميص واللفافة لو فرض صدقهما في أنفسهما على الجلد، لأنه وإن كان بينهما حينئذٍ عموم من وجه، إلا أنه لا يبعد كون ظهور التحديد بالأثواب أقوى من ظهور التحديد بالقميص واللفافة. ولاسيما مع اشتمال بعض النصوص على ذكر القميص واللفافة في شرح الأثواب(1) ، واشتمال آخر على أخذ اللف أو الجمع في البرد(2) الذي هو من سنخ الثياب.

على أنه يشكل صدق القميص أو اللفافة على الجلد، إذ الظاهر أن القميص أخص من الثياب مطلقاً، لا من وجه، وإطلاقه على ما يكون من الجلد يحتاج للتقييد به، نظير إطلاق الماء على المضاف، فلا يكشف عن العموم. كما أن اللفافة وإن كانت شاملة له بمقتضى مادة اللف، إلا أن الظاهر الإشارة بها إلى ما يلف به من الثياب للمفروغية عن كون الكفن منها، لا مطلق ما يلف به ولو مثل الحصير، ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

وأشكل من ذلك دعوى صدق الثياب على ما يتخذ من الجلد كالفروة، فضلاً عما يكون على هيئة القميص والسراويل ونحوهما، لأن الثوب هو اللباس وما يستر به. إذ فيها: أن الثوب وإن فسر باللباس في لسان العرب والقاموس وغيرهما، إلا أن الظاهر أنه تعريف لفظي يراد به الإشارة لما من شأنه أن يكون لباساً، وهو الثياب المنسوجة ونحوها، ولذا يصدق عليها الثياب وإن لم تلبس، لا مطلق ما يلبس فعلاً أو قوة مما لا يكون من ذلك، فضلاً عن مطلق ما يستر به، كالحصير لو اتزر به شخص وورق بعض الأشجار الكبيرة ونحوهما، حتى لو كان على صورة القميص أو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 5، 9، 10، 13، 14.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 13، وباب: 14 منها حديث: 5.

ص: 52

السراويل أو نحوهما. بل الظاهر أن صدق الثياب حينئذٍ مشروط بالإضافة والتقييد، ولا تفهم من الإطلاق إلا تبعاً.

ويناسب ما ذكرنا ما في مفردات الراغب، حيث قال:" أصل الثوب رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها، أو إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة... فمن الرجوع إلى الحالة الأولى قولهم: ثاب فلان إلى داره، وثابت إلي نفسي... ومن الرجوع إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة الثوب، سمي بذلك لرجوع الغزل إلى الحالة التي قدرت له... ".فلاحظ.

ومثله دعوى: لزوم الخروج عما يظهر في اعتبار كون الكفن من سنخ الثياب بما في معتبر الفضل بن شاذان المتقدم من أنه إنما أمر بتكفين الميت لئلا تبدو عورته ويظهر الناس على حاله وقبح منظره(1) ، لظهوره في أن الغرض من التكفين هو ستر جسد الميت الحاصل بالجلد.

لاندفاعها بأنه لا ظهور للحديث في بيان التعليل الذي هو موضوع الحكم، وعليه مداره سعة وضيقاً، بل في بيان الحكمة أو العلة لأصل التشريع من دون أن ينافي اعتبار ما هو زائد على الستر في الكفن، كما هو الحال في كل أو جل التعاليل التي تضمنها هذا الحديث للأحكام، وإلا فمن المعلوم كثرة الخصوصيات المأخوذة في الكفن غير الدخيلة في الستر. بل لا يظن من أحد البناء على الاكتفاء بمطلق الساتر ولو كان مثل الحجر والطين مما لا يصدق عليه الثياب قطعاً، وإن أمكن أن يستر به بنحو ستر قطع الكفن.

فالإنصاف أن الوجه المتقدم قريب جداً. وإن كان في بلوغه مرتبة القطع بقصور الثوب عن الجلد المانع من الرجوع لأصل البراءة - بناءً على ما هو الظاهر من أنه المرجع في أمثال المقام - إشكال.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 53

وأما وبره وشعره فيجوز التكفين به (1).

وأشكل منه الاستدلال في التذكرة وغيرها على المنع بأن نزع الجلود عن الشهيد مع اهتمام الشارع بدفنه على حاله وبما عليه لا يناسب تكفين غيره بها. بل في جامع المقاصد والروض أن عدم جوازه أولى.

لاندفاعه - مضافاً إلى عدم وضوح الدليل على عموم نزع الجلود عن الشهيد - بأن جواز نزع الجلود أو وجوبه مع زيادتها على الثياب التي يحتاج لأن يدفن فيها، لا ينافي تكفينه بها بحيث يكتفى بها عن غيرها.

ومن ثم فالظاهر ابتناء الكلام في المقام على ما تقدم الكلام فيه من قصور عنوان الثياب عن الجلود وصدقه عليها.

بقي في المقام أمران:

الأول: أنه حيث سبق عدم الدليل على المنع من التكفين بأجزاء ما لا يؤكل لحمه فلا يفرق في الجواز أو المنع بين أقسام الجلد الطاهرة.

الثاني: أنه يلحق بالجلد ما يشبهه من الأجسام المنبسطة غير المتحللة الأجزاء، كالمطاط والنايلون المشابه له والقرطاس ونحوها. وإن كان التزام القائل بالجواز في الجلد بعموم الجواز لها بعيداً. نعم لو كان النايلون منسوجاً على نحو نسج الثياب فلا إشكال في صدق الثياب عليه. وقد يلحق به الملبد على إشكال.

(1) كما في المعتبر والتذكرة وجامع المقاصد والروض وكشف اللثام ومحكي نهاية الأحكام والذكرى وشرح الجعفرية. وهو الظاهر من كل من اقتصر على المنع مما لا تجوز الصلاة فيه، كالوسيلة والغنية والنافع والدروس وغيرها. ونسبه في المسالك للمشهور.

خلافاً لما عن ابن الجنيد فمنع من الوبر. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "وربما يحكى عنه المنع عن الشعر أيضاً" .ولم يتضح الوجه له عدا ما قيل من أن الكفن أمر شرعي

ص: 54

(55)

فيحتاج للبيان.

لكن يكفي في البيان إطلاق النصوص المتضمنة لشرح الكفن بالأثواب الثلاثة، حيث لا إشكال في صدق الثوب على ما يتخذ من الصوف والوبر ونحوهما، وصدق أصنافه من القميص والإزار واللفافة وغيرها. مع أن كون الكفن أمراً شرعياً لا يمنع من الرجوع مع إجماله للأصل. ومقتضاه على التحقيق في المقام وأمثاله البراءة كما سبق.

بقي أمران:

الأول: منع في كشف الغطاء من التكفين بالذهب والمذهب. ويقتضيه ما في جامع المقاصد من تعليل اشتراط كون الحبرة غير مذهبة بامتناع الصلاة فيه للرجال. بل قد يبتني عليه كلام كثير ممن قيد الحبرة المستحبة بأن لا تكون مذهبة. وإن أمكن أن يبتني على وجه آخر يأتي التعرض له في محله إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فهو إنما يتجه بناء على الكبرى المتقدمة التي سبق عدم الدليل عليها، وعلى عدم جواز الصلاة فيه للرجال، الذي وقع الكلام فيه في محله. نعم لو لم يكن الذهب منسوجاً كالثياب، بل مطرقاً كالقرطاس جرى فيه ما سبق.

وأما ما قيل من أنه تضييع مال غير مأذون فيه، فهو - لو تم، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى عند الكلام في استحباب الحبرة - إنما يقتضي حرمة تضييع الذهب بإبقائه في الكفن حين الدفن، لا حرمة نفس التكفين بالثوب المشتمل عليه، أو إبقاء الكفن على الميت حين دفنه.

على أنه لو فرض حرمة إبقائه لذلك فلا مانع من الاجتزاء به، بمعنى فتحقق امتثال أمر الكفن به ما دام على الميت وإن وجب نزعه والتكفين بغيره، بحيث لو بقي على الميت يحصل الإثم بإبقائه دون عدم تكفين الميت، لأن المورد من صغريات اجتماع الأمر والنهي، لثبوت الأمر بعنوان التكفين والحرمة بعنوان تضييع المال، ومنشأ انتزاع العنوانين متعدد، وقد ذكرنا في محله أن ذلك هو المعيار في موضوع مسألة الاجتماع،

ص: 55

(56) (56)

وأما في حال الاضطرار فيجوز بالجميع (1).

وأن المورد يكون معه واجداً لملاك كلا الحكمين، وإن لزم العمل فيه على مقتضى النهي مع إمكان امتثال الأمر بغيره. ومقتضى ذلك الاجتزاء به عن الأمر في غير العبادات، ومنه التكفين. فلاحظ.

الثاني: قال في الخلاف بعد أن ذكر ثياب الكفن المفروض: "وصفتها أن تكون من قطن محض أبيض، ليس كتان ولا من ابريسم ولا أسود... دليلنا: إجماع الفرقة. ولأن الذي اعتبرناه من العدد واللون والصفة لا خلاف أنه يجوز، وإن اختلفوا في كونه أفضل، فالاحتياط فعل ذلك، لأن ما عداه فيه خلاف".

ومقتضى مساق كلامه وجوب الصفة المذكورة، إلا أنه لا يبعد كون مراده الاستحباب، كما يناسبه ما ذكره عند استدلاله بالاحتياط من الخلاف في كونه أفضل، ونفي الكتان والابريسم والأسود، مع أنه لو أراد الوجوب لكان المناسب نفي كلما خالف الصفة المذكورة، بخلاف ما لو كان مراده الاستحباب، حيث يكون تخصيصه النفي بهذه الأمور لخصوصيتها في المرجوحية.

وهو المناسب للنص والفتوى، حيث ادعى الإجماع على استحباب كون الكفن قطناً أبيض، ودلت بعض النصوص على جواز التكفين بغيره، على ما يأتي عند الكلام في مستحبات التكفين إن شاء الله تعالى.

(1) أما الجواز التكليفي الراجع لعدم الإثم في التكفين بها فهو مقتضى الأصل بعد كون مقتضى الأدلة المتقدمة - لو تمت - عدم مشروعية التكفين بها، بمعنى قصور الكفن المفروض عنها، لا حرمة التكفين بها تكليفاً، لأن ذلك هو الظاهر من الأدلة الواردة في بيان الماهيات التي هي مورد الأحكام الشرعية، التي يهتم بتحصيلها بتمام ما يعتبر فيها. وربما يأتي ما ينفع في المقام.

نعم قد يدعى الحرمة بملاك التبذير وإتلاف المال بلا إذن شرعي. لكن ل

ص: 56

يبعد الاكتفاء في منع صدق التبذير بوجود الغرض العقلائي، ومنه في المقام احتمال المشروعية - لكونه تكفيناً اضطرارياً، أو بدلاً عن التكفين - الحاصل بالنظر للأدلة وكلمات الأصحاب. على أنه لا يتم فيما لو علم بتلف المال على كل حال.

وأما الجواز الوضعي الراجع لصحة التكفين به، بحيث يكون كفناً مشروعاً، المستلزم لوجوبه تكليفاً، لعموم وجوب التكفين، فهو المصرح به في كلام غير واحد، منهم شيخنا الأعظم (قدس سره) قال: "فالأظهر وجوب الستر بكل واحد من هذه عند الانحصار. لما استفيد من أخبار علة تكفين الميت. ومن كون حرمته ميتاً كحرمته حياً. ومن أن أصل ستر بدن الميت مطلوب. مضافاً إلى إطلاق ثلاثة أثواب في بيان الكفن الواجب. وانصراف أدلة المنع عن المذكورات إلى حال الاختيار".

لكن الوجوه الثلاثة الأول راجعة إلى وجه واحد تقدمت الإشارة إليه عند الكلام في تعذر الكفن التام، وهو اهتمام الشارع الأقدس بستر بدن الميت. وهو لا يقتضي إلا ستر تمام بدن الميت بها، لا وجوب تكفينه بثلاثة ثياب منها على نحو التكفين بالكفن الاختياري.

وأما الوجه الأخير فهو لو تم لا يجري في الجلد الذي يبتني المنع منه على عدم صدق الثياب عليه، لوضوح أنه لا يفرق في عدم صدقها بين حالتي الاختيار والاضطرار، فلا يدخل في إطلاق تحديد الكفن بالثياب الثلاثة ليهتم بعموم المانعية لحالة الاضطرار. وإنما ينفع الوجه المذكور في غير الجلد مما تقدم المنع منه.

وأما دعوى قصور إطلاق الأمر بالتكفين بالثياب الثلاثة حتى عن غير الجلد بحكم التبادر والانصراف، كما ذكره في الرياض في بعض الموارد. فهي ممنوعة، لعدم الوجه في الانصراف المذكور، ولذا احتيج إثبات أصل المانعية منها ولو في الاختيار للدليل المخرج عن الإطلاق. ومن هنا يلزم النظر في إطلاق دليل الشرطية بنحو يشمل الاضطرار، ليلزم سقوط التكفين، أو قصوره عنه ليكون المرجع إطلاق الأمر بالتكفين بالثياب الثلاثة. وحيث كان الدليل مختلفاً باختلاف الأمور المذكورة فاللازم

ص: 57

النظر في كل منها على حدة. وهي أمور:

الأول: الحرير. وقد سبق أن عمدة الدليل عليه مضمر الحسن بن راشد(1). وعن بعض مشايخنا تقريب قصور إطلاقه عن صورة الاضطرار بأن قوله (عليه السلام) فيه: "إذا كان القطن أكثر من القز فلا بأس" لما لم يكن وارداً لبيان الحرمة التكليفية فيما لو لم يكن القطن أكثر، بل لبيان البأس الوضعي الراجع لعدم الاجتزاء به عن الكفن حينئذٍ، فعدم الاجتزاء إنما يصحح إطلاقه في مورد الاختيار وإمكان التكفين بغيره، حيث يكون التكليف معلوماً والتردد في سعة المأمور به بنحو ينطبق على المشكوك ليجتزأ بالمشكوك عنه، أما في مورد الاضطرار وانحصار الأمر بالمشكوك فالشك إنما هو في ثبوت التكليف للقدرة على متعلقه أو سقوطه للتعذر، ومعه لا معنى لإطلاق الإجزاء وعدمه، بل يتعين بيان ثبوت التكليف وعدمه.

نعم لو كان بيان عدم التكفين بالحرير بلسان اشتراط عدمه - كما لو قيل: يشترط في الكفن أن لا يكون حريراً - أو بلسان النهي - كما لو قيل: لا يكفن بالحرير - اتجه إطلاقه بنحو يشمل حال الاضطرار وانحصار الأمر به.

ويشكل بأن السؤال في المضمر لما كان عن أنه هل يصلح التكفين بالثياب المذكورة كان ظاهر الجواب عدم صلوحها للتكفين إذا لم يكن القطن أكثر. ومقتضى إطلاقه العموم لحال الانحصار بها، نظير ما اعترف به في فرض بيان عدم التكفين بالحرير بلسان النهي، بل لعله أظهر، وليس في السؤال والجواب من التعبير بالإجزاء أو نحوه عين ولا أثر، ليجري ما ذكره.

على أن ما ذكره إنما يقتضي عدم التعبير بالإجزاء أوعدمه في خصوص الاضطرار، لأن الشك معه في أصل ثبوت التكليف، ولا يمنع من عموم التعبير بعدم الإجزاء لحال الاضطرار، لبيان عدم تحقق الماهية المأمور بها ذاتاً بالفرد المشكوك ولو مع الاضطرار إليه والانحصار به. فتأمل جيداً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 58

وكيف كان فالظاهر عموم المضمر الذي هو دليل الشرطية لحال الاضطرار، وحيث لا دليل على مشروعية التكفين به حاله - من إجماع أوغيره - لينهض بالخروج عنه، يتعين البناء على عدم وجوب التكفين به حينئذٍ.

وأما ما عن الذكرى من احتمال مشروعية التكفين به، بل ترجيحه على وبر غير المأكول وعلى النجس، لجواز صلاة النساء فيه اختياراً، مع عدم جواز الصلاة بغير المأكول حتى للنساء، ولا بالنجس إلا اضطراراً.

فهو كما ترى! لعدم نهوض الوجه المذكور بإثبات حكم شرعي، إذ لا دخل لجواز صلاة النساء في الثوب في جواز التكفين به عندهم، كما لا تنهض بذلك الأدلة الشرعية. ومن هنا لا مخرج عن مقتضى إطلاق المضمر من عدم مشروعية التكفين بالحرير.

نعم لو انحصر الأمر به ولم يوجد غيره حتى الممنوعات الأخر، لم يبعد وجوب ستر بدن الميت به - وإن لم يكن كفناً - لما تقدم من ظهور اهتمام الشارع الأقدس بستره. ولا أقل من جوازه، من دون أن ينافيه المضمر، لأنه إنما تضمن عدم صلوحه للتكفين، لا النهي عن لف الميت به وستره، ليتوقف في جوازه، كما في الرياض وغيره.

وأشكل من ذلك ما يظهر من محكي الذكرى من احتمال عدم جواز ستر العورة به إلا حال الصلاة، وأنه ينزع بعدها. وأشكل منه ما يظهر من جامع المقاصد عدم ستر العورة به حتى حال الصلاة بل يوضع في القبر بحيث لا ترى عورته ثميصلى عليه.

إذ فيهما أنهما خاليان عن الدليل، لأن عدم صلوحه للتكفين لا يقتضي المنع عن ستر العورة به حال الصلاة بل مطلقاً قطعاً حتى لو فرض ابتناء عدم التكفين على حرمة اللبس حال الحياة، حيث قد لا يصدق اللبس بذلك، خصوصاً إذا اقتصر على ستر القبل، لإلقاء الميت على ظهره.

الثاني: أجزاء ما لا يؤكل لحمه. وقد سبق عدم الدليل عليه عدا الإجماع المدعى

ص: 59

على عدم جواز التكفين بما لا تجوز الصلاة به، وصحيح محمد بن مسلم المتضمن تنزيل الميت منزلة المحرم(1). كما سبق عدم نهوضهما بالاستدلال.

ولو فرض نهوضهما به فالإجماع دليل لبي يلزم الاقتصار على المتيقن منه، وهو حال الاختيار. وأما الصحيح فإطلاق التنزيل فيه يشمل حال الاضطرار، فإذا تم عدم جواز الإحرام فيما لا يؤكل لحمه حتى مع الاضطرار تعين عدم مشروعية التكفين به معه أيضاً. وحينئذٍ يجري في ستر عورة الميت به وجميع بدنه ما تقدم في الحرير من الوجه والخلاف، لعموم كلماتهم المتقدمة للمقام.

الثالث: النجس. وقد تقدم الاستدلال عليه بفحوى ما دل على إزالة النجاسة الخارجة من الميت عن الكفن. وعن بعض مشايخنا أنه لا يدل على كون الطهارة شرطاً في الكفن الواجب، ليتمسك بإطلاقه مع التعذر، بنحو يستلزم تعذر الكفن، بل قد يكون واجباً فيه بنحو تعدد المطلوب، فسقوطه بالتعذر يقتضي سقوط أصل وجوب التكفين ولو بالنجس.

ويشكل بأن الجمود على الأمر بغسل الكفن أو قرضه لا يقتضي وجوب طهارة الكفن مطلقاً - ولو بنحو تعدد المطلوب - بنحو يجب تبديل الكفن لو تعذر تطهيره. بل وجوب إزالتها عن خصوص الكفن الذي أصابته - مادام كفناً - بنحو لو تعذر إزالتها عنه لم يجب تبديله مع التمكن، ولا يظن التزامهم بذلك، وإن ذكره في الجواهر احتمالاً في ذيل الكلام في وجوب إزالة النجاسة الخارجة من الميت عن الكفن.

وحينئذٍ لا وجه لوجوب التبديل إلا ما أشرنا إليه آنفاً من ظهور الأوامر والنواهي الواردة في خصوصيات متعلق الأمر في الشرطية والمانعية الراجعة لتقييد المأمور به، بحيث لا يجزي المأتي به عنه مع مخالفة مقتضى الأمر والنهي، إذ على ذلك يكون تنجس الكفن بالنجاسة الخارجة من الميت موجباً لخروجه عن الكفن الواجب، فيجب تطهيره أو تبديله بالكفن الطاهر بمقتضى عموم وجوب التكفين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 60

نعم ذلك إنما يقتضي حمل الأدلة المذكورة على شرطية الطهارة في الكفن وعدم وجوبها استقلالاً بنحو تعدد المطلوب، ولا يقتضي إطلاق الشرطية بنحو يشمل حال التعذر، بحيث يدفن الميت عارياً لو تعذر تطهير الكفن مما يخرج من الميت وتبديله، لأن الأمر لايقتضي إلا الحث مع القدرة، فيدل على الشرطية معها لا مطلقاً، وإنما يتم ذلك فيما لو لم يكون الأمر بداعي الحث، بل لمجرد بيان الشرطية في مقام تحديد المأمور به، كما لو سئل عن الوضوء، فقيل: اغسل وجهك ويديك وامسح رأسك ورجليك ببلة وضوئك. فإن مقتضى إطلاق السؤال طلب تحديد الوضوء مطلقاً، ومقتضى أصالة مطابقة الجواب للسؤال ورود الأمر لتحديد الوضوء كذلك، فيدل على عموم الجزئية والشرطية لحال التعذر. وليس الأمر في المقام كذلك، لعدم ورود الأمر بإزالة النجاسة التي تصيب الكفن لمجرد بيان الشرطية في مقام تحديد الكفن الواجب، بل للحث عليه، وإنما استفيدت الشرطية بالقرينة المتقدمة، حيث تناسب عدم كون الحث عليه لكونه واجباً مستقلاً، بل لأنه شرط، من باب الانتقال من المعلول للعلة. وحيث كان الحث مختصاً بحال القدرة تعين قصور الشرطية المستفادة منه عن حال التعذر.

على أنه لا يظن بالأصحاب البناء على عموم مانعية النجاسة الخارجة من الميت من تمامية الكفن الواجب، بحيث لو تعذر تجنبها لاستمرار خروجها - كما يكثر الابتلاء به في الدم ونحوه - أولتعذر إزالتها أوتبديل الكفن بغيره، يجوز دفن الميت بلا كفن. ويرجع ذلك إلى تقييد دليل مانعية النجاسة الخارجة من الميت لو فرض عمومه بنفسه بصورة القدرة على إزالتها.

وحينئذٍ لا مجال لاستفادة عدم جواز التكفين بالنجس مع الاضطرار بالأولوية المشار إليها آنفاً، بل يتعين الرجوع معه لإطلاق تحديد الكفن بالأثواب الثلاثة القاضي بوجوب التكفين به. نعم لا يبعد وجوب تقليل النجاسة مهما أمكن، لمناسبة الارتكازيات لحمل دليل وجوب إزالة النجاسة المذكورة على الانحلال.

الرابع: المذهب. والكلام فيه نظير الكلام فيما يتخذ مما لا يؤكل لحمه لو كان

ص: 61

(62)

(مسألة 29): لا يجوز التكفين بالمغصوب (1)

دليله كبرى عدم جواز التكفين بما لا تجوز الصلاة فيه. أما لو كان منشؤه لزوم تضييع المال غير المأذون فيه فالمتعيين قصوره عن فرض الاضطرار، حيث لا إشكال في صلوح وجوب التكفين للمنع من صدق التضييع والتبذير، وفي تحقق الإذن في إتلاف المال.

نعم قد يدعى عدم وجوبه للضرر، وهو مبني على تحديد الكفن الواجب إخراجه من التركة من حيثية القيمة. ويأتي في المسألة الثانية والثلاثين الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا كله في مقتضى الأدلة في كل واحد من هذه الأمور لو انحصر الأمر به. أما لو تردد الأمر بينها، بحيث يمكن التكفين بكل منها دون غيرها، فاللازم بناء على ما تقدم تقديم أجزاء ما لا يؤكل لحمه والمذهب على النجس، لعدم وضوح الدليل على مانعيتها حتى مع الاختيار، ثم تقديم النجس على الحرير، لإطلاق دليل عدم جواز التكفين بالحرير بنحو يشمل حال الاضطرار إليه، بخلاف النجس.

بقي الكلام في الجلد، حيث سبق تقريب عدم صدق الثوب عليه، فإن تم لم يشرع التكفين به مطلقاً ولو مع انحصار الأمر به، فضلاً عن أن يقدم على غيره. بل غاية الأمر وجوب ستر الميت به مع الانحصار، بناءً على ما سبق من اهتمام الشارع بستره. إلا أن يكون جلد ميتة فيأتي الكلام فيه. وإن لم يتم تعين جواز التكفين به اختياراً ووجوبه مع الاضطرار، ويقدم على النجس. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) قطعاً، كما في جامع المقاصد، وإجماعاً، كما عن الذكرى، وفي الجواهر: "إجماعاً محصلاً ومنقولاً" .ولعل عدم تعرض جماعة له لوضوحه، أو لعدم كونهم بصدد الموانع الثانوية، وإلا فمن البعيد جداً الخلاف فيه.

وكيف كان فقد يستدل عليه تارة: بعدم جواز الصلاة فيه، كما يظهر من

ص: 62

الروض. وأخرى: بالنهي عن إتلاف مال الغير، كما في الحدائق أو بعدم جواز التصرف فيه، كما في الجواهر.

ويشكل الأول بأن المتيقن من الكبرى المذكورة - لو تمت في نفسها وغض النظر عما تقدم - ما يمتنع الصلاة فيه لأخذه بعنوانه مانعاً منها، كالحرير والنجس، دون مثل المغصوب مما لا يكون مانعاً منها بعنوانه، بل لامتناع التقرب به، المفروض اعتباره في الصلاة دون التكفين.

وأما الثاني فهو بنفسه لا يقتضي إلا حرمة التكفين تكليفاً ووجوب نزعه بعد التكفين به وإرجاعه لمالكه من دون أن يمنع من وفائه بملاك التكفين وإجزائه عنه ما دام على الميت، لأن المقام من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي، نظير ما تقدم في التكفين بالمذهب بناء على حرمة التكفين به، لاستلزامه تضييع مال غير مأذون فيه. ولازم ذلك أنه مع التكفين به وعدم نزعه يكون العقاب على التصرف في مال الغير ومنعه عنه وإتلافه عليه، لا على ترك تكفين الميت، نظير تطهير المسجد بالماء المغصوب.

لكن قال سيدنا المصنف (قدس سره) بعد ما أشار لما ذكرنا: "اللهم إلا أن يقال: إن المراد من التكفين الواجب ليس مطلق فعل التكفين، ولذا لا يجب بذل الكفن، بل هو اللف بالكفن المبذول، فاللف بغيره ليس من أفراد الواجب ولو مع قطع النظر عن الوجوب. فتأمل جيداً".

وكأنه أراد بذيل كلامه أن اللف بغير الكفن المبذول خارج عن الواجب تخصيصاً وملاكاً، لا لفعلية النهي عنه مع دخوله فيه ذاتاً وواجديته لملاكه، ليجزي عنه مع كونه محرماً، كما هو مختاره (قدس سره) في مورد مسألة اجتماع الأمر والنهي.

ويشكل ما ذكره (قدس سره) بأن عدم وجوب بذل الكفن إنما يستلزم تقييد وجوب التكفين ببذل الكفن وواجديته، لا تقييد الكفن الذي يجب التكفين به بغير المبذول ونحوه، بحيث يخرج عنه المغصوب تخصيصاً، ويكون فاقداً للملاك، كي لا يجزي عنه.

ص: 63

(64)

حتى مع الانحصار (1). وفي جلد الميتة إشكال (2). والأحوط وجوباً مع الانحصار التكفين به (3).

وتظهر الثمرة المهمة لذلك في حق غير الغاصب المكلف بإرجاع المغصوب لمالكه وحفظه له، حيث له - بناء على ما ذكرنا - الاجتزاء بالتكفين بالمغصوب ما دام الميت مكفناً به في الخروج عن التكليف الكفائي بالتكفين، ولا يجب عليه تبديله بغيره، كما هو الحال بناء على القول بخروج المغصوب تخصيصاً وملاكاً. كما تظهر الثمرة أيضاً في حق الغاصب نفسه لو تعذر عليه إرجاع المغصوب لمالكه، حيث له الاجتزاء بما وقع منه من التكفين بالمغصوب حينئذٍ على ما ذكرنا، بخلافه على القول الآخر.

(1) قطعاً، كما في جامع المقاصد والروض والجواهر، وبه صرح في محكي الذكرى وغيره. ويظهر الوجه فيه مما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) ويأتي إن شاء الله تعالى من عدم وجوب بذل الكفن، حيث يستلزم ذلك تقييد وجوب التكفين بصورة بذل الكفن، ولا يجب مع عدمه، كما تقدم.

بل لو فرض وجوب البذل على مالك الكفن كفائياً لا يسوغ التكفين بملكه بدون إذنه. نعم لو تعين الأخذ منه لعدم القدرة على الأخذ من غيره لم يبعد حينئذٍ جواز الأخذ منه مع تعذر استئذانه من باب ولاية الحسبة. فتأمل.

(2) يعني: مع الانحصار، حيث تقدم منه (قدس سره) الإشكال في التكفين بالجلد، والجزم بعدمه في النجس مع عدم الانحصار، أما مع الانحصار فقد تقدم منه الجزم بجواز التكفين بهما معاً. وإنما خصه بالإشكال للقول بعدم جواز الانتفاع بالميتة.

(3) لعدم ثبوت حرمة الانتفاع بالميتة. ولا أقل من عدم صلوح احتماله لرفع اليد عن احتمال وجوب التكفين بالنظر لما تقدم منه. أما بناء على ما ذكرنا من الإشكال في وجوب التكفين بالجلد حتى مع الانحصار فيزيد الأمر إشكالاً بلحاظ حرمة الانتفاع بالميتة وإن لم يثبت.

ص: 64

(65)

(مسألة 30): يجوز التكفين بالحرير غير الخالص، بشرط أن يكون الخليط أزيد من الحرير على الأحوط وجوباً (1).

بل قد يشكل حتى وجوب ستر بدن الميت به، لعدم وضوح اهتمام الشارع بالستر بمثله. بل لعله بنظر المتشرعة أبعد عن احترامه وأقرب لهتكه وتوهينه. ومن ثم فالأمر في غاية الإشكال.

(1) تبعاً لما تضمنه مضمر الحسن بن راشد من تعليق نفي البأس على ما إذا كان القطن أكثر. وهو وإن كان مختصاً بما إذا كان الخليط قطناً، إلا أنه قد يعم لغيره بإلغاء الخصوصية عرفاً. بل قد يدعى الأولوية فيه، لأنه إذا لم يكف أصل وجود القطن الذي يستحب التكفين فيه في رفع مانعية الحرير بل لابد أن يكون أكثر فغير القطن مما لا يستحب التكفين فيه أو يكره أولى بذلك. فتأمل.

هذا وكأن توقف سيدنا المصنف (قدس سره) - كالسيد الطباطبائي في العروة الوثقى - عن الجزم بالاشتراط لما ذكره في مستمسكه - وأشرنا إليه عند الاستدلال بالمضمر على عدم التكفين بالحرير - من ظهور كلمات الأصحاب (رضي الله عنهم) في عدم البناء على الاشتراط بذلك واكتفائهم بعدم استهلاك الخليط، لأنهم ما بين مقيد للحرير بالمحض، ومطلق له، ومعبر بما لا تجوز الصلاة فيه. قال (قدس سره): "والجميع غير شامل للممزوج بما يعتد به..." فتكون الرواية مهجورة. ولذا ادعى في الجواهر القطع بخلاف مفهوم الرواية في بعض الأفراد.

لكن سبق أن ذلك لا يستلزم هجر الرواية بنحو يسقطها عن الحجية، لقرب أن يبتني على استيضاحهم اشتراك الكفن مع ثياب الصلاة في الشرائط بنحو يكون قرينة توجب رفع اليد عن ظهور الرواية في بعض الأفراد في الحرمة والبناء على الكراهة.

ولعله عليه يبتني مافي الوسيلة والقواعد والتذكرة والدروس وعن غيرها من إطلاق كراهة التكفين بالممزوج بالحرير. وإليه يرجع ما في المبسوط من كراهته مع

ص: 65

(66)

(مسألة 31): إذا تنجس الكفن بنجاسة من الميت (1) أو من غيره (2) وجب إزالتها (3)

الاختيار. وإلا فهجرهم للمضمر لا يناسب ذكرهم له في الموضع المناسب له من كتب الحديث، واستدلالهم به في الفقه، بل ظاهر الكليني والصدوق العمل بمضمونه.

وكيف كان فلا مجال لرفع اليد بذلك عن المضمر، ولا عن ظهوره في الحرمة بعد عدم وضوح الوجه في اشتراك الكفن مع ثياب الصلاة في الشروط، كما تقدم.

ومنه يظهر ضعف ما ذكره الشيخ (قدس سره) من عدم جواز التكفين بالمخلوط بالحرير مع الاختيار، كما في النهاية، أو مطلقاً، كما في الاقتصاد وعن القاضي. فإنه مع عدم الشاهد له مخالف لصريح المضمر.

(1) كما هو مورد النص والمتيقن من الفتوى.

(2) كما هومقتضى إطلاق بعضهم. ويقتضيه ما سبق منهم من اعتبار طهارة الكفن، إذ يبعد حمله على خصوص طهارته قبل التكفين به. ويستفاد من النصوص تبعاً، لإلغاء خصوصية موردها - وهو ما يخرج من الميت - عرفاً. بل قد يستفاد منها ثبوت الحكم فيه بالأولوية على ما تقدم عند الاستدلال لاعتبار الطهارة في الكفن.

(3) كما نسبه لظاهر الأصحاب في الجواهر مستظهراً اتفاقهم عليه، ويظهر من كثير من كلماتهم المفروغية عنه وأن الخلاف إنما هو في كيفية الإزالة. ويقتضيه صحيح الكاهلي عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: إذا خرج من منخر الميت الدم أو الشيء بعد ما يغسل فأصاب العمامة أو الكفن قرض عنه" (1) وصحيح ابن أبي عمير وأحمد بن محمد بن أبي نصر [و] عن غير واحد من أصحابنا عنه (عليه السلام): "قال: إذا خرج من الميت شيء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التكفين حديث: 3 واللفظ له. وباب: 32 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

ص: 66

بعد ما يكفن فأصاب الكفن قرض من الكفن"(1). ونحوه صحيح ابن أبي عمير عن بعض أصحابه(2).

كما قد يستفاد مما تضمن غسل النجاسة الخارجة من الميت، كمعتبر الكاهلي والحسين بن المختار - بناءً على ما تقدم في تحديد مساحة الكر من وثاقة محمد بن سنان - عنه (عليه السلام):" سألناه عن الميت يخرج منه شيء بعد ما يفرغ من غسله. قال: يغسل ذلك، ولا يعاد عليه الغسل "(3) وقريب منه حديث روح بن عبد الرحيم(4) الذي لا يبعد كونه موثقاً. وفي مرفوع سهل:" إذا غسلت الميت ثم أحدث بعد الغسل فإنه يغسل الحدث، ولايعاد الغسل"(5). لأن إطلاق غسلها قديظهرفي غسلهاعن الكفن أيضاً.

اللهم إلا أن يقال: بعد معلومية عدم إرادة غسله عن كل ما أصابه، حتى مثل الدكة التي يوضع عليها، والسرير الذي يحمل عليه، فلا إطلاق له، والمتيقن منه غسله عن جسد الميت، كما يناسبه المقابلة بعدم إعادة الغسل، وغايته أن يحمل على غسله عما يلزم تطهيره من شؤون الميت من دون تعيين لها، لأن الغرض منه ليس مجرد بيان وجوب الغَسل كي يلغو الأمر بغسله عما يلزم تطهيره، بل الاقتصار عليه مع المفروغية عن وجوبه في مقابل ضم إعادة الغُسل إليه. وحينئذٍ يكون مجملاً لابد معه من تعيين ما يلزم تطهيره. فالعمدة نصوص القرض.

لكن في المدارك: "ولولا تخيل الإجماع على هذا الحكم لأمكن القول بعدم وجوب القرض والغسل مطلقاً تمسكاً بمقتضى الأصل، واستضعافاً للروايات الواردة بذلك".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التكفين حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التكفين حديث: 1.

(3و4) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب غسل الميت حديث: 2، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

ص: 67

(68)

ولو بعد الوضع في القبر (1) بغسل أو بقرض (2)

وفيه: أن الظاهر اعتبار ما عدا المرفوع من النصوص المتقدمة، حيث ثبت في محله وثاقة الكاهلي والحسين بن المختار، مع اعتبار سند حديثيهما، كما ثبت حجية مراسيل بن أبي عمير والبزنطي، ولاسيما مع رواية الأول منهما عن عدة من أصحابنا، لظهوره في شيوع الحديث بين مشايخهما في الرواية. مضافاً إلى انجبارها بعمل الأصحاب حتى لو لم يبلغ مرتبة الإجماع الحجة في نفسه.

ومنه يظهر ضعف ما في الوسيلة، حيث عدّ من مستحبات باب غسل الميت قرض ما أصاب الكفن مما خرج منه بالمقراض. إلا أن يحمل - كما ذكره غير واحد - على استحباب خصوصية القرض، لا أصل الإزالة.

(1) لم أعثر في كلماتهم على التشكيك في وجوب الإزالة بعد الوضع في القبر، وإنما يظهر ذلك من بعضهم في تطهير جسد الميت، على ما تقدم في المسألة الثالثة عشرة في أحكام التغسيل.

نعم عن فوائد الشرايع: "الأصح وجوب غسلها وإن كان بعد وضعه في القبر إذا أمكن ولم يشق التحرز عن الغسالة، فإن شق كثيراً قرضت، إلا أن يفحش فيلزم من قرضها هتك الميت أو فساد الكفن، فيترك بحاله".

وقد يظهر منه عدم وجوب التطهير بالغسل في الفرض بعد الوضع في القبر لو تعذر فيه وتوقف على إخراجه منه. وكأنه يبتني على ما تقدم من جامع المقاصد في المسألة الثالثة عشرة في فصل غسل الميت من حرمة إخراج الميت من القبر، وتقدم ضعفه.

(2) اختلفت كلمات الأصحاب في المقام، فقد أطلق قرض الكفن في المبسوط والنهاية والوسيلة - وإن عدّه في المستحبات، كما سبق - وحكي عن ابني البراج وسعيد.

ص: 68

وذكر الصدوق في الفقيه وأبوه في محكي رسالته أن الكفن يغسل مما أصابه حتى يوضع الميت في قبره، فإن خرج منه شيء بعد ذلك لا يغسل بل يقرض. وجرى على ذلك في السرائر والمعتبر والشرايع والنافع والتذكرة والمنتهى والإرشاد والقواعد والدروس وجامع المقاصد والروض وغيرها. وفي الروض ومحكي الكفاية أنه المشهور، وفي المدارك أنه قول الصدوقين وأكثر الأصحاب.

وقد استدل له غير واحد باستبقاء الكفن، والنهي عن إتلاف المال قال في جامع المقاصد: "وعلى هذا فإنما يقرض في القبر مع تعذر غسله" ونحوه في الروض، وزاد: "والجماعة أطلقوا" .وفي الجواهر: "ولعله مراد من أطلق تنزيلاً لإطلاقهم على غلبة التعذر فيه" .لكن حمل إطلاقهم على غلبة التعذر فيه لا يكفي، بل لابد من حمله على تعذر التطهير بعد الوضع في القبر ولو بإخراج الميت منه، ولا يتضح غلبة تعذر ذلك. بل من القريب بناؤهم على وجوب القرض أو جوازه بعد الوضع في القبر مطلقاً للاهتمام بعدم إخراج الميت من القبرأوللتسهيل. نعم صرح بالتقييد بالتعذر في محكي البيان وما تقدم من فوائد الشرايع.

وكيف كان فيشكل أصل الاستدلال بأن إطلاق نصوص القرض المتقدمة كاف في الترخيص في الإتلاف المذكور وفي الاجتزاء بالكفن معه.

ومثله ما في المنتهى من أنه مقتضى الجمع بين طائفتي النصوص المتقدمة المتضمنتين للقرض والغسل. إذ فيه - مع أن المتيقن من نصوص الغسل غسل جسد الميت، كما تقدم -: أنه لا شاهد للجمع المذكور من النصوص. ولاسيما مع ما في نصوص القرض من فرض خروج النجاسة بعد ما يكفن أو بعد ما يغسل. حيث يقوى ظهوره في الإطلاق جداً.

نعم يشهد به الرضوي: "فإن خرج منه شيء بعد الغسل فلا تعد غسله، ولكن أغسل ما أصاب من الكفن إلى أن تضعه في لحده، فإن خرج منه شيء في لحده لم تغسل كفنه، ولكن قرضت من كفنه ما أصاب من [أصابه الشيء] الذي خرج منه ومددت

ص: 69

أحد الثوبين على الآخر"(1).

لكن تكرر عدم حجيته في نفسه. كما أنه لا يظهر من المشهور التعويل عليه في المقام وغيره، حيث لم يشيروا له، وإنما عبر بعبارته تقريباً الصدوقان في الفقيه ومحكي الرسالة.

ولاسيما مع غموض أمر الرضوي من عدم معروفيته بين الأصحاب واشتماله على ما لا يناسب نسبته للإمام (عليه السلام)، بل هو بكتب المصنفين من اتباع الأئمة (عليهم السلام) أنسب. ومن مشابهة كثير من عبارات الفقيه والهداية والمقنع والمقنعة والمنقول من رسالة علي بن بابويه لعباراته مما يؤيد نسبته له (عليه السلام) واعتمادهم عليه. ولاسيما مع انحصار الدليل به على جملة من الأحكام التي ينفردون بها أو لا يتضح الدليل عليها، ومنها المقام. وكيف كان فلا مجال للتعويل عليه وسوقه شاهداً للجمع المذكور.

على أن حمله على كون التفصيل استحبابياً قد يكون أقرب عرفاً من حمل إطلاق نصوص القرض على ما بعد الوضع في القبر. ولاسيما بلحاظ ما تقدم من التنبيه فيها على كون أصابة النجاسة بعد الغسل أو بعد التكفين. كما قد يحمل على الاستحباب أيضاً كلام بعض من أفتى بمضمونه.

هذا وقد استدل للشيخ ومن تبعه في إطلاق وجوب القرض بالنصوص السابقة. وما في المدارك من معارضتها بنصوص الغسل يظهر ضعفه مما تقدم من عدم ظهور نصوص الغسل في غسل الكفن. بل لو فرض ظهورها فيما يعمه فقد يدعى لزوم رفع اليد عنها بإطلاق نصوص القرض فيه.

نعم من القريب أن لا يكون ذكر القرض في نصوصه لبيان وجوبه، بل لبيان جوازه والاجتزاء به عن الغسل تسهيلاً ودفعاً لتوهم عدم جوازه بلحاظ استلزامه نقص الكفن وإتلافه، فلا ينافي جواز الغسل، عملاً بالقاعدة، وإن كانت نصوص الغسل قاصرة عنه. والظاهر أن ذلك هو الوجه لما في المتن وسبقه إليه في العروة

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 28 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 70

الوثقى من التخيير.

وإليه يرجع ما في الجواهر، حيث قال:" ويقوى في النفس أن المراد بأوامر القرض الإرشاد والتعليم والتنبيه على العلاج الذي لا ينتقل إليه الذهن عند الابتلاء بذلك، وإلا فالمطلوب الإزالة على أي نحو كان، مع المحافظة على ما يثبت اشتراطه فيه في هذا الحال، فالمتبع فيه حينئذٍ الترجيح الذي لا ينفك عنه غالب أفعال العقلاء... على حسب أثواب الحي وإن وردالأمر بغسلها. نعم قديقال برجحان القرض على الغسل في خصوص الميت عند تساوي مصلحتيهما، لأن مآل كفنه إلى التلف، ولأنه أبلغ في الإزالة من الغسل ونحو ذلك. ولعله لذا عدّ في الوسيلة من المندوبات قرض ما أصاب الكفن من النجاسة، وإلا فلا يريد به أصل الإزالة، لمخالفته لظاهر اتفاق الأصحاب... ".نعم ما ذكره في وجه استحباب القرض ظاهر الإشكال. كالإشكال في البناء على التخيير في غير مورد النص وهو النجاسة الخارجة من الميت إذا لم يكن القرض مطابقاً للقاعدة لإخلاله بساترية الكفن.

ثم إنه قد صرح الصدوق في الفقيه وأبوه في محكي رسالته بأنه يمد أحد الثوبين على الآخر بعد القرض، كما تضمنه الرضوي المتقدم.

لكن في المسالك والروض أنه إن أمكن جمع جوانب الكفن بالخياطة وجب، وإلا مدّ أحد الثوبين على الآخر. ويشكل بأن عدم التنبيه على الخياطة في النصوص موجب لظهورها في عدم وجوبها.

بل قد يستشكل في وجوب الجمع بغير الخياطة ووجوب مدّ أحد الثوبين على الآخر بعد عدم حجية الرضوي، لا لما قد يظهر من الجواهر من عدم اعتبار الاستدامة في ساترية الكفن، لأنه بعيد جداً لا يناسب ما تقدم في وجه وجوب كون الكفن ساتراً، بل لسكوت النصوص عن التنبيه له في خصوص المقام.

إلا أن يدعى عدم احتياج مثله للتنبيه، لجري الانسان عليه في مثل المقام بطبعه بعد ارتكاز اهتمام الشارع بساترية الكفن. فتأمل.

ص: 71

إذا كان الموضع يسيراً (1)، وإن لم يمكن ذلك وجب تبديله مع الإمكان (2).

(1) تقييد لجواز القرض، وجعل المعيار فيه في العروة الوثقى ما إذا لم يفسد الكفن. وقال سيدنا المصنف (قدس سره):" كأنه لدعوى الانصراف، وإلا فمقتضى نصوص القرض جوازه وإن أفسد الكفن. نعم لا يبعد عدم صدق القرض لو كان موضع النجاسة واسعاً جداً ".وما ذكره (قدس سره) غير بعيد. ومثله الانصراف المشار إليه، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن الغرض من القرض طهارة الكفن، ليصلح للتكفين به، لا ليخرج عن كونه كفناً.

وكيف كان فإذا فرض قصور نصوص القرض عن مورد تعين اختيار الغسل حينئذٍ، لأنه حيث استفيد منها اهتمام الشارع بطهارة الكفن فتعذر القرض يستلزم وجوب التطهير بالغسل. واحتمال اهتمام الشارع بإزالة النجاسة عن الكفن مع قلتها بحيث يمكن القرض، لا مع كثرتها بحيث يمتنع، غير عرفي، فلا يمنع من استفادة وجوب التطهير بالغسل في الفرض منها، ولذا تقدم عدم جواز التكفين بالنجس.

(2) لأن المستفاد من نصوص القرض وجوب التكفين بالكفن الطاهر، فمع تنجس الكفن يخرج عن الكفن الواجب، فيجب تبديله عملاً بعموم وجوب التكفين، كما تقدم التنبيه له عند الكلام في جواز التكفين بالنجس مع الاضطرار.

لكن في جامع المقاصد:" ولو تفاحشت النجاسة بحيث يؤدي القطع إلى إفساد الكفن وهتك الميت وتعذر الغسل فالظاهر عدم القطع، لامتناع إتلاف الكفن على هذا الوجه. وقد نبه على ذلك شيخنا الشهيد ".وظاهره - كمحكي الذكرى - عدم وجوب التبديل حينئذٍ.

وكأنه لتجنب الإضرار بالورثة، كما قد يرجع إليه التعليل في الذكرى بالحرج. ويشكل - مضافاً إلى أنه قد لا يلزم خسارتهم، لإمكان غسل الكفن الأول مع نزعه بعد الدفن. فتأمل - بأن من الظاهر أن أدلة وجوب التكفين بالكفن الطاهر وخروج

ص: 72

(73)

(مسألة 32): القدر الواجب من الكفن يخرج من أصل التركة (1)

الكفن من أصل التركة مخصصاً لأدلة الميراث، بنحو تقتضي عدم ملكيتهم مقدار الكفن الواجب منها، ومرجعه إلى قلة نفعهم، لا لزوم الضرر عليهم.

ولو فرض صدق الضرر عليهم بذلك فالمفروض لزوم تحملهم له، حيث يكون وجوب التكفين مخصصاً لقاعدة نفي الضرر. وحيث لا ينطبق الكفن الطاهر في المقام إلا على الثاني فلا مجال لارتفاع وجوبه بالقاعدة المذكورة، كما لا يرتفع بها وجوب الكفن في سائرالموارد، وإنماوقع النقص الزائدعليهم في المقام من تنجس الكفن الأول وخروجه عن قابلية الانتفاع بالتكفين، وهو غير مستند لحكم الشارع بوجوب التكفين بالكفن الطاهر، بل لأمر تكويني، كما لو تنجس بنجاسة غير خارجة من الميت، أو تلف قبل الدفن.

ومثله دعوى: أن طرح الكفن المتنجس والتكفين بغيره سرف وتبذير لا يرضى به الشارع. لاندفاعها بأن النجاسة لما كانت موجبة لخروج الكفن الأول عن أن يصلح للتكفين كان تلفه وسقوطه عن الانتفاع مستنداً لخروج النجاسة الخارج عن الاختيار، ومعه لا يكون التكفين بالثاني سرفاً بعد كون مقتضى الأدلة وجوبه.

وأما ما في الجواهر من أن وجوب إزالة النجاسة عن الكفن تكليف زائد على وجوب التكفين، وسقوطه بالتعذر لا يخرج الكفن المتنجس عن الكفن الواجب، ليجب تبديله. فهومخالف لظاهر النصوص في المقام ونحوه من موارد الأمر بشؤون متعلق التكليف، كما تقدم عند الكلام في التكفين بالنجس اضطراراً.

(1) تكرر في كلماتهم خروج الكفن من أصل التركة، واستفاضت دعاوى الإجماع عليه، فقد ادعي في الخلاف والتذكرة والروض والمدارك وكشف اللثام ومحكي نهاية الأحكام، وفي المعتبر:" وهو مذهب أهل العلم إلا شذاذاً من الجمهور".

ويقتضيه صحيح عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: الكفن من جميع

ص: 73

قبل الدين (1) والوصية (2).

المال "(1) وفي طريق آخر:" ثمن الكفن..."(2). مضافاً إلى ما يأتي في تقديمه على الدين والوصية. هذا وأما تحديد الكفن الذي يخرج من أصل المال فيأتي في المسألة السادسة والثلاثين إن شاء الله تعالى.

(1) بلا إشكال ظاهر. وقد نفى في المنتهى وجامع المقاصد الخلاف فيه، بل ادعى الإجماع عليه في الروض وكشف اللثام ومحكي الذكرى وشرح الجعفرية وظاهر مجمع البرهان.

ويقتضيه موثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: أول شيء يبدأ به من المال الكفن، ثم الدين، ثم الوصية، ثم الميراث"(3). وحديث زرارة الذي لا يبعد كونه صحيحاً(*):" سألته عن رجل مات وعليه دين بقدر ثمن كفنه. قال: يجعل ما ترك في ثمن كفنه، إلا أن يتجر عليه بعض الناس فيكفنوه ويقضى ما عليه مما ترك"(4).

(2) بلا إشكال ظاهر. وقد ادعي الإجماع عليه في الروض وكشف اللثام والمدارك ومحكي شرح الجعفرية وظاهر مجمع البرهان. ويقتضيه موثق السكوني

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 27 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب التكفين حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 28 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 1.

(*) منشأ التوقف في صحته أنه قد رواه الصدوق (قدس سره) بطريق والشيخ بطريقين وكلها معتبرة عن

الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن زرارة. فيكون صحيحاً. ورواه الكليني بطريق معتبر عن

الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن معاذ عن زرارة، ومعاذ مشترك بين ابن ثابت الجوهري الذي لم يوثق صريحاً وابن مسلم الهراء [الفراء] الثابت التوثيق، بل قيل: إن المراد بالرواية الأول. وحيث يبعد رواية ابن رئاب للحسن بن محبوب بالوجهين كان مضطرب السند، ولا مجال للاعتماد على الوجه الأول في البناء على صحته. نعم قد يرجح الأول بتعدد طرقه. مع أنه قد تستفاد وثاقة معاذ بن ثابت من رواية ابن أبي عمير عنه. فلاحظ.

(4) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 27 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 2. وروي أيضاً باختلاف يسير لا بغير المعنى في باب: 13 من أبواب الدين والقرض حديث: 1.

ص: 74

(75)

المتقدم صريحاً، وحديث زرارة بضميمة أن الدين مقدم على الوصية، فما دل على تقديم الكفن عليه يقتضي تقديمه عليها بالأولوية.

بقي شيء، وهو أنه قد اختلفت كلماتهم في تقديم الكفن على الحقوق المتعلقة بالتركة، كحق الرهانة وغرماء المفلس والجناية إذا توقف إخراجه على التصرف في موضوعها بنحو يزاحمها، كما لو انحصرت التركة بالعين المرهونة. وينبغي الكلام في كل من الحقوق التي وقع الكلام فيها على حدة، للاختلاف بينها في كلماتهم وفي وجوه الاستدلال، وهي عدة حقوق.

الأول: حق المرتهن في استيفاء دينه من العين المرهونة. ولم يستبعد في جامع المقاصد تقديم الكفن عليه، وجزم به في المدارك وطهارة شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيرهما، ومال إليه في الجواهر، وجعل في هذه الكتب وفي الروض وغيره مقتضى إطلاق الأخبار وكلام الأصحاب. وظاهر الروض التردد، وعن الشهيد - في الذكرى والبيان وحواشي القواعد - والموجز الحاوي تقديم حق المرتهن، ومال إليه في الرياض. وفي مفتاح الكرامة: "وهو مقتضى إطلاق كلام الأصحاب".

ولا يخفى أن مقتضى إطلاق نفوذ عقد الرهن في الأدلة وكلام الأصحاب تعلق حق المرتهن بالعين ليستوفي دينه منها بنحو يزاحم الكفن ويمنع من إخراجه منها. كما أن مقتضى إطلاق تقديم الكفن على الدين في النص وكلام الأصحاب أيضاً خروج الكفن من العين المرهونة في فرض انحصار الأمر بها وإن استلزم تعذر استيفاء الدين منها. ومن ثم كان الإطلاقان متنافيين وإن كان كل منهما ثابتاً وحجة في نفسه مع قطع النظر عن الآخر، فلابد من تقديم أحدهما من مرجح.

ومجرد سبق حق الرهن لا يكفي في ترجيحه بعد أن لم يكن رافعاً لموضوع إطلاق تقديم الكفن على الدين، لعموم الإطلاق المذكور لدين الرهن.

وأضعف منه ما في الروض وغيره في توجيه تقديم حق الرهن بأنه يقتضي المنع من استيفاء المؤنة من العين حال الحياة مع أن المؤنة متقدمة على الدين. لوضوح أن

ص: 75

ذلك إنما يقتضي ترجيحه على سائر الديون، لا على الكفن الذي كان مقتضى الإطلاق تقديمه على جميع الديون.

اللهم إلا أن يرجع إلى دعوى: أن تقديم الكفن على الدين بملاك تقديم المؤنة على الدين، فلا يشمل دين الرهن المقدم في العين المرهونة على المؤنة. لكنه لا يخلوعن خفاء.

وأشكل منه الاستدلال في كلام غير واحد لتقديم الكفن بأن دين الرهن متعلق بالذمة مع بقاء العين على ملك الراهن، فيتعلق بها الكفن. لاندفاعه بأن تعلق الدين في الذمة وبقاء العين على ملك الراهن لا ينافي ثبوت حق استيفاء الدين في العين بنحو ينافي وجوب إخراج الكفن منها.

هذا وقد استدل شيخنا الأعظم (قدس سره) وبعض من تأخر عنه لتقديم الكفن على الرهن بأن حق الرهن من توابع أداء الدين، وحيث كان مقتضى الإطلاق تقديم الكفن على كل دين ومنه الدين الذي أخذ الرهن عليه، كان مقتضاه عدم وجوب وفائه ليبقى الرهن.

ويشكل بأن عدم وجوب وفاء دين الرهن من العين المرهونة من أجل ما ذكروه ليس لقصور في نفسه عن ذلك، بل لوجوب إخراج الكفن منها المستفاد من إطلاق دليل تقديم الكفن، فإذا كان الإطلاق المذكور معارضاً بإطلاق نفوذ الرهن المفروض بقاء موضوعه - وهو الدين - وعدم سقوطه بالموت فلا وجه للتعويل عليه من دون إحراز رجحانه على الإطلاق الآخر.

وإلا فليس ذلك بأولى من دعوى: أن إخراج الكفن من العين المرهونة فرع وجوب التكفين، ومقتضى إطلاق نفوذ الرهن عدم وجوبه ووجوب استيفاء الدين من العين.

نعم لو اقتضى إطلاق تقديم الكفن سقوط دين الرهن بالموت في الفرض، كان وارداً على إطلاق ثبوت حق الرهن، لرافعيته لموضوعه. إلا أنه لا يظن بأحد احتمال

ص: 76

ذلك.

وبالجملة بعد أن لم يكن أحد الإطلاقين وارداً على الآخر ورافعاً لموضوعه فلا وجه للتعويل على أحدهما من دون إحراز ترجيحه.

نعم ادعى سيدنا المصنف (قدس سره) - بعد التسليم بما ذكرنا في الجملة - أقوائية إطلاق تقديم الكفن على الدين، قال: "فإن تخصيص ما دل على ثبوت الحق أهون من تخصيص ما دل على أن الكفن مقدم على الدين، فيكون أظهر منه في مورد الإجتماع، ولذا يظهر منهم التسالم على تقديم الكفن على حق غرماء المفلس" .لكن أقوائية الإطلاق المذكور إن كانت بلحاظ قوة لسان دليله فهو ممنوع. وإن كانت بلحاظ ارتكازية مضمونه، لارتكاز اهتمام الشارع بتكفينه الذي هو كمؤنته الضرورية حال الحياة التي لا يصلح الدين لمزاحمتها، حتى ساق بعضهم ذلك دليلاً مستقلاً لتقديم الكفن على الدين. أشكل بأن الارتكاز المذكور ليس بأقوى من ارتكاز اهتمام الشارع بخصوصية الرهن والمحافظة على مقتضى عقده، حيث أقدم عليه الطرفان للاستيثاق زائداً على ما يقتضيه الدين بطبعه من وجوب الوفاء، ولذا يقدم على مؤنة الراهن التي لا يتقدم عليها الدين بطبعه.

وأما تسالمهم على تقديم الكفن على حق غرماء المفلس، فهو - مع أنه لا مجال للتعويل عليه بنفسه، كما يأتي إن شاء الله تعالى - قد يبتني على دعوى الفرق بين حق الغرماء وحق المرتهن، ولذا لم يحصل التسالم في حق المرتهن كما سبق، فلا مجال لاستكشاف أقوائية إطلاق دليل تقديم الكفن منه.

هذا مع قوة احتمال انصراف إطلاق تقديم الكفن على الدين إلى تقديمه من حيثية أهمية الدين بطبعه، تخصيصاً لعموم تعلق الدين بالتركة المستفاد من مثل قوله تعالى: (من بعد وصية يوصي بها أو دين)(1) من دون نظر لخصوصية الرهن المقتضي لاستيفاء دينه من العين مع قطع النظر عن صيرورتها تركة، حتى في حال

********

(1) سورة النساء آية: 11.

ص: 77

حياة الراهن.

وإن شئت قلت: الدين في المقام يستوفى من العين من جهة كونها مرهونة ومن جهة صيرورتها تركة، وعموم تقديم الكفن على الدين منصرف إلى تقديمه من الجهة الثانية دون الأولى، بل مقتضى عموم نفوذ الرهن عدم تقديمه من تلك الجهة. ولعل ما في الرياض من دعوى انصراف الإطلاق عن الدين المذكور مبني على ذلك.

وبالجملة: لو لم يكن إطلاق تقديم الكفن على الدين منصرفاً عن خصوصية الرهن فلا أقل من عدم وضوح أقوائيته من إطلاق نفوذ الرهن وثبوت حق المرتهن في العين، الملزم بالتوقف عن كلا الإطلاقين، والرجوع للأصل.

وهو في المقام استصحاب بقاء حق المرتهن المانع من إخراج الكفن من العين المرهونة. بل لو غض النظر عن الاستصحاب المذكور كان مقتضى الأصل عدم نفوذ التصرف في العين المرهونة لإخراج الكفن منها، لو لم تصلح بنفسها لأن تكون كفناً. كما كان مقتضى أصالة البراءة عدم وجوب التكفين وجواز حبس المرتهن العين المرهونة حتى يدفن الميت ويتعذر تكفينه، فلا يزاحم حق الرهن. فلاحظ.

نعم في حديث سليمان بن حفص المروزي: "كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) في رجل مات وعليه دين ولم يخلف شيئاً إلا رهناً في يد بعضهم، فلا يبلغ ثمنه أكثر من مال المرتهن، أيأخذ بماله أو هو وسائر الديان فيه سواء؟ فكتب: جميع الديان في ذلك سواء يتوزعونه بينهم بالحصص"(1). ونحوه خبر عبدالله بن الحكم(2). ومقتضاهما عدم مانعية حق الرهن من تعلق حق الغرماء بالعين المرهونة التي هي من تركة الميت، وأن حق الغرماء في التركة أقوى من حق المرتهن في العين المرهونة، وحينئذٍ فتقديم الكفن على حق الغرماء في التركة يقتضي تقديمه على حق المرتهن بالأولوية.

اللهم إلا أن يستشكل في حجية الحديثين، لضعف سند الثاني، وعدم خلو سند الأول عن الاضطراب. ولهجر المشهور لهما، بل لم يعرف القول بمضمونهما صريحاً،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 19 من كتاب الرهن حديث: 2، 1.

ص: 78

(79)

وإنما المعروف بينهم ترجيح دين المرتهن. قال في الجواهر:" بل لا خلاف فيه... عدا ما عساه يظهر من الصدوق، حيث إنه روى الرواية الدالة على الاشتراك التي رماها في السرائر بالشذوذ، وفي الدروس بالهجر، وهو في معنى الإجماع، بل في الأول دعواه صريحاً... ".وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال. ويحتاج لمزيد فحص وتأمل.

بقي شيء، وهو أنه قطع في جامع المقاصد والروض بأن الرهن إذا كان بعد الموت كان الكفن مقدماً لسبق سببه. وكأن المراد ما لو رهنه الوصي أو نحوه ممن من شأنه التصرف بالتركة بعد الميت. وحينئذٍ يتجه مانعية وجوب الكفن من نفوذ التصرف بالرهن، لاقتضائه قصور السلطنة عما ينافيه، فيبطل الرهن، ولا يثبت به الحق، فضلاً عن أن يمنع من إخراج الكفن.

إلا أن يكون الرهن لأجل الكفن، كما لو تعذر بيع التركة لشراء الكفن فاقترض الولي ورهن العين لأجله ثم ضاع المال المقترض أو تلف الكفن المشترى به، فينفذ الرهن بمقتضى فرض ولاية الولي. وحينئذٍ ففي تقدم الكفن عليه، بحيث يكون للولي انتزاع العين وإخراج الكفن منها مرة أخرى إشكال. فتأمل جيداً.

الثاني: حق غرماء المفلس. وفي الروض أن الكفن مقدم عليهم قطعاً، كما جزم بذلك في الشرايع والتذكرة والقواعد وجامع المقاصد، مدعياً فيه في مبحث المفلس الإجماع عليه، وادعى غير واحد أنه مقتضى إطلاق النص والفتوى، وفي الجواهر:" لم أعرف فيه خلافاً "،وتقدم من سيدنا المصنف (قدس سره) دعوى ظهور التسالم عليه منهم.

لكن الاكتفاء بذلك في إثبات الحكم لا يخلو عن إشكال، لقرب ابتناء كلامهم فيه على الاجتهاد في مفاد النصوص ومقتضى الوجوه الاعتبارية، فاللازم النظر فيها.

ومن الظاهر أن كثيراً مما تقدم في حق المرتهن يجري هنا. بل ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أنه لا يتضح الفرق بينهما.

لكن الظاهر خصوصية المقام بقرب إلحاق الكفن بالنفقة حال الحياة التي هي

ص: 79

(80)

عندهم في مال المفلس قبل القسمة. بل صرحوا بذلك أيضاً في نفقة من تجب عليه نفقته. ولاسيما مع تصريح بعضهم بأن عليه كفن زوجته، حتى ادعى في الخلاف الإجماع عليه، إذ إخراج كفنها من المال دون كفنه بعيد جداً. مضافاً إلى ارتكاز أن تعلق حق الغرماء بمال المفلس نظير تعلق حقهم بتركة الميت ليس إلا للمحافظة على وفاء الدين الواجب في نفسه بعد عجز المالك عن وفائه، فتقديم الكفن على حق غرماء الميت يناسب تقديمه على حق غرماء المفلس، لمسانخته له.

فإن ملاحظة ذلك ونحوه توجب الاطمئنان بأن الحجر على المفلس في ماله لوفاء الدين حذراً من التصرفات التي قد تفوته وإن اقتضتها السلطنة، من دون أن يقتضي منع الحقوق والواجبات الأخر التي تثبت في ماله أو يجب عليه القيام بها منه مع الدين قبل الحجر، ومنها الكفن في المقام.

وليس هوكحق الرهن المبني على خصوصية مورده بعقد أقدم عليه الطرفان استيثاقاً لوفاء الدين زائداً على ما يقتضيه بطبعه من وجوب الوفاء، والذي يمنع من تعلق الحقوق الأخر بالعين وإن وجبت في نفسها على المدين، كالنفقة ونحوها. فلاحظ.

الثالث: حق الجناية، فقد ذكروا أن العبد لو جنى خطأ كان على مولاه دفع الدية أو دفعه ليستوفي ولي المقتول حقه، ولو جنى عمداً تخير ولي المقتول بين القصاص منه واسترقاقه. فلو انحصرت التركة به هل يخرج الكفن منه ولواستلزم تفويت حق الجناية أو لا، بل يقدم حق الجناية؟.

ظاهر جامع المقاصد والروض وغيرهما التوقف، مع الاعتراف منهما ومن غيرهما بأن مقتضى إطلاق الأصحاب والأخبار تقديم الكفن. وعن الشهيد - في البيان وحواشي القواعد - والموجز والحاوي تقديم حق الجناية، ومال إليه في الرياض والجواهر، وقواه شيخنا الأعظم (قدس سره) وغير واحد ممن تأخر عنه.

وذكر بعض مشايخنا - فيما حكي عنه - أنه إن أمكن بيع العبد ولو مع إعلام

ص: 80

المشتري بأنه معرض لاستيفاء حق الجناية منه، وجب إخراج الكفن منه، ولا يضيع حق الجناية حينئذٍ، وإن تعذر لعدم إقدام أحد على شرائه والحال هذه فلا مال، ليبذل في الكفن.

وهو مبني على المفروغية عن تقديم حق الجناية وعدم صلوح الكفن لمزاحمته الذي هو عين الدعوى، إذ لو قيل بتقديم الكفن عليه كان اللازم مع تعذر بيعه معَرّضاً لاستيفاء حق الجناية سقوط حق الجناية محافظة على الكفن، ويباع غير معَرّض لاستيفاء الحق المذكور - كسائر الأموال المطلقة - ويخرج منه الكفن. ومن ثم كان اللازم بيان وجه تقديمه على الكفن.

أما سيدنا المصنف (قدس سره) فقد وجهه بعدم نهوض أدلة تقديم الكفن بإثبات مزاحمته لنفس الدين بحيث يوجب سقوطه وبراءة ذمة الميت منه.

ولم يتضح كفاية ذلك في توجيه تقديم حق الجناية بعد ظهور النصوص والفتاوى في عدم كون حق الجناية - خصوصاً العمدية - من سنخ الدين القائم بالذمة، والذي لا يسقط عنها وإن لم يخرج من التركة، بل هو قائم بالعين، فإذا كان مقتضى إطلاق إخراج الكفن من التركة إخراجه وإن زاحم الحق المذكور لزم النظر في الترجيح بينهما.

ولعل الأولى تقريبه بأن الحق المذكور لما كان قائماً بالعبد فهو مستثنى مما يملك منه بنحو يوجب نقصاً في المملوك، نظير استثناء الحق الزكوي من النصاب، والصاع من الصبرة في بيعه منها، وحيث كان ظاهر نصوص تقديم الكفن خروجه من التركة المملوكة للميت حين موته فهو يقصر عما يستثنى منها من الحقوق مما يوجب نقصها، ولا ينهض بمزاحمتها، لما يأتي من عدم خروج الكفن من مال الغير، بل من مال الميت نفسه لا غير، وإنما قدم على الدين لقيام الدين بالذمة، لا بأعيان التركة بنحو يكون مستثنى منها ويوجب نقصها.

وبذلك يكون أولى من حق الرهن بالتقديم على الكفن، لأن حق الرهن ل

ص: 81

يوجب عرفاً نقصاً في العين المملوكة، ولا يستثنى منها بما هي مملوكة، كما في المقام، وإنما يرجع لاستحقاق وفاء الدين منها، نظير استحقاق وفاء دين الميت من تركته. غايته أنه لخصوصية زائدة على عنوان التركة، فيقع الكلام في عموم تقديم الكفن لها، كما تقدم. فتأمل.

وبالجملة: بعد أن كان حق الجناية متعلقاً بالعين بنحو يكون مستثنى منها، ويوجب نقصها، خرج عن موضوع تقديم الكفن، لأن تقديمه إنما هو من التركة المملوكة للميت بتمامها.

ومنه يظهر أنه لا مجال لما ذكره الفقيه الهمداني (قدس سره) من أنه لا يبعد دعوى أن المستفاد من قوله (عليه السلام) في موثق السكوني: "أول شيء يبدأ به من المال الكفن" تقديم الكفن على كل شيء، ومنه حق الجناية في المقام، لا على خصوص الدين، وإنما ذكر لأنه من أظهر أفراد الحقوق.

لاندفاعه بأن موضوع التقديم لما كان هو المال فالظاهر منه المملوك بتمامه للميت قبل موته، دون ما يستثنى منه من حق للغير قائم به، لأن الكفن لا يخرج من مال الغير.

على أن الاستظهار المذكور من الموثق غير تام، بل ظاهر الموثق الترجيح بين الحقوق الثلاثة الشايعة الابتلاء، من دون نظر لغيرها. ولاسيما مثل حق الجناية مما يتعلق بالتركة قبل الموت، لانصراف الموثق لبيان حال ما يرد على التركة بعد الموت من الحقوق المختلفة والترتيب بينها وأن أياً منها ينفذ أولاً.

وربما احتمل تقديم الكفن على حق الجناية في الخطأ، لأن الخيار معه لمولى العبد في دفعه وافتدائه. لكن ذلك ليس معياراً في التقديم، بل ينبغي أن يبتني على أن الجناية هل توجب انشغال ذمة المولى بالدية وأن انتزاع العبد على تقدير عدم دفعه لها لكونه مورد الاستيفاء، نظير العين المرهونة، أو توجب تعلق الدية برقبة العبد وأن للمولى فك رقبته وافتداءه، فعلى الأول يكون حق الجناية نظير حق الرهن، ويجري

ص: 82

فيه ما تقدم فيه، وعلى الثاني - الذي يظهر منهم البناء عليه في المقام - يتعين تقديم حق الجناية، لما ذكرناه آنفاً.

هذا وقد جزم في جامع المقاصد والروض بتقديم الكفن لو كانت الجناية بعد الموت لسبق سببه، نظير ما تقدم منهما في الرهن. وعن محكي البيان التوقف بلحاظ ذلك، وبلحاظ أن حق الجناية أقوى.

وقد سبق أن مجرد السبق الزماني لا أثر له في التقديم ما لم يكن موجباً لارتفاع موضوع الحق اللاحق، ولا أشكال ظاهراً في أن وجوب إخراج الكفن لا يمنع من تمامية موضوع حق الجناية. بل لا يظن بأحد دعوى: أن تعلق الكفن بالتركة أقوى من ملكية الشخص لماله، مع أن حق الجناية مقدم على ملكية مولى العبد له، فهو يكون كتلفه عليه، ولازم ذلك تقديم حق الجناية في المقام، ويكون كتلف العبد قبل إخراج الكفن منه. وإن كان الأمر محتاجاً للتأمل.

هذه الحقوق الثلاثة هي التي وقع الكلام فيها بينهم في المقام. وقد زاد عليها في محكي الموجز الحاوي الحكم بعدم إخراج الكفن من التركة فيما إذا كان قد اشتراها بثمن معين وقد تلف قبل إقباضه، أو بثمن كلي وقد أفلس أو مات قبل إقباضه، أو مضت له ثلاثة أيام ولم يقبضها ولم يقبض ثمنها، أو كانت عيناً قد حبسها خياط أو شبهه على الأجرة ولم يفضل بعدها بقدر الكفن.

ولا يخفى أن بناءهم في الصورة الأولى على انفساخ البيع ورجوع المبيع لملك البايع، نظير رجوع الثمن للمشتري لو تلف المبيع قبل قبضه، ولازمه خروجها بالتلف عن ملك المشتري الميت، فتخرج عن كونها تركة له، الذي هو موضوع النص بتقديم الكفن. ومثلها في ذلك ما لو كانت التركة ثمناً لعين قد تلفت قبل إقباضها للمشتري.

والكلام في الصورتين الثانية والثالثة - وهما ما إذا اشترى العين بثمن كلي وقد أفلس أو مات قبل إقباضه - مبني على ما وقع الكلام فيه من اختصاص البايع بم

ص: 83

(84)

وكذا ما وجب من مؤنة تجهيزه ودفنه (1) من السدر والكافور وماء الغسل وقيمة الأرض وما يأخذه الظالم من الدفن في الأرض

باعه في الفرضين بدلاً عن الثمن الذي لم يقبضه وتميزه على غيره من الغرماء، فإن تم اختصاصه به يكون له الحق في العين لخصوصية زائدة على كونها للميت، ويكون نظير حق الرهن فيما تقدم من الكلام.

وفي الصورة الرابعة يبتني على ثبوت خيار الفسخ في الفرض، فيكون إخراج الكفن مزاحماً لحق الخيار. ولا يبعد تقديم حق الخيار، لخروج العين بإعماله عن كونها تركة، الذي هو موضوع إخراج الكفن، ويكون وارداً على عموم دليله. نعم لو لم يعمله جاز إخراج الكفن من العين. ومثله الحال في سائر موارد الخيار، كخيار الحيوان والشرط.

وأما في الصورة الخامسة فكأنه مبني على جواز حبس العين في الفرض إلى أن يستوفي الأجرة، وهو محل كلام. فإن تم ذلك لزم التنافي بين جواز الحبس ووجوب إخراج الكفن من العين. لكن حيث لا إطلاق لدليل جواز الحبس في الفرض، بل لو تم الدليل عليه فهو لبي، تعين عدم مزاحمته للكفن، كما لا يزاحمه نفس الأجرة، لأنها كسائر الديون التي لا إشكال في تقدم الكفن عليها. ولعله لذا قال في مفتاح الكرامة: "ولم نقف على هذا لأحد غيره، كما قال في كشف الالتباس".

(1) كما في الشرايع والتذكرة والمنتهى والقواعد وجامع المقاصد والروض وعن الشهيد وغيره. وفي الخلاف دعوى الإجماع على إخراج الكفن ومؤنة الميت. وفي المدارك: "أما الوجوب في أصل المال فظاهر، لأن الوجوب متحقق، ولا محل له سوى التركة إجماعاً" وعن نهاية الأحكام الإجماع على عدم وجوب بذل ماء التغسيل. وقد يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عن عدم الفرق بين الكفن وبقية المؤن.

وهو المناسب لوجوب أفعال التجهيز بعد ارتكاز أولوية التركة بها، كما هو المناسب للسيرة. وكأن اقتصار النصوص وبعض عبارات الأصحاب على الكفن

ص: 84

المباحة (1) وأجرة الحمال والحفار (2) ونحوها.

لأنه المهم غالباً مما يحتاج لصرف المال، وإلا فمن البعيد جداً وجوبه في التركة وعدم وجوب غيره من المؤن أو وجوب بذلها على الغير.

وعن بعض مشايخنا الاستدلال عليه بما في موثق الفضل بن يونس: "سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) فقلت له: ما ترى في الرجل من أصحابنا يموت ولا يترك ما يكفن به، أشتري له كفنه من الزكاة؟ فقال: اعط عياله من الزكاة قدر ما يجهزونه. قلت: فإن لم يكن له ولد ولا أحد يقوم بأمره فأجهزه أنا من الزكاة؟ قال: كان أبي يقول: إن حرمة بدن المؤمن ميتاً كحرمته حياً. فوار بدنه وعورته وجهزه وكفنه وحنطه، واحتسب بذلك من الزكاة وشيع جنازته..."(1).

بدعوى: أن المستفاد من وجوب تمام مؤن تجهيزه من الزكاة إذالم يكن له مال وجوب تلك المؤن في ماله لوكان له مال، وأن ما يجب خروجه من ماله يخرج من الزكاة لو لم يكن له مال.

وما ذكره وإن كان قريباً في نفسه، إلا أن الموثق لا يتضمنه بنحو يصلح للاستدلال عليه. نعم قد يستفاد منه ما ذكرنا من المفروغية عن كون بقية مؤن التجهيز كالكفن، لأن السؤال إنما كان عن الكفن فالتعميم لغيره من المؤن في الجواب قد يظهر في ذلك. وكيف كان فالظاهر أن ما تقدم بمجموعه كاف في إثبات الحكم. فلاحظ.

(1) كما هو مقتضى إطلاق المؤنة في كلام جملة ممن سبق، وكذا في معقد إجماع الخلاف والمدارك. ويقتضيه ما تقدم. خلافاً للجواهر، بدعوى انصراف المؤنة لغير ذلك في معاقد الإجماع. وفيه: أنه لو سلم انصراف المؤنة لفظاً عن ذلك، إلا أنه يستفاد تبعاً بلحاظ الوجه المتقدم الذي عليه يبتني الإجماع ارتكازاً. فتأمل جيداً.

(2) من الصعب جداً البناء على عدم وجوب بذل العمل فيهما كفائياً، لقرب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 85

(86)

(مسألة 33): كفن الزوجة على زوجها (1)

إلحاقهما بالدفن، كإنزال الميت في القبر، حيث يبعد اختصاص الدفن الواجب بخصوص إهالة التراب، ويكون ما عداه من سنخ مقدمة الوجوب غير الواجبة، نظير بذل عين الكفن.

نعم لو تعذر الباذل للعمل مجاناً - ولو عصياناً - لم يبعد وجوب إخراج ما يتوقف عليه من المال من التركة، لأولويتها من مال الغير ارتكازاً. ولاسيما بلحاظ ما تقدم في بقية المؤن. بل هو من المؤن حينئذٍ بعد فرض عدم وجود الباذل له وإن وجب بذله. نظير كفن الزوجة لو امتنع الزوج عن القيام به عصياناً. وربما يأتي في المسألة التاسعة والثلاثين ما ينفع في المقام.

(1) إجماعاً، كما في الخلاف والروض ومحكي نهاية الأحكام والتنقيح وشرح الجعفرية ومجمع البرهان. وعليه فتوى الأصحاب، كما في المعتبر والذكرى. وعند علمائنا، كما في التذكرة. وذهب إليه علماؤنا، كما في المنتهى. وفي المدارك:" هذا مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفاً. وصريح أكثرها وظاهر الباقي عموم الحكم لذات المال".

ويقتضيه موثق السكوني عن جعفر عن أبيه:" أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: على الزوج كفن امرأته إذا ماتت"(1). وظاهر غير واحد وصريح بعضهم ضعف الخبر. ولعله لذا تنظر في الاستدلال به في المدارك، وذكر أن الأولى الاستدلال بما رواه الصدوق في الصحيح، قال: "وروى الحسن بن محبوب عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام): قال: الكفن من جميع المال. وقال (عليه السلام): كفن المرأة على زوجها إذا ماتت"(2).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب التكفين حديث: 2.

(2) رواه في الفقيه ج: 4 ص: 143 الطبعة الحديثة في النجف الأشرف وروى في وسائل الشيعة ج: 2 صدره في باب: 31 من أبواب التكفين حديث: 1 وذيله في باب: 32 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 86

لكن تقرر في محله اعتبار حديث السكوني، لكونه ثقة في نفسه. على أنه لو كان ضعيفاً كفى في جبره ما عرفت من فتوى الأصحاب بمضمونه، مع ظهور حالهم في الاعتماد عليه حيث لا دليل يعتد به غيره.

وأما صحيح عبدالله بن سنان فقد استدل به أيضاً في الوسائل في باب التكفين والبهائي في الحبل المتين. إلا أنه قرب في الحدائق ومحكي الذخيرة الاقتصار فيه على الصدر، كما في الكافي بطريق والتهذيب بطريقين، وأنه عبارة عما تقدم في أول المسألة السابقة. وأن الذيل مرسلة أخرى للصدوق.

وعن بعض مشايخنا المنع من ذلك، وتقريب ما فهمه في المدارك - من كون الذيل تتمة للصحيح - بأن ظاهر قوله:" وقال (عليه السلام): كفن المرأة... "العطف على قوله:" قال: الكفن من... "تتمة للصحيح، لا على قوله:" وروى الحسن... "ليكون من كلام الصدوق حديثاً آخر. لأن الأول أقرب. ولأن مراسيل الصدوق في الفقيه لا تكون مضمرة حسب التتبع، بل يسندها للإمام المروية عنه.

ويشكل بأن ظهور العطف في الرجوع للأقرب قد يسلم بنحو يكون حجة فيما إذا كان الفرق فاحشاً، بحيث يغفل عن الأبعد بحسب مساق الكلام، دون مثل المقام، نظير قولنا: جاء زيد وقد أغلقت الباب، وخرج عمرو إلى السوق، حيث يشكل استظهار عطف جملة:" وخرج... "على جملة:" وقد أغلقت... "دون جملة:" جاء...".

على أنه إنما يتم مع إحراز وحدة المتكلم، كالمثال، حيث قد يدعى أن ظاهر حاله العطف على الأقرب، لا في مثل الحديث، حيث يتردد الذيل بين أن يكون من كلام عبدالله بن سنان معطوفاً على قوله:" قال: الكفن... "وأن يكون من كلام الصدوق معطوفاً على قوله:" وروى الحسن... "إذ يتعين كلام كل منهما لوجه خاص، ولا تردد في حال كلام شخص واحد، ليدعى ظهوره في أحد الوجهين.

وأما عدم الإضمار في مراسيل الصدوق فعهدة دعواه عليه، وهو أعلم بما قال،

ص: 87

(88)

لاحتياجه لتتبع غير متيسر فعلاً. إلا أنه لو تم لا يبلغ مرتبة اليقين والحجية. خصوصاً في مثل المقام مما يحتمل فيه رجوع الضمير للإمام الصادق (عليه السلام) المصرح به قريباً في صحيح عبدالله بن سنان. ولاسيما مع ما تقدم من عدم ذكر التتمة في طرق الكليني والشيخ (قدس سرهما) وعدم الاستدلال بالصحيح قبل صاحب المدارك، إذ لا أقل مع ذلك من التوقف عن الاستدلال به.

هذا وقد استدل بوجهين آخرين:

الأول: أن الزوجية ثابتة إلى حين الوفاة، فيجب الكفن. وانقطاع العصمة إنما هو بالإضافة إلى بعض الأحكام، لا بالإضافة إلى بقيتها، ولذا ثبت الميراث وجاز النظر والتغسيل، وقد أطلق عليها الزوجة في أدلة هذه الأحكام، ومع إطلاق الزوجة يجب الكفن، لأن وجوبه مقارناً للوفاة لا متأخراً عنها، وسقوط أحكام الزوجية إنما يكون متأخراً عنها. هذا ما يتحصل من المعتبر وأشير إلى بعضه في التذكرة والمنتهى وغيرهما.

ويشكل أولاً: بأن مجرد إطلاق الزوجية عليها في بعض أدلة الأحكام - كالميراث ونحوه - لا يقتضي كونها بعد الموت زوجة حقيقية، لأن الاستعمال أعم من الحقيقة، بل قد يكون الإطلاق بلحاظ حال الحياة، لا حال الموت الذي هو حال وجوب الكفن.

وثانياً: بأنه لا فرق في وجوب الكفن وأحكام الزوجة الساقطة بالموت، في ترتب ثبوته وسقوطها على الموت ترتب الحكم على موضوعه، المستلزم لتأخرها عنه رتبة ومقارنتها له زماناً.

وثالثاً: بعدم وضوح الملازمة بين ثبوت الزوجية ووجوب الكفن إلا بدعوى عموم نفقة الزوجة الواجبة للكفن. وهو لو تم لم يحتج إلى بقية مقدمات الاستدلال، لوضوح أن وجوب تكفين الزوجة لا يراد به إلا وجوب تكفين من هي زوجة حين الموت وإن لم يصدق عليها عنوان الزوجة بعده. وإن لم يتم لم تنفع بقية المقدمات في

ص: 88

إثبات وجوب التكفين.

هذا والظاهر عدم تمامية العموم المذكور، لظهور أدلة النفقة في نفقة الحياة، ولذا لا ملازمة بين موضوعيهما، فيشترط في وجوب نفقة الحياة ما لا يشترط في وجوب الكفن - على ما صرح به جماعة - واختص وجوب التكفين بالزوجة والمملوك عندهم دون بقية من تجب نفقتهم حال الحياة. كما كانت نفقة الزوجة حال الحياة عندهم ديناً في ذمة الزوج لو لم يؤدها بخلاف كفنها... إلى غير ذلك مما يناسب كون عموم وجوب الإنفاق مختصاً بالنفقة حال الحياة، دون مثل التكفين بعد الموت.

وأما ما عن بعض مشايخنا دامت بركاته من استفادة العموم له من التعليل في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: خمسة لا يعطون من الزكاة شيئاً: الأب والأم والولد والمملوك والمرأة، وذلك أنهم عياله لازمون له" (1) بدعوى: أن المستفاد من ذلك أنه قائم بشؤونهم متحمل لثقلهم، وهو يشمل حالي الحياة والممات.

فيشكل أولاً: بعدم وضوح الوجه في العموم المذكور، لعدم تضمن الحديث الحكم باللزوم ابتداء، كي يدعى أن حذف المتعلق فيه يقتضي العموم، ويقع الكلام في تحديد العموم المذكور، بل التعليل به مع المفروغية عنه، فلا يكون في مقام بيان متعلق اللزوم، لينعقد إطلاق له في ذلك، بل يتعين الرجوع في تحديد متعلق اللزوم لدليله.

كما أن ارتكازية التعليل لا تقتضي العموم المذكور، بل غاية الأمر أن تقتضي عموم النفقة لكل حاجة يستحق لأجلها دفع الزكاة، وهو مختص بحال الحياة، إذ لا تدفع الزكاة إلا حينئذٍ، ولا تدفع للميت وإن جاز تكفينه بها من باب أنه من سبيل الله أو نحوه. على أنه تقدم في المسألة العشرين من مباحث غسل الجنابة عند الكلام في قيام الزوج بماء الغسل المنع من حمل التعليل على ذلك.

وثانياً: بأن الصحيح لو استفيد منه العموم المذكور لزم رفع اليد عنه بما تضمن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 13 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 1.

ص: 89

(90)

تحديد النفقة الواجبة بالإطعام والكسوة من النصوص الكثيرة التي تقدم التعرض لها في المسألة المذكور، ولاإشكال في ظهور الكسوة في كسوة الحياة، ولاتعم الكفن بعد الوفاة.

وبالجملة: لا مجال للبناء على عموم وجوب النفقة للكفن، بل هو ظاهر في خصوص النفقة حال الحياة.

نعم لو ثبت وجوب الكفن أمكن أن يستفاد - ولو بمناسبة الحكم والموضوع الارتكازية - أنه من سنخ النفقة وملحقاً بها. لكنه فرع قيام الدليل عليه، لا على أن يساق بنفسه دليلاً عليه.

وأشكل من ذلك ما يظهر من الفقيه الهمداني (قدس سره) من قضاء الاستصحاب بوجوب التكفين. إذ فيه: أن التباين بين الكفن والكسوة حال الحياة من الوضوح بحيث يوجب تعدد الموضوع عرفاً. هذا مع غض النظر عن تعدده بالموت الذي هو التحقيق في استصحاب الأحكام التكليفية ونحوها ممايكون متعلقها كلياً كالنفقة والكفن ونحوهما.

الثاني: أنها لو تركت مالاً ورثه الزوج، فيجب عليه مما تتركه من غرامة ومؤنة، عملاً بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "الخراج بالضمان" كما في المنتهى.

ويشكل أولاً: بأن الحديث - مع عدم روايته من طرقنا - محمول إما على أن خراج الشيء ومنافعه لمن عليه ضمانه الشرعي، الذي بمعنى تكليفه بدفع دركه - كالغصب - كما قد يظهر من إطلاق الفقرة المتقدمة التي اقتصر عليها في بعض طرقه، فعن عائشة: "ان رسول الله قضى أن الخراج بالضمان"(1). أو على أن خراج الشيء ومنافعه لمن عليه ضمانه العقدي، الراجع لتملكه بالثمن - إما لخصوصية التملك بالثمن، أو لأجل مطلق الملكية، أو لأجل لازمها، وهو وجوب النفقة وتحمل الخسارة - كما هو ظاهر ما روي عنها أيضاً:" ان رجلاً ابتاع غلاماً فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم ثم وجد به

********

(1) صحيح الترمذي ج: 2 ص: 377 رقم الحديث: 1304.

ص: 90

(91)

وإن كانت صغيرة (1)

عيباً، فخاصمه إلى النبي فرده عليه. فقال الرجال: يا رسول الله قد استغل غلامي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الخراج بالضمان"(1). ومن ثم حكي عن أكثر فقهاء العامة تخصيص القاعدة بالضمان العقدي. بل من عممها منهم للضمان الشرعي - كالحنفية - لم يتمسك له بالحديث الشريف، بل بوجه اعتباري على ما قيل.

وكيف كان فهو أجنبي عما نحن فيه، لوضوح عدم كون الكفن من سنخ الضمان للمرأة بأحد المعنيين المذكورين، وعدم كون الميراث من سنخ الخراج والمنفعة لها. وإنما المناسب لما نحن فيه ما اشتهر من أن من له الغنم فعليه الغرم، وإن لم اعثر عاجلاً على عموم يشهد به.

وثانياً: بأن مقتضى الحديث تبعية الخراج والمنفعة للضمان دون العكس، كما هو محل الكلام.

وثالثاً: بأن الميراث لا يختص بالزوج، ليختص بوجوب بذل الكفن بمقتضى الاستدلال المذكور، بل يشاركه فيه غيره، والمناسب له وجوب بذل الكفن على جميع الورثة. كما أنه لا يختص بالزوجة، مع وضوح عدم بنائهم على عموم تحمل ورثة الميت لكفنه.

ومن ثم كان هذا الوجه كسابقه في غاية الوهن. وكأنهما جريا فيهما على التعليل بعد الورود، أوعلى مجاراة العامة إلزاماً لهم، وإلافمن المعلوم عدم نهوضهمابإثبات حكم شرعي. وقد ظهر من جميع ما سبق أن الدليل في المقام منحصر بموثق السكوني، المعتضد بفتوى الأصحاب.

(1) كما صرح به غير واحد. وهو مقتضى إطلاق النص والفتوى. والانصراف إلى الكبيرة بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق. نعم بناء على عدم وجوب

********

(1) سنن أبي داود ج: 2 ص: 145 رقم الحديث: 3510.

ص: 91

(92)

(92)

أو مجنونة (1)، أو أمة (2)، أو منقطعة (3)

الإنفاق عليها يأتي فيها ما يأتي في المنقطعة والناشز.

(1) كما صرح به غير واحد. وهو مقتضى إطلاق النص والفتوى. ولم أعثر عاجلاً على من قال أو احتمل قصوره عنها، أو نقل عنه ذلك.

(2) للإطلاق المذكور، وبه صرح في جامع المقاصد والروض والمسالك وغيرها، ولم أعثر على مخالف فيه. قال سيدنا المصنف (قدس سره): "ربما يتوهم معارضة نص المقام بما دل على أن كفن المملوك على سيده. وفيه: أن ذلك الدليل ليس إلا الإجماع غير الثابت في الزوجة" .مضافاً إلى قرب ابتناء كلمات المجمعين على أن وجوب كفن المملوك على سيده على نحو وجوب نفقته عليه لا يشمل الأمة المزوجة، لأن مقتضى إطلاق أدلة الزوجة وجوب نفقتها حال الحياة وكفنها بعد الموت على الزوج.

(3) كما هو مقتضى إطلاق النص. كما قد يقتضيه إطلاق فتوى غير واحد، وبه صرح في الروض والمسالك وغيرهما، وحكي عن الفاضل الميسي.

خلافاً لظاهر أو صريح جماعة ممن قصر الحكم على الدائمة، كما في الدروس ومحكي البيان، ونفى عنه البعد في محكي الكفاية واحتمله في المدارك، وتوقف في العموم للمنقطعة في محكي مجمع الفائدة. أو على الدائمة غير الناشز، كما في جامع المقاصد ومحكي الموجز الحاوي وفوائد الشرايع وشرحيها وكشف الالتباس، وعن ظاهر الذكرى والتنقيح التوقف في العموم لغيرها.

والظاهر ابتناء الأول - وهو الاختصاص بالدائمة - إما على قصور ما تقدم من المنتهى من الاستدلال لتحمل الزوج كفن زوجته بميراثه منها، أو على ما أشار إليه في المدارك من انصراف الإطلاق للدائمة.

لكن عرفت ضعف الاستدلال المتقدم من المنتهى. مع أن قصوره عمن لا يرث لا يمنع من الرجوع فيه لعموم النص. وأما الانصراف فهو - لو تم - بدوي ل

ص: 92

يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق بعد ظهور أدلة الزوجية المنقطعة في كونها زوجية حقيقية من سنخ الزوجية الدائمة.

ومنه يظهرضعف الاستدلال بالانصراف للثاني - وهو الاختصاص بالدائمة غير الناشز - كما يظهر من الرياض، ولأن النشوز أمر خارج عن الزوجية لا وجه لكونه سبباً للانصراف.

نعم لوكان تحمل الزوج كفن زوجته من شؤون وجوب انفاقه عليها، لعموم النفقة للكفن - كما تقدم من المعتبر وغيره - اتجه قصوره عمن لا تجب النفقة عليها، كالمنقطعة والناشز. ولعله عليه يبتني تفصيل غير واحد ممن تقدم.

لكن تقدم ضعف الوجه المذكور في نفسه. ولو تم فقصوره عمن لا تجب نفقته لا يمنع من الرجوع فيه لعموم النص الذي سبق الاستدلال به.

وأضعف من ذلك ما في جامع المقاصد، حيث قال في حكم المتمتع بها والناشز: "عدم تعلق وجوب الإنفاق بالزوج لهما حال الحياة - لعدم صلاحية الزوجية في المتمتع بها لذلك، وثبوت المانع منه في الناشز، وهو النشوز - يقتضي عدم تعلق الحكم بوجوب الكفن بعد الموت بطريق أولى، لأن الزوجية تزول حينئذٍ أو تضعف، ولهذا تحل له أختها والخامسة، فيقيد به إطلاق الخبر مع ضعفه".

إذ هو كما ترى لا يرجع إلى محصل ظاهر، لأن التكفين إن كان من صغريات النفقة الواجبة كفى في عدم وجوبه للمتمتع بها والناشز عدم وجوب النفقة لهما، من دون دخل لزوال الزوجية أو ضعفها بالموت فيه، ليقتضي الأولوية، لأن مبنى وجوب تكفين الزوجة على ثبوته مع الموت. وإن كان حكماً في قبالها لم ينفع زوال الزوجية أو ضعفها بالموت لرفعه فيهما، فضلاً عن أن يوجب أولوية رفعه من سقوط النفقة.

هذا وعن بعض مشايخنا الاستدلال لسقوط الكفن - مع الاعتراف بعدم كونه من صغريات النفقة - بأن المستفاد من نصوص عدم النفقة للمتمتع بها والناشز أنه ليس على الزوج للأولى إلا الأجر، ولا للثانية إلا المهر، ولا يجب عليه بذل مال آخر

ص: 93

لهما، والمفهوم منه عدم الفرق بين حالي الحياة والموت.

ويشكل بعدم وضوح منشأ فهم ذلك من الأدلة، إذ لم يرد في الناشز إلا نفي النفقة، ففي موثق السكوني: "أيما امرأة خرجت من بيتها بغير إذن زوجها فلا نفقة لها حتى ترجع"(1). وأما المتمتع بها فلم أعثر عاجلاً على ما ينفي النفقة لها، بل تشعر بعض النصوص بثبوتها، لو لم يكن هو الظاهر منها كحديث أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه:" قلت: فإني أستحيي أن أذكر شرط الأيام. قال: هو أضر عليك. قلت: وكيف؟ قال: لأنك إن لم تشترط كان تزويج مقام ولزمتك النفقة في العدة "(2) فإن تقييد النفقة بالعدة قد يظهر في لزومها قبل العدة على كل حال اشترط أو لم يشترط، وأن الفرق بين الشرط وعدمه ينحصر بحال العدة، حيث تكون مع الشرط بائنة لا نفقة فيها، ومع عدمه رجعية فيها النفقة. وهو الذي يحتمله قوله (عليه السلام) في خبر هشام بن سالم:" فإذا مضت أيامها كان طلاقها في شرطها ولا نفقة ولا عدة لها عليك"(3). لإمكان أن يكون قوله (عليه السلام): "ولا نفقة..." معطوفاً على قوله: "كان طلاقها..." ،فيقتضي نفي النفقة بعد مضي أيامها، لا جملة مستأنفة أو معطوفة على قوله: "فإذا مضت..." ليقتضي نفي النفقة مطلقاً حتى قبل مضي أيامها.

وإنما استدلوا لعدم وجوب النفقة لها بالإجماع، وبما تضمنته بعض النصوص من أنهن مستأجرات(4). لكن في نهوض الثاني بالاستدلال إشكال أومنع. والعمدة الأول لو تم. والمتيقن منه نفي النفقة دون الكفن. فلا يتم ما ذكره دامت بركاته.

ولعل الأولى الاستدلال لسقوط الكفن بما أشرنا إليه في تعقيب استدلال المعتبر لوجوب كفن الزوجة على زوجها من قضاء المناسبات الارتكازية بأن الكفن وإن لم يكن من النفقة الواجبة، إلا أنه من سنخها وملحقاً بها في كونه من حقوق الزوجية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 6 من أبواب النفقات حديث: 1.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 20 من أبواب المتعة من كتاب النكاح حديث: 2، 3.

(4) راجع الوسائل باب: 4، 26، 43 من أبواب المتعة من كتاب النكاح.

ص: 94

(95)

(95)

أو غير مدخول بها (1). وكذا المطلقة الرجعية (2). ولافرق في الزوج بين أحواله من الصغر والكبر (3) وغيرهما من الأحوال.

المبنية على قيام الزوج بشؤون زوجته وتكلفه بها فهما على نهج واحد، فمع ثبوت عدم النفقة للزوجة في مورد يستفاد تبعاً وجوب تكفينها، لاشتراكهما في مناط الحكم من دون أن يكون من صغرياتها، كما يظهر من بعضهم. كما لا يبتني على انصراف إطلاق الزوجة عن مورد عدم ثبوت النفقة، كما تقدم من آخر.

لكن الشأن في تمامية ذلك ووضوحه بنحو يخرج به عن إطلاق النص المتقدم. وهو لا يخلو عن إشكال. فلابد من مراعاة الاحتياط.

(1) كما هو مقتضى إطلاق النص والفتوى. وما تقدم في الصغيرة جار فيها.

(2) كما في جامع المقاصد والروض والمسالك وغيرها. بل في بعض عباراتهم أنها زوجة. والمراد به أنها زوجة حقيقية أو بمنزلتها. لكن تقدم في الفرع الرابع من لواحق الكلام في ولاية الزوج المنع من الأول، وعدم ثبوت الثاني.

نعم بناءً على ما تقدم احتماله من كون الكفن من لواحق النفقة على الزوجة فقد يستفاد من إلحاقها بالزوجة في النفقة إلحاقها بها في الكفن أيضاً. وإن كان الجزم به صعباً. ولعله لذا حكي التوقف فيه عن مجمع الفائدة.

(3) كما في الجواهر وطهارة شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيرهما. لإطلاق النص. وأما حديث رفع القلم عن الصبي فهو ظاهر في عدم مؤاخذته بفعله وعدم ثبوت التبعة الدنيوية والأخروية عليه فيه. ولازم ذلك عدم فعلية التكليف في حقه بنحو يستلزم العقاب بالمخالفة. وعدم ثبوت بقية الأحكام التي هي من سنخ التبعة الدنيوية لفعله ومؤاخذته به، كوجوب الحدود ونفوذ العقود والإيقاعات وحجية إقراره عليه ونحو ذلك.

ويناسب ذلك ما ورد في نظيره، وهو حديث رفع الخطأ ونحوه، ففي صحيحي

ص: 95

صفوان والبزنطي عن أبي الحسن (عليه السلام): "في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا" (1) فإن نفوذ اليمين المذكورة - كنفوذ العقد والإيقاع - لما كان من سنخ التبعية الشرعية كان مرفوعاً بالإكراه بمقتضى الحديث، كما ذكرنا. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "فإن الحلف بالطلاق والعتق والصدقة وإن كان باطلاً عندنا مع الاختيار أيضاً، إلا أن استشهاد الإمام (عليه السلام) على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة".

وكيف كان فلا ينهض حديث رفع القلم برفع الأحكام التكليفية غير الإلزامية، والوضعية غير المبتنية على المؤاخذة والتبعة، كما في موارد ثبوت الحقوق المالية ابتداء عليه، ومنها الكفن في المقام، لظهور موثق السكوني في مجرد ثبوته على الزوج بمقتضى حق الزوجية، كالنفقة لها وللأرحام، لا بعناية كونه تبعة على فعل شيء منه.

كما لا يبتني على محض تكليفه به، لظهور جعل المال والأعيان على الشخص في الاستحقاق عليه بنحو الوضع، وإنما لا يستقر في ذمته - بحيث يبقى ديناً عليه لو عصى، أو كفنها غيره، أو تعذر عليه تكفينها حتى دفنت - لارتفاع موضوع الحق، وهو عنوان الكفن، كما هو الحال في الإنفاق على الرحم أو المملوك لو تعذر على المكلف القيام به أو عصى حتى فات وقته أو قام به غيره، وليس هو كنفقة الزوجة التي قيل إنها تبقى ديناً لها عليه، لاستحقاقها عين النفقة في ذمته.

نعم لا يخاطب الصبي فعلاً بأداء الكفن، لحديث الرفع، بل يجب على وليه أداؤه من ماله عملاً بمقتضى ولايته، كسائر الحقوق الثابتة عليه، كما ذكره من تقدم.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا أن المرفوع في الحديث هو قلم التشريع، سواءً كان تكليفاً أم وضعاً، وأنه لا يثبت على الصبي إلا الضمانات بالنص، والجنابة، لعموم موضوعها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من كتاب الأيمان حديث: 12.

ص: 96

وفيه: أن رفع القلم كناية عرفاً عما ذكرنا، لا عن عموم الرفع، بحيث يستثنى موضوعه من جميع متعلقات الأحكام الشرعية. بل لا يمكن البناء على ذلك في المقام، لاستلزامه كثرة التخصيص المستهجن، حيث لا إشكال في كونه متعلقاً للأحكام الشرعية غير الضمان والجنابة، فيكون مديناً بالقرض ونحوه، ويتنجس بملاقاة النجاسة ويطهر بفعل المطهر، ويحدث بالحدث الأصغر ويتطهر منه، ويصير زوجاً وزوجة ومطلقة، ومالكاً ومملوكاً ووقفاً ومحرماً ومستأجراً وأجيراً... إلى غير ذلك مما لا إشكال في كونه من الأحكام الوضعية، ولا يظن بأحد احتمال عدم تعلقه بالصبي، أو دعوى ظهور دليل رفع القلم في رفعه.

على أن ورود النص بضمانه إن أراد به ما يدل على ضمانه بالخصوص، ليخصص عموم حديث الرفع فهو لو تم يلزم الاقتصار على مورده والرجوع في غيره إلى عموم الرفع. وإن أراد به عموم أدلة الضمان فمن الظاهر حكومة حديث الرفع عليه وعلى عموم أدلة سببية أسباب الجنابة أيضاً لو تم ما ذكره من شموله لموردهما، كحكومته على سائر العمومات، مع وضوح عدم إمكان البناء على شيء من ذلك.

ومثله في الإشكال ما ذكره أيضاً من لغوية جعل كفن الزوجة على الصبي، لعدم تكليفه ببذله بنفسه بمقتضى حديث الرفع قطعاً. ولا مجال لما ذكروه من تكليف الولي به، لأنه يعتبر في جواز تصرف الولي المصلحة أو عدم المفسدة، وبذله الكفن مستلزم لخسارة الصبي.

كما لا مجال لقياسه بوفاء لدينه، للفرق بأنه مع عدم وفاء الدين يبقى في ذمته، فيجب عليه وفاؤه بعد بلوغه، وقد يعجز عنه حينئذٍ، فيكون التعجيل بوفائه حال وجدانه صلاحاً له، بخلاف الكفن الذي يسقط عنه مع عدم أدائه من ماله حتى يقوم به غيره أو تدفن عارية ويتعذر تكفينها.

إذ فيه: أن قيام الولي بأداء الحقوق الثابتة على المولى عليه إنما هو لكون ذلك مقتضى ولايته في قبال ولايته على التصرف المصلح أو غير المفسد في ماله، لا بلحاظ

ص: 97

كون عاقبة الأداء صلاحاً له. ولذا لا إشكال ظاهراً في وجوب أداء الحق عنه عليه حتى لو علم أو احتمل سقوطه عن ذمته قبل بلوغه أو بعده بإرث - كما لو كان ممن يرث الدائن - أو إبراء أو تبرع متبرع بالوفاء أو نحو ذلك. بل أي ضرر على المولى عليه في بقاء الدين في ذمته بعد بلوغه مع عجزه عن وفائه وعدم تكليفه بأدائه، ليصلح لمزاحمة ضرر الخسارة بتعجيل الوفاء، خصوصاً لو أمكن استغلال المال بتجارة أو نحوها مما يتعرض به المولى عليه للربح والفائدة. ولذا لا يصلح ذلك لثبوت سلطنة الولي على وفاء الدين الذي لم يحضر أجله.

وبعبارة أخرى: كما يهتم الشارع الأقدس بمصلحة المولى عليه أو عدم خسارته في ماله، كذلك يهتم بأداء الحق لصاحبه. ولذا بنوا على ثبوت الولاية - ولو من باب الحسبة - على الممتنع والغائب ونحوهما. وذلك يقتضي تكليف الولي الخاص للقاصر مع وجوده بأداء الحقوق التي عليه، ومع عدمه يتعين ثبوت ولاية الحسبة عليه على نحو الولاية على الممتنع الغائب.

ولم يعلم بعد مبناه دامت بركاته في النفقات، وهل هي عنده لا تثبت على الصبي إلا في مورد يكون أداؤها صلاحاً له، كما لو كان عدم الإنفاق على المملوك مستلزماً لنقصه أو تلفه بنحو تكون خسارته أهم من خسارة النفقة، أوتثبت مطلقاً، كماهو ظاهرفتواه، فيتجه السؤال عن الفرق بينهاوبين كفن الزوجة.

وأما ما ذكره بعد ذلك من احتمال كون الكفن في النص المتضمن أنه على الزوج بالسكون مصدراً بمعنى التكفين، لا بالفتح بمعنى ثياب الميت، لعدم ظهور الحركات في كتابة النص المذكور ليتعين أحد الوجهين. وحينئذٍ يكون ظاهره محض التكليف بالتكفين، الذي لا إشكال في قصوره عن الصبي ونحوه، لأن الظاهر من جعل الفعل - الذي هو مفاد المصدر - على الشخص تكليفه به، وإنما يستفاد استحقاق المال عليه - الذي هو من سنخ الوضع - بجعل الأعيان عليه، كالدرهم والدينار والثوب والكفن بالفتح. وإنما يجب على البالغ بذل الكفن - بالفتح - مقدمة للفعل الواجب

ص: 98

عليه، لا لانشغال ذمته بالكفن ابتداء.

فهو يشكل أولاً: بأن الكَفْن بالسكون وإن ذكر في بعض كتب اللغة مصدراً بمعنى التكفين، إلا أنه لا يتعارف في استعمالات الشارع والعرف، بل المتعارف التعبير بالتكفين، واستعمال الكَفَن بالفتح بمعنى الثياب. بل ربما يكون ذكرهم الكَفْن بالسكون بلحاظ اشتقاقه من المعنى الأصلي وهو التغطية، فتوهموا استعماله عند إرادة المعنى المعهود - وهو إلباس الميت الكَفَن - أيضاً.

وكيف كان فندرة استعماله عند إرادة المعنى المعهود تمنع من حمل الإطلاق عليه، إذ لو أريد لاحتاج للعناية والتنبيه ولم يكتف بإطلاقه حتى حمله الفقهاء على التحريك، وفهموا منه ثياب الميت ورتبوا أحكامه.

وثانياً: بأن لازم ذلك أن لا يكون وجوب التكفين للزوجة كفائياً، بل عينياً مختصاً بالزوج، ولازم ذلك عدم تكليف غيره بإعانته لو عجر هو من الاستقلال به، ولا بالقيام به بدلاً عنه لو تعذر عليه مباشرته. بل لو عصى لم يجب إلا ردعه من باب الأمر بالمعروف، ولو جهل به لم يجب إلا إعلامه بوجوبه عليه من باب وجوب تعليم الأحكام، دون إعلامه بالموضوع. كما أن لازمه عدم تحمل الزوج الكفن من ماله إذا تركت هي مالاً، لعموم ماتضمن أن الكفن من أصل المال، الذي لايصلح لتخصيصه النص الواردفي الزوجة بعد قراءة الكفن فيه بالتسكين... إلى غير ذلك مما لا يظن به دامت بركاته ولا بغيره الالتزام به.

بل وضوح بطلانه كاشف عن وضوح كون مفاد النص في المقام هو تحمل الزوج الكَفَن بالفتح، وانشغال ذمته به كسائرالماليات بنحوالوضع. لا محض التكليف بالتكفين.

وثالثاً: أن ذلك لا يناسب ما تقدم منه من استفادة تحمل الزوج كفن الزوجة من عموم التعليل في أدلة النفقات. لوضوح أن مبنى وجوب النفقة على انشغال الذمة بها بنحو الحكم الوضعي. نعم تقدم منّا عدم تمامية ذلك.

ص: 99

(100)

(مسألة 34): يشترط في وجوب كفن الزوجة على زوجها يساره (1)

وكيف كان فلا مخرج عما ذكرنا من تحمل الصبي كفن زوجته، وقيام الولي بإخراجه من ماله. ونحوه المجنون والمغمى عليه وأمثالهما ممن لا يصلح للخطاب الفعلي.

نعم لو قيل بعدم وجوب نفقة الزوجة على الصبي، وقلنا بأن الكفن من صغريات النفقة الواجبة - كما تقدم القول به من بعض - أو ملحقاً بها - كما تقدم منّا احتماله - اتجه عدم وجوب الكفن عليه، نظير ما تقدم في المتمتع بها والناشز.

(1) كما في الدروس وجامع المقاصد والروض والمسالك وغيرها ونسب لنهاية الأحكام وجماعة، وعن الذخيرة نسبته للأصحاب، بل في المدارك أنهم قطعوا به. وظاهرهم إرادة اليسار المعتبر في وجوب وفاء الدين، بأن كان يملك زائداً عن مستثنيات الدين أكثر من قوت يوم وليلة له ولعياله، كما حدده بذلك في كشف اللثام والجواهر.

وكأن الوجه فيه حمله على الدين بعد ما سبق من عدم تمحضه في التكليف ببذل الكفن، بل هو حكم وضعي راجع إلى انشغال الذمة بالكفن، بل صرح شيخنا الأعظم (قدس سره) بأنه من الديون.

لكن ذلك لا يكفي في صيرورته ديناً، للفرق بينهما في ملكية الغير للدين واستقراره في الذمة ولو مع تعذر أدائه، فيمكن أداؤه بعد اليسار، بخلاف الكفن الذي لا يملكه أحد ويتقوم بإمكان الأداء، كما تقدم. ولعله لذا احتمل في المدارك - كما عن غيره - عدم اعتبار اليسار بالمعنى المذكور، لإطلاق النص. وعليه جرى في الجواهر وغيره.

أقول: عدم كونه ديناً لا ينافي إلحاقه به في المستثنيات، لعموم دليلها، ففي صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: لا تباع الدار ولا الجارية في الدين، ذلك

ص: 100

(101)

وأن لا يكون محجوراً عليه قبل موتها بفلس (1) وأن لا يكون ماله متعلقاً به

أنه لابد للرجل [المسلم] من ظل يسكنه وخادم يخدمه"(1). فإن عموم التعليل المناسب لارتكا زيته يقتضي عدم وجوب بيع الدار والخادم لسائر الحقوق الثابتة على المكلف، ومنها الكفن.

نعم هو مختص بالدار والخادم، دون بقية المستثنيات، إلا أن بعضها يجري فيه ذلك بالأولوية العرفية، كثياب الإنسان ونفقته الخاصة. كما أن مثل نفقة واجبي النفقة في اليوم والليلة يكون مزاحماً للكفن بعد إطلاق دليليهما. ولا يبعد أهمية الإنفاق، لأن حاجة الحي للنفقة أشد ارتكازاً من حاجة الميت للكفن وأولى بالرعاية. بل يكفي احتمال ذلك في الترجيح، على ما ذكر في مبحث التزاحم. ولا أقل من التخيير، لعدم ثبوت أهمية الكفن. وإن لم يبعد اختلاف الأهمية باختلاف الموارد، من حيثية نوع النفقة، ووجود الباذل على تقدير الامتناع منها ومن الكفن، ونحو ذلك.

اللهم إلا أن يقال: مقتضى إطلاق دليلي وفاء الدين والكفن وجوب تحصيل المال لهما مع القدرة عليه بالاقتراض أو الاستيهاب أو الاكتساب. ولو تم الدليل على عدم وجوبه لوفاء الدين لزم الاقتصار على مورده، دون الكفن بعد فرض عدم كونه ديناً، كما تقدم. ويكون المتحصل حينئذٍ: أنه لا يجب بيع الدار والخادم لأجل الكفن، عملاً بعموم التعليل في صحيح الحلبي، وكذا ثياب البدن والنفقة الخاصة بالأولوية، مع إعمال الترجيح في نفقة واجب النفقة، ويجب الاقتراض ونحوه لأجله لو أمكن، عملاً بإطلاق دليله.

(1) كما في الجواهر وطهارة شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيرهما. وقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن هذا الشرط متفرع على شرط اليسار، فإن قلنا باعتباره اتجهت مانعية الحجر، لأنه موجب لسلب قدرة الزوج على التصرف في ماله، فيكون كمن لا مال

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب الدين والقرض حديث: 1.

ص: 101

(102)

حق غيره برهن أو غيره (1)،

له. أما لو قلنا بعدم اعتباره وأنه لو أمكن تحصيل المال بالاقتراض ونحو وجب اتجه جريان ذلك في المقام، لأن عدم القدرة على التصرف بالمال لا ينافي وجوب تحصيل غيره بالاقتراض ونحوه.

لكن لازم ذلك مانعية الحجر وإن حصل بعد موتها، بناء على اعتبار اليسار، لعدم تعلق الكفن بعين المال، ليكون مقدماً على حق الغرماء مع سبقه، بل هو متعلق بالذمة، ولا دليل على تعلقه بعين المال بالحجر بعد ما سبق من عدم كونه ديناً. ولو فرض تعلقه به - إلحاقاً له بالدين - لزم دخول النقص عليه مثله كسائر ديون المفلس. وحينئذٍ يجري ذلك حتى مع سبق الحجر على موتها، بناء على مشاركة صاحب الدين المتجدد بعد الحجر للغرماء، خصوصاً إذا لم يحصل برضاه، كما لو كان مسبباً عن إتلاف المفلس لماله، وإن استشكل فيه بعضهم، والكلام فيه موكول لموضعه.

هذا وقد يدعى عدم مانعية الحجر من إخراج الكفن وإن كان مشروطاً باليسار، كنفقة اليوم والليلة له ولعياله التي صرحوا باستثنائها من أعيان مال المفلس، إما لكونه من أفرادها، أو لكونه ملحقاً بها، كما تقدم. ومن هنا صرح باستثناء كفن الزوجة من أعيان ماله غير واحد، وقد يظهر من الجواهر في أحكام المفلس الجري عليه، بل في الخلاف دعوى الإجماع عليه. ومن ثم فالمسألة لاتخلو عن إشكال. نعم بناء على ما تقدم من وجوب تحصيل المال بالاقتراض أو نحوه يتجه وجوبه في المقام لو أمكن وبنى على التوقف عن الأخذ من أعيان المال المحجر عليه. فلاحظ.

(1) كما في جامع المقاصد والروض والمسالك وغيرها. لأن تعلق الحق بالعين مانع من تصرف المالك فيها بنحو ينافيه حتى لمثل النفقة. من دون فرق بين حدوث الحق قبل موتها وحدوثه بعده، لأن الكفن لا يتعلق بعين ماله، بل بذمته.

نعم لو أمكنه إخراج الكفن من العين بعد إخراج الحق - كما لو كانت قيمة

ص: 102

(103) وأن لا يقترن موتها بموته (1) وعدم تعيينها الكفن بالوصية (2). لكن الأحوط وجوباً إن لم يكن أقوى في صورة فقد أحد الشروط الثلاثة الأول وجوب الاستقراض (3) إن أمكن (4).

العين أكثر من الدين الذي رهنت عليه - وجب ذلك - كما في جامع المقاصد والروض عملاً بإطلاق دليله. كما أنه لو أمكنه تحصيل مال آخر - بالاقتراض أو نحوه - وجب بناء على ما تقدم في الشرط الأول.

(1) كما في جامع المقاصد والروض والمسالك وعن الذكرى والفاضل المقداد. لظهور النص في الزوج الحي القابل لانشغال الذمة بالكفن وأدائه.

وصرح في جامع المقاصد والروض والمسالك بعدم سقوطه عنه لو مات بعدها. وكأنه لانشغال ذمته به في حياته فيتعلق بتركته بعد وفاته، كسائر الحقوق الثابتة في ذمته، لقرب إلحاقها بالدين في ذلك، بل لعله مفروغ عنه بينهم. فتأمل جيداً.

(2) كما في جامع المقاصد والروض والمسالك وغيرها. لأن مقتضى نفوذ الوصية وجوب إخراجه من ثلثها، فيسقط عنه، كما لو تبرع به متبرع.

نعم لو لم تنفذ الوصية للجهل بها أو عصياناً تعين قيامه به، لأن وجوب تنفيذ الوصية بنفسه لا ينافي انشغال ذمته به، كما لو أوصى غيرها بتكفينها. ولعله مرادهم. وقد يحمل عليه ما في الروض، حيث قال: "وسقط عنه إن نفذت" بأن يكون بالتشديدمن التنفيذ، لا بالتخفيف من النفوذ - الذي به صرح في المسالك - في مقابل عدم نفوذها شرعاً، لتجاوزها الثلث، مثلاً.

(3) لما تقدم في الشرط الأول، وتقدم أن اللازم مطلق تحصيل المال ولو بغير الاستقراض.

(4) يعني: بلا حرج، كما صرح به في مستمسكه.

هذا ولو تحقق العجر المسقط لوجوب بذل الكفن على الزوج - إما لعدم اليسار

ص: 103

بالمعنى المعتبر في الدين، للبناء على اعتباره في المقام، أو لعدم القدرة حتى على مثل الاقتراض - فالظاهر خروجه من تركتها لو كان لها تركة، كما صرح به من تقدم منه اعتبار يساره في تحمل الكفن.

والوجه فيه ظاهر بناءً على أن الحكم بتحمل الزوج الكفن محض تكليف له ببذله، لأن وجوب بذله عليه لا ينافي ثبوته في تركتها، الذي هو مقتضى إطلاق ما تضمن أن الكفن من جميع المال، نظير استحباب بذله في حق غيره ممن يقدر على بذله. ولازم ذلك أنه لو لم يبذله عجزاًً أو جهلاً أو عصياناً وجب إخراجه من التركة لو لم يبذله غيره.

وأما بناءً على ما تقدم من رجوعه إلى انشغال ذمته به بنحو الوضع فقد يستشكل بأن مقتضى الجمع بين دليل تحمل الزوج كفن زوجته وإطلاق دليل ثبوت الكفن في التركة تخصيص الثاني بالأول، الراجع لعدم ثبوت كفن الزوجة في تركتها، فلا وجه لإخراجه منها مع تعذر بذله على الزوج، لأن تعذره لا ينافي استحقاقه عليه وانشغال ذمته به. ولذا حكم شيخنا الأعظم (قدس سره) بانتقاله إلى تركته لو مات معسراً، كسائر الحقوق التي تنشغل بها ذمته.

ودعوى: أنه لا مانع من العمل بالدليلين معاً في الزوجة، فيبنى على ثبوت كفنها في ذمة الزوج وفي تركتها معاً، إذ لا مانع من ذلك في الماليات، نظير انشغال الذمم المتعددة بالمال الواحد مع تعاقب الأيدي عليه.

مدفوعة بأن لازم ذلك ثبوته فيهما معاً على نحو الواجب الكفائي، بحيث لو امتنع لا يجوز للورثة إجباره، كما لا يجوز له إجبارهم، بل يجب على الكل في عرض واحد، وكل من يبذل الكفن يؤدي ما عليه وعلى صاحبه، ولا يظن بأحد البناء على ذلك. وما ذلك إلا لتعينه على الزوج وعدم تعلقه بالتركة حال انشغال ذمته به، الذي هو مبنى دعوى التخصيص المتقدمة.

ومن ثم ذكر في الجواهر أنه لولا عدم ظهور الخلاف في وجوب الإخراج من

ص: 104

التركة حينئذٍ لكان مقتضى الجمع بين الأدلة دفنها عارية أوتكفينها من بيت المال، لأن سقوط الخطاب بالبذل عنه لا يقتضي الانتقال إلى تركتها.

هذا وقد دفع سيدنا المصنف (قدس سره) الإشكال المذكور بانشغال ذمة الزوج بالكفن ليس على نحو انشغاله بالدين الذي يستقر فيها ولو مع عدم وجوب أدائه عليه، بل هو تابع لوجوب البذل، ولا اعتبار له بدونه، لعدم جواز مطالبة وارثها به، فمع فرض عدم وجوب البذل للإعسار يتعين عدم انشغال ذمته به وقصور دليله عنه، فيرجع حينئذٍ لعموم خروج الكفن من التركة.

لكن مجرد عدم جواز مطالبة الوارث بالكفن لا يستلزم تبعية انشغال ذمة الزوج به لوجوب أدائه عليه، بل قد يكون لأن ذمة الزوج إنما تنشغل بالكفن بما هو كفن من دون أن يكون مملوكاً بذاته للميت أو لغيره عليه، فمع فرض تعذر التكفين بدفن الميت لا يبقى موضوع الحق، فيسقط. ولو لم يسقط فلا دليل على إرثه بعد أن لم يكن مملوكاً لأحد عليه. ولا يقاس بذلك ما إذا تعذر عليه بذل الكفن لعسر مالي مع بقاء موضوعه، لقابلية الميت للتكفين، كما في المقام.

نعم لا يبعد انصراف النص المتضمن انشغال ذمة الزوج بكفن الزوجة إلى خصوص صورة قدرته على بذله بنحو يكلف به، لتقوم الغرض من الحق المذكور بفعلية التكفين، لا باستحقاق المال وحفظ المالية، كما في الدين. وقد يكون نظيره في ذلك تحمل نفقة الأقارب.

ومن ثم يبعد عن مقتضى الارتكاز ما تقدم من شيخنا الأعظم (قدس سره) من انتقال الكفن لتركة الزوج لو مات معسراً، فيجب إخراجه منها، مع فرض عدم تكليفه بأدائه في حياته. بخلاف ما لو كان قادراً مكلفاً ببذل الكفن، حيث يقرب انتقاله للتركة جداً، كما تقدم من المحقق والشهيد الثانيين (قدس سرهما) عند الكلام في الشرط الرابع.

ثم إنه لو غض النظر عن ذلك أمكن إثبات خروج كفنها من تركتها مع إعسار

ص: 105

الزوج بما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) وأوضحه الفقيه الهمداني (قدس سره) من قضاء المناسبات الارتكازية - تبعاً للأدلة الشرعية - بأن الميت أحق بتركته بأن يجهز منها ولا يترك معها بدون تجهيز أو يستجدى لتجهيزه.

وجعل كفن الزوجة على زوجها لا ينافي ثبوت الحق المذكور لها، بل هو في طوله راجع إلى أن عليه أن يقوم به بدلاً عن التركة، فإن قام به سقط عنها، كما يسقط عنها لو تبرع به أجنبي. وإلا وجب إخراجه منها بمقتضى الحق المذكور الثابت للإنسان بطبعه. نظير تحمل نفقتها الذي لا ينافي خروجها من مالها لو لم ينفق عليها، فتستثنى في مقام وفاء الدين الواجب عليها. وكذا تحمل نفقة القريب لو كان ذا مال لا يستطيع الوصول إليه والتصرف فيه.

ومرجع ذلك إلى أن الجمع بين عموم ثبوت الكفن في التركة ودليل تحمل الزوج كفن زوجته ليس بتخصيص الأول بالثاني، كما تقدم دعواه في توجيه الإشكال، ولا بالجمع بين الأمرين في عرض واحد، ليرد عليه ما تقدم من لزوم كونه على نحو الوجوب الكفائي، بل بالجمع بينهما على نحو الطولية، نظير انشغال ذمة المدين والكفيل بالدين على النحو المتعارف في زماننا، وتناسبه بعض النصوص(1) ، لأن ذلك هو الأقرب عرفاً في أمثال المقام بالنظر للمناسبات الارتكازية. ولعله لذا لم يظهر الخلاف في خروج الكفن من التركة في الفرض، كما سبق الاعتراف به.

كما لايبعد أن يرجع إليه أو إلى ما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره) ما عن نهاية الأحكام من الاستدلال على خروج كفن المرأة في محل الكلام من تركتها بأن الكفن مقدم على الإرث.

وأما ما في جامع المقاصد من الإشكال فيه بأنه لو ملك شيئاً قبل تكفينها تعلق الوجوب به. فكأنه راجع إلى ما تقدم في توجيه الإشكال من التنافي بين انشغال ذمة الزوج بالكفن وثبوته في التركة، وأنه لا مجال للثاني مع فعلية الأول، كما يشهد به

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من كتاب الرهن.

ص: 106

تكليفه ببذل الكفن لو تجددت له القدرة عليه.

لكنه مدفوع بأن تكليف الزوج ببذل الكفن لو تجددت له القدرة عليه إنما يكشف عن عدم كون الإعسار مانعاً بحدوثه من تحمل الكفن مطلقاً ولو بعد ارتفاعه. وهو وإن كان مسلماً، تبعاً لإطلاق دليل تحمل الزوج بعد فرض بقاء الموضوع وإمكان الوفاء، إلا أنه لا ينافي تعلق الكفن بالتركة حال الإعسار، إما لبراءة ذمة الزوج حينئذٍ، كما تقدم من سيدنا المصنف (قدس سره)، أو لانشغالها به في طول ثبوته في التركة، كما تقدم من شيخنا الأعظم (قدس سره) وتقدم توضيحه.

ومن الثاني يظهر خروج الكفن من التركة لو لم يبذل الزوج عصياناً مع قدرته وتكليفه فعلاً ببذله، كما صرح به الفقيه الهمداني (قدس سره)، وإن لم ينهض به الأول. نعم للورثة الرجوع عليه لو دفعوه بنية الرجوع ولو بعد مراجعة الحاكم الشرعي، كما هو الحال في كل ممتنع عن أداء الحق الذي عليه. وبه صرح الفقيه الهمداني (قدس سره) أيضاً.

بل ذكر (قدس سره) أن لهم الرجوع عليه مع إعساره أيضاً، لانشغال ذمته به على نحو انشغال ذمته بنفقتها في حياتها. لكن انشغالها به على النحو المذكور لا طريق لإثباته، لعدم تضمن ملكيتها له، فضلاً عن أن يبقى ديناً كالنفقة. على أنه لم يتضح عاجلاً جواز إجباره على الاستدانة لنفقتها ولكل حق للغير.

نعم تقدم منّا وجوب الاستدانة عليه مع القدرة لأجل الكفن، المستلزم لجواز إجباره على الاستدانة من التركة والدفع منها بنية الرجوع عليه ولو بعد مراجعة الحاكم الشرعي. أما بناء على عدم وجوب الاستدانة عليه فاللازم عدم وجوب بذل الكفن عليه، ومعه لا وجه لنية الورثة الرجوع عليه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

ص: 107

(108)

وكذا الاحتياط في صورة عدم العمل بوصيتها بالكفن (1).

(مسألة 35): كما أن كفن الزوجة على زوجها كذلك سائر مؤن التجهيز من السدر والكافور وغيرهما (2).

(1) كما يظهر مما تقدم في الشرط الخامس.

بقي شيء: وهو أنه لا يبعد ابتناء انشغال ذمة الزوج بالكفن على الانحلال، فلو تعذر تمامه وجب ما يقدر عليه منه، ويتمم الباقي من تركتها أو من متبرع أو غيرهما. وبه صرح في الجواهر. كما لا يبعد ابتناء تعلق الكفن بالتركة على ذلك أيضاً، فيجب بذلها لبعض الكفن مع تيسر تتميمه بتبرع أو نحوه. كل ذلك لقضاء المناسبات الارتكازية بعدم الارتباطية في الماليات المقصودة لنتائجها. نعم لو يتيسر التتميم بما يحقق الواجب الاضطراري أو الاختياري لم يجب البذل، لعدم الموضوع، وهو الكفن، كما لعله ظاهر. فتأمل جيداً.

(2) قال في المبسوط بعد أن ذكر خروج الكفن من أصل التركة: "وإن كان الميت امرأة لزم زوجها كفنها وتجهيزها، ولا يلزم ذلك في مالها" ،ونحوه في السرائر. وقد نسب لهما تحمل الزوج تمام نفقات التجهيز، كما نسب ذلك لنهاية الأحكام والبيان والموجز الحاوي والتنقيح وفوائد الشرايع وحاشية الميسي، وبه صرح في المنتهى والدروس والذكرى وجامع المقاصد والروض والمسالك وغيرها، وفي الجواهر: "لا أجد فيه خلافاً".

وقد يتجه بناء على أن تحمل الزوج كفن زوجته من صغريات وجوب الإنفاق عليها. لكن سبق الإشكال في ذلك. ويزيد هنا بأن بقية المؤن غير الدفن أبعد عن النفقة من الكفن الذي هو من سنخ الكسوة.

نعم قد يدعى استفادته من النص بإلغاء خصوصية الكفن فيه، وإنما ذكر لأنه أهم شؤون التجهيز المبتنية على صرف المال. قال سيدنا المصنف (قدس سره): "كما يؤيده

ص: 108

الاقتصار عليه فيما دل على خروجه من أصل المال، وأنه مقدم على الدين، مع الاتفاق منهم على عموم ذلك لسائر مؤن التجهيز، وفي معقد الإجماع - المحكي عن غير واحد - على كون تجهيز المملوك على سيده. ولا يبعد أن يكون المراد من الكفن في معقد إجماعات المقام ما يعم سائر مؤن التجهيز، كما يقتضيه إرسال غير واحد له إرسال المسلمات. لكن في كفاية هذا المقدار في الجزم تأملاً. ولذا توقف في المدارك وحكي عن الأردبيلي وغيره. ومنه يظهر أنه يصعب الجزم بخلافه، كما صدر من المصنف وغيره، ولاسيما بملاحظة ما في كلام بعض من دعوى عدم الفصل بين الكفن وغيره".

وقد يؤيد الدعوى المذكورة أن تحمل الزوج الكفن دون غيره من مؤنة التجهيز مع ولايته على تجهيز الزوجة يبتني على عناية يبعد ابتناء السيرة عليها في مقام العمل. فلاحظ.

هذا وعن بعض مشايخنا التفصيل بين يسارها فتخرج المؤن المذكورة من تركتها، ولا يتحمل الزوج إلا الكفن، اقتصاراً على مورد النص، وإعسارها فيتحملها الزوج، لعموم التعليل في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج(1) ، حيث يستفاد منه أن ثقل الزوجة والوالدين والوالد والمملوك على الرجل، فيقوم بشؤونهم في حال الحياة والممات مع حاجتهم، على ما تقدم عنه في الاستدلال لتحمل الزوج كفن زوجته، وإنما اختص الكفن بالذكر في النص لعدم احتياج غيره لبذل المال غالباً.

لكن تقدم منع الاستفادة المذكورة من التعليل وعدم نهوضها بالاستدلال. مع أن مقتضاها تحمل النفقات المذكورة حتى مع اليسار، لخروج التركة عن ملك الميت، فيحتاج لنفقة التجهيز. وما تضمن خروج الكفن من التركة يختص به، ولا يشمل غيره من النفقات. ولو بني على تعميمه لها لإلغاء خصوصيته عرفاً لزم إلحاقها به فيما تضمن تحمل الزوج الكفن، الذي هو يعم صورتي اليسار والإعسار بلا إشكال. ولا مجال للتفريق في إلحاقها بين الحالين مع وحدة لسان النص. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 12 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 1.

ص: 109

(110)

(مسألة 36): الزائد على المقدار الواجب من الكفن وسائر مؤن التجهيز لا يجوز إخراجه من الأصل (1)

(1) كما في التذكرة والمنتهى والقواعد والذكرى والدروس وجامع المقاصد والروض وغيرها. وقد يظهر من جملة من عباراتهم المفروغية عنه، خصوصاً شيخنا الأعظم (قدس سره) الذي خص التأمل من بعضهم فيما إذا اختلف أفراد الواجب في القيمة.

لكن استشكل فيه في الجواهر قال: "بناءً على أن ذلك من المستحبات المالية مخاطب به الولي مثلاً، فيتبع اختياره من غير نظر إلى غيره من الوارث صغاراً كانوا أم كباراً، فيكون من قبيل استحباب خروج الزكاة من مال الطفل. ويؤيده إطلاق ما دل على أن الكفن من صلب المال من غير تخصيص له بالواجب، فالواجب منه واجب، والمندوب منه مندوب. بل لعل حق الدين أيضاً لا يزاحم ذلك، لما دلّ على تعلق الدين بعده. نعم لو كان المخاطب بالندب نفس الوارث كان اعتبار رضاه متجهاً".

وفيه: أن المخاطب بالندب ليس هو خصوص الولي ولا خصوص الوارث، بل جميع المكلفين، لورود الأمر بالمستحب في مساق الأمر بالواجب، وحيث كان الوجوب كفائياً كان الاستحباب كذلك. لكنه كالوجوب لا يقتضي إخراج الكفن من التركة، فضلاً عن التصرف فيها على خلاف سلطنة الوارث، ولذا احتاج إخراج الواجب إلى الدليل. ولا مجال لقياسه على خروج الزكاة من مال الطفل، لأن دليل خروجها إنما دل على الأمر بإخراجها منه، لا على مجرد دفع مقدارها ولو تبرعاً عنه.

وأما إطلاق ما تضمن أن الكفن من صلب المال فقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن مجرد خطاب الولي بأخذ الجامع لا يكفي في جواز أخذه الفرد الأفضل، بل لابد فيه من جعل ولاية تعيين الجامع له، والدليل قاصر عنه، فمطالبة الولي للوارث بالفرد الأفضل خلاف سلطنته على ماله.

ص: 110

ولا يخلو ما ذكره عن وجه، فإن الولاية إنما تقتضي لزوم وقوع الفعل - كالتغسيل والتكفين - بنظر الولي، لا إعمال نظره في تشخيص متعلق الفعل من أموال الناس - كالماء والسدر والكفن - بنحو ينافي سلطنتهم، ولذا لا إشكال في عدم جواز إجبار غير الوارث على التبرع بها. وحينئذٍ فمقتضى إطلاق أدلة الميراث ملكية الوارث لأعيان التركة وسلطنته عليها، وليس مفاد دليل خروج لوازم التجهيز من التركة إلا إلزامه بالطبيعة بنحو ليس له الامتناع، لا إلزامه بخصوص فرد منها يوكل تشخيصه لنظر الولي، كما هو الحال في سائر الحقوق الكلية الثابتة في التركة أو غيرها من أمواله أو في ذمته.

ولذا كان الظاهر عدم إلزام الولي للوارث بتعين خصوص فرد من التركة من بين الأفراد المتفقة في القيمة. بل لو عين فرداً من غير التركة بدلاً عنها كان له ذلك، ويسقط الحق من التركة، وليس للولي إلزامه بخصوص ما يخرج من التركة، لعدم ولايته على التركة، ومنافاة ذلك منه لسلطنة الوارث.

وبعبارة أخرى: مقتضى الجمع بين إطلاق دليل الميراث ودليل خروج الكفن من التركة هو ملكية الوارث لأعيان التركة المستلزمة لسلطنته عليها وإلزامه بإخراج الكفن منها، فاللازم في الخروج عن مقتضى سلطنته على أعيانها الاقتصار على إلزامه بمطلق الكفن، مع إيكال تشخيصه إليه، لا إلى الولي. وكأن هذا هو مراد شيخنا الأعظم (قدس سره) مما يأتي منه عند الكلام في اختلاف أفراد الواجب في القيمة.

وهذا هو العمدة، لا ما يظهر مما عن بعض مشايخنا من دخول المورد في التزاحم، والمستحب لا يزاحم الواجب اللازم المراعاة، وهو حق الديان والورثة.

إذ فيه: أن الكلام إنما هو في فعلية حق الوارث والديان ليمنع من إخراج المستحب، والمدعى للخصم هو اقتضاء الإطلاق تقدم الكفن ولو كان مستحباً على حقهما، فلا حق لهما كي يمنع من إخراج المستحب. فالعمدة ما ذكرنا من فعلية سلطنة الوارث وإن كان الكفن مقدماً على الميراث.

ص: 111

نعم لا يجري ذلك في الدين المستوعب للتركة، لعدم سلطنة الديان على عين التركة، وإنما يتعلق حقه بها كتعلق الكفن، وحيث ثبت تقديم الكفن على الدين كان مقتضى إطلاق دليله التخيير في إخراج الكفن منها بين أفراده ولو كان هو الأكثر الذي لا يبقى معه مجال لوفاء الدين، ولا يعتبر رضا الديان، بل غاية الأمر اعتبار رضا الوارث المالك لأعيان التركة.

وأما ما في الذكرى والروض من تقديم الدين على المستحب من أجزاء الكفن وإن كانت ثياب التجمل مقدمة على الدين، لحاجة الحي إلى التجمل، والميت إلى براءة ذمته أحوج. فهو كما ترى لا ينهض بنفسه بإثبات حكم شرعي، فضلاً عن أن يخرج به عن الإطلاق.

اللهم إلا أن يقال: الحكم في النص بالبدء بالكفن ثم الدين متفرع على الترتب بينهما في التعلق بالتركة، وليس تكليفاً ابتدائياً، وحيث كان المتعلق بها في الرتبة السابقة هو مطلق الكفن الحاصل بالأقل فهو لا يمنع من تعلق الدين بها لو كانت أكثر قيمة من الأقل، ومع تعلقه بها لا يجوز مزاحمته بإخراج الكفن بالفرد الأكثر، بل يتعين الاقتصار على الأقل، جمعاً بين الحقين بعد فعلية ثبوتهما معاً.

هذا كله لو كان المدعى أن المتعلق بالتركة هو الكفن المطلق، الصادق على الأقل المقتصر فيه على الواجب، والأكثر المشتمل على المستحب. أما لو كان المدعى أن المتعلق بها هو الأكثر - لأنه الكفن التام الذي يحمل عليه الإطلاق، وتعلق الدين والميراث بالباقي من التركة مع الاقتصار على الواجب لتعذر التكفين بالتام بعد الدفن، فلا موضوع لإخراجه، كما لو دفن الميت بلا تكفين - فيتعين جواز أخذ المستحب من التركة وإن لم يرض الوارث والديان، لأن ذلك هو مقتضى استحباب التكفين به بعد فرض تعينه في التركة وتعلقه بها مقدماً على الدين والميراث.

لكن من البعيد جداً التزام أحد بذلك، بل غاية ما يدعى كون الكفن من سنخ الماهيات المشككة الصادقة على الأقل والأكثر. فيجري ما سبق.

ص: 112

(113)

بل لا يبعد بعد النظر في مجموع النصوص اختصاص الكفن الشرعي الذي يحمل عليه الإطلاق بالواجب، وكون المستحب خارجاً عنه ملحقاً به. وإطلاق الكفن على المجموع في بعض النصوص يبتني على نحو من التوسع أو على ملاحظة المعنى اللغوي.

ولا أقل من انصراف إطلاق الكفن في النصوص المتضمنة خروجه من التركة وتقديمه على الدين والميراث إلى خصوص الواجب، لأن التخيير بين الأقل والأكثر يحتاج إلى عناية في الحكم التكليفي، فضلاً عن الحكم الوضعي، كما في المقام.

وعليه يخرج المستحب عن الإطلاق تخصصاً، لا بلحاظ ما سبق من المزاحمة لحق الديان أو الوارث. ومعه لا موضوع لما سبق من الجواهر من التمسك بالإطلاق في محل الكلام.

تنبيه: قال في المبسوط بعد أن ذكر الكفن المفروض والمستحب للرجل والمرأة: "هذا إذا تمكن منه، فإن تعذر ذلك أو أجحف بالورثة اقتصر من الكفن على ما يستره فحسب" .وظاهره الاجتزاء بالثوب الواحد الساتر مع الإجحاف بالورثة.

ولم يتضح وجهه بعد إطلاق دليل وجوب الأثواب الثلاثة وما تضمن خروج الكفن من التركة الذي عرفت أن الواجب متيقن منه. ولا تنهض قاعدة نفي الضرر بسقوطه مع الإجحاف بالورثة، لأن الميراث لما كان من سنخ النفع للورثة، فخروج الكفن منه مستلزم لقلة النفع، لا لدخول الضرر عليهم.

إلا أن يبتني ذلك منه على وجوب تحمل الورثة الكفن عند إعواز التركة، حيث يصدق به الضرر، ويتجه سقوطه مع الإجحاف، لخروجه عن المتيقن من تخصيص قاعدة نفي الضرر.

لكن يأتي في المسألة الثامنة والثلاثين إن شاء الله تعالى عدم تحمل من تجب عليه النفقة للكفن فضلاً عن غيره من الورثة.

ص: 113

(114)

إلا مع رضا الورثة (1). وإذا كان فيهم صغير أو غير رشيد لا يجوز لوليه الإجازة في ذلك (2)، فيتعين حينئذٍ إخراجه من حصة الكاملين برضاهم. وكذا الحال في قيمة الواجب، فإنالذي يخرج من الأصل ما هو أقل قيمة (3)،

(1) أوالغرماء لو زاحم حقوقهم، كما سبق.

هذا ولو أوصى بإخراج ثلثه جاز إخراج المستحب منه بنظر الوصي، لأنه من جملة مصالحه. كما أنه لو أوصى به بخصوصه خرج من ثلثه، بناء على عدم خروجه من التركة بدون الوصية، وأما بناءً على خروجه منها - كما سبق من الجواهر تقريبه - فالوصية به لا تقتضي خروجه من الثلث، بل تعينه لا غير بناء على نفوذ الوصية بالتجهيز الذي تقدم الكلام فيه في المسألة الخامسة، كما نبه له في الجواهر. إلا أن يرجع إلى الوصية بإخراجه من الثلث، فيخرج منه، كما أوصى بإخراج كفنه الواجب أو كفن غيره منه.

هذا ولو أوصى بالاقتصار على الواجب فقد قرب عدم نفوذ الوصية في الذكرى وجامع المقاصد والروض. وكأنه لعدم صلوح الوصية لرفع الاستحباب. وهو لا يخلو عن إشكال، إذ لم تتضمن الأدلة إلا عدم نفوذ الوصية بالحرام أو مع الحيف على الورثة.

وفي الجواهر: "ولعل التفصيل بملاحظة المصلحة - إما رفقاً بالورثة، أو حصول الغضاضة عليه بتبرع متبرع - فتنفذ، وإلا فلا، لا يخلو عن قوة".

وفيه: أن نفوذ الوصية لا يناط بالمصلحة، وإنما يجب مراعاة الأصلح فيما يناط بنظر الوصي أو الولي ومن ثم لا يبعد البناء على نفوذ الوصية المذكورة، كما صرح به في التذكرة. لكنه يبتني على نفوذ الوصية بالتجهيز الذي تقدم فيه الكلام في المسألة الخامسة.

(2) لمنافاته لمصلحة المولى عليه.

(3) كما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره). وقد أشار إلى المناقشة في ذلك بقوله:

ص: 114

"والتأمل في القسم الثاني بناء على أن المندوب أحد أفراد القدر المشترك الواجب، فللولي المخاطب بالمباشرة اختياره. مدفوع بأن الكلام ليس في اختيار الولي، بل الكلام في المتعلق بالتركة، فإذا فرض أن المتعلق بها هو القدر المشترك فلا تسلط للولي على مزاحمة الوارث بعد بذل الوارث القدر المشترك" .ولا يبعد رجوع ما ذكره إلى ما سبق منا في وجه المنع من التمسك بالإطلاق لإخراج أجزاء الكفن المستحبة من التركة. كما أشرنا إليه هناك.

لكن في المعتبر: "ولو اختلف الأولياء بين دفنه في المسبّلة وفي ملكه دفن في المسبّلة، لأنه أقل ضرراً على الوارث. ولو تشاحا في الكفن اقتصر على عادة مثله، لأنه لا تقدير للشرع، فيرجع إلى العادة، مع الاقتصار على الواجب".

وقد يظهر منه جواز الدفن في ملك الميت والزيادة في الكفن على الواجب والمتعارف مع اتفاق الأولياء وإن لم يرض الوارث غير الولي أو الديان الذي يضر ذلك بدينه. إلا أن ينصرف كلامه عن صورة الدين المذكور وعدم ولاية بعض الورثة.

فيرجع ما ذكره في الكفن إلى ما في جامع المقاصد من إلزام الورثة بالمتعارف. قال: "ويراعى في هذه الأثواب التوسط، ففي الجنس يراعى الأوسط باعتبار اللايق بحال الميت عرفاً، فلا يجب الاقتصار على أدنى المراتب وإن ماكس الورثة أو كانوا صغاراً، حملاً لإطلاق اللفظ على المتعارف" .ونحوه في المسالك والروضة وحكي عن بعض مشايخنا. قال في الروض بعد نقل الكلام المذكور عنه: "وهو حسن، لأن العرف هو المحكم في أمثال ذلك مما لم يرد له تقدير شرعي".

هذا وقد تكرر منّا غير مرة أن التعارف لا يصلح لتقييد الإطلاق الذي هو بيان شرعي يستغنى معه عن الرجوع للعرف، ولذا لا إشكال ظاهراً في إجزاء ما يخرج عن المتعارف وتأدي وظيفة الكفن به الراجع لعدم قصور إطلاق أدلة شرح الكفن عنه.

لكن لا يبعد الرجوع للمتعارف في تحديد أدنى ما يجزي في الخروج عن الإطلاق للعناوين المأخوذة في الأدلة الواردة في مورد الاستحقاق، كالنفقات وإخراج الكفن

ص: 115

من التركة أو قيام الزوج بالكفن في المقام ونحو ذلك. لابتناء مورد الاستحقاق على مطالبة من له الحق بالجيد الكثير المالية، ودفع من له الحق بالرديء القليل المالية، المقتضي نوعاً للتعرض للتشاح والخصومة، ولاسيما مع اشتمال المسمى على أفراد مبتذلة يرغب عنها يصعب البناء على الاكتفاء بها لهوانها، حيث لا فائدة عرفاً من استحقاقها والتكليف بها، كالثياب المستعملة والخلقة في الكسوة وبعض أفراد الطعام في النفقة، فعدم التنبيه في دليل الاستحقاق لذلك، وعدم التصدي للتحديد، يوجب ظهور حال المتكلم في التعويل على المتعارف في تشخيص العنوان المستحق.

مضافاً في خصوص المقام إلى أن تعمد الأقل قيمة بالنحو غير المتعارف، خصوصاً في الأفراد المبتذلة المشار إليها، لما كان مغفولاً عنه في مقام العمل، كان وجوبه محافظة على حق الديان والوارث محتاجاً إلى عناية وتنبيه، فعدم التنبيه عليه في نصوص خروج الكفن من التركة وتقديمه على الدين والميراث، الواردة في مورد المزاحمة لحق الديان والوارث، موجب لظهورها في أن تحمل التركة للكفن يبتني على جواز اختيار الفرد المتعارف الذي لا يبتني اختياره على تعمل وعناية، وليس للديان ولا الورثة الإلزام بما دونه. وإلا فمن البعيد جداً البناء على وجوب اختيار الأقل مهما أمكن، ولو مثل الثياب الخلقة التي قد لا يكون لها قيمة معتد بها، محافظة على حق الديان والوارث، وليس لما عداها ضابط ظاهر صالح لأن يرجع إليه عدا التعارف.

هذا والسيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة الوثقى مع جزمه بوجوب اختيار الأقل قيمة من أفراد الواجب استثنى من ذلك ما لو كان موجباً لهتك الميت، فلم يستبعد لزوم إخراج ما لا يستلزم الهتك، سواء كان بملاحظة القيمة أم بملاحظة أجزاء الكفن ولو بإضافة المستحب. وقال سيدنا المصنف (قدس سره): "كأنه لدعوى انصراف الدليل عما يوجب الهتك، وإلا فمجرد حرمة هتك الميت لا يقتضي تعين الكفن الثابت في التركة في خصوص الفرد الآخر الذي لا يلزم من التكفين به الهتك".

وكأن مراده بالانصراف هو انصراف إطلاق دليل خروج الكفن من التركة،

ص: 116

لا إطلاق دليل شرح الكفن، حيث لا مجال لدعوى الانصراف فيه مع ما هو المرتكز تبعاً للإطلاق من تأدي وظيفة الكفن بما يوجب هتك الميت وإن حرم هتكه أو كان مرجوحاً.

كما أن مقتضى ذلك عدم الفرق في تجنب ما يوجب الهتك بين أن يكون أقل من المتعارف، وأن يكون هو المتعارف للعامة إذا كان الاقتصار عليه منافياً لكرامة الميت، لخصوصية فيه، كجلالة شأنه، أو كثرة ماله، بحيث يكون عدم تمييزه بإجادة الكفن أو مكان الكفن أو نحوهما من شؤون التجهيز توهيناً له. وبذلك صرح بعض مشايخنا فيما حكي عنه، فاللازم هو المتعارف في حق الميت بما له من خصوصيات ومميزات.

نعم لزوم الهتك من الاقتصار في الكفن على الواجب أو الأقل قيمة لا يتضح فرضه خصوصاً مع عدم ظهور ذلك لأحد، إلا بلحاظ كونه إنقاصاً لما يستحقه وتعدياً عليه في ذلك منافياً لحرمته. وهو حينئذٍ يتفرع على تعيين ما يستحقه، ويرجع إلى ما سبق من الانصراف للمتعارف الذي لا يبتني على تعمل وعناية، والذي يختلف باختلاف الأشخاص والظروف.

أما لو فرض لزوم الهتك المحرم مع قطع النظر عن جهة إنقاص الميت حقه والتعدي عليه في ذلك فلا حاجة لدعوى الانصراف، بل تكفي الحرمة في تقييد إطلاق الكفن المستحق، حيث لا معنى لاستحقاق كفن يحرم التكفين به أو قبر يحرم الدفن فيه، كما لو بذل كفناً يوجب احتراق الميت، بل لابد من كون المؤنة المستحقة في التركة مؤنة التجهيز بالوجه المباح.

إلا أن يفرض عدم استناد الهتك للتجهيز، بل لأمر خارج عنه غير لازم له، كإظهار حال الكفن للناس، حيث لا يقتضي حينئذٍ تقييد المؤنة المستحقة بغيره، بل حرمة منشأ الهتك لا غير. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

ثم إن الظاهر جريان ما سبق في تحمل كفن الزوجة، بل هو أظهر، لأن الزوج هو الولي الذي له الاختيار بلا إشكال. كما لا يبعد عدم جواز اكتفائه بما يكون دون

ص: 117

(118)

ولا يجوز إخراج الأكثر منه إلا مع رضا الورثة الكاملين (1). فلو كان الدفن في بعض المواضع لا يحتاج إلى بذل مال وفي غيره يحتاج إلى ذلك لا يجوز للولي مطالبة الورثة بذلك ليدفنه فيه.

(مسألة 37): كفن المملوك على سيده (2)، حتى الأمة المحللة (3)،

المتعارف قيمة، خصوصاً إذا أوجب توهينها، لنظير ما سبق في خروج الكفن من التركة.

(1) يعني: فيخرج من حصتهم فقط. كما أنه يخرج من الثلث مع الوصية، على التفصيل المتقدم.

(2) إجماعاً كما في المعتبر والتذكرة والذكرى والروض والمدارك والمستند وعن غيرها، ونفى في الجواهر وجدان الخلاف فيه. ويظهر من بعضها الإجماع من جميع المسلمين. وأما ما في المنتهى من إطلاق أن الأقرب عدم تحمل الإنسان كفن من تجب عليه نفقته غير الزوج، فقد يراد منه ما عدا المملوك ممن تجب نفقته بالقرابة. ولاسيما مع ظهور صدر كلامه في تحمل السيد كفن عبده، كما يأتي نقله.

وكيف كان فما ذكروه هو المناسب للمرتكزات المتشرعية على تحمل المولى جميع نفقات مملوكه بعد سلب سلطنته على نفسه، بحيث لا يتسنى له سدّ حاجاته من عمله أو تجارته، بل كل ذلك للمولى. ومن ثم كان هو مقتضى سيرة المتشرعة التي يبعد خطؤها وخطأ الإجماع في مثل هذه المسألة مما يكثر الابتلاء به.

وقد صرح غير واحد بعدم الفرق بين أقسامه من القن والمدبر وأم الولد والمكاتب، وأن المشترك تتوزع نفقته على مواليه، والمبعض يتحمل مولاه من كفنه بنسبة ما يملك منه. والظاهر المفروغية عن جميع ذلك. نعم تقدم أن الأمة المزوجة كفنها على زوجها دون مولاها.

(3) لما هو المشهور المنصور من عدم كون التحليل تزويجاً، خلافاً لما عن بعض أصحابنا وحكي عن المرتضى. كما أن ما عن المشهور من دخوله في ملك اليمين إنم

ص: 118

(119)

وكذا سائر مؤن تجهيزه (1).

(مسألة 38): كفن واجب النفقة من الأقارب في ماله، لا على من تجب عليه النفقة (2).

يراد به عموم النكاح بملك اليمين له ولولكونها مملوكة المنفعة أوالانتفاع أولكون المراد بملك اليمين ما يعم ملك المحلِّل، على مايذكر في محله، وليس المراد به أنها مملوكة للمحللة له حال التحليل، ليجب عليه كفنها لو ماتت حينئذٍ بمقتضى ما تقدم منهم من تحمل المولى كفن مملوكه.

(1) إجماعاً، كما في المستند. ولعله مراد الكل، لعدم الفرق بينها وبين الكفن في الارتكاز والسيرة المشار إليهما آنفاً.

(2) كما صرح بذلك جماعة، كالعلامة والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم، وفي الجواهر: "فلم أجد من توقف فيه ممن عادته ذلك، فضلاً عن المخالف" .وقد يظهر من التذكرة الإجماع عليه، حيث اقتصر على نسبة الخلاف للشافعي، كما قد يظهر من الروض التسالم عليه، حيث ساقه شاهداً لبطلان تعليل وجوب كفن الزوجة بوجوب الإنفاق عليها. وأما ما عن بعضهم من نسبة الخلاف فيه للتذكرة. فكأنه مبني على الغفلة عن ذكره فيه منسوباً للشافعي، لا في مقام الفتوى به.

نعم قال في المنتهى في الاستدلال لتحمل كفن الزوجة: "أن كسوتها ومؤنتها واجب عليه في حال الحياة وكذا [فكذا] بعد الموت، كسيد العبد والوالد" .وهو قد يظهر في وجوب تحمل الوالد كفن ولده كتحمل السيد كفن عبده.

لكن لا يبعد كونه تصحيفاً أو وارداً مورد الإلزام للخصم، نظير ما في التذكرة، لتصريحه في ذيل كلامه بأن الأقرب عدم الوجوب فيه وفي غيره ممن تجب عليه النفقة عدا الزوج. ومن هنا لا مجال لنسبة الخلاف للعلامة إلابلحاظ ماحكاه في مفتاح الكرامة عن بعض حواشي القواعد أنه ذكرفي درسه ذلك.

ص: 119

وكيف كان فيكفي في وجه ما ذكره الأصحاب - بعد ما سبق من قصور وجوب النفقة عن وجوب بذل الكفن - الأصل، بناء على ما يأتي من عدم وجوب بذل كفن الميت كفائياً، حيث يكشف ذلك عن أن مبنى عموم وجوب التكفين كفائياً على التكليف به في ظرف وجود الكفن، لا بنحو يقتضي وجوب بذله أو تحصيله. وحينئذٍ فتكليف خصوص من تجب عليه النفقة ببذله مخالف للأصل.

مضافاً إلى أنه يبعد جداً حمل ما تضمن خروج الكفن من التركة على خصوص من لا يتيسر قيام من تجب نفقته عليه ببذل كفنه، إما لعدم وجود من تجب نفقته عليه، أو لعدم بذله الكفن عجزاً أو عصياناً، ولا أقل من كونه خلاف إطلاقه.

نعم هو مختص بمن له تركة، ولا يشمل من لا تركة له الذي كان مقتضى إطلاقهم عدم وجوب كفنه على من تجب عليه نفقته أيضاً، بل هو صريح التذكرة. فينحصر وجه عدم وجوب البذل فيه بالأصل، على ما تقدم تقريبه.

لكن عن بعض مشايخنا لزوم الخروج عنه بالتعليل في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج(1) بأنهم لازمون له. غير أنه سبق عند الاستدلال لوجوب كفن الزوجة المنع من نهوضه بوجوب بذل الكفن.

ومثله ما ذكره الفقيه الهمداني (قدس سره) من أن مقتضى استصحاب وجوب النفقة الثابت حال الحياة وجوب بذل الكفن بعد الموت. إلا أنه إنما ينفع إذا لم يكن للميت من التركة ما يفي بكفنه، لاشتراط وجوب الإنفاق على غير الزوجة بأن لا يكون عنده ما يغنيه عن أن يكون كلاّ على غيره.

إذ فيه - مع ما سبق عند الاستدلال لتحمل الزوج كفن الزوجة من الإشكال في الاستصحاب المذكور بتعدد الموضوع -: أن لازمه التفصيل بين من لم يجب فعلاً الإنفاق عليه قبل موته - إما لغناه في نفسه، أو لفقر المكلف بالإنفاق عليه - ومن وجب عليه قبل موته، فلا يجب بذل كفن الأول بعد موته وإن لم يكن له تركة وصار المنفق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 12 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 1.

ص: 120

(121)

(مسألة 39): وإذا لم يكن للميت تركة بمقدار الكفن يدفن عارياً، ولا يجب على المسلمين تكفينه (1).

قادراً على تكفينه حينئذٍ، حيث لا يجري استصحاب وجوب الإنفاق عليه إلا بنحو التعليق الذي لاتعويل عليه على التحقيق، ويجب بذل كفن الثاني وإن كان له تركة، لأن ارتفاع الأمر المستصحب حال اليقين برافع لايستلزم ارتفاعه به حال الشك، ليمنع من استصحابه.

مع أن التركة ليست ملكاً للميت. ووجوب إخراج كفنه منها - لو تم - ليس لصيرورته بها غنياً خارجاً عن موضوع وجوب النفقة، بل هو تعبد خاص.

ومن ثم كان الأولى له جعل المانع من جريان الاستصحاب في حق من له تركة هو عموم خروج الكفن من التركة، لا اختصاص وجوب الإنفاق بمن ليس عنده ما يغنيه. فلاحظ.

هذا وقد يستدل لوجوب الكفن على الأقارب بما في موثق الفضل بن يونس الآتي من أنه مع عدم التركة للميت يعطى عياله من الزكاة قدر ما يجهزونه، بدعوى: أنه حيث لا يصح شرط مصرف الزكاة على الفقير لا يكفي دفع الزكاة لعيال الميت في ترتب تكفينه إلا بضميمة وجوب بذل الكفن عليهم مع قدرتهم.

وفيه: أنه حيث كان عنوان العيال شاملاً لمن لا يجب عليه النفقة، ولم يكن المفروض استغناؤهم عن صرفه في ضرورياتهم المقدمة على التكفين لو قيل بوجوبه عليهم، كما لم يفرض كونهم في مقام إطاعة التكليف بالتكفين لو صار فعلياً عليهم، فمن القريب أن يكون ترتب التكفين منهم للمفروغية عن اهتمامهم به بحيث لا يمنعهم إلا عدم الوجدان المرتفع بدفع الزكاة لهم وإن لم يجب عليهم شرعاً القيام به.

(1) كما في الشرايع والتذكرة والمنتهى والقواعد والإرشاد والذكرى وجامع المقاصد والروض وغيرها. وفي الذكرى: "قاله جماعة" وفي جامع المقاصد أنه صرح

ص: 121

به كثير من الأصحاب، ونفى في المدارك الخلاف فيه بين العلماء، كما استظهر عدمه في محكي الذخيرة. وعن نهاية الأحكام واللوامع وغيرهما دعوى الإجماع عليه، وفي كشف اللثام أنه يستحب اتفاقاً. ويناسبه اقتصارهم في بيان مأخذه على خروجه من التركة ووجوبه على الزوج من دون تنبيه على حكم فقدهما، مع شدة الحاجة للتنبيه لوجوب بذله على المسلمين حينئذٍ لو كان بناؤهم عليه.

وقد استدل عليه في كلام غير واحد بأصالة البراءة من وجوب بذل الكفن. ونوقش فيه بأن مقتضى وجوب التكفين كفاية وجوب بذل الكفن مقدمة له كذلك.

لكن قال سيدنا المصنف (قدس سره): "إطلاق وجوب التكفين بعد قيام الدليل على أن الكفن من جميع المال لابد من حمله على إرادة وجوب اللف بالكفن المفروض، لا وجوب التكفين مطلقاً ولو ببذل الكفن، فإن ذلك خلاف مقتضى الجمع العرفي بين المطلق والمقيد" .وقد سبقه لذلك في الجواهر وشيخنا الأعظم والفقيه الهمداني. على اختلافهم في خصوصيات الاستدلال المذكور الذي تضمنتها عباراتهم.

وفيه: أنه لم يتضح التنافي بين المطلق والمقيد، ليحتاج للجمع المذكور بينهما، إذ لامانع من وجوب التكفين في حق الكل مطلقاً ولو توقف على بذل الكفن، مع وجوب إخراجه على الورثة من التركة أو قيام الزوج به مع وجودهما، فإن امتثل التكليف الثاني سقط الوجوب المقدمي الكفائي في حق الكل بحصول المقدمة، كما يسقط بحصوله من غير طريق امتثال التكليف المذكور.

وأما ما يظهر من شيخنا الأعظم والفقيه الهمداني (قدس سرهما) من امتناع وجوب الشيء الواحد على الناس كفائياً وعلى بعضهم عينياً.

فهو غريب، إذ أي محذور في ذلك؟! بل هو ثابت في مثل حرمة تعطيل مشاعر الحج الراجع لوجوب الحج كفائياً على الكل، مع وجوبه عينياً على المستطيع الصرورة. بل في خصوص المقام لو فرض وجوب مباشرة التجهيز عينياً بنذر أو نحوه.

بل ما نحن فيه أولى بالإمكان بعد تفرع وجوب بذل الكفن العيني في حق

ص: 122

الورثة والزوج على الحكم الوضعي، وهو ثبوت الكفن في التركة وانشغال ذمة الزوج به، وكون الوجوب الكفائي محض تكليف مقدمي تابع للتكليف بالتكفين لا يبتني على انشغال ذمة الكل بالكفن على نحو انشغالها بالماليات.

وأما ما ذكره الفقيه الهمداني (قدس سره) من أن تعيين مأخذ الكفن في التركة وذمة الزوج، مع غلبة إمكان أخذه من ذلك المأخذ المعين، يمنع المطلقات من الظهور في إرادة ما يعم صورة تعذر الأخذ، بل يصرفها في إرادة ستره في كفنه الثابت في مأخذه الذي عينه الشارع له.

ففيه: أن تعيين مأخذ الكفن بالنحو المذكور راجع إلى غلبة تيسر مقدمة التكفين من الوجه الخاص، وغلبة تيسر مقدمة الواجب من وجه خاص لا تنافي إطلاق وجوبه بنحو يقتضي تحصيل المقدمة من غير ذلك الوجه لو لم تتيسر منه، فإذا كان الغالب تيسر السفر بالسيارة مثلاً لم يمنع ذلك من انعقاد ظهور دليل وجوب السفر في إطلاق وجوبه بنحو يقتضي تحصيله بغير ركوب السيارة لو تعذر ركوبها، ولا يقتضي تقييده بما إذا تيسر ركوبها.

فلعل الأولى منع ثبوت الإطلاق لدليل وجوب التكفين، لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من عدم الظفر بدليل ظاهر في وجوب التكفين مطلقاً، بنحو يقتضي وجوب بذل الكفن لو لم يتيسر مما ثبت شرعاً أخذه منه.

وما في المستند من أنه يدل عليه مثل قولهم (عليهم السلام): "الكفن فريضته للرجال ثلاثة أثواب..."(1). في غير محله، لوروده في مقام بيان الكفن المفروض، مع المفروغية عن وجوب التكفين من دون أن يكون له إطلاق من حيثيته، كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) أيضاً.

ومثله قوله في معتبر الفضل:" إنما أمر أن يكفن الميت ليلقى ربه عزوجل طاهر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 7.

ص: 123

الجسد..."(1). إذ هو وارد لبيان فائدة التكفين المقتضية لوجوبه مع المفروغية عن أصل وجوبه، وليس وارداً لبيان وجوبه، ليكون له إطلاق في ذلك.

وكذا الحال فيما تضمن الأمر بالتكفين بعد الفراغ من التغسيل(2) لتعليم كيفية تجهيز الميت، وبيان موقع كل فعل من أفعاله بعد الفراغ عن مشروعيتها، لا لبيان وجوبها ليكون له إطلاق في ذلك يقتضي وجوب بذل الماء للغسل والكفن للتكفين. كيف ومن البعيد جداً احتياج أصل وجوب التغسيل والتكفين للبيان عند صدور النص المشار إليه.

مضافاً إلى ما ذكره الفقيه الهمداني (قدس سره) من حكومة دليل نفي الضرر على الإطلاق المذكور لو تم، لأن الحكم المذكور غير ملازم للضرر في حق غير الزوج، ليكون دليله مخصصاً لعموم النفي، بل لا يلزم الضرر منه إلا في فرض عدم تيسر الكفن من الزوج أو التركة أو المتبرع، فيكون بين الإطلاقين عموم من وجه، ويتعين حكومة إطلاق نفي الضرر على إطلاق وجوب التكفين.

اللهم إلا أن يمنع ملازمة بذل الكفن للضرر، بل لايصدق عرفاً مع قلة ثمن أقل المجزي منه. ولاسيما مع تيسر توزيعه على جماعة كثيرة. فتأمل.

هذا وقد يستدل لعدم وجوب بذل الكفن في المقام بموثق الفضل بن يونس الكاتب: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت: ما ترى في رجل من أصحابنا يموت ولم يترك ما يكفن به، أشتري له كفنه من الزكاة؟ فقال: اعط عياله من الزكاة قدر ما يجهزونه، فيكونون هم الذين يجهزونه. قلت: فإن لم يكن له ولد ولا أحد يقوم بأمره فأجهزه أنا من الزكاة؟ قال: كان أبي يقول: إن حرمة بدن المؤمن ميتاً كحرمته حياً. فوار بدنه وعورته وجهزه وكفنه وحنطه، واحتسب بذلك من الزكاة وشيع جنازته. قلت: فإن اتجر عليه بعض إخوانه بكفن آخر، وكان عليه دين، أيكفن بواحد ويقضى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 4، 10.

ص: 124

دينه بالآخر؟ قال: لا ليس هو ميراثاً تركه، إنما هذا شيء صار إليه بعد وفاته، فليكفنوه بالذي اتجر عليه، ويكون الآخر لهم يصلحون به شأنهم"(1).

بدعوى: ظهوره في المفروغية عن عدم وجوب بذل الكفن كفائياً، لأن ذلك هو المناسب للسؤال عن تكفينه من الزكاة التي يقرب كون المرتكز عند المتشرعة عدم دفعها لما يجب على المكلفين القيام به من مالهم. ولتعليله تكفينه من الزكاة بحرمة الميت الذي قد يظهر في عدم حفظ حرمته لولا بذلها، وذلك لا يكون إلا بعدم وجوب البذل على الغير.

لكن في بلوغ ذلك حداً ينهض معه الموثق بالاستدلال على عدم وجوب البذل إشكال. ولاسيما في فرض عدم تيسر الزكاة، لإمكان أن يكون التعليل بالحرمة لبيان الحاجة المسوغة لدفع الزكاة، نظير حاجة الحي المسوغة لدفعها له، وإن وجب الإنفاق عليه من بعض أرحامه عند عدم تيسرها له.

وأشكل من ذلك الاستدلال بصحيح سعد بن طريف عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: من كفن مؤمناً كان كمن ضمن كسوته إلى يوم القيامة"(2) ، بدعوى: ظهور التعليل في الاستحباب.

إذ فيه: أن اشتمال النص على بيان الثواب إنما يمنع من ظهوره في الوجوب من دون أن يوجب من ظهوره في عدمه، بحيث يخرج به عما يقتضيه من دليل عام أو خاص. مع أن استحباب مباشرة البذل عيناً لا ينافي وجوبه كفائياً. ولاسيما مع ظهوره في الاستحباب حتى مع تيسر أخذه من التركة أو الزوج اللذين لا إشكال معهما في عدم وجوب البذل على الغير، ومع شموله للزوج الذي لا إشكال في وجوب البذل عليه.

وأما الإشكال فيه بأنه ظاهر في الحث على التكفين الذي هو مصدر بمعنى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 125

اللف في الكفن، لا في بذل الكفن، الذي هو محل الكلام. فالظاهر اندفاعه بأن تنزيله منزلة من ضمن الكسوة الظاهر في بذلها لا في الإكساء بمعنى المصدر ظاهر في إرادة بذل الكفن للتكفين.

وكيف كان فالعمدة في البناء على عدم وجوب البذل ما سبق من الأصل بعد عدم ثبوت إطلاق لوجوب التكفين بنحو يقتضي وجوب بذل الكفن، وحكومة أدلة نفي الضرر عليه في الجملة لو كان لازماً.

ثم إن الظاهر جريان نظير ذلك في بقية المؤن، فلا يجب بذلها من غير التركة إلا على الزوج، على الكلام المتقدم، لمشاركة بقية واجبات التجهيز للكفن في عدم الإطلاق - كما تقدم في أول مباحث التغسيل - وفي حكومة قاعدة نفي الضرر عليه لو كان موجوداً، على الكلام المتقدم.

نعم يشكل البناء على ذلك في مثل الدفن مما يلزم من تركه هتك الميت وتوهينه عرفاً، حيث يبعد جداً عدم تكليف الشارع به لو توقف على بذل المال لشراء الأرض أولحفر القبر أو نقل الميت له أو نحو ذلك، لما هو المعلوم من شدة اهتمام الشارع بعدم هتك المؤمن وتوهينه بمثل ذلك. فلاحظ.

هذا وقد يستدل لوجوب البذل بما تقدم في موثق الفضل من التعليل بحرمة بدن المؤمن، بدعوى أنه يجب حفظ الحرمة. لكنه ممنوع، كما يظهر بملاحظة المشبه به، وهو حرمة الحي، لعدم وجوب بذل كسوته، كما نبه له شيخنا الأعظم (قدس سره). فلابد من أن يراد بالحرمة مجرد ما يقتضي تحقق الحاجة ويوجب صرف الزكاة في الميت والحي.

ومنه يظهر عدم دلالة الموثق على وجوب تكفينه من الزكاة لو أمكن، كما صرح به شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره، لظهوره في السؤال عن الجواز، فيكون هو ظاهر الجواب فيه بعد ما عرفت من عدم ظهور التعليل فيه في الوجوب. ولا مجال مع ذلك للبناء على الوجوب، كما في جامع المقاصد والروض وظاهر الذكرى وعن غيرها.

ومثله البناء على تكفينه من بيت المال مع وجوده، كما في المنتهى وجامع المقاصد

ص: 126

والروض والمسالك وغيرها.

اللهم إلا أن يراد بهما أنه من مصارف بيت المال والزكاة، فيجب عند عدم المزاحم بنظر وليهما، كما قد يرجع إليه ما عن نهاية الأحكام من أنه يكفن من بيت المال إن كان فيه فضل. ويناسبه تعليله في جامع المقاصد والروض بأن بيت المال معد لمصالح المسلمين، لأن ذلك لا يقتضي تعيين صرفه في التكفين، بل مجرد كون التكفين مصرفاً له.

وكيف كان فلا إشكال في كون تكفين المؤمن الذي لا كفن له من المصالح التي هي مصرف بيت المال. كما أنه من مصارف الزكاة بلحاظ سهم سبيل الله بمقتضى إطلاق الآية الشريفة، الذي لا يمنع منه انصراف سبيل الله للجهاد في عرف المتشرعة المتأخر عن نزولها. ولاسيما بضميمة الموثق الصريح في جواز احتساب تجهيزه منها. لكنهما حيث لا يختصان به يتعين الرجوع في صرفهما فيه لوليهما.

ومن ثم لا مجال لما في المدارك من التوقف في تكفينه من الزكاة، لنص الشيخ على أن الفضل واقفي. إذ فيه: أن وقفه لا يمنع من حجيته بعد تصريح النجاشي بوثاقته، المعتضد برواية غير واحد من الأعيان عنه، كالحسن بن محبوب وابن أبي عمير وعلى بن مهزيار. مع ما تقدم من دخوله في سبيل الله.

نعم لا مجال لما أشار إليه في المدارك - ولم يرتضه - وأصرّ عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن جواز وفاء دين الميت من الزكاة يقتضي جواز تكفينه منها بالأولوية بملاحظة حكم الشارع بتقديم كفن الميت على تركته.

إذ فيه: أن تقديم كفنه على دينه في تركته لا يقتضي أولويته منه في الزكاة بعد ابتناء وفاء الدين من الزكاة على انطباق سهم الغارمين عليه الذي لا ينطبق على الكفن قطعاً.

وأشكل من ذلك ما قد يظهر من الذكرى من جواز تكفينه من الزكاة مع وجود التركة مستدلاً عليه بالموثق. لوضوح أن مورد الموثق من لا تركة له. كما يشكل

ص: 127

(128)

انطباق سهم سبيل الله مع وجود التركة، حيث يكون التكفين حينئذٍ في مصلحة الديان والورثة، لا من مصلحة الدين. فتأمل.

بقي شيء: وهو أن ما تضمنه الموثق من دفع الزكاة لهم لتجهيز ميتهم ظاهر في كون الإعطاء لهم بنحو التمليك، لاستحقاقهم الزكاة بمقتضى فقرهم المستفاد من مساق الكلام، لأن ظاهره أن عدم ترك الميت شيئاً مستلزم لعدم تكفينه، لعجزهم عن القيام به، وإلا لقاموا به وإن لم يجب عليهم شرعاً بمقتضى الجهات العاطفية والعرفية، كما أنه المناسب أيضاً لما تضمنه من أنه لو تبرع متبرع بالكفن كان المدفوع لهم يصلحون به شأنهم، لقوة ظهوره في فقرهم.

ولا مجال لحمله على مجرد دفع الزكاة لهم من دون تمليك مع توكيلهم في صرفها في تجهيز ميتهم، لإظهار أنهم هم الذين يجهزونه أمام الناس حفظاً لكرامتهم. إذ هو مخالف لظاهر الإعطاء، ولنسبة التجهيز إليهم الظاهر في قيامهم بمصرفه، لا في مباشرتهم له. ولاسيما مع عدم تعليل صرف الزكاة بحرمة الميت إلا في فرض عدم من يقوم بأمره من أهله، حيث يناسب ذلك عدم الحاجة للتعليل بذلك مع وجوده، لكونه بنفسه مصرفاً للزكاة بسبب فقره. ولو كان المراد مجرد توكيلهم احتيج للتعليل المذكور حتى مع الدفع لهم، كما هو ظاهر.

نعم قد ينافي ذلك قوله (عليه السلام) في ذيل الموثق: "ليس هذا ميراثاً، إنما هذا شيء صار إليه بعد وفاته" .لظهوره في فرض دفع الزكاة لهم، فالحكم معه بأنه شيء صار إليه بعد وفاته ظاهر في عدم ملكهم له بالدفع إليهم، وإنما هو في حكم ملك الميت، لكونه مصرفاً له.

اللهم إلا أن يقال: لا إشكال ظاهراً في عدم تعين الزكاة للكفن بمجرد دفعها مع التوكيل في صرفها فيه، فمع فرض بذل الكفن من شخص آخر قبل صرفها فيه تبقى زكاة، ولا تخرج عنها للكفن الذي قد يدعى أنه بحكم ملك الميت. وهذا مناسب لحمل ذلك على فرض تمليكهم الزكاة بداعي تكفينهم لميتهم، كي تبقى على

ص: 128

ملكهم بعد بذل الغير للكفن، ويكون الحكم بأنها شيء صار للميت بعد وفاته مبنياً على التوسع، لتشبيه ما صار إليهم بسبب الميت بما صار للميت بنفسه، الذي هو المنشأ للسؤال عن وفاء دينه منه.

وبالجملة: لا مجال لرفع اليد عن ظهور الموثق في كون الدفع إليهم مبنياً على التمليك، لا على مجرد الاستئمان والتوكيل.

ومن ثم لا مجال لما يظهر مما عن بعض مشايخنا من عمومه لما إذا كانوا ذوي مال يمنعهم البخل عن تجهيز ميتهم، الشامل لما إذا كان مالهم موجباً لغناهم بنحو لا يستحقون الزكاة. إذ لو أراد به الدفع إليهم بنحو التوكيل فلا ينهض به الموثق، كما يشكل إثبات رجحانه مطلقاً بطريق آخر. ولو أراد به الدفع لهم بنحو التمليك أشكل بعدم كونهم مصرفاً للزكاة، فلا تنهض به عموماتها، ولا الموثق مع ما عرفت من ظهوره في فقرهم.

هذا وقد صرح غير واحد باستحباب الدفع المذكور لهم مع وجودهم، حملاً للموثق على ذلك دون الوجوب، فيجوز تولي صاحب الزكاة لصرفها عليه مع وجودهم، كما يجوز مع عدمهم، بل في الروض أنه لم يقل أحد بوجوبه.

وهو المناسب لما هو الظاهر من الموثق من أن تجهيز الميت بنفسه من مصارف الزكاة، ولو لانطباق سهم سبيل الله تعالى عليه، مع ارتكاز عدم الفرق في كونه مصرفاً لها بين وجود عيال له يعجزون عن تولي أمره وعدم وجودهم. غايته أنه يرجح الدفع لهم لأنهم أولى في صرفها ولو بعنوان عرضي، وهو تطييب نفوسهم وحفظ كرامتهم، الذي هو غالباً لا يبلغ مرتبة الوجوب.

نعم لو بلغ ذلك لخصوصية خارجية - كلزوم إيذائهم بوجه يعذرون فيه أو توهينهم - تعين وجوبه. ولعله خارج عن محل كلام الأصحاب.

تنبيه: ثبوت الكفن في مأخذ خاص كالتركة وذمة الزوج وإن كان مبنياً على نحو من الحكم الوضعي الراجع إلى كونه مستحقاً في مأخذه، كما تقدم، إلا أنه ليس

ص: 129

مملوكاً للميت على نحو الكليات التي تتشخص بالتسليم، نظير الدين، لعدم نهوض الأدلة به، إذ هي لم تتضمن إلا أن الكفن يخرج من التركة، وأنه على الزوج، وحيث كانت وظيفة الكفن تؤدى بملك الغير على ما تقدم عند الكلام في التكفين بالمغصوب فثبوته في التركة التي هي ملك الورثة وفي ذمة الزوج لا يقتضي توقف أداء الكفن على خروجه عن ملكهم ليتعين بمقتضى استحقاقه عليهم. ومن ثم يكون مقتضى الاستصحاب عدم خروجه عن ملكهم مع لف الميت به فضلاً عن عزله، بل بقاؤه على ملكهم حتى بعد دفن الميت. وكذا الحال في إخراجه من مثل الزكاة أو التبرع به من شخص آخر، فيبقى على حكمه حتى بعد الدفن.

ويترتب على ذلك جواز تبديله إياه ما لم يلزم منه محذور آخر. وكذا رجوعه إليه لو تعذر تكفين الميت به أو إبقاؤه عليه لو تلف جسد الميت - بأكل حيوان أو نحوه

أو تعذر الوصول إليه - لغرقه أو أخذ السيل له أو نحوهما - قبل اللف بالكفن أو بعده. أما لو قيل بخروجه عن ملكه بالعزل أو باللف أو غيرهما فرجوعه إليه يحتاج إلى دليل. وكذا جريان حكم الميراث عليه بعد فرض خروجه عنه وملكيته بالحيازة بعد عدم ثبوت صيرورته من المباحات.

كما يترتب على ذلك أنه لو توفى الزوج بعد الزوجة ولم يكن عنده إلا كفن واحد قد عينه لها أو كفنها به وجب نزعه منها وتكفينه به، كما ذكره غير واحد، بناء على ما هو الظاهر من تقديمه عليها حينئذٍ لو لم يتعين لها، لما دل على تقديم الكفن على الدين، لأن انشغال ذمته بكفنها من سنخ الدين فلا يقدم على تكفينه، وليس هو من سنخ الحق المتعلق بالعين، ليشكل تقديم كفنه عليه بما تقدم في المسألة العشرين من الإشكال في تقديم الكفن على الحق المتعلق بها. ولا أقل من احتمال أهمية تكفينه بتركته من تكفينها حينئذٍ.

نعم لا إشكال ظاهراً في عدم وجوب نزع الكفن منها لو مات بعد دفنها، لإباء مرتكزات المتشرعة له جداً. بل يشكل وجوب نزعه منها لو كانت قد كفنت به وإن لم

ص: 130

(131)

(تكملة): فيما ذكروا من سنن هذا الفصل. يستحب في الكفن العمامة للرجل (1)، ويكفي فيها المسمى (2).

تدفن بعد، لعدم وضوح أهمية تكفينه حينئذٍ. فتأمل جيداً. والله سبحانه وتعالى العالم. ومنه نستمد العون والتوفيق.

(1) إجماعاً، كما في الخلاف والغنية والمعتبر والمنتهى وظاهر التذكرة، وفي الجواهر: "إجماعاً محصلاً ومنقولاً مستفيضاًً" .ويقتضيه النصوص الكثيرة الآتية وغيرها.

بل في معتبر عبدالله بن سنان: "والخرقة والعمامة لابد منهما، وليستا من الكفن"(1). لكن لابد من حمله على تأكد استحبابها، جمعاً مع ما تضمن أنها سنة(2) ، وما هو المعلوم من عدم وجوب أمر غير الكفن.

(2) كما في الجواهر. وقد يظهر مما ذكره غير واحد اعتبار أن تكون في الطول بحيث تحصل لها الهيئة الآتية، على نحو من الخلاف فيها، بل في الجواهر أنه صرح به جماعة. لكن قال:" قد يناقش فيه... بأن ذلك مستحب في مستحب، وإلا فلا يعتبر فيها ذلك. فالأولى حينئذٍ جعل المدار... على صدق اسمها".

وكأنه لأن ذلك هو مقتضى الجمع بين المطلق والمقيد في المستحبات. أما المقيد فهو ما يأتي. وأما المطلق فهو ما لم يتضمن بيان كيفية خاصة، وبعضه وإن لم يكن له ظهور في الإطلاق من هذه الجهة، لوروده في قضية خارجية، أو لبيان مطلوبية العمامة، أو أنها سنة ليست بفرض، إلا أن بعضه ظاهر في الإطلاق من هذه الجهة كقوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي:" وعممه بعد بعمامة"(3). وقد يستفاد من غيره.

نعم لا يبعد كراهة العمامة من غير حنك، كما هو ظاهر النهي في خبر عثمان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 21.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 1، 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 10.

ص: 131

والأولى أن تدار على رأسه، ويجعل طرفاها تحت حنكه على صدره (1)،

النوا الآتي والرضوي وما عن دعائم الإسلام عن الإمام الصادق(1) (عليه السلام) عن عمامة الأعرابي، بناءً على ما يظهر من المبسوط من أنها الخالية عن الحنك، حيث قال بعد ذكر الكيفية الآتية: "ولا يعممه عمة الأعرابي بلا حنك" ونحوه في الدروس، وقد يظهر من قوله في الفقيه: "ويعممه ويحنكه ولا يعممه عمة الأعرابي، وليلقى طرفي العمامة على صدره".

وأما ما في الحدائق من أن الظاهر أن عمة الأعرابي المنهي عنها يلف وسط العمامة على رأسه ويلقى طرفاها الأيمن على جانب الصدر الأيمن والأيسر على الأيسر من دون أن يتخالفا. فهو غير ظاهر المأخذ. بل هو خلاف إطلاق جماعة من الأصحاب، تبعاً لمثل خبر عثمان النوا من عدم ذكر التخالف في الكيفية المستحبة مع ظهور جملة من كلماتهم، بل صريح بعضها - كالخبر المذكور - مباينتها لعمامة الأعرابي. وما قد يظهر منه من الاستشهاد لما ذكره بكلام المبسوط. كما ترى.

هذا وقد يستفاد كراهة العمامة للميت من غير حنك من إطلاق بعض ما تضمن كراهتها(2) ، لظهوره في مبغوضيتها مطلقاً، كما هو المناسب لعدها عمامة المشركين في بعضها. بل وكذا مما تضمنه مرسل ابن أبي عمير من الأمر بالحنك في عمامة الميت(3). لقرب انصرافه إلى أن مطلوبية الحنك له على نحو مطلوبيته للحي مبنية على كراهة تركه. فتأمل جيداً.

(1) ذهب إليه علماؤنا، كما في التذكرة، وفي المعتبر بعد أن ذكر الكيفية المذكورة، ونسبها للثلاثة واتباعهم قال: "وأما التحنيك فعليه الأصحاب" .ويقتضيه ما في خبر عثمان النوا عن أبي عبدالله (عليه السلام): "وإذا عممته فلا تعممه عمامة الأعرابي.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 12 من أبواب التكفين حديث: 1، 2.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 26 من أبواب لباس المصلي.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 2.

ص: 132

قلت: كيف أصنع؟ قال: خذ العمامة من وسطها وانشرها على رأسه، ثم ردها إلى خلفه واطرح طرفيها على صدره" (1) بناءً على ما في الطبعة الحديثة من الكافي وحكي عن أكثر نسخه، كما روي هكذا في التهذيب بسنده عن الكليني. ويعضده قوله (عليه السلام) في معتبر معاوية بن وهب على ما في الكافي: "وعمامة يعتم بها ويلقى فضلها على صدره" (2) ومرسل يونس الآتي ومرسل دعائم الإسلام والرضوي المشار إليه آنفاً(3).

لكن عن بعض نسخ الكافي رواية خبر عثمان النوا هكذا: "واطرح طرفيها على ظهره" .ويعضده قوله (عليه السلام) في صحيح حمران: "ثم خذوا عمامة فانشروها مثنية على رأسه، واطرح طرفيها من خلفه، وأبرز جبهته"(4). وفي الجواهر:" لكن لم أعثر على عامل بها، غير أنه قال في كشف اللثام: يمكن التخيير بينهما. انتهى. ولا يخفى عليك ما فيه بعد ما عرفت".

ومثله قوله (عليه السلام) في موثق عمار:" وليكن طرفا العمامة متدلياً على جانبه الأيسر قد شبر يرمى بها على وجهه... ثم اللفافة ثم العمامة، ويطرح فضل العمامة على وجهه "(5) وقوله (عليه السلام) في معتبر معاوية بن وهب المتقدم على رواية الشيخ في موضعين من التهذيب:" ويلقى فضلها على وجهه "،وقوله (عليه السلام) في صحيح عبدالله بن سنان:" وعمامة يعصب بها رأسه ويرد فضلها على رجليه [وجهه. خ ل يب]"(6). فإنه لم يعرف عامل بها أيضاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 13.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 11 من أبواب الكفن حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 8.

ص: 133

(134)

الأيمن على الأيسروالأيسر على الأيمن (1)، والمقنعة للمرأة (2).

(1) كما في جامع المقاصد والروض، وفي الجواهر أنه أتم. لقوله (عليه السلام) في مرسل يونس: "ثم يعمم يؤخذ وسط العمامة فيثنى على رأسه بالتدوير، ثم يلقى فضل الشق الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن، ثم يمد على صدره"(1) ، ونحوه الرضوي المشار إليه آنفاً.

(2) كما في الشرايع والنافع وجملة من كتب العلامة والشهيدين وعن الجامع وغيرها، وفي المدارك أنه مذهب الأصحاب، وعن الذكرى أنهم أفتوا به، وفي الجواهر:" بلا خلاف أجده بين المتأخرين، بل نسبه غير واحد إلى الأصحاب مشعراً بدعوى الإجماع عليه ".لكن في مفتاح الكرامة:" لم أجد للقناع ذكراً في كلام من تقدم على ابني سعيد، ولا وجدت من نقل حكم ذلك عن أحد منهم".

وكيف كان فيقتضيه صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، والمرأة إذا كانت عظيمة في خمسة: درع ومنطق وخمار ولفافتين"(2). ومعتبر عبد الرحمن بن أبي عبدالله: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام): في كم تكفن المرأة؟ قال: تكفن في خمسة أثواب أحدها الخمار"(3). وقد تقدم في أول الكلام في تحديد الكفن الواجب لزوم حملهما على الاستحباب.

ثم إن الحديثين وإن لم يتضمنا ما ذكره الأصحاب من بدلية الخمار للمرأة عن العمامة للرجل، إلا أن عدّه فيهما من الخمسة قد يظهر في بدليته عن العمامة. مضافاً إلى قرب انصراف إطلاقات العمامة عن المرأة، لمعهودية كونها من مختصات الرجل.

هذا وفي كشف اللثام:" قال فخر الإسلام في شرح الإرشاد: إن الخنثى المشكل يكتفى فيه بالقناع، لأن الخنثى المشكل حكمه في الدنيا الاستتار بالقناع وعدم العمامة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 9، 18.

ص: 134

ويكفي فيها أيضاً المسمى (1)، ولفافة لثدييها يشدان بها إلى ظهرها (2)،

وكون جسده عورة، وفي الإحرام حكمه حكم المرأة".

وفي الجواهر:" وللنظر فيه مجال. ولعل الاحتياط في تحصيل المستحب يقضي بالعمامة والقناع. فتأمل ".ولعل أمره بالتأمل للإشارة إلى أن ذلك وإن كان مقتضى العلم الإجمالي، إلا أنه قد يكون مرجوحاً بلحاظ مرجوحية لباس أحد الصنفين ما يختص بالآخر بحيث يتميز به، بنحو يزاحم الاحتياط في تحصيل المستحب، بحيث يكون الاحتياط بتركهما معاً في حقه. لكن الخروج عن إطلاق دليل استحباب كل من الأمرين في حق صاحبه لا يخلو عن إشكال. فلاحظ.

(1) حيث تضمن الحديثان المتقدمان الخمار فقد فسر في كلام غير واحد من اللغويين بما تغطى به المرأة رأسها، كما فسر بالنصيف الذي قيل: تارة: إنه الخمار الذي يغطي الرأس. وأخرى: أنه المعجر، الذي فسّر بثوب يلف على الرأس، وبثوب كالعصابة تلفه المرأة على استدارة رأسها، وبثوب أصغر من الرداء تلبسه المرأة على رأسها. وثالثة: أنه ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كلها. ومن ثم يصعب تحديد الخمار من كلمات اللغويين.

نعم مقتضى قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)(1) أنه يغطي الرقبة وبعض الصدر المنكشف بالجيب. ولعله لذا قال في مجمع البيان:" والخمر المقانع جمع خمار، وهو غطاء رأس المرأة المنسدل على جيبها... ".فيحمل في الحديثين على ذلك، ولو لقرب الإشارة بهما إلى ما تضمنته الآية الشريفة التي هي الأصل في تشريع الخمار للمرأة، وإن لم يكن هو المعنى الحقيقي المختص به.

(2) كما ذكره الشيخ والفاضلان والشهيدان، ونسب للشيخين والأتباع، وفي الروضة أنه المشهور، وفي الجواهر:" لاأجد فيه خلافاً. فما عساه يشعر نسبته إلى الشهرة

********

(1) سورة النور آية: 32.

ص: 135

(136)

وخرقة يعصب بها وسط الميت (1)

في كلام بعضهم بوجوده في غير محله ".ولا دليل عليه إلا ما رواه سهل عن بعض أصحابنا رفعه قال:" سألته كيف تكفن المرأة؟ فقال: كما يكفن الرجل، غير أنها تشد على ثدييها خرقة تضم الثدي إلى الصدر، وتشد على ظهرها..."(1). قال في الرياض: "ولا ضير في قصور السند، للانجبار بفتاوى هؤلاء الأخيار. ولولاه لأشكل العمل به، لضعفه، وعدم جواز المسامحة في مثله. لاستلزامه تضييع المال المحرم".

لكن تكرر غير مرة أن فتوى الأصحاب في المستحبات والمكروهات على طبق الخبر الضعيف لا يكون جابراً له بعد ظهور بنائهم على التسامح فيها. كما أن ما ذكره من عدم جواز المسامحة في مثله، لاستلزامه تضييع المال في غير محله، لأن تضييع المال إنما يحرم من حيثية صدق السرف والتبذير، وهو ممنوع مع وجود الغرض العقلائي لصرف المال، الذي يكفي فيه في المقام احتمال الاستحباب الشرعي، ومنع الثديين من الاضطراب بسبب الحركة، الموجب لانتشار الكفن، بل قد يكون فيه نحو من الغض بالمرأة الميتة. على أنه لا موضوع للإشكال بذلك لو لم يكن للخرقة قيمة معتد بها.

نعم قد يمنع من مشروعيتها إطلاق ما تضمنه صحيح زرارة من أن ما زاد على الخمسة مبتدع(2). إلاأن احتمال انصرافه عنها لعدم الاعتدادبها، أوتخصيصه بالإضافة إليها، كاف في احتمال مطلوبيتها، ولا يلزم من الإتيان بها برجائها التشريع والابتداع.

(1) كما في العروة الوثقى ولم أعثر عاجلاً على من ذكره قبله. كما لم يتضح الدليل عليه عدا معتبر معاوية بن وهب عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: يكفن الميت في خمسة أثواب: قميص لا يزر عليه، وإزار، وخرقة يعصب بها وسطه، وبرد يلف فيه، وعمامة"(3).

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 16، 1، 12.

ص: 136

ذكراً كان أو أنثى (1)، وخرقة أخرى (2)

لكن من القريب جداً أن يكون المراد بها ما يأتي من الخرقة التي يلف بها الوركان والفخذان، كما فهمه غير واحد، لعدها من الخمسة من دون تعرض لخرقة غيرها، مع معروفية تلك الخرقة في النصوص وظهورها في وحدتها وشدة الاهتمام بها. ولاسيما بملاحظة التصريح في صحيح زرارة بأن ما زاد على الخمسة مبتدع(1).

وحينئذٍ يحمل الوسط في الحديث على الوركين نازلاً إلى الفخذين، لا ما يسامت السرة الذي هو موضع الحزام. ومثله في ذلك المنطق في صحيح محمد بن مسلم(2) المتقدم، بناءً على عدم إرادة المئزر به، وإلا كان من الكفن الواجب. فراجع ما تقدم في الاستدلال لوجوب المئزر. وتأمل جيداً.

(1) لإطلاق معتبر معاوية بن وهب لو تم حمله على الخرقة المذكورة.

(2) فقد صرح جمهور الأصحاب باستحباب هذه الخرقة، وادعى في الخلاف والغنية الإجماع عليه، ونفى الخلاف فيه في المنتهى، وفي المدارك أنه قطع به الأصحاب، وفي الجواهر:" إجماعاً محصلاً ومنقولاً مستفيضاً".

ويقتضيه النصوص الكثيرة الآتي بعضها. ولعل شيوعها هو المنشأ للاكتفاء في بعض النصوص بالتعبير عنها بالخرقة من دون شرح وتحديد.

بل ظاهر بعض النصوص وجوبها مطلقاً، كمعتبر ابن سنان المتقدم في العمامة، أو في خصوص المرأة، كما قد يظهر من قوله (عليه السلام) في مرسل يونس:" الكفن فريضة للرجال ثلاثة أثواب، والعمامة والخرقة سنة. وأما النساء ففريضته خمسة أثواب"(3).

لكن تقدم في أول الكلام في تحديد الكفن أنه لابد من تنزيلها على تأكد الاستحباب. ولاسيما بملاحظة قوله (عليه السلام) في صحيح عبدالله بن سنان: "إنها لا تعد شيئاً، إنما تصنع لتضم ما هناك لئلا يخرج منه شيء، وما يصنع من القطن أفضل

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 1، 9، 7.

ص: 137

للفخذين تلف عليهما (1).

منه"(1).

ثم إن الظاهر عدم الخلاف في عموم استحبابها للرجل والمرأة، لإطلاق بعض النصوص مع كون كل منهما متيقناً من بعضها. والتقييد في بعض كلماتهم بالرجل لا يرادبه اختصاصها به، بل إما بيان عموم الاستحباب له في مقابل ما عن بعض العامة من اختصاصه بالمرأة، أو لبيان غاية ما يستحب للرجل، بخلاف المرأة فإنها تزاد عليها اللفافة المتقدمة للثديين والنمط. فلاحظ كلماتهم. بل في المرفوع الذي رواه سهل في بيان ما يمتاز به كفن المرأة عن كفن الرجل: "ويصنع لها القطن أكثر مما يصنع للرجال، ويحشى القبل والدبر بالقطن والحنوط، ثم يشد عليها الخرقة شداً شديداً" (2) وظاهره امتياز المرأة عن الرجل في الخرقة بشدة شدها، وإن كانا مشتركين فيها.

هذا وفي مرسل يونس: "وخذ خرقة طويلة عرضها شبر فشدها من حقويه..." (3) وفي موثق عمار: "ثم الخرقة عرضها قدر شبر ونصف... ويجعل طول الخرقة ثلاث أذرع ونصفاً وعرضها شبراً ونصفاً"(4). والاختلاف بينهما في العرض قد يحمل على الاختلاف في الفضل. كما قد يحمل الموثق على أن الطول بثلاث أذرع ونصف إنما يجزي مع كون العرض شبراً ونصفاً، أما لو كان العرض شبراً فلابد من كون الطول أكثر، للحاجة معه لزيادة طي الخرقة. بل الظاهر أن تحديد الطول بثلاثة أذرع ونصف لبيان أقل المجزي، وإلا فما يأتي في بيان الكيفية الكاملة يستلزم أكثر من ذلك في غالب الأجسام حتى لو كان العرض شبراً ونصفاً.

(1) كما في الإرشاد. ولعل المراد به ما هو المعروف في كلام أكثر الأصحاب من لف الحقوين والفخذين. ويناسبه النصوص في الجملة، ففي صحيح الكاهلي:

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8، 16.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

ص: 138

" ثم أزّره بالخرقة، ويكون تحته القطن تذفره به إذفاراً قطناً كثيراً، ثم تشد فخذيه على القطن بالخرقة شداً شديداً، حتى لا تخاف أن يظهر شيء"(1) ، وفي موثق عمار المتقدم: "تشد الخرقة على القميص بحيال العورة والفرج حتى لا يظهر منه شيء... ثم بالخرقة فوق القميص على إلييه وفخذيه وعورته" ،وفي مرسل يونس المتقدم أيضاً: "فشدها من حقويه، وضم فخذيه ضماً شديداً، ولفها في فخذيه، ثم أخرج رأسها من تحت رجليه إلى جانب الأيمن وأغرزها في الموضع الذي لففت فيه الخرقة، وتكون الخرقة طويلة تلف فخذيه من حقويه إلى ركبتيه لفاً شديداً" ،وفي صحيح عبدالله بن سنان: "وتؤخذ خرقة فيشدبها على مقعدته ورجليه... إنما تصنع لتضم ما هناك، لئلا يخرج منه شيء" (2) وفي معتبره: "والخرقة يشدبها وركيه لكيلا يبدو منه شيء" (3) وقريب منه المرفوع الذي رواه سهل فيما يمتاز به كفن المرأة.

والمستفاد من مجموع هذه النصوص أن الغرض المهم من الخرقة شد الحقوين والوركين والإليين لتمنع من خروج شيء، والأكمل فيها استيعابها تمام الفخذين إلى الركبتين. كما أن الظاهر منها لف الفخذين بجمعهما بها، لا بلفها على كل منهما. وقد أشرنا آنفاً إلى أن ذلك يقتضي طول الخرقة. فلاحظ.

هذا وقد أطال الأصحاب في كيفية شدها واضطربت كلماتهم، وفي الروض: "لم نظفر بخبر شاف ولا فتوى يعتمد عليها، في كيفية شدها على التفصيل" .لكن مقتضى إطلاق أكثر النصوص عدم اعتبار كيفية خاصة بل يتخير بين الكيفيات مع ملاحظة ما ذكرنا، ومراعاة الإحكام مهما أمكن.

وأما ما تضمنه مرسل يونس فهو محمول على بيان الأفضل في كيفية شدها - على ما هو مقتضى القاعدة في الجمع بين المطلق والمقيد في المستحبات - أو على بيان الطريق المتعارف لإحكام الشدّ. ولا يهم مع ذلك إطالة الكلام فيما ذكروه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8، 12.

ص: 139

(140)

ولفافة فوق الإزار يلف بها تمام بدن الميت (1).

نعم ينبغي التنبيه إلى أمر وهو أن صحيح الكاهلي لم يتضمن نسبة الإذفار للخرقة - كما يظهرمن بعض كلماتهم، بنحو أوجب الإشكال في توجيهه - بل للقطن، وهو أجنبي عما نحن فيه. ولابد من توجيهه إما بحمله على التطييب بالقطن، لما يأتي من وضع الذريرة والحنوط عليه، أو على معنى الثفر بالثاء المثلثة، نظير ما ورد في بعض نصوص المستحاضة(1) - وإن لم يتضح مأخذه من اللغة - لكون القطن دائراً على العورتين مستولياً عليهما كالثفر، أو غير ذلك مما أطالوا الكلام فيه، ولا ملزم به بعد ما ذكرنا من خروجه عن محل الكلام.

(1) حيث كان المشهور بين الأصحاب أن أحد الأثواب الواجبة هو المئزر الساتر ما بين السرة والركبة تقريباً، وليس منها ما هو الشامل لتمام البدن إلا واحد عبروا عنه بالإزار، فقد ذكروا استحباب زيادة حبرة، على اختلافهم في إطلاقها وتقييدها. وقد ادعي عليه الإجماع في الخلاف والغنية وجامع المقاصد وظاهر المعتبر والتذكرة ومحكي الذكرى.

كما ذكروا أنها إن فقدت فلفافة أخرى، ليكون للميت لفافتان شاملتان. وبه صرح في المبسوط والنهاية والوسيلة والقواعد والدروس والروض والروضة ومحكي المصباح والمهذب والذكرى.

ومقتضى الجمود على ذلك وإن كان هو كون اللفافة الثانية غير الحبرة بدلاً اضطرارياً عن الحبرة يشترط استحبابها بفقدها، إلا أن من القريب جداً كون استحباب الحبرة بنحو تعدد المطلوب، وأن اللفافة الثانية مطلقاً مستحبة، وكونها حبرة مستحب في مستحب، كما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) وسبقه إليه في العروة الوثقى. بل خير في السرائر بين الحبرة وغيرها من دون أن ينبه على أفضلية الحبرة.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الاستحاضة.

ص: 140

وكيف كان فالظاهر استحباب لفافتين شاملتين لتمام جسد الميت، أما بناء على عدم كون المئزر الساتر لما بين السرة والركبة من ثياب الكفن المفروضة، وأن المراد بالإزار المفروض غيره، فلما تقدم منا من أن مقتضى الجمع بين النصوص وجوب كون الإزار شاملاً لما عدا الرأس من البدن، مع استحباب شموله لتمام البدن، فيكون به للميت بضميمة اللفافة الشاملة - التي لا إشكال في وجوبها - لفافتان.

وأما بناءً على المشهور من أن المئزر من الثياب المفروضة، وأنه هو المراد بالإزار في النصوص فلقوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم: "والمرأة إذا كانت عظيمة في خمسة: درع ومنطق وخمار ولفافتين" (1) بناءً على ما هو الظاهر من عدم الفصل بين الرجل والمرأة في اللفافتين. وحمل اللفافة على ما لا يعم البدن خلاف الظاهر جداً، كما تقدم عند الكلام في المئزر. ولأجله فقد يستدل أيضاً بقوله (عليه السلام) في صحيح حمران: "ثم يكفن بقميص ولفافة وبرد يجمع فيه الكفن"(2) ، حيث لا يبعد أن يكون حمله على إهمال المئزر الواجب عند المشهور أقرب عرفاً من حمل اللفافة فيه على المئزر المذكور.

لكن يظهر من الرياض الإشكال في ذلك والميل لعدم جوازه، فضلاً عن استحبابه، حيث استدل على عدم الزيادة في المفروض - الذي تبع فيه المشهور - بما في صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: كتب لي في وصيته أن أكفنه في ثلاثة أثواب أحدها له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة وثوب آخر وقميص. فقلت لأبي: لمَ تكتب هذا؟ فقال: أخاف أن يغلبك الناس. فإن قالوا: كفنه في أربعة [أثواب] أو خمسة فلا تفعل [قال:] وعممه بعد بعمامة. وليس تعد العمامة من الكفن، إنما يعد ما يلف الجسد"(3) ، وقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة: "إنما الكفن المفروض ثلاثة أثواب، أو ثوب تام لا أقل منه يواري فيه جسده كله. فما زاد فهو سنة إلى أن يبلغ خمسة. فما زاد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 10.

ص: 141

فمبتدع. والعمامة سنة"(1).

قال (قدس سره):" ولا ريب أن الزائدة على الثلاثة الذي هو سنة العمامة والخرقة المعبر عنها بالخامسة. هذا مع ما في الزيادة من إتلاف المال والإضاعة المنهي عنهما في الشريعة. إلا أن الحكم بذلك مشهور بين الطائفة، بل عليه الإجماع في المعتبر والذكرى والتذكرة، ويؤمي إليه بعض أخبار المسألة... ولكنه يحتمل التقية... والاحتياط بالترك لعله غير بعيد، إذ رفع المفسدة أولى من جلب المنفعة. فتأمل".

وهو وإن ذكر ذلك لبيان عدم زيادة الحبرة المستحبة على الثلاثة المفروضة، بل هي إحداها، إلا أن مقتضاه عدم الزيادة ولو لغير الحبرة. وقد سبقه إلى ذلك في الحدائق في الجملة.

لكن يشكل ما ذكره بأن صحيح الحلبي وارد في قضية خاصة لا إطلاق لها. مع احتمال أن يكون ما يقوله الناس - من التكفين في الأربعة أو الخمسة، والذي ردع (عليه السلام) عنه - راجعاً إلى أن ذلك هو الكفن المفروض عدا الحبرة أو البرد الذي قد يكون استحبابه زائداً على المفروض معروفاً في تلك العصور، بل قد يكون خروجه عن الكفن معروفاً، فلا يكون الردع عما يقوله الناس منافياً لزيادة أحدهما.

ولاسيما بملاحظة ما في صحيح يونس بن يعقوب:" قال أبو عبدالله (عليه السلام): إن أبي أوصاني عند الموت: يا جعفر كفني في ثوب كذا وكذا، واشتر لي برداً واحداً وعمامة، وأجدهما، فإن الموتى يتباهون بأكفانهم "(2) وفي صحيحه الآخر:" اشتر لي برداً وجوده فإن الموتى..."(3). حيث يحتمل أو يقرب أن يكون البرد المشترى زائداً على الكفن المفروض الذي بينت أجزاؤه في صحيح الحلبي، إذ ليس ما يحتمل انطباقه عليه منها إلا الثوب الآخر وإطلاقه مع التنبيه لخصوصية الثوبين الآخرين في صحيح الحلبي لا يناسب الوصية بكونه برداً جيداً على ما تضمنه الصحيحان.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التكفين حديث: 1، 7.

ص: 142

كما أن ما ذكره من عدم الريب في أن الزائد على الثلاثة المفروضة من الخمسة المسنونة في صحيح زرارة هو العمامة والخرقة غير واضح المنشأ. ولاسيما مع اعترافه بأن استحباب زيادة الحبرة مشهور بين الطائفة، ومع ظهور جملة من عبارات قدماء الأصحاب - كالصدوق وغيره - في أن المراد بالخمسة غير العمامة والخرقة. ومع ما تضمنه صحيح الحلبي المتقدم من عدم عدّ العمامة من الكفن، وما تضمنه صحيح عبدالله بن سنان(1) من الحكم بذلك فيها وفي الخرقة. نعم تضمن بعض النصوص عدهما من الكفن. إلا أنه لا يكفي في نفي الريب المذكور بعد ما عرفت.

على أن التكفين بأكثر من ثياب ثلاثة قد تضمنته جملة من النصوص كصحيحي حمران ومحمد بن مسلم المتقدمين، وصحيحي يونس بن يعقوب المتضمنين وصية الإمام الباقر (عليه السلام) بشراء برد لكفنه على ما تقدم الكلام فيه، وصحيحه الثالث عن أبي الحسن الأول (عليه السلام): "سمعته يقول: إني كفنت أبي في ثوبين شطويين كان يحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وعمامة كانت لعلي بن الحسين. وفي برد اشتريته بأربعين ديناراً [لو كان اليوم لساوى أربعمائة دينا]"(2) ، وصحيح ابن سنان وأبان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: البرد لا يلف به، لكن يطرح عليه طرحاً، فإذا أدخل القبر وضع تحت جنبه "،ونحوه صحيح عبدالله بن سنان، إلا أن فيه:" فإذا أدخل القبر وضع تحت خده وتحت جنبه"(3). لوضوح أن البرد إذا لم يلف به الجسد بل يكتفى بطرحه عليه في القبر، فلابد من لفافة غيره يتم بها الكفن المفروض قبل إنزاله في القبر، ويكون البرد زائداً على الثلاث. بل قد يستفاد ذلك مما تضمن التكفين بالبرد مطلقاً أو ببرد أحمر حبرة(4) ، بضميمة ما تضمن استحباب كون الكفن قطناً(5) وكونه أبيض(6) ، بحمل الأخيرين

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 12، 15.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 6 وذيله.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التكفين.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التكفين حديث: 1.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التكفين حديث: 1، 2.

ص: 143

على الكفن الواجب، والأول على الزائد عليه. وإن كان لا يخلو عن إشكال، بل منع، لأنه جمع تبرعي. مع عدم الدليل الملزم بعملهم (عليهم السلام) بالاستحباب المذكور، ليقع التنافي بين الدليلين. بل يأتي عند الكلام في استحباب كون الكفن قطناً الجمع بوجه آخر فالعمدة النصوص الأول.

كما أنه لا يتضح الوجه فيما ذكره من حمل النصوص المذكورة على التقية بعد اختلاف العامة - على ما حكي عنهم - في تحديد القطع الواجبة والمستحبة من الكفن، وعدم وضوح شهرة استحباب الزيادة عندهم، وإنما هو المشهور عندنا. ومجرد ما تضمنه صحيح الحلبي من النهي عن متابعة الناس في الزيادة لا يكفي في الحمل المذكور بعدما عرفت من الكلام في هذا الصحيح، وبعد استبعاد تدخل العامة في كفنه (عليه السلام) بنحو يحتاج للتخلص منهم بالوصية، لما هو الظاهر من اختصاص أهل بيت الميت بتجهيزه، خصوصاً في تلك العصور، لتعارف تغسيله في بيته، وربما تكون الوصية حذراً من تدخلهم لظروف خاصة لا دخل للحكم الشرعي بها.

بل يبعد جداً أن تكون الزيادة محرمة - ولو بلحاظ تضييع المال - وقد خفي ذلك على الأصحاب، حتى ذهب جمهورهم لاستحباب الزيادة، لما هو المعلوم من كثرة الابتلاء بالحكم وشدة الحاجة لبيانه لكونه إلزامياً، فيناسب ظهوره. وكفى بهذا موهناً لصحيحي الحلبي وزرارة لو تم نهوضهما في أنفسهما بإثبات الحرمة، ومرجحاً للنصوص الأخر المتقدمة.

وبذلك يظهر ضعف الاستدلال بحرمة إضاعة المال وإتلافه، إذ لا موضوع لها مع مشروعية الزيادة، بل مع احتمال مشروعيتها بنحو معتد به، حيث يكفي في تحقق الغرض العقلائي المانع من صدق الإضاعة والتبذير، كما تقدم نظيره غير مرة.

بل ذكر جمع استحباب زيادة لفافة ثالثة عبر عنها الأكثر بالنمط - الذي اختلفوا في تفسيره - إما لمطلق الميت، كما يظهر من الصدوق ومحكي الحلبي وجماعة، أو لخصوص المرأة، كما في الشرايع والنافع المنتهى والقواعد والإرشاد واللمعة وغيرها.

ص: 144

ولم يتضح الوجه فيه عدا ما تقدم في صحيح زرارة من أن ما زاد على الثلاث إلى الخمس سنة، بناء على أن الزيادة ثوبان شاملان، لا العمامة والخرقة، حيث يدل حينئذٍ على ثلاث لفائف لو كان الواجب لفافة واحدة وقميص ومئزر يستر ما بين السرة والركبة - كما هو المشهور - أو إزار يشمل ما عدا الرأس، كما تقدم تقريبه.

وكذا ما روي من تكفين الصديقة الزهراء (عليها السلام) في سبعة أثواب(1) ، بناءً على خروج خرقة الثديين عنها فقط، حيث يتعين أن يكون السبعة ثلاث لفائف وقميص ومئزر وإزار - على الخلاف المتقدم - وقناع وخرقة الفخذين. فتأمل. مضافاً إلى ما أرسل في السرائر وبعض نسخ الاقتصاد وعن غيرهما من استحباب النمط.

بل يظهر من جمع آخر استحباب أربع لفائف للمرأة. لحكمهم بزيادتها على الرجل في الكفن المسنون لفافتين أو إزارين. قال في الخلاف: "الكفن المفروض ثلاثة أثواب مع الإمكان: إزار وقميص ومئزر، والمسنون خمسة: إزاران أحدهما حبرة وقميص ومئزر، ويضاف إلى ذلك العمامة. وتزاد المرأة إزارين آخرين... دليلنا إجماع الفرقة..." وهو الظاهر من المقنعة والمبسوط والنهاية والمراسم.

بل قد يظهر من الأخير استحباب ذلك للرجل أيضاً. حيث قال بعد أن ذكر ذلك: "وأسبغ الكفن سبع قطع، ثم خمس، ثم ثلاث. وقد بينا أن الواجب واحدة" ولم يذكر فيه مما لا يلف جميع البدن إلا القميص والمئزر والخرقة، ولازمه أن تكون أربع من السبع لفائف، ومقتضى إطلاقه أنها هي الأسبغ حتى للرجل. فلاحظ.

وكيف كان فلم أعثر عاجلاً على ما يناسبه من النصوص عدا ما تقدم في صحيح زرارة من أن ما زاد على المفروض إلى خمس سنة بناءً على أن المفروض لفافتان - كما عن ابن الجنيد - والزيادة لفافتان، دون العمامة والخرقة. كما قد يدل عليها ما تقدم من الرواية بتكفين الزهراء (عليها السلام) بسبعة أثواب، بناءً على خروج بعض القطع المسنونة

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب الكفن حديث: 9، 10 وبحار الأنوار ج: 43 ص: 201 باب: ما وقع عليها (عليها السلام) من الظلم حديث: 30. وج: 81 ص: 335 باب: التكفين وآدابه حديث: 36.

ص: 145

(146)

والأولى كونها برداً يمانياً (1).

عنها، كما يظهر بملاحظة ما تقدم. وما في الرضوي من أن الكفن ثلاث قطع، وخمس، وسبع، مع تفسير الخمس بالمئزر والقميص والعمامة واللفافتين(1) ، حيث يناسبه كون السبع هي الثياب الثلاثة المذكورة وأربع لفائف.

ومن جميع ما تقدم يظهر ضعف دليل الثلاث لفائف والأربع. مضافاً إلى بعدهما بملاحظة خلوّ النصوص المعتبرة على كثرتها عن التنبيه لها. ولاسيما ما تضمن منها بيان كفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمامين الباقر والصادق (عليها السلام)، فإنهم صلوات الله عليهم أولى بمراعاة المستحبات والآداب الشرعية. وإن كان ذكر الأصحاب لذلك كافياً في الاحتمال المصحح لصرف المال. فتأمل. والله سبحانه وتعالى العالم. ومنه نستمد العون والتسديد.

(1) المذكور في كلام الأصحاب استحباب الِحبرَة، كما تقدم. ويظهر منهم أنها أخص من البرد، وهو المناسب لما في مختار الصحاح ولسان العرب والقاموس من أنها ضرب من برود اليمن، وفي مجمع البحرين: "هي كعِنَبة ثوب يصنع باليمن قطن أو كتان يقال: برد حبرة على الوصف، وبرد حبرة على الإضافة" .كما يناسبه في الجملة ما تضمن تكفين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسهل بن حنيف وأسامة بن زيد في برد أحمر حبرة مما يأتي الإشارة إليه.

نعم لا يناسب ذلك ما في خبر سلام بن سعيد المخزومي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث: أن عباد ابن كثير قال له: في كم ثوب كفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: "في ثلاثة أثواب: ثوبين صحاريين وثوب حبرة، وكان في البرد قلة"(2). لظهور ذيله في عدم كون الحبرة برداً. إلا أن يحمل على أن تعليله الاكتفاء ببرد واحد وعدم إضافة

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب الكفن حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 17.

ص: 146

برد آخر إليه.

وكيف كان فيدل على استحباب البرد قوله (عليه السلام) في موثق عمار:" والكفن يكون برداً، وإن لم يكن برداً فاجعله كله قطناً، فإن لم تجد عمامة قطن فاجعل العمامة سابرياً "(1) وفي صحيح حمران:" ثم يكفن بقميص ولفافة وبرد يجمع فيه الكفن "(2) وفي معتبر معاوية بن وهب:" يكفن الميت في خمسة أثواب: قميص لا يزر عليه وإزار وخرقة يعصب بها وسطه وبرد يلف فيه وعمامة..."(3). لكنها كما ترى ظاهرة في استحباب كون تمام الكفن الواجب أو بعضه برداً، لا زيادة البرد على الواجب.

نعم قد يدل على استحباب زيادة خصوص البرد على الكفن الواجب ما تقدم في صحيح يونس بن يعقوب في تكفين الإمام الكاظم (عليه السلام) لأبيه (عليه السلام)، حيث تضمن التكفين بأربعة ثياب أحدها برد، ومن القريب أن يكون هو الزائد الذي يكون فوق الكفن الواجب، كما يناسبه ما تقدم في الصحيحين من أن البرد لا يلف به الميت، بل يوضع عليه في قبره. وحينئذٍ فاهتمامه (عليه السلام) بشرائه بالثمن الغالي ظاهر في استحباب خصوصيته. كما يحتمله أيضاً ما تقدم من صحيحي يونس الأخيرين المتضمنين وصية الإمام الباقر (عليه السلام) بشراء برد لكفنه، بناء على ما تقدم احتماله من كونه غير الثلاثة التي تضمنها صحيح الحلبي.

لكن ظاهر ما تضمنته هذه النصوص من شراء البرد للكفن وإن كان لفّ الميت به على نحو لفه بالكفن، إلا أن اللازم تنزيله على طرحه عليه بعد وضعه في القبر جمعاً مع الصحيحين المتقدمين المتضمنين لذلك، لظهورهما في تعين البرد المعهود تشريعه زائداً على الكفن لذلك.

وحينئذٍ يبقى استحباب لفه بالبرد زائداً على الكفن الواجب محتاجاً للدليل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 13.

ص: 147

وغاية ما تضمنه صحيح حمران ومعتبر معاوية بن وهب المتقدمان كون اللفافة الأخيرة الواجبة برداً. بناءً على المشهور من أن ثياب الكفن الثلاثة هي المئزر والقميص والإزار الشامل يتعين كون اللفافة الثانية مستحبة. لكن سبق ضعفه.

وأما استحباب الحبرة فلم نعثر عاجلاً على ما يشهد به من النصوص. نعم تضمن جملة من النصوص أن أحد أثواب كفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثوب حبرة(1) ، وفي بعض النصوص أنه ثوب يمنة عبري أو أظفار(2) ، بناءً على أنه من مصاديق الحبرة، وفي آخر أنه برد أحمر حبرة(3) ، وفيه وفي غيره أن علياً (عليه السلام) كفن به أيضاً سهل بن حنيف، والحسن (عليه السلام) كفن به أسامة بن زيد(4).

لكنها لا تدل على الاستحباب، لإمكان أن يكون منشؤه أنه كان هو الميسور عند التكفين، ولو لتعارف لبسه حال الحياة، فيكون من مخلفات صاحبه بعد الموت، وأولى مصارفه عرفاً تكفينه به. فتأمل. ولو سلم ظهوره فيه فقد لايكون لخصوصية الحبرة، لإجمال الفعل من هذه الجهة، بل قد يكون بلحاظ كونه من صغريات إجادة الأكفان المندوب إليها، أو لأنه كان يصلي فيه حال حياته، كما هو ظاهر صحيح الحلبي المتقدم المتضمن وصية الإمام الباقر (عليه السلام) بتكفينه في رداء حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة(5) ، بخلاف ما لو ورد الأمر بالتكفين بالحبرة، حيث يكون ظاهراً في استحبابه بخصوصيته.

وأشكل من ذلك البناء على استحباب زيادتها على الواجب. إذ النصوص المذكورة بين ما هو ظاهر أو صريح في كونها من الواجب - مثل ما تضمن جعلها من كفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحيح الحلبي المتضمن لوصية الإمام الباقر (عليه السلام) - وما هو مجمل من هذه الجهة إن لم يكن ظاهراً في ذلك أيضاً، كما تضمن تكفين سهل بن حنيف

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 6، 11، 17.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 4، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التكفين حديث: 2، 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 10.

ص: 148

(149)

وأسامة بن زيد بها، كما نبّه لذلك غير واحد من المتأخرين، واستشكلوا في استحباب زيادتها. بل عن ابن أبي عقيل أنها من الثلاثة الواجبة.

قال في كشف اللثام بعد الكلام في ذلك: "والعمدة في استحبابها زيادة على الثلاثة عمل الأصحاب، كما في الذكرى. لكن إن اقتصر عليها استحب أو يكون اللفافة حبرة" .وما ذكره أخيراً قد يتم في البرد، لما تقدم.

وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن ما يمكن إثباته بالنصوص المعتبرة أمور.

الأول: استحباب لفافتين شاملتين للميت، ولو مع تأدي وظيفة ثوبين من ثياب الكفن الواجب بهما، بناء على ما هو الظاهر من عدم وجوب المئزر الساتر ما بين السرة والركبة، عملاً بصحيحي محمد بن مسلم وحمران(1).

الثاني: استحباب كون اللفافة الأخيرة برداً، عملاً بصحيح حمران المذكور ومعتبر معاوية بن وهب(2).

الثالث: استحباب برد يطرح على الميت في قبره خارج الكفن الواجب، عملاً بصحيح ابن سنان وأبان وصحيح عبدالله بن سنان(3).

وأما ما عدا ذلك فليس عليه إلا بعض النصوص الضعيفة سنداً، بل دلالة أيضاً، وكلمات الأصحاب التي أشرنا إلى بعضها.

بقي شيء. وهو أن كثيراً من الأصحاب ذكروا أن الحبرة تكون يمنية عبرية غير مطرزة بالذهب.

واعتبار عدم التطريز بالذهب إما أن يكون لعدم جواز التكفين بما لا يجوز الصلاة فيه، بناءً على عدم جواز الصلاة بالمذهب، أو لكونه تضييع مال غير

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 9، وباب: 14 منها حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 13.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 6 وذيله.

ص: 149

مأذون فيه.

ويظهر ضعف الأول مما تقدم في المسألة الثامنة والعشرين عند الكلام في شروط الكفن. كما يظهر ضعف الثاني مما تكرر غير مرة من أن إضاعة المال إنما تحرم بعنوان التبذير، فلا موضوع لها مع وجود غرض عقلائي لصرف المال، ويكفي فيه في المقام إطلاق ما تضمن الأمر بإجادة الأكفان والتنوق فيها مما يأتي إن شاء الله تعالى.

ومنه يظهر الحال فيما ذكره بعضهم ونسب لجماعة من اعتبار عدم التطريز بالحرير أيضاً. مضافاً إلى الإشكال في المنع عن الصلاة فيه، ليدخل في الكبرى المتقدمة لو تمت. وإلى عدم زيادة قيمة الوشي بالحرير على سائر أنواع الوشي بنحو معتد به، ليتوهم صدق تضييع المال به، بعد ما ذكره جماعة من الفقهاء واللغويين من أن حبرة ليس موضعاً أو شيئاً معلوماً، وإنما هو وَشي، حيث يكون الوشي ملازماً للحبرة أو متيقناً منها، فلا يكون بذله مع استحبابه تضييعاً قطعاً.

وأما اعتبار كون الحبرة يمانية عبرية فلم أعثر على ما يشهد به من النصوص. نعم في موثق زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: كفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وثوب يمنة عبري أو أظفار" (1) قال الشيخ: "الصحيح عندي من ظفار. وهما بلدان" .وهو - مع ما فيه من الإشكال في دلالته على استحباب الزيادة، كما تقدم في نظائره - مردد بين البلدين، غاية الأمر أن كليهما في اليمن.

هذا وقد اختلفت كلمات اللغويين في شرح العناوين المتقدمة من البرد والحبرة والعبري والنمط. وحيث لا يشيع استعمالها في عرفنا يصعب الخروج فيها بمحصل، فلا مجال لإطالة الكلام في ذلك. ولاسيمامع قرب عدم تيسرتحصيل مصاديقها أو مصاديق بعضها في زماننا.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 4.

ص: 150

(151)

وأن يجعل (1) القطن (2) أو نحوه عند تعذره (3) بين رجليه يستر به العورتان (4)،

(1) كما ذكره في الجملة جمع من الأصحاب. ويقتضيه جملة من النصوص، كقول الصادق (عليه السلام) في صحيح عبدالله بن سنان بعد أن سأله عن الخرقة: "لا، إنها لا تعد شيئاً، إنما تصنع لتضم ما هناك لئلا يخرج منه شيء، وما يصنع من القطن أفضل منها"(1) ، وفي صحيح الكاهلي:" ثم أزّره بالخرقة، تحته القطن تذفره به إذفاراً قطناً كثيراً "(2) وفي موثق عمار:" ثم تكفنه تبدأ وتجعل على مقعدته شيئاً من القطن وذريرة... وقال: تحتاج المرأة من القطن لقبلها قدر نصف من... "(3) وقولهم (عليهم السلام) في مرسل يونس:" واعمد إلى قطن فذر عليه شيئاً من حنوط [وضعه] فضعه على فرجه قبل ودبر [قبلاً ودبراً]، واحش القطن في دبره لئلا يخرج منه شيء "(4) وفي المرفوع الذي رواه سهل في تكفين المرأة:" ويصنع لها القطن أكثر مما يصنع للرجال، ويحشى القبل والدبر بالقطن والحنوط"(5).

(2) في التذكرة وعن نهاية الأحكام تقييده بمنزوع الحب. وكأنه لتعارف نزعه في مثل هذه الاستعمالات تجنباً لتأثير في الجسم. ولعله لذاقال في الجواهر: "ولا بأس به".

(3) كأنه لفهم عدم خصوصية القطن. ولاسيما بعد ما تقدم من التعليل في النصوص. ولذا كان ظاهر الجواهر التعدي لغير القطن مطلقاً ولو مع وجوده. فتأمل.

(4) كما ذكره الشيخان وجماعة، لأكثر النصوص المتقدمة. واقتصر في السرائر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 16.

ص: 151

(152)

ويوضع عليه شيء من الحنوط (1)، وأن يحشى دبره (2)

على الدبر، وهو الظاهر من التعبير بجعله بين الإليتين في الشرايع والنافع والتذكرة والقواعد وغيرها. وكأنه للاقتصار عليه في صدر موثق عمار المشعر بأهميته. لكن تقدم التصريح في ذيله بالحاجة له في قبل المرأة. ويأتي عند الكلام في حشو الدبر به ما له نفع في المقام.

(1) كما تقدم في مرسل يونس. وفي كشف اللثام أن الأصحاب ذكروا الذريرة. ويقتضيه موثق عمار المتقدم. وبه يخرج عن ظاهر صحيح أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ولا تجمروا الأكفان ولا تمسحوا موتاكم بالطيب إلا بالكافور، فإن الميت بمنزلة المحرم" (1) فإن مقتضى العموم فيه عدم التطييب بغير الكافور. كما هو مقتضى عموم التعليل فيه أيضاً، وإن تقدم الإشكال في العموم المذكور عند الكلام في شروط الكفن في أول المسألة الثامنة والعشرين.

(2) إجماعاً، كما في الخلاف. لما تقدم في مرسل يونس والمرفوع الذي رواه سهل، على ما يأتي الكلام فيه. واعلم أنه قد اختلفت كلمات الأصحاب في المقام، فظاهر جماعة استحباب كل من حشو الدبر بالقطن ووضع شيء منه بين الإليتين عليه، كما في المبسوط والنهاية والوسيلة والشرايع والقواعد وغيرها. واقتصر بعضهم على الأول، كما في الفقيه والاقتصاد والخلاف والمعتبر والمختلف وعن أبي عقيل وغيره. كما اقتصر بعضهم على الثاني، كما في المقنعة والمراسم والسرائر ومحكي مختصر المصباح.

وكأن وجه الأول اشتمال النصوص المتقدمة على الأمرين، ولاسيما مع الجمع بينهما في مرسل يونس، حيث لا مجال معه لحمل أحد الأمرين على الآخر وتنزيله عليه.

لكن منع من الحشو في السرائر ومحكي نهاية الأحكام، معللاً في الأول بأنه يجنب الميت ما يجنبه الحي. وفي التذكرة: "وهو الأحوط [الأجود] عندي، احترام

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 152

للميت، لما في الحشو من تناول حرمته. نعم إن خاف خروج شيء منه حشاه في دبره" .وقد سبقه في التقييد المذكور في الشرايع وجرى عليه في القواعد والمنتهى والدروس وغيرها. ووجه في المنتهى حشو الدبر حينئذٍ - بعد الاحتجاج للمنع بما سبق - بأن في تركه تناولاً بحرمته، وأيده بمرسل يونس.

وفي الجواهر: "الظاهرأنه مراد كل من أطلق من دون اشتراط ذلك، كما لا يخفى على من لاحظ عباراتهم، إذ فيها شواهد عليه" .وكأنه لتعليله في كلامهم بمنع خروج شيء منه، إذ لا موضوع له مع العلم بعدم خروج شيء بدونه. وقد عرض بذلك بمن جعل في المسألة قولين الإطلاق والتقييد.

والذي ينبغي أن يقال: إن أريد بخوف خروج شيء مجرد الاحتمال فهو متجه في محل كلام الأصحاب ومرسل يونس، لاشتماهما على التعليل المذكور. وإن أريد به الاحتمال المستند لما يثيره في خصوص بعض الأموات - كما لعله ظاهر الخوف - فهو خلاف ظاهر من أطلق، كظاهر إطلاق المرسل. والتعليل المذكور لا يقتضي التقييد بذلك.

وأما الوجه المتقدم من السرائر والتذكرة فهو - لو تم في نفسه - لا ينهض بالخروج عن ظاهر المرسل بعد حجيته في نفسه، لعدم قدح إرساله بعد رواية إبراهيم بن هاشم له عن رجاله عن يونس، لظهور ذلك في تعدد رواته عن يونس واستفاضته عنه، ولاسيما مع اعتضاده بالمرفوع.

اللهم إلا أن يحمل الحشو فيهما على إحكام سدّ المخرج بالقطن للمبالغة في إيصاله لظاهره وضغطه عليه، كما يناسبه ما عن القاضي من أنه يسد دبره بالقطن سداً جيداً. وإلا فمن البعيد جداً إرادة ظاهرهما من إدخال القطن وحشوه في الباطن، لما فيه من عناية منافية للرفق، وبشاعة لا تناسب كرامة الميت واحترامه جداً. وإن أمكن البناء على جوازه في بعض الحالات النادرة، لمنع خروج ما يعلم أو يطمأن بخروجه لولاه، دفعاً لأشد المحذورين، لا لأجل المرفوع المرسل. فتأمل.

ص: 153

ومنخراه (1) وقبل المرأة (2) إذا خيف خروج شيء منها. وإجادة الكفن (3)، وأن يكون من القطن، وأن يكون أبيض (4)

(1) لما في صحيح الكاهلي: "وإياك أن تحشو في مسامعه شيئاً. فإن خفت أن يظهرمن المنخرين شيء فلا عليك أن تصير ثم قطناً. وإن لم تخف فلا تجعل فيه شيئاً"(1). وبه يخرج عن إطلاق قولهم (عليهم السلام) في مرسل يونس:" ولا يجعل في منخريه ولا في بصره ولا في مسامعه ولا على وجهه قطناً ولا كافوراً"(2).

(2) كما في الجامع. وفي الدروس: "وليكثر القطن في قبل المرأة إلى نصف منّ" .وصرح بالحشو فيه بالمقدار المذكور في جامع المقاصد ومحكي الذكرى. وكأنه لما تقدم في موثق عمار من أنها تحتاج من القطن لقبلها قدر نصف منّ. لكن لا ظهور له في الحشوة، بل هو لا يناسب المقدار المذكور، وإنما يناسبه الوضع عليه مقدمة للضغط عليه بشد الخرقة. نعم تضمن مرفوع سهل حشو قبلها ودبرها من دون تعرض لمقدار. وهو - مع ضعفه - محتمل للحمل على ما سبق في حشو الدبر، لأنهما على نهج واحد.

(3) كما في المنتهى وغيره. وقد تضمنته جملة من النصوص. ففي صحيح ابن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: تنوقوا في الأكفان، فإنهم يبعثون بها"(3) ، ونحوه صحيح أبي خديجة(4). وفي مرسل ابن أبي عمير عنه (عليه السلام):" أجيدوا أكفان موتاكم، فإنها زينتهم"(5) ، ونحوه مرفوع أحمد بن محمد بن عيسى(6). وقد تقدم في صحيح يونس بن يعقوب في وصية الإمام الباقر (عليه السلام) وتكفين الإمام الصادق(7) (عليه السلام) ما يشهد به.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3.

(3و4و5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التكفين حديث: 2، 4، 3، 6.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التكفين حديث: 1، 5، 7.

(4) فقد ذكر الأصحاب (رضي الله عنهم) استحباب كون الكفن قطناً أبيض، وادعى

ص: 154

الإجماع عليه في الخلاف والغنية والتذكرة ومحكي نهاية الأحكام وظاهر المعتبر. بل قد يظهر من الخلاف وجوب ذلك، وإن لم يبعد حمله على الاستحباب، على ما تقدم في ذيل الكلام في شروط الكفن الاختيارية من المسألة الثامنة والعشرين.

وكيف كان فيشهد لاستحباب كونه قطناً صحيح أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: الكتان كان لبني إسرائيل يكفنون به، والقطن لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)"(1). ولاستحباب كونه أبيض موثق القداح عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): البسوا البياض، فإنه أطيب وأطهر، وكفنوا فيه موتاكم "وروي أيضاً عن مثنى الحناط عنه(2) (عليه السلام)، وفي خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس من لباسكم شيء أحسن من البياض، فالبسوه، وكفنوا فيه موتاكم"(3). وروي مرسلاً ومسنداً بطرق ضعيفة في كتب الفقه ومستدرك الوسائل ما يشهد بالأمرين غير ما تقدم.

نعم تقدم في أول الكلام في استحباب البرد قوله (عليه السلام) في موثق عمار: "والكفن يكون برداً. وإن لم يكن برداً فاجعله كله قطناً"(4). ولا يبعد حمله على أنه أفضل ثياب القطن، لما يظهر مما تقدم - عند الكلام في استحباب الحبَرة - من مجمع البحرين من أن البرد قد يكون قطناً.

هذا وقد استثني من استحباب البياض الحبرة في المدارك والوسائل وكشف اللثام والجواهر. وكأنه لما تقدم من تكفين أمير المؤمنين (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسهل بن حنيف وتكفين الحسن (عليه السلام) أسامة بن زيد ببرد أحمر حبرة(5). لكن تقدم عند الكلام في استحباب زيادة الحبرة الإشكال في دلالته على استحباب ذلك بخصوصه فضل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التكفين حديث: 1 وذيله.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التكفين حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 3. وباب: 13 منها حديث: 2، 3.

ص: 155

وأن يكون من خالص المال وطهوره (1)

عن أن يرفع به اليد عن إطلاق ما تضمن استحباب كون الكفن أبيض.

هذا وظاهر النصوص المتقدمة كون كل من القطن والأبيض مستحباً تتأدى وظيفته به ولو مع عدم الآخر، لإطلاق دليل كل منهما الشامل لصورة فقد الآخر. وهو الظاهر من المدارك وكشف اللثام.

لكن في الجواهر:" قد يدفع ذلك بأن المتجه في مثله بعد حصول شرط حمل المطلق على المقيد تقييد كل منهما بالآخر، فيحصل المطلوب من أن المستحب القطن الأبيض. سيما بعد ما عرفت من معقد الإجماع. وحمله على إرادة استحباب كل منهما من دون تقييد - كما عساه يظهر من بعضهم - خلاف الظاهر. فتأمل جيداً".

وهو كما ترى، لما تقرر في محله من أن شرط حمل المطلق على المقيد التنافي بينهما، وهو غير حاصل في المستحبات، على ما حقق في محله من الأصول. ومعاقد الإجماعات المتقدمة وإن كانت قد تظهر بدواً في التقييد، إلا أن حملها على استحباب كل منهما استقلالاً غير بعيد. ولاسيما مع استدلالهم بالنصوص المتقدمة الظاهرة فيه. على أن الاقتصار فيها على بيان استحباب المقيد لا ينافي استحباب المطلق لينهض الإجماع بالخروج عن ظاهر النصوص لو كان حجة في نفسه.

(1) ففي مرسل الصدوق:" روي: أن سندي [السندي. فقيه] بن شاهك قال لأبي الحسن موسى ين جعفر (عليه السلام): أحب أن تدعني [على أن. فقيه] أكفنك. فقال: إنا أهل بيت حج صرورتنا ومهور نسائنا وأكفاننا من طهور أموالنا"(1). ولعله يشير لما روي مسنداً في الإرشاد(2) ومقاتل الطالبيين(3) في حديث طويل يتضمن ذلك. وقد يؤيده ما عن أبي ذر من أنه قال حين حضرته الوفاة لمن حضر: "أنشدكم بالله أن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) الإرشاد ص: 302 طبع النجف الأشرف سنة 1381 ه -.

(3) مقاتل الطالبيين ص: 336 طبع النجف الأشرف سنة 1385 ه -.

ص: 156

وأن يكون ثوباً قد أحرم أو صلى فيه (1)،

يكفنني منكم من كان أميراً أو بريداً أو نقيياً"(1).

مضافاً إلى أنه إن كان المراد من طهور المال المال المكتسب من المكاسب غير المكروهة فهو مقتضى فرض كراهة تلك المكاسب. وإن كان هو الخالص من الشبهات وإن كانت غير منجزة فهو مقتضى حسن الاحتياط لإحراز الواقع، الذي لا ينافيه حلّ التصرف ظاهراً.

نعم قد يظهر من بعض النصوص رجحان ترك الاحتياط المذكور ولو بلحاظ بعض العناوين المزاحمة، على ما ذكرناه في مبحث البراءة من الأصول. ولا يبعد كون النص المتقدم أقوى منها ولو في خصوص المورد. فلاحظ.

(1) فقد دلّ غير واحد من النصوص على استحباب التكفين في الثياب التي صلى فيها، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: إذا أردت أن تكفنه فإن استطعت أن يكون في كفنه ثوب كان يصلي فيه نظيف فافعل، فإن ذلك يستحب أن يكفن فيما كان يصلي فيه "(2) وحديث سهل بن اليسع:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الثياب التي يصلي فيها الرجل ويصوم أيكفن فيها؟ قال: أحب ذلك الكفن... "(3) وغيرهما.

ويدلّ على استحباب التكفين في ثياب إحرامه ما تقدم في صحيح يونس بن يعقوب من تكفين الإمام الصادق (عليه السلام) في ثوبين شوطيين كان يحرم فيهما(4). ودعوى: أن مجرد الفعل لا يدل على الاستحباب، نظير ما تقدم في الحبرة. مدفوعة بأن حيثية الإحرام لما كانت مناسبة ارتكازاً للفضيلة في الكفن، فالتنبيه عليها في مقام حكاية الفعل ظاهر أومشعر بوجه قوي في الاستحباب.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 27 من أبواب الكفن حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب التكفين حديث: 1.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 5، 15.

ص: 157

نعم قد يتجه ذلك في صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: كان ثوبا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اللذان أحرم فيهما يمانيين عبري وأظفار، وفيهما كفن"(1) ، لسوقه بالأصل لبيان نوع ثوبي إحرامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا لبيان صفة ثياب كفنه، وإن بيّن بعد ذلك تبعاً. غاية الأمر أنه قد يصلح مؤيداً لما يستفاد من صحيح يونس. كما يؤيده أيضاً مرتكزات المتشرعة في أمثال ذلك.

ومما تقدم يظهر استحباب كل من الثوب الذي صلى فيه والثوب الذي أحرم فيه، فيكون جمعهما أفضل، لا الاكتفاء بأحدهما، كما هو مقتضى الجمود على عبارة المتن. بل مقتضى حديث سهل - الذي تقدم عند الكلام في وجوب القميص في الكفن تقريب اعتبار سنده - استحباب التكفين في الثوب الذي صام فيه أيضاً، لأن الظاهر من فرض الصلاة والصيام فيه الانحلال لا الارتباطية.

نعم الظاهر ابتناء استحباب الجميع على التداخل، فيجزي عنها ثوب واحدحصل فيه جميعها. للإطلاق في دليل الصوم والصلاة، ولمناسبة الحكم والموضوع في الإحرام الذي لا إطلاق لدليله، وإنما استفيد منه الحكم بضميمة فهم عدم الخصوصية لمورده. بل من المعلوم غلبة الصلاة في ثياب الإحرام، لطول أمده.

كما أن الظاهر تأكد الاستحباب تبعاً لكثرة العبادة الحاصلة من الشخص، لقضاء المناسبة الارتكازية به. كقضائها بتأكده تبعاً لأهمية العبادة الواقعة به، كما يناسبه أيضاً ما تقدم في صحيح الحلبي من وصية الإمام الباقر (عليه السلام) بتكفينه في رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة(2).

هذا ومقتضى الجمود على عبارة المتن استحباب كون الكفن كله ثوباً قد أحرم أو صلى فيه. لكن يبعد إرادته بلحاظ ما سبق من النصوص.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 10.

ص: 158

وأن يلقى عليه الكافور والذريرة (1) وأن يخاط بخيوطه إذا احتاج إلى

(1) ففي المعتبر والتذكرة دعوى الإجماع على استحباب تطييب الكفن بالذريرة، وإن اختلفت عبارات الأصحاب بين التصريح بالعموم لجمع الكفن - كما في كشف اللثام - وإطلاق نثرها عليه، والاقتصار على القميص والحبرة واللفافة، وعلى الأخيرين. بل في المنتهى أنه لا يستحب نثرها على اللفافة الظاهرة.

ويشهد للأول ما في موثق عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "ثم تبدأ فتبسط اللفافة طولاً، ثم تذر عليها الذريرة، ثم الإزار... ويجعل على كل ثوب شيئاً من الكافور، وعلى كفنه ذريرة..." (1) وموثق سماعة عنه (عليه السلام): "قال: إذا كفنت الميت فذر على كل ثوب شيئاً من ذريرة وكافور"(2). وقد تقدم في ذرها على القطن ويأتي إن شاء الله تعالى في كراهة الكفن بغيرها وغير الكافور ما ينفع في المقام.

نعم لا يبعد حمل الموثقين على نثر الذريرة على كل ثوب من الجهة التي يجعل فيها الميت، بحيث تكون الذريرة في باطنه مع الميت لافي ظاهره بعد لف الميت به، لارتكاز أن الغرض من وضعه على كل ثوب ثوب هو تطييب الميت به، وهو المناسب لما تضمنه موثق عمار من نثره على اللفافة عند بسطها قبل لف الميت بها. ولعله هو المراد مما تقدم من المنتهى، لأنه جعله في مساق نثرها على الجنازة والنعش.

ثم إنه مما تقدم في الموثقين يظهر الوجه في استحباب نثر الكافور أيضاً، وإن لم أعثر عاجلاً على من تعرض له عدا السيد الطباطبائي في العروة الوثقى. ثم قال:" ولا يبعد استحباب التبرك بتربة قبر الحسين (عليه السلام) ومسحه بالضريح المقدس أو بضرائح سائر الأئمة (عليهم السلام) بعد غسله بماء الفرات أو بماء زمزم".

هذا وقد اختلفت كلمات الفقهاء واللغويين في تحديد الذريرة، بنحو لا يتسنى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 159

الخياطة (1)، وأن يكتب على حاشية الكفن (2):

لنا عاجلاً الخروج منها بمحصل بعد عدم شيوع إطلاقها في عرفنا، وقال في العروة الوثقى:" وهي - على ما قيل - حبّ يشبه حب الحنطة له ريح طيب إذا دق. وتسمى الآن قمحة. ولعلها كانت تسمى بالذريرة سابقاً ".وهو كما ترى لا مجال للتعويل عليه بعدعدم ثبوت إطلاق الذريرة عليه سابقاً.

(1) كما في المبسوط وغيره، ونسبه في المدارك للشيخ وأتباعه، وفي الروضة أنه المشهور. وفي الجواهر:" بلا خلاف أجده بين الأصحاب، بل نسبه في الذكرى وجامع المقاصد إلى الشيخ وإليهم مشعرين بدعوى الإجماع عليه. ولعله الحجة. مع ما فيه من التجنب عما لم يبلغ مبلغه في حله وطهره. وإلا فلم نقف على ما يدل عليه في شيء من الأدلة ".وهو كما ترى. ولاسيما مع غلبة عدم إحكام الخياطة بالخيوط المذكورة لضعفها. كما قد ينافي إناقة الكفن التي تقدم الندب إليها. فلاحظ.

(2) كما في خبر أبي كهمس:" حضرت موت إسماعيل وأبو عبدالله (عليه السلام) جالس عنده... فلما فرغ من أمره دعا بكفنه، فكتب في حاشية الكفن: إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله "(1) ونحوه خبره الآخر(2).

وفي البحار عن مصباح الأنوار عن عبدالله بن محمد بن عقيل قال:" لما حضرت فاطمة الوفاة دعت بماء فاغتسلت، ثم دعت بطيب فتحنطت به، ثم دعت بأثواب غلاظ خشنة فتلففت بها، ثم قالت: إذا أنا مت فادفنوني كما أنا ولا تغسلوني. فقلت: هل شهد معك ذلك أحد؟ قال: نعم شهد كثير بن عباس. وكتب في أطراف كفنها كثير بن عباس: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)"(3). قال في الجواهر: "مع ضميمة علم أمير المؤمنين والحسنين (عليهم السلام) بذلك".

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب التكفين حديث: 1، 2.

(3) بحار الأنوار باب التكفين وآدابه حديث: 36. ج: 81 ص: 335 الطبعة الجديدة.

ص: 160

لكن اشتمال الحديث على الوصية بعدم تغسيلها (عليها السلام) بعد الموت، وعلى أن الكاتب كثير بن عباس الذي قيل إنه ولد قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأشهر، وأن الراوي بالمشاهدة عبدالله بن محمد بن عقيل مع أنه لم يعرف لعقيل حفيد كبير في ذلك الوقت، موجب للريب فيه جداً، وعدم نهوضه حتى بالتأييد.

هذا وفي مرسلة الاحتجاج عن محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه: "أنه كتب إليه: روي لنا عن الصادق (عليه السلام) أنه كتب على إزار إسماعيل ابنه: إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله، فهل يجوز لنا أن نكتب مثل ذلك بطين القبر أو غيره، فأجاب: يجوز ذلك، والحمد لله"(1).

ومن القريب حمل ما تضمنته الرواية عن الصادق (عليه السلام) على مضمون خبري أبي كهمس، ويكون اختلافهما بسبب النقل بالمعنى، حيث لا يبعد انصراف الكتابة على حاشية الكفن في الخبرين إلى خصوص الإزار الشامل بعد ظهور الكل في وحدة الكتابة وعدم تعددها، لأنه الأبعد عن التعرض للقذر المستفاد الاهتمام به مما تضمنه الخبران من الكتابة على حاشية الكفن.

لكن لم أعثر على من عبر بذلك من الأصحاب، بل هم بعد اختلافهم في المقدار المكتوب - بين من أطلق الكتابة - كما في الخلاف - أو على الكفن - كما عن ابن الجنيد - أوعلى الأكفان مقتصراً عليها - كما في الاقتصاد والسرائر وغيرهما - أو مضيفاً إليها الجريدتين فقط - كما في المختلف أنه المشهور - أومع الحبرة والعمامة - كما عن الجامع - ومن صرح بالتعميم للأكفان كلها - كما عن المصباح ومختصره - ومن نص على الحبرة أو ما يقوم مقامها والقميص والجريدتين - كما في المقنعة - ومن أبدل الحبرة منها بالإزار - كما في الغنية - ومن جمع بينهما وبين القميص والجريدتين - كما في الهداية والشرايع والقواعد وجملة كثيرة من الكتب - ومن أبدل الجريدة بالعمامة - كما في النهاية وعن التحرير - ومن ضم العمامة وحدها - كما في المبسوط - أو مع اللفافة - كم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب التكفين حديث: 3.

ص: 161

فلان بن فلان (1) يشهد أن لا إله إلا الله (2) وحده لا شريك له (3)، وأن محمداً رسول الله (4)، ثم يذكر الأئمة (عليهم السلام)

في الدروس - إلى غير ذلك مما قد يوجد في كلماتهم. وفي المسالك:" والكل جائز. بل لو كتب على جميع أقطاعه فلا بأس، لثبوت أصل الشرعية، وليس في زيادتها إلا زيادة الخير إن شاء الله".

هذا ولا إشكال في أنه لا مجال للبناء على استحباب ذلك شرعاً بعد قصور النصوص السابقة عنه حتى لو كانت في نفسها حجة على إثبات مضمونها.

نعم لا بأس بالإتيان بكل ما يحتمل مطلوبيته شرعاً أو انتفاع الميت به بعد ثبوت نظيره. إلا أن يلزم منه توهين للمضمون المكتوب، كما لعله كذلك في الخرقة والمئزر وبعض مواضع القطع الأخرى المعرضة للنجاسة أو النازلة محاذية لأسافل الميت، إذ لو لم يثبت حرمة ذلك فلا أقل من منافاته للأولى بحيث لا تصلح جهة الرجحان المحتملة لجعل فعله أولى. ويأتي ما له نفع في المقام.

(1) كما في المراسم، ومفتاح الكرامة:" ولم أجده لغيره ".والمعروف الاقتصار على كتابة اسمه، كما تضمنته النصوص المتقدمة.

(2) وعليه اقتصر في الفقيه والهداية والمقنعة والمراسم والنافع، وحكي عن الصدوق الأول والرسالة الغرية للمفيد. ويقتضيه خبر أبي كهمس ومرسلة الاحتجاج المتقدمة.

(3) كما في المبسوط والنهاية والعروة الوثقى. ولم أعثر عليه عاجلاً في غيرها، كما لم ينقل عنه، وإنما اقتصروا على أصل الشهادة الأولى. ولا بأس به برجاء المطلوبية أوانتفاع الميت بعد عدم النص به، نظير ما تقدم.

(4) قد اقتصر على الشهادتين في السرائر والدروس وحكي عن ابن الجنيد. ولا يشهد له عد ما تقدم عن مصباح الأنوار في كفن الصديقة الزهراء (عليها السلام) مما عرفت

ص: 162

واحداً بعد واحد (1)، وأنهم أولياء الله وأوصياء رسوله (2)،

حاله. ومن ثم لا مجال للإتيان به إلا برجاء المطلوبية أو انتفاع الميت، نظير ما تقدم. وربما يأتي ما ينفع في المقام.

(1) كما ذكره جمهور الأصحاب، ونسبه لهم غير واحد، وفي المختلف أنه المشهور. ولم يعرف عمن قبل الشيخ، وإنما ذكره هو واشتهر بين من بعده، وفي مفتاح الكرامة أنه لم يتركه ممن بعده إلا الشاذ. بل في الخلاف دعوى إجماع الفرقة وعملهم عليه، بنحو يظهر في معروفيته قبله، كما قد يستظهر من الغنية دعوى الإجماع عليه وعلى ما بعده.

وقد يستأنس له بما رواه الشيخ في الغيبة بسنده عن أبي الحسن علي بن أحمد الدلال القمي، قال:" دخلت على أبي جعفر محمد بن عثمان (رض الله عنه) يوماً لأسلم عليه فوجدته وبين يديه ساجة ونقاش ينقش عليها ويكتب آياً من القرآن وأسماء الأئمة (عليهم السلام) على حواشيها، فقلت له: يا سيدي ما هذه الساجة؟ فقال لي: هذه لقبري تكون فيه أوضع عليها، أو قال: أسند إليها... "(1) وذكر للحديث سنداً آخر. لكن ذلك كله لايبلغ مرتبة الحجية على الاستحباب الشرعي، بل لا محيص من البناء على عدم جواز الاتيان به إلا برجاء المطلوبية أو انتفاع الميت به، الذي يقوى احتماله بملاحظة بعض الحوادث المنقولة التي تظهر للمتتبع. فلاحظ.

هذا وفي الشرايع في بيان مستحبات الكفن:" وتكتب... اسمه وأنه يشهد الشهادتين. وإن ذكر الأئمة (عليهم السلام) وعددهم إلى آخرهم كان حسناً ".وظاهره الفرق بين الشهادتين وذكر الأئمة (عليهم السلام). لكن المتجه بالنظر للنص هو الفرق بين الشهادة الأولى وما عداها، لا بين الشهادتين وما عداهما. إلا أن يكون نظره لما تقدم من البحار في كفن الصديقة (عليها السلام). وإن كان بعيداً جداً.

(2) أو نحو ذلك مما يرجع للإقرار بمنصبهم الإلهي. كما صرح بذلك في

********

(1) كتاب الغيبة ص: 132 طبعة النجف الأشرف.

ص: 163

وأن البعث والثواب والعقاب حق (1).

المبسوط وجملة كثيرة من الكتب، وهو ظاهر ذكر الإقرار بهم في معقد إجماع الخلاف. كما قد يحمل عليه كلام جماعة ممن اقتصر على التعبير بذكرهم أو بكتابة أسمائهم (عليهم السلام) لمناسبته لسياق ذكر الشهادتين. وإن أمكن الجمود عليه بحمله على مجرد التبرك بكتابة أسمائهم، نظير ما تقدم في حديث الساجة التي أعدها العمري لنفسه.

(1) كما في الغنية حيث أضاف الإقرار بها للإقرار بالشهادتين والأئمة (عليهم السلام). بل ربما يستظهر من كلامه دعوى الإجماع على ذلك. وقد يستدل لاستحبابه واستحباب ما قبله بالنصوص المتقدمة بدعوى فهم عدم الخصوصية للشهادة الأولى عرفاً، وأن ذكرها لأنها الاعتقاد الحق الذي عليه يحيى المؤمن ويموت ويبعث، وبه نجاته من الهلكة.

لكنه لا يخلو عن إشكال. بل هو لا يناسب الاقتصار في مقام العمل على الشهادة الأولى، وإهمال ما عداها حتى الشهادة الثانية التي لا مجال لاحتمال التقية في تركها، حيث يناسب ذلك خصوصية الشهادة الأولى وأهميتها، كما يناسبه أيضاً ما قد يستفاد من جملة من البيانات الشرعية من أنها الأساس المطلوب بالأصل وأن مطلوبية الإقرار ببقية الأمور لأنها متممة لها وشروط في قبولها. ومن هنا لامجال للإتيان بما ذكروا بسائر الاعتقادات الحقة إلا برجاء المطلوبية وانتفاع الميت، نظير ما تقدم.

لكن عن الذكرى بعد التعرض لكتابة الشهادتين وأسماء الأئمة (عليهم السلام):" ولم ينقل استحباب كتابة شيء على الكفن سوى ذلك، فيمكن أن يقال بجوازه للأصل، وبالمنع لأنه تصرف لم يعلم إباحة الشارع له ".بل في جامع المقاصد:" ولم يذكر الأصحاب كتبة شيء غير ما ذكر، ولم ينقل شيء يعتد به يدل على الزيادة وبإعراض الأصحاب عن التعرض للزيادة يشعر بعدم تجويزه. مع أن هذا الباب لا مجال للرأي فيه، فيمكن المنع...".

ص: 164

والكل كما ترى. فإن عدم العلم بإباحة الشارع التصرف المذكور إن اقتضى المنع بلحاظ أصالة الاحتياط، فقد تقرر في محله أن الأصل البراءة. وإن اقتضاه بلحاظ عدم ملكية المتصرف للكفن فالمتجه المنع حتى من كتابة الشهادة الأولى التي هي المتيقن من الأدلة، لأن استحباب كتابتها لا تقتضي عدم اعتبار رضا المالك، كما هو الحال في سائر مستحبات الكفن. فالكلام لابد أن يكون في فرض عدم منافاة الكتابة للسلطنة، لكون الكتابة بإذن مالك الكفن أو وليه أو لكونه هو الكاتب.

كما أن عدم تعرض الأصحاب للزيادة لا يشعر بعدم تجويزهم لها، كما لا يشعر كلام من اقتصر على الشهادة الأولى أو الشهادتين بعدم تجويزه الزيادة عليها. بل قد يشعر تعديهم عن مورد النص في المكتوب عليه والمكتوب بمفروغيتهم عن ابتناء الحال في المقام على السعة والجواز، كما هو مقتضى الأصل الذي لا يكون الجري عليه من إعمال الرأي الممنوع منه، بل المنع منه من ذلك. بل ما ذكره في جامع المقاصد هنا لا يناسب ما ذكره هو وغيره من أنه لا بأس بالتوسع في المكتوب عليه، لثبوت أصل الشرعية، وليس في زيادتها إلا زيادة الخير.

وأما خلوّ النصوص عن الزيادة فهو لا يقتضي المنع عنها، بل غاية ما يقتضي الظن بعدم استحبابها شرعاً، ولا يمنع من احتمال انتفاع الميت بها. بل قد يكون عدم البيان لعدم مناسبة الظروف في عصر صدور النصوص له، حيث قد يتوجه الشيعة لذلك بنحو يظهر منهم ويصير سبباً لتشنيع أعدائهم المتربصين بهم الدوائر عليهم.

وليس عدم تعرض النصوص لكتابة الشهادة الأولى على الكفن إلى موت اسماعيل مع مشروعيتها وعدم المحذور الظاهر في بيانها بأقل غرابة من عدم تعرضها لكتابة ما زاد عليها في تمام عصر الحضور لو كانت مشروعة، كما لعله ظاهر. ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا آنفاً من جواز الإتيان بالزيادة برجاء المطلوبية وانتفاع الميت.

هذا وقد ذكر جماعة استحباب كون الكتابة بتربة الحسين (عليه السلام). ويقتضيه في الجملة ما سبق في مرسلة الاحتجاج. وهو المناسب لما هو المعهود من كون التربة

ص: 165

وأن يكتب على الكفن دعاء الجوشن الصغير (1)

الشريفة من مظان التبرك، حيث يحتمل معه انتفاع الميت بها في المقام.

نعم الظاهر جواز الكتابة بكل ما يمكن الكتابة به من دون ظهور دليل على الكراهة فضلاً عن الحرمة في شيء منها.

وما ذكره بعضهم من تعين الماء والطين دون الأصباغ. غير ظاهر. ولاسيما مع عدم تعارف الكتابة بالماء والطين، فعدم التنبيه عليه في خبري أبي كهمس موجب للاطمئنان بعدم وقوع الكتابة به.

وأما ما ذكره غير واحد من النهي عن الكتابة بالسواد، بل ظاهر بعضهم حرمته، فكأنه يبتني على ما يأتي من مرجوحية كون الكفن أسود. لكن في شموله لمثل الكتابة عليه بالسواد إشكال، بل منع.

وأما استحباب كون الكفن أبيض فلو تم منافاة الكتابة بما له لون لم يفرق فيه بين الطين وغيره من الألوان. ولعله لذا رجح في المسالك وغيره الكتابة بالطين الأبيض.

لكن عرفت عدم تعارف الكتابة بالطين فضلاً عن الأبيض منه. فلامجال لحمل النص على خصوصه. ومن ثم يكون النص المذكور مخرجاً عن إطلاق دليل استحباب كون الكفن أبيض.

وأشكل من ذلك ما ذكره بعضهم من الكتابة بالاصبع، الظاهر منها ما لا يوجب التأثير، على اختلاف عباراتهم في إطلاق ذلك، والتخيير بينه وبين التربة، وتقييده بتعذر الكتابة بالتربة.

إذ فيه: أن ظاهر الأدلة اعتبار كون الكتابة بنحو يؤثر في الكفن، لأن ذلك إن لم يكن مأخوذاً في مفهوم الكتابة فلا أقل من كونه المنصرف منها. فلاحظ.

(1) كما في العروة الوثقى. ولعله لما عن ابن طاووس في مهج الدعوات من أنه

ص: 166

والكبير (1)

بعد أن ذكر الدعاء المذكور عقبه بالرواية الآتية في الجوشن الكبير. وقد استغربه في البحار، ثم قال: "ظهر لي من بعض القرائن أن هذا ليس من السيد قدس الله روحه، وليس هذا إلا شرح الجوشن الكبير. وكان كتب الشيخ أبو طالب بن رجب هذا الشرح من كتب جده السعيد تقي الدين الحسن بن داود، لمناسبة لفظة الجوشن، واشتراكهما في اللقب، في حاشية الكتاب، فأدخله النساخ في المتن"(1).

ويؤيده ما في المستند، قال بعد نسبة ذلك لكتاب المهج:" ولكني ما رأيت شيئاً في شرح الجوشن الصغير في نسخة المهج التي كانت عندي، وكانت مصححة جداً... ولا مناسبة كثيرة لهذا الدعاء مع المقام أيضاً، فعدم استحبابه بخصوصه أظهر".

لكن في مستدرك الوسائل بعد نقل ما تقدم من البحار:" قلت: الموجود فيما حضرنا من نسخ المهج بعد ذكر الجوشن الصغير ما لفظه: يقول كاتبه الفقير إلى الله تعالى أبو طالب بن رجب: وجدت دعاء الجوشن وخبره وفضله في كتاب جدي السعيد تقي الدين الحسن بن داود (رحمه الله) يتضمن مهج الدعوات وغيره بغير هذه الرواية والخبر متقدم على الدعاء المذكور فأحببت إثباته في هذا المكان، ليعلم فضل الدعاء المذكور. وهذا صفة ما وجدته بعينه: دعاء الجوشن وفضله... الخ. وصريحه أن الجوشن الصغير كان مكتوباً في الموضع الذي أشار إليه بعد هذا الشرح، فلا اشتباه للناسخ، ولا للشيخ المذكور، وإن كان ولابد فهو صاحب الكتاب المذكور. ولا أظن المجلسي (رحمه الله) وجد قرينة غير ما ذكرنا. فالاحتياط يقتضي التوسل بكليهما"(2).

(1) لما في البحار: "جنة الأمان للكفعمي: عن السجاد زين العابدين عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قال: نزل جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض غزواته

********

(1) بحار الأنوار باب التكفين وآدابه حديث: 32 ج: 81 ص: 332.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 28 من أبواب الكفن حديث: 1.

ص: 167

وعليه جوشن ثقيل آلمه ثقله، فقال: يا محمد ربك يقرئك السلام، ويقول لك: اخلع هذا الجوشن واقرأ هذا الدعاء فهو أمان لك ولأمتك. وساق الحديث إلى أن قال: ومن كتبه على كفنه استحيي الله أن يعذبه بالنار. وساق الحديث إلى أن قال: قال الحسين (عليه السلام): أوصاني أبي (عليه السلام) بحفظ هذا الدعاء وتعظيمه، وأن أكتبه على كفنه، وأن أعلمه أهلي، وأحثهم عليه، ثم ذكر الجوشن الكبير كما سيأتي في كتاب الدعاء. أقول: رواه في البلد الأمين أيضاً بهذا السند وزاد فيه: ومن كتب في جام بكافور أو مسك ثم غسله ورشه على كفن الميت أنزل الله تعالى في قبره ألف نور، وآمنه من هول منكر ونكير، ورفع عنه عذاب القبر، ويدخل كل يوم سبعون ألف ملك إلى قبره يبشرونه بالجنة، ويوسع عليه قبره مد بصره"(1).

هذا وقد حكي في باب نوادر ما يتعلق بأبواب الكفن من مستدرك الوسائل عن الكفعمي في البلد الأمين مرسلاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعائين آخرين يكتبان على الكفن، وعن السيد هبة الله في المجموع الرائق مرسلاً في خواص السور قال:" سورة التحريم إذا كتبت على الميت خففت عنه، فإذا أهدي ثوابها للميت أسرع إليه كالبرق وآنسته وخففت عنه"(2).

بل ذكر غير واحد استحباب كتابة القرآن كله على الكفن، وفي الجواهر: "وهو مشهور في زماننا، حتى صارذلك فيه من الأمور التي لا يعتريها شوب الإشكال، وعليه أعاظم علماء العصر" .وكأنه لما في خبر عبدالله الصيرفي المروي في كتابي العيون وإكمال الدين في حديث وفاة الإمام الكاظم (عليه السلام) من أنه كفن بكفن فيه حبرة استعملت بألفين وخمسمائة دينار عليها القرآن كله(3).

لكن الذي تضمنه الحديث أن الذي كفنه بذلك سليمان بن أبي جعفر المنصور

********

(1) بحار الأنوار باب التكفين وآدابه حديث: 22 ج: 81 ص: 332.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 28 من أبواب الكفن حديث: 2، 3، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 1 وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج: 1 ص: 37 وإكمال الدين ص: 81. كلاهما طبعة النجف الأشرف.

ص: 168

تداركاً لما لحقه من الدولة من التشهير به والتفريط بحقه، ومن الظاهر عدم حجية فعله، كما نبه له غير واحد، نعم هو يدل على معروفية ذلك بين المسلمين من ذلك العصر. كما أنه قد يستأنس له بما تقدم من كتاب الغيبة من خبر الساجة التي أعدها العمري لنفسه.

وفي العروة الوثقى أضاف أموراً:

الأول: كتابة هذين البيتين:

وفدتُ على الكريم بغير زادٍ *** من الحسناتِ والقلبِ السليمِ

وحملُ الزاد أقبحُ كلِّ شيءٍ *** إذا كانَ الوفودُ على الكريمِ

مدعياً أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كتبهما على كفن سلمان الفارسي. ولم يتيسر عاجلاً معرفة مصدره.

الثاني: كتابة السند المعروف بسلسلة الذهب المشتمل على التحصن بكلمة الاخلاص. وهو مناسب للمقام جداً، خصوصاً بلحاظ ما سبق. مضافاً إلى ما في كشف الغمة عن بعضهم: "أن هذا الحديث بهذا السند بلغ بعض أمراء السامانية فكتبه بالذهب، وأوصى أن يدفن معه، فلما مات رئي في المنام، فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بتلفظي بلا إله إلا الله وتصديقي محمد رسول الله مخلصاً، وأني كتبت هذا الحديث بالذهب تعظيماً واحتراماً"(1).

نعم الأنسب اختيار السند المبتدئ بالإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، الذي ذكره الصدوق في كتاب العيون في جملة طرق الحديث المذكور(2). إذ هو أشرف الأسانيد وأولاها بالتعظيم، وأقربها للنفع.

الثالث: كتابة السند الآخر ذي السلسة المباركة المشتمل على التحصن بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام). وهو كالأول في المناسبة للمقام.

********

(1) كشف الغمة ج: 3 ص: 98.

(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج: 2 ص: 133. طبعة النجف الأشرف.

ص: 169

ويلزم أن يكون ذلك كله في موضع يؤمن عليه من النجاسة والقذارة (1)،

الرابع: أن يكتب على فص خاتم عقيق الشهادتان وأسماء الأئمة (عليهم السلام) والإقرار بإمامتهم. ولم أعثر على ما يناسبه عدا ما عن ابن طاووس في فلاح السائل قال:" وكان جدي ورام ابن أبي فارس... وهو ممن يقتدى بفعله قد أوصى أن يجعل في فمه بعد وفاته فص عقيق عليه أسماء أئمته (عليهم السلام) فنقشت أنا فصاً عقيقاً عليه: الله ربي ومحمد نبيي وعلي (وسميت الأئمة (عليهم السلام) أئمتي ووسيلتي وأوصيت أن يجعل في فمي بعد الموت، ليكون جواب الملكين عند المسألة في القبر سهلاً إن شاء الله".

وقال في الجواهر:" ورأيت في كتاب ربيع الأنوار للزمخشري في باب اللباس والحلي عن بعض أنه كتب على فص شهادة أن لا إله إلا الله، وأوصى أن يجعل في فمه عند موته... ".ثم قال في العروة الوثقى:" بل يحسن كتابة ما يرجى منه النفع من غير أن يقصد الورود ".ووجهه ظاهر مما سبق. ومنه ما يأتي الإشارة إليه من كتابة كتاب يوضع في يمين الميت. ومنه سبحانه نستمد العون على سكرات الموت والعقبات التي بعده، إنه أرحم الواحمين.

(1) كأنه لحرمة تنجيسها وتقذيرها. لكن يشكل البناء على عموم حرمة التنجيس والتقذير لما إذا لم يستلزم التوهين عرفاً، وعموم لزومه في المقام ممنوع، بل لا يبعد عدم لزومه من نجاسة الدم في الجملة، خصوصاً القليل. كما لا إشكال في لزومه في بعض فروضها، كما قد يحصل بدونها. ومجرد قصد التبرك لا يجدي في رفعه عرفاً.

على أن حرمة التنجيس والتقذير لا يقتضي وجوب الاحتياط بجعلها في موضع يؤمن عليه منه، لاحتياج وجوب الاحتياط إلى دليل خاص، وبدونه يقتصر على ما يعلم معه بحصول التنجيس والتقذير.

نعم لا إشكال في رجحان الاحتياط بذلك. بل لعله أرجح من الاحتياط بكتابة ما لم يثبت استحباب كتابته، كما أشرنا إلى ذلك في ذيل الكلام فيما يكتب عليه من قطع الكفن.

ص: 170

فيكتب في حاشية الإزار من طرف رأس الميت (1). وقيل: ينبغي أن يكون ذلك في شيء يستصحب معه بالتعليق في عنقه أو الشد في يمينه (2). لكنه لا يخلو من تأمل (3). ويستحب في التكفين أن يجعل طرف الأيمن من اللفافة على أيسر الميت، والأيسر على أيمنه (4)،

(1) الظاهر أنه لا يسع جميع ما سبق.

(2) ففي العروة الوثقى:" إذا لم تكتب الأدعية المذكورة والقرآن على الكفن، بل على وصلة أخرى وجعلت على صدره أو فوق رأسه للأمن من التلويث كان أحسن".

(3) لظهور النصوص في استحباب الكتابة على الكفن. نعم يتجه ذلك فيما يؤتى به لمحض رجاء المطلوبية أو انتفاع الميت من دون نص يتضمن كتابته على الكفن، كحديث سلسلة الذهب، لوضوح عدم انحصار احتمال المطلوبية والانتفاع بالكتابة على الكفن. ولاسيما بلحاظ الرؤيا المتقدمة عن كشف الغمة في حديث سلسلة الذهب، وبلحاظ ما عن مصباح الشيخ ودعوات الراوندي(1) من ذكر كتاب يتضمن عقيدة الميت يوضع في يمينه على تفصيل لا يسع المقام نقله. فراجع.

(4) مقتضى الجمود على هذه العبارة استحباب كون اللفافة عريضة يصل طرفاها إلى جانبي الميت. ويبعد جداً إرادتهم ذلك، لأن فرض اللفافة يقتضي ذلك، وإن تقدم الكلام في وجوبه عند الكلام في تحديد الإزار.

وأشكل من ذلك ما في المبسوط من قوله:" ثم يلفه في اللفافة، فيطوي جانبها الأيسر على جانبها الأيمن، وجانبها الأيمن على جانبها الأيسر "ونحوه في النهاية، لوضوح امتناع الفرض المذكور، لأن طي جانبها الأيسر على جانبها الأيمن مستلزم لكون الأيمن تحت الأيسر، ومعه يمتنع طي الأيمن على الأيسر. وبعض عبائرهم ل

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 28 من أبواب الكفن حديث: 6.

ص: 171

(172)

وأن يكون المباشر للتكفين على طهارة من الحدث (1)،

تخلو عن إجمال وتردد بين مضموني العبارتين.

ومن ثم لا يبعد كون مراد الجميع ما في الفقيه والخلاف والوسيلة من لف الجانب الأيمن من اللفافة فوق الجانب الأيسر منها. قال في الخلاف:" ينبغي أن يبدأ بشق الثوب الأيسر على جانب الميت الأيمن، ثم يقلب [الجانب. ظ] بجانب الأيمن ويطرح على جانب الميت الأيسر. وبه قال أصحاب الشافعي، وقال المزني بالعكس. دليلنا: إجماع الفرقة وعملهم".

وينحصر الدليل عليه بالإجماع المذكور، والرضوي:" وتلفه في إزاره وحبرته وتبدأ بالشق الأيسر وتمد على الأيمن، ثم تمد الأيمن على الأيسر "(1) وبنحوه عبر في الفقيه. كما أنه عمم في الوسيلة ذلك للحبرة.

(1) كما في العروة الوثقى. وقد يستظهر منه اختصاص ذلك بما إذا كان المكفن غير المغسل، وأن المغسل لا يستحب له ذلك، بل ما يأتي من غسل اليدين والرجلين. ولم أعثر على نظير ذلك في كلام الأصحاب، وإنما ذكروا استحباب اغتسال الغاسل إذا أراد التكفين.

نعم قال في الروضة بعد بيان ذلك:" ولو كفنه غير الغاسل فالأقرب استحباب كونه متطهراً. لفحوى اغتسال الغاسل أو وضوئه "ونحوه عن البيان. ومقتضاه عموم استحباب الطهارة لغير الغاسل، لا اختصاصها به. وقد يحمل عليه ما في المتن، بأن يكون المستحب للغاسل كلا الأمرين من الطهارة الحدثية وغسل اليدين والرجلين، كما ذكره بعضهم، كالصدوق.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه قال في الفقيه:" ثم يغتسل الغاسل يبدأ بالوضوء ثم يغتسل ثم يضع الميت في أكفانه "وقد يرجع إليه ما في المبسوط، حيث قال:" ثم

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 12 من أبواب الكفن حديث: 1.

ص: 172

يأخذ في تكفينه، فيتوضأ أولاً الغاسل وضوء الصلاة، وإن ترك تكفينه حتى يغتسل كان أفضل، إلا أن يخاف على الميت... "ونحوه في النهاية. وكأن الجمع بين الوضوء والغسل لما هو المعروف عندهم من أن كل غسل معه وضوء إلا غسل الجنابة.

ومن ثم قد يرجع إليه ما في المنتهى وعن التحرير من استحباب الغسل، فإن لم يتمكن توضأ، وما في التذكرة وعن نهاية الأحكام من استحباب الغسل، فإن لم يفعل توضأ. بل ما في جملة كثيرة من الكتب من استحباب الغسل أوالوضوء، بأن يكون مراد الكل أن الاقتصار على الوضوء لأنه بعض المطلوب الذي لا ينبغي تركه مع سهولته. ولم يقتصر على الغسل فيما أعلم إلا في الوسيلة، وإن أمكن أن يكون مراده ضم الوضوء إليه، اعتماداً على ما سبق من أن كل غسل معه وضوء.

نعم اقتصر في المقنع والمراسم ومحكي الكافي على غسل اليدين إلى المرفقين، وهو الظاهر من المقنعة - ونسبه إليه في كشف اللثام - لأنه وإن ذكر في أواخر كلامه في التكفين أنه إذا فرغ غاسل الميت من غسله توضأ وضوء الصلاة ثم اغتسل، ولذا نسب له في مفتاح الكرامة موافقة الفقيه، إلا أن الظاهر أنه مسوق لبيان وجوب غسل المس بسبب التغسيل، لا لبيان استحباب تقديمه على التكفين كغسل اليدين إلى المرفقين. بل قد يظهر مما ذكره من أنه إذا فرغ الغاسل من غسله نقل إلى أكفانه من غير تلبث واشتغال، استحباب تقديم التكفين على الغسل والوضوء أو كراهة تأخيره عنهما.

هذا وظاهر جملة من كلماتهم واستدلالاتهم، بل صريح غير واحد أن الغسل المذكور هو غسل المس يستحب تقديمه على التكفين. لكن في كشف اللثام:" وفي الذكرى أن من الأغسال المسنونة الغسل للتكفين. وفي النزهة أنه به رواية".

ولعل المراد بالرواية - كما في كشف اللثام وغيره - صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام):" قال: الغسل في سبعة عشر موطناً: ليلة سبع عشرة من شهر رمضان... وإذا غسلت ميتاً أو كفنته أو مسسته بعدما يبرد"(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 11.

ص: 173

لكنه - كما ترى - إنما يقتضي الغسل بعد التكفين لا قبله. على أن في صحيحه الآخر عن أبي جعفر (عليه السلام): "وإذا غسلت ميتاً وكفنته أو مسسته بعدما يبرد"(1). والظاهر أن المراد به غسل المس اللازم من التغسيل، وذكر التكفين لأنه من توابع الغسل خارجاً، لا لكونه سبباً مستقلاً.

ومن ثم قد يحمل عليه الصحيح الأول بعد عدم بناء الأصحاب على ظاهره. مضافاً إلى أن كون التكفين من غايات الغسل المستحبة - لو تم - لا ينافي كونه واجباً بسبب المس اللازم من التغسيل. ولعله لذا حكي عن الذكرى أيضاً التصريح هنا بأنه غسل المس.

وكيف كان فقد استدل في المنتهى على استحباب تقديم الغسل من المغسل بأنه يكون على أبلغ أحواله من الطهارة عند تكفين الميت الكامل الطهارة، فإن لم يتمكن توضأ، لأنه إحدى الطهارتين وإن كان هو الأقل.

وفيه: أن كون المكفن على أبلغ أحواله في الطهارة بالغسل وعلى بعض مراتبها بالوضوء إنما يقتضي استحباب تعجيل الغسل أو الوضوء مطلقاً، لا بلحاظ التكفين، وإنما يكون من مستحبات التكفين إذا كان دخيلاً في كماله، وهو محتاج إلى دليل.

ومنه يظهر ضعف ما في المعتبر والتذكرة من الاستدلال له باستحباب التعجيل بغسل المس. حيث يظهر أن ذلك وحده لا يقتضي خصوصية الغسل في التكفين على أن يكون من مستحباته. مضافاً إلى ما في كشف اللثام من معارضته باستحباب تعجيل الموتى إلى مضاجعهم. ومن ثم لا مجال للبناء على استحباب إيقاع التكفين على طهارة، سواءً كان المكفن هو المغسل أم غيره.

بل هو في الأول أظهر، بلحاظ التعرض في جملة من النصوص(2) لتعقيب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 3، 4، 5، 9 وباب: 14 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 174

التغسيل بالتكفين من دون إشارة إلى تخلل الغسل أو الوضوء بينهما. ولاسيما ما تضمن منها التنبيه على غسل اليدين والرجلين، ففي موثق عمار:" ثم تجففه بثوب نظيف، ثم تغسل يديك إلى المرافق ورجليك إلى الركبتين، ثم تكفنه"(1).

وأظهر منها ما صرح فيه بتأخير الغسل عن التكفين، كقول العبد الصالح (عليه السلام) في صحيح يعقوب بن يقطين: "ثم يغسل الذي غسله يده قبل أن يكفنه إلى المنكبين ثلاث مرات، ثم إذا كفنه اغتسل" (2) وفي حديث الأربعمائة: "ومن غسل منكم ميتاً فليغتسل بعد ما يلبسه أكفانه" (3) وفي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام): "قلت: فالذي يغسله يغتسل؟ قال: نعم. قلت: فيغسله ثم يلبسه أكفانه قبل أن يغتسل؟ قال: يغسله، ثم يغسل يديه من العاتق، ثم يلبسه أكفانه، ثم يغتسل"(4).

بل يظهر منها رجحان تأخير الغسل عن التكفين، لظهورها في بيان المحل المطلوب شرعاً، لا الحاصل خارجاً بسبب غلبة التعجيل بالتكفين. ولاسيما صحيح محمد بن مسلم للتصدي فيه لبيان محل الغسل بعد بيان أصل وجوبه لا بتبعه. وما عن الذكرى من إمكان حمله على الضرورة. لا يجدي بعد عدم القرينة عليه، بل هو خلاف ظاهره وظاهر بقية تلك النصوص.

وبذلك يخرج عما تقدم من المعتبر والتذكرة والمنتهى من الاستدلال لو تم في نفسه، فيبنى على مرجوحية الفصل من المغسل بالغسل بين التغسيل والتكفين - للنصوص المذكورة - المبتنية على مرجوحية تأخير تجهيز الميت، أو بقائه عارياً بعد التغسيل، لما فيه من نوع توهين أو غيرهما، كما قد يستظهر مما تقدم من المقنعة وبه صرح في المدارك وغيره.

أما غير المغسل فيستحب له الطهارة لو أراد التكفين عملاً بما تقدم من استدلال

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 7.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل الميت حديث: 3، 1.

ص: 175

(176)

وإن كان هو المغسل غسل يديه (1) من المرفقين (2)

المعتبر وغيره بعد فرض تماميته، لخروجه عن مورد النصوص المتقدمة، وتيسر تقديم الطهارة له بحيث لا يلزم الفصل بين التغسيل والتكفين. وقد سبق أنه قد يستظهر من عبارة المتن. لكن حيث عرفت عدم تمامية الوجه المذكور تعين عدم البناء على استحباب طهارة المكفن مطلقاً، كما تقدم.

بقي شيء وهو أن الدليل على استحباب الغسل والوضوء - لو تم - لما كان منحصراً بما تقدم من المعتبر وغيره فهو يبتني على فرض كونهما مطهرين من الحدث، فالإتيان بهما لأجل التكفين لابد أن يبتني على قصد الطهارة من الحدث ولو ارتكازاً. بل الظاهر أن ترتب الطهارة مقوم للوضوء، وقصده مستلزم لقصدها، كما سبق عند الكلام في الوضوء بقصد الكون على الطهارة. ولازم ذلك جواز إيقاع الصلاة به.

وما في التذكرة والقواعد وجامع المقاصد وعن الإيضاح من عدم جواز إيقاعها به ما لم ينوبه رفع الحدث. في غير محله. وقد أطالوا الكلام في ذلك بما لا مجال لتعقيبه.

(1) تقدم الاقتصار على ذلك من المقنع والمقنعة والمراسم ومحكي الكافي، كما أشرنا إلى جمع الصدوق بينه وبينه الوضوء والغسل، غاية الأمر أنه قد يظهر منه تقديمه على التنشيف وتأخيرهما عنه. كما يظهر من غير واحد أن ذلك إنما يشرع بدلاً عن الغسل والوضوء مع عدم الإتيان بهما، ومنه ما تقدم عن الذكرى من حمل صحيح محمدبن مسلم على الضرورة. وقد ظهرأن الأول هوالأقوى، وما في المتن محتمل له وللثاني.

(2) كما عبر عنه الأكثر في المقام. وكأنه هو المراد مما في المعتبر والتذكرة من غسلهما إلى الذراعين، بارادة دخول الغاية في حكم المغيى، وإن كان استدلالهما عليه بصحيح يعقوب بن يقطين المتقدم في غير محله لظهور التحديد فيه بالمنكبين. فالأولى

ص: 176

بل المنكبين (1) ثلاث مرات (2)، ورجليه إلى الركبتين (3)، ويغسل كل موضع تنجس من بدنه (4)، وأن يجعل الميت حال التكفين مستقبل القبلة (5).

الاستدلال له بموثق عمار المتقدم.

(1) فإنه أفضل بمقتضى صحيحي محمد بن مسلم ويعقوب بن يقطين المتقدمين.

(2) فإنه أفضل بمقتضى صحيح يعقوب المتضمن الغسل إلى المنكبين.

(3) كما تضمنه موثق عمار.

(4) قرب في الجواهر التعدي عن مضمون النصوص المتقدمة باستحباب غسل مظان النجاسة من بدن المغسل. ومقتضاه عدم الاقتصار على ما يعلم بنجاسته منه. وهو كذلك لو تم وجه التعدي، لوضوح أن استيعاب الغسل لتمام اليدين إلى المنكبين ليس إلا لكونه مظنة للنجاسة لا معلومها.

لكن لم يعلم وجه التعدي عن مورد النصوص بعد تميز اليدين والرجلين بالتعرض لمماسة الكفن، وليسا كبقية أجزاء البدن في ذلك. كما أن البناء على أن غسل اليدين لكونهما مظنة النجاسة حتى يلحق بهما بقية مظان النجاسة من البدن لا يناسب ما ذكروه من طهارة يدي الغاسل تبعاً لطهارة الميت. وقد تقدم في ذيل مستحبات التغسيل ما ينفع في المقام.

(5) لإطلاق صحيح يعقوب بن يقطين:" سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الميت كيف يوضع على المغتسل موجهاً وجهه نحو القبلة أو يوضع على يمينه ووجهه نحو القبلة؟ قال: يوضع كيف تيسر، فإذا ظهر وضع كما يوضع في قبره "(1) المحمول على الاستحباب، لظهور إهمال الأصحاب التنبيه عليه في المفروغية عن عدم وجوبه، كما تقدم في ذيل الكلام في كيفية الاستقبال حال الاحتضار.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 177

(178)

والأولى أن يكون كحال الصلاة عليه (1) ويكره قطع الكفن بالحديد (2)،

(1) بل هو المتيعن، عملاً بصحيح يعقوب الذي ينحصر به الدليل على استحباب الاستقبال حال التكفين. وبه يرفع اليد عن إطلاق ما تضمن ن الاستقبال بالميت بامتداد قدميه نحو القبلة(1) ، بناءً على عمومه لغير حال الاحتضار.

ودعوى: أن مقتضى الجمع بين المطلق والمقيد في المستحبات حمل المقيد على أفضل الأفراد. مدفوعة بأن ذلك إنما يتم في الأمر بالمطلق والأمر بالمقيد، لا في شرح المأمور به وتحديده، وهو في المقام كيفية الاستقبال، للتنافي بين المطلق والمقيد في ذلك.

ولاسيما مع اشتمال بعض المطلقات المذكورة على النهي عن الاعتراض الكاشف عن أن موضوعه غير حال التكفين. ففي صحيح ذريح عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: وإذا وجهت الميت للقبلة فاستقبل بوجهه القبلة، ولا تجعله معترضاً كما يجعل الناس، فإني رأيت أصحابنا يفعلون ذلك، وقد كان أبو بصير يأمر بالاعتراض. أخبرني بذلك علي بن أبي حمزة"(2). إلا أن يشكك في كون قوله: "لا تجعله..." من كلام الإمام (عليه السلام) ويحتمل كونه من كلام الرواي، بلحاظ بقية الكلام. فتأمل. فالعمدة ما سبق. ومنه يظهر ضعف ما في العروة الوثقى من التخيير بين الوجهين من دون إشارة لأولوية الثاني.

(2) كما في المقنعة والمبسوط وغيرهما. وفي التهذيب: "سمعنا ذلك مذاكرة عن الشيوخ رحمهم الله، وعليه كان عملهم" .وفي التذكرة بعد نقل ذلك: "ولابد له من أصل، فيعتمد عليه" ،وفي المعتبر بعد نقله أيضاً: "ويستحب متابعتهم تخلصاً من الوقوع فيما يكره" .ولا يبعد كون مراده أولوية الترك لاحتمال الكراهة، لا الفتوى بالكراهة، ليتوجه عليه ما في الحدائق من أن

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب الاحتضار.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب الاحتضار حديث: 1.

ص: 178

وعمل الأكمام (1) والزرور (2) له،

الكراهة حكم شرعي لابد في الفتوى به من دليل واضح.

(1) كما ذكره جماعة، وفي الذكرى وعن غيره نسبته للأصحاب، وفي المعتبر أن عليه فتواهم، وفي كشف اللثام أنهم قطعوا به. ويقتضيه مرسل محمد بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قلت له: الرجل يكون له القميص أيكفن فيه؟ قال: اقطع أزراره. قلت: وكمه؟ قال: لا، إنما ذلك إذا قطع له وهو جديد لم يجعل له كماً، وأما إذا كان ثوباً لبيساً فلا يقطع منه إلا الأزرار"(1).

وعن القاضي في المهذب أنه لا يجوز. وقد يريد به الكراهة. وإلا فالمرسل - مع ضعفه في نفسه - يشكل ظهوره في الحرمة، لعدم النهي فيه عن اتخاذ الأكمام المبتدأة، ليكون ظاهراً فيها، وإنما تضمن بيان مورد عدم اتخاذ الأكمام لدفع توهم عمومه للقميص اللبيس من دون تصدّ لحكمه، والمتيقن منه مرجوحية الترك. مضافاً إلى أن شهرة الكراهة بين الأصحاب يبعد فيها الخطأ، لشيوع الابتلاء بالحكم. فتأمل.

ومنه يظهر عدم كراهة إبقاء الأكمام في القميص اللبيس، كما هو المعروف بين الأصحاب، بل ظاهر التذكرة إجماعهم عليه، وفي كشف اللثام أنهم قطعوا به. ويقتضيه - مضافاً إلى المرسل - صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع:" سألت أبا جعفر (عليه السلام) أن يأمر لي بقميص أعده لكفني، فبعث به إلي. فقلت: كيف أصنع؟ فقال: انزع أزراره"(2). وهو مقتضى إطلاق بعض النصوص المتضمنة للتكفين بقميص لبيس(3).

(2) كما هو مقتضى صحيح محمد بن إسماعيل المتقدم بعد إلغاء خصوصية مورده. وأما الاستدلال

عليه بقوله (عليه السلام) في صحيح عبدالله بن سنان: "ثم الكفن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب التكفين حديث: 2، 1.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 5، 15.

ص: 179

ولو كفن في قميصه قطع أزراره (1). ويكره بلّ الخيوط التي تخاط به

قميص غير مزرور ولا مكفوف "(1) ونحوه مرسل يونس(2). فلا يخلو عن إشكال، حيث لا يبعد ظهور عدم زرّه بالأزرار، كما لا إشكال في أنه الظاهر من قوله (عليه السلام) في معتبر معاوية بن وهب:" قميص لا يزر عليه"(3). ويكون مقتضى الجمع بين النصوص استحباب نزع الأزرار أو كراهة إبقائها، فإن لم تنزع يكره زرّ القميص بها.

والبناء على الكراهة وإن كان خلاف ظاهر النصوص المذكورة في الموردين، إلا أنه قد يتعين بلحاظ إهمال جلّ الأصحاب التنبيه على الكراهة فضلاً عن الحرمة، الظاهر في مفروغيتهم عن عدم الحرمة.

وهذا هو العمدة في الخروج عن ظاهر النصوص، لا ما قد يدعى من الإطلاق والأصل، لنهوض النصوص بالخروج عنهما. ولا إهمال التنبيه لرفع الأزرار من قميص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كفن به فاطمة بنت أسد في نصوصه(4). لأن عدم التنبيه على ذلك في مقام نقل قضية خارجية غيرمسوق لبيان التشريع لاظهورله في عدم وقوعه، وإلا فمن البعيد إبقاء أزراره ولو مع الكراهة. مع أنه لم يعلم اشتمال قميصه (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأزرار. على أنه لو تم ظهوره في إبقاء الأزرار أو زرّ القميص بها فليس هو بحيث ينهض برفع اليد عن ظهور النصوص المتقدمة في الوجوب.

(1) كما تضمنه صحيح محمد بن إسماعيل بعد إلغاء خصوصية مورده. ومنه يظهر عموم ذلك لقميص غيره إذا كفن به، كما هو مورد الصحيح.

هذا والظاهر جريان نظير ما تقدم في كفّ القميص، فلا يكف إذا قطع للكفن، عملاً بصحيح عبدالله بن سنان ومرسل يونس المتقدمين المحمولين على الكراهة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 3.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب التكفين.

ص: 180

بريقه (1) وتبخيره (2)

لنظير ما تقدم. كما لا يفتق الكفّ لو كان القميص لبيساً، لظهور الاقتصار في صحيح محمد بن إسماعيل على نزع الأزرار في عدم تغيير القميص من غير جهتها. وبه يخرج عن إطلاق الصحيح والمرسل.

(1) على المشهور، كما في الروضة ومحكي الذكرى. وفي المعتبر: "ذكره الشيخ في النهاية والمبسوط، ورأيت الأصحاب يتجنبونه. ولا بأس بمتابعتهم لإزالة الاحتمال، ووقوفاً على الأولى. وهذا موضع الوفاق" .وكلامه كالصريح في عدم الفتوى بالكراهة الشرعية، فلا مجال للإنكار عليه، كما في الحدائق، بنظير ما تقدم في قطع الكفن بالحديد.

قال في جامع المقاصد: "ويظهر من تقييد الكراهية بكون بلها بالريق عدم كراهية غيره. وبه صرح في الذكرى للأصل" .ونحوه في المدارك وعن غيره.

(2) وهو المراد بالتجمير في كلامهم. وقد نسب في المنتهى لأكثر علمائنا كراهته، بل في التذكرة الإجماع عليها، وفي الخلاف الإجماع على كراهة التجمير بالعود، وفي المعتبر الإجماع على كراهة التجمير والتطييب بغير الكافور والذريرة.

ويقتضيه صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تجمروا الأكفان ولا تمسحوا موتاكم إلا بالكافور، فإن الميت بمنزلة المحرم"(1). ومرسل ابن أبي عمير عنه (عليه السلام):" قال: لا يجمر الكفن"(2).

لكن قال في الفقيه: "وحنوط الرجل والمرأة سواء. غير أنه يكره أن يجمر أو يتبع بجمرة، ولكن يجمر الكفن" وظاهره استحباب تجمير الكفن أو عدم كراهته.

وقد يستدل له بصحيح عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: لا بأس بدخنة كفن الميت" (3) ومعتبر غياث عنه عن أبيه (عليهما السلام): "أنه كان يجمر الكفن بالعود

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التكفين حديث: 5، 2، 13.

ص: 181

وتطييبه (1) بغير الكافور والذريرة (2)، وأن يكون أسود (3)، بل مطلق

فيه المسك. وربما جعل على النعش الحنوط، وربما لم يجعله، وكان يكره أن يتبع الميت بالمجمرة)(1) ، بناء على روايته هكذا، كما في إحدى النسختين المذكورتين في الوسائل.

وفي النسخة الأخرى:" أنه كان يجمر الميت "وعليه اقتصر في الطبعة الحديثة من التهذيبين، والاستدلال به وبغيره مما ورد في الميت - وقد يأتي في التحنيط - موقوف على التعدي من الميت للكفن في ذلك، وهو لا يناسب ما تقدم من الفقيه منالتفريق بينهما.

وكيف كان فلابد من حمل ما تقدم إما على التقية، لموافقته للعامة أو لكثير منهم - كما في التهذيبين وغيرهما - أو على بيان الجواز، فيكون شاهداً لحمل الصحيح والمرسل على الكراهة.

(1) فقد تقدم من المعتبر دعوى الإجماع عليه. ويقتضيه عموم التعليل في صحيح محمد بن مسلم المتقدم.

(2) كما تقدم في معقد إجماع المعتبر. ويظهر الوجه فيه مما تقدم في مستحبات التكفين. وهو مختص بالتطييب بهما بغير التجمير.

(3) بلا خلاف، كما في المنتهى، بل إجماعاً كما في المعتبر والتذكرة ومحكي نهاية الأحكام. بل تقدم في ذيل الكلام في شروط الكفن الاختيارية من الخلاف ما قد يظهر في دعوى الإجماع على حرمة التكفين بالسواد، وإن لم يبعد بعد التأمل حمله على الكراهة. فراجع.

هذا وقد علل في المعتبر والتذكرة الكراهة بأنه ثياب مثلة. ولم يتضح المراد بذلك. ولو أريد به ثياب شهرة كان ممنوعاً صغرى، بل كبرى أيضاً، لأن حرمة ثوب الشهرة في حق الحي لا يستلزم حرمة التكفين به ولا كراهته.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التكفين حديث: 14.

ص: 182

المصبوغ (1)،

فالعمدة في ذلك موثق الحسين بن المختار أو صحيحه:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يحرم في الثوب الأسود؟ قال: لا يحرم في الثوب الأسود ولا يكفن به "(1) وفي حديثه الآخر - المشتمل سنده على إرسال - عنه (عليه السلام):" قال: لا يكفن الميت في السواد"(2). وقد يتعين حملهما على الكراهة، لمعروفية القول بها بين الأصحاب، مع استبعاد خطئهم في مثل ذلك مما هو مورد الابتلاء. فتأمل.

ولا أقل من كونه مقتضى الجمع بينهما وبين معتبر الجعفريات عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفن حمزة بن عبد المطلب في نمرة سوداء"(3) ، ونحوه مرسل الدعائم(4).

(1) كما في الوسيلة والروض والذكرى، وفي التذكرة كراهة المعصفر وغيره. وفي المنتهى:" وقيل: يكره أن يكون في الثوب المعصفر والمصبوغ إلا ما كان من القصب، وهو نبت باليمن. قاله الأوزاعي. ولا بأس بذلك، لما فيه من منافاة فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)".

وفيه: أن عدم تكفينهم (عليهم السلام) به لا يستلزم كراهته. على أنه لا طريق لإحراز ذلك بعد ما ورد من تكفين أمير المؤمنين (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسهل بن حنيف، وتكفين الحسن (عليه السلام) أسامة بن زيد ببرد أحمر حبرة(5) ، إذ يبعد جداً عدم استناد الحمرة للصبغ.

وأشكل من ذلك ماعن الذكرى من حمل مرسل الحسين بن المختارعليه، إذ هو موقوف على إلغاء خصوصية السواد فيه والتعدي منه لكل مصبوغ، وهو ممنوع جداً، ولاسيما مع عموم النهي عن الأسود فيه لما لم يكن مصبوغاً. وأضعف من ذلك ما عن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التكفين حديث: 2، 1.

(3و4) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 18 من أبواب الكفن حديث: 3، 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين حديث: 2، 3.

ص: 183

وأن يكتب عليه بالسواد (1)، وأن يكون من الكتان (2)، وأن يكون ممزوج

المهذب والإصباح من المنع عن المصبوغ لو أريد به التحريم. ومثل ذلك ما نسبه في كشف اللثام للمشهور وإن لم نتحققه من كراهة غير الأبيض مطلقاً. حيث لا وجه له إلا إلغاء خصوصية الأسود والتعدي لكل غير أبيض، الذي أشرنا إلى منعه. أو ما في التذكرة من أن وصف البياض بالطيب والطهور في كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدل بمفهومه على كراهة ضده، الذي يندفع - مضافاً إلى أن المفهوم المذكور مفهوم لقب ليس حجة - بأن الموجود في موثق ابن القداح(1) المتقدم أنه أطيب وأطهر، وهو ظاهر في مزية الأبيض واستحبابه، فيدل على أن غيره دونه وإن لم يكن مكروهاً.

(1) كما في الوسيلة والشرايع والقواعد وغيرها، وفي النهاية أنه لا يجوز، ويحتملهما النهي عنه في المقنعة والمبسوط وغيرهما. وربما يحملان معاً على شدة الكراهة. قال في المعتبر:" وهو حسن، لأن في ذلك نوع استبشاع، ولأن وظائف الميت متلقاة توقيفاً، فيقف على الدلالة".

لكن الاستبشاع غير ظاهر صغرى ولا كبرى. والكراهة هي التي تحتاج للدلالة. ولاسيما مع ورود النص بالكتابة التي يتعارف فيها السواد.

ومثله ما في المنتهى من تعليله بمنافاة الكتابة بالسواد للتكفين بالبياض. فإنه لا يخلو عن إشكال أو منع. ولو تم اقتضى كراهة الكتابة بكل ذي لون، كما قد يرجع إليه ما في المقنعة والمنتهى وغيرهما من التعميم لسائر الأصباغ، وهو مناف لظاهر النص جداً. وقد تقدم بعض الكلام في ذلك عند الكلام فيما يستحب كتابته على الكفن.

(2) كما ذكره جماعة، بل ظاهر التذكرة وجامع المقاصد ومحكي نهاية الأحكام الإجماع عليه. والظاهر أن نسبته للأكثر في كشف اللثام بلحاظ ما في الفقيه من أنه لا يجوز، وما عن الكافي من أن أفضل الأكفان الثياب البيض من القطن والكتان، ونحوه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 184

بابريسم (1)،

ما في الغنية مدعياً عليه الإجماع. لكن الثاني قد يحمل على الأفضلية من حيثية اللون غير المنافية للكراهية من حيثية الجنس، كما قد يحمل الأول على شدة الكراهة.

وكيف كان فقد استدل للكراهة بصحيح يعقوب بن يزيد عن عدة منأصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: لا يكفن الميت في كتان "(1) ونحوهالرضوي(2) ، وصحيح أبي خديجة عنه (عليه السلام):" قال: الكتان كان لبني اسرائيل يكفنون به والقطن لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)"(3).

ويشكل بأن ظاهر الأولين الحرمة، وحيث يقوى عدم قدح الإرسال في حديث يعقوب بعد كونه عن عدة من أصحابنا الظاهر في استفاضة الحديث، أشكل البناء على الكراهة بعد عدم المخرج عن ظاهر النهي المذكور، لأن الثالث مجمل من هذه الجهة، وإنما يدل على استحباب القطن لا غير.

اللهم إلا أن يحمل الأولان على الكراهة بلحاظ معروفية القول بها بين الأصحاب، لبعد الخطأ فيها منهم بعد شيوع الابتلاء بالحكم. فتأمل جيداً.

(1) كما ذكره جماعة، وفي جامع المقاصد: "إذا كان الخليط أكثر. كذا في مقطوعة الحسن بن راشد. وعبر به جماعة" وفي كشف اللثام: "وكان الأوضح تقييدها بكون الإبريسم أقل" .وكأنه يبتني على حمل الرواية المذكورة على الكراهة، وقد سبق الاشكال فيه في المسألة الثلاثين، وأن الأقوى الحرمة إلا مع كون الإبريسم أقل. ومن ثم يشكل الدليل على الكراهة فيما لو كان الابريسم أقل. نعم في مفتاح الكرامة: "استند في كشف الالتباس في الكراهة إلى رواية رواها فيه عنه (عليه السلام): لا يكفن الميت في كتان ولا ممتزج" .فتأمل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التكفين حديث: 2.

(2) الرضوي ص: 18.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 185

والمماكسة في شرائه (1)، وجعل العمامة بلا حنك (2)، وكونه وسخاً (3)، وكونه مخيطاً (4).

(1) كما في الوسائل والعروة الوثقى. لخبر حماد بن عمرو وأنس بن محمد في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): "قال: يا علي لا تماكس في أربعة أشياء: في شراء الأضحية والكفن والنسمة والكراء إلى مكة"(1) ، ونحوه مرفوع محمد بن عيسى عن أبي جعفر(2) (عليه السلام). نعم ورد في بعض النصوص عموم رجحان المكاس، ومكاس الإمام الصادق (عليه السلام) في ثمن الهدى(3). فلاحظها.

(2) كما قد تقدم عند الكلام في استحباب العمامة.

(3) كما في العروة الوثقى. وقد يستفاد من تعليل الأمر بإجادة الأكفان بأن الموتى يتباهون بأكفانهم وأنها زينتهم(4). كما قد يستفاد من قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم:" إن استطعت أن يكون في كفنه ثوب كان يصلي فيه نظيف فافعل، فإن ذلك يستحب أن يكفن فيما كان يصلي فيه "(5) ونحوه مرسل عبدالله بن المغيرة(6). وإن أمكن أن يحملا على الطهارة الشرعية.

(4) كما في العروة الوثقى. وقال:" بل يستحب كون كل قطعة منه وصلة واحدة بلا خياطة على ما ذكره بعض العلماء، ولا بأس به ".وكأنه لعموم التعليل في صحيح محمد بن مسلم المتقدم في تبخير الكفن بأن الميت بمنزلة المحرم(7) المحمول على الكراهة على ما تقدم في المسألة الثامنة والعشرين عند الكلام في شروط الكفن.

لكن تقدم هناك أن غاية ما يمكن تنزيل ذلك عليه هو قصره على ما كان مبتني

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 36 من أبواب التكفين حديث: 1، 2.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 10 باب: 19 من أبواب الذبح، وج: 12 باب: 45 من أبواب آداب التجارة.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التكفين.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب التكفين حديث: 1، 2.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 186

(187)

(مسألة 40): يستحب لكل أحد أن يهيئ كفنه قبل موته (1)، وأن يكرر نظره إليه (2).

على التزيين والتجمل، ولم يتضح كون المخيط منها. ولاسيما بعد ما تضمنته جملة من النصوص من التكفين بالقميص الملبوس للميت أو لغيره، فإنه وإن أمكن أن يكون اختياره لفضيلته لأنها أهم من جهة الكراهة فيه، إلا أن عدم التنبيه للكراهة فيها وفي غيرها يناسب عدم الكراهة جداً. فلاحظ.

(1) كما ذكره غير واحد. ويقتضيه مرسل محمد بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: من كان كفنه في بيته لم يكتب من الغافلين، وكان مأجوراً كلما نظر إليه" (1) ونحوه ما عن كتاب مدينة العلم للصدوق بإسناده إلى الصادق(2) (عليه السلام). فإن مقتضى الصدر استحباب تهيئة الكفن ولو مع عدم النظر إليه. ومن ثم يختلفان عن الحديثين الآتيين.

(2) ويقتضيه - مضافاً إلى ما تقدم - موثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: إذا أعد الرجل كفنه فهو مأجور كلما نظر إليه"(3) ، ونحوه موثقه الآخر(4). والحمد لله رب العالمين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب التكفين حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 21 من أبواب التكفين حديث: 1.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب التكفين حديث: 1، 3.

ص: 187

ص: 188

(189)

الفصل الخامس (1): في التحنيط

يجب إمساس (2)

(1) مقتضى تسلسل الفصول أن يكون هذا هو الفصل الرابع. لكنه (قدس سره) جرى على ذلك فيما يأتي، ويكفي التنبيه هنا.

(2) إجماعاً كما في الخلاف والتذكرة والمنتهى والروض وعن أحد شرحي الجعفرية والمفاتيح. بل قد ينسب دعواه للغنية، وإن لم يبعد كون معقده فيه اختصاص الحنوط بالكافور. كما ربما نسب لبعض أنه المشهور أو المعروف بين الأصحاب، والظاهر من بعضهم رجوع ذلك لبعض خصوصياته مع المفروغية عن أصل وجوبه، كما يظهر من غيرهم أيضاً. وفي الجواهر:" إجماعاً محصلاً ومنقولاً، ونصوصاً".

وأما ما في كشف اللثام من أن ظاهر المراسم الاستحباب، فلم يتضح منشؤه بعد ملاحظة كلامه، وفي مفتاح الكرامة:" وكأنه لحظ آخر عبارتها الموهمة لذلك. ولو لحظ أول كلامه لظهر له أنه قائل بالوجوب في مواضع ثلاثة".

نعم قال في مفتاح الكرامة:" وفي مجمع البرهان تأمل في الوجوب أو منع منه. قال: ولعل اختلاف الأخبار دليل الاستحباب. وقال: لا نعرف الإجماع".

وهو كما ترى، فإن الإجماع في المقام كالإجماع في سائر أحكام الميت من أحكام. والأخبار اختلفت في بيان ما يمسح من جسد الميت، وهو لا يدل على استحباب أصل

ص: 189

التحنيط، نظير اختلاف الأخبار في خصوصيات سائر واجبات التجهيز. فلامجال للخروج عن ظهورها في وجوب التحنيط في الجملة. ولاسيما بملاحظة موثق الفضل بن يونس المتضمن تحنيط المؤمن من الزكاة(1).

وأما الاقتصار على الأمر بالتكفين بعد التغسيل في بعض النصوص(2). فقد يكون الوجه فيه أنه من توابع التكفين، كما يظهر من بعض النصوص(3) وكلام الفقهاء. على أنه ليس بنحو يخرج به عن ظاهر النصوص الآمرة به.

هذا ومقتضى إطلاق الأصحاب عموم وجوب التحنيط لكل ميت، كسائر أفعال التجهيز التي بناؤهم فيها على ذلك بحيث يحتاج عدم وجوبها في بعض الموارد للتنبيه والدليل.

وقد يستفاد ذلك مما تضمن الأمر به في سياق التغسيل والتكفين، ففي موثق عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام):" أنه سئل عن غسل الميت قال: تبدأ فتطرح على سوءته خرقة... "وبعد شرح الغسل قال:" ثم تكفنه تبدأ وتجعل على مقعدته شيئاً من القطن وذريرة... واجعل الكافور في مسامعه وأثر سجوده منه وفيه "(4) وفي صحيح زرارة عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليه السلام):" قال: إذا جففت الميت عمدت إلى الكافور فمسحت به آثار السجود ومفاصله كلها، واجعل في فيه ومسامعه ورأسه ولحيته من الحنوط وعلى صدره وفرجه"(5). وقد يستفاد من غيرهما.

نعم الظاهر عدم الإشكال في عدم تحنيط الشهيد وتقديم تحنيط المرجوم والمقتص منه على القتل، كما يظهر مما سبق فيهما في الغسل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 33 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 4، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 1 وباب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 6.

ص: 190

(191)

مساجد الميت السبعة (1)

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، بل هو داخل في معقد الإجماع المتقدم من التذكرة والمنتهى والروض وعن أحد شرحي الجعفرية والمفاتيح. ولعله يرجع إليه ما في المقنعة والمبسوط والنهاية وعن الإصباح من جعله على ظاهر أصابع قدميه، وما في الاقتصاد والسرائر وعن المصباح ومختصره من جعله على طرفها.

ويشهد له النصوص الكثيرة، كموثق عمار وصحيح زرارة المتقدمين وموثق عبدالرحمن بن أبي عبدالله: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الحنوط للميت: فقال: اجعله في مساجده" (1) وغيرها مما تضمن الأمر بذلك(2).

نعم في صحيح عبدالله بن سنان: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): كيف أصنع بالحنوط؟ قال: تضع في فمه ومسامعه وآثار السجود من وجهه ويديه وركبتيه" (3) ولم يتعرض فيه لإبهامي الرجلين. وفي مرسل يونس: "ثم اعمد إلى الكافور مسحوق فضعه على جبهته موضع سجوده وامسح بالكافور على جميع مفاصله من قرنه إلى قدمه، وفي رأسه وفي عنقه ومنكبيه ومرافقه، وفي كل مفصل من مفاصله [مغابنه. مساجده. خ ل. يب] من اليدين والرجلين وفي وسط راحتيه" (4) حيث صرح فيه بالمسح على الجبهة والراحتين، واستفيد منه المسح على الركبتين من عموم المسح على المفاصل، ولم يشر فيه للمسح على الإبهامين.

لكن إطباق النصوص المتقدمة على ذكر المساجد وصعوبة التفكيك بينها بسبب ظهور ذكر عنوانها في خصوصية في الحكم قد يصلح للقرينة على حمل الصحيح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 5، وباب: 15 منها حديث: 3، وباب: 16 منها حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3.

ص: 191

على الاكتفاء في شرح عنوان المساجد فيه ببيان بعضها اتكالاً على معلومية الباقي، لا على تقييده بالمذكور واقتصار الوجوب عليه. ولا أقل من سقوط ظهوره عن الحجية بسبب إعراض الأصحاب عنه الموجب للريب فيه باحتمال السقط ونحوه.

ومنه يظهر الحال في المرسل. على أنه يمكن استفادة المسح على الإبهامين منه من عموم المسح على المفاصل، لاشتمال الإبهامين على المفصل. غايته أنه يبتني على كون المسجد تمام الإبهام، لا خصوص طرفه، وهو غير بعيد بالنظر للأدلة، وتمام الكلام في محله، وعلى الاكتفاء بمسح بعض المسجد، الذي يأتي تقريبه.

مضافاً إلى أنه وإن روي هكذا في الوسائل والكافي - على ما في المطبوع حديثاً منهما - إلا أنه روي في التهذيب - على ما في المطبوع حديثاً منه - هكذا: "فضعه على جبهته وموضع سجوده" .ومن أن القريب أن لا يكون العطف فيه تفسيرياً، بل من عطف العام على الخاص، ويراد بموضع السجود الجنس. ولا أقل من كونه مقتضى الجمع بينه وبين النصوص السابقة.

ومن جميع ما تقدم يظهر الإشكال فيما عن المقنع من الاقتصار من المساجد على جبينه(1) ، إذ هو لا يناسب جميع نصوص المقام. ولعله لذا لم أعثر على من نبه لخلافه وتصدى لمناقشته.

هذا والمعروف من مذهب الأصحاب كما في المدارك والمشهور بينهم كما في جامع المقاصد وكشف اللثام الاقتصار على المساجد السبعة، وزاد في المقنعة والمنتهى أنفه، بل في الثاني بعد بيان ما يحنط ومنه الأنف قال: "ولا خلاف في ذلك، وقد اتفق علماؤنا على وجوبه" .وقد حكي عن أبي عقيل والحلبي والقاضي، وقد يرجع إليه ما في الفقيه من التعبير بالأنف.

لكن نفى في الخلاف وضع الكافور على جملة من الأمور منها الأنف، مدعي

********

(1) حكاه عنه في كشف اللثام ومفتاح الكرامة وغيرهما. والموجود في المطبوع قديماً وحديثاً بدله: (جنبيه) ولعله تصحيف.

ص: 192

عليه إجماع الفرقة وعملهم، بل قد يظهر منه عدم الاستحباب أيضاً، حيث ذكر أن ما يفضل عن المساجد يترك على الصدر، مدعياً إجماع الفرقة وعملهم أيضاً.

ويظهر منهم أن زيادة الأنف تبتني على عموم المساجد بلحاظ استحباب السجود عليه. وهو لا يخلو عن إشكال، بل منع، لأن المساجد المعهودة عند المتشرعة التي تفهم من الإطلاق هي التي يجب السجود عليها، بل لعل ظاهر النصوص أن الأنف ليس مسجداً وإن استحب السجود عليه.

وأما مرسل الدعائم عن الصادق (عليه السلام): "قال: إذا فرغ من غسل الميت نشف في ثوب وجعل الكافور والحنوط في مواضع سجوده وجبهته وأنفه ويديه وركبتيه ورجليه، ويجعل ذلك في مسامعه وفيه ولحيته وصدره..."(1). فمن الظاهر عدم التعويل عليه في إثبات الحكم الشرعي وعدم استنادهم إليه.

نعم لا يبعد ابتناء زيادتهم الأنف على الاستحباب، لفهمهم من دليل تحنيط المساجد أن تحنيطها على نحو السجود عليها، فما وجب السجود عليه وجب تحنيطه، وما يستحب السجود عليه يستحب تحنيطه. وهو لا يخلو عن وجه. وإن كان مورداً للتأمل. ولاسيما مع عدم الإشارة للأنف في النصوص مع تعرضها لكثير من الزيادات غير المساجد، على اختلاف فيها. فلاحظ.

بقي في المقام أمران:

الأول: قال في التذكرة:" لا يجب استيعاب المساجد بالمسح ".وصرح في الروض بالاكتفاء بالمسمى. والوجه فيه إطلاق نصوص الحنوط، لأنها بين ما تضمن جعل الكافور في المساجد - كموثق عمار وعبد الرحمن المتقدمين - أو عليها - كقوله (عليه السلام) في موثق سماعة:" ويجعل شيئاً من الحنوط على مسامعه ومساجده "(2)- وما تضمن

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 12 من أبواب الكفن حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب التكفين حديث: 2.

ص: 193

وضعه فيها - كصحيح عبدالله بن سنان المتقدم، وقوله (عليه السلام) في صحيح حمران:" يوضع في منخره وموضع سجوده ومفاصله "(1)- أو عليها - كمرسل يونس المتقدم - أو على موضعها - كقوله (عليه السلام) في صحيح الكاهلي وحسين بن المختار:" يوضع الكافورمن الميت على موضع المساجد "(2)- وما تضمن مسحها به - كصحيح زرارة المتقدم، وصحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: إذا أردت أن تحنط الميت فاعمد إلى الكافور فامسح به آثار السجود منه "(3) والكل يصدق بالمسمى، ولا يتوقف على الاستيعاب.

ولم نعثر على ما يخرج به عن الإطلاق المذكور عدا ما تقدم في مرسل يونس من الأمر بمسح وسط راحتيه الظاهر في التعيين، وعدم إجزاء مسح غير الراحتين من أجزاء الكف. لكنه - مع عدم اقتضائه الاستيعاب - قد يحمل على الاستحباب زائداً على الواجب، بلحاظ عدم وضوح كون وسط الراحة من المسجد، حيث قد لا يمس الأرض بوضع الكف عليها، وبلحاظ ما تقدم من التهذيب من رواية المرسلة بعطف المسجد على الجبهة الموجب لقرب وفائه ببيان الواجب، ويكون تمام ما بعده مستحباً زائداً عليه. ومن ذلك يظهر ضعف ما عن الذكرى من وجوب استيعاب المساجد بالمسح. فلاحظ.

الثاني: مقتضى موثق عبدالرحمن المتقدم عدم وجوب تحنيط غير المساجد، وحيث كان قوي الظهور في ذلك، لذكره لها جواباً للسؤال عن الحنوط بنحو يظهر في التحديد، فلابد من حمل النصوص المتضمنة لما زاد عليها - مما يأتي التعرض له في بيان ما يستحب مسحه - على الاستحباب لو فرض حجيتها في أنفسها، لأن رفع اليد عن ظهورها في الوجوب أولى عرفاً من رفع اليد عن ظهور الموثق في الحصر والتحديد. ولاسيما مع اختلافها في بيان الممسوح زائداً على المساجد. ومن ثم قد يحمل ذكر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 194

(195)

بالكافور (1)

الزيادة من الصدوق وغيره على الاستحباب أيضاً، وإلا كان ضعيفاً، لما ذكرنا.

(1) وإن كان مطبوخاً، خلافاً للمقنعة وغيرها في المنع منه. وقد تقدم في الأمر الثاني من فروع الخليطين في ذيل المسألة التاسعة الكلام في وجهه. فراجع.

هذا والظاهر عدم الإشكال في انحصار الحنوط بالكافور عندنا، كما يظهر بأدنى سبر لكلماتهم، فقد اقتصروا في بيان الحنوط عليه، وصرح في النهاية بأن لا يكون معه مسك، وزاد في المبسوط سائر أنواع الطيب، وعن الجامع أنه لا يحنط بمسك، ويأتي تصريحاتهم بحرمة أو كراهة تطييب الميت بغير الكافور والذريرة، وصرح في التذكرة بأنه لا يقوم غير الكافور مقامه عندنا، وأنه لو تعذر سقط الحنوط، كما صرح بالثاني غيره أيضاً. وغير ذلك مما يشهد بالمفروغية عنه.

ويقتضيه - مضافاً إلى صحيح الحلبي المتقدم - صحيح داود بن سرحان:" قال أبو عبدالله (عليه السلام) لي في كفن أبي عبيدة الحذاء: إنما الحنوط الكافور، ولكن اذهب واصنع كما يصنع الناس "(1) ونحوه صحيحه الآخر(2) ، وصحيح عبدالله بن المغيرة عن غير واحد عنه (عليه السلام):" قال: الكافور هو الحنوط"(3). وفي معتبر يعقوب بن يزيد عن عدة من أصحابنا عنه (عليه السلام): "قال: لا يسخن للميت الماء... ولا يحنط بمسك"(4). وفي خبر إبراهيم بن محمد الجعفري:" رأيت جعفر بن محمد (عليه السلام) ينفض المسك عن الكفن، ويقول: ليس هذا من الحنوط في شيء"(5).

نعم في مرسل الفقيه: "وكفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثلاثة أثواب... وروي أنه حنط بمثقال مسك سوى الكافور"(6). ولعله هو الوجه فيما في الدروس من نسبة إضافة المسك للكافور للصدوق.

لكنه - مع ضعفه في نفسه - محمول على التقية في الرواية بقرينة صحيحي داود،

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التكفين حديث: 7، 8، 4.

(4و5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التكفين حديث: 6، 11، 10.

ص: 195

أو على الاختصاص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). واحتمل في الوسائل - مضافاً إلى ذلك - حمله على الجواز.

لكنه إن أريد به الجواز على أن يكون من الحنوط، بحيث يتخير في الحنوط بين الكافور وحده والكافور مع المسك، فهومناف للنصوص المتقدمة. وإن أريد به جواز تطييب الميت بالمسك من دون أن يكون حنوطاً، فهو مخالف لظاهره جداً. وبالجملة: لا إشكال في اختصاص الحنوط بالكافور، دون غيره، لا منضماً إليه، ولا بدلاً عنه في عرضه اختياراً، ولا في طوله اضطراراً.

بل صرح بعدم جواز تطييب الميت بغير الكافور والذريرة في الشرايع والقواعد والدروس ومحكي التحرير ونهاية الأحكام والبيان وظاهر الذكرى، ويناسبه ما تقدم من بعضهم من النهي عن خلط المسك أو غيره بالكافور، حيث قد يحمل على حرمة مطلق التطييب ولو لغير التحنيط. بل في الغنية دعوى الإجماع على أنه لا يطيب بغير الكافور.

وقد يستدل له - مضافاً إلى ذلك، وإلى النصوص المتقدمة الناهية عن التحنيط بغير الكافور، وما تقدم في مكروهات الكفن من النهي عن تجمير الأكفان - بصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تجمروا الأكفان ولا تمسحوا موتاكم بالطيب إلا بالكافور، فإن الميت بمنزلة المحرم"(1).

لكن إجماع الغنية ليس بنحو ينهض بالحجية في المقام. ولاسيما مع عدم استثناء الذريرة فيه مع عدم الإشكال ظاهراً في رجحان التطيب بها فضلاً عن جوازه، حيث يحتمل بلحاظ ذلك كون نظره لحيثية التحنيط، لبيان انحصاره بالكافور، لذكره في سياق أحكامه، من دون أن ينافي جواز التطيب مع قطع النظر عنه.

مضافاً إلى قلة تعرضهم لتطييب الميت، وإنما تعرضوا لتجمير الكفن، مصرحين بكراهته، ولم يعرف القول فيه بالحرمة، مع قضاء المناسبات الارتكازية بكونهما بحكم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 196

(197)

ويكفي المسمى (1).

واحد. بل عن الإصباح التصريح بكراهة خلط الكافور بشيء من الطيب، خاصة المسك، كما ادعى في الخلاف الإجماع على كراهة خلطه بالمسك والعنبر، وفي المختلف أن المشهور كراهة خلطه بمسك في قبال رواية الصدوق استحبابه، وظاهره الإجماع على الجواز.

وأما النهي في النصوص عن التحنيط بغير الكافور فهو لا يستلزم حرمة تطييبه به من دون أن يكون حنوطاً. كما أن النهي عن تجمير الكفن محمول على الكراهة، بقرينة ما تقدم من دعوى الإجماع عليها المعتضدة ببعض النصوص المرخصة فيه. فراجع.

ومنه يظهر وهن الاستدلال بصحيح محمد بن مسلم، لأن سياق تطييب الميت وتجمير الكفن في سياق واحد وتعليلهما معاً بأن الميت بمنزلة المحرم يأبى التفكيك بينهما في الحرمة والكراهة، بل يتعين حملهما معاً على الكراهة بلحاظ ما تقدم. ولاسيما مع ما تقدم عند الكلام في شروط الكفن من لزوم حمل التعليل على الكراهة، ومع حديث غياث المتقدم عند الكلام في كراهة تجمير الكفن على اختلاف نسخه المشار إليها هناك. فراجع، وتأمل جيداً.

بقي شيء. وهو أنه صرح باستحباب خلط الكافور بتربة الحسين (عليه السلام) في العروة الوثقى، وحكي عن الجعفي. ويشهد له صحيح محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري:" كتبت إلى الفقيه أسأله عن طين القبر يوضع مع الميت في قبره هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب وقرأت التوقيع ومنه نسخت: توضع مع الميت في قبره ويخلط بحنوطه إن شاء الله"(1).

(1) كما في إشارة السبق والوسيلة والمعتبر والشرايع والتذكرة والمنتهى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 197

والقواعد والمختلف والإرشاد والدروس وجامع المقاصد والروض والروضة وعن الجمل والعقود ونهاية الأحكام والتحرير والبيان والذكرى والموجز الحاوي وشرحي الجعفرية وكشف الالتباس وغيرها. وعن الكفاية أن المشهور، بل نسب للتذكرة وأحد شرحي الجعفرية الإجماع عليه. لكن لا يبعد ظهور كلام التذكرة في دعوى الإجماع على أصل وجوب التحنيط، أو على مواضعه، لا على الاكتفاء بالمسمى، لأنه أشار في سياق الكلام للخلاف فيه، كما حكاه غيره عن غير واحد.

وهو الظاهر من جماعة، ففي المقنع أن أقله مثقال لمن وجده، ونحوه في المقنعة وعن ابن الجنيد، وقد يرجع إليه قوله في الغنية: "والسايغ منه ثلاثة عشر درهماً وثلث. ويجزي مثقال واحد بدليل الإجماع" .وعن الإعلام للمفيد أن أقله درهم، وعن الجعفي أن أقله مثقال وثلث. وفي الفقيه أنه ثلاثة عشر درهماً وثلث، فإن تعذر فأربعة مثاقيل، فإن تعذر فمثقال، لا أقل منه لمن وجده. ونحوه في الاقتصاد، إلا أنه قال: "فمثقال أو ما يتمكن منه" .وفي الهداية أن السنة هي الثلاثة عشر درهماً وثلث، فإن تعذر فأربعة دراهم، فإن تعذر فمثقال واحد لمن وجده. وقريب منه في الخلاف مدعياً الإجماع عليه. وفي المبسوط والنهاية أن الأفضل ثلاثة عشر درهماً وثلثاً، فإن تعذر فأربعة مثاقيل، فإن تعذر فدرهم، فإن تعذر فما تيسر، وفي المراسم: "ويعد لحنوطه ثلاثة عشر درهماً وثلث... فإن تعذر فأربعة دراهم [مثاقيل. خ ل] وإن تعذر فمثقال، وإن تعذر فما تيسر".

وهذه العبارات - كما ترى - ظاهرة - كلها أو جلها - في أن الواجب هو المرتبة الدانية مطلقاً، أو بشرط تعذر الأكثر. لكن ربما نزلت على تحديد المستحب مع الاكتفاء في امتثال الواجب بالمسمى. قال في المعتبر: "أقل المستحب من الكافور للحنوط درهم، وأفضل منه أربعة دراهم، وأكمل منه ثلاثة عشر درهماً وثلث. كذا ذكره الخمسة وأتباعهم، ثم لا أعلم للأصحاب فيه خلافاً".

وكيف كان فالاكتفاء بالمسمى هو الذي يقتضيه إطلاق جملة من النصوص

ص: 198

المتضمنة للأمر بالمسح بالكافور أو جعله في المواضع الخاصة للميت(1). ولاسيما قوله (عليه السلام) في موثق سماعة: "ويجعل شيئاً من الحنوط على مسامعه ومساجده..."(2). وليس في النصوص ما يظهر في التقييد عدا مرسل ابن أبي نجران عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: أقل ما يجزي من الكافور للميت مثقال"(3). ومرسله الآخر عنه (عليه السلام): "قال: أقلما يجزي من الكافور للميت مثقال ونصف"(4). ونحوهما في التحديدين الرضوي في موضعين منه(5).

ولا مجال للتعويل عليها في الخروج عن الإطلاق مع ضعفها وعدم ظهور انجبارها بعمل الأصحاب، لأن التحديد بالمثقال وإن وقع من بعضهم - كما تقدم - إلا أن قلته واحتمال إرادته الاستحباب الذي يظهر منهم التسامح في مستنده يمنعان من كونه جابراً لما تضمنه.

نعم لا بأس بالعمل بها برجاء المطلوبية والورود بعد الجمع بينها بحمل الاختلاف بينها في المقدار على الاختلاف في الفضل. ولعله إليه يرجع ما في المعتبر من حملها على الاستحباب بسبب ضعف سندها، كما جرى عليه في نظائر المقام. وإلا فمن الظاهر أن ضعف السند ليس من القرائن العرفية على حمل الأمر على الاستحباب.

ومنه يظهر ضعف ما تقدم من الجعفي من تحديد الأقل بمثقال وثلث. لعدم الشاهد له. وأما تحديده بدرهم فهو يبتني على حمل المثقال عليه الذي يأتي الكلام فيه عند الكلام في تحديد المستحب.

كما يظهر ضعف ما في الحدائق من أن ظاهر الأخبار وجوب المقادير المذكورة على نحو الترتب، وأنه لا يصار إلى الأقل منها إلا مع تعذر الأكثر، الذي يقتضيه الجمود على بعض العبارات المتقدمة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3، 4 وباب: 16 منها حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب التكفين حديث: 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 2، 5.

(5) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 2 من أبواب الكفن حديث: 2.

ص: 199

(200)

والأحوط وجوباً أن يكون بالمسح (1)

إذ فيه: أن النصوص لا تنهض بذلك. إذ لا يشهد لتحديد الأكثر بثلاثة عشر درهماً وثلث إلا مرفوع إبراهيم بن هاشم:" قال: السنة في الحنوط ثلاثة عشر درهماً وثلث أكثره. وقال: إن جبرئيل (عليه السلام) نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحنوط، وكان وزنه أربعين درهماً، فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة أجزاء: جزء له وجزء لعلي وجزء لفاطمة "(1) ومرفوع ابن سنان:" قال: السنة في الحنوط ثلاثة عشر درهماً وثلث "(2) وغيرهما مما تضمن أن الحنوط الذي كان بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة (عليهما السلام) كان أربعين درهماً(3).

وهي كما ترى - مع ضعفها في نفسها - لا ظهور لها في الوجوب، لأن السنة وفعلهم (عليهم السلام) أعم منه. كما أنه لا يشهد لتحديد المتوسط بأربعة مثاقيل عدا صحيح الكاهلي والحسين بن المختار عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: القصد من الكافور أربعة مثاقيل "(4) ونحوه مرسل الكليني عنهما(5) ، إلا أنه روي في الوسائل بنسختين: (القصد) و (الفصل). وعدم ظهورهما في الوجوب، بل ظهورهما في الاستحباب، غني عن البيان.

(1) كما عبر به جماعة، وهو معقد الإجماع في التذكرة والروض. لكن عبر جماعة آخرون بالوضع، وهو معقد إجماع المنتهى، وثالث بالإمساس، من دون أن ينبهوا للخلاف من هذه الجهة. وقد يشهد ذلك بكون مراد الجميع واحداً، لولا ما في ظاهر الوسيلة ومحكي الجمل أو صريحهما من استحباب المسح زائداً على الإمساس أو الوضع.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 1، 7.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التكفين.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 3.

ص: 200

أما النصوص فعباراتها مختلفة بين الجعل والوضع والمسح، كما تقدم عند الكلام في عدم وجوب استيعاب المساجد، وحيث كان بينها عموم من وجه موردي كان مقتضى الجمع بينها عرفاً التقييد الراجع لاعتبار الأمرين، فيجب المسح بنحو يبقى في المحل شيء من الكافور.

ودعوى: أنه يأبى ذلك قوله (عليه السلام) في مرسل يونس المتقدم:" ثم اعمد إلى كافور مسحوق فضعه في جبهته [و] موضع سجوده وامسح بالكافور على جميع مفاصله... "(1) بلحاظ التعبير فيه بالوضع في الجبهة ثم العدول عنه إلى التعبير بالمسح في غيرها. ممنوعة. بل قد يكون ذلك شاهداً على كون المراد بالوضع ما يساوق المسح، لبعد اختلاف نحو التحنيط باختلاف المواضع جداً، بل تأباه بقية نصوص المسألة.

وعليه قد ينزل ما في المبسوط، حيث قال:" ويضعه على مساجده جبهته وباطن كفيه ويمسح به راحتيه وأصابعهما، ويضع على عيني ركبتيه وظاهر أصابع قدميه "ونحوه في النهاية، وإلا كان خالياً عن الشاهد.

ومثلها دعوى تنزيل نصوص المسح على النصوص الأخر بحملها على أن ذكر المسح لكونه سبباً لبقاء شيء من الكافور في محله، لأنه الغرض الظاهر منه، لا لمطلوبيته بخصوصيته. لاندفاعها بمخالفة ذلك للظاهر، ولاسيما مع احتمال مطلوبية المسح بلحاظ كونه سبباً لتبليغ الموضع بالكافور ونفوذه فيه بنحو لا يحصل بمجرد الوضع. ومنه يظهر ضعف القول باستحباب المسح، إذ لو حمل الأمر به على مطلوبيته مقدمة لبقاء شيء من الكافور في المحل لم يبق دليل على استحبابه، ولو حمل على مطلوبيته بخصوصيته فظاهره الوجوب.

وأما المناقشة في ظهور المقيدات في الوجوب باختلافها واشتمالها على كثير من المندوبات. فهي مدفوعة بعدم صلوح ذلك وحده لرفع اليدعن الظهورفي الوجوب. ولاسيما مع أن الاختلاف بينهما إنما هو في مواضع التحنيط، وأما فيما يحصل به فليس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3.

ص: 201

باليد، بل بالراحة (1).

هو إلا من اختلاف المطلق والمقيد الذي يتعين معه الجمع بالتقييد.

هذا وعن بعض مشايخنا أن الأمر بالتحنيط في نفسه يقتضي المسح. ولم يتضح مأخذه. والعمدة ما ذكرنا.

(1) كما في العروة الوثقى. قال سيدنا المصنف (قدس سره):" لم أقف عاجلاً فيما يحضرني على قول به، أو نص عليه، أو متعرض له. وكأن وجهه انصراف المسح إلى اليد، وخصوص الراحة منها. لكنه في الراحة ممنوع، وفي اليد - يعني: الكف، كما هو المراد ظاهراً - ليس بنحو يجب رفع اليد به عن الإطلاق ".وما ذكره في اليد في محله لو أريد بها الكف، كما هو الظاهر، حيث ينصرف المسح إليها بسبب عدم تعارف المسح إلا بها، بل بباطنها، وقد تكرر أن الانصراف بسبب التعارف لا يوجب التقييد، ولاسيما إذا كان الإطلاق مقتضى المناسبات الارتكازية، كما في المقام، لارتكاز أن الغرض هو إصابة الكافور للمحل بالنحو الخاص من دون خصوصية للآلة. ولو أريد بها تمام العضو ولو غير الكف فلا يتضح خصوصيتها في الانصراف.

وأما ما عن بعض مشايخنا من دعوى أخذ إمرار اليد في مفهوم المسح إذا كان متعدياً بالباء، كما في المقام. فلم يتضح مأخذه، بل الظاهر خلافه، سواء أراد من اليد تمام العضو أم خصوص الكف منه.

وأما الراحة فقد فسرت في مختار الصحاح ولسان العرب والقاموس بالكف. ويناسبه قول الشاعر:

ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح

كما فسرت في مجمع البحرين بباطن الكف. والأول لا يناسب المقام، بناءً على ما سبق من أن الظاهر كون المراد من اليد الكف، للتطابق بينهما الذي لا يناسب العطف ببل. والثاني مورد للانصراف، لأنه المتعارف كما سبق، ولاوجه لإنكار الانصراف إليه.

ص: 202

والأفضل أن يكون وزنه ثلاثة عشر درهماً وثلث درهم (1).

ومن ثم لا يبعد كون المراد بها في المتن خصوص ما عدا الأصابع من باطن الكف، وإن لم أعثر على شاهد له من اللغة، عدا قول الشاعر: "كما ثبتت في الراحتين الأصابع" ويناسبه ما تقدم من المبسوط. وحينئذٍ لا يتضح وجه الانصراف إليها، لعدم كونها أولى بالتعارف من باطن الأصابع، بل لعل باطن الأصابع هوالأولى به.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة من الأصحاب ممن تقدم عند الكلام في الاجتزاء بالمسمى وغيرهم، وعن الكفاية أنه الأشهر، وفي كشف اللثام أنه المشهور، وتقدم من الخلاف دعوى الإجماع عليه، ومن المعتبر نسبته للخمسة وأتباعهم، وأنه لا يعلم فيه خلافاً، وكأنه يرجع إليه ما في جملة من عباراتهم من أنه السائغ للميت، وقد يظهر مما تقدم من الغنية دعوى الإجماع عليه.

ويشهد به مرفوعا إبراهيم بن هاشم وابن سنان، المعتضدان بما تضمن إتيان جبرئيل (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأربعين درهماً من الكافور، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قسمه أثلاثاً بينه وبين أمير المؤمنين وسيدة النساء(1) (عليهما السلام).

ومنه يظهر ضعف ما عن القاضي من أنه وزن ثلاثة عشر درهماً ونصف، وفي المختلف: "وهو غريب".

ومثله ما في المقنع من أن السايغ للميت أوقية. إذ الأوقية أربعون درهماً، كما تضمنته جملة من النصوص(2) ، ولم أعثر على ما يقتضي التحديد بذلك، سواء أراد منتهى السنة أم منتهى الرخصة. بل في مرسل الفقيه: "إن جبرئيل أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأوقية كافور من الجنة والأوقية أربعون درهماً فجعلها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة أثلاث:

********

(1) تقدمت النصوص المذكورة صريحاً أو إشارة عند الكلام في الاجتزاء بالمسمى وتراجع في وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 4 من أبواب المهور.

ص: 203

ثلثاً له، وثلثاً لعلي، وثلثاً لفاطمة"(1). وقريب منه في الهداية.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن الأصحاب كما ذكروا ذلك ذكروا تحديدين آخرين:

أولهما: تحديد المتوسط من المستحب بأربعة مثاقيل، كما تقدم عند الكلام في الاكتفاء بالمسمى، وذكر أيضاً في التذكرة والمنتهى ومحكي مختصر المصباح ونهاية الأحكام. ويشهد به صحيح الكاهلي والحسين بن المختار ومرسل الكليني(2) المتقدمان عند الكلام في الاجتزاء بالمسمى.

لكن عبر جماعة بأربعة دراهم، كما تقدم من بعضهم هناك، وذكر أيضاً في المقنعة والسرائر والشرايع والقواعد والروضة وغيرها، بل في مفتاح الكرامة أنه قول الأكثر، وفي محكي الكفاية أنه الأشهر، كما هو داخل في معقد الإجماع ونفي الخلاف المتقدمين من الخلاف والمعتبر.

وكأنه للبناء على أن المراد من المثاقيل في النص الدراهم، كما يأتي من المنتهى في تحديد الأقل، وادعاه في السرائر في كلمات الأصحاب.

لكنه تحكم، كما في الدروس، وعن ابن طاووس المطالبة بالدليل عليه، إذ تقدم عند الكلام في تحديد وزن الكر أن المثقال درهم وثلاثة أرباع الدرهم. وأما تعبير جملة من الأصحاب بالدرهم مع ورود النص بالمثقال فهو يكشف عن اضطرابهم في المقام، وإلا فليس تنزيل كلام من عبر بالمثقال على الدرهم بأولى من تنزيل كلام من عبر بالدرهم على المثقال.

نعم في الرضوي:" فإذا فرغت من كفنه حنطه بوزن ثلاثة عشر درهماً وثلث من الكافور، فإن لم تقدر على هذا المقدار كافوراً فأربعة دراهم، فإن لم تقدر فمثقال ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التكفين حديث: 3، 4.

ص: 204

أقل من ذلك لمن وجده"(1). وعليه يكون مرتبة أخرى دون الأربعة مثاقيل.

ثانيهما: تحديد الأقل بالمثقال، كما تقدم من جماعة عند الكلام في الاكتفاء بالمسمى، وذكر أيضاً في جمل العلم والعمل للمرتضى والتذكرة وغيرهما، وهو معقد إجماع الخلاف المتقدم هناك.

ويقتضيه مرسل ابن أبي نجران المتقدم هناك أيضاً. ومقتضى الجمع بينه وبين مرسله الآخر كون المثقال والنصف أفضل.

لكن في الروضة أن الأفضل مثقال وثلث. ويظهر من الروض أن به رواية، ولم نعثر عليها. ومن ثم تقدم أن ما عن الجعفي من تحديد الأقل بالمثقال والثلث خال عن الشاهد.

هذا وقد عبر هنا بالدرهم جماعة ممن تقدم ذكرهم عند الكلام في الاكتفاء بالمسمى وغيرهم، كما هو المذكور في الوسيلة والسرائر والشرايع والقواعد ومحكي الجمل والعقود والمصباح ومختصره والإصباح والجامع ونهاية الأحكام والتحرير والبيان والموجز الحاوي وكشف الالتباس وغيرها، وهو معقد نفي الخلاف المتقدم من المعتبر هناك.

وحيث كان النص متضمناً للمثقال فالتحديد بالدرهم يبتني على ما في المنتهى من أنه هو المراد بالمثقال هنا. ويظهر الحال فيه مما تقدم في سابقه. كما يظهر أن ما في إشارة السبق من التخيير بين المثقال والدرهم خال عن الشاهد.

والذي تحصل من مجموع النصوص المتقدمة ومنها الرضوي: أن الأتم ثلاثة عشر درهماً وثلثاً، ثم أربعة مثاقيل، ثم أربعة دراهم، ثم مثقال ونصف. وبالنظر لكلام الأصحاب يتحصل أربع مراتب أخر: أوقية، ثم ثلاثة عشر درهماً ونصفاً قبل المرتبة الأولى، ومثقال وثلث قبل الأخيرة، ودرهم بعدها.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 2 من أبواب الكفن حديث: 2.

ص: 205

الثاني: قال أبو عبدالله (عليه السلام) في موثق عمار: "واجعل الكافور في مسامعه وأثر سجوده منه وفيه. وأقل من الكافور"(1). وظاهره استحباب الأقل، فيكون الأعلى منتهى السايغ - في مقابل الحرام أو المكروه - كما عبر به بعضهم، من دون حاجة لتنزيله على أنه الأفضل، كما تقدم.

لكن يأباه ما تضمن أن الأعلى هو السنة، وأنه الذي حنط به المعصومون الذين أنزل حنوطهم من الجنة (صلوات الله عليهم). نعم النصوص المتضمنة لذلك ضعيفة، وإن كانت متعددة مشهورة المضمون يبعد عدم صدور شيء منها، وقد جرى الأصحاب عليها. فتأمل جيداً.

الثالث: نبه جماعة للخلاف في أن المقادير المذكورة لخصوص الحنوط أوله وللغسل. صرح بالأول جماعة، وعن الذكرى أنه الذي قطع به الأكثر، كما نسب للأكثر في المدارك ومحكي الكفاية، وفي كشف اللثام والجواهر أنه ظاهرهم، وعن كشف الالتباس أنه المشهور، بل مقتضى ما تقدم من الغنية والمعتبر دخوله في معقد الإجماع ونفي الخلاف. وعن الموجز الحاوي وحواشي الشهيد على القواعد الثاني، وعن الوافي الميل إليه. وظاهر التذكرة وعن التحريرونهاية الأحكام ومجمع البرهان التردد.

ومقتضى نصوص المرتبة العليا اختصاصها بالتحنيط، للتعبير في أكثرها بالحنوط، الظاهر فيما يستعمل للتحنيط، لا في الكافور بذاته وإن استعمل لغيره، وإن ورد إطلاقه فيما تضمن تطييب القطن مما تقدم في محله.

وأما استبعاد تغسيلهم (صلوات الله عليهم) بكافور غير ما أنزل من الجنة. فهو - لو تم - لا ينهض بالخروج عن الظهور المذكور. ولاسيما مع إمكان إتيانهم بكافور آخر من الجنة للتغسيل، كما نبه له في الجملة سيدنا المصنف (قدس سره). بل مقتضى الرضوي المتقدم ذلك في تمام المراتب المذكورة فيه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

ص: 206

(207)

ويستحب سحقه باليد (1).

لكن مقتضى إطلاق صحيح الكاهلي والحسين بن المختار ومرسل الكليني الواردين في المرتبة الوسطى ومرسلي ابن أبي نجران الواردين في المرتبة الدانية الشمول لكافور الغسل.

وأما دعوى: اتحاد موضوعهما مع موضوع نصوص المرتبة العليا، فتصلح نصوص تلك المرتبة قرينة على حمل هذه على خصوص كافور التحنيط. فلا شاهد لها من هذه النصوص بعد عدم الإشعار فيها بالنظر لموضوع تلك.

كما لا مجال للاستشهاد لها بفهم الأصحاب مع كون أول من أشارللخلاف المذكورهوابن إدريس، وهو إنماذكره في المرتبة العليا، وذكر أن الأظهربين الأصحاب اختصاصها بالحنوط. اللهم إلا أن يستفاد العموم لبقية المراتب من فتاواهم المتقدمة من قدمائهم، لقوة ظهورها فيه جداً. فلاحظ.

(1) كما في المقنعة والمبسوط والنهاية وغيرها. وفي المعتبر:" ذكره الشيخان ولم أتحقق مستنده ".وعن الشهيد تعليله بخوف الضياع. وهو كما ترى. وزاد في المبسوط:" ويكره سحقه بحجر وغير ذلك "وقريب منه في الدروس وهو مناسب للتعليل المتقدم لو تم.

وظاهرهم المفروغية عن اعتبار كون الكافور مسحوقاً، وصرح به بعضهم، وإن لم يتعرضوا لوجهه. ويقتضيه مضافاً إلى ذلك قوله (عليه السلام) في مرسل يونس:" ثم اعمد إلى كافور مسحوق فضعه على جبهته [و] موضع سجوده"(1). مضافاً إلى ما قد يستفاد مما تقدم من الجمع بين النصوص من اعتبار كون جعل الكافور بنحو المسح، إذ مسح غير المسحوق لا يقتضي بقاء شيء منه في المحل، كما لعله ظاهر.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3.

ص: 207

(208)

كما يستحب مسح (1) مفاصله (2)

(1) أشرنا في ذيل الكلام في وجوب تحنيط المساجد إلى اختلاف النصوص في مواضع التحنيط من الميت وأنه لابد من الاقتصار في الواجب على المساجد. وحيث كانت النصوص فيما عداها مختلفة في المقدار وفي الأمر ببعضها والنهي عنه، فمقتضى القاعدة البناء على استحباب ما ورد الأمر به بلا معارض أو كان معارضه مرجوحاً، وعلى كراهة ما ورد النهي عنه بلا معارض أو كان معارضه مرجوحاً، على ما سيأتي توضيحه، وقد أشير إلى ذلك في الجملة في كلام غير واحد من متأخري المتأخرين.

نعم قد يشكل البناء على استحباب جملة مما تضمنته النصوص المعتبرة بظهور إهمال الأصحاب لها، حيث لم يتعرض لغير المساجد والصدر إلا النادر منهم في النادر منها، كما سيأتي، مع بنائهم على التعرض للمستحبات في نظائر المقام، حيث قد يوجب ذلك الريب في مفاد النصوص المذكورة، واحتمال إطلاعهم على ما يمنع من التعويل عليها، كجريها على ما عليه العامة أو نحوه.

اللهم إلا أن يكون تسامحهم في أدلة المستحبات والمكروهات مانعاً من التعويل على إهمالهم المذكور لنصوص المقام، لاحتمال ابتنائه على ورود النهي عن بعضها والتعدي منه للباقي، لتخيل جري الكل على نحو واحد في موافقة العامة من دون تحقيق. فلاحظ.

(2) قال في الفقيه: "ويجعل الكافور على بصره وأنفه وفي مسامعه وفيه ويديه وركبتيه ومفاصله كلها وأثر السجود منه، فإن بقي منه شيء جعل على صدره" .وفي المختلف أنه لا بأس به، وعن الذكرى أن شهادة الأخبار له أتم.

ويشهد لاستحباب التحنيط في المفاصل صحيح زرارة عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام): "قال: إذا جففت الميت عمدت إلى الكافور فمسحت به آثار السجود ومفاصله كلها، واجعل في فيه ومسامعه ورأسه ولحيته من الحنوط وعلى صدره

ص: 208

ولبته (1) وصدره (2)

وفرجه" (1) ونحوه في ذلك صحيحا الحلبي وحمران ومرسل يونس(2) على نسخة للأخير تقدمت الإشارة إليها عند الكلام في تحنيط المساجد. ولا معارض لهذه النصوص في المفاصل.

(1) كما في العروة الوثقى. ويقتضيه صحيح الكاهلي وحسين بن المختار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: يوضع الكافور من الميت على موضع المساجد وعلى اللبة وباطن القدمين وموضع الشراك من القدمين وعلى الركبتين والراحتين وعلى الجبهة واللبة" (3) ولا معارض له فيها.

(2) فقد صرح جماعة من الأصحاب بأنه إن فضل شيء من الكافور ألقي على صدره، وادعى في الخلاف الإجماع عليه. بل مقتضى الجمود على كلام المنتهى دعوى الإجماع على وجوبه. قال: "ثم تعمد إلى الكافور... فيسحقه بيده، ويضع منه على مساجده السبعة وطرف أنفه، فإن فضل من الكافور شيء كشف قميصه وألقاه على صدره. ولا خلاف في ذلك، وقد اتفق علماؤنا على وجوبه".

إلا أن وجوبه لا يناسب تقييده في كلامه وكلام غيره بما إذا فضل شيء من الكافور، حيث يبعد جداً بناؤهم على وجوبه مشروطاً بأن يفضل من الكافور شيء من دون أن يجب إعداد الكافور الكافي له، ولاسيما مع إطلاق الأمر به في النصوص. ومن ثم لا يبعد كون معقد الإجماع الذي ادعاه هو وجوب التحنيط في المساجد، لأنه الذي اتفقت عليه النصوص التي استدل بها.

وكيف كان فيشهد لاستحباب التحنيط في الصدر صحيح زرارة المتقدم وصحيح الحلبي من دون معارض لهما فيه. نعم مقتضاهما تحنيطه كبقية المواضع، ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 1، 5، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 209

وباطن قدميه (1) وظاهر كفيه (2).

وضع ما زاد من الكافور عليه، كما ذكروه. ومن ثم لا يبعد كون مرادهم من ذلك التنبيه على استحبابه.

(1) كما تقدم في صحيح الكاهلي وحسين بن المختار، ولا معارض له فيه.

(2) استدل له (قدس سره) بقوله (عليه السلام) في موثق سماعة: "ويجعل شيئاً من الحنوط على مسامعه ومساجده وشيئاً على ظهر الكف"(1).

لكن في المطبوع حديثاً من الوسائل روايته بنسختين:" ظهر الكفين "و" ظهر الكفن "،واقتصر في المطبوع حديثاً من التهذيب على الثانية.

نعم هي لا تخلو عن غرابة، لعدم مألوفية التعبير بظهر الكفن، بل غاية ما يقال: ظاهر الكفن. على أنه لم يعهد من الأصحاب البناء على استحبابه، كما يظهر مما تقدم في استحباب تطييب الكفن. وبذلك تقوى النسخة الأولى. فلاحظ.

هذا وقد أهمل سيدنا المصنف (قدس سره) بعض المواضع المشاركة للمواضع المتقدمة في دلالة النصوص عليها وإهمال الأصحاب لها.

منها: الرأس، كما تقدم في صحيح زرارة، ونحوه صحيح الحلبي ومرسل يونس.

ومنها: اللحية، كما تقدم في صحيح زرارة، ونحوه صحيح الحلبي.

ومنها: العنق، كما تضمنه مرسل يونس المشار إليه.

ومنها: المنكبان، كما تضمنه المرسل المذكور.

ومنها: الفرج، كما تقدم في صحيح زرارة، ويأتي في الرضوي.

ومنها: الفم، كما في المقنع وتقدم من الفقيه. وقد تضمنه صحيح زرارة المتقدم،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب التكفين حديث: 2.

ص: 210

ونحوه صحيح عبدالله بن سنان(1) وموثق عمار(2). ولعله إليه يرجع ما في الدروس من أن المروي تحنيط اللثة، وإلا فلم أعثر على ما تضمنها بعنوانها من النصوص.

وأما ما في الوسائل من كراهة وضع الكافور على فمه فلم يذكر ما يشهد له من النصوص في الباب الذي أعده لذلك.

وأشكل من ذلك ما قد يظهر من إطلاق النهي عنه في المبسوط والنهاية والسرائر من حرمته، بل قد يظهر مما يأتي من الخلاف الإجماع على ذلك. وإن لم يبعد بناؤهم على الكراهة، لما يأتي في تحنيط العين، وقد ذكرنا عدم شهادة النصوص له، وإن ادعى في الدروس أنه مروي، وأنه أشهر.

نعم في الرضوي:" ولا يجعل في فمه ولا منخره ولا في عينيه ولا في مسامعه، ولا على وجهه قطن ولا كافور ".لكن في موضع أخر منه:" وروي أن الكافور يجعل في فيه وفي مسامعه، وبصره ورأسه ولحيته، وكذلك المسك، وعلى صدره وفرجه"(3).

ومنها: الراحتان. فقد تضمن صحيح الكاهلي وحسين بن المختار المتقدم التحنيط فيهما. كما تضمن مرسل يونس التحنيط في وسطهما. ولا يبعد تنزيل الصحيح عليه، لظهوره في عدم كونهما من المساجد، وهو قد ينطبق على وسطهما الذي لا يصيب الأرض منهما.

ومنها: موضع الشراك من القدمين، كما تقدم في صحيح الكاهلي وحسين بن المختار.

ومنها: المرافق، كما تضمنه مرسل يونس. نعم لا يخلو المراد بالمرافق عن إجمال. وقد تقدم في غسل الفرج من مستحبات التغسيل ما يتعلق بذلك.

ومنها: المغابن، فقد ذكرها في العروة الوثقى. وينحصر الدليل عليها بمرسل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 12 من أبواب الكفن حديث: 1.

ص: 211

(212)

(مسألة 41): محل التحنيط بعد التغسيل (1)

يونس على نسخة للتهذيب أشرنا إليها عند الكلام في تحنيط المساجد.

هذا وقد نسب في الدروس للصدوق القول بتحنيطها، وذكر أنه مروي، وأنه روي الكراهة، وهو أشهر. لكن لم نتحقق نسبته للصدوق، ولا رواية الكراهة، ولا أنها أشهر.

ثم إن المغابن - كما في لسان العرب والقاموس ومجمع البحرين - هي الآباط والمرافغ التي هي من الرجلين كالآباط من اليدين، وربما قيل إن المرافغ أعم من الآباط، فتكون مساوية للمغابن، ويكون عطفها على الآباط من عطف العام على الخاص.

هذا وأما ما في العروة الوثقى من أنه لا يبعد استحباب تحنيط كل موضع من البدن فيه رائحة كريهة، فلم يتضح مأخذه. وما قيل من تفسير المغابن بذلك. لا شاهد له. فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه ما تقدم في صحيح زرارة من الأمر به بعد التجفيف من الغسل، وما تضمنه موثق عمار(1) من الأمر به بعد التغسيل، وما يظهر مما يأتي من مرسل يونس من عدم الفصل بينه وبين التكفين بمثل التغسيل.

وأما ما يظهر من نصوص التحنيط من لزوم بقاء شيء من الكافور في مواضعه الذي لا يكون مع غسلها. فهو لا يمنع من إيقاعه قبل إكمال التغسيل إذا لم يكن إكماله بغسلها بل بغسل غيرها. غاية الأمر أنه لابد من جفاف المحل لئلا يتنجس الكافور بمماسته قبل طهارة الميت بإكمال الغسل.

اللهم إلا أن يمنع من لزوم إيقاعه بعد الإكمال حينئذٍ، لتنزيل النصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

ص: 212

أو التيمم (1) قبل التكفين أو في أثنائه (2).

المتقدمة على تجنب زوال الحنوط بالغسل، لأنه المنصرف منها. لكنه لا يخلو عن إشكال، والجمود على مفاد النصوص أوفق وأحوط.

(1) كما في العروة الوثقى، ويظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره المفروغية عنه. وكأنه لإطلاق دليل بدليته. لكنه لا يخلو عن إشكال، لظهور الدليل المذكور في بدليته عن الغسل في المطهرية، المستلزم لقيامه مقامه في الأحكام الثابتة من حيثية كونه مطهراً، ولم يثبت كون المقام منها، لإمكان كون منشأ تقديم الغسل على التحنيط ما أشرنا إليه آنفاً من تجنب زوال الكافور به، وذلك لا يقتضي إلا تقديم التيمم على تحنيط المواضع التي يزول الكافور عنها بالتيمم، كالجبهة، دون مثل الركبتين.

(2) صرح بتقديم التحنيط على التكفين في القواعد والدروس ومحكي البيان والذكرى، وهو ظاهر جامع المقاصد ومحكي نهاية الأحكام. وكأنه لأنه المنصرف من إطلاق ترتيبه على التجفيف في صحيح زرارة المتقدم، ولقوله (عليه السلام) في مرسل يونس: "أبسط الحبرة بسطاً، ثم أبسط عليها الإزار، ثم ابسط القميص عليه، وترد مقدم القميص عليه، ثم اعمد إلى كافور مسحوق فضعه على جبهته... ثم يحمل فيوضع على قميصه، ويرد مقدم القميص عليه..."(1). لكن الصحيح مسوق لبيان وجوب التحنيط بعد التغسيل، ولا يعتد بانصرافه المذكور. والمرسل لا يخلو عن اضطراب في المتن، لتضمنه ذكر رد مقدم القميص عليه الذي هو من شؤون التكفين مرتين مرة قبل التحنيط ومرة بعده، فيشكل التعويل عليه في إثبات وجوب تقديم التحنيط على التكفين، ولاسيما مع اشتماله على كثير من الخصوصيات غير اللازمة.

مضافاً إلى ظهور موثق عمار في إيقاعه في أثناء التكفين، لقوله (عليه السلام):" ثم تكفنه تبدأ وتجعل على مقعدته شيئاً من القطن... ثم تبسط اللفافة طولاً... ثم الإزار... ثم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3.

ص: 213

(214)

(مسألة 42): يشترط في الكافور أن يكون طاهراً (1)،

الخرقة... ثم القميص تشد الخرقة على القميص بحيال العورة... واجعل الكافور في مسامعه وأثر سجوده... ثم عممه... وقال: التكفين أن تبدأ بالقميص ثم بالخرقة... ثم يشد الإزار... ثم اللفافة ثم العمامة..."(1).

ومن ثم يتعين الجمع بين النصوص المذكورة بإلغاء هذه الخصوصيات فيها وتنزيلها على إرادة بيان وجوب التحنيط والتكفين، كما هو مقتضى المناسبات الارتكازية من وفاء كل منهما بغرضه مطلقاً.

ومنه يظهر ضعف ما يظهر من المقنعة والمبسوط والنهاية، بل هو كالصريح من المراسم والتذكرة والمنتهى وعن غيرها من كونه بعد التأزير. بل يظهر منها ومن الوسيلة أنه بعد إلباسه القميص أيضاً، بل عن المهذب تأخيره عن العمامة أيضاً.

وأضعف منه ما في الفقيه، حيث قال: "فإذا فرغ من تكفينه حنطه بما ذكرته من الكافور" .حيث لا يشهد له إلا الرضوي(2) المقارب له في التعبير. ومن الظاهر أنه لا مجال للخروج به عن ظاهر النصوص.

نعم لا يبعد كون مراد الجميع بيان وجوب التحنيط من دون خصوصية شرعاً لمحله من الكفن، كما ذكرنا وبه صرح في الروض وكشف اللثام وغيرهما.

(1) قد تعرض في العروة الوثقى لذلك ولبقية الشروط التي تضمنتها هذه المسألة، واعترف سيدنا المصنف (قدس سره) بعدم العثور على من تعرض لها، ومع ذلك قال: "الظاهر أن الوجه في اعتبار الطهارة الإجماع" .وكأن مراده به الإجماع الارتكازي على لزوم طهارة الميت وتوابعه حين الدفن، تبعاً لما يستفاد من دليل اعتبار طهارة الكفن، وتعليل التغسيل بأنه ليلقى ربه طاهراً(3). فتأمل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 12 من أبواب الكفن حديث: 1.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل الميت.

ص: 214

(215)

مباحاً (1) مسحوقاً (2) له رائحة (3).

(مسألة 43): يكره إدخال الكافور في عين الميت (4)

(1) الكلام فيه هو الكلام في الكفن، حيث يظهر مما تقدم أداء الوظيفة بالمغصوب مادام موضوعاً على الميت، وإن حرم استعماله له ووجب على الغاصب رفعه وإرجاعه لمالكه، واستعمال غيره بعد رفعه عنه، بناءً على لزوم بقاء شيء منه على مواضع التحنيط من الميت، كما يظهر مما سبق عند الكلام في وجوب المسح بالكافور.

(2) تقدم وجهه عند الكلام في استحباب سحقه باليد.

(3) لأن اشتمال أكثر النصوص على عنوان الحنوط والتحنيط ملزم بتنزيل ما أطلق فيه الكافور منها على ما إذا صدق عليه الحنوط الذي يظهر من كلمات اللغويين أخذ الطيب في مفهومه، حيث صرحوا بأنه طيب يخلط للميت.

وأما ما عن بعض مشايخنا من عدم صدق الكافور على العتيق الفاقد للرائحة، بل هو حينئذٍ تراب، وإن كان كافوراً سابقاً. فهو غريب جداً.

(4) كما في القواعد. وفي الدروس أنه الأشهر، وعن المفاتيح أنه مذهب الأكثر. وقد يرجع إليه ما في الخلاف من دعوى إجماع الفرقة وعملهم على أنه لا يترك على أنفه ولا أذنيه ولا عينيه ولا فيه شيء من الكافور. ويشهد له قوله (عليه السلام) في مرسل يونس: "ولا يجعل في منخريه ولا في بصره ومسامعه ولا على وجهه قطناً ولا كافوراً"(1).

بل ظاهر النهي فيه الحرمة، كظاهر النهي عنه في المبسوط والنهاية والسرائر وما تقدم من الخلاف، لولا إهمال أكثر الأصحاب التعرض لذلك، وتصريح بعضهم بالكراهة، حيث يكشف عن عدم بنائهم على الحرمة. ولاسيما مع اشتمال المرسل على كثير من الخصوصيات غير اللازمة المستلزم لضعف ظهوره في الإلزام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 3.

ص: 215

وأنفه وأذنه (1)

وأما ما تقدم من الفقيه من الأمر بجعله على بصره، فقد ذكر في الدروس أنه مروي، كما يناسبه ما تقدم عن الذكرى من أن شهادة الأخبار له أتم. وقد استدل لما ذكره في المختلف بصحيحي الحلبي(1) وعبدالله بن سنان(2) وبموثق عمار(3). لكنها خالية عن ذكر البصر.

نعم أشير في الرضوي المتقدم عند الكلام في تحنيط الفم إلى أن المروي جعله في بصره. ومن الظاهر عدم نهوضه بمعارضة مرسل يونس حتى لو فرض رجوع ما تقدم من الفقيه إليه.

(1) على الأشهر، كما في الدروس، وهو مذهب الأكثر في المفاتيح. وقد يرجع إليه ما تقدم في سابقه من الخلاف، بل قد يظهر من إطلاق النهي عن جعله في أذنه في النهاية والمبسوط والسرائر الحرمة، لولا ما تقدم هناك. ويشهد له ما تقدم في مرسل يونس وقوله (عليه السلام) في صحيح حمران:" ولا تقربوا أذنه شيئاً من الكافور "(4) وفي خبر عثمان النوا:" ولا تمس مسامعه بكافور "(5) وفي خبر عبدالرحمن:" ولا تجعل في مسامع الميت حنوطاً "(6) وفي صحيح الكاهلي:" وإياك أن تحشو في مسامعه شيئاً، فإن خفت أن يظهر من المنخرين شيء فلا عليك أن تصير ثمّ قطناً، وإن لم تخف فلا تجعل فيه شيئاً"(7) ، ونحوه مرسل الصدوق(8).

لكن تقدم من الفقيه الأمر بجعل الكافور على الأنف وفي المسامع، ومن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 3.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4، 5.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 2، 4.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 5.

(8) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 7.

ص: 216

المختلف أنه لا بأس به. ويشهد للوضع في الأنف والأذن قوله (عليه السلام) في صحيح حمران المتقدم بعد السؤال عن الحنوط: "يوضع في منخره..." ،وفي صحيح عبدالله بن سنان: "تضع في فمه ومسامعه"(1) ، وفي موثق عمار:" واجعل الكافور في مسامعه "(2) وفي موثق سماعة:" ويجعل شيئاً من الحنوط على مسامعه"(3).

ويظهر من التهذيب والاستبصار الجمع بتنزيل النصوص الأول على الوضع في الأنف والمسامع، والأخيرة على الوضع عليهما، لأن (في) قد تستعمل بمعنى (على) كما في قوله تعالى: (ولأوصلنكم في جذوع النحل)(4).

لكن لم يتضح استعمال (في) بمعنى (على). ويمكن تنزيل الآية على الظرفية بنحو من التوسع. مع أن الوضع على الأذن مستلزم للوضع فيها، وليست هي كالأنف. فتأمل. مضافاً إلى الجمع المذكور تبرعي بلا شاهد، بل يأباه صحيح حمران وخبرعثمان من الطائفة الأولى جداً.

ومن ثم كان الأقرب حمل النصوص الأخيرة على التقية، لموافقتها للعامة، كما يظهر من الخلاف وغيره. ولاسيما مع ما تقدم من الخلاف من دعوى إجماع الفرقة وعملهم على الترك.

نعم لا بأس بالوضع على الأنف، كما هو الظاهر مما تقدم من الفقيه. لكن لا لشيء من نصوص الطائفة الثانية، لظهور صحيح حمران في الوضع فيه، بل احتياطاً بلحاظ ما تقدم - عند الكلام في المساجد - من احتمال إلحاقه بالمساجد وجوباً أو استحباباً، ومن دون أن يرد نهي عنه، لاختصاص ما تقدم في الطائفة الأوليبالوضع فيه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التكفين حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب التكفين حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب التكفين حديث: 2.

(4) سورة طه آية: 71.

ص: 217

وعلى وجهه (1).

(1) لمرسل يونس المتقدم في البصر، المعتضد بالرضوي المتقدم في تحنيط الفم، من دون معارض لهما، ولا ظهور مخالف في ذلك.

بقي في المقام أمور:

الأول: الظاهر عدم الإشكال في عدم اعتبار قصد التقرب في التحنيط، كما صرح به في العروة الوثقى، وقال سيدنا المصنف (قدس سره): "ومقتضى عدم التعرض له في كلامهم التسالم على ذلك" .ويقتضيه - مضافاً إلى ذلك - الإطلاق والأصل المعول عليهما في أمثال المقام، على ما حقق في مبحث التعبدي والتوصلي.

الثاني: الظاهر جواز قيام الصبي ونحوه ممن هو غير مكلف بالتحنيط والتكفين. ويظهر الوجه فيه مما تقدم في المسألة السادسة عشرة من جواز قيامه بالتغسيل، بل هو أولى بالجواز منه.

الثالث: قال في العروة الوثقى: "يبدأ في التحنيط بالجبهة، وفي سائر المساجد مخير" وأقره بعض المحشين. وربما كان مرادهم الاستحباب، كما صرح به في المستند. للرضوي: "فإذا فرغت من كفنه حنطته... وتبدأ بجبهته..."(1). ويرجح موافقته برجاء المطلوبية. وإلا كان مخالفاً لإطلاق النص والفتوى، حيث لم نعثر عاجلاً على من قال بوجوبه.

الرابع: قال في العروة الوثقى:" إذا دار الأمر بين وضع الكافور في ماء الغسل أو يصرف في التحنيط يقدم الأول. وإذا دار في الحنوط بين الجبهة وسائر المواضع تقدم الجبهة ".ولا يخلو عن وجه، حيث لا يبعد أهمية الغسل من الحنوط، كما يظهر من حكمته، وأهمية الجبهة من غيرها، لأنها ركن السجود وأشرف المساجد. ولا أقل من احتمال الأهمية في الموردين دون العكس، وهو كاف في الترجيح في باب التزاحم،

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 13 من أبواب الكفن حديث: 1.

ص: 218

كما حقق في محله من الأصول.

هذا ولو تم الترتيب بين الغسل والتحنيط وبين الجبهة وغيرها فالأمر أظهر، لأن مقتضى إطلاقه عدم تأدي وظيفة اللاحق قبل إكمال السابق، فيكون المقدور هو السابق والمتعذر هو اللاحق لا غير. ومن ثم يكون ما ذكره أحوط حتى لو لم يتم الوجه على الترتيب، لأن عدم ثبوت الترتيب في الثاني أو فيهما لا ينافي احتماله المساوق لاحتمال عدم صلوح التحنيط لمزاحمة الغسل وعدم صلوح غير الجبهة لمزاحمتها.

ثم إن ظاهره المفروغية عن عدم الارتباطية بين الغسل والتحنيط، ولا بين المساجد في التحنيط، فلا يسقط الكل بتعذر البعض. وهو قريب جداً للمرتكزات المحكمة في فهم إطلاق الأدلة في المقام. بل لعله ليس مورداً للإشكال. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. والحمد لله رب العالمين.

ص: 219

ص: 220

(221)

الفصل السادس: في الجريدتين

يستحب أن يجعل (1)

(1) وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) كما في المنتهى، وعليه الإجماع، كما في الانتصار والخلاف والغنية والمعتبر والتذكرة والمسالك والروض والمدارك والحدائق ومحكي الذكرى والمفاتيح، ونفى في جامع المقاصد الخلاف فيه، مصرحاً أكثرهم بانفراد أهل الحق به مع دلالة روايات الفريقين عليه. وفي الجواهر:" إجماعاً من الفرقة المحقة محصلاً ومنقولاً مستفيضاً متواتراً كالنصوص. خلافاً لغيرهم من أهل الباطل. والحمد لله على عدم توفيقهم لذلك، سيما ما ورد أنها تنفع المؤمن والكافر والمحسن والمسيء...".

أما النصوص فهي كثيرة كما ذكره ومختلفة الألسنة، ففي الصحيح عن يحيى بن عبادة عن أبي عبدالله (عليه السلام):" أنه سمعه يقول: إن رجلاً مات من الأنصار فشهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: خضروه، فما أقل المخضرين يوم القيامة. فقلت لأبي عبدالله (عليه السلام): وأي شيء التخضير؟ قال: تؤخذ جريدة رطبة قدر ذراع فتوضع - وأشار بيده إلى عند ترقوته - تلف بثيابه"(1) ، وفي موثق سماعة عنه (عليه السلام): "قال: يستحب أن يدخل معه في قبره جريدة رطبة"(2) ، وفي الصحيح عن الحسن الصيقل

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التكفين حديث: 5، 8.

ص: 221

عنه (عليه السلام):" قال: توضع للميت جريدتان واحدة في اليمين وأخرى في اليسار. قال: وقال: الجريدة تنفع المؤمن والكافر"(1) ، وفي صحيح زرارة: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أرأيت الميت إذا مات لِمَ تجعل معه الجريدة، فقال: يتجافى عنه الحساب والعذاب مادام العود رطباً، إنما العذاب والحساب كله في يوم واحد في ساعة واحدة، قدر ما يدخل في القبر ويرجع القوم، وإنما جعلت السعفتان لذلك، فلا يصيبه عذاب ولا حساب بعد جفوفهما إن شاء الله" (2) إلى غير ذلك مما روي من طرقنا.

قال في التهذيب: "وقد روي من جهة العامة في فضل التخضير شيء كثير" .ومنه ما عن الأعمش: "سمعت مجاهداً يحدث عن طاووس عن ابن عباس: مرّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قبرين فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه عن البول، فدعا بعسيب رطب فشقه نصفين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً. وقال: لعله أن يخفف عنهما العذاب ما لم ييبسا" (3) وقريب منه عن مجمع الزوائد عن أبي أمامة وعن ابن عمر وعن أبي هريرة(4). وعن عمدة القارئ: "رواية الأكثرين: أوصى بريدة الأسلمي بوضع الجريدة في قبره. ورواية المستملي: على قبره"(5). والحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولاأن هدانا الله.

وكأن ما تضمنه صحيح زرارة راجع إلى رجاء اندفاع العذاب حتى بعد جفافهما بسبب منعهما من حصوله في أول وقته رحمة من الله تعالى يرحم بها من يشاء من عباده، وهو أرحم الراحمين.

وقد يشير إلى ذلك مرسل المقنعة عن الصادق (عليه السلام):" ان الجريدة تنفع المحسن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التكفين حديث: 6، 1.

(3) صحيح البخاري باب الجريدتين على القبر ج: 7 ص: 86. صحيح مسلم باب الدليل على نجاسة البول وجوب الاستبراء منه ج: 1 ص: 166. سنن أبي داود باب الاستبراء من البول ج: 1 ص: 13. سنن النسائي باب التنزه عن البول ج: 4 ص: 106. سنن البيهقي باب التوقي عن البول ج: 2 ص: 412.

(4) مجمع الزوائد ج: 3 ص: 56.

(5) عمدة القارئ ج: 4 ص: 203.

ص: 222

مع الميت (1)

والمسيء، فأما المحسن فتؤنسه في قبره، وأما المسيء فتدرء عنه العذاب ما دامت رطبة، ولله تعالى بعد ذلك فيه المشيئة"(1).

(1) من دون فرق بين الصغير والكبير والعاقل والمجنون، كما في المقنعة ومحكي البيان، وهو مقتضى إطلاق الأصحاب، بل عن الذكرى: "قال الأصحاب: ويوضع مع جميع الأموات حتى الصغار، لإطلاق الأمر".

لكن ما ذكره من الإطلاق وإن كان قد يستفاد من مثل الصحيح عن الحسن ابن زياد الصيقل وموثق سماعة المتقدمين، إلا أنه قد يخرج عنه بما تضمنته جملة من النصوص - منها صحيح زرارة المتقدم - من تعليلهما بأن العذاب يتجافى عن الميت ما دامتا رطبتين، حيث لا موضوع له في حق غير المكلف.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من عدم منافاته للعموم. قال: "إذ لعله لحسن وضعهما يفيد من يستحق العذاب دفعه عنه، وفي حق غيره راحة أخرى" .فهو إنما يتجه لو كان مفاد النصوص المذكورة مجرد بيان ترتب الفائدة المزبورة، دون ما هو الظاهر منها من التعليل بذلك الظاهر في الانحصار.

وأشكل منها ما في الروض من تعليله بإقامة الشعار. إذ فيه: أن استحباب إقامة الشعار لا يقتضي تعميمه لغير مورده الذي شرع فيه.

نعم لا يبعد قضاء المناسبات الارتكازية بأن دفع العذاب بهما ليس لأنه أثر وضعي لهما، ليكون راجحاً عقلاً توصلاً للأثر المذكور، وإنما هو لرجحان وضعهما مع الميت في نفسه، نظير الجزاء على الطاعة، ولذا يستفاد منه استحبابه شرعاً، كما هو المناسب لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث يحيى المتقدم وغيره: "فما أقل المخضرين يوم القيامة" الظاهر في مطلوبيته والانتفاع به بعد الخروج من القبر.

********

(1) المقنعة ص: 12. ومستدرك الوسائل ج: 2 باب: 16 من أبواب الكفن حديث: 3.

ص: 223

جريدتان (1)

ويجري نظيره في مثل الدفن في الحرم والتلقين. ومرجعه إلى أن الأثرالمذكور من سنخ الفائدة، لا العلة التي يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، ليقتضي تقييد الإطلاق.

ولاسيما مع ما تقدم في مرسل المقنعة من أنها تنفع المحسن والمسيء، وما في مرسله الآخر من أن الأصل في مشروعيتها أن النخلة أنزلت لآدم (عليه السلام) من الجنة، فأنس بها في حياته، وأوصى بوضع جريدة منها في أكفانه بعد شقها اثنين رجاء أنسه في قبره. وقد فعله الأنبياء من بعده، ثم اندرس في الجاهلية، وأحياه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشرعه، وأوصى أهل بيته (عليهم السلام) باستعماله(1) ، وقريب منه مرسل التهذيب(2) ، ومرسل الانتصار(3) ، مع وضوح تنزيه الأنبياء وأهل البيت (عليهم السلام) عن عذاب القبر أعاذنا الله تعالى منه برحمته.

(1) كما صرح به الأصحاب، وقد تضمنته معاقد الإجماعات المتقدمة. كما يقتضيه جملة من النصوص المتقدم بعضها. وفي الجواهر: "ومن العجب ما يحكى عن العماني من أن المستحب جريدة واحدة، فإنه كاد يكون مخالفاً للمتواتر من الأخبار، فضلاً عن الإجماع بقسميه. بل قد يستشكل مشروعية واحدة فقط من حيث ظهور التثنية في كلام الأصحاب وكثير من الأخبار، سيما ما ورد من شق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الجريدة إذ كأنه محافظة على التعدد في مدخلية هيئة الاثنينية في ذلك" .لكن ما نقله عن العماني لا يناسب ما حكاه عنه في المختلف من استحباب أن يكون طول كل واحدة أربع أصابع فما فوقها.

مع أن المراد بذلك إن كان هو اختصاص الاستحباب بالواحدة، بحيث

********

(1) المقنعة ص: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التكفين حديث: 10.

(3) الانتصار ص: 36. طبعة النجف الأشرف.

ص: 224

يلزم انفرادها أولا فائدة بالزيادة عليها، فهو حال عن الشاهد، بل يدفعه الإجماع والنصوص الكثيرة المشار إليها. وإن كان هو استحباب الواحدة مع كون الجريدتين أفضل، فهو مقتضى الجمع بين النصوص المشار إليها وجملة من النصوص الظاهرة في الواحدة، منها حديث يحيى بن عبادة وموثق سماعة المتقدمان.

ودعوى حمل النصوص المذكورة على إرادة الجنس لا الوحدة، ولاسيما بلحاظ ما جمع فيه بين فرض التعدد والتعبير بالجريدة، كصحيح زرارة المتقدم وغيره، إذ لابد من حمله على إرادة التعدد اتكالاً على بقية فقرات الحديث أو على معروفيته بين الفرقة المحقة، على ما ذكره في الجواهر في الجملة.

مدفوعة بأن ذلك وإن لم يكن بعيداً في جملة من النصوص المتضمنة للجريدة محلاة بلام التعريف، بل هو الظاهر مما جمع فيه بين الإفراد والتثنية، كما تقدم، إلا أنه مخالف للظاهر فيما تضمنها منكرة، لقوة ظهور النكرة في الوحدة، خصوصاً ما تضمن ذكر محل واحد لها، كحديث يحيى بن عبادة المتقدم وغيره. بل هو كالصريح من صحيح جميل: "سألته عن الجريدة توضع من دون الثياب أو من فوقها؟ قال: فوق القميص ودون الخاصرة. فسألته: من أي جانب؟ فقال: من الجانب الأيمن" (1) وحمله على التعدد مع وضع كلتا الجريدتين في الجانب الأيمن، أو على بيان محل إحدى الجريدتين. بعيد جداً بل الظاهر عدم القائل بالأول.

نعم قد يظهر من الصدوق في معاني الأخبار لزوم الإعراض عن هذه النصوص. قال بعد ذكر حديث يحيى بن عبادة المتقدم: "جاء هذا الخبر هكذا. والذي يجب استعماله أن يجعل للميت جريدتان خضراوان..." .وكأنه لمخالفتهما لما عليه الطائفة، كما تقدم.

لكن قد يكون التزامهم عملاً وقولاً بالتعدد لأنه الأفضل من دون بناء على عدم مشروعية الجريدة الواحدة، أو لتخيل التعارض المستحكم بين الطائفتين والغفلة عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التكفين حديث: 3.

ص: 225

الجمع بينهما بما تقدم. ومعه لا مجال لرفع اليد عن نصوص الجريدة الواحدة مع تيسر الجمع عرفاً بما تقدم، ولاسيما مع تعددها واعتبار سند غير واحد منها. فلاحظ.

هذا وعن بعض الأصحاب استحباب شق الجريدة، فيجزي في التعدد. وكأنه لمرسل الفقيه قال: "ومر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على قبر يعذب صاحبه فدعا بجريدة فشقها نصفين فجعل واحدة عند رأسه والأخرى عند رجليه. وروي أن صاحب القبر كان قيس بن الفهد الأنصاري. وروي: قيس بن قمير [نمير. خ ل]" (1) ويعضده ما تقدم من رواية العامة. وما تضمنه مرسل المقنعة والانتصار والتهذيب من وصية آدم (عليه السلام) كما تقدم.

لكن عن كتاب محمد بن المثنى بسنده عن عمر بن حنظلة عن أبي جعفر (عليه السلام): "أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ على قبر قيس بن فهد الأنصاري وهو يعذب فسمع صوته فوضع على قبره جريدتين..."(2). على أنه لامجال للخروج بتلك النصوص عن النصوص المعتبرة الظاهرة في عدم الشق، كما هو المتبادر من إطلاق الجريدة والجريدتين فيها. وهذا هو العمدة.

لا ما قيل من منافاته للتعليل بدفع العذاب ما دامتا رطبتين، المقتضي لرجحان تأخر جفافهما، والشق يستلزم سرعته. إذ فيه: أن ذلك لا ينهض بالخروج عن ظاهر النص لو كان حجة في نفسه، لإمكان أهمية مصلحة الشق من ذلك. ولاسيما بملاحظة ما تقدم في صحيح زرارة من أن الحساب والعذاب في ساعة واحدة.

ومنه يظهر الإشكال فيما في الذكرى. قال:" وهل تشق أو تكون صحيحة؟ الخبر دل على الأول. والعلة تدل على الثاني. والظاهر جواز الكل".

بقي في المقام أمران:

********

(1) من لا يحضره الفقيه ج: 1 ص: 88 طبع النجف الأشرف، وذكر بعضه في وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التكفين حديث: 4.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 6 من أبواب الكفن حديث: 2.

ص: 226

(227)

الأول: أنه ذكر في الروض وغيره أن الجريدة هي العود الذي يجرد عنه الخوص، ولا يسمى جريداً ما دام عليه الخوص، وإنما يسمى سعفاً. وهو مطابق لما في الصحاح ومختصره، ومقارب لما في أساس البلاغة، ومناسب لمادة الجرد، كما أشير إليه في مجمع البحرين، قال:" الجريد هو سعف النخل بلغة أهل الحجاز الواحدة جريدة، فعلية بمعنى مفعولة، سميت بذلك لتجريد خوصها عنها ".كما أنه الموافق للمفهوم عرفاً من الجريدة في عصورنا.

لكن في لسان العرب والقاموس ثبوت الخلاف في ذلك، وتصريح بعضهم بأنها السعفة ما كانت، كما هو ظاهر نهاية ابن الأثير والدر المنثور، وهو المناسب لما في صحيح زرارة المتقدم في أول المسألة، وحديث عمرو بن أبي المقدام وزياد بن عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث وفاة االصديقة الزهراء (عليها السلام):" ...أخد علي في جهازها من ساعته، وأشعل النار في جريد النخل ومشى مع الجنازة بالنار"(1). بل قد يتجه حينئذٍ البناء على اختصاصها بما إذا لم تجرد من خوصها، بناء على اختصاص السعفة بذلك، كما هو المستفاد من بعض كلمات اللغويين، والمناسب للمفهوم العرفي منها في عصورنا.

إلا أنه لا يناسب السيرة القطعية على الاكتفاء بما جرد من خوصه، كما لا يناسب المفهوم العرفي الفعلي على اختصاص الجريدة بما جرد منه. لبعد انقلاب المفهوم العرفي من أحد المتقابلين للآخر، بل غايته تبدله من المطلق للمقيد أو بالعكس.

ومن هنا تكون الجريدة في المقام دائرة بين المطلق والمقيد بالتجريد عن الخوص، فيكون الأحوط هو المقيد، من دون أصل يقتضي الاجتزاء في أداء المستحب بغيره. ولاسيما حيث يكون الغرض المهم هو الأثر الخاص، إذ لا إشكال في الاحتياط مع الشك في المحصل. اللهم إلا أن يستبعد مانعية الخوص من ترتب الأثر المذكور حتى لو كانت الجريدة مختصة بالمجرد عن الخوص، وإنما ذكرت لأنها أيسر استعمالاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الدفن حديث: 6.

ص: 227

(228)

فلاحظ.

الثاني: مقتضى إطلاق بعض النصوص - كموثق سماعة المتقدم - الاكتفاء في طول الجريدة بما يصدق معه المسمى، كما في الذكرى وعن بعض متأخري المتأخرين. وفي المسالك: "والمشهور كون طول كل واحدة قدر عظم ذراع الميت، ولو زادت إلى ذراع أو نقصت إلى أربع أصابع فلا بأس" .وفي الروضة: "والمشهور أن قدر كل واحدة طول عظم ذراع الميت، ثم قدر شبر، ثم أربع أصابع" .ونحوه عن حاشية الميسي على الشرايع.

لكن لم نعثر على ذلك في كلامهم، بل ليس المذكور في كلام جماعة من القدماء والمتأخرين إلا أن كلا منهما بقدر عظم الذراع، وفي الذكرى وجامع المقاصد والروض وكشف اللثام أنه المشهور، بل هو معقد إجماع الانتصار، كما قد يستفاد من معقد إجماع الغنية. ولم نعثر على ما يشهد له من النصوص عدا الرضوي: "وروي أن الجريدتين كل واحدة بقدر عظم ذراع، تضع واحدة عند ركبتيه تلصق إلى الساق وإلى الفخذين، والأخرى تحت الابط الأيمن ما بين القميص والإزار"(1).

وقد يستدل عليه بما دلّ على التقدير بالذراع، ففي مرسل يونس:" وتجعل له قطعتين من جريد النخل رطباً قدر ذراع، يجعل له واحدة بين ركبتيه نصف مما يلي الساق ونصف مما يلي الفخذ، ويجعل الأخرى تحت ابطه الأيمن"(2) ، ونحوه حديث يحيى بن عبادة المتقدم في صدر الفصل والمرسل عنه(3). بدعوى: أن المعنى الحقيقي للذراع عظمه، كما في كشف اللثام.

لكنه ممنوع مخالف لظاهر التقدير بالذراع عرفاً. بل التشابه بين الرضوي ومرسل يونس المنفرد بكيفية جعل الجريدتين يناسب رجوع الرضوي للمرسل المقتضي لحمل عظم الذراع فيه على الذراع.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 8 من أبواب الكفن حديث: 1.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التكفين حديث: 5، 4.

ص: 228

وأشكل من ذلك ما في الجواهر من الاستئناس للمشهور بما في صحيح جميل الآتي(1) من أنها قدر شبر، بدعوى: أن عظم الذراع شبر تقريباً، كما يعرف بالاختيار، إذ وضوح الفرق بينهما يغني عن إطالة الكلام فيه.

ولعله لذا قال في الفقيه: "طول كل واحدة قدر عظم ذراع، وإن كانت قدر ذراع فلا بأس أو شبر فلا بأس" إذ كأنه يشير إلى مضامين النصوص المختلفة.

نعم قد يظهر منه أفضلية المتوسط، وهو لا يناسب نظر العرف في الجمع بين النصوص المختلفة في المقدار، بل مقتضى الجمع بينها البناء على أفضلية الأكثر، فيكون الأفضل قدر الذراع، ثم قدر عظمه - بناءً على العمل بالرضوي - ثم قدر الشبر، كما نبه له سيدنا المصنف (قدس سره).

لكنه (قدس سره) قال: "هذا لو تمت قاعدة التسامح لإثبات حجية الخبر الضعيف، وإلا أشكل الحال في النصوص، لضعف ما يوافق المشهور وإعراضهم عن غيره. وكذا الحال في الإشكال لو اقتضت قاعدة التسامح الاستحباب بعنوان البلوغ، لامتناع تطبيقها على الجميع، للتنافي، وتطبيقها على واحد دون الآخر ترجيح بلا مرجح. وكأنه لذلك اختار في الذكرى جواز الكل، معللاً بثبوت أصل المشروعية وعدم القاطع على قدر معين، وتبعه بعض من تأخر عنه. فتأمل جيداً".

وهو مبني على إخلال الإعراض بحجية الخبر المعتبر السند في المستحبات، وقد تكرر منعه. ومن ثم لا مخرج عما سبق. ويأتي عند الكلام في كيفية وضع الجريدة التعرض لحديث يحيى بن عبادة عن أبي جعفر (عليه السلام) الذي قد يخالف ما تقدم.

هذا والظاهر أن استحباب المقادير المذكورة ليس بنحو يقتضي تقييد المطلقات بها، بنحو لا تتأدى وظيفة الجريدة بغيرها، لما تقرر من أن الجمع بين المطلق والمقيد في المستحبات ليس بالتقييد بل بحمل المقيد على أفضل الأفراد، كما هو الظاهر من الوسيلة في المقام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التكفين حديث: 2.

ص: 229

رطبتان (1)،

ولعله لذا أطلق في المبسوط والنهاية والسرائر والشرايع والإرشاد واللمعة وغيرها، كما قد يرجع إليه ما عن ابن أبي عقيل من أنها أربع أصابع فما فوقها. وما تقدم من الذكرى وغيرها.

وأما ما قد تشعر به عبارة الصدوق من أن الذراع منتهى السائغ من الطول والشبر منتهاه من القصر فلا قرينة على حمل النصوص عليه. ونحوه ما سبق في أول الكلام في تحديد الطول عن المسالك من نفي البأس عن الذراع والأربع أصابع. فلاحظ.

(1) وكأنه هو المراد بالخضرة في كلام جماعة وقطع بها في جامع المقاصد، كما أنها داخلة في معقد الإجماع المتقدم من الانتصار والخلاف والغنية ومحكي المفاتيح. وإن كان مقتضى الجمود على مدلوله المطابقي اعتبار اللون الخاص ولو بعد الجفاف.

وكيف كان فيقتضيه - مضافاً إلى ما في كلمات بعض أهل اللغة من أخذ الرطوبة في مفهوم الجريدة - أخذ الرطوبة والخضرة في جملة من النصوص، واختصاص فائدتهما - وهي منع العذاب - بحال الرطوبة، كما تضمنته بعض النصوص أيضاً، وخبر محمد بن علي بن عيسى: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن السعفة اليابسة إذا قطعها بيده هل يجوز للميت توضع معه في حفرته؟ فقال: لا يجوز اليابس" (1) فإن موضوع السؤال فيه وإن كان ظاهراً في الجاف على النخلة قبل قطعه منها، لأنه الذي ينقطع باليد بسبب الجفاف، إلا أن الجواب ظاهر في عدم كفاية اليابس مطلقاً. فلاحظ.

هذا وفي إشارة السبق والغنية والمراسم لفّ الجريدتين بالقطن، وفي الجواهر أنه قد ذكره جماعة من متأخري المتأخرين ناسبين له إلى الأصحاب. وجعله في جامع المقاصد متفرعاً على اعتبار الخضرة. وكأنه لأن القطن يمنع من سرعة الجفاف.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التكفين حديث: 1.

ص: 230

(231)

إحداهما من الجانب الأيمن من عند الترقوة (1) ملصقة ببدنه، والأخرى من الجانب الأيسر من عند الترقوة بين القميص والإزار (2).

وفيه أولاً: أن مقتضى صحيح زرارة المتقدم في صدر الفصل الاكتفاء برطوبتهما حين الدفن في الساعة الأولى، كما نبه له في الجواهر. فتأمل.

وثانياً: أنهما لا يتعرضان في الكفن والقبر للهواء المجفف ليمنع منه القطن.

وثالثاً: أنه يأتي عند الكلام في كيفية وضعهما استحباب كون أحداهما ملاصقة لجلد الميت، وهو لا يتحقق مع لفهما بالقطن.

(1) وهي بفتح التاء العظم المشرف الممتد في أعلى الصدر من ثغرة النحر إلى الكتف وللإنسان ترقوتان.

(2) كما في المقنع والغنية والدروس ومحكي المهذب والجامع والبيان، بل الظاهر أنه المشهور، لأن جماعة من قدماء الأصحاب ومتأخريهم وإن ذكروا هذه الكيفية من دون نص في الثانية على أنها من عند الترقوة إلا أن الظاهر إرادتهم ذلك اعتماداً على ذكره في الأولى، كما يناسبه تضمن دليلهم له. ومن ثم نسبت الكيفية المذكورة بتمامها للمشهور في الذكرى والروض، وفي جامع المقاصد أنها الأشهر، وفي الغنية: "ويجعل أحداهما مع الجانب [جانب] الميت الأيمن قائمة من ترقوته ملصقة بجلده، والأخرى من الجانب الأيسر كذلك، إلا أنها بين الدرع والإزار. وذلك بدليل الإجماع المشار إليه".

وشهد له صحيح جميل قال: "قال: إن الجريدة قدر شبر توضع واحدة من عند الترقوة إلى ما بلغت من الجلد [الأيمن. يب] والأخرى في الأيسر عند الترقوة إلى ما بلغت من فوق القميص"(1). ولا يقدح إضماره مع ما هو المعلوم من عدم رواية جميل عن غير الإمام، كما هو ظاهر إيداع أهل الحديث له في ضمن روايات الأئمة (عليهم السلام)

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التكفين حديث: 2.

ص: 231

واستدلال الفقهاء به كما يستدلون بها. فالإشكال فيه في المعتبر بذلك في غير محله.

هذا والمنسبق منه إرادة جعلهما طولاً من الترقوة نازليتين على سمت طول بدن الميت، لا عرضاً على سمت امتداد الترقوة، لابتناء الاعتراض على عناية تحتاج للتنبيه، ولظهوره في أن الترقوة مبدأ الجريدة لا موضعها. وفي عدم وفاء طول الجريدة ببدن الميت، مع أن عرض كل من الجانبين في موضع الترقوة يقارب الشبر أو ينقص عنه.

ومنه يظهر حمل إطلاق الأصحاب على ذلك، كما هو مقتضى قوله:" قائمة "في معقد إجماع الغنية المتقدم. ولاسيما مع أنهم قدروا كل جريدة بعظم الذراع الذي هو أطول من الشبر.

ومن هنا قد ينزل عليه حديث يحيى بن عبادة عن أبي عبدالله (عليه السلام) المتقدم في صدر الفصل. وفيه:" تؤخذ جريدة رطبة قدر ذراع فتوضع - وأشار بيده إلى عند ترقوته - تلف مع ثيابه"(1).

اللهم إلا أن يقال: لما كان حديث يحيى ظاهراً في وحدة الجريدة وعدم تخصيصها بأحد الجانبين فلا مانع من حمله على جعلها معترضة بين الكتفين على سمت الترقوة، لوفاء الذراع بذلك. بل لعله هو الظاهر من قوله: "عند الترقوة" حيث ينسبق منه بيان موضع الجريدة بتمامها، لا موضع طرفها. غايته أن يحمل على موضع الترقوتين معاً، لأن الذراع لا يسعهما جميعاً. وحينئذٍ يشابه ما في الصحيح الآخر عنه عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: جريدة خضرة توضع من أصل اليدين إلى [أصل. فقيه] الترقوة" (2) بحمله على جعلها معترضة، كما يظهر من الجواهر. غايته أن ظهوره في الترقوة المتصلة باليد ملزم بحملها على امتدادها من ثغرة النحر إلى اليد، الذي هو بقدر عرض الكفّ تقريباً.

لكن الإنصاف أن ذلك لا يناسب التعبير المذكور، بل المناسب له أن يقول: من أصل اليدين إلى طرف الترقوة. ومن ثم لا يبعد حمله على بيان مبدأ الجريدة مع

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التكفين حديث: 5، 3.

ص: 232

وضعها طولاً، وأنه يتخير بين جعل طرفها صاعداً إلى الترقوة ونازلاً إلى الابط الذي هو أصل اليد.

وأما حديثه الأول عن أبي عبدالله (عليه السلام) فقد يشكل بأنه وإن روي بطريق صحيح عن عبدالله بن المغيرة عن يحيى، إلا أنه روي بطريق آخر صحيح أيضاً عن عبدالله بن المغيرة عن رجل عن يحيى عنه (عليه السلام): "قال: تؤخذ جريدة رطبة قدر ذراع وتوضع - وأشار بيده من عند ترقوته إلى يده - تلف مع ثيابه. قال: وقال الرجل: لقيت أبا عبدالله بعد فسألته عنه: فقال: نعم قد حدثت به يحيى بن عبادة"(1). وحيث يبعد رواية عبدالله بن المغيرة له بوجهين تارة بلا واسطة عن يحيى، وأخرى بواسطة عنه، كان مضطرب السند، بل حيث لا يحتمل الخطأ في الثاني بلحاظ الذيل المشتمل على سؤال الرجل أبا عبدالله (عليه السلام) بعد ذلك، تعين سقوط الأول. كما أن الثاني حيث تضمن قوله:" فأشار بيده من عند ترقوته إلى يده "كان مناسباً لما تضمنه حديثه المتقدم عن أبي جعفر (عليه السلام) ويجري فيه ما جرى فيه. ويؤيده قول أبي عبدالله (عليه السلام) في الحديثين:" تلف مع ثيابه "،لظهوره في جعلهما طولاً على سمت بدن الميت، فتلف معه بكفنه.

ومن ثم لا مجال لاستفادة الاعتراض من أحاديث يحيى بن عبادة. بل يقرب حملها على ما يناسب صحيح جميل. غايته أنه اقتصر فيها على بيان محل جريدة واحدة.

بل قد ينزل حديثه عن أبي جعفر (عليه السلام) على بيان محل الجريدتين، لقول:" من أصل اليدين "،فيراد به أصل كل يد إلى الترقوة المتصلة بها.

هذا وفي مرسل يونس المتقدم في تحديد طول الجريدة:" تجعل له قطعتين من جريد النخل رطباً قدر ذراع، يجعل له واحدة بين ركبتيه نصف مما يلي الساق ونصف مما يلي الفخذ، وتجعل الأخرى تحت أبطه الأيمن"(2). وقريب منه رواية الرضوي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التكفين حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التكفين حديث: 5.

ص: 233

المتقدمة هناك.

وعن الجعفي العمل بمرسل يونس، كما حكاه في كشف اللثام عن ابن أبي عقيل أيضاً، وحكى عنه في المعتبر أنه قال: واحدة تحت ابطه الأيمن، وقد تقدم عند الكلام في كفاية الجريدة الواحدة الإشارة لاختلاف الحكاية عنه في الوحدة والتعدد.

وقال الصدوق في الفقيه: "إحداهما من عند الترقوة يلصقها بجلده ويمد عليه قميصه من الجانب الأيمن، والجريدة الأخرى عند وركه من الجانب الأيسر ما بين القميص والإزار" ،وحكي نحوه في المعتبر والمختلف عن أبيه الصدوق الأول. وقد يرجع إليه ما في المراسم، حيث عبر بنحو عبارته، إلا أنه قال: "واليسرى على القميص من تحت اليد إلى أسفل".

ولم نعثر على ما يشهد له عدا الرضوي: "واجعل معه جريدتين إحداهما عند ترقوته تلصقها بجلده ثم تمد عليه قميصه والأخرى عند وركه" (1) بضميمة ما تضمن أن الثانية في الجانب الأيسر بين القميص والإزار.

اللهم إلا أن يقال: ما تضمن ذلك ليس إلا صحيح جميل المتقدم المتضمن كيفية أخرى مباينة لما تضمنه الرضوي، وحينئذٍ فمقتضى العمل بالرضوي البناء على أن الثانية تلصق بالجلد أيضاً، لظهور سياقه في عدم الفرق بين الجريدتين إلا في الموضع من البدن. ومن ثم لا تنهض النصوص بتمام المدعى. وأما ما في المختلف من الاستدلال له بمرسل يونس المتقدم. فكأنه مبني على الغفلة عن الاختلاف بينهما في كلتا الجريدتين.

وفي الاقتصاد: "ويضع أحداهما عند حقوه من الجانب الأيمن ويلصقها بجلده، والأخرى من الجانب الأيسر بين القميص والإزار" ونحوه عن المصباح ومختصره. ولم يتضح مستنده.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 6 من أبواب الكفن حديث: 1.

ص: 234

نعم في صحيح جميل الآخر: "سألت عن الجريدة توضع من دون الثياب أو من فوقها؟ قال: فوق القميص ودون الخاصرة. فسألته: من أي جانب؟ فقال: من الجانب الأيمن"(1). وهو وإن نهض بإثبات أن موضع الجريدة من الجانب الأيمن الحقو، لأنه دون الخاصرة، إلا أنه ظاهر في فرض وحدة الجريدة، ومخالف لما ادعاه من إلصاق جريدة الجانب الأيمن بالجلد.

وأما ما في كشف اللثام من احتمال قراءته:" ودون الحاصرة "بالحاء المهملة بمعنى اللفافة المحيطة، فلاينفع حتى في إثبات أن موضعها الحقو. فهو وإن كان مناسباً للسؤال، ولما تضمن وضع إحدى الجريدتين بين القميص واللفافة، إلا أنه مخالف لرسم الحديث المتداول، مع أصالة عدم الخطأ المعول عليها عند العقلاء. ولاسيما مع عدم تعارف التعبير عن اللفافة بالحاصرة، بل اللفّ أعم من الحصر مورداً، لتوقف الحصر على اللف بشدة وقوة.

والذي تحصل من جميع ما تقدم: أن ما يمكن إثباته من كيفية وضع الجريدتين بالنصوص هو قول المشهور وقول الجعفي، وكذا قول الصدوقين في الجملة لو نهض الرضوي بالحجية. والمتعين الجمع بينهما بالبناء على استحباب كل صورة ورد بها نص معتبر، بعد قوة ظهور كل منها في مطلوبية الخصوصية التي تضمنها. ومرجعه إلى التخيير بينها بعد فرض تعذر الجمع بينها عملاً.

وأما احتمال أن يكون عمل المشهور بصحيح جميل الأول وإعراضهم عن غيره كافياً في تعيينه للحجية ووهن غيره. فهو ممنوع، لما تكرر من عدم نهوض عملهم وإعراضهم بالجبر والوهن في المستحبات.

وأما صحيح جميل الآخر فهو ظاهر في فرض وحدة الجريدة، ولا مانع من العمل به في مورده. وإن كان قد يدعى أن مقتضى الجمع بينه وبين حديثي يحيى عن أبي عبدالله (عليه السلام) التخيير أيضاً في المورد المذكور.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التكفين حديث: 3.

ص: 235

(236) (236)

بقي في المقام أمران:

الأول: اقتصر في حديث الحسن الصيقل المتقدم في أول الفصل على وضع إحدى الجريدتين في جانب اليمين والأخرى في جانب اليسار، ونحوه في ذلك معتبر فضيل بن يسار عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: توضع للميت جريدتان، واحدة في الأيمن والأخرى في الأيسر"(1). ومقتضى الجمع بينهما وبين صحيح جميل - الذي هو مستند المشهور - والرضوي - الذي هو مستند الصدوقين - لو تم هو البناء على اختلاف مرتبة الفضل، بأن يكون أصل الوضع في اليمين واليسار مستحباً، وإحدى الخصوصيتين اللتين تضمنهما الحديثان مستحب آخر زائد عليه. نعم لا مجال لذلك في مرسل يونس والرضوي الموافق له، لمخافتهما في أصل الوضع في الجانبين وتضمنهما أن إحدى الجريدتين بين الركبتين، فيتعين التخيير بين مضمونهما وجميع ما تضمن الوضع في الجانبين.

الثاني: في موثق سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: يستحب أن يدخل معه في قبره جريدة رطبة" (2) وفي معتبر عبدالرحمن بن أبي عبدالله - الذي لا يقدح الإرسال في سنده بعد كونه عن غير واحد - عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: سألته عن الجريدة توضع في القبر؟ قال: لا بأس" (3) ونحوه مرسل الصدوق(4).

ومقتضى إطلاقهما عدم اعتبار كيفية خاصة في تحقق وظيفة الجريدة، كما أن مقتضى الجمع بينهما وبين نصوص الكيفيات المتقدمة الحمل على تعدد المطلوب، لما تكرر من أن ذلك مقتضى الجمع بين المطلق والمقيد في المستحبات، دون التقييد.

ولعله إلى ذلك نظر في المعتبر، حيث قال بعد مناقشة دليل المشهور بما تقدم بعضه: "ومع اختلاف الروايات والأقوال يجب الجزم بالقدر المشترك بينها، وهو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التكفين حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التكفين حديث: 8.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التكفين حديث: 3، 5.

ص: 236

(237)

والأولى أن يكون من النخل (1)

استحباب وضعها مع الميت في كفنه أو في قبره بأي هذه الصور شئت" واستحسنه في جامع المقاصد والمدارك. وقد ظهر مما تقدم اعتبار دليل بعض الصور المذكورة في كلماتهم، وإن كان مقتضى الجمع بين النصوص عدم التقييد بها، بل أداء أصل الوظيفة بمطلق الجعل في القبر، كما ذكرنا.

اللهم إلا أن يقال: حيث كان ظاهر هذين الحديثين إرادة الجريدة الواحدة أو الجنس فلا ينهض إطلاقهما بأداء وظيفة التعدد بمجرد وضع الجريدتين في القبر ولو بجمعهما في جانب منه، بل المتعين فيه ما تضمنته نصوص التعدد، والاقتصار في الإطلاق على أداء وظيفة أصل الجريدة.

ومثله في ذلك ما ورد في الاضطرار، وهو مرفوع سهل بن زياد: "قيل له: جعلت فداك ربما حضرني من أخافه فلايمكن وضع الجريدة على ما رويتنا. فقال: أدخلها حيثما أمكن"(1). ونحوه مرسل محمد بن أحمد بن يحيى، وزيد فيه:" فإن وضعت في القبر أجزأه "(2) فإن مقتضاهما أداء وظيفة الجريدة بذلك لا وظيفة الجريدتين.

نعم قد يحسن الاحتياط بوضع الجريدتين كيفما أمكن برجاء تحقق وظيفتهما بذلك، لأن النصوص وإن لم تدل عليه إلا أنها لا تدفعه، بل يظهر من بعض عباراتهم المفروغية عنه.

(1) بل هو المستحب بالأصل، كما يظهر من كلمات الأصحاب المختلفة، ومنها معاقد الإجماعات السابقة عدا إجماع الخلاف. ويقتضيه - مضافاً إلى ما ورد في أصل تشريعها من وصية آدم (عليه السلام) المتقدمة -: النصوص المتضمنة لعنوان الجريد والجريدة والجريدتين، لاختصاصها عرفاً بما يكون من النخل، وهو الظاهر من اللغويين أيضاً،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التكفين حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التكفين حديث: 2.

ص: 237

ومما تضمن من النصوص ذكر السعف - كصحيح زرارة المتقدم في أول الفصل وخبر محمد بن علي بن عيسى المتقدم عند الكلام في اعتبار الرطوبة - ومن النصوص الآتية في البدل التي هي كالصريحة في عدم كونه جريداً. ويشهد بأفضلية النخل حديث علي بن بلال الثاني الذي يأتي الكلام فيه.

بل مقتضى الجمع بين نصوص الجريدة ونصوص البدل - لو نهضت بالحجية - كون غير الجريدة بدلاً اضطرارياً عنها لا يشرع مع القدرة عليها.

ودعوى: أن ذلك وإن كان مقتضى الجمود على نصوص البدل، إلا أنه يستفاد منها عموم مشروعيته ووفائه ببعض مصلحتها ولو مع القدرة على الجريدة، بضميمة قضاء المناسبات الارتكازية بعدم دخل الاضطرار وإعواز الجريدة في ترتب الأثر المهم عليه بعد كونه من سنخ الأثر الوضعي، وأن ورود النصوص بالجريدة لأفضليتها وتيسرها في محيط صدور النصوص المذكورة، لا لانحصار الأثر بهافي ظرف تيسرها.

ممنوعة، لما أشرنا إليه عند الكلام في مشروعية الجريدة لغير المكلف من قضاء المرتكزات بأن ترتب الأثر المذكور على الجريدة ليس لمحض كونه أثراً وضعياً، بل هو فرع رجحانها شرعاً، نظير ترتب الجزاء على الطاعة. وحينئذٍ يمكن أن يكون لخصوصية الاضطرار دخل في التعبد بغير الجريدة وإجزائه عنها، لكون موضوع التعبد بالأصل مختصاً بالجريدة، والاجتزاء في ترتب الأثر المهم بغيرها تفضل منه تعالى لمن يهتم بهاولا يقدر عليها جزاء على اهتمامه بإقامة سنتها، دون من يتركها قادراً عليها.

ومن جميع ما تقدم يتضح ضعف ما قد يظهر من الخلاف والاقتصاد ومحكي مختصر المصباح من عدم الفرق بين النخل وغيره.

بل يظهر من عبارة الأولين والدروس واللمعة والعروة الوثقى والمتن صدق الجريدة على الكل. قال في الخلاف:" يستحب أن يوضع مع الميت جريدتان

ص: 238

(239)

فإن لم يتيسر فمن السدر (1)،

خضراوان من النخل أو غيرها من الأشجار... دليلنا إجماع الفرقة، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...".

لكن قال في الجواهر:" ولعل دعواه الإجماع يرشد إلى إرادته ثبوت أصل الاستحباب في مقابلة العامة، وإلا كان التتبع لكلمات الأصحاب يشهد بخلافه، إذ لم أعرف له موافقاً بالنسبة إلى ذلك، وإن حكاه في المختلف عن السرائر، لكن الموجود فيما حضرني من نسختها ظاهر في خلاف ذلك ".وكأنه استظهر ذلك لقوله في السرائر:" ويترك معه جريدتين رطبتين من النخل إن وجدا، ومن الشجر الرطب ".وهو غير بعيد. نعم نسب في مفتاح الكرامة لمختصر المصباح موافقة الخلاف أيضاً، ولا يحضرني كلامه.

(1) كما في المبسوط والنهاية والوسيلة والشرايع والتذكرة والمنتهى والإرشاد والقواعد والدروس وجامع المقاصد والروض والروضة ومحكي نهاية الأحكام والتحرير والمقتصر وغيرها، وفي المدارك أنه المشهور. ويشهد له مرسل سهل بن زياد عن غير واحدمن أصحابنا قالوا:" قلنا له: جعلنا الله فداك إن لم نقدر على الجريدة. فقال: عود السدر. قيل: فإن لم نقدر على السدر. فقال: عود الخلاف"(1). وحيث تقدم عند الكلام في مطهرية الماء المضاف من الحدث الاعتماد على سهل بن زياد فلا ضير في إرسال الحديث بعد كون المرسل عنهم غير واحد الراجع لشهرته، بل يبعد أن لا يكون فيهم ثقة، كما لايقدح إضماره بعد شهادة الأحوال بروايته عن المعصوم ولاسيما بلحاظ قولهم: "جعلنا الله فداك".

لكن في المقنعة والمراسم وعن الجامع تقديم الخلاف على السدر عكس المشهور. ولم أعثر على مستنده. ومثله ما عن المهذب من التخيير بين السدر والخلاف.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب التكفين حديث: 3، 4.

ص: 239

(240)

فإن لم يتيسر فمن الخلاف أو الرمان (1)، والرمان مقدم على الخلاف (2)، وإلا فمن كل عود رطب (3).

(1) كما في العروة الوثقى. وفي الدروس وجامع المقاصد والروض والروضة والمسالك ومحكي البيان وفوائد الشرايع وحاشية الميسي تقديم الخلاف على الرمان. واقتصر المشهور في الشجر الخاص على السدر والخلاف ولم يذكروا الرمان اقتصاراً على مفاد مرسل سهل.

ولا مستند للرمان إلا ما ذكره الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب قالا بعد ذكر مرسل سهل، ثم حديث علي بن بلال الثاني الآتي: "وروى علي بن إبراهيم في رواية أخرى: يجعل بدلها عود الرمان"(1). وظاهره رجوع الضمير للجريدة، فيدل على أن الرمان هو المرتبة الأولى بعدها، ويعارض مرسل سهل. وحيث لا مجال للجمع بينهما بجعل الرمان في مرتبة سابقة على السدر، أو في رتبته، أو بينه وبين الخلاف أو في رتبة الخلاف أو متأخراً عنه، لعدم الشاهد على أحدها، كان الأولى العمل بمرسل سهل، لأنه أقوى سنداً. ومع تعذر السدر والخلاف ينتقل للرمان، لاحتمال خصوصيته بين أفراد العود الرطب بالنظر للمرسل المذكور. ولعله الوجه فيما تقدم من الدروس وغيره.

(2) عرفت أن الأولى العكس.

(3) كما هو المذكور فيما عثرنا عليه من الكتب المذكورة آنفاً، ونسب لغيرها. ويقتضيه صحيح علي بن بلال المروي في الفقيه:" أنه كتب إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام): الرجل يموت في بلاد ليس فيها نخل فهل يجوز مكان الجريدة شيء من الشجر غير النخل؟ فإنه قد روي عن آبائك (عليهم السلام) أنه يتجافى عنه العذاب مادامت الجريدتان رطبتين، وأنها تنفع المؤمن والكافر. فأجاب (عليه السلام): يجوز من شجر آخر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التكفين حديث: 4.

ص: 240

رطب "(1) وصحيحه الآخر على الظاهر المروي في الكافي والتهذيب:" أنه كتب إليه يسأله عن الجريدة إذا لم يجد يجعل بدلها غيرها في موضع لا يمكن النخل؟ فكتب: يجوز إذا أعوزت الجريدة. والجريدة أفضل، وبه جاءت الرواية"(2). ولا يبعد وحدة المكاتبة واختلاف الحديثين بلحاظ النقل بالمعنى، والاختلاف بالإجمال والتفصيل والانحصار والاستيفاء، فيكون العمل على أوفى مضمون في الحديثين.

ومن ثم قد يستدل بذيل الثاني لإثبات أفضلية الجريدة وعدم تعينها حتى مع القدرة عليها بدعوى: ظهوره في أفضليتها حال القدرة عليها، إذ لا معنى للحثّ عليها حال العجر عنها.

اللهم إلا أن يكون بيان أفضليتها ليس للحثّ عليها، بل لبيان أن غيرها وإن أجزأ عنها حال تعذرها إلا أنه لا يفي بتمام ملاكها، بل هي الأصل في التشريع، من دون نظر لحال القدرة عليها، لخروجه عن موضوع السؤال، فلا مجال لإثبات عموم مشروعية غير الجريدة، ليخرج به عما سبق من أن مقتضى الجمع بين النصوص اختصاص مشروعيته بحال تعذرها.

ثم إن مقتضى الجمع بين حديثي ابن بلال وغيرهما مما تضمن خصوصية بعض الشجر الحمل على أفضلية الخصوصية على الترتيب المتقدم، كما هو ظاهر بعضهم. وما قد يظهر من بعض آخر من تقييد مشروعية اللاحق بتعذر السابق في غير محله، لما تقدم غير مرة من أن الجمع بين المطلق والمقيد في المستحبات بالحمل على أفضل الأفراد دون التقييد.

هذا وقد اقتصر على الانتقال من النخل عند تعذره إلى الشجر الرطب في إشارة السبق ومحكي الذكرى، وهو الظاهر ممن تقدم نسبة القول بكونه في مرتبة النخل له. وكأنه لضعف المرسلين المتقدمين المتضمنين خصوصية بعض الشجر. لكن تقدم تقريب الاعتماد على مرسل سهل.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب التكفين حديث: 1، 2.

ص: 241

(242)

(مسألة 44): إذا تركت الجريدتان لنسيان أو نحوه فالأولى جعلهما فوق القبر (1)،

وأشكل منه ما يظهر من النافع، بل هو كالصريح من المعتبر من التوقف في أصل الانتقال من النخل لغيره عند إعوازه، لمناقشته في النصوص بضعف السند والإضمار.

إذ فيه: أن الإضمار غير قادح بعد ظهور حال الراوي وأهل الحديث والاستدلال في كون المروي عنه الإمام (عليه السلام)، كما هو المصرح به في حديث علي بن بلال الأول. وضعف السند ممنوع في بعض تلك النصوص، كما يظهر مما سبق. على أن ضعف السند لا ينافي الاحتمال الذي ينبغي مراعاته في أمثال المقام.

(1) كما أشار إليه في الذكرى وغيرها. وقد تضمنت جملة من نصوص الفريقين وضع الجريدة على القبر حين الدفن أو بعده بمدة، مثل ما تقدم في رواية العامة في أول الفصل، وخبر عمر بن حنظلة ومرسل الصدوق المتقدمين عند الكلام في شق الجريدة، وخبر أبي البختري المروي في قرب الاسناد عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): "ان الرش على القبور كان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يجعل الجريد الرطب على القبور [القبر] حين يدفن الانسان في أول الزمان. ويستحب ذلك الميت"(1). وهي وإن لم تكن معتبرة الأسانيد، إلا أن تعددها واتفاق الخاصة والعامة عليها قد يكشف عن شهرة مضمونها إجمالاً، ويوجب الركون إليها. ولا أقل من رجحان متابعتها بمقتضى نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن، وبرجاء انتفاع الميت.

والظاهر أن مقتضى الجمع بينها وبين نصوص الوضع في القبر ليس بالجمع بين الأمرين، بل بأفضلية الوضع في القبر من الوضع عليه، وإجزائه عنه، ولا يجمع بينهما.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التكفين حديث: 6.

ص: 242

(243)

واحدة عند رأسه والأخرى عند رجليه (1).

(مسألة 45): الأولى أن يكتب عليهما ما يكتب على حواشي الكفن مما تقدم (2)، ويلزم الاحتفاظ عن تلوثهما بما يوجب المهانة (3) ولو بلفهما مما يمنعهماعن ذلك (4) من قطن أو نحوه.

-

كما أن ظاهر خبر أبي البختري مشروعية ذلك اختياراً ولو مع تعمد ترك وضعها في القبر، كما هو ظاهر محكي الذكرى وغيرها. ولعله لتدرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان مشروعية الجريدتين. وما قد يظهر من الدروس وغيره من الاختصاص بالنسيان، أو التوقف في العموم للترك العمدي، في غير محله.

(1) كما تقدم في مرسل الصدوق. ولا يخفى أن اختلاف النصوص في وحدة الجريدة وتعددها، وشقها وعدمه، يقتضي التخيير بين الصور المروية بالإتيان بأي منها برجاء ثبوته، كما لعله مقتضى نصوص قاعدة التسامح. وإن كان الأولى اختيار أكمل الوجوه احتياطاً في تحصيل الأثر المهم، لاحتمال انصراف بلوغ الثواب - الذي هو موضوع النصوص المذكورة - عن مثل المقام مما كان المثاب فيه غير الفاعل. فلاحظ.

(2) تقدم هناك الإشارة إلى ذكر بعض الأصحاب له، وإلى أنه يبتني على التوسع عن مفاد النص، كالتوسع في المكتوب.

(3) نظير ما تقدم هناك، وتقدم الكلام في وجهه.

(4) لا يخفى أن لف الجريدتين ينافي ما يظهر من بعض نصوص كيفية جعلهما في الكفن من كون أحداهما أوكليهما ملاصقة لجلد الميت، كما تقدم نظيره عند الكلام فيما ذكره بعض الأصحاب من استحباب لفهما بالقطن. فراجع ما سبق عند الكلام في اعتبار الرطوبة في الجريدتين.

ص: 243

ص: 244

(245)

الفصل السابع: في الصلاة عليه

تجب الصلاة وجوباً كفائياً (1) على كل ميت مسلم (2).

(1) كسائر أفعال التجهيز، على ما تقدم في أول الفصل الثاني في الغسل.

(2) كما ذكره جماعة من الأصحاب، وعن كشف الرموز أنه المذهب، ونفى الخلاف فيه في المنتهى، وعن مجمع البرهان دعوى الإجماع عليه، كما حكي عن التذكرة، وإن كان ظاهره دعواه على اختصاص وجوبها به وعدم الوجوب في غيره.

وكأنه إليه يرجع ما في الشرايع والقواعد ومحكي الجمل والعقود من وجوب الصلاة على كل مظهر للشهادتين، كما يناسبه ما في الأولين من الصلاة على الطفل إذا كان له حكم الاسلام، وعدم تنبيه أهل القولين للفرق بينهما فيمن لا يحكم بإسلامه ممن يظهر الشهادتين.

وأما الحكم من بعضهم بالصلاة على الباغي فهو لا يشهد بالبناء على كفاية إظهار الشهادتين ولو مع عدم الحكم بالإسلام، لأن البغي لا يستلزم الخروج عن الإسلام، ومبنى عدم وجوب الصلاة عليهم على خروجهم عن عموم وجوب الصلاة تخصيصاً، على ما يظهر بملاحظة ما تقدم في الفرع الثاني من الفروع المتقدمة في ذيل الكلام في وجوب تغسيل المخالف من المسألة الرابعة والعشرين، لأن المقامين على نهج واحد.

ص: 245

هذا وقد صرح في المقنعة بعدم جواز الصلاة على أهل الخلاف إلا لتقية، كما صرح بعدم وجوب الصلاة عليهم في السرائر ومحكي الكافي، وهو الظاهر مما في الوسيلة من اختصاص وجوب الصلاة بالمؤمن، وأن الكافر والمنافق والباغي تحظر الصلاة عليهم، وما في إشارة السبق من جعل موضوع الوجوب جنائز أهل الإيمان. كما قد يظهر ذلك ممن جعل موضوع الصلاة هو الميت ثم اقتصر في بيان كيفية الصلاة على صلاة المؤمن، كما في المقنع والمراسم، ولاسيما ما في الثاني من تخصيص وجوب الغسل بالمؤمن، بل قد يتوقف في نسبة وجوب الصلاة على المخالف لكل من لم يثبت ذهابه لوجوب تغسيله ممن أشير إليه في مبحث الغسل.

ولعله لهذا أو نحوه نسب في جامع المقاصد والروض المنع من الصلاة على المخالف لغير تقية لجمع من الأصحاب وقواه في كشف اللثام.

ومن ثم يتضح عدم نهوض دعوى الإجماع في المقام بإثبات وجوب الصلاة على المخالف، وإن حاول بعضهم التشبث بها، وقد تقدم في التغسيل ما ينفع في ذلك.

نعم استدل للعموم بإطلاق ما تضمن وجوب الصلاة على المسلم أو الميت، كمعتبر طلحة بن زيد عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام):" قال: صل على من مات من أهل القبلة، وحسابه على الله "(1) وخبر السكوني عنه عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام):" قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): صلوا على المرجوم من أمتي، وعلى القاتل نفسه من أمتي. لا تدعوا أحداً من أمتي بلا صلاة"(2).

كما استدل أو يستدل باطلاق ما تضمن وجوب الصلاة على بعض الأصناف، كالشهيد الذي به رمق(3) ، والقتيل برجم أو قصاص(4) ، وشارب الخمر والزاني

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 37 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2، 3.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب غسل الميت.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب غسل الميت.

ص: 246

(247)

ذكراً كان أم أنثى حراً أم عبداً (1) مؤمناً أم مخالفاً (2)

والسارق(1). وأكيل السبع أوالطير والمقطع(2).

لكن تقدم في بحث تغسيل المخالف الإشكال في عموم الأولين للمخالف بنحو ينهضان حجة فيه.

وأما النصوص الأخيرة فهي واردة في مقام تحديد الحكم من حيثية العناوين المأخوذة فيها بعد الفراغ عن حرمة الميت ودخوله في عموم وجوب الصلاة ذاتاً، ولا تنهض بإثبات عموم وجوب الصلاة من سائر الحيثيات بنحو تقتضي عموم حرمة الميت أو المسلم، وتكون منافية لما دل على عدم وجوب الصلاة على الكافر مثلاً أو بعض أقسام المسلمين بالعموم المطلق أو من وجه، كما يظهر بأدنى ملاحظة للنظائر. وقد تقدم في بحث تغسيل المخالف تمام الكلام في أدلة المسألة وخصوصياتها. فراجع.

هذا ومقتضى إطلاق هذه النصوص وجوب الصلاة على جميع فرق المسلمين حتى المحكوم بكفرها عندهم، كالنواصب والخوارج والغلاة، لوضوح صدق أهل القبلة عليهم، ودخولهم في الأمة التي ورد أنها تفترق ثلاث وسبعين فرقة لا ينجو منها إلا واحدة. ومجرد خروجها إن الإسلام - لو تم - لا يكفي في خروجها عن الإطلاقات المذكورة بعد عدم تضمن الأدلة تخصيص وجوب الصلاة بالمسلم. فينحصر الدليل على عدم وجوب الصلاة عليهم بمثل الإجماع لو تم. فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر، ونفى في التذكرة الخلاف فيه، وفي الجواهر: "بل الإجماع عليه معلوم" .ويقتضيه إطلاق معتبر طلحة وخبر السكوني المتقدمين.

(2) مما تقدم في التغسيل يتضح عدم وجوب الصلاة على المخالف. نعم قد تجب على المستضعف ومجهول الحال، لأن الإسلام مقتض للحرمة المستتبعة لوجوب

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 37 من أبواب صلاة الجنازة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة.

ص: 247

(248)

عادلاً أم فاسقاً (1). ولا تجب على أطفال المسلمين إلا إذا بلغوا ست سنين (2).

التجهيز ما لم يطرأ ما يوجب القطع بالهلكة.

(1) بلا إشكال ظاهر. وقد ادعى في الخلاف الإجماع على الصلاة على المرجوم، ونسبه في التذكرة لعلمائنا، كما نسب لهم في المنتهى الصلاة على من قتل نفسه، ويظهر منه الإجماع على الصلاة على أهل الكبائر، حيث لم ينسب الخلاف فيه إلا إلى مالك، وعلى الغالّ من الغنيمة، حيث اقتصر على الإشارة لخلاف بعض العامة في صلاة الإمام عليه.

وكيف كان فيقتضيه - مضافاً إلى معتبرطلحة وخبر السكوني المتقدمين - صحيح هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قلت له: شارب الخمر والزاني والسارق يصلى عليهم إذا ماتوا؟ قال: نعم"(1) ، والنصوص المتقدمة في تغسيل المرجوم والمقتص منه من المسألة الرابعة والعشرين.

نعم في معتبر زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه السلام):" قال: الأغلف لا يؤم القوم وإن كان أقرءهم، لأنه ضيع من السنة أعظمها، ولا تقبل له شهادة، ولا يصلى عليه. إلا أن يكون ترك ذلك خوفاً على نفسه"(2). لكن هجره مانع من رفع اليد به عن النصوص المتقدمة. ولاسيما وأن التعليل والاستثناء فيه يناسبان إلغاء خصوصية ترك الختان والتعدي لكل معصية مهمة الموجب لتعذر الجمع بينه وبين النصوص الأول.

ومن هنا يتعين طرحه أو تأويله. وقد حمله في الوسائل على أنه لا ينبغي أن يرغب في الصلاة عليه إذا صلى عليه أحد. وقد يحمل على نفي استحباب الصلاة عليه عيناً، غير المنافي لوجوبها كفائياً.

(2) ولا تجب قبل ذلك كما هو المعروف بين الأصحاب، وفي المقنعة: "ولا صلاة عند آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على من لا يعقل الصلاة من الأطفال. وحده أن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 37 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 13 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 1.

ص: 248

ينقص زمانه عن ست سنين. غير أنهم أباحوا الصلاة عليهم تقية من الجهال لنفي الشبهة عنهم في اعتقادهم عند تركها أنهم لا يرون الصلاة على الأموات ".وادعي الإجماع على ذلك في الانتصار والخلاف والمنتهى. لكن في المختلف والروض وكشف اللثام ومحكي مجمع البرهان أنه المشهور، وعن الذكرى أنه الأشهر، وفي المدارك وعن التنقيح أنه مذهب الأكثر.

خلافاً لما عن ابن الجنيد من وجوب الصلاة عليه إذا استهل، للنصوص الكثيرة المتضمنة لذلك، بل قيل: لا يبعد تواترها إجمالاً، كصحيح عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: لا يصلى على المنفوس، وهو المولود الذي لم يستهل ولم يصح ولم يورث من الدية ولا من غيرها، وإذا استهل فصل عليه وورثه "(1) وصحيح علي بن يقطين:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) لكم يصلى على الصبي إذا بلغ من السنين والشهور؟ قال: يصلى عليه على كل حال، إلا أن يسقط لغير تمام "(2) وغيرهما. لكن لابد من حملها على الاستحباب أو الجواز ولو تقية للنصوص الآتية.

هذا وعن ابن أبي عقيل عدم وجوب الصلاة عليه إذا لم يكن بالغاً، ومال إليه الكاشاني في محكي الوافي. ويشهد له موثق عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام):" أنه سئل عن المولود ما لم يجر عليه القلم هل يصلى عليه؟ قال: لا إنما الصلاة على الرجل والمرأة إذا جرى عليهما القلم"(3).

وصحيح زرارة في حديث: "أن ابناً لأبي عبدالله (عليه السلام) فطيماً درج مات، فخرج أبو جعفر (عليه السلام) في جنازته... فصلى عليه فكبر عليه أربعاً، ثم أمر به فدفن، ثم أخذ بيدي فتنحى بي، ثم قال: لم يكن يصلى على الأطفال، إنما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يأمر بهم فيدفنون من وراه لا يصلي عليهم، وإنما صليت عليه من أجل أهل المدينة كراهية أن يقولوا لا يصلون على أطفالهم"(4) ، بناء على أن الطفل كل من لم يبلغ الحلم، كم

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 2، 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 249

في مجمع البحرين، ويناسبه قوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم)(1).

وفي خبر هشام عنه (عليه السلام) الوارد في تعليمه مخاصمة العامة في الصلاة على الطفل:" إنما يجب أن يصلى على من وجبت عليه الصلاة والحدود، ولا يصلى على من لم تجب عليه الصلاة ولا الحدود "(2) وفي خبر علي بن عبدالله المتضمن عدم صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ولده إبراهيم وحديث الناس في ذلك:" ولكن اللطيف الخبير فرض عليكم خمس صلوات، وجعل لموتاكم من كل صلاة تكبيرة، وأمرني أن لا أصلي إلا على من صلى "(3) وبعدم حاجة الطفل للاستغفار.

ويشكل الأخير - مضافاً إلى انتقاضه بوجوب الصلاة على من بلغ مجنوناً حتى مات - بأنه حيث لا إشكال في مشروعية الصلاة على الطفل فكما يمكن استحبابها مع عدم حاجتة للاستغفار يمكن وجوبها مع ذلك.

كما أن ضعف الخبرين كاف في عدم التعويل عليهما. ولاسيما مع أن ظاهر خبر علي بن عبدالله أن المعيار في وجوب الصلاة على الميت أن يكون الميت قد صلى في حياته، لا أن الصلاة قد وجبت عليه. ومع معارضته بخبر قدامة بن زائدة:" سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على ابنه ابراهيم فكبر عليه خمساً"(4).

مضافاً إلى أن ظاهره كصحيح زرارة عدم مشروعية الصلاة على الأطفال، وهو لا يناسب النصوص الكثيرة الدالة على مشروعيتها في الجملة، فيلزم حملهما على الصغار منهم ممن لا يعقل الصلاة أو لم يبلغ الست سنين، كما هو مورد الصحيح، وتضمنه خبر زرارة الآخر(5).

فلم يبق إلا الموثق. وقد استشكل فيه في الجواهر بظهوره في عدم الصلاة على المجنون. لكن يقرب حمله - ولو بقرينة الإجماع - على كون الشرط تفسيرياً للرجل

********

(1) سورة النور آية: 59.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3، 2، 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5.

ص: 250

والمرأة، للتأكيد باعتباره الوصف الغالب فيهما، لا قيداً زائداً عليهما.

ومثله ما عن بعض مشايخنا من الإشكال فيه بظهوره في عدم مشروعية الصلاة عليه، لا مجرد وجوبها. لاندفاعه بأنه إنما تضمن نفي الصلاة عليه، وهو كما يكون لبيان عدم المشروعية يكون لبيان عدم الوجوب، فيتعين حمله عليه بقرينة النصوص الأخر.

فلم يبق إلا ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من وهنه بالهجر عند الأصحاب. لكن قد يظهر من الشيخ في التهذيبين التعويل عليه، حيث جعله شاهداً على حمل نصوص الصلاة على الطفل إذا استهل - المتقدمة حجة لابن الجنيد - على الاستحباب أو التقية.

كما لا صراحة في كلام جماعة في وجوب الصلاة على من بلغ ست سنين كالصدوق في المقنع والهداية، والمفيد في المقنعة، وعن الجعفي، حيث اقتصروا على الحكم بعدم الصلاة على من لم يبلغ ست سنين. وكذا الشيخ في المبسوط وعن التقي، حيث اقتصرا على بيان كيفية الصلاة على الطفل. بل يأتي أن الحكم بالاستحباب هو المناسب للتحديد الآتي. ومن هنا فالأمر لا يخلو عن إشكال، فلا يترك الاحتياط.

ثم إن الأصحاب بين من اقتصر في التحديد على أن يعقل الطفل الصلاة - كما في المقنع والهداية وعن الجعفي - ومن اقتصر على من يبلغ ست سنين - كما في النهاية والغنية وإشارة السبق والوسيلة والشرايع والقواعد وغيرها - ومن جعل الثاني حداً للأول وبياناً له، كما تقدم في المقنعة، وهو ظاهر الفقيه.

وقد يستدل عليه بصحيح زرارة والحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام): "أنه سئل عن الصلاة على الصبي متى يصلى عليه؟ قال: إذا عقل الصلاة. قلت: متى تجب الصلاة عليه؟ قال: إذا كان ابن ست سنين، والصيام إذا أطاقه" (1) وصحيح زرارة: "مات ابن لأبي جعفر (عليه السلام) فأخبر بموته، فأمر به فغسل وكفن ومشى معه وصلى عليه... ثم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 251

انصرف معه حتى اني لأمشي معه فقال: أما إنه لم يكن يصلى على مثل هذا... قلت: فمتى تجب عليه الصلاة؟ فقال: إذا عقل الصلاة وكان ابن ست سنين" (1) ومرسل الفقيه: "وسئل أبو جعفر (عليه السلام): متى تجب الصلاة عليه؟ فقال: إذا عقل الصلاة وكان ابن ست سنين"(2).

لكن استشكل سيدنا المصنف (قدس سره) في الاستدلال بالأول بأن التحديد بالست في ذيله ليس لوجوب الصلاة عليه إذا مات، بل لتكليفه - تمريناً - بالصلاة اليومية. وحمله على بيان حدّ عقله للصلاة لا شاهد عليه. بل لا يناسب الاختلاف في الحدّ بين الفقرتين.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن تكليفه بالصلاة اليومية لست سنين ملازم لها في السن المذكور، لتوقف تكليف الإنسان بشيء على عقله له. فيشكل - مضافاً إلى عدم اقتضائه توقف عقله للصلاة على بلوغه السن المذكور - بأن تكليفه بالصلاة إنما يتوقف على عقله لها إذا كان حقيقياً شرعياً، دون ما إذا كان تمرينياً من قِبَل وليه، كما في المقام.

كما استشكل (قدس سره) في الاستدلال بالثاني بأن ظاهر عطف بلوغ الست سنين على عقل الصلاة فيه المغايرة بينهما وكون الثاني قيداً زائداً على الأول، لا مفسراً له بحيث يكون حده الشرعي. على أن ظاهره بيان حدّ تكليفه بالصلاة لا حدّ وجوب صلاة الميت عليه إذا مات.

ودعوى: عدم مناسبة ذلك للتفريع في كلام السائل، بل مقتضاه كون السؤال عن الصلاة عليه. مدفوعة بأنه قد يكفي في التفريع المناسبة بين الصلاتين. على أن ذلك إنما يوجب اضطراب الحديث، لا ظهوره في تحديد صلاة الميت.

وأما المرسل فهو مرد بين الأمرين صالح لكل منهما. مع أن مقتضى العطف فيه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 252

المغايرة والتقييد، لا التحديد والتفسير، كما تقدم، فلا مجال للاستدلال به على المدعى. ولاسيما مع إرساله وقرب اتحاده مع الصحيح الثاني.

نعم قد يستدل على تحديد عقل الصلاة بست سنين بصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما:" في الصبي متى يصلي؟ قال: إذا عقل الصلاة. قلت: متى يعقل الصلاة وتجب عليه؟ قال: لست سنين "(1) فإنه وإن ورد في تكليفه بالصلاة، إلا أنه ينفع في المقام من حيثية التحديد المذكور.

لكن في معتبر علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام):" سألته عن الغلام متى يجب عليه الصوم والصلاة؟ قال: إذا راهق الحلم وعرف الصلاة والصوم "(2) فإن ذلك ملزم بحمل المعرفة المعتبرة في الصلاة على أنها ذات مراتب، وحينئذ لا قرينة على تعيين المرتبة المعتبرة في المقام.

هذا مضافاً إلى صحيحه عنه (عليه السلام):" سألته عن الصبي أيصلى عليه إذا مات وهو ابن خمس سنين؟ فقال: إذا عقل الصلاة صلي عليه"(3). فإنه كالصريح في أن عقل الصلاة قد يتحقق قبل الست سنين. وما في الجواهر من حمله بقرينة نصوص الست على الكناية عن بلوغ الست وعدم العبرة بالخمس. غريب.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من كون العبرة ببلوغ الست سنين، لغلبة عقل الصلاة معها. فإنه إن أراد به أن الست هي الحد الشرعي ثبوتاً بسبب الغلبة. فهو مناف للصحيح المذكور. وليس كون الصبي ابن خمس سنين من قبيل المطلق بالإضافة إلى بلوغ الست سنين، ليحمل عليه بمقتضى الجمع بين المطلق والمقيد. وإن أراد به أن الحد ثبوتاً هو عقل الصلاة، وأنه مع الشك فيه فالمعيار فيه إثباتاً بلوغ الست سنين فهو - مع عدم مناسبته لفتواه - لا يناسب دليل الست، لقوة ظهوره في الحد الواقعي.

ومن هنا كان الأظهر عدم التحديد بالست، بل بعقل الصلاة لا غير، عمل

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها حديث: 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4.

ص: 253

وفي استحبابها على من لم يبلغ ذلك وقد تولد حياً إشكال (1). والأحوط الإتيان

بصحيح زرارة والحلبي وصحيح علي بن جعفر. من دون أن يعارضها نصوص الست، لأن المتيقن منها تحديد السن الذي يؤمر فيه بالصلاة تمريناً.

نعم حيث كان عقل الصلاة أمراً مقولاً بالتشكيك لا يسهل ضبطه ولا إحرازه في حق الميت فالتحديد به لا يناسب كون الحكم وجوبياً، بل هو مؤيد لكونه استحبابياً، مع إناطة الوجوب بالبلوغ الذي يسهل ضبطه ثبوتاً وإثباتاً. والله سبحانه العالم.

(1) فقد صرح باستحبابها في الشرايع والقواعد وغيرهما، وفي جامع المقاصد وعن شرح الجعفرية والكفاية أنه المشهور للنصوص الآمرة بالصلاة عليه إذا استهل - المتقدمة حجة لابن الجنيد - بعد حملها على الاستحباب، بقرينة النصوص الصريحة في عدم الوجوب.

وأنكر ذلك في محكي الحدائق، كما يناسبه ما في المبسوط من جواز الصلاة عليه عند التقية، و ما تقدم من المقنع والهداية والمقنعة وعن الجعفي من عدم الصلاة عليه، وما تقدم من التهذيبين من التردد بين حمل نصوص الصلاة عليه على الاستحباب والتقية.

ويشهد له صحيح زرارة المتقدم عند الكلام في التحديد بست سنين، وصحيحه الآخر وخبر عبد الله بن علي المتقدمان حجة لابن أبي عقيل. وقريب منهما خبر زرارة(1) ومرسل الصدوق(2) ، لقوة ظهورها في عدم مشروعية الصلاة عليه، وأن الصلاة عليه منهم (عليهم السلام) لمجاراة العامة.

ودعوى: إمكان حمله على كون المجارة لهم علة لتشريع استحباب الصلاة، فهي مستحبة بالعنوان الثانوي دون الأولي. وعليه تحمل نصوص الأمر بالصلاة المتقدمة.

مدفوعة: بأنه إن أريد بذلك أن المجاراة لهم حكمة أوجبت تشريع استحباب الصلاة مطلقاً حتى في غير موردها. فهو راجع إلى استحبابها بالعنوان الأولي. وحينئذ

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5، 4.

ص: 254

(255)

بها برجاء المطلوبية. وكل من وجد ميتاً في بلاد الإسلام فهو مسلم ظاهراً (1). وكذا لقيط

دار الإسلام، بل دار الكفر إذا احتمل كونه مسلماً على الأحوط (2).

تأباه هذه النصوص جداً، لظهورها في أن علة قيامهم بالصلاة هي المجاراة من دون أن تكون مشروعة في نفسها.

وإن أريد به كون المجاراة لهم علة، بحيث تكون هي العنوان الثانوي الذي يكون موضوعاً للاستحباب، كما هو الحال في سائر ما يشرع القيام به للتقية، فهو عبارة أخرى عن عدم استحباب الصلاة على الطفل بعنوانها، ولا يناسب نصوص الأمر المتقدمة.

ومن هنا يتعين حمل النصوص المذكورة بقرينة هذه النصوص على التقية، كما تقدم من المقنعة، وتقدم من التهذيبين احتماله. وهو المناسب لما تضمنه صحيح زرارة من أنه (عليه السلام) كبر أربعاً.

(1) الكلام فيه هو الكلام الآتي في اللقيط.

(2) تقدم منّا في الفرع العاشر من فروع المسألة الرابعة والعشرين من أحكام التغسيل الكلام في أصالة إسلام اللقيط، وأن الظاهر اختصاصها بمن وجد في الأرض التي يغلب على أهلها الإسلام. لأنه المتيقن في الخروج عن استصحاب عدم الإسلام ولو أزلاً.

لكن يظهر من بعض مشايخنا في مبحث تغسيل الميت أن ذلك إنما يتم في الأحكام التي أخذ في موضوعها الإسلام، وليس التغسيل منها، بل مقتضى الإطلاق وجوب تغسيل كل ميت، غايته أنه ثبت حرمة تغسيل الكافر، ففي موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه سئل عن النصراني يكون في السفر وهو مع المسلمين فيموت. قال: لا يغسله مسلم ولا كرامة، ولا يدفنه ولا يقوم على قبره وإن كان أباه"(1). وحينئذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 255

فمقتضى استصحاب عدم الكفر ولو أزلاً هو وجوب التغسيل ما لم يعلم أن الميت كافر أو بحكمه. وربما يجري ما ذكره في الصلاة.

لكن تقدم في المسألة الرابعة والعشرين عند الكلام في تغسيل المخالف الإشكال في ثبوت عموم أو إطلاق تغسيل المسلم، فضلاً عن كل ميت بنحو يشمل الكافر، ليكون خروج الكافر بالتخصيص، ويرجع مع الشك فيه لاستصحاب عدم الكفن، بل المتيقن من ذلك المؤمن.

ولو فرض ثبوت العموم المذكور فالعمدة فيه موثق سماعة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الجمعة، فقال: واجب في السفر والحضر... وقال: غسل الجنابة واجب... وغسل الميت واجب" (1) وفي مضمر أبي خالد: "اغسل كل الموتى: الغريق وأكيل السبع وكل شيء، إلا ما قتل بين الصفين، فإن كان به رمق غسل، وإلا فلا"(2).

والثاني - مع ضعف سنده - ظاهر في التعميم من حيثية كيفية الموت، لا من جميع الجهات، بنحو يقتضي التعميم بلحاظ ذات الميت. وأما الأول فهو وإن كان له إطلاق بدواً كما سبق في المسألة المذكورة، إلا أنه سبق قرب انصرافه للمؤمن.

ولو غض النظر عن ذلك، فمقتضى الجمع بينه وبين مثل معتبر طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام):" قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): صلوا على المرجوم من أمتي وعلى القاتل نفسه من أمتي لا تدعوا أحداً من أمتي بلا صلاة "(3) حمله على المسلم أو المؤمن، لقوة ظهور الثاني في دخل خصوصية الأمة في الحكم. ولاسيما مع مناسبته لكون التغسيل كسائر أفعال التجهيز من شؤون احترام الميت، المناسب لاعتصامه بالإسلام أو الإيمان.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 37 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

ص: 256

(257)

(257)

(مسألة 46): الأحوط في كيفيتها أن يكبر أولاً ويتشهد الشهادتين، ثم يكبر ثانياً ويصلى على النبي صلى الله عليه وآله، ثم يكبر ثالثاً ويدعو للمؤمنين، ثم يكبر رابعاً ويدعو للميت، ثم يكبر خامساً وينصرف (1).

هذا ومقتضى ما تقدم منا من اختصاص أحكام التجهيز بالمؤمن لزوم إحراز كونه مؤمناً. لكن تقدم منّا في الفرع الخامس من فروع تغسيل المخالف تقريب وجوب تغسيل مجهول الحال من المسلمين. ويجري نظيره في الصلاة. فراجع.

(1) ينبغي الكلام في المقام في أمور:

الأول: أن وجوب خمس تكبيرات هو المدعى عليه الإجماع من جماعة كثيرة. وفي الجواهر:" بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر... وبالجملة: كون الصلاة عندنا خمساً كالضرروي من المذهب، بل يعرفه المخالف منا فضلاً عن الموافق. بل عن بعض العامة أنهم تركوه لأنه من شعار الشيعة...".

ويقتضيه النصوص الكثيرة التي لا يبعد تواترها، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" التكبير على الميت خمس تكبيرات "(1) وغيره مما تضمن أن أصل ذلك الصلاة على آدم (عليه السلام)، وما تضمن التعليل بأنها أخذت من الصلوات الخمس، أو من الفرائض الخمس: الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، وأن المخالفين إنما يكبرون أربعاً لعدم أخذهم بالولاية، وغير ذلك(2).

ومن ذلك يظهر أنه لابد من طرح ما ظاهره عدم التوقيت في عدد التكبيرات، كخبر جابر:" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن التكبير على الجنازة هل فيه شيء موقت؟

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 6.

(2) توجد النصوص المذكورة في وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2، 5 من أبواب صلاة الجنازة، وفي مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب صلاة الجنازة.

ص: 257

فقال: لا كبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد عشر وتسعاً وسبعاً وخمساً وستاً وأربعاً "(1) وخبر جعفر:" سئل جعفر عن التكبير على الجنائز قال: ذلك إلى أهل الميت ما شاء كبروا. فقيل: إنهم يكبرون أربعاً. قال: ذلك إليهم. ثم قال: أما بلغكم أن رجلاً صلى عليه علي (عليه السلام) فكبر عليه خمساً، حتى صلى عليه خمس صلوات يكبر في كل صلاة خمس تكبيرات... "(2) ولاسيما مع ضعف الخبرين وقرب حمل الثاني على أن التخيير بين الخمس والأربع تقية، تبعاً لحال أهل الميت من حيثية الإيمان والخلاف، كما قد يشير إليه ذيله المشعر بكون الحق الخمس لا غير.

نعم تضمنت جملة من النصوص أن الصلاة على المنافق أربع تكبيرات، كصحيح حماد بن عثمان وهشام بن سالم عنه (عليه السلام):" كان رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يكبر على قوم خمساً، وعلى قوم آخرين أربعاً، فإذا كبر على رجل أربعاً اتهم. يعني: بالنفاق"(3). وصحيح إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): "سألته عن الصلاة على الميت. فقال: أما المؤمن فخمس تكبيرات، وأما المنافق فأربع. ولا سلام فيها" (4) وغيرهما.

ومقتضى ما تقدم من عدم وجوب الصلاة على المنافق والمخالف عدم مشروعية الصلاة عليهم بأربع، وإنما يؤتى بها مجاراة وتقية. ولو غض النظر عما تقدم وقيل بوجوب الصلاة عليهم تعين الصلاة بأربع، عملاً بالنصوص المذكورة، كما في الوسيلة والشرايع وعن جماعة، بل نسبه في محكي المفاتيح للأصحاب. وكأنه لذكرهم النصوص المذكورة، خصوصاً ممن دأبه الفتوى بمضمونها، كما في الفقيه.

وإلا فظاهر جملة ممن أطلق وجوب خمس تكبيرات وذكر الدعاء على المنافق في الصلاة عليه بعد الرابعة - كما في المبسوط والغنية وإشارة السبق والقوا عد وغيرها - وجوب الصلاة عليه بخمس تكبيرات. بل هو صريح الهداية.

وكيف كان فلا مجال له بعد النصوص المذكورة التي يخرج بها عن عموم وجوب خمس تكبيرات. ولا ينافي ذلك ما تضمن الدعاء على المنافق في الصلاة عليه، إذ يأتي

********

(1و2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 17، 18، 1، 5.

ص: 258

عدم تعين موضع الدعاء للميت أو عليه بعد الرابعة. بل لو تعين ذلك فالأولى الجمع بين النصوص بالبناء على عدم وجوب الخامسة بعد الدعاء عليه، كما في الوسيلة.

ومنه يظهر ضعف ما عن حواشي الكركي على الشرايع من التخيير بين الانصراف بالرابعة والدعاء عليه ثم الانصراف بالخامسة. إذ هو لا يناسب إطلاق النصوص المتضمنة للصلاة عليه بأربع تكبيرات.

لكن بعض مشايخنا فصل بين المنافق بمعنى من يظهر الإسلام ويبطن الكفر والمخالف، فأوجب الأربع في الأول، عملاً بالنصوص الواردة فيه، المتضمنة لفعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأوجب الخمس في الثاني، عملاً بالمطلقات بعد قصور نصوص المنافق عنه، لأن ما ورد في فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) محمول على المنافق بالمعنى الأول، لأنه المراد منه في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم). وحديث إسماعيل بن سعد الأشعري عن الرضا (عليه السلام) المتقدم وإن كان يعمّ الثاني، أو يختص به، لأنه المراد من العنوان المذكور في كلامهم (عليهم السلام) وكلام شيعتهم في عصورهم (عليهم السلام). إلا أنه ضعيف، لأن الشيخ رواه عن أحمد بن محمد بن عيسى، وطريقه إليه في هذا الحديث مردد بين الصحيح والضعيف، لتعدد طرقه إليه، وفيها الضعيف.

وفيه أولاً: أن صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنافقين وإن وقعت في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان يراد بالمنافق المعنى الأول، إلا أنها حكيت في كلامهم (عليهم السلام) عندما اشتهر عموم المراد بالمنافق للمخالف، ومنشأ التعميم كما يناسب عموم المعنى يناسب عموم الحكم، وحينئذ فمن البعيد جداً أن يفهم منه اختصاص الحكم بالمعنى الأخص. ولاسيما مع مقابلته بالمؤمن الذي يبعد جداً حمله أو حمل حكمه على ما يعمّ المخالف. وخصوصاً بملاحظة ما في صحيح إسماعيل بن همام عن أبي الحسن (عليه السلام): "قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على جنازة فكبر عليه خمساً، وصلى على أخرى فكبر عليه أربعاً. فأما الذي كبر عليه فحمد الله

ص: 259

ومجده في التكبير الأولى... ودعا في الرابعة للميت وانصرف في الخامسة، وأما الذي كبر عليه أربعاً فحمد الله ومجده في التكبيرة الأولى... وانصرف في الرابعة فلم يدع له، لأنه كان منافقاً" (1) فإن ظاهر التفريع فيه أن الاكتفاء بالرابعة والانصراف بها يكون في كل من لا يدعى له، فيعم المخالف.

وثانياً: أن تضعيفه لبعض طرق الشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى إنما هو بسبب وقوع أحمد بن محمد بن يحيى في أحد طرقه، ووقوع أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد في طريق آخر ولم يثبت عنده وثاقة الرجلين، لعدم نص أحد على ذلك. لكن الرجلين في بيت علم وأبواهما من أعيان الطائفة، وقد روى عنهما المشايخ في روايات الأحكام التي عليها العمل، كالصدوق عن الأول مترضياً عليه، والمفيد عن الثاني، ولو لم يكونا على ظاهر العدالة والوثاقة تبعاً لأبويهما لسقطا ولم يلتفت إليهما. ولاسيما وأنهما رويا كتباً مشهورة لا يراد بالسند إليها إلا شدة التوثق باتصال السند الذي كان يهتم به القدماء، وهو لا يناسب الرواية عن من ليس ثقة. على أن شهرة تلك الكتب تغني عن الاهتمام بالسند. وقد تقدم في مبحث الاجتهاد والتقليد عند الكلام في اعتبار ترك الصغائر في العدالة بعض ما يتعلق بالأول وينفع في الثاني.

مضافاً إلى أنه يظهر منه في كتابه معجم رجال الحديث - في ترجمة أحمد بن محمد بن عيسى - العدول عن ذلك وتصحيح جميع ما يرويه الشيخ عن أحمد بن محمد بن عيسى، لأن منشأ التوقف ليس إلا ضعف الطريق الذي فيه أحمد بن محمد بن يحيى، مع أن جميع ما يرويه بالطريق المذكور يرويه بطريق آخر صحيح. فراجع وتأمل. وبالجملة: لا ينبغي التأمل في عموم الاقتصار على الأربع للمخالف.

بل لا يبعد عمومه للمستضعف منه، لأنه وإن لم يكن مؤاخذاً، إلا أنه بلحاظ عرف الشيعة في عصور الأئمة المتأخرين (عليهم السلام) الذي تعارف فيه إطلاق المنافق على المخالف داخل في المنافق، فليس المنافق في العرف المذكور إلا غير المؤمن المعترف بالحق، وبملاك شمول العنوان المذكور لغير المستضعف من المخالفين المؤمنين

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 9.

ص: 260

بأصول دينهم يشمل المستضعف منهم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عدم صحة إطلاق المنافق عليه وإن صح إطلاق المخالف، لعدم مؤاخذته وعدم خبثه. فهو غير ظاهر، لأن المعيار في إطلاق المنافق ليس هو الخبث واستحقاق العقاب، بل الخروج عن حوزة الإسلام الحقيقي المعبر عنه بالإيمان. بل يصعب حمل المنافق على خصوص المقصر من المخالفين مع مقابلته في حديث إسماعيل المتقدم بالمؤمن، لظهوره في التقابل بين الفرقتين، وفي استيفاء أحكامهما. بل يبعد جداً أخذ التقصير في موضوع الحكم، لعدم تيسر تشخيصه لعامة الناس.

نعم إذا كان المستضعف واقفاً غير معترف بالولاية ولا منكر لها، لقصوره فالظاهر عدم صدق المنافق عليه، كما لا يصدق المخالف، فيتعين الرجوع فيه لإطلاق ما دل على اعتبار الخمس تكبيرات في صلاة الميت بل لا يبعد ذلك حتى مع عدم قصوره وعدم كونه مستضعفاً.

وكذا مجهول الحال، فيكبر عليه خمساً. عملاً بالإطلاق المذكور، بضميمة أصالة عدم كونه مخالفاً منكراً للحق، كما تقدم نظيره في التغسيل.

بقي في المقام أمران:

أحدهما: أن ظاهر النصوص المتقدمة عدم مشروعية ما زاد على الخمس. بل هو كالصريح مما في معتبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام): "قال: وإنما جعلت خمس تكبيرات، دون أن تصير أربعاً أو ستاً، لأن الخمس تكبيرات إنما أخذت من الخمس صلوات في اليوم والليلة"(1). وفي مفتاح الكرامة أن الأصحاب قطعوا بذلك، وادعى في التهذيبين وكشف اللثام الإجماع عليه.

لكن ظاهر الوسائل جواز الزيادة على الخمس مطلقاً واستحبابه في الصلاة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 21.

ص: 261

على أهل الصلاح والفضل. لجملة من النصوص، كصحيح إسماعيل بن جابر وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث:" إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على حمزة سبعين صلاة، وكبر عليه سبعين تكبيرة"(1) ، بناءً على أن المراد بالصلاة فيه الدعاء بعد التكبيرات مع وحدة الصلاة بمجموعها، وخبر الحسن بن زيد قال: "كبر علي بن أبي طالب (عليه السلام) على سهل بن حنيف سبع تكبيرات، وكان بدرياً، فقال: لو كبرت عليه سبعين لكان أهلاً" (2) وخبر عيسى بن المستفاد عن أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) في حديث وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتجهيزه: "ثم قال: يا علي كن أنت وفاطمة والحسن والحسين وكبروا خمساً وسبعين تكبيرة، وكبر خمساً وانصرف..."(3) ، وخبر أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل، ومنه حديث الصلاة على آدم (عليه السلام): قال (عليه السلام):" وكبر عليه ثلاثين تكبيرة، فأمر جبرئيل فرفع خمساً وعشرين تكبيرة. والسنة اليوم فينا خمس تكبيرات. وقد كان يكبر على أهل بدر تسعاً وسبعاً"(4) ، وحديث ابن عباس: "أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام) صلاة لم يصل على أحد قبلها مثل تلك الصلاة، ثم كبر عليها أربعين تكبيرة، فقال له عمار: لِمَ كبرت عليها أربعين تكبيرة يا رسول الله؟ قال: نعم يا عمار التفت عن يميني فنظرت إلى أربعين صفاً من الملائكة، فكبرت لكل صف تكبيرة" (5) حيث قد يدعى أنه يلزم لأجل هذه النصوص رفع اليد عن ظهور نصوص الخمس بحملها على بيان أدنى الواجب.

وفيه: أنه لا ظهور لصحيح إسماعيل وزرارة في أن السبعين تكبيرة على حمزة كانت في صلاة واحدة، بل لعلها كانت في صلوات متعددة كل منها بخمس تكبيرات كما تضمنته رواية الصدوق بأسانيد ثلاثة عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن علي (عليه السلام): "قال: كبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حمزة خمس تكبيرات، وكبر على الشهداء بعد حمزة خمس تكبيرات، فأصاب حمزة سبعين تكبيرة" (6) وقد يشير إليه خبر أبي بصير أو معتبره عن

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3، 12، 11.

(4و5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4، 8، 7.

ص: 262

أبي جعفر (عليه السلام): قال: "كبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حمزة سبعين تكبيرة، وكبر علي (عليه السلام) على سهل بن حنيف خمساً وعشرين تكبيرة. قال: كبر خمساً خمساً، كلما أدركه الناس قالوا يا أمير المؤمنين لم ندرك الصلاة على سهل، فيضعه فيكبر عليه خمساً حتى انتهى إلى قبره خمس مرات"(1). إذ من القريب أن يكون شرح الصلاة على سهل بعد التعرض لزيادة التكبير عليه وعلى حمزة على الخمس لبيان كيفية الصلاة عليهما معاً، وأنهما على نهج واحد.

ومنه يظهر حال خبر الحسن بن زيد، فإنه - مع إرساله، لعدم معاصرة الحسن لأمير المؤمنين (عليه السلام) - معارض بالخبر المذكور، وبخبر عمر بن شمر(2) المتضمن تكذيب حديث الصلاة على سهل بست تكبيرات، ولشرح الصلاة عليه على النحو المذكور في خبر أبي بصير، وبصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):" كبر أمير المؤمنين (عليه السلام) على سهل بن حنيف وكان بدرياً خمس تكبيرات، ثم مشى ساعة ثم وضعه وكبر عليه خمسة أخرى، فصنع به ذلك حتى كبر عليه خمساً وعشرين تكبيرة"(3).

وأما خبر عيسى بن المستفاد فهو - مع ضعفه في نفسه - لا يخلو عن إجمال، لاحتمال كون قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه: "وكبر خمساً وانصرف" لشرح كيفيته الإتيان بالخمس وسبعين تكبيرة، لا زيادة عليها. ولا أقل من حمله على ذلك بقرينة نصوص الخمس بعد تنبيه النصوص المتقدمة على توجيه الزيادة بتكرار الصلاة.

على أنه قد يكون من مختصاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، نظير ما ورد في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) للإمام الحسن (عليه السلام) من قوله: "ثم تقدم أي بني فصل علي فكبر سبعاً، فإنها لن تحل لأحد من بعدي إلا لرجل من ولدي يخرج في آخر الزمان يقيم اعوجاج الحق"(4).

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5، 21، 1.

(4) بحار الأنوار باب: 127 من أبواب تاريخ أمير المؤمنين حديث: 6 ج: 42 ص: 215، وفي آخر الباب المذكور ص: 292 من الجزء المذكور.

ص: 263

(264)

وأما خبر أبي حمزة فهو - مع ما قيل من ضعفه بحمد بن الفضيل، لعدم ثبوت توثيقه، ومعارضته بنصوص أخر في كيفية الصلاة على آدم (عليه السلام) - صريح في أن السنة اليوم هي الخمس، فلو تم ما تضمنه من التكبير على أهل بدر تسعاً وسبعاً يكون منسوخاً.

كما أن حديث ابن عباس في الصلاة على فاطمة بنت أسد - مع ضعفه بأبي الحسن العبدي المجهول - محمول على خصوصيتها، كما هو ظاهره، أو على النسخ، أو على تعدد الصلاة عليها، نظير ما تقدم في الصلاة على حمزة وسهل بن حنيف. فإن ذلك وإن كان خلاف ظاهره بدواً، إلا أنه قد يتجه بلحاظ نصوص الخمس بعد تنبيه النصوص المتقدمة على توجيه الزيادة بتكرار الصلاة.

على أنه لو غض النظر عن جميع ذلك فلا مجال للتعويل على النصوص المذكورة مع ظهور إعراض الأصحاب عنها، حتى ادعى في التهذيبين الإجماع على ترك ما تضمن الزيادة على الخمس، ورماه بالشذوذ في كشف اللثام.

ثانيهما: أنه لا ينبغي التأمل في عدم إجزاء الناقص ولو سهواً، بل يتعين الإتمام مع بقاء المحل، واستئناف الصلاة مع عدمه، عملاً بمقتضى الأصل في النقيصة. وما في الجواهر من إمكان القول بالصحة مع السهو لإمكان فتح قاعدة السهو. كما ترى، لانصراف حديث:" لا تعاد... "للصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود، دون صلاة الميت.

كما لا تقدح الزيادة سهواً، لعدم ثبوت ركنية التكبير هنا بمعنى ما يبطل العمل بزيادته سهواً. بل لا تقدح عمداً أيضاً، ولو مع قصد ذلك من أول الأمر، لأن التشريع المحرم ليس في أصل الصلاة، ليمنع من التقرب بها، بل في كيفيتها، فيختص بالزيادة، ولا أثر لحرمتها حينئذ.

الأمر الثاني: المعروف بين الأصحاب وجوب الدعاء بين التكبيرات فعن الذكرى:" الأصحاب أجمعهم يذكرون ذلك في كيفية الصلاة، كابني بابويه والجعفي

ص: 264

والشيخين وأتباعهما وابن إدريس، ولم يصرح أحد منهم بندب الأذكار، والمذكور في بيان الواجب ظاهره الوجوب ".بل في الغنية وعن ظاهر الخلاف الإجماع على ذلك، وعن شرح الإرشاد للفخر:" الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله واجبة بإجماع الإمامية".

خلافاً للمحقق في الشرايع فصرح بعدم وجوبه. واستدل له - بعد الأصل - بإطلاق ما تضمن أنها خمس تكبيرات، مثل ما تقدم في صحيح إسماعيل بن سعد الأشعري عن الرضا (عليه السلام)، وما في معتبر الفضل عنه (عليه السلام) - في كتابه إلى المأمون - قال:" والصلاة على الميت خمس تكبيرات، فمن نقص فقد خالف السنة..."(1) ، ونحوه ما في حديث الصدوق بإسناده عن الأعمش بن جعفر بن محمد في حديث شرايع الدين.

وقد أجيب عن ذلك بأن الإطلاق المذكور مسوق لبيان عدد التكبيرات المعتبر في صلاة الميت، لا لشرح الصلاة من جميع الجهات، فلا ينافي اعتبار أمر آخر غير التكبيرات فيها.

لكن ذلك وإن كان قريباً، بل هو المتعين لو دل الدليل على اعتبار أمر آخر، إلا أنه خلاف الأصل في الإطلاق، ولا قرينة عليه. على أنه لا أثر لذلك في المدعى، لأنه إن تم الدليل على اعتبار الدعاء كفى في رفع اليد عن الإطلاق وإن تم، وإلا كفى في عدم وجوب الدعاء الأصل إن لم يتم الإطلاق.

ومن هنا فقد استدل على وجوب الدعاء بجملة من النصوص:

منها: خبر أبي بصير: "كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالساً، فدخل رجل فسأله عن التكبير على الجنائز فقال: خمس تكبيرات، ثم دخل آخر فسأله عن الصلاة على الجنائز فقال له: أربع صلوات. فقال الأول: جعلت فداك سألتك فقلت خمساً، وسألك هذا فقلت: أربعاً. فقال: إنك سألتني عن التكبير وسألني هذا عن الصلاة. ثم قال: إنها خمس تكبيرات بينهن أربع صلوات..."(2).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 20، 12.

ص: 265

وربما يدعى عدم قدح ضعف سنده بعد انجباره بعمل الأصحاب. لكن لا يتضح انجباره بعملهم، لاحتمال اعتمادهم على النصوص الأخرى التي قد يظهر استظهارهم وجوب الترتيب في الدعاء فيها، فضلاً عن وجوب أصل الدعاء.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من ظهوره في بيان العدد في الصلاة، لا في مقام الإلزام والتشريع. فقد يتجه في صدره المتضمن لجواب السائلَين، لظهور السؤالين والجوابين في أن السؤال عن العدد مع المفروغية عن تشريع كل من التكبير والصلاة، من دون نظر لنحو التشريع وأنه بنحو الإلزام أولاً، إلا أنه لا مجال له في قوله بعد ذلك:" إنها خمس تكبيرات بينهن أربع صلوات "لظهوره في شرح صلاة الميت بذلك، وظاهر شرح الماهية بشيء لزومه فيها. فتأمل.

ومنها: معتبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام):" قال: إنما أمروا بالصلاة على الميت ليشفعوا له وليدعوا له بالمغفرة، لأنه لم يكن في وقت من الأوقات أحوج إلى الشفاعة فيه والطلبة والاستغفار من تلك الساعة"(1) ، ومعتبره الآخر عنه (عليه السلام): "إنما لم يكن في الصلاة على الميت ركوع ولا سجود لأنه إنما أريد بهذه الصلاة الشفاعة لهذا العبد الذي قد تخلى مما خلف، فاحتاج إلى ما قدم"(2) ، ومعتبره الثالث عنه (عليه السلام):" قال: إنما جوزنا الصلاة على الميت بغير وضوء لأنه ليس فيها ركوع ولا سجود، وإنما هي دعاء ومسألة..."(3) ، وصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: لا بأس بالصلاة على الجنائز حين تغيب الشمس وحين تطلع. إنما هو استغفار" (4) وموثق يونس: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجنائز أصلي عليها على غير وضوء؟ فقال: نعم. إنما هو تكبير وتسبيح وتحميد وتهليل" (5) فإنها تدل على اعتبار ما زاد على التكبير في الجملة ولو بين بعض التكبيرات.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 21.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 7.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 3.

ص: 266

هذا وقد استدل بعض مشايخنا على ذلك أيضاً بصحيح الفضلاء عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: ليس في الصلاة على الميت قراءة ولا دعاء موقت، تدعو بما بدا لك. وأحق الموتى أن يدعى له المؤمن، وأن يبدأ بالصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)" (1) وقريب منه صحيح محمد بن مسلم وزرارة(2) إن لم يكن عينه.

بدعوى: أن نفي الدعاء الموقت ظاهرة في ثبوت الدعاء، وإلا كان ذكر التوقيت لاغياً. وهو مبني على ما ذهب إليه في الأصول من أن ذكر الوصف وإن لم يكن ظاهراً في اختصاص الحكم به ونفيه عن تمام أفراد الماهية الفاقدة له، إلا أنه ظاهر في دخله في الحكم بنحو لا يثبت لأصل الماهية ولا يسري في جميع أفرادها، بل لابد في ثبوته خصوصية زائدة على الماهية كالوصف المذكور أو غيره. لكن المبنى المذكور غير خال عن الإشكال كما ذكرناه في محله. على أنه لو تم فنفي التوقيت في النص إنما يقتضي ثبوت أصل الدعاء ومشروعيته في الجملة ولو استحباباً، لكفاية ذلك في رفع لغوية ذكر التوقيت، ولا يتوقف رفعها على وجوب الدعاء.

ومنها: النصوص الكثيرة الواردة في الصلاة على الميت فعلاً أو قولاً المتضمنة لخصوصيات الأدعية المختلفة، وكل منها وإن كان ظاهراً في نفسه في لزوم ما تضمنه بخصوصيته الموجب لتعارضها بدواً، إلا أن مقتضى الجمع بينها رفع اليد عن وجوب كل منها بخصوصيته، مع وجوب كل منها القدر المشترك، وهو الدعاء في الجملة، ولا وجه لرفع اليد عن ذلك بمجرد اختلاف الأخبار.

لكن المراد بذلك إن كان هو عدم ملازمة الاختلاف المذكور لعدم وجوب القدر المشترك، لدفع ما قد توهمه بعض كلماتهم من الاستدلال على عدم وجوبه بالاختلاف المزبور. فهو متين، إلا أن وجوب القدر المشترك يبقى محتاجاً للدليل. وإن كان هو صلوح النصوص المذكورة لإثبات وجوب القدر المشترك، لأن الاختلاف إنما يلزم برفع اليد عن ظهور كل منها في وجوب خصوصية ما اشتمل عليه لا غير،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 3.

ص: 267

كما يظهر من الجواهر وغيره. أشكل بأن النصوص لم تتضمن أمرين، أحدهما الأمر بالقدر المشترك، والثاني الأمر بالخصوصية، ليتعين بسبب الاختلاف رفع اليد عن ظهور الثاني في الوجوب دون الأول، لعدم منافاة الاختلاف له، وإنما تضمنت أمراً واحداً بالخصوصية، فمع رفع اليد عن ظهوره في الوجوب بسبب الاختلاف لا طريق لإحراز وجوب القدر المشترك.

ودعوى: أنه كما يتعذر حمل كل من هذه النصوص على وجوب ما تضمنه بخصوصيته تعييناً، لاستلزامه التنافي، كذلك يتعذر حمله على استحبابه تعييناً - بمعنى كونه أفضل الأفراد - لاستلزامه التنافي أيضاً، بل يتعين حينئذٍ حمله على الطلب التخييري، الراجع إلى أن ما تضمنه أحد أفراد المطلوب مع كون المطلوب حقيقة هو القدر المشترك، ومع دوران مطلوبية القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب يتعين الحمل على الأول لأنه الأصل في الطلب.

مدفوعة بأنه لا مجال لذلك في الفعل، لإجماله، وأما ما تضمن الأمر بالخصوصية فحمله على الطلب التخييري بعيد جداً، كما يأتي، والأقرب حمله على بيان إجزاء ما تضمنه، مع المفروغية على مشروعية القدر المشترك، وحينئذٍ كما يمكن أن تكون المشروعية المفروغ عنها بنحو الوجوب يمكن أن تكون بنحو الاستحباب، ولا مرجح للأول بعد أن لم يكن الطلب مسوقاً لبيان المشروعية.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر النصوص المذكورة بيان ما هو المجزي عن صلاة الميت المفروض وجوبها وعن تكبيراتها الواجبة، لا عما يستحب فيها، فهي ظاهرة في المفروغية عن وجوب القدر المشترك، وأنه به قوام الصلاة، لا في استحبابه فيها، بحيث يمكن تحققها بدونه.

هذا مضافاً إلى أن إطلاق الصلاة عليها إنما هو بعناية اشتمالها على الدعاء والذكر، ولذا قد تطلق توسعاً على الدعاء للميت بعد دفنه، كما تضمنه صحيح محمد بن

ص: 268

(269)

مسلم أو زرارة: "قال: الصلاة على الميت بعد ما يدفن إنما هو الدعاء"(1) ، وحديث جعفر بن عيسى قال:" قدم أبو عبد الله (عليه السلام) مكة فسألني عن عبد الله بن أعين، فقلت: مات... قال: فانطلق بنا إلى قبره حتى نصلي عليه، فقلت: نعم قال: لا ولكن نصلي عليه ههنا فرفع يديه يدعو واجتهد في الدعاء وترحم عليه"(2).

ويناسبه ظهور مفروغية الأصحاب عن ذلك وفهمهم له من نصوص المقام، وإلا فمن البعيد جداً خفاء ذلك عليهم وخطؤهم فيه مع كثرة الابتلاء بالمسألة وشدة الحاجة لمعرفة حكمها. بل هو لا يناسب عدم تنبيه النصوص للاستحباب، واقتصارها على بيان عدم التوقيت في الخصوصيات.

وبالجملة: مقتضى النصوص على كثرتها وجوب الدعاء بين التكبيرات، ولا مجال لما سبق من الشرايع من عدم وجوبه أصلاً.

بل مقتضى ما عدا الطائفة الثانية وجوبه بين جميعها وعدم الاكتفاء بالدعاء بينها في الجملة ولو مع الاقتصار على بعضها.

لكن في خبر يونس عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: الصلاة على الجنائز التكبيرة الأولى استفتاح الصلاة، والثانية: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والثالثة: الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أهل بيته والثناء على الله، والرابعة له، والخامسة: يسلم..."(3). وظاهره عدم وجوب الدعاء بعد الأولى. إلا أنه لا ينهض في قبال ما سبق.

نعم يأتي في المسألة الرابعة والخمسين الكلام في اجتزاء المأموم المسبوق بعد فراغ الإمام بالتكبير من دون دعاء.

الأمر الثالث: ظاهر جماعة من الأصحاب وجوب الكيفية المذكورة في المتن، وفي جامع المقاصد وعن المختلف والذكرى وغيرها أنه المشهور، بل ظاهر الخلاف

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 10.

ص: 269

والغنية الإجماع عليه. وإن كان سبر كلماتهم يشهد بشدة اختلافهم في الخصوصيات.

وكيف كان فيدل على الصورة المذكورة في الجملة صحيح محمد بن مهاجر عن أمه أم سلمة قالت - في حديث طويل -: "فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا صلى على ميت كبر وتشهد، ثم كبر وصلى على الأنبياء ودعا، ثم كبر ودعا للمؤمنين [واستغفر للمؤمنين والمؤمنات]، ثم كبر الرابعة ودعا للميت، ثم كبر الخامسة وانصرف. فلما نهاه الله عز وجل عن الصلاة على المنافقين كبر وتشهد، ثم كبر وصلى على النبيين، ثم كبر ودعا للمؤمنين، ثم كبر الرابعة وانصرف، ولم يدع للميت"(1).

وقد يستشكل فيه من وجوه:

الأول: ضعف سنده، لعدم النص على توثيق أم سلمة. لكن قد يدفع بظهور عمل الأصحاب به، واعتمادهم عليه، لعدم المناسب للصورة المشهورة بينهم سواه، فإن لم يكن ظاهر حالهم وثاقة أم سلمة فلا أقل من انجبار ضعف سنده بعملهم.

الثاني: أن ظاهر التشهد فيه شهادة التوحيد فقط. لكنه ممنوع لظهوره في التشهد المعهود في الإسلام الذي به قوامه، وهو الشهادتان معاً.

الثالث: أنه لا يتضمن الصلاة في الثالثة على النبي وآله، بل الصلاة على الأنبياء والدعاء، وظاهرهم عدم الاكتفاء بالصلاة عليه في ضمنهم، بل لابد من إفراده بالصلاة، وعدم وجوب الدعاء، بل صرح جماعة كثيرة بالصلاة على آله معه.

نعم رواه الصدوق في العلل بعد ذكر التكبير الأول والتشهد هكذا:" ثم كبر وصلى على النبي ودعا... فلما نهاه الله تعالى عن الصلاة على المنافقين كبر وتشهد ثم كبر وصلى على النبي..."(2) ، ورواه مرسلاً في الفقيه هكذا: "ثم كبر فصلى على النبي وآله ودعا... فلما نهاه الله عز وجل عن الصلاة على المنافقين فكبر وتشهد ثم كبر فصلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) علل الشرايع باب: 244 حديث: 3. ص: 303 طبع النجف الأشرف.

ص: 270

على النبي وآله..."(1). ولا يخلو الاعتماد عليهما في ذلك عن إشكال.

والعمدة في الإشكال في الاستدلال: أنه - مع كونه حكاية فعل لا يدل على الوجوب - معارض بالنصوص الكثيرة المتضمنة كيفيات أخر، بل لا موافق له في الكيفية المذكورة، كما لا توافق بين الأخبار الأخر في أنفسها، حيث لا يتفق خبران على صورة واحدة.

ففي صحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) الأمر بعد التكبيرة الأولى بالصلاة على النبي ثم الدعاء للميت، وبعد الثانية الدعاء له، وبعد الثالثة:" اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده "وبعد الرابعة الدعاء له ولعقبه(2).

وفي موثق عمار عنه (عليه السلام) الأمر بعد التكبيرة الأولى بالاسترجاع، ثم قراءة آية:" إن الله وملائكته... "ثم الصلاة على النبي وآله، ثم قول:" اللهم صل على محمد وعلى أئمة المسلمين. اللهم صل على محمد وعلى إمام المسلمين "ثم دعاء خاص للميت، ثم قول:" اللهم عندك نحتسبه، فلا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. اللهم عفوك عفوك. اللهم عفوك عفوك "،وفي الثانية والثالثة والرابعة بدعاء خاص للميت يكرره بعدها. وزاد:" فإذا كبرت الخامسة فقل:... "وذكر دعاء خاصاً يتضمن الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله والدعاء للمؤمنين وللمصلي، ثم قال:" اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان... "إلى آخر الآية ثم قال:" اللهم عفوك عفوك، وتسلم"(3).

وفي صحيح الحلبي الأمر بعد التكبيرة الأولى بالتشهد، ثم الأمر بدعاء يتضمن الاسترجاع، ثم الثناء على الله تعالى، ثم الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته، ثم الدعاء له (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم الدعاء للميت، ثم قال: "اللهم اسلك لنا وبه سبيل الهدى، واهدنا وإياه صراطك المستقيم. اللهم عفوك عفوك. ثم تكبر الثانية وتقول مثل ما قلت حتى تفرغ من خمس تكبيرات"(4).

********

(1) من لا يحضره الفقيه ج: 1 باب الصلاة على الميت حديث: 16. ص: 100.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2، 11، 3.

ص: 271

وفي صحيح أبي ولاد:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التكبير على الميت. فقال: خمس تقول في أولهن... "ثم ذكر دعاء يتضمن شهادة التوحيد، ثم الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله، ثم الدعاء للميت، ثم قال:" ثم تكبر الثانية وتفعل ذلك في كل تكبيرة"(1).

وفي موثق سماعة: "سألته عن الصلاة على الميت، فقال: خمس تكبيرات، تقول إذا كبرت:..." ثم ذكر دعاء يتضمن الشهادتين، ثم الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله وعلى أئمة الهدى، ثم الدعاء للمصلى وجميع المؤمنين. ثم قال (عليه السلام): "فإن قطع عليك التكبيرة الثانية فلا يضرك أن تقول: اللهم هذا عبدك..." وذكر دعاء للميت قال في آخره: "ولا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده" ،ثم قال: "قل هذا حتى تفرغ من خمس تكبيرات. وإذا فرغت سلمت عن يمينك"(2).

وفي صحيح إسماعيل بن همام عن أبي الحسن (عليه السلام):" قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على جنازة فكبر عليه خمساً، وصلى على أخرى فكبر أربعاً. فأما الذي كبر عليه خمساً فحمد الله ومجده في التكبيرة الأولى، ودعا في الثانية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعا في الثالثة للمؤمنين والمؤمنات، ودعا في الرابعة للميت، وانصرف في الخامسة. وأما الذي كبر عليه أربعاً فحمد الله ومجده في التكبيرة الأولى، ودعا لنفسه وأهل بيته في الثانية، ودعا للمؤمنين والمؤمنات في الثالثة، وانصرف في الرابعة، فلم يدع له، لأنه كان منافقاً"(3).

وهناك نصوص أخر قد يناقش في سندها لا يهم التعرض لها فعلاً.

ومن الظاهر تعذر الجمع العرفي بينها بالتخصيص والتقييد ونحوهما، لشدة التنافي بينها. ومن هنا قد يدعى الجمع بينها بالتخيير بين الكيفيات المذكورة فيها، لدعوى ظهور كل منها في وجوب الدعاء، وفي تعين مؤاده، ورفع اليد عن الثاني بسبب الاختلاف بينها فيه لا يوجب رفع اليد عن الأول، بل يتعين البناء على التخيير.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 25، 6، 9.

ص: 272

(273)

لكنه كما ترى، فإن وجوب الدعاء لا يقتضي التخيير بين الخصوصيات المذكورة في النصوص، بحيث لا يجزي غيرها. بل التخيير مخالف للظاهر جداً، لقوة ظهور الأمر في التعيين، فمع تعذر البناء عليه يصعب حمله على بيان وجوب الخصوصية تخييراً بعد عدم الجامع العرفي بين الخصوصيات، بحيث لا يشمل غيرها. بل الأقرب عرفاً البناء على وجوب مطلق الدعاء، وحمل النصوص على بيان إجزاء ما تضمنته بخصوصيته، فهي لتعلم فرد من أفراد الواجب المذكور.

هذا مضافاً إلى صحيح الفضلاء المتقدم عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: ليس في الصلاة على الميت قراءة ولا دعاء موقت، تدعو بما بدا لك. وأحق الموتى أن يدعى له المؤمن، وأن يبدأ بالصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)" (1) وقريب منه صحيح محمد بن مسلم وزرارة(2) ، إن لم يكن عينه، فإن مقتضاهما وجوب مطلق الدعاء.

ومنه يظهر عدم لزوم البناء على وجوب ما اتفقت عليه النصوص من المادة والهيئة، لأنها بعد أن كانت مسوقة لبيان المجزي لا شاهد فيها على وجوب شيء بخصوصيته. بل يبعد جداً مع الاختلاف الفاحش بينها حملها على بيان وجوب ما تتفق فيه. ولاسيما مع منافاته لظاهر صحيح الفضلاء وصحيح محمد بن مسلم وزرارة المتقدمين. وعلى ذلك يتعين البناء على وجوب مطلق الدعاء الشامل للذكر، ما لم يثبت وجوب شيء خاص يسهل تنزيل النصوص عليه.

ومن هنا ينبغي الكلام في أمور:

الأول: يظهر من جماعة من الأصحاب اعتبار شهادة التوحيد أو الشهادتين معاً، بل هو صريح بعضهم. لجملة من النصوص المتقدمة وغيرها. وصرح بعضهم بالعدم. ويشهد له - مضافاً إلى ما عرفت من عدم حمل النصوص الشارحة لكيفية الصلاة على وجوب ما تضمنته تعييناً أو تخييراً - خلوّ جملة من النصوص من الشهادتين معاً، كصحيحي زرارة وإسماعيل بن همام وموثق عمار - المتقدم نقل مضامينها

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 3.

ص: 273

(274)

وغيرها، وخلو صحيح أبي ولاد المتقدم مضمونه أيضاً من الشهادة بالرسالة. ولا مجال لتقييدها بالنصوص المتضمنة لهما، لقوة ظهورها في الاجتزاء بما تضمنته. ولاسيما بعد ورودها في مقام التعليم.

الثاني: صرح بعضهم باعتبار الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده أو مع آله (عليهم السلام). وعليه أصر بعض مشايخنا، وجعلها قبل الدعاء للميت. لاتفاق النصوص المعتبرة عليه. ولا ينافيه نصوص عدم التوقيت في الدعاء، لاشتمال تلك النصوص على الأمر بالصلاة.

ويشكل بما سبق من عدم حمل النصوص على وجوب ما اتفقت عليه. بل ظاهر قوله (عليه السلام) في صحيح الفضلاء المتقدم بعد نفي التوقيت: "وأحق الموتى أن يدعى له المؤمن، أن يبدأ بالصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)" استحباب البدء بالصلاة عليه لا وجوبه، ونحوه صحيح محمد بن مسلم وزرارة المتقدمة إليه الإشارة.

ويؤيده شدة اختلاف النصوص في كيفية الصلاة عليه، وفي محلها، واشتمال صحيح إسماعيل بن همام على الدعاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدل الصلاة عليه، وما تقدم من الاختلاف في رواية حديث أم سلمة.

مضافاً إلى خبر كليب الأسدي: "سألت أبا عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن التكبير على الميت، فقال بيده خمساً. قلت: كيف أقول إذا صليت عليه؟ قال: تقول: عبدك احتاج إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فاغفر له"(1) ، وخبر إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في الصلاة على الجنائز تقول: اللهم أنت خلقت هذه النفس، وأنت أمتها، تعلم سرها وعلانيتها. أتيناك شافعين فيها فشفعنا. اللهم ولّها ما تولت واحشرها مع من أحبت"(2).

وحملهما على بيان خصوص الدعاء للميت دون تمام الصلاة عليه، مخالف للظاهر، خصوصاً الأول المتضمن لعدد التكبيرات، بل الظاهر منهما بقرينة بقية

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 7، 4.

ص: 274

(275)

النصوص بيان المضمون المجزي في صلاة الميت ولو بتكراره بين التكبيرات.

نعم قد يشكل الاستدلال بهما لضعف السند أما الأول فلعدم النص على وثاقة كليب الأسدي. وأما الثاني فلعدم النص على وثاقة أحمد بن أبي الصخر الراوي عن إسماعيل.

لكن كليب الأسدي - مع كونه من رواة كامل الزيارات - قد روى عنه الأعيان، ومنهم ابن أبي عمير وصفوان ويونس الذين قيل فيهم إنهم لا يروون إلا عن ثقة، معتضداً أو مؤيداً بما رواه هو: "قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): أيحب الرجل الرجل ولم يره؟ قال: ها هو أنا أحب كليب الصيداوي ولم أره"(1).

أما أحمد بن أبي الصخر ففي إحدى نسخ الوسائل أنه ابن عبد الرحيم، وفي الأخرى أنه ابن عبد الرحمن، ولا يبعد كونه الثاني، لأنه قد ثبت رواية أحمد بن عبد الرحمن عن إسماعيل بن عبد الخالق(2) ، وأحمد بن عبد الرحمن قد روى عنه ابن أبي عمير الذي قيل: إنه لا يروي إلا عن ثقة.

نعم الموجود في سند الحديث المتقدم في الطبعة الحديثة من الكافي أحمد بن عبد الرحيم أبي الصخر. ولا شاهد بوثاقته. ومن ثم يشكل اعتبار سند الحديث والعمدة الأول مؤيداً بالثاني. ولا أقل من كون الخبرين مؤيدين لما ذكرناه من مقتضى الجمع بين النصوص.

الثالث: ظاهر الأصحاب الاتفاق على وجوب الدعاء للميت في الصلاة عليه، حتى صرح به بعض من لم يعتبر الكيفية المشهورة. وكأنه لارتكاز أن ذلك هو الغرض من تشريع الصلاة، كما يدل عليه معتبرا الفضل بن شاذان المتقدمان عند الكلام في وجوب الدعاء بين التكبيرات وصحيح الفضيل بن يسار: عن أبي جعفر (عليه السلام):" إذا صليت على المؤمن فادع له واجتهد في الدعاء"(3).

********

(1) رجال الكشي رقم: 177 ص: 289.

(2) الكافي ج: 5 ص: 333 باب: كراهة تزويج العاقر حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 275

ويناسبه التوسع في إطلاق الصلاة عليه على الدعاء له بعد الدفن في صحيح محمد بن مسلم وزرارة وحديث جعفر بن عيسى المتقدمان في أخر الكلام في تلك المسألة. ولذا كانت الصلاة على الميت ارتكازاً تشريفاً وتكريماً له، فالدعاء له كالمقوم لمفهوم الصلاة عليه، كما يناسبه الاقتصار عليه في خبري كليب وإسماعيل بن عبد الخالق المتقدمين. بل يناسبه التعرض للدعاء المتعلق ببعض أقسام الميت كالطفل والمستضعف وغيرهما، فإنه مناسب جداً لكون الدعاء للميت مع استحقاقه له مقوماً للصلاة عليه.

كما قد يستفاد ذلك من تعدية الصلاة للميت ب - (على) في النص والفتوى وعرف المتشرعة، فإن المراد بالصلاة على الإنسان الدعاء له. ولازم ذلك كون إطلاقها في الصلاة على المنافق والطفل والمستضعف مبنياً على التغليب. أو يكون ابتناؤها على الدعاء للميت في أصل تشريعها سبباً في التسمية، ثم صارت اسماً لهذه الماهية بغض النظر عن تحقق منشأ التسمية في موارد الإطلاق.

وأما احتمال أن تكون التعدية ب - (على) بلحاظ العلوّ المكاني، لوقوف المصلى عند الميت فكأن الصلاة تقع فوقه. فهو بعيد لا يناسب إطلاقها على الصلاة على الغائب عند العامة، وإن لم تكن مشروعة عندنا، لأن الكلام في مفهومها العرفي.

اللهم إلا أن يؤيد بما تضمن تعدية الصلاة لأبعاض الميت في النصوص الواردة في الصلاة على المقطع، فإنها كالصريحة في إرادة العلوّ المكاني، وإلا فلو أريد منه المعنى الأول كان اللازم نسبتها للميت، ومن ثم فالأمر في هذا الوجه لا يخلو عن إشكال. والعمدة ما قبله.

نعم قد ينافي ذلك قوله (عليه السلام) في موثق يونس المتقدم: "إنما هو تكبير وتسبيح وتحميد وتهليل" (1) ونفي التوقيت في صحيح الفضلاء، بل قوله (عليه السلام): "وأحق الموتى أن يدعى له المؤمن" (2) ظاهر في استحباب الدعاء له، ونحوه صحيح محمد بن مسلم

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3، 1.

ص: 276

وزرارة(1).

لكن الموثق ظاهر في الحصر، وحيث لا مجال للبناء عليه، لعدم الإشكال في عدم اختصاص الدعاء المشروع في المقام بما تضمنه بتعين حمله على التغليب أو التوسع، في مقام الإشارة إليها إجمالاً لعدم وروده لبيان أجزائها، بل لبيان عدم اعتبار الوضوء فيها.

وأما نفي التوقيت في الصحيحين فهو إنما يدل على نفي اعتبار الدعاء للميت إذا لم يكن مقوماً لها عرفاً ومفروغاً منه فيها، أما إذا كان كذلك - كما تقدم احتماله، بل تقريبه - فلابد أن يكون نفي التوقيت بلحاظ غيره، كأنحاء مضامينه المختلفة، وأنواع الأدعية الأخرى.

وأما قوله (عليه السلام): "وأحق الموتى أن يدعى له المؤمن" فمن القريب حمله على الحثّ على الإكثار من الدعاء له، لا على أصل الدعاء له. ولا أقل من لزوم حمله على ذلك بقرينة ما سبق منّا. ومن هنا كان من القريب جداً وجوب الدعاء للميت. نعم يختص ذلك بالمؤمن المكلف.

وأما الطفل ففي موثق زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه السلام) في الصلاة على الطفل: "أنه كان يقول: اللهم اجعله لأبويه ولنا فرطاً وسلفاً"(2). وقد أفتى جماعة بمضمونه، وإن اختلفوا في مادة الدعاء أو هيئته. وظاهرهم الوجوب.

لكن لا شاهد عليه من الحديث، لأن فعله (عليه السلام) أعم من الوجوب، بل أعم من الاستحباب بمعنى كونه أفضل الأفراد. ولا مجال لتوهم وجوب الدعاء له، بعد ظهور ما يظهر منه وجوب الدعاء فيمن يحتاج للدعاء والشفاعة. ومن هنا لا يبعد الاكتفاء فيه بمطلق الدعاء ولو للمؤمنين، وبالذكر. بل لا ينبغي التأمل في عدم مشروعية الدعاء لأبويه إذا لم يكونا أهلاً له، بأن يكونا جاحدين للحق من دون استضعاف.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 277

وأما غير المؤمن فإن فرض مشروعية الصلاة عليه فلا ينبغي التأمل في جواز الدعاء عليه إذا كان منافقاً يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: لما مات عبد الله بن أبي سلول حضر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جنازته، فقال عمر: يا رسول الله ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟ فسكت. فقال: ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟ فقال: ويلك وما يدريك ما قلت؟ إني قلت: اللهم احش جوفه ناراً واملأ قبره ناراً واصله ناراً..."(1).

وكذا الحال إذا كان مخالفاً، لما تضمن الدعاء على المنافق من النصوص الكثيرة الظاهرة في إرادة المخالف أو ما يعمه، لما سبق من أن ذلك هو الظاهر منه في عصور الأئمة (عليهم السلام) في كلامهم وكلام شيعتهم. ومن ثم لا يبعد كونه هو المراد من المنافق في كلام جماعة، بل هو ظاهر بعضهم وصريح الآخرين.

وفي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "قال: إن كان جاحداً للحق فقال: اللهم املأ جوفه ناراً وقبره ناراً، وسلط عليه الحياة والعقارب..."(2). وهو بإطلاقه يشمل جميع فرق المخالفين، وأقسامهم، لجحودهم للحق - وهو الولاية - وإن آمنوا بأصول الإسلام حقيقة ولم ينافقوا فيها.

ومنه يظهر الإشكال في ما قد توهمه بعض العبارات من الاختصاص ببعض المخالفين فقد عبر في المقنع والمقنعة والمبسوط والوسيلة بالناصب، وفي النهاية بالناصب المعلن. وعن محكي المصباح ومختصره بالناصب المعاند. وربما أريد بها مطلق المخالف للجاحد للحق، في مقابل المستضعف الواقف.

ثم إن ظاهر جماعة وجوب ذلك. وقد يتجه بلحاظ وروده بدلاً عن الدعاء للمؤمن الذي تقدم وجوبه. وما قد يظهر من بعضهم من عدم وجوبه لا وجه له إلا حمل الأمر به في النصوص على أنه لمجرد بيان الجواز، الذي هو خلاف الظاهر بعد عدم الإشكال في جوازه ذاتاً بحيث لا يحتاج للبيان، وإنما الأمر المحتاج للبيان هو

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4، 5.

ص: 278

كيفية الصلاة عليه، وظاهر بيانها الوجوب.

نعم بناءً على ما سبق منّا من عدم وجوب الصلاة عليه يسهل حمل النصوص المذكورة على بيان صورة الصلاة التي قد يحتاج إليها للتقية، ولو بلحاظ التحبب والمجاملة والمداراة، لأن هذه النصوص ليست بصدد بيان وجوب الصلاة، بل بيان كيفيتها بعد الفراغ عن حكمها، فلا ينافي عدم وجوبها، بل مجرد الحاجة إليها للتقية، ويكون ذكر اللعن حينئذ ليس لكونه مقوماً للصورة، بحيث يكون واجباً، بل لأنه الأنسب بالمقام، كما هو مقتضى القاعدة العامة مع غير أهل الحق، إذ من البعيد جداً وجوب اللعن والدعاء عليه حينئذ في خصوص المورد. وإن كان التزام العمل عليه أحوط.

هذا وقد يستثنى من ذلك المستضعف، فلا يدعى عليه، بل يدعى للمؤمنين بما يرجى انتفاعه به، كما تضمنته النصوص الكثيرة التي صرح الأصحاب بمضامينها في الجملة، ففي صحيح زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): أنه قال:" الصلاة على المستضعف الذي لا يعرف مذهبه: تصلي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويدعى للمؤمنين والمؤمنات. ويقال: اللهم اغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ويقال في الصلاة على من لا يعرف مذهبه: اللهم إن هذه النفس أنت أحييتها وأنت أمتها. اللهم ولها ما تولت واحشرها مع من أحبت"(1). وفي صحيح الفضل بن يسار عنه (عليه السلام): "إذا صليت على المؤمن فادع له واجتهد له في الدعاء، وإن كان واقفاً مستضعفاً فكبر وقل: اللهم اغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم"(2). وفي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" قال: الصلاة على المستضعف الذي لا يعرف الصلاة على النبي والدعاء للمؤمنين والمؤمنات، تقول: ربنا اغفر للذي تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم... إلى آخر الآيتين"(3). وفي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إن كان مستضعفاً فقل: اللهم اغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 3، 2.

ص: 279

عذاب الجحيم. وإذا كنت لا تدري ما حاله فقل: اللهم إن كان يحب الخير وأهله فاغفر له وارحمه وتجاوز عنه، وإن كان المستضعف منك بسبيل فاستغفر له على وجه الشفاعة (منك) لا على وجه الولاية"(1). وقريب منها غيرها.

لكن الظاهر حمل هذه النصوص على المستضعف الواقف الذي لا يجحد الولاية، كما هو مقتضى صحيح الفضيل بن يسار المتقدم، وهو خارج عن المخالف موضوعاً، فلا يكون استثناء منه، دون من يجحدها قصوراً، بل المرجع فيه إطلاق ما تضمن الدعاء على المخالف والجاحد للحق. كما تقدم إن الصلاة عليه لو كانت مشروعة فهي بأربع تكبيرات، كغيره من أقسام المخالف. ومجرد معذوريته في ذلك، لا ينافي جواز الدعاء عليه، لعدم وضوح عاقبته، والأمر في استجابة الدعاء لله تعالى. ولاسيما مع أن تحديد القصور وتشخيصه مع الإعلان بجحد الولاية في غاية الصعوبة، فيبعد جداً جعله معياراً في الحكم. بل لعله المناسب لما تضمن من النصوص تحديد المستضعف بمن لم يبلغه الخلاف(2) ، حيث يغلب عدم جحده للحق حينئذ، لعدم التفاته له.

هذا وقد تقدم أن الظاهر وجوب الصلاة على المستضعف غير الجاحد، ووجوب التكبيرات الخمس فيها، وحينئذ فظاهر الأمر بالدعاء المذكور فيها وجوبه بدلاً عن الدعاء للمؤمن الذي تقدم وجوبه في الصلاة عليه، ولا مجال لاحتمال عدم وجوبه، وحمل النصوص على الجواز.

وأما مجهول الحال فقد سبق وجوب الصلاة عليه ظاهراً، ووجوب التكبيرات الخمس فيها كذلك، ويتعين الدعاء فيها بما تضمنته النصوص المتقدمة في المستضعف.

ثم أنه لا ينبغي التأمل بعد النظر في مجموع نصوص الصلاة على الميت في عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4.

(2) الكافي ج: 2 باب المستضعف ص: 404، 406.

ص: 280

(281)

والأحوط استحباباً بالجمع بين الأدعية بعد كل تكبيرة (1). ولا قراءة فيه (2)،

لزوم التقيد بألفاظ الأدعية التي تضمنتها النصوص في الصلاة على غير المؤمن، وعلى المستضعف وعلى مجهول الحال. بل يكتفي بمضامين الأدعية المذكورة في النصوص مع كون الواجب أقلها مضموناً.

بل قد يستفاد من صحيح زرارة ومحمد بن مسلم جواز الدعاء في الصلاة على المستضعف ومجهول الحال بدعاء واحد، وهو المشتمل على قوله تعالى:" اللهم اغفر للذين تابوا... "،كما هو ظاهر صحيح عبد الله بن المغيرة عن رجل عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: تقول:... اللهم اغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، فإن كان مؤمناً دخل فيها، وإن كان غير مؤمن خرج منها"(1).

(1) لعله للأمر في بعض النصوص المتقدمة بتكرار الدعاء الذي تضمنته بعد كل تكبيرة. وأشملها في ذلك موثق سماعة المتقدمة إليه الإشارة عند الكلام في وجوب الكيفية المشهورة. لكن لا يظن بأحد احتمال وجوب ما تضمنه، ليكون مقتضى الاحتياط موافقته. ولاسيما مع اشتماله على ما لا نقول به، كالسلام. ومع اشتمال غير واحد من النصوص على اختلاف الأدعية التي بين التكبيرات.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، بل ظاهرهم المفروغية عن ذلك، لتصريحهم بحمل ما تضمن قراءة الفاتحة التقية، وفي الجواهر: "للإجماع بقسميه على عدم الوجوب، بل معقد المنقول منه - مستفيضاً أو متواتراً - نفيها فيها، فيمكن حمله على نفي المشروعية وجوباً واستحباباً منه، كما صرح به في معقد ظاهر إجماع كشف اللثام وصريح المحكي عن الروض" .وقد يستدل عليه بخلو النصوص البيانية عنه.

فإن كان المراد به الاستدلال على عدم وجوبها فهو في محله. وإن كان المراد به الاستدلال على عدم مشروعيتها بخصوصيتها أشكل بأنه بعد عدم العمل بظهور

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 6.

ص: 281

النصوص البدوي في تعيين مضامينها وحملها على بيان المجزي لا مجال للاستدلال بها على نفي مشروعية ما لم تتضمنه.

نعم تحتاج المشروعية للدليل، ولا دليل سوى خبر علي بن سويد عن الرضا (عليه السلام) فيما نعلم: "قال: في الصلاة على الجنائز تقرأ في الأولى بأم الكتاب، وفي الثانية تصلي على النبي..." (1) وحديث عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): "إن علياً كان إذا صلى على ميت يقرأ بفاتحة الكتاب ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله..."(2).

وهما - مع الإشكال في سندهما، وظهور إعراض الأصحاب عنهما - معارضان بقوله (عليه السلام) في الصحيحين المتقدمين:" ليس في الصلاة على الميت قراءة، ولا دعاء موقت ".لأن الفاتحة أظهر القراءة، فنفي القراءة ظاهر جداً في نفيها، ومقتضاه عدم مشروعيتها.

ودعوى: ظهوره في نفي توقيت القراءة كالدعاء، لا في نفيها أصلاً، بحيث تقتضي عدم مشروعيتها ويعارض الخبرين المتقدمين، ولا أقل من إجماله في نفسه من هذه الجهة، كما هو الحال في سائر موارد تعقب الوصف لأمور متعددة، حيث يتردد بين رجوعه للأخير ورجوعه للكل.

مدفوعة، بظهور إفراد الوصف في رجوعه للدعاء فقط، حيث يتوقف إرادة نفي التوقيت في القراءة أيضاً إلى تقدير صفة محذوفة، وهو خلاف الأصل. بل قوله (عليه السلام) بعد ذلك:" تدعو بما بدا لك "ظاهر جداً في اختصاص نفي التوقيت بالدعاء، وفي اختصاص المشروعية به، لوروده في مقام شرح الماهية.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4.

ص: 282

(283)

ولا تسليم (1). ويجب فيها أمور:

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب، وقد استفاض نقل الإجماع على عدم وجوبه، بل ظاهرهم المفروغية عن ذلك، لنظير ما سبق في القراءة. ويقتضيه ما تضمنته جملة من النصوص من الانصراف بالتكبيرة الخامسة. بل عدم التعرض له في النصوص البيانية وغيرها ظاهر في عدم وجوبه. بل صرح في جملة من النصوص المعتبرة وغيرها بعدمه(1) ، منها صحيح إسماعيل بن سعد الأشعري المتقدم في الصلاة على المنافق، وظاهرها عدم المشروعية حتى استحباباً، كما ادعى الإجماع عليه في جامع المقاصد ومحكي الروض.

وبذلك يخرج عن موثقي سماعة وعمار المتقدمين عند الكلام في كيفية وجوب الكيفية المشهورة، وخبر يونس المتقدم عند الكلام في وجوب الدعاء بين جميع التكبيرات، ففي الأول:" وإذا فرغت سلمت عن يمينك"(2) ، وفي الثاني بعد ذكر الدعاء بعد الخامسة: "وتسلم" (3) وفي الثالث: "والخامسة يسلم ويقف مقدار ما بين التكبيرتين"(4). فتحمل على التقية، كما ذكره غير واحد، لموافقتها العامة، ففي الانتصار والخلاف أن عدم السلام في صلاة الميت مما انفردت به الإمامية.

وما في الجواهر وعن الوافي من أنه لا يتناسب مع اشتمالها على خمس تكبيرات. في غير محله بعد وجود قول للعامة بوجوب خمس تكبيرات، فقد حكي عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف، ونسب في التذكرة لزيد بن أرقم أنه فعله ولأصحاب معاذ أنهم كانوا يفعلونه. بل قد يكون روايتهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للخمس(5) كافية في عدم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب صلاة الجنازة.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 6، 11، 10.

(5) صحيح مسلم ج: 2 ص: 659. سنن الترمذي ج: 3 ص: 343. سنن ابن ماجة ج: 1 ص: 482. سنن أبي داود ج: 3 ص: 210. سنن النسائي ج: 4 ص: 72. سنن الدارقطني ج: 2 ص: 73. مصنف ابن أبي شيبة ج: 3 ص: 303.

ص: 283

(284)

(منها): النية (1)، على نحو ما تقدم في الوضوء.

(ومنها): حضور الميت، فلا يصلى على الغائب (2).

التقية، وإن لم يقل أحد منهم بمضمونها.

(1) لا ريب فيه، كما في المدارك، ولا نعلم فيه خلافاً، كما عن المنتهى، وفي الجواهر: "بلا خلاف ولا إشكال" وكأنه للمفروغية عن كونها عبادة، فيتعين فيها التقرب.

كما أنه يكفي قصد الميت المسجى أمامه، وهو الذي يكون الدعاء له، ولا يحتاج لمعرفة شخصه، فضلاً عن اسمه. بل لو أخطأ في ذلك كفى في صحة الصلاة على الميت الذي أمامه، لأنه هو المقصود، والخطأ في تشخيصه لا ينافي القصد إليه.

(2) كما هو ظاهر الأصحاب، بل صريح جماعة منهم، ويستفاد منهم مما يأتي في الشروط الآتية المفروغية عنه. وفي الجواهر: "لعدم صدق اسم الصلاة عليه بدونه، أو يشك فيه، فيشك في شمول الأدلة له، فالأصل عدم مشروعيته، واستمرار السلف على تركه، ولو جاز لما ترك، خصوصاً على مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره. ولأنها مشروطة بشروط لابد من العلم بها غالباً، ككونه إلى القبلة واستلقائه. ولظهور النصوص في اعتبار حضوره، بل هو كالمقطوع به منها" .وكان عدم صدق الصلاة عليه بلحاظ أن تعدية الصلاة للميت ب - (على) ظاهر في اعتبار صدورها فوقه.

لكن تقدم عند الكلام في وجوب الدعاء للميت الإشكال في ذلك واحتمال أن منشأ التعدية المذكورة هو اشتمالها على الدعاء للميت حيث يراد بصلاة الإنسان على الإنسان دعاؤه له. ومع الشك فالمرجع أصالة البراءة من اعتبار الحضور كسائر موارد الشك في اعتبار شيء في الواجب.

وأما الشروط فهي - مع إمكان إحراز بعضها، خصوصاً في عصورنا - لا إطلاق لأدلة اعتبارها يشمل حال غيبة الميت.

واستمرار السلف على تركه - لو تم - لا يشهد بعدم مشروعيته، لإمكان

ص: 284

اكتفائهم بصلاة من يحضر الميت أو غلبة عدم إطلاعهم عليه إلا بعد الدفن بمدة، ولم يشع الابتلاء بالعلم قبل دفن الميت بموته وتعذر صلاة الحضور عليه، ليتضح سيرتهم حينئذ.

ومثله الاستدلال بفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) في الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ففي صحيح أبي مريم الأنصاري عن أبي جعفر (عليه السلام): "قلت: وكيف صلي عليه؟ قال: سجي بثوب، وجعل وسط البيت، فإذا دخل قوم داروا به وصلوا عليه ودعوا له، ثم يخرجون ويدخل آخرون" (1) وقريب منه غيره(2). حيث قد يدعى أنه لو لم يعتبر حضور الميت لم يكن حاجة لإدخال جماعة عليه حتى تأخرت الصلاة عليه، بل يصلون كلهم ولو من خارج البيت الذي هم فيه. لاندفاعه بأن فعله (عليه السلام) أعم من الوجوب، لإمكان تعلق غرض المسلمين حينئذٍ بدخول البيت وإلقاء نظرة الوداع له (صلى الله عليه وآله وسلم).

فالعمدة ما ذكره أخيراً من ظهور النصوص في اعتبار ذلك منها: النصوص الكثيرة المتضمنة تعدية التكبيرات للميت ب - (على)(3) ولا مصحح له إلا العلو المكاني، وليس هو كالصلاة تعدى ب - (على) بلحاظ تضمنها الدعاء ومثله ما تضمن تعدية الائتمام ب - (على)(4).

ومنها: ما ورد في الصلاة على الميت المقطع من الصلاة على خصوص قسم منه(5) ، حيث يظهر منه لزوم حضور القسم الذي يصلي عليه، وإلا لكان المناسب نسبة الصلاة له كله، أو لجميع الباقي منه. بل سبر النصوص شاهد بالمفروغية عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 16.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 9، 10، 11.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5، 6 من أبواب صلاة الجنازة.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة.

ص: 285

ذلك، كما يناسبه النهي عن انصراف المصلى عن موقفه حتى ترفع الجنازة(1) ، وأمر المسبوق ببعض التكبيرات أن يتم ما بقي وهو يتبع الجنازة، فإن لم يدرك حتى دفن الميت أتم على القبر(2). وظهور بعض نصوص الصلاة بعد الدفن في الصلاة على القبر(3) ، والنصوص الواردة في بيان موضع وقوف المصلي من الميت رجلاً كان أو امرأة(4) ، والنصوص الواردة في الصلاة على الجنائز المتعددة المتعرضة لكيفية ترتيبهم في الوضع(5) ، وما ورد في الصلاة على المصلوب(6) ، وبعض ما ورد في خروج المرأة لصلاة الجنازة(7) حيث تضمن السؤال عن صلاة المرأة على الجنازة، والجواب بخروجها وحضورها لها... إلى غير ذلك.

وهو المناسب لظهور مفروغية الأصحاب عن ذلك وعمل المتشرعة عليه. ولاسيما مع ذهاب العامة إلى مشروعية الصلاة على الغائب في الجملة، المناسب لالتفات الشيعة للمسألة من عصور الأئمة (عليهم السلام)، وحينئذٍ يمتنع عادة مفروغيتهم عن حكمها قولاً وعملاً على خلاف رأيهم (عليهم السلام).

وأما ما في المبسوط ومحكي السرائر من المنع عن الصلاة على الغائب الذي مات في بلد آخر. فلا يراد به - على الظاهر - جواز الصلاة على الغائب الذي مات في بلد المصلي، بل لأن ذلك هو مورد الحاجة للصلاة على الغائب غالباً، حتى خص الشافعية - فيما حكي عنهم - الصلاة على الغائب به.

بل لا يبعد بناء المخالفين على أن مقتضى الأدلة الأولية العدم لولا ما رووه

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب صلاة الجنازة.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4، 5.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 57 من أبواب صلاة الجنازة.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب صلاة الجنازة.

(7) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 39 من أبواب صلاة الجنازة.

ص: 286

(287)

(ومنها): استقبال المصلي القبلة (1).

من صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على النجاشي، الذي كذبه صحيح محمد بن مسلم أو زرارة: "قال: الصلاة على الميت بعد ما يدفن هو الدعاء. قال: قلت: فالنجاشي لم يصل عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: لا، إنما دعا له"(1).

نعم في خبر محمد بن زياد:" أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أتاه جبرئيل (عليه السلام) بنعي النجاشي... صلى عليه وكبر سبعاً فخفض الله له كل مرتفع، حتى رأى جنازته وهو بالحبشة "(2) وظاهره اختصاص الإعجاز برؤيته (صلى الله عليه وآله وسلم) له، دون حضوره عنده. لكنه مؤول أو مطروح، لعدم نهوضه في قبال ما سبق.

(1) كما صرح به جماعة، وفي المدارك نفي الخلاف فيه واستظهر في كشف اللثام ومحكي مجمع البرهان الإجماع عليه، كما هو ظاهر الغنية. بل يظهر بملاحظة النصوص والفتاوى المفروغية عنه، فلو فرض عدم تصريح بعضهم به فهو لذلك لا للخلاف فيه.

وكيف كان فقد يستدل عليه تارة: بعموم ما تضمن استقبال القبلة في الصلاة. ويشكل بعدم وضوح عمومه لصلاة الميت لعدم وضوح كونها صلاة حقيقية. ولا أقل من انصراف إطلاقها عنها.

وأخرى: بالنصوص مثل قوله (عليه السلام) في خبر جابر الوارد في المسبوق ببعض التكبيرات المتضمن قضاء ما فات:" قلت: استقبل القبلة؟ قال: بلى وأنت تتبع الجنازة"(3). وقوله (عليه السلام) في مرسل ابن بكير الوارد في الصلاة على الجنائز المتعددة: "يضع النساء مما يلي القبلة والصبيان دونهم [دونهم]..." (4) وقوله في صحيح الحلبي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

ص: 287

الوارد فيها أيضاً: "يكون الرجل بين يدي المرأة مما يلي القبلة..." (1) لكنها لما لم تكن واردة لبيان اعتبار الاستقبال، بل لبيان أمور أخر، فهي إنما تدل على المفروغية عن مشروعية الاستقبال، وهو أعم من الوجوب فتأمل.

نعم قد يستظهر وجوب الاستقبال من صحيح أبي هاشم الجعفري الوارد في الصلاة على المصلوب، لقوله (عليه السلام): "إن كان وجه المصلوب إلى القبلة فقم على منكبه الأيمن، وإن كان قفاه إلى القبلة فقم على منكبه الأيسر، فإن بين المشرق والمغرب قبلة، وإن كان منكبه الأيسر إلى القبلة... وكيف كان منحرفاً فلا تزائلن مناكبه، وليكن وجهك إلى ما بين المشرق والمغرب" (2) فإن ذيله بضميمة التعليل بأن ما بين المشرق والمغرب قبلة ظاهر في وجوب الاستقبال في صلاة الميت، وإن ابتنى على التوسع للضرورة في المصلوب.

نعم في صحيح أبي مريم الوارد في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المتقدم عند الكلام في لزوم حضور الميت: "فإذا دخل قوم داروا به وصلوا عليه" (3) ومقتضاه عدم استقبال بعضهم، بل استدبارهم حين الصلاة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).

لكن لابد من حمله على خصوصيته (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك، كما خص بأن لا إمام في الصلاة عليه، لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "إن رسول الله إمام حياً وميتاً" ،كما تضمنه صحيح الحلبي(4) ، ونحوه حديث أبي مريم(5).

بل لا يبعد كونها بدلاً عن الصلاة التي أمر بها أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن صلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 16.

(4) أصول الكافي باب: مولد النبي (صلى الله عليه وآله) ووفاته من أبواب التاريخ من كتاب الحجة حديث: 37 ج: 1 ص: 451.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 10.

ص: 288

(289)

(ومنها): أن يكون رأس الميت إلى جهة يمين المصلي ورجلاه إلى يساره (1).

هو وائتم به أهل بيته وخواص أصحابه، كما تضمنته بعض النصوص(1) ، تهرباً من أن يصلوا مؤتمين بغيره ممن يتخذ ذلك ذريعة للفتنة، وادعاء المنصب غصباً وعدواناً.

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب، ونسب إليهم في الذكرى ومحكي المعتبر ومجمع البرهان، وظاهر الغنية الإجماع عليه، وفي كشف اللثام أنهم قطعوا به، وعن المهذب نسبته إلى نصوص الطائفة وعملهم.

ويقتضيه موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: "أنه سئل عمن صلي عليه فلما سلم الإمام فإذا الميت مقلوب رجلاه إلى موضع رأسه. قال: يسوى وتعاد الصلاة عليه وإن كان قد حمل ما لم يدفن، فإن دفن فقد مضت الصلاة عليه، ولا يصلى عليه وهو مدفون" (2) فإنه يدل بضميمة معلومية إجزاء الكيفية المذكورة على لزومها. وفي صحيح الحلبي الوارد في الصلاة على الجنائز المتعددة: "يكون الرجل بين يدي المرأة مما يلي القبلة، فيكون رأس المرأة عند وركي الرجل مما يلي يساره، ويكون رأسها أيضاً مما يلي يسار الإمام ورأس الرجل مما يلي يمين الإمام"(3). فإنه صريح في كون اعتبار رأس الرجل إلى يمين الإمام. ولا ينافيه ما تضمنه من كون رأس المرأة مما يلي يسار الإمام، لأنه إذا كان رأس المرأة عند وركي الرجل ووقف الإمام عند صدر الرجل أو وسطه فلابد أن يكون رأسها عند يسار الإمام.

بل حيث لا إشكال ظاهراً في أن المراد بنصوص الصلاة على الجنائز المتعددة وضع رؤوس الموتى باتجاه واحد، يتعين كون رأس المرأة أيضاً إلى جهة يمين الإمام وإن كان محاذياً ليساره، فينفع في المطلوب.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 7.

ص: 289

(290)

(290)

(ومنها): أن يكون الميت مستلقياً على قفاه (1).

(ومنها): وقوف المصلي خلفه (2)،

ومنه يظهر اندفاع ما في الجواهر من الإشكال في الاستدلال به بأنه مختص بالرجل. ومثله الإشكال فيه باختصاصه بجمع الرجل مع المرأة في الصلاة عليهما، وبمعارضته بغيره مما تضمن كيفيات أخر، فلابد من حمله على ضرب من الندب.

لاندفاع الأول بأن المستفاد من النصوص أن خصوصية الاجتماع دخيلة في وضع الرجل بالإضافة للمرأة، أو في وضع الموتى بعضهم مع بعض، لا في اتجاه كل منهم، بل هو واجب في الميت عند الصلاة عليه وإن كان وحده.

واندفاع الثاني بأن المعارض إنما يخالف الصحيح في كيفية وضع الرجل مع المرأة، لا في اتجاه كل منهما، فلا وجه للتوقف في دلالة الصحيح على المدعى.

(1) ففي الجواهر:" صرح به جماعة من الأصحاب... بل لا خلاف أجده فيه "،وعن المهذب نسبته إلى نصوص الطائفة وعملهم، وظاهر الذكرى الإجماع عليه.

واستدل له بالتأسي بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، وبقاعدة الاشتغال لكن لا دليل على وجوب التأسي. ومع الشك في اعتبار الخصوصية في الواجب فالمرجع البراءة لا الاشتغال. فالعمدة ما عرفت من ظهور التسالم بين الأصحاب. مضافاً إلى قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي المتقدم الوارد في الصلاة على الجنائز المتعددة:" فيكون رأس المرأة عند وركي الرجل مما يلي يساره"(1). فإن المرأة لا تكون مما يلي يسار الرجل إلا مع استلقاء الرجل، إذ لو كان مضطجعاً على أحد جانبيه كانت خلفه أو أمامه، ولو كان مكبوباً على وجهه كانت مما يلي يمينه.

(2) كما صرح به جماعة، وظاهر الذكرى الإجماع عليه، وفي جامع المقاصد أنه لا ريب فيه، وفي كشف اللثام: "وأما الوقوف وراءها فهو كذلك عندنا. ودليله

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 7.

ص: 290

محاذياً لبعضه (1). إلا أن يكون مأموماً وقد استطال الصف حتى خرج عن

التأسي واستمرار العمل عليه من زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الآن. ومن العامة من جوز الوقوف أمامها قياساً على الغائب. وهو كما في الذكرى خطأ على خطأ ".لكن التأسي لا يقتضي الوجوب، كاستمرار العمل.

فالأولى استفادته مما تضمن تعدية التكبير للميت ب - (على). وفي صحيح زرارة:" قلت: المرأة تؤم النساء؟ قال: لا، إلا على الميت "(1) وفي خبر يونس:" ولا يبرح حتى يحمل السرير من بين يديه"(2).

وقد يستفاد المفروغية عنه مما تضمن بيان موقف المصلي من جسد الميت، وسطه أو صدره أو غيرهما(3) ومما ورد في الصلاة على الجنائز المتعددة من وقوفه وسطها أو خلفها(4) فإنها وإن اختلفت في تعيين موقف المصلي من الجنائز، إلا أنه لا يبعد ظهورها في المفروغية عن كونه خلفها. ومثله قوله (عليه السلام) في الدعاء للميت في صحيح أبي ولاد: "اللهم إن هذا المسجى قدامنا..."(5).

(1) في جامع المقاصد:" هل يشترط أن يكون محاذياً لها، بحيث يكون قدام موقفه حتى لو وقف وراءها باعتبار السمت ولم يكن محاذياً لها ولا لشيء منها لم يصح؟ لا أعلم الآن تصريحاً لأحد من معتبري المتقدمين بنفي ولا إثبات، وإن صرح بالاشتراط بعض المتأخرين".

لكن المنساق من قولهم: وراء الجنازة أو خلفها ذلك، لا مجرد كونه دونها في السمت. ولا ينبغي الإشكال في اعتباره بلحاظ ما تقدم من النصوص، فإنها كما تدل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 10.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب صلاة الجنازة.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5.

ص: 291

(292)

المحاذاة (1).

(ومنها): أن لا يكون المصلي بعيداً عنه على نحو لا يصدق الوقوف عنده (2)،

على اعتبار كونه دونها في السمت تدل على اعتبار محاذاته لبعضها.

(1) إذ لا إشكال في مشروعية الجماعة بالنحو المذكور. ومثله الصلاة على الجنائز المتعددة الموضوعة بنحو التدرج حيث يخرج بعضها مع كثرتها عن محاذاة المصلي، لما يأتي في المسألة الثانية والخمسين إن شاء الله تعالى.

(2) قد يستفاد - كما يظهر من الجواهر - مما في موثق موسى بن بكر عن أبي الحسن (عليه السلام):" إذا صليت على المرأة فقم عند رأسها وإذا صليت على الرجل فقم عند صدره"(1). وحمله بالإضافة إلى خصوصية الرأس والصدر على الاستحباب لا ينافي ظهوره في المفروغية عن أنه لابد من القيام عند الميت. ويناسبه أيضاً ما تقدم من تعدية التكبير والإتمام ب - (على) في كثير من النصوص.

ولعل هذا هو المراد مما في الشرايع والقواعد وعن كثير من كتب الأصحاب من عدم جواز التباعد كثيراً، وعن ظاهر مجمع البرهان نسبته إلى الأصحاب. وفي الجواهر: "بل قيل: إن ظاهر المحقق الثاني في فوائده على الكتاب الإجماع أيضاً على أنه لا يصلي على البعيد بما يعتد به عرفاً كذلك، ولا على من بين المصلي وبينه حائل إلا عند الضرورة" .وكذا مما في جامع المقاصد والمدارك وعن غيرهما من أنه لا تحديد لهذا التباعد سوى ما يقتضيه العرف. وإلا فالعرف ليس مرجعاً في تعيين موضوع الحكم الشرعي، بل في تطبيق العناوين بعد الفراغ عن أخذها في موضوعه، فلولا أن يكون المعتبر الوقوف عند الميت لم يكن وجه للإرجاع في تحديد البعد للعرف.

هذا وفي الذكرى: "ويجب أن يكون أمام المصلي بغير تباعد فاحش. ولا يجوز

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 292

(293)

إلا مع اتصال الصفوف في الصلاة جماعة (1).

(ومنها): أن لا يكون حائل (2) من ستر أو جدار. ولا يضر الستر

التباعد بمأتي ذراع" .وقد يظهر منه جواز التباعد بأقل من ذلك بمقدار معتد به، بأن يبعد مائة وثمانين ذراعاً مثلاً. لكنه بعيد جداً، لعدم صدق الوقوف عند الميت، ولا التكبير عليه عرفاً.

نعم في صحيح علي بن جعفر الوارد في وضع جنازة في أثناء الصلاة على غيرها جواز رفع الأولى بعد إكمال الصلاة عليها وإتمام التكبير على الأخيرة(1). ومقتضاه جواز الفصل بين المصلي والجنازة الأخيرة عند إكمال الصلاة عليها بمقدار ما تشغله الجنازة الأولى. لكنه لا يخلّ عرفاً بصدق الوقوف عندها والتكبير عليها بل يمكن حمله على تخطي الإمام بعد رفع الجنازة الأولى للجنازة الأخيرة من أجل إكمال التكبير عليها.

كما أن مقتضى ما تضمن وضع الجنائز المتعددة الكثيرة بنحو التدرج - بحيث يكون رأس أحدها عند إلية الآخر - ووقوف الإمام في الوسط أو في وسط الرجال(2) بعد المصلي عن الجنائز كثيراً، لعدم المحافظة على تأخره عن الكل - الذي لا إشكال ظاهراً عندهم في اعتباره - إلا بذلك. لكن لا يبعد خصوصيته الجنائز المتعددة في ذلك توسعاً في صدق الوقوف عندها والتكبير عليها.

هذا وفي الفقيه: "فليقف عند رأسه، بحيث إن هبت ريح فرفعت ثوبه أصاب الجنازة" .لكن لا شاهد له. وربما يريد استحباب ذلك، فيرجع لما في المبسوط والنهاية وعن غيرهما من أنه ينبغي أن يكون بين المصلي والجنازة شيء يسير.

(1) وكذا مع اتصال الجنائز عند جمعها بصلاة واحدة.

(2) فقد تقدم عن ظاهر المحقق الثاني دعوى الإجماع على ذلك. ويقتضيه م

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة.

ص: 293

سبق من تعدية التكبير ونحوه للميت ب - (على)، ومن التعبير في الموثق المتقدم وغيره من النصوص بالوقوف أو القيام عنده. ومن ذلك يظهر أن المعيار وحدة المكان عرفاً واستيلاء المصلى على الميت الذي لا يبعد إخلال الستر به، فضلاً عن الجدار الذي يمنع من مشاهدة الميت.

ومثله في ذلك علوّ الميت على الإمام أو العكس، كما نبه له في الجملة في جامع المقاصد، فإن المعيار في مانعيته عدم صدق الأمرين المذكورين.

هذا وقد تقدم عن ظاهر المحقق الثاني استثناء صورة الاضطرار في الصلاة مع الحائل. لكن في الجواهر: "نعم في جامع المقاصد لو اضطر إلى الصلاة على الميت من وراء جدار ففي الصحة تردد، وفي كشف اللثام: من الشك في كونها كالصلاة بعد الدفن أو أولى. ثم على الصحة ففي وجوبها قبل الدفن وجهان. قلت: الأقوى عدم الوجوب، بل عدم الصحة بعد حرمة القياس، ومنع الأولوية أو تنقيح المناط، فلعل حيلولة خصوص القبر كعدمها عند الشارع مثل النعش ونحوه مما لا يمنع صدق اسم الصلاة عليه".

هذا ولكن لا إطلاق لدليل اعتبار عدم الحائل يشمل حال التعذر، ليكون تعذره تعذراً للصلاة، ليجوز ترك الصلاة من وراء الحائل، وتتعين الصلاة بعد الدفن لو قيل بوجوبها على من لم يصلّ عليه. لأن النصوص المتقدمة غير مسوقة لبيان اعتبار عدم الحائل، بل لبيان أمر آخر. غاية الأمر أنه يستفاد منها المفروغية عن اعتبار عدم الحائل من دون إطلاق لها في ذلك. وحينئذ يعلم إجمالاً مع تعذره بوجوب الصلاة عليه مع الحائل أو الصلاة بعد الدفن، فيلزم الجمع بينهما خروجاً عن العلم الإجمالي المذكور.

نعم لو قيل بعدم وجوب الصلاة بعد الدفن يتعين عدم وجوب الصلاة خلف الحائل لأصالة البراءة، التي هي المرجع في أمثال ذلك، كما يأتي عند الكلام في تعذر القيام.

ص: 294

(295)

بمثل التابوت ونحوه (1).

(ومنها): أن يكون المصلي قائماً (2)، إلا مع عدم التمكن من صلاة القائم (3).

(1) يعني: بما يرجع لستر الميت ويكون من توابعه عرفاً، لا حائلاً بينه وبين المصلي.

(2) إجماعاً مع القدرة عليه، كما في جامع المقاصد والمدارك ومحكي الذكرى، وفي التذكرة: "القيام شرط في الصلاة مع القدرة، فلا تجوز الصلاة قاعداً ولا راكباً عند علمائنا".

ويظهر المفروغية عنه من النصوص الكثيرة، مثل ما ورد في صلاة الحائض على الجنازة من أنها تصلي وحدها ولا تقوم معهم(1) ، وما ورد في صلاة النساء على الجنازة من الأمر بقيامهن جميعاً في صف واحد(2) ، وما ورد من كراهة الصلاة بالحذاء وأنه لا بأس بالخف(3) ، وما ورد في قيام المصلي عند رأس المرأة أو صدرها وفي وسط الرجل(4) ، وما ورد في صلاة الجنازة جماعة من قيام المصلي خلف الإمام(5) ، وما ورد في الصلاة على الجنائز المتعددة من الأمر بقيام المصلي في الوسط أو مما يلي الرجال أو غير ذلك(6) ، وما ورد في الصلاة على المصلوب من القيام عند منكبه(7).

(3) كما هو ظاهر من سبق وصريح غيره. وفي الجواهر: "أما مع العجز فبحسب الإمكان، كاليومية. لقاعدة الميسور وغيرها مما سمعته في اليومية مما هو مشترك بينهما".

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب صلاة الجنازة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب صلاة الجنازة.

(3و4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب صلاة الجنازة.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب صلاة الجنازة.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة.

(7) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب صلاة الجنازة.

ص: 295

لكن قاعدة الميسور غير ثابتة، والأدلة الخاصة الواردة في اليومية مختصة بها.

وأما ما ذكر بعض مشايخنا من أنه مقتضى إطلاق وجوب الصلاة على الميت بعد عدم الإطلاق لدليل اعتبار القيام، فيقتصر فيه على المتيقن، وهو حال الضرورة.

فهو لا يخلو عن خفاء، لعدم تحديد مفهوم الصلاة من هذه الحيثية، ليكون مقتضى إطلاقها عدم اعتبار القيام، بل مقتضى الأصل عدم وجوب الصلاة الناقصة مع تعذر القيام، كما هو الحال في جميع موارد الشك في اعتبار شيء في الواجب، حيث يكون مقتضى الأصل عدم وجوب ذلك الشيء فيه مع القدرة عليه، بل يجتزأ بالعمل الفاقد له، وعدم وجوب العمل مع تعذره.

وأما العلم الإجمالي بوجوب الأمر المشكوك مع القدرة عليه، أو وجوب المركب الفاقد له مع تعذره. فهو غير منجز غالباً، لعدم ابتلاء المكلف الواحد بأحد طرفيه.

فالعمدة في المقام ظهور الإجماع والمفروغية عن ذلك الراجع إلى الإكتفاء بالميسور في المقام كما في الصلاة اليومية ونحوها، وإن لم تتم قاعدة الميسور عموماً.

نعم المتيقن من الإجماع المذكور الانتقال للجلوس حيث يصدق التكبير عليه، أما الانتقال لما دونه من المراتب فهو في غاية الإشكال. وإن كان الاحتياط لا يترك.

هذا والظاهر عدم الاجتزاء بصلاة العاجز عن القيام مع تيسر صلاة القادر عليه، كما هو الحال في سائر موارد تعذر التام من بعض المكلفين في الواجب الكفائي مع تيسره من غيره من المكلفين. بل الظاهر ذلك مع تيسره من غير المكلف به كالصبي المميز، بناءً على شرعية عباداته وإجزائها، كما يأتي في المسألة الخامسة والخمسين بمعنى أنه يجب على المكلفين العاجزين عن التام السعي لحصوله منه بإقناعه وتهيئة المقدمات له ونحوهما، لأن كل واحد منهم مكلف بتحقيق التام ولو من غيره، وهو مقدور لهم في الفرض وإن كان المباشر له غير مكلف.

نعم لا يبعد البناء على مشروعية الناقص من العاجز إذا أتى به مأموماً مع

ص: 296

(297)

(ومنها): الموالاة بين التكبيرات والأدعية (1).

صلاة القادرين، بل مطلقاً بناء على شرعية تكرار الصلاة على الميت. لأن المستفاد من الأدلة وجوب صلاة واحدة كفاية، واستحبابها عيناً على الكل، وعدم إجزاء صلاة العاجز عن الوجوب الكفائي لا ينافي مشروعيتها وإجزائها عن الاستحباب العيني في حقه، وما في الجواهر من عدم مشروعية ذلك في غير محله.

هذا ونظير ما تقدم من عدم الإجتزاء بصلاة العاجز عن القيام مع تيسر صلاة القادر يجري فيما لو انحصر الأمر بالعاجز فصلى، ثم تجددت القدرة على التام منه أو من غيره، حيث يتعين الإعادة، كما في الجواهر. خلافاً لما عن الفقيه الهمداني (قدس سره) من عدم وجوبها، لقاعدة الإجزاء. للإشكال فيه بأنه ينكشف بتجدد القدرة عدم الأمر بالناقص كما هو الحال في سائر موارد تشريع الابدال الاضطرارية، فلا موضوع للإجزاء.

(1) فقد ذكر بعض مشايخنا أن ذلك مقتضى وحدة العمل، لتقومها باتصال أجزائه من دون أن يتخلل بينها العدم. لكن استفادة كون صلاة الميت عملاً واحداً بالمعنى المذكور تحتاج إلى دليل ومجرد كونها ماهية مخترعة للشارع ذات عنوان واحد لا يقتضيه. ولذا لا تعتبر الموالاة في كثير من الماهيات الشرعية ذات العناوين الخاصة، كالأغسال والحج والكفارات. بل حتى الصلاة قد ثبت جواز الفصل المعتد به بين أجزائها في كثير من الموارد، كالمبطون ومن وقعت على ثوبه نجاسة في أثناء الصلاة، وغيرهما.

وعن كشف الغطاء: "ويفسدها كل ما يخلّ بصورتها من سكوت طويل، أو فعل كثير، أو فعل لهو ولعب وإن قلّ، أو غير ذلك مما يفسد هيئتها ويخرجها عن صدق الاسم لذاته أو كثرته" .وهو مبني على أنه يعتبر فيها صورة عرفية تبطل بالأمور المذكورة. ولم يتضح الوجه في ذلك.

ص: 297

ودعوى: أن الصورة المذكورة مأخوذة من عمل المعصومين (عليهم السلام) الذين هم المرجع في تشريع هذه الصلاة وتعيين حدودها. مدفوعة بأنه لم يتضح كون جريهم (عليهم السلام) على الصورة المذكورة لاعتبارها شرعاً في هذه الصلاة، بل لعله لأن مقتضى طبع الانشغال بهذه الأعمال إكمالها قبل الانشغال بغيرها. ولاسيما مثل هذه الصلاة المبنية على الاعتبار والاتعاظ بالموت والتفكر في ما بعده. فهو نظير الانشغال بالأدعية والاستمرار فيها وإكمالها في مجلس واحد لا ينهض بإثبات اعتبار وحدة العمل وحفظ صورة خاصة له يبطل بالإخلال بها.

نعم لا يبعد بناء المتشرعة على اعتبار الصورة المذكورة، بحيث يرون الإخلال بها مبطلاً للصلاة. لكن لم يتضح كون منشأ ذلك وجود حجة تعبدية، بل لعله ناشئ عن تخيل اعتبار هذه الصورة بسبب الاستمرار عليها خلفاً عن سلف، مع الاهتمام بهذه الصلاة كثيراً لتعلقها بالموت، حيث قد يوهم ذلك دخل ما ليس دخيلاً في الواقع فيها.

هذا وفي بعض نصوص المسبوق من الإمام ببعض التكبيرات: "فليقض ما بقي متتابعاً"(1). وهو وإن كان وارداً لبيان عدم وجوب الدعاء بين التكبيرات، تخفيفاً، إلا أن بيان ذلك بالأمر بالولاء قد يظهر في المفروغية عن اعتبار الموالاة في الصلاة، حيث يكون ذلك هو المنشأ للزوم الموالاة بين التكبيرات عند ترك الدعاء بينها. وإن كان في وضوح ذلك بحدّ يبلغ مرتبة الاستدلال إشكال. والمتعين الاحتياط.

وأشكل من ذلك ما قد يدعى من اعتبار جميع ما يعتبر في الصلاة المعهودة عدا الطهارة من الحدث التي دلت الأدلة على عدم اعتبارها. حيث لا وجه له بعد انصراف أدلة اعتبار تلك الأمور إلى الصلاة المذكورة ذات الركوع والسجود. ولاسيما مع أهمية اعتبار الطهارة من الحدث جداً في الصلاة، فعدم اعتبارها هنا يناسب جداً عدم اعتبار غيرها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 298

(299)

(ومنها): أن تكون الصلاة بعد التغسيل والتحنيط والتكفين (1)،

بل وكذا بملاحظة التعليل في موثق يونس بقوله (عليه السلام):" إنما هو تكبير وتسبيح وتهليل، كما تسبح وتكبر بغير وضوء "(1) وفي معتبر الفضل بن شاذان بقوله (عليه السلام):" إنما جوزنا الصلاة على الميت بغير وضوء لأنه ليس فيها ركوع ولا سجود، وإنما هي دعاء ومسألة، وقد يجوز أن تدعو الله وتسأله على أي حال كنت..."(2). لإشعاره أو ظهوره في أنه لا يعتبر فيها شيء كما لا يعتبر في الدعاء والمسألة. ويأتي في المسألة السابعة والأربعين ما يتعلق بالمقام.

(1) كما صرح به الأصحاب، ونفى في كشف اللثام الخلاف فيه، وفي المدارك أنه قول العلماء كافة، وعن محكي المنتهى أنه لا يعلم الخلاف فيه، وظاهرهما نفي الخلاف فيه حتى من العامة. وفي الجواهر: "إنه المنساق من عطفها عليهما في النصوص وإن كان بالواو والتي هي لمطلق الجمع، إلا أنه لا يبعد إرادة الترتيب منها هنا بمعونة فهم الأصحاب، بل لا ينكر انسياقه من سبر تلك النصوص واتفاقها على ذكرها بعدهما، كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بلسانهم (عليهم السلام)".

وقربه بعض مشايخنا أيضاً بأن الترتيب شرعاً بين الغسل والكفن، وبين الصلاة والدفن، قرينة على أن الترتيب بين الأمور الأربعة في العطف في روايات الشهيد(3) وغيرها - مثل ما لو وجد بعض الميت(4) - للترتيب الشرعي.

والجمع كما ترى!. ولاسيما بملاحظة عطف التحنيط على التكفين في صحيح أبي مريم(5) وصحيحي أبان(6). وعطف التغسيل على التحنيط وفي صحيح اسماعيل

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3، 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب غسل الميت.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 7، 9.

ص: 299

وزرارة(1) وعلى التكفين في مرسل الاحتجاج(2).

ومثله ما في الذكرى من الاستدلال بقول الصادق (عليه السلام) في موثق عمار: "لا يصلى على الميت بعدما يدفن، ولا يصلى عليه وهو عريان حتى يوارى عورته"(3) ، ونحوه قول الرضا (عليه السلام) في مرسل محمد بن أسلم:" بل لا يصلى على المدفون بعدما يدفن، ولا على العريان "(4) إذ فيه - كما في الجواهر -: أن عدم الصلاة عليه وهو عريان أعم من اعتبار التكفين، فضلاً عن التغسيل. بل مقتضى ذيل الموثق أن المعتبر في العريان ستر العورة لا غير.

لكن استدل بعض مشايخنا بصدر الموثق، وهو:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول في قوم كانوا في سفر يمشون على ساحل البحر، فإذا هم برجل ميت عريان قد لفظه البحر وهم عراة، وليس عليهم إلا إزار، كيف يصلون عليه وهو عريان، وليس معهم فضل ثوب يكفنونه [به]؟ قال: يحفر له ويوضع في لحده ويوضع اللبن على عورته، فيستر عورته باللبن وبالحجر ثم يصلى عليه ثم يدفن. قلت: فلا يصلى إذا دفن؟ فقال: لا يصلى على الميت بعدما يدفن...".

بتقريب: أنه لولا كون المرتكز في ذهن السائل توقف الصلاة على التكفين يسأل عن الصلاة عليه في مفروض السؤال، وقد أقره الإمام (عليه السلام) على ذلك، وذكر كيفية الصلاة عليه. ولا مجال لاحتمال كون منشأ السؤال هو كون الميت عارياً ولزوم النظر إلى عورته، لإمكان تغميض العينين.

ويشكل بأن ظاهر الحديث كون السؤال بلحاظ العرى، لكن لا من جهة لزوم النظر للعورة المحرم، الذي يمكن التخلص عنه بتغميض العينين، بل لعله من جهة احتمال مانعية العرى وانكشاف العورة من الصلاة عليه، ولا قرينة فيه على أن منش

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب غسل الميت حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 8.

ص: 300

السؤال فيه هو عدم التكفين بخصوصيته. على أن ما تضمنه ذيل الموثق من اعتبار ستر العورة كاف في عدم إقرار السائل على زعم اعتبار التكفين لو تم ظهور السؤال في ذلك.

وعن الفقيه الهمداني الاستدلال له بأصالة عدم مشروعية الصلاة قبل التكفين، حيث لا يعلم حينئذ فعلية الأمر بالصلاة، فلا يجوز الامتثال بفعلها حينئذ لتجزي.

لكنه ليس كذلك، لعدم الإشكال في فعلية وجوب الصلاة بالموت، وإنما يحتمل شرطية التكفين فيها، ومقتضى الأصل البراءة، كما في سائر موارد الشك في شرطية شيء للمأمور به. ولعله لذا حكي عنه الأمر بالتأمل.

فالعمدة ظهور الإجماع عليه المعتضد بالسيرة، مع كثرة الابتلاء بالحاجة للصلاة عليه قبل التغسيل، فالتزام عدم الصلاة إلا بعد التغسيل والتكفين من المتشرعة، وظهور إطباق الأصحاب، بل المسلمين، على ذلك يقرب فهمهم من عمل المعصومين (صلوات الله عليهم) الوجوب. ولاسيما بملاحظة اختلاف وضع الميت، فهو يوضع قبل التغسيل كيفما اتفق أو مستقبلاً بباطن قدميه القبلة، وبعده معترضاً على نحو الصلاة عليه.

هذا والمستفاد من الإجماع أو غيره مما تقدم ليس هو الوجوب التكليفي، الراجع للعصيان بإيقاع الصلاة قبل التغسيل والتكفين، بل شرطيتهما للصلاة المستلزم لبطلانها لو وقعت قبلهما عمداً. ومن ثم قطع بذلك في جامع المقاصد، ولا مجال لما في كشف اللثام من احتمال الصحة.

وأما مع الجهل بالحكم أو بالموضوع أو نسيانها فقد حكم سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره بالبطلان. وتردد في جامع المقاصد في الناسي، وظاهر الجواهر احتمال الإجزاء معه، بل ظاهر كشف اللثام احتمال ذلك فيه وفي الجاهل، بل جزم في المستند بالإجزاء فيها. لعدم ثبوت الإجماع. ورده سيدنا المصنف (قدس سره) بإطلاق معقد الإجماع.

لكنه غير ظاهر، لعدم التصريح به إلا في كلام من عرفت وإطلاق عباراتهم

ص: 301

ليس حجة في عموم مفادها، إلا بلحاظ إفادته العلم بالواقع، لعدم حجية الإجماع المنقول، ولا ينهض الإطلاق في كلام من عرفت بإفادة العلم بالعموم، بل يتعين الاقتصار على المتيقن وهو صورة العمد.

اللهم إلا أن يستفاد العموم من مناسبة عموم البطلان لمرتكزات المتشرعة، ولاسيما وأن الإجزاء مع الجهل والنسيان يحتاج إلى عناية فعدم التنبيه عليها في كلامهم يناسب عموم الشرطية جداً.

على أن اختلاف تكليف الناسي للحكم والجاهل به عن تكليف الملتفت العالم لما كان مخالفاً للإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل، الذي عليه يبتني بطلان التصويب بأقسامه، فلابد من ابتناء الإجزاء على إجزاء غير الواجب عنه، وهو مخالف للأصل.

ومنه يظهر ضعف الاستدلال للإجزاء بإطلاق دليل الخطاب بالصلاة وأنها خمس تكبيرات، بعد تصور دليل الترتيب - وهو الإجماع - عن المورد.

وجه الضعف: أنه لا مجال لاحتمال اختصاص وجوب الترتيب بحال العلم والذكر بعدما أشرنا إليه من الإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

نعم لا مجال لذلك في نسيان الموضوع، حيث لا مانع من اختلاف الناسي له مع الملتفت في الحكم، فلا مانع من البناء على الإجزاء معه، عملاً بالإطلاق بعد فرض قصور دليل الترتيب. إلا أن الظاهر عموم دليل الترتيب له بالنظر إلى المرتكزات التي أشرنا إليها آنفاً.

ثم إنه قد يستدل للإجزاء بعموم حديث رفع الجهل والنسيان. لكنه يشكل بأن الرفع بالإضافة إليهما ظاهري. مع أنه لو كان واقعياً فمقتضاه رفع التكليف بالتام لا الخطاب بالناقص بحيث يجتزأ به، على ما حقق في محله.

هذا والظاهر مفروغية الأصحاب عن عدم سقوط الصلاة بتعذر الغسل

ص: 302

(303)

وقبل الدفن (1).

(ومنها): أن يكون الميت مستور العورة، ولو بنحو الحجر واللبن لو تعذر التفكين (2).

والكفن، كما يظهر منهم مما يأتي في الشرط الآتي. وقد يستدل له بإطلاق وجوب الصلاة عليه بعد عدم الإطلاق لدليل شرطية تقدم التغسيل والتكفين بنحو يشمل حال التعذر. مضافاً إلى موثق عمار ومرسل محمد بن أسلم اللذين يأتي الاستدلال بهما في الشرط الآتي. والى ما تقدم من ظهور المفروغية عن ذلك.

(1) ففي الجواهر:" لا خلاف في عدم جواز تأخير الصلاة إلى الدفن، بل الإجماع بقسيمه عليه، بل كاد يكون ضرورياً ".ويقتضيه - مضافاً إلى ذلك، المعتضد بالسيرة الارتكازية على كون التقديم للوجوب، ولذا يحافظ عليه حتى مع كون الصلاة على القبر أسهل - النصوص المتضمنة عدم الصلاة بعد الدفن، التي تقدم ويأتي قريباً بعضها ويأتي التعرض لتمامها في المسألة الخمسين. وحديث هارون بن خارجة عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فابدأ بها قبل الصلاة على الميت، إلا أن يكون مبطوناً أو نفساء أو نحو ذلك "(1) فإن الاهتمام بتعجيل الصلاة في الموارد المذكورة حتى تقدم على المكتوبة ظاهر في المفروغية عن عدم جواز تأخير الصلاة على الدفن.

(2) فقد صرح جماعة بأنه إذا لم يكن للميت كفن وضع في القبر وسترت عورته وصلي عليه بعد ذلك، وفي المدارك أنه مقطوع به في كلام الأصحاب. ويقتضيه موثق عمار ومرسل محمد بن أسلم المتقدمين عند الكلام في الشرط السابق.

وعن الذكرى:" فإن لم يكن كفن أمكن ستره بثوب صلي عليه قبل الوضع في اللحد "،ونحوه في جامع المقاصد. وفي المدارك:" ولا ريب في الجواز نعم يمكن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 303

المناقشة في الوجوب ".وفصل في المسالك بين ما إذا منع القبر من رؤية الميت وما إذا لم يمنع، ففي الأول يجب الصلاة عليه خارج القبر مع التمكن من ستر عورته بثوب ونحوه، وفي الثاني يتخير.

لكن الخبرين لم يتضمنا وضعه في القبر، ليمكن فيه التفصيل المذكور، بل وضعه في اللحد، وهو مستلزم لستر بدنه. وحينئذ فحيث اعتبر ستر العورة زائداً على الوضع في اللحد فلابد أن لا يكون الوضع في اللحد لستر العورة، كما أنه حيث لا أثر له في سهولة سترها باللبن والحجر بنحو ظاهر، كان ظاهر الأمر بالوضع في اللحد مطلوبيته في نفسه شرطاً في الصلاة زائداً على ستر العورة. ولعله لكونه بمنزلة الكفن - الذي هو شرط في الصلاة - في ستر بدن الميت.

نعم لا يجزي ذلك مع إمكان ستر تمام بدن الميت بثوب ونحوه ولو في حال الصلاة فقط الذي تقدم من الذكرى، لخروجه عن مورد الخبرين وحينئذ لا يبعد الاكتفاء بذلك في الصلاة، بل لا يبعد تقديمه على الوضع في اللحد، لما في الثاني من تعدد مكاني المصلي عرفاً، بحيث يشكل صدق أن المصلي عنده وقد كبر عليه.

وأما ما في العروة الوثقى وأقره سيدنا المصنف (قدس سره) من التفصيل بين ما إذا كان الميت مستور العورة، فيجوز الصلاة عليه خارج القبر وغيره فيجب الصلاة عليه في القبر، عملاً بالخبرين في الصورة الثانية، وبالأصل في الأولى بعد خروجها عن مورد الخبرين.

فيشكل بأن الخبرين لا ينافيان ستر عورته قبل إنزاله القبر الذي يدخل في الصورة الأولى، ومقتضى إطلاقهما الصلاة عليه في القبر حينئذ أيضاً. إلا أن يريد بالصورة الأولى ما إذا كان مستور العورة بثوب ونحوه، لا مطلق الستر ولو كان باللبن والحجر، فتخرج عن مورد الخبرين. لكن التفصيل بين قسمي الساتر في الحكم المذكور بعيد جداً، وإلغاء خصوصية مورد الخبرين أقرب عرفاً.

هذا وقد يدعى أن قوله (عليه السلام) في ذيل الموثق:" ولا يصلي عليه وهو عريان حتى

ص: 304

(305)

(ومنها): إباحة مكان المصلي (1).

توارى عورته "ظاهر في عدم اشتراط شيء غير ستر العورة، وعدم وجوب ستر تمام البدن بالقبر أو غيره. ولأجله يلزم رفع اليد عن ظاهر الأمر فيه وفي المرسل بوضع الميت في اللحد.

ولعله لذا قال في كشف اللثام:" ولعل وضعه في اللحد وستر عورته فيه لكراهة وضعة عارياً تحت السماء وإن سترت عورته - كما قد يرشد إليه كراهة تغسيله تحت السماء - ولرفع الحرج عن المصلين، لما في ستر عورته خارجاً ثم نقله إلى اللحد من المشقة، وإلا فالظاهر أنه لا خلاف في جواز الصلاة عليه خارجاً إذا سترت عورته بلبن أو تراب أو نحوهما".

وعليه لا يجب ستر بدنه بثوب حين الصلاة عليه خارج القبر مع التمكن من ذلك، ويكتفى بستر عورته بالتراب ونحوه. نعم لو أمكن إبقاء الثوب عليه ودفنه وهو فيه كان هو الميسور من الكفن، فيجب بمقتضى وجوب تأخير الصلاة عن الكفن.

لكن الدعوى المذكورة غير ظاهرة الوجه، لعدم ظهور التعبير المذكور، بل ولا إشعاره في الانحصار، بحيث ينافي وجوب وضع الميت في اللحد، ليتعين حمل الأمر به على الاستحباب. ولاسيما ما فيه من حجب الميت عن المصلي وبعده عنه بوجه معتد به. وما استظهره في كشف اللثام من عدم الخلاف في جواز الصلاة عليه خارج القبر لو تم لا ينهض برفع اليد عن ظهور الأمر المذكور في الوجوب. فلا مخرج عما سبق. فتأمل جيداً.

(1) كما يظهر من السيد الطباطبائي في منظومته. وكأنه لاتحاد الكون الصلاتي مع الكون الغصبي. لكنه لا يخلو عن إشكال، لتقوم الصلاة بأفعالها، وهي مباينة لكون المصلي في المكان المغصوب، وإشغاله له.

ودعوى: أن للقيام الذي هو شرط في الصلاة لا يعمّ القيام المحرم، وهو الذي

ص: 305

(306)

(ومنها): إذن الولي (1)، إلا إذا أوصى الميت بأن يصلي عليه شخص معين، فلم يأذن له الولي وأذن لغيره، فلا يحتاج إلى الإذن (2).

يكون في المكان المغصوب، فتكون الصلاة في المغصوب فاقدة للشرط.

مدفوعة بأنه لا ملزم عقلاً بقصور الماهية التي تؤخذ شرطاً في المأمور به عن الأفراد المحرمة، لأن المعيار في كون الشيء شرطاً للمأمور به توقف حصول الملاك من المأمور به على مقارنته للشرط، ولا مانع من عموم ذلك للأفراد المحرمة.

نعم قد ينافيه في بعض الموارد عرفاً، فيفهم من دليل الشرطية إرادة ماعدا الأفراد المحرمة. لكنه مختص بما إذا كان الشرط محرماً بعنوانه، لا في مثل المقام، حيث لم يحرم القيام بعنوانه، بل المحرم هو التصرف في المغصوب الشامل للقيام وغيره. ولاسيما مع عدم ورود إطلاق لفظي يقتضي اعتبار القيام في صلاة الميت، ليفهم منه الاختصاص، بل استفيد اعتباره تبعاً بنحو يظهر من النصوص المفروغية عن اعتباره، من دون أن تكون مسوقة لذلك.

ومثله الحال في اعتبار إباحة مكان الميت، لأن كون الميت عند المصلي شرط أيضاً للصلاة كالقيام فيها.

نعم لا يبعد امتناع التقرب بالصلاة إذا كان حصول المصلي أو الميت في المكان المغصوب لأجلها، بحيث يكون الاستمرار فيها هو الداعي للتصرف في المغصوب من أحد المكانين. وقد تقدم نظيره عند الكلام في اعتبار إباحة الإناء الذي يتوضأ منه. فراجع.

(1) على ما تقدم في التغسيل، وتقدم تفصيل الكلام فيه وفي فروعه. ويأتي في المسألة الثالثة والخمسين الكلام في ولايته على كون الصلاة جماعة.

(2) كما تقدم منه (قدس سره) في التغسيل، وتقدم الإشكال فيه، وأن المتعين الاحتياط بتنفيذ الولي الوصية وإذنه للموصى بالمباشرة.

ص: 306

(307)

(مسألة 47): لا يعتبر في الصلاة على الميت الطهارة من الحدث (1) والخبث (2). وإباحة اللباس (3)،

(1) إجماعاً، كما في الخلاف والتذكرة والذكرى وعن جملة من كتب الأصحاب. ويقتضيه جملة من النصوص، كموثق يونس ومعتبر الفضل المتقدمين عند الكلام في وجوب الدعاء بين التكبيرات، وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" سألته عن الرجل تفجؤه الجنازة وهو على غير طهر. قال: فليكبر معهم"(1) ، وغيرها.

(2) قال في الجواهر: "وفاقاً لجماعة، بل لا أجد فيه خلافاً. نعم تردد فيه في الذكرى بعد أن اعترف بعدم الوقوف فيه على فتوى ولا نص" .لكن صرح جماعة من الأصحاب تبعاً للنصوص بجواز صلاة الحائض التي لا تنفك غالباً عن الخبث.

ويقتضيه - بعد الأصل، لقصور ما تضمن اعتبار الطهارة من الخبث في الصلاة عن صلاة الميت - النصوص المتضمنة صلاة الحائض على الجنازة، كصحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحائض تصلي على الجنازة؟ قال: نعم ولا تصف [تقفٍٍٍٍٍِ] معهم" (2) وغيره.

مضافاً إلى استفادته من نصوص عدم اعتبار الطهارة من الحدث بالأولوية أو بعموم التعليل بقوله (عليه السلام) في معتبر الفضل بن شان: "إنما جوزنا الصلاة على الميت بغير وضوء لأنه ليس فيها ركوع ولا سجود، وإنما هي دعاء ومسألة، وقد يجوز أن تدعو الله وتسأله على أي حال كنت..."(3) ، وقوله (عليه السلام) في موثق يونس:" إنما هو تكبير وتسبيح وتهليل، كما تسبح وتكبر في بيتك على غير وضوء"(4). لإشعارهما أو ظهورهما في أنه لا يعتبر في هذه الصلاة شيء كما لا يعتبر في الدعاء والثناء.

(3) لعدم اقتضاء أفعال التصرف فيه ليمتنع التقرب بها. نعم لو قيل بوجوب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 7، 3.

ص: 307

وستر العورة (1). وإن كان الأحوط اعتبار جميع شرائط الصلاة (2). بل لا يترك الاحتياط وجوباً بترك الكلام في أثنائها والضحك والسكوت الطويل ونحوه من ما يكون ماحياً لصورتها (3).

ستر العورة يتجه اعتبار إباحة الساتر لو تم ما سبق من دعوى قصور إطلاق الشرط عن الفرد المحرم. لكن سبق أنه غير تام.

(1) للأصل بعد قصور ما دل على اعتبار سترها في الصلاة عن صلاة الميت، كما تقدم في نظائره. وقد يستفاد من التعليل في معتبر الفضل وموثق يونس المتقدمين.

خلافاً لما في الذكرى وعن فوائد الشرايع للكركي وكشف الغطاء من وجوب سترها فيها. ويناسبه ما في الوسيلة في صلاة العراة من أنهم يضعون أيديهم على سوءاتهم. وربما يكون لتجنب النظر المحرم، وإن ذكر في مفتاح الكرامة أنه لم يصرح به غيره.

وكيف كان فهو لا يتجه إلا بناء على ما في الذكرى قال: "والأجود ترك ما يترك في ذات الركوع، والإبطال بما تبطل به، خلا ما يتعلق بالحدث والخبث على ما تقدم" .ويأتي الكلام في ذلك.

(2) كما سبق من الذكرى. واحتاط بذلك في محكي كشف الغطاء مع استثناء الطهارة من الحدث. ويظهر عدم الملزم بالاحتياط المذكور مما تكرر من قصور أدلة اعتبار تلك الشروط في الصلاة عن صلاة الميت. ولاسيما بملاحظة نصوص عدم اعتبار الطهارة الحدثية بالتقريب المتقدم في وجه عدم اعتبار الطهار الخبيثة.

(3) كما تقدم عن كاشف الغطاء عند الكلام في اعتبار الموالاة. وتقدم الإشكال في ذلك. على أنه لم يتضح كون مطلق الكلام والضحك ماحيين لصورة الصلاة ذات الركوع والسجود، فضلاً عن هذه الصلاة. وإنما استفيد مبطليتهما لتلك الصلاة من النصوص الخاصة، التي يظهر مما سبق عدم شمولها لهذه الصلاة.

ص: 308

(309)

(مسألة 48): إذا شك في أنه صلى على الجنازة أم لا بنى على العدم (1). وإذا صلى وشك في صحة الصلاة وفسادها بنى على الصحة (2). وإذا علم ببطلانها وجبت إعادتها على الوجه الصحيح (3). وكذا لو أدى اجتهاده أو تقليده إلى بطلانها (4).

(مسألة 49): يجوز تكرار الصلاة على الميت الواحد (5).

نعم لا يبعد منافاتهما لهذه الصلاة بالنظر لمرتكزات المتشرعة. وإن كان في كفاية ذلك في البناء على مبطليتهما لها إشكال.

(1) لقاعدة الاشتغال. نعم إذا تصرف من يكون الميت تحت يده تصرفاً مترتباً على الصلاة - كالدفن - تعين عدم الاعتناء بالشك، لقاعدة التجاوز.

(2) لقاعدة الفراغ المعول عليها عند الشك بعد الفراغ. وكذا لو شك في صحة فعل الغير ولو قبل الفراغ. لقاعدة الصحة الجارية في فعل الغير مطلقاً.

(3) كما هو مقتضى الأمر بها، ولا دليل على الاجتزاء بالناقص في المقام.

(4) عملاً بمقتضى الحجة الفعلية في حقه. ولا موجب للخروج عنها باجتهاد الغير أو تقليده بعد عدم حجيته في حقه، كما هو مقتضى القاعدة في جميع موارد الاختلاف بالاجتهاد والتقليد وأولى بذلك إذا لم يكن عمل الغير عن اجتهاد أو تقليد.

ومنه يظهر ضعف ما في العروة الوثقى من الاجتزاء بفعل الغير المطابق لاجتهاده أو تقليده، إلا مع العلم الوجداني بفساده، دون ما إذا كان الفساد مقتضى اجتهاد المكلف أو تقليده. بل هو لا يخلو عن غرابة.

(5) بلا إشكال كما في الجواهر وعن المفاتيح نفي الخلاف فيه، لظهور ما يأتي من الأصحاب من الكلام في الكراهة في المفروغية عن أصل الجواز.

ص: 309

وعن مجمع البرهان والفائدة: "الذي يقتضيه النظر عدم التكرار، لأنها واجبة كفاية، فإذا فعلت سقطت عن الكل بلا خلاف، فلابد لمشروعيتها ندباً أو وجوباً من دليل، وليس هنا دليل صالح لذلك..." .وإليه يرجع ما ذكره بعض مشايخنا من أن مقتضى القاعدة عدم مشروعية التكرار.

لكن في صحيح أبي ولاد وعبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: ينبغي لأولياء الميت منكم أن يؤذنوا إخوان الميت بموته فيشهدون جنازته ويصلون عليه ويستغفرون له..."(1) ، وفي حديث سؤال اليهود من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):" قال (عليه السلام): وما من مؤمن يصلي على الجنائز إلا أوجب الله له الجنة..."(2) ، وفي موثق الأصبغ بن نباتة: "قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من تبع جنازة كتب له من الأجر أربع قراريط قيراط بإتباعه وقيراط للصلاة عليها..." (3) وظاهر هذه النصوص وغيرها استحباب الصلاة على الميت لكل أحد عيناً، وإن كانت واجبة على الكل كفاية، وحينئذ فسقوط الوجوب الكفائي بالصلاة الأولى لا ينافي بقاء مشروعيتها، بل استحبابها عيناً وحمل الاستحباب العيني على الصلاة من كل أحد في ضمن صلاة جماعة واحدة يحتاج إلى دليل.

نعم يختص ذلك بغير المصلي عليه أولاً، لسقوط الوجوب الكفائي والاستحباب العيني معاً في حقه بفعله. إلا أن يستفاد من النصوص المذكورة استحباب الصلاة بنحو العموم الشمولي الاستغراقي لا البدلي، نظير استحباب الاستغفار. وهو لا يخلو عن إشكال. ومن ثم توقف شيخنا الأستاذ (قدس سره) في المشروعية في غير الإمام، وأما هو فيشرع منه التكرار للنصوص الآتية.

نعم قد يتمسك للمشروعية مطلقاً بالإجماع، لأن ظاهر اتفاقهم على الكراهة في حق المصلى مطلقاً أو إذا لم يكن إماماً المفروغية عن المشروعية والجواز مطلقاً، وأن الكلام إنما هو في الكراهة. وسيأتي تمام الكلام عند التعرض للنصوص إن شاء الله

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب دفن الميت حديث: 1.

ص: 310

لكنه مكروه (1)،

تعالى.

(1) ففي الجواهر: "وفاقاً للأكثر نقلاً وتحصيلاً، بل في المغنية الإجماع عليه، جماعة وفرادى من مصل واحد ومتعدد، كما صرح به بعضهم، وكالصريح من آخر".

لموثق إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على جنازة، فلما فرغ جاء قوم فقالوا: فاتتنا الصلاة عليها فقال: إن الجنازة لا يصلى عليها مرتين ادعوا له وقولوا خيراً"(1). ونحوه خبر وهب بن وهب(2). وقد يستفاد من خبره الآخر، وموثق الحسين بن علوان عنه (عليه السلام)، وفيهما:" قد قضيت الصلاة عليها. ولكن ادعوا لها"(3).

نعم يعارضها جملة من النصوص، كحديث عمار الساباطي - الذي لا يخلو عن اعتبار - عن أبي عبد الله (عليه السلام): "الميت يصلى عليه ما لم يوار بالتراب وإن كان قد صلي عليه"(4) ، وحديث يونس بن يعقوب الذي لا يخلو عن اعتبار أيضاً عنه(5) (عليه السلام):" سألته عن الجنازة لم أدركها حتى بلغت القبر أصلي عليها؟ قال: إن أدركتها قبل أن تدفن فإن شئت فصل عليها"(6) ، وخبر عمر بن شمر عنه (عليه السلام): "إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج على جنازة امرأة من بني النجار فصلى عليها فوجد الحفرة لم يمكنوا، فوضعوا الجنازة،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 23، 24.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 13 وذيله.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 19.

(5) إذ ليس في سند هذين الخبرين من لم يوثق إلا محمد بن علي بن الزبير القرشي وهو من مشايخ الإجازة وروى كثيراً من كتب الأصحاب، ووقع في طرق الشيخ إلى كتب بني فضال. بل يأتي منّا في المسألة السابعة في فروع النية من كتاب الصوم تقريب وثاقة الرجل، وتصحيح أمثال هذين الحديثين حتى لو لم يكن ثقة في نفسه.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 20.

ص: 311

فلم يجيء قوم [أقوام] إلا قال لهم: صلوا عليها"(1).

وظاهر جماعة الجمع بينهما، بحمل الطائفة الأولى على الكراهة، والطائفة الثانية على مجرد المشروعية، بناء على ما هو التحقيق من إمكان العبادة المكروهة، وإمكان التقرب بها، على ما ذكرناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من الأصول.

لكن المراد إن كان هو مجرد قلة الثواب مع رجحان الفعل فهو - مع كونه خلاف ظاهر الأصحاب - لا يناسب موثق إسحاق بن عمار وخبر وهب الظاهرين في الردع عن الصلاة. بل وكذا خبر وهب الآخر وموثق الحسين بن علوان، لظهورهما في عدم رجحان الصلاة.

وإن كان المراد مرجوحية الفعل لترتب مفسدة عليه فهو لا يناسب خبر عمر بن شمر الظاهر في رجحان الصلاة. إلا أن يكون ضعف سنده مانعاً من التعويل عليه في رفع اليد عن مقتضى الجمع بين غيره من النصوص، وهو مشروعية التكرار وإن كان مرجوحاً.

هذا ولكن تضمنت جملة من النصوص تكرار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) الصلاة على حمزة وسهل بن حنيف، ففي صحيح إسماعيل بن جابر وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: "إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على حمزة سبعين صلاة، وكبر عليه سبعين تكبيرة"(2) ، وقد تقدم عند الكلام في عدد التكبيرات حمله على تكرار الصلاة عليه، وفي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: كبر أمير المؤمنين (عليه السلام) على سهل بن حنيف وكان بدرياً خمس تكبيرات، ثم مشى ساعة ثم وضعه وكبر عليه خمسة أخرى، فصنع به ذلك حتى كبر عليه خمساً وعشرين تكبيرة"(3) ، ونحوهما غيرهما. وذلك لا يناسب الكراهة بمعنى مرجوحية الفعل جداً.

وهي وإن تضمنت نقل قصة في واقعة لا إطلاق لها، إلا أن نقل الإمام (عليه السلام) -

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 22.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3، 1.

ص: 312

لها من دون تنبيه إلى خصوصيتهما في ارتفاع الكراهة ظاهر في عدم خصوصيتهما في ذلك، لإلغاء خصوصيتهما عرفاً. بل حيث لا إشكال في عدم خصوصية سهل بن حنيف في التشريع فالمستفاد من هذه النصوص عرفاً عدم كراهة التكرار مطلقاً، وإن أمكن أن يكون لميزته في الدين هو وحمزة دخل في شدة رجحانه حتى حملهما (صلى الله عليه وآله وسلم) على القيام به.

وهو المناسب لما في خبر جعفر: "سئل جعفر (عليه السلام) عن التكبير على الجنائز فقال: ذلك إلى أهل الميت ما شاؤوا كبروا فقيل: أنهم يكبرون أربعاً فقال: ذلك إليهم. ثم قال: أما بلغكم أن رجلاً صلى عليه علي (عليه السلام) فكبر عليه خمساً حتى صلى عليه خمس صلوات يكبر في كل صلاة خمس تكبيرات. قال: ثم قال: إنه بدري عقبي أحدي وكان من النقباء الذين اختارهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الاثنى عشر، وكانت له خمس مناقب، فصلى عليه لكل منقبة صلاة"(1).

فإن المناسبات الارتكازية تقضي بأن المناقب تقتضي تأكد رجحان التكرار، لا ارتفاع كراهته لو كان مكروهاً في نفسه أو تشريعه لو لم يكن مشروعاً في نفسه. ولاسيما بملاحظة أن تحديد المنقبة كبروياً وإحرازها صغروياً يحتاج إلى مؤنة، فيبعد جداً إناطة ارتفاع الكراهة أو المشروعية بها من دون تعرض لذلك، بخلاف إناطة تأكد الرجحان بها، كما لعله ظاهر.

بل من البعيد جداً معروفية عدم مشروعية التكرار أو كراهته ثم مطالبة الناس به في الصلاة على سهل بن حنيف، كما تضمنه خبر أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: كبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حمزة سبعين تكبيرة، وكبر علي (عليه السلام) عندكم على سهل بن حنيف خمساً وعشرين تكبيرة. قال: كبر خمساً خمساً، كلما أدركه الناس قالوا: يا أمير المؤمنين لم ندرك الصلاة على سهل، فيضعه فيكبر عليه خمساً. حتى انتهى إلى قبره خمس مرات"(2).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 18، 5.

ص: 313

إلا إذا كان الميت من أهل الشرف في الدين (1).

وبالجملة: هذه النصوص - كخبر عمر بن شمر - لا تناسب الكراهة بمعنى مرجوحية الفعل جداً. فلابد إما من حمل نصوص النهي على نفي الوجوب - كما احتمله في الاستبصار - لدفع توهم وجوب صلاة الميت عيناً في الجملة، وإما من البناء على استحكام التعارض بين الطائفتين، ويكون العمل على الطائفة الأخرى، لأنها أكثر عدداً وأظهر بين الأصحاب عملاً، ومطابقة للمطلقات المتقدمة الظاهرة في الاستحباب عيناً، وتحمل نصوص النهي على التقية، لموافقتها لما حكاه في الخلاف عن أبي حنيفية ومالك وجماعة من العامة من عدم جواز الصلاة بعد سقوط فرضها.

هذا ومقتضى إطلاق حديث عمار مشروعية تكرار الصلاة ولو من مصل واحد غير الإمام، وإن أشكل إثبات ذلك من المطلقات، كما سبق.

ومن جميع ما سبق يظهر ضعف تخصيص الكراهة بالمصلي الواحد، كما هو موضوع كلام الشيخ في الخلاف، ومعقد إجماعه، وعن الذكرى أنه استظهره من الأكثر. وجه الضعف: أن النصوص المتقدمة ورادة في غير المصلي، فإن عمل بها لزم البناء على عموم الكراهة، وإلا فلا دليل على الكراهة في حقه. وهناك أقوال أخر لا مجال لاستقصائها بعد ظهور ضعفها مما سبق.

والحاصل: أن المتعين ما سبق من عدم الكراهة مطلقاً، كما هو ظاهر إطلاق ما عن الحسن بن عيسى من أنه لا بأس بالصلاة على من صلي عليه مرة.

بل عن المفاتيح أن بعضهم استحب التكرار مطلقاً. ويناسبه ما في الذكرى، حيث قال بعد التعرض لكلام بعض الأصحاب وللنصوص: "فتبين رجحان الصلاة بظهور الفتوى وكثرة الأخبار" ويتضح وجهه مما سبق.

(1) العمدة فيه نصوص الصلاة على حمزة وسهل بن حنيف. وأما نصوص الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيشكل الاستدلال بها، لقرب عدم كونها من صلاة الميت

ص: 314

(315)

(مسألة 50): لو دفن الميت بلا صلاة صحيحة صلى على قبره (1)

المعهودة على ما تقدم عند الكلام في اعتبار الاستقبال. ومنه يظهر ضعف إطلاق الكراهة في كلام جماعة، وحكي عن المشهور، لأنه لا يناسب هذه النصوص قطعاً.

هذا وحيث تقدم عدم الدليل على الكراهة فالمشروعية في العبادات تقتضي الرجحان. وحينئذٍ يتعين كون الشرف في الدين سبباً لتأكد الرجحان. كما أشرنا إليه آنفاً.

(1) قال في الجواهر: "بلا خلاف صريح أجده إلا من المصنف في المعتبر والمحكي عن الفاضل في بعض كتبه، ومال إليه في المدارك. ولا ريب في ضعفه للأصل. وإطلاق دليل الوجوب، وفحوى نصوص الجواز... ضرورة أنه يمكن دعوى لزوم الجواز للوجوب في الفرض، لعدم ما يصلح حينئذ مقيداً لإطلاق نحو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تدعوا أحداً من أمتي بلا صلاة".

لكن مراده (قدس سره) بالأصل إن كان هو استصحاب وجوب الصلاة على الميت، نظير ما يذكر في سائر موارد تعذر بعض ما يعتبر في الواجب لإثبات وجوب الميسور منه أشكل أولاً: بأنه مختص بما تعذر نبشه والصلاة عليه خارج القبر، وإلا فلا وجه للاكتفاء بالميسور، سواءً كان دفنه بغير صلاة لعذر أم بدونه. ولا وجه لحرمة النبش بعد أن كان دليله الإجماع الذي كان المتيقن منه ما إذا كان الدفن بعد الصلاة. نعم تتجه حرمة النبش لو لزم منه هتك الميت.

وثانياً: بعدم نهوض الاستصحاب بإحراز الاكتفاء بالميسور عند تعذر المركب التام، لتبدل الموضوع إلا بناء على الاكتفاء بالتسامح العرفي في موضوع الاستصحاب الذي هو خلاف التحقيق. ولاسيما في مثل المقام مما كان اختلاف حالتي اليقين والشك معتداً بها عرفاً، بلحاظ عدم إشراف المصلى على الميت لحجب القبر له عنه، حيث لا يتضح صدق التكبير والصلاة عليه وتبدل حالة الميت من الاستلقاء إلى الاضطجاع.

وإن كان مراده (قدس سره) بالأصل أصالة البراءة من اعتبار ظهور الميت لدعوى: أن

ص: 315

المتيقن من دليل اعتباره ما إذا لم يدفن. بحيث لا يجوز الدفن قبل الصلاة، دون ما إذا تحقق الدفن لعذر أو بدونه، أشكل أولاً: بأنه مختص بما إذا أمكن النبش إذ مع تعذره يرجع الشك في اعتبار ظهور الميت إلى الشك في سقوط الصلاة، وهو مقتضى أصل البراءة.

وثانياً: بأنه لم يتضح كون المقام من موارد الشك في الخصوصية، بل ربما يكون من موارد الدوران بين التعيين والتخيير لعدم الجامع العرفي بين الصلاة على القبر والصلاة على الميت خارجه بالشروط المعهودة.

وأما الإطلاق فهو ظاهر في عموم الوجوب من حيثية أفراد الميت، لا في إطلاق الصلاة الواجبة من حيثية أحواله.

فلم يبق إلا ما ذكره أخيراً من استفادة الوجوب من الإطلاق بضميمة النصوص الدالة على جواز الصلاة ومشروعيتها. فاللازم النظر في النصوص المذكورة.

وعمدتها صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: لا بأس أن يصلي الرجل على الميت بعد ما يدفن" (1) مؤيداً بخبر مالك عن أبي عبد الله (عليه السلام): "إذا فاتتك الصلاة على الميت حتى يدفن فلا بأس بالصلاة عليه وقد دفن"(2) ، وخبر عمرو بن جميع عنه (عليه السلام):" قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا فاتته الصلاة على الجنازة صلى على قبره "(3) ومرسلة الذكرى:" روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على قبر مسكينة دفنت ليلاً "(4) وقوله (عليه السلام) في مرسل القلانسي في المسبوق ببعض التكبيرات:" يتم التكبير وهو يمشي معها، فإن لم يدرك التكبير كبر عند القبر، فإن كان أدركهم وقد دفن كبر على القبر"(5).

لكن يعارضها جملة أخرى من النصوص، كموثق عمار المتقدم في الصلاة على

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 2، 3.

(4) سنن البيهقي ج: 4 ص: 48.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5.

ص: 316

من لا كفن له، وفيه: "يحفر له ويوضع في لحده، ويوضع اللبن على عورته فيستر عورته باللبن وبالحجر، ثم يصلى عليه، ثم يدفن. قلت: فلا يصلى عليه إذا دفن؟ فقال: لا يصلى على الميت بعدما يدفن، ولا يصلى عليه وهو عريان حتى توارى عورته" (1) ونحوه مرسل محمد بن أسلم المتقدم هناك أيضاً، وفيه: "يصلون عليه وهو مدفون بعدما يدفن؟ قال: لا، لو جاز ذلك لأحد لجاز لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يصلى على المدفون، ولا على العريان"(2).

ودعوى ظهورهما في النهي عن تأخير الصلاة عن الدفن، لا في عدم جواز الصلاة على المدفون مطلقاً أو إذا دفن قبل الصلاة تقصيراً أو عن عذر. ممنوعة جداً. ولاسيما بلحاظ العدول في الجواب من الجواب بالنفي إلى الجواب بالكبرى الظاهرة في العموم جداً.

وقوله (عليه السلام) في موثق عمار الآخر المتقدم عند الكلام في اعتبار أن يكون رأس الميت إلى يمين المصلي ورجليه إلى يساره:" يسوى وتعاد الصلاة عليه وإن كان قد حمل ما لم يدفن، فإن دفن فقد مضت الصلاة عليه، ولا يصلى عليه وهو مدفون"(3).

ودعوى ظهوره في إجزاء الصلاة الواقعة عليه وهو مقلوب لو دفن قبل الإعادة، فلا ينافي وجوب الصلاة أو جوازها بعد الدفن. ممنوعة، بل هو ظاهر في بطلان الصلاة عليه مطلقاً، وأن عدم الصلاة عليه بعد الدفن لمضي محلها وعدم مشروعية الصلاة حينئذ لكبرى عدم الصلاة على المدفون.

وقوله (عليه السلام) في حديثه الثالث المتقدم في تكرار الصلاة على الميت: "الميت يصلى عليه ما لم يوارَ بالتراب وإن كان قد صلي عليه" (4) وفي حديث يونس بن يعقوب المتقدم هناك أيضاً: "إن أدركتها قبل أن تدفن فإن شئت فصل عليه"(5). وكذا صحيح محمد بن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 19، 20.

ص: 317

مسلم أو زرارة الآتي.

هذا وربما يجمع بين هذه النصوص بوجوه:

الأول: حمل نصوص الجواز على من لم يصل عليه، ونصوص المنع على من صلي عليه، كما في المختلف وجامع المقاصد. ويناسبه ما في التذكرة والمتن وعن نهاية الأحكام من الاقتصار في الصلاة على القبر على من لم يصلَّ عليه. بل ظاهر التذكرة وعن نهاية الأحكام الإجماع على أنه لا يصلى على المدفون إذا كان قد صلي عليه قبل دفنه. وإن كان هو خلاف ظاهر كلام جماعة من الأصحاب.

وفيه: أنه - مع عدم الشاهد عليه - تأباه بعض النصوص من الطائفتين معاً، لظهور خبري مالك وعمرو من نصوص الجواز في أن المعيار فوت الصلاة على من يريدها، لا فوت أصل الصلاة على الميت. وأما نصوص المنع فمن الظاهر أن كبرى عدم الصلاة على المدفون قد سيقت في موثق عمار الأول ومرسل محمد بن أسلم في مقام تعليم كيفية الصلاة على العاري الذي لم يصل عليه، فلا مجال لحمل الكبرى المذكورة على خصوص من صلي عليه. كما أن موثق عمار الثاني وارد في من لم يصل عليه، بناء على ما سبق من ظهوره في أن عدم الصلاة عليه لمضي محلها، لا لإجزاء الصلاة عليه مقلوباً. وأما حديثه الثالث فهو كالصريح في العموم لمن لم يصل عليه، كما هو مقتضى (إن) الوصلية.

الثاني: حمل الطائفة الأولى على الجواز، والثانية على نفي الوجوب، كما يناسبه ما حكي عن جماعة من الحكم بالجواز مطلقاً، بل عن المنتهى والتحرير التصريح بالاستحباب فيمن لم يصل عليه وفيمن صلي عليه إذا أراد الصلاة عليه من لم يصل عليه.

لكنه مما تأباه بعض نصوص المنع، كالحديثين الأخيرين، لصراحة حديث عمار في العموم لمن صلي عليه وقوة ظهور حديث يونس في إرادته، ومن الظاهر أن من صلي عليه لا يحتمل وجوب الصلاة عليه، بل الجواز لاغير، فالنهي فيهما لابد أن

ص: 318

يكون لبيان عدم الجواز وعدم مشروعية الصلاة.

الثالث: حمل نصوص الجواز على ما قبل مضي اليوم والليلة ونصوص المنع على ما بعد ذلك، كما احتمله في التهذيبين. وربما جعل الحدّ ثلاثة أيام. لمرسلة الخلاف قال: "ومن فاتته الصلاة جاز أن يصلي على القبر يوماً وليلة. وقد روي ثلاثة أيام... دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، أوردناه في الكتابين المقدم ذكرهما" ولم يورد في التهذيبين إلا بعض نصوص كل واحدة من الطائفتين.

لكن لا شاهد على الجمع المذكور إلا مرسلة الخلاف التي لا جابر لضعفها، لعدم ظهور عمل الأصحاب بها، قال في مفتاح الكرامة: "وقد اعترف المحقق ومن تأخر عنه بعدم العثور على المستند في هذه التحديدات. وكأنهم لم يلتفتوا إلى رواية الخلاف" .ومع أن أكثر نصوص الطائفة الثانية، أو جميعها تأبى الجمع المذكور، فإنها كالصريحة في النهي عن الصلاة بمجرد الدفن.

الرابع: حمل نصوص الجواز على الدعاء ونصوص بالمنع على الصلاة المشروعة المعهودة كما احتمله الشيخ في التهذيبين وحكي عن المحدث البحراني الميل إليه. وقد يناسبه حديث محمد بن مسلم أو زرارة: "قال: الصلاة على الميت بعدما يدفن إنما هو الدعاء. قال: قلت فالنجاشي لم يصل عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: لا إنما دعا له" (1) وفي خبر جعفر بن عيسى: "قدم أبو عبد الله (عليه السلام) مكة فسألني عن عبد الله بن أعين، فقلت: مات، قال: مات؟ قلت: نعم. قال: فانطلق بنا إلى قبره حتى نصلي عليه قلت: نعم قال: لا، ولكن نصلي عليه ههنا، فرفع يديه يدعو، واجتهد في الدعاء وترحم عليه"(2).

لكن الإنصاف أنه لا يناسب أكثر نصوص الجواز، فصحيح هشام بن سالم قد تضمن الترخيص في الصلاة بعد الدفن، ولا يحتمل عدم مشروعية الدعاء حينئذ، لينبه على الترخيص فيه، وخبرا مالك مولى الحكم وعمرو بن جميع، قد تضمنا المقابلة بين

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5، 4.

ص: 319

الصلاة قبل الدفن والصلاة بعده، وهي تقتضي وحدة المراد بهما، وخبر القلانسي قد تضمن التكبير على القبر، الذي هو معتبر في الصلاة المعهودة، لا في الدعاء، كما لا يخفى.

ومثله ما احتمله في الاستبصار من حمل نصوص الجواز على ما إذا وضع في القبر ولم يوارَ في التراب، وحمل نصوص المنع على ما إذا ووري به. فإنه بعيد عن نصوص الجواز جداً. كما لعله ظاهر.

ومن هنا كان الظاهر استحكام التعارض بين النصوص. ولا ينبغي الإشكال في رجحان الطائفة الثانية، لأنها أكثر وأشهر رواية، وقد وردت في مناسبات مختلفة، فهي أبعد عن احتمال التقية. ولا أقل من تساقط الطائفتين والرجوع لأصالة البراءة من وجوب الصلاة عليه لو لم يصل عليه قبل الدفن، بل أصالة عدم مشروعيتها مطلقاً صلى عليه أم لا.

وما قيل من حمل نصوص المنع على التقية، لموافقتها للمحكي عن أبي حنيفة الذي غالب العامة على فتاواه. في غير محله فإنه وإن حكى في التذكرة عن أبي حنيفة إطلاق المنع من الصلاة على القبر فيمن دفن قبل الصلاة عليه، إلا أنه حكى عنه بعد ذلك أنه يصلي عليه الولي إلى ثلاث، ولا يصلى عليه غيره بحال.

كما حكي الصلاة عليه عن أبي موسى الأشعري وابن عمرو وعائشة والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة على اختلاف منهم في الإطلاق والتقييد والتحديد، من دون أن يظهر موافق منهم لنصوص المنع. فهي أبعد عن التقية، ولاسيما بملاحظة ما سبق.

ومثله دعوى هجر الأصحاب لنصوص المنع، لإطباقهم على الجواز إلى يوم وليلة، أو ثلاثة أيام، أو إلى أن تغيير صورته، أو مادام الميت موجوداً، أو مطلقاً، فتسقط عن الحجية، ويتعين العمل بنصوص الجواز.

لاندفاعها بأن كلام الأصحاب في غاية الاضطراب فتوى ودليلاً. فإن نصوص الجواز مطلقة، ولا يظهر منهم عامل بمضمونها من القدماء عدا الصدوق في

ص: 320

الفقيه، حيث ذكر بعضها من دون أن يعقب عليه، وحكي عن ظاهر الحسن. وبقية الأصحاب بين من فصل بين من لم يصل عليه ومن صلي عليه، ومن حكم بالجواز دون الوجوب، ومن فصل بين مضي يوم وليلة أو ثلاثة أيام وعدم مضيها، وغير ذلك مما يحتمل أن يبتني على الجمع بين النصوص، كما أشرنا إليه آنفاً، وصرح به بعضهم، من دون أن يظهر منهم هجر نصوص المنع.

بل يظهر من التذكرة إهمال نصوص الجواز والعمل بنصوص المنع بعد تقييدها بدليل التحديد بيوم وليلة أو ثلاثة أيام. قال:" ولا تجوز الصلاة بعدها، لأنه بدفنه خرج من أهل الدنيا فساوى من قُبِر في قبره، خرج المقدر بالإجماع، فيبقى الباقي على الأصل. ولقول الكاظم (عليه السلام): لا تصل على المدفون، خرج ما قدرناه بالإجماع، فيبقى الباقي ".ونحوه عن المنتهى. وربما يكون ذلك هو الوجه عند غيره. كما أنه بل تقدم من الشيخ احتمال حمل أخبار الجواز على ما إذا لم يوار بالتراب، أو على الدعاء، وهما راجعان إلى إهمالها، والعمل بنصوص المنع.

كما أنه يمكن استنادهم بعد اضطراب النصوص لوجوب الصلاة على من لم يصل عليه بعموم وجوب الصلاة، ولجوازها على من صلي عليه ومشروعيتها بقاعدة التسامح في أدلة السنن. ومع ذلك كيف يمكن دعوى انفراد نصوص الجواز بالحجية، وسقوط نصوص المنع بالإعراض؟!.

ومن هنا كان الظاهر عدم مشروعية الصلاة بعد الدفن، عملاً بنصوص المنع، أو بالأصل وهو المطابق للسيرة، المناسب للمرتكزات. وحينئذٍ لا يؤتى بها إلا برجاء المطلوبية.

هذا ولو دفن الميت بغير صلاة أصلاً - لعذر أو تقصير - أو مع بطلان الصلاة عليه، فإن تعذر نبشه، لاستلزامه محذوراً أهم من ترك الصلاة عليه، فمقتضى أصالة البراءة عدم وجوب الصلاة على القبر، كما سبق.

أما لو أمكن نبشه فمقتضى القاعدة وجوبه، لولا ظهور بعض نصوص المنع

ص: 321

ما لم يتلاش بدنه (1).

المتقدمة في عدم وجوبه، مثل ما ورد في الصلاة على العريان، فإن المتيقن من مورد السؤال فيه ما إذا لم يصل على الميت، فعدم التنبيه فيه للنبش ظاهر في عدم وجوبه وكذا قوله (عليه السلام) في موثق عمار المتقدم:" الميت يصلى عليه ما لم يوار بالتراب وإن كان قد صلي عليه "فإنه كالصريح - بمقتضى (إن) الوصلية - في العموم لمن لم يصل عليه، كما تقدم. وظاهره سقوط الصلاة بالدفن، بحيث لا تجب بعده ولو بشرط النبش. وكذا موثقه المتقدم فيمن صلى عليه مقلوباً، فإن عدم الخصوصية عرفاً لمورده قريب جداً. ومن هنا يشكل وجوب النبش من أجل الصلاة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1) كما عن مجمع البرهان. قيل ولعله إليه يرجع ما عن الحسن من أنه يصلى عليه ما لم يعلم تغير صورته. وإن كان هو خلاف ظاهره. نعم قد يكون هو المراد ممن أطلق أو صرح بعدم التحديد، لأن المنصرف منه كون الصلاة على القبر بلحاظ كون الميت فيه، لتكون صلاة على الميت.

ومن ثم لا مجال لاستفادة مشروعية الصلاة بعد ذلك من إطلاق نصوص الجواز لو كانت هي المرجع. ولاسيما وأن الموضوع في بعضها الصلاة على الميت، لا الصلاة على القبر.

وأما التحديد بيوم وليله - كما عن المفيد وجماعة كثيرة، ونسبه للمشهور جماعة، بل في الغنية وظاهر التذكرة الإجماع عليه - فلا يعرف مستنده، كما صرح بذلك جماعة. نعم تقدم في مرسلة الخلاف التحديد بثلاثة أيام. وظاهره - كصريح المراسم - العمل بها. ولا يسعنا ذلك.

ص: 322

(323)

(مسألة 51): يستحب أن يقف الإمام والمنفرد (1) عند وسط الرجل وصدر المرأة (2).

(1) وأما المأموم فلا إشكال في عدم استحباب ذلك له، بل يتبع طول الصف.

(2) كما ذكره غير واحد، وفي كشف اللثام أنه قول الأكثر، وفي المدارك أنه قول المعظم، وفي المختلف وعن غيره أنه المشهور، بل في الغنية وعن ظاهر المنتهى الإجماع عليه، ونفى الخلاف فيه صريحاً في الثاني.

ويقضيه صحيح عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من صلى على امرأة فلا يقوم في وسطها، ويكون مما يلي صدرها، وإذا صلى على الرجل فليقم في وسطه "(1) وقريب منه خبر جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم من الرجال بحيال السرة، ومن النساء من دون ذلك قبل الصدر"(2).

ولكن في معتبر موسى بن بكر عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: "إذا صليت على المرأة فقم عند رأسها، وإذا صليت على الرجل فقم عند صدره"(3) ، ونحوه معتبر الجعفريات ومرسل دعائم الإسلام في بيان صلاة النبي(4) (صلى الله عليه وآله وسلم). وظاهر الاستبصار العمل بمضمونها، وحمل الحديثين الأولين عليها. وإن لم يتضح وجه الجمع الذي ذكره.

هذا وقد يكون مقتضى الجمع بينها وبين مرسل عبد الله بن المغيرة حملها على أفضلية الوقوف عند رأس المرأة وصدر الرجل، وحمل المرسل على عدم كراهة الوقوف عند صدر المرأة ولا في وسط الرجل.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 27، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 24 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2، 3.

ص: 323

(324)

(مسألة 52): إذا اجتمعت جنائز متعددة جاز تشريكها بصلاة واحدة (1)، فتوضع الجميع أمام المصلي مع المحاذاة بينها. والأولى مع اجتماع

نعم هو مخالف لظاهر خبر جابر، لظهور مداومة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه في أفضليته. لكنه ضعيف السند معارض في حكاية فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحديثي الجعفريات والدعائم المشار إليهما.

هذا وفي الخلاف:" السنة أن يقف الإمام عند رأس الرجل وصدر المرأة. دليلنا إجماع الفرقة "،وحكاه في المختلف عن علي بن بابويه والد الصدوق. ويشهد له خبر جابر:" سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يقول: وإذا ماتت المرأة وقف المصلى عليها عند صدرها، ومن الرجل إذا صلى عليه عند رأسه "(1) لكنه ضعيف سنداً معارض بما سبق، ومخالف للاعتبار.

وفي الفقيه والهداية إطلاق الأمر بالوقوف عند الرأس، وفي المقنع إطلاق الأمر بالوقوف عند الصدر. ولم يعرف مستندهما.

(1) بلا إشكال ظاهر، وعن المنتهى والمفاتيح: لا نعرف خلافاً في إجزاء الصلاة الواحدة. بل ربما قيل إنه أفضل، لما فيه من التعجيل، ولموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في الرجل يصلي على ميتين أو ثلاثة موتى كيف يصلي عليهم؟ قال: إن كان ثلاثة أو اثنتين أو عشرة أو أكثر من ذلك فليصل عليهم صلاة واحدة..."(2).

لكن استلزامه التعجيل - خصوصاً في الدفن الذي هو مندوب - غير مطرد. والأمر في الموثق قد يكون وارداً لدفع توهم المنع.

اللهم إلا أن يقال: ظاهر السؤال طلب معرفة كيفية الصلاة للجهل المطلق بها، من دون إشعار باحتمال المنع، فيكون ظاهر الأمر في الجواب الحث على التشريك

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 23 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 324

الرجل والمرأة أن يجعل الرجل أقرب إلى المصلي (1)، ويجعل صدرها محاذي

ورجحانه.

نعم لا إشكال ظاهراً في عدم وجوبه، كما صرح به غير واحد. بل في المبسوط والتذكرة وعن السرائر ونهاية الأحكام أن الإفراد أفضل. لأن صلاتين أفضل من صلاة، ولأن القصد بالتخصيص أولى منه بالتعميم. لكنهما كما ترى. ولاسيما بعدما سبق من ظهور الموثق في رجحان التشريك.

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب، وفي الخلاف أن عليه إجماع الطائفة، بل جميع الفقهاء إلا ابن المسيب، ونحوه في المعتبر، إلا أنه استثنى ابن المسيب والحسن البصري، وعن المنتهى أنه مذهب العلماء كافة.

ويشهد له النصوص، كصحيح زرارة والحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال في الرجل والمرأة كيف يصلى عليهما؟ قال: يجعل الرجل وراء المرأة، ويكون الرجل مما يلي الإمام" (1) وغيره.

لكن في موثق عبد الرحمن: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعت. قال: يقدم الرجال في كتاب علي(2) (عليه السلام)، وخبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر [أبي عبد الله] (عليه السلام):" سألته كيف يصلى على الرجال والنساء؟ قال: توضع الرجال مما يلي الرجال، والنساء خلف الرجال"(3).

ولا يبعد حملها بقرينة النصوص السابقة على تقديم الرجال لجانب الإمام، لا بلحاظ سمت القبلة، كما يناسبه ما في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "سألته عن الرجال والنساء كيف يصلي عليهم؟ قال: الرجل أمام النساء مما يلي الإمام يصف بعضهم على أثر بعض" (4) ومرسلة الخلاف: "فوضعوا جنازة الغلام مما يلي الإمام والمرأة وراءه"(5). وإن كان قد ينافيه ما يأتي في صحيح الحلبي، ويأتي

********

(1و2و3و4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 10، 4، 9، 1، 11.

ص: 325

(326)

لوسط الرجل (1). ويجوز جعل الجنائز صفاً واحداً، فيجعل رأس كل واحد عند إلية الآخر شبه الدرج (2) ويقف المصلي وسط الصف، ويراعي في الدعاء بعد التكبير الرابع تثنية الضمير وجمعه.

الكلام فيه.

نعم لا إشكال في عدم وجوب ذلك وعن المنتهى والمفاتيح نفي الخلاف فيه. كما يشهد به صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: لا بأس أن يقدم الرجل وتؤخر المرأة، ويؤخر الرجل وتقدم المرأة. يعني في الصلاة على الميت"(1).

(1) كما ذكره غير واحد، معللين إياه بإدراك الاستحباب المذكور في المسألة السابقة بالنسبة إلى كل منها. وهو موقوف على إطلاق دليل الاستحباب المذكور لما إذا صلي على جنائز متعددة، كما ادعاه في الجواهر، وهو غير ظاهر، بل لا يناسب ما يأتي في الصورة الثانية من كون التدرج بنحو يكون رأس كل ميت عند ورك الآخر.

(2) كما في موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في الرجل يصلي على ميتين أو ثلاثة موتى كيف يصلي عليهم؟ قال: إن كان ثلاثة أو اثنتين أو عشرة أو أكثر من ذلك فليصل عليهم صلاة واحدة، يكبر خمس تكبيرات كما يصلي على ميت واحد. ومن [قد] صلى عليهم جميعاً يضع ميتاً واحداً ثم يجعل الآخر إلى إلية الأول ثم يجعل رأس الثالث على إلية الثاني شبه الدرج حتى يفرغ منهم كلهم ما كانوا، فإذا سواهم هكذا قام في الوسط فكبر خمس تكبيرات يفعل كما يفعل إذا صلى على ميت واحد. سئل: فإن كان الموتى رجالاً ونساءً؟ قال: يبدأ بالرجال فيجعل راس الثاني إلى إلية الأول حتى يفرغ من الرجال كلهم، ثم يجعل رأس المرأة إلى إلية الرجل الأخير، ثم يجعل رأس المرأة الأخرى إلى إلية المرأة الأولى حتى يفرغ منهم كلهم، فإذا سوى هكذا قام في الوسط وسط الرجال، فكبر وصلى عليهم كما يصلي على ميت واحد "(2) وفي موثق

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 6، 2.

ص: 326

سماعة:" سألته عن جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعت. فقال: يقدم الرجل قدام المرأة قليلاً وتوضع المرأة أسفل من ذلك قليلاً عند رجليه. ويقوم الإمام عند رأس الميت فيصلي عليهما جميعاً"(1). وفي صحيح الحلبي: "سألته عن الرجل والمرأة يصلى عليهما؟ قال: يكون الرجل بين يدي المرأة مما يلي القبلة، فيكون رأس المرأة عند وركي الرجل مما يلي يساره، ويكون رأسها أيضاً مما يلي يسار الإمام، ورأس الرجل مما يلي يمين الإمام"(2). ومقتضى صحيح الحلبي كون الأقرب للإمام عند ورك الأبعد. وبه يقيد الموثقان.

نعم هو لا يناسب ما سبق من استحباب كون الرجل أقرب للمصلي. ودعوى: أنه وارد في صورة جعل الجنائز صفاً واحداً شبه المدرج، وتلك واردة في صورة جعلها صفوفاً متحاذية. مدفوعة بأنه لا يظهر من نصوص تقريب الرجل للمصلي، ولا من فتوى الأصحاب بذلك، خصوص صورة المحاذاة، بل هي واردة لبيان حكم اجتماع موتى الرجال والنساء مطلقاً.

ومثلها دعوى: الاقتصار فيما تضمنه من تقريب المرأة للمصلي على مورده، وهو ما إذا اجتمع الرجل الواحد مع المرأة الواحدة، دون ما زاد على ذلك. لاندفاعها بأن المناسبات الارتكازية تقتضي إلغاء خصوصية المورد المذكور عرفاً. فتأمل. ومن ثم يشكل التعويل على صحيح الحلبي في ذلك.

ولعله لذا كان ظاهر التذكرة إهماله، حيث ذكر أن الأبعد يكون عند ورك الأقرب، المستلزم لكون كل منهم عند ورك الآخر مما يلي يمينه، لا كما تضمنه الصحيح من كونه مما يلي يساره. وكأنه حمل الموثقين على ذلك بضميمة ما تضمن استحباب كون الرجل أقرب، كما قد يشير إليه قوله (عليه السلام) في موثق سماعة:" ويقوم الإمام عند رأس الميت "،بحمل الميت فيه على الرجل. والأمر سهل بعد كون الحكم استحبابياً.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 8، 7.

ص: 327

(328)

(مسألة 53): يستحب في صلاة الميت الجماعة (1)

هذا والتدرج المذكور مستلزم لخروج بعض الموتى مع كثرتهم عن محاذاة المصلي، ولبعد الإمام عن الميت المحاذي له، لو تأخر عنهم جميعاً، وتقدمه على طرف الصف لو كان قريباً منه. لكن لا مجال لرفع اليد عن نصوصه لأجل ذلك، بل يتعين البناء على عدم البأس بذلك لأجلها.

ومن هنا لا يبعد البناء على لزوم تأخر المصلي عن جميعها وإن بعُد عن الميت المحاذي له، لأهمية التأخر ارتكازاً. فتأمل جيداً.

(1) قال في مفتاح الكرامة:" الإجماع على استحبابها مستفيض، بل كاد يكون متواتراً، كما يعلم ذلك من تتبع أحكام الصلاة على الجنازة جماعة".

أقول: أما شرعية الجماعة فيها فيشهد بها - بعد ظهور مفروغية الأصحاب عنها وسيرة المتشرعة المتصلة بعصور المعصومين (عليهم السلام) - سبر النصوص، مثل ما ورد في الصلاة على آدم(1) (عليه السلام)، وما ورد في الصلاة على سهل بن حنيف من طلب الناس الصلاة عليه فيصلي عليه أمير المؤمنين، حيث لا تصلح صلاته لإجابة طلبهم إلا أن يكون إماماً لهم(2) ، ونحوه ما تضمن طلب الناس من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعيد الصلاة على جنازة لم يدركوا الصلاة عليها(3) ، وما ورد في الصلاة على فاطمة بنت أسد(4) ، وعلى رسول الله(5) (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما تضمن الصلاة خلف أبي عبد الله(6) (عليه السلام)،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5، 6.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 13.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 9.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 328

وما ورد في تكبير الرجل قبل الإمام(1) ، وفي المسبوق ببعض التكبيرات(2) وفيما إذا انكشف أن الميت مقلوب بعد فراغ الإمام من الصلاة(3) وفيمن تفجأه الجنازة وهو على غير طهر من أنه يكبر معهم(4) ، وفي صلاة الحائض والجنب(5) ، وفي إمامة النساء في صلاة الجنازة(6) ، وما ورد من أن خير الصفوف في الجنائز المؤخر(7) ، وفي إجزاء صلاة المفرد(8) وفي تشريك الجنائز بصلاة واحدة(9).

وأما استحبابها فهو - مع قضاء مرتكزات المتشرعة به - مقتضى ما تضمن فضل الجماعة، لأن ذلك وإن ورد في الصلاة اليومية ونحوها، أو كان المتيقن منه ذلك، إلا أن المفهوم منه عرفاً قيام الفضيلة بخصوصية الجماعة من حيث هي. بل قد يستفاد ذلك مما تضمن أن أفضل المواضع في الصلاة على الميت المؤخر، حيث لا يبعد ظهوره في المفروغية عن فضيلة الجماعة، وأن الأمر الذي يحتاج للبيان التفاضل بين الصفوف. ولاسيما بلحاظ موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): خير الصفوف في الصلاة المقدم وخير الصفوف في الجنائز المؤخر..."(10). فإن المقابلة بين الجماعتين في الخصوصية المذكورة يناسب المفروغية عن اشتراكهما في الفضيلة... إلى غير ذلك مما قد يظهر بالتأمل.

بل نسب إلى غير واحد أنه لو امتنع الولي عن الإذن فيها سقط اعتبار إذنه. قال

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب صلاة الجنازة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب صلاة الجنازة.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب صلاة الجنازة.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب صلاة الجنازة.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب صلاة الجنازة.

(7) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب صلاة الجنازة.

(8) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28، 33 من أبواب صلاة الجنازة.

(9) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب صلاة الجنازة.

(10) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 329

في محكي الذكرى: "لإنطباق الناس على صلاة الجنازة جماعة من عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الآن، وهو يدل على شدة الاهتمام، فلا يزول هذا المهم بترك إذنه".

لكن المراد بذلك إن كان سقوط اعتبار إذنه لو لم يأذن إلا لمن ليس أهلاً للإمامة في الصلاة أو في وقت أو مكان أو حال لا تتسنى فيها الجماعة، فهو خلاف إطلاق أدلة الولاية، كمرسلي ابن أبي عمير والبزنطي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: يصلي على الجنازة أولى الناس بها أو يأمر من يحب" (1) وخبر إسحاق بن عمار عنه (عليه السلام): "قال: الزوج أحق بامرأته حتى يضعها في قبرها" (2) وغيرهما. ومجرد أهمية الجماعة لا يقتضى الخروج عن ذلك، بعد أن لم تكن واجبة.

قال في الجواهر: "واحتمال أن ولايته نظراً للميت، فمع عدم إذنه في الجماعة خيانة للميت ومناف لصلاحه، فلا يعتبر. ضعيف، بل مخالف لظاهر الأدلة" .ولم يتضح كون مبنى الولاية في المقام على مراعاة مصلحة الميت، بل لعله لتكريم الولي ومنع التشاح في تطبيق أحكام الميت.

وإن كان المراد سقوط اعتبار إذنه لو لم يأذن في الإئتمام بالمأذون له إذا كان أهلاً للإمامة أشكل بعدم وضوح عموم الولاية للائتمام حتى تسقط بالامتناع، بل المتيقن منها تقدم المصلي للصلاة فرادى أو إماماً، لأن ذلك هو المنصرف من أدلتها، كما هو مقتضى المقابلة بين صلاة الولي وصلاة من يأمره، مع وضوح غلبة مصاحبة صلاة المأموم لصلاة كل منهما. وهو المناسب للسيرة والمرتكزات جداً.

بل لا يبعد اختصاصها بالصلاة الأولى التي بها يسقط الفرض، دون المعادة على الميت أو على القبر - لو كانت مشروعة - بل هي ارتكازاً محض خير للمصلي والميت لا يرجع فيها للولي، كسائر الخير الذي يوصل به.

هذا وفي جامع المقاصد: "لا يخفى إذن الولي إنما يعتبر في الجماعة، لا في أصل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

ص: 330

(331)

ويعتبر في الإمام أن يكون جامعاً لشرائط الإمامة على الأحوط وجوباً إن لم يكن أقوى (1). بل الأحوط وجوباً اعتبار شرائط الجماعة من انتفاء

الصلاة، لوجوب ذلك على الكفاية، فكيف يناط برأي أحد من المكلفين. فلو صلوا فرادى بغير إذن أجزأ" .وهو كما ترى، لأن عدم إناطة أصل الصلاة برأي أحد المكلفين لا ينافي إناطة خصوصياتها في الجماعة والفرادى برأي الولي، كما هو مقتضى إطلاق أدلة الولاية. وجواز التقدم للصلاة فرادى من دون إذنه مناف للإطلاق المذكور. نعم إجزاؤها لو وقعت بقصد القربة غفلة عن الحرمة غير بعيد، كما هو الحال في جميع موارد مخالفة مقتضى الولاية، على ما تقدم الكلام فيه في فروع مباحث الولاية في المسألة الثانية من الفصل الثاني في الغسل.

هذا ولا إشكال في عدم شرطية الجماعة بل ادعى عليه الإجماع في التذكرة وكشف اللثام ومحكي نهاية الأحكام وغيرها. ويقتضيه إطلاق أدلة وجوبها بعد ثبوت شرعيتها فرادى. وهو صريح خبر اليسع بن عبد الله القمي: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن الرجل يصلي على جنازة وحده، قال: نعم. قلت: فاثنان يصليان عليها؟ قال: نعم، ولكن يقوم الآخر خلف الآخر، ولا يقوم بجنبه"(1) ، وما في خبر موسى بن يحيى من قول الإمام الكاظم (عليه السلام) ليحيى:" وصل عليّ أنت وأوليائي فرادى"(2). كما أنه ظاهر بعض نصوص تكرار الصلاة قبل الدفن أو بعده، وغير ذلك.

(1) كما صرح به في الشرايع والنافع والقواعد في إمامة الولي، وظاهر جملة من شروحها المفروغية عنه، بل في الرياض نفي وجدان الخلاف فيه، وفي المعتبر والذكرى وعن المنتهى أن عليه اتفاق علمائنا. واستدل بإطلاق أدلة اعتبارها في جواز الإقتداء.

وعن الذخيرة الإشكال فيه بعدم كونها صلاة حقيقة، فلا يعتبر فيها ما يعتبر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 33 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 331

في الصلاة. على أنه لو فرض إطلاق الصلاة عليها وكونها من أفرادها الحقيقية فلا يبعد انصراف إطلاقات أحكامها عنها، كما يناسبه المقابلة بينها وبين الصلاة في بعض النصوص، كموثق السكوني المتقدم المتضمن أن أفضل الصفوف المتأخر.

ومن ثم حكي عن السيد الطباطبائي (قدس سره) في منظومته عدم اعتبار عدالة الإمام وغيرها هنا. وعن كاشف الغطاء: "وفي اشتراط قيامه لو أمّ قائمين مع عجزه عن القيام، وطهارته بالماء لو أم متطهرين به، وعدم ارتفاع مقامه بما يعتد به على المأمومين وجهان، أقواهما العدم. أما الرقية والجذام ونحوه وسلامة اللسان من الآفة فلا مانع منها بلا شبهة".

لكن هذا إنما يتجه لو كان الاستدلال بإطلاق أدلة شروط الجماعة في الصلاة، وليس هو ظاهر جامع المقاصد، بل ظاهره الاستدلال بإطلاق أدلة اعتبارها في مطلق الإقتداء، إذ لا ريب بعد النظر في نصوص مشروعية الجماعة في صلاة الجنازة المشار إليها آنفاً كونها مبنية على الإقتداء، كالصلاة اليومية، ولذا تضمنت عناوين الإمام والمأموم ونحوهما مما يتفرع على الإقتداء، لا على مجرد الاجتماع والاشتراك في أداء العمل الواحد. ويستفاد الإطلاق المذكور من معتبر الفضل عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون: "لا يقتدى إلا بأهل الولاية" (1) ونحوه حديث الأعمش عن الصادق(2) (عليه السلام) وفي خبر أبي ذر: "قال إن إمامك شفيعك إلى الله عز وجل فلا تجعل شفيعك سفيهاً ولا فاسقاً"(3) ، بناءً على أنه رواية منه عن المعصوم (عليه السلام) لا قول له، وإلا أمكن أن يكون من الآداب التي يرشد إليها ويحث عليها بعد أن لم يكن له التشريع. وخبر الأصبغ قال:" سمعت علياً (عليه السلام) يقول: ستة لا يؤمون الناس منهم شارب النبيذ والخمر "(4) ونحوه خبره الآخر(5) وصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 10 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 11.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 11 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 6، 2، 11.

(5) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 14 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 6.

ص: 332

خمسة لا يؤمون الناس على كل حال. وعدّ منهم المجنون وولد الزنا"(1).

اللهم إلا أن يدعى انصراف الإطلاقات المذكورة للإقتداء في الصلاة المعروفة، لأنها مورد الغرض المهم من الجماعة. ولاسيما بملاحظة السياق في بعضها كقوله (عليه السلام) في خبر الأعمش المتقدم إليه الإشارة: "ولا صلاة خلف الفاجر، ولا يقتدى إلا بأهل الولاية" ومشابهة ألسنتها لما ورد في الصلاة وغير ذلك. على أنها غير عامة لجميع شروط الإمامة في الصلاة.

نعم قد يتمسك بالإطلاق المقامي لنصوص الجماعة في صلاة الميت، إذ حيث كانت الجماعة متقومة بالإعتبار المخترع للشارع، ومن دون أن تؤخذ من العرف، ولم يكن لها شرح من الشارع إلا في جماعة الصلاة اليومية ونحوها كان المفهوم عرفاً من أدلتها في المقام الرجوع في تشخيصها لما ورد من الشارع في تلك الصلاة. ولاسيما مع سوقها معها في بعض نصوص المقام في مساق واحد، مثل موثق السكوني المتقدم، وصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قلت المرأة تؤم النساء؟ قال: لا إلا على الميت..."(2).

على أنه يكفي في ذلك الأصل، لأن الجماعة لما كانت متقومة بالاعتبار، فهو مسبوق بالعدم ومقتضى الاستصحاب عدم تحققه في غير مورد الشروط المذكورة.

نعم قد لا يناسب ذلك السيرة، لما هو المعلوم من شيوع الجماعة في الصلاة على الميت في عصور المعصومين (عليهم السلام)، فلو كان البناء على التقيد بشروط الجماعة - خصوصاً شروط الإمام وعمدتها العدالة - لكثر التوقف عنها من الشيعة وظهر. ولكثر السؤال عن ذلك وعن فروعه، كما ورد في الصلاة اليومية، مع أن نصوصها لم تتضمن شيئاً من ذلك.

بل يظهر منها الجري على المعهود من الدخول في الجماعة من دون كلفة، كم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 14 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 25 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 1.

ص: 333

البعد والحائل، وأن لا يكون موقف الإمام أعلى من موقف المأمومين (1)،

يظهر بأدنى سبر لها كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" سألته عن الرجل تفجأه الجنازة وهو على غير طهر. قال: فليكبر معهم"(1) ، وحديث اليسع المتقدم، ونصوص صلاة الحائض الآمرة بأن تقف وحدها بارزة عن الصف(2) وغيرها. بل يصعب جداً حمل نصوص صلاة الولي أو أمره من يحب على ما إذا كان جامعاً للشرائط أو يصلي منفرداً. ومن هنا كان الظاهر عدم اعتبار العدالة في الإمام في هذه الصلاة. وكذا سائر الشروط مما كان مذهب العامة وسيرتهم على عدم اعتباره.

كما أن الظاهر عدم اعتبار الطهارة بالماء لو كان المأمومون متطهرين به، وإن قيل بشرطية ذلك في الإمامة في الفرائض، لأن المناسبات الارتكازية تقضي بأن شرطيتها فيها بلحاظ شرطيتها في الصلاة، لئلا تكون صلاة الإمام دون صلاة المأمومين فريضياً، ولا يجري ذلك في المقام حيث لا تعتبر الطهارة أصلاً، وإنما هي مستحبة فالمقام نظير صلاة الملتزم ببعض آداب الصلاة خلف من لا يلتزم بها. بل إطلاق أدلة عدم اعتبار الطهارة في صلاة الأموات من دون تنبيه إلى اعتبارها في صلاة الإمام حال طهارة المأمومين مع الغفلة عنه ظاهر في عدم اعتبارها أصلاً ولو كانت ترابية.

ومثلها عدم الآفة في النطق، لعدم تحمل الإمام عن المأموم شيئاً.

نعم لا يبعد عدم صحة إمامة الجالس للقائمين، لخروجها عن المتيقن من السيرة، فلا مخرج عن استصحاب عدم انعقاد الجماعة معها. فلاحظ والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) هذا وما قبله مقتضى الأصل المتقدم بعد عدم وضوح المخرج عنه من سيرة أو غيرها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 25 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 25 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 334

(335)

وغير ذلك (1).

(مسألة 54): إذا حضر شخص في أثناء صلاة الإمام كبّر مع الإمام (2)،

(1) لم يذكر في شروط الجماعة زائداً على الثلاثة المتقدمة عدا عدم تقدم المأموم على الإمام، بل الأحوط عدم مساواته له. والظاهر أن ذلك مقتضى السيرة بل هو مقتضى التعبير بالتقدم في جملة من النصوص، منها: نصوص الصلاة على آدم (عليه السلام) كصحيح عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام): "أنه قال: لما مات آدم (عليه السلام) فبلغ إلى الصلاة عليه فقال هبة الله لجبرئيل: تقدم يا رسول الله فصل على نبي الله. فقال جبرئيل: إن الله أمرنا بالسجود لأبيك، فلسنا نتقدم أبرار ولده، وأنت من أبرهم، فتقدم فكبر عليه خمساً..." (1) وغيره. وما ورد في الصلاة على النبي(2) (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما ورد في صلاة النساء من الأمر بأن تقوم أحداهن في الوسط، ولا تتقدم عليهن(3) لظهوره في ابتناء الإئتمام في الرجال على التقدم في الجملة، وصحيح اليسع المتقدم الأمر بالتقدم(4) فإن لم ينهض ذلك كله بإثبات الوجوب فلا أقل من كونه مقتضى الأصل المتقدم.

(2) لا إشكال في جواز دخوله في أثناء الصلاة، وفي الجواهر: "بلا خلاف فيه بيننا بل الإجماع بقسميه عليه" .بل ظاهر الخلاف إجماع المسلمين عليه، وأن الخلاف بينهم في فروع ذلك. ويقتضيه النصوص الكثيرة المتضمنة قضاء ما فاته من التكبير(5) الآتي بعضها.

هذا وقد صرح في الخلاف والتذكرة وغيرهما بأن له الدخول بين التكبيرتين في أثناء الدعاء، ولا ينتظر التكبير، بل في الخلاف الإجماع عليه. واستدل له في الجواهر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 13.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب صلاة الجنازة.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب الصلاة على الجنازة.

ص: 335

بإطلاق نصوص المسبوق. لكن غالب النصوص المذكورة واردة في بيان أصل القضاء أو كيفيته، لا في كيفية الدخول.

كما استدل بعض مشايخنا بصحيح العيص: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يدرك من الصلاة تكبيرة. قال: يتم ما بقي" (1) بدعوى: أنه من البعيد حمله على الدخول عند التكبيرة الخامسة، بل لابد من حمله على الدخول قبلها عند الدعاء.

ويشكل - مضافاً إلى أنه لا يختص بالصحيح المذكور، فقد تضمن صحيح الحلبي الآتي وخبر القلانسي(2) فرض إدراك تكبيرة أو تكبيرتين - بأن التعبير بإدراك التكبيرة ظاهر في الدخول حينها، فإن أمكن حمله على الأخيرة فهو وإن استبعد بلحاظ كونها ختام الصلاة فليحمل على الدخول في الرابعة، ولا يتضح الوجه في حملها على الدخول في أثناء الدعاء الأخير، ليكون كالنص في المطلوب.

نعم في خبر الدعائم عن جعفر بن محمد (عليهما السلام): "من سبق ببعض التكبيرات في صلاة الجنازة فليدخل معهم فليكبر، وليجعل ذلك أول صلاته" (3) ونحوه خبره الآخر عن علي(4) (عليه السلام) وإطلاقهما وافٍ بالمطلوب. إلا أن ضعف سندهما وعدم ظهور اعتماد الأصحاب عليهما مانع من الاستدلال بهما.

ومثله ما في كشف اللثام والجواهر من الاستدلال بإطلاق دليل الجماعة ولعله إليه يرجع ما في جامع المقاصد من الاستدلال بإطلاق الشرعية. لعدم وضوح الدليل المذكور، بعد أن لم يكن في غالب الصلوات التي تشرع فيها الجماعة إلا تكبيرة الإحرام وهي التكبيرة الأولى، التي لا إشكال في جواز الدخول بعدها ها هنا، وإنما الإشكال في موضع الدخول. نعم صلاة العيدين مشتملة على التكبيرات. إلا أن حمل صلاة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب الصلاة على الجنازة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب الصلاة على الجنازة حديث: 1، 5.

(3) دعائم الإسلام ج: 1 ص: 282.

(4) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 15 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 336

وجعله أول صلاته (1)، وتشهد الشهادتين بعده، وهكذا يكبر مع الإمام ويأتي بما هو وظيفة نفسه، فإذا فرغ الإمام أتى ببقية التكبيرات (2)

الميت عليها قياس. وكذا تنزيل التكبيرات هنا منزلة الركعات في الفرائض. فالعمدة في الدليل عليه السيرة. ولاسيما مع ما هو المعلوم من أن كثرة المصلين كثيراً ما تستلزم عدم دخول بعضهم في التكبيرة الأولى إلا بعد مضي زمان معتد به من تكبيرة الإمام الأولى، كما أشار إليه في التذكرة.

(1) كما تضمنه خبرا الدعائم المتقدمان وهو المستفاد من صحيح العيص المتقدم وصحيح الحلبي وحديث على بن جعفر الآتيتين المتضمنة إتمام وقضاء ما بقي. وحينئذ يتعين التشهد في الأولى والمحافظة على ترتيب الأدعية على الوجه السابق، بناءً على اعتبار الترتيب المذكور في صلاة الميت.

نعم في خبر زيد الشحام: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة على الجنائز إذا فات الرجل منها التكبير أو الثنتان أو الثلاث قال: يكبر ما فاته"(1) ، ونحوه خبر جابر(2) ومقتضاهما قضاء ما فات أولاً ومتابعة الإمام في الأخيرة. لكن ضعف سندهما مانع من رفع اليد بهما عن الصحيحين. ولاسيما مع إمكان الجمع بحملهما على قضاء الفائت من حيثية عدد التكبير، لا من حيثية الدعاء بين التكبيرات.

بل لعل ذلك هو المتعين في جميع النصوص، لأن الترتيب إنما هو بين الأدعية لا بين التكبيرات، ويكون الوجه في المحافظة على الترتيب بين الأدعية حينئذ هو إطلاق أدلته الشامل للمقام، لا نصوص المقام.

هذا وأما بناءً على عدم اعتبار الترتيب بين الأدعية - كما تقدم - فلا موضوع لاختلاف النصوص.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، بل في الخلاف والتذكرة ومحكي المعتبر

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3، 4.

ص: 337

وغيرها الإجماع عليه. ويقتضيه النصوص الكثيرة، كصحيح العيص المتقدم وصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):" أنه قال: إذا أدرك الرجل التكبيرة أو التكبيرتين من الصلاة على الميت فليقض ما بقي متتابعاً "(1) وغيرها. وعن الذكرى نسبة ذلك للأشهر.

وظاهره وجود قول بعدم إتمام التكبيرات، ولم يعرف القائل بذلك. نعم قد يشهد له موثق إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام):" أن علياً (عليه السلام) كان يقول: لا يقضى ما سبق من تكبير الجنازة"(2). لكنه - مع عدم صراحته فيما نحن فيه

لا يصلح لمعارضته النصوص الأول التي هي أكثر عدداً، وأصح سنداً ومشهورة بين الأصحاب معول عليها عندهم.

ولعله وارد للتقية، لموافقته لجماعة من العامة، وإن لم يصلح ذلك للترجيح، لاختلافهم، بل الأشهر بينهم القضاء، وذلك يقتضي ترجيح الموثق، لولا هجره في نفسه، وكون الترجيح بشهرة الرواية مقدماً على الترجيح بمخالفة العامة.

هذا ولا يبعد ظهور الأمر في النصوص المتقدمة بالإتمام في الإرشاد لبيان مشروعية إكمال الصلاة، وعدم مشروعية الصلاة الناقصة. ولا أقل من احتمال ذلك، بحيث لا ظهور لها في وجوب الإتمام تعبداً بعد سقوط الفرض الكفائي بفراغ الإمام، بل قبله لو كانت صلاته معادة. وإلا فمن البعيد جداً وجوب إكمال الصلاة بالشروع فيها تعبداً.

لكن في كشف اللثام بعد أن تعرض لعموم وجوب القضاء: "ولا يعارض العموم سقوط الصلاة بفعل السابقين، فإن المسبوق لما ابتدأ كانت صلاته واجبة، ووجوبها مستمر إلى آخرها، وإلا لم يجب إتمام ما بقي من التكبيرات" .وظاهره حمل نصوص المقام على وجوب الإكمال وقد يستفاد من غيره وهو ممنوع لما سبق.

وأشكل منه ما في التذكرة من الاستدلال على وجوب الإتمام بأنه دخل في فرض فوجب إكماله. إذ فيه - بعد تسليم عموم وجوب إتمام الفرض -: أن مقتضى

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 6.

ص: 338

بلا دعاء (1). وإن كان الدعاء أحوط.

كون فرض الصلاة على الميت كفائياً سقوطه عن الكل بفراغ الأسبق وحينئذٍ يحتاج وجوب الإتمام للدليل.

وأشكل من الكل ما في الجواهر من أنه وإن لم يجب الإتمام، لسقوط فرض الكفاية، إلا أن العمل لا يخرج عن كونه من أفراد الواجب التي بها امتثاله. فراجع.

(1) كما عن الصدوق والشيخ وجماعة كثيرة، ونسبه في محكي المعتبر للأصحاب. ويشهد له صحيح الحلبي المتقدم المتضمن للقضاء متتابعاً. وبه يرفع اليد عن إطلاق أدلة اعتبار الدعاء بين التكبيرات.

لكن قيده العلامة وجماعة ممن تأخر عنه بما إذا خاف الفوت برفع الجنازة أو تغير هيئتها المعتبرة، ونسبه في محكي البحار للأكثر. وكأنه لحمل الصحيح على الغالب، من خوف الفوت، والرجوع في غيره لإطلاق دليل اعتبار الدعاء بين التكبيرات. لكنه لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح الغلبة بالنحو الصالح لتقييد الإطلاق.

نعم قد يستدل له بصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام): "سألته عن الرجل يدرك تكبيرة أو تكبيرتين على ميت كيف يصنع؟ قال: يتم ما بقي من تكبيره، ويبادر رفعه، ويخفف"(1) ، بحمله على صورة إمكان الدعاء، وحمل صحيح الحلبي على صورة خوف الفوت. لكنه بلا شاهد.

وقد حمل بعضهم التخفيف على التتابع وترك الدعاء. وربما عكس الأمر، فحمل التتابع على تخفيف الدعاء. وكلاهما خلاف الظاهر.

والأولى حمل صحيح الحلبي على جواز التتابع، وحمل صحيح بن جعفر على استحباب الدعاء، مع التخفيف فيه إذا خيف رفع الجنازة. بل السكوت في بقية نصوص المقام عن التنبيه لترك الدعاء موجب ظهورها في مشروعيته، بنحو يناسب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 7.

ص: 339

(340)

(مسألة 55): لو صلى الصبي على الميت أجزأت صلاته إذا كانت صحيحة على الأقوى (1).

(مسألة 56): إذا كان الولي للميت امرأة جاز لها مباشرة الصلاة والإذن لغيرها، ذكراً كان أم أنثى (2).

حمل صحيح الحلبي على الجواز دون الوجوب.

(1) عملاً بالأصل. إذ بناء على ما هو الظاهر في حقيقة الوجوب الكفائي من أنه عبارة عن تكليف الكل بصرف الوجود للماهية الحاصل بفعل كل منهم، فاحتمال اعتبار كون المباشر للصلاة بالغاً راجع لاحتمال شرط زائد في المكلف به مدفوع بالأصل.

بل ربما يدفع بإطلاق ما تضمن الأمر بالصلاة على الميت، مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تدعوا أحداً من أمتي بلا صلاة" (1) وقوله (عليه السلام): "صل على من مات من أهل القبلة وحسابه على الله"(2) ، أو إطلاق ما تضمن شرح صلاة الميت، وأنها خمس تكبيرات(3) وغيرها. لكنه لا يخلو عن إشكال، لورود الأول في مقام العموم من حيثية الميت الذي يصلي عليه، والثاني لبيان أجزاء الصلاة دون شروطها. فتأمل. فالعمدة الأصل بالتقريب المتقدم.

نعم بناءً على أن حقيقة الوجوب الكفائي هو تكليف الكل بالعمل مع سقوط التكليف عنهم بفعل بعضهم، فالشك في المقام راجع للشك في سقوط تكليف البالغين بفعل الصبي، وهو خلاف الأصل، لكن التحقيق الأول كما ذكرناه في محله من الأصول.

(2) فقد صرح غير واحد بجواز صلاة المرأة، كما ذكروا جواز إمامة المرأة،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 37 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2، 5 من أبواب صلاة الجنازة.

ص: 340

(341)

(مسألة 57): لا يتحمل الإمام في صلاة الميت شيئاً عن المأموم (1).

وفي الجواهر:" بلا خلاف أجده فيه، بل في التحرير الإجماع عليه "ويقتضيه - مضافاً إلى ذلك - ما تقدم في صلاة الصبي. ولاسيما بعد دلالة النصوص على شرعية صلاة المرأة(1).

هذا وفي صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):" قلت: المرأة تؤم النساء؟ قال: لا إلا على الميت إذا لم يكن أحد أولى منها تقوم في وسطهن في الصف معهن، فتكبر ويكبرن"(2). وقد يظهر منه اعتبار كونها هي الولي. ولا يظهر منهم العمل به في ذلك.

على أنه إنما يدل على اعتبار ذلك في إمامتها، لا في أصل صلاتها. مع أن ما تضمنه الحديث من نفي إمامة المرأة للنساء في غير صلاة الميت لما كان محمولاً عندهم على الكراهة كان الشرط المذكور شرطاً لارتفاع الكراهة، لا لأصل المشروعية. نعم اعتبر في السرائر في صلاة المرأة عدم الرجال. وقد يستدل له بخبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: إذا لم يحضر الرجل الميت تقدمت امرأة وسطهن..."(3).

لكنه - مع ضعفه في نفسه، وظهور إعراض الأصحاب عنه، ومعارضته بصحيح زرارة المتقدم الظاهر في أن المدار على عدم وجود من هو أولى منها - غير صريح في المطلوب، بل هو ظاهر في شرطية إمامتها بذلك. على أنه لا يبعد وروده لبيان إمكان سدّ الحاجة بصلاتها مع عدم حضور الرجل، لدفع توهم عدم شرعية صلاتها مطلقاً، فاشتراط عدم حضور الرجل مسوق لتحقيق الموضوع وهو الحاجة، لا لشرطيته في شرعية صلاتها أو إمامتها، وإلا فمن البعيد جداً توقف صحة صلاتها على عدم حضور الرجل حتى لو أمكن إحضاره للصلاة. فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر، وإن لم يكثر النص عليه في كلماتهم، لأن التحمل يحتاج

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22، 25، 29، 39 من أبواب صلاة الجنازة.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 4.

ص: 341

(342)

(مسألة 58): قد ذكروا للصلاة على الميت آداباً (منها): أن يكون المصلي على طهارة (1). ويجوز التيمم مع وجدان الماء إذا خاف فوت الصلاة إن توضأ أو اغتسل (2).

للتنبيه عليه منهم، فعدمه ظاهر في مفروغيتهم عن عدمه. ومن ثم حكي عن بعضهم استظهار الإجماع عليه.

ويقتضيه إطلاق دليل اعتبار الأدعية بين التكبيرات بعد اختصاص دليل التحمل بالقراءة في الصلاة. مضافاً إلى ظهور ما ورد في الصلاة على المنافق في المفروغية عن قراءة المصلين خلف الإمام(1). وكذا صحيح علي بن جعفر المتقدم في المسبوق ببعض التكبيرات.

(1) إجماعاً كما في الخلاف والغنية وظاهر التذكرة. ففي معتبر عبد الحميد بن سعد:" قلت لأبي الحسن (عليه السلام): الجنازة يخرج بها ولست على وضوء، فإن ذهبت أتوضأ فاتتني الصلاة، أيجزيني أن أصلي عليها وأنا على غير وضوء؟ فقال: تكون على طهر أحب إليّ"(2). ويستفاد أيضاً مما تضمن الأمر بالتيمم له، حيث يستفاد منه أنه من أجل ترتب الطهارة عليه. بل ظاهره المفروغية عن استحباب الوضوء.

(2) الظاهر عدم الإشكال فيه، بل الظاهر الإجماع عليه. ويقتضيه إطلاق دليل البدلية، وخصوص صحيح الحلبي: "سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل تدركه الجنازة وهو على غير وضوء، فإن ذهب يتوضأ فاتته الصلاة قال: يتيمم ويصلي"(3). ولا يبعد كون المراد به فوت الصلاة الأولى، لأن المتعارف الاجتماع لها والاهتمام بها، لا فوت ما يعمّ المعادة، لغفلة المتشرعة عنها أو إغفالهم لها لو كانت مشروعة في نفسها. بل هو داخل في المتيقن من موثق سماعة الآتي، كما يأتي التنبيه له.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب صلاة الجنازة.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 6.

ص: 342

بل مطلقاً (1).

(1) ففي الجواهر:" على المشهور نقلاً وتحصيلاً، بل في الذكرى نسبته إلى الأصحاب، والتذكرة إلى علمائنا، وظاهره الإجماع، كما في المنتهى ذلك أيضاً، بل في الخلاف دعوى الإجماع صريحاً...".

واستدل له بإطلاق موثق سماعة:" سألته عن رجل مرت به جنازة وهو على غير وضوء كيف يصنع؟ قال: يضرب بيديه على حائط اللبن فليتيمم به"(1) ، وموثقه الآخر عن أبي عبد الله (عليه السلام): "عن المرأة الطامث إذا حضرت الجنازة. فقال: تتيمم وتصلي عليها، وتقوم وحدها بارزة عن الصف"(2). ومرسل حريز عنه (عليه السلام):" قال: الطامث تصلي على الجنازة، لأنه ليس فيها ركوع ولا سجود، والجنب يتيمم ويصلى على الجنازة"(3) ، فإن الطامث وإن كانت مستمرة الحدث، إلا أن الظاهر أن تشريع التيمم لها ليس تعبدياً محضاً، بل بلحاظ تخفيفه للحدث وإحداثه مرتبة من الطهارة، لارتكاز عموم مطهريته المستفاد مما تضمن أن التراب أحد الطهورين ونحوه، نظير تشريع الوضوء لها في أوقات الصلاة. وحينئذ يقرب جداً عدم خصوصيتها في ذلك، كما يناسبه الرضوي: "وإن كنت جنباً وتقدمت للصلاة عليها فتتيمم أو توضأ وصل عليه"(4).

خلافاً لما عن ظاهر المرتضى في الجمل والشيخ في جملة من كتبه وأبي علي وسلار والقاضي والراوندي والشهيد في الدروس والبيان، فاقتصروا على صورة خوف الفوت، ومال إليه في محكي المعتبر والمدارك.

وقد يوجه بانصراف موثق سماعة لصورة خوف الفوت، لظهور قوله:" كيف يصنع؟ "في التحير، ولا وجه له مع تيسر الوضوء. ودعوى: أن التحير من جهة الجهل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 6.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2، 5.

(4) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 20 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 343

(ومنها): رفع اليدين عند التكبير (1).

بالحكم، لا من جهة عدم تيسر الوضوء. ممنوعة، بل لا تناسب الجواب، إذ لو كان التحير من جهة الجهل بالحكم لكان المناسب الجواب بالتخيير بين الوضوء والتيمم.

نعم يكفي في التحير محاولة إدراك الصلاة الأولى جماعة، لشدة الاهتمام بها في الصدر الأول، وتعارف الاجتماع لها، فهو داخل في المتيقن من الموثق، فيكفي في مشروعية التيمم استلزام الوضوء فوتها، وإن تيسر معه تكرار الصلاة عليه. نظير ما تقدم في صحيح الحلبي.

وبذلك يظهر قرب انصراف موثق سماعة و مرسل حريز والرضوي، لصورة تعذر إدراك الصلاة الأولى بالطهارة المائية، لما هو الظاهر من صعوبة الغسل في حق من تحضره الجنازة بل حتى الوضوء في حق المرأة.

على أنه حيث لا إشكال في مشروعية الغسل فالاقتصار على التيمم في هذه النصوص كما يمكن أن يحمل على أنه أحد طرفي التخيير، يمكن أن يحمل على أنه البدل الاضطراري المتعين لتعذر الغسل، ولا طريق مع ذلك لإحراز مشروعية التيمم مع تيسر الطهارة المائية وإدراك الصلاة الأولى بها. ولاسيما مع ضعف مرسل حريز، وورود موثق سماعة في الطامث التي يتعذر في حقها الطهارة. بل غاية ما يمكن في حقها تخفيف الحدث. نعم لا بأس بالإتيان بالتيمم حينئذ برجاء المطلوبية.

(1) بلا إشكال في الأولى، وفي الجواهر:" إجماعاً محصلاً ومنقولاً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً، بل لعله إجماع أهل العلم، كما عن التذكرة والمنتهى وظاهر المعتبر. بل لا خلاف في النصوص كالفتاوى".

وأما في البواقي فهو المصرح به في كلام جماعة كثيرة، وعن كشف الالتباس أنه المشهور، وعن الروض أن عمل الطائفة عليه الآن.

ويقتضيه صحيح عبد الرحمن العزرمي:" صليت خلف أبي عبد الله (عليه السلام) على

ص: 344

جنازة، فكبر خمساً، برفع يديه في كل تكبيرة"(1). ونحوه خبر محمد بن خالد(2) ، ومعتبر يونس: "سألت الرضا (عليه السلام) قلت: جعلت فداك إن الناس يرفعون أيديهم في التكبير على الميت في التكبيرة الأولى، ولا يرفعون فيما بعد ذلك، فأقتصر على التكبيرة الأولى كما يفعلون، أو أرفع يدي في كل تكبيرة؟ فقال: ارفع يدك في كل تكبيرة"(3).

خلافاً لما عن جماعة فخصوا استحباب رفع اليدين بالأولى، بل عن المختلف أنه الأشهر، وفي الذكرى والروضة والمدارك نسبته للأكثر، وفي كشف اللثام والكفاية والحدائق أنه المشهور، بل عن الغنية ومحكي شرح الجمل الإجماع عليه.

ويشهد له حديث غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام):" عن على أنه كان لا يرفع يده في الجنازة إلا مرة واحدة يعني في التكبير "(4) وحديث إسماعيل عنه عن أبيه (عليه السلام):" قال: كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يرفع يده في أول التكبير على الجنازة، ثم لا يعود حتى ينصرف"(5).

وربما يجمع بين الطائفتين تارة: بحمل الأولى على مجرد الجواز، والأخيرة على نفي الاستحباب. وأخرى: بحمل الأخيرة على جواز الترك لدفع توهم الوجوب. ويشكل الأول بمخالفته لظاهر نصوص الطائفة الأولى، وخصوصاً معتبر يونس. والثاني بمخالفته لظاهر الطائفة الثانية لظهورهما في استمرار أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن هنا كان الظاهر استحكام التعارض بين الطائفتين.

ودعوى: سقوط الطائفة الأولى عن الحجية بإعراض قدماء الأصحاب، فإن المشهور بينهم الثاني، ونسبه في الذكرى لجمهور الأصحاب، وذكر أن الخروج عن جمهورهم بخبر الواحد فيه ما فيه.

ممنوعة، لعدم كفاية ذلك في الإعراض المسقط للحديث عن الحجية بعد حكاية مضمونها عن الصدوق الأول، والشيخ في جملة من كتبه، والمحقق. بل هو ظاهر

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 2، 3.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4، 5.

ص: 345

(ومنها): أن يرفع الإمام صوته بالتكبير والأدعية (1).

الكليني، حيث اقتصر على ذكر الطائفة الأولى. ولاسيما مع تسامحهم في المستحبات كثيراً.

بل الظاهر ترجيح الأولى بمخالفتها لمذهب أبي حنيفة ومالك والثوري، وإن خالفت مذهب الشافعي وأحمد وجماعة من التابعين فيما حكي عنهم جميعاً. لظهور خبر يونس في أن مذهب أبي حنيفة وجماعته هو الذي عليه عمل العامة.

ولاسيما مع كون مذهبه في ذلك متفرعاً على مذهبه في الصلاة اليومية، وقد ورد في بعض النصوص ما يدل على التقية فيها، ففي رسالة أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) المشهورة لأصحابه: "دعوا رفع أيديكم في الصلاة إلا مرة واحدة حين يفتتح الصلاة، فإن الناس قد شهروكم بذلك. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله"(1). بل من القريب أن يكون اقتصار أمير المؤمنين (عليه السلام) على رفع اليدين في التكبيرة الأولى - لو تم

لكون ذلك مقتضى سيرة من سبقه من أئمة الجور ولم يرَ (عليه السلام) صلاحاً في إعلان خلافهم.

(1) لم أعثر عاجلاً على نص يشهد به. بل ولا فتوى للأصحاب قبل الجواهر، فذكر استحباب الجهر في الجميع، لوجوه ضعيفة. بل صرح في التذكرة باستحباب الإسرار على الدعاء، ونحوه حكي عن المحقق. لأنه أقرب للقبول، لبعده عن الرياء. ويناسبه إطلاق ما تضمن استحباب الإسرار بالدعاء(2).

نعم قد يستدل على استحباب إسماع الإمام من خلفه بعموم ما دل على ذلك في الإمام، كصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: ينبغي للإمام أن يسمع من خلفه كل ما يقول، ولا ينبغي لم خلفه أن يسمعه شيئاً مما يقول"(3). وربما يدعى انصرافه إلى الصلاة ذات الركوع والسجود. لكنه لا يخلو عن إشكال، لقضاء مناسبة الحكم والموضوع بالعموم، لما هو المرتكز من كون ذلك من شؤون الإمامة، ومقتضى نظم الجماعة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 9 من أبواب تكبيرة الإحرام حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 22 من أبواب الدعاء.

(3) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 53 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 3.

ص: 346

(ومنها): اختيار المواضع التي يكثر فيها الاجتماع (1).

وأما الاستدلال بالإطلاق المقامي لأدلة الجماعة نظير ما تقدم في وجه اعتبار شروط الجماعة في المقام من المسألة الثالثة والخمسين. فلا يخلو عن إشكال. بل الظاهر اختصاص ذلك بما يعتبر في انعقاد الجماعة، لأن بيان أحكامها في المقام من دون بيان المعيار في تحققها ظاهر في الاتكال في بيانه على ما هو المعهود من الشارع بعد أن لم يكن له معيار عرفي، وإلا كان لاغياً، بخلاف أحكام الجماعة، حيث قد تختص ببعض مواردها، فلا ملزم بالبناء على عمومها لغير ما تضمنته أدلتها.

(1) لما هو المرتكز وتقتضيه بعض النصوص من اهتمام الشارع الأقدس بكثرة المصلين على الميت. ففي صحيح أبي ولاد وعبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: ينبغي لأولياء الميت منكم أن يؤذنوا إخوان الميت بموته، فيشهدون جنازته، ويصلون عليه، ويستغفرون له، فيكتسب لهم الأجر ويكتسب [ويكتب] للميت الاستغفار، ويكتسب هو الأجر فيهم، وفي ما اكتسب له من الاستغفار"(1). ولعله إليه يرجع ما ذكره غير واحد، ونسبه في الذكرى للأصحاب، من استحباب اختيار المواضع المعتادة للصلاة. وإلا فلا وجه له إلا ما في الجواهر من التبرك بها بسبب كثرة المصلين فيها. وهو كما ترى.

نعم صرح جماعة بكراهة الصلاة في المساجد، بل في الخلاف الإجماع عليه بعد استثناء مكة المكرمة. ويقتضيه خبر أبي بكر بن عيسى بن أحمد العلوي:" كنا في المسجد وقد جيء بجنازة، فأردت أن أصلي عليها، فجاء أبو الحسن الأول (عليه السلام) فوضع مرفقه في صدري فجعل يدفعني حتى أخرجني من المسجد، ثم قال: يا أبا بكر إن الجنائز ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 347

(ومنها): أن تكون الصلاة بالجماعة (1).

(ومنها): أن يقف المأموم خلف الإمام (2).

(ومنها): الاجتهاد في الدعاء للميت وللمؤمنين (3).

يصلى عليها في المسجد"(1).

ولابد من حمله على الكراهة، لظهور الإجماع على الجواز، كما هو ظاهر الخلاف، بل صرح به في محكي المنتهى، ولصحيح الفضل: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل يصلى على الميت في المسجد؟ قال: نعم" ونحوه معتبر محمد بن مسلم(2).

هذا وأما استثناء مكة فهو داخل في معقد إجماع الخلاف المتقدم، ونحوه إجماع مجمع البرهان، وظاهر ما في جامع المقاصد وعن الروض من نسبته للأصحاب. ولم يظهر وجهه عدا ما عن المنتهى من أن مكة كلها مسجد، فلو كرهت الصلاة في بعض مساجدها لزم التعميم فيها أجمع. وهو كما ترى!.

(1) كما تقدم في المسألة الثالثة والخمسين. وتقدم وجهه.

(2) ولو كان المأموم واحداً، بخلاف المكتوبة. كما نفى وجدان الخلاف فيه في الجواهر. لخبر اليسع بن عبد الله القمي: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلي على جنازة وحده؟ قال: نعم قلت: فاثنان يصليان عليها؟ قال: نعم، ولكن يقوم الآخر خلف الأخر، ولا يقوم بجنبه"(3). ولا إشكال ظاهراً في أن المراد به الإئتمام لا صلاتهما معاً منفردين أو ما يعم ذلك. كما أن الظاهر عدم الإشكال بينهم في حمله على الاستحباب، ولذا قلّ تنبيههم عليه.

(3) لقوله (عليه السلام) في صحيح الفضلاء:" وأحق الموتى أن يدعى له المؤمن"(4) ،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1 وذيله.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 348

(349)

(ومنها): أن يقول قبل الصلاة: الصلاة، ثلاث مرات (1).

(مسألة 59): أقل ما يجزئ من الصلاة أن يقول: الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم يقول: الله أكبر. اللهم صل على محمد وآل محمد، ثم يقول: الله أكبر. اللهم اغفر للمؤمنين. ثم يقول: الله أكبر. اللهم اغفر لهذا. ويشير إلى الميت. ثم يقول: الله أكبر (2).

بناءً على حمله على استحباب الإكثار من الدعاء له، كما سبق عند الكلام في وجوب الدعاء للميت في الصلاة عليه. مضافاً إلى ما تضمن استحباب الدعاء للمؤمن(1) ، الظاهر في العموم الشمولي لا البدلي.

(1) كما في العروة الوثقى. ولم أعثر عاجلاً على من تعرض له، ولا على نص به في المقام عدا ما ورد في صلاة العيدين(2). ووهن الاستدلال به هنا ظاهر.

(2) مما تقدم في المسألة السادسة والأربعين يظهر عدم وجوب ذلك، بل ولا ما كان بهيئته. فراجع. والله سبحانه وتعالى العالم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 41، 42، 43 من أبواب الدعاء من كتاب الصلاة.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 7 من أبواب صلاة العيدين حديث: 1.

ص: 349

ص: 350

(351)

(351)

الفصل الثامن: في التشييع (1)

يستحب إعلام المؤمنين (2)

(1) قال في لسان العرب: "وشيعه وشايعه كلاهما: خرج معه عند رحيله ليودعه ويبلغه منزله. وقيل: هو أن يخرج معه يريد صحبته وإيناسه إلى موضع ما" .ومقتضى ذلك كون المتيقن من التشييع الخروج مع الميت لإيصاله إلى قبره الذي هو منزله بعد الموت، فلا يشمل الخروج معه لغير ذلك، كنقله من محل موته للمغتسل، أو لموضع الصلاة عليه من دون أن ينتهي به إلى قبره.

لكن الظاهر عموم الأحكام الآتية لجميع ذلك. ولاسيما وأن النصوص لم تقتصر على عنوان التشييع، بل تضمنت أيضاً إتباع الجنازة والخروج معها والمشي معها، ونحو ذلك مما يصدق على الجميع. مضافاً إلى صريح بعض النصوص كمعتبر أبي بصير: "سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من مشى مع جنازة حتى يصلي عليها ثم رجع كان له قيراط من الأجر، فإذا مشي معها حتى تدفن كان له قيراطان..." (1) ونحوه غيره.

(2) قال في الجواهر: "بلا خلاف أجده في استحباب ذلك سوى ما عن الجعفي من أنه يكره النعي. إلا أن يرسل صاحب المصيبة إلى من يختص به. ولعله غير ما نحن فيه. وإلا كان محجوجاً بالإجماع عن الخلاف عليه. مضافاً إلى النصوص...".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3.

ص: 351

بموت المؤمن (1)، فيشيعوه. ويستحب لهم تشييعه (2). وقد ورد في

ويقتضيه صحيح أبي ولاد وعبد الله بن سنان(1) المتقدم قريباً في آداب الصلاة على الميت. مضافاً إلى ما فيه من تكريم الميت وسرور أهله. بل قد يكون فيه ترويج للدين وإعزاز له. قد يستدل له - مع ذلك - بصحيح ذريح المحاربي: "سألته عن الجنازة يؤذن بها الناس؟ قال: نعم"(2). لكنه لا يخلو عن إشكال، لاحتمال كون منشأ السؤال احتمال مرجوحية الإعلام أو حرمته لمنافاته للتعجيل أو لغير ذلك، فلا يدل الجواب على أكثر من الجواز. ولأجله قد يشكل أيضاً الاستدلال بمرسل القاسم عنه (عليه السلام):" قال: إن الجنازة يؤذن بها الناس"(3) ، حيث يحتمل سوق الجملة الخبرية لبيان الجواز بعد احتمال توهم المنع. فتأمل.

(1) أما غيره فلا دليل على استحباب الإعلام بموته بعد قصور ما سبق عنه.

(2) وفي الجواهر: "استحبابه إجماعي إن لم يكن ضرورياً. والأخبار به مستفيضة إن لم تكن متواترة" .وموضوع بعض النصوص وإن كان هو المسلم، بل مطلق الجنازة، إلا أن ارتكاز كون التشييع لتكريم الميت يقضي بانصرافه لخصوص المؤمن.

نعم ورد في جملة من النصوص الأمر بحسن معاشرة العامة في جملة من الأمور، منها حضور الجنائز. ففي صحيح معاوية بن وهب: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟ فقال: تؤدون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم وتعودون مرضاهم وتشهدون جنائزهم"(4) ، ونحوه غيره من النصوص الكثيرة.

لكن ذلك بملاك آخر غير الملاك المتقدم. ولعله يختص بمن تقتضي الظروف مخالطته و معاشرته من فرق المسلمين، بل مطلق الناس، ولا يعم جميع أهل الخلاف،

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 3، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 1 من أبواب أحكام العشرة حديث: 1.

ص: 352

(353)

فضله أخبار كثيرة. ففي بعضها:" من تبع جنازة أعطي يوم القيامة أربع شفاعات، ولم يقل شيئاً إلا وقال الملك: ولك مثل ذلك"(*). وفي بعضها: أن أول ما يتحف المؤمن في قبره أن يغفر لمن تبع جنازته(**). وله آداب كثيرة مذكورة في الكتب المبسوطة. مثل أن يكون المشيع ماشياً (1)

فضلاً عن غير المسلمين. على أنه إنما يقتضي استحباب التشييع لا استحباب الإعلام بالموت.

(1) كما صرح به غير واحد. ويقتضيه - مضافاً إلى ما هو المعلوم من أن أفضل الأعمال أحمزها - النصوص، فإنه وإن كان التعبير في جملة منها بتشييع الجنازة، أو بتبعيتها أو الخروج فيها، إلا أن جملة منها قد تضمنت المشي، كمعتبر أبي بصير: "سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من مشى مع جنازة حتى يصلي عليها ثم رجع كان له قيراط من الأجر، فإذا مشى معها حتى تدفن كان له قيراطان. والقيراط مثل جبل أحد" (1) وقوله (عليه السلام) في معتبر زرارة: "إنما هو فضل فبقدر ما يمشي مع الجنازة الذي يتبعها"(2). ومقتضى الجمع العرفي حمل الثانية على الفضل، فإنه أولى عرفاً من إلغاء خصوصية المشي فيها عملاً بإطلاق الأولى. ولاسيما بملاحظة ارتكاز أن أفضل الأعمال أحمزها.

بل الظاهر كراهة الركوب من غير عذر، كما صرح به في النهاية والمعتبر والتذكرة والدروس وغيرها وعن المنتهى أنه قول العلماء كافة. لصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: مات رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمشي، فقال له بعض أصحابه: ألا تركب يا رسول الله؟ فقال: إني أكره أن أركب والملائكة يمشون"(3) ، ومرسل بن أبي عمير

********

(*) ،

(**) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1، 4.

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

ص: 353

خلف الجنازة (1)

عنه (عليه السلام): "قال: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوماً خلف جنازة ركباناً فقال: ما استحيى هؤلاء أن يتبعوا صاحبهم ركباناً وقد أسلموه على هذه الحال؟!"(1) ، وحديث غياث بن إبراهيم عنه (عليه السلام) عن أبيه عن علي (عليه السلام):" أنه كره الركوب مع الجنازة في بدائه إلا من عذر. وقال: يركب إذا رجع"(2). ومنه يظهر ارتفاع الكراهة بالعذر، كما صرح به جماعة، وفي التذكرة وعن نهاية الأحكام الإجماع عليه.

(1) كما في المقنع والخلاف، وفي الثاني أن عليه إجماع الفرقة وأخبارهم. ويشهد به صحيح إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: المشي خلف الجنازة أفضل من المشي بين يديها"(3) ، وموثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام:" قال سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: اتبعوا الجنازة، ولا تتبعكم. خالفوا أهل الكتاب "(4) ونحوه معتبر الجعفريات(5) وخبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: مشى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلف جنازة، فقيل: يا رسول الله مالك تمشي خلفها؟ فقال: إن الملائكة رأيتهم يمشون أمامها، ونحن تبع لهم"(6). وفي مرسل الصدوق في المقنع: "روي اتبعوا الجنازة ولا تتبعكم، فإنه من عمل المجوس" (7) وغيرها.

لكن صرح غير واحد بإلحاق المشي بجانبي الجنازة في الفضل بالمشي خلفها، فخيروا بينهما في مقابل المشي أمامها، من دون تنبيه لأفضلية الأول، وفي المعتبر والتذكرة وجامع المقاصد دعوى إجماع علمائنا عليه. ولا يبعد رجوع الإجماع في كلمات الكل لمرجوحية التقدم. وأن إهمالهم التنبيه لرجحان التأخر على المشي من الجانبين ليس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4.

(5و6) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 4 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5، 2.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 6.

ص: 354

لخلافهم فيه، بل لاهتمامهم ببيان مرجوحية التقدم.

نعم في خبر سدير عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: من أحب أن يمشي مشي الكرام الكاتبين فليمش جنبي السرير" (1) وتعرض في الرضوي لمضمونه(2). ومقتضاه أفضلية الجنبين من الخلف. لكنه لا يناسب خبر جابر. وربما يجمع بينهما بحمل خبر سدير على مجرد بيان كيفية مشي الملائكة، وخبر جابر على أفضلية التأخر عنهم تأسياً بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فتأمل.

هذا ومما سبق في موثق السكوني وغيره. يظهر كراهة التقدم، كما صرح به غير واحد، وعن الذكرى نسبته لكثير من الأصحاب. بل قد يستفاد من محكي المنتهى دخوله في معقد الإجماع، وإن لم يخل عن إشكال.

لكن صرح في المعتبر ومحكي الذكرى بعدم الكراهة، وهو ظاهر النهاية والمبسوط وعن موضع من المنتهى. وكأنه لموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سأل كيف أصنع إذا خرجت مع الجنازة؟ أمشي أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو عن شمالها؟ فقال: إن كان مخالفاً فلا تمش أمامه، فإن ملائكة العذاب يستقبلونه بألوان العذاب"(3) ، ونحوه موثق أبي بصير(4) ، وخبر يونس بن ظبيان(5) ، وخبر أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام):" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا لقيت جنازة مشرك فلا تستقبلها، خذ عن يمينها وعن شمالها "(6) وفي مرسل الصدوق في المقنع:" وروي إذا كان الميت مؤمناً فلا بأس أن يمشي قدام جنازته، فإن الرحمة تستقبله، والكافر لا تتقدم أمام جنازته، فإن ملائكة العذاب تستقبله"(7). لظهورها في اختصاص الكراهة بغير المؤمن.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 4 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3، 5.

(5و6و7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4، 8، 7.

ص: 355

خاشعاً متفكراً (1)،

وفيه: أن اختصاص الكراهة بالملاك المذكورة في هذه النصوص بغير المؤمن لا ينافي ثبوتها في المؤمن بملاك آخر أخف، كما يستفاد من النصوص السابقة.

هذا وفي كشف اللثام: "وقال أبو علي: يمشي صاحب الجنازة بين يديها والقاضون حقه وراءها. ولعله لما في خبر الحسين بن عثمان أن الصادق (عليه السلام) تقدم سرير ابنه إسماعيل بلا حذاء ولا رداء" .ومقتضاه استحباب التقدم لصاحب الجنازة. لكن الخبر المذكور(1) لا ينهض بتقييد ما تقدم بعد كون مضمونه قضية في واقعة.

وبذلك يخرج عن ظاهر التخيير في بعض النصوص، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "سألته عن المشي مع الجنازة. فقال: بين يديها وعن يمينها وعن شمالها وخلفها" (2) وقريب منه صحيحه الآخر(3) فيحمل على مجرد الترخيص، أوعلى التقية.

(1) كما صرح به بعضهم ويقتضيه عموم استحبابها ومناسبتهما لأمثال المقام من موارد التذكرة والاعتبار. وفي صحيح عجلان أبي صالح: "قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا صالح إذا حملت جنازة فكن كأنك أنت المحمول، وكأنك سألت ربك الرجوع إلى الدنيا ففعل، فانظر ماذا تستأنف. قال: ثم قال: عجب لقوم حبس أولهم عن آخرهم، ثم نودي فيهم الرحيل وهم يلعبون"(4). وفي خبر حديث أبي ذر:" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا ذر اخفض صوتك عند الجنائز وعند القتال وعند القرآن. يا أبا ذر إذا اتبعت جنازة فليكن عملك فيها التفكر والخشوع. واعلم أنك لاحق به"(5). وعن دعوات القطب الراوندي قال: "وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا تبع جنازة غلبته

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب الاحتضار وما يناسبه حديث: 7.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 59 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(5) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 50 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

ص: 356

حاملاً للجنازة (1)

كآبة، وأكثر حديث النفس، وأقل الكلام"(1).

(1) فقد تظافرت النصوص بالحث على حمل الجنازة، ولاسيما تربيعها وذلك بحملها من جوانبها الأربع، كخبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: السنة أن يحمل السرير من جوانبه الأربع، وما كان بعد ذلك من حمل فهو تطوع"(2) ، وفي حديث صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: من أخذ بقائمة السرير غفر الله له خمساً وعشرين كبيرة، فإذا ربّع خرج من الذنوب" (3) وغيرهما.

هذا ومقتضى إطلاق التربيع فيما تقدم غيره استحبابه بأي وجه كان، وهو صريح صحيح الحسين بن سعيد: "أنه كتب إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) يسأله عن سرير الميت يحمل، له جانب يبدأ به في الحمل من جوانبه الأربعة، أو ما خفّ على الرجل يحمل من أي الجوانب شاء؟ فكتب أيها شاء"(4).

غاية الأمر أنه صرح الأصحاب - تبعاً للنصوص - بأن الأفضل فيه كيفية خاصة، تبتني على البدء بالجانب من المقدم، ثم الانتقال منه للمؤخر من ذلك الجانب ثم للمؤخر من الجانب الثاني، والختم بالمقدم من الجانب المذكور، بنحو الاستدارة، لا بنحو الانتقال من المقدم للمؤخر ثم للمقدم من الجانب الثاني ثم للمؤخر. نعم اضطربت كلماتهم في تعيين المبدأ، وأنه يمين الميت أو يساره. ولعل منشأه اضطراب النصوص.

ولا يبعد كون مقتضى الجمع بينها البدء بيمين الميت، كما هو صريح خبر الفضل بن يونس عن أبي إبراهيم (عليه السلام) حيث قال (عليه السلام) فيه:" فإن تربيع الجنازة الذي جرت به السنة أن تبدأ باليد اليمنى، ثم بالرجل اليمنى، ثم بالرجل اليسرى، ثم باليد

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 50 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2، 8.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

ص: 357

اليسرى حتى تدور حولها"(1). وقريب منه معتبر علي بن يقطين عنه (عليه السلام): "قال: سمعته يقول: السنة في حمل الجنازة أن تستقبل جانب السرير بشقك الأيمن، فتلزم الأيسر بكفك الأيمن، ثم تمر عليه إلى الجانب الآخر، وتدور من خلفه إلى الجانب الثالث من السرير، ثم تمر إلى الجانب الرابع مما يلي يسارك"(2).

فإن البدء بلزوم السرير بالكف الأيمن ملزم بحمل جانب السرير الأيسر على جانبه المسامت ليسار من يمشي خلفه، والذي يكون عليه يمين الميت، فيطابق خبر الفضل. وأما حمله على جانب الميت الأيسر بحمل لزوم المشيع له بكفه الأيمن على كون المشيع تحت السرير، لا في جانبه فهو من أبعد البعيد، لعدم تعارفه ولا تيسره غالباً بل هو لا يناسب التعبير بالدوران. وقريب منه خبر الدعائم(3). ومن ثم كانا كالنص فيما يطابق خبر الفضل. ومن هنا لا يهم ضعف خبري الفضل والدعائم بعد اعتبار حديث علي بن يقطين.

وحينئذ يمكن تنزيل بقية النصوص عليها. ففي معتبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: السنة أن تستقبل الجنازة من جانبها الأيمن، وهو مما يلي يسارك، ثم تصير إلى المؤخرة، وتدور عليه حتى ترجع إلى مقدمه"(4) ، فيحمل جانبها الأيمن على يمين الميت، بتنزيل قوله (عليه السلام): "وهو مما يلي يسارك" على كونه مما يلي اليسار حين استقبال الجنازة، لا حين حملها، ليطابق الحديثين المتقدمين. أما لو حمل على كونه مما يلي اليسار حين حمل الجنازة فلابد من حمل يمين الجنازة على يمين السرير المسامت ليمين من يمشي خلفه، والذي يكون عليه يسار الميت، فيخالف النصوص المتقدمة.

وفي معتبر العلاء بن سيابة عنه (عليه السلام): "قال: تبدأ في حمل السرير من الجانب الأيمن ثم تمر عليه من خلفه إلى الجانب الآخر، ثم تمر عليه حتى ترجع إلى المقدم

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3، 4.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 8 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

(4) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 8 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

ص: 358

(359)

على الكتف (1). قائلاً حين الحمل: بسم الله وبالله، وصلى الله على محمد وآل محمد اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات (2). ويكره الضحك (3)، واللعب،

كذلك دوران الرحى عليه"(1). فيحمل جانب السرير الأيمن على موضع يمين الميت، فيطابق الأحاديث المتقدمة. أما لو حمل على ما يسامت يمين الماشي خلف السرير والذي عليه يسار الميت - نظير ما تقدم في معتبر علي بن يقطين - فيخالف الأحاديث السابقة.

وبذلك ظهر أن النصوص بين ما هو نص أو كالنص في البدء بيمين الميت، وما يمكن تنزيله على ذلك، فيتعين العمل عليه.

(1) لم أعثر عاجلاً على ما يشهد به من النصوص، بل سبق في معتبر علي بن يقطين قوله (عليه السلام):" فتلزم الأيسر بكفك الأيمن... "،من دون أن يشير إلى وضع الجنازة على الكتف. لكن ذكر بعضهم في بيان كيفية التربيع حمل الجنازة على العاتق. وقال في العروة الوثقى في آداب التشييع:" أن يحملوها على أكتافهم، لا على الحيوان".

ولا ينبغي التأمل في استحباب مباشرة حمل الجنازة وعدم الاكتفاء بحملها على الحيوان. كما لا يبعد بملاحظة النصوص والسيرة استحباب حمل المشيع للجنازة بنحو تعلوا عليه عرفاً، سواء كان بوضعها على الكتف أو العاتق، أم برفعها بالكف إلى أعلى. ولا يكفي رفع الجنازة باليد مع إسبالها إلى الأسفل، بحيث تكون الجنازة محاذية لإلية حاملها.

(2) ففي موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته عن الجنازة إذا حملت كيف يقول الذي يحملها؟ قال: يقول: بسم الله... "،وذكر الدعاء(2).

(3) لعدم مناسبته للمقام من موارد التذكرة والاعتبار. وفي نهج البلاغة عن

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 8 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4.

ص: 359

واللهو (1)، والإسراع في المشي (2).

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أمير المؤمنين (عليه السلام):" وتبع جنازة فسمع رجلاً يضحك فقال: كأن الموت فيها على غيرنا كتب..."(1).

(1) لعدم مناسبتهما للمقام أيضاً. وقد تقدم عند الكلام في استحباب كون حامل الجنازة خاشعاً متفكراً قوله (عليه السلام) في صحيح عجلان: "عجب لقوم حبس أولهم عن آخرهم ثم نودي فيهم الرحيل وهم يلعبون".

(2) كما صرح به غير واحد. واستدل عليه في الخلاف بإجماع الفرقة وعملهم. ويقتضيه - مضافاً إلى أنه أقرب لاحترام الميت - ما في خبر مجالس الشيخ (قدس سره) بسنده عن أبي بردة بن أبي موسى قال: "مروا بجنازة تمخض كما يمخض الزق، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عليكم بالسكينة، عليكم بالقصد في المشي بجنازتكم"(2). وذكر بعضه في الوسائل(3).

وفي الجواهر:" وعن الجعفي أن السعي بها أفضل، وعن ابن الجنيد يمشي بها خبياً. قيل: والسعي العدو، والخبب ضرب منه. وهما موافقان للمحكي عن العامة. وربما يشهد له ما عن الصدوق روايته عن الصادق (عليه السلام): إن الميت إذا كان من أهل الجنة نادى: عجلوني، وإذا كان من أهل النار نادى: ردوني"(4).

ولعل الأولى الاستدلال له بما تضمن الحث على تعجيل الميت إلى قبره، كخبر جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معشر الناس لا ألقين [ألفين] رجلاً مات له ميت ليلاً فانتظر به الصبح، ولا رجلاً مات له ميت نهاراً فانتظر

********

(1) نهج البلاغة باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) رقم: 122. ومستدرك الوسائل ج: 2 باب: 53 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 54 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 64 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(4) من لا يحضره الفقيه ج: 1 ص: 123 طبع النجف الأشرف.

ص: 360

وأن يقول: أرفقوا به واستغفروا له (1)، والركوب، والمشي قدام الجنازة (2)، والكلام بغير ذكر الله تعالى والدعاء والاستغفار (3). ويكره

به الليل. لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس ولا غروبها، عجلوا بهم إلى مضاجعهم يرحمكم الله"(1) ، وغيره.

لكن لا يبعد انصراف التعجيل إلى ما يقابل الانتظار والتراخي، لا بنحو يقتضي الإسراع بالجنازة حين حملها، خصوصاً إذا كان بالنحو المنافي لتوقير الميت واحترامه.

(1) ففي موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام):" قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاثة ما أدري أيهم أعظم جرماً: الذي يمشي مع الجنازة بغير رداء، أو الذي يقول: قفوا، أو الذي يقول: استغفروا له غفر الله لكم "(2) كذا رواه في التهذيب. ورواه الصدوق في الخصال هكذا:" أو الذي يقول: أرفقوا به، أو الذي يقول: استغفروا... "وفي خبر عبد الله بن الفضل الهاشمي عنه (عليه السلام):" ثلاثة لا أدري أيهم أعظم جرماً: الذي يمشي خلف جنازة في مصيبة غيره بغير رداء، والذي يضرب على فخذه عند المصيبة، والذي يقول: أرفقوا وترحموا عليه يرحمكم الله"(3). ولعل كراهة الأمر بالاستغفار والترحم بلحاظ إشعاره بكون الميت مذنباً، أو بلحاظ كون الإعلان بذلك نحواً من الضجيج المنافي للوجوم والخشوع المناسبين للمقام. فلا ينافي رجحان الاستغفار له والترحم عليه بنحو الإسرار في جملة ما يستحب من الذكر، كما يأتي.

(2) يظهر الوجه فيهما مما تقدم في استحباب المشي خلف الجنازة.

(3) كأنه لمناسبته للمقام، ولما سبق عند الكلام في استحباب كون حامل الجنازة خاشعاً متفكراً، ولما تضمن نهي الماشي مع الجنازة عن التسليم، ففي مرفوع محمد بن الحسين: "كان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول: ثلاثة لا يسلمون: الماشي مع الجنازة، والماشي

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 47 من أبواب الاحتضار وما يناسبه حديث: 1، 2، 3.

ص: 361

وضع الرداء (1) من غير صاحب المصيبة، فإنه يستحب له ذلك (2)،

إلى الجمعة وفي بيت حمام"(1).

(1) كما ذكره غير واحد. لحديثي السكوني وعبد الله بن الفضل الهاشمي المتقدمين، ومرسل الصدوق: "قال (عليه السلام): ملعون ملعون من وضع رداءه في مصيبة غيره" (2) وغيرها(3).

وأما ما تضمن وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رداءه في جنازة سعد بن معاذ، وتعليله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك بأنه تأسى بالملائكة(4). فهو حكاية عن قصة خاصة ذات علة خاصة لا مجال للتعدي عنها. وما في الجواهر من أنه قد يستفاد منه استحباب نزعه في جنازة الأعاظم من الأولياء والعلماء. تخرص ولا شاهد له، بل لا يناسبه التعليل المذكور.

(2) كما صرحوا بذلك في الجملة. ويقتضيه معتبر أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): "قال: ينبغي لصاحب الجنازة أن لا يلبس رداءً، وأن يكون في قميص حتى يعرف"(5). وقريب منه مرسل ابن أبي عمير(6). وصحيح الحسين بن عثمان، قال:" لما مات إسماعيل ابن أبي عبد الله (عليه السلام) خرج أبو عبد الله (عليه السلام)، فتقدم السرير بلا حذاء ولا رداء "(7) ونحوه مرسل الفقيه(8) ، بل لعله عينه.

هذا وفي المبسوط:" يجوز لصاحب الميت أن يتميز عن غيره بإرسال طرف العمامة أو أخذ مئزر فوقها "ونحوه عن ابن الجنيد. وعن أبي الصلاح أنه يتخلى ويحل أزراره. وكأنه لأن مقتضى تعليل وضع الرداء في الحديثين السابقين بأن يعرف أنه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 42 من أبواب أحكام العشرة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب الاحتضار وما يناسبه حديث: 2.

(3) راجع مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 19 من أبواب الاحتضار وما يناسبه.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب الاحتضار وما يناسبه حديث: 4، 1.

(6و7و8) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب الاحتضار وما يناسبه حديث: 8، 7، 3.

ص: 362

وأن يمشي حافياً (1).

صاحب المصيبة كون المدار على تميز صاحب المصيبة بما يعرف الناس به ولو بأمر غير وضع الرداء. أما لو أرادوا خصوصية الأمور التي ذكروها فلا مجال لذلك بعد عدم الدليل عليها.

ومثله ما في المبسوط وعن ابن الجنيد من اختصاص ذلك بما إذا كان الميت أباً وأخاً، وما عن أبي الصلاح من اختصاصه بما إذا كان أباً أو جداً. حيث لا شاهد على ذلك، بل صريح ما تقدم عن الإمام الصادق (عليه السلام) جريان ذلك في الولد. ومقتضى إطلاق النصوص الرجوع في تحديد صاحب المصيبة للعرف.

(1) فقد ذكر في الجواهر أنه يستفاد من النصوص استحباب الحفاء لصاحب المصيبة. وكأنه لما تقدم من خروج الإمام الصادق (عليه السلام) في جنازة ولده إسماعيل بلا حذاء. لكنه قضية في واقعة لا مجال لاستفادة الاستحباب - فضلاً عن عمومه - منها.

ص: 363

ص: 364

(365)

(365)

الفصل التاسع: في الدفن

تجب كفاية مواراة الميت في الأرض (1) بحيث يؤمن على جسده

(1) وهو المراد بالدفن الذي لا إشكال في وجوبه قال في الجواهر:" إجماعاً منّا بل من المسلمين إن لم يكن ضرورياً، كما حكاه جماعة منهم الفاضلان ".ويقتضيه - مضافاً إلى ذلك، والى السيرة المعلوم ابتناؤها على الوجوب - النصوص.

منها: ما تضمن دفن ما يسقط من الميت من شعر وغيره(1) ، وما تضمن دفن السقط(2). ومنها: ما ورد في دفن الميت العاري(3). ومنها: ما ورد فيما إذا وجد بعض الميت(4). ومنها: ما ورد فيما إذا مات المسلم في بئر محرج، من أنها تجعل قبراً، وإن أمكن إخراجه غسل ودفن(5).

ومنها: خبر مرة في حديث قال:" لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمعنا صوتاً في البيت إن نبيكم طاهر مطهر، فادفنوه ولا تغسلوه. قال: فرأيت علياً (عليه السلام) رفع رأسه فزعاً، فقال: اخسأ عدو الله، فإنه أمرني بغسله وكفنه ودفنه. وذا سنة... "(6) وظاهر

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب غسل الميت.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب غسل الميت.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 36 من أبواب صلاة الجنازة.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب الدفن وما يناسبه.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 365

من السباع وإيذاء رائحته للناس (1) ولا يكفي وضعه في بناء أو -

الأمر المذكور الوجوب ولا ينافيه قوله:" وذا سنة "،لأن المراد به ما سنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان واحداً.

ومنها: معتبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام):" قال: إنما أمر بدفن الميت لئلا يظهر الناس على فساد جسده وقبح منظره وتغير رائحته، ولا يتأذى الأحياء بريحه وما يدخل عليه من الآفة والفساد، وليكون مستوراً عن الأولياء، والأعداء فلا يشمت عدوه، ولا يخزن صديقه "(1) ومرسل الاحتجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام):" وكانت المجوس ترمي موتاها في الصحارى والنواويس، والعرب تواريها في قبورها وتلحدها. وكذلك السنة على الرسل"(2). وقد يستفاد من قصة ابني آدم التي تضمنها الكتاب المجيد، لظهورها في كونه من الأمور اللازمة للميت التي تحتاج للتنبيه والتعليم وغير ذلك.

وأما الاستدلال بقوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً)(3) ، وقوله سبحانه: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم)(4) ونحوه فلا يخلو عن إشكال، حيث لا يبعد حمل ذلك على بيان أمر تكويني، بلحاظ رجوع أجزاء الجسد بعد انحلالها إلى الأرض، لا لبيان قضية تشريعية، لعدم مناسبته للسياق، ولا لنسبة الفعل له تعالى.

(1) قال في المدارك: "وقطع الأصحاب وغيرهم بأن الواجب وضعه في حفيرة يستر عن الناس ريحه وعن السباع بدنه، بحيث يعسر نبشها غالباً، لأن فائدة الدفن إنما يتم بذلك" .ولعله راجع إلى أن دفن الميت لما كان معروفاً عند العرف المحيط بالتشريع، وكان الغرض منه عندهم ذلك، فظاهر أمر الشارع الأقدس به كونه بالنحو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل الجنابة حديث: 14.

(3) سورة المرسلات آية: 25.

(4) سورة طه آية: 57.

ص: 366

الذي عند العرف.

ولعل ذلك هو الذي جعل صاحب المدارك ينسبه إلى قطع الأصحاب. وإلا فقد تأمل في الجواهر في دعوى الإجماع، قال: "لخلو كثير من كلمات الأصحاب عن التعرض لذلك، ومن هنا لم أعثر على من ادعاه قبل سيد المدارك".

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن ذلك مقتضى إطلاق الدفن، لظهوره في أن المراد هو الدفن من جميع الجهات، بالستر عن النظر، وعن انتشار الرائحة وعن التعرض للسباع. فهو كما ترى لأن الدفن لغة وعرفاً ليس إلا وضع الشيء في بطن الأرض وستره بها، والأمور المذكورة خارجة عنه وإن كانت من فوائده.

ومثله دعوى: أن ذلك مقوم لمفهوم الدفن الشرعي. لعدم ثبوت حقيقة شرعية للدفن خارجة عن مفهومه العرفي. فالعمدة ما ذكرنا.

كما يناسبه أيضاً ما تقدم في معتبر الفضل بن شاذان، فإن العلة المذكورة فيه وإن كانت من سنخ الحكمة التي لا يدور الحكم مدارها، إلا أنها كاشفة عن أن المراد بالدفن ما يحقق ذلك. وإن كان قد يستغنى عنه، لعدم وجود السباع في المكان، أو عدم مرور الناس به.

اللهم إلا أن يستشكل في تحقق الإطلاق لتلك الأدلة يقتضي اعتبار الأمرين في مثل ذلك. ولعله لذا مال في الجواهر إلى عدم وجوب كون الحفيرة بالنحو المذكور مع الأمن من الأمرين. وأظهر من ذلك ما لو كان الاستدلال بما تضمن أن حرمة المؤمن ميتاً لحرمته حياً، كما هو ظاهر. فتأمل جيداً.

هذا وقد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره) أنه ينبغي التحفظ على الميت من بعض الحيوانات التي تعيش في باطن الأرض والتي قد تأكل جسده، كالجرذان - على ما يحكى عن بعض البلاد - فيلزم إحكام القبر. وما ذكره (قدس سره) قريب جداً، لعدم الفرق ظاهراً بين الحيوانات المذكورة والحيوانات الظاهرة التي سبق وجوب التحفظ منها.

ص: 367

تابوت (1)، وإن حصل فيه الأمران. ويجب وضعه على الجانب الأيمن موجهاً وجهه للقبلة (2).

نعم لا يجب التحفظ من الحشرات التي تسكن بطن الأرض كالديدان والحيات ونحوها مما يتعارف وجوده وتعرض القبر له، حتى صارت من لوازم القبر العرفية، التي يذكر بها المذكرون، ويعتبر بها المعتبرون.

(1) كما صرح به غير واحد، لعدم صدق الدفن عليه.

(2) قال في الجواهر: "كما نص عليه جماعة من الأصحاب، بل لا أعرف فيه خلافاً محققاً بين المتقدمين والمتأخرين، عدا ابن حمزة في وسيلته..." .بل عن شرح الجمل للقاضي نفي الخلاف فيه، وفي الغنية وعن إرشاد الجعفرية الإجماع عليه.

أما أصل الاستقبال فيقتضيه ما في معتبر العلاء بن سيابة الوارد في المقتول المقطوع رأسه من قوله (عليه السلام): "وكذلك إذا صرت إلى القبر تناولته مع الجسد وأدخلته اللحد ووجهته إلى القبلة"(1). مضافاً إلى ما يأتي.

وأما كون الاستقبال بنحو الاعتراض بحيث يكون رأسه ليمين المستقبل فيقتضيه صحيح يعقوب بن يقطين:" سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الميت كيف يوضع على المغتسل، موجهاً وجهه نحو القبلة، أو يوضع على يمينه ووجهه نحو القبلة؟ قال: يوضع كيف تيسر، فإذا طهر وضع كما يوضع في قبره "(2) فإنه ظاهر في اختصاص القبر بهيئة للميت خاصة، وحيث لا إشكال في جواز الهيئة المذكورة في القبر، ولو لأنها مقتضى السيرة، دلّ الصحيح على وجوبها.

نعم لا مجال لاستفادة وجوب الاضطجاع منه، لما هو المعلوم من عدم وجوبه بين التغسيل والدفن، فلابد أن يكون التشبيه بلحاظ غير هذه الجملة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب غسل الميت حديث: 2.

ص: 368

ولا يبعد استفادته من حديث العلاء، لأن توجيه الرأس إلى القبلة عرفاً إما أن يكون بجعل الناصية إلى القبلة، أو بجعل الوجه إليها، وحيث كان الأول غير مناسب للاعتراض، تعين الثاني.

وأظهر منه صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" كان البراء بن معرور الأنصاري بالمدينة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة، وإنه حضره الموت، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون يصلون إلى بيت المقدس، فأوصى البراء أن يجعل وجهه إلى تلقاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنه أوصى بثلث ماله، فجرت به السنة"(1) ، بناءً على أن المراد بالسنة الطريقة الثابتة، لتكون كناية عن الوجوب، كما هو غير بعيد. بل في بعض طرقه: "فأوصى البراء أن يجعل وجهه إلى رسول الله إلى القبلة، وإنه أوصى بثلث ماله، فنزل به الكتاب وجرت به السنة"(2).

وفي معتبر الحسين بن مصعب في قصة موت البراء:" فلما حضرته الوفاة كان غائباً عن المدينة، فأمر أن يحول وجهه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأوصى بالثلث من ماله، فنزل الكتاب بالقبلة، وجرت السنة بالثلث"(3).

ويؤيد ذلك خبر سالم بن مكرم عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه قال: يجعل له وسادة من تراب ويجعل خلف ظهره مدرة لئلا يستلقي..."(4). فتأمل. ومرسل الصدوق في الهداية:" قال الصادق (عليه السلام): إذا وضعت الميت في لحده فضعه على يمينه مستقبل القبلة، وحلّ عقد كفنه، وضع خده على التراب "(5) ومرسل الدعائم:" شهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جنازة رجل من بني عبد المطلب فلما أنزلوه قبره قال: أضجعوه في لحده على جنبه الأيمن مستقبل القبلة ولا تكبوه لوجهه ولا تلقوه لظهره "(6) والرضوي:

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 61 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5.

(5) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 19 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

(6) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 19 من أبواب الدفن وما يناسبه.

ص: 369

وإذا اشتبهت القبلة عمل بالظن على الأحوط (1). ومع تعذره يسقط وجوب الاستقبال (2) إن لم يمكن التأخير (3). وإذا كان الميت في البحر ولم يمكن دفنه

"ضعه في لحده على يمينه مستقبل القبلة"(1).

ومنه يظهر ضعف ما عن الجامع، حيث قال:" الواجب دفنه مستقبل القبلة. والسنة أن تكون رجلاه شرقياً ورأسه غربياً على جانبه الأيمن ".وأشكل منه ما في الوسيلة من استحباب الكل حتى الاستقبال. قال في الجواهر" وإن احتمل ذلك بعض عباراتهم أيضاً، كما لعله الظاهر من حصر الشيخ في جُمله الواجب في واحد، وهو دفنه، ومال إليه بعض متأخري المتأخرين".

(1) بل الأظهر لعموم حجية الظن بالقبلة المستفاد من مثل صحيح زرارة:" قال أبو جعفر (عليه السلام): يجزي التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة"(2).

هذا ومقتضى إطلاق الصحيح الاجتزاء بالظن ولو مع إمكان التأخير بحيث يتيسر العلم بالقبلة أو يحتمل تيسره. ولا وجه لقياس المقام على الأبدال الاضطرارية، حيث تقتضي المناسبات الارتكازية حمل إطلاق أدلة تشريعها على الاضطرار في تمام الوقت، بل هو يبتني على التعبد ظاهراً بالمجهول، ومقتضى إطلاق دليله الاكتفاء بالجهل في كل آن.

نعم مع احتمال حصول العلم في الوقت القريب قد يكون مقتضى التحري الانتظار، كتحري أسباب الظن. كما أنه لو انكشف الخلاف بعد الدفن فالأمر كما لو انكشف الخلاف مع القطع حين الدفن بالقبلة.

(2) بلا إشكال، وإن قل من تعرض له، حيث لا إشكال في عدم بقاء الميت بلا دفن.

(3) أما للزوم الضرر على الميت بهتك حرمته، أو للزوم الضرر على المكلف

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 19 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب القبلة حديث: 1.

ص: 370

(371)

في البر ولو بالتأخير (1) غسل وحنط وصلي عليه (2)، ووضع في خابية (3)،

بتأخير دفنه.

(1) ولو للزوم الضرر على الميت أو على المكلف بتأخير دفنه، نظير ما سبق. أما لو لم يلزم ذلك فيتعين الانتظار والدفن، وفي الجواهر: "بلا خلاف أجده، ولا حكاه أحد، عن أحد سوى ما في المدارك من أن ظاهر المفيد في المقنعة والمصنف في المعتبر جواز ذلك ابتداءً وإن لم يتعذر البر. وفيه أنه لا ظهور فيهما بذلك. سيما الأول، فإنه قيد الحكم المذكور بما إذا لم يوجد أرض يدفن فيه...".

ويقتضيه عموم وجوب الدفن بعد كون المنساق من نصوص المقام كونه بدلاً اضطرارياً عن الدفن. ويناسبه أيضاً ظهور صحيح ابن الحرّ الآتي في تحير السائل، مع أنه لا منشأ لتحيره لو أمكن الدفن في البر، لعدم كون الموت في السفينة مثيراً لاحتمال عدم وجوب الدفن عند العرف. بل ظهور نصوص المقام في تعين الإلقاء في البحر ملزم بحملها على المفروغية عن تعذر الدفن في البر، حيث لا يحتمل وجوب الإلقاء في البحر مع إمكانه.

ومنه يظهر لزوم التربص مع احتمال القدرة على الدفن في البر، لأن التعذر لما كان من سنخ العذر المسقط للواجب فاللازم إحرازه ووجوب الاحتياط مع الشك. خلافاً لما قد يظهر من الذكرى وغيرها من عدم وجوب التربص.

(2) بلا إشكال ظاهر. وظاهرهم بل صريح بعضهم المفروغية عنه. لعموم أدلة وجوب الأمور المذكورة وخصوص الأخبار الآتية. ولا ينافي ذلك خلوّ الصحيح الآتي عنه، لوروده لبيان الحكم من حيثية الدفن، لأن تعذره هو الذي أوجب التحير والسؤال. ولا أقل من كون ذلك مقتضى الجمع بينه وبين العموم المذكور وبقية أخبار المقام.

(3) أما وجوب إلقائه في البحر وعدم إبقائه معرضاً للهتك فالظاهر عدم

ص: 371

الإشكال فيه بينهم، بل في الجواهر: "إجماعاً محصلاً ومنقولاً. ويقتضيه النصوص الآتية، وما هو المعلوم من اهتمام الشارع بحرمة الميت وعدم هتكه".

وأما كيفية إلقائه فيه فقد اختلفت فيها النصوص ففي صحيح أيوب بن الحرّ: "سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجل مات وهو في السفينة في البحر كيف يصنع به؟ قال: يوضع في خابية ويوكى رأسها وتطرح في الماء"(1).

وفي خبر أبي البحتري عنه (عليه السلام):" قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا مات الميت في البحر غسل وكفن وحنط، ثم يصلى عليه، ثم يوثق في رجليه حجر، ويرمى به في الماء"(2) ، ونحوه مرسل أبان عنه (عليه السلام)، إلا أن فيه: "يغسل ويكفن ويصلى عليه ويثقل ويرمى به في البحر" (3) ومرفوع سهل بن زياد عنه (عليه السلام)، إلا أن فيه: "يكفن ويخيط في ثوب [ويصلى عليه] ويلقى في الماء"(4).

وقد يستشكل في الثلاثة الأخيرة بضعف السند. لكن لا مجال له مع ظهور عمل الأصحاب بها، فهم بين من اقتصر على مضمونها - كما في المقنعة والمبسوط والنهاية والوسيلة والسرائر وعن الإرشاد - ومن خيّر بينه وبين مضمون صحيح أيوب بن الحر، كما هو ظاهر الكافي والفقيه، وصرح به جماعة، وفي الجواهر:" على المشهور بين الأصحاب على ما حكاه بعض، بل نسبه آخر إلى الأصحاب مشعراً بدعوى الإجماع عليه. ولعله كذلك".

نعم في الخلاف:" يجعل في خابية إن وجدت، فإن لم توجد يثقل بشيء، ثم يطرح في البحر... دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ".واستجوده في الرياض وفي المدارك أن الاقتصار على العمل برواية الخابية أولى. ومع ذلك كيف يمكن إهمال النصوص المذكورة.

ولاسيما مع تأيدها أو اعتضادها بمعتبر سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث دفن زيد (عليه السلام):" أولا كنتم أوقرتموه حديداً وقذفتموه في الفرات، وكان

********

(1و2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1، 2، 3، 4.

ص: 372

أفضل "(1) ونحوه خبره الآخر(2). وموضوعهما وإن لم يكن هو الميت في البحر، بل من يتعرض بدفنه للاعتداء، إلا أن من البعيد جداً خصوصية أحد الأمرين في الحكم. بل لا يبعد لأجل ذلك دعوى استفاضة النصوص بالتثقيل.

ومن هنا يتعين النظر في وجه الجمع بينها وبين الصحيح. وظاهر من سبق منه التخيير بين الوجهين الجمع به بين النصوص. لكنه بعيد جداً، لأن الوضع في الخابية لما كان مشتملاً على التثقيل، ومحتاجاً لعناية ومزيد كلفه، ومختصاً بفائدة مهمة، وهي حفظ الميت زائداً على تغييبه في الماء، فمن البعيد جداً حمله على مجرد بيان أحد فردي التخيير، بل يتعين حمله على بيان رجحان مضمونه تعييناً، إما لكونه أفضل الأفراد - كما صرح به في الاستبصار - أو لكونه الفرد اللازم الاختيار مع الإمكان، كما هو ظاهر ما تقدم من الخلاف.

والأول وإن كان أنسب بخلوّ النصوص الأخر عن التنبيه لذلك، مع قوة ظهورها في بيان تمام الواجب، إلا أن الثاني أنسب بأهمية الفائدة المترتبة على الخابية، وهي حفظ جسد الميت من حيوانات البحر والتحلل فيه، المعلوم اهتمام الشارع به جداً، بل هو يؤدي تمام فائدة الدفن. ومن هنا يقرب البناء على ذلك. ولاسيما بلحاظ قرب كون ترك التنبيه عليه في بقية النصوص لقلة تيسر الخابية التي تستوعب الميت، بنحو لا يحتاج ستره فيها للتصرف في جسده بكسر ونحوه مما ينافي حرمته. ولعله لذا كان ظاهر الخلاف فهمه من النصوص.

ولا أقل من التوقف والتردد بين وجهي الجمع، حيث يلزم معه الاحتياط بموافقة الوجه المذكور، لمطابقته لقاعدة وجوب احترام الميت ولزوم حفظه عن الحيوانات والتحلل في الماء بالمقدار الممكن.

ومما سبق يظهر عموم الكلام لكل من يتعذر دفنه أو يخشى عليه بعد الدفن من التعرض للاعتداء، كما في كشف اللثام حاكياً عن المنتهى، لما أشرنا آنفاً من إلغاء

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 41 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1، 2.

ص: 373

(374)

وأحكم رأسها (1)، وألقي في البحر، أو ثقّل بشدّ حجر أو نحوه برجليه (2)، ثم يلقى في البحر. والأحوط استحباباً الأول.

(مسألة 60): لا يجوز دفن المسلم في مقبرة الكافرين (3). وكذ

خصوصية كل من القسمين في الحكم. ويناسبه ما تقدم في حديثي سليمان بن خالد. ولا ينافيه قوله (عليه السلام) في أولهما:" وكان أفضل "إذ لم يعلم أن المراد به بيان الحكم الشرعي، ليكون نصاً في الاستحباب وعدم الوجوب، كما في الجواهر، بل بلحاظ ما ترتب على الدفن خارجاً من هتك زيد (عليه السلام) وصلبه، فلا ينافي الوجوب.

هذا وفي الذكرى وجامع المقاصد وكشف اللثام وجوب الاستقبال بالميت حين الإلقاء في البحر، وحكي عن ابن الجنيد والشهيدين والميسي وغيرهم. قال في الذكرى:" لأنه دفن للميت، لحصول مقصود الدفن به ".وهو كما ترى!، لظهور عدم كونه دفناً، بل هو بدل عن الدفن، ولا ملزم بمشاركة البدل للمبدل في الشروط والأحكام. مع أن الواجب في الدفن الاستقبال بالميت حال استقراره في قبره، لا عند إنزاله فيه. بل خلوّ نصوص المقام عنه - مع شدة الحاجة لبيانه لو كان معتبراً، للغفلة عنه - يجعلها كالصريحة في عدم وجوبه.

(1) لا يخفى أن مقتضى إطلاق صحيح أيوب بن الحر الاكتفاء بمطلق سد رأس الخابية، ولو دون إحكام. ولزوم الإحكام إنما يستفاد من اهتمام الشارع بحرمة جسد الميت وحفظه من التحلل والحيوانات، وذلك يناسب وجوب الصورة الأولى عيناً، لا تخييراً بينها وبين الصورة الثانية، كما لعله ظاهر.

(2) الظاهر أن الغرض رسوبه في الماء، فلو تحقق دون تثقيل أجزأ، كما في الجواهر. نعم لابد من استقراره تحت الماء، ولا يكفي رسوبه موقتاً. ومن البعيد حصوله من دون تثقيل.

(3) الظاهر عدم الإشكال فيه، وإن لم أعثر عاجلاً على من نصّ عليه قبل

ص: 374

العكس (1).

السيد الطباطبائي في العروة الوثقى، وإنما يستفاد منهم مما يأتي في دفن الكافرة الحامل من المسلم، حيث يظهر منهم المفروغية عنه، ولذا تدفن هي في مقبرة المسلمين من أجل حرمة دفن ولدها - المحكوم بإسلامه تبعاً لأبيه - معها في مقبرتهم. ولا يبعد ابتناء المفروغية المذكورة والإجماع المستفاد منهم على ارتكاز كون دفن المسلم في مقبرة الكفار هتكاً له، فينافي حرمته. ومن ثم كان المتيقن منه ما إذا تعارف امتياز المقبرتين، دون ما إذا صار البناء على عدم اختصاص كل من الطرفين بمقبرة له.

(1) إجماعاً ادعاه جماعة قال غير واحد في وجهه:" لئلا يتأذى المسلمون بعذابهم ".وهو كما ترى. فإن الله عز وجل أعدل من ذلك. كيف؟! ولازمه حرمة دفن المسلم في جوار الكافر ولو في غير مقبرة إحدى الطائفتين، وحرمة تجاور المقبرتين، ولا يظن منهم البناء عليه، وإلا لزمهم تحديد البعد المعتبر. بل لازمه حرمة دفن المؤمن بجوار المنافق، وغير ذلك مما يعلم بعدم التزامهم به. فالعمدة في المقام الإجماع. لكن المتيقن منه ما إذا كان الدفن في مقبرة المسلمين مبنياً على تكريمه واحترامه.

هذا وفي مفتاح الكرامة:" قال في روض الجنان: لكن يجب مواراتهم - لدفع التأذي بجيفتهم، لا بقصد الدفن - في مقابر المسلمين. وظاهره أنه يجوز ذلك في مقابر المسلمين لا بقصد الدفن، بل ذلك صريحه. وناقشه في ذلك صاحب المجمع. وهي في محلها".

لكن الموجود في المطبوع من روض الجنان:" لكن يجب مواراتهم - لدفع تأذي المسلمين بجيفتهم، لا بقصد الدفن - في غير مقابر المسلمين "والظاهر أن الصحيح ذلك، وإن ما سبق من صاحبي مفتاح الكرامة والمجمع ناشئ من خطأ النسخة التي أخذا منها. كيف؟! ومقتضاه وجوب دفنه في مقابر المسلمين لا مجرد جوازه، ولا منشأ لتوهم ذلك.

ص: 375

(376)

(مسألة 61): إذا ماتت الحامل (1) الكافرة (2) من مسلم دفنت في مقبرة المسلمين (3)

(1) كما هو مقتضى إطلاق الخلاف والشرايع والقواعد وغيرها. وقيد جماعة الحمل بما إذا كان بنكاح أو ملك يمين أو شبهة. وظاهرهم عدم عمومه للحمل من الزنا. والنص الآتي مختص بملك اليمين وفهم عدم الخصوصية منه لبقية أقسام الحمل المشروع قريب جداً. نعم هو يقصر عن الحمل من الزنا. لكن الظاهر عدم الفرق بلحاظ الوجه الآتي، دون النص، لعدم كونه دليلاً في المسألة.

(2) كما هو مقتضى إطلاق الشرايع وصريح بعضهم. ويناسبه التعبير بالمشركة في الخلاف. لكن مقتضى ظاهر القواعد وعن الأكثر الاختصاص بالذمية، لاقتصارهم في الاستثناء من الحكم السابق عليه. ومورد النص الآتي اليهودية والنصرانية. لكن الظاهر عدم الفرق، بلحاظ ما يأتي من الوجه بعد عدم كون النص دليلاً في المسألة، كما سبق.

(3) كما هو المعروف بين الأصحاب، ونفى وجدان الخلاف فيه في الجواهر. بل في الخلاف وظاهر التذكرة الإجماع عليه. واستدل له بخبر يونس:" سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل يكون له الجارية اليهودية أو النصرانية، فيواقعها فتحمل، ثم يدعوها أن تسلم فتأبى عليه، فدنى ولادتها فماتت وهي تطلق والولد في بطنها، ومات الولد، أيدفن معها على النصرانية أو يخرج منها ويدفن على فطرة الإسلام؟ فكتب: يدفن معها"(1).

لكنه - مع وقوع أحمد بن أشيم في سنده وهو لم يوثق - قاصر الدلالة جداً، لعدم التعرض فيه لموضع الدفن. بل قد يستفاد منه بقرينة المقابلة في السؤال بين الدفنين كون دفنه معها على النصرانية في مقبرة النصارى. وإن كان الظاهر عدم تمامية ذلك، وأن الملحوظ في المقابلة كيفية الدفن، لا ما يعم موضعه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 39 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

ص: 376

على جانبها الأيسر مستدبرة للقبلة (1)،

نعم لا يبعد ظهوره في تبعية الطفل لأمه في الدفن، المناسب لدفنه معها في الموضع المناسب لها. بل لو وجب دفنها في مقبرة المسلمين لاحتاج ذلك للتنبيه عليه في النص، فعدم التنبيه فيه عليه ظاهر في عدم وجوبه جداً. فتأمل.

وأما ما في جامع المقاصد من استفادته من الخبر، لأن الأصل في الدفن الحقيقة شرعاً. فيشكل بعدم ثبوت حقيقة شرعية الدفن، بل الظاهر بقاؤه على المفهوم العرفي، فيحمل في النصوص عليه، واستفادة الشروط في كل مورد يحتاج إلى الدليل.

والذي ينبغي أن يقال: أما عدم وجوب إخراجه منها، فيقتضيه - مضافاً إلى الأصل - الخبر المذكور المنجبر بعمل الأصحاب، بل ظهور الإجماع منهم. على أن فيه هتكاً للجنين بل قد يستلزم المثلة به. ومن ذلك يظهر حرمة إخراجه منها.

وأما جواز دفنها في مقبرة المسلمين، دون مقبرة الكفار، فهو مقتضى الأصل بعد قصور الإجماع الذي هو الدليل على حرمة دفن الكافر في مقبرة المسلمين عن المورد، وظهور كون دفنها فيها لا يبتني على تكريمها، بل تكريم جنينها المحكوم بإسلامه.

نعم يشكل إثبات وجوب ذلك بعد قصور النصّ عنه، بل قد يظهر بدواً في عدمه، كما سبق حيث ينحصر حينئذٍ الدليل عليه بالإجماع، الذي يشكل بلوغه حدّ الحجية بعد عدم شيوع الابتلاء بالمسألة، وعدم ورود النصوص بها، ليمكن معرفة رأي قدماء الأصحاب فيها. ومن القريب جداً ابتناء دعوى الإجماع فيها على الحدس، وتخيل استفادته من النص المتقدم الذي يظهر من رواية الأصحاب له عملهم عليه وفتواهم بمضمونه، أو من كونه مقتضى تغليب حرمة الإسلام في الحمل، أو نحو ذلك مما لا يبلغ مرتبة الحجية، ولا ينهض بإثبات حكم شرعي.

(1) فقد صرح باستدبارها القبلة غير واحد، وحكي عن الأكثر، بل هو معقد

ص: 377

(378)

وإن كان الحمل لم تلجه الروح (1)، على الأحوط وجوباً.

(مسألة 62): لا يجوز دفن المسلم في مكان يوجب هتك حرمته (2)، كالمزبلة والبالوعة، ولا في المكان المملوك بغير إذن المالك (3)، أو الموقوف

إجماع الخلاف المتقدم، وعن المنتهى نسبته إلى علمائنا. وفي التذكرة: "يستدبرها القبلة على جانبها الأيسر، ليكون وجه الجنين إلى القبلة إلى جانبه الأيمن. وهو وفاق".

لكن عموم وجوب الاستقبال للجنين ممنوع، لأن المتيقن من دليله المتقدم غيره. كما أن ملازمة الصورة المذكورة للاستقبال به غير ظاهرة، لعدم وضوح اطراد مخالفة الجنين في الاتجاه لأمه. فلم يبق إلا الإجماع ولا ينهض بالحجية لنظير ما سبق في الاستدلال به على الحكم السابق. بل خلوّ الخبر المتقدم عن التنبيه لذلك موجب لقوة ظهوره في عدم وجوبه.

(1) كما هو مقتضى إطلاق جماعة. وإن كان تعبير بعضهم - كما في الخلاف - بموت الولد قاصر عنه، كالنص. ويظهر مما تقدم في وجه المسألة عدم الفرق من هذه الجهة.

(2) بلا إشكال ظاهر، لأن حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً، إرتكازاً ونصوصاً(1).

(3) بلا إشكال ظاهر، ويستفاد من ذكرهم جواز النبش لو دفن حينئذ المفروغية عنه. ويقتضيه عموم حرمة التصرف في ملك الغير بغير إذنه. ووجوب الدفن كفاية لا يقتضي وجوب بذل الأرض من المالك له بلحاظ أنه أحد المكلفين - فضلاً عن جواز الدفن بغير إذنه، ولاسيما مع عدم الانحصار - لأن المراد به وجوب الفعل من دون استتباعه بذل المال، كما يظهر مما ذكروه في مؤن التجهيز من أنها تخرج من أصل المال، ولا يجب على أحد بذلها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 24 من أبواب ديات الأعضاء.

ص: 378

لغير الدفن (1)، كالمدارس والمساجد (2). والحسينيات المتعارفة في زماننا،

نعم لو انحصر المكان الذي يمكن فيه الدفن بالمملوك تعين على المالك بذله ولو بالقيمة مع تيسرها. لما في امتناعه من هتك للميت المؤمن يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به، بحيث يخرج به عن قاعدة السلطنة على المال.

بل لو لم تتيسر القيمة تعين على الكل الدفن وحفظ المؤمن من الهتك، ولو ببذل القيمة. لكن ذلك لا ينافي وجوب استئذان المالك. إلا أن يمتنع مع الانحصار، فيلزم مراجعة الحاكم الشرعي، اقتصاراً في الخروج عن عموم الحرمة على المتيقن. فتأمل.

(1) لأن الوقوف كما أوقفها أهلها، فمع تعيين الوقف لجهة معينة يتعين لها، ولا يجوز إشغاله بغيرها.

(2) الظاهر أن وقف المساجد يبتني على تعنونها بعنوان المسجد من دون نظر لخصوص جهة أو عمل، كالعبادة ونحوها، ولذا لا يكون وقف المكان على العبادة ونحوها كافياً في صدق المسجد على العين الموقوفة، بل تكون مباينة للمسجد. وإنما يجوز إيقاع العبادة في المساجد، لأنها غير منافية للمسجدية، بل مناسبة لها في عرف المتشرعة.

هذا والظاهر أنه يشاركها في ذلك وقف المشاهد والحضرات المشرفة. وكذا المقامات التي تعارف تشييدها في محال حلول المعصومين (عليهم السلام) ونزولهم أو صلواتهم وعباداتهم، فإن الظاهر ابتناء وقفها على حفظها للعنوان الخاص من دون تعيين لجهة أو تصرّف خاص.

ومقتضى ذلك جواز إيقاع كل ما لا ينافي العنوان من الأعمال والتصرفات عند المتشرعة وإنما لا يجوز الدفن في المساجد لمنافاته للمسجدية عندهم ولاسيما مع ما قد يسببه من تنجس المسجد عند تحلل جسد الميت في قبره، بخلاف الحضرات والمشاهد المقدسة، فإنها شيدت للتذكير بعظمة المشهد ومشرفه، وللحث على التعلق

ص: 379

(380)

والخانات الموقوفة، وإن أذن الولي (1).

(مسألة 63): لا يجوز الدفن في قبر ميت قبل اندراسه (2) وصيرورته

به والالتجاء إليه، والدفن فيه من أظهر مظاهر ذلك. ولذا جرت السيرة عليه قديماً وحديثاً.

(1) لأن وظيفة الولي حفظ الوقف وإعماله في الجهة التي وقف عليها، لا الخروج عن ذلك. نعم لو شك في دخول التصرف الخاص في الجهة الموقوف عليها جاز الرجوع للولي في ذلك إذا احتمل علمه بها، لقبول قول الإنسان في ماله الولاية عليه، كقول الأب في شؤون ولده، وقول الوكيل فيما وكل عليه ونحوهما.

أما لو لم يعلم بعموم الوقف للجهة المشكوكة ولم يمكن استعلامه من غيره، لم يبعد عدم جواز استغلال الوقف فيها، كما يظهر مما تقدم في المسألة الرابعة من مبحث أحكام الخلوة. فراجع.

(2) قال في النهاية: "ويكره أن يحفر قبر مع العلم به فيدفن فيه ميت آخر، إلا عند الضرورة إليه" .ونحوه في المبسوط. لكن قال فيه بعد ذلك: "ومتى دفن في مقبرة مسبلة لا يجوز لغيره أن يدفن فيه إلا بعد اندراسها ويعلم أنه صار رميماً... فإن بادر الإنسان فنبش قبراً فإن لم يجد فيه شيئاً جاز أن يدفن فيه، وإن وجد فيه عظاماً أو غيرها ردّ التراب فيه ولم يدفن فيه" وظاهره الحرمة. ومن ثَم قد تحمل الكراهة في كلامه الأول عليها، كما في المعتبر. وذهب إلى الحرمة فيه وفي التذكرة وحكي عن غير واحد.

وقد استدل عليه تارة: باستلزامه النبش المحرم. وأخرى: بأن القبر قد صار حقاً للأول بدفنه فيه، فلم تجز مزاحمته بالثاني.

وقد يدفع الأول بأن الكلام في حرمة الدفن في نفسه، لا في حرمة النبش مقدمة له. مضافاً إلى ما عن الذخيرة من أن الدليل على حرمة النبش الإجماع، وإجراؤه في

ص: 380

محل النزاع مما لا وجه له.

كما قد يدفع الثاني، بعدم وضوح كون الدفن موجباً لحقٍ للميت يمنع من دفن الثاني فيه. غاية الأمر أن يكون دفنه موجباً لاستحقاق إبقاءه في القبر، وعدم جواز إخراجه عنه، أو مزاحمته فيه.

لكن الظاهر أن مبنى دفن الميت في المكان عرفاً على اتخاذه قبراً له، لا على مجرد وضعه فيه، كما يوضع على الأرض قبل الدفن، أو في بطنها بلا قصد الدفن. وحينئذٍ يكون وضع الميت في المكان بقصد الدفن موجباً لتعنون المكان بعنوان خاص، وهو كونه قبراً له، فيكون من سنخ الصدقة أو الوقف لجهة خاصة ذات عنوان خاص، حيث يحرم استعماله في غير تلك الجهة وإن لم تكن منافية ولا مزاحمة لها، فضلاً عما إذا كانت كذلك.

من دون فرق في ذلك بين الدفن في أرض مملوكة بإذن المالك، والدفن في أرض موقوفة للدفن، والدفن في أرض مباحة. لاشتراك الكل فيما ذكرناه من ابتناء عملية الدفن عرفاً على جعل الموضع قبراً للميت، فالإذن فيه من قبل المالك، والوقف عليه من قبل الواقف، والحيازة له من قبل المتولي للدفن، كلها تقتضي ترتبه ونفوذه بتحقق عملية الدفن، فلا يجوز استغلال الموضع لدفن ميت آخر كما لا يجوز استغلاله لغير ذلك من وجوه الانتفاعات، كاتخاذه حرزاً للمال، أو مخبأ للحراس على ما هو الحال في جميع الوقوف والصدقات لجهات معينة. ولعل هذا هو مراد من سبق من كونه حقاً للميت. وإلا فلا دليل على ثبوت حق للميت زائداً على ذلك.

نعم لو ابتنى الإذن أو الوقف أو حيازة المكان للقبر على اشتراط أمر خاص - من دفن ميت آخر، أو غيره - ولو ضمناً جاز. ولا محذور في النبش، لعدم الدليل على حرمته في مثل الفرض مما كان مبنياً على مقتضى الإذن أو الوقف. ولعله إليه يرجع ما في التذكرة من أنه لو دفن في أزج يتسع لجماعة كثيرة جاز. حيث لا يبعد في مفروض كلامه ابتناء وضع الأزج وتعيينه للدفن على تعدد الدفن. أما لو لم يبتن على ذلك، بل

ص: 381

قصد جعله بتمامه قبراً لميت واحد أشكل جوازه بما سبق.

وكذا يجوز النبش ودفن ميت آخر لو كان اتخاذ القبر بالنحو الخاص منافياً لمقتضى الإذن أو الوقف، كما لو خرج في سعته عن المتعارف بنحو يخرج عن مقتضى إطلاق الإذن أو الوقف.

هذا ولو اندرس الميت أو نقل وخرج الموضع عن كونه قبراً له، تعين جواز دفن ميت آخر فيه، كسائر الصدقات والوقوف التي يرتفع موضوعها، حيث يجوز صرفها فيما هو الأقرب إلى الجهة المعينة لها بلا إشكال ظاهر.

إلا أن يمنع منه عنوان ثانوي، كما لو صار القبر رمزاً دينياً، بحيث يكون التصرف فيه انتهاكاً لحرمة دينية، أو ابتنى وقفه على بقائه منتسباً للميت الخاص، كما هو غير بعيد في الجملة في القبور الخاصة. فلاحظ.

هذا وقد يستدل على حرمة دفن ميت في قبر ميت سابق بحديث الأصبغ ابن نباتة: "قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من جدد قبراً أو مثل مثالاً فقد خرج [من] عن الإسلام" (1) بناءً على روايته بالجيم والدال المضعفة بعدها دال مفردة من التجديد، كما عن الصفار، وأن المراد به اتخاذه قبراً مرة أخرى، أو روايته بالجيم والدال المضعفة بعدها ثاء مثلثة من الجدث كما عن البرقي، وأن المراد اتخاذه قبراً لميت آخر.

لكن الظاهر أن المراد بالأولى هو تجديد القبر ببنائه بعد تقادم العهد به وتعرضه للخلل، كما فهمه الصفار فيما حكي عنه. وأما الثانية فهي غير ظاهرة في المعنى المذكور، بل هي للإجمال أقرب، كما عن البرقي.

على أنه روي بالحاء والدالين المضعفة والمفردة من التحديد، كما عن سعد بن عبد الله، وحمل على تسنيم القبر، وبالخاء المعجمة مع الدالين من الخدّ في الأرض، وهو شقها، كما عن المفيد، فيكون مناسباً لحرمة النبش. بل قد يدعى ظهوره فيه، وإن لم يخل عن إشكال، لعدم وضوح تعارف التعبير عنه بذلك. ومع هذا الاختلاف في متنه ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 43 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

ص: 382

(383)

تراباً. نعم إذا كان القبر منبوشاً جاز الدفن فيه على الأقوى (1).

(مسألة 64): يستحب حفر القبر قدر قامة، أو إلى الترقوة (2).

رجال للاستدلال به على شيء.

ولاسيما مع اشتمال سنده على أبي الجارود الذي وردت فيه روايات ذامة. وإن كان قد يهون ذلك بقرب وثاقة الرجل، لضعف سند الروايات، وعدم منافاتها لوثاقته المستفادة من توثيق المفيد له، وظهور كلام الغضائري في الاعتماد على حديثه، وكونه من رواة كامل الزيارات.

هذا كله من حيثية دفن الميت في قبر ميت سابق. وأما من حيثية النبش فيتضح الكلام فيه مما يأتي في المسألة الثامنة والستين إن شاء الله تعالى.

(1) مقتضاه عدم حرمة دفن الميت الآخر بالأصل، بل تبعاً بلحاظ استلزامه النبش المحرم، فلو تحقق النبش - ولو عصياناً - جاز الدفن. ويظهر ضعفه مما تقدم. ولولاه فلا دليل على حرمة النبش في الفرض، كما تقدم عن الذخيرة. ويأتي توضيحه في المسألة الثامنة والستين إن شاء الله تعالى.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، وادعي عليه الإجماع في كلام غير واحد. ولا يبعد كون مرادهم عدم النقيصة عن المقدار المذكور لا عدم الزيادة عليه، كما يناسبه ما في الخلاف من عمل الفرقة وإجماعهم على استحباب حفر القبر قدر قامة، وأقله إلى الترقوة، وما في الغنية من الاقتصار في الفتوى وفي معقد الإجماع على كونه قدر قامة، إذ يبعد إهماله الأفضل.

أما النصوص فهي لا تناسب ذلك. ففي موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): "إن النبي نهى أن يعمق القبر فوق ثلاثة أذرع"(1). ونحوه معتبر الجعفريات بسنده

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

ص: 383

وأن يجعل له لحد (1)

عنه(1) (عليه السلام). وفي مرسل بن أبي عمير عنه (عليه السلام): "قال: حد القبر إلى الترقوة. وقال بعضهم: إلى الثدي. وقال بعضهم: قامة الرجل حتى يمد الثوب على رأس من في القبر. وأما اللحد فبقدر ما يمكن فيه الجلوس. قال: ولما حضر علي بن الحسين الوفاة قال: احفروا لي حتى تبلغوا الرشح"(2).

وظاهر ابن أبي عمير كون الأقوال الأخر لغير المعصوم. ومن الظاهر أن الثلاثة أذرع تقارب الترقوة، فيكون مقتضى الجمع بين النصوص بيان الحدّ الذي لا ينبغي الزيادة عليه، ولازم ذلك كراهة بلوغه القامة.

هذا وأما ما تضمنه ذيل المرسل من الحفر حتى يبلغ الرشح، فهو - مع وروده في قضية خاصة، وغرابة مضمونه، لتضرر القبر برشح الماء - قابل للتنزيل على ما سبق، لعدم تحديده للعمق الذي يحصل به الرشح. بل قيل إنه يبلغ في أرض البقيع بالمقدار المذكور.

نعم في صحيح أبي الصلت الهروي في حديث وصية الرضا:" أنه قال له: سيحفر لي في هذا الموضع، فتأمرهم أن يحفروا سبع مراقي إلى الأسفل... "(3) وظاهره في التخيير بين السبع مراقي وما زاد على ذلك، ومقتضى إطلاقه عدم كراهة الزيادة على الترقوة، بل على القامة. لكنه وارد في قضية خاصة.

(1) وهو الشق الذي يكون في جانب القبر ويوضع فيه الميت. وقد صرح باستحبابه الأصحاب، بل ادعي الإجماع عليه صريحاً وظاهراً في كلام جماعة. ويقتضيه مرسل الاحتجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث:" قال: العرب في الجاهلية كانت أقرب إلى الدين الحنفي من المجوس... وكانت المجوس ترمي بالموتى في الصحاري

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 14 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبوب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4.

ص: 384

مما يلي القبلة (1) في الأرض الصلبة،

والنواويس، والعرب تواريها في قبورها وتلحدها، وكذلك السنة على الرسل أن أول من حفر له قبر آدم أبو البشر وألحد له لحد..."(1) ، والنبوي العامي: "اللحد لنا والشق لغيرنا"(2).

ويؤيده ما تضمن اتخاذه للنبي(3) (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولولده إبراهيم(4). وأظهر منهما المرسل عن أبي همام عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام):" قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) حين أحضر: إذا أنا مت فاحفروا لي أو شقوا لي شقاً. فإن قيل لكم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحَّد له فقد صدقوا"(5) ، بضميمة ما في صحيح الحلبي: "قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أبي كتب في وصيته... وشققت له الأرض من أجل أنه كان بادناً" (6) حيث لا يبعد ظهورهما في كون السنة هو اللحد، وأن كون الإمام الباقر (عليه السلام) بادناً هو السبب في عدم الجري على مقتضى السنة في قبره.

نعم في صحيح أبي الصلت الهروي في حديث وصية الرضا (عليه السلام): "وأن يشق لي ضريحة، فإن أبوا إلا أن يلحدوا فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبراً..."(7). وظاهره أن الشق أفضل. لكنه وارد في قضية خاصة.

(1) قال في الجواهر:" كما نص عليه جماعة، بل ربما يظهر من بعضهم خصوصاً الفاضل في التذكرة دخوله في مسمى اللحد، كما أنه يظهر منه دخوله في معقد إجماعه، وفي جامع المقاصد وعن الروض أنه قاله الأصحاب ".وكأن المراد به كون الشق معترضاً باتجاه القبلة، ليمتد الميت بامتداده، لا باتجاه آخر، ليكون امتداد الميت فيه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الجنابة حديث: 14.

(2) كنز العمال ج: 8 ص: 88 رقم: 1681.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4.

(5و6و7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2، 3، 4.

ص: 385

بقدر ما يمكن فيه الجلوس (1)، وفي الرخوة يشق وسط القبر شبه النهر، ويجعل فيه الميت ويسقف عليه (2)، ثم يهال عليه التراب وأن يغطى القبر بثوب عند إدخال المرأة (3).

على خلاف امتداده. والوجه فيه أن ذلك هو المنصرف من الأمر به. ولذا كان العمل عليه.

(1) كما هو معقد إجماع الخلاف. ويشهد به ما تقدم في مرسل ابن عمير، بناء على أنه من كلام الإمام (عليه السلام). لكن تقدم في صحيح أبي الصلت الأمر بجعل اللحد ذراعين وشبراً. وهو أكثر من ذلك. فيحمل على الأفضل، أو على خصوصية مورده، لأنه وارد في قضية خاصة، كما سبق.

(2) فقد قيد في معقد إجماع الخلاف استحباب اللحد بما إذا كانت الأرض صلبة. وعن جماعة التصريح بأن الشق أفضل في الأرض الرخوة خوف الانهدام. وعن الكاتب أنه إذا كانت الأرض رخوة يعمل له شبه اللحد من بناء تحصيلاً للفضيلة. وظاهره أن المستحب هو جعل الميت في مكان متسع في مقابل طمّه بالتراب، وأن اختيار اللحد في الصلبة ليس لخصوصية فيه، بل لتحقيق ذلك. غايته أنه حيث كان أيسر وأقل مؤنة يكتفي به، وحيث لا يمكن ذلك في الرخوة أو يخشى منه الانهدام يتعين لتحصيل الفضيلة الشق والتسقيف.

لكن الظاهر أن استحباب وضع الميت في مكان متسع في مقابل طمّه بالتراب يستفاد مما سبق من استحباب اتساع اللحد، فإن المناسبة الارتكازية تقضي برجحانه للميت مطلقاً ولو في غير اللحد. كما أن ترجح اللحد على الشق المذكور يستفاد مما سبق. فالمستحب أمران، وتعذر الثاني أو صعوبته في الأرض الرخوة، أو إذا كان الميت بديناً - كما سبق - لا يوجب سقوط الأول.

(3) كما في المعتبر وعن ابن الجنيد والمفيد. ويقتضيه خبر جعفر بن كلاب:

ص: 386

والذكر عند تناول الميت (1) وعند وضعه في اللحد (2).

" سمعت جعفر بن محمد يقول: يغشى قبر المرأة بالثوب، ولا يغشى قبر الرجل. وقد مدّ على قبر سعد بن معاذ ثوب والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهد، فلم ينكر ذلك"(1). قال في المعتبر: "وروي عن علي (عليه السلام): أنه مرّ بقوم دفنوا ميتاً وبسطوا على قبره الثوب فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء"(2). وأطلق الشيخ في الخلاف ولم يخصه بالمرأة. وكأنه لذيل خبر جعفر المتقدم. لكنه لو كان من كلام الإمام (عليه السلام) لا من كلام الراوي لا يدل على الاستحباب.

(1) ففي موثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: إذا وضعت الميت على القبر قلت: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك نزل بك وأنت خير منزول به. فإذا سللته من قبل الرجلين ودليته قلت: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله. اللهم إلى رحمتك لا إلى عذابك. اللهم أفسح له في قبره، ولقنه حجته، وثبته بالقول الثابت، وقنا وإياه عذاب القبر. وإذا سويت عليه التراب قل: اللهم جاف الأرض عن جنبيه، وصعد روحه إلى أرواح المؤمنين في عليين، وألحقه بالصالحين"(3). ونحوه في ذلك غيره(4).

ومنه يظهر استحباب الدعاء عند وضعه على القبر قبل تناوله لإنزاله، وبعد دفنه وإهالة التراب عليه. ومثله في الثاني غيره.

(2) كما تضمنته النصوص الكثيرة. ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إذا أتيت بالميت القبر فسله من قبل رجليه، فإذا وضعته في القبر فاقرأ آية الكرسي، وقل: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله. اللهم صل على محمد وآل محمد. اللهم أفسح له في قبره، وألحقه بنبيه. وقل كما قلت في الصلاة عليه مرة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(2) المعتبر ص: 91.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3.

ص: 387

والتحفي (1).

واحدة من عند: اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فاغفر له وتجاوز عنه. واستغفر له ما استطعت. قال: وكان علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا أدخل الميت القبر قال: اللهم جاف الأرض عن جنبيه، وصاعد عمله، ولقه منك رضواناً" (1) ونحوه غيره.

كما يستحب الدعاء عند سدّ اللحد باللبن، وبعد سدّه به، وعند الخروج من القبر، وعند حثو التراب عليه. ففي صحيح إسحاق بن عمار عنه (عليه السلام): "ثم تضع الطين واللبن فما دمت تضع اللبن والطين تقول: اللهم صل وحدته، وآنس وحشته، وآمن روعته، وأسكن إليه من رحمتك رحمة تغنيه بها عن رحمة من سواك، فإنما رحمتك للظالمين. ثم تخرج من القبر وتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم ارفع درجته في أعلى عليين، وأخلف على عقبه في الغابرين وعندك نحتسبه يا رب العالمين"(2).

وفي خبر سالم:" فإذا وضعت عليه اللبن فقل: اللهم ارحم غربته، وصل وحدته، وآنس وحشته، وآمن روعته، وأسكن إليه من رحمتك رحمة يستغني بها عن رحمة من سواك، واحشره مع من كان يتولاه. ومتى زرت قبره فادع له بهذا الدعاء وأنت مستقبل القبلة ويداك على القبر. فإذا خرجت من القبر فقل: وأنت تنفض يدك من التراب: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم احث التراب عليه بظهر كفيك ثلاث مرات، وقل: اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك. هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله..."(3).

(1) بل ظاهر النصوص كراهة لبس شيء في الرجلين ففي صحيح علي بن يقطين: "سمعت أبا الحسن الأول (عليه السلام) يقول: لا تنزل في القبر وعليك العمامة والقلنسوة، ولا الحذاء، ولا الطيلسان. وحلّل أزرارك. وبذلك سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1، 6، 5.

ص: 388

(389)

وحل الأزرار وكشف الرأس للمباشر لذلك (1). وأن تحل عقد الكفن بعد الوضع في القبر من طرف الرأس (2).

جرت. قلت: فالخفّ. قال: فلا أرى به بأساً. قلت: لم يكره الحذاء؟ قال: مخافة أن يعثر برجليه فيهدم" (1) وفي خبر ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام): "قال: لا ينبغي لأحد أن يدخل القبر في نعلين ولا خفين، ولا عمامة ولا رداء ولا قلنسوة"(2). وظاهره كراهة الخف أيضاً.

وربما يجمع بينهما بحمل الأول على حال التقية، كما يناسبه ما في الخبر الحضرمي عنه (عليه السلام):" قلت: والخف؟ قال: لا بأس بالخف، في وقت الضرورة والتقية "(3) وفي خبر سيف بن عميرة عنه (عليه السلام):" قلت: فالخف؟ قال: لا بأس بالخف، فإن في خلع الخف شناعة"(4). نعم لا يبعد كونه أخف كراهة من غيره. هذا والحذاء النعل، والخف - على الظاهر - ما يستوعب ظاهره ظاهر القدم من دون شراك.

(1) لما تقدم من النصوص. وتقدم فيها أيضاً نزع الطيلسان والرداء. وظاهرها كراهة ترك ذلك.

(2) بل والرجلين كما في النهاية والمبسوط والشرايع والتذكرة والقواعد. وادعى عليه الإجماع في المدارك. بل مطلقاً، كما في الغنية والمعتبر، مدعيين عليه الإجماع. ويقتضيه صحيح أبي حمزة: "قلت لأحدهما (عليه السلام): يحلّ [عقد] كفن الميت؟ قال: نعم ويبرز وجهه"(5). وصحيح إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: إذا وضعته في لحده فحل عقده [عقدته]..."(6). و المرسل عن أبي بصير: "سألت أبا عبد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1، 2.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3، 4، 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4، وباب: 21 منه حديث: 6.

ص: 389

وأن يحسر عن وجهه (1)، ويجعل خده على الأرض (2)، ويعمل له وسادة

الله (عليه السلام) عن عقد كفن الميت. فقال: إذا أدخلته القبر فحلها"(1). وخبر سالم عنه (عليه السلام) قال:" ...ويحل عقد كفنه كلها ويكشف عن وجهه "(2) وغيرها. ولم أعثر على ما يتضمن التخصيص بالرأس والرجلين، فضلاً عن الرأس وحده.

نعم في صحيح ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عنه (عليه السلام):" قال: يشق الكفن عند رأس الميت إذا أدخل قبره"(3) ، ونحوه صحيح حفص(4) قال في المعتبر: "وهذه الرواية مخالفة لما عليه الأصحاب. ولأن ذلك إفساد للمال على وجه غير مشروع".

وفي المدارك: "وقد يقال: إن مخالفة الخبر لما عليه الأصحاب لا يقتضي ردّه إذا سلم السند من الطعن. والإفساد غير ضائر، فإن الجميع ضايع، خصوصاً مع إذن الشارع فيه. وأجاب عنه في الذكرى بإمكان أن يراد بالشق الفتح ليبدو وجهه، فإن الكفن كان منضماً قال: وعلى هذا فلا مخالفة ولا إفساد. وهو غير بعيد، فإن مثل هذا الإطلاق مستعمل عند أهل العرف" .لكن ما في الذكرى خلاف ظاهر النص. إلا أن يتعين بلحاظ الجمع بين النصوص، مؤيداً بفتوى الأصحاب.

(1) كما تضمنه جملة من النصوص، منها صحيح أبي حمزة وخبر سالم المتقدمان. واقتصر في نصوص كثيرة على كشف خده(5). وهو محمول على أهميته من سائر الوجه، مع كون كشف تمام الوجه أفضل.

(2) كما في النهاية وتضمنه جملة من النصوص، كصحيح علي بن يقطين: "سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول:... وإن قدر أن يحسر عن خده ويلصقه بالأرض فليفعل..."(6). لكن في صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: البرد

********

(1و2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3، 5، 6، 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب الدفن وما يناسبه.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

ص: 390

من تراب (1). وأن يوضع شيء من تربة الحسين (عليه السلام) معه (2).

لا يلفّ به، ولكن يطرح عليه طرحاً، فإذا أدخل القبر وضع تحت خده وتحت جنبه ".ويتعين حمله على مجرد الجواز وإلا فلا مجال للخروج به عن النصوص الكثيرة المتضمنة استحباب وضع الخدّ على التراب. ولاسيما مع قرب اتحاد الصحيح المذكور مع صحيح ابن سنان وأبان عنه (عليه السلام):" قال: البرد لا يلفّ به... فإذا أدخل القبر وضع تحت جنبه "(1) وغيره.

(1) ففي خبر سالم بن مكرم عن أبي عبد الله (عليه السلام):" أنه قال: يجعل له وسادة من تراب..."(2).

(2) كما ذكره غير واحد، بل في الجواهر: "على ما ذكره الأصحاب من غير خلاف يعرف فيه" .ويقتضيه - مضافاً إلى ما تضمن أنها أمان من كل خوف(3) - صحيح عبد الله جعفر الحميري: "كتبت إلى الفقيه أسأله عن طين القبر يوضع مع الميت في قبره، هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب - وقرأت التوقيع، ومنه نسخت -: توضع مع الميت ويخلط بحنوطه إن شاء الله"(4). وهو وإن تضمن الجواز إلا أن الظاهر أن المراد به المشروعية بنحو الاستحباب، لأنه هو الداعي لتعمد الوضع في القبر. ومرسل المصباح عن جعفر بن عيسى:" أنه سمع أبا الحسن (عليه السلام) يقول: ما على أحدكم إذا دفن الميت ووسده التراب أن يضع مقابل وجهه لبنة من الطين. ولا يضعها تحت رأسه"(5).

ويؤيده ما عن المنتهى مرفوعاً قال: "إن امرأة كانت تزني وتوضع أولادها وتحرقهم بالنار خوفاً من أهلها، ولم يعلم به غير أمها. فلما ماتت دفنت فانكشف

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 6 وذيله.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التكفين حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 70 من أبواب المزار وما يناسبه.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التكفين حديث: 1، 3.

ص: 391

(392)

وتلقينه الشهادتين والإقرار بالأئمة (عليهم السلام) (1).

التراب عنها ولم تقبلها الأرض، فنقلت من ذلك المكان إلى غيره، فجرى لها ذلك. فجاء أهلها إلى الصادق (عليه السلام) وحكوا له القصة. فقال لأمها: ما كانت تصنع هذه في حياتها من المعاصي؟ فأخبرته بباطن أمرها. فقال الصادق (عليه السلام): إن الأرض لا تقبل هذه، لأنها كانت تعذب خلق الله بعذاب الله. اجعلوا في قبرها شيئاً من تربة الحسين (عليه السلام) ففعل ذلك بها، فسترها الله تعالى"(1).

هذا ومقتضى إطلاق الأول والثالث وضعها في أي موضع من القبر، كما هو مقتضى إطلاق جماعة وصريح المختلف بل حتى في الكفن، كما عن حاشية الفاضل الميسي. وكأنه لضعف مرسل المصباح، حيث لا ينهض بتقييد الإطلاق. فليحمل على الفضل، بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن. ولعله لذا حكي عن الشيخ الاقتصار على مفاده. وقد يرجع إليه ما عن الغرية والاقتصاد من جعلها في وجه الميت.

وأما ما في السرائر وحكاه عن المفيد من أن الأقوى وضعها تحت خده، وما في المعتبر والذكرى من أن ذلك الأحسن. فلم يتضح وجهه.

(1) الظاهر أن مراد تلقينه بهذه الأمور بعد وضعه في لحده قبل تشريج اللبن، كما صرح به بعضهم، وفي الجواهر:" بلا خلاف أعرفه فيه، بل في الغنية الأجماع عليه. والأخبار به كادت تكون متواترة، كما في الذكرى. وهو كذلك".

ففي صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: فإذا وضعته في اللحد فضع فمك على أذنه فقل: الله ربك، والإسلام دينك، ومحمد نبيك، والقرآن كتابك، وعلي إمامك"(2).

وفي صحيح زرارة: "قال: إذا وضعت الميت في لحده قرأت آية الكرسي،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التكفين حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3.

ص: 392

واضرب يدك على منكبه الأيمن، ثم قل: يا فلان قل: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبياً، وبعلي إماماً. وسم [حتى] إمام زمانه" (1) وفي صحيح إسحاق بن عمار: "سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا أنزلت الميت في قبر فقل: بسم الله وبالله... ثم تضع يدك اليسرى على عضده وتحركه تحريكاً شديداً، ثم تقول: يا فلان بن فلان، إذا سئلت فقل: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وعلي إمامي، حتى تسوق الأئمة (عليهم السلام)، ثم تعيد عليه القول، ثم تقول: أفهمت يا فلان؟ قال (عليه السلام): فإنه يجيب، ويقول: نعم. ثم تقول: ثبتك الله بالقول الثابت، وهداك الله إلى صراط مستقيم. عرف الله بينك وبين أوليائك في مستقر من رحمته..."(2).

وفي خبر سالم عنه (عليه السلام):" ثم تدخل يدك اليمنى تحت منكبه الأيمن، وتضع يدك اليسرى على منكبه الأيسر، وتحركه تحريكاً شديداً، وتقول: يا فلان بن فلان، الله ربك، ومحمد نبيك، والإسلام دينك، وعلي وليك وإمامك، وتسمي الأئمة (عليهم السلام) واحداً واحداً إلى آخرهم أئمتك أئمة هدى أبرار، ثم تعيد عليه التلقين مرة أخرى. فإذا وضعت عليه اللبن..."(3) ، وفي خبر محفوظ الإسكاف عنه (عليه السلام): "ويدني فمه إلى سمعه ويقول: اسمع افهم - ثلاث مرات - الله ربك، ومحمد نبيك، والإسلام دينك، وفلان إمامك، اسمع، وافهم. وأعدها عليه ثلاث مرات. هذا التلقين"(4). ومثلها في ذلك غيرها.

وصريح الثالث والرابع إعادة التلقين مرتين، وقد يظهر من الخامس استحباب إعادته ثلاثاً، كما عن محكي الاقتصاد. وربما يحمل ذيله على أن الذي يعاد ثلاثاً هو:" اسمع وافهم "،كما تضمه صدره.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 6، 5، 4.

ص: 393

(394)

وأن يسد اللحد باللبن (1)،

(1) قال في الجواهر:" ولا نعلم في استحبابه خلافاً، كما اعترف به في المنتهى، وفي الغنية والمدارك والمفاتيح الإجماع عليه، وفي المعتبر: مذهب فقهائنا ".وكأنه لظهور النصوص في تعارف ذلك. ففي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" فإذا وضعت عليه اللبن فقل..."(1). ونحوه في ذلك خبر سالم بن مكرم(2). وفي صحيح إسحاق بن عمار: "ثم تضع الطين واللبن. فمادمت تضع اللبن والطين تقول..."(3). لكن ذلك بمجرده لا يكفي في إثبات أصل استحباب سدّ اللحد، فضلاً عن كونه باللبن.

نعم يمكن استفادة استحباب سد اللحد من ظهور كون اتخاذ اللحد من أجل جعل الميت في بيت متسع غير متعرض للطمّ، فإن ذلك يقتضي حفظ اللحد بتمامه من ذلك بسد بابه. كما قد يستفاد أيضاً مما تضمن الاهتمام بسدّ الخلل والفرج، كما يأتي في حديث عبد الله بن سنان.

وأما استحباب اللبن بخصوصه فيشكل إثباته جداً. لقرب كون تعارفه سابقاً لأنه الأيسر الذي شاع البناء به.

ولاسيما مع ما في حديث عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث:" إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل حتى لحَّد سعد بن معاذ، وسوى اللبن عليه، وجعل يقول: ناولني حجراً ناولني تراباً رطباً يسد به ما بين اللبن. فلما أن فرغ وحثا التراب عليه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأعلم أنه سيبلى ويصل إليه البلاء [البلى. علل]، ولكن الله يحب عبداً إذا عمل عملاً أحكمه"(4). حيث تضمن سدّ الخلل بالحجر. وحمله على اللبن خلاف الظاهر. كما أن مقتضى ذيله استحباب إحكام القبر فلو حصل بغير اللبن

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2، 5، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 60 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

ص: 394

وأن يخرج المباشر من طرف الرجلين (1). وأن يهيل الحاضرون التراب بظهور الأكف (2)،

كفى. بل لو اقتضى شدة إحكامه كان أفضل بمقتضى ذلك.

ومنه يظهر ضعف ما في الجواهر وعن المنتهى من أن اللبن أولى من غيره، لأنه المنقول عن السلف المعروف في الاستعمال. ولعله لذا عمم في الغنية لكل ما يقوم مقام اللبن. بل ظاهر مفتاح الكرامة كون ذلك مراد الأصحاب، وداخل في معاقد الإجماعات في المقام.

(1) كما صرح به غير واحد، بل لعله لا خلاف فيه في الجملة. ويقتضيه - مضافاً إلى ما تضمن أن باب القبر من قبل الرجلين(1) - موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال من دخل القبر فلا يخرج منه إلا من قبل الرجلين"(2). وقريب منه مرفوع سهل(3) ومقتضاهما بل المستفاد من جميع ذلك كراهة الخروج من جانب الرأس.

هذا ومقتضى إطلاق النصوص - كأكثر الأصحاب، بل صريح بعضهم

عدم الفرق بين الرجل والمرأة. لكن عن الكاتب أنه قال في المرأة يخرج من عند رأسها، لإنزالها عرضاً، وللبعد عن العورة. لكن لم نقف له على أثر، كما في المدارك، وإطلاق النص يدفعه، كما في كشف اللثام. وما ذكره من الوجه لا ينهض بالخروج عن الإطلاق.

(2) قال في المدارك:" وذكر الأصحاب استحباب الإهالة بظهور الأكف، والترجيع في تلك الحالة. ولم أقف فيهما على أثر ".وقد يستدل لاستحباب الإهالة بظهر الكف بما في خبر سالم:" ثم أحث التراب عليه بظهر كفيك ثلاث مرات، وقل:

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب الدفن وما يناسبه.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1، 2.

ص: 395

غير ذي الرحم (1).

اللهم إيماناً بك... "(1) إلى آخر ما تقدم عند الكلام في استحباب الذكر. وفي حديث محمد بن الأصبغ عن بعض أصحابنا:" رأيت أبا الحسن (عليه السلام) وهو في جنازة، فحثا التراب على القبر بظهر كفيه"(2).

لكن الثاني - مع ضعفه - لا يدل على الاستحباب. والاستدلال بالأول موقوف على كونه من تتمة الخبر، كما هو ظاهر الوسائل، لا من كلام الصدوق، كما استظهره في الجواهر.

هذا وفي صحيح عمر بن أذينة: "رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يطرح التراب على الميت، فيمسكه ساعة في يده ثم يطرحه، ولا يزيد على ثلاثة أكف. قال: فسألته عن ذلك، فقال: يا عمر كنت أقول: إيماناً بك وتصديقاً ببعثك. هذا ما وعد الله ورسوله إلى قوله: وتسليماً. هكذا كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبه جرت السنة"(3). وقد يحمل على استحباب كيفية أخرى من أجل الدعاء عند قبض التراب بالكف.

وأما الاسترجاع فلم أعثر على نص به، وإنما تضمن خبر سالم المتقدم الاسترجاع عند الخروج من القبر عند نفض اليد من التراب قبل حثوه على الميت. بناء على أن ذلك من تتمة الخبر، على ما أشرنا إليه آنفاً.

(1) ففي صحيح عبيد بن زرارة:" مات لبعض أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) ولد فحضر أبو عبد الله (عليه السلام)، فلما ألحد تقدم أبوه فطرح عليه التراب، فأخذ أبو عبد الله بكفيه، وقال: لا تطرح عليه التراب، ومن كان ذا رحم فلا يطرح عليه التراب،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5.

(3) الكافي ج: 3 ص: 198 باب من حثا على الميت وكيف يحثا حديث: 4. ورواه عنه في وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب الدفن حديث: 2. لكن هكذا: "هذا ما وعد [نا] الله ورسوله وصدق الله ورسوله. اللهم زدنا إيماناً إلى قوله: وتسليماً. هكذا كان يفعل..." ولا يخلو عن اضطراب.

ص: 396

وطمّ القبر (1)، وتربيعه (2) لا مثلثاً ولا مخمساً ولا غير ذلك. ورش الماء عليه (3) دوراً، يستقبل القبلة،

فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى أن يطرح الوالد أو ذو رحم على ميته التراب. فقلنا: يا ابن رسول الله أتنهانا عن هذا وحده؟ فقال: أنهاكم أن تطرحوا التراب على ذوي أرحامكم، فإن ذلك يورث القسوة في القلب، ومن قسا قلبه بعد من ربه"(1). ومنه يظهر أن استثناء ذي الرحم من أصل طرح، لا من كونه بظهر الكف. كما أن مقتضاه كراهة طرح الرحم التراب - كما يأتي منه (قدس سره) في المسألة الآتية - لا مجرد عدم استحبابه.

(1) إن كان المراد به ما يقابل بقاءه محفوراً منكشفاً فلا يبعد وجوبه، لعدم وضوح صدق الدفن بدونه، وإن كان المراد ما يقابل ستره بغير التراب من باب أو سقف أو نحو ذلك أشكل استفادة استحبابه من النصوص. فإنها وإن كانت ظاهرة في المفروغية عن الطمّ حتى تضمنت جملة من آدابه، إلا أنه لا يبعد إبتناؤها على تعارف اختياره ومألوفيته، لا على استحبابه تعبداً بخصوصيته.

(2) إجماعاً، كما في الغنية والمعتبر والتذكرة والمدارك وعن المفاتيح. ويقتضيه ما في حديث الأعمش عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث شرايع الدين: "والقبور تربع ولا تسنم"(2) ، وفي حديث وصية الإمام الباقر (عليه السلام):" وأن يربع قبره"(3) ، ومرسل الحسين بن الوليد عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قلت: لأي علة يربع القبر؟ قال: لعلة البيت، لأنه نزل مربعاً"(4) ، وغيره.

(3) إجماعاً، كما في الغنية ومجمع البرهان وظاهر المعتبر والمنتهى وجامع المقاصد، وفي المدارك نفي الخلاف عنه. كذا في مفتاح الكرامة. وتقتضيه النصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 9، 12.

ص: 397

ويبتدئ من عند الرأس (1)، فإن فضل شيء

المستفيضة، كصحيح زرارة قال أبو عبد الله (عليه السلام): "إذا فرغت من القبر فانضحه..." (1) وفي مرسل بن أبي عمير عنه (عليه السلام): "في رش الماء على القبر قال: يتجافى عنه العذاب مادام الندى في التراب" (2) وفي معتبر طلحة بن زيد عنه (عليه السلام): "قال: كان رش القبر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)" (3) وغيرها.

هذا ومقتضى هذه النصوص استحباب الرش مرة واحدة بعد إكمال الدفن. لكن في حديث محمد بن الوليد: "أن صاحب المقبرة سأله عن قبر يونس بن يعقوب وقال: من صاحب هذا القبر؟ فإن أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أمرني أن أرش قبره أربعين شهراً، أو أربعين يوماً، في كل يوم مرة"(4). وقد يناسبه ما تقدم في مرسل ابن أبي عمير من أنه يتجافى عنه العذاب مادام الندى في التراب. لكن في صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) الوارد في الجريدتين:" إنما العذاب والحساب كله في يوم واحد في ساعة واحدة، قدر ما يدخل القبر ويرجع القوم، وإنما جعلت السعفتان لذلك، فلا يصيبه عذاب ولا حساب بعد جفوفهما إن شاء الله"(5).

(1) كما ذكره غير واحد من الأصحاب. ويشهد له صحيح موسى بن أكيل عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: السنة في رش الماء على القبر أن تستقبل القبلة، وتبدأ من عند الرأس إلى عند الرجل، ثم تدور على القبر من الجانب الآخر، ثم يرش على وسط القبر. فكذلك السنة" (6) ونحوه في ذلك خبر سالم(7) إلا أن فيه: "فإن فضل من الماء شيء فصبه على وسط القبر" ،بناءً على أن ذلك كله من تتمة الخبر، كما يظهر من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 6.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التكفين حديث: 1.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5.

ص: 398

صب على وسطه (1). ووضع الحاضرين أيديهم عليه غمزاً بعد الرش (2)،

الوسائل، لا من كلام الصدوق استظهره في الجواهر ومقتضى الجمع بينه وبين النصوص السابقة حمله على تعدد المطلوب، لا على التقييد، كما قد يظهر من المتن وجملة كلمات الأصحاب.

(1) ذكره غير واحد من الأصحاب، بل نسبه في المعتبر إليهم مشعراً بدعوى الإجماع عليه. وينحصر وجهه بما تقدم في خبر سالم بناء على أنه من تتمة الخبر. أما صحيح موسى فقد تضمن الأمر برش الوسط مطلقاً من دون تقييد بما إذا فضل من الماء شيء.

(2) لصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: "قال: وإذا حثى عليه التراب وسوي قبره فضع كفك على قبره عند رأسه، وفرج أصابعك واغمز كفك عليه بعدما ينضح بالماء"(1) ، بناءً على ما هو الظاهر من أن قوله (عليه السلام):" بعدما ينضح... "متعلقاً بقوله:" فضع كفك "لا بقوله:" وفرج... "،حيث يبعد جداً نضح الماء بعد وضع المشيع يده على القبر قبل غمزه له. وهو صريح صحيحه الآخر:" قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا فرغت من القبر فانضحه، ثم ضع يدك عند رأسه وتغمر كفك عليه بعد النضح"(2) ، ونحوه غيره.

ولا يبعد حملها على تأكد استحباب الغمز مع استحباب مطلق الوضع أيضاً ولو بلا غمز، كما هو مقتضى إطلاق جماعة من الأصحاب. ولا أقل من كونه مقتضى الجمع بين الصحيحين وغيرهما من النصوص. ففي موثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله: "سألته عن وضع الرجل يده على القبر ما هو، ولم صنع؟ فقال: صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ابنه بعد النضح. قال: وسألته: كيف أضع يدي على قبور المسلمين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 33 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4.

ص: 399

فأشار بيده إلى الأرض ووضعها عليها ثم رفعها، وهو مقابل القبلة"(1).

بل لا يبعد ذلك في النضح أيضاً، فيستحب وضع اليد مطلقاً ولو مع عدم النضح - وإن كان بعد النضح أفضل - كما هو مقتضى إطلاق جماعة، وإطلاق ما يأتي من النصوص. نعم ما تضمن خصوصية بني هاشم ظاهر في اختصاص الاستحباب لخصوصيتهم بالغمز بعد النضح. كما أن مقتضى موثق عبد الرحمن الاستقبال حين وضع اليد أيضاً.

هذا ومقتضى الصحيح الأول استحباب كون الأصابع مفرجات، وهو المحكي عن جماعة منهم الشيخ، بل عنهم أيضاً استحباب تأثير الأصابع في القبر، ومن الظاهر أنه ملازم للغمز في التراب. بل هو الظاهر مما يأتي في بني هاشم.

وأما استحبابه مطلقاً ولو في غير التراب فلا يخلو عن إشكال وإن كان قد يناسب الإطلاق ما في مرسل الدعائم:" عن علي (صلوات الله عليه) أنه لما مات إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرني... ثم سوى قبره ووضع يده عند رأسه وغمزها حتى بلغ الكوع، وقال: باسم الله ختمتك من الشيطان أن يدخلك"(2). لظهور أن الختم من الشيطان مرغوب فيه مطلقاً. فتأمل.

كما أن مقتضاه ومقتضى الصحيحين استحباب كون الوضع عند رأس الميت. وهو محمول على تأكد الاستحباب مع كون أصل الوضع مستحباً، كما هو مقتضى إطلاق جماعة ويقتضيه الجمع مع بقية نصوص المسألة، منها موثق عبد الرحمن المتقدم.

هذا وفي خبر سالم: "ثم ضع يدك على القبر وادع للميت واستغفر له"(3). وقد يظهر منه أن وضع اليد من أجل الاستغفار. لكنه - مع احتمال كونه من كلام

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 33 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 31 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5.

ص: 400

ولاسيما إذا كان الميت هاشمياً (1) أو الحاضر لم يحضر الصلاة عليه (2).

الصدوق، نظير ما أشرنا إليه آنفاً - لا ينافي استحباب الوضع في نفسه ولو مع عدم الدعاء، كما هو مقتضى إطلاق النصوص السابقة.

(1) ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئاً لا يصنعه بأحد من المسلمين، كان إذا صلى على الهاشمي ونضح قبره بالماء وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين. فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه أثر كف رسول الله (عليه السلام)، فيقول: من مات من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)"(1). لكن لا ظهور له في استحباب ذلك لكل أحد من بني هاشم.

وأشكل من ذلك ما عن العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم قال: "إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا مات الرجل من أهل بيته يرش قبره ويضع يده على قبره، ليعرف أنه قبر العلوية وبني هاشم من آل محمد (عليهم السلام). فصارت بدعة في الناس كلهم، ولا يجوز ذلك"(2).

إذ فيه: أن فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك بقبور بني هاشم من أجل التعريف بها لا ينافي عموم استحباب وضع اليد على القبر، كما يستفاد من النصوص الكثيرة المتقدمة وغيرها.

(2) لحديث إسحاق بن عمار:" قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): إن أصحابنا يصنعون شيئاً إذا حضروا الجنازة ودفن الميت لم يرجعوا حتى يمسحوا أيديهم على القبر، أفسنة ذلك أم بدعة؟ فقال: ذلك واجب على من لم يحضر الصلاة عليه "(3) وحديث محمد بن إسحاق:" قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): شيء يصنعه الناس عندنا، يضعون أيديهم على القبر إذا دفن الميت. قال: إنما ذلك لمن لم يدرك الصلاة عليه، فأم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 33 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 31 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3، وبحار الأنوار ج: 82 ص: 22 باب الدفن وآدابه وأحكامه حديث: 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 33 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

ص: 401

والترحم عليه (1) بمثل: اللهم جاف الأرض عن جنبيه، وصعد روحه إلى أرواح المؤمنين في عليين، وألحقه بالصالحين (2). وأن يلقنه الولي بعد

من أدرك الصلاة [عليه] فلا"(1).

وهما محمولان على تأكد الاستحباب في حق من لم يحضر الصلاة عليه، لإطلاق النصوص ولاسيما صحيحي زرارة المتقدمين، حيث يصعب حملهما على خصوص من لم يحضر الصلاة عليه.

بل حديث إسحاق قد يظهر في عموم المشروعية، لأن السؤال فيه لما كان عن كونه سنة أو بدعة فالجواب بأنه واجب على من لم يحضر الصلاة لا يصلح عرفاً لبيان كونه بدعة على غيره. غاية الأمر أنه لا يتأكد استحبابه مع حق غيره، وإن كان سنة فيه أيضاً، ليكون الجواب مستوفياً لمورد السؤال. نعم هو مختص بمسح اليد على القبر، لا مجرد وضعها عليه، الذي هو محل الكلام. إلا أن يحمل على إرادة أصل الوضع، لأنه المعروف، كما يظهر من بقية النصوص.

(1) كما ذكره غير واحد. ويقتضيه ما في خبر سالم: "ثم ضع يدك على القبر وادع للميت واستغفر له"(2) ، بناءً على أنه من تتمة الخبر، كما أشرنا إلى نظيره آنفاً. وظاهره استحباب الدعاء حال وضع اليد، لا أنه مستحب مستقل. لكن لا ينبغي التأمل في استحباب الدعاء للميت مطلقاً ولو مع عدم وضعها، كما هو مقتضى إطلاق بعض النصوص الآتية. بل تضمن بعضها الدعاء له بعد الخروج من القبر قبل إكمال الدفن، كما تقدم عند الكلام في استحباب الذكر عند تناول الميت.

(2) كما تضمنه موثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: وإذا سويت عليه التراب قل: اللهم..."(3). وفي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): "ثم بسط

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 33 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5، 4.

ص: 402

انصراف الناس (1)

كفه على القبر، ثم قال: اللهم جاف الأرض عن جنبيه، وأصعد إليك روحه، ولقّه منك رضواناً، وأسكن قبره من رحمتك ما تغنيه به عن رحمة من سواك"(1).

(1) إجماعاً محصلاً ومنقولاً مستفيضاً، بل كاد يكون متواتراً، كذا في الجواهر. ويقتضيه صحيح إبراهيم بن هاشم عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: ينبغي أن يتخلف عند قبر الميت أولى الناس به بعد انصراف الناس عنه، ويقبض على التراب بكفيه ويلقنه برفيع صوته. فإذا فعل ذلك كفي الميت المسألة في القبر"(2).

وخبر يحيى بن عبد الله قال: "سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما على أهل الميت منكم أن يدرؤوا عن ميتهم لقاء منكر ونكير. قال: قلت: كيف يصنع؟ قال: إذا أفرد الميت فليستخلف [فليتخلف] عنده أولى الناس به، فيضع فمه عند رأسه ثم ينادي بأعلى صوته: يا فلان بن فلان، أو يا فلانة بنت فلان، هل أنت على العهد الذي فارقتنا عليه من شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله سيد النبيين، وأن علياً أمير المؤمنين وسيد الوصيين، وأن ما جاء به محمد حقّ، وأن الموت حقّ، والبعث حقّ، [وأن الساعة آتية لا ريب فيها] وأن الله يبعث من في القبور. قال: فيقول منكر لنكير: انصرف بنا عن هذا، فقد لقن حجته"(3).

وفي خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: ما على أحدكم إذا دفن ميته وسوى عليه، وانصرف عن قبره، أن يتخلف عند قبره، ثم يقول: يا فلان بن فلان أنت على العهد الذي عهدناك به، من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) إمامك، وفلان وفلان، حتى يأتي على آخرهم. فإنه إذا فعل ذلك قال أحد الملكين لصاحبه: قد كفينا الوصول إليه ومسألتنا إياه، فإنه قد لقن حجته، فينصرفان عنه، ولا يدخلان عليه"(4).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3، 1، 2.

ص: 403

رافعاً صوته (1). وأن يكتب اسم الميت على القبر، أو على لوح أو حجر

وصريح الأولين أن الذي يقوم بذلك هو الولي، بل هو الظاهر في الجملة من الثالث، لأن نسبة الميت للشخص ظاهر في اختصاصه به، وهو مناسب لإرادة الولي جداً. وإن كان قد يعمّ غيره ممن يقاربه في الانتساب للميت والاختصاص به.

لكن استظهر في الجواهر الاكتفاء بمن يأمره الولي، ونسبه لمعقد إجماع الذكرى. وكأنه لكونه حينئذ بمنزلة الولي، كما هو مقتضى الوكالة المستفادة من الأمر. ويشكل بعدم وضوح قابلية المورد للوكالة، بل هو خلاف ظاهر النصوص والفتاوى.

وأشكل من ذلك ما في المقنعة من أن الذي يقوم بذلك بعض إخوان الميت، وما عن الجامع من أن الذي يقوم به الولي أو غيره. فإنه مبني على إلغاء خصوصية الولي في النصوص. وهو بعيد عن ظاهرها جداً. نعم يحسن عند عدم قيام الولي بذلك قيام غيره برجاء ترتب الفائدة المطلوبة.

(1) بل بأرفع صوته كما عبر به جماعة. ويقتضيه خبر يحيى بن عبد الله المتقدم. بل لعله الظاهر من قوله (عليه السلام) في حديث إبراهيم "برفيع صوته" .لظهور الإضافة في العهد، ولا يبعد انصرافه في المشكك للأعلى المراتب. نعم قد يحمل الأمر به على تعدد المطلوب من دون أن يكون قيداً في التلقين، جمعاً بين الحديثين وخبر جابر المتقدم. وكذا الحال في وضع الملقن فمه عند رأس الميت الذي تضمنه خبر يحيى بن عبد الله، وقبض الملقن التراب بكفيه الذي تضمنه حديث إبراهيم.

وإن كان الأولى المحافظة مهما أمكن على شدة رفع الصوت، وكون النداء في جهة الرأس، حيث لا يبعد أن يكون لهما الأثر في إسماع الميت. ولاسيما بملاحظة ما ورد في التلقين في القبر من ضرب منكب الميت(1) ، ووضع الملقن فمه على أذنه أو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

ص: 404

(405)

(405)

وينصب على القبر (1).

(مسألة 65): يكره دفن الميتين في قبر واحد (2). ونزول الأب في قبر

إدنائه من سمعه(1). فلاحظ.

هذا وفي الجواهر: "ثم إن المنساق إلى الذهن من الأخبار والتعليل الذي فيها اختصاص هذا الحكم ونظائره بالكبير دون الصغير. لكنه صرح في جامع المقاصد بعدم الفرق كالجريدتين. ولا بأس به لو كان هناك عموم واضح يتناوله".

(1) ففي معتبر يونس بن يعقوب: "لما رجع أبو الحسن موسى (عليه السلام) من بغداد ومضى إلى المدينة ماتت له ابنة بفيد فدفنها، وأمر بعض مواليه أن يجصّص قبرها، ويكتب على لوح اسمها، ويجعله في القبر"(2). وفي خبر الخيراني عن جارية لأبي محمد (عليه السلام):" أن أم المهدي (عليه السلام) ماتت في حياة أبي محمد (عليه السلام). وعلى قبرها لوح مكتوب عليه: هذا قبر أم محمد(3)"(عليه السلام).

لكن يشكل استفادة عموم الاستحباب الشرعي منهما لاحتمال كونه بلحاظ تعلق الغرض بتعليم القبر في الموردين المذكورين بخصوصياتهما. مع أنهما إنما تضمنا الكتابة على لوح يجعل في القبر، دون الكتابة على نفس القبر.

(2) قال في الجواهر:" بلا خلاف أجده بين من تعرض له... عدا ابن سعيد في الجامع، فنهى. ولعله يريدها للأصل، وضعف المرسل عنهم (عليهم السلام): لا يدفن في قبر واحد اثنان، عن إفادة غير الكراهة ".لكن لم أعثر عاجلاً على المرسل المذكور في الوسائل ومستدركه والبحار وغيرها.

وربما يستدل على الكراهة بفحوى ما تضمن النهي عن جمعهما في جنازة واحدة، وهو مكاتبة الصفار:" كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام): أيجوز أن يجعل الميتين على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3، 4.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2، 3.

ص: 405

ولده (1)، وغير المحرم في قبر المرأة (2). وإهالة الرحم التراب (3)، وفرش القبر بالساج (4)

جنازة واحدة في موضع الحاجة وقلة الناس. وإن كان الميتان رجلاً وامرأة، يحملان على سرير واحد ويصلى عليهما؟ فوقع (عليه السلام): لا يحمل الرجل مع المرأة على سرير واحد"(1).

لكنه كما ترى، إذ - مع اختصاص النص بالرجل والمرأة - لا يتضح وجه الأولوية. وأوهن من ذلك الاستدلال باحتمال تأذي أحدهما بالآخر وافتضاحه عنده. ولعله لذا أهمله جماعة كثيرون.

(1) للنصوص المستفيضة ففي صحيح حفص بن البختري وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: يكره للرجل أن ينزل في قبر ولده"(2). ونحوه غيره، معللاً في بعضها بخوف الجزع المحبط للأجر، كما تضمن بعضها أنه مقتضى التأسي بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في موت ولده إبراهيم (عليه السلام).

(2) ففي موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): مضت السنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المرأة لا يدخل قبرها إلا من كان يراها في حياتها"(3). هذا مع قطع النظر عن حرمته عرضاً لو استلزم النظر المحرم أو غيره من المحرمات.

(3) كما يظهر مما سبق عند الكلام في استحباب إهالة غير الرحم التراب بظهر الكف.

(4) قال في الجواهر: "بلا خلاف أجده، بل في الذكرى ومجمع البرهان وعن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

ص: 406

جامع المقاصد وروض الجنان نسبته إلى الأصحاب مشعرين بدعوى الإجماع" .ولا يتضح وجهه عدا ما قد يشعر به السؤال في مكاتبة علي بن بلال إلى أبي الحسن (عليه السلام): "أنه ربما مات عندنا الميت وتكون الأرض ندية، يفرش القبر بالساج أو يطبق عليه، فهل يجوز ذلك؟ فكتب ذلك جائز"(1). وكذا التعليل في مرسل الدعائم عن علي (عليه السلام):" أنه فرش في قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قطيفة، لأن الموضع كان ندياً سبخاً"(2).

لكن ذلك قد يكون لبيان الداعي للفعل المذكور، لا لبيان ارتفاع الكراهة به، ليدل على الكراهة بدونه. بل تضمن بعض الأخبار أن أمير المؤمنين عليه السلام وضع على ساجة ادخرها له نوح عليه السلام(3) ، مع أن موضع قبره (عليه السلام) مرتفع يبعد أن يكون ندياً. وفي مرسل الفقيه: "وقد روي عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) إطلاق في أن يفرش القبر بالساج ويطبق على الميت بالساج"(4). وروي عن علي بن أحمد الدلال قال:" دخلت على أبي جعفر محمد بن عثمان - يعني: وكيل مولانا المهدي صلوات الله عليه يوماً - لأسلم عليه، فوجدت بين يديه ساجة، ونقاش ينقش عليها، ويكتب عليها آيات من القرآن وأسماء الأئمة (عليهم السلام) على جوانبها. فقلت له: يا سيدي ما هذه الساجة؟ فقال لي: هذه لقبري تكون فيه أوضع عليها، أو قال: أسند إليها"(5). فإن ذلك لا يناسب الكراهة. وكذا الصحيح المتقدم عند الكلام في استحباب وضع خدّ الميت على التراب المتضمن وضع البرد تحت جنب الميت.

ومنه يظهر ضعف ما عن الشهيد الثاني وشيخه الميسي من حرمة فرش القبر بما له قيمة من الثياب. حيث لا وجه له إلا دعوى كونه تبذيراً، والتي ينهض ما سبق بمنعها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(2) و مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 27 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 27 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 3.

(5) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 27 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 4.

ص: 407

من غير حاجة (1) وتجصيصه (2)

(1) وأما معها فلا كراهة، كما عن بعضهم وظاهر آخرين. ويقتضيه ما سبق.

(2) للإجماع المحكي في صريح المبسوط والتذكرة وعن نهاية الأحكام والمفاتيح وظاهر المنتهى عليه. كذا في الجواهر. ويقتضيه صحيح علي بن جعفر: "سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن البناء على القبر والجلوس عليه هل يصلح؟ قال: لا يصلح البناء عليه، ولا الجلوس، ولا تجصيصه، ولا تطيينه" (1) ونحوه غيره. ويناسبه ما تضمن النهي عن أن يزاد على القبر تراب لم يخرج منه، أو أن يطين بغير طينه(2). ولا إشكال عندهم في حمل جميع ذلك على الكراهة، كما يناسبه السيرة.

نعم هو لا يناسب ما تقدم في معتبر يونس بن يعقوب: "لما رجع أبو الحسن موسى (عليه السلام) من بغداد ومضى إلى المدينة ماتت له ابنة بفيد، فدفنها، وأمر بعض مواليه أن يجصص قبرها..."(3).

وربما يجمع بينه وبين ما سبق تارة: بحمل النصوص الأول على التجديد، دون التجصيص ابتداء، كما نسب للشيخ في كلام جماعة، وإن لم يتضح من كلامه. وأخرى: بحملها على ما إذا كان القبر في المواضع المباحة دون المملوكة، كما قد يناسبه تخصيص الشيخ في المبسوط الكراهة بها. وثالثة: بحمل معتبر يونس على التطيين دون التجصيص. ورابعة: بحمل النصوص الأول على غير أهل الشرف، وحمل معتبر يونس عليهم، كما يظهر من المتن.

والكل كما ترى. للإشكال في الأول بأن المهم عند الناس هو التجصيص الأول، فحمل إطلاق النصوص الأول على غيره بعيد جداً. وفي الثاني بأنه تبرعي بلا شاهد. بل حمل معتبر يونس على الأرض المملوكة بعيد جداً، لأن فيد منزل في الطريق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 36 من أبواب الدفن وما يناسبه.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 37 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

ص: 408

فمن البعيد جداً كون الدفن فيه في الأرض المملوكة. وفي الثالث بأنه تأويل لمعتبر يونس بلا شاهد. مع أن بعض نصوص الكراهة قد اشتمل على التطيين أيضاً. وأما الرابع فهو وإن كان لا يأباه معتبر يونس، إلا أنه لا يأبى أيضاً الحمل على خصوص من له شرف ديني، أو خصوص الهاشمي، أو العلوي من أولاد الأئمة (عليهم السلام) أو غير ذلك. بل من البعيد جداً أن يكون مطلق الشرف في الدنيا مصححاً لتمييز القبر.

هذا وقد حمل الشيخ معتبر يونس على بيان الرخصة من دون أن ينافي الكراهة. لكن من البعيد جداً اهتمام الإمام (عليه السلام) وأمره بما هو مكروه. خصوصاً مثل هذه الكراهة، لما هو المرتكز من عدم مناسبة البناء والعمران للموت والقبر. ولاسيما مع كثرة النصوص المتقدمة الدالة على الكراهة، وفي بعضها أن كل ما جعل على القبر من غير ترابه فهو ثقل على الميت.

نعم لا يبعد ارتفاع الكراهة أو مزاحمتها بوجود غرض ديني كتعظيم الشعائر الدينية ونحوه، كما هو المناسب لمورد معتبر يونس.

ومن هنا لا يبعد استثناء مطلق من كان في تشييد قبره والبناء عليه تعظيم للدين، من الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم) والعلماء والصالحين. بل يستحب تشييد قبورهم وتعظيمها، كما عليه سيرة الطائفة، بل المسلمين عموماً، عدا من شذ من أهل البدع والضلالات.

ويناسبه ما ورد في عمارة قبور الأئمة (عليهم السلام). مثل ما في خبر أبي عامر واعظ أهل الحجاز:" أتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فقلت: ما لمن زار قبره - يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) - وعمّر ترتبته؟ فقال: يا أبا عمارة حدثني أبي عن أبيه عن جده الحسين بن علي (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: والله لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها. قلت: يا رسول الله: ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟ قال لي: يا أبا الحسن إن الله قد جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنّ إليكم، وتحتمل الأذى والمذلة فيكم، فيعمرون قبوركم يكثرون زيارتها...

ص: 409

وتطيينه (1).

أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي... يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس..."(1). وما في خبر صفوان في حديث زيارته لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "وأعطاني دراهم وأصلحت القبر"(2).

وفي مرفوع علي بن أسباط:" قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنك إذا أتيت الغري رأيت قبرين: قبراً كبيراً وقبراً صغيراً. وأما الكبير فقبر أمير المؤمنين (عليه السلام) وأما الصغير فرأس الحسين (عليه السلام)"(3). فإن تميز القبرين بالصغر والكبر يناسب تحديدهما بالبناء، لا بمجرد جمع التراب الذي يتعرض للانتشار والاضمحلال في المواضع المكشوفة بهبوب الرياح.

بل ما تضمن استحباب زيارة قبور المعصومين (عليهم السلام) وأولادهم يناسب المفروغية عن رجحان تحديدها بالبناء ونحوه، لأن معالم القبر بدون ذلك تندرس وتضمحل بمرور الزمان، بل بقاؤها كومة من التراب لا يناسب احترامها وتعظيمها الذي يستفاد من رجحان زيارتها.

ومن ثم جرت سيرة الطائفة على الاهتمام بعمارتها من عصور المعصومين (عليهم السلام) وبمرأى منهم ومسمع. بل الأمر أوضح من ذلك وأظهر.

نعم لا يبعد عدم جريان ذلك فيمن ورد الأمر بزيارته لا بلحاظ كونه تعظيماً للشعار، بل لمجرد صلته، كالأبوين والإخوان المؤمنين، لما هو المعلوم من عدم ابتناء ذلك على الاستمرار بتعاقب الأيام والأعوام، وعدم ابتناء الزيارة على تعظيم القبر واحترامه بلحاظ من فيه، فلا مخرج فيه عما تضمنته النصوص السابقة من الكراهة.

(1) للنصوص المتقدمة. لكن في موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 26 من أبواب المزار وما يناسبه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 29 من أبواب المزار وما يناسبه حديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 32 من أبواب المزار وما يناسبه حديث: 7.

ص: 410

إلا أن يكون الميت من أهل الشرف (1). وكذا تسنيمه (2)،

لا تطينوا القبر من غير طينه"(1). وقد يجمع بينه وبينها تارة: بحمل الإطلاق على خصوص التطيين بغير طين القبر، حيث لا يبعد انصرافه له. وأخرى: باختلاف مرتبة الكراهة.

هذا وفي المبسوط: "ويكره تجديد القبور بعد اندراسها. ولا بأس بتطيينها ابتداء" .ولا يتضح وجهه بعد إطلاق النصوص المتقدمة. بل حمل الإطلاق على خصوص ما عدا التطيين الأول بعيد، كما ذكرنا نظيره في التجصيص.

نعم في حديث الأصبغ بن نباتة: "قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من جدد قبراً أو مثل مثالاً فقد خرج عن الإسلام"(2). ومقتضاه الحرمة بناءً على روايته بالجيم. لكن تقدم في المسألة الثالثة والستين أنه روي بوجوه مختلفة، فلا ينهض بالاستدلال. ولاسيما مع ظهور مخالفته لفتوى الأصحاب وعمل الطائفة.

(1) تقدم أن المتيقن من ذلك أهل الشرف في الدين ممن يكون حفظ قبره تعظيماً لشعائره.

(2) لحديث شرايع الدين المروي في الخصال عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال:" والقبور تربع ولا تسنم"(3). ومرسل تحف العقول عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون: "ويربع قبر الميت ولا يسنم"(4). وحديث الأصبغ" قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من حدد قبراً أو مثل مثالاً فقد خرج عن [من] الإسلام "(5) بناء على قراءته بالحاء والدالين، لأن تحديد القبر تسنيمه وإن تقدم قريباً أنه روي بوجوه مختلفة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 36 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 43 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب الدفن حديث: 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 43 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

ص: 411

والبناء عليه (1)،

هذا وربما يستفاد مما تقدم في استحباب تربيع القبر(1) ، إما لأن المراد من التربيع التسطيح، أو لاستفادته تبعاً منه. لكن الأول غير ظاهر، بل هو لا يناسب مرسل الحسين بن الوليد المتقدم عند الكلام في التربيع. والثاني غير ظاهر الوجه.

قال في الجواهر:" إلا أنا في غنية عن ذلك بما في صريح الخلاف والتذكرة وجامع المقاصد - كظاهر غيرها - من الإجماع عليه، ومع معروفية ذلك عند الشيعة. بل عن ابن أبي هريرة أنه قال: السنة التسطيح، إلا أن الشيعة استعملته، فعد لنا عنه إلى التسنيم ".وحكي نظير ما عن ابن أبي هريرة عن جماعة ففي كتاب الغدير عن كتاب الرحمة في اختلاف الأمة:" وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: التسنيم أولى، لأن التسطيح صار شعار الشيعة. وقال الغزالي والماوردي: أن تسطيح القبور هو المشروع، لكن لما جعلته الرافضة شعاراً لهم عدلنا عنه إلى التسنيم"(2).

هذا وفي الجواهر: "بل الظاهر كراهة التسنيم، لما في التذكرة من الإجماع عليه، كالغنية: لا يسنم. والنهي في خبر الأعمش المتقدم...".

(1) على المشهور، كما في الذكرى. بل إجماعاً، كما في المبسوط والتذكرة، وإن خصه في أولهما بما إذا كان في الأرض المباحة. ويقتضيه صحيح علي بن جعفر المتقدم عند الكلام في التجصيص وخبر يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصلى على قبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه"(3). ونحوهما غيرهما. والظاهر أن المراد به بناء الظل ونحوه على القبر.

خلافاً لما عن ابن الجنيد من أنه لا بأس بالبناء عليه، وضرب الفسطاط، يصونه ومن يزوره، وهو محجوج بما سبق.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب الدفن وما يناسبه.

(2) كتاب الغدير ج: 10 ص: 209.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2.

ص: 412

والمشي عليه (1)

نعم يستثنى من الكراهة القبور التي يكون الاهتمام بها وزيارتها تعظيماً للشعائر، كقبور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) والأولياء، كما يناسبه السيرة المتصلة بعصور المعصومين (عليهم السلام)، حيث لا إشكال ظاهراً في قيام البناء في عصورهم على قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والحسين (عليهما السلام) وغيرها.

وقد تضمنت ذلك النصوص في الجملة. ففي معتبر الحسين بن ثوير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: وعليك التكبير والتهليل... حتى تصير إلى باب الحائر... "(1) وفي معتبر أبي حمزة عنه (عليه السلام)" قال: فإذا أتيت الباب الذي يلي المشرق... ثم ادخل الحاير [الحير]... ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء... "(2) وفيه أيضاً عنه:" قال الصادق (عليه السلام) إذا أردت زيارة قبر العباس بن علي (عليه السلام) وهو على شط الفرات بحذاء الحائر فقف على باب السقيفة"(3). ونحوها غيرها، كما يظهر بمراجعة نصوص زيارة قبورهم الشريفة.

مضافاً إلى بعض النصوص الدالة على استحباب عمارة قبورهم (صلوات الله عليهم)(4). بل التأكيد في النصوص على زيارة قبورهم (عليهم السلام) قد يظهر في المفروغية عن رجحان عمارتها، لمناسبتها للزيارة ولو بلحاظ الحال الطبيعي لمواضع التجمع المقصودة. فلاحظ.

(1) كما في الخلاف وغيره، ونسب إلى العلماء في المعتبر والى علمائنا في التذكرة. ولم يتضح الوجه فيه عدا ما رواه العامة عن النبي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "لأن أمشي

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 6 ص: 54.

(2) كامل الزيارات ص: 222.

(3) كامل الزيارات ص: 256.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 10 باب: 26 من أبواب المزار وما يناسبه.

ص: 413

(414)

والجلوس (1) والإتكاء (2).

(مسألة 66): يكره نقل الميت من بلد موته إلى بلد آخر (3) إلا إلى

على جمرة أو سيف أو خصف ونعلي برجلي أحب إلي أن أمشي على قبر مسلم" (1) وقال: "لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم" (2) وغيرهما.

لكن في مرسل الصدوق: "قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): إذا دخلت المقابر فطأ القبور، فمن كان مؤمناً استراح إلى ذلك، ومن كان منافقاً وجد ألمه"(3). ولعله لذا حكي عن بعض متأخري المتأخرين إهماله.

(1) كما في الخلاف وغيره ونسب إلى العلماء في المعتبر والى علمائنا في التذكرة. ويقتضيه صحيح علي بن جعفر المتقدم عند الكلام في كراهة التجصيص، وخبر يونس المتقدم عند الكلام في كراهة البناء عليه.

(2) كما في الخلاف وغيره ونسب إلى العلماء في المعتبر والى علمائنا في التذكرة. ولم نعثر له على شاهد سوى خبر يونس المتقدم، فإنه وإن رواه في موضعين من التهذيب(4) كما سبق خالياً عن ذكر الإتكاء، إلا أنه رواه في الاستبصار بنفس السند هكذا:" نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصلى على قبر أو يقعد عليه، أو يتكأ عليه، أو يبنى عليه"(5). وكذلك رواه في الوسائل(6). والظاهر تعارض الوجهين في الحديث وتساقطهما. ولعله لذا حكي عن بعض المتأخرين إهماله.

(3) بلا خلاف أجده فيه، بل في المعتبر والتذكرة والذكرى وجامع المقاصد وعن

********

(1) كنز العمال ج: 8 ص: 98 رقم: 1869.

(2) كنز العمال ج: 8 ص: 98 رقم: 1868.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 62 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(4) تهذيب الأحكام ج: 1 ص: 461، وج: 3 ص: 201.

(5) الاستبصار ج: 1 ص: 482.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 6.

ص: 414

المشاهد المشرفة (1)، والمواضع المحترمة، فإنه يستحب.

نهاية الأحكام وغيرها الإجماع عليه. كذا في الجواهر. ويشهد به معتبر الجعفريات: "إن رجلاً مات بالرستاق على رأس فرسخ من الكوفة، فحملوه إلى الكوفة، فرفع ذلك إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأنهكهم عقوبة. ثم قال: ادفنوا الأجساد في مصارعهم، ولا تفعلوا كفعل اليهود، فإن اليهود تنقل موتاهم إلى بيت المقدس"(1). ونحوه مرسل الدعائم، وزاد فيه عنه (عليه السلام):" وقال: لما كان يوم أحد أقبلت الأنصار لتحمل قتلاها إلى دورها فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منادياً فنادى: ادفنوا الأجساد في مصارعها "(2) وغيرهما.

وربما يستدل عليه أيضاً بمنافاته للتعجيل، الذي ورد الأمر به في النصوص(3) بنحو يظهر في كراهة التأخير. لكنه لا يدل على كراهة النقل بنفسه. على أنه قد لا ينافي التعجيل.

(1) قال في الجواهر:" فلا يكره بل يستحب، بلا خلاف فيه أيضاً. بل في المعتبر أنه مذهب علمائنا خاصة. وفيه أيضاً والتذكرة والذكرى وجامع المقاصد وعن غيرها أن عليه عمل الإمامية من زمن الأئمة (عليهم السلام) إلى الآن من غير تناكر. قال في الذكرى: فكان إجماعاً. قلت: بل هو أقوى منه بمراتب. وهو كافٍ في ثبوت الحكم المذكور".

وما ذكره غير بعيد، فإن عمل الإمامية في عصر أئمتهم في مثل ذلك، مما يبتني على التقرب لهم وشدة التعلق بهم، لا يكون عادة مخالفاً لرأيهم (عليهم السلام) ومجانباً لتعاليمهم. إلا أن الشأن في ثبوت عمل الإمامية في عصور أئمتهم، حيث لا يتسنى لهم ذلك غالباً، بسبب جور الظالمين فلابد من إثبات ذلك.

ولم نعثر على شاهد له إلا قصة اليماني المروية عن إرشاد القلوب وفرحة الغري،

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 13 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 15.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 47 من أبواب الاحتضار وما يناسبه.

ص: 415

فعن الأول:" روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه إذا أراد الخلوة بنفسه أتى طرف الغري. فبينما هو ذات يوم هناك مشرف على النجف فإذا رجل قد أقبل من البرية راكباً على ناقة وقدامه جنازة، فحين رأى علياً (عليه السلام) قصده حتى وصل إليه وسلم عليه، فرد عليه السلام فقال: من أين؟ قال: من اليمن. قال: وما هذه الجنازة التي معك؟ قال: جنازة أبي لأدفنه في هذه الأرض. فقال له علي (عليه السلام): لِمَ لا دفنته في أرضكم؟ قال: أوصى بذلك، وقال: إنه يدفن هناك رجل يدعى في شفاعته مثل ربيعة ومضر. فقال (عليه السلام) له: أتعرف ذلك الرجل؟ قال: لا قال: أنا والله ذلك الرجل، ثلاثاً، فادفن، فقام ودفنه"(1). والقبر قائم حتى اليوم حسبما هو المتسالم عليه.

ويناسبه دفن أمير المؤمنين منفرداً في الغري، فإنه من مصاديق النقل عن بلد الموت إلى غير مقبرته، لأن مقبرة الكوفة الثوية، وهي أقرب للكوفة من الغري، والغري يبعد عن الكوفة أكثر من فرسخ، ولا يظهر له وجه إلا شرف البقعة أو تشريفها.

ويقتضيه أيضاً ما عن الذكرى عن الغرية للمفيد: "وقد جاء حديث يدل على رخصته في نقل الميت إلى بعض مشاهد آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أوصى الميت بذلك"(2). وما عن المصباح:" لا ينقل الميت من بلد إلى بلد. فإن نقل إلى المشاهد كان فيه فضل ما لم يدفن. وقد رويت بجواز نقله إلى بعض المشاهد رواية. والأول أفضل"(3). وما في النهاية: "فإذا دفن في موضع فلا يجوز تحويله من موضعه. وقد وردت رواية بجواز نقله إلى بعض مشاهد الأئمة (عليهم السلام) سمعناها مذاكرة. والأصل ما قدمناه"(4). وفي المبسوط:" وقد رويت رخصته في جواز نقله إلى بعض المشاهد. سمعناها مذاكرة. والأول أفضل"(5). وقريب من ذلك ما عن مختصر المصباح والجامع وغير ذلك مما يأتي.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 13 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 7.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5، 3، 4.

(5) المبسوط ج: 1 ص: 187.

ص: 416

وقد يستأنس لعموم استحباب النقل للمواضع المحترمة بذلك وبما ورد في الدفن في الحرم. ففي صحيح هارون بن خارجة: "سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من دفن في الحرم أمن من الفزع الأكبر فقلت: من برّ الناس وفاجرهم؟ قال: من برّ الناس وفاجرهم"(1). وفي خبر علي بن سليمان:" كتبت إليه أسأله عن الميت يموت بعرفات يدفن بعرفات أو ينقل إلى الحرم؟ فأيهما أفضل؟ فكتب: يحمل إلى الحرم ويدفن فهو أفضل "(2) وقريب منه خبره الآخر إن لم يكن عينه. وذلك بإلغاء خصوصية مواردها. فتأمل.

وربما يستدل بما تضمن نقل يوسف (عليه السلام) ليعقوب (عليه السلام) إلى أرض الشام ودفنه في بيت المقدس(3) ونقل موسى (عليه السلام) لعظام يوسف (عليه السلام) من مصر ودفنه في أرض الشام(4) ، وأن ذلك هو سبب دفن اليهود موتاهم في بيت المقدس، ونقل نوح (عليه السلام) عظام آدم (عليه السلام) من مكة ودفنه في الغري(5).

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأنها قصص في واقعة في شرايع سابقة لا إطلاق لها، ولم يبين وجهها. ولم ترد مورد الحثّ على الفعل أو الاستدلال به، ليكون ظاهراً في استحباب النقل. نعم تصلح شاهداً على أن نقل اليهود لموتاهم إلى بيت المقدس ليس ابتداعاً منهم، بل تأسياً بأنبيائهم (عليهم السلام)، فينافي معتبر الجعفريات والدعائم المتقدمين الظاهرين في الإنكار على اليهود في سيرتهم المبنية على النقل بقصد التبرك بالمكان.

هذا مضافاً إلى ظهور بعض النصوص في أن شرف الأرض مرغب في الدفن فيها، مثل قول أمير المؤمنين (عليه السلام):" إن الله لم يقبض نبيه إلا في أطهر البقاع فينبغي أن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 44 من أبواب مقدمات الطواف حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 9.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 2، 7.

(5) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 27 من أبواب المزار وما يناسبه حديث: 1. مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 13 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 5.

ص: 417

يدفن في البقعة التي قبض فيها"(1). وقريب منه غيره(2). وقوله (عليه السلام) لما نظر إلى ظهر الكوفة: "ما أحسن منظرك وأطيب قعرك. اللهم اجعله قبري"(3). وما تضمن اهتمام الإمام الحسن (عليه السلام) بأن يدفن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو محاولة الإمام الحسين (عليه السلام) ذلك(4). فإن ذلك وإن لم يناف كراهة النقل، إلا أنه يصلح لمزاحمتها.

هذا وفي الجواهر بعد أن قرب جواز النقل لأجل ذلك بل رجحانه استشكل في جواز النقل مع لزوم هتك بدن الميت بظهور رائحته وتغيره قال:" ولم أعثر على من نصّ على جواز حمله، إلا أنه كان يفتي به الأستاذ المعتبر الشيخ جعفر تغمده الله برحمته، حتى ترقى إلى أنه قال: إنه لو توقف نقله على تقطيعه إرباً إرباً جاز. ولا هتك فيه للحرمة إذا كان بعنوان النفع له ودفع الضرر كما يصنع مثله في الحي".

لكنه كما ترى لعدم الإشكال ظاهراً في حرمة تأخير الدفن بنحو يلزم هتك البدن بالوجه المذكور، عملاً بمرتكزات المتشرعة المؤيدة بما تضمن تقديم صلاة الجنازة على صلاة الفريضة إذا كان الميت مبطوناً أو نفساء أو نحو ذلك(5). وبأن الحكمة من الدفن تجنب الهتك. وحينئذ لا مجال لمزاحمة الحرمة المذكورة باستحباب النقل للمشاهد، لعدم صلوح الحكم غير الإلزامي لمزاحمة الحكم الإلزامي بحيث يرفعه.

وأما الاستدلال على الجواز بقصة اليماني فيدفعه - مع عدم ثبوتها بطريق معتبر - أنها قضية في واقعة. ولعله لم يلزم الهتك بالنحو المذكور فيها ولو بنحو من الإعجاز خص به الرجل المذكور كما خص بعلم ذلك، من أجل التنبيه لأهمية الدفن في هذه البقعة، أو لغير ذلك مما يعلمه الله تعالى. وهناك وجوه أخر ظاهرة الضعف ل

********

(1) بحار الأنوار ج: 22 ص: 525.

(2) بحار الأنوار ج: 22 ص: 534.

(3) بحار الأنوار ج: 100 ص: 232.

(4) بحار الأنوار ج: 44 ص: 141، 142، 150.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 418

ولاسيما الغري والحائر (1). وفي بعض الروايات أن من خواص الأول إسقاط عذاب القبر، ومحاسبة منكر ونكير (2).

(مسألة 67): لا فرق في جواز النقل بين ما قبل الدفن وما بعده. إذا اتفق تحقق النبش (3).

مجال لإطالة الكلام فيها تراجع في الجواهر.

(1) قال في البحار:" وقد وردت أخبار كثيرة في فضل الدفن في المشاهد المشرفة، لاسيما الغري والحائر على مشرفهما الصلاة والسلام ".ويناسبه ما تضمن شرف البقعتين المذكورتين(1) ، حيث تقدم أن ذلك من المرغبات في الدفن فيها.

وأما ما تضمن أنه يحشر من الغري سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب(2). فهو لا يدل على شرف البقعة، بل على شرف بعض من دفن فيها. هذا وكان المناسب له (قدس سره) ذكر الحرم أيضاً. لما تقدم من النصوص.

(2) فعن إرشاد القلوب للديلمي أنه قد وردت بذلك الأخبار الصحيحة عن أهل البيت(3) (عليهم السلام). قال في الجواهر:" وفي بالي أني سمعت من بعض مشايخي ناقلاً له عن المقداد أنه قال: قد تواترت الأخبار أن الدفن في سائر مشاهد الأئمة (عليهم السلام) مسقط لسؤال منكر ونكير".

(3) لأصالة البراءة من حرمة النقل حينئذ. بل قد يستفاد استحبابه من الوجوه السابقة، ولو بتنقيح المناط. هذا ويأتي في المسألة الآتية الكلام في جواز النقل بعد الدفن ولعل مرادهم به ما إذا توقف على النبش، دون محل الكلام، على ما قد يتضح.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 10 باب: 27، 68 من أبواب المزار وما يناسبه وغيرهما.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1. ومستدرك الوسائل ج: 2 باب: 12 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

(3) بحار الأنوار ج: 100 ص: 232.

ص: 419

(420)

بل لا يبعد جواز النبش لذلك (1) إذا كان بإذن الولي (2)، ولم يلزم هتك حرمته الميت (3).

(مسألة 68): يحرم نبش قبر (4)

(1) لما يأتي في المسألة الآتية.

(2) لما يأتي من اعتبار إذنه في جواز النبش.

(3) لما يأتي من حرمة النبش معه. واستحباب النقل - لو تم - لا ينهض بمزاحمة الحرمة المذكورة، لما أشرنا إليه آنفاً من أن الحكم غير الإلزامي لا يصلح لمزاحمة الحكم الإلزامي.

(4) قال في مفتاح الكرامة:" بإجماع المسلمين، كما في المعتبر ونهاية الأحكام. وبإجماع العلماء، كما في كشف الالتباس. وهو إجماعي، كما في التذكرة وجامع المقاصد ومجمع البرهان والمفاتيح. ولا أعرف فيه خلافاً، كما في الكفاية ".نعم أطلق في الوسيلة كراهة نقله إلى قبر آخر. ومقتضاه عدم حرمة النبش من أجل النقل مطلقاً.

وكيف كان فقد يستدل على حرمة النبش. بأمور:

الأول: النصوص الكثيرة المتضمنة ثبوت الحدّ على النباش(1) وغيره.

لكنها غير واردة لبيان حرمة النبش، وإنما يستفاد منها المفروغية عن حرمته من دون أن يكون لها إطلاق في ذلك. والمتيقن منها ما إذا كان في مقام سرقة الكفن من أجل أن القبر حرز للمسروق الذي هو شرط في ثبوت حدّ السرقة، كما هو المناسب لظهور الصيغة فيمن عمله النبش، ولا غرض عرفي في اتخاذ النبش عملاً ومهنة إلا أخذ الكفن والتمول به.

ولذا كان ظاهر الأصحاب أن الحدّ المذكور من فروع السرقة. بل هو الظاهر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 19 من أبواب حد السرقة.

ص: 420

من بعض النصوص، كقوله (عليه السلام):" هو سارق وهتاك للموتى "(1) وقوله (عليه السلام):" إنا لنقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا"(2). لوضوح أن القطع للأحياء إنما يكون في السرقة منهم، لا في مجرد الدخول لبيوتهم. وغير ذلك.

ولذا لا إشكال ظاهراً في عدم ثبوت الحد المذكور فيمن ينبش لغرض آخر، كدفن الميت، أو إصلاح القبر أو غير ذلك مما لا يتعلق بالسرقة. وحينئذ لا تنهض النصوص بحرمة ذلك.

الثاني: قوله (عليه السلام) في حديث الأصبغ: "من خدد قبراً أو مثل مثالاً فقد خرج عن [من] الإسلام"(3). بناءً على روايته بالخاء المعجمة والدال المشددة بعدها دال مخففة، من الخدّ وهو الشق. لكن سبق عند الكلام في حرمة الدفن في قبر ميت اختلاف رواية الحديث على وجوه، بحيث لا مجال للتعويل على شيء منها. مضافاً إلى ما سبق من الإشكال في دلالته حينئذ.

الثالث: ما في الجواهر من أن في النبش هتكاً للميت ومثلة له، وتعرضاً للإطلاع على بعض ما صنع به في القبر. ويشكل بعدم وضوح ملازمة النبش للهتك، بل هو يختص بما إذا ابتنى على الاستهوان بالميت، دون ما إذا كان لغرض عرفي أو شرعي. كما لا يلزم منه المثلة بالميت من نفس النبش، بل مما قد يتبعه من التصرف بجسد الميت، وهو خارج عن محل الكلام. وأما الإطلاع على بعض ما صنع به في القبر، فهو غير معلوم، ولم يتضح كونه محذوراً مانعاً من النبش.

الرابع: أن المراد من أدلة وجوب الدفن لما لم يكن هو المسمى ولو آناماً، أو إلى أمد خاص بحيث يجوز إخراج الميت بعده وإبقاؤه غير مدفون، تعين حملها على وجوب استمرار الدفن بعد وقوعه وعدم جواز كشف الميت بعد دفنه. وكأنه إلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 19 من أبواب حد السرقة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 19 من أبواب حد السرقة حديث: 8، 12.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 43 من أبواب الدفن وما يناسبه حديث: 1.

ص: 421

هذا نظر في الجواهر، حيث قال:" الظاهر كون المراد منها بعد تحقق الدفن إنما إبقاؤه مدفوناً".

وأما ما ذكره قبل ذلك من ظهور أدلة الدفن في وجوبه في جميع الأزمنة، ومنها زمان النبش. فهو غير ظاهر، لأن لازمه وجوب المبادرة العرفية للدفن بمجرد الموت، لأنه أول أزمنة التكليف بالدفن، ومن المعلوم عدمه واستحباب التعجيل لا غير، والتزام خروج ذلك تخصيصاً فيقتصر فيه على المتيقن بعيد جداً. فالأولى ما تضمنه كلامه المتقدم الراجع لما ذكرناه.

لكنه يشكل بأن مجرد عدم إرادة المسمى من الدفن، ولا التحديد بأمد خاص، لا يلزم بكون الواجب هو الدفن بنحو الاستمرار الحقيقي، بنحو ينافي النبش ثم الدفن، لإمكان أن يكون المراد منه الدفن بالنحو الذي يجنب الميت الهتك، بظهور رائحته، وتغير صورته، وتحلل جسده، ويمنعه من التعرض للسباع ونحوها مما يوجب ابتذاله وانتهاك حرمته، فالواجب أن يكون في قبر يمنعه من ذلك، وهو لا ينافي جواز نبشه وظهوره في وقت قصير، ثم إعادة دفنه من دون أن يلزم شيء من ذلك.

هذا ويظهر من بعض مشايخنا عدم كون هذه الأمور محذوراً، لعدم كونها علة لوجوب الدفن يدور مدارها وجوداً وعدماً، بل حكمة لا غير. ولذا يجب الدفن لو أمنت هذه الأمور بتحنيط ونحوه، أو بعد تحققها بالدفن. ما لم يلزم هتك الميت، فإن هتك المؤمن حرام، ومع كون النبش لغرض عقلاني خصوصاً إذا كان لمصلحة الميت لا يلزم الهتك.

وهو غريب جداً، فإن كونها حكمة للدفن لا ينافي استفادة اهتمام الشارع بها ولو بضميمة المرتكزات. كيف ولازم ذلك جواز تأخير الدفن ولو حدث شيء من ذلك للميت، لوضوح عدم وجوب المبادرة للدفن في نفسه، مع إباء مرتكزات المتشرعة عنه، كما سبق.

ومن هنا يتعين الاقتصار في حرمة النبش في نفسه على ما إذا ابتنى على هتك

ص: 422

الميت والاستهوان به - كما أشرنا إليه في الوجه الثالث - أو استلزم الإخلال بغرض الدفن من حفظ الميت ومنع ظهور رائحته وتغير صورته للناس، لأن الغرض المذكور كما يقتضي إرتكازاً وجوب التعجيل بالدفن يقتضي الاستمرار عليه وعدم النبش المنافي له، وهو المتيقن من الإجماع المتقدم، لا بمعنى عموم الإجماع الحجة لجميع أفراد ذلك، لما يأتي من الخلاف من بعضهم فيه. ومن ثم كان الدليل ما سبق دون الإجماع. بل بمعنى عدم وضوح إجماع حجة في غير ذلك، ليعمل عليه في المورد بعد قصور ما سبق عنه.

نعم لما كان النبش مستلزماً للتصرف في القبر، الذي تقدم في المسألة الثالثة والستين أنه من قسم الصدقات، تعين عدم جوازه إلا بإذن ولي الصدقة المذكورة، خاصاً كان، أو عاماً، كالحاكم الشرعي.

كما أنه لو استتبع التصرف في بدن الميت احتاج التصرف المذكور لمراجعة الولي، لما تقدم في المسألة الثانية من فصل أحكام الاحتضار من أصالة حرمة التصرف في بدن الميت بغير إذن الولي.

وحينئذ إن كان وليه حين موته موجوداً تعين الرجوع إليه، عملاً بإطلاق أدلة ولايته، حتى مثل: الزوج أحق بامرأته حتى يضعها في قبرها، لأن المستفاد منه عموم ولايته عليها، وذكر الوضع في القبر لأنه غالباً منتهى الحاجز لأعمال الولاية، ولذا لا إشكال ظاهراً في أنه لو وضعها في القبر، ثم بدا له نقلها لقبر آخر قبل إكمال دفنها، لم ينازع في ذلك.

وإن فقد وليه حين موته تعين ولاية الأقرب للميت حين النبش، الذي يكون هو الأولى بالميت لو حصل الموت حينئذٍ، لعين الوجه المذكور لولايته حين الموت. فهو نظير ما إذا مات ولي الميت قبل إكمال تجهيزه، حيث لا إشكال ظاهراً في انتقال الولاية على إكمال تجهيز الميت لمن هو الأقرب للميت حينئذٍ. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

ص: 423

المؤمن (1)، على نحو يظهر جسده (2). إلا مع العلم باندراسه وصيروته تراباً (3).

(1) لم يتضح الوجه في قصره (قدس سره) الحكم على المؤمن مع ما سبق منه من عموم أحكام التجهيز للمسلم، لأن الظاهر أن حرمة النبش من شؤون احترام الميت كالدفن، وجميع أحكام التجهيز، كما يظهر بملاحظة ما تقدم في وجهه. بل بعض الوجوه السابقة لو تمت تقضي العموم للمسلم المحترم وإن لم يثبت احترامه من حيثية أحكام التجهيز، كنصوص حدّ النباش. بل بعضها يقتضي العموم لكل قبر ولو لم يكن لمسلم، كحديث:" من خدد قبراً...".

نعم لو كان الوجه في حرمة النبش لزوم هتك الميت لا غير اتجه اختصاصه بالمؤمن. لكن لازم ذلك كون الواجب في المسلم غير المؤمن مسمى الدفن ولو آناماً، لأنه إذا جاز نبشه بعد الدفن فلا دليل على وجوب دفنه ثانياً إلا ما سبق منا من منافاة ذلك لغرض الدفن، فإذا فرض عدم تماميته، وأن الوجه في حرمة النبش لزوم الهتك لا غير الذي هو ليس محذوراً في غير المؤمن، تعين عدم الوجه لوجوب دفنه ثانياً.

هذا ويظهر مما تقدم منّا في التغسيل والصلاة اختصاص أحكام التجهيز بالمؤمن، وهو يقتضي اختصاص حرمة النبش به. فراجع وتأمل جيداً.

(2) أما مع عدم ظهوره فلا يصدق النبش. نعم يشكل التصرف في القبر بعد كونه من سنخ الصدقة من دون إذن وليه. أما إذا لم يستلزم التصرف في القبر وفي بنائه ونحوه فلا إشكال.

ومن ذلك يظهر أنه لو كان القبر عميقاً وبناؤه في العمق لا غير، جاز الحفر في موضعه ودفن ميت آخر أعلى منه. إلا أن تكون الأرض مملوكة أو موقوفة، فيجب استئذان المالك أو ولي الوقف. فلاحظ.

(3) اتفاقاً، كما في جامع المقاصد لعدم الموضوع للوجه المتقدم للحرمة، وهو

ص: 424

الإخلال بغرض الدفن. وحتى بعض الوجوه الأخرى، كما يظهر بمراجعتها.

نعم إذا صار القبر من مشاعر الدين المؤهلة للتكريم والتعظيم - كقبور المعصومين (عليهم السلام) وقبور أولادهم وخواص صحابتهم، وقبور بعض الشهداء والعلماء والصالحين مما شيد بلحاظ ذلك واتخذ مزاراً ومقصداً - حرم نبشه مطلقاً، ولو فرض العلم باندراس الميت، لا لحرمة الميت بل لحرمة الدين. بل قد يحرم ما دون النبش من التصرف في القبر، أو فيما جاوره مما يعد بنظر المتشرعة انتهاكاً للحرمة.

ولو اضطر لذلك لزم التستر به بالقدر الممكن، وعدم جعله في متناول العامة وتحت نظرهم، وغير ذلك مما تقتضيه خصوصيات الموارد والأزمنة. لكن هذا خارج عن محل الكلام من الحرمة من حيثية النبش المنافي لغرض الدفن.

هذا وأما التصرف في القبر مع اندراس الميت في محل الكلام فهو كسائر التصرف في الصدقات التي يرتفع موضوعها، لما سبق منا من أن القبر من قسم الصدقات.

هذا وقد قال في العروة الوثقى: "وإن بقي عظماً فإن كان صلباً ففي نبشه إشكال. وأما مع كونه مجرد صورة - بحيث يصير تراباً بأدنى حركة - فالظاهر جوازه".

لكن لم يتضح الوجه في عدم جزمه بحرمة النبش مع صلابة العظم، حيث لا ينبغي التأمل في عموم غرض للدفن للعظم، بل تضمنت بعض النصوص عموم أحكام التجهيز لمن يأكله السبع أو الطير حتى تبقى عظامه بلا لحم. ولعله لذا جزم في المبسوط بأنه لو بادر إنسان فنبش قبراً فإن وجد فيه عظاماً رد التراب فيه ولميدفن فيه.

وأما ما ذكره فيما إذا صار العظم صورة، فإن أراد به استحالته تراباً عرفاً فله وجه. وإن أراد به مجرد هشاشته مع كونه عرفاً جزءاً للميت فهو غير ظاهر، لعين ما سبق. وكذا لو تفتت ولم يستحل تراباً.

ثم إن ظاهر المتن توقف جواز النبش ظاهراً على العلم باندراس الميت، ول

ص: 425

يكفي الظن، فضلاً عن الشك. وكأنه لاستصحاب عدم اندراس الميت.

لكنه موقوف على أن يكون مفاد القضية الشرعية حرمة فتح القبر إلا مع الإندراس، ولم يتضح ذلك، بل لعل مفادها حرمة كشف الميت في قبره، فاستصحاب بقاء الميت وعدم اندراسه لا يقتضي حرمة النبش إلا بالملازمة، فيبتني على الأصل المثبت.

هذا وقد استدل بعض مشايخنا بأن النبش مع الشك في الحال هتك للميت، لما فيه من عدم الاعتناء بشأنه.

ويشكل بأن الهتك بمعنى الاستهوان بالميت - الذي هو المعيار في الحرمة عنده - لا يتحقق بالنبش إذا كان لغرض عقلاني، ومنه رجاء اندراسه وإمكان الانتفاع بالمكان بوجه آخر، خصوصاً مع الظن بذلك. والهتك بمعنى هتك بدنه بظهور رائحته وتغير صورته - الذي هو المعيار في الحرمة عندنا - إنما يكون بكشف الميت، فمع الشك في بقائه يشك في الهتك الذي هو موضوع الحرمة، ومقتضى الأصل البراءة.

إلا أن يثبت اهتمام الشارع الأقدس باحتمال الهتك وإيجابه الاحتياط، فيكون النبش منافياً للاحتياط الواجب، من دون أن يعلم كونه هتكاً للميت. لكنه يحتاج إلى دليل.

نعم قد يدعى أن لما كان الغالب عدم الإطلاع على حال الميت لعامة الناس، فلو جاز النبش بمجرد الشك لزم كثرة التصرف لكشف الميت وهتكه، ومخالفة غرض الدفن، بنحو يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به وإيجاب الاحتياط لأجله. ومن هنا يشكل جواز النبش بمجرد الشك.

هذا وقد صرح في جامع المقاصد بالرجوع إلى أهل الخبرة. فإن كان مراده تحصيل العلم من قولهم فلا إشكال. وإن كان مرده حجية قولهم أشكل بعدم حجية قولهم في الأمور الحسية.

ص: 426

(427)

من دون فرق بين الصغير والكبير والعاقل والمجنون (1). ويستثنى من ذلك موارد:

(منها): ما إذا كان النبش لمصلحة الميت، كالنقل إلى المشاهد (2)،

إلا أن يقال: عدم حجية قولهم في الأمور الحسية إنما هو مع تيسر الإطلاع عليها نوعاً من طريق الحسّ، لا مع تعذره، بل هي حينئذ كالأمور الحدسية، لا طريق لمعرفتها نوعاً إلا بالرجوع إليهم. ومنه المقام، لأن العلم بحال الميت من طريق الحسّ إنما يكون بعد النبش، وهو ليس مورداً للأثر والعمل، بل ليس موردهما إلا معرفة حاله قبله، وهو متعذر من طريق الحسّ. ولاسيما وأنه لا إطلاق لدليل وجوب الاحتياط مع الشك في الاندراس، بحيث يشمل صورة إخبار أهل الخبرة به. ومن هنا يقوى الرجوع إليهم. نعم لا مجال للاكتفاء بالظن من دون الرجوع إليهم، لعدم الدليل على حجيته. فتأمل.

(1) كما هو مقتضى إطلاق الأصحاب. ويقتضيه عموم وجوب الدفن لهم، لما سبق من أن حرمة النبش من توابع ذلك.

(2) فقد قرب جواز النقل إليها بعد الدفن في جامع المقاصد ومحكي فوائد الشرايع وحاشية الإرشاد وشرح الجعفرية، بل عن الموجز والجعفرية الجزم به. وهو مقتضى إطلاق ما سبق من الوسيلة من كراهة تحويله إلى قبر آخر، وما عن ابن الجنيد من إطلاق نفي البأس عن التحويل لصلاح يراد بالميت. وقد تقدم من النهاية وعن المصباح - عند الكلام في استحباب النقل للمشاهد المشرفة - الإشارة للرواية الدالة على ذلك.

لكن في السرائر والشريع والقواعد وعن غيرها المنع، وعن غير واحد أنه المشهور. وفي السرائر أنه بدعة في شريعة الإسلام.

وكأنه لعدم الدليل على استثنائه من حرمة النبش عدا الرواية التي أشير

ص: 427

إليها في كتابي الشيخ، وهي مرسلة لا تنهض بالحجية. وما ورد في نقل عظام آدم ويوسف (عليهما السلام) مما تقدم في حكم النقل للمشاهد، الذي هو - مع ضعفه - خاص بمورده، غير وارد مورد الاستدلال به، أو الحثّ على العمل عليه، ليتعدى عنه. ومن هنا حكى في الجواهر قولاً بعدم جواز النبش لأجل النقل، وإن جاز النقل مع قطع النظر عنه.

لكنه موقوف على ثبوت عموم حرمة النبش. وقد عرفت عدمه، لانحصار الدليل عليه بالإجماع، وبمنافاته للغرض من الدفن. والمتيقن من الإجماع لا يشمل المقام بعد ثبوت الخلاف ممن تقدم. بل ظاهر ما سبق من الشيخ من المذاكرة بالرواية المتضمنة لجواز النقل بعد الدفن عدم وضوح الحكم بالحرمة في عصره الذي هو مقارب لعصورهم (عليهم السلام).

وأما منافاته للغرض من الدفن فقد سبق أنه غير مطرد، بل يمكن مراعاة الغرض المذكور بانتظاره مدة حتى يجف، ولعله إليه يرجع ما في جامع المقاصد وعن الروض وشرح الجعفرية من الاقتصار على ما إذا لم يبلغ الميت حالة يلزم من نقله وهتكه ومثلته، بأن يصير متقطعاً ونحوه. وربما يكون هو مراد الكل. لما سبق من إباء المرتكزات عن جواز ذلك.

هذا وأما لو كان المدار في حرمة النبش على هتك الميت، بمعنى هتك كرامته وتوهينه - كما سبق عن بعض مشايخنا - لا هتك جسده - كما سبق منا -، فالمورد خارج عن ذلك موضوعاً، لأن النبش والنقل لما كان لصلاحه فهو غير منافٍ لكرامته، ولا هتك فيه. بل قد يكون تكريماً له وإن استلزم مخالفة غرض الدفن بظهور رائحته وتغير صورته.

ومن ثم ذهب بعض مشايخنا لجوازه مطلقاً وهو المناسب لما سبق عن كاشف الغطاء (قدس سره) من جواز تأخير الدفن وإن استلزم المحذور المذكور من أجل النقل للمشاهد. لكن يظهر ضعفهما مما سبق.

ص: 428

كما تقدم. أو لكونه مدفوناً في موضع يوجب مهانة عليه، كمزبلة أو بالوعة أو نحوهما. أو في موضع يتخوف على بدنه (1) من سيل أو سبع أو عدو.

(ومنها): ما لو عارضه أمر راجح أهم (2)، كما إذا توقف دفع مفسدة على رؤية جسده.

(ومنها): ما لو لزم من ترك نبشه ضرر مالي، كما إذا دفن في ملك غيره

ومن ذلك يظهر الحال في غير النقل للمشاهد المشرفة مما يعود لمصلحة الميت. فإنه إن كان بنحو لا يبلغ مرتبة الوجوب - كنقله لمكان أقرب لعائلته، أو لمكان أيسر لزيارته وذكره بالخيرات والمبرات - تعين فيه المحافظة على الشرط المذكور.

وإن كان بنحو يبلغ مرتبة الوجوب - كما لو كان بقاؤه مستلزماً لهتك كرامته - فإن أمكن الجمع بينه وبين الشرط المذكور تعين، وإلا لزم الترجيح بالأهمية. واللازم مراجعة الولي، على النحو المتقدم عند التعرض لاشتراطه في جواز النبش.

(1) الظاهر أهمية المحذور المذكور من محذور النبش ولو استلزم هتك جسده بظهور ريحته وتغير صورته مؤقتاً، كما قد يناسبه ما ورد في زيد (عليه السلام) من أنه كان الأولى رميه في الفرات من دفنه مع تعرضه لما صنع به الأمويون من الصلب والحرق(1). فتأمل.

(2) إنما يحتاج للأهمية إذا لزم من النبش الإخلال بغرض الدفن، أما إذا لم يلزم فلا ملزم بمراعاة الأهمية، بل يكفي رجحان المزاحم، لعدم وضوح حجية الإجماع على حرمة النبش في ذلك وإن تمّ إطلاق معقده. نعم لا بد من مراجعة الولي، على ما تقدم. كما لابد من جري الولي على مقتضى ولايته العامة أو الخاصة من مراعاة مصلحة الجهة التي هو ولي عليه.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 41 من أبواب الدفن وما يناسبه.

ص: 429

بغير إذنه (1)،

(1) حيث لا إشكال في حرمة الدفن حينئذٍ. ووجوب الدفن كفاية على كل أحد لا يقتضي وجوب بذل الأرض له، كما لا يقتضي وجوب التكفين عليهم وجوب بذل الكفن. بل لو فرض وجوب البذل فليس هو لثبوت حقّ في الأرض يوجب قصور سلطنة المالك بنحو يحق لكل أحد استيفاؤه بالدفن من غير إذنه، بل بمعنى وجوب بذله عليه تكليفاً، كما يجب عليه الدفن، فمع عدم بذله لا يحل لغيره استيفاؤه.

وحينئذ إن وقع الدفن جاز النبش للمالك، كما صرح به جماعة وفي الجواهر: "بل لا أعرف فيه خلافاً، بل قد يظهر من كشف اللثام وغيره أنه مقطوع به" .بل يجب النبش على الغاصب لو لم يرض المالك ببقاء الميت في أرضه، للتخلص من تبعة استمرار إشغال ملك الغير بغير إذنه المستند لفعله.

بل حكم بعض مشايخنا بوجوب النبش على كل أحد، تحصيلاً للدفن الواجب، لأن حرمة الدفن في المغصوب تمنع من كونه مصداقاً للدفن الواجب. وهو مبني على مختاره في مسألة اجتماع الأمر والنهي من أن المجمع مع تقديم النهي خارج تخصيصاً عن موضوع الأمر، بنحو لا يحرز فيه ملاكه.

لكن الظاهر عدم تمامية المبنى المذكور، وأن المجمع واجد لملاك الأمر، سواءً قيل بامتناع اجتماع الأمر مع النهي في المجمع أم بإمكانه، فيتعين إجزاؤه مطلقاً وإن قيل بالإمتناع. غاية الأمر أنه لا يمكن التقرب مع الإلتفات للنهي به، وهو غير لازم مع الجهل بالحرمة، ولا مهم في مثل الدفن من التوصليات. كيف! ولازم ما ذكره عدم إجزائه لو رضي المالك بعد الدفن ببقاء الميت في أرضه.

إلا أن يدعى أن الواجب في الحقيقة ليس هو الدفن بالمعنى المصدري الذي لا ينقلب عما وقع عليه من الحرمة برضا المالك ببقاء الميت في أرضه، بل هو الدفن بالمعنى الاسم المصدري الراجع لصيرورة الميت مدفوناً، وهو ينقلب برضا المالك إلى

ص: 430

الحلية، فلا مانع من دخوله في الواجب وإجزائه.

وكيف كان فالظاهر إجزاء الدفن بغير رضا المالك وإن كان محرماً، ومن ثم لا يجب النبش على كل أحد لتحصيل الدفن الواجب، بل يجب على الغاصب لا غير للتخلص من تبعة الغصب، ويحل للمالك لتخليص أرضه بمقتضى عموم سلطنته عليها. ولا محذور في النبش. لقصور دليل حرمته - وهو الإجماع - عن الفرض بعد ما عرفت.

نعم يلزم المحافظة على غرض الدفن المتقدم إذا لم يلزم منه ضرر معتد به على المالك. وإلا سقط، لعدم وضوح الدليل على وجوب المحافظة عليه مع ذلك.

هذا كله مع إمكان دفن الميت في مكان آخر بعد النبش. أما لو تعذر فالظاهر وجوب القبول عليه ولو بالعوض، لأهمية دفن الميت ارتكازاً من سلطنة المالك. والذي يتحمل العوض هو المباشر للدفن لاستناد النقص الحاصل على الأرض لفعله.

كما يجب على المالك بذل الأرض للدفن ولو بالعوض لو تعذر الدفن بغيرها. والذي يتحمل العوض كافة الناس. والذي يتولى المعاملة ولي المسلمين. هذا إذا لم يتبرع بالعوض شخص خاص. وإلا كان هو المتولي للمعاملة.

هذا وفي المبسوط: "ومتى دفن الميت في القبر، ثم بيعت الأرض، جاز للمشتري نقل الميت عنها..." .وكأنه لاختصاص الإذن بالبايع، ولا إذن من المشتري ليلزم بمقتضاها. وبذلك افترق عما ذكره قبل ذلك من أن من استعار أرضاً فدفن فيها فليس للمالك الرجوع، لأن العارية على حسب العادة، والدفن فيه يكون مؤبداً إلى أن يبلى الميت.

لكنه يشكل بأنه إذا لم يكن للمالك الأول الرجوع لاستحقاق بقاء الميت عليه في الأرض فالأرض تنتقل للمشتري على النحو الذي كانت عليه عند البايع. ومن هنا أنكر عليه ذلك غير واحد ممن تأخر عنه. بل سبق في المسألة الثالثة والستين أن دفن الميت في الأرض يرجع إلى جعل موضعه قبراً له الذي هو نحو من الصدقة، ولا دليل

ص: 431

أو دفن معه مال غيره (1)، من خاتم ونحوه، فينبش لدفع ذلك الضرر المالي.

على بطلانها بالبيع. ومنه يظهر أنه لا يجوز له نقل الميت وإن لم يستلزم النبش، كما لو ظهر الميت بسيل أو نحوه.

والحاصل: أن المانع ليس هو حرمة النبش، ليدعى قصور الإجماع عنه في المورد مع خلاف الشيخ (قدس سره)، وإن كان هو خلاف الظاهر أيضاً. بل هو قصور حقّ المشتري، لما سبق.

(1) كما صرح به في محكي المعتبر والتذكرة وغيرهما، بل في الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه" .وهو مقتضى الأصل بعد عدم وضوح عموم دليل حرمة النبش - من الإجماع وغيره - لذلك. من دون فرق بين المال الكثير والقليل، كما عن بعضهم التصريح به.

كما لا فرق بين لزوم مخالفة غرض الدفن المتقدم وعدمه، لعدم وضوح حرمة مخالفة الغرض المذكور موقتاً في مثل ذلك. نعم لو استلزم هتك كرامة الميت لم يبعد الترجيح بالأهمية. فتأمل.

هذا ولم يتضح الوجه في تخصيص المال في المقام بما إذا كان مملوكاً لغيره، لوضوح أن المال المملوك له يصير بموته ملكاً لوارثه.

ومن هنا يشكل الحال فيما تعارف في زماننا من جبر كسر الإنسان بمعادن ثمينة بعملية جراحية، فإن هذه المعادن تنتقل بموته للوارث. وإذا لم يجز له انتزاعها منه قبل دفنه، لما قد يستلزمه من التصرف المحرم بجسده، فلا أقل من جواز نبش القبر من أجلها إذا لم يلزم من انتزاعها المحذور المذكور، لتحلل جسد الميت بعد الدفن وإن لم يندرس ويضمحل.

اللهم إلا أن يبتني جبر الكسر بها على رفع يد مالكها عنها، وتعيينها للانتفاع الخاص، بحيث تخرج عن ملك مالكها، وتكون صدقة معينة للجهة الخاصة، فل

ص: 432

(ومنها): ما إذا دفن بلا غسل (1)،

يرثها وارث الباذل لها بموته، بل تبقى تابعة للجسد، على النحو الذي وضعت له من أول الأمر، ولا يحق لأحد أخذها والتصرف فيها، فضلاً عن أن ينبش القبر من أجلها. وأظهر من ذلك ما إذا لم تكن مملوكة لأحد، كما لو كانت تابعة للدولة غير الشرعية.

نعم لو فرض انفتاح القبر وظهور المال المذكور، وانفصاله عن جسد الميت بحيث لا يلزم من أخذه تصرف فيه، جرى عليه حكم المباح الأصلي أو مجهول المال أو الصدقة التي يرتفع موضوعها. والأمر محتاج لمزيد من التأمل.

(1) كما عن المنتهى محافظة على الغسل الواجب الذي يمكن تداركه. بل محافظة على الدفن الواجب، وهو الدفن بعد الغسل. ولا دليل على إجزاء الدفن في المقام بعد فقده للشرط. اللهم إلا أن يدعى أن ترتب الدفن على الغسل، طبعي، وليس لشرطيته فيه شرعاً وكيف كان فيكفي في وجوب النبش المحافظة على الغسل الواجب.

لكن صرح في الخلاف بعدم جواز النبش حينئذ. مستدلاً بالأخبار الناهية عن النبش. وتبعه غير واحد. لكن لم يتضح المراد بالأخبار المذكورة، كما لم يتضح عمومها لما إذا كان الدفن في غير محله كما هو محل الكلام.

هذا وينبغي ابتناء المسألة على تحديد زمن تعذر الغسل الذي يسوغ معه الدفن بلا غسل، لوضوح أنه لا يراد بأدلة وجوب الغسل وجوبه فوراً بعد الموت، بحيث يسقط مع الإخلال بالفور، ولا على وجوبه مطلقاً بحيث لو تعذر الغسل وجب انتظار التمكن منه مهما طال الزمان، بل الظاهر - تبعاً للمرتكزات المشار إليها آنفاً - وجوب الانتظار حتى يتعرض جسد الميت للهتك بظهور رائحته وتغير صورته، ثم يتعين الدفن بدون غسل، وحينئذ يتعين التفصيل في وجوب النبش في المقام بين ما إذا بلغ الميت حداً يتعرض للهتك المذكور بنبشه، وما إذا لم يبلغ ذلك. فيجب النبش ثم

ص: 433

أو بلا تكفين (1)، أو تبين بطلان غسله أو بطلان تكفينه (2)، أو لكون دفنه على غير الوجه الشرعي (3)، لوضعه في القبر على غير القبلة، أو دفن بغير إذن الولي (4)،

الغسل في الثاني، سواءً وقع الدفن عمداً أم جهلاً بتخيل تحقق الغسل أو تعذره. ولا يجب في الأول في الصورتين معاً، إذ لا معنى لوجوب المبادرة بالدفن وترك الغسل من أجل تعرض جسد الميت للهتك، ثم وجوب النبش من أجل الغسل مع لزوم المحذور المذكور.

بل الظاهر عدم الوجوب بعد ذلك لو ارتفع المحذور المذكور، كما لو جف الميت، للأصل بعد عدم وضوح عموم دليل الوجوب لمثل ذلك. بل لعله مقتضى السيرة الارتكازية في أمثال ذلك، فتأمل جيداً. وقد تقدم في الفرع الثالث من فروع تعذر الخليطين في الغسل، في ذيل المسألة الثامنة من بحث تغسيل الميت، وفي المسألة الواحدة والعشرين منه، ما ينفع في المقام.

(1) كما في المدارك وعن البيان، لعين ما سبق. وما عن غير واحد من أن القبر يغني عن الكفن لستره الميت، كما ترى. وأما لو دفن بلا صلاة فقد تقدم من سيدنا المصنف (قدس سره) في المسألة الخمسين وجوب الصلاة على القبر، وتقدم منا الإشكال في ذلك، وفي وجوب النبش من أجل الصلاة. فراجع.

(2) لعين ما سبق بعد عدم الدليل على إجزاء الناقص في ذلك.

(3) الظاهر أن الكلام فيه كما سبق. فيتعين فيه التفصيل المتقدم بين لزوم محذور مخالفته غرض الدفن وعدمه. فتأمل.

(4) سبق منّا في التنبيه الثامن من مبحث الولاية الإشكال في بطلان الدفن بغير إذن الولي. بل عدم الإشكال في الاجتزاء به لو رضي الولي به بعد وقوعه. نعم صحة الدفن لا تنافي جواز النبش إذا كان صلاحاً بنظر الولي، لخروجه عن المتيقن من

ص: 434

(435)

أو في مكان أوصى بالدفن في غيره (1) أو نحو ذلك، فيجوز نبشه في هذه الموارد إذا لم يلزم هتك لحرمته (2)، وإلا ففيه إشكال (3).

(مسألة 69): لا يجوز التوديع (4) المتعارف عند بعض الشيعة (أيدهم الله تعالى) بوضع الميت في موضع والبناء عليه، ثم نقله إلى المشاهد الشريفة. بل اللازم أن يدفن بمواراته في الأرض مستقبلاً بوجهه القبلة على الوجه الشرعي ثم ينقل بعد ذلك بإذن الولي على نحو لا يؤدي إلى هتك حرمته.

دليل حرمة النبش، وهو الإجماع المدعى في المقام. غاية الأمر أنه لابد من عدم تعرض بدن الميت للهتك.

(1) بناءً على نفوذ الوصية في مثل ذلك. وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في المسألة الخامسة من فصل تغسيل الميت. نعم يجوز النبش مراعاة لها وإن لم تنفذ، لخروجه عن المتيقن من دليل حرمة النبش. لكن بشرط عدم لزوم مخالفة الغرض من الدفن، نظير ما سبق.

(2) مما سبق يظهر أن المعيار في الهتك هنا مخالفة غرض الدفن بظهور رائحته وتغير صورته. وأما هتك كرامته فقد سبق عدم لزومه مع كون النبش لغرض عقلائي. نعم قد يلزم في خصوص بعض الأشخاص والأحوال بما لا ضابط له.

(3) عرفت أن الظاهر عدم جواز النبش. وهو ظاهره (قدس سره) في مبحث تغسيل الميت في المسألة الواحدة العشرين. إلا أن يكون مراده الإشكال في جميع المسوغات المتقدمة، لا خصوص المسوغ الأخير. وقد سبق بيان الحال في كل منها.

(4) كأنه لعدم صدق الدفن عليه. لكن ذلك لا يكفي في تحريم التوديع بعد أن لم يكن المراد الاكتفاء به عن الدفن، بل إتباعه بالدفن بعد ذلك، فليس محذوره إلا تأخير الدفن الذي لا دليل على حرمته، بل غايته استحباب التعجيل.

ص: 435

(436)

(مسألة 70): إذا وضع الميت في سرداب جاز فتح بابه وإنزال ميت آخر فيه إذا لم يظهر جسد الأول (1)، إما للبناء عليه أو لوضعه في لحد داخل السرداب. وأما إذا كان بنحو يظهر جسده ففي جوازه إشكال (2).

(مسألة 71): إذا مات ولد الحامل دونها، فإن أمكن إخراجه صحيح

نعم يتجه ما ذكره بناءً على ما تقدم منا من وجوب المبادرة للدفن قبل حصول ما ينافي غرضه من ظهور الرائحة وتغير الصورة حيث يتعين عدم الاكتفاء بالتوديع لتجنب ذلك، بعد عدم صدق الدفن عليه. وهذا بخلاف مثل التثليج المتعارف في عصورنا المانع من حدوث الرائحة وتغير الصورة، لعدم الدليل على حرمته في نفسه، ولا على وجوب المبادرة للدفن معه.

(1) الظاهر أن المراد بظهور الجسد ما يعم ظهور الكفن الذي عليه.

(2) كأنه لصدق النبش. لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن المتيقن من النبش حفر القبر ورفع ترابه، ولا يتضح صدقه بمجرد فتح السرداب.

إلا أن يقال: بعد أن لم يكن تحريم النبش مستفاداً من أدلة لفظية قد تضمنت أخذه بعنوانه، وإنما استفيد من الإجماع، فالظاهر أن مرادهم ما يعم ذلك. ولاسيما بملاحظة ما هو المعلوم من ابتناء التحريم على حرمة الميت والاهتمام بعدم ظهور تغيره، كما سبق. ومن هنا فالظاهر أن المعيار في جوازه ما سبق من عدم لزوم مخالفة غرض الدفن من ظهور الرائحة وتغير الصورة.

نعم لابد من عدم ابتناء دفن الميت الأول على كون تمام الموضع قبراً له، وإلا لحقه ما تقدم في المسألة الثالثة والستين. ويناسب ذلك ما في التذكرة من أنه لو دفن الميت في أزج(1) جاز فتحه ودفن ميت آخر فيه على كراهية.

********

(1) الأزج: بيت يبنى طولاً. لسان العرب مادة: (أزج).

ص: 436

وجب (1)، وإلا جاز تقطيعه (2). ويتحرى الأرفق فالأرفق (3). وإن ماتت هي دونه شق بطنها (4) من الجانب الأيسر إن احتمل دخله في حياته (5)،

(1) كما في المعتبر وجامع المقاصد وغيرهما. بل الظاهر عدم الخلاف فيه لحرمة تقطيع الميت كالحي، ولذا يثبت فيه الدية. ولا ينافي النص الآتي، لانصرافه إلى صورة التعذر، كإطلاق بعض الأصحاب.

(2) إجماعاً، كما في الخلاف. وفي كشف اللثام والمدارك نسبته للأصحاب. لأهمية وجوب حفظ الأم من حرمة تقطيع الميت. مضافاً إلى رواية وهب بن وهب المروية عن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا ماتت المرأة وفي بطنها ولد يتحرك يشق بطنها ويخرج الولد. وقال في المرأة يموت في بطنها الولد فيتخوف عليها. قال: لا بأس بأن يدخل الرجل يده، فيقطعه ويخرجه"(1). ورواها في موضع آخر إلا أنه قال في صدرها:" يتحرك فيتخوف عليه "وزاد في آخره:" إذا لم ترفق به النساء ".وروي ذيلها عن قرب الإسناد. وضعفها غير مهم بعد مطابقتها للقاعدة المتقدمة، حيث لا يحتاج حينئذٍ للكلام في انجبارها بالعمل وعدمه.

(3) كما في المعتبر. اقتصاراً على مورد المزاحمة. نعم إنما يجب ذلك إذا لم يتخوف على الأم من التروي والتثبت من ذلك. ولعله لذا أهمل التنبيه عليه في الرواية المتقدمة. ومثله ما في المعتبر. قال:" ويتولى ذلك النساء، فإن تعذر النساء فالرجال المحارم، فإن تعذر جاز أن يتولاه غيرهم، دفعاً عن نفس الحي".

(4) إجماعاً كما في الخلاف وظاهر التذكرة. ويقتضيه النصوص الكثيرة كصحيح علي بن يقطين:" سألت العبد الصالح (عليه السلام) عن المرأة تموت وولدها في بطنها. قال: شق [يشق] بطنها، ويخرج ولدها"(2) ، وخبر وهب المتقدم، وغيرهما.

(5) لوجوب الاحتياط في حفظ الولد، في حق كل أحد، ومنهم المباشر.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 46 من أبواب الاحتضار وما يناسبه حديث: 3، 2.

ص: 437

وإلا فمن إي جانب كان (1)، وأخرج، ثم يخاط بطنها (2)، وتدفن.

(1) كما هو مقتضى إطلاق الخلاف والقواعد، بل هو ظاهر المعتبر. لإطلاق النصوص في المقام. ومن ثم توقف في التقييد بالأيسر في ظاهر كشف اللثام والمدارك.

خلافاً للفقيه والمقنعة والمبسوط والنهاية والسرائر والتذكرة وعن غيرها. فقيدوا بالجانب الأيسر. بل في التذكرة نسبته إلى علمائنا. ولم يتضح وجهه عدا ما في الفقه الرضوي من قوله: "شق بطنها من الجانب الأيسر وأخرج الولد"(1). ولم يثبت كونه رواية، فضلاً عن أن تكون معتبرة. وربما كان الوجه في التقييد في كلامهم استيضاح كونه أحرى بسلامة الولد، فيخرج عن محل الكلام من كونه قيداً تعبدياً.

(2) كما صرح به جماعة كثيرة، ونسبه في التذكرة لعلمائنا. ويقتضيه صحيح ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في المرأة تموت ويتحرك الولد في بطنها أيشق بطنها ويخرج الولد؟ قال: فقال: نعم، ويخاط بطنها"(2) ، وفي مرسلة الكليني عن ابن أبي عمير: "يخرج الولد ويخاط بطنها"(3).

وفي رواية الشيخ بإسناده عن أبي عمير عن ابن أذينة:" قال: يخرج الولد ويخاط بطنها"(4). وإليها نظر في المعتبر، حيث قال: "وإنما قلنا: وفي رواية ويخاط الموضع. لأنها رواية ابن أبي عمير عن ابن أذينة، موقوفة عليه، فلا يكون حجة ولا ضرورة إليه لأن مصيرها البلاء [البلى. ظ]".

وكأن مراده أن الرواية مضمرة لا يعلم بإسنادها للإمام، أو أنها ظاهرة في أن القائل هو ابن أذينة. لكنه كما ترى لا مجال له بعد ظهور إيداع الأصحاب للرواية في كتب الحديث في كونها مروية عن الإمام (عليه السلام). بل لا يبعد كون مقتضى الجمع بينه

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 35 من أبواب الاحتضار وما يناسبه حديث: 1.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 46 من أبواب الاحتضار وما يناسبه حديث: 1، 5، 7.

ص: 438

(439)

(مسألة 72): إذا وجد بعض الميت وفيه الصدر غسل وحنط وكفن وصلي عليه ودفن (1).

وبين المرسلتين الأوليين كون الواسطة بين الإمام (عليه السلام) وابن أبي عمير فيها هو ابن أذينة.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من ضعف الرواية المذكورة، وأنها مقطوعة. للإشكال فيه بأن سند الشيخ لابن أبي عمير صحيح، كما اعترف به هو دامت بركاته.

ومن هنا لا مجال للتوقف في الحكم. ولاسيما مع اعتضادها بالمرسلتين الأوليين، حيث يتعين حجية الأولى، لما تكرر منا من حجية مراسيل ابن أبي عمير خصوصاً بعد ظهور انجبارها في المقام بعمل الأصحاب.

هذا مضافاً إلى أمرين:

الأول: أنه الأنسب بحرمة الميت. وقد يتوقف عليه تغسيلها.

الثاني: ما في معتبر العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) الوارد في مقطوع الرأس من قوله (عليه السلام): "ويربط جراحاته بالقطن والخيوط. وإذا وضع عليه القطن عصب. وكذلك موضع الرأس، ويجعل له من القطن شيء كثير... وإن استطعت أن تعصبه فافعل"(1). فإن الأمر بالقطن والتعصيب منعاً لخروج الدم يناسب الأمر بالخياطة هنا جداً.

(1) كما ذكره غير واحد، ونسب للمشهور، بل ربما أدعي عدم الخلاف فيه. وإن كانت كلمات الأصحاب لا تخلو من اختلاف. وكيف كان فقد يستدل عليه بوجوه:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 439

الأول: قاعدة الميسور. لكنها ممنوعة كبروياً، لعدم وضوح الدليل على عمومها - كما حقق في محله من الأصول - وصغروياً، لأن موضوعها بعض الواجب، لا بعض متعلقه، فهي لا تتم في الصلاة، وإن تمت في بقية الواجبات.

والثاني: الاستصحاب، إما بلحاظ الوجوب الضمني الثابت للعضو قبل التقطيع، أو بلحاظ الوجوب الاستقلالي الثابت للميت بناء على كفاية التسامح العرفي في بقاء موضوع المستصحب.

ويشكل الأول بأن المجعول الذي هو مورد الأثر والعمل ليس إلا الوجوب الاستقلالي دون الضمني، بل هو مبني على التحليل العقلي، الذي ليس هو مورداً للأثر ولا العمل.

كما يشكل الثاني بعدم التعويل على التسامح العرفي في بقاء موضوع الاستصحاب. على أنه لا يتم فيما إذا كان البعض قليلاً، كالصدر وحده. مع أن الاستصحاب موقوف على اليقين بسبق ثبوت أحكام الميت، وهو إنما يتم مع كون التقطيع بعد الموت، أما لو كان قبله فلا يقين بذلك إلا معلقاً على الموت، فيبتني على جريان الاستصحاب التعليقي، الذي هو خلاف التحقيق.

الثالث: النصوص وليس فيها ما يتضمن الصدر إلا صحيح الفضل بن عثمان عن الإمام الصادق عن أبيه (عليه السلام):" في الرجل يقتل، فيوجد رأسه في قبيلة، ووسطه وصدره ويداه في قبيلة، والباقي منه في قبيلة. قال: ديته على من وجد في قبيلته صدره ويداه، والصلاة عليه"(1).

ومقتضى الجمود على لسان الجواب فيه اعتبار كون القطعة مشتملة على الصدر واليدين، كما جرى عليه في المعتبر، إلا أن مقتضى التطابق فيه بين الجواب والسؤال حمل ما في الجواب على الإشارة لتمام ما تضمنه السؤال، وهو القطعة المشتملة على الصدر والوسط واليدين، الذي هو عبارة أخرى عن البدن المقطوع الرأس والرجلين، فل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 4.

ص: 440

يكفي الصدر واليدين فضلاً عن مطلق ما اشتمل على الصدر، كما في المتن. ولاسيما مع ما في موثق طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: لا يصلى على عضوٍ: رجلٍ أو يد أو رأس منفرداً، فإن كان البدن فصلي عليه وإن كان ناقصاً من الرأس واليد والرجل"(1).

هذا وفي صحيح علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) قال:" سألته عن الرجل يأكله السبع والطير ويبقى عظامه بغير لحم كيف يصنع به؟ قال: يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن، فإذا كان الميت نصفين صلي على النصف الذي فيه القلب"(2). ومقتضى الجمع بين هذه النصوص الاكتفاء في إجراء تمام أحكام الميت بأحد أمور:

الأول: العظام المجردة من اللحم، كما تضمنه صدر صحيح علي بن جعفر الذي روي بطريق آخر رواية مستقلة(3) ، ونحوه خبر خالد القلانسي(4).

وقريب منه في ذلك صحيح محمد بن مسلم عن أبي مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: إذا قتل قتيل فلم يوجد إلا لحم بلا عظم لم يصل عليه، وإن وجد عظم بلا لحم فصلي عليه" (5) بناءً على أن المراد تمام عظامه، لا بعضها ولو واحداً، ولو لاتفاقهم على عدم الصلاة على العظم الواحد، كما هو مقتضى فحوى ما تضمن عدم الصلاة على العضو التام، كموثق طلحة المتقدم، مع أنه لحم وعظم. نعم لا يبعد عدم قادحية نقص بعض العظام مما لا ينافي صدق عظام الميت عرفاً على الباقي، لغلبة تلف شيء من عظام أكيل السبع والطير.

الثاني: البدن الذي هو عبارة عما عدا الأطراف الرأس واليدين والرجلين، كما هو مقتضى موثق طلحة وصحيح الفضل المتقدمين.

الثالث: النصف الذي فيه القلب، كما تضمنه ذيل صحيح علي بن جعفر وخبر خالد القلانسي المتقدمين. ومرسل عبد الله بن الحسين(6).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 8، 7.

(3و4و5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1، 6، 9، 11.

ص: 441

أما إطلاق جريان الأحكام المذكورة على ما اشتمل على الصدر فلا ينهض به ما سبق، فضلاً عن الاكتفاء بالصدر.

نعم قد يستدل عليه بإطلاق صحيح إسحاق بن عمار عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام): "أن علياً (عليه السلام) وجد قطعاً من ميت، فجمعت، ثم صلى عليها ثم دفنت"(1) ، ومرسل محمد بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: إذا وجد الرجل قتيلاً فإن وجد له عضو تام صلي عليه ودفن، وإن لم يوجد له عضو تام لم يصل عليه ودفن"(2) ، ومرسل ابن المغيرة: "بلغني عن أبي جعفر (عليه السلام): أنه يصلى على كل عضو رِجلاً كان أو يداً. والرأس جزء فما زاد. فإذا نقص عن رأس أو يد أو رجل لم يصل عليه"(3) ، وحديث الجعفريات:" إن علياً (عليه السلام) كان إذا وجد اليد أو الرجل لم يصل عليها، ويقول: لعل صاحبها حي "(4) فإن مقتضى التعليل فيه وجوب الصلاة عليه لو علم بموت صاحب العضو، ومرسل الصدوق:" وسئل الصادق (عليه السلام) عن رجل قتل ووجدت أعضاؤه متفرقة كيف يصلى عليه؟ قال: يصلى على الذي فيه قلبه"(5) ، ومرفوع البزنطي: "المقتول إذا قطع أعضاؤه يصلى على العضو الذي فيه القلب"(6).

لكنه يندفع بأن صحيح إسحاق قد تضمن حكاية في واقعة لا إطلاق لها، إذ لعل القطع كانت مشتملة على الجسد أو النصف الذي فيه القلب.

ومرسلا محمد بن خالد وابن المغيرة - مع ضعفهما - معارضان بموثق طلحة، وبما تضمن عدم الصلاة على النصف الذي ليس فيه القلب، ومهجوران عند الأصحاب، حيث لم ينقل الفتوى بمضمونهما إلا عن الاسكافي. وربما حملا على الاستحباب، كما عن المنتهى. مضافاً إلى عدم صدق العضو على الصدر وحده، كما يأتي.

ومن ذلك يظهر حال حديث الجعفريات فإن سنده وإن لم يخل عن اعتبار

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2، 10، 13.

(4) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 31 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 3، 12.

ص: 442

- كما أوضحناه في آخر الكلام في المكاسب المحرمة عند الكلام في حرمة حلق اللحية من هذا الشرح - إلا أن معارضته للنصوص المذكورة وهجره ملزمان بطرحه أو حمل التعليل فيه على الحكمة، أو عدم كون العلة منحصرة.

وأما مرسل الصدوق ومرفوع البزنطي فهما - مع ضعفهما - قد تضمنا تقطيع أعضاء الميت، وظاهره الأعضاء التامة، كالرأس واليدين والرجلين، وحينئذ فالعضو الكامل الذي فيه القلب هو تمام البدن، عدا الأطراف، نظير ما تقدم في موثق طلحة. نعم لو كان المفروض فيهما مطلق تقطيع الميت أو تقطيعه قطعاً، كان مقتضى إطلاقهما الصلاة على القطعة التي فيها القلب، وإن كانت بعض الصدر. لكنه ليس كذلك. ومن هنا يشكل الحكم المذكور.

اللهم إلا أن يقال: مقتضى الجمود على ما تضمن الصلاة على النصف الذي فيه القلب وإن كان هو اعتبار تمامية النصف المذكور، باتصال أطرافه من الرأس واليدين إن كان التنصيف عرضياً، ونصف الرأس ويد ورجل إن كان طولياً، إلا أنه لا يبعد شموله لما إذا قطعت الأطراف لعدم توقف موضوع الصلاة عليها ارتكازاً ولاسيما بملاحظة موثق طلحة، فموضوع التنصيف المذكور هو البدن الذي تضمن موثق طلحة الصلاة عليه، لا البدن التام، وهو يقتضي الاكتفاء بالصدر مع التنصيف العرضي وبنصفه ونصف الوسط مع التنصيف الطولي، فيتم ما ذكره المشهور في الجملة. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في وجوب الصلاة على النصف العرضي التام الذي فيه الصدر، وعلى النصف الطولي التام الذي فيه القلب، وإنما الإشكال في النصف الناقص بعض الأطراف أو تمامها.

هذا وأما الاستدلال بالإجماع في المقام فلا يخلو عن إشكال، بل منع، لاضطراب كلمات الأصحاب، واقتصار بعضهم على مضمون النصوص كالصدوقين، والعلم أو الوثوق بأن لا مستند لهم إلا النصوص المتقدمة، وابتناء فتاواهم على ما يستفيدونه

ص: 443

وكذا إذا كان الصدر وحده أو بعضه (1) على الأحوط وجوباً.

منها، فلا مجال للخروج عن مفادها بفتواهم، والمتعين ما ذكرنا.

ثم أنه لم يتضمن شيء من النصوص المتقدمة وجوب تمام أحكام الميت إلا ما ورد في أكيل السبع، وأما الباقي فقد اقتصر فيها على الصلاة. إلا أن المستفاد منها وجوب تمام الأحكام، لكون الجميع بملاك الاحترام للميت، بل الصلاة ارتكازاً أحرى بأن يراعى فيها تمامية الميت. ومن ثم قد يستفاد ثبوت غيرها بالأولوية العرفية. فتأمل. ولاسيما بملاحظة أن التغسيل والتحنيط والتكفين شرط في صحة الصلاة، وأنه لا يحتمل وجوب الصلاة عليه ثم لا يدفن. ومن ثم كان ظاهرهم المفروغية عن وجوب الكل، وإن اقتصر بعضهم على التصريح بالصلاة.

نعم لابد في التحنيط من وجود موضعه، كما صرح به بعضهم. لكن استشكل في اعتبار ذلك في التذكرة والقواعد ومحكي نهاية الأحكام. قال في التذكرة ونهاية الأحكام:" ينشأ من اختصاصه بالمساجد. ومن الحكم بالمساواة ".وظاهره عدم الإشكال في وجوبه مع وجود موضعه، وإنما الإشكال مع عدم وجود موضعه. وهو كما ترى! إذ لا مجال لاحتمال وجوبه حينئذ. وعموم المساواة - مع عدم ثبوته من النصوص، ولا من غيرها - لا يقتضيه، إذ ليس من أحكام الميت تحنيط الموضع المذكور، ليكون مقتضى المساواة تحنيطه مع انفصاله. ولذا قال في محكي حواشي الشهيد:" لا وجه لهذا الإشكال، إذ مع وجود محلّ الحنوط لا إشكال في وجوبه، ومع الفقد لا إشكال في العدم ".ونحوه كلام غيره.

(1) مما سبق يظهر الإشكال في جريان جميع الأحكام على الصدر وحده. وأشكل منه البعض، بل لا مجال للبناء على ذلك إذا لم يشتمل على القلب، لدلالة النصوص المتقدمة على عدم وجوب الصلاة عليه. فلاحظها.

ص: 444

وفي الأخيرتين يقتصر في التكفين على القميص والأزار (1)، وفي الأول يضاف إليهما المئزر إن وجد له محل (2). وإن وجد غير عظم الصدر - مجرداً كان أو مشتملاً عليه اللحم - غسل (3)

(1) لعدم الموضع للمئزر، ولا دليل على وجوب وضعه في غير موضعه من القطعة المذكورة، بل مقتضى الأصل البراءة، والاقتصار على ما يعلم بوجوبه، وهو الذي يوجد موضعه. لكنه مبني على أن الثوب الثالث من الكفن المفروض هو المئزر بالمعنى المشهور، وقد تقدم الإشكال فيه في مبحث الكفن، وقرب كونه ثوباً شاملاً لتمام البدن أو ما عدا الرأس منه. فراجع. وحينئذ يكون موضعه موجوداً فيجب كغيره.

(2) بأن اشتمل على ما هو أسفل من السرة، لأن المئزر عندهم يبدأ من السرة فما دونها.

(3) إجماعاً كما في الخلاف والغنية وعن المنتهى نفي الخلاف فيه، وفي الجواهر:" ولم أعثر فيه على مخالف من الأصحاب، فما عساه يشعر بوجوده من نسبته إلى الشهرة في كلام جماعة في غير محله. نعم ربما وقع فيه تردد من بعض متأخري المتأخرين...".

وقد يستدل له تارة: بقاعدة الميسور. وأخرى: بالاستصحاب. وثالثة: بما روي:" ان طائراً ألقى بمكة في وقعة الجمل يداً، فعرفت بالخاتم، وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، فغسلها أهل مكة"(1).

ورابعة: بما تقدم من النصوص المتضمنة تغسيل أكيل السبع أو الطير إذا بقيت عظام بلا لحم، لصدق العظام على التامة وعلى الناقصة. ولاسيما بملاحظة غلبة النقصان فيها، وحينئذ فوجوب تغسيل العظم المجرد مستلزم لتغسيل القطعة ذات العظم بالأولوية العرفية.

********

(1) الخلاف ج: 1 ص: 109، الإصابة ج: 2 ص: 72.

ص: 445

وخامسة: بصحيح أيوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسه إنسان فكل ما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه"(1) ، بناءً على ملازمة وجوب الغسل بمسه لوجوب تغسيله - كما استظهره الذكرى - لأن غسل الميت فرع وجوب التغسيل، لأنه من شؤون حدث الموت الذي يجب رفعه بالتغسيل.

ولما في الحدائق من أن الحكم فيه بأن القطعة ميتة لا يراد به إلا أنها ميتة الإنسان ذات الأحكام الخاصة، ومنها التغسيل. ولذا صح تفريع وجوب غسل المسّ عليه، إذ هو من أحكام مسّ الميت الإنسان، لا مسّ كل ميتة.

والكل كما ترى! لظهور ضعف الأولين مما سبق في صدر المسألة. واندفاع الثالث - مضافاً إلى ما حكاه في السرائر عن البلاذري أنها سقطت باليمامة - بعدم حجية فعل أهل مكة. ولاسيما مع ما في الخلاف من أنهم صلوا عليها أيضاً، مع أنه قد تقدم عدم وجوب الصلاة عليها.

كما يظهر ضعف الرابع مما تقدم من عدم صدقه إلا ببقاء أكثر عظام الميت، ولذا تضمن الأمر بالصلاة، مع عدم وجوبها هنا، كما سبق.

وأما الخامس فيشكل بعدم وضوح الملازمة المذكورة. لأن غسل المس وإن كان من شؤون حدث الموت، إلا أنه إنما يرتفع عن مجموع الميت بغسله بتمامه بنحو الارتباطية، والمفروض تعذر ذلك، وليس هو انحلالياً، بحيث يرتفع الحدث عن كل جزء من الميت بغسله وحده، ليجب في المقام.

وأما الحكم بأنه ميتة فلا يراد به إلا تنزيل القطعة من الحي منزلة الميت، والتفريع بلحاظ ذلك، لأنه إذا كان ميتة تحقق موضوع التفصيل المذكور. على أنه لو تم حمله على إرادة أنه ميت الإنسان فليس معنى ذلك أنه ميت كامل للإنسان، بحيث تترتب عليه تمام أحكامه، بل بالمعنى الأعم من التام والناقص، ولذا فصل في وجوب الغسل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 446

بمسه بين ذي العظم وغيره، فإذا كان التغسيل من أحكام خصوص التام، أو ما يعمّ ما فيه القلب مثلاً، فلا وجه لتعميمه لمطلق ما فيه عظم، ولذا لا يجب فيما لا عظم فيه قطعاً، مع أنه مشمول للحكم بأنه ميتة.

فلم يبق إلا الإجماع، حيث يبعد الخطأ فيه في مثل هذه المسألة التي هي مورد للابتلاء والعمل. وإن كان في بلوغ ذلك حداً يصلح للاستدلال، والخروج عن مقتضى أصل البراءة، إشكال. بل حيث كان ظاهرهم المفروغية عن أن الغسل المذكور من شؤون تغسيل الميت، فهو رافع لحدث الموت، فلا يجب الغسل بالمس بعده ومطهر للقطعة، كان الأمر أشكل، لمنافاتهما لإطلاق نصوص الحكمين التي مقتضاها عدم ارتفاعهما إلا بتغسيل الميت بتمامه. بل الثاني مناف للاستصحاب أيضاً. ومن ثم يشكل الحال وطريق الاحتياط واضح.

هذا وأما التعميم في المتن للعظم المجرد فهو المحكي عن ابن الجنيد. وفي الجواهر أنه ظاهر بعض عبارات الأصحاب، بل ربما حمل عليه عبارات الكل قال:" ومن هنا لم نجد أحداً ممن أوجب تغسيل القطعة ذات العظم صرح بعدم الوجوب فيه. وكأن ما نقله بعض المتأخرين من القول به أراد من أنكر وجوب التغسيل للقطعة ذات العظم".

وقد يستدل له - مضافاً إلى الوجه الأول والثاني والرابع التي عرفت الإشكال فيها - بأن دوران تغسيل القطعة وعدمه مدار اشتمالها على العظم وعدمه يقتضي أن يكون موضوع التغسيل هو العظم واللحم تابع له. لكنه - كما ترى - تحكم وتخرص لا شاهد له. ولعله لذا تردد فيه في جامع المقاصد. فتأمل جيداً. والله سبحانه وتعالى العالم.

هذا وأما القطعة المبانة من الحي فقد صرح في المعتبر بعدم وجوب تغسيلها، قال:" لأنها من جملة لا يغسل ".وتبعه جماعة في ذلك. ولا يخفى ضعف التعليل المذكور، لأن عدم تغسيل الجملة لعدم الموت لا ينافي تغسيل القطعة بموتها، كما هو

ص: 447

وحنط (1)، ولفت بخرقة (2)،

الحال في الحكم بالنجاسة.

خلافاً للسرائر والتذكرة والدروس والذكرى ومحكي المنتهى وغيرها، فيجب التغسيل. وهو متجه بناء على نهوض حديث أيوب بن نوح المتقدم بإثبات وجوب التغسيل. وقد أيده في الجواهر بأنه لو لم يجب تغسيلها لم يجب تغسيل من قُطّع حياً إذا وجدت قطعه متفرقة، لأن كل قطعة لا يتعلق بها الوجوب. وبإمكان استفادته من مساق أخبار المقام، حيث لم يراع فيها احتمال اقتطاع الأعضاء منه وهو حي في أكيل السبع والطير وغيره.

لكن سبق المنع من نهوض حديث أيوب بإثبات وجوب التغسيل. وأما ما في الجواهر فهو وإن لم يخل من وجه، إلا أن وجوب تغسيل كل قطعة في ضمن المجموع مع موت من قطعت منه لا يستلزم وجوب تغسيلها وحدها مع عدم موته، وإلا جرى ذلك في الصلاة، كما نبه له في جامع المقاصد. ومن ثم يشكل الخروج عن مقتضى الأصل.

(1) كما في المقنعة والمبسوط والنهاية والمراسم والتذكرة وعن نهاية الأحكام، مع التصريح في الأخيرين باختصاصه بما إذا كان أحد المساجد. ولعله مراد الكل. وكأن الوجه فيه قاعدة الميسور والاستصحاب، اللذين عرفت الإشكال في الاستدلال بهما في نظير المقام، وهو التغسيل.

(2) كما في الشرايع والتذكرة وعن التحرير ونهاية الأحكام واستظهره في كشف اللثام. وصرح بالتكفين في المقنعة والمبسوط والنهاية والسرائر ومحكي المنتهى والتبصرة والجامع وغيرها. واحتمل رجوع الأول للثاني، كالعكس.

وعن فوائد الشرايع:" ينبغي أن يكفن بالثلاث إن كان موضعها موجوداً وإلا ففي الاثنين ".واحتمله في جامع المقاصد. لكن حيث سبق ضعف الاستدلال بقاعدة

ص: 448

ودفن (1)، على الأحوط وجوباً. ولم يصل عليه (2). وإن لم يكن فيه عظم لف بخرقة (3)

الميسور والاستصحاب، فلو تم الإجماع على أصل اللفّ فلا إجماع على خصوصية الكفن، ويتعين الرجوع فيه للأصل.

(1) بلا خلاف ظاهر، بل ظاهرهم المفروغية عنه، حيث لا يحتمل وجوب الأمور المتقدمة دونه. وينحصر الدليل عليه بالإجماع المطابق للمرتكزات المتشرعية على اهتمام الشارع بحرمة الميت وستره بالدفن. ويقتضيه في الجملة مرسل محمد بن خالد المتقدم(1).

(2) كما صرح به جماعة، بل ربما يستظهر من بعض عباراتهم الإجماع عليه، وإن حكى عن ابن الجنيد وجوب الصلاة عليه. وقد يستدل له بمرسلي محمد بن خالد وابن المغيرة وحديث الجعفريات المتقدمة في صدر المسألة. ويظهر ضعفه مما تقدم.

مضافاً إلى اختصاصها بالعضو التام. ومثلهما في ذلك مرسل الكليني:" وروي أنه يصلى على الرأس إذا أفرد من الجسد "(2) مضافاً إلى معارضته بمرسل الصدوق:" وإن لم يوجد منه إلا الرأس لم يصل عليه"(3).

(3) كما في الشرايع والقواعد والدروس وظاهر المسالك وعن النافع وبقية كتب العلامة والشهيدين والصيمري. وفي المختلف وعن الكفاية أنه المشهور. وصرح بعدم وجوب لفها في المعتبر، وتبعه جماعة. ولعله يرجع إليه ما في السرائر والمراسم من عدم وجوب التكفين وإن نسب في المعتبر للثاني وجوب اللفّ.

وكيف كان فلا يظهر الوجه فيه بعدما عرفت من المناقشة في قاعدة الميسور

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة ملحق حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب صلاة الجنازة ملحق حديث: 10.

ص: 449

(450)

ودفن (1) على الأحوط وجوباً.

(مسألة 73): السقط إن تم له أربعة أشهر غسل (2)،

والاستصحاب، وبعد عدم قيام شبهة الإجماع. ومن هنا لا مخرج عن الأصل.

هذا ولا إشكال ظاهراً في عدم وجوب الصلاة عليه - كما تضمنته بعض النصوص المتقدمة - بل ظاهرهم المفروغية عنه. وكذا لا يجب التغسيل كما صرح جماعة، بل في الخلاف والغنية والحدائق دعوى الإجماع عليه.

(1) كما ذكره غير واحد مرسلين له إرسال المسلمات. ويقتضيه ما تقدم في القطعة المشتملة على العظم.

(2) كما هو المعروف، وادعى الإجماع عليه في الخلاف وجامع المقاصد، وعن ظاهر الذكرى والتنقيح، ونسبه في المعتبر على علمائنا، وفي محكي المنتهى إلى أكثر أهل العلم. وفي كشف اللثام: "ولا نعرف فيه خلافاً إلا من العامة".

ويقتضيه خبر زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: السقط إذا تم له أربعة أشهر غسل"(1). ونحوه حديث أحمد بن محمد عمن ذكره:" قال: إذا تمّ للسقط أربعة أشهر غسل. وقال: إذا تمّ له ستة أشهر فهو تام. وذلك أن الحسين بن علي ولد وهو ابن ستة أشهر"(2). وضعف السند - لجهالة الحسين بن موسى في سند الأول وإرسال الثاني - مجبور بقبول الأصحاب كما في المعتبر، وبإطباقهم على الحكم كما في جامع المقاصد. وتوقف المدارك في الانجبار في غير محله. وبه يخرج عن إطلاق خبر محمد بن الفضيل: "كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) أسأله عن السقط كيف يصنع به؟ فكتب إليّ: السقط يدفن بدمه في موضعه"(3) ، فيحمل على من لم يتم له أربعة أشهر.

هذا وقد روى الشيخ بسنده الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته عن السقط إذا استوت خلقته يجب عليه الغسل واللحد والكفن؟ قال: نعم. كل ذلك

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب غسل الميت حديث: 4، 2، 5.

ص: 450

يجب عليه إذا استوى"(1). وكذا رواه الكليني، إلا أنه أسقط قوله: "إذا استوى".

قال في المدارك: "لا يخفى أن الحكم في الرواية الثانية وقع معلقاً على استواء الخلقة، لا على بلوغ الأربعة. اللهم إلا أن يدعى التلازم بين الأمرين. وإثباته مشكل" .وقد منع في الحدائق من الإشكال في ذلك للنصوص المتضمنة أن النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً، ثم تصير علقة أربعين يوماً، ثم تصير مضغة أربعين يوماً، فإذا أكمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين فيقولان: يا رب ما تخلق ذكراً أم أنثى(2) ، قال: "وهذه الأخبار كما ترى صريحة في أنه بتمام الأربعة أشهر تمت خلقته".

لكن استئذان الملكين في ذلك بعد الأربعة أشهر لا يستلزم تمامية خلقة الجنين بها، لو لم يدل على العدم، كما نبه له غير واحد.

كما لا مجال للاستدلال على ذلك بالرضوي: "وإذا أسقطت المرأة وكان السقط تاماً غسل وحنط وكفن ودفن. وإن لم يكن تاماً فلا يغسل ويدفن بدمه. وحدّ إتمامه إذا أتى عليه أربعة أشهر"(3). لعدم وضوح كونه رواية عن معصوم، بل ربما كان فتوى - كفتوى الصدوق في الفقيه - تبتني على الجمع المتراءى بين النصوص.

وكذا لا مجال لاستفادة عدم تحقق التمامية من ذيل مرفوع أحمد بن محمد. ونحوه خبر زرارة(4). لأن التمامية فيهما بمعنى أوان الاستقلال عن الأم، بحيث يمكن ولادته وبقاؤه حياً، بقرينة الاستشهاد بولادة الحسين (عليه السلام) لا بمعنى تمامية الخلقة واستوائها.

ومن هنا فقد حمل سيدنا المصنف (قدس سره) استواء الخلقة على المقدار الحاصل بالأربعة أشهر، جمعاً بين النصوص. لكنه لا يخلو عن إشكال، ولاسيما مع وقوع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(2) الكافي ج: 6 ص: 12 باب: 6 من أبواب كتاب العقيقة.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 12 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 451

وحنط (1)، وكفن (2)،

استواء الخلقة في كلام السائل، حيث يبعد جداً إرادته منه غير معناه العرفي.

ولعل الأولى توجيه النصوص بالتلازم بين الأمرين خارجاً. ولو ثبت عدمه يتعين رفع اليد عن المفهوم في كلتا الشرطيتين، والبناء على وجوب التغسيل بكل واحد من الأمرين. ولاسيما مع عدم ثبوت اشتمال الجواب في الموثق على الشرطية، لخلوّ رواية الكليني عنها. ومجرد اشتمال السؤال عليها لا يقتضي التحديد. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) كما في الفقيه والمقنعة والنهاية والمبسوط والمراسم وعن الشهيد ومن تأخر عنه. ويقتضيه - مضافاً إلى الرضوي المتقدم - إطلاق بعض نصوص التحنيط. ففي صحيح زرارة عنهما (عليهما السلام):" إذا جففت الميت عمدت إلى الكافور، فمسحت به آثار السجود... "(1) وفي موثق عمار المتضمن السؤال عن غسل الميت قال (عليه السلام):" ثم تكفنه واجعل الكافور في مسامعه واثر سجوده..."(2). على أنه لا يبعد استفادته تبعاً من الأمر بالتكفين في موثق سماعة، لظهور جملة من النصوص في أنه من شؤون التكفين ولواحقه. ومنه يظهر الإشكال في إهمال غير واحد له.

(2) كما صرح به من تقدم منه التصريح بالتحنيط، وحكي عن العلامة في جملة من كتبه. ويقتضيه موثق سماعة السابق نعم لو لم يثبت التلازم بين استواء الخلقة وبلوغ الأربعة أشهر أشكل استفادة وجوبه فيمن بلغ الأربعة أشهر ولم تستو خلقته.

هذا والظاهر حمل التكفين في النص والفتوى على التكفين المعهود بالقطع الثلاث، كما حكي عن الشهيد ومن تأخر عنه التصريح به. وأما الاقتصار على اللف في خرقة في الشرايع ومحكي التحرير فلا يتضح وجهه بعدما سبق.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التكفين حديث: 4.

ص: 452

ولم يصل عليه (1). وإن كان لدون ذلك لف بخرقة (2) ودفن (3) على الأحوط وجوباً. لكن لو ولجته الروح حينئذ فالأحوط إن لم يكن أقوى

(1) إجماعاً كما في الخلاف والمعتبر. بل في التذكرة: "لا يستحب الصلاة على السقط ميتاً عند علمائنا" .ويقتضيه - مضافاً إلى الأصل - ما تقدم في الصلاة على الطفل من النصوص المتضمنة عدم الصلاة على الطفل الذي لم يستهل، فضلاً عن غيرها مما يظهر منه عدم مشروعية الصلاة على من لم يبلغ ست سنين.

(2) ولا يغسل إجماعاً، كما في الخلاف وفي الغنية والمعتبر. بل قال فيه: "وهو مذهب العلماء خلا ابن سيرين" ،ونحوه في التذكرة. ويقتضيه النصوص المتقدمة.

نعم لو فرض تمامية خلقته فمقتضى صحيح زرارة وجوب تغسيله. ولا يقدح مخالفته لإطلاق معاقد الإجماعات المتقدمة. لقوة احتمال ابتنائها على ملازمة تمامية الخلقة لمضي الأربعة أشهر، كما يظهر من استدلال بعضهم على التفصيل المذكور بموثق سماعة.

هذا وأما اللفّ بخرقة فقد ذكره غير واحد. ولم يتضح وجهه. نعم تضمنه معقد إجماعي المعتبر والتذكرة. لكن في نهوضهما بالاستدلال إشكال. ولاسيما مع احتمال كون معقدهما حقيقة هو عدم الصلاة عليه، أو عدم وجوب غسله، كما قد يناسب الأول استثناء ابن سيرين الذي حكى عنه في التذكرة القول بوجوب الصلاة عليه، ويناسب الثاني ما في المعتبر من استدلاله على معقد الإجماع بأن المعنى الموجب للغسل هو الموت، وهو مفقود هنا، وبخبر محمد بن الفضيل المتقدم المقتصر فيه على أنه يدفن بدمه. بل نسب فيه معقد الإجماع للمبسوط والنهاية مع أنه لم يذكر فيهما اللفّ بخرقة، كما لم يذكره غير واحد، على ما حكي. ومن هنا يشكل وجوبه. ولاسيما مع عدم ذكره في خبر محمد بن الفضيل المتقدم.

(3) الظاهر عدم الخلاف فيه. ويقتضيه خبر محمد بن الفضيل المتقدم.

ص: 453

جريان حكم الأربعة أشهر عليه (1).

(1) لم أعثر عاجلاً على من صرح بذلك. نعم في الخلاف: "يجب غسل السقط إذا ولد وفيه حياة. فأما الصلاة عليه فعندنا لا يجب الصلاة عليه إلا بعد أن يصير له ستة سنين... دليلنا إجماع الفرقة" .وقد يوجه - مضافاً إلى الإجماع المدعى فيه - بإطلاق دليل وجوب تغسيل الميت.

لكن الإجماع المذكور لا يبلغ مرتبة الحجية. ولاسيما مع قرب ابتنائه على استلزام الحياة لبلوغ الأربعة أشهر، كما قد يستفاد من بعض النصوص(1). ويناسبه ما ذكره بعد ذلك من جعلها معياراً في وجوب الغسل، ومع احتمال رجوع الإجماع لحكم الصلاة عليه الذي حكى فيه الخلاف عن العامة.

وأما الإطلاق فهو - لو تم - لا ينهض في قبال التفصيل الذي تضمنته النصوص المتقدمة بين بلوغ الأربعة أشهر وعدمه. على أنه - كالإجماع المدعى - يختص بمن ولد حياً، لا مطلق من ولجته الروح، كما هو إطلاق مقتضى المتن، لانصراف الميت عن السقط الذي يموت في بطن أمه قطعاً. فلاحظ والله سبحانه وتعالى العالم. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

انتهى الكلام في أحكام الأموات ليلة الأربعاء، التاسع والعشرين من شهر شعبان المعظم، من السنة الثانية عشرة بعد الألف والأربعمائة للهجرة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلاة والتحية. بقلم العبد الفقير إلى الله تعالى (محمد سعيد) عفي عنه نجل سماحة آية الله السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم، دامت بركاته. في داره في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف، على مشرفه الصلاة والسلام. ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 19 باب: 19، 20 من أبواب ديات الأعضاء.

ص: 454

(455)

المقصد السادس: في غسل المس

اشارة

يجب الغسل بمس الميت (1)

(1) على المعروف من مذهب الأصحاب المنسوب للأكثر تارة، وللمشهور أخرى في كلام جماعة. بل ادعى في كتاب الجنائز من الخلاف الإجماع عليه قال: "ومن شذ منهم لا يعتد بقوله" .ويقتضيه النصوص الكثيرة الآمرة به، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "قلت: الرجل يغمض الميت أعليه غسل؟ قال: إذا مسه بحرارته فلا. ولكن إذا مسه بعدما يبرد فليغتسل..."(1) ، وغيره من النصوص الكثيرة المستفيضة أو المتواترة، الواردة في ذلك وفي فروعه، ومنها ما تضمن تغسيل المغسل للميت(2).

ويظهر التردد فيه من المراسم لنسبته فيه إلى إحدى الروايتين، وحكي عن المرتضى عدم وجوبه، بل قد يظهر من الخلاف وجود قائل به غيره.

ويستدل له - بعد الأصل - بأن وجوبه نفسياً مما لا يقول به أحد، وغيرياً مما لا دلالة في النصوص عليه، بل يشعر بعدمه التوقيع الذي رواه الشيخ في كتاب الغيبة مسنداً بطريق معتبر والطبرسي في الاحتجاج مرسلاً عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، أنه كتب إليه:" فروي لنا عن العالم (عليه السلام): أنه سئل عن إمام قوم يصلي بهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل المس حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل المس.

ص: 455

بعض صلاتهم، وحدثت عليه حادثة، كيف يعمل من خلفه؟ فقال: يؤخر، ويتقدم بعضهم، ويتم صلاتهم، ويغتسل من مسه. التوقيع: ليس على من مسه إلا غسل اليد، وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمم صلاته عن [مع] القوم"(1). بل يدلّ عليه حصر نواقص الوضوء بغيره.

لكن يجب الخروج عن الأصل بالنصوص المشار إليها. كما يتعين البناء على وجوبه غيرياً، كسائر الطهارات لمثل عموم: "لا صلاة إلا بطهور" (2) بعد كون وجوبه مسبباً عن الحدث، كما هو المنسبق في سائر الأغسال، لأنها ارتكازاً طهارات. ويشهد به في خصوص المقام معتبر الفضل عن الإمام الرضا (عليه السلام): "إنما أمر من يغسل الميت بالغسل لعلة الطهارة مما أصابه من نضح الميت، إذا خرج منه الروح بقي منه أكثر آفته" (3) ونحوه معتبر محمد بن سنان عنه (عليه السلام)، وزاد فيه: "فلذلك يتطهر منه ويطهر"(4).

وأما التوقيع فهو لا يدل على عدم وجوبه غيرياً، بل على عدم وجوبه أصلاً، وهو محمول على المسّ قبل البرد، كما هو المناسب لمورده. ويشهد بذلك ما في سياق التوقيع الأول:" روي عن العالم أن من مسّ ميتاً بحرارته غسل يده، ومن مسّه وقد برد فعليه الغسل، وهذا الميت في هذه الحال لا يكون إلا بحرارته فالعمل في ذلك على ما هو؟ ولعله ينحيه بثيابه، ولا يمسه، فكيف يجب عليه الغسل؟ التوقيع: إذا مسه على [في] هذه الحال لم يكن عليه إلا غسل يده"(5).

وأما نصوص نواقض الوضوء فبناء على ما هو الظاهر من أن أسباب الحدث الأكبر نواقض للوضوء يتعين حمل الحصر فيها على الحصر الإضافي، ولذا لم يذكر في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب غسل المس حديث: 4. كتاب الغيبة للشيخ ص: 230 طبع النجف الأشرف.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1، 2 من أبواب الوضوء.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل المس حديث: 11، 12.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب غسل المس حديث: 5. واللفظ له. كتاب الغيبة للشيخ ص: 230 طبع النجف الأشرف.

ص: 456

كثير منها شيء من أسباب الغسل.

ومثل ذلك الاستدلال بذكره في سياق الأغسال المسنونة(1) وخصوصاً ما تضمن منها التصريح بأن غسل الجنابة فريضة(2). إذ فيه: أن ذلك قد يمنع من حمل الأمر به في تلك النصوص على الوجوب، من دون أن ينافي وجوبه لو استفيد الأمر به من نصوص أخر. وتخصيص غسل الجنابة بأنه فرض لابد أن يحمل على إرادة المفروض بظاهر القرآن، وإلا لجرى ذلك في سائر الأغسال الواجبة غير الجنابة ولم يختص بغسل المس، خصوصاً غسل الميت الذي عدّ في بعض تلك النصوص في سياق غسل المس.

نعم قد يستدل بمكاتبتي الحسين بن عبيد والقاسم الصيقل: "كتبت إلى الصادق (عليه السلام): هل اغتسل أمير المؤمنين (عليه السلام) حين غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند موته؟ فأجابه: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طاهر مطهر، ولكن فعل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجرت به السنة"(3) ، وموثق زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه السلام): قال: الغسل من سبعة: من الجنابة - وهو واجب - ومن غسل الميت وإن تطهرت أجزأك"(4) ، بحمل التطهير فيه على الوضوء، أو غسل اليد. وأما احتمال حمله على الغسل، وأن المراد بإجزائه إجزاؤه عن الوضوء - كما في الوسائل - فيوافق المختار. فهو بعيد جداً.

لكن المكاتبتين - مع ضعفهما - ظاهرتان في وجوب الغسل بالمس، وأن عدم وجوبه في غسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه طاهر مطهر لا يوجب مسه للماس الحدث، ويراد من جريان السنة به جريانها باستحباب الغسل مع طهارة الميت وعدم ثبوت الحدث له بالموت له ولا لمن يمسه.

هذا بناءً على أن جريان السنة بفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) له. أما بناءً على أن

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4، 5، 8، 11.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل المس حديث: 7، 8.

ص: 457

الإنساني (1)

جريانها مع قطع النظر عن فعله بل فعله (عليه السلام) متفرع عليها، فلا مانع من حمل السنة على ما يعم الوجوب، ويكون المراد بقوله:" فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طاهر مطهر "بيان أن وجوب الغسل بتغسيله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس لعدم طهارته، بل لجريان السنة به.

وأما موثق زيد فهو بظاهره شاذ مهجور عند الأصحاب، موافق للعامة، فلا يعارض النصوص المستفيضة المعول عليها عند الأصحاب، بل لابد من تأويله أو طرحه.

(1) فلا يجب الغسل بمس غيره من الميتات. وفي المنتهى أنه لا يعرف فيه خلافاً. بل في كشف اللثام أن عليه الإجماع. ويقتضيه - مضافاً إلى الأصل بعد قصور النصوص السابقة عنه، لظهور عنوان" الميت "أو انصرافه للإنسان، ويناسبه كونه مشروطاً بعدم التغسيل الذي لا يشرع لغير الإنسان - صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" في رجل مس ميتة أعليه الغسل؟ قال: لا إنما ذلك من الإنسان"(1) ، ونحوه غيره. بل هو مقطوع به من السيرة لشيوع الابتلاء به، فلو وجب لظهر وبان.

نعم في معتبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام): "قال: إنما لم يجب الغسل على من مس شيئاً من الأموات غير الإنسان - كالطيور والبهائم والسباع وغير ذلك - لأن هذه الأشياء كلها ملبسة ريشاً وصوفاً وشعراً ووبراً، وهذا كله ذكي لا يموت، وإنما يماس منه الشيء الذي هو ذكي من الحي والميت"(2). ومقتضى التعليل فيه وجوب الغسل بمس الجزء الذي طرأت عليه الحياة منها.

لكن لا مجال للخروج به عما تقدم. ولاسيما السيرة، حيث لا مجال لحملها على خصوص مماسة ما تحله الحياة مع شيوع مسّ ما تحله الحياة في مثل الميتة المسلوخة ورجلي الطيور وسائر جسمه مع نتفه. فيحمل على الغَسل بالفتح لا الغُسل بالضم

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب غسل المس حديث: 1، 5.

ص: 458

بعد برده (1)، وقبل إتمام غسله (2).

الذي هو محل الكلام، أو تحمل العلة فيه على الحكمة، أو يطرح.

(1) فلا يجب قبله، للإجماع هنا بقسميه عليه، بل في المنتهى أنه مذهب علماء الأمصار. كذا في الجواهر. ويقتضيه النصوص المستفيضة، كصحيح محمد بن مسلم المتقدم في أول الفصل وغيره مما تقدم بعضه.

(2) فقد صرحوا بعدم وجوب الغسل بالمس بعد الغسل، وفي الجواهر:" إجماعاً بقسميه، بل في المنتهى أنه مذهب علماء الأمصار ".وتقتضيه جملة من النصوص، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: مس الميت عند موته وبعد غسله والقبلة ليس بها بأس "(1) ونحوه حديث عبد الله بن سنان(2) وفي مكاتبة الصفار:" إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل"(3).

نعم مقتضى تعليل نفي الغسل على من يدخله القبر بأنه إنما يمسه من وراء الثياب(4) وجوب الغسل بمسّ جسده. بل هو كالصريح من موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "وقال يغتسل الذي غسل الميت، وكل من مس ميتاً فعليه الغسل وإن كان الميت قد غسل"(5).

ولعل الأولى حملها على الاستحباب، كما ذهب إليه الشيخ في التهذيبين، خصوصاً بملاحظة ما تقدم في مكاتبتي الحسين بن عبيد والصيقل من احتمال حملهما على استحباب الغسل مع طهارة الميت.

هذا وظاهر النص والفتوى لزوم إتمام الغسل. لكن في التذكرة والقواعد وعن غيرهما أنه لو تمّ غسل الرأس، فمسّه قبل إتمام الغسل، فلا غسل. واستدل له

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب غسل المس حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل المس حديث: 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل المس حديث: 10، 14، وباب: 4 منه حديث: 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل المس حديث: 3.

ص: 459

مسلماً كان أو كافراً (1)،

بانصراف الإطلاق عن مثله ولطهارة الممسوس بغسله.

وفيه: أن الانصراف ممنوع أو بدوي لا يعتد به. مع إن انصراف إطلاق وجوب الغسل بالمس قبل الغسل لا ينفع، إذ يكفي إطلاق وجوب الغسل بمس الميت مطلقاً أو بعد برده.

وأما طهارة العضو الممسوس من الخبث بتمام غسله، فهي ممنوعة، بل ظاهر ما تضمن طهارة الميت بتغسيله(1) توقفها على تمام الغسل وهو مقتضى الاستصحاب أيضاً.

ودعوى: أن الطهارة الخبثية انحلالية، فيطهر كل جزء من النجس بغسله وإن لم يغسل الباقي. ممنوعة في المقام حيث أنيط فيه الحكم بتغسيل الميت الظاهر في تمامه. ولاسيما مع كون مطهريته تعبدية لا عرفية، لكونه نجس العين، ولاعتبار خصوصيات في الغسل لا تعتبر في التطهر من سائر النجاسات شرعاً ولا عرفاً.

على أن طهارة العضو المغسول من الخبث لو تمت لا تستلزم عدم وجوب الغسل بالمس، لعدم وضوح التلازم بين الأمرين، ولذا لا إشكال في عدم وجوب غسل المس قبل البرد، مع نجاسة الميت حينئذ.

هذا وأما لو أريد بالوجه المذكور طهارة كل عضو من الحدث بغسله، فهو أشكل لعدم معهودية الانحلال في الطهارة الحدثية، وعدم مساعدة الأدلة عليها.

(1) كما هو صريح جماعة ويقتضيه إطلاق النص والفتوى بوجوب الغسل بميت الإنسان، ولو اختص بالمسلم لكان الأولى أخذه في الموضوع. ولاسيما بملاحظة تعليله في معتبري الفضل بن شاذان ومحمد بن سنان بأنه مسبب عن حدث الموت المشترك بينهما. بل قد يدعى الأولوية في الكافر. وإن كانت محل إشكال، لعدم وضوح أولويته في الحدث الذي هو العلة لوجوب الغسل بالمس كما تقدم. وأولويته في الخبث

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 460

حتى السقط إذا ولجته الروح (1)،

لو تمت - لا تنفع بعد عدم كونها معياراً في الحكم، خصوصاً مع كون أولويته بلحاظ خبث الكفر، لا خبث الموت.

هذا وفي المنتهى وعن نهاية الأحكام والتحرير احتمال العدم، وقربه في الحدائق. لجعل الغاية له التطهير بالغسل، والكافر لا يقبل ذلك. ولأنه لا يزيد على مس البهيمة والكلب.

والأخير - كما ترى - قياس لا يخرج به عن الإطلاق. وأما الأول فهو قد يتجه لو كان عدم قبول الكافر للتغسيل بسبب عدم سببية موته للحدث كالحيوان. لكنه - مع بعده ارتكازاً - لا يناسب إطلاق دليل سببية الموت للحدث، كنصوص وجوب غسل المس، ولاسيما معتبري الفضل وابن سنان المتقدمين. وكذا نصوص تعليل وجوب غسل الميت(1). بل الظاهر أن عدم قبوله له لعدم مشروعية تطهيره من الحدث، فلا ينافي وجوب الغسل بمسه.

(1) قطعاً كما في الجواهر. لإطلاق الأدلة، وإن أمكن دعوى انصرافها عن موت مثله، خصوصاً إذا مات في بطن أمه، لأن الإنصراف المذكور بدوي بعد كون المفهوم من الأدلة أن وجوب الغسل بالمس إنما هو لحدث الموت، وهو حاصل إرتكازاً في موت الجنين.

وأما إذا لم تلجه الروح فالظاهر عدم وجوب الغسل بمسه، كما في المقنعة والمنتهى. لعدم الموضوع. وأما حمل الميت في الأدلة على مطلق غير الحي من يقبل الحياة، فهو خروج عن الظاهر، خصوصاً بعد تقييد الحكم بما إذا برد الميت، لوضوح كون المراد به برودته بعد حرارته بالحياة. وبعد تعليله في المعتبرين المتقدمين في الاستدلال لوجوب الغسل بالطهارة مما أصابه من نضج الميت. فلاحظه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1، 3 من أبواب غسل الميت.

ص: 461

(462)

وإن لم يتم له أربعة أشهر (1)، على الأحوط. ولو يمم الميت للعجز عن تغسيله (2)

وأما الاستدلال على وجوب الغسل بمسّه بالإجماع على نجاسته، حيث يشهد ذلك بأن المراد بالميت ما يعمه، وهو غير الحي القابل للحياة. فهو مندفع بعدم التلازم بين نجاسته ووجوب الغسل بمسه، حيث لا مانع من كون المراد بالميت في موضوع النجاسة ما يعم ذلك، وفي موضوع غسل المس ما ذكرنا لما سبق. على أن نجاسته قد لا تكون لصدق الميت عليه، بل لإلحاقه به في الحكم المذكور، وهو لا يستلزم إلحاقه به فيما نحن فيه.

(1) للإطلاق المتقدم. ولم يتضح منشأ توقف سيدنا المصنف (قدس سره) في الحكم. نعم يتجه الاحتياط فيمن لم يتم له أربعة أشهر، بناءً على عدم ولوج الروح قبلها، للشبهة المتقدمة. لكنه حينئذ احتياط استحبابي، كما صرح به في العروة الوثقى، وجرى عليه سيدنا المصنف (قدس سره) في مستمسكه.

(2) فقد صرح في القواعد والمنتهى والدروس بوجوب الغسل بمسّه، وحكي عن جماعة كثيرة، بل في الجواهر: "بل لا أجد فيه خلافاً مما عدا شيخنا في كشف الغطاء".

والعمدة فيه إطلاق ما تضمن وجوب الغسل بمس الميت قبل غسله. وأما بقاء النجاسة فهو - لو تم - لا ينفع بعد عدم التلازم بين الأمرين، كما سبق التنبيه له.

واستدل لكاشف الغطاء بإطلاق دليل البدلية. لكن المراد به إن كان هو بدلية التيمم عن غسل الميت، فينحصر الدليل عليه بخبر زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه السلام): "قال: إن قوماً أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله مات صاحب لنا وهو مجدور، فإن غسلناه انسلخ، فقال: يمموه"(1). وهو - مع ضعف سنده - غير ظاهر في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

ص: 462

إطلاق بدلية التيمم عن غسل الميت بلحاظ جميع آثاره. بل في مجرد وجوبه عند تعذره ولو لقيامه ببعض أثره، اجتزاء بالميسور.

ومثله في ذلك معتبره عنه (عليه السلام):" قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفر فقالوا: إن امرأة توفيت منا، وليس معها ذو محرم... فقال: أفلا يمموها"(1). وإن سبق في محله حمله على الاستحباب.

وإن كان هو بدلية التراب عن الماء المستفادة من مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يكفيك الصعيد عشر سنين" (2) وقولهم (عليهم السلام): "إن رب الماء رب الصعيد، فقد فعل أحد الطهورين"(3). أشكل أولاً: بأنه لا إطلاق للبدلية المذكورة بنحو يشمل المقام بعد أن كان الأثر غير مستند للماء وحده، بل مع الخليطين، من دون فرق بين اعتبار إطلاق الماء في الغسلين الأولين المشتملين على الخليطين وعدمه، كما هو الأظهر، على ما تقدم. إذ على الأول لا يستند الأثر لمطلق الماء، بل لخصوص الحصة الخاصة منه، ومقتضى البدلية قيامه مقام الماء في الآثار الثابتة لمطلق الماء، لا لخصوص حصة خاصة منه، كما أشرنا إليه عند الكلام في مشروعية التيمم للميت مع تعذر الغسل، ونبه له بعض مشايخنا (قدس سره) هنا. ومن ثم سبق أن مشروعية التيمم مستفادة مما تضمن وجوب الغسل بالماء عند تعذر الخليطين، حيث يكشف ذلك عن استقلال الماء بالمطهرية - ولو ببعض مراتبها - في فرض تعذر الغسل التام، وذلك كاف في مشروعية التيمم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن المفهوم من قولهم (عليهم السلام):" التراب أحد الطهورين "و:" التيمم أحد الطهورين "قيام التراب مقام الغسل الطهور، ولو اعتبر فيه أمر غير الماء، كالخليطين في المقام. ففيه: أن التعبير الأول راجع إلى بدلية التراب عن الماء وقيامه مقامه، لأنه طهور مثله، فيجري فيه ما سبق.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب غسل الميت حديث: 4.

(2) ،

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 12، 15.

ص: 463

وأما التعبير الثاني فلم أعثر عليه عاجلاً إلا في صحيح زرارة:" قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن أصاب الماء وقد دخل في الصلاة. قال: فلينصرف فليتوضأ ما لم يركع، وإن كان قد ركع فليمض في صلاته، فإن التيمم أحد الطهورين"(1). ومقتضى الجمود عليه تنزيل التيمم منزلة الوضوء، لا منزلة الغسل، خصوصاً غسل الميت. على أنه يقرب رجوعه إلى ما سبق من بدلية التراب عن الماء، فيجري فيه ما سبق.

وثانياً: بأن المتيقن من طهورية التراب وبدليته عن الماء مطهريته من الحدث لا من الخبث، فعدم وجوب غسل المس بالتيمم موقوف إما على إحراز أن وجوب غسل المس من آثار حدث الموت وحده، دون خبثه، أو إحراز أن الخبث من آثار الحدث، فارتفاع حدث الموت بالتيمم - بمقتضى إطلاق البدلية - مستلزم لارتفاع موضوع غسل المس. ولا طريق لإحراز أحد الأمرين.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف من أن مقتضى إطلاق طهورية التيمم مطهريته من الحدث والخبث، والخروج عنه في الخبث غير الملازم للحدث بظهور التسالم على ذلك لا يستلزم الخروج عنه في الخبث الملازم له، كما في المقام، فيتعين البناء على مطهريته من الحدث والخبث معاً في المقام.

فيشكل بعدم وضوح إطلاق طهورية التيمم عدا صحيح زرارة المتقدم الذي سبق قصوره عن إثبات مطهريته من الحدث الأكبر، فضلاً عن مطهريته من الخبث. وأما الآيتان الشريفتان(2) فهما لا تنهضان إلا بمطهريته من الحدثين كما لا يخفى.

نعم قد يستفاد ذلك من إطلاق مطهرية الأرض، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"(3) ، وما تقدم دليلاً على إطلاق بدلية الصعيد عن الماء.

لكنه يشكل أولاً: بأن الإطلاق المذكور منصرف للحدث، لأنه الذي تضمنته

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) سورة النساء آية: 34، وسورة المائدة آية: 6.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم.

ص: 464

أو غسله الكافر (1)،

الآيتان الشريفتان، اللتان هما الأصل في تشريع طهورية الأرض، وفي كيفية مطهريتها، كما يناسبه مفروغيتهم المشار إليها. وأما التفصيل الذي ذكره (قدس سره) فهو حمل الدليل الطهورية بالإضافة إلى الخبث على الفرد النادر، وقصور دليل إطلاق الطهورية عن الخبث رأساً أهون منه عرفاً، ولذا كان مغفولاً عنه جداً.

وثانياً: أن الدليل المذكور غير متعرض لكيفية مطهرية التراب من الخبث، ودليل مطهرية التيمم مختص بالحدث. وحمل الخبث عليه قياس بعد أن كانت مطهريته من الحدث تعبدية لا عرفية، ليمكن فهم عدم الخصوصية له، ويتعدى للخبث.

هذا وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في وجه عدم سقوط غسل المس بعد الاعتراف بعموم بدلية التيمم عن الغسل للمقام من اختصاص أدلة مطهرية التيمم بالمتيمم - وهو الميت في المقام - دون غيره كالماس.

فيشكل بأن الطهارة وإن كانت مختصة بالمتيمم، إلا أنه كما يجوز له ترتيب آثارها يجوز لغيره ترتيبها، ولذا يجوز له الإئتمام به في الجملة، والبناء على صحة عمله المترتب على طهارته، فلا يقضي عنه وليه ونحو ذلك، ومن الظاهر أن سقوط غسل المس في المقام من آثار طهارة الميت الممسوس التابعة لغسله، فإذا فرض قيام التيمم مقام الغسل في مطهريته للميت تعين سقوط غسل الميت به. فالعمدة ما ذكرنا من عدم الدليل على بدليته عن غسل الميت، ولا على إطلاق مطهريته بحيث تشمل الميت في المقام.

(1) فقد صرح في القواعد وجامع المقاصد والروض ومحكي غيرها بوجوب الغسل بمس من غسله الكافر. إما لاختصاص الغسل المسقط لغسل المسّ بالغسل الاختياري، أو لعدم كونه غسلاً حقيقياً، بل صورياً.

لكن الأول مخالف لإطلاق النصوص في المقام. والثاني ممنوع، لمخالفته لظاهر

ص: 465

أو غسل بالقراح لفقد الخليطين (1)، أو أقل من ثلاثة أغسال لعوز الماء (2) فالأقوى عدم وجوب الغسل بمسه في غير التيمم. أما فيه فلا يخلو عن تأمل (3).

أدلته، كما تقدم عند الكلام في تغسيل الكافر للميت. فراجع.

(1) فقد صرح في جامع المقاصد بوجوب الغسل بمسه، لدعوى اختصاص سقوط الغسل بالمس بمن غسل غسلاً صحيحاً اختيارياً. وهي ممنوعة كما سبق. ومن ثم قرب في الجواهر وغيرها سقوط غسل المس به.

نعم هو موقوف على ظهور دليل مشروعيته في بدليته عن المقام في حال الاضطرار. وهو ممنوع في المقام بعد اختصاص دليله بالإجماع، والمتيقن منه مشروعيته في الجملة، ولو لتحصيل بعض الطهارة به، اكتفاء بالميسور. وحينئذ يشكل دخوله في إطلاق سقوط غسل المس بعد غسل الميت، لقرب كون المراد به الغسل التام وإن كان اضطرارياً. فتأمل جيداً.

(2) الكلام فيه هو الكلام في سابقه. ولا ينفع تيممه بدلاً عن الغسل الفائت، لما سبق من عدم الاجتزاء بالتيمم في سقوط غسل المس.

(3) قد يدعى أن ما تقدم منه (قدس سره) من سقوط غسل المس بتغسيل الميت بالماء القراح وحده لفقد الخليطين مستلزم لسقوطه بتيمم الميت، لما سبق من أن وجوب التيمم حينئذ مستفاد من إطلاق أدلة بدلية التيمم عن الغسل، ومقتضى إطلاق أدلة البدلية ترتب جميع الأثار ومنها سقوط غسل المسّ.

لكنه يندفع بما تقدم في الوجه الثاني للإشكال على الاستدلال بأدلة البدلية في المقام من اختصاص البدلية برفع الحدث مع احتمال دخل الخبث في وجوب غسل المس، وحينئذ لو ثبتت مطهرية الغسل بالماء القراح وحده في الفرض للميت من الخبث فلا طريق لإثبات مطهرية التيمم له منه، ليرتفع غسل المس به.

بقي في المقام أمور لم يتعرض لها سيدنا المصنف (قدس سره):

ص: 466

الأول: قال في كشف اللثام: "أما المعصوم فلا امتراء في طهارته. ولذا قيل بسقوط الغسل عمن مسه. لكن لي فيه نظر للعمومات، وخصوص خبر الحسين بن عبيد" ومراده بخبر الحسين مكاتبته المتقدمة في أول المسألة المتضمنة غسل أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد تغسيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحوها مكاتبة الصيقل. ومما تقدم هناك يظهر وجه الاستدلال بهما، وأنه غير تام، لاحتمال معنى آخر يقتضي استحباب الغسل. فالعمدة العمومات.

ولا ينافيها التعليل في معتبري الفضل بن شاذان ومحمد بن سنان المتقدمين، المتضمن للتطهر به مما أصاب الماسّ من الميت. لقرب كون التعليل المذكور من سنخ الحكمة التي لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، ولذا ورد نظيره في تعليل تغسيل الميت، مع عدم الإشكال في وجوب تغسيل المعصوم. والكلام في ذلك وإن لم يكن عملياً، إلا أنه ينفع فيما يأتي.

الثاني: صرح في التذكرة والمنتهى والقواعد بعدم وجوب الغسل بمسّ الشهيد، وهو ظاهر الدروس، وحكي عن جماعة. واستدل له تارة: بطهارته وعدم تأثير الموت فيه ما يوجب الحدث والخبث. ولعله إليه يرجع ما في الجواهر من استفادته من نصوص سقوط غسله، لظهورها في مساواته للميت المغسل. ولاسيما مع عدم اشتمالها - على كثرتها - على التنبيه لغسل المس، مع تحقق المس غالباً بالدفن ونحوه. وأخرى: بأن اشتراط وجوب غسل المس بعدم تغسيل الميت ظاهر في أن موضوعه الميت الذي يغسل.

ويشكل الأول - مضافاً إلى ما سبق من عدم وضوح اختصاص غسل المس بغير الطاهر - بعدم وضوح طهارة الشهيد. ومجرد عدم وجوب تغسيله قد لا يكون لعدم المقتضي، بل قد يكون لوجود المانع، وهو المصلحة الملزمة ببقائه على حاله التي قتل عليها وبدمائه، ولذا يدفن بثيابه ولا يحنط. وظهور النصوص في مساواته للمغسل غير ظاهر المنشأ.

ص: 467

(468)

(مسألة 74): لا فرق في الماس والممسوس بين أن يكون من الظاهر والباطن (1)، وكونه مما تحله الحياة (2)،

ومجرد عدم الأمر بالغسل لمسّه مع كثرة وقوعه لا يشهد بعدمه لإمكان الاتكال فيه على العمومات. ولذا لم يؤمر به فيمن يموت بعد المعركة مع كثرة الابتلاء به وبمسه أيضاً.

ومنه يظهر الإشكال في الثاني، لأن الاشتراط المذكور إنما يقتضي القصور عمن لا يغسل إذا كان عدم التغسيل لعدم الموضوع - كالحيوان - لا لوجود المانع، كما تقدم نظيره في مسّ الكافر.

الثالث: صرح في التذكرة والقواعد وجامع المقاصد بأن من وجب عليه تقديم الغسل على قتله، فاغتسل وقتل لا يجب الغسل بمسّه، وهو ظاهر الدروس، وحكي عن جماعة.

وتنظر فيه في المنتهى وتردد في محكي الذخيرة، بل صرح في السرائر والحدائق بوجوب الغسل بمسّه. لإطلاق وجوب الغسل بالموت قبل التغسيل، الظاهر في إرادة التغسيل بعد الموت غير الحاصل في المقام.

لكنه يشكل بحكومة دليل وجوب تقديم الغسل على الإطلاق المذكور، لظهوره في كونه من أفراد غسل الميت، وقيامه مقام الغسل بعد الموت في غيره، ووفائه بملاكه، فيترتب عليه أثره، ومنه سقوط غسل المسّ.

(1) كما هو مقتضى إطلاق النص والفتوى لصدق المس فيه. والانصراف للظاهر بدوي لا يعتد به، نظير ما تقدم في السقط. ومثله التعليل بأن الباطن لا يغسل. لعدم التلازم بين الأمرين.

(2) لإطلاق المس الشامل للجميع والانصراف لخصوص ما تحله الحياة لا يخلو عن إشكال، بل ربما كان بدوياً غير معتد به.

وقرب شيخنا الأعظم (قدس سره) - تبعاً للروض - اعتبار كون الممسوس مما تحله

ص: 468

عدا الشعر (1) ماساً وممسوساً.

الحياة. لظاهر التعليل في معتبر الفضل بن شاذان المتقدم في ميت غير الإنسان بأن الممسوس منه ذكي من الحي والميت، المؤيد بمفهوم صحيحي عاصم والصفار(1) المتضمنين تعليق غسل المسّ على مسّ جسد الميت، الظاهر فيما تحله الحياة منه. ولاسيما مع التنصيص على اعتبار برودته في الأول.

ويشكل بأن التعليل - لو تم سوقه للغُسل بالضم، لا للغَسل بالفتح، على ما سبق الكلام فيه - لما لم يمكن الالتزام بظاهره من وجوب الغسل بمسّ ما تحله الحياة من غير الإنسان فلا مجال للتعويل عليه في رفع اليد عن الإطلاق.

وأما الصحيحان فالاستدلال بهما موقوف على عدم صدق مسّ الجسد بمس ما لا تحله الحياة، وهو ممنوع في غير الشعر، كالظفر والسن. ولاسيما مع قرب أن يكون ذكر الجسد في مقابل المس من وراء الثياب، الذي اشتمل عليه السؤال في الثاني. ولا اقل من الإجمال، فيرجع لإطلاق ما تضمن وجوب الغسل بمس الميت الصادق بمس ما لا تحله الحياة قطعاً. وأما التوصيف بالبرودة فلا أثر له في المقام، حيث لا يراد به برودة موضع المس، بل برودة الجسد وإن كان الممسوس منه ما لا تطرأ عليه البرودة، لعدم حمله لحرارة الحياة. على أن عدم طروء حرارة الحياة والبرودة على مثل الظفر غير ظاهر.

هذا وقد وقع التردد من بعضهم في خصوص بعض الأمور، كالسن، أو الظفر، أو العظم. ولم يتضح خصوصيتها. ومثله في الإشكال ما عن الروض من اعتبار الحياة في الماس. حيث لا وجه له إلا دعوى الانصراف الذي سبق الإشكال فيه.

(1) كما ذكره غير واحد، لانصراف الإطلاق عنه قطعاً، خصوصاً إذا كان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب غسل المس حديث: 3، 5. قال (عليه السلام) في الأول: "إذا مسست جسده حين يبرد فاغتسل" وقال الصفار في الثاني: "كتبت إليه: رجل أصاب يده أو بدنه ثوب الميت الذي يلي جلده قبل أن يغسل هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع (عليه السلام): إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل" .

ص: 469

(470)

(مسألة 75): لا فرق بين العاقل والمجنون والصغير والكبير (1)، والمس الاختياري والاضطراري (2).

(مسألة 76): إذا مس الميت قبل برده لم يجب الغسل بمسه (3). نعم يتنجس العضو الماس (4) بشرط الرطوبة المسرية في أحدهما.

طويلاً متهدلاً.

(1) للإطلاق في الكل. وحديث رفع القلم لا ينهض برفع مثل سببية المس للغسل، بل يختص برفع التكليف ونحوه مما يبتني على الكلفة والتبعة، على ما أوضحناه في المسألة الثامنة والخمسين من كتاب الخمس، وفي المسألة الأولى من فصل شروط المتعاقدين من كتاب التجارة.

(2) للإطلاق. والكلام في حديث رفع الاضطرار هو الكلام في حديث رفع القلم عن الصبي والمجنون.

(3) كما تقدم.

(4) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب فيه وفي كل ملاق للنجس، على ما يأتي في مبحث النجاسات إن شاء الله تعالى. وذلك لنجاسة الميت بمجرد الموت ولا يتوقف على البرد، كما هو مقتضى إطلاقات نجاسة الميتة التي يأتي الكلام فيها في محله إن شاء الله. ولخصوص التوقيعين الواردين في إمام حدثت عليه حادثة وهو في الصلاة المتقدمين في أول هذا المقصد. خلافاً لما في الذكرى والدروس من أن الأقرب المنع، إما لعدم القطع بالموت قبل البرد، أو لعدم القطع بالنجاسة حينئذٍ، أو للتلازم بين النجاسة والغسل بالمسّ، فمع عدم وجوب الغسل لا نجاسة.

وفيه: أن التفصيل في النصوص بين البرد وعدمه شاهد بإمكان القطع بالموت قبل البرد. كما أن ما سبق هنا شاهد بتنجس الميت قبل البرد وبعدم التلازم بينه وبين الغسل بالمسّ.

ص: 470

وإن كان الأحوط تطهيره مع الجفاف أيضاً (1).

ثم إن ظاهرهم بل صريح بعضهم إرادة النجاسة المعهودة، التي تسري للطاهر بملاقاته.

لكن في السرائر أنها لا تسري. قال: "وكذلك إذا لاقى جسد الميت من قبل غسله إناء ثم أفرغ في ذلك الإناء قبل غسله مايع، فإنه لا ينجس ذلك المايع وإن كان الإناء يجب غسله، لأنه لاقى جسد الميت، وليس كذلك المايع الذي حصل فيه، لأنه لم يلاق جسد الميت".

فإن رجع ما ذكره إلى دعوى عدم نجاسة الميت - أو مطلق الميتة - وإن وجب غسل ملاقيه، أو عدم نجاسة الملاقي للنجس وإن وجب غسله تعبداً، أو عدم تنجيس المتنجس مطلقاً، فالكلام فيه يأتي في محله من مسألة نجاسة الميتة ومبحث أحكام النجاسات إن شاء الله تعالى. وإن رجع إلى خصوصية في ملاقي الميت أشكل بعدم وضوح الفرق بينه وبين غيره من النجاسات بعد تشابه السنة الأدلة في الكل.

(1) فقد صرح في القواعد بنجاسة ملاقي الميت مطلقاً ولو مع اليبوسة، وجعله الأقرب في المنتهى. ومراده بالميت إما مطلق الميتة، أو خصوص الإنسان الميت، كما نسب كل منهما لبعض، على إشكال في النسبة. بل عن محكي الموجز نجاسة الملاقي مع اليبوسة في ميتة غير الإنسان، دون ميتة الإنسان، وإن قال في الجواهر: "وهو غريب لم أجد له موافقاً فيه".

وكيف كان فقد يستدل له بإطلاق ما تضمن الأمر بغسل ما أصاب ميت الإنسان وغيره، كالتوقيعين المشار إليهما آنفاً، وموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتاً سبع مرات" (1) وخبر قاسم الصيقل: "كتبت إلى الرضا (عليه السلام): إني أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فأصلي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات والأواني والجلود حديث: 1.

ص: 471

فيها. فكتب إليّ: اتخذ ثوباً لصلاتك"(1).

لكن ذلك لا يختص بميت الإنسان ولا بمطلق الميتة، بل يجري في غيرها من النجاسات ففي صحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكلب يصيب شيئاً من جسد الرجل؟ قال: تغسل المكان الذي أصابه "(2) ونحوه غيره.

ويلزم الخروج عنه في الجميع بما تضمن عدم سراية النجاسة مع اليبوسة من النصوص الكثيرة المذكورة في محلها(3) الواردة في النجاسات المتفرقة، بنحو يظهر منها بيان القاعدة العامة، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

ولاسيما مع إطلاق موثق عبد الله بن بكير:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يبول ولا يكون عنده الماء، فيمسح ذكره بالحائط. قال: كل شيء يابس زكي"(4) ، بناءً على أن المراد به الكناية عن عدم سريان النجاسة من الذكر، لا طهارته بنفسه، كما عن بعض العامة، إذ لا قائل بالعموم المذكور حتى من العامة، وإنما خصوه بخصوص بعض النجاسات، بخلاف ما لو حمل على إرادة الكناية عن عدم التنجيس مع الجفاف. ومن ثم لا يبعد إرادة ذلك، كما فهمه غير واحد. وحينئذ فالعدول فيه عن بيان حكم الواقعة المسؤول عنها إلى بيان القضية الكلية موجب لقوة ظهوره في العموم، وبذلك يكون حاكماً على جميع أدلة الانفعال ومقدماً على مطلقاتها ومنها المقام. فتأمل.

ويناسب ذلك في المقام ما في صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: "سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت فقال: يغسل ما أصاب الثوب"(5) ، ونحوه حديث إبراهيم بن ميمون(6). حيث لم يتضمن غسل الثوب، بل وغسل ما أصابه، وحيث لا يراد به الميت تعين حمله على أثره العالق بالثوب، وذلك لا يكون إل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب النجاسات والأواني والجلود حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 5.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2، 1.

ص: 472

(473)

(مسألة 77): يجب أيضاً الغسل بمس القطعة المبانة من الحي أو الميت إذا كانت مشتملة على العظم (1)،

مع الرطوبة. ومن ثم لا ينبغي التوقف في الحكم.

هذا وقد يظهر من كلمات من تقدم. بل هو صريح القواعد أن نجاسة الملاقي مع عدم الرطوبة لا تسري منه لما يلاقيه برطوبة. ولم يتضح الوجه في ذلك، إلا أن يبتني على عدم تنجس الملاقي للميت وإن وجب غسله تعبداً، أو على عدم تنجيس المتنجس، أو خصوص هذا المتنجس فيجري فيه ما سبق عند التعرض لكلام ابن إدريس.

(1) كما صرح به في المبسوط والنهاية والنافع والتذكرة والمنتهى والدروس وحكي عن غيرها، ونسب للمشهور والأكثر والأشهر في كلام غير واحد. بل في الخلاف دعوى الإجماع عليه. ولعله مراد محكي المصباح والسرائر، وإن نسب للأول الاقتصار على ما قطع من الحي، وللثاني الاقتصار على ما قطع من الميت. كما اقتصر عليه في الفقيه والشرايع والقواعد. وعن شرح المفاتيح نسبته للأصحاب. وعن مجمع البرهان أن عمدة الدليل عليه الإجماع.

وكيف كان فالأصل في المسألة من النصوص صحيح أيوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسه إنسان فكلما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه"(1).

وهو وإن كان ظاهراً فيما قطع من الحي، لأنه المنصرف من (الرجل)، ولتفريع كونه ميتة على القطع، إلا أنه يستفاد منه الحكم في المقطوع من الميت بالأولوية العرفية. بل تفريع وجوب غسل المسّ على كونه ميتة ظاهر في أن التفصيل المذكور من أحكام

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل المس حديث: 1.

ص: 473

الميتة، التي يراد بها في المقام خصوص ميتة الإنسان، بقرينة النصوص والإجماع على عدم وجوب الغسل بمس غيرها من الميتات، وتكون موسعة لموضوع غسل المس من الإنسان الميت إلى ميتة الإنسان ذات العظم.

نعم استشكل في المعتبر في ذلك. قال: "والذي أراه التوقف في ذلك، فإن الرواية مقطوعة، والعمل بها قليل، ودعوى الشيخ في الخلاف الإجماع لم يثبت".

لكن الرواية - وإن كانت مقطوعة - منجبرة بظهور اعتماد قدماء الأصحاب عليها في الجملة، كما يتضح من الشيخ، ويظهر من الكليني، حيث أودعها في الكافي، بل هو الظاهر من الصدوق وابن إدريس، إذ لولاها لم يكن وجه للتفصيل بين ما اشتمل على العظم وغيره في المقطوع من الميت. بل تقدم منهم التفصيل في وجوب تغسيل العضو بين ما إذا اشتمل على عظم وغيره. والظاهر انحصار المنشأ له بهذه الرواية. بل من القريب جداً ابتناء رواية الأصحاب لها على عملهم بها، فإنها رواية مخالفة للقاعدة، فلو كان بناؤهم على إهمالها لما خفي على من تأخر عنهم ولم يفتوا بمضمونها، خصوصاً في مثل هذا الحكم الشايع الابتلاء. وذلك بمجموعه موجب للوثوق بصدور الرواية، وكاف في الحجية.

هذا وقد استدل في الجواهر لوجوب غسل المس في المقطوع من الميت - مع قطع النظر عن الرواية - تارة: بالاستصحاب. وأخرى: بفحوى وجوب جريان أحكام الميت على القطعة، من التغسيل والتكفين والدفن. وثالثة: بأنه لولا ذلك لزم عدم وجوب غسل المسّ مع تقطيع الميت بحيث لا يصدق على كل قطعة أنها الميت، ولا يمكن البناء على ذلك، إذ ليس التقطيع من المطهرات.

ويندفع الأول بأن الاستصحاب تعليقي، وهو لا يجري على التحقيق. مع أنه لو تمّ يجري حتى مع عدم اشتمال القطعة على العظم. وأضعف من ذلك تعميم الحكم معه للمقطوع من الحي بعدم الفصل، إذ لو تم عدم الفصل فالاستصحاب لا ينهض بإثبات لازم مؤداه.

ص: 474

كما يندفع الثاني بمنع الفحوى. على أن عمدة الدليل عندهم على جريان الأحكام المذكورة هو الرواية المتقدمة، بدعوى: استفادة ثبوت هذه الأحكام منها تبعاً، فإذا لم يعمل بها في موردها لا مجال لاستفادة ترتب تلك الأحكام.

ويندفع الثالث بأنه لا محذور في البناء على عدم وجوب غسل المس مع تقطيع الميت، حيث لا يصدق بمس كل قطعة مسه، وهو لا يرجع إلى كون التقطيع من المطهرات، بل إلى كون الاتصال شرطاً في صدق مس الميت الذي هو موضوع الغسل.

نعم لو قطع من الميت قطعة لا تنافي صدق الميت على الباقي تعين وجوب الغسل بمسه عملاً بالإطلاقات من دون حاجة للرواية. ولعله خارج عن محل كلامهم.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الاستدلال لوجوب الغسل بمس ما قطع من الميت بإطلاق ما تضمن وجوب الغسل بمس الميت، بدعوى: إن المفهوم منها عدم خصوصية الاتصال. قال: "إذ لو أثر اتصال أجزاء الميت في الحكم لأثر في الحكم بنجاسة الميت، لأن الأخبار إنما دلت على نجاسة الميتة، وهي لا تصدق على جزء منها، وفي الحكم بوجوب تغسيله لو لم نجد الميت تام الأجزاء".

لاندفاعه - مضافاً إلى أن لازمه وجوب الغسل بمس ما لا عظم فيه - بأن عدم خصوصية الاتصال في الحكم بالنجاسة بوجوب التغسيل لا يستلزم عدم خصوصيته في وجوب الغسل بالمسّ. ولاسيما مع صدق عنوان الميت مع تقطيعه على مجموع القطع، وعدم صدق مسه بمسها، فضلاً عن مسّ بعضها.

على أن وجوب التغسيل مع عدم تمامية أجزاء الميت إن أريد به وجوبه في المقدار الذي يصدق عليه عنوان الميت الناقص فهو مقتضى الإطلاقات، وخصوص ما تضمن وجوب الصلاة على ما فيه الصدر. وإن أريد به وجوبه في كل ما اشتمل على العظم، فهو أول الكلام، بل هو أخفى من وجوب غسل المسّ، كما يظهر بمراجعة المسألة الثانية والسبعين من فروع أحكام الميت. ومن هنا كان الظاهر انحصار دليل

ص: 475

دون الخالية منه، ودون العظم المجرد من الحي (1). أما العظم المجرد من الميت أو السن منه فالأحوط الغسل بمسه (2).

المسألة بالرواية المتقدمة. والله سبحانه وتعالى العالم.

بقي شيء وهو أن الظاهر اعتبار كون المس بعد البرودة في وجوب الغسل في المقطوع من حي أو ميت، لأن الرواية وإن كانت مطلقة، إلا أن تفريع الحكم فيها على كون القطعة ميتة ظاهر في كون الغسل بمسها من صغريات وجوب الغسل بمس الميت بعد تعميمه للقطعة التي فيها عظم، فيلحقها شروطه.

كما أن الظاهر في المقطوع من الميت عدم وجوب الغسل لو غسلت القطعة مع الميت، لعدم الإشكال ظاهراً في مشروعية تغسيل الميت المقطع.

أما تغسيلها وحدها - سواءً كانت من حي أو ميت - فسقوط غسل المس به موقوف على مشروعية تغسيل القطعة، وهي محل إشكال، كما يظهر مما تقدم في المسألة الثانية والسبعين.

هذا وعن الاسكافي عدم وجوب الغسل بمس القطعة من الحي بعد السنة. ولم يتضح وجهه بعد إطلاق النص المتقدم والاستدلال عليه بالخبر الآتي في العظم المجرد من الميت ضعيف جداً.

(1) فقد أطلق في التذكرة وعن غيرها عدم وجوب الغسل بمس العظم المجرد. ووجهه قصور الرواية المتقدمة عن ذلك. خلافاً لما يظهر من إطلاق جماعة من وجوب الغسل بمس العظم المجرد، معللاً بدوران الحكم مداره. وفيه: أن المستفاد من الرواية كونه شرطاً في وجوب الغسل بمس القطعة، وهو لا يستلزم وجوب الغسل بمسّه.

(2) كما في الدروس، وهو مقتضى إطلاق المحكي عن غيره. ولا وجه لتخصيصه إلا اختصاصه بجريان الاستصحاب، الذي لا مجال له في العظم المقطوع من الحي. ومجرد عدم الفصل بينهما - لو تم - لا ينهض بتسرية الحكم بعد عدم حجية

ص: 476

(477)

(مسألة 78): إذا قلع السن من الحي وكان معه لحم يسير لم يجب الغسل بمسه (1).

الاستصحاب في لازم مؤاداه، كما سبق نظيره. هذا حيث كان الاستصحاب تعليقياً فلا مجال للتعويل عليه حتى في العظم المفصول من الميت.

نعم في خبر إسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سألته عن مسّ عظم الميت قال: إذا جاز سنة ليس به بأس"(1). وعن الفقيه ومحكي المقنع الفتوى بمضمونه.

لكن نفي البأس قد يكون بلحاظ عدم تنجس اليد، لخلوه عن اللحم بعد السنة، ولا دلالة فيه على إرادة غسل المسّ، ليتجه الاستدلال بمفهومه على وجوب الغسل مع المسّ قبل السنة.

ولاسيما مع ضعفه وعدم ظهور عامل به غير المحكي عن الصدوق، وإن لم أعثر على كلامه في الكتابين المذكورين.

هذا ولو قيل بوجوب الغسل بمس العظم المجرد مطلقاً أو قبل السنة فالظاهر سقوطه بتغسيل الميت، لنظير ما سبق في القطعة المشتملة على العظم.

ومن ذلك يظهر عدم وجوب الغسل بمسّ العظام التي توجد في المقابر حتى لو احتمل - ولو بعيداً - عدم مرور سنة عليها، لأنها حيث كانت مسبوقة بالدفن فمقتضى قاعدة التجاوز البناء على تغسيل الميت التي هي منه.

نعم لا مجال لذلك في مقابر غير المسلمين. بل حتى في مقابر المخالفين، بناء على عدم مشروعية تغسيلهم، بل مطلقاً، لبطلان تغسيلهم ولو لعدم كون المغسل مؤمناً. إلا أن يحتمل وقوع التغسيل بالنحو المشروع الصحيح. فتأمل جيداً.

(1) كما عن كاشف الغطاء. لظهور حديث أيوب المتقدم في الاعتداد بالقطعة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل المس حديث: 2.

ص: 477

(478)

(مسألة 79): يجوز لمن عليه غسل المس دخول المساجد والمشاهد والمكث فيه وقراءة العزائم (1). نعم لا يجوز له مس كتابة القرآن ونحوها مما لا يجوز للمحدث (2). ولا يصح له كل عمل مشروط بالطهارة

بالإضافة للعظم بحيث يصدق أنه فيها، وذلك لا يصدق في مفروض المسألة، ولا في نظائرها مما كان اللحم قليلاً غير معتد به. بل لا يبعد انصراف العظم عن السن، فلا يجب الغسل بمس القطعة المشتملة عليه وحده وإن كانت معتداً بها بالإضافة إليه.

(1) كما صرح به غير واحد. لاختصاص دليل الكل بالجنب والحائض. وغاية الأمر أن تلحق بها النفساء. ولذا تقدم عدم حرمتها على المستحاضة حتى مع عدم قيامها بالوظائف المقررة لها. ومنه يظهر ضعف ما عن جماعة من المنع.

(2) لأن المنصرف من وجوب الغسل للمس كون المس موجباً للحدث، بل هو صريح معتبري الفضل بن شاذان ومحمد بن سنان المتضمنين تعليل غسل المس بأنه ناشئ من إصابة أثر الموت، والظاهر عدم الإشكال فيه بينهم.

هذا وحيث كان الحدث الموجب للوضوء وحده أخف من الحدث الموجب للغسل كان ثبوت تحريم الفعل على من ليس على وضوء مستلزماً لتحريمه على من عليه بالأولوية. بل هو مقتضى ما تقدم في فصل أسباب الوضوء من انتقاض الوضوء بكل ما يوجب الغسل.

نعم لم يثبت حرمة مسّ اسمه تعالى على كل محدث، أو على كل من ليس على وضوء، لينفع فيما نحن فيه. والنص لو تم الاستدلال به مختص بالجنب، ولا مجال للتعدي منه لكل من عليه غسل.

كما لا مجال لاستفادة حرمة مسّ الاسم الشريف على المحدث مما تضمن حرمة مس من ليس على وضوء للكتاب المجيد، على ما تقدم في مبحث الوضوء، ولذا ذكرنا هناك أن حرمة مسه على غير المتوضي محل إشكال. فراجع.

ص: 478

- كالصلاة - إلا بالغسل (1). والأحوط ضم الوضوء إليه (2).

(1) لإطلاق ما تضمن اعتبار الطهارة في الأمور المذكورة. ومنه يظهر ضعف ما في المدارك من عدم الوقوف على ما يقتضي اشتراطه لشيء من العبادة، ولا مانع من أن يكون واجباً لنفسه.

(2) وإن كان الأظهر إجزاء هذا الغسل كغيره من الأغسال المشروعة عن الوضوء، على ما تقدم في مبحث الحيض. فراجع. والله سبحانه وتعالى العالم.

انتهى الكلام في غسل مس الميت ضحى الجمعة التاسع من شهر جمادى الثانية سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة بقلم السيد الفقير (محمد سعيد) الطباطبائي الحكيم. والحمد لله رب العالمين.

ص: 479

ص: 480

فهرست تفصيلى

(5)في التكفين5

(6)التكفين بثلاثة أثواب6

(10)(الأول): المئزر والكلام فيه10

(23)(الثاني): القميص والكلام فيه23

(25)وجوب كون القميص ساتراً لما تحته25

(26)(الثالث): الأزار والكلام فيه26

(27)الكلام في تحديد الأزار27

(31)الكلام في لزوم كون كل واحد من الثياب ساتراً لما تحته31

(35)اعتبار إذن الولي في التكفين وعدم اعتبار نية القربة35

(37)الكلام في صورة تعذر القطعات الثلاث37

(43)الكلام في التكفين بما لا تجوز الصلاة فيه للرجال اختياراً43

(45)عدم جواز التكفين بالحرير45

(49)عدم جواز التكفين بما لا يؤكل لحمه49

(55)(الأول): الكلام في التكفين بالذهب والمذهب55

(56)(الثاني): الكلام في لزوم كون الكفن من القطن الأبيض56

ص: 481

(56)الكلام في جواز الكفن بكل ما لا تجوز الصلاة فيه اضطراراً56

(62)عدم جواز التكفين بالمغصوب62

(64)الاشكال في التكفين بجلد الميتة64

(65)الكلام في جواز التكفين بالحرير غير الخالص65

(66)إذا تنجس الكفن بنجاسة من الميتة أو من غيره66

(68)الكلام في تطهير الكفن ولو بعد وضعه في القبر بقرض ونحوه68

(73)خروج المقدار الواجب من الكفن من التركة قبل الدين والوصية73

(75)بقي شيء. (الأول): الكلام في تقديم الكفن على حق المرتهن75

(79)(الثاني): الكلام في تقديم الكفن على حق غرماء المفلس79

(80)(الثالث): الكلام في تقديم الكفن على حق الجناية80

(84)الكلام في خروج سائر مؤن التجهيز من التركة84

(86)الكلام في كفن الزوجة86

(88)(الأول): الاستدلال على وجوب كفن الزوجة على الزوج بثبوت الزوجية إلى حين الوفاة88

(90)(الثاني): أنها لو تركت مالاً ورثه الزوج90

(91)الكلام في وجوب كفن الزوجة على الزوج إذا كانت صغيرة91

(92)الكلام في وجوب كفن الزوجة على الزوج إذا كانت مجنونة أو أمة92

(92)الكلام في وجوب كفن الزوجة على الزوج إذا كانت منقطعة92

(95)الكلام في وجوب كفن الزوجة على الزوج إذا كانت غير مدخول بها95

(95)عدم الفرق في الزوج بين الصغير والكبير95

(100)الكلام في اشتراط يسار الزوج في وجوب كون الكفن من ماله100

(101)الكلام في اشتراط كون الزوج غير محجور عليه بفلس101

(102)الكلام في اشتراط عدم تعلق ماله بحق102

(103)الكلام في اشتراط عدم اقتران موت الزوجة بموته وغيرها من الشروط103)

(108)الكلام في سائر مؤن التجهيز108

ص: 482

(110)عدم جواز اخراج الزائد على مقدار الكفن الواجب وسائر المؤن من أصل المال110

(113)تنبيه: فيما لو تعذر اخراج الكفن أو أجحف بالورثة هل يقتصر على ما يستره؟113

(114)الكلام فيما لو كان في الورثة صغيراً وغير رشيد114

(118)الكلام في كفن المملوك وكفن الأقارب118

(119)الكلام في كفن واجب النفقة من الأقارب119

(121)الكلام إذا لم يكن للميت تركة بمقدار الكفن الواجب يدفن عارياً ولا يكفنه المسلمون121

(128)بقي شيء. أن ما يدفع من الزكاة لتجهيز الميت يملكه الورثة128

(131)تكملة: في مستحبات الكفن العمامة للرجل131

(134)استحباب المقنعة للمرأة134

(136)الكلام في استحباب الخرقة التي يشد بها وسط الميت رجلاً كان أم امرأة136

(140)الكلام في استحباب اللفافة للميت فوق الأزار140

(146)الكلام في استحباب البردة اليمانية146

(149)بقي شيء. وهو أنه ذكر الأصحاب استحباب عدم تطريز الحبرة بالذهب149)

(151)استحباب وضع القطن بين رجلي الميت يستر به عورته151

(152)استحباب وضع شيء من الحنوط عليه وسائر مستحبات الكفن152

(172)مستحبات المباشر للتكفين: الكلام في استحباب كونه على طهارة من الحدث172

(176)في سائر مستحبات المباشر للتكفين176

(178)في مكروهات الكفن178

(187)استحباب تهيئة الكفن لكل أحد قبل موته187

(189)الفصل الخامس في التحنيط في واجبات التحنيط189

(191)في وجوب امساس المساجد السبعة191

(195)وجوب كون التحنيط بالكافور195

ص: 483

(197)بقي شيء. صرح باستحباب خلط الكافور بتربة الحسين عليه السلام197

(200)في كيفية وضع الحنوط ومقداره200

(207)في استحباب سحق الحنوط باليد207

(208)في استحباب مسح مفاصل الميت بالحنوط208

(212)الكلام في محل الحنوط وأنه بعد الغسل وقبل التكفين212

(214)يشترط في الكافور أن يكون طاهراً214

(215)في كراهة إدخال الكافور في عيني الميت وأنفه وأذنه215

(221)الفصل السادس في الجريدتين221

(227)بقي في المقام أمران (الأول): في تعريف الجريدتين227

(228)(الثاني): في مقدار طول الجريدتين228

(231)في كيفية وضع الجريدتين231

(236)بقي في المقام أمران (الأول): الكلام في الاكتفاء بوضع الجريدتين جانب اليمين والشمال كما يظهر من بعض النصوص وعدمه236

(236)(الثاني): صريح بعض النصوص استحباب ادخال جريدة رطبة في قبر الميت236

(237)استحباب كون الجريدتين من النخل237

(239)الكلام فيما لو لم يتيسر النخل فمن السدر239

(240)الكلام فيما لو لم يتيسر فمن الخلاف أو الرمان وإلّا فمن كل عود رطب240

(242)الكلام فيما لو نسيت الجريدتان توضع فوق القبر242

(243)الكلام فيما يكتب على الجريدتين243

(245)الفصل السابع في الصلاة عليه245

(247)الكلام في وجوب الصلاة على الميت المسلم مطلقاً247

ص: 484

(248)في الصلاة على الطفل إذا بلغ ست سنين248

(255)في الصلاة على من وجد ميتاً في بلاد الإسلام وكذا اللقيط255

(257)الكلام في كيفية الصلاة على الميت257

(257)وينبغي الكلام في أمور (الأول): في وجوب خمس تكبيرات257

(264)(الثاني): الكلام في وجوب الدعاء بين التكبيرات264

(269)(الثالث): وجوب الكيفية المذكورة في المتن269

(273)وينبغي الكلام في أمور (الأول): الكلام في اعتبار شهادة التوحيد أو الشهادتين273

(274)(الثاني): صرح بعضهم باعتبار الصلاة على النبي (ص) والكلام فيه274)

(275)(الثالث): ظاهر الأصحاب الاتفاق على وجوب الدعاء للميت والكلام فيه275

(281)الكلام في أنه لاقراءة في صلاة الميت281

(283)فيما يجب في الصلاة على الأموات283

(284)وجوب النية القربة وحضور الميت284

(287)شرطية استقبال المصلي القبلة287

(289)كون رأس الميت إلى جهة يمين المصلي289

(290)اشتراط كون الميت مستلقياً على قفاه290

(290)اشتراط وقوف المصلي خلف الميت290

(292)اشتراط أن لا يكون الصلي بعيداً292

(293)اشتراط عدم وجود الحائل293

(295)اشتراط كون المصلي قائماً295

(297)اعتبار الموالات بين التكبيرات والأدعية297

(299)الكلام في كون الصلاة بعد التغسيل والتحنيط والتكفين299

(303)اشتراط كون الميت مستور العورة303

(305)اشتراط إباحة المكان للصلاة على الميت305

ص: 485

(306)اشتراط إذن الولي في الصلاة على الميت306

(307)عدم اعتبار الطهارة من الحدث والخبث وإباحة اللباس307

(309)الكلام في جواز تكرار الصلاة على الميت309

(315)لو دفن الميت بلا صلاة صحيحة315

(323)استحباب وقوف الإمام عند وسط الرجل وصدر المرأة323

(324)الكلام في تشريك الجنائز المتعددة بصلاة واحدة324

(326)الكلام في كيفية الصلاة على الجنائز المتعددة326

(328)في استحباب الصلاة الميت جماعة328

(331)في شروط الجماعة في الصلاة على الميت331

(335)في الالتحاق بالجماعة في الأثناء335

(340)الكلام في مباشرة المرأة للصلاة إذا كانت ولياً340

(341)لا يتحمل الإمام في صلاة الميت شيئاً من القراءة341

(342)في آداب الصلاة على الميت342

(349)أقل ما يجزئ في صلاة الميت349

(351)الفصل الثامن في التشييع351

(351)في استحباب إعلام المؤمنين351

(353)في فضل تشييع المؤمن353

(359)في مكروهات التشييع359

(365)الفصل التاسع في الدفن365

(365)في وجوب مواراة الميت الأرض365

(371)الكلام في فرض عدم إمكان دفنه371

(374)عدم جواز دفن المؤمن في مقابر الكفار374

(376)الكلام في دفن الحامل الكافرة من المسلم376

ص: 486

(378)عدم جواز دفن المسلم في مواضع الهتك378

(380)دفن الميت في قبر غيره380

(383)في مستحبات كيفية القبر383

(389)في مستحبات الدفن389

(392)في مستحبات التلقين وكيفيته392

(394)في سائر المستحبات بعد وضع الميت في القبر394

(405)في مكروهات الدفن405

(405)كراهة دفن الميتين في قبر واحد405

(414)الكلام في جواز نقلا الميت إلى بلد آخر إلا المشاهد المشرفة414

(420)الكلام في حرمة نبش القبر420

(427)مستثنيات حرمة نبش القبر427

(435)عدم جواز التوديع المتعارف عند بعض الشيعة435

(436)الكلام في موت ولد الحامل436

(439)إذا وجد بعض أعضاء الميت439

(450)في حكم السقط450

(455)المقصد السادس) غسل المس455

(462)الكلام في وجوب في غسل مس الميت لو يمم للعجز عن تغسيله462

(468)الكلام في إطلاق الماس والممسوس468

(470)الكلام في مس الميت قبل برده470

(473)الكلام في مس القطعة المبانة من الحي أو الميت473

(477)عدم وجوب الغسل بمس السن إذا قلع من الحي477

(478)في جواز من وجب عليه غسل المس المكث في المساجد والمشاهد المشرفة478

ص: 487

المجلد 8

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

* الجزء الثامن

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

(5)

المقصد السابع: الأغسال المندوبة

أنواع ثلاثة: زمانية، ومكانية (1)، وفعلية.

والأول له أفراد كثيرة:

(منها): غسل الجمعة (2).

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. وحسبنا الله ونعم الوكيل ومنه نستمد العون والتوفيق.

(1) من الظاهر رجوعها للفعلية، لأن دخول المكان والكون فيه فعل من أفعال المكلف، كالزيارة والصلاة. وأظهر من ذلك ما إذا كان تشريع الغسل لدخول المكان ليس لنفسه، بل لإيقاع عمل فيه من عبادة أو زيارة أو غيرهما. كما يأتي الكلام فيه عند التعرض للأغسال المذكورة.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، المنسوب للمشهور في كلام جماعة، بل في الخلاف والغنية الإجماع عليه، وظاهر المقنعة والسرائر وعن محكي شرح الجمل نفي الخلاف فيه. وقد يستظهر من غيرها. للنصوص الكثيرة المستفيضة أو المتواترة، وفيه

ص: 5

وهو أهمها (1)،

الصحاح وغيرها(1).

(1) كما قد يستفاد من كثرة الحث عليه في النصوص، ومما تضمن أن الله أتم به الوضوء، كما أتم صلاة الفريضة بصلاة النافلة، وصيام الفريضة بصيام النافلة(2) ، وأن المغتسل يكون في طهر من الجمعة إلى الجمعة(3). ومن صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "قال: اغتسل يوم الجمعة، إلا أن تكون مريضاً أو تخاف على نفسك"(4) ، وحديث سهل بن اليسع:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يدع غسل يوم الجمعة ناسياً أو غير ذلك. قال: إن كان ناسياً فقد تمت صلاته، وإن كان متعمداً فالغسل أحب إلي. فإن هو فعل فليستغفر الله، ولا يعود "(5) ونحوه معتبر أبي بصير(6). وفي موقف عمار:" إن كان في وقت فعليه أن يغتسل ويعيد الصلاة، وإن مضى الوقت فقد جازت صلاته"(7).

وعن كتاب العروس عن أبي عبد الله (عليه السلام) إنه قال: "لا يترك غسل الجمعة إلا فاسق" (8) وفي صحيح حريز عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: لابد من الغسل يوم الجمعة، في السفر والحضر. ومن نسي فليعد من الغد"(9). بل هو صريح خبر أبي البختري عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):" أنه قال لعلي من وصية له: يا علي على الناس في كل [يوم من] سبعة أيام الغسل، فاغتسل يوم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1، 3، 6، 7 وغيرها من أبواب الأغسال المسنونة.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 7، 16، ومستدرك الوسائل ج: 2 باب: 3 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 18، وباب: 7 منها حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 11.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(6و7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 1.

(8) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 4 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2

(9) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 6

حتى قيل بوجوبه (1). لكنه ضعيف.

الجمعة ولو أنك تشتري الماء بقوت يومك تطويه، فإنه ليس شيء من التطوع أعظم منه"(1).

(1) كما نسب للصدوقين، لما في الفقيه والمقنع وعن الهداية ورسالة الصدوق الأول من أنه سنة واجبة، بل للكليني، حيث عقد في الكافي باباً لوجوبه.

لكن الاكتفاء بذلك في صدق النسبة إشكال. ولاسيما مع ما عن الصدوق في الأمالي من عده مندوباً، بل قيل إن ظاهره عدّ ذلك من دين الإمامية، وما في النهاية من عده من السنن اللازمة، مع أنه لم ينسب للشيخ الخلاف، ومع عدم الإشارة للخلاف المذكور من القدماء قبل المحقق.

وكيف كان فقد يستدل عليه بالنصوص الكثيرة المتضمنة لعده في الأغسال الواجبة، وبما في النصوص المؤكدة عليه - التي تقدم بعضها - من عدم الترخيص فيه إلا للمريض، ومن الأمر بالاستغفار لتاركه، ومن نسبته للفسق ونحو ذلك. ولا يعارض ذلك ما في جملة من النصوص من أنه سنة، لأن المراد بالنسبة فيه ما لم يفرض في القرآن، كما يناسبه قصر الفريضة في بعضها على غسل الجنابة(2).

لكنه يندفع - مضافاً إلى أن جملة من النصوص المذكورة لا تخلو عن ضعف في السند أو الدلالة - بأن كثرة الابتلاء بالغسل المذكور مانع من خفاء حكمه على الأصحاب والمتشرعة، فظهور معروفية استحبابه بينهم كافٍ في الخروج عن ظاهر النصوص المذكورة، وحملها على الاستحباب. كما هو المناسب لما تقدم في حديث سهل من قوله (عليه السلام): "وإن كان متعمداً فالغسل أحب إلي".

ولاسيما مع أن بعض النصوص قد تضمن الحكم بالوجوب على جملة أغسال

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 3 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4، 8، 11.

ص: 7

(8)

ووقته من طلوع الفجر الثاني (1)

لا إشكال في استحبابها(1) ، حيث يتعين فيه حمل الوجوب على مطلق الثبوت في الشريعة.

هذا وقد يستدل على عدم وجوبه بأنه إن كان المراد وجوبه نفسياً، فهو مقطوع البطلان، لعدم وجوب شيء من الأغسال نفسياً حتى غسل الجنابة، - وإن وقع الكلام في كونه نفسياً أو غيرياً -. وإن كان وجوبه غيرياً من جهة شرطيته في الصلاة، فيدفعه أحاديث سهل وأبي بصير وعمار.

لكنه يندفع بأن عدم وجوبه أصلاً أظهر بلحاظ الإجماع والسيرة من عدم كون وجوبه نفسياً، فإن كفى ذلك أغنى عن الاستدلال المذكور، وإلا فلا مجال له، بل يتعين البناء على كون وجوبه نفسياً، للأحاديث المذكورة وغيرها مما تضمن الاكتفاء بالإتيان به قبيل غروب الشمس وبقضائه يوم السبت، مع ما هو المعلوم من عدم وجوب إعادة الصلاة حينئذ.

(1) فلا يشرع تقديمه عليه اختياراً، كما هو ظاهر التوقيت به في كلمات الأصحاب، وهو المصرح به في كلام بعضهم، بل نفى في الجواهر وجدان الخلاف فيه، وصرح بالإجماع عليه في الخلاف والتذكرة، كما حكي عن غيرهما صريحاً وظاهراً.

ويقتضيه نسبة الغسل ليوم الجمعة في النصوص الكثيرة. وهو الظاهر من نسبته للجمعة نفسها، لأن المنصرف منها اليوم، ولا إشكال في عدم دخوله قبل الفجر.

كما قد يستفاد من خبر بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في غسل ليالي شهر رمضان "قال: والغسل أول الليل. قلت فإن نام بعد الغسل؟ قال: هو مثل غسل يوم الجمعة إذا اغتسلت بعد الفجر أجزأك"(2) ، ونحوه خبر ابنه(3). فإن مقتضى الشرطية عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 3.

ص: 8

يوم الجمعة إلى الزوال (1).

الإجزاء مع الغسل قبل الفجر.

وأما إجزاؤه لو وقع بعد طلوع الفجر فهو مقتضى التوقيت به في كلام الأصحاب، بل ادعي الإجماع عليه في الخلاف ومحكي غيره. ويقتضيه ما سبق من نسبته للجمعة وليومها، لما هو المشهور المنصور من دخول اليوم بطلوع الفجر.

مضافاً إلى الحديثين المتقدمين وغيرهما. كصحيح زرارة والفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام):" قلنا له: أيجزي إذا اغتسلت بعد الفجر للجمعة؟ فقال: نعم"(1) ، وصحيح زرارة عن أحدهما (عليه السلام): "قال: إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزاك غسلك ذلك الجنابة والحجامة [الجمعة] وعرفة والنحر... فإذا اجتمعت عليك حقوق [الله] أجزاها عنك غسل واحد..."(2).

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب المدعى عليه الإجماع في كتاب الطهارة من الخلاف، و في ظاهر التذكرة والذكرى وغيرها. وعن المصابيح أن عليه الإجماع المعلوم بالنقل والفتوى والعمل، وفي المعتبر أن عليه إجماع الناس.

وكأن ما في كتاب الجمعة من الخلاف من امتداد وقته إلى صلاة الجمعة، مدعياً الإجماع عليه ليس خلافاً في المسألة، بل هو راجع إليه، خصوصاً بناء على تضيق وقت الجمعة بعد الزوال. وإلا كان عارياً عن الدليل.

وكيف كان فيدل عليه موثق ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته عن رجل فاته الغسل يوم الجمعة. قال: يغتسل ما بينه وبين الليل، فإن فاته اغتسل يوم السبت"(3). فإن فهم الإمام (عليه السلام) ترك الغسل في أثناء النهار من مجرد تعبير السائل بالفوت من دون تعيين لوقت تركه ظاهر في المفروغية عن عدم استمرار الوقت لآخر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4.

ص: 9

النهار وانتهائه بأثنائه، وحيث لا يحتمل تحديد الوقت في أثناء النهار بغير الزوال تعين كونه منتهى الوقت.

ويعضده في ذلك موثق سماعة عنه (عليه السلام): "في الرجل لا يغتسل يوم الجمعة في أول النهار. قال: يقضيه آخر النهار. فإن لم يجد فليقضه من يوم السبت" (1) فإن المنسبق منه أن منشأ سؤال السائل احتماله عدم مشروعية الغسل آخر النهار، وما ذلك إلا لقوة احتمال التحديد بالزوال على خلاف مقتضى الإطلاقات الكثيرة المقتضية لمشروعيته في تمام اليوم، فعدم ردع الإمام عن ذلك، بل تعبيره بالقضاء الموهم أو الظاهر في إرادة الإتيان بالعمل بعد وقته، ظاهر في إقراره على ذلك. ولاسيما مع تعقيبه بالقضاء يوم السبت الذي لا ريب في فهم السائل منه الإتيان به في غير الوقت، لا من جهة التعبير بالقضاء، ليمكن دعوى إرادة المعنى اللغوي منه، بل لضرورة عدم كون يوم السبت وقتاً لغسل الجمعة.

وكأن منشأ المفروغية المذكورة ملاحظة أصل تشريع الغسل. ففي الصحيح أو الموثق عن محمد بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في علة غسل يوم الجمعة أن الأنصار كانت تعمل في نواضحها وأموالها، فإذا كان يوم الجمعة حضروا المسجد، فتأذى الناس بأرواح آباطهم وأجسادهم، فأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالغسل، فجرت بذلك السنة"(2). فإن العلة المذكورة تناسب الغسل قبل الحضور للصلاة.

نعم النصوص المذكورة لا تنهض بنفسها بالتحديد بالزوال عدا موثق سماعة، فإنه حيث لا يراد فيه بأول النهار وآخره صدره وما يقارب منتهاه، لعدم الإشكال في مشروعية الأداء والقضاء بينهما، يتعين حمله على إرادة نصف النهار الأول ونصفه الثاني.

مضافاً في ذلك إلى صحيح زرارة:" قال أبو جعفر (عليه السلام): لا تدع الغسل يوم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 15.

ص: 10

والأحوط أن ينوي فيما بين الزوال إلى الغروب القربة المطلقة (1). وإذا تركه إلى الغروب قضاه (2) يوم السبت (3) إلى الغروب.

الجمعة، فإنه سنة، وشَم الطبيب ولبس صالح ثيابك. وليكن فراغك من الغسل قبل الزوال... وقال: الغسل واجب يوم الجمعة"(1). فإنه وإن لم ينهض بنفسه بتحديد الوقت بالزوال، لإمكان حمله على كونه أفضل أوقات الأداء، إلا أنه ينهض بذلك بضميمة النصوص السابقة، بناء على ما هو غير بعيد من ظهوره في مطلوبية حصول الزوال وهو مغتسل، لا في مطلوبية إيقاعه قرب الزوال، وإلا تعين حمله على بيان أفضل أوقات إيقاعه، وكان أجنبياً عن محل الكلام.

(1) إذ لا إشكال في مشروعيته أداءً أو قضاءً.

(2) بلا إشكال ظاهر. وفي الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه في أصل القضاء، بل حكي الإجماع مكرراً في المصابيح نصاً عليه وظاهراً في غيره" .ويقتضيه مرسل حريز وموثقا ابن بكير وسماعة المتقدمة.

نعم في موثق ذريح عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في الرجل هل يقضي غسل الجمعة؟ قال: لا"(2). لكن لا مجال لرفع اليد به عما سبق. فلابد من حمله على نفي وجوب القضاء، أو التقية، لما قيل من أن قضاء غسل الجمعة من مختصات الإمامية.

(3) كما في الفقيه والمبسوط والنهاية والسرائر والشرايع والتذكرة والمنتهى وعن غيرها. ويقتضيه النصوص المتقدمة المصرحة بالإتيان به من الغد أو يوم السبت، ونحوها غيرها(3). لظهور الخطاب في الاستحباب التعييني. ومقتضاه عدم الاجتزاء به لو جيء به يوم السبت. بل لما كانت ليلة السبت متصلة بنهار الجمعة فلو أريد من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 47 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 4 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

ص: 11

السبت ما يعمها كان الأنسب بيان استمرار مشروعية القضاء، بمثل قولهم يقضي إلى آخر السبت لا الخطاب بالقضاء يوم السبت. مضافاً إلى أن قوله (عليه السلام) في موثق ابن بكير: "يغتسل ما بينه وبين الليل" كالصريح في التحديد وعدم مشروعيته في الليل.

لكن في القواعد: "ويقضي لو فات إلى آخر السبت" ،ونحوه في الدروس، وحكي عن جماعة. وعن المجمع نسبته للأصحاب، وعن المدارك أن عملهم عليه، وفي البحار نسبته لظاهر الأكثر. وكأنه بملاحظة كلام العلامة ومن بعده، وإلا فعبارات القدماء على الأول.

ومقتضاه الاجتزاء بقضائه ليلة السبت، كما صرح به بعضهم. وقد يستدل بالأولوية، لما فيه من المسارعة للخير وبالشهرة المدعاة، حتى نسب للأصحاب. لكنه كما ترى، لعدم بلوغهما مرتبة تصلح للظن بالحكم، فضلاً عن القطع به. وأما تتميمهما بقاعدة التسامح في أدلة السنن. فهو في غاية المنع، لعدم ثبوت القاعدة، واختصاص موضوعها بالخبر الحسي، دون الخبر الحدسي - كفتوى المشهور - والاحتمالات المجردة، كالأولوية الظنية.

وأضعف من ذلك ما في الجواهر من إمكان الاستدلال بموثق ابن بكير، بناء على أن المراد من فوت الغسل في يوم الجمعة فيه فوته في تمام اليوم، كما هو ظاهره، حيث يتعين حينئذٍ حمل قوله: "ما بينه وبين الليل" على إرادة امتداد زمان القضاء إلى آخر الليل، لا إلى أوله. فإنه تكلف غريب يقطع بعدم إرادته. ولاسيما وأن مقتضاه عدم مشروعية القضاء يوم السبت. فلاحظ.

ومن هنا لا مجال للخروج عن ظاهر النصوص المتقدمة بحمل التقييد فيها على الغالب أو على بيان منتهى زمان القضاء، بل يتعين العمل بظاهرها في خصوصية اليوم.

ومنه يظهر أنه لا مجال لاستصحاب مشروعية القضاء من نهار يوم الجمعة إلى ليلة السبت. إذ لا ينهض الاستصحاب في قبال ظاهر الدليل أو صريحه، كما سبق.

ص: 12

(13)

(13)

على أنه يشكل الاستصحاب في نفسه بعدم إحراز وحدة الموضوع، لاحتمال أخذ الزمان قيداً في الغسل المشروع، لا ظرفاً للمشروعية مع إطلاق الغسل المشروع.

بقي في المقام أمران:

الأول: مقتضى إطلاق المتن عدم الفرق في مشروعية القضاء بين الفوت عن عذر وغيره، كما هو مقتضى إطلاق جماعة وصريح آخرين. ويقتضيه إطلاق موثق ابن بكير، لصدق الفوت مع التعمد، خصوصاً إذا رجع إلى التسامح في التعجيل مع إرادة الفعل. وكذا إطلاق موثق سماعة بالإضافة إلى القضاء بعد الظهر من يوم الجمعة.

لكن في الفقيه: "ومن نسي الغسل أو فاته لعلة فليغتسل بعد العصر أو يوم السبت" ،وعن موجز أبي العباس: "ويقضي لو ترك ضرورة إلى آخر السبت" ،وفي النهاية: "فإن زالت الشمس ولم يكن قد اغتسل قضاه بعد الزوال فإن لم يمكنه قضاه يوم السبت".

وقد يستدل للأوليين في الجملة بمرسل الهداية المطابق لعبارة الفقيه، وبمرسل حريز المتقدم في أول الفصل. وللثالث بموثق سماعة.

لكن لا ظهور لها في المفهوم، ليخرج بها عن إطلاق موثق ابن بكير. بل لعل التقييد بالعذر في كلامهم يُبتنى على فرض أهمية الغسل بحيث لا يترك إلا عن عذر، لا لاعتباره في مشروعية القضاء، ليكون خلافاً في المسألة.

الثاني: ظاهر الأصحاب عدم مشروعية القضاء فيما بعد يوم السبت. وهو المناسب للاقتصار في النصوص عليه، إذ لو لم تكن ظاهرة في عدم مشروعية القضاء حينئذ فلا أقل من عدم ثبوت مشروعيته. لكن في الفقه الرضوي: "فإن فاتك الغسل يوم الجمعة قضيت يوم السبت أو بعده من أيام الجمعة"(1). ولا مجال للتعويل عليه في الخروج عن مقتضى الأصل من عدم مشروعية القضاء. ولاسيما مع ما في البحار من

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 13

(14)

ويجوز تقديمه يوم الخميس إن خاف إعواز الماء يوم الجمعة (1)

أنه لم ير قائلاً ولا رواية.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة، وفي الجواهر:" على المشهور بين الأصحاب، بل لا أعرف فيه خلافاً، كما اعترف به في الحدائق، بل في كشف اللثام نسبته إلى الأصحاب".

ويشهد له صحيح محمد بن الحسين عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال لاصحابه: إنكم تأتون غداً منزلاً ليس فيه ماء، فاغتسلوا اليوم لغد، فاغتسلنا يوم الخميس للجمعة"(1). وحديث الحسين بن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أمه وأم أحمد بن [بنت. كافي] موسى بن جعفر قالتا: "كنا مع أبي الحسن (عليه السلام) بالبادية ونحن نريد بغداد، فقال لنا يوم الخميس: اغتسلا اليوم لغد يوم الجمعة، فإن الماء بها غداً قليل، فاغتسلنا يوم الخميس ليوم الجمعة"(2). وقد استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) في الاستدلال بها، لضعف الأول بالإرسال، والثاني بجهالة الحسين بن موسى وجهالة أمه وأم أحمد.

لكن الحسين بن موسى قد روى الكشي عنه رواية - وإن كان في سندها ضعف - تتضمن خضوعه للإمام الجواد (عليه السلام) واعترافه بعظيم شأنه، مع أنه عمه، وذلك يناسب قوة دينه. مضافاً إلى ما عن المفيد في الإرشاد، حيث قال:" ولكل واحد من ولد أبي الحسن موسى فضل ومنقبة مشهورة ".ويكاد يقطع بعدم اجتماع أم الحسين وأم أحمد على الكذب. ولاسيما وأن من القريب أن تكون الثانية زوجته (عليه السلام)، كما هو مقتضى رواية الفقيه والتهذيب للحديث المذكور، وهي من جملة أوصيائه، على ما رواه في الكافي(3) والعيون(4) ، وكانت أثيرة عنده، وعندها بعض ودائعه، على ما رواه

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، 2.

(3) الكافي ج: 1 ص: 316.

(4) عيون أخبار الرضا" باب: 5 حديث: 1.

ص: 14

الكافي أيضاً(1).

وأما الإرسال في الأول فهو لو كان مانعاً من حجيته - بعد كون المرسل محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الجليل القدر - لا يمنع من كونه مؤيداً في المقام. ولاسيما مع ظهور مفروغية الأصحاب عن العمل بالحديثين، فإنه وإن كان مبناهم على التسامح في أدلة السنن، إلا أن الظاهر في المقام أن اعتمادهم على الحديثين بما أنهما دليلان في المقام، لا من جهة القاعدة المذكورة.

وينبغي الكلام في أمور:

الأول: هل تختص مشروعية التقديم بإعواز الماء، كما قد يظهر من الاقتصار عليه في الفقيه والشرايع والقواعد وعن غيرها جموداً على مورد النص، أو يعمّ مطلق تعذر الغسل، كما في التذكرة، وهو مقتضى إطلاق المبسوط والنهاية والسرائر والتذكرة والدروس وغيرها؟ وجهان.

وقد يقرب الثاني بإلغاء خصوصية مورد النص عرفاً. لكنه وإن كان قريباً، إلا أن في بلوغه حداً يوجب ظهور النص في العموم إشكال. وأما تنقيح المناط فلا مجال له بعد كون الحكم تعبدياً.

الثاني: هل يختص الحكم بالسفر، كما قد يظهر من الاقتصار عليه في الفقيه والنهاية، جموداً على مورد النص، أو يعمّ الحضر، كما هو مقتضى إطلاق الأكثر، بل صريح بعضهم: "ونسب للمشهور" ؟لا يبعد الثاني، لعموم التعليل في الحديثين، لأن مقتضى حمله على التعليل الارتكازي إلغاء خصوصية مورده.

الثالث: هل يعتبر إعواز الماء في تمام يوم الجمعة، أو يكتفى بإعوازه قبل الزوال الذي هو وقت الأداء؟ قد يظهر الأول من جماعة ممن أطلق الإعواز يوم الجمعة، كما في النهاية والفقيه والدروس وعن غيرها. كما قد يظهر الثاني ممن أطلق عنوان الفوت،

********

(1) الكافي ج: 1 ص: 381.

ص: 15

كما في المبسوط والسرائر. بل عن بعضهم التصريح بذلك، ونسبته للأكثر. ولا يبعد الأول، لأنه المتيقن من الحديثين. نعم لا ينبغي التأمل في عدم اعتبار الإعواز يوم السبت.

الرابع: مقتضى الحديث الأول توقف تقديم الغسل على عدم الماء يوم الجمعة، وموضوع الثاني قلته التي ينصرف منها القلة التي يصعب بسببها تهيئة الماء للغسل وإن كانت ممكنة، وحيث لا ظهور للأول في الحصر يتعين العمل بإطلاق الثاني.

الخامس: مقتضى الحديثين أن المعيار على قلة الماء أو عدمه واقعاً. ومقتضاه الاقتصار على القطع، كما هو مقتضى الاقتصار على اليأس في الخلاف ولا يكفي الظن - كما في التذكرة والمنتهى وعن نهاية الأحكام - فضلاً عن الخوف، كما في الفقيه ونهاية الشيخ والمبسوط والسرائر والشرايع وغيرها. بل في الجواهر: "قيل أنه المشهور شهرة كادت تكون إجماعاً" .ولا شاهد للاكتفاء بالخوف إلا الرضوي(1) الذي لا ينهض بإثبات حكم شرعي. ولعل اكتفاء الأكثر بالخوف لبنائهم على عدم إجزاء الغسل عن الوضوء، فيكون الغسل مع الخوف مطابقاً للاحتياط.

السادس: ظاهر الخلاف والتذكرة أو صريحمها عدم مشروعية التقديم ليلة الجمعة وحكي عن غيرهما، بل قد يستفاد منهما دعوى الإجماع على ذلك. وإن كان الظاهر أن معقده عدم جواز التقديم على الفجر اختياراً.

وكيف كان فمقتضى الجمود على مفاد الحديثين الاقتصار على يوم الخميس. ولابد في التعميم من التشبث بالأولوية، بلحاظ أقربيته من وقت الأداء، وبالاستصحاب من يوم الخميس على نحو ما مرّ عند الكلام في مشروعية القضاء ليلة السبت، ومرّ الإشكال فيه. بل هو هنا أولى، لما قيل من أن ظاهر المعظم عدم مشروعية التقديم ليلة الجمعة.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 16

(17)

ولو اتفق تمكنه منه يوم الجمعة أعاده فيه (1). وإذا تركه حينئذٍ أعاده يوم السبت (2) برجاء المطلوبية فيهما (3).

(مسألة 80): يصح غسل الجمعة من الجنب والحائض (4). ويجزي

(1) لأن مقتضى ما تقدم في الأمر الخامس أنه لو تبين كثرة الماء يوم الجمعة ينكشف عدم مشروعية الغسل يوم الخميس مع القطع فضلاً عن الظن أو الخوف، فيعيد المكلف الغسل يوم الجمعة. وبذلك صرح في الفقيه والقواعد والتذكرة وعن غيرها. وإن كان تعليله في التذكرة بسقوط حكم البدل بالتمكن من المبدل منه، في غير محله، لأن مقتضى إطلاق دليل البدلية الاجتزاء بالبدل، بل الوجه في الإعادة انكشاف عدم البدلية، لعدم تحقق موضوعها وهو قلة الماء.

كما أن مقتضى ذلك انكشاف عدم إجزائه عن الوضوء، وبطلان العمل المترتب عليه مما يكون مشروطاً بالطهارة. فلاحظ.

(2) عملاً بإطلاق دليل القضاء فيه بعد صدق الفوت، على ما يظهر مما تقدم.

(3) يعني: فلا يترتب عليه أثر الغسل المشروع. ومقتضى ذلك احتماله (قدس سره) إجزاء الغسل يوم الخميس وإن انكشف وجدان الماء يوم الجمعة. وكأنه لاحتياج التدارك إلى عناية مغفول عنها فعدم التنبيه عليه في الحديثين قد يوجب ظهورهما في عدم وجوبه.

لكن ذلك قد يتجه لو كان الخطاب فيهما بنحو القضية الحقيقية العامة. أما حيث كان الخطاب فيهما بنحو القضية الخارجية الخاصة فلا مجال فيها لفرض الخطأ، ليكون عدم التنبيه للتدارك ظاهراً في عدمه. ولاسيما وأن المخبر بعدم الماء وبقلته هو الإمام المعصوم. فلاحظ.

(4) لإطلاق أدلة استحباب غسل الجمعة. ومجرد استمرار حدث الحيض للحائض لا ينافي ذلك، لإمكان اقتضائه مرتبة من الطهارة تجتمع مع الحدث المذكور.

ص: 17

(18)

عن غسل الجنابة والحيض إذا كان بعد النقاء، على الأقوى (1).

(ومنها): غسل يوم العيدين (2)،

ولاسيما مع ثبوت مشروعية غسل الإحرام لها.

نعم في صحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحائض تطهر يوم الجمعة وتذكر الله. قال: أما الطهر فلا، ولكنها توضأ في وقت الصلاة، ثم تستقبل القبلة، وتذكر الله" (1) فإن ظاهر الطهر فيه هو غسل الجمعة، لأنه المنسبق من خصوصية الجمعة، ولاسيما مع الأمر بعد ذلك بالوضوء. وأما حمله على مجرد عدم مطهرية الغسل أو الوضوء لها وإن كان مشروعاً في نفسه. فهو بعيد. وقد تقدم في المسألة الواحدة والعشرين من فصل أحكام الحيض ما ينفع في المقام.

(1) على ما تقدم في المسألة الثالثة والسبعين من مبحث الوضوء.

(2) إجماعاً كما في التذكرة والغنية والروض وظاهر المعتبر وغيرها، وفي الجواهر: "المستفيض من الإجماع المحكي" .والنصوص به مستفيضة، وفيها الصحيح والموثق وغيرهما(2).

وهي محمولة على الاستحباب إجماعاً. وتشهد به السيرة، إذ لو كان واجباً مع كثرة الابتلاء به لظهر وبان، وامتنع عادة قيام الإجماع والسيرة على عدم وجوبه. وقد يشعر به أو يدل عليه قوله (عليه السلام) في موثق سماعة: "وغسل يوم الفطر وغسل يوم الأضحى سنة لا أحب تركها"(3). ومن هنا يتعين حمل مثل صحيح عبد الله بن المغيرة عن القاسم بن الوليد عن أبي عبد الله (عليه السلام):" عن غسل الأضحى قال: واجب إلا بمنى "(4) على شدة الاستحباب.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4.

ص: 18

ولا إشكال في أن مبدأه طلوع الفجر، لأنه مبدأ اليوم على المشهور المنصور. ويشهد له في الأضحى صحيح زرارة عن أحدهما (عليه السلام): "قال: إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزاك غسلك ذلك للجنابة والحجامة [الجمعة] وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة. فإذا اجتمعت عليك حقوق [الله] أجزاها عنك غسل واحد. قال: ثم قال: وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها"(1). فإن الإجزاء عن شيء فرع ثبوته. بل هو كالصريح من قوله (عليه السلام):" فإذا اجتمعت... ".ومن ذلك يظهر أن إطلاق ذيله شاهد بذلك في الفطر أيضاً. وبإلغاء خصوصية النحر في صدره.

وأما منتهاه فمقتضى إطلاق النص والفتوى أنه غروب الشمس، لأنه منتهى اليوم الذي أضيف له الغسل. لكن في السرائر أنه قبل الخروج إلى المصلى. وكأنه لموثق عمار:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل ينسى أن يغتسل يوم العيد. قال: إن كان في وقت فعليه أن يغتسل ويعيد، وإن مضى الوقت فقد جازت صلاته"(2).

وهو كما ترى، إنما يدل على عدم إعادة الصلاة بعد الوقت، لا على سقوط استحباب الغسل بانتهاء وقته. مع أنه لو دل على ذلك فهو لا يقتضي انتهاء وقت الغسل بالخروج إلى المصلى، كما هو المدعى، بل انتهاء وقت صلاة العيد أو ما يقرب من ذلك.

ونحوه ما تضمن ذكره في آداب صلاة العيد، كما عن ابن أبي قوة في كتاب أعمال شهر رمضان(3) ، وما عن الإمام الرضا (عليه السلام) في تعليل غسل الجمعة والعيدين: "فجعل فيه الغسل تعظيماً لذلك اليوم، وتفضيلاً له على سائر الأيام، وزيادة في النوافل والعبادة..."(4).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(3) الإقبال ص: 279.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 18.

ص: 19

(20)

ويوم عرفة (1)،

وقد صرح في الرضوي بأن منتهى وقته الزوال(1). وقد يحمل عليه صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: الغسل من الجنابة ويوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة عند زوال الشمس..."(2). ولبعض ذلك مال في الرياض لتحديد منتهى وقته بالزوال، مؤيداً له بمساواة العيد للجمعة في أغلب الأحكام. ونسبه في الذكرى لظاهر الأصحاب.

لكن لم يعرف قائل بذلك منهم. كما أن صحيح بن سنان لا ينهض به، لقرب رجوع القيد فيه لغسل يوم عرفة، بلحاظ بدء الموقف فيه بعد الزوال. وإلا فلا قائل باستحباب إيقاع أغسال الأعياد عند الزوال، أو لزوم ذلك، بل المدعى أنه منتهى وقته. والرضوي ليس بحجة. وما قبله إنما يدل على استحباب إيقاع الصلاة عن الغسل المذكور، لا اتحاد وقتهما. فلم يبق إلا مساواة العيدين للجمعة الذي هو بالقياس أشبه. ومن ثم لا مخرج عن الإطلاق المقتضى لامتداد الوقت في تمام اليوم، وإن كان إيقاعه قبل الصلاة مقدمة لها أفضل من الصلاة نفسها.

(1) كما في المقنعة والشرايع والقواعد وغيرها، وعن الغنية والمدارك الإجماع عليه، وإن حكي عن جماعة من المتقدمين إهماله. ويقتضيه النصوص الكثيرة، وفيها الصحيح والموثق وغيرها(3) ، ومنها صحيح عبد الله بن سنان المتقدم.

ومقتضى إطلاقها استحبابه لمن لا يريد الوقوف بعرفة. بل هو صريح معتبر عبد الرحمن بن سيابة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل يوم عرفة في الأمصار. فقال: اغتسل أينما كنت"(4).

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 10.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(4) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 2 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 20

كما أن مقتضى إطلاقها أيضاً امتداد وقته في تمام اليوم. لكن قال في الجواهر:" يحكى عن علي بن بابويه أنه قال: واغتسل يوم عرفة قبل زوال الشمس ".ولم يتضح وجهه. نعم ذكر في المقنع والهداية والمقنعة والنهاية والوسيلة والسرائر الغسل بعد الزوال لمن يريد الوقوف بعرفة، تبعاً للنصوص المتضمنة لذلك(1). وربما يحمل ذلك منهم ومن النصوص على الغسل للوقوف بعرفة الذي يأتي عدّه من الأغسال الفعلية.

لكن قال في التهذيب عند الكلام في الوقوف بعرفة:" والغسل يوم عرفة بعد الزوال ".ويظهر منه أن المشروع يوم عرفة غسل واحد، وأن بعد الزوال. وهو المناسب لصحيح الحلبي:" قال أبو عبد الله (عليه السلام): الغسل يوم عرفة إذا زالت الشمس. وتجمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين"(2). وعليه يحمل ما سبق في صحيح عبد الله بن سنان من أن غسل عرفة عند زوال الشمس.

وربما يكون هو مراد من سبق، بل قد يحمل عليه إطلاق غيرهم، لاحتمال كونهم في مقام بيان مشروعية الغسل هذا اليوم، مع إيكال بيان خصوصياته لكتاب الحج. كما ربما يكون هو الوجه في إهمال بعضهم لذكره هنا.

نعم قد يحمل التوقيت بما بعد الزوال في الصحيحين على بيان أفضل أوقات الغسل، مع سعة وقته في تمام اليوم، كما هو مقتضى القاعدة في الجمع بين المطلق والمقيد في المستحبات.

بل هو المتعين بلحاظ صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والحجامة [والجمعة. خ ل] وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة. فإذا اجتمعت عليك حقوق [الله] أجزأها عنك

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 10 باب: 9 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة.

(2) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 9 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة حديث: 2.

ص: 21

(22)

ويوم التروية (1) - وهو الثامن من ذي الحجة - ويوم الغدير (2) - وهو الثامن عشر منه

غسل واحد..."(1). إذ هو كالصريح في تحقق موضوع غسل عرفة بطلوع الفجر، وأن إجزاء الغسل الواحد بملاك التداخل، الذي هو فرع تحقق الموضوع.

(1) لغير واحد من النصوص. وبعضها وإن كان ظاهراً في استحبابه لإحرام الحج لا لليوم، إلا أن بعضها مطلق، كصحيح محمد بن مسلم في تعداد الأغسال:" ويوم تحرم ويوم الزيارة ويوم تدخل البيت ويوم التروية ويوم عرفة..."(2). ومن هنا لم يحسن إهمال جماعة من الأصحاب له عند التعرض للأغسال الزمانية.

(2) على المعروف بين الأصحاب، وفي مفتاح الكرامة: "نص عليه الجم الغفير" .بل في التهذيب: "وعليه أيضاً إجماع الفرقة المحقة لا يختلفون في ذلك" ،كما ادعى الإجماع عليه في الغنية والروض.

لكن ظاهر التهذيب وصريح الروض أن الدليل عليه عندهما خبر علي بن الحسين العبدي: "سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: صيام يوم غدير خم يعدل صيام عمر الدنيا... ومن صلى فيه ركعتين يغتسل عند زوال الشمس من قبل أن تزول مقدار نصف ساعة... عدلت عند الله عزو جل مائة ألف حجة ومائة ألف عمرة..."(3). وهو كما ترى ظاهر في استحباب الغسل للصلاة لا لليوم، فهو من الأغسال الفعلية، لا الزمانية. ومن هنا يشكل التشبث بالإجماع المتقدم، لاحتمال ابتنائه على مضمون الرواية، لا على استحباب الغسل لليوم تعبداً.

على أن الخبر ضعيف في نفسه. فلا مجال للبناء على مضمونه إلا بضميمة قاعدة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، ج: 5 باب: 3 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 1

ص: 22

التسامح في أدلة السنن.

نعم قد يستدل على استحباب الغسل لليوم المذكور بخبر الليثي عن الصادق (عليه السلام) قال في خبر طويل في فضل يوم الغدير:" فإذا كان في صبيحة اليوم وجب الغسل في صدر نهاره "(1) والرضوي(2). وهما ضعيفان أيضاً، ولم يتضح اعتماد الأصحاب عليهما، لما سبق من قرب ابتناء الإجماع المدعى على مضمون الخبر الأول. بل لا ريب في عدم اعتمادهم على الرضوي، لعدم العثور عليه إلا في العصور المتأخرة.

على أنه يشكل انجبار ضعف الخبر بعمل الأصحاب في المستحبات، لقرب ابتناء عملهم على قاعدة التسامح في أدلة السنن، لا لتوثقهم من صدور الخبر، خصوصاً في مثل هذا الخبر مما لم يدون في كتب الحديث المشهورة المتضمنة لروايات الفقه والأحكام التي مبنى الأصحاب على العمل برواياتها والفتوى بمضامينها.

ومثله الاستدلال بما تضمن أنه عيد(3) ، بضميمة ما في الخلاف من الإجماع على استحباب الغسل في الجمعة والأعياد، وما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله في يوم الجمعة:" هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا..."(4) ، وما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: "غسل الأعياد طهور لمن أراد طلب الحوائج..."(5) ، وما في معتبر محمد بن سنان عن الإمام الرضا (عليه السلام) فيما كتب إليه:" علة غسل العيد والجمعة وغير ذلك لما فيه من تعظيم العبد ربه... وليكون لهم يوم عيد معروف يجتمعون فيه على ذكر الله، فجعل فيه الغسل تعظيماً لذلك اليوم..."(6) ، لاندفاعه بعدم حجية الإجماع المذكور، وضعف النصوص المذكورة عدا معتبر ابن سنان، وهو منصرف للعيدين المشهورين

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 20 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(3) الغدير في الكتاب والسنة والأدب ج: 1 ص: 528-534 موسوعة الغدير الطبعة الثالثة 1425 ه -.

(4) منتهى المطلب ج: 2 ص: 470. وعن الموطأ ج: 1 ص: 65 رقم الحديث: 113.

(5) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 18.

ص: 23

(24)

ويوم المباهلة (1)،

الأضحى والفطر. ولا أقل من كونهما المتيقن منه بعد عدم الإطلاق فيه، لعدم وروده في مقام التشريع، بل في مقام التعليل بعد المفروغية عن التشريع. وأما التعليل الذي تضمنه فالظاهر أنه حكمة لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً. ولعله لذا اقتصر في التذكرة حينما ذكره في ضمن مجموعة من الأغسال الزمانية على التعليل بشرف هذه الأوقات.

(1) كما ذكره جماعة، وفي الجواهر أنه المشهور بين الأصحاب، بل قد يحمل عليه ما عن الغنية من الإجماع على غسل المباهلة، بحمله على غسل يومها المعهود، لا غسل نفس المباهلة - الذي هو من الأغسال الفعلية، وأجنبي عما نحن فيه - لما في الجواهر من استبعاد دعوى الإجماع على الثاني، وإن كان ما ذكره لا يخلو عن خفاء.

وكيف كان فقد يستدل عليه بمرفوع القمي المروي عن الإقبال: "إذا أردت ذلك فابدأ بصوم ذلك اليوم شكراً، واغتسل والبس أنظف ثيابك"(1). لكن الظاهر منه إرادة الغسل للقيام ببعض الأعمال المندوبة، فيكون من الأغسال الفعلية. كما هو ظاهر أو صريح خبر محمد بن صدقة العنبري عن موسى بن جعفر (عليه السلام):" قال يوم المباهلة يوم الرابع والعشرون من ذي الحجة تصلي في ذلك اليوم ما أردت من الصلاة... وتقول على غسل الحمد لله رب العالمين..."(2). مضافاً إلى ضعف الخبرين معاً. ولا مجال لدعوى انجبار ضعف السند بالشهرة - لما تقدم - فضلاً عن ضعف الدلالة.

وأما قول الإمام الصادق (عليه السلام) في موثق سماعة المروي في الوسائل والفقيه والتهذيب: "وغسل المباهلة واجب"(3). فلا قرينة فيه على إرادة غسل يوم المباهلة

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 5 باب: 39 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 47 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

ص: 24

(25)

- وهو الرابع والعشرون منه (1) - ويوم مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2) - وهو السابع عشر من ربيع الأول - ويوم النوروز (3)، وأول رجب، وآخره،

المعهود، لأصالة عدم التقدير، بل لعل المراد غسل نفس المباهلة لمن يقوم بها، حيث روي الغسل في آدابها(1). نعم رواه في المعتبر والتذكرة هكذا:" وغسل يوم المباهلة واجب ".لكن من القريب أنه مصحف عما سبق.

(1) كما هو أحد الأقوال في ذلك. وعن جماعة إنه المشهور. وتضمنه خبر محمد بن صدقة المتقدم، وقد فسر به غيره(2). وقيل: إنه الواحد والعشرون. وقيل إنه السابع والعشرون، وقيل إنه الخامس والعشرون. وبه صرح في المعتبر.

(2) كما في الدروس، قال في مفتاح الكرامة:" وعن فلاح السائل إنه يستحب يوم مولد النبي صلى الله عليه وآله، وهو سابع عشر ربيع الأول باتفاق أصحابنا، كما يظهر من الروضة وغيرها ".وعن محكي كشف الرموز نسبته للرواية، ولم أعثر عاجلاً عليها، وإنما روي في بعض كتب الزيارات استحباب الغسل لزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه.

نعم قد يستدل عليه بأنه عيد، فيدخل في عموم استحباب الغسل للأعياد. لكنه ممنوع صغروياً، لعدم الشاهد بكونه عيداً. وكبروياً، كما يظهر مما تقدم في غسل يوم الغدير.

(3) كما عن الشيخ والشهيد وأبي العباس والجامع، وفي الجواهر أنه المشهور بين المتأخرين، بل لم أعثر على مخالف فيه، لمرسل المعلى بن خنيس عن الصادق (عليه السلام) قال:" إذا كان يوم النيروز فاغتسل والبس أنظف ثيابك، وتطيب بأطيب طيبك، وتكون ذلك اليوم صائماً..."(3).

********

(1) من كتاب الدعاء الكافي ج: 2 ص: 513 من أبواب المباهلة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 47 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 48 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 1.

ص: 25

(26)

ونصفه (1) ويوم المبعث (2) - وهو السابع والعشرون منه

نعم في المناقب: "وحكي أن المنصور تقدم إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز، وقبض ما يحمل إليه. فقال: إني فتشت الأخبار عن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم أجد لهذا العيد خبراً، وإنه سنة الفرس، ومحاها الإسلام..."(1).

لكنه لا ينهض بمعارضة ما سبق بعد اعتضاده بخبرين آخرين عن المعلى في فضل هذا اليوم(2). على أنه قد يجمع بينه وبينها بأن اليوم المذكور وإن كان ذا فضيلة ومزية، إلا أنه ليس عيداً.

نعم الكل لا يبلغ مرتبة الحجية، فلابد من تتميمه بقاعدة التسامح في أدلة السنن لو تمت. وقد اختلفوا في تعيين هذا اليوم، كما أطال الكلام فيه في مفتاح الكرامة والجواهر.

(1) فعن الإقبال:" وجدت في كتب العبادات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: من أدرك شهر رجب فاغتسل في أوله ووسطه وآخره خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"(3). ونحوه حكي عن كتاب لب اللباب(4). وعن نوادر الراوندي روايته مسنداً عن الحسن عن النبي(5) (صلى الله عليه وآله وسلم). وإن كان ضعيفاً.

(2) كما في المبسوط والقواعد والمنتهى والدروس وعن أبي العباس وفي الغنية دعوى الإجماع عليه. وعن العلامة والصيمري نسبته للرواية. لكن علله في التذكرة بعد أن ذكره في ضمن مجموعة من الأغسال الزمانية بشرف هذه الأوقات ولم يشر للرواية. بل في الذكرى: "ونصف رجب والمبعث مشهوران، ولم يصل إلينا خبر فيهما" .ونحوه في الروض في يوم المبعث وليلة النصف من رجب.

********

(1) المناقب ج: 3 ص: 433 طبع النجف الأشرف.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 47 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(4و5) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 16 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 1.

ص: 26

(27)

وليلة الفطر (1) وليالي الإفراد من شهر رمضان (2)

(1) كما في المقنعة والمبسوط بل حكي عن جمهور الأصحاب، وفي الغنية دعوى الإجماع عليه. ففي معتبر الحسن بن راشد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في فضل ليلة الفطر: "قلت: جعلت فداك فما ينبغي أن نعمل فيها؟ فقال: إذا غربت الشمس فاغتسل، وإذا صليت الثلاث المغرب [ركعات] فارفع يدك وقل..."(1). كذا رواه في الكافي والتهذيب والعلل. لكن أسقط في الفقيه قوله:" فاغتسل".

ودعوى: سقوط رواية الصدوق للحديث في العلل والفقيه بالاضطراب، وتبقى رواية الكليني والشيخ حجة. مدفوعة باختلاف سند الصدوق في الفقيه مع سنده في العلل، وذلك يرجع للتعارض بين جميع الأسانيد، لا خصوص ما بين العلل والفقيه، فيسقط الجميع عن الحجية. على أن ظاهره استحباب الغسل في ضمن عمل بعد صلاة المغرب فهو من الأغسال الفعلية، لا استحبابه في ليلة العيد مستقلاً، ليكون من الأغسال الزمانية.

وأما ما عن الإقبال:" روي أنه يغتسل قبل الغروب من ليلة إذا علم أنها ليلة العيد "(2) فهو - مع ضعفه بالإرسال - لا يقتضي استحباب الغسل ليلة العيد، بل قبلها. ولعله لذا اقتصر في التذكرة على تعليله بشرف الوقت فيما أشرنا إليه آنفاً.

(2) قال في الجواهر:" وفاقاً لجماعة من أساطين أصحابنا منهم الشيخ. قال - على ما نقل عنه -: وإن اغتسل ليالي الإفراد كلها، وخاصة ليلة النصف، كان له فضل كثير. انتهى. لما رواه السيد في الإقبال في سياق أعمال الليلة الثالثة من الشهر: وفيها يستحب الغسل على مقتضى الرواية التي تضمنت أن كل ليلة مفردة من جميع الشهر يستحب فيها الغسل...".

نعم خص جماعة الليلة الأولى منه بالذكر، وعن المعتبر نسبته للأصحاب،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، 2.

ص: 27

وأول يوم منه (1)، ويتأكد في ليالي القدر (2)،

وفي الغنية والروض الإجماع عليه. لقوله (عليه السلام) في موثق سماعة:" وغسل أول ليلة من شهر رمضان مستحب"(1). وقريب منه في ذلك معتبر الفضل بن شاذان(2) ، مؤيداً بنصوص أخر مرسلة(3).

(1) لما في الإقبال بسنده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "قال: من اغتسل أول يوم من السنة في ماء جار وصب على رأسه ثلاثين غرفة كان دواء السنة. وأول كل سنة أول يوم أول يوم من شهر رمضان" .والظاهر أن ما في الوسائل من روايته عنه هكذا: "من اغتسل أول ليلة من السنة..." (4) تصحيف منه، لمخالفته للموجود في المطبوع منه، المعتضد بما حكاه في الجواهر عنه مستدلاً به على استحباب الغسل في اليوم المذكور.

نعم ورد الغسل في أول ليلة منه في موثق سماعة عن الإمام الصادق(5) (عليه السلام). ومعتبر الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا(6) (عليه السلام). وفي المرسل عن الإمام الصادق (عليه السلام): "من أحب أن لا يكون به الحكة فليغتسل في أول ليلة من شهر رمضان، فلا تكون به الحكة إلى شهر رمضان من قابل"(7).

(2) فقد نص الأصحاب على استحباب الغسل فيها. قال في الجواهر:" للإجماع المحكي - إن لم يكن محصلاً - في الغنية والروض والمصابيح "ويقتضيه النصوص المستفيضة، وفيها الصحيح والموثق وغيرهما(8).

ويظهر من مجموع النصوص أفضلية الليلتين الأخيرتين، لاقتصار بعض

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 6، 14.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 7.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 6.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5.

(8) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1، 4 من أبواب الأغسال المسنونة.

ص: 28

وليلة النصف (1)،

النصوص عليهما(1). بل في معتبر سليمان بن خالد:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) كم أغتسل في شهر رمضان ليلة؟ قال: ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين. قلت: فإن شقّ عليّ؟ فقال: في إحدى وعشرين وثلاث وعشرين. قلت: فإن شقّ عليّ؟ قال: حسبك الآن"(2).

كما يظهر منها أيضاً أفضلية الليلة الأخيرة. ففي موثق زرارة عن أحدهما (عليه السلام): "سألته عن الليالي التي يستحب فيها الغسل من شهر رمضان فقال: ليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين. قال: وفي ليلة تسع عشرة يكتب وفد الحاج، وفيها يفرق كل أمر حكيم، وليلة إحدى وعشرين فيها رفع عيسى، وفيها قبض وصي موسى [وفيها قبض أمير المؤمنين (عليه السلام)] وليلة ثلاث وعشرين، وهي ليلة الجهني. وحديثه أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن منزلي ناء عن المدينة فمرني ليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين"(3). فإن اقتصار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها ونقل الإمام (عليه السلام) لذلك ظاهر في أفضليتها.

هذا وفي خبر بريد [عن أبي عبد الله (عليه السلام)]:" رأيته اغتسل في ليلة ثلاث وعشرين [من شهر رمضان] مرتين مرة من أول الليل ومرة من آخر الليل"(4). لكنه - مع عدم خلو سنده عن ضعف، لجهالة طريق الشيخ إلى إبراهيم بن مهزيار - حكاية فعل لا تخلو عن إجمال.

(1) كما ذكره غير واحد، وفي الغنية أن عليه الإجماع. لورود بعض النصوص المرسلة بذلك(5).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1، 4 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 13.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، 9.

ص: 29

والليلة السابعة عشر (1)، بل جميع ليالي العشر الأخيرة (2)،

(1) كما ذكره غير واحد وفي الغنية دعوى الإجماع عليه. وتضمنه صحيحا محمد بن مسلم(1) وغيرهما.

(2) ففي بعض النصوص المرسلة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يفعل ذلك(2). كما ورد النص على غسل ليلة خمس وعشرين(3) وغسل ليلة سبع وعشرين وتسع وعشرين(4).

وأما ليلة أربع وعشرين فقد حكي التصريح باستحباب الغسل فيها عن أبي قرة. وقد تضمنته رواية الخصال، حيث روى الصدوق بسنده الصحيح عن حريز بن عبد الله فقال: "قال: قال محمد مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): الغسل في سبعة عشر موطناً: ليلة سبع عشرة من شهر رمضان... وليلة تسع عشرة... وليلة إحدى وعشرين... وليلة ثلاث وعشرين... - وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الله البصري: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اغتسل في ليلة أربعة وعشرين. ما عليك أن تعمل في الليلتين جمعياً؟! رجع الحديث إلى محمد بن مسلم في الغسل - ويوم العيدين..."(5).

وقد استظهر بعض مشايخنا - تبعاً لبعض السادة المعاصرين (قدس سره) - أن يكون حديث عبد الرحمن من جملة ما ذكره حريز في ضمن حديث محمد بن مسلم، وحيث كان طريق الصدوق لحريز صحيحاً يكون الحديث المذكور كذلك. لكنه لا يخلو عن خفاء، لإمكان أن يكون الصدوق هو الذي أقحم حديث عبد الرحمن في ضمن حديث محمد بن مسلم.

نعم يؤيد ما ذكره (قدس سره) ما في مستدرك الوسائل عن الإقبال:" روينا بإسنادنا إلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5، 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 6، 10، 14.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 12، 13.

(5) أشار للحديث في وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5.

ص: 30

الحسين بن سعيد من كتاب على بن عبد الواحد الهندي عن حماد وعن حريز عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اغتسل في ليلة أربع وعشرين من شهر رمضان"(1).

مع أن طريق الصدوق في الفقيه إلى عبد الرحمن صحيح أيضاً. وهو وإن لم يصرح في الخصال بالتزامه بعدم إرساله عمن له إليه طريق إلا ما رواه عنه بالطريق المذكور، كما صرح بذلك في الفقيه، إلا أنه من البعيد جداً خروجه عن ذلك. ولا أقل من تأيد إحدى الروايتين بالأخرى. ومن ثم يقوى البناء على مشروعية الفعل المذكور. وإن كان في النفس منه شيء.

هذا وفي بعض نصوص أغسال العشر الأواخر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يغتسل في كل ليلة منه بين العشائين(2). لكن في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) في غسل ليالي القدر: "والغسل في أول الليل. وهو يجزي إلى آخره"(3) ، ونحوه خبر بكير وابنه(4). وقد تضمنا عدم بطلانه بالنوم. بل في صحيح زرارة والفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: الغسل في شهر رمضان عند وجوب الشمس قبيله، ثم يصلي ويفطر"(5).

والكل محمول على الاستحباب. ولاسيما بملاحظة صحيح العيص بن القاسم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الليلة التي يطلب فيها ما يطلب متى الغسل، فقال: من أول الليل، وإن شئت حيث تقوم من آخره. وسألته عن القيام. قال: تقوم في

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 9 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 6، ومستدرك الوسائل ج: 2 باب: 9 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

ص: 31

(32)

وفي غير ذلك (1).

أوله وآخره"(1). ويكون المتحصل من مجموع النصوص مشروعية الغسل في تمام الليل، وأن الأفضل إيقاعه في أوله، وأفضل منه إيقاعه قبيل غروب الشمس.

(1) فقد ذكر الأصحاب بعض الأغسال الأخر.

منها: الغسل ليلة النصف من شعبان، حيث نص على استحباب الغسل فيها في المبسوط والشرايع والتذكرة والمنتهى والقواعد وغيرها. ونسب لجماهير الأصحاب وفي الغنية دعوى الإجماع عليه. ويشهد له خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: صوموا شعبان واغتسلوا ليلة النصف منه، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة"(2). وضعفه سنداً مانع من التعويل عليه إلا بضميمة قاعدة التسامح في أدلة السنن.

وأضعف منه المرسل عن سالم مولى أبي حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "قال: من تطهر ليلة النصف من شعبان فأحسن الطهر... [ثم ذكر عملاً طويلاً... إلى أن قال:] قضى الله له ثلاث حوائج إما في عاجل الدنيا أو في آجل الآخرة، ثم إن سأل أن يراني من ليلته رآني"(3). على أنه ظاهر في استحباب الغسل للعمل الخاص في الليلة المذكورة، لا الليلة نفسها الذي هو محل الكلام.

ومنها: غسل الكسوف إذا احترق القرص كله. ولو قيل باختصاصه بما إذا فاتت المكلف الصلاة وأراد القضاء كان من الأغسال الفعلية لا الزمانية.

وكيف كان فالدليل عليه قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم:" وغسل الكسوف إذا احترق القرص كله فاغتسل"(4) ، وقوله (عليه السلام) في صحيحه الآخر المروي في الخصال: "وغسل الكسوف إذا احترق القرص كله فاستيقظت ولم تصل فاغتسل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 8 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 11.

ص: 32

واقض الصلاة"(1). ونحوه مرسل الفقيه(2) ، بل هو عينه. وصحيح حريز عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إذا انكسف القمر فاستيقظ الرجل فكسل أن يصلي [ولم يصل] فليغتسل من غد، وليقض الصلاة. وإن لم يستيقظ ولم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلا القضاء بغير غسل"(3).

وقد اضطربت كلماتهم في وجوب هذا الغسل أو استحبابه، وفي تحديد موضوعه، من حيثية الاكتفاء بمطلق الكسوف أو اعتبار احتراق القرص كله، أو اعتبار التفريط في الصلاة، أو اعتبار الأمرين معاً، أو جعل الغسل مقدمة للقضاء.

والذي ينبغي أن يقال: التأمل في صحيحي محمد بن مسلم شاهد بوحدتهما، لاتفاقهما في تعداد الأغسال السبعة عشر إلا إبدال غسل الميت بغسل الجنابة، وفي تسلسل الغالب منها، وفي بعض الخصوصيات الأخر، وليس الاختلاف القليل إلا ناشئاً من النقل بالمعنى.

ومن ثم يقرب أن يكون الاختلاف بينهما في الفقرة المذكورة مبنياً على ذلك، ويكون العمل على رواية الخصال، لأنها عرفاً من سنخ المبين لإجمال الأولى. وظاهرها إرادة التفريط في الصلاة، لظهور قوله:" فاستيقظت ولم تصل "في القدرة على الصلاة بالاستيقاظ، وعدم ترتب الصلاة تسامحاً، كما هو المصرح به في مرسل حريز. ولا أقل من كون ذلك مقتضى الجمع بين الصحيحين، لأن حديث الخصال من سنخ المقيد، فيرفع به اليد عن إطلاق الحديث الأول.

ومن هنا يكون هذا الغسل من صغريات غسل التوبة، أو يكون تشريعه عقوبة بسبب الذنب المذكور، نظير ما قد يحتمل في غسل السعي لرؤية المصلوب.

وكيف كان فالظاهر استحبابه. ويناسب ذلك أن مثل هذا الغسل الشايع

********

(1) الخصال ج: 2 ص: 478 من باب السبعة عشر حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 33

الابتلاء لو كان واجباً لاشتهر أمره، وكثرت النصوص فيه وفي فروعه، ولم يخفَ على الأصحاب، حتى اضطربوا فيه هذا الاضطراب.

على أنه يشكل استفادة وجوبه من صحيحي محمد بن مسلم بعد عدّه فيهما في سياق سبعة عشر غسلاً أكثرها مستحب، بل كثير منها ظاهر الاستحباب، فلم يبق إلا مرسل حريز الذي لا ينهض بإثبات وجوبه مع ما فيه من الإرسال.

هذا والمتيقن من النصوص السابقة إرادة كسوف القمر، للتصريح به في مرسل حريز، ولا شعار فرض الاستيقاظ في رواية الخصال في وقوع الكسوف ليلاً، المناسب لإرادة القمر. ومعه يشكل التمسك بإطلاق الحديث الأول، لما سبق من ظهور اتحاد الصحيحين.

نعم لا يبعد البناء على إلغاء خصوصية القمر عرفاً، بعد كون المفهوم من النص أن ذكر الاستيقاظ للكناية عن التفريط. بل ربما قيل بأولوية الشمس في ذلك، لأولويتها في حيثية كونها آية. ومن هنا يقرب عموم الحكم لها معاً كما صرح به في الرضوي(1). وهو مقتضي إطلاق جماعة من الأصحاب، وعن صريح بعضهم، بل عن ظاهر بعضهم الإجماع عليه، وعن المصابيح أنه محل وفاق. ولم ينقل عن أحد الخلاف في ذلك.

وقد تحصل من جميع ما سبق أن الأغسال الزمانية المشروعة هي أغسال أيام الجمعة والعيدين وعرفة والتروية، والليلة الأولى من شهر رمضان، وليلة السابع عشر منه، وليالي القدر، وليلة أربعة وعشرين، على إشكال في الأخيرة. وأما غسل المباهلة، وغسل الكسوف، فهي وإن كانت مشروعة إلا أنها ليست من الأغسال الزمانية بالمعنى المعهود.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 17 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 34

(35)

(35)

(مسألة 81): جميع الأغسال الزمانية لا ينقضها الحدث الأكبر (1) والأصغر (2). ويتخير في الإتيان بها بين ساعات وقتها (3). والثاني (4) أيضاً له أفراد كثيرة: كالغسل لدخول مكة (5)،

(1) ليس المراد بذلك عدم انتقاض الطهارة الحاصلة منها بالحدث المذكور، لعدم الإشكال في انتقاضها به، لإطلاق أدلة أسباب الإحداث للحدث، بل المراد عدم مانعية الحدث الأكبر من إجزائها، فلا تشرع إعادتها من أجله. وهو أمر لا إشكال فيه ظاهراً، لأن مقتضى إطلاق أدلتها الاجتزاء بإيقاعها في الزمان الخاص من دون نظر لأمد بقائها.

(2) لعين ما سبق. بل صرح في غسل الجمعة وغسل ليالي القدر بعدم الانتقاض بالنوم في خبري بكير وابنه(1).

(3) للإطلاق. لكن تقدم جواز تقديم أغسال ليالي شهر رمضان على الليل قليلاً. لصحيح الفضيل وزرارة(2).

(4) وهو الأغسال المكانية. وقد تقدم في أول هذا المقصد رجوعها للأغسال الفعلية.

(5) كما في القواعد والإرشاد وعن جماعة، بل في الخلاف - في المسألة الثالثة والستين من كتاب الحج - الإجماع عليه. للنص عليه في صحيحي معاوية بن عمار(3) وعبد الله بن سنان(4) ، ومعتبر الفضل بن شاذان المتضمن كتاب الإمام الرضا (عليه السلام) للمأمون(5) ، وما عن الأعمش في حديث شرايع الدين(6). وقد يستفاد من غيرها. وما في كشف اللثام من أنه ادعى في الخلاف الإجماع على عدمه. غريب بعد ما عرفت.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، 10.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 6، 8.

ص: 35

أو المدينة (1)، أو أحد مسجديهما (2)،

ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين الدخول لأداء فرض أو نفل وغيره. لكن خصه في المقنعة بما إذا كان لأداء فرض أو نفل. وكأنه للانصراف. وإن كان لا يخلو عن إشكال.

(1) كما صرح به غير واحد، بل في الغنية الإجماع عليه. للنصوص المتقدمة في دخول مكة. وللنص عليه بالخصوص في صحيح عبد الله بن سنان الآخر(1). وفي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها، أو حين تدخلها ثم تأتي قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)..."(2). وقد خصه في المقنعة بمن دخلها لأداء فرض أو نفل، كما تقدم في دخول مكة. وهو قد يتجه بلحاظ الصحيح الآخر، أما بلحاظ غيره فالكلام فيه على نحو ما تقدم في سابقه.

(2) كما نص عليه جماعة، وفي الخلاف الإجماع على استحبابه لدخول المسجد الحرام، وفي الغنية الإجماع على استحبابه لهما معاً.

وقد تضمنت جملة من النصوص تشريعه لدخول البيت(3). ويظهر من بعضهم حمله على الكعبة الشريفة، لا تمام المسجد، ويناسبه قوله تعالى: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس..."(4). وما في بعض النصوص المذكورة من ذكره مع غسل الزيارة(5) الذي كان المتيقن منه غسل زيارة المسجد الحرام، إذ لو أريد حينئذٍ بدخول البيت دخول المسجد لا الكعبة للزم التكرار.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 6 من أبواب المزار وما يناسبه حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 4، 5، 11، 12.

(4) سورة المائدة الآية: 97.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 4، 5، 11.

ص: 36

أو حرميهما (1)،

نعم لا مجال لذلك في صحيح معاوية بن عمار، لقوله (عليه السلام) فيه:" ويوم عرفة ويوم تزور البيت وحين تدخل الكعبة"(1) ، حيث تعين حينئذٍ حمله على دخول المسجد الحرام، لئلا يلزم التكرار. ولعله لصدق زيارة الكعبة بذلك دون توقف على دخولها.

لكن يشكل حمله على مطلق دخول المسجد، بل يقرب أن يراد منه دخوله لطواف الزيارة، الذي هو من أعمال الحج بعد أعمال منى، لقرب كون التعبير بالزيارة للإشارة إلى ذلك، كالتعبير بغسل الزيارة في بعض النصوص المشار إليها آنفاً، إذ بعد تعذر حملها على مطلق الزيارة لابد من حملها على زيارة معهودة، وهي ما ذكرنا. وبذلك قد تكون هذه النصوص أيضاً قرينة على ما ذكرنا من حمل زيارة البيت في صحيح معاوية على ذلك.

ومن ثم يشكل البناء على عموم استحباب الغسل لدخول البيت للمكث فيه، فضلاً عن العبور. إلا أن يستفاد من فحوى استحباب الغسل لدخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنه أفضل منه. لكنه لا يخلو عن إشكال.

وأما الغسل لدخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيشهد له قوله (عليه السلام) في حديث محمد بن مسلم: "وحين تدخل الحرم، وإذا أردت دخول البيت الحرام، وإذا أردت دخول مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)"(2). وليس في سنده إلا القاسم بن عروة حيث لم ينص على توثيقه إلا في كتاب المسائل الصاغانية المطبوع المنسوب للمفيد مع ما قيل من عدم ثبوت صحة نسبته له. إلا أن الظاهر استفادة توثيقه من رواية ابن أبي عمير والبزنطي عنه، للنص على أنهما لا يرويان إلا عن ثقة، مؤيداً برواية جماعة من الأعيان عنه.

(1) فقد صرح غير واحد باستحباب الغسل لدخول الحرم المنصرف لحرم مكة، وفي الغنية دعوى الإجماع عليه. ويقتضيه قوله (عليه السلام) في موثق سماعة في تعداد

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، 12.

ص: 37

أو البيت الشريف (1)، وغير ذلك (2).

الأغسال:" وغسل دخول الحرم، يستحب أن لا تدخله إلا بغسل"(1). وكذا صحيح عبد الله بن سنان(2) ، وحديث محمد بن مسلم(3) المتقدم عند الكلام في استحباب الغسل لدخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

لكن في كشف اللثام عن الشيخ في الخلاف الإجماع على عدمه. وهو غريب. بل في مفتاح الكرامة ومحكي المفاتيح عدم العثور على ذلك في الخلاف.

كما يشهد باستحباب الغسل لدخول الحرمين معاً قوله (عليه السلام) في صحيحي محمد بن مسلم: "وإذا دخلت الحرمين"(4) ، ونحوهما مرسل الصدوق(5) قال في الجواهر:" واحتمال إرادة نفس البلدين تكلف لا داعي له، ولا شاهد عليه".

(1) يعني الكعبة، كما صرح به جماعة، وفي الخلاف والغنية الإجماع عليه. ويشهد به ما تقدم عند الكلام في استحباب الغسل لدخول المسجدين من قوله (عليه السلام) في صحيح معاوية:" وحين تدخل الكعبة"(6). وفي صحيح عبد الله بن سنان: "وعند دخول مكة والمدينة ودخول الكعبة"(7). مضافاً إلى نصوص دخول البيت التي تقدمت الإشارة لها هناك.

(2) ففي المنتهى وعن نهاية الأحكام والموجز ومحكي شرحه استحباب الغسل لدخول مشاهد الأئمة (عليهم السلام) بعد أن ذكروا استحبابه للزيارة. وعن أبي علي استحبابه لكل مشهد أو مكان شريف. ولا يتضح الوجه فيه إلا الحمل على مكة والمدينة وحرميهما ومسجديهما الذي هو بالقياس أشبه. وأما ما تضمن استحبابه للزيارة فالمنصرف منه بقرينة السياق زيارة البيت لطواف الحج، كما سبق. مع أنه من الأغسال الفعلية، دون المكانية التي هي محل الكلام.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 7، 12.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5، 11.

(5و6و7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4، 1، 10.

ص: 38

(39)

(مسألة 82): وقت الغسل في هذا القسم قبل الدخول في هذه الأمكنة (1)

(1) فإن المناسبات الارتكازية تقضي بأن مشروعية هذه الأغسال بلحاظ شرف الأماكن المذكورة المناسب للتهيؤ لدخولها بالغسل، كما يناسبه قوله (عليه السلام) في حديث محمد بن مسلم:" وإذا أردت دخول البيت الحرام"(1) ، وقوله (عليه السلام) في صحيح معاوية بن عمار المتقدم في الغسل لدخول المدينة: "قبل أن تدخلها أو حين تدخلها"(2).

ومنه يظهر أن تقديم الغسل على الدخول إنما هو ليكون على غسل حينه، لا لخصوصية في التقديم، كما هو المصرح به في قوله (عليه السلام) في موثق سماعة في تعداد الأغسال:" وغسل دخول البيت واجب، وغسل دخول الحرم يستحب أن لا تدخله إلا بغسل"(3).

وعلى ذلك تنزل عبارات النصوص المختلفة، حيث أطلق في بعضها غسل الدخول، وعبر في آخر بالغسل للدخول، وفي ثالث بالغسل يوم الدخول، وفي رابع بالغسل حينه، أو عنده... إلى غير ذلك مما تصلح القرينة المذكورة لحمله على ما ذكرنا.

لكن في صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله: "قال: إذا انتهيت إلى الحرم إن شاء الله فاغتسل حين تدخله. وإن تقدمت فاغتسل من بئر ميمون، أو من فخ، أو من منزلك بمكة"(4) ، وفي صحيح ذريح:" سألته عن الغسل في الحرم قبل دخوله أو بعد دخوله؟ قال: لا يضرك أي ذلك فعلت. وإن اغتسلت بمكة فلا بأس، وإن اغتسلت في بيتك حين تنزل بمكة فلا بأس"(5).

وإذا أمكن تنزيل الأول على الاضطرار - وإن كان خلاف الظاهر - فلا مجال لذلك في الثاني. فما عن الشيخين والأكثر من تنزيل هذه الأخبار عليه في غير محله. كم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 12.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 6 من أبواب المزار وما يناسبه حديث: 1، 3.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 2 من أبواب مقدمات الطواف حديث: 2، 1.

ص: 39

(40)

قريباً منه (1).

والثالث (2) قسمان:

(الأول): ما يستحب لأجل إيقاع فعل، كالغسل للإحرام (3)، أو

أن تنزيلها على الغسل لدخول المسجد أو الكعبة مخالف للظاهر، خصوصاً في الثاني. ومن ثم يتعين الاقتصار على موردهما، وهو غسل الحرم. لكن مع البناء على أفضلية تقديم الغسل قبل الدخول، لموثق سماعة المتقدم.

(1) كما هو مقتضى التعبير بالغسل حينه أو عنده أو عند أرادته. لكن ظاهر قوله (عليه السلام) في موثق سماعة المتقدم: "وغسل دخول الحرم يستحب أن لا تدخله إلا بغسل" أن المطلوب إيقاع الدخول عن غسل، وهو المناسب لإطلاق قوله (عليه السلام) في صحيح معاوية بن عمار المتقدم في الغسل لدخول المدينة: "قبل أن تدخلها أو حين تدخلها" .كما هو المناسب أيضاً للوجه الارتكازي المتقدم لاعتبار إيقاعه قبله. وحينئذٍ يتجه جريان ما يأتي في الأغسال الفعلية في المسألة الثالثة والثمانين، لإطلاق نصوص تلك المسألة، لعدم الإشارة فيها للاختصاص بالأغسال الفعلية بالمعنى المقابل للمكانية.

(2) وهو الأغسال الفعلية.

(3) كما عن جمهور الأصحاب، وفي الخلاف والغنية وعن غيرهما الإجماع عليه، وعن غير واحد نفي الخلاف فيه. ويقتضيه النصوص الكثيرة المستفيضة، وفيها الصحيح والموثق وغيرهما. وهي محمولة على الاستحباب عندهم.

لكن عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد الوجوب، وقد يستظهر من غيرهما ممن أطلق الأمر به، كالصدوق والشيخ في النهاية. ويدفعه أن كثرة الابتلاء به مع صعوبة الغسل في تلك الحال تقضي بعدم وجوبه، وإلا لظهر وبان، ولم يخفَ على معظم الأصحاب.

ص: 40

الطواف (1) أو الوقوف بعرفات (2)،

(1) كما ذكره الأصحاب، وفي الخلاف الإجماع عليه. لكن ادعى في الغنية الإجماع على غسل زيارة البيت من منى، الظاهر في طواف الزيارة، الذي سبق عند الكلام في استحباب الغسل لدخول المسجد الحرام أنه المتيقن مما تضمن مشروعية الغسل للزيارة من النصوص(1) التي فيها الصحيح والموثق وغيرهما ومن قوله (عليه السلام) في صحيح معاوية بن عمار: "ويوم تزور البيت"(2).

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن زيارة البيت طوافه، فهو غير ظاهر المأخذ، بل الظاهر عدم خروج الزيارة عن معناها العرفي، وليس الطواف إلا واجباً في زيارة البيت المذكورة. ومن هنا يكون إثبات استحباب الغسل لكل طواف من هذه النصوص في غاية الإشكال.

نعم قد يستدل بمعتبر علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن (عليه السلام):" قال لي: إن اغتسلت بمكة ثم نمت قبل أن تطوف فأعد غسلك"(3). لكنه لما كان ورداً لبيان ناقضية النوم للغسل فلا إطلاق له من حيثية الطواف الذي يشرع له الغسل.

(2) بلا خلاف أجده فيه كما في الجواهر، بل في الخلاف وعن المدارك الإجماع عليه. ويستدل له بصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: "فإذا انتهيت إلى عرفات فاضرب خباك بنمرة. ونمرة هي بطن عرفة دون الموقف ودون عرفة. فإذا زالت الشمس يوم عرفة فاغتسل وصلّ..."(4) ، وفي صحيح الحلبي:" الغسل يوم عرفة إذا زالت الشمس. وتجمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين"(5). وقريب منهما غيرهما.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 4، 5، 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 6 من أبواب مقدمات الطواف حديث: 2.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 9 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة حديث: 1، 2.

ص: 41

أو المشعر (1)، أو الذبح، أو النحر، أو الحلق (2) ولغير ذلك (3).

لكن لا ظهور لها في أن الغسل من أجل الوقوف بعرفة، بل مقتضى صحيح الحلبي أن الغسل المذكور هو غسل يوم عرفة يؤتى به في هذا الوقت، كما هو مقتضى صحيح عبد الله بن سنان أيضاً، على ما تقدم عند الكلام في غسل يوم عرفة من الأغسال الزمانية. فراجع.

(1) إجماعاً كما في الخلاف. واستدل في الجواهر به، وبأولويته من الغسل للوقوف بعرفة. وكلاهما كما ترى.

(2) كما في الجواهر، لصحيح زرارة: "قال: إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزاك غسلك ذلك للجنابة والحجامة [الجمعة] وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة، فإذا اجتمعت عليك حقوق [الله] أجزاها عنك غسل واحد..."(1).

(3) كغسل زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) قال في الجواهر:" على المشهور بين الأصحاب، بل في كشف اللثام والمصابيح نسبته إلى قطع الأصحاب، مؤذنين بدعوى الإجماع عليه، بل في الغنية دعواه صريحاً ".وقد يستدل عليه بما تضمن تشريع غسل الزيارة من النصوص الكثيرة(2) التي فيها الصحيح والموثق وغيرها.

لكن تقدم عند الكلام في استحباب الغسل لدخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منع دلالتها على ذلك، وأن المتيقن منها دخول المسجد لطواف الزيارة الذي هو من أعمال الحج بعد الرجوع من منى. فراجع.

وقد تضمنت جملة من النصوص المعتبرة وغيرها استحبابه لزيارات خاصة لهم (عليهم السلام) بكيفيات مختلفة لا مجال لاستفادة العموم منها حتى لو كانت معتبرة في نفسها. فلتلحظ في أبواب المزار من الوسائل وفي كامل الزيارات.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 4، 5، 11.

ص: 42

(والثاني): ما يستحب بعد وقوع فعل منه كالغسل لقتل الوزغ (1)، ومس الميت بعد تغسيله (1).

نعم تضمن صحيح معاوية بن عمار المتقدم في استحباب الغسل لدخول المدينة زيارة النبي في جملة الأعمال لمن دخلها. وتضمن صحيح له آخر الأمر به عند وداعه(1) (صلى الله عليه وآله وسلم). وهما لو دلّا على استحباب الغسل للزيارة، لا لدخول المدينة والخروج منها، لكانا مختصين بالزيارة الأولى والأخيرة.

كما تضمنت جملة من النصوص استحباب الغسل بالفرات لزيارة الحسين (عليه السلام). وكثرتها تغني عن النظر في أسانيدها، فقد ذكر منها في كامل الزيارات تسع روايات في الباب الخامس والسبعين، وروايتين في الباب السادس والسبعين. وبعضها وإن كان مختصاً بالزيارة الأولى، إلا أن بعضها مطلق. كمعتبر صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: من اغتسل بماء الفرات وزار قبر الحسين (عليه السلام) كان كيوم ولدته أمه صفراً من الذنوب ولو اقترفها كبائر..."(2) ، وفي معتبر هشام بن سالم: "أتاه رجل فقال له: هل يزار والدك؟ فقال: نعم. فقال: ما لمن اغتسل بالفرات ثم أتاه؟ قال: إذا اغتسل من ماء الفرات وهو يريده تساقطت عنه خطاياه كيوم ولدته أمه..."(3).

(1) لخبر عبد الله بن طلحة:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في الوزغ، فقال: هو رجس، وهو مسخ كله. فإذا قتلته فاغتسل"(4). ولعله إليه يرجع مرسل الصدوق، قال: "روى أن من قتل وزغاً فعليه الغسل. وقال بعض مشايخنا: إن العلة في ذلك أنه يخرج من ذنوبه فيغتسل منها"(5). ولعل الأقرب كونه شكراً لله على التوفيق لقتله.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 15 من أبواب المزار وما يناسبه حديث: 1.

(2) كامل الزيارات ص: 184 باب: 75 حديث: 1.

(3) كامل الزيارات ص: 185 باب: 75 حديث: 4.

(4) من لا يحضره الفقيه ج: 1 ص: 44 باب الأغسال حديث: 3، ووسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

ص: 43

(مسألة 83): يجزي في القسم الأول من هذا النوع غسل أول النهار ليومه وأول الليل لليلته (2)، وقيل: لا يخلو القول بالاجتزاء بغسل الليل والنهار وبالعكس عن قوة (3) والظاهر انتقاضه بالحدث بينه وبين

(1) لموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: يغتسل الذي غسّل الميت. وكل من مسّ ميتاً فعليه الغسل وإن كان الميت قد غسّل"(1). ولابد من حمله على الاستحباب بقرينة النصوص المصرحة بعدم وجوب الغسل حينئذ، على ما تقدم عند الكلام في أن شرط وجوب غسل المس عدم تغسيل الميت.

(2) كما صرح به بعضهم. لجملة من النصوص منها صحيح عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: غسل يومك ليومك وغسل ليلتك لليلتك" (2) وغيره.

(3) لصحيح جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: غسل يومك يجزيك لليلتك وغسل ليلتك يجزيك ليومك"(3). لكنه يشكل تارة: بما عن السرائر عن كتاب جميل من روايته للحديث المذكور عن حسين الخراساني المجهول عن أحدهما(4) (عليه السلام)، وهو راجع للاضطراب في سند الحديث. وأخرى: بمعارضته للنصوص الكثيرة المتقدمة المعول عليها في قباله. ولاسيما مع احتمال حمل اللام فيه على الغاية، لتكون بمعنى" إلى "ويطابق النصوص الأخر، لا للتعدية، لينفع في المقام.

اللهم إلا أن يقال: الاحتمال المذكور مخالف للظاهر. والجمع بحمل النصوص الأول على الفضل أقرب منه. فالعمدة ما ذكر أولاً من اضطراب السند.

نعم في موثق أبي بصير وسماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام):" من اغتسل قبل طلوع الفجر وقد استحم قبل ذلك ثم أحرم من يومه أجزاه غسله، وإن أغتسل في أول الليل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب غسل المس حديث: 3.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 9 من أبواب الإحرام حديث: 2، 1، 6.

ص: 44

الفعل (1).

ثم أحرم في آخر الليل أجزاه غسله"(1).

لكنه مختص بالإحرام، وبما إذا كان قد استحم قبل ذلك، ولا يبعد ظهوره فيما إذا كان الغسل في آخر الليل قريباً من الفجر. فليقتصر فيه على مورده. على إنه يحتمل التصحيف، وأن الصحيح: "بعد طلوع الفجر" ،لأن الشيخ قد استدل به على إجزاء غسل اليوم لليوم والليل لليل. فتأمل.

(1) لصحيح النضر عن أبي الحسن (عليه السلام): "سألته عن الرجل يغتسل للإحرام ثم ينام قبل أن يحرم قال: عليه إعادة الغسل" (2) ونحوه معتبر علي بن أبي حمزة(3). وصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: "سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يغتسل لدخول مكة، ثم ينام فيتوضأ قبل أن يدخل أيجزيه ذلك أو يعيد؟ قال: لا يجزيه، لأنه إنما دخل بوضوء" (4) ومعتبر علي بن أبي حمزة عنه (عليه السلام): "قال لي: إن اغتسلت بمكة ثم نمت قبل أن تطوف فأعد غسلك"(5).

وهي وإن كانت مختصة بالغسل للإحرام ودخول مكة والطواف، إلا أن الظاهر عموم الحكم لجميع الغايات. وفي الجواهر:" نسبه بعض المحققين إلى الأصحاب، مشعراً بدعوى الإجماع عليه ".والعمدة فيه التعليل في صحيح عبد الرحمن بأنه إنما دخل بوضوء، كما أشار إليه في الجواهر. لظهوره في انتقاض الغسل بالنوم، فإيقاع الغاية بعده لا يكون عن غسل، بل عن وضوء.

نعم في صحيح العيص:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يغتسل للإحرام

********

(1) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 9 من أبواب الإحرام حديث: 5.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 10 من أبواب الإحرام حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 6 من أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 6 من أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها حديث: 2.

ص: 45

(46)

بالمدينة يلبس ثوبين، ثم ينام قبل أن يحرم. قال: ليس عليه غسل"(1). وظاهره عدم انتقاض الغسل بالنوم. غاية الأمر أن يجمع بينه وبين ما سبق من النصوص الدالة على إعادة الغسل باستحباب إعادته من دون انتقاض.

اللهم إلا أن يقال: لما كان معارضاً لصحيح عبد الرحمن في انتقاض الغسل، ويتعذر الجمع العرفي بينهما كان الترجيح لصحيح عبد الرحمن، لاعتضاده ببقية نصوص المقام الظاهرة في الانتقاض.

نعم النصوص كلها مختصة بالنوم فالتعدي لسائر أسباب الحدث الأصغر يبتني على فهم عدم الخصوصية، وهو قريب جداً. ولاسيما بملاحظة التعليل في صحيح عبد الرحمن المتقدم. بل لا يبعد التعدي بالأولوية العرفية، لظهور أن ناقضية النوم أخف من ناقضية غيره.

تتميم: وقع الكلام بينهم في مشروعية التيمم بدلاً عن الأغسال المستحبة عند تعذرها. وقد أطلق في العروة الوثقى مشروعيته حينئذٍ، وأقره جماعة من محشيها، ومال إليه في الجواهر. ويناسبه ما في المبسوط من التيمم للإحرام عند عدم الماء. وتوقف بعضهم في الإطلاق المذكور.

وفي جامع المقاصد: "لا إشكال في استحبابه إذا كان المبدل رافعاً أو مبيحاً، إنما الإشكال فيما سوى ذلك. والحق أن ما ورد به النص أو ذكره من يوثق به من الأصحاب - كالتيمم بدلاً من وضوء الحائض للذكر - يصار إليه، وما عداه فعلى المنع، إلا أن يثبت بدليل".

وفي المدارك: "هل يستحب التيمم بدلاً عن الغسل المستحب مع تعذره؟ فيه وجهان، أظهرهما العدم وإن قلنا إنه رافع، لعدم النص. وجزم جدي (قدس سره) بالاستحباب على هذا التقدير. وهو مشكل كما قلنا".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 10 من أبواب الإحرام حديث: 3.

ص: 46

هذا ومن الظاهر أن الأغسال المستحبة رافعة للحدث بناء على إجزائها عن الوضوء، كما هو التحقيق. وكذا بناء على إجزائها عن الأغسال الرافعة، كما هو التحقيق أيضاً وعليه جماعة من الأصحاب.

على أنه لا ينبغي التأمل في مطهريتها، لأنه وإن قيل بعدم رافعيتها للحدث، ولم تشرع للتطهر منه، إلا أنه لا إشكال في إحداثها مرتبة من الطهارة، نظير الوضوء التجديدي. ولذا تنقض بالحدث، كما سبق. وحينئذٍ يكفي في بدلية التيمم عنها إطلاق ما تضمن طهورية الأرض والتراب من النصوص الكثيرة بألسنتها المختلفة(1) ، فإن مقتضاه قيامه مقام الماء في كل مورد يكون الماء طهوراً بالوضوء به أو الغسل.

نعم قد لا يناسب ذلك إهمال التيمم وعدم التنبيه له في جملة من النصوص الواردة في تعذر الأغسال المستحبة أو لزوم المشقة منها، كصحيح سليمان بن خالد: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) كم أغتسل في شهر رمضان ليلة؟ قال: ليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين. قال: قلت: فإن شقّ عليّ؟ فقال: في إحدى وعشرون وثلاث وعشرين. قال: قلت: فإن شقّ عليّ؟ قال: حسبك الآن"(2) ، وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" قال: اغتسل يوم الجمعة إلا أن تكون مريضاً أو تخاف على نفسك"(3) ، وقريب منه حديث زرارة(4). وفي موثق سماعة عن أبي عبد الله: "في الرجل لا يغتسل يوم الجمعة في أول النهار. قال: يقتضيه آخر النهار، فإن لم يجد فليقضيه من يوم السبت"(5). وكذا ما تضمن رفع غسل الجمعة عن النساء في السفر(6) ، خصوصاً بضميمة مرسلة الكليني، قال:" وفي رواية إنه رخص للنساء

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7، 14، 21، 24، 25 من أبواب التيمم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 11، 10.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 47

في السفر لقلة الماء"(1). فإن عدم التنبيه في هذه النصوص للتيمم قد يظهر في المفروغية عن عدم مشروعيته بدلاً عن هذه الأغسال. ومن ثم يشكل البناء على عموم البدلية.

ولاسيما وأن لازم بدليته عن الغسل المستحب إجزاؤه عن الوضوء مثله، نظير إجزاء التيمم بدلاً عن غسل الجنابة عن الوضوء. ومن الصعب جداً البناء على ذلك. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم. والحمد لله رب العالمين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

ص: 48

(49)

المبحث الخامس: في التيمم (1)

اشارة

وفيه فصول:

(1) وهو لغةً القصد، كما صرح به غير واحد. ومنه قوله تعالى: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" (1) وقوله تعالى: "فتيمموا صعيداً طيباً"(2). وعند المتشرعة نفس الأعمال الخاصة التي تحصل بها الطهارة الترابية، كما يشهد به النصوص الشارحة له(3) وغيرها. ومن ثم لا يتعدى عندهم إلى ما يتيمم به بنفسه، بل بالباء ومن.

ويدل على مشروعيته الكتاب المجيد والسنة المتواترة وإجماع المسلمين. قال الله عز وجل في سورة النساء:" يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفوراً"(4).

وقال سبحانه وتعالى في سورة المائدة: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو

********

(1) سورة البقرة الآية: 269.

(2) سورة النساء الآية: 43، وسورة المائدة الآية: 6.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم.

(4) سورة النساء الآية: 43.

ص: 49

لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون"(1).

وقد وقع الكلام من المفسرين منا ومن العامة في تفسير الآيتين الكريمتين، وتوجيههما بنحو يطابق القواعد الفقهية المعول عليها عند الطائفتين. فإنهما ظاهرتان بدواً في أن موضوع التيمم أمور أربعة بنحو البدلية، مع أن كلاً منها ليس موضوعاً له شرعاً، لوضوح أن السفر والمرض لا يسوغانه إلا مع الحدث وتعذر استعمال الماء. وهو لا يناسب عطف الحدثين الأكبر والأصغر عليهما ب - (أو) الظاهر في استقلال كل منها بالسببية.

ومن ثم اضطر بعضهم إلى حمل (أو) الثانية على معنى الواو، نظير ما يدعى في قوله تعالى:" وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون"(2). لكنه - لو صح لغة - مخالف للظاهر جداً، ويصعب حمل الآية المستشهد بها عليه، فضلاً عن آيتي التيمم لمخالفته للسياق، فإن (أو) الأولى والثالثة ليست بمعنى الواو قطعاً.

مضافاً في الإشكال في الآيتين إلى أن التقييد بعدم وجدان الماء إن رجع للأخرين فقط لزم إطلاق مشروعية التيمم للمسافر والمريض وإن تيسر لهما استعمال الماء، وإن رجع للكل أشكل بأن شرط مشروعية التيمم مع المرض إضرار الماء لا عدم وجدانه وحمل عدم وجدان الماء على الكناية عما هو الأعم من الإضرار من استعماله بعيد جداً.

مع أن لازم رجوعه للكل لغوية ذكر السفر والمرض، لعدم خصوصيتهما في مشروعية التيمم مع عدم وجدان الماء أو لزوم محذور منه، بل ذلك يجري في كل مكلف وإن كان حاضراً صحيحاً. وإن حكي عن أبي حنيفة عدم مشروعية التيمم له،

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

(2) سورة الصافات الآية: 147.

ص: 50

لدعوى قصور الآية عن شموله.

كما أن لازم رجوعه للكل الاستغناء عن ذكر ملامسة النساء بذكر الجنابة في صدر الكلام... إلى غير ذلك مما قيل في مقام الإشكال في تفسير الآيتين الشريفتين.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): "حكى الأردبيلي في آيات الأحكام عن كشف الكشاف أن الآية من معضلات القرآن" ونحوه حكى في تفسير المنار عن تفسير روح المعاني للآلوسي. وعن محمد عبده من المتأخرين: "وقد طالعت في تفسيرها خمسة وعشرين تفسيراً فلم أجد فيها غناءً، ولا رأيت قولاً فيها يسلم من التكلف".

وقد التزم برجوع التقييد بعدم وجدان الماء للأخيرين فقط مع إطلاق مشروعية التيمم للمسافر والمريض ولو مع وجدان الماء، نظير حالهما في الصوم. وتبعه في ذلك صاحب المنار. ونعى محمد عبده على الفقهاء الغفلة عن ذلك، وتقييدهم شرعية التيمم للمسافر بتعذر الماء، حتى شددوا فيه، وفي وجوب طلبه في السفر وما وضعوه لذلك من الحدود. مدعياً وضوح هذا المعنى وسلامة الآية عليه من أي ركاكة أو ضعف في التأليف، وأنه لا وجه لحمل الآية على ما يختاره الفقيه وإن لزم ما لزم من ضعف وركاكة. كما لا وجه لعدها من المعضلات. بل يلزم أخذ الحكم من ظاهرها.

لكن لا يخفى أن ما ذكره في السفر وارد في المرض، وهل يلتزم بكونه سبباً لتشريع التيمم وإن لم يضر معه الماء، كما حكي عن بعض شذاذ العامة؟! وهل يمكن دعوى ظهور الآيتين في ذلك؟! وإذا أمكن تنزيل المرض على ما يضرّ به الماء أمكن تنزيل السفر على ما يفقد به الماء، كما يحصل كثيراً في العصور السابقة.

على أنه لم يشر للإشكال الأول، وهو أن السفر والمرض إنما يجب معهما التيمم مع الحدث، فكيف يعطف سبب الحدث عليهما؟! وما نعاه على الفقهاء إنما يتجه إذا لم يكن لهم دليل على الحكم المخالف للظاهر، وإلا فلابدّ لهم من الجمع بين الأدلة عرفاً، ولو بالخروج عن ظاهرها.

ولعل الأولى في توجيه الآيتين الشريفتين أن المراد من القيام إلى الصلاة في الآية

ص: 51

الثانية هو القيام من النوم، كما تضمنه موثق ابن بكير: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله تعالى:" إذا قمتم إلى الصلاة "ما يعني بذلك؟ قال: إذا قمتم من النوم..."(1).

وذلك يناسب حمل الجنابة على الاحتلام. بل لعل الإجناب لغة خروج المني، وإلحاق الجماع به في حصول الجنابة شرعي، كما يناسبه ما في لسان العرب من تفسير الجنابة بالمني. بل قد يستشعر من بعض النصوص.

وحينئذٍ يكون صدر الآية متعرضاً لحدث النوم والاحتلام وعليهما يحمل فرض السفر والمرض، من دون حاجة للتصريح معهما بفرض الحدث كما يحمل السفر على صورة فقد الماء، والمرض على صورة الإضرار به، لمناسبتهما لهما ارتكازاً وبه يحافظ على خصوصية عنوانهما. وحينئذ يتجه عطف حدث الغائط أو الملامسة بعد تقيدها بفقد الماء على المرض والسفر، أو على القيام من النوم الذي حمل عليه صدر الآية، لكونهما موضوعين مستقلين للتيمم في قبال ذلك.

وعليه يستفاد من مجموع الآية مشروعية التيمم للحدث بالنوم والاحتلام، مع السفر الذي لا ماء معه، والمرض الذي يضربه الماء، وللحدث بالغائط والملامسة مع عدم الماء. وتلحق بقية الأفراد - كالمحتلم الحاضر الفاقد للماء، والمريض الملامس للنساء الذي يضرّ به الماء - بفهم عدم الخصوصية، أو بفهم مناط الحكم المستفاد من النصوص وغيرها.

وأما الآية الأولى فهي كالثانية إلا في عدم تعرض صدرها للحدث الأصغر، وليس هو محذوراً، بعد ما ظهر من عدم استيفاء الآيتين لتمام الأفراد على كل حال. بل بناء على سببية فقد العقل للحدث الأصغر، يكون فرض السكر فيها مساوقاً لفرض الحدث الأصغر، سواءً أريد به سكر النوم أم سكر الشراب، كما روي كل منهما(2).

وبذلك يندفع الإشكال في الآيتين الشريفتين. وقد أشار إلى ما ذكرنا في الجملة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(2) تفسير العياشي ج: 1 ص: 242، ومجمع البيان ج: 3 ص: 51.

ص: 52

في البحار والجواهر. ولا مجال لإطالة الكلام فيه وفي تعقيب ما ذكره مشايخنا (قدس الله أسرارهم) في المقام. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

ص: 53

ص: 54

(55)

الفصل الأول: في مسوغاته

ويجمعها العذر المسقط لوجوب الطهارة المائية (1)، وهو أمور:

(الأول): عدم وجدان (2) ما يكفيه من الماء (3) لوضوئه، أو غسله.

(1) كما تقدم في الفصل الرابع من مباحث المياه عند الكلام في الشك في إطلاق الماء. فراجع(1). ويأتي في المسألة الحادية عشر إن شاء الله تعالى ما ينفع في المقام.

(2) قد أطلق الأصحاب (رضي الله عنهم) مسوغية عدم وجدان الماء للتيمم. وفي الجواهر:" إجماعاً محصلاً ومنقولاً، من غير فرق فيه عندنا بين السفر والحضر، بل في الخلاف والمنتهى الإجماع عليه بالخصوص. كما أنه في الأخير الإجماع أيضاً على عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير ".وما نسب للسيد المرتضى من وجوب الإعادة على الحاضر - لو صدقت النسبة - ليس خلافاً في ما نحن فيه من مسوغية عدم وجدان الماء للتيمم.

وكيف كان فيقتضيه - مضافاً إلى الإجماع المذكور - الكتاب المجيد والسنة المستفيضة، بل المتواترة. نعم مرادهم بعدم الواجدان عدم واجدية المكلف له. ويأتي أن المراد به في ظاهر الكتاب المجيد عدم العثور عليه. وأنه يكفي في البناء على مشروعية التيمم.

(3) فإن المنساق من إطلاق عدم وجدان الماء هو عدم وجدان الماء الكافي لم

********

(1) مصباح المنهاج كتاب الطهارة ج: 1 ص: 439.

ص: 55

يجب على المكلف من وضوء أو غسل، بحيث يتحقق به الطهارة ولا أثر لوجدان ما دون ذلك، حتى لو قيل بجريان قاعدة الميسور في الوضوء والغسل، أو مطلقاً، لنهوض إطلاق مشروعية التيمم بفقد الماء بالحكومة عليها بعد ظهوره في إرادة الماء الكافي في الطهارة.

مضافاً إلى أن جريان قاعدة الميسور بلحاظ أعضاء الوضوء والغسل - لو قيل به - لا يقتضي تمامية الطهارة به. وذلك يستلزم مشروعية التيمم ولو منضماً للطهارة المائية الناقصة، لأن الشرط هو الطهارة التامة. على أنه لا قائل منّا بجريان قاعدة الميسور بالنحو المذكور.

ويشهد به في الجملة - مضافاً إلى ذلك - ما تضمن وجوب التيمم على الجنب إذا كان معه من الماء ما يكفيه لوضوئه(1) والظاهر عدم الخلاف فيه عندنا، بل ظاهر غير واحد وصريح آخر الإجماع عليه.

نعم قال العلامة في نهاية الأحكام:" لو وجد من الماء ما لا يكفيه لوضوئه لم يجب استعماله، بل تيمم... أما الجنب فيحتمل مساواته للمحدث. ووجوب صرف الماء إلى بعض أعضائه، لجواز وجود ما يكمل طهارته. والموالاة ساقطة هنا، بخلاف المحدث".

فإن كان مراده باحتمال صرف الماء إلى بعض أعضائه الاجتزاء به في الصلاة من دون حاجة للتيمم أشكل بما سبق. وإن كان مراده به ضم التيمم إليه لصلاة الوقت، ويكون غسل بعض الأعضاء من أجل احتمال إتمام الغسل للصلوات الآتية. فهو ليس خلافاً في المقام. ولا يخلو عن قوة، بناء على ما هو الظاهر من تمامية ملاك الطهارة المائية مع تعذر الماء، ولزوم حفظ القدرة بتهيئة المقدمة قبل الوقت، ووجوب الاحتياط مع الشك في القدرة.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التيمم.

ص: 56

(57)

(مسألة 1): إن علم بفقد الماء لم يجب عليه الفحص عنه (1)، وإن احتمل وجوده في رحله أو في القافلة لزمه الفحص (2)

(1) لعدم الموضوع له. ويأتي في آخر المسألة ما يأتي في المقام.

(2) على المعروف من مذهب الأصحاب، فإنه عين الطلب الذي صرحوا بوجوبه، وعدم الاجتزاء بالصلاة بدونه، حتى ادعى الإجماع عليه في الخلاف والغنية والتذكرة والمنتهى وجامع المقاصد وكشف اللثام والمدارك والرياض وظاهر المعتبر وعن التنقيح وغيره.

وكلام بعضهم وإن اختص بالمسافر، إلا أن الظاهر كونه بسبب غلبة ابتلائه بفقد الماء، أو لأنه الفرد الأخفى بسبب صعوبة الطلب عليه، أو لما فيه من التفصيل الذي تضمنته النصوص. حتى أن ما عن الأردبيلي من استحباب الطلب - لو صدقت النسبة - لا يراد به إلا استحبابه للمسافر، لبعض النصوص الآتية، لا لأنه مقتضى الأصل الأولي.

وكيف كان فيقتضيه موثق السكوني عن الإمام الصادق عن أبيه عن علي (عليهم السلام): "قال يطلب الماء في السفر إن كانت الحزونة فغلوة، وإن كانت سهولة فغلوتين. لا يطلب أكثر من ذلك"(1).

وقد يستدل عليه أيضاً بصحيح زرارة عن أحدهما (عليه السلام):" قال: إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم وليصل..."(2).

لكن رواه الشيخ بطريق آخر، وفيه: "فليمسك ما دام في الوقت" .فيكون أجنبياً عما نحن فيه. والظاهر اعتبار الطريق المذكور، إذ ليس فيه إلا القاسم بن عروة الذي تقدم تقريب الاعتماد على روايته عند الكلام في استحباب الغسل لدخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن هنا يتعين عدم التعويل على الصحيح المذكور للاضطراب في

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب التيمم حديث: 2، 1.

ص: 57

روايته.

على أنه لا يعرف القول من أحد بما تضمنه الطريق الأول من وجوب الطلب في تمام الوقت، وإن استحسنه في محكي المعتبر.

إلا أن يحمل على إرادة الترخيص في تأخير الطلب والصلاة ما دام في الوقت، فيكون أجنبياً عما نحن فيه، كما قد يناسبه عدم تحديد مبدأ الطلب. قال سيدنا المصنف (قدس سره): "إذ لا يظن إمكان الالتزام بأن مبدأه أول الوقت، ويمتد إلى وقت الفوت كما لا يظن الالتزام بأن مبدأه الصلاة، لأن ذلك يؤدي إلى عدم إرادة الصلاة إلا في آخر الوقت فراراً من كلفة الطلب" .وكيف كان فيكفي في وجوب الطلب موثق السكوني المعول عليه عند الأصحاب.

نعم في خبر علي بن سالم عن أبي عبد الله: "قلت له: أتيمم وأصلي... فقال له داود الرقي: أفأطلب الماء يميناً وشمالاً، فقال: لا تطلب الماء يميناً ولا شمالاً، ولا في بئر. إن وجدته على الطريق فتوضأ منه [به]، وإن لم تجده فامض"(1).

لكنه - مع ضعفه لجهالة علي بن سالم، وعدم وضوح كونه ابن أبي حمزة الذي عملت الطائفة برواياته في الجملة - محمول على الخوف، بقرينة حديث داود الرقي:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أكون في السفر فتحضر الصلاة وليس معي ماء، ويقال: إن الماء قريب منا، فأطلب الماء وأنا في وقت يميناً وشمالاً؟ قال: لا تطلب الماء، ولكن تيمم، فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك، فَتضل ويأكلك السبع"(2). ومعتبر يعقوب بن سالم عنه (عليه السلام): "عن رجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحو ذلك. قال: لا آمره أن يغرر بنفسه، فيعرض له لص أو سبع"(3). لظهورهما في أن عدم الطلب من المسافر من جهة الخوف، لا لعدم وجوبه في نفسه. ولاسيما مع قرب رجوع ما في خبر علي بن سالم من كلام داود الرقي مع الإمام (عليه السلام) إلى ما تضمنه حديث داود. ومع ظهور قوله (عليه السلام) في ذيل خبر علي بن سالم:" إن وجدته على الطريق

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التيمم حديث: 3، 1، 2.

ص: 58

فتوضأ منه [به]، وإن لم تجده فامض "في عدم وجوب طلب الماء خارج الطريق ولا في البئر حتى مع العلم بوجوده، ولا يظن بأحد الالتزام بذلك، وحمله على خصوص صورة الشك في وجوده ليس بأولى من حمله على صورة الخوف.

مضافاً إلى ما هو الظاهر من إعراض الأصحاب عن الخبر المذكور، لما سبق من إطباقهم على وجوب الطلب، حيث يكفي ذلك في وهنه. ومن هنا لا مخرج عن موثق السكوني، المعتضد باتفاق الأصحاب.

نعم هو مختص بالسفر، إلا أن إلغاء خصوصيته عرفاً قريب جداً، ولاسيما مع ظهور أن الطلب في السفر أشق منه في الحضر نوعاً، فوجوبه في السفر يستلزم وجوبه في الحضر بالأولوية العرفية الراجعة لمفهوم الموافقة. ومع ظهور الموثق في المفروغية عن وجوب الطلب، لعدم تعرضه له إلا في مقام تحديده، ولا منشأ للمفروغية ارتكازاً إلا الاهتمام بتحصيل الطهارة المائية خروجاً عن التكليف بها، ولا فرق في ذلك بين السفر والحضر.

على أنه قد يستفاد عموم وجوب الطلب من الآيتين الكريمتين، لأن عدم الوجدان عرفاً عبارة عن عدم العثور على الشيء بعد طلبه والفحص عنه، نظير عدم وجدان الضالة، لا ما يساوق عدم الجدة. ولاسيما بملاحظة التفريع المستفاد من الفاء في قوله تعالى:" فلم تجدوا ماء "،لظهور أن عدم الوجدان لو كان مساوقاً لعدم القدرة على الماء أو عدم واجديته فهو ليس مترتباً على حصول الحدث، بل قد يكون أسبق منه حصولاً، بخلاف ما لو كان بمعنى عدم العثور عليه بعد طلبه والفحص عنه، لظهور أن حصول الحدث لما كان سبباً للحاجة للماء كان الفحص عنه مرتباً عليه طبعاً، كما يكون عدم الوجدان المترتب على الفحص مترتباً عليه أيضاً.

وكأنه إلى هذا نظر في جامع المقاصد، حيث قال:" ولا ريب أن طلب الماء شرط لجواز التيمم. لظاهر قوله تعالى: "فلم تجدوا ماءً فتيمموا" ،وعدم الوجدان إنما يكون بعد الطلب".

ص: 59

ودعوى: أن موضوع التيمم ليس هو عدم الوجدان بهذا المعنى، بل بمعنى عدم القدرة على استعمال الماء، ولذا اكتفوا في التيمم بعدم القدرة على استعماله - ولو شرعاً لحرمة استعماله - وإن كان واجداً له بالمعنى المذكور. مدفوعة بأن عدم الوجدان بالمعنى المذكور وإن لم يكن موضوعاً للتيمم، بل موضوعه - كما تقدم قريباً ويأتي - هو سقوط التكليف باستعماله ولو مع القدرة عليه، كما في موارد الحرج والضرر الذي يجوز تحمله، إلا أن المستفاد من الآيتين بالتقريب المتقدم وبضميمة الأدلة الأخر أن عدم وجدان الماء بالمعنى المذكور - وهو المترتب على الفحص - مصحح شرعاً للبناء على عدم التكليف باستعماله للاكتفاء بالتيمم، فلا يجوز ظاهراً ترك الوضوء والاجتزاء بالتيمم إلا به، كما يكفي هو في ذلك وإن احتمل وجود الماء والقدرة عليه واقعاً.

نعم مع العلم بعدم وجود الماء أو عدم القدرة عليه مع وجوده لا يجب الفحص، لكن ليس لصدق عدم الوجدان عرفاً، أو لأن المراد بعدم الوجدان في المقام ما يعمّ ذلك، بل لعدم الموضوع للطلب وعدم الحاجة له، بعد إحراز سقوط التكليف باستعمال الماء بالعلم.

ومن ذلك يظهر اختلاط الأمر على صاحب المدارك، حيث قال:" فإن عدم الوجدان لا يتحقق عرفاً إلا بعد الطلب، أو تيقن عدم الإصابة".

هذا ولو غض النظر عن جميع ما تقدم كفى وجوب الفحص الأصل. وتقريبه: أن مقتضى إطلاق دليل الطهارة المائية عدم أخذ القدرة شرعاً في موضوعها، وإنما هي شرط فعلية التكليف، فمع الشك فيها يجب الفحص أو الاحتياط، كما في سائر موارد الشك في القدرة العقلية، ولا مجال للبراءة.

إن قلت: مقتضى أخذ عدم وجدان الماء في موضوع التيمم أخذ وجدانه والقدرة عليه في موضوع الطهارة المائية، لأن التفصيل قاطع للشركة، فمع الشك في وجود الماء وفي القدرة عليه يشك في التكليف، والأصل البراءة، كما لو شك في تمامية استطاعة الحج. بل مقتضى استصحاب عدم الماء وعدم القدرة عليه ولو أزل

ص: 60

هو سقوط الطهارة المائية ومشروعية التيمم. وبه يستغنى، عن أصل البراءة.

نعم لا مجال لذلك مع سبق القدرة على الماء، لأن مقتضى استصحابها حينئذٍ هو وجوب الطهارة المائية وعدم مشروعية التيمم. لكنه يختص بما إذا كان الماء الذي يشك في القدرة عليه عين الماء الذي علم بسبق المقدرة عليه، أما إذا كان غيره فاستصحاب القدرة على الماء يكون من القسم الثالث لاستصحاب الكلي الذي لا يجري على التحقيق.

قلت: مجرد أخذ عدم القدرة على الماء أو غير ذلك في موضوع مشروعية التيمم لا يستلزم تقييد موضوع الطهارة المائية، لإمكان اجتماع مشروعية التيمم أو وجوبه مع تمامية موضوع الطهارة المائية وتمامية ملاكها، نظير الخطاب بالضد عند تعذر ضده الأهم. ولاسيما مع كون بدلية التيمم اضطرارية، حيث يناسب ذلك عدم وفائه بتمام ملاك المائية مع فعلية الملاك المذكور.

وحينئذٍ فاستصحاب عدم القدرة على الماء وإن أحرز موضوع التيمم، إلا أنه لا يحرز ارتفاع موضوع الطهارة المائية، بل ولا ارتفاع الخطاب بها، بل غايته أن يشك في فعلية الخطاب، للشك في القدرة المعتبرة عقلاً، الذي عرفت أن المرجع في مثله الاحتياط.

نعم ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن استصحاب عدم القدرة على الماء وإن لم يحرز عدم وجوب الطهارة المائية، إلا أنه حيث كان محرزاً لمشروعية الطهارة الترابية، وكانت مشروعيتها بعنوان البدلية عن الطهارة المائية، فهي صالحة للمعذرية عنها، ومانعة من حكم العقل بوجوب الاحتياط فيها مع احتمال القدرة عليها.

لكنه يشكل بأن البدلية المذكورة لما كانت اضطرارية، مبنية على عدم وفاء البدل بتمام ملاك المبدل، فإحرازها لا يصلح للمعذرية عن التكليف بالمبدل بعد إحراز موضوعه واحتمال فعليته تبعاً لاحتمال القدرة عليه، على ما تقدم توضيحه عند

ص: 61

(62)

إلى أن يحصل العلم والاطمئنان بعدمه (1)، وإن احتمل وجوده في الفلاة وجب عليه الطلب فيها بمقدار (2) رمية سهم في الأرض

الكلام في الشك في إطلاق الماء من الفصل الرابع من مباحث المياه(1).

هذا مضافاً إلى ما تقدم هناك - وأشرنا إليه تبعاً لسيدنا المصنف (قدس سره) هنا عند ذكر الجامع بين مسوغات التيمم - من أن موضوع التيمم ليس هو عدم القدرة على الماء، بل مجرد عدم التكليف بالطهارة المائية، ولا أصل يحرز ذلك، على ما تقدم توضيحه هناك، بل مقتضى حكم العقل تنجز احتمال التكليف به، تبعاً لاحتمال القدرة على امتثاله، كما سبق. فراجع وتأمل جيداً.

(1) أما بناء على عموم حجية الاطمئنان فظاهر. وأما بناء على عدمه - كما هو التحقيق - فقد يوجه بصدق عدم الوجدان بالمعنى المتقدم، وبأن تحري العلم والاقتصار عليه في مثل المقام مما يحتمل فيه الضياع والنسيان مستلزم للحرج بنحو يعلم بعدم تكليف الشارع به. ولاسيما بملاحظة تسامحه في طلب الماء للمسافر، فلم يكلف بما يلازم الاطمئنان بالعدم، فضلاً عن العلم.

نعم المتيقن من ذلك ما إذا تعذر تحصيل العلم، لاحتمال النسيان ونحوه. أما مع إمكان تحصيله باستكمال الفحص فالاكتفاء بالاطمئنان - بناء على عدم حجيته في نفسه - لا يخلو عن إشكال.

(2) فإن المعروف بين الأصحاب الاكتفاء بالغلوة والغلوتين، ونسب للمشهور في كلام جماعة، بل عن الغنية وظاهر التذكرة وعن إرشاد الجعفرية الإجماع عليه. ويقتضيه موثق السكوني المتقدم عند الكلام في وجوب الطلب. قال في المعتبر:" والتقدير بالغلوة والغلوتين رواية السكوني، وهو ضعيف، غير أن الجماعة عملوا بها. والوجه أنه يطلب الماء من كل جهة يرجى فيها الإصابة، ولا يكلف التباعد بما يشق.

********

(1) مصباح المنهاج كتاب الطهارة ج: 1 ص: 439.

ص: 62

ورواية زرارة تدل على أنه يطلب دائماً ما دام في الوقت حتى يخشى الفوات. وهو حسن. والرواية واضحة المعنى".

وهو كما ترى، إذ لا يقدح ضعف الرواية مع عمل الأصحاب بها، كما تقدم منّا غير مرة، وصرح به هو (قدس سره). على أن الظاهر اعتبار سند رواية السكوني المذكورة، لأن الشيخ (قدس سره) رواها بسنده الصحيح عن الصفار - الذي هو ثقة جليل - عن إبراهيم بن هاشم - الثقة بشهادة ولده وابن قولويه، ولأنهم ذكروا أنه أول من نشر حديث الكوفيين بقم، بنحو يظهر منهم قبول القميين لروايته حتى حكي عن ابن طاووس دعوى الاتفاق على وثاقته - عن النوفلي عن السكوني الثقتين، بشهادة علي بن إبراهيم وابن قولويه. ولما ذكره الشيخ (قدس سره) في العدة من عمل الأصحاب بروايات السكوني وإن كان عامياً، لوثاقته في نفسه. بل قد يظهر من ذلك عملهم بروايات النوفلي، لأنه هو الراوي لكتاب السكوني. وبها يخرج عن القاعدة المقتضية لما ذكره أولاً من الطلب ما لم يشق.

وأما رواية زرارة فهي عبارة عن صحيحه الذي تقدم عند الكلام في وجوب الطلب وتقدم اضطراب متنه وقوة احتمال حمله على بيان وقت الطلب، لا بيان مقداره فراجع. وحينئذ لا يعول عليها في قبال حديث السكوني.

ومنه يظهر ضعف ما في الخلاف وعن غيره من إطلاق وجوب الطلب الظاهر في أن حدّه اليأس. إلا أن يراد به وجوبه في الجملة في مقابل عدم وجوبه، كما لعله ظاهر بعضهم.

ومثله ما في المبسوط والنهاية من إطلاق وجوب الطلب رمية سهم أو سهمين، الظاهر في التخيير بينهما عملاً، الراجع لوجوب الطلب في مقدار رمية واحدة، واستحباب الزيادة فيه حتى يبلغ مقدار رميتين. إلا أن تحمل (أو) في كلامه على التقسيم إشارة إلى التفصيل المتقدم.

هذا والظاهر من النص تحديد مقدار السعي لتحصيل الماء، لا تحديد المكان

ص: 63

الحزنة (1)، وسهمين في الأرض السهلة، في الجهات الأربع (2) إن

الذي يبحث عن وجود الماء فيه، فلا يجتزأ بالعلم بعدم وجود الماء في مقدار سعة الغلوة أو الغلوتين إذا احتمل وجوده أبعد من ذلك، والإطلاع عليه بالطلب في المقدار المذكور بسبب امتداد البصر.

ثم إن مقتضى ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من جعل موضوع التحديد بالغلوة والغلوتين الفلاة عدم الفرق بين المسافر وغيره كالمتوطن في موضع من الفلاة. بل مقتضى إطلاق بعضهم العموم حتى لغير المسافر في غير الفلاة.

وهو غير ظاهر، لاختصاص الرواية بالمسافر، والتعدي لغيره يحتاج إلى دليل. ولا مجال لإلغاء خصوصية المسافر عرفاً بعد إمكان خصوصيته بمزيد من الإرفاق، لإجهاد السفر له، وحاجته للمبادرة بقطع المسافة.

نعم لا يختص بالمسافر سفراً يوجب القصر، بل يعم غيره، حتى من عمله السفر، أو كان بيته معه، كالأعراب الرحل. كما أن الموثق ينصرف أيضاً للفلاة، بلحاظ وصف الأرض بالسهولة والحزونة، ولا يعم ما إذا مرّ المسافر في طريقه بقرية أو مدينة، بل المرجع فيه القاعدة، المقتضية للطلب حتى اليأس، كأهل القرية أو المدينة التي مرّ بها.

(1) ظاهره كالنص إرادة وعورة الأرض. وعممه في جامع المقاصد والمسالك والرياض والجواهر وغيرها لما إذا كان فيها شجر. وهو غير ظاهر. إلا أن يستلزم صعوبة الطلب، فقد يلحق بالحزنة، لفهم عدم الخصوصية. فتأمل.

(2) كما صرح به جماعة كثيرة، ونسب للأشهر والمشهور، وهو المصرح به في معقد إجماع الغنية والتذكرة المشار إليه آنفاً. وقد يحمل عليه ما في المقنعة وعن الحلبي من الاقتصار على اليمين واليسار والأمام وإهمال الخلف، بلحاظ أنه قد عرف حاله عند سيره. كما ربما يكون الاقتصار في النهاية والوسيلة على اليمين واليسار بلحاظ أن

ص: 64

احتمل وجوده في كل واحدة منها، وإن علم بعدمه في بعض معين من الجهات الأربع لم يجب عليه الطلب فيها (1)، فإن لم يحتمل وجوده إلا في جهة معينة وجب عليه الطلب فيها دون غيرها (2)، والبينة بمنزلة

الأمام في الطريق المسلوك كثيراً ما يكون منكشفاً بحيث يعرف حاله بمجرد النظر.

وكيف كان فمن الظاهر أن النص إنما تضمن مقدار امتداد الطلب، دون الجهة التي يقع فيها. إلا أنه حيث كان موضوع الطلب ارتكازاً هو مورد احتمال وجود الماء فالمستفاد من إطلاق النص لزوم طلب الماء في جميع موارد احتمال وجوده بالامتداد المذكور، من دون تخصيص بجهة.

ولعل هذا هو مراد المشهور أو الكل، حيث لا إشكال ظاهراً في عدم إرادتهم الطلب في جهة لا يحتمل وجود الماء فيها، كما أن الظاهر عدم إرادتهم الاقتصار في الطلب على الخطوط المتجهة للجهات الأربع، من منزل المكلف، بل مرادهم من الطلب في كل جهة الطلب في تمام ربع الدائرة الواقع في تلك الجهة بحيث لو احتمل وجود الماء في جميع نقاط الدائرة لوجب استيعابها بالطلب والفحص.

هذا وأما احتمال كون مجموع السير غلوة ولو متفرقة في جميع الجهات، فهو مخالف للظاهر جداً. لقوة انصراف التحديد لإرادة مقدار امتداد السير، لا مجموعه.

(1) لعدم الموضوع له، كما تقدم فيما لو علم بعدم وجود الماء أصلاً.

(2) لما تقدم في سابقه. ومنه يظهر عدم وجوب الطلب في السفر أصلاً لو علم بعدم الماء، كما صرح به غير واحد، وفي مفتاح الكرامة: "لا أجد فيه خلافاً إلا من الشافعي في أحد وجهيه" وفي الحدائق: "والظاهر إنه لا خلاف فيه بين أصحابنا رضوان الله عليهم".

لكن عن قواعد الشهيد والمعالم والحبل المتين وجوب الطلب حينئذٍ، لإطلاق دليله. وهو كما ترى إذ لا موضوع للطلب مع العلم بعدم المطلوب حتى لو قيل بأن

ص: 65

(66)

العلم (1) فإن شهدت بعدم الماء في جهة أو جهات معينة لم يجب الطلب فيها.

(مسألة 2): في جواز الاستنابة في الطلب إشكال (2) إلا أن يحصل العلم من طلب غيره وإن لم يكن نائباً عنه.

وجوبه في المقام نفسي. ومع أن الظاهر أنه طريقي أو مقدمي، على ما يأتي في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى. على أن النسبة لمن سبق لا تخلو عن إشكال.

(1) لظهور أن وجوب الطلب طريقي من أجل إحراز عدم الماء أو مقدمي من أجل الوصول للماء، فمع إحراز عدم الماء، بالبينة - بمقتضى عموم دليل حجيتها، الذي تقدم الكلام فيه في المسألة التاسعة عشرة من مباحث الاجتهاد والتقليد - يتعين سقوط وجوب الطلب والاجتزاء به في الخروج عما تقدم من القاعدة المقتضية للفحص.

(2) كما في التذكرة، بل منع في المنتهى من الاجتزاء بطلب الغير وإن كان قد أمره به. لكن صرح بجواز الاستنابة في جامع المقاصد والمسالك والروضة، وحكي عن الشهيد الأول. ويرجع إليه ما في نهاية الأحكام من الاجتزاء بطلب الغير الثقة إذا أمره أو أذن له، دون ما إذا لم يأذن له فيه.

هذا ولا يخفى أن المنساق من النص كون الطلب لأجل إحراز عدم الماء، وحيث كان إحرازه وظيفة المكلف الذي يريد التيمم كان ظاهره اعتبار إحرازه سواءً كان بطلبه بنفسه أم بطلب غيره، أم من دون طلب. وحينئذ يتعين اجتزاء المكلف بطلب الغير إذا حصل له اليأس من طلبه لوثوقه بصدقه ومعرفته، سواء استنابه أو أذن له أم لا، لأن الطلب طريقي من أجل إحراز عدم الماء، أو مقدمي من أجل الوصول له، فمع إحرازه عدمه لا موضوع لطلبه له بنفسه. أما مع عدم حصول اليأس من طلبه فالمتعين عدم اجتزائه به وإن حصل اليأس للطالب نفسه. لأن اجتزاءه به حينئذ يحتاج إلى دليل. ويدفعه الأصل المتقدم.

ص: 66

(مسألة 3): إذا أخل بالطلب وتيمم صح تيممه إن صادف عدم الماء (1).

ودعوى: أن مقتضى السيرة الاجتزاء بطلب الغير، لما هو المعلوم من عدم انشغال جميع أهل القافلة سابقاً بالطلب، خصوصاً النساء والعجزة ممن يصعب عليهم ذلك، بل يجتزئون بطلب غيرهم. مدفوعة بأن المتيقن منها ما إذا حصل اليأس للباقين من طلب غيرهم لا مطلقاً.

وأما ما ذكره غير واحد من أن الاستنابة إنما تكمن مشروعيتها في الواجبات النفسية والغيرية، حيث قد يتجه احتمال الاجتزاء في الامتثال بفعل النائب، أما في الواجبات الطريقية - ومنها المقام - فلا موضوع للنيابة، بل المعيار فيه اليأس الذي لابد من حصوله للمكلف نفسه من أي سبب فرض. فهو لا يخلو عن إشكال، بل الظاهر أن المعيار في جميع أقسام الواجب على ظهور دليل الخطاب فيما يعم فعل النائب وعدمه. على أنه قد أشرنا إلى احتمال كون وجوب الطلب مقدمياً من أجل تحصيل الماء. فتأمل جيداً.

(1) لتحقق موضوعه وهو عدم الماء، أو عدم وجوب الطهارة المائية، على ما تقدم عند الكلام في مقتضى الأصل في حكم الطلب. وأما الطلب فهو إما واجب طريقي من أجل معرفة الموضوع المذكور، أو واجب مقدمي من أجل تحصيل الماء للطهارة الواجبة، ولا موضوع له مع عدمه.

لكن صرح غير واحد بالبطلان، وفي الجواهر: "قطعاً وإجماعاً منقولاً إن لم يكن محصلاً. لما عرفت سابقاً من الأدلة الدالة على اشتراط صحة التيمم به. ولا فرق في ذلك بين أن يصادف عدم الماء بعد الطلب وعدمه. كما أنه لا فرق فيه بين العالم والجاهل والناسي وغيرهم، قضاءً للشرطية السابقة... فما عساه يظهر من بعض فروع التحرير من الحكم بالصحة لو صادف عدم الماء ليس في محله. مع احتمال إرادته ما ليس نحن فيه...".

ص: 67

(68)

(مسألة 4): إذا علم بوجود الماء خارج الحدّ المذكور وجب السعي إليه وإن بعد (1)

وهو كما ترى مبني على حمل الأمر بالطلب على كونه مقدمياً بلحاظ شرطيته لمشروعية التيمم، أو لصحته كطهارة ترابه. لكنه خلاف المنسبق من دليل الطلب. وأما الإجماع المدعى فهو - لو تم - قد يرجع إلى عدم الاجتزاء بصلاته ظاهراً لاحتمال وجود الماء، لا عدم الاجتزاء بها واقعاً وإن صادف عدم وجود الماء. نعم لابد من تحقق قصد القربة، كما يأتي.

(1) كما في التذكرة والمنتهى ونهاية الأحكام وجامع المقاصد والروض وكشف اللثام والمدارك وغيرها. وكأنه لإطلاق دليل الطهارة المائية المفروض القدرة عليها، بعد حمل تحديد الطلب على صورة الشك. ومن ثم قيل إنه واجب طريقي.

لكن الظاهر أن طلب الشيء ليس عبارة عن الفحص عنه، ليختص بحال الشك فيه، بل هو السعي له ومحاولة تحصيله، والفحص عنه مع الشك فيه لازم لذلك، لأنه مقدمة له. فيكون وجوب الطلب مقدمياً من أجل تحصيل الطهارة المائية، لا طريقياً، والواجب الطريقي هو الفحص في ضمن الحدّ لا غير. وإلا فكون عدم وجدان الماء في داخل الحدّ طريقاً محرزاً لعدمه مطلقاً ولو في خارجه لا يناسب المرتكزات ويصعب حمل النص عليه جداً.

وحينئذٍ يكون مرجع التحديد تقييد القدرة المعتبرة في فعلية وجود الطهارة المائية بالقدرة في ضمن الحدّ، ومقتضاه عدم وجوب الطلب فيما زاد على الحدّ وإن علم بوجود الماء فيه.

ولعله إليه يرجع ما في الجواهر من أن دليل التحديد مقيد لعدم الوجدان بما إذا كان في الحدّ، وهو صادق حتى مع العلم بوجوده في خارج الحدّ، لولا الإجماع أو غيره.

ص: 68

إلا أن يلزم منه مشقة عظيمة (1)، وكذا الحال إذا حصل الاطمئنان بوجود الماء في خارج الحدّ (2) على الأحوط وجوباً.

اللهم إلا أن يقال: التحديد وإن اقتضى تقييد القدرة المعتبرة في الطهارة المائية بالقدرة على الماء الموجود في الحدّ دون الموجود خارجه، إلا أن دليل التحديد ينصرف إلى ما إذا لم يعلم بوجود الماء، أما مع العلم بوجوده في مكان معين فالسعي لتحصيله ليس طلباً عرفاً، لابتناء الطلب عرفاً على الفحص عن المجهول. ومع قصور دليل التحديد يتعين الرجوع لإطلاق دليل الطهارة المقتضي لوجوب السعي لتحصيل الماء من مكانه المعلوم.

نعم إذا علم بوجود الماء خارج الحدّ مع الجهل بموضعه بنحو يحتاج إلى طلبه والفحص عنه كان مقتضى دليل التحديد عدم وجوب طلبه والفحص عنه.

(1) بحيث يدخل في نفي الحرج المسقط للتكليف. لكن الإنصاف أن اعتبار ذلك مقلل لفائدة التحديد جداً.

(2) كما قد يستفاد مما في التذكرة من وجوب طلب الماء إذا دل عليه في خارج الحدّ، وما في كشف اللثام من إطلاق وجوبه عند أمارة تدل عليه من خضرة وقصد طير ونحوهما، إذا دل عليه. وفي الجواهر: "قد يتردد في الظن الذي تطمئن به النفس، بل هو علم عرفي، من حيث عدم احتمال شمول الرواية لمثله".

وهو قريب لو كان وجوب الطلب طريقياً لإحراز عدم الماء مطلقاً. حيث يبعد جداً عموم جعل عدم العثور على الماء في داخل الحدّ طريقاً لإحراز عدمه مطلقاً ولو في خارج الحدّ لما إذا حصل الاطمئنان بوجوده في خارج الحدّ. بل لو قيل بحجية الاطمئنان في نفسه فالأمر أظهر. أما بناء على ما سبق منّا فينحصر الوجه فيه بعموم الإنصراف المشار آنفاً لصورة الاطمئنان، كما هو غير بعيد.

هذا وفي جامع المقاصد وكشف اللثام والروض الاكتفاء بظن وجود الماء في

ص: 69

(70)

(مسألة 5): إذا طلب الماء قبل دخول الوقت فلم يجد لم تجب إعادة الطلب بعد دخول الوقت (1)،

خارج الحدّ في وجوب طلبه. ولا يظهر وجهه مع إطلاق دليل التحديد حتى لو حمل كون وجوب الطلب طريقياً. إلا أن يدعى قيام الظن مقام العلم في الشرعيات. وهو كما ترى.

وأضعف منه ما عن المنتهى من الاكتفاء بتوهم وجوده الذي هو دون الشك. لأنه إلغاء لدليل التحديد رأساً، إذ مع عدم احتمال وجوده لا يجب الطلب حتى في داخل الحدّ. وإن كان الموجود في المنتهى - فيما عثرت عليه - هو وجوب توهم قرب الماء منه، لا مع توهم مطلق وجوده، فيخرج عما نحن فيه.

(1) لأن الطلب حيث يكشف عن عدم الماء في الحدّ فلا يفرق في كشفه عنه بين أوقات وقوعه. خلافاً لما في المعتبر والمنتهى والمدارك. ومقتضى ما صرحوا به من عدم وجوب الطلب مع العلم بعدم الماء اختصاص ذلك بما إذا احتمل وجود الماء، إما لاحتمال قصور في الطلب والفحص، أو لاحتمال تجدد الماء وإن كان احتمال أحد الأمرين لا يعتنى به لو كان الطلب في الوقت.

وحينئذٍ فقد استدل عليه في الجواهر وغيره بوجوه:

الأول: ظاهر ما دل على وجوبه، حيث لا يجب إلا في الوقت فلا يجزيء إلا إذا وقع بعده.

وفيه: أنه بعد أن كان المفروض عدم قدح الاحتمال الحاصل مع الطلب في الوقت فلابد أن يكون اكتفاء الشارع بالطلب مبنياً على اكتفائه في إحراز عدم القدرة على الماء باليأس الحاصل منه، فمع بقاء اليأس المذكور بعد الوقت لا موضوع للفحص. ومجرد عدم وجوب الطلب قبل الوقت لا ينافي الاجتزاء بفائدته المستمرة بعده.

ص: 70

على أن عمدة دليل وجوب الطلب هو حديث السكوني، ولا ظهور له في الخطاب به وإيجابه ليختص بما بعد الوقت، بل المفروغية عنه الظاهرة في توقف مشروعية التيمم عليه ولو ظاهراً.

الثاني: توقف صدق عدم الوجدان حين التيمم على الطلب بعد الوقت، ولاسيما بعد ظهور الآية في اعتبار عدم الوجدان حين القيام للصلاة وإرادة التيمم لها.

وفيه: أن المراد بعدم الوجدان إن كان هو عدم القدرة على الماء فقد سبق أن الاجتزاء بالطلب يستلزم الاجتزاء في إحراز عدم القدرة باليأس الحاصل من الطلب، وهو الباقي بعده حين القيام للصلاة. وإن كان هو عدم العثور عليه المتفرع على الفحص - كما سبق منّا عند الكلام في وجوب الطلب - فمن الظاهر أن عدم الوجدان بالمعنى المذكور ليس موضوعاً لوجوب التيمم، بل هو مصحح للبناء على تحقق موضوعه بلحاظ استلزامه اليأس، والمفروض حصوله في محل الكلام بعد الوقت وحين القيام للصلاة.

كيف ولو بني على الجمود على ذلك لزم عدم الاجتزاء بالطلب بعد الوقت مع الفصل المعتد به بينه وبين التيمم للصلاة، خصوصاً إذا كان بداع آخر كالشرب والتنظيف. ولا يظن التزام أحد بذلك.

الثالث: صحيح زرارة المتضمن الأمر بالطلب مادام في الوقت. وكأنه لحمله على إرادة بيان وقت الطلب، لا أمده ومقداره، لما سبق عند الكلام في وجوب الطلب. وهو كما ترى لعدم التعرض في الصحيح لمبدأ وقت الطلب، بل منتهى وقته فلا ينافي تقديمه على الوقت.

الرابع: إنه لو اكتفي به قبل الوقت لزم الاكتفاء بالطلب الواحد لأيام كثيرة. وفيه: أنه لا محذور في البناء على ذلك، بل صرح به غير واحد، كما يأتي. ومن هنا لا مخرج عما سبق.

ص: 71

إلا أن يحتمل العثور على الماء لو أعاد الطلب لاحتمال تجدد وجوده احتمالاً معتداً به فتجب إعادته حينئذٍ (1)، وإذا انتقل عن ذلك المكان فلا إشكال في وجوب الطلب مع احتمال وجوده (2).

(1) لما سبق من أن الاكتفاء بالفحص حين الطلب بلحاظ الاجتزاء باليأس الحاصل منه، فمع ارتفاع اليأس يتعين عدم الاجتزاء به. وأما استصحاب عدم تجدد الماء فلا مجال للتعويل عليه لما سبق عنه الكلام في دليل وجوب الطلب. ومنه يظهر لزوم إعادة الطلب مع الاحتمال المذكور حتى لو وقع بعد الوقت.

(2) كما قطع به غير واحد. واستدل عليه سيدنا المصنف (قدس سره) بإطلاق النص. وفيه: أن حديث السكوني وارد لبيان مقدار الطلب، وظاهره المفروغية عن وجوبه من دون أن يكون له إطلاق في ذلك. فالعمدة ما سبق من القاعدة المقتضية لوجوب الطلب.

نعم قد يدعى عدم وجوب الطلب مع عدم انتقاض التيمم الحاصل قبل الانتقال. للنصوص المتضمنة عدم انتقاض التيمم إلا بالحدث أو إصابة الماء(1) ، كصحيح زرارة: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): يصلي الرجل بتيمم واحد صلاة الليل والنهار كلها؟ فقال: نعم، ما لم يحدث أو يصب الماء"(2) ، وغيره. فإن مقتضى إطلاقها عدم انتقاض التيمم مع عدم إصابة الماء ولو كان لعدم الطلب.

لكنه وارد لبيان أن التيمم من شأنه الاستمرار، من دون نظر لمشروعيته في نفسه وتحقق موضوعها، وهو عدم التكليف بالطهارة المائية. وحينئذٍ لا ينهض بنفي وجوب الطلب بعد ما سبق من أن مقتضى النص والأصل وجوبه احتياطاً للطهارة المائية الواجبة بالأصل والتامة الملاك، والتي يرجع الشك في وجود الماء للشك في

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19، 20 من أبواب التيمم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 72

(مسألة 6): إذا طلب بعد دخول الوقت لصلاة يكفي لغيرها من الصلوات (1)، فلا تجب إعادة الطلب عند كل صلاة إن لم يحتمل العثور مع الإعادة احتمالاً معتداً به (2).

(مسألة 7): المناط في السهم والرمي والقوس والهواء والرامي هو المتعارف المعتدل، الوسط في القوة والضعف (3).

القدرة عليها، لا للشك في تحقق موضوعها وتمامية ملاكها.

نعم لو طلب المتيمم في المقام الماء فلم يجده، وأحرز أن وظيفته التيمم، لكن احتمل بطلان تيممه لمروره في الطريق بالماء بنحو يقدر على استعماله وإن لم يره لعدم طلبه له، كان مقتضى استصحاب عدم القدرة على الماء عدم انتقاض تيممه، فله أن يصلي به. فلاحظ.

(1) كما يظهر مما تقدم من المسألة السابقة.

(2) لأن الطلب لا يوجب اليقين، وإنما يحصل معه اليأس الذي يجتمع مع الاحتمال غير المعتد به. بل لم يستبعد في جامع المقاصد الاكتفاء بالظن القوي، لأن مناط أكثر الشرعيات الظن. وإن لم يخل ما ذكره عن الإشكال، لعدم وضوح التعويل في الشرعيات على الظن من دون دليل خاص، ومعه يلزم الاكتفاء بمطلق الظن وإن يكن قوياً. فلاحظ.

(3) لأن ذلك هو المفهوم من الإطلاق في مقام التحديد فيما يتردد بين الأقل والأكثر بعد العلم بعدم إرادة المسمى. ومع اختلاف أفراده في المساحة يتعين الاكتفاء بالأقل، خلافاً لما في كشف اللثام من تعيين الأبعد، وفي الجواهر من التردد بينه وبين الوسط. لصدق الإطلاق بالأقل.

هذا وفي كشف اللثام:" ثم ما ذكرناه في معنى الغلوة هو المعروف. وفي العين والأساس أن الفرسخ التام خمس وعشرون غلوة. وفي المغرب المعجم عن الأجناس

ص: 73

(74)

(مسألة 8): يسقط وجوب الطلب في ضيق الوقت (1). كما يسقط إذ

عن ابن شجاع أن الغلوة قدر ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة ذراع. وفي الارتشاف أنها مائة باع، والميل عشرة غلاء ".ولا يخفى أن التقديرات المذكورة لا تنافي ما سبق، بل هي مبنية على بيان مقداره. نعم هي تحتاج إلى إثبات بتجربة واستقراء غير ميسور لنا.

(1) كما صرح به غير واحد. وهو ظاهر بناءً على أن ضيق الوقت من مسوغات التيمم ولو مع القدرة على الماء. وأما بناء على عدمه فيدل عليه صحيح زرارة المتقدم عند الكلام في وجوب الطلب، بناءً على روايته هكذا:" فليطلب الماء ما دام في الوقت... "(1) كما قد يشير إليه في حديث داود الرقي:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أكون في السفر، فتحضر الصلاة وليس معي ماء، ويقال: إن الماء قريب منا، فأطلب الماء وأنا في وقت يميناً وشمالاً؟ قال: لا تطلب..."(2). لإشعار تنصيص السائل على بقاء الوقت بمفروغيته عن عدم وجوب الطلب مع ضيق الوقت. مضافاً إلى صدق عدم وجدان الماء، فإنه وإن توقف على الفحص - كما سبق - إلا أنه يكفي فيه أدناه.

وبعبارة أخرى: المراد بعدم الوجدان عدم وجدان الماء الذي يحتاجه، وهو خصوص الماء الذي يؤدي به الصلاة في الوقت، وهو في مفروض المسألة الماء القريب منه، الذي يكفي في الفحص عنه الفحص في المواضع القريبة، ومع العلم بعدمه فيها يستغنى عن الفحص، كما يستغنى عنه مع العلم بعدم الماء مطلقاً.

وأما التحديد بالغلوة والغلوتين فهو قاصر عن مفروض الكلام، لأن المراد به الطلب لأجل الصلاة الأدائية، ولا موضوع له في المقام.

ومن ذلك يظهر ضعف ما حكاه في التذكرة عن بعض علمائنا من وجوب السعي لتحصيل الماء مستدلاً بقوله تعالى: "فلم تجدوا".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 74

(75)

خاف على نفسه أو ماله (1) من لصّ أو سبع أو نحو ذلك. وكذا إذا كان في طلبه حرج ومشقة لا تتحمل (2).

(مسألة 9): إذا ترك الطلب حتى ضاق الوقت عصى (3)، لكن

كما يظهر مما تقدم أنه لو وسع الوقت الفحص فيما دون الحدّ وجب، لا لنصوص التحديد، بل عملاً بالقاعدة المقتضية لوجوب الطلب، وليصدق عدم الوجدان بالمعنى المتقدم، وهو المترتب على الفحص. كما يظهر عدم اختصاص ما سبق بالمسافر، بل يجري في غيره مِن مَن يلزم من طلبه الماء فوت الوقت.

(1) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه النصوص المتضمنة لعدم وجوب الطلب المحمولة على الخوف، كما صرح به في بعضها. وقد تقدمت عند الكلام في وجوب الطلب.

(2) لعموم نفي الحرج المقتضي لسقوط الطهارة المائية، الذي هو المعيار في مشروعية التيمم، كما سبق في أول هذا الفصل.

(3) الظاهر عدم الإشكال فيه في الجملة، وإن عبر جماعة بأنه أخطأ. والوجه فيه ما سبق من عموم موضوع الطهارة المائية، وعدم كون القدرة معتبرة فيها شرعاً، بل عقلاً من دون أن تكون دخيلة في ملاكها، فتعجيز النفس عنها بترك الطلب حتى يضيق الوقت بحكم المعصية.

نعم هو موقوف على سبق القدرة عليها، بأن يكون الماء موجوداً في الواقع بحيث يعثر عليه بالفحص، أما لو لم يكن موجوداً فلا تكليف بالطهارة المائية ولا تعجيز. لكن حيث فرض الجهل بالحال، وكان الاحتياط مع الشك في القدرة واجباً كان احتمال التكليف بها منجزاً وإن لم يكن التكليف ثابتاً، فالإقدام على التعجيز معه مردد بين التجري والمعصية لتكليف منجز. ولعله لذا عبر جماعة بأنه يكون مخطئاً. نعم بناء على وجوب الطلب نفسياً يلزم العصيان على كل حال. لكن تقدم ضعف ذلك.

ص: 75

الأقوى صحة صلاته حينئذٍ (1)

(1) كما صرح به المحقق وجماعة ممن تأخر عنه، بل في المدارك والحدائق أنه المشهور، وعن الروض نسبته لفتوى الأصحاب. والعمدة فيه صدق عدم الوجدان بالتقريب المتقدم في المسألة السابقة.

لكن لا يبعد انصرافه عن صورة التفريط، كما ذكره الفقيه الهمداني (قدس سره). ولاسيما بملاحظة وجوب الطلب.

وقد يستشكل فيه بابتناء الأبدال الاضطرارية على لزوم تحصيل الميسور من المصلحة، ودخل التفريط في ذلك بعيد جداً، فلو تم الانصراف كان فهم عدم الخصوصية كافياً في التعميم.

اللهم إلا أن يقال: الظاهر ابتناء البدلية في المقام - زائداً على ذلك - على الامتنان، كما يناسبه قوله تعالى: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون"(1) ، بناء على رجوع التعليل بتمامه للتيمم - كما لعله الظاهر - أو رجوع التعليل بإتمام النعمة له، مع رجوع ما قبله لأصل اعتبار الطهارة في الصلاة، كما في مجمع البيان.

وكذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):" جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "،ونحوه مما يظهر منه اختصاص هذه الشريعة السمحة بالتيمم(2). ومثله قوله في صحيح رفاعة:" إذا كانت الأرض مبتلة ليس فيها تراب ولا ماء فانظر أجف موضع تجده فتيمم منه، فإن ذلك توسيع من الله عز وجل"(3) ، وقوله (عليه السلام): "إذا كنت في حال لا تقدر إلا على الطين فتيمم به فإن الله أولى بالعذر"(4).

ومرجع ذلك إلى ابتناء تشريع التيمم على الاكتفاء بالميسور من المصلحة في

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 4، 7.

ص: 76

الوقت امتناناً على المكلفين بذلك، في مقابل الإلزام بالقضاء بالطهارة المائية المستلزم للضيق. ولاسيما مع تجمع القضاء بطول المدة. وذلك لا يناسب التعدي لصورة التفريط مع فرض انصراف الإطلاق. ومن ثم يشكل الاجتزاء بالتيمم في محل الكلام.

لكن بعض مشايخنا (قدس سره) - مع اعترافه بقصور أدلة التيمم عن صورة التفريط - ذكر أن الإجماع القطعي والنص الوارد في النفساء، المتضمن أن الصلاة لا تترك بحال، دلا على عدم سقوط الصلاة، ولازم ذلك مشروعية التيمم في المقام.

ويشكل بأنه لا مجال لدعوى الإجماع على الاجتزاء بالتيمم في المقام بعد ما سبق من أن أول من صرح بالاجتزاء بالتيمم فيما عثرنا عليه المحقق، وما يأتي من تصريح بعضهم بعدم الاجتزاء به. كما أن الإجماع على عدم سقوط الصلاة بحال - لو تم - لا يشمل - على ما يأتي في حكم فاقد الطهورين - صورة تعذر الطهارة التي منها المقام، بناء على قصور دليل بدلية التيمم عنه، لأن المراد بالطهور ليس إلا استعماله بالوجه المشروع الذي تترتب عليه الطهارة، ومقتضى إطلاق الخطاب بالطهارة المائية انحصار الطهارة بها، وبعد فرض قصور دليل مشروعية التيمم عن صورة التفريط يتعين تعذر الطهارة بتعذر الطهارة المائية.

وأما النص فهو صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في النفساء التي يستمر بها الدم، المتضمن جريان حكم المستحاضة عليها، وبيان وظيفة المستحاضة، وفيه:" قلت: والحائض؟ قال: مثل ذلك سواء، فإن انقطع الدم، وإلا فهي مستحاضة تصنع مثل النفساء سواء ثم تصلي، ولا تدع الصلاة على كل حال، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الصلاة عماد دنياكم"(1).

ومقتضى المناسبة بين التعليل والحكم المعلل أن يكون المراد بقوله (عليه السلام) فيه: "ولا تدع الصلاة على كل حال" التأكيد على وجوب المحافظة على الصلاة بعد الفراغ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 77

عن مشروعيتها، والردع عن التسامح في أدائها استثقالاً لوظيفة المستحاضة المذكورة فيه، فلا ينهض بإثبات المدعى من وجوب الصلاة في المقام بعد أن لم تثبت مشروعيتها من الخارج، ليستلزم مشروعية التيمم لها، كما ذكره (قدس سره). وإنما ينهض بذلك لو كان المراد به بيان مشروعية الصلاة ووجوبها مهما كان حال المكلف وبمقدار طاقته. لكن المناسب حينئذٍ تعليله بمثل قوله (عليه السلام): "الميسور لا يسقط بالمعسور" ،لا بالنبوي المذكور.

هذا مضافاً إلى أنه (قدس سره) قد ذكر في حكم فاقد الطهورين أن ما تضمن عدم سقوط الصلاة بحال لا ينهض ببيان مشروعية الصلاة من دون طَهور، لأن مقتضى ما تضمن ركنية الطهور كون الصلاة الفاقدة له ليست بصلاة، وحينئذٍ يتعين قصوره عن المقام، لما تقدم في توجيه قصور الإجماع. ومن هنا لا مجال للخروج عما سبق من عدم الاجتزاء بالتيمم.

غايته أنه لا طريق لإحراز عدم مشروعيته، لما سبق من أن عدم الواجدان ليس موضوعاً للتيمم، ليكون قصور إطلاقه عن شمول المقام مستلزماً لعدم مشروعية التيمم وتعذر الصلاة بتعذر الطهارة المستلزم لوجوب القضاء، بل هو مصحح للبناء على تحقق موضوعه، وهو تعذر الطاهرة المائية أو سقوط التكليف بها، فقصوره في المقام إنما يستلزم عدم إحراز مشروعية التيمم من دون أن يحرز عدم مشروعيته، بل هو تابع لفعلية التكليف بالطهارة المائية واقعاً قبل التفريط، المنوط بوجود الماء واقعاً الذي هو غير محرز أيضاً. وقد سبق أيضاً أنه لا مجال لاستصحاب عدم وجود الماء.

ومن هنا يتعين الجمع بين الأداء بالتيمم والقضاء بالطهارة المائية، خروجاً عن مقتضى العلم الإجمالي. إلا أن ينكشف بعد الصلاة بالتيمم عدم الماء في داخل الحدّ، فلا يجب القضاء.

بل لو قيل بأن وجوب الطلب مقدمي، لكونه شرطاً في صحة التيمم، اتجه بطلان التيمم مع ذلك أيضاً، وتعين القضاء.

ص: 78

وإن علم أنه لو طلب لعثر (1). لكن الأحوط استحباباً القضاء خصوصاً في الفرض المذكور.

(مسألة 10): إذا ترك الطلب في سعة الوقت وصلى بطلت صلاته وإن تبين عدم وجود الماء (2). نعم لو حصل منه قصد القربة مع تبين عدم الماء - بأن

لكن صاحب الجواهر مع بنائه على ذلك بنى على مشروعية التيمم في المقام، وإجزاء الصلاة به. وكأنه للبناء على سقوط شرطيته حينما يضيق الوقت. ولم يتضح وجهه.

هذا وقد حكم في النهاية والمبسوط والخلاف والدروس ومحكي السرائر بأن من صلى بتيمم من دون طلب إعادة الصلاة. وربما حمل ذلك منهم على سعة الوقت. لكنه قد لا يناسب كلماتهم. والأمر سهل.

(1) لا يبعد أن يكون مراده بذلك ما إذا كان الماء في محل لا يسعه الوصول إليه مع إدراك الصلاة الأدائية بسبب التفريط في الطلب. وحينئذٍ يبتني الإجزاء وعدمه في المقام على ما سبق الكلام فيه من عموم عدم الوجدان لصورة التفريط وعدمه، وحيث سبق المنع منه يتعين المنع من الصحة في المقام، خصوصاً إذا كان عالماً بوجود الماء حين التيمم والصلاة، حيث لا يصدق عدم الوجدان حينئذٍ، بل يدخل في ضيق الوقت عن استعمال الماء، الذي يأتي منّا الإشكال في مسوغيته للتيمم مع عدم التفريط، فضلاً عن التفريط.

وأما لو كان المراد ما إذا كان الماء في موضع قريب يسعه الوصول إليه وإدراك الصلاة الأدائية، إلا أنه بسبب ترك الطلب لم يعلم به وتخيل عدمه، فالأمر أشكل، لصدق الوجدان والقدرة على استعمال الماء، فلا يسقط التكليف بالطهارة المائية. ومعه لا وجه لمشروعية التيمم.

(2) مراده بذلك بطلانه من حيثية عدم تحقق قصد القربة، لعدم إحراز مشروعية

ص: 79

(80)

نوى التيمم والصلاة برجاء المشروعية (1) - فالأقوى صحتها (2).

(مسألة 11): إذا طلب الماء فلم يجد فتيمم وصلى، ثم تبين وجوده في محل الطلب - من الرمية أو الرميتين أو الرحل أو القافلة - صحت صلاته، ولا تجب الإعادة، ولا القضاء (3).

التيمم بعد تنجز احتمال وجود الماء بمقتضى وجوب الطلب، لا عدم مشروعية التيمم والصلاة واقعاً، وإلا لم يناسب ما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الثالثة، ويأتي منه هنا.

(1) أو كان غافلاً عن وجوب الطلب، بتخيل كفاية عدم واجدية الماء تحت اليد في مشروعية التيمم، أو نحو ذلك.

(2) وعليه يحمل ما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الثالثة، وتقدم منّا وجهه.

(3) يظهر من بعض كلماتهم المفروغية. ولعله لذا حكي عن بعضهم أنه اتفاقي. وكيف كان فالظاهر أن مرادهم ما إذا استكمل الطلب بالوجه المتعارف، وكان عدم العثور على الماء لوجوده في مكان يحتاج العثور عليه فيه لعناية زائدة خارجة عن المتعارف.

وحينئذٍ فقد يستدل لصحة التيمم بصدق عدم الوجدان. لكن تقدم أن عدم الوجدان ليس هو الموضوع الواقعي للتيمم، وإنما هو مصحح للبناء ظاهراً على تحقق الموضوع، فمع انكشاف وجود الماء ينكشف عدم مشروعية التيمم وبطلانه.

ومثلها دعوى: أن موضوع التيمم ليس هو وجود الماء واقعاً، بل وجوده بنحو يقدر على استعماله، وهو غير حاصل مع تعذر العثور عليه. لاندفاعها - بعد تسليم أن ذلك هو موضوع التيمم - بأن عدم العثور على الماء في محل الكلام لا يستلزم عدم القدرة على استعماله، لأن عدم العثور قد يكون مسبباً عن الإيهام أو الغفلة، من دون أن يرجع إلى قصور في الطاقة.

فلعل الأولى أن يقال: استعمال الماء وإن كان مقدوراً، إلا أن ضياعه بالنحو

ص: 80

المذكور مانع من محركية الأمر بالطهارة المائية وسقوطه عن الفعلية، لا من جهة توقف الاندفاع عن الأمر على العلم بجعله وبتحقق موضوعه - كما هو الحال في جميع موارد الجهل - بل لتوقفه على الإحاطة بطريقة الامتثال والالتفات إليها، وهو غير حاصل في المقام. ولذا لا يصلح الأمر المذكور للمحركية مع العلم بوجود الماء بالنحو المذكور، ومع عدم محركية الأمر بالطهارة وسقوطه عن الفعلية تتعين مشروعية التيمم، كما سبق عند الكلام في وجوب الطلب.

نعم يشكل الاكتفاء بعدم محركية الأمر بالطهارة المائية من جهة الغفلة والجهل فقط، إما اعتقاد عدم وجوبها، أو لاعتقاد العجز عنها، لتخيل عدم وجود الماء مثلاً أو نحو ذلك، لعدم الدليل على ذلك بعد عدم سقوط الأمر بها عن الفعلية بذلك، لظهور أدلة مشروعية التيمم في ترتبه على سقوط الأمر بالطهارة المائية واقعاً.

ولذا لا يظن بأحد احتمال مشروعية التيمم وإجزائه في حق من لم يعلم بوجوب الطهارة المائية أو بمشروعيتها. مضافاً إلى موثق أبي بصير أو صحيحه: "سألته عن رجل كان في سفر وكان معه ماء، فنسيه فتيمم وصلى، ثم ذكر أن معه ماء قبل أن يخرج الوقت قال: عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة"(1). فإنه بناء على ما يأتي في الفصل الخامس من مشروعية التيمم مع سعة الوقت في الجملة لا وجه لوجوب الإعادة في النص إلا ما ذكرنا.

إلا أن يحمل على الاستحباب، كالنصوص الدالة على الإعادة فيمن لم يجد الماء إذا تيمم وصلى ثم وجد الماء(2). لكنه لا شاهد له. ومجرد وجود الشاهد له فيمن لم يجد الماء ثم وجده لا يكفي بعد احتمال الفرق.

وأما ردّه بضعف السند فهو في غير محله، إذ ليس في سنده إلا عثمان بن عيسى الذي ثبتت وثاقته، وإنما الكلام في رجوعه للحق بعد وقفه. على أن الحديث مجبور

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 5

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم.

ص: 81

بعمل المشهور، كما في الذكرى.

لكن ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الخطأ إن كان مانعاً من استعمال الماء بحكم العقل كان كافياً في مشروعية التيمم وصحته، كما لو اعتقد المكلف خطأ ضيق الوقت فلم يطلب الماء، أو اعتقد كون الماء مغصوباً أو نحوهما، لكون الحكم المذكور موجباً لسلب القدرة عقلاً، بخلاف ما لو لم يكن مانعاً منه، كما إذا اعتقد عدم وجود الماء فتبين وجوده.

وهو مبني أولاً: على أن موضوع التيمم هو عدم القدرة على استعمال الماء، وثانياً: على تعميم عدم القدرة للداعي العقلي الناشئ عن الخطأ في الاعتقاد.

وقد سبق عند الكلام في وجوب الفحص، المنع من الأول. وأما الثاني فهو موقوف على الإطلاع على ما يساق دليلاً على أخذ عدم القدرة على استعمال الماء في موضوع التيمم، لينظر في عمومه للداعي العقلي المذكور، ولم يتضح الدليل المذكور.

فالأولى تقريب ما ذكره بما سبق من أن مسوغ التيمم هو سقوط التكليف بالطهارة المائية عن المحركية، لوضوح حصول ذلك مع الداعي العقلي المذكور.

ويناسب ما ذكرنا ظهور جملة من النصوص في مشروعية التيمم مع الخوف من الطلب، أو من ضيق الوقت عنه، أو من الضرر في استعماله، مع وضوح أن الخوف ارتكازاً ليس من سنخ الطريق للأمر المخوف منه، ليمكن دعوى كونه محرزاً للحرمة. غاية الأمر أنه منشأ لوجوب الاحتياط، بنحو يمنع من محاولة استعمال الماء عقلاً.

ولعل الأولى أن يقال: سبق أن المعيار في مشروعية التيمم ثبوتاً على سقوط الطهارة المائية عن الفعلية واقعاً، لتعذرها، أو لمزاحمتها لتكليف آخر، أو تخفيفاً من الشارع وامتناناً، كما في موارد الضرر الذي لا يجب دفعه، أو الحرج، أو غيرهما من موارد ثبوت ترخيص الشارع في ترك الطهارة المائية.

ومقتضى ذلك بدواً عدم البناء عملاً على مشروعية التيمم إلا مع ثبوت سقوط

ص: 82

الطهارة بقطع أو طريق شرعي أو أصل.

كما أن مقتضى الأصل حينئذ عدم صحة التيمم لو صادف عدم سقوط الطهارة المائية واقعاً، لخطأ القطع أو الأصل، كما لو كان عنده ماء اعتقد خطأ أنه ماء مضاف، أو في حرز مقفل قد ضاع مفتاحه، أو قامت البينة أو الاستصحاب على ذلك، ثم تبين أنه ماء مطلق، أو في مكان غير مقفل.

نعم إذا كان الخطأ موجباً لتعذر الطهارة المائية حقيقة تعين سقوطها ومشروعية التيمم وصحته واقعاً، كما لو اعتقد خطأ غصبية الماء الذي عنده، حيث يتعذر التقرب باستعماله وإن كان حلالاً واقعاً، فتتعذر الطهارة المائية، وكذا الحال في سائر موارد تنجز احتمال حرمته بإمارة أو أصل أو غيرهما.

كما أنه قد تضمنت جملة من النصوص الاكتفاء بخوف فوت الوقت وخوف الضرر في مشروعية التيمم، ومقتضاها بدواً كونه موجباً لسقوط الطهارة المائية واقعاً.

لكن مقتضى الجمع بينها وبين ما تضمن إناطة ذلك بفوت الوقت ونفس الضرر كون الخوف مصححاً ظاهرياً لترك الطهارة المائية، لا مسقطاً لها واقعاً، فإنه أولى عرفاً من الجمع بينهما بالبناء على كون كل من الواقع والخوف مسقطاً لها واقعاً. بل لا إشكال ظاهراً في عدم سقوطها واقعاً بالخوف مع عدم تحقق الأمر المخوف واقعاً.

وحينئذٍ فحيث لم يكن الخوف ارتكازاً من سنخ الطريق للأمر المخوف، وإنما يكون العمل عليه لمحض الاحتياط للواقع للاهتمام به، فمن الظاهر أن الاحتياط المذكور لا يقتضي الاجتزاء بالتيمم حتى مع بقاء الجهل بالحال وعدم انكشاف الخلاف، بل يقتضي الجمع بينه وبين الإعادة أو القضاء بالطهارة المائية، لاحتمال عدم تحقق الأمر المخوف وعدم مشروعية التيمم واقعاً.

إلا أنه حيث لا إشكال في ظهور النصوص المذكورة في عدم الإعادة وفي

ص: 83

(84)

(مسألة 12): إذا كانت الأرض في بعض الجوانب حزنة وفي بعضها سهلة يلحق كلا حكمه من الرمية والرميتين (1).

(الثاني): عدم التمكن من الوصول إلى الماء (2) لعجز عنه، ولو كان عجزاً شرعياً (3)،

الاجتزاء بالتيمم إذا وقع مع الخوف وإن لم يصادف تحقق الواقع المخوف كشف ذلك عن أن موضوع التيمم واقعاً ليس هو خصوص سقوط الطهارة المائية واقعاً - كما سبق منّا - بل الأعم منه ومن ثبوت العذر الظاهري في تركها.

نعم المتيقن من ذلك ما إذا كان العذر راجعاً إلى التحفظ والفرار من محذور شرعي - كالتصرف في ملك الغير من دون عذر - أو عرفي، كما لو خيف العطش أو غيره، وهو المناسب لما يأتي في المسوغ الثاني، ولا يعم ما إذا ابتنى العذر على مجرد الخطأ في البناء على سقوط الطهارة المائية من دون أن يلزم منها محذور يلزم الاحتياط منه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) عملاً بإطلاق النص، لما سبق من أن النص ناظر لامتداد الطلب، لا للجهات التي يطلب فيها، واستفادة استيعاب الجهات من شاهد الحال، وحينئذٍ يكون مقتضى المعيار في الحزونة والسهولة على الجهة التي يقع الطلب فيها، لا على تمام الجهات التي يقع فيها.

(2) بلا خلاف أجده، كما في الجواهر، وفي المعتبر أنه إجماع، وظاهر غير واحد المفروغية عنه. لسقوط الطهارة المائية بالعجز عن استعمال الماء، وهو كاف في تحقق موضوع التيمم، كما تقدم.

(3) يعني: بأن لزوم محذور شرعي من الوصول إليه واستعماله، كما لو كان الماء مغصوباً يحرم استعماله، أو توقف على عمل محرم، كما لو كان في بيت مغصوب أو نحوه. والوجه فيه ظاهر بناء على أن وجوب الطهارة المائية مشروط شرعاً بالقدرة،

ص: 84

وأن المراد بالقدرة ما يعم القدرة الشرعية، حيث يكون مقتضى إطلاق دليل المحذور الشرعي حرمته حال المزاحمة للطهارة المائية، فيستلزم العجز عنها، ويسقط الأمر خطاباً وملاكاً، ويتعين التيمم بناء على ما سبق من مشروعيته بمجرد سقوط الطهارة المائية. من دون نظر لأهمية المحذور المفروض، لعدم الفرق في إطلاق الخطاب به بين مراتب أهميته، ومع فعلية الخطاب يرتفع به موضوع الطهارة المائية مهما كانت مهمة.

أما بناء على ما سبق من عدم اشتراط الطهارة المائية شرعاً بالقدرة، فقد يشكل الحال مع أهمية الطهارة المائية من المحذور المفروض حيث لا يكون التزاحم بينهما مسقطاً لوجوب الطهارة المائية، ليشرع التيمم، بل مسقطاً للمحذور المفروض، ومع سقوطه لا عجز عن الطهارة المائية.

بل قد يشكل الأمر مع تساويهما في الأهمية، بناء على إناطة مشروعية التيمم بالعجز عن الطهارة المائية، لأن مقتضى التزاحم حينئذٍ التخيير، ومعه لا عجز عن الطهارة المائية، ليشرع التيمم. نعم بناء على ما سبق من إناطة مشروعية التيمم بسقوط الطهارة المائية يتعين مشروعية التيمم مع التساوي والتخيير، لرجوع التخيير لسقوط الطهارة المائية.

وأما مع احتمال أهمية كل من الأمرين فترك الطهارة المائية فراراً من المحذور المفروض وإن كان جائزاً عقلاً - كما هو الحال في سائر موارد التزاحم مع احتمال الأهمية في كل من الطرفين - إلا أنه لا يحرز مشروعية التيمم، لعدم إحراز سقوط الطهارة المائية شرعاً واقعاً، إلا أن يصرف الماء قبله، وبدونه قد يتعين الإتيان بالطهارة المائية، تحصيلاً للفراغ اليقيني من التكليف بالصلاة - الذي قد يكون أهم - وإن لزم المحذور المذكور. وأولى بذلك ما إذا دار الأمر بين التساوي وأهمية خصوص الطهارة المائية، حيث لا يجوز التفريط بالطهارة المائية عقلاً.

لكن أصرّ سيدنا المصنف (قدس سره) على سقوط الطهارة المائية مطلقاً من دون نظر لأهميتها وعدمها، بدعوى: أن ليس المراد من وجدان الماء الذي جعل عدمه مسقط

ص: 85

للطهارة مطلقاً هو الوجدان الخارجي بل خصوص الوجدان الذي لا يلزم منه محذور أصلاً، لأنه هو المنصرف من إطلاق الآية.

ولذا لا ريب في عدم صدقه مع وجدان الماء إذا كان أمانة، ولو كان المراد به مطلق الوجدان لزم صدقه بذلك، وإن لم يجز استعماله في الطهارة ووجب التيمم، لأهمية حرمة الأمانة من وجوب الطهارة المائية.

ويشكل بأنه قد يتجه انصراف الوجدان عن وجدان ما يكون استعماله تعدياً على حق الغير فيه، كالأمانة والمغصوب، لا عن كل ما يلزم من استعماله محذور ولو لم يرجع لحق الغير في الماء، كما لو كان في مكان مغصوب أو لزم من استعماله تفويت واجب آخر أو نحوهما، فإنه بعيد جداً. ولاسيما مع عطف عدم الوجدان في الآيتين الشريفتين على المرض، حيث يناسب ذلك كون المراد من عدم الوجدان ما يقابل الضرر اللازم من المرض، لا ما يعمه.

ومثله ما في المنتهى من حمل الوجدان على التمكن من استعمال الماء، ومع وجوب صرف الماء في وجه آخر شرعاً لا يكون متمكناً من صرف الماء.

إذ فيه: أنه لو تم انصراف الوجدان إلى ما يمكن معه استعمال الماء في الطهارة فهو مختص بالتمكن الخارجي، لا ما يعمّ الشرعي الذي يخل به وجوب صرف الماء في وجه آخر، بل مقتضى إطلاق الوجدان صدقه حينئذٍ، فتجب الطهارة المائية وتزاحم الواجب الآخر، ويتعين الترجيح بالأهمية، كما سبق.

هذا وقد تردد في كلماتهم أن ما لا بدل له مقدم في مقام التزاحم على ماله بدل. ولم يتضح الوجه في عموم ذلك.

ودعوى: أنه مع جعل البدل يمكن الجمع بين التكليفين باختيار البدل، فيتعين. مدفوعة بأن الجمع بين التكليفين باختيار البدل موقوف على مشروعية البدل عند التزاحم، وهو إنما يتم مع كون البدلية عرضية، كما في أطراف الواجب التخييري، والأفراد الطولية للواجب الموسع، بل لا تزاحم بين التكليفين في ذلك.

ص: 86

وكذا مع كون البدلية طولية قد أخذ فيها تعذر ذي البدل، وكان المراد من التعذر ما يعم التعذر الشرعي بمزاحمة تكليف آخر. وفيما عدا ذلك يحتاج إلى دليل مثبت بالخصوص.

ومن الظاهر عدم كون المقام من الأول، وأن بدلية التيمم اضطرارية. كما أنه لم يثبت كونها من الثاني، لعدم وضوح كون موضوع البدلية تعذر الطهارة المائية بالمعنى الذي يصدق بمزاحمة أي تكليف شرعي، بل هو خلاف إطلاق أدلة وجوب الطهارة المذكورة. كما لا يناسب إناطة مشروعية التيمم بأمور ليس ذلك منها.

لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره) في التنبيه الخامس من تنبيهات حكم الإنائين المشتبهين من طهارته: "وعلل في بعض الأخبار تقديم مراعاة سائر الواجبات والمحرمات على الطهارة المائية بأن الله جعل للماء بدلاً. فتأمل".

ولو تم الخبر المذكور نفع في المقام. كما ينفع أيضاً بمقتضى عموم التعليل في سائر موارد التزاحم بين ما له بدل وما لا بدل له. غير أنه لم أقف على الخبر المذكور عاجلاً، كما صرح بذلك سيدنا المصنف (قدس سره) أيضاً.

نعم تضمن بعض النصوص تعليل عدم وجوب الطهارة المائية في بعض موارد المزاحمة ببدلية التراب للماء، ففي صحيح ابن يعفور وعنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلواً ولا شيئاً تغرف به، فتيمم بالصعيد، فإن رب الماء هو رب الصعيد، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم"(1). وفي موثق سماعة:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته. قال: يتيمم بالصعيد ويستبقي الماء، فإن الله عز وجل جعلهما طهوراً: الماء والصعيد"(2).

فإنه بعد المفروغية عن عدم كون بدلية الصعيد عرضية، بل هي طولية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التيمم حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 87

أو ما بحكمه (1)، بأن كان الماء في إناء مغصوب (2)، أو لخوفه على

اضطرارية، يكون التعليل بالبدلية ظاهراً في المفروغية عن أنه يكفي في تحقق موضوع البدلية محذور ارتكاب الحرام من دون خصوصية للمورد، وإلا فلو كان مختصاً بالمورد كان تعبدياً لا فائدة في بيانه، وهو خلاف ظاهر التعليل جداً.

وكذا لو كان مختصاً بما كان مثله في الأهمية، لأن الخصوصية المذكورة مغفول عنها عرفاً، فلا تفهم من التعليل. مع أنه لا يتيسر للمكلف غالباً تعين مرتبة أهمية التكليف، فلا يكون التعليل عملياً.

ومن ثم لا يبعد استفادة عموم تشريع التيمم فراراً عن المحذور الشرعي من التعليل المذكور. بل لا يبعد ظهور الموثق في العموم للمحذور العرفي الذي يصعب تحمله، كخوف العطش الذي لا يخشى معه التلف، لعموم قلة الماء لذلك. ولاسيما ما تضمنته النصوص من جواز الجماع على غير ماء لمن كان شبقاً(1)... إلى غير ذلك مما يظهر منه عدم أهمية خصوصية الماء في الطهارة، ورفع الشارع الأقدس اليد عنها لكل غرض له أهمية شرعية أو عرفية.

كما أن الظاهر عموم التعليل لما إذا كان المحذور بحيث يحسن الاحتياط له وإن لم يكن معلوم الحصول، لتطبيق التعليل على خوف قلة الماء، وقد سبق أن الخوف ليس طريقاً ظاهرياً محرزاً للعذر، فالاجتزاء بالتيمم معه لابد أن يبتني على عموم موضوع التيمم واقعاً له. فراجع ما سبق في المسألة الحادية عشرة، وتأمل جيداً.

(1) لعل المراد به ما كان عذراً شرعاً مسوغاً لترك الطهارة المائية، وإن لم يستلزم العجز الشرعي، لعدم وجوب مراعاته وعدم وجوب تركها لأجله، كما يأتي في بعض الأمثلة التي ذكرها (قدس سره).

(2) لعدم الإشكال ظاهراً في أهمية حرمة التصرف في ملك الغير من الطهارة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب التيمم.

ص: 88

نفسه (1)،

المائية، ولا أقل من احتمال أهميتها من دون احتمال العكس، وقد عرفت كفاية ذلك في مشروعية التيمم حتى لو لم يتم العموم المتقدم.

نعم قد لا يحرم تفريغ الإناء من الماء، وذلك كما إذا كان الماء للمكلف ولم يكن وضعه في الإناء مستنداً له، لأن حرمة التصرف في ملك الغير ليست بنحو تقتضي منع الإنسان عن التصرف في ملكه، لأنه ضرر عليه منفي بمقتضي القاعدة.

إلا أنه يمكن الجمع بين الحقين باستئذان المالك، أو يكون التفريغ مضراً بالإناء، فيلزم تزاحم الضررين، ويتعين الصلح، أو الرجوع للحاكم الشرعي لحل المشكلة.

كما أنه لو كان وضع الماء في الإناء بفعل المكلف بنحو يكون متعدياً بذلك فالماء لا حرمة له، لأنه لا حرمة لعرق الظالم. إلا أن يكون إبقاء الإناء مشغولاً بالماء تصرفاً فيه أيضاً، فيجب عقلاً تفريغه منه بأقل تصرف ممكن، لوجوب التخلص من الحرام، نظير الخروج من الأرض المغصوبة. فلاحظ.

(1) كما يقتضيه حديث داود الرقي: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أكون في السفر، فتحضر الصلاة وليس معي ماء، ويقال: إن الماء قريب منّا، فأطلب الماء وأنا في وقت يميناً وشمالاً؟ قال: لا تطلب الماء، ولكن تيمم، فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك، فتضل ويأكلك السبع"(1). ومعتبر يعقوب بن سالم:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحو ذلك. قال: لا آمره أن يغرر بنفسه، فيعرض له لص أو سبع"(2). مضافاً إلى ما سبق من العموم المستفاد من التعليل في الصحيح والموثق.

وأما أهمية وجوب حفظ النفس، فهو إنما يقتضي مشروعية التيمم مع استلزام محاولة الوصول للماء تلفها، لا مع الخوف من ذلك، بل غاية ما يقتضيه الخوف لزوم

********

(1) ،

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التيمم حديث: 1، 2.

ص: 89

(90)

أو عرضه (1)، أو ماله من سبع (2)، أو عدو، أو لص، أو ضياع، أو غير ذلك.

(الثالث): خوف الضرر من استعمال الماء (3) بحدوث مرض أو زيادته،

الاحتياط بترك الوصول للماء من دون أن يحرز به مشروعية التيمم، بل اللازم حينئذٍ الاحتياط بضم الإعادة له، لما سبق في المسألة الحادية عشرة من عدم أمارية الخوف، وأن الاجتزاء معه بالتيمم مستفاد من نصوص الأمر بالتيمم، ومنها النصوص السابقة.

(1) للعموم السابق. مضافاً إلى استفادته مما يأتي في المال لو تم.

(2) لاستفادته من العموم المتقدم. مضافاً إلى أمرين الأول: ما قد يستفاد من ذكر اللص في معتبر يعقوب المتقدم، فإنه وإن كان مسبوقاً بالنهي عن التغرير بالنفس، إلا أنه حيث كان المتيقن من اللص من يطلب المال، فالخوف على النفس منه لابد أن يكون لاحتمال حصول القتل منه مقدمة لتحصيل المال، فيكون ظاهراً في المفروغية عن الاهتمام بالمال، وإلا كان اللازم بذله ليصل للماء آمناً من القتل.

الثاني: مضافاً إلى عموم قاعدة نفي الحرج، لما في تعريض المال للضياع وأخذ اللص من الحرج غالباً. وما في الحدائق من معارضة عموم نفي الحرج بما دل على وجوب الطهارة المائية. كما ترى، لحكومة العموم المذكور على عموم وجوبها، كما في سائر عمومات الأحكام الثانوية مع عمومات الأحكام الأولية.

وأما دعوى: أن وجوب حفظ المال أهم من وجوب الطهارة المائية. فهي مندفعة بعدم ثبوت وجوب حفظ المال شرعاً إلا إذا لزم التبذير، وهو غير حاصل في المقام ونحوه مما كان تضييع المال لغرض عقلائي، كالطهارة المائية. بل يشكل صدقه بدون ذلك مع تعريضه لأخذ اللص، لأن اللص ينتفع به فلا تبذير، كما لو وهبه.

(3) بلا إشكال فيه في الجملة، ودعوى الإجماع عليه في الجملة كثيرة في كلام الأصحاب. ويقتضيه - مضافاً إلى عموم نفي الحرج والضرر - الآيتان الشريفتان، فإنهم

ص: 90

وإن تضمنتا فرض المرض، القاصر عن صورة توقع حصوله أو حصول الضرر على البدن باستعمال الماء من دون أن يصدق المرض معه، كبتر العضو، إلا أن الظاهر إلغاء خصوصية مفادها عرفاً والتعميم لذلك، وأن المفهوم منها عرفاً أن منشأ مشروعية التيمم تجنب محذور الضرر على البدن، ولذا اختصت بالمرض الذي يضرّ به استعمال الماء.

مضافاً إلى النصوص الكثيرة الواردة في المجدور والكسير ومن به القروح و الجروح ومن يخاف على نفسه من البرد(1). وإلى ما يستفاد في بعض النصوص من مشروعية التيمم لكل محذور شرعي أو عرفي، كما يظهر مما سبق.

هذا والأدلة مختلفة في تحديد هذا المسوغ، فظاهر بعضها أن المسوغ هو الضرر الواقعي، كما هو الحال في قاعدة نفي الضرر، وظاهر بعضها أن المسوغ هو خوف الضرر، كما هو ظاهر مثل صحيح داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في الرجل يصيبه الجنابة وبه جروح أو قروح أو يخاف على نفسه من البرد. فقال: لا يغتسل ويتيمم"(2). وقريب منه صحيح البزنطي عن الرضا (عليه السلام).

وأما ما تضمن جواز التيمم للمريض ومن به الجروح والقروح ونحوها - كصدر الصحيحين - فبعد أن لم يكن العنوان المذكور فيه بنفسه مسوغاً للتيمم لعدم الإشكال في عدم مسوغيته مع العلم بعدم الضرر، فلابد من التصرف فيه وتنزيله على أحد الأمرين من دون معين لأحدهما.

وكيف كان فقد يقرب كون الموضوع هو الضرر الواقعي بأن المفهوم عرفاً من ذكر الخوف كونه طريقاً أو عذراً للاحتياط للواقع، لا أنه بنفسه موضوع للحكم.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن الأمر بالتيمم في الصحيحين المتقدمين وقع في سياق الأمر بالتيمم لذي الجروح والقروح الذي لا إشكال في كونه حكم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 8.

ص: 91

(92)

أو بطئه أو على النفس أو بعض البدن (1)، ومنه الرمد المانع من استعمال الماء،

واقعياً، والتفكيك بين المقامين بعيد جداً.

ففيه: أن التفكيك وإن كان بعيداً لمخالفته لقرينة السياق، بل ممتنع بعد وحدة النهي عن الغسل والأمر بالتيمم في الجواب، إلا أن ذلك إنما يمنع من إرادة كل من الخصوصيتين في مقام الاستعمال، ولا يمنع من حمل النهي والأمر على القدر المشترك بين الواقعين والظاهرين، كما لو قيل: إذا كان ثوبك من شعر ما لا يؤكل لحمه أو قامت البينة على ملاقاته للنجاسة فانزعه ولا تصل فيه.

نعم تقدم في المسألة الحادية عشرة تقريب الإجزاء واقعاً مع الخوف، وأنه يبتني على عموم موضوع التيمم له واقعاً. فراجع.

(1) كل ذلك لإطلاق الأدلة المتقدمة. لكن اقتصر في الشرايع ومحكي التحرير على المرض الشديد، وفي العروة الوثقى على ما يعسر تحمله، بل في المعتبر: "ولا يستبيحه مع خوف المرض اليسير، كوجع الرأس والضرس" .وفيه: أنه خروج عن إطلاق المرض بلا وجه.

نعم قد لا يصدق المرض في مثل وجع الرأس والضرس إذا كان موقتاً بسبب استعمال الماء، فيخرج عن موضوع الأدلة الخاصة المتقدمة، ولا يستباح به التيمم إلا مع لزوم الحرج.

كما أنه لو لم يكن استعمال الماء مضراً بالمرض خرج عن منصرف الأدلة الخاصة المتقدمة. ولعله المراد مما في المبسوط قال: "وكل مرض لا يخاف معه التلف ولا الزيادة فيه مثل الصداع ووجع الضرس لم يجز التيمم" .ولذا يشكل ما في الجواهر من عده مخالفاً في المسألة.

بقي في المقام أمران:

الأول: أنه تضمن بعض النصوص الأمر بالإعادة لمن تيمم لخوف الضرر، وهو

ص: 92

حديث عبد الله بن سنان المروي صحيحاً في الفقيه ومرسلاً في الكافي والتهذيبين: "أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة، فيخاف على نفسه التلف إن اغتسل. فقال: يتيمم ويصلي، فإذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة"(1).

لكنه معارض بالنصوص الكثيرة المتضمنة عدم الإعادة على من صلى بتيمم(2). وهي وإن كانت واردة في فاقد الماء، إلا أن من القريب جداً إلغاء خصوصيته. بل هو مقتضى عموم التعليل في بعضها ببدلية التيمم، كصحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أجنب فتيمم بالصعيد وصلى ثم وجد الماء. قال: لا يعيد. إن رب الماء رب الصعيد فقد فعل أحد الطهورين"(3) ، ونحوه غيره(4). فإن مقتضاه عموم إجزاء الصلاة بالتيمم المشروع.

بل هو مقتضى الإطلاقات المقامية لعمومات مشروعية التيمم، كالآيتين الشريفتين وغيرها، وخصوص النصوص الواردة في المرض(5) ، ومنها ما ورد فيمن يخاف على نفسه من البرد كالصحيحين المتقدمين، فإن عدم التنبيه فيها للإعادة مع الغفلة عنها موجب لقوة ظهورها في الإجزاء. ولاسيما مع ما هو المعلوم من كثرة الابتلاء بذلك، حيث يمتنع معه خفاء الحكم على الأصحاب الذين لم يفرقوا في الإجزاء بينه وبين غيره من مسوغات التيمم.

هذا وفي النهاية والمبسوط وعن التهذيبين والمهذب والإصباح والروض وجوب الإعادة على من أجنب مختاراً. واستدل لهم بالحديث السابق.

لكن ظاهر التهذيبين عدم الاستدلال بالحديث المذكور، بل ابتناء المسألة على النصوص الآتية، وحمل هذا الحديث عليها جمعاً لو كان حجة في نفسه، قال في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التيمم.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 15، 13.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم.

ص: 93

(94)

التهذيب بعد طعنه الخبر بالإرسال: "ولو صح الخبر على ما فيه لكان محمولاً على من أجنب نفسه متعمداً وخاف على نفسه التلف، فإنه يتيمم ويصلي ويعيد الصلاة. وإن كان الأولى له أن يغتسل على كل حال حسب ما نذكره بعد" .وأشار بذلك إلى ما يأتي منه عند التعرض للفرع الآتي، وفي الاستبصار: "ولو صح الخبر على ما فيه لكن محمولاً على من أجنب نفسه مختاراً، لأن من كان كذلك ففرضه الغسل على كل حال، فإن لم يتمكن تيمم وصلى ثم أعاد إذا تمكن من استعماله. والذي يدل على أن من هذه صفته فرضه الغسل على كل حال ما أخبرني به الشيخ..." ثم ذكر النصوص الآتية.

ومن هنا يشكل استفادة الاعتماد على الحديث منه. وكيف كان فلا مجال لحمل الحديث على ذلك، لقوة ظهوره فيمن لم يتعمد الجنابة. ومن هنا كان الأقرب حمله على الاستحباب، كالنصوص المتضمنة للإعادة فيمن لم يجد الماء.

الثاني: مقتضى إطلاق النصوص المتقدمة عدم الفرق بين متعمد الجنابة وغيره، وفي الجواهر أنه المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً. بل هو مقتضى إطلاق معاقد جملة من الإجماعات المتقدمة إليها الإشارة، كإطلاق الأدلة المتقدمة.

لكن في الهداية والمقنعة والخلاف وعن أبي علي وجوب الغسل على من تعمد الجنابة وإن خاف على نفسه. وقد يستظهر من الكافي لذكره للنصوص الآتية. وهو الذي جرى عليه في التهذيبين لولا ما سبق منه في الفرع السابق. بل في الخلاف الإجماع عليه بعد أن نسب الخلاف لجميع الفقهاء، وإن ذكر في الجواهر أنه محكي عن أصحاب الرأي وأحمد في إحدى الروايتين.

واستدل عليه بمرفوع علي بن أحمد عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سألته عن مجدور أصابته جنابة. قال: إن كان أجنب هو فليغتسل وإن كان احتلم فليتيمم"(1) ، ونحوه مرفوع إبراهيم بن هاشم(2).

وبصحيح سليمان بن خالد وأبي بصير وعبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام):

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب التيمم حديث: 1، 2.

ص: 94

" أنه سئل عن رجل كان في أرض باردة يتخوف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل كيف يصنع؟ قال: يغتسل وإن أصابه ما أصابه. قال: وذكر أنه كان وجعاً شديد الوجع، فأصابته جنابة وهو في مكان بارد، وكانت ليلة شديدة الريح باردة، فدعوت الغلمة فقلت لهم: أحملوني فاغسلوني، فقالوا: إنا نخاف عليك، فقلت لهم: ليس بدّ. فحملوني ووضعوني على خشبات، ثم صبوا عليّ الماء فغسلوني"(1).

وصحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة ولا يجد الماء، وعسى أن يكون الماء جامداً، فقال: يغتسل على ما كان. حدثه رجل أنه فعل ذلك فمرض شهراً من البرد، فقال: اغتسل على ما كان، فإنه لابد من الغسل. وذكر أبو عبد الله (عليه السلام) أنه اضطر إليه وهو مريض، فأتوه به مسخناً فاغتسل، وقال: لابد من الغسل"(2). والأخيران وإن لم يصرح فيهما بالتفصيل المذكور، إلا أنهما محمولان على من أجنب نفسه، بقرينة ذكر اغتسال الإمام (عليه السلام) المنزه عن الاحتلام.

لكن لو تم تنزيهه (عليه السلام) عن الاحتلام، إلا أنه يبعد جداً إقدامه على الجماع في مثل هذا الحال. ومن ثم كان ذيلهما من المشكل الذي يردّ علمه لأهله. مع أن صدر الصحيح الثاني ظاهر أو منصرف للجنابة غير المتعمدة، نظير ما تقدم في صحيح عبد الله بن سنان، وصدر الأول مطلق والذيل لا ينهض بتقييده حتى لو تم حمله على الجنابة المتعمدة، لأن مجرد ثبوت الحكم في المتعمد لا ينافي عمومه لغيره.

فالعمدة في الحكم المذكور المرفوعان، حيث يقرب انجبارهما بعمل من عرفت من مشايخ الطائفة. ولاسيما مع ما في الخلاف من دعوى إجماع أصحابنا على ذلك، خلافاً لجميع الفقهاء، حيث يقرب اشتهار الحكم في العصور الأولى بين الطائفة، وإن لم تصل كلماتهم لنا، لعدم وصول كتبهم.

نعم الحكم المذكور غريب جداً لا يناسب أدلة بدلية التيمم، حيث يظهر منها مشروعية التيمم لما دون ذلك من المحاذير، كما تقدم. كما لا يناسب ما تضمن جواز

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب التيمم حديث: 3، 4.

ص: 95

الجماع لفاقد الماء ومشروعية التيمم له(1). ولاسيما مع ظهور بعض النصوص المتقدمة فيمن يخاف التلف، لورود مرفوع علي بن أحمد في المجدور الذي تضمن بعض النصوص أنه مات بسبب الغسل(2) ، ولقوله (عليه السلام) في الصحيح الأول:" يغتسل وإن أصابه ما أصابه".

مضافاً إلى أمرين:

الأول: أن مثل هذا الحكم المخالف للقواعد العامة المعروفة، ولجميع فقهاء المخالفين أو أكثرهم، لو كان ثابتاً مع كثرة الابتلاء به، لكان له من الظهور ما يمنع من انعقاد شهرة المتأخرين على خلافه وإعراضهم عنه مع ذهاب من عرفت من أعيان الأصحاب له.

الثاني: أنه يظهر من الشيخ في المبسوط العدول عنه. ويظهر من كلامه في التهذيبين نهوض الصحيحين به. بل اقتصر عليهما في الخلاف ولم يذكر المرفوعين، مع أن الصحيحين بعيدان عن الحكم المذكور، حيث قد يكشف ذلك عن ابتناء الفتوى على الخطأ في مفاد الصحيحين، لا على الاعتماد على المرفوعين. ومن ثم كان مفاد النصوص المذكورة من المشكل، الذي يتعين ردّ علمه لأهله (عليهم السلام).

هذا ولو تم لم يبعد البناء على رفع اليد عنه فيمن يخشى التلف بصحيح عبد الله ابن سنان المتقدم المتضمن الصلاة بالتيمم ثم الإعادة، كما تقدم من التهذيبين وصرح به في النهاية، لأنه أصرح من بقية النصوص في خصوص من يخاف التلف.

بل لا مجال لرفع اليد عما هو المعلوم نصاً وفتوى من عدم جواز تعريض النفس للتلف بمثل هذه النصوص. وكذا الحال في سائر موارد الضرر المحرم. وغاية الأمر هو الاحتياط بالغسل لمن لا يخشى منه الضرر المحرم. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14، 27 من أبواب التيمم حديث: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3، 5 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 96

وأما إذا أمكن غسل ما حول العين فالأحوط الجمع بين الوضوء والتيمم (1). كما أن منه خوف الشين (2) الذي يعسر تحمله وهو الخشونة المشوهة للخلقة، والمؤدية في بعض الأبدان إلى تشقق الجلد.

(1) كما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الأربعين في فصل أحكام الجبيرة من الوضوء. وتقدم منا التفصيل بين ما إذا كان الماء مضراً بما يغسل كالجفن، وما إذا كان مضراً بما لا يغسل كداخل العين، وأنه يكفي في الأول الوضوء الناقص بغسل ما حولها، وفي الثاني التيمم. وكذا الحال في غير المعين مما له ظاهر وباطن.

(2) ففي جامع المقاصد أنهم أطبقوا على جواز التيمم لخوف الشين، ونسبه في موضع آخر للأصحاب، وفي المدارك لقطعهم، وهو ظاهر نسبته في المنتهى إلى علمائنا، وفي الجواهر أنه لا يعرف فيه خلافاً بينهم.

وكيف كان فإن أريد منه الموقت الذي يحصل لكثير من الناس في الشتاء، فهو خارج عرفاً عن المرض، ولا وجه لمسوغيته للتيمم. إلا أن يلزم من استعمال الماء ما يوجب الحرج.

ولعله إليه يرجع ما في جامع المقاصد والجواهر وفي موضع من المنتهى من تقييده بالفاحش، ونفى عنه البأس في المدارك، وجعله الأولى في كشف اللثام. قال في الجواهر:" وإليه يرجع ما عن جماعة من التقييد بما لا يحتمل عادة، بل في الكفاية أنه نقل عن بعضهم الاتفاق على أن الشين إذا لم يغير الخلقة ويشوهها لم يجز التيمم".

وإن أريد منه غير ذلك مما يستند لخلل في المزاج ويهيج باستعمال الماء - كبعض الأمراض الجلدية المعروفة في عصورنا - فالظاهر دخوله في المرض، ولا وجه لعده في قباله، كما لا وجه لتقييده بالفاحش أو نحوه مما تقدم. نعم لابد من كونه ضرراً معتداً به عرفاً.

ص: 97

(98)

(الرابع): خوف العطش (1) على نفسه (2) أو على نفس محترمة (3) من استعماله، والمراد من النفس المحترمة ما يكون من شأن المكلف الاحتفاظ

(1) وهو مذهب أهل العلم كافة، كما في المعتبر وكل من يحفظ عنه العلم، ومنهم علماؤنا أجمع، كما في المنتهى، وفي الجواهر:" إجماعاً محصلاً ومنقولاً عن علمائنا، بل وعن كل من يحفظ عنه العلم ".ويشهد له جملة من النصوص، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" أنه قال في رجل أصابته جنابة في السفر، وليس معه إلا ماء قليل، ويخاف إن هو اغتسل أن يعطش. قال: إن خاف عطشاً فلا يهريق منه قطرة، وليتيمم بالصعيد، فإن الصعيد أحب إلي"(1) ، وصحيح الحلبي: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الجنب يكون معه الماء القليل، فإن هو اغتسل به خاف العطش أيغتسل به أو يتيمم؟ قال: بل يتيمم. وكذلك إذا أراد الوضوء"(2) ، وموثق سماعة المتقدم في المسوغ الثاني وغيرها.

(2) وهو المتيقن من النص والفتوى.

(3) المذكور في كلام جملة من الأصحاب الرفيق والحيوان المحترم. وأكثر النصوص ظاهر أو صريح في خوف العطش على نفسه كالصحيحين المتقدمين. نعم في موثق سماعة:" الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته "(3) ومقتضى إطلاقه عموم مشروعية التيمم لكل مورد يخاف المكلف فيه نقص الماء عما من شأنه أن يحمل له في السفر، كشربه وشرب من يتعلق به من أتباعه، من دون فرق بين من تجب نفقته وغيره. والمسلم وغيره وكذا ما يتعلق به من الحيوانات مما من شأنه الاهتمام بحفظه.

ودعوى: أنه لا يمكن الالتزام بالإطلاق المذكور، لشموله لما إذا خيف قلة الماء عن سائر حوائجه، كطبخه وتنظيفه، فيلزم الاقتصار فيه على المتيقن، وهو شربه بنفسه.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب التيمم حديث: 1، 2، 3.

ص: 98

بها والاهتمام بشأنها - كدابته (1) وشاته ونحوهما - مما يكون تلفه موجباً للحرج أو الضرر (2).

مدفوعة بأن المنصرف أو المتيقن من خوف قلة الماء خوف العطش بقلته، خصوصاً في السفر في العصور السابقة التي لا يتيسر فيها نقل الماء بمقادير كبيرة، بل يقتصر على ما لابد منه لضرورة الشرب والطهارة. كما أن المتيقن من ذلك أتباع المكلف ممن يكون من شأنه نقل الماء له في سفره، وكذا توابعه من الحيوانات، دون من هو غير مرتبط به ممن يمر عليه ويصادفه في سيره ويرغب في مواساته بمائه، وإن كان محترماً.

نعم مقتضى القواعد العامة وجوب حفظ الماء - ومشروعية التيمم - إذا توقف عليه حفظ النفس المحترمة، لأهمية حفظها من الطهارة المائية بلا كلام وهو داخل في المسوغ الثاني. وكذا جواز حفظه - ومشروعية التيمم - لكل مورد يكون عدم حفظ الماء وصرفه في الطهارة موجباً لضرر المكلف أو الحرج عليه، كما لو كان معرضاً لأن يطلب منه الماء، بنحو ينبغي له إعطاؤه، بحيث لو لم يفعل تضرر أو استهين به.

لكن ذلك مختص بما إذا علم بترتب الضرر والحرج، ولا يكفي الخوف إلا في مورد النصوص المتقدمة، وكذا الخوف على النفس المحترمة إذا رجع إلى احتمال مصادفة نفس يخشى عليها، أما لو رجع إلى الخوف على نفس موجودة معلومة فالظاهر كفايته.

(1) وأولى من ذلك أتباعه، كعياله ورفيقه في الطريق. ولعل عدم ذكره (قدس سره) لهم لأنهم أظهر من مثل الدابة، وأريد من ذكر الدابة بيان الفرد الخفي.

(2) الظاهر كفاية كون المتعرض للعطش من أتباعه وممن يهتم بنقل الماء لأجله، لما سبق من إطلاق الموثق، أما مع غض النظر عنه، وجعل المعيار على الضرر والحرج فاللازم عدم الاكتفاء بالخوف، كما سبق.

ص: 99

(100)

(الخامس): توقف تحصيله على الاستيهاب الموجب لذله (1)، وهوانه، أو شرائه بثمن يضر بحاله (2)، ويلحق به كل مورد يكون الوضوء

(1) لما في ذلك من الضرر والحرج المنفيين في الشريعة، فإن مقتضاهما سقوط الطهارة المائية، فيشرع التيمم للملازمة المشار إليها آنفاً، بل قد يلزم منهما التوهين المحرم المزاحم لوجوب الطهارة المائية، حيث لا إشكال ظاهراً في كونه أهم منها. مضافاً إلى عموم تشريع التيمم لكل مورد يلزم من وجوب الطهارة المائية محذور شرعي أو عرفي بالتقريب المتقدم في المسوغ الثاني.

نعم الظاهر وجوب القبول لو وهب له لكونه قادراً حينئذٍ على الطهارة المائية، وفي الجواهر: "لا إشكال عندهم بل ولا خلاف - بل في الحدائق نسبته إلى ظاهر الأصحاب - في وجوب القبول عليه لو وهب له الماء" .وكذا لو وهب له الثمن. إلا أن يلزم منهما المنة بالنحو الموجب لوهنه فيحرمان عليه، أو للحرج عليه فيجوز له تركهما.

(2) من الظاهر وجوب شراء الماء مع توقف استعماله على ذلك. نعم مقتضى قاعدة نفي الضرر عدم وجوب شرائه بأكثر من ثمن المثل، بل حتى بثمن المثل إذا كان كثيراً معتداً به، لأن الطهارة وإن ابتنت على صرف الماء، إلا أنه غالباً ليس له مالية معتد بها، فمع غلاء الماء يكون صرفه في الطهارة ضرراً منفياً بالقاعدة.

لكن يجب الخروج عن ذلك بصحيح صفوان: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل احتاج إلى وضوء للصلاة، وهو لا يقدر على الماء، فوجد بقدر ما يتوضأ به بمائة أو بألف درهم، وهو واجد لها، أيشتري ويتوضأ أو يتيمم؟ قال: لا بل يشتري. قد أصابني مثل ذلك فاشتريت وتوضأت، وما يسؤني [يسرني] بذلك مال كثير" (1) مؤيداً بمرسل العياشي عن الحسين ابن طلحة: "سألت عبداً صالحاً (عليه السلام) عن قول الله عز وجل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 100

(101)

فيه حرجياً (1)، لشدة حر أو برد، أو نحو ذلك.

(السادس): أن يكون مبتلى بواجب يتعين صرف الماء فيه (2) على نحو

:" أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً "ما حدّ ذلك؟ قال: فإن لم تجدوا بشراء وبغير شراء. قلت: إن وجد قدر وضوء بمائة ألف أو بألف وكم بلغ. قال: ذلك على قدر جدته"(1).

ومقتضى إطلاق الأول وجوب الشراء ولو كان بأضعاف ثمن المثل مع واجديته له، كما صرح به جماعة، وفي الخلاف دعوى الإجماع على وجوب الشراء بثمن لا يضره كائناً ما كان وعن المهذب البارع نسبته لفتوى فقهائنا.

فما عن ابن الجنيد من عدم وجوب الشراء إذا كان غالياً، أو إن زاد على ثمن المثل كثيراً، وما عن نهاية الأحكام من احتمال عدم وجوبه إن بيع بالغبن، لأن بذل الزائد ضرر. ضعيف جداً.

بل مقتضى إطلاقه وجوب الشراء مع الجدة وإن أضر بحاله، بحيث كان لا يناسب وضعه الحالي، كما لو صرف تسعة أعشار ماليته مثلاً من دون أن يصير فقيراً شرعاً.

إلا أن يخرج عن الإطلاق في ذلك بقاعدة نفي الضرر، لأن الإضرار بالحال نحو من الضرر زائد على الضرر المالي المتمحض في صرف المال الذي يستفاد من الصحيح عدم منعه من وجوب الشراء. مضافاً إلى قاعدة نفي الحرج، وظهور تسالم الأصحاب على سقوط الطهارة المائية مع الإضرار بالحال أو الإجحاف. فلاحظ.

(1) لقاعدة نفي الحرج.

(2) فيقع التزاحم بين وجوب الواجب المذكور ووجوب الطهارة المائية، وحيث لا بدل للواجب المذكور تعين تقديمه، إما لما قيل من أن ما لا بدل له مقدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 101

لا يقوم غير الماء مقامه (1)، مثل إزالة الخبث (2)، فيجب عليه التيمم وصرف

على ما له بدل مطلقاً، أو لخصوصية في المقام تقتضي ذلك، على ما تقدم توضيحه في المسوغ الثاني.

(1) أما لو قام غيره مقامه كان لكل منهما بدل واحتاج ترجيحه على الطهارة المائية لإثبات أهميته منها، أو النظر في موضوع بدلية بدل كل منهما.

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، المدعى عليه الإجماع صريحاً أو ظاهراً في كلام جماعة. قال في التذكرة:" لو قصر الماء عن إزالة النجاسة عن بدنه والوضوء وكفى أحدهما صرف في إزالة النجاسة إجماعاً... وكذا الغسل لو كانت النجاسة على الثوب "وفي المعتبر بعد الحكم بذلك في الوضوء قال:" ولا أعلم في هذه خلافاً بين أهل العلم... وكذا لو كان عليه غسل... وكذا لو كانت النجاسة في ثوبه وعليه حدث غسل "وقريب منه في المنتهى. وقد علل في كلام جماعة بأن للطهارة الحدثية بدل.

لكن استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) فيه تارة: بأن الطهارة الخبيثة حيث لم تكن واجبة لنفسها، بل لأجل تقييد الصلاة بها، لها بدل أيضاً، حيث يجب مع تعذرها الصلاة في الثوب النجس أو عارياً على الخلاف.

وأخرى: بأن التزاحم إنما يكون بين الواجبات الاستقلالية. وأما الواجبات الضمنية من الأجزاء والشرائط فمقتضى القاعدة سقوط المركب مع تعذر بعضها. غير أن الإجماع لما قام على عدم سقوط الصلاة في المقام، ولا يعلم بأن الواجب هو الصلاة مع الطهارة الحدثية المائية أو الخبيثة يلزم التعارض، وبعد التساقط يتعين البناء على عدم وجوب أحد الأمرين لولا العلم بوجوب أحدهما، المستلزم لدوران الأمر في الواجب بين التعيين والتخيير، ومقتضى الأصل البراءة من التعيين في كل منهما والبناء على التخيير.

ص: 102

ويندفع الأول بأن الصلاة عارياً أو بالثوب النجس ليست بدلاً عن الصلاة بالثوب الطاهر، نظير بدلية الصلاة بالتيمم عن الصلاة بالطهارة المائية، بل هي ميسور منها ارتكازاً، ووجوب الميسور يبتني على اكتفاء المولى بملاك أصل الماهية بعد تعذر استيفاء ملاك التقيد، وهو راجع إلى أن الطهارة الخبيثة لا بدل لها.

وأما الثاني فيندفع - بعد تسليم أن المرجع عند دوران الواجب بين التعيين والتخيير البراءة من التعيين - بأن سقوط قيد الواجب عند تعذره والاكتفاء بفاقد القيد مبني ارتكازاً على الاكتفاء بالميسور عند تعذر الواجب التام، تحصيلاً لملاك أصل الماهية بعد تعذر ملاك القيد، ولازم ذلك أنه مع تعذر تحصيل القيدين معاً وإمكان تحصيل أحدهما يتعين التزاحم بينهما ووجوب أحدهما والترجيح بينهما، على نحو التزاحم في الواجبين الاستقلاليين.

وإنما يتم ما ذكره فيما إذا كان سقوط القيد لتبدل الموضوع والملاك، كما إذا وجب يوم الجمعة صلاة ركعتين ببياض في المسجد، وعلم يوم السبت بعدم وجوب القيدين معاً، ودار الأمر بين التخيير بينهما وتعيين أحدهما. ومن البعيد جداً ابتناء سقوط القيد في المقام على ذلك.

على أن التعارض إنما يلزم في مثل ذلك مع إطلاق دليل كل من القيدين بنحو يشمل المورد الذي يعلم فيه بعدم وجوب الجمع بينهما، حيث يتعين حينئذٍ ترجيح أقوى الدليلين، ومع عدمه يتعين تساقط الإطلاقين، والرجوع مع العلم بوجوب أحد القيدين للأصل الجاري عند الدوران بين التعيين والتخيير. أما مع عدم الإطلاق لكل منهما وانحصار الأمر بإطلاق وجوب المركب التام، المفروض بتعذر القيد، فلا تعارض في البين، بل إن علم حينئذٍ بوجوب أحد القيدين في الجملة يتعين الرجوع للأصل المتقدم.

ومن هنا كان الظاهر تمامية ما ذكروه من كون المقام من صغريات التزاحم بين ما له بدل وما لا بدل له. نعم تقدم في المسوغ الثاني الإشكال في عموم ترجيح ما ل

ص: 103

الماء في إزالة الخبث، والأولى أن يصرف الماء أولاً في إزالة الخبث (1) ثم التيمم.

بدل له. وإن تقدم أيضاً تقريب ذلك في خصوص الطهارة المائية، للتعليل المستفاد من بعض نصوصها. فراجع.

هذا وقد يستدل على تقديم الطهارة الخبيثة بمعتبر أبي عبيدة - بناء على ما تقدم عند الكلام في مطهرية الماء المضاف من الحدث من العمل برواية سهل بن زياد -:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الحائض ترى الطهر وهي في السفر وليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها، وقد حضرت الصلاة. قال: إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله، ثم يتيمم وتصلي..."(1). فإن مقتضى إطلاقه لزوم غسل الفرج وإن كان الماء بقدر الوضوء اللازم مع حدث الحيض.

وقد يستشكل فيه بوجهين:

الأول: ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أنه مبني على عدم إغناء غسل الحيض عن الوضوء، الذي هو محل إشكال، بل سبق منّا المنع عنه.

ودفعه بعض مشايخنا (قدس سره) بأن غسل الحيض وإن كان مغنياً عن الوضوء، إلا أن التيمم بدل الغسل لا يغني عنه. ولم يتضح منشأ ذلك، بل هو خلاف إطلاق أدلة البدلية، ومنها الحديث المذكور، لأن مقتضى إطلاقه الاجتزاء بتيمم واحد.

الثاني: أن أهمية إزالة الخبث من الوضوء في مورد الرواية الذي يكون فيه بعض الرافع لا يستلزم أهميتها من الوضوء أو الغسل إذا كانا تمام الرافع، كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) أيضاً.

(1) حيث لا إشكال في جواز ذلك حتى مع احتمال التساوي بينهما أو احتمال الأهمية من الطرفين، فيكون فاقداً للماء حقيقة، ومعه يشرع التيمم قطعاً، لعدم التفريط في استعمال الماء، فلا مجال لاحتمال عدم الإجزاء الذي يأتي الكلام فيه في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 104

(السابع): ضيق الوقت عن تحصيل الماء (1)، أو عن استعماله (2)

المسألة الواحدة والأربعين، وتقدم منا نظير ذلك في المسوغ الثاني.

(1) فقد تقدم في المسألة الثامنة سقوط وجوب الطلب مع ضيق الوقت. وتقدم في المسألة التاسعة الإشكال في مشروعية التيمم مع التفريط في الطلب في سعة الوقت.

(2) كما في التذكرة والمنتهى والروضة والرياض والجواهر وظاهر المختلف وعن الجامع، وفي الرياض أنه الأشهر. لكن في المعتبر وكشف اللثام وظاهر جامع المقاصد وعن ابن عصفور عدم مشروعية التيمم حينئذٍ.

وقد يستدل للأول بوجوه:

الأول: عموم عدم سقوط الصلاة بحال، فإنه بعد سقوط الطهارة المائية بالتعذر فعدم سقوط الصلاة - بمقتضى العموم المذكور - مستلزم لمشروعية التيمم، لعدم الإشكال في عدم وجوب الصلاة الفاقدة للطهور حينئذٍ. ويظهر الجواب عنه مما تقدم في المسألة التاسعة من عدم ثبوت العموم المذكور.

الثاني: أن المستفاد من النصوص والفتاوى الملازمة بين سقوط الطهارة المائية ومشروعية التيمم، وحيث تسقط الطهارة المائية في المقام بالتعذر يتعين مشروعية التيمم.

وفيه: أن المتيقن من الملازمة المذكورة ما إذا وجبت الصلاة ووجبت الطهارة لها، أما مع احتمال سقوط الصلاة بتعذر الطهارة المائية فمشروعية التيمم من أجل تحقيق القدرة على الصلاة وإبقاء الخطاب بها أول الكلام.

الثالث: أن المراد من عدم الوجدان الذي هو موضوع التيمم هو عدم وجدان مالا محذور في استعماله، وفوت الأداء محذور مانع من صدق عدم الوجدان في المقام. لكنه ممنوع كما سبق في أول الكلام في المسوغ الثاني.

ص: 105

(106)

ومثله دعوى أن المراد به وجدان الماء والتمكن من استعماله لأداء الصلاة. حيث يظهر مما سبق هناك المنع منه أيضاً. غاية الأمر أن يدعى انصراف عدم الوجدان لعدم وجدان ما يمكن استعماله في الطهارة في مقابل مالا يمكن استعماله فيها، كما لو كان نجساً أو في بئر لا يمكن إخراجه منها والتعدي لسائر موارد عدم القدرة ولو للزوم المحذور مستفاد من قرائن وأدلة أخر تقصر عن المقام.

وكذا دعوى: أن عدم لزوم المحذور وإن لم يكن قيداً في عدم الوجدان الذي هو موضوع التيمم، إلا أنه بنفسه موضوع لمشروعية التيمم، كما سبق عند الكلام في المسوغ الثاني.

لاندفاعها بأن المتيقن من ذلك ما إذا علم بوجوب الصلاة، ولا عموم له يقتضي وجوب الصلاة في مورد الشك، فهو راجع إلى تحديد موضوع بدلية التيمم وسعتها في فرض الخطاب بالصلاة، لدفع وجوب ارتكاب المحذور من أجل تحصيل الطهارة المائية، لا لتحديد القدرة على الصلاة وسعتها لكل مورد يقدر فيه على التيمم من أجل إحراز عموم الخطاب بالصلاة حينئذٍ، لتحرز مشروعية التيمم، كما هو الحال في المقام.

الرابع: أن تشريع التيمم إنما هو من أجل أهمية الوقت، وذلك يناسب عمومه للمقام. لكن مجرد ذلك لا يكفي في فهم تشريعه في المقام بعد ظهور دليل تشريعه الأولي - كالآيتين، بل جميع الأدلة - في قصور دليل تشريعه واختصاصه بغير صورة وجدان الماء والقدرة على استعماله بالمقدار الحاصل في محل الكلام.

ولاسيما وأن مقتضى هذا الوجه مشروعية التيمم وإجزاء العمل معه حتى مع التفريط والتعمد بعدم المبادرة للطهارة المائية حتى ضاق الوقت عنها، كما حكم بذلك غير واحد ممن ذهب إلى مسوغية ضيق الوقت للتيمم.

ومن الظاهر أن ذلك أبعد عن المرتكزات من عدم مسوغية ضيق الوقت للتيمم وسقوط الأداء في محل الكلام، حتى ساق في حاشية المختلف استبشاعه دليل

ص: 106

على عدم مشروعية التيمم بضيق الوقت. وهناك بعض الوجوه، الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور وهنها، ولاسيما بملاحظة ما تقدم.

هذا مضافاً إلى أنه لا ينبغي التأمل في أن المسوغ المذكور ليس بنحو يفهم من النصوص والأدلة بلا تكلف ولا تعمل، وحيث كان مما يشيع الابتلاء به جداً، فلو كان ثابتاً لكان المناسب التعرض له سؤالاً وجواباً من المتشرعة والمعصومين (صلوات الله عليهم)، ولكثرت النصوص الواردة فيه. بل ينبغي كثرة النصوص الواردة في فروعه الابتلائية، كما وردت في فروع بقية المسوغات المهمة الشايعة الابتلاء، مع أنه ليس لذلك عين ولا أثر، وهو مما يوجب الوثوق أو الاطمئنان بعدم ثبوت المسوغ المذكور.

ويزيد ذلك ظهوراً بملاحظة إهمال قدماء الأصحاب التعرض لذلك، حيث لم يعرف تحرير هذه المسألة قبل المحقق في المعتبر وابن عمه ابن سعيد في الجامع، مع وضوح عدم دخول هذا المسوغ في المسوغات المذكورة في كلمات القدماء، بل المنساق من بعض كلماتهم عدم ثبوت هذا المسوغ. فإن ذلك لا يناسب ثبوت المسوغ المذكور مع شيوع الابتلاء بالمسألة، بل هو كاشف عن تسالمهم على عدم ثبوته.

وبالجملة: سبر النصوص وكلمات قدماء الأصحاب، وظهور عدم الإشارة فيها لهذا المسوغ، مع شيوع الابتلاء به وبفروعه، يشرف بالإنسان على القطع بعدم ثبوته.

هذا مضافاً إلى إشعار بعض النصوص بذلك أو دلالتها عليه. ففي صحيح عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): "...وإن رأت الطهر في وقت الصلاة، فقامت في تهيئة ذلك، فجاز وقت صلاة ودخل في وقت صلاة أخرى فليس عليها قضاء وتصلي الصلاة التي دخل وقتها" (1) وقريب منه موثق محمد بن مسلم(2) وفي موثق الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في المرأة تقوم في وقت الصلاة فلا تقضى طُهرها حتى تفوتها الصلاة ويخرج الوقت، أتقضي الصلاة التي فاتتها؟ قال: إن كانت توانت قضتها،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 1، 5.

ص: 107

بحيث يلزم من الوضوء وقوع الصلاة أو بعضها (1) في خارج الوقت، فيجوز التيمم في جميع الموارد المذكورة.

وإن كانت دائبة في غسلها فلا تقضي" (1) حيث لم يشر فيها إلى وجوب التيمم لو لم يسع الوقت الغسل، مع التعرض فيها لفرض ضيق الوقت. ومن هنا يشكل البناء على مشروعية التيمم لضيق الوقت.

نعم لا إشكال في رجحان الاحتياط بالأداء بالتيمم، ثم القضاء في خارجه. لكنه يختص بما إذا علم بعدم إدراك الأداء - ولو بإدراك ركعة - مع الطهارة المائية، وإلا كان اللازم المبادرة لذلك، لوجوب الاحتياط مع الشك في القدرة، ولا يجوز الاحتياط بالتيمم، بمجرد احتمال عدم إدراك الأداء مع الماء.

ثم إنه لو بني على مشروعية التيمم لضيق الوقت ففي عموم ذلك لما إذا فرط المكلف بعدم المبادرة كلام قد يظهر مما يأتي في المسألة الوحدة والأربعين إن شاء الله تعالى.

(1) الكلام في ذلك مبني على مسوغية ضيق الوقت للتيمم من أجل إدراك الصلاة الأدائية. ومن الظاهر أم مقتضى التوقيت وجوب إيقاع تمام الصلاة في الوقت، ومقتضى ذلك مشروعية التيمم في الفرض.

نعم المعروف من مذهب الأصحاب المدعى عليه إجماعهم إدراك الصلاة الأدائية بإدراك ركعة من الوقت. واستدل عليه بموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: "قال: فإن صلى ركعة من الغداة ثم طلعت الشمس فليتم الصلاة، وقد جازت صلاته، وإن طلعت الشمس قبل أن يصلي ركعة فليقطع الصلاة، ولا يصلي حتى تطلع الشمس ويذهب شعاعها"(2) ، وخبر الأصبغ:" قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب المواقيت حديث: 3.

ص: 108

من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامة "(1) وفي الذكرى عن الشيخ في الخلاف:" قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر. قال: وكذلك روي عن أئمتنا عليهم السلام"(2). وحينئذ قد يدعى عدم مشروعية التيمم في الفرض، لإمكان إدراك الصلاة الأدائية التامة بالطهارة المائية.

لكن ظاهر الموثق مجرد لزوم إتمام الصلاة وعدم قطعها، من دون أن يدل على وجوب الشروع فيها لو علم بالحال، فضلاً عن كونها أدائية واجدة لمصلحة الوقت في الجملة، أو تامة، ليتوهم عدم مشروعية التيمم.

وأما خبر الأصبغ والنبوي فهما وإن كانا ظاهرين في إدراك مصلحة الوقت بذلك، خصوصاً خبر الأصبغ للتصريح فيه بأنها تامة، إلا أن ضعفهما مانع من التعويل عليهما. ودعوى انجبارهما بعمل الأصحاب. ممنوعة لعدم وضوح اعتمادهم عليهما، خصوصاً النبوي الذي لم يرو مسنداً من طرقهم. بل يمكن اعتمادهم على الموثق لتوهم تمامية دلالته.

إذا عرفت هذا فإن تمّ التنزيل المذكور، كان مقتضاه عدم مشروعية التيمم لإدراك تمام الصلاة في الوقت مع التمكن من إدراك ركعة في الوقت بالطهارة المائية، لأن مقتضى التنزيل المذكور عدم فوت الوقت من الطهارة المائية ليشرع بالتيمم.

إن قلت: المتيقن من التنزيل المذكور من ضاق وقته عن تمام الصلاة، ولا إطلاق فيه يشمل سعة الوقت، ليكون للمكلف تأخير الصلاة، بحيث يقع منها في الوقت ركعة واحدة، لظهور "من أدرك" في فرض ضيق الوقت، وحينئذٍ لا مخرج عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب المواقيت حديث: 2.

(2) ذكرى الشيعة ج: 2 ص: 355. وذكره باختلاف كثير في وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب المواقيت حديث: 5.

ص: 109

(110)

(مسألة 13): إذا خالف المكلف عمداً فتوضأ في مورد يكون الوضوء فيه حرجياً (1) - كالوضوء في شدة البرد - صح وضوؤه (2) وإذ

مقتضى أدلة التوقيت الأولية من وجوب إيقاع تمام الصلاة في الوقت، فإذا لم يتيسر في ذلك مع الطهارة المائية يتعين التيمم.

قلت: لو تم ظهور "من أدرك" في ذلك أو كونه المتيقن منه، إلا أن قوله (عليه السلام) في خبر الأصبغ: "فقد أدرك الغداة تامة" كاف في جواز التأخير اختياراً، لظهوره في وفائه بتمام ملاك الصلاة الأدائية، إما لكونه فرداً منها، أو بدلاً عنها، ومع ذلك لا وجه لحرمة اختياره. فإن بني على عدم التعويل على الخبر المذكور، والاقتصار على الموثق فقد سبق عدم ظهوره في التنزيل المذكور، وهو خلاف المفروض في محل الكلام.

وأظهر من ذلك ما إذا لزم وقوع بعض الصلاة خارج الوقت على كل حال، إلا أنه مع التيمم يكون الواقع منها في الوقت أكثر، حيث لا يلزم من التيمم تحصيل تمام الصلاة في الوقت الذي هو مقتضى أدلة التوقيت الأولية، ليتجه مشروعيته.

ودعوى: أن المستفاد من أدلة التوقيت وجوب إيقاع الصلاة في الوقت بنحو العموم الانحلالي الراجع لوجوب إيقاع كل جزء منها في الوقت، فيجب إيقاع ما يمكن من أجزائها فيه ولو بترك الطهارة المائية والانتقال للتيمم.

ممنوعة جداً بل ظاهر الأدلة المذكورة وجوب إيقاعها بتمامها فيه بنحو العموم المجموعي، فمع تعذره لا يجب المبادرة بالميسور. ولذا كان الوجه في وجوب المبادرة لمقدار الركعة منحصراً بالنصوص المتقدمة، ولولاها لم يجب قطعاً.

(1) أو اغتسل في مورد يكون الغسل فيه حرجياً.

(2) كما مال إليه في الجواهر، وصرح به غير واحد لأن الحرج وإن كان رافعاً للتكليف، إلا أنه لا يوجب قصور موضوعه تخصيصاً، بل هو عرفاً من سنخ العذر الرافع للإلزام مع بقاء الملاك والرجحان، فيتعين صحة الطهارة المائية وإمكان التقرب

ص: 110

خالف في مورد يكون الوضوء فيه محرماً - كالرمد الذي يضر به الماء (1) - بطل وضوؤه (2)، وإذا خالف في مورد يجب فيه حفظ الماء - كما في الأمر الرابع - فإن نوى الوضوء بنفس إراقة الماء على الوجه بطل (3)، وإن أراقه على الوجه ثم رده من الأسفل إلى الأعلى ونوى الوضوء بالغسل من الأعلى إلى الأسفل صح إذا تيسر له ذلك (4). وكذا الحال في بقية الأعضاء.

بها بلحاظ ذلك.

(1) إما للبناء على حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً، أو لكون الإضرار في الرمد بنحو يقتضي تعرض العين للخطر والتلف، حيث لا يبعد البناء على الحرمة حينئذٍ.

(2) لامتناع التقرب بما هو محرم. من دون فرق بين كون المحرم هو الفعل الوضوئي بنفسه، كما لو كان بنفسه استعمالاً للإناء المغصوب أو إناء الذهب وكون المحرم هو أثره التوليدي كالإضرار، لمبعدية الثاني بلحاظ ترتب الأثر المحرم عليه وإن لم يحرم لنفسه. نعم لابد في البطلان من التفاته للحرمة وإقدامه على مخالفتها، كما نبّه (قدس سره) في المسألة الآتية.

(3) لأن الإراقة بنفسها إتلاف للماء ومنافية لوجوب حفظه، فتحرم ولا يمكن التقرب بها.

(4) لأن العصيان إنما يكون بالإراقة، ولا عصيان في ردّ الماء بعدها، ولا في الغسل به، ليمتنع التقرب به. لكن إذا ابتنت نية الوضوء على نية إكماله له بالوجه المستلزم للعصيان امتنع التقرب به ارتكازاً وتعين بطلانه. وإنما يصح إذا لم تبتن على ذلك، كما إذا أتى بكل جزء بنية الإكمال بالوجه الحلال، بأن كان يعتقد بقدرته على إكمال وضوئه بماء آخر، ثم عدل وأكمله بعد ذلك بالوجه المحرم. وقد تقدم منا نظير ذلك في شرائط الوضوء عند الكلام في اعتبار الإباحة. فراجع.

ص: 111

(112)

(مسألة 14): إذا خالف فتطهر بالماء لعذر من جهل أو نسيان أو غفلة صح وضوؤه في جميع الموارد المذكورة (1) عدا ضيق الوقت، أما إذا توضأ في ضيق الوقت فإن نوى الأمر الأدائي بطل (2)، وإن نوى الأمر المتعلق بالوضوء فعلاً صح، من غير فوق بين العمد والخطأ.

(مسألة 15): إذا آوى إلى فراشه وذكر أنه ليس على وضوء جاز له التيمم حينئذٍ (3) وإن تمكن من استعمال الماء، بل لا يبعد أيضاً جواز التيمم

(1) لتيسر التقرب بعد فرض وجود العذر، فيصح العمل بعد عدم كون تشريع التيمم واقعاً في الفروض المذكورة منافياً لتمامية ملاك الطهارة المائية.

(2) لعدم الأمر بالأداء مع الطهارة المائية. لكن الظاهر أنه لا يعتبر في عبادية الوضوء إيقاعه بقصد امتثال أمره أو أمر الغاية التي توقع به، بل يكفي إيقاعه بوجه قربي ولو بقصد أمر لا واقع له، وهو حاصل في المقام. وقد تقدم في المسألة الواحدة والسبعين من مقصد الوضوء، وفي المسألة التاسعة عشرة من مقصد غسل الجنابة، ما ينفع في المقام. فراجع.

ويناسب ذلك النصوص الواردة في الحائض التي تتطهر للصلاة فيخرج الوقت، وقد تقدم بعضها في آخر المسوغ السابع، حيث يظهر منها صحة الغسل من دون تنبيه للتفصيل في النية. فلاحظها.

(3) ففي الحدائق: "الظاهر أنه لا خلاف في استحباب التيمم للنوم ولو مع وجود الماء" .ويشهد له مرسل الفقيه والتهذيب عن الصادق (عليه السلام): "قال: من تطهر ثم آوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده. فإن ذكر أنه ليس على وضوء، فتيمم من دثاره كائناً ما كان، لم يزل في صلاة ما ذكر الله" (1) ونحوه أو عينه حديث المحاسن عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 112

(113)

لصلاة الجنازة وإن تمكن من استعمال الماء وإدراك الصلاة (1).

حفص بن غياث عنه(1) (عليه السلام).

ويختص موردهما بما في المتن من تيمم المكلف في فراشه مع نسيان الوضوء، دون الغسل، ودون تعمد عدم الوضوء حتى يأوي إلى فراشه، فضلاً عن التيمم قبل أن يأوي إلى فراشه. ومنه يظهر الإشكال في إطلاق ما سبق من الحدائق. ولاسيما مع ما في معتبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "قال: لا ينام المسلم وهو جنب، ولا ينام إلا على طهور، فإن لم يجد الماء فليتمم بالصعيد..."(2). نعم مقتضى المرسل جواز التيمم من دثاره وإن لم يكن فيه غبار. وكان المناسب لسيدنا المصنف (قدس سره) التنبيه على ذلك.

(1) قال في الجواهر:" على المشهور نقلاً وتحصيلاً. بل في الذكرى نسبته إلى الأصحاب، والتذكرة إلى علمائنا وظاهره الإجماع، كما عنه في المنتهى ذلك أيضاً. بل في الخلاف دعوى الإجماع صريحاً".

لموثق سماعة:" سألته عن رجل مرت به جنازة وهو على غير وضوء، كيف يصنع؟ قال: يضرب بيديه على حائط اللبن فليتيمم به"(3) ، وصحيح حريز عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: الطامث تصلي على الجنازة، لأنه ليس فيها ركوع ولا سجود. والجنب يتيمم ويصلي على الجنازة"(4) ، ومرسل الصدوق:" وفي خبر آخر أنه يتيمم إن أحب "(5) والرضوي:" إن كنت جنباً وتقدمت للصلاة عليها فتيمم أو توضأ وصل عليها"(6).

لكن الموثق منصرف إلى صورة خوف الفوت، لظهوره في كون مرور الجنازة موجباً لتحير السائل وسؤاله، ولو كان الوضوء متيسراً له لا موجب لتحيره. ودعوى:

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 11، 4.

(3و4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5، 2، 4.

(6) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 20 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 113

أن التحير من جهة الجهل بالحكم، لا من جهة خوف الفوت. مدفوعة بعدم مناسبة ذلك للجواب بالتيمم، بل كان المناسب الجواب بالتخيير بينه وبين الوضوء، حيث لا إشكال في مشروعية الوضوء وأفضليته ولاسيما وإن ذلك هو المناسب لحال من مرت به جنازة وهو على غير وضوء، لغلبة عدم انتظار المصلين له حتى يتوضأ، أو خوف ذلك.

وحديث حريز ومرسل الصدوق حيث اقتصر فيهما على التيمم فكما يمكن حملهما على بيان مشروعيته، وأنه أحد فردي التخيير، خروجاً عن ظهوره البدوي في تعينه كذلك يمكن حملهما على تعينه بلحاظ خوف الفوت وعدم إدراك الصلاة مع الوضوء.

فلم يبق إلا الرضوي الذي لم يثبت كونه رواية عن معصوم، فضلاً عن أن يكون حجة، ليخرج به عن عموم أو أصالة عدم مشروعية التيمم مع تيسر الطهارة المائية.

وأما ما في الجواهر من احتمال اختصاص ذلك بالتيمم الذي هو بدل عن الطهارة المائية مبيح لسائر غاياتها، دون ما كان مستحباً في نفسه من دون ملاحظتها، كما في المقام. فهو بعيد جداً، بل المنساق من التيمم في المقام وغيره البدلية المذكورة، بل هو ظاهر موثق سماعة، لتنبيه السائل فيه على عدم كونه على وضوء. كيف ولولا ذلك لزم استحباب الجمع بينهما، عملاً بالأمر بكل منهما.

ولعله لذا اقتصر في التهذيب والمراسم والمعتبر وظاهر المبسوط والنهاية والاقتصاد على صورة خوف الفوت، وحكي ذلك عن ظاهر المرتضى وعن أبي علي والقاضي والراوندي والدروس والبيان. وهو المناسب لخبر الدعائم عن علي (عليه السلام): "إنه سئل عن الرجل يحضر الجنازة وهو على غير وضوء ولا يجد الماء. قال: يتيمم ويصلي عليها إذا خاف أن يفوته"(1).

نعم لا بأس بالإتيان بالتيمم مع عدم خوف الفوت برجاء المطلوبية.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 19 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 114

(115)

الفصل الثاني: فيما يتيمم به

الأقوى جواز التيمم بما يسمى أرضاً (1)،

(1) كما هو مقتضى إطلاق الآيتين الكريمتين وبعض النصوص المشتملة على لفظ الصعيد(1) ، بناء على أنه مطلق الأرض، كما حكي عن جماعة كثيرة من أهل اللغة، وفي مجمع البيان:" قال الزجاج لا أعلم خلافاً بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض. وهذا يوافق مذهب أصحابنا في أن التيمم يجوز بالحجر، سواء كان عليه تراب أو لم يكن".

ويناسبه قوله تعالى:" فتصبح صعيداً زلقاً"(2). ففي مجمع البيان: "الزلق الأرض الملساء المستوية لا نبات فيها ولا شيء. وأصل الزلق ما تزلق عنه الأقدام فلا تثبت عليه" وكذا قوله تعالى: "وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً"(3). والنبوي:" يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة على صعيد واحد"(4). فإن المنظور في الأول الأرض التي لا نبات فيها، وفي النبوي وحدة الأرض وعدم التفاضل فيها بين الناس، من دون خصوصية في الموردين للتراب أو نحوه.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التيمم حديث: 2، وباب: 14 منها حديث: 1، 12، 15، 17، وباب: 25 منها حديث: 1، 3.

(2) سورة الكهف الآية: 40.

(3) سورة الكهف الآية: 8.

(4) معالم الزلفى باب: 22 في صفة الحشر ص: 145.

ص: 115

مضافاً إلى إطلاق الأرض في جملة من النصوص - كقوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي والحسين بن أبي العلاء: "لأن رب الماء هو رب الأرض"(1) ، وما تضمن جعل الأرض طهوراً(2) ، وما تضمن الأمر بتأخير التيمم معللاً بأنه إن فاته الماء لم تفته الأرض(3) - وإلى موثق سماعة المتقدم في الوضوء لصلاة الجنازة المتضمن التيمم بحائط اللبن، وإلى التعليل في حديث السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام):" أنه سئل عن التيمم بالجص، فقال: نعم. فقيل: بالنورة؟ فقال: نعم، فقيل: بالرماد؟ فقال: لا، إنه ليس يخرج من الأرض إنما يخرج من الشجر"(4) ، وقريب منه ما عن الراوندي بسنده عن علي (عليه السلام) وزاد: "فقيل له: أيتيمم بالصفا الناتية [الثابتة خ. ل] على وجه الأرض؟ قال: نعم"(5).

هذا والمحكي عن جماعة الاختصاص بالتراب والمنع من الحجر، وعن ظاهر الغنية الإجماع عليه. لكن قال في الغنية:" ولا يجوز إلا بتراب طاهر، ولا يجوز بالكحل ولا بالزرنيخ ولا بغيرهما من المعادن، ولا بتراب خالطه شيء من ذلك بالإجماع ".وهو وإن اقتصر على التراب إلا أنه ذكره في مقابل المعادن وما اختلط بها، لا في مقابل الحجر ونحوه من أقسام الأرض. ولعله مراد غيره ممن نقل ذلك عنه من القدماء. ولعله لذا كان ظاهر بعضهم وصريح آخرين الإجماع على الاكتفاء بمطلق الأرض. بل في الروضة: أنه لا قائل بالمنع مطلقاً وفي الروض الإجماع على إجزائه في الجملة. نعم يأتي عن بعضهم التفصيل فيه بين وجود التراب وعدمه.

وكيف كان فقد يستدل لهم باختصاص الصعيد بالتراب، كما هو المحكي عن جماعة من أهل اللغة. كما يناسبه قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة:" فلما أن وضع الوضوء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التيمم حديث: 1، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التيمم حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب التيمم حديث: 1.

(5) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 6 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 116

عمن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحاً، لأنه قال: (بوجوهكم) ثم وصل بها: (وأيديكم منه) أي من ذلك التيمم، لأنه علم أن ذلك أجمع لم يجر على الوجه، لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها"(1) ، لأن الذي يعلق بالكف هو التراب لا الحجر.

ودعوى: أن الغبار أيضاً يعلق بالكف، والحجر والصخر واللبن ونحوهما لا تخلو من الغبار. مدفوعة بأن الصحيح إنما تضمن علوق الصعيد، والغبار ليس منه قطعاً، بل ليس الصعيد العالق إلا التراب.

وكذا النصوص المتضمنة طهورية التراب، كقوله (عليه السلام): "إن الله جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً" (2) وغيره(3). لظهورها في الإشارة إلى طهورية الصعيد التي تضمنتها الآيتان اللتان هما الأصل في تشريع التيمم.

وخصوص بعض النصوص كخبر علي بن مطر عن بعض أصحابنا: "سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل لا يصيب الماء أو التراب أيتيمم بالطين؟ قال: نعم صعيد طيب، وماء طهور" (4) لظهوره في انحصار الطهور بالتراب، ولذا ينتقل بتعذره للطين من دون أن ينبه فيه لقيام الحجر والصخر ونحوها مقام التراب وتقدمها على الطين. والنبوي المسند في محكي الخصال والعلل: "قال الله عز وجل: جعلت لك ولأمتك الأرض كلها مسجداً، وترابها طهوراً"(5) ، ونحوه النبوي المرسل في محكي عوالي اللئالي(6) ، فإن العدول في التيمم الذي هو امتناني من الأرض إلى التراب مع ما فيه التضييق ظاهر في عدم التيمم بغيره من أقسام الأرض.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب التيمم حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 4، وباب: 9 منها حديث: 4، 6، وباب: 14 منها حديث: 13، وباب: 24 منها حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 6.

(5و6) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 3، 8.

ص: 117

وبذلك يخرج عن إطلاق الأرض في النصوص المتقدمة. وموثق سماعة مختص بمورده. وخبر السكوني والراوندي ضعيفان غير مجبورين بعمل المشهور فيما هما ظاهران فيه من جواز التيمم بالجص والنورة بعد الإحراق.

ودعوى: أن الحجر تراب اكتسب رطوبة لزجة وعملت حرارة الشمس فيه حتى تحجر من دون أن يخرج عن حقيقة التراب. مدفوعة بعدم شمول التراب له عرفاً وإن لم يخرج عنه حقيقة.

لكن الإنصاف أنه يصعب جداً الخروج بتصريح بعض اللغويين عما هو الأشهر بينهم المعتضد بالاستعمالات المتقدمة من عموم الصعيد لمطلق الأرض.

وأما صحيح زرارة فمضمونه لا يخلو عن إشكال. أولاً: لما هو المعروف نصاً وفتوى من عدم وجوب مسح الوجه بالتراب، بل يستحب نفضه لو علق بالكف، كما يأتي في المسألة الثانية والعشرين إن شاء الله تعالى. وثانياً: لأن مقتضاه الاكتفاء بمسح الوجه بموضع التراب من الكف وإن لم يستوعب الجبين بإسداله، وهو مخالف للنص والفتوى.

قال سيدنا المصنف (قدس سره):" فلابد من حمله على إرادة تلقين الاستدلال لزرارة في قبال العامة. ولعله مبني على مقدمات مطوية مسلمة عندهم. كما لا يبعد أن يكون المراد من السؤال في صدر الصحيح أيضاً ذلك".

وأما النصوص المتضمنة لطهورية التراب فهي لا تنافي طهورية مطلق الأرض التي تضمنتها النصوص الأخر. وجعلها قرينة على اختصاص الصعيد بالتراب ليس بأولى من جعل نصوص طهورية مطلق الأرض قرينة على عمومه لمطلق الأرض. بل لعل الثاني أولى، لأن حمل الأرض على خصوص التراب بعيد جداً، بل لا يناسب الحكم في جملة منها بكونها مسجداً، بخلاف تنزيل هذه النصوص على أن ذكر التراب لأنه أظهر أفراد الصعيد لا لاختصاصه به، فإنه ليس بذلك البعد.

وأما حديث علي بن مطر فهو ضعيف في نفسه يسهل تنزيله على فرض كون

ص: 118

الشخص في أرض ترابية تصير طيناً بنزول الماء عليها.

كما أن النبويين - مع ضعفهما - مخالفان للنصوص الأخر التي أطلق فيها جعل الأرض طهوراً، والتي هي أكثر عدداً وأقوى سنداً وأعلى متناً. ولاسيما وعن مجالس ابن الشيخ الطوسي رواية نبوي ثالث هكذا:" وجعل لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما كنت أتيمم من تربتها [ترابها] وأصلي عليها"(1). وهو لا ينافي عموم طهورية الأرض.

وأما الجمود في موثق سماعة على مورده فهو بعيد جداً، لإلغاء خصوصيته عرفاً. إلا أن يدعى الفرق بين اللبن والحجر بدخول اللبن في التراب عرفاً، كما يأتي في المدر.

كما أن خبر الراوندي وإن كان ضعيفاً، إلا أن الظاهر اعتبار حديث السكوني. إذ ليس في طريقه من يغمز فيه إلا أحمد بن محمد بن يحيى، الذي ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه لم يوثق في كتب الرجال، وأحمد بن الحسين بن سعيد المعروف بدندان، الذي قال فيه النجاشي: "روى عن جميع شيوخ أبيه إلا حماد بن عيسى فيما زعم أصحابنا القميون. وضعفوه وقالوا هو غال. وحديثه يعرف وينكر" كما حكى عن محمد بن الحسن بن الوليد تضعيفه، وأن الصدوق وابن نوح تبعاه في ذلك، وقال الشيخ فيه وفي أحمد بن بشير: "وهما ضعيفان. ذكر ذلك ابن بابويه".

لكن الظاهر وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى، كما تقدم عند الكلام في مفهوم العدالة من مباحث الاجتهاد والتقليد.

كما أن الظاهر أن منشأ تضعيف القميين - ومنهم محمد بن الحسن - لأحمد بن الحسين تهمتهم إياه بالغلو، التي عقبها ابن الغضائري بقوله: "وحديثه فيما رايته سالم" .كما قد يظهر من نسبة النجاشي التضعيف لهم توقفه فيه. بل مقتضى اقتصار الشيخ وابن الغضائري على نسبة القميين له الغلو كون نسبة النجاشي التضعيف للقميين

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 119

سواءً أكان تراباً (1) أم رملاً (2).

مبنية على نسبتهم الغلو له، لا على تضعيفهم له زائداً على ذلك، وذلك لما هو المعروف من تشدد القميين في أمر الغلو، فيحكمون بالضعف من أجله كبروياً، كما يتشددون فيه صغروياً. كما أن ظاهر الشيخ أن تضعيفه له مبني على تضعيف الصدوق المبني هو وتضعيف ابن نوح على تضعيف ابن الوليد، كما تقدم في كلام النجاشي.

ومن هنا لا يركن للتضعيف المذكور في مقابل ما يظهر من ابن الغضائري من تبرئته وقبول حديثه، المعتضد بكونه من رجال كامل الزيارات والمؤيد برواية بعض الأعيان عنه. ومن ثم لا مجال للبناء على انحصار التيمم بالتراب.

وأضعف من ذلك ما في المقنعة والنهاية وإشارة السبق والمراسم والسرائر وعن الجامع من تقييد التيمم بالحجر بحال الاضطرار وفقد التراب، بل جعله في المراسم في مرتبة الثلج والوحل.

إذ فيه: أنه إن تم عموم الصعيد له مفهوماً، أو إطلاق طهورية الأرض، أجزأ مطلقاً، وإلا فلا دليل على إجزائه مع فقد التراب. ولعله لذا احتمل في كشف اللثام كون الحكم المذكور منهم على سبيل الاحتياط لا الجزم.

(1) وهو المتيقن من النصوص والفتاوى، وإن عرفت العموم لغيره. وقد يستفاد من الجمع بين نصوصه ودليل الصعيد والأرض كونه أفضل الأفراد. فتأمل.

(2) الظاهر أن المراد بالتراب في كلام غير واحد ما يعم الرمل، لمقابلتهم التراب بالحجر، بل هو كالصريح من بعضهم. نعم لا يخلو عمومه له لغة عن إشكال، فإنه وإن فسر التراب في كلام بعض أهل اللغة بما نعم من الأرض، إلا أنه قد يقابل بالرمل في بعض استعمالات كقوله: "عدد الرمل والحصى والتراب" بل في الناصريات: "وفي الجمهرة لأبي عبيدة [عن أبي عبيدة. ظ] أن الصعيد هو التراب الخالص الذي لا يخالطه سبخ ولا رمل" .ومقتضاه مباينة الرمل للتراب والصعيد معاً. لكن الظاهر

ص: 120

أم مدراً (1) أم حصى (2) أم صخراً أملس. ومنه أرض الجص والنورة

من الاستعمالات الكثيرة العموم له، كما يأتي في مسألة تطهير الإناء من الولوغ.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في جواز التيمم به لكثرة الابتلاء به، خصوصاً في الجزيرة العربية، بل هو الشايع في الحجاز، فلو كان البناء على عدم طهوريته شرعاً لظهر وبان وكثرت الأسئلة والفروع المتعلقة بذلك. ولذا لم أعثر على مخالف فيه عدا ما في إشارة السبق وعن كشف الغطاء من عدم جواز التيمم به إلا مع فقد التراب. ويظهر الحال فيه مما تقدم في الحجر.

وأما مثل مسحوق الصخر، فإن تم عموم التراب للرمل فهو شامل له أيضاً، وإلا كفى فيه ما تقدم من عموم طهورية الأرض.

(1) وهو قطع الطين اليابس. والحكم بجواز التيمم به مصرح به في كلام غير واحد، ونقل عن جماعة كثيرة، وفي كشف اللثام: "لا نعرف في المدر خلافاً، وإن لم يذكره الأكثر" .وعن مجمع البرهان: "ينبغي أن يكون لا نزاع فيه" .وكأنه لما سبق من عدم وضوح المنع مطلقاً في الحجر، فكيف به؟!.

وكيف كان فالوجه فيه ظاهر بناء على العموم المتقدم. مضافاً إلى ما قد يدعى من دخوله في التراب، بدعوى: أن المراد منه ذات التراب المحفوظة عرفاً فيه، والانسحاق وصف زائد عليه، وبذلك اختلف المدر عن الحجر. فتأمل.

كما يشهد به بالخصوص موثق سماعة، المتضمن التيمم بحائط اللبن لصلاة الجنازة، والذي تقدم الكلام فيه. لكن في إشارة السبق عدم جواز التيمم به إلا مع فقد التراب. ويظهر حاله مما سبق.

(2) الكلام فيه يبتني على العموم المتقدم. نعم يشكل بلحاظ عدم استيعابه للكفين. إلا أن يكون صغاراً لا ينافي الاستيعاب عرفاً، أو يكون في ضمن التراب أو نحوه.

ص: 121

(122)

قبل الاحتراق (1)، ولا يعتبر علوق شيء منه باليد (2). وإن كان الأحوط استحباباً الاقتصار على التراب مع الإمكان.

(1) فيجوز التيمم به على المشهور نقلاً وتحصيلاً كما في الجواهر، وعن مجمع البرهان: "لا ينبغي النزاع فيه" .وهو متجه بناء على العموم المتقدم، لعدم خروجهما عن الأرض عرفاً ويقتضيه خبر الراوندي ومعتبر السكوني بالأولوية.

لكن في السرائر: "ولا يجوز التيمم بجميع المعادن وتعداد ذلك يطول. وقد أجاز قوم من أصحابنا التيمم بالنورة. والصحيح الأول" .وقد يظهر منه إرادة النورة قبل الإحراق، لعدم دخل الإحراق في المعدنية. وحينئذ يشكل بأنه لو صدق عليها المعدن بمعنى فليس بحيث تخرج عن الأرض.

وفي النهاية وعن المفاتيح اشتراط التيمم بهما بفقد التراب. قال في كشف اللثام: "وهو ضعيف، لأنها أن دخلت في الصعيد جاز التيمم بها مطلقاً، وإلا لم يجز مطلقاً. إلا أن يكون احتاط بذلك، لاحتمال اختصاص الصعيد بالتراب، فإن أرض النورة ليست غير الحجر على ما يعرف به" .لكنه لو تم في أرض النورة لا يتم في أرض الجص، لأنها ليست حجراً.

(2) قال في الجواهر: "في المشهور بين الأصحاب نقلاً مستفيضاً وتحصيلاً، بل في جامع المقاصد الإجماع عليه، وفي آيات الأحكام للفاضل الجواد الإجماع أيضاً على عدم اعتباره لليدين، بل في ظاهر المنتهى... الإجماع أيضاً، ككنز العرفان".

خلافاً لما عن البهائي ووالده والمفاتيح وشرحه والحدائق وغيرها. وهو ظاهر ما عن ابن الجنيد من لزوم المسح بما ارتفع على اليدين من الصعيد.

ويستدل لهم بقوله تعالى: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه" (1) ونحوه النصوص المتضمنة للمسح بالأرض، كقوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي: "فليمسح

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

ص: 122

من الأرض وليصل"(1) ، وفي صحيح ابن سنان:" فليمسح من الأرض وليصل "(2) لظهور (من) في التبعيض، ولا يكون المسح بالأرض إلا بعلوق شيء منها باليد، ليكون المسح به حين إمرارها على الممسوح. بل هو صريح صحيح زرارة المتقدم عند الكلام في تحديد مفهوم الصعيد.

وهو المناسب لطهورية الأرض، لأن المنساق منها حصول الطهر بمماستها، كما في الاستجمار وتطهير باطن القدم بالمشي عليها، وكما في طهورية الماء.

وفيه: أن ذلك لا يناسب ما تضمنته النصوص وادعي الإجماع عليه ممن عدا ابن الجنيد من رجحان النفض.

ودعوى: أن النفض لا يستلزم زوال العالق البتة - كما في حاشية المدارك - فلا مانع من وجوب المسح بالغبار الباقي بعده.

مدفوعة أولاً: بظهور الأدلة المتقدمة في المسح بالصعيد والأرض، لا بالغبار، فإذا رفعنا اليد عن ذلك بنصوص النفض لم يبق لاعتبار الغبار دليل.

وثانياً: بأن عدم استلزام النفض لزوال الغبار لا ينافي ظهور أدلته في عدم اعتبار بقاء الغبار، لشمول إطلاقها لصورة زواله وإرادة ما عدا ذلك تحتاج إلى عناية. بل العلوق قد لا يستلزم حصول الغبار في الكفين، كما لو كانت الأرض ندية بأدنى نداوة، ولاسيما إذا كانت رملية.

وثالثاً: بأن الغبار لو حصل بضرب الأرض بالكفين فهو يزول بمسح الوجه بهما، ولا يبقى منه لمسح ظهر الكفين، بناء على ما هو الظاهر من عدم تجديد ضرب الأرض لهما.

ومنه يظهر الإشكال فيما يظهر من بعضهم من الجمع بين لزوم العلوق واستحباب النفض. إذا لو كان المراد به أن المستحب هو النفض الذي لا يزيله،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 4، 7.

ص: 123

أشكل بما ذكرنا من أنه مناف لإطلاق أدلته، وأن العلوق قد لا يستلزم التأثر بالغبار، خصوصاً في مسح ظهر الكفين.

ولو كان المراد به عدم لزوم المسح بالعالق وإن لزم أصل العلوق. فهو أولى بالإشكال إذ لا دليل على وجوب العلوق إلا ما دل على المسح بالعالق، فمع رفع اليد عن الثاني لا مجال لاستفادة الأول من الدليل المذكور.

ومن هنا يقرب أن يكون المصحح لتعدية المسح للصعيد ب - (من) ملاحظة أثر الصعيد المعنوي أو الادعائي الحاصل من وضع اليد عليه قبل مسح الوجه واليدين بها. وقد حاول غير واحد توجيهه بوجوه آخر، وإن كانت غير خالية عن الإشكال.

وأما صحيح زرارة فقد سبق الإشكال في مضمونه، بنحو لا ينهض معه للتأييد، فضلاً عن الاستدلال. كما أن طهورية الأرض في المقام تعبدية، ولا مجال لتوجيهها بما يناسب طهورية الماء، خصوصاً بعد ما عرفت.

هذا وقد يستدل على وجوب العلوق بما تضمن الأمر بالنفض، لتوقف النفض على العلوق. وحمله على إرادة النفض في فرض العلوق لا بنحو يقتضي العلوق. مخالف لإطلاق دليله.

لكنه كما ترى مخالف للمنساق من الدليل المذكور ونحوه مما يتضمن الأمر بشيء لا موضوع له في بعض الأحوال، حيث يستفاد منه الأمر به معلقاً على وجود موضوعه، لا مطلقاً بنحو يقتضي حفظ موضوعه وتحقيقه، فإذا قيل: إذا صليت فحل أزرار قميصك، وإذا سافرت فأرح دابتك، وإذا لبست الثوب فرد أكمامه إلى نصف الذراع، لم يفهم من إطلاق الأوامر المذكورة لزوم الصلاة بقميص ذي أزرار، والسفر على الدابة، وتجاوز الأكمام عن نصف الذراع، لعدم الموضوع للأمور المذكورة بدونها، بل لا يستفاد إلا وجوب الأمور المذكورة على تقدير تحقق موضوعها. وكذا في المقام.

ص: 124

(125)

(مسألة 16): لا يجوز التيمم بما لا يصدق عليه اسم الأرض (1) وإن كان أصله منها (2)، كالرماد (3) والنبات (4)

(1) لظهور الأدلة في اختصاص الطهورية بالصعيد أو الأرض أو التراب، ويشهد له التعليل في معتبر السكوني ومسند الراوندي المتقدمين في أول الفصل. مضافاً إلى أن مطهرية الشيء تحتاج إلى دليل، والأصل عدمها.

(2) لظهور الأدلة في اعتبار كونه أرضاً حين التيمم. وأما التعليل في الحديثين المذكورين فالمراد به ما لا يخرج عن الأرض عرفاً، بقرينة عدم تطبيقه على الرماد، وإن كان يخرج من الأرض بمعنى.

(3) إجماعاً كما عن المنتهى. ويقتضيه - مضافاً إلى ما سبق - معتبر السكوني ومسند الراوندي المتقدمان. لكنهما بقرينة التعليل مختصان برماد غير الأرض. ولذا قد يدعى جواز التيمم برماد الأرض ولو فرض حصوله. إلا أنه لا مجال له مع خروجه عن الأرض عرفاً، لما سبق. ولذا منع في التذكرة من التيمم برماد التراب حينئذٍ. وأما إطلاق التيمم به في محكي نهاية الأحكام والموجز الحاوي فقد يحمل على عدم فرض عدم خروجه عن أسم الأرض. وإلا أشكل بما سبق.

(4) وإن كان منسحقاً بحيث يشبه التراب. قال في الجواهر:" إجماعاً محصلاً منقولاً ومستفيضاً ".ويقتضيه - مضافاً إلى ما سبق - التعليل في معتبر السكوني ومسند الراوندي، لأن مقتضى ارتكازية التعليل أن منشأ افتراق الرماد في عدم جواز التيمم عن الجص والنورة هو افتراق منشئه عن منشئهما في ذلك.

ودعوى: أنه لا يصدق عليه التراب حينئذ، فيدل على جواز التيمم به ما دلّ على جواز التيمم بالتراب. مدفوعة أولاً: بأن صدق التراب عليه ليس حقيقياً، ولذا لابد فيه من الإضافة ولا يصدق مع الإطلاق. وثانياً: بأن التراب الذي يجوز التيمم به هو تراب الأرض، الذي يصدق عليه الصعيد، كما يظهر من أدلة المسألة، فلا يعم

ص: 125

والمعادن (1)، كالعقيق والفيروزج ونحوهما مما لا يسمى أرضاً،

المورد.

هذا وفي موثق عبيد بن زرارة:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الدقيق يتوضأ به؟ قال: لا بأس بأن يتوضأ به وينتفع به"(1). وربما يحمل الوضوء به على التيمم.

لكنه ليس بأولى من حمله على الغسل به نظير الغسل بالسدر، بل الثاني أقرب، بل أنسب بالجواب، لأن قوله (عليه السلام): "وينتفع به" مشعر بدفع محذور السرف الذي لا مجال لتوهمه في التيمم به، بخلاف الغسل به لما يستلزمه من إتلافه، كما أشير إليه في بعض النصوص، كمعتبر إسحاق بن عبد العزيز: "سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن التدلك بالدقيق بعد النورة فقال: لا بأس. قلت: يزعمون أنه إسراف قال: ليس فيما أصلح البدن إسراف..."(2).

(1) إجماعاً محكياً في الغنية وصريح المنتهى وظاهره وعن الخلاف إن لم يكن محصلاً. كذا في الجواهر. وحيث لا شاهد له من النصوص فمن القريب جداً ابتناؤه على خروجه عن الأرض عرفاً، لا لعدم جواز التيمم بالمعدن تعبداً وإن لم يخرج عن الأرض تخصيصاً لعموم طهوريتها. فإنه بعيد جداً، ولا أقل من عدم الدليل عليه بعد عدم وضوح قيام إجماع تعبدي بالغ مرتبة الحجية على ذلك، لقرب حمله على ما ذكرنا.

ومن هنا لا يهم تحديد المعدن في المقام، بل المهم صدق الأرض، فمع إحرازه يجوز التيمم، وإن صدق المعدن، ومع إحراز عدمه لا يجوز التيمم. وكذا مع الشك بناء على ما هو الظاهر من أن المرجع في المقام قاعدة الاشتغال، لأن الشرط هو الطهارة، فيرجع الشك في المقام للشك في المحصل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 38 من أبواب آداب الحمام حديث: 4.

ص: 126

وفي الخزف (1)

هذا وعن ابن أبي عقيل جوازه في الكحل والزرنيخ اللذين من الأرض. فإن ابتنى ذلك منه على دعوى صدق الأرض عليهما فهي في غاية الإشكال، بل المنع، كما في المعتبر وغيره. وإن ابتنى على دعوى: جواز التيمم بهما وإن لم تصدق الأرض عليهما، فهي أشكل.

وأما التعليل في معتبر السكوني ومسند الراوندي فقد سبق عدم نهوضه بذلك، ولذا لا يظن به ولا بغيره جواز التيمم بمثل الذهب والفضة والحديد ومشتقات النفط وغيرها.

ثم إن بعض مشايخنا (قدس سره) قرب جواز التيمم بالجواهر كالفيروزج والياقوت والماس ونحوها، مدعياً صدق الأرض عليها، من دون أن ينافي ذلك غلاء ثمنها لخصوصيتها من حيثية اللون أو الأثر أو عزة الوجود أو غير ذلك مما لا نعلمه. لكنه لا يخلو عن إشكال.

ولا أقل من الشك الذي سبق أن مقتضى الأصل معه عدم صحة التيمم. نعم يتجه ما ذكره في مثل در النجف الأشرف، فإنه لا يخرج عن كونه حصى. بل قد يدعى ذلك في مثل العقيق أيضاً. كما أنه بناء على مختاره من جريان البراءة مع الشك يهون الأمر كثيراً.

(1) فقد جوز التيمم به في التذكرة والقواعد وجامع المقاصد والروض ومحكي نهاية الأحكام ومجمع البرهان. لدعوى عدم خروجه عن الأرض. قال في التذكرة: "ولهذا جاز السجود عليه" .وصريح المنتهى وظاهر الدروس الإشكال فيه والتوقف.

وعن ابن الجنيد المنع، لخروجه عن اسم الأرض وفي المدارك أنه أحوط. وفي المعتبر أنه الأشبه. قال: "ولا يعارض بجواز السجود، لأنه قد يجوز السجود على م

ص: 127

ليس بأرض، كالكاغذ [كالقرطاس]".

لكنه كما ترى، لأن السجود على ما ليس بأرض إنما يجوز إذا كان مما أنبتت غير المأكول والملبوس. وجواز السجود على القرطاس إما لأنه من ذلك، أو للنص الخاص، وحيث لم يكن الخزف من النبات، ولم يرد فيه نص خاص، انحصر الوجه في جواز السجود عليه بكونه من الأرض.

نعم لو فرض الشك في صدق الأرض عليه كان مقتضى الأصل جواز السجود عليه ظاهراً، وعدم جواز التيمم به.

أما الأول فلرجوع الشك المذكور للشك في قيد الواجب، حيث يشك في أن تقييد السجود بالأرض، هل يراد به تقييده بخصوص ما لم يطبخ منها، أو بالأعم منه ومما طبخ، والتحقيق في مثله الرجوع للبراءة، ومقتضاها في المقام عدم مانعية الطبخ ورفع اليد عن احتمال التقييد بعدمه.

وأما الثاني فلما سبق من رجوع الشك في المقام للشك في المحصل، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

ودعوى: أن الاستصحاب في المقام وارد على قاعدة الاشتغال. ممنوعة، لأن المراد بالاستصحاب إن كان هو استصحاب كونه أرضاً أشكل بأنه من استصحاب المفهوم المردد - الذي لا يجري على التحقيق - لرجوع الشك المذكور لإجمال مفهوم الأرض.

وإن كان هو استصحاب صحة التيمم به وجوازه وضعاً. فهو من الاستصحاب التعليقي الذي لا يجري أيضاً، لأن صحة التيمم فعلاً مشروطة بوقوعه، وقبله إنما يصح معلقاً لا غير.

وإن كان هو استصحاب الطهورية شرعاً أشكل بأن الطهورية ليست مجعولة شرعاً، بل هي منتزعة من الحكم شرعاً بترتب الطهارة على استعمال الطهور، فلا مجال

ص: 128

لاستصحابها.

مضافاً إلى الإشكال في الجميع بعدم إحراز بقاء الموضوع، لأن الشك في صدق الأرض على الخزف مساوق لاحتمال تبدل الموضوع حقيقة، بحيث يكون اللاحق متولداً من السابق عرفاً، نظير تولد الرماد من الخشب، والزرع من البذر، لا بقاء له مع تغير صفته، ومع الاحتمال المذكور لا يجري الاستصحاب.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال لاحتمال تبدل الموضوع بالنحو المذكور في الخزف والجص والنورة ونحوها مما يحصل بطبخ الأرض وتعريضها للنار بنحو تترتب عليه بعض الآثار التكوينية، وإن كان هو مقتضى تعبير بعضهم بالاستحالة. إذ لا ريب في وحدة الموضوع وعدم تبدل الحقيقة عرفاً، وأن ذلك ليس كالرماد والخشب.

نعم قد يوجه عدم صدق الأرض عليه بالبناء على أن عنوان الأرض غير منتزع من مقام الذات والحقيقة عرفاً بحيث لا يزول إلا بزوالها، بل هو منتزع من حالة خاصة في الذات زائدة عليها تزول بالنار ونحوها، نظير عنوان الشجر الذي يزول بالقطع وعنوان الحجر الذي يزول بالانسحاق والطحن وعنوان التراب الذي يزول بجعله طيناً وعنوان الماء الذي يزول بصيرورته ثلجاً أو مضافاً بالخلط ونحوه... إلى غير ذلك من العناوين التي لا يتوقف زوالها عرفاً على تبدل الذات.

ولا أقل من دعوى: أن المفهوم من عنوان الأرض في أدلة التيمم والسجود ذلك، وإن أمكن أن يراد منه الأعم في إطلاقات أخر شرعية أو عرفية، إما للاشتراك اللفظي، أو لانصراف دليل الحكمين إلى ذلك بنحو يمنع من شمول الإطلاق للحالة الطارئة بسبب النار. وحينئذٍ لو فرض الشك لا مجال للمنع من الاستصحاب من جهة عدم إحراز الموضوع، بل ينحصر المنع عنه بما ذكر أولاً.

ومنه يظهرانه لا مجال للاستدلال على صدق الأرض مع الإحراق بأنه لو لم تصدق لزم طهارة الأرض المتنجسة بصيرورتها خزفاً أو نحوه، لأن الاستحالة من جملة المطهرات، مع أنه لا يحتمل التزام أحد من الفقهاء بذلك. إذ يتوقف ذلك على أن

ص: 129

يكون عنوان الأرض منتزعاً عرفاً من مقام الذات، أما لو كان منتزعاً من حالة خاصة فيها تزول بالطبخ فزواله لا يستلزم الاستحالة والطهارة، كما لا يخفى.

وكيف كان فالظاهر عدم منع الطبخ من صدق الأرض بالمعنى الذي هو موضوع الحكمين، لما هو المعلوم من شيوع الصخور البركانية، ويصعب جداً البناء على عدم صدق الأرض بالمعنى المذكور عليها بحيث لا يجوز التيمم بها ولا السجود عليها.

مضافاً إلى أمرين:

الأول: عموم التعليل في معتبر السكوني ومسند الراوندي المتقدمين، لأن مقتضاه عموم الأرض التي يصح التيمم بها لمثل الجص والنورة مما يطبخ. بل قد يدل التعليل المذكور على عدم قادحية التحول لمثل الرماد، وأن المنع من التيمم بالرماد لأن أصله لا يسجد عليه. فتأمل. ويأتي أنه لا مجال للأشكال في دليل التعليل بهجر الأصحاب له في مورده.

الثاني: بعض النصوص الأخرى الواردة في السجود كصحيح الحسن بن محبوب: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى، ثم يجص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب إلي بخطه إن الماء والنار قد طهراه"(1). لظهوره في جواز السجود على الجص، وحيث كان ظاهر السائل مفروغيته عن جوازه ذاتاً لولا النجاسة فالظاهر أن منشأ المفروغية صدق الأرض عليه، لا ثبوت ذلك تعبداً وإن لم يكن أرضاً.

وصحيح محمد بن الحسين:" ان بعض أصحابنا كتب إلى أبي الحسن الماضي (عليه السلام) يسأله عن الصلاة على الزجاج. قال: فلما نفذ كتابي إليه تفكرت وقلت: هو مما أنبتت الأرض، وما كان لي أن أسال عنه. قال: فكتب إلي: لا تصل على الزجاج، وإن حدثتك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 81 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 130

والجص والنورة بعد الإحراق (1) إشكال، ومع الانحصار فالأحوط

نفسك أنه مما أنبتت الأرض، ولكنه من الملح والرمل، وهما ممسوخان "(1) لظهوره أو إشعاره في أن التحول الحاصل بتصنيع الزجاج لا يخل بالسجود عليه لو لم يكن أصله ممسوخاً، مع وضوح أن التحول للزجاج أبعد عن الأصل من تحول الأرض بالطبخ خزفاً أو غيره.

(1) فقد منع من التيمم بهما معاً في جامع المقاصد والمسالك والروض ومحكي التنقيح وفوائد الشرايع وحاشية الميسي. كما منع من التيمم بالنورة الشيخ في الخلاف وجماعة كثيرة، بل نسبه في الجواهر للأكثر.

وعلله في جامع المقاصد بالاستحالة حتى جعلهما بمنزلة الرماد. وهو ممنوع جداً كما تقدم. كما قد يعلل بعدم صدق الأرض حينئذٍ. ولعله إليه يرجع ما في المسالك من التحاقهما بعد الإحراق بالمعدن. وإلا فالمعدنية أمر تابع للذات، ولا دخل للإحراق فيها قطعاً.

وكيف كان فيظهر مما تقدم في الخزف المنع من عدم صدق الأرض عليهما. ولاسيما بلحاظ معتبر السكوني ومسند الراوندي المتقدمين. وما في الجواهر من عدم الجابر لهما إنما يخل لو كانا معاً ضعيفين، وقد سبق اعتبار حديث السكوني.

نعم لو ثبت هجره تعين سقوطهما عن الحجية. لكنه لا مجال له مع ذهاب جماعة لجواز التيمم بهما معاً، كما في المراسم والمعتبر والتذكرة وعن المرتضى ومجمع البرهان. كما ذهب للجواز في الجص في الوسيلة وعن محكي الجامع، ويحتمله كلام جماعة. ولاسيما مع قرب كون منشأ من أعرض عنه البناء على معارضته لظهور الأدلة في حصر الطهورية بالأرض التي هي أرجح منه، مع الغفلة عن عدم التعارض بينهما، بل هو من سنخ الحاكم عليها الموسع لموضوعها لظهوره في أن المراد من الأرض م

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 12 من أبواب ما يسجد عليه حديث: 1.

ص: 131

(132)

وجوباً التيمم والصلاة ثم القضاء (1).

(مسألة 17): لا يجوز التيمم بالنجس (2)

يعم مثل هذا الحال. فلاحظ.

هذا وفي المفاتيح:" والأحوط اعتبار التراب الخالص... أما مع فقده فيجوز بغبار الثوب ونحوه، ثم بالجص والنورة، ثم بالطين... ثم بالحجر أو الخزف "ويظهر الحال فيه مما تقدم في الحجر.

(1) بناء على وجوب القضاء في فاقد الطهورين. أما بناء على عدمه فلا قضاء. على أن ذلك إنما يتجه مع تعذر الغبار والطين، أما بدونه فالمناسب له (قدس سره) الإلزام بالاحتياط بالجمع بين التيمم بالجص أو النورة والتيمم بالغبار، فإن تعذر فبالطين، من دون حاجة للقضاء، كما يظهر مما يأتي منه (قدس سره) في المسألتين التاسعة عشرة والعشرين.

(2) بلا خلاف أجده فيه، كما في المنتهى والجواهر ونفي الخلاف فيه في الناصريات، بل ادعى الإجماع عليه في ظاهر المدارك وصريح التذكرة وجامع المقاصد وكشف اللثام ومحكي شرح الجعفرية.

وقد يستدل عليه - مضافاً إلى ذلك - بما تضمنته الآيتان الشريفتان من تقييد الصعيد بالطيب، بناء على أن المراد به الطاهر، كما في المقنعة والغنية والتذكرة ومفردات الراغب، والتبيان ومجمع البيان، وظاهر المنتهى، ونسبه في جامع المقاصد للمفسرين قيل: وحكى عن أكثرهم. ولعله الظاهر، لأنه مقتضى المناسبة الارتكازية بين الحكم والموضوع، ولأن ذلك أنسب بالطيب في لسان الشارع من الطيب العرفي، وهو الذي من شأنه أن يُنبِت في مقابل السبخة.

وأما حمله على الحلال كما عن سفيان الثوري. فيبعده أن الأمر بالتيمم يقصر عن الحرام، فلا يحتاج معه للتقييد بالحلية. نعم في كفاية ذلك في إحراز الظهور، الذي

ص: 132

هو المعيار في الاستدلال إشكال.

هذا وقد يستدل بقاعدة أن فاقد الشيء لا يعطيه، التي هي من القواعد الارتكازية، كما تقدم عند الكلام في اعتبار طهارة أحجار الاستنجاء.

لكنه كما ترى، لأن القاعدة المذكورة - لو تمت - تقتضي اعتبار الطهارة الخبيثة في المطهر من الخبث، لا من الحدث، كما في المقام. إلا أن يدعى أن المرتكزات المتشرعية تقضي بأن الطهارة الحدثية فرع الطهارة الخبيثة، فلا يصلح للمطهرية من الحدث ما لا يصلح للمطهرية من الخبث لنجاسته. فتأمل.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) - وسبقه إليه في الجملة في جامع المقاصد - من الاستدلال بما تضمن من النصوص الكثيرة طهورية الأرض أو التراب أو التيمم، بدعوى: أن الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره ورتب على ذلك عدم اعتبار الطهارة في الغبار، لعدم صدق الأرض والصعيد والتراب عليه.

لاندفاعه - مضافاً إلى أنه لا معنى لطهارة التيمم، بل ولا لطهوريته إلا مجازاً، لأن الطهور ما تستند له الطهارة في عملية التطهير، لا نفس عملية التطهير - بأن الطهور هو المطهر، كما اعترف هو به، وتقدم منّا في مبحث طهورية الماء، واعتبار طهارته إنما هو بضميمة الإجماع أو القاعدة المشار إليها، لا لأخذه في مفهوم الطهورية لغة. على أنه لو سلم فالنصوص المذكورة إنما تدل على طهارة الأرض والتراب ومطهريتهما، لا على اعتبار طهارتهما في مطهريتهما.

نعم لا يرد ذلك على الاستدلال بما تضمن أنه لا صلاة إلا بطهور(1) الذي لو تم لعم الغبار، كما يعمه ما تضمن طهورية التيمم. وإنما يرد عليه الوجه الأول لا غير.

وكيف كان فيكفى في إثبات المدعى ما سبق من الإجماع بل ظهور المفروغية عن ذلك، المناسبة للمرتكزات المتشرعية.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 133

(134)

ولا المغصوب (1) ولا الممتزج بما يخرجه عن اسم الأرض (2).

(1) إجماعاً محكياً في التذكرة والمنتهى إن لم يكن محصلاً. كما في الجواهر. لأن حرمة التصرف في المغصوب مانعة من التقرب بالضرب، بناء على لزوم النية وقصد التقرب مقارناً له، الذي يأتي الكلام فيه في أول الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.

أما بناء على عدم لزوم قصد التقرب به فوجهه غير ظاهر. والإجماع لا ينهض به، لقرب كونه مبنياً على لزوم التقرب به. نعم لو انحصر حينئذٍ التيمم بالمغصوب لا يجب، لتوقفه على التصرف المحرم إلا أن يعلم بأهمية وجوب الطهور من حرمة الغصب، ولا طريق لذلك. ومثل ذلك ما إذا كان التيمم موجباً للتصرف المحرم في الأرض أو الفضاء المغصوبين، نظير ما تقدم في الوضوء.

وبذلك يظهر أنه لو حصل قصد التقرب بالتيمم بالمغصوب - للجهل به أو الغفلة عن حرمته - صحّ التيمم، كما هو الحال في جميع موارد اجتماع الأمر والنهي في العبادات، على ما أوضحناه في محله من الأصول. وتقدم نظيره في المسألة الرابعة والستين من فصل شرائط الوضوء.

(2) إنما يصدق ذلك مع استهلاك الأرض في الخليط، ولا ريب في عدم جواز التيمم حينئذٍ، لما تقدم من عدم جواز التيمم بغير الأرض.

بل الظاهر عدم الجواز مع عدم استهلاك كل منهما في الآخر أيضاً، وفي مفتاح الكرامة:" لا أجد فيه خلافاً "لظهور الأدلة في اعتبار كون المتيمم به أرضاً، بحيث ينسب للأرض وحدها، لا لمجموع الأمرين منها ومن غيرها.

وأما ما في المنتهى من الاكتفاء بغلبة الأرض، لبقاء الاسم، ولأنه يتعذر في بعض المواضع. فهو كما ترى. لأن المراد ببقاء الاسم إن كان هو صدق عنوان الأرض وحدها فهو ممنوع في غير صورة استهلاك الخليط. وإن كان هو صدقه في الجملة ولو منضماً لغيره فهو - مع عدم اختصاصه بصورة غلبة الأرض - لا يكفي لما عرفت.

ص: 134

وتعذره في بعض المواضع لا يكفي في الخروج عن ظاهر الأدلة المتقدم.

ومثله ما إذا كان الخليط متميزاً - كالتبن والشعير - بناء على ما هو الظاهر من اعتبار استيعاب الأرض للكف، لأن التراب وإن لم يخرج بذلك عن اسم الأرض، إلا أنه يخل بالاستيعاب.

لكن عن المنتهى: "لو اختلط التراب بما لا يعلق باليد - كالشعير - جاز التيمم منه، لأن التراب موجود فيه والحائل لا يمنع من التصاق اليد به فكان سائغاً".

فإن كان مراده عدم مانعية الحائل من التصاق اليد بالتراب في بقية المواضع لغوصه بالتراب بالضرب. فهو لا يكفي بعد ما ذكرنا من اعتبار الاستيعاب. وإن كان مراده عدم مانعية الحائل من التصاق اليد بالتراب حتى في موضعه، لدفنه بالتراب بسبب الضرب والتحريك، بحيث يكون التراب فوقه مستوعباً لتمام الكف. فهو - مع عدم اطراده - لا يكفي في المقام، لظهور الأدلة في لزوم مماسة الكف للأرض بالضرب، لا بالتحريك بعده. فتأمل.

ومثله ما في الجواهر من الاكتفاء بالاستيعاب العرفي وعدم قدح الحائل القليل، كما لا يخل به عدم وصول بعض الكف للأرض وإن لم يكن حائل، لصدق وضع الكف على الأرض حينئذٍ. مع إنه قد يتعذر الخلوص في مثل ذلك أو يتعسر في كثير من الموارد.

للإشكال فيه بأن الاستيعاب المذكور تسامحي لا عرفي حقيقي. والعفو عما ليس من شأنه الوصول للأرض بالضرب، كأصول الأصابع، لاستفادته من الاكتفاء بالضرب في النصوص، لا يستلزم العفو عما من شأنه الوصول للأرض بالضرب.

وأما تعذر الخلوص في كثير من الموارد. فهو لا ينهض بالقرينية على حمل الأدلة على ما يعمه مع تيسره في كثير منها، كما لعله ظاهر.

ص: 135

نعم لا يضر إذا كان الخليط مستهلكاً فيه عرفاً (1)، ولو أكره على المكث في المغصوب ففي صحة التيمم في أرضه إشكال (2).

(1) كما في المبسوط والشرايع وغيرهما. ونسب للمشهور. لصدق التيمم بالأرض، فيدخل في الإطلاق. وأطلق بعضهم عدم جواز التيمم بما يخلط بغير الأرض، وظاهر الغنية الإجماع عليه، بل صرح في الخلاف بعدم جواز التيمم بتراب خالطه غير الأرض غلب عليه أو لم يغلب. ولعل مرادهم غير صورة الاستهلاك.

(2) وقد صرح غير واحد بجوازه. قال في جامع المقاصد: "لأن الإكراه أخرجه عن النهي فصارت الأكوان مباحة، لامتناع التكليف بما لا يطاق إلا ما يلزم منه ضرر زائد على أصل الكون. ومن ثم جاز له أن يصلي وينام ويقوم".

ودعوى: لزوم البقاء على الحالة التي حبس عليها، لوقوعها قهراً عليه، ويحرم إحداث غيرها، لأنه تصرف محرم يقوم به باختياره. مدفوعة بأن البقاء على تلك الحالة تصرف اختياري أيضاً، ولذا لا يجوز اختياره لو منع منه المالك وإذن في غيره.

نعم قال سيدنا المصنف (قدس سره): "لكنه يتم بالنسبة إلى الفضاء، حيث إن اليد لابد أن تشغل المقدار الذي يسعها من الفضاء، سواءً كان المتصل بالأرض أم غيره، أما بالنسبة إلى الأرض فلا يتم، لأن الضرب على الأرض تصرف فيها زائد على التصرف في الفضاء، فلا يجوزه الاضطرار إلى شغل الفضاء بالجسم. ومن ذلك يظهر الإشكال في جواز الصلاة والنوم".

إلا أنه يشكل بما أشار إليه في الجواهر من منافاته لقاعدة العسر والحرج.

ودعوى: أنها تنافي الامتنان في حق المالك. مدفوعة بأنها إنما تنافيه مع لزوم الإضرار بالمالك عرفاً، إما مالياً كما لو استلزم التصرف نقصاً في المكان، أو اعتبارياً بانتهاك حرمته، والأول خارج عن محل الكلام، والثاني غير لازم عرفاً بعد كون المتعدي على المالك هو الحابس دون المحبوس.

ص: 136

مضافاً إلى ما هو المعلوم بملاحظة مرتكزات المتشرعة من عدم التضييق على المحبوس بالاقتصار على أقل ما يمكن من التصرف في المكان، ولو بالوقوف على رجليه، بل على رجل واحدة. ولاسيما مع قرب شيوع ابتلاء المؤمنين بذلك في عصور الأئمة (عليهم السلام) من قبل ولاة الجور، فلو كان البناء على الاقتصار على أقل أنحاء التصرف لظهر وبان، وكثرت الأسئلة في الفروع المترتبة على ذلك.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) في تقريب جواز التيمم أن الضرب على الأرض ليس تصرفاً زائداً عرفاً على أصل الكون، لأن المحرم هو الاستيلاء والتملك، دون مثل الضرب ووضع اليد على حائط الغير أو لباسه أو نحو ذلك، لانصراف التصرف عنه.

بل يمكن أن يقال: إن دليل حرمة التصرف في مال الغير هو التوقيع المروي في الاحتجاج الضعيف بالإرسال، والذي تضمنه الموثق أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه(1) ، وهو ظاهر في الاستيلاء والتملك، دون مطلق التصرف بنحو يشمل مثل الضرب.

لكنه يشكل - بعد تسليم ما ذكره في الموثق - بأن التوقيع مروي في كتاب إكمال الدين، عن أربعة من مشايخه الذين قد ترضى عليهم جميعاً عن محمد بن جعفر الأسدي الثقة(2) ، ولا ينبغي التأمل مع ذلك في حجيته. وانصراف التصرف عن مثل الضرب ممنوع جداً، ولذا لا يظن به ولا بغيره البناء على جواز التيمم بتراب الغير مع عدم الحبس والاضطرار وعليه يبتني ما يأتي منه في المسألة الآتية.

نعم قامت السيرة على جواز وضع اليد على حائط الغير من جهة الطريق، وعلى ثيابه في الجملة مع تعرضه للزحام، ونحو ذلك مما يحتاج تجنبه إلى عناية، ول

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب مكان المصلي حديث: 1، وج: 19 باب: 1 من أبواب القصاص حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 3 من أبواب الأنفال حديث: 6.

ص: 137

(138)

(مسألة 18): إذا اشتبه التراب المغصوب بالمباح وجب الاجتناب عنهما (1)،

مجال للبناء على عموم جواز مثل هذه التصرفات في موارد حجب المالك لماله وعدم تعريضه لها. فالعمدة في الجواز ما سبق.

(1) للعلم الإجمالي بحرمة أحدهما. وحينئذٍ يتعين التيمم بتراب آخر. ومع عدمه فمع وجود المرتبة اللاحقة - كالغبار - يقع التزاحم بين وجوب التيمم بالتراب وحرمة التصرف بالمغصوب.

وقد ادعى بعض مشايخنا (قدس سره) رافعية الثاني للأول، ولزوم الانتقال للمرتبة اللاحقة، لأن الوجدان مأخوذ في موضوع التيمم بالتراب، كما هو مقتضى ما تضمن أن من كان في حال لا يجد إلا الطين يتيمم به(1) ، ومع استلزام إحرازه التصرف المحرم في المغصوب لا يصدق الوجدان، فيتعين الانتقال للمرتبة اللاحقة.

لكن مجرد أخذ عدم وجدان التراب في موضوع المرتبة اللاحقة لا يستلزم أخذ الوجدان في موضوع المرتبة السابقة، نظير ما تقدم في الطهارة المائية مع الترابية، بل في جميع الأبدال الاضطرارية. على أن تعميم عدم الوجدان لصورة تعذر الإحراز يحتاج إلى عناية.

فلعل الأولى تقريب جواز الانتقال للمرتبة اللاحقة بأنه يلزم في المقام التزاحم بين حرمة التصرف في المغصوب المقتضية لاجتناب الترابين معاً ووجوب التيمم بالتراب، ولا طريق لإحراز أهمية وجوب التيمم بالتراب، وذلك كافٍ في جواز تركه والانتقال للمرتبة اللاحقة، لأن المناسبات الارتكازية تقضي بأن موضوع تشريع البدل الاضطراري جواز ترك المبدل منه، لا تعذره، نظير ما تقدم في المسألة الحادية عشرة.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم.

ص: 138

بل من القريب جداً أهمية الاحتياط الملزم للتصرف في مال الغير من وجوب التيمم بالتراب. ولا أقل من احتمال أهمية ترك التيمم بالتراب في المقام والانتقال للمرتبة اللاحقة.

هذا كله مع وجود المرتبة اللاحقة. وأما مع عدم وجودها واستلزام ترك التيمم بالمشتبهين لفقد الطهورين الذي كان التحقيق معه سقوط الأداء فقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن القدرة معتبرة في أصل الطهور عقلاً لا شرعاً، ولازم ذلك دوران الأمر في المقام بين محذورين، حيث يدور الأمر في التيمم بكل من الترابين بين الوجوب والحرمة، وحيث لا يتمكن من الامتثال القطعي يتعين عقلاً الامتثال الاحتمالي لكل من التكليفين بالتيمم بأحد الترابين وترك التصرف في الآخر، ولا يجب القضاء، لعدم إحراز عنوان الفوت. واستصحاب عدم الإتيان بالفرد المباح لا يحرز أن الواجب هو الفرد الآخر، ليحرز عنوان الفوت.

ولا يخفى أن ذلك مبني على أن التيمم بالمغصوب في فرض جوازه عقلاً في المقام باطل واقعاً، إذ لو صح - كما هو التحقيق في المقام ونحوه من موارد اجتماع الأمر والنهي - كان امتثال التكليف بالتيمم قطعياً لا احتمالياً. وحينئذٍ لو غض النظر عن ذلك أشكل ما ذكره.

أولاً: بأن التنزل للموافقة الاحتمالية مع الدوران بين محذورين ليس واجباً بحكم العقل، بل هو قهري، وإنما الثابت بحكم العقل هو التخيير بين المحتملين وعدم الإلزام بأحدهما مع عدم المرجح.

وثانياً: بأن التيمم بهما معاً أو تركه كذلك محقق للامتثال الاحتمالي في كل منهما بنفسه، وإنما يستلزم المخالفة القطعية لأحد التكليفين المعلومين بالإجمال، وهما التكليف بوجوب التيمم بغير المغصوب والتكليف بترك التيمم بل مطلق التصرف بالمغصوب منهما، وحينئذٍ حيث كانت المخالفة القطعية لأحد التكليفين مستلزمة للموافقة القطعية للآخر فلا وجه للمنع منها والإلزام بالموافقة الاحتمالية لكل منهما،

ص: 139

(140)

وإذا اشتبه التراب بالرماد فتيمم بكل منهما صح (1)، بل يجب ذلك مع الانحصار (2)، وكذلك الحكم إذا اشتبه الطاهر بالنجس (3).

ولذا كان التحقيق أن التخيير في الدوران بين المحذورين مع تعذر الوقائع استمراري لا ابتدائي.

وثالثاً: بأن مقتضى استصحاب الحدث وعدم التيمم بالمباح بطلان الصلاة ووجوب القضاء، كما لو تيمم بما يتردد بين الأرض وغيرها.

ومن هنا فالظاهر ابتناء المسألة على أهمية أحد التكليفين من تحريم التصرف بالمغصوب ووجوب الطهور للصلاة.

فمع إحراز أهمية الأول أو احتماله من دون أن يحتمل أهمية الثاني يتعين اجتناب كلا الترابين وجريان حكم فاقد الطهورين، ولو تيمم بأحدهما بطل لتعذر التقرب به مع ذلك. ومع إحراز أهمية الثاني أو احتماله من دون أن يحتمل أهمية الأول يتعين وجوب التيمم بأحدهما أو بهما معاً - على الكلام المتقدم في مسألة اجتماع الأمر والنهي - والاجتزاء به وعدم وجوب القضاء. ومع إحراز تساويهما أو احتمال الأهمية في كل منهما يتعين التخيير بين الأمرين.

والأقرب الأول. وعليه يبتني إطلاق سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره عدم جواز التيمم، ثم الثالث. وأما الثاني فبعيد جداً. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) للعلم الإجمالي بتحقق التيمم بالتراب، بناء على ما هو التحقيق من الاجتزاء بالامتثال الإجمالي. كما تقدم في المسألة الثالثة من مباحث التقليد.

(2) لوجوب الطهارة مع القدرة شرعاً، المقتضي لوجوب التيمم بالتراب الواقعي، ووجوب إحرازها عقلاً، المقتضي لوجوب الجمع بين التيممين في المقام.

(3) لعين ما سبق. ولا مجال لقياسه باشتباه الماء الطاهر بالنجس، حيث ورد إهراقهما والانتقال للتيمم. لاحتمال خصوصيته. ولاسيما مع قوة احتمال الفرار به عن

ص: 140

(141)

(مسألة 19): إذا عجز عن التيمم بالأرض لأحد الأمور المتقدمة في سقوط الطهارة المائية يتيمم بالغبار (1) المجتمع على ثوبه

النجاسة.

(1) بلا خلاف ظاهر، بل لعله إجماعي، كما هو مقتضى نسبته لعلمائنا في المعتبر والتذكرة. والنصوص مستفيضة ففي صحيح زرارة: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أرأيت المواقف إن لم يكن على وضوء كيف يصنع ولا يقدر على النزول؟ قال: يتيمم من لبده أو سرجه أو معرفة دابته، فإن فيها غباراً ويصلي" (1) ونحوه غيره مما يأتي بعضه.

هذا والمعروف من مذهب الأصحاب أنه إنما يجوز التيمم به مع فقد التراب، بل مطلق الصعيد. بل ظاهر التذكرة الإجماع عليه. لكن أطلق المرتضى في جمل العلم والعمل جواز التيمم بالغبار، كما أطلق جوازه بالتراب، حيث قد يظهر من ذلك اتحادهما رتبة، كما نسب له في كلام غير واحد.

ويشكل بمخالفته لعموم وجوب التيمم بالأرض والصعيد والتراب ونحوها حيث لا تشمل الغبار عرفاً. والنصوص المتضمنة جواز التيمم به مختصة بصورة فقد تلك الأمور.

وأما ما عن إرشاد الجعفرية من أن الغبار تراب، فإذا نفض أحد هذه الأشياء عاد إلى أصله وصار تراباً.

فإن كان المراد به صورة تكثف الغبار بالنفض بحيث يصدق عليه التراب فلا إشكال في جواز التيمم به حينئذٍ كسائر أفراد التراب، وخرج عن محل الكلام من التيمم بالغبار. وإن كان المراد ما إذا لم يصدق عليه التراب، لقلته - كما هو محل الكلام - فمجرد كون أصله تراباً لا ينفع في مساواته له.

ومنه يظهر الإشكال فيما في المنتهى من الجمع بين الاستدلال لجواز التيمم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 141

بالغبار بآيتي الصعيد، قال: "وهو التراب، فأينما وجد كان مجزياً" ،والحكم بعدم جواز التيمم به إلا بعد فقد التراب.

وقد يتراءى من غير واحد الاكتفاء به مع فقد التراب خاصة ولو مع وجود الحجر، بل هو المصرح به فيما تقدم من المفاتيح، حيث جعل الغبار مرتبة ثانية والحجر في آخر المراتب، كما قد نسب للمراسم. وإن كان الظاهر خطأ النسبة، وأن مورد كلامه ما إذا أمكن جمع التراب من الغبار بالنفض، وأما كالتيمم بالغبار فهو عنده متأخر حتى عن الوحل.

كما أن الظاهر ابتناء كلام الآخرين ممن حكم بجواز التيمم بالغبار مع عدم التراب إما على عدم جواز التيمم بغير التراب من أقسام الأرض، أو على أن المراد بفقد التراب ما يعم فقد سائر أقسام الأرض.

وكيف كان فيشكل ما في المفاتيح بأن الحجر إن دخل في إطلاق أدلة التيمم بالصعيد والأرض ونحوهما تعين تقديمه على الغبار، وإلا فلا دليل على صحة التيمم به حتى في آخر المراتب، كما تقدم نظيره.

هذا وظاهر المقنعة والمبسوط والنهاية والمنتهى وجوب النفض، وهو ظاهر صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إذا كنت في حال لا تقدر إلا على الطين فتيمم به، فإن الله أولى بالعذر، إذا لم يكن معك ثوب جاف أو لبد تقدر أن تنفضه وتتيمم به"(1).

لكن المراد بذلك إن كان هو النفض من أجل تهيج الغبار مع عدم وجوده بدونه، بحيث لا حاجة له مع وجوده، فهو مقتضى تعبير جمهور الأصحاب بالتيمم بالغبار.

نعم مقتضى إطلاق بعضهم - كالمراسم - التيمم بالثوب عدم اعتباره. وإن كان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 7.

ص: 142

أو عرف دابته أو نحوهما (1)، إذا كان غبار ما يصح التيمم به، دون غيره

بعيداً. ولاسيما وأنه مقتضى أكثر النصوص المتضمنة للأمر بالتيمم بالغبار أو بالشيء المغبر. عدا معتبر زرارة عن أحدهما (عليه السلام):" إن خاف على نفسه من سبع أو غيره وخاف فوات الوقت فليتيمم يضرب بيده على اللبد أو البرذعة ويتيمم ويصلي"(1). ولابد من حمله على صورة وجود الغبار فيه، جمعاً مع النصوص الأخر. ولاسيما بملاحظة ارتكاز أن التيمم به لكونه من المراتب الاضطرارية للتيمم بالأرض.

نعم قد يصعب التقييد في خبر حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: من آوى إلى فراشه ثم ذكر أنه على غير طهر تيمم من دثاره وثيابه كان في صلاة ما ذكر الله"(2) ، لظهور أن الدثار والثياب المعدة للنوم قد لا يكون فيها غبار، وقد يصعب نفضها لو كان فيها غبار، فعدم التنبيه في الحديث للنفض قد يكون ظاهراً في عدم لزومه.

لكن الحديث - مع ضعفه، لاشتمال سنده على الإرسال - مخالف للقاعدة، لعدم أخذ تعذر الطهارة المائية فيه، فلا ينهض بالاستدلال في المقام، بل يقتصر فيه على مورده.

وإن كان المراد بذلك وجوب النفض من أجل تكثير الغبار حتى مع وجوده. فيأتي الكلام فيه عند الكلام في وجوب اختيار ما غباره أكثر.

وإن كان المراد بذلك وجوبه تعبداً وإن لم يكن له دخل في ظهور الغبار ولا في كثرته، فهو بعيد جداً، والصحيح منصرف عنه ككلام من تقدم، لأن المناسبات الارتكازية تقضي بأن النفض إنما يراد لتهيج الغبار لا لنفسه.

(1) من دون ترجيح كما هو صريح بعضهم وظاهر الأكثر. وقد يظهر من النهاية تقديم البرذعة واللبد على الثوب، كما يظهر من السرائر العكس. ودليلهما غير

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 5، 11.

ص: 143

(144)

كغبار الدقيق ونحوه (1)، ويجب مراعاة الأكثر فالأكثر (2)، وإذا أمكنه نفض الغبار وجمعه على نحو يصدق عليه التراب تعين ذلك (3).

(مسألة 20): إذا عجز عن التيمم بالغبار تيمم بالوحل (4) وهو الطين.

ظاهر، بل يدفعهما إطلاق أكثر النصوص، خصوصاً مثل صحيح أبي بصير المتقدم.

(1) كما صرح به في المنتهى وحكي عن جماعة، بل لعله مراد الكل. فإن الرجوع للعرف وكلمات اللغويين يقضي بعدم صدق الغبار على غبار غير التراب إلا بنحو التقييد، نظير الماء المضاف. ولا أقل من عدم وضوح صدقه بنحو الإطلاق. ولأن المنصرف من نصوصه كونه الميسور من التيمم بالصعيد، المناسب لكونه مرتبة منه.

(2) وفي الجواهر:" بل ظاهر جماعة إيجابه، وهو لا يخلو عن قوة ".وكأنه بلحاظ وروده مورد الاضطرار المبني على الرجوع لقاعدة الميسور المبتنية على ملاحظة الأقرب للمطلوب الاختياري، فإن ذلك إذا لم يوجب تقييد الإطلاق فلا أقل من كونه موجباً لانصرافه إليه.

لكن الإنصاف أن ذلك إنما يقتضي اختيار المكلف له بطبعه مع وجوده والتفاته إليه، لا لزوم تحصيله بتحري مواقع الغبار وإثارته وملاحظة التفاضل بينها في كمية الغبار، فإن ذلك مغفول عنه فعدم التنبيه عليه في النصوص ظاهر في عدم وجوب ذلك.

ودعوى: ظهور صحيح أبي بصير المتقدم في وجوب تكثير الغبار بالنفض. ممنوعة، بل الظاهر منه أن الغرض من النفض إثارة الغبار الكامن في الثوب واللبد حيث يختفي الغبار بسبب استعمالها. بل التخيير فيه بين الثوب واللبد مع غلبة كون اللبد أكثر قد يظهر في عدم وجوب اختيار ما غباره أكثر.

(3) لدخوله في التيمم بالصعيد المقدم رتبة على الغبار، كما يظهر مما سبق.

(4) إجماعاً محصلاً منقولاً مستفيضاً صريحاً وظاهراً. كذا في الجواهر. ويقتضيه صحيح أبي بصير المتقدم وموثق زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: إن كان أصابه الثلج

ص: 144

فلينظر لبد سرجه فليتيمم من غباره أو من شيء معه، وإن كان في حال لا يجد إلا الطين فلا بأس أن يتيمم منه "(1) وقريب منه صحيح رفاعة(2) ونحوها غيرها.

بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن لولا هذه النصوص لكان مقتضى الإطلاقات جوازه في عرض التراب، لصد ق الصعيد والأرض عليه. لكن لا يخلو ما ذكره عن إشكال، حيث لا يبعد انصراف الأرض عن الطين. نعم في مرسل علي بن مطر:" سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل لا يصيب الماء ولا التراب أيتيمم بالطين؟ قال: نعم صعيد طيب وماء طهور"(3) ، ونحوه مرسلة الكليني(4) وخبر زرارة الآتي. ومقتضى التعليل فيها جواز التيمم به في عرض التراب. والأمر سهل بعد لزوم الخروج عن الإطلاق لو تم بالنصوص السابقة.

هذا وقد تقدم عن السرائر أن التيمم بالطين مقدم على التيمم بالغبار، ونحوه حكي عن المهذب. ويشهد له خبر زرارة عن أحدهما (عليه السلام): "قلت له: رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء وفيها طين ما يصنع؟ قال: يتيمم فإنه الصعيد قلت: فإنه راكب ولا يمكنه النزول من خوف وليس هو على وضوء قال: إن خاف على نفسه من سبع أو غيره وخاف فوات الوقت فليتيمم يضرب بيده على اللبد أو البرذعة ويتيمم ويصلي"(5).

وقد يستشكل فيه بضعف السند، حيث رواه سعد بن عبد الله الأشعري عن الحسن بن علي عن أحمد بن هلال. والحسن بن علي مشترك بين جماعة بعضهم غير ثابت التوثيق، وأحمد بن هلال ضعيف ملعون.

ويندفع بأن من القريب أن يكون الحسن بن علي هو الزيتوني، الذي لا يبعد وثاقته لأنه من رجال كامل الزيارة. وأما أحمد بن هلال فقد تقدم في مبحث الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر قبول روايته.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 2، 4، 6.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 8، 5.

ص: 145

ومثله الإشكال فيه بشذوذه لمخالفته للأخبار الكثيرة المعتبرة المشهورة بين الأصحاب. لاندفاعه بأن النصوص بين ما أطلق فيه التيمم بالغبار عند عدم التراب أو عند انحصار الأمر به، وما أطلق فيه التيمم بالطين عند عدم وجدان غيره، وما جمع فيه بين الأمرين.

أما الأولان فهما خارجان عما نحن فيه، إذ لابد من تقييد أحدهما بالآخر، إما بتقييد التيمم بالغبار بما إذا فقد الطين، أو العكس، ولا مرجح للثاني.

وأما الثالث فالصريح منه في تقديم الغبار هو صحيح أبي بصير المتقدم، ويقابله خبر زرارة المتقدم. والباقي منه موثق زرارة المتقدم وصحيح رفاعة المشار إليه آنفاً ومرفوع عبد الله بن المغيرة(1) المطابقان له مضموناً. وهي وإن كانت قد تظهر بدواً في تقديم الغبار لتطابق صحيح أبي بصير، إلا أن تنزيلها على العكس لتطابق خبر زرارة ليس بعزيز، بحمل قوله (عليه السلام):" وإن كان في حال لا يجد إلا الطين... "على الاستدراك عن الأمر بالتيمم بالغبار لا على فرض تعذره. ولاسيما بملاحظة التعليل في نصوص التيمم بالطين بأنه الصعيد، فإنه يناسب تقديمه على الغبار، ومع ذلك لا مجال لردّ خبر زرارة بالشذوذ.

نعم لا ينبغي التأمل في ترجيح صحيح أبي بصير عليه بقوة السند، وكذا الدلالة، لإمكان حمل الذيل فيه على استئناف السؤال عن حكم الراكب الذي لا يقدر على النزول من دون تفريع على وجوب التيمم بالطين وفرض تعذره، كما قد يناسبه قوله (عليه السلام):" وليس هو على وضوء "حيث لا موجب للتنبيه عليه لو كان تفريعاً على الحكم السابق.

فإن ذلك وإن كان مخالفاً للظاهر في نفسه، إلا أنه قد يمكن الحمل عليه بقرينة صحيح أبي بصير الذي هو كالنص في تقديم الغبار على الطين. مضافاً إلى ظهور إعراض المشهور عن ظاهر خبر زرارة، وعملهم على ما يطابق صحيح أبي بصير.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 10.

ص: 146

هذا والمصرح به في النهاية والمعتبر ومحكي البيان وجوب إزالة الطين العالق باليدين من قبل المسح بهما، وهو ظاهر الفرك المذكور في المبسوط والخلاف، بل في المقنعة:" فيمسح إحداهما بالأخرى حتى لا يبقى فيهما نداوة، وليمسح بهما وجهه".

ولعله إليه يرجع ما في الوسيلة وعن التحرير من أنه يتركه على يديه قليلاً حتى ييبس ثم ينفضه ويتيمم، وإلا فاعتبار جفافه بنفسه خال عن الشاهد قطعاً، بل قد يخل بالموالاة المعتبرة عندهم. وأشكل منه ما في التذكرة وعن كشف الالتباس من أن العمل على ذلك مع سعة الوقت وعلى ما سبق من الشيخ مع خوف ضيقه، فإنه تفصيل بلا فاصل.

إذا عرفت هذا فلا ينبغي التأمل في جواز الإزالة عملاً بالإطلاق، بل حيث كان عدمه موجباً لتطيين الجبهة وهو أمر مرغوب عنه كان عدم التنبيه لعدم جواز الإزالة موجباً لظهور الإطلاقات في جوازها. وإنما الكلام في وجوبه، حيث قربه سيدنا المصنف (قدس سره) بأنه مقتضى اعتبار مباشرة الماسح للمسوح في التيمم.

لكنه يشكل بأن دليل المباشرة مختص بما إذا لم يكن الحائل من سنخ الأمر الذي يتيمم به، بحيث يكون حيلولته مقتضى الوضع الطبعي للتيمم به. ولذا يشكل إثبات وجوب إزالة التراب العالق باليد بسبب ضرب الأرض بها.

بل قد يدعى أن مقتضى الإطلاقات المقامية في المقام عدم وجوب الإزالة، لأنه حيث كان من طبيعة الطين اللصوق باليد فعدم التنبيه على إزالته يوجب ظهور أدلة التيمم به في عدم وجوبها. ومن ثم قد يدعى ظهور كلام من أطلق التيمم بالطين - كما نسبه في الوسيلة للمشايخ - في عدم وجوب الإزالة.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال لذلك بعد ما سبق من أن تطيين الجبهة أمر مرغوب عنه حيث تكون الإزالة مقتضى الوضع الطبيعي، فلا يحتاج للتنبيه عليها لو كانت واجبة. ولا أقل مع ذلك من كونها مقتضى الأصل. بل لو قيل بوجوب النفض مع التيمم بالتراب كان الاستئناس به في المقام لوجوب الإزالة قريباً جداً.

ص: 147

(148)

وإذا أمكن تجفيفه والتيمم به تعين ذلك (1).

(مسألة 21): إذا عجز عن الأرض والغبار والوحل كان فاقداً للطهور والأحوط له الصلاة في الوقت والقضاء في خارجه (2).

نعم لا ينبغي التأمل في عدم وجوب المداقة في الإزالة، لاحتياجه إلى عناية، فعدم التنبيه عليه يوجب ظهور أدلة المقام في عدمه. وأظهر من ذلك عدم وجوب إزالة الرطوبة، وإن تقدم من المقنعة. فلاحظ.

(1) بلا إشكال، حيث يتحقق به التيمم الاختياري.

(2) بل ربما قيل بوجوبه، كما نسب للمبسوط والنهاية، وإن كان صريح بعض فقرات كلام الشيخ (قدس سره) فيهما وجوب القضاء لا غير. فلاحظ كلامه فيهما فيمن لا يجد إلا الثلج، وفي المبسوط فيمن يحبس في القيد أو في موضع نجس وفي المصلوب من مبحث التيمم. ولعله لذا اعترف بعضهم بعدم معرفة القائل بذلك.

وكيف كان فقد يوجه بإنه مقتضى العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين الملزم بالاحتياط بفعلهما، بناء على ما هو الظاهر من عموم المنجزية للعلم الإجمالي التدريجي.

ويشكل بعدم ثبوت العلم الإجمالي، لاحتمال سقوطهما معاً، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ولو سلم أمكن دعوى انحلاله ببعض الوجوه الآتية المقتضية لوجوب أحد الأمرين. ومن هنا يلزم النظر في أمرين:

الأول: وجوب الأداء فقط. وقد حكاه المرتضى (قدس سره) في الناصريات عند جده الناصر ولم يرتضيه. بل المعروف من مذهب الأصحاب سقوطه، ونسب للأكثر في الرياض، وللمشهور في محكي كشف الالتباس. بل في جامع المقاصد أنه ظاهر مذهب الأصحاب، وفي الروض أنه ظاهرهم بحيث لا نعلم فيه مخالفاً، وفي المدارك أنه مذهبهم لا نعلم فيه مخالفاً صريحاً.

ص: 148

ويقتضيه عموم دليل اعتبار الطهارة في الصلاة كقوله (عليه السلام): "لا صلاة إلا بطهور" (1) وغيره. فإن مقتضاه عموم اعتبار الطهارة لحال تعذرها، المستلزم لتعذر الصلاة بتعذرها، وسقوطها بذلك. ومجرد ورود نظير اللسان المذكور في غير الطهارة مما ثبت سقوط شرطيته في حال التعذر كالفاتحة(2) ، بل في غير الشروط من المستحبات، كالصلاة في المسجد لجار المسجد(3) ، لا يقتضي الخروج عن ظاهره في المقام.

ولاسيما مع ظهور الأدلة في أهمية شرطية الطهارة في الصلاة، حتى كان ظاهر بعض النصوص حرمة الصلاة تكليفاً بدونها، ففي موثق مسعدة بن صدقه عن الإمام الصادق (عليه السلام): "أفما يخاف من يصلي من غير وضوء أن تأخذه الأرض خسفاً" (4) حيث لا مجال مع ذلك لاستبعاد سقوط الأداء، فضلاً عن الخروج به عما عرفت من القاعدة.

لكن قد يستدل على وجوب الأداء تارة: بقاعدة الميسور. وأخرى: بالاستصحاب. وثالثة: بما تضمن أن الصلاة لا تسقط بحال.

ويندفع الأول بما تكرر غير مرة من عدم ثبوت قاعدة الميسور عموماً، على ما حققناه في مبحث الأقل والأكثر الارتباطين من الأصول.

كما يظهر مما ذكرناه هناك ضعف الثاني، لأن المتيقن سابقاً إنما هو وجوب التام، وهو معلوم الارتفاع وأما وجوب الناقص فهو محتمل الحدوث بعد التعذر. وتمام الكلام هناك.

وأما الثالث فيندفع بما تقدم في المسألة التاسعة من عدم ثبوت عموم عدم سقوط الصلاة بحال بنحو ينفع في أمثال المقام مما تعذر فيه بعض ما يعتبر فيها. فراجع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الوضوء حديث: 1، وغيره.

(2) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 1 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 2 من أبواب أحكام المساجد حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 149

هذا وقد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن التعذر كغيره من الأعذار - كالجهل والنوم - لا يقتضي سقوط الوجوب، بل العذر في ترك الواجب، فإذا شك في ركنية المتعذر جزءاً كان أو شرطاً فقد شك في ثبوت العذر بترك الباقي مع فرض وجوبه بتبع وجوب التام المتعذر جزؤه أو شرطه. نعم لو كان التعذر موجباً لسقوط الوجوب احتاج إثبات وجوب الباقي للتشبت بما سبق.

لكنه يشكل بأن الباقي بعد التعذر هو الملاك لا التكليف الفعلي، وموضوع الملاك هو التام، لا الناقص. وكذا الحال في سائر الأعذار غير الجهل. مع أن بقاء الوجوب الضمني بتبع بقاء وجوب التام المتعذر - لو تم - لا ينفع في محركيته، لأن محركية الوجوب الضمني إنما تكون يتبع محركية الوجوب التام، كما هو مقتضى الارتباطية، فمع عدم محركية الوجوب التام يتعين عدم محركية الوجوب الضمني.

نعم قد يستأنس لوجوب الأداء في المقام بما ورد من وجوب صلاة المطاردة والمسابقة وعدم وجوب القضاء معها، لبعد التمكن من ذلك الحال في الطهارة، خصوصاً في مثل حرب صفين التي ورد أنهم صلوا فيها خمس صلوات بالتكبير(1).

لكن لو تم أن التكبير صلاة لا بدل عنها فلا وجه لاستبعاد تعذر التيمم لها ولو بالغبار، الذي ورد بعض نصوصه في المواقف وفيمن يخاف النزول، كما سبق. ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من القاعدة المقتضية لعدم وجوب الأداء.

الثاني: وجوب القضاء فقط، كما سبق من المبسوط والنهاية واختاره في المقنعة والناصريات والسرائر وغيرها، وفي الجواهر: "كما هو الأشهر بين المتقدمين والمتأخرين، بل المشهور كما عن كشف الالتباس".

لعموم ما دل على قضاء ما فات(2) ، لصدق الفوت في المقام. ولا وجه لقياسه بالصبي والمجنون والحائض بعد عدم، صدق الفوت في حقهم، لعدم تمامية ملاك

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 4 من أبواب الخوف والمطاردة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 2، 4، 6 من أبواب قضاء الصلوات.

ص: 150

الوجوب، بخلافه في المقام، لأن الأمر بالصلاة وإن سقط بالتعذر، إلا أن القدرة على الصلاة ليست إلا شرطاً في الخطاب والتكليف عقلاً من دون أن تكون مأخوذة في الموضوع ودخلية في الملاك، ولذا لا ريب في تمامية الملاك وصدق الفوت في موارد التزاحم.

لكنه يشكل أولاً: بعدم ثبوت عموم وجوب قضاء ما فات، وإنما ورد الأمر بالقضاء في موارد خاصة، كالنسيان وبطلان العمل وغيرهما مما لا يشمل المقام.

نعم في صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "أنه قال: أربع صلوات يصليها الرجل في كل ساعة: صلاة فاتتك فمتى ذكرتها أديتها..."(1) ، وصحيحه الآخر:" قلت له: رجل فاتته صلاة من صلاة السفر فذكرها في الحضر. قال: يقضي ما فاته كما فاته..."(2).

لكن الأول وارد لبيان وقت قضاء الفائت بعد الفراغ عن وجوبه، لا لبيان وجوب قضاء الفائت، ليكون مقتضى إطلاقه وجوب قضاء كل ما فات. وكذا الحال في الثاني، فإنه وارد لبيان لزوم مطابقة القضاء للفائت بعد الفراغ عن وجوبه، لا لتشريع وجوب قضاء الفائت، لينفع بإطلاقه فيما نحن فيه.

هذا وقد استدل بعض مشايخنا (قدس سره) على عموم وجوب القضاء بنحو يشمل المقام بصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "أنه سئل عن رجل صلى بغير طهور، أو نسي صلوات لم يصلها، أو نام عنها. قال: يقضيها إذا ذكرها في أي ساعة ذكرها من ليل و نهار"(3).

وتقريب دلالته من وجهين:

الأول: أن وجوب القضاء على من صلى بغير طهور يقتضي وجوبه على من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 2 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 6 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 1 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 1.

ص: 151

ترك الصلاة أصلاً لتعذرها بنفسها أو تعذر الطهور لها، كما في المقام.

الثاني: أن الظاهر إلغاء خصوصية النسيان عرفاً، وأن ذكره لعدم كون ترك الصلاة متعمداً من شأن المسلم الملتزم، وليس ذكر النسيان إلا توطئة وتمهيداً لبيان عموم وجوب القضاء بترك الصلاة، ومقتضى عمومه حينئذٍ عموم وجوبه لصورة الترك عن عذر، كما في المقام.

لكن يندفع الأول بأن منصرف السؤال عمن صلى بغير طهور ما إذا كانت وظيفته الصلاة بطهور، فصلى بدونه نسياناً أو عصياناً أو غفلة. لظهور عدم وجوب القضاء على من صلى بغير طهور لو كان ذلك مقتضي وظيفته. وحينئذٍ فالأولوية إنما تثبت فيمن ترك الصلاة رأساً مع كونه مكلفاً بها، لا من تركها لعدم تكليفه بها شرعاً، كالصبي والحائض، أو عقلاً لتعذرها عليه، كما في المقام. ومنه يظهر قصور الحديث عن فاقد الطهورين لو صلى بغير طهور احتياطاً أو للبناء على وجوب الأداء عليه خطأ لاجتهاد أو تقليد أو غفلة أو نحوها.

كما يندفع الثاني بأن إلغاء خصوصية النسيان عرفاً إنما يتم فيمن كانت وظيفته الصلاة فتركها لعذر أو بدونه، لا فيمن لم يخاطب بها - شرعاً أو عقلاً - كما في المقام، وفهم عموم الحديث له ممنوع جداً.

وثانياً: بأنه هذا ولو ثبت العموم المذكور أمكن الخروج عنه بما ورد في المغمى عليه من النصوص النافية للقضاء المتضمنة لمثل قولهم (عليهم السلام):" كلما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر"(1). فإن القضاء وإن لم يكن من سنخ العقوبة الساقطة بالتعذر، إلا أن تطبيق الكبرى المذكورة عليه في النصوص لابد أن يبتني على تنزيله منزلتها، لأنه عرفاً من سنخ التدارك، وفيه نحو من الثقل والكلفة، على ما تقدم في أوائل مباحث المسلوس والمبطون، ومقتضى ذلك سقوطه في المقام، عملاً بعموم الكبرى المذكورة.

ودعوى: لزوم كثرة التخصيص، لكثرة موارد وجوب القضاء مع غلبة الله

********

(1) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 3 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 1.

ص: 152

تعالى، وهو موجب لإجمال هذه النصوص. ممنوعة جداً. فإن ما ورد من وجوب القضاء مع النسيان وبطلان العمل خطأ راجع إلى الغلبة في مقام الإثبات، لا إلى العجز ثبوتاً الذي هو ظاهر هذه النصوص. ولا أقل من لزوم حملها عليه جمعاً.

نعم ورد وجوب القضاء مع النوم. لكن في كونه من موارد العجز عرفاً إشكال، ولو كان أشكل نسبة الغلبة معه إلى الله تعالى، بل هو عرفاً مسبب عن الإنسان نفسه، لإمكان تحفظه من ترك الصلاة فيه بمحاولة الاستيقاظ، أو تأخير النوم ولو بعناية. على أنه لو كان منها فهو لا يستلزم كثرة التخصيص للنصوص المذكورة بحيث يستلزم إجمالها بالعرض وسقوطها عن الحجية في العموم بنحو ينفع في المقام.

ومن هنا ذهب المحقق والعلامة في جملة من كتبه وابن سعيد - فيما حكي عنه - وجماعة ممن تأخر عنهم إلى عدم وجوب القضاء، وحكاه في المعتبر قولاً للمفيد.

نعم ذلك كله يختص بما إذا كان فقد الطهور عرفاً مستنداً لغلبة الله تعالى، كما في المحبوس ونحوه، دون ما إذا كان مستنداً للمكلف، ولو لاختياره السفر لمكان يفقد فيه الطهورين. إذ لا مجال معه لتطبيق الكبرى المذكورة، فلو تم عموم يقتضي القضاء لزم البناء عليه.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يبادر للصلاة عصياناً أو غفلة حتى فقد الطهورين، حيث قد يستفاد فيه وجوب القضاء من مثل صحيح زرارة المتقدم بالأولوية التي تقدم تقريبها.

هذا وعن المفيد في رسالته إلى ولده والموجز وكشف الالتباس أن على فاقد الطهورين ذكر الله تعالى بمقدار الصلاة والاكتفاء عن الأداء والقضاء. وفي كشف اللثام أنه لا بأس به. قال في الجواهر: "وكأنه فهم منه إرادة الندب" .وحينئذٍ يبتني على ثبوت قاعدة التسامح وعمومها لمثل فتوى بعض العلماء بالاستحباب، وإلا فلا دليل على استحباب ذلك بالخصوص، فضلاً عن وجوبه، كما نبه له في الجواهر. وحمله على الحائض قياس. فلاحظ والله سبحانه وتعالى العالم.

ص: 153

(154)

وإذا تمكن من الثلج ولم تمكنه إذابته والوضوء به، ولكن أمكنه مسح أعضاء الوضوء به على نحو يتحقق مسميالغسل (1)، وجب واجتزأ به (2).

(1) تقدم في أول فصل الوضوء أنه لا يعتبر في الوضوء والغسل تحقق مسمى الغَسل، بل مجرد إصابة الماء للبشرة ولو بمثل الدهن الذي لا يتحقق به الغسل عرفاً، وأن ذكر الغسل في الأدلة ليس لتوقف تحقق الطهارة عليه، كما هو ظاهرها بدواً، بل لتحقق إصابة الماء للبشرة به، كما يستفاد ذلك من بعض النصوص. فراجع.

(2) كما في الاستبصار والمعتبر والقواعد وغيرها. بل في جامع المقاصد: "لا إشكال في هذا الحكم، لأن المتمكن من الطهارة المائية لا يجزيه التيمم".

ويقتضيه - بعد العمومات - صحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن الرجل يجنب في السفر لا يجد إلا الثلج قال: يغتسل بالثلج أو ماء النهر"(1) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام):" سألته عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه ماء وهو يصيب ثلجاً أو صعيداً أيهما أفضل، أيتيمم أم يمسح بالثلج وجهه؟ قال: الثلج إذا بل رأسه وجسده أفضل، فإن لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمم"(2) ، ونحوه خبره(3).

ولابد من حمل الأفضلية في الأخيرين على الإلزام، أو الترخيص في ترك الغسل في فرض الحرج، بناء على التحقيق من أن مشروعية التيمم للحرج لا يرفع مشروعية الطهارة المائية.

لكن في المقنعة: "فإن حصل في أرض قد غطاها الثلج، وليس له سبيل إلى التراب، فليكسره وليتوضأ بمائه. فإن خاف على نفسه من ذلك وضع بطن راحته اليمنى على الثلج وحركها عليه تحريكاً باعتماد، ثم يرفعها بما فيها من نداوته فمسح بها وجهه كالدهن..." ،وذكر كيفية الوضوء ثم الغسل مع الحاجة إليه. ونحوه في

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التيمم حديث: 1، 3، 4.

ص: 154

أنه مع تعذر الماء والتراب يلزم الوضوء والغسل بالغسل بنداوة الثلج في المبسوط، وبالمسح بها مثل الدهن في النهاية والوسيلة. وربما حكي ذلك عن غيرهم. وهو كما ترى صريح في تأخر ذلك عن التيمم.

وقد استشكل فيه في المعتبر وغيره بأنه إن تحقق به مسمى الغسل المعتبر في الطهارة بالماء كان مساوياً للماء ومقدماً على التراب، وإلا لم يكن وجه للاجتزاء به في تحقق الطهارة حتى مع فقد التراب.

لكن الظاهر أن مرادهم ما إذا تحقق أدنى ما يعتبر في الطهارة المائية، كما قد يناسبه التعبير بالغسل في المبسوط، ويناسبه أيضاً ما تقدم منا من أن المعتبر في الطهارة الحدثية ليس هو الغسل العرفي، بل مطلق وصول الماء للبشرة ولو بمثل الدهن.

ولا يبعد أن يكون تقديمهم التراب عليه رخصة لا عزيمة، لغلبة لزوم الحرج من استعمال الماء بالوجه المذكور، فيسقط وينتقل للتيمم. أما مع تعذر التراب فأهمية الطهارة بنظرهم تقتضي عدم الاكتفاء في سقوطها بمثل هذا الحرج ولزوم تحصيلها باستعمال الثلج.

وكأن الفرق مبني على ما تقدم في المسوغ الثاني من أن المستفاد من الأدلة عدم أهمية خصوصية الطهارة المائية والاكتفاء في سقوطها بكل محذور شرعي أو عرفي له أهمية معتد بها. ولا دليل على ذلك، في أصل الطهارة التي يتوقف عليها صحة الصلاة المعلومة الأهمية، والتي ورد أنها لا تترك بحال(1). فتأمل.

نعم ما تقدم من المقنعة قد تضمن الترتيب مع تعذر الماء والتراب بين الوضوء بماء الثلج والمسح بنداوته مع أنه لو تحقق أدنى ما يعتبر في الطهارة المائية بالمسح تعين التخيير بينهما.

لكن لا يبعد كون الترتيب بينهما شرعياً، بلحاظ أفضلية الأول، لأنه الأقرب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 155

وإذا كان على نحو لا يتحقق الغسل فالأحوط له أيضاً الجمع بين التيمم والمسح به (1) والصلاة في الوقت.

للإسباغ، أو عرفياً، بلحاظ كون الأول أسهل وأيسر مع التمكن منه، لسرعة الجفاف في الثاني. ويأتي تمام الكلام في ذلك.

(1) اختلفت عبارات الأصحاب في فرض عدم تحقق أدنى ما يعتبر في الطهارة المائية من التمسح بالثلج. فقد صرح في المعتبر وغيره بعدم تحقق الطهارة به لا وضوءاً أو غسلاً، ولا تيمماً، لأن الوضوء والغسل إنما يكون بالغسل والمفروض عدم تحققه، والتيمم إنما يكون بالأرض لا بالثلج.

وفي المنتهى ومحكي نهاية الأحكام أنه يمسح به أعضاء الوضوء وعليه قد يحمل ما تقدم من المقنعة وغيرها، وإن كان الأظهر ما سبق. وعلله في المنتهى بأن الواجب أمران: إمساس جسده بالماء وإجراؤه عليه، فلا يسقط الثاني بتعذر الأول.

وهو راجع إلى قاعدة الميسور التي تكرر منا عدم تمامية الدليل عليها. مع أنه حيث كان المفروض عدم حصول ما يعتبر في الضوء والغسل فالإمساس مقدمة للواجب لا جزء منه، وقاعدة الميسور إنما تقتضي الاكتفاء ببعض الواجب عند تعذره بتمامه، لا الاكتفاء بمقدمته عند تعذره. وأشكل من ذلك ما في التذكرة من تعليله بأنه أشبه بالوضوء. لوضوح أنه بالقياس أشبه.

نعم قد يستدل له ببعض النصوص كالصحيحين المتقدمين وخبر علي بن جعفر المشار إليه آنفاً. وخبر معاوية بن شريح: "سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده فقال: يصيبنا الدمق والثلج، ولا نجد إلا ماء جامداً، فكيف أتوضأ به أدلك به جلدي؟ قال: نعم"(1).

لكن صحيح محمد بن مسلم ظاهر في تحقق الغسل المعتبر في الطهارة المائية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 156

بالثلج. ولاسيما بلحاظ التخيير بينه وبين الغسل بماء النهر. وذلك هو الظاهر مما في صحيح علي بن جعفر وخبره من فرض تحقق البلل للرأس والجسد، واشتراط التيمم بتعذر الاغتسال. كما أن ظاهر التوضؤ بالثلج في خبر معاوية هو التوضؤ المعهود الذي يبل فيه الأعضاء بالماء، وليس السؤال إلا لتوهم لزوم صب الماء وعدم الاكتفاء ببلها بدلكها بالثلج ابتداء. وأشكل من ذلك ما في المنتهى من الاستدل بالنصوص المتضمنة إجزاء الماء القليل في الوضوء والغسل، وأنه يكفي إمساس الماء، ومثل الدهن(1).

إذ فيه: أن النصوص المذكورة صريحة أو كالصريحة في إجزاء ذلك اختياراً، كما سبق منّا.

هذا ومقتضى النصوص المذكورة لو تم الاستدلال بها كالتعليلين المتقدمين تقديم ذلك على التيمم. لكن في المختلف وعن نهاية الأحكام أن ذلك إنما يكون مع فقد التراب وتعذر التيمم.

وقد يستدل له بصحيح الحلبي المروي في المحاسن:" عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: سألت عن الرجل يجنب في الأرض فلا يجد إلا ماء جامداً، ولا يخلص إلى الصعيد قال: يصلي بالمسح، ثم لا يعود إلى تلك الأرض التي يوبق فيها دينه "(2) وقريب منه مرسل المقنع(3).

بدعوى: أنه حيث فرض فيه عدم الصعيد فلابد أن يكون المراد بالمسح هو التمسح بالثلج، ويكون متأخراً رتبة عن التيمم. كما أنه حيث تضمن النهي عن العود إلى تلك الأرض فلابد من عدم تحقق ما يعتبر في الطهارة المائية الاختيارية بالمسح المذكور.

لكن كما يمكن ذلك يمكن حمل المسح على المسح بالبرذعة أو الثوب أو نحوهم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 52 من أبواب الوضوء، وباب: 31 من أبواب الجنابة.

(2) المحاسن ص: 372 طبع طهران، وص: 308 طبع النجف الأشرف.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 157

(158)

(مسألة 22): يستحب نفض اليدين بعد الضرب (1)، وأن يكون

مما يتحقق به التيمم بالغبار، الذي هو مرتبة اضطرارية من التيمم، وليست الصلاة بالمسح بالثلج من الشيوع بحيث توجب انصراف المسح إليه، بل المسح بالبرذعة ونحوها أشيع في النصوص والفتوى. ولاسيما مع عدم ظهور استدلال الأصحاب بالحديث المذكور في المقام، خصوصاً القدماء، لما سبق من ظهور كلام جملة منهم في كون استعمال الثلج محققاً لما يعتبر في الطهارة المائية الاختيارية، وأنه لا يبتني على المسح به مباشرة، بل بنداوته العالقة باليد بعد وضعها وتحريكها باعتماد عليه.

هذا وفي القواعد أنه لو لم يتحقق مسمى الغسل بالثلج تيمم به بعد فقد التراب، وفي المراسم وعن المرتضى التيمم بنداوة الوحل أو الثلج. قال في المعتبر:" وإليه أومأ ابن الجنيد في المختصر ".وقد يستدل بصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألت عن رجل أجنب في سفر، ولم يجد إلا الثلج أو ماء جامداً. فقال: هو بمنزلة الضرورة، يتيمم. ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي يوبق دينه"(1).

لكنه كما ترى لانصراف التيمم للتيمم بالتراب، لأنه معناه شرعاً، فحمله على التيمم بالثلج بعيد جداً إن لم يقطع بخلافه. ومثله الاستدلال بصحيح الحلبي المتقدم، بحمل المسح فيه على التيمم بالثلج. فإنه بلا شاهد. بل لو تم حمله على المسح بالثلج فالمناسبات الارتكازية تقضي بإرادة مسح تمام البدن به كالغسل، لأنه من مراتبه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) كما نسبه في المختلف لمن عدا ابن الجنيد من أصحابنا، وفي المدارك: "هذا مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفاً، وأسنده في المنتهى إلى علمائنا، مؤذناً بدعوى الإجماع عليه".

ويقتضيه جملة من النصوص. كموثق زرارة: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن التيمم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 9.

ص: 158

فضرب بيده على الأرض ثم رفعهافنفضها..."(1) ، وصحيح ليث عن أبي عبد الله (عليه السلام) في التيمم قال: تضرب بكفيك على الأرض مرتين ثم تنفضهما..."(2) ، وصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):" تضرب بيدك مرتين ثم تنفضهما... "(3) وغيرها.

وظاهر الأصحاب المفروغية عن حمل النصوص المذكورة على الاستحباب، للإجماع على عدم وجوبه. وما تقدم من استثناء ابن الجنيد من الإجماع على عدم الاستحباب ليس لبنائه على الوجوب - كما ادعي - بل لبنائه على الحرمة، الذي استفيد من حكمه بلزوم المسح بما يعلق من اليدين، كما صرح به غير واحد، وإلا فعدم الوجوب إجماعي، كما في التذكرة، ونبّه له في المدارك، بل تنبيههم لخلاف ابن الجنيد في المنع دون إشارة لاحتمال القول بالوجوب يكشف عن المفروغية عنه بنحو يستغني عن التنبيه للإجماع عليه.

هذا وقد استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) في الإجماع المذكور بأنه لا طريق لإثباته إلا ما تقدم من التذكرة والمدارك، وهو إجماع منقول ليس بحجة. ولاسيما مع ظهور كلام جماعة ممن تقدم على المحقق في الوجوب، فقد ذكر في بيان كيفية التيمم في المقنع والهداية والمقنعة والنهاية والمبسوط والغنية والمراسم، وظاهر كلامهم إرادة الكيفية الواجبة التي لا يصح التيمم بدونها، بل في إشارة السبق:" ويحب فيه ضرب كفيه جميعاً على ما يتيمم به بعد القصد إليه بنية، ونفضهما ومسح الوجه بهما...".

لكن ظهور المفروغية ودعوى الإجماع كما كانا منهم بعد الإطلاع على النصوص الظاهرة بدواً في الوجوب كانا بعد الإطلاع على كلمات الأصحاب المتقدمة، فلولا المفروغية عن حملها عن الاستحباب كالنصوص - لجريها على بيان مضمونها - لم يتجه منهم المفروغية ودعوى الإجماع المذكورتان، خصوصاً في مثل هذه المسألة العملية الشايعة الابتلاء، بل كان المناسب البناء أو الإجماع على الوجوب بعد تطابق ظاهر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 3.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 2، 4.

ص: 159

(160)

ما يتيمم به من ربى الأرض وعواليها، ويكره أن يكون من مهابطها (1)،

النصوص وفتاوى قدماء الأصحاب عليه، لا الخلاف في استحباب النفض أو حرمته لاحتمال وجوب المسح بالتراب العالق بالكفين.

على أن ذلك قد يكون مقتضى الجمع بين النصوص، لخلو أكثرها عن التعرض للنفض، مع أن الغالب هو التيمم بالتراب ونحوه مما يعلق بالكف فلو كان النفض واجباً للزم التنبيه عليه، فقد يكون ظهور إغفاله في عدم وجوبه أقوى من ظهور الأمر به في بعض النصوص وفعله في بعضها في الوجوب.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في حمل النصوص على الاستحباب. بل قد يحتمل حملها على مجرد الرخصة شرعاً، لتجنب تتريب الوجه المرغوب عنه نفسياً لدفع توهم وجوب المسح بالعالق. وإن كان هو خلاف ظاهر الأمر في النصوص المذكورة بدواً. فلاحظ.

ثم إن الظاهر عدم الخصوصية للنفض، بل إنما يراد به إزالة التراب العالق بالكفين، فلا يكفي مسمى النفض بدونه، كما يقوم مقام النفض كل ما يحقق ذلك كمسح أحدى اليدين بالأخرى أو ضربها بها، كما يناسبه قوله (عليه السلام) في موثق زرارة في حكاية تيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):" فضرب بيديه على الأرض، ثم ضرب إحداهما على الأخرى ثم مسح بجبينه..."(1).

وكأن ما في النهاية والمبسوط من الجمع بين نفض اليدين ومسح إحداهما بالأخرى يبتني على التأكد من زوال التراب العالق بالكفين، وإلا فلا شاهد له من النصوص، ولذا قال المحقق في نكت النهاية: "أما الجمع بين الأمرين فلا أعرفه".

(1) إجماعاً، كما في الخلاف والمعتبر. كما ادعى الإجماع على الثاني في التذكرة وجامع المقاصد، ونبّه غير واحد على عدم تفريق العامة بين الأمرين، بنحو يظهر منه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 9.

ص: 160

وأن يكون من تراب الطريق (1).

أنه من متفردات الإمامية. قال في المعتبر: "والوجه أن العوالي يغسلها السيول فهي أبعد عن ملاقاة النجاسات. ويؤيده النقل عن أهل البيت وإن ضعف سنده" .وتبعه في التعليل المتقدم في التذكرة وجامع المقاصد وكشف اللثام وغيرها.

وأما النقل فكأن المراد به ما ذكره الصدوق (قدس سره) قال: "وقد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: الصعيد الموضع المرتفع والطيب [الموضع] الذي ينحدر عنه الماء" (1) ونحوه الرضوي(2). ولو تم يتعين حمل الأمر بالتيمم بالصعيد الطيب على بيان أفضل الأفراد. هذا وأما الاستدلال عليه بما يأتي في الأمر اللاحق فهو ظاهر الوهن.

(1) لخبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) لا وضوء من موطأ. قال النوفلي: يعني ما تطأ عليه برجلك"(3). وفي خبره الآخر عنه (عليه السلام):" نهى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يتيمم الرجل بتراب من أثر الطريق"(4).

********

(1) معاني الأخبار [باب معنى المحاقلة والمزابنة والعرايا...] ص: 269 طبع النجف الأشرف.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التيمم حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 161

ص: 162

(163)

الفصل الثالث: كيفية التيمم أن يضرب بيديه على الأرض (1)،

(1) فلا يكفي تعريض الأعضاء للتراب من دون الاستعانة باليدين قطعاً، كما يظهر من النصوص والفتاوى المفروغية عنه. وعن المقاصد العلية نقل الاتفاق على أنه لو تعرض لمهب الريح لم يصح تيممه.

كما لا يكفي أخذ التراب باليدين من الأرض أو من الريح أو غيرها من دون وضعهما على الأرض. لظهور النصوص البيانية وغيرها في لزوم وضعهما عليها أو ضربهما عليها، بل المفروغية عنه.

وكذا الحال في كلمات الأصحاب. بل في جامع المقاصد والمدارك الإجماع عليه.

فما عن العلامة في نهاية الأحكام من أنه قرب الاجتزاء بأخذ التراب من الريح والمسح به لا يلتفت إليه. وأشكل من ذلك ما عنه من جواز الحدث بعد الضرب. ويأتي عند الكلام في اشتراط النية في التيمم ما ينفع في المقام.

وإنما الكلام في أمرين:

الأمر الأول: هل يعتبر ضرب الأرض أو يكفي مطلق الوضع والمماسة لها؟ فالأول صريح المدارك وعن المقاصد العلية وغيره وظاهر كل من عبر بالضرب، وهو الأكثر كما في مفتاح الكرامة، والمشهور كما في كشف اللثام، وفي الذكرى أن عليه معظم عبارات الأصحاب. والثاني قد يكون مقتضى إطلاق الوضع في المبسوط والنهاية والشرايع والقواعد ومحكي الجامع.

ص: 163

ولعله لاختلاف الأخبار، حيث تضمنت أكثر النصوص البيانية وغيرها التعبير بالضرب(1). كما تضمنت جملة من النصوص الحاكية لتيممهم (عليهم السلام) في مقام التعليم بالوضع، ففي صحيح داود بن النعمان: "فقلنا له: فكيف التيمم؟ فوضع يديه على الأرض ثم رفعهما..."(2) ، ونحوه غيره.

لكن في جامع المقاصد:" واختلاف الأخبار وعبارات الأصحاب في التعبير بالضرب والوضع يدل على أن المراد بهما واحد، فلا يشترط في حصول مسمى الضرب كونه بدفع واعتماد، كما هو المتعارف ".ويشكل بأن ذلك خروج عن ظاهر الضرب في كلام من عرفت.

نعم لا يبعد ذلك فيمن سبق منه التعبير بالوضع لأنه عبر بالضرب أيضاً في مطاوي كلامه، فلا يبعد حمل الوضع في كلامه على خصوص الضرب. وإن أبيت عن ذلك تعين البناء على كون الخلاف حقيقياً عملياً كما يظهر من الذكرى.

ومنه يظهر الحال في النصوص، فإنه حيث كان الضرب أخص من الوضع تعين حمل نصوص الثاني على نصوص الأول، والبناء على وجوب الضرب، كما هو ظاهر المشهور. ولاسيما وأن أكثر نصوص الوضع قد تضمنت حكاية فعل المعصوم (عليه السلام)، كصحيح داود المتقدم، وهو مجمل لإمكان حصول الضرب منه عليه السلام وقد عبر الراوي بما هو أعم منه وهو الوضع.

نعم في صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) الحاكي لقصة عمار وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له:" أفلا صنعت كذا؟ ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد..."(3) ، فإن التعبير بذلك لما كان في كلام الإمام (عليه السلام) كان ظاهراً في إجزاء مضمونه، لوروده في مقام بيان ما هو المشروع. إلا أنه قد يحمل على خصوص الضرب بقرينة قوله (عليه السلام): "ثم أهوى" الظاهر في سرعة إنزال اليدين. ولاسيما مع تعبيره (عليه السلام)

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11، 12 من أبواب التيمم.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 4، 8.

ص: 164

بالضرب في حكاية نفس الواقعة في موثقه المروي من مستطرفات السرائر(1) المتقدم في آخر الكلام في النفض.

لكن قرب في الدروس الاكتفاء بالوضع وعدم اعتبار الاعتماد، ونحوه في الذكرى قال: "والظاهر أنه غير شرط، لأن الغرض قصد الصعيد، وهو حاصل بالوضع" .وكأنه يشير إلى إطلاق قوله تعالى: "فتيمموا صعيداً طيباً"(2).

وهو كما ترى، لأن الإطلاق المذكور كما لا يقتضي خصوصية الضرب لا يقتضي خصوصية الوضع، بل مقتضاه الاكتفاء بأخذ التراب باليد، وكما لزم تقييده بنصوص الوضع يلزم تقييده بنصوص الضرب التي هي أخص.

ونحوه ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن الضرب مطابق للوضع، وخصوصية الدفع والاعتماد مستفادة منه بقرائن خارجية مفقودة في المقام، للقطع بعدم دخله هنا.

إذ فيه: أن الاختلاف بين الأمرين مفهوماً مع كون الضرب أخص ليس مورداً للإشكال. ولاسيما مع اختلافهما في اللزوم والتعدية. وأما القطع بعدم دخل الخصوصية المذكورة، فهو غير حاصل لنا. ولاسيما بملاحظة أن عدم دخل خصوصية الضرب ليس بأولى من عدم دخل خصوصية أصل الوضع والاكتفاء بمجرد مماسة اليدين للتراب ولو بتناوله له بهما، ولا يظن به الاكتفاء بذلك. ومن هنا لا مخرج عما سبق.

الأمر الثاني: أن المعروف لزوم الضرب بكلتا اليدين، وفي الجواهر:" إجماعاً محصلاً ومنقولاً "،وعن مجمع الفائدة أنه ظاهر كلام الأصحاب، وفي المدارك وعن إرشاد الجعفرية الإجماع عليه.

لكن في كشف اللثام أنه المشهور. وكأنه لما في التذكرة من احتمال الاجتزاء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 9.

(2) سورة النساء الآية: 43، سورة المائدة الآية: 6.

ص: 165

بالمسح بكف واحدة، وعن نهاية الأحكام من الإشكال في ذلك، حيث يظهر منهما احتمال الاجتزاء بالضرب بكف واحدة.

ويشهد للأول النصوص الكثيرة(1) المتضمنة وضع اليدين معاً. وما تضمنته بعضها من إفراد اليد محمول على الجنس بقرينة ما تضمنه من مسح اليدين معاً ففي موثق زرارة:" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن التيمم، فضرب بيده الأرض، ثم رفعها فنفضها، ثم مسح بها جبينه وكفيه مرة واحدة"(2) ، ونحوه غيره.

وأما روايته لها في التهذيب هكذا: "فضرب بيده اليمنى الأرض" (3) فلا مجال للتعويل عليه مع ما تضمنه من مسح اليدين بها معاً. ولاسيما مع روايته لها في الاستبصار هكذا: "فضرب بيديه على الأرض، ثم رفعهما فنفضهما، ثم مسح على جنبيه"(4). ومع أنه رواها فيهما بسنده عن الكليني، والموجود في الكافي كما ذكرناه أولاً.

نعم في صحيح أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام):" فقلت له: كيف التيمم؟ فوضع يده على المسح ثم رفعها فمسح وجهه، ثم مسح فوق الكف قليلاً"(5). لكن حيث لا إشكال في لزوم مسح كلا الكفين، فالظاهر إرادة ضربهما معاً وإفراد اليد محمول على إرادة الجنس أيضاً ولاسيما بقرينة النصوص الأخر. ولا أقل من إجماله، فلا يخرج به عن بقية النصوص. ومثله قوله (عليه السلام) في معتبر زرارة المتقدم: "فليتيمم يضرب بيده على اللبد أو البرذعة ويتيمم ويصلي"(6). ولاسيما مع عدم وروده في بيان كيفية التيمم، بل في بيان ما يتيمم به عند الضرورة.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11، 12 من أبواب التيمم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 3.

(3) التهذيب ج: 1 ص: 211.

(4) الاستبصار ج: 1 ص: 171.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 2.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 166

(167)

وأن يكون دفعة واحدة (1) على الأحوط وجوباً، وأن يكون بباطنهما (2)

(1) وفي الحدائق أنه ظاهر الأخبار وكلام الأصحاب. وفي جامع المقاصد:" لأن المفهوم من: أهوى بيديه، وتضرب بكفيك، كونهما دفعة "وما ذكره غير بعيد، إذ الباء لما كانت للآلة فالمنصرف من أمثال التعبير المذكور كونها لبيان آلة الضرب الواحد، ووحدة الضرب بالكفين لا تكون إلا بالدفعة. ولا أقل من الإجمال فيلزم الاحتياط، كما ذكرناه في نظائر المقام من موارد الشك في المحصل.

ودعوى: أنه مع الإجمال يتعين الرجوع إلى إطلاق الآية المقتضى للاجتزاء بالمسح من دون اعتبار الضرب، ويقتصر في تقييده على المتيقن وهو أصل الضرب بالكفين، من دون اعتبار الدفعة.

مدفوعة بأن الآية الشريفة وإن كانت ظاهرة بدواً في شرح التيمم بتمامه، إلا أن الجمع عرفاً بينها وبين النصوص المتعرضة للضرب ليس بتقييدها بالنصوص المذكورة، بل بحملها على بيان جزء التيمم وهو المسح وحمل النصوص على بيان الجزء الآخر، وهو الضرب، فمع إجمالها من حيثيته لا مجال للرجوع إلى إطلاق الآية، لعدم شرحها للتيمم من حيثيته. فلاحظ.

(2) كما في المقنعة وجامع المقاصد وعن المرتضى وأبي يعلى والعجلي والشهيد وغيرهم وفي الذكرى:" لأنه المعهود من الوضع والمعلوم من عمل صاحب الشرع ".وقال سيدنا المصنف (قدس سره):" بل عن بعض المحققين: أنه وفاقي، وعليه عمل المسلمين في الأعصار والأمصار من دون شك".

والعمدة فيه: أن التيمم من سنخ الأعمال، فالظاهر إضافته إلى اليد كون المراد بها الباطن، لأنه المتعارف في العمل دون الظاهر. ومن هنا كان هو المنصرف من إطلاق الأصحاب، ومن النصوص البيانية وغيرها. ولاسيما قوله (عليه السلام) في صحيح الكاهلي الوارد في بيان التيمم:" ثم مسح كفيه إحداهما على ظهر الأخرى"(1). فإن التنبيه على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 167

(168)

ثم يمسح بهما جميعاً (1)

ظهر الكف في الممسوح وإطلاق الماسح ظاهر في إرادة الباطن منه.

بل لما كان الضرب والمسح بالظاهر خارجاً عن المتعارف مبنياً على نحو من العناية فعدم تنبيه الرواة عليه في النصوص البيانية موجب لظهور إطلاقهم اليد في إرادة الباطن، وحيث كانت هذه النصوص واردة لبيان التيمم فظاهرها وجوب الكيفية المذكورة وحينئذٍ تنهض بتقييد إطلاق الضرب لو تم. كما ينهض بإثبات المدعى صحيح المفضل بن عمر الآتي في فصل شروط التيمم عند الكلام في تحديد مبدأ النية. ولو فرض الشك كفى الأصل، بناء على ما سبق في اعتبار الدفعة.

(1) كما هو ظاهر كثير من عبارات الأصحاب، وفي التذكرة أنه الأظهر من عباراتهم، وفي الجواهر: "هو المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً، بل لعله مجمع عليه".

ويقتضيه جملة من النصوص البيانية وغيرها، ففي صحيح ليث عن أبي عبد الله (عليه السلام) في التيمم: "قال: تضرب بكفيك على الأرض مرتين، ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك"(1). وبهما يخرج عن إطلاق المسح في الآيتين الشريفتين.

بل قد يدعى أن المنصرف من إطلاق المسح في الآيتين هو مسح الوجه واليدين بالصعيد نفسه، نظير الغسل بالماء، فدلالة النصوص على وجوب مسحهما باليدين بعد حملهما لأثره الخارجي أو المعنوي تكشف عن أن الآيتين الشريفتين واردتان لبيان أصل وجوب المسح من دون نظر لكيفيته، ليكون لهما إطلاق من هذه الجهة وتكون النصوص من سنخ المقيد لهما يرجع إليه عند الشك، بل يكون المرجع معه الأصل الذي تكرر غير مرة أنه يقتضي الاحتياط. فتأمل جيداً.

وكيف كان فقد احتمل في التذكرة ومحكي نهاية الأحكام الاجتزاء بالمسح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 168

تمام جبهته (1)

بواحدة، بل عن الأردبيلي في مجمع البرهان استظهاره، وظاهر المدارك التوقف. وكأنه لإفراد اليد في بعض النصوص المتقدمة عند الكلام في وجوب الضرب باليدين معاً. لكن سبق أنها محمولة على إرادة الجنس، فلا تنهض برفع اليد عن النصوص السابقة.

هذا وعن ابن الجنيد لزوم المسح باليمنى مستدلاً - كما في المختلف - بأن الغسل في الوضوء باليمنى، فكذا يكون المسح بها في التيمم. وهو كما ترى قياس لا ينهض بنفسه دليلاً، فضلاً على أن يخرج به عما سبق. على أن المقيس عليه ممنوع كما تقدم.

نعم تقدم في موثق زرارة على رواية التهذيب:" فضرب بيده اليمنى الأرض ثم رفعها فنفضها ثم مسح بها جبينه وكفيه مرة واحدة ".لكن تقدم عدم التعويل على ذلك. على أن مقتضى الجمع بينه وبين بقية النصوص التخيير لا تعين اليمنى، كما هو ظاهر ما تقدم عن ابن الجنيد من الاستدلال. نعم نسب له بعضهم الاكتفاء بالمسح بها.

(1) إجماعاً محصلاً ومنقولاً مستفيضاً بل متواتراً. كذا في الجواهر. وفي المستند أنه محل وفاق بين المسلمين، بل هو ضروري الدين. وفي كشف اللثام:" وادعى الحسن تواتر الأخبار بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حين علم عماراً مسح بهما جبهته وكفيه ".وفي جامع المقاصد:" ومسح الجبهة من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى - والذي يلي آخر الجبهة - متفق على وجوبه بين الأصحاب. والأخبار الكثيرة دالة عليه مثل قول أبي جعفر (عليه السلام) في موثق زرارة: ثم مسح جبهته وكفيه مرة واحدة".

لكن الجبهة لم ترد إلا في الموثق المذكور(1) على رواية التهذيب والاستبصار بسنده عن الحسين بن سعيد. مع أنه روى فيهما بسنده عن الكليني ما يقارب الحديث

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 169

المذكور، وفيه:" جبينه "،كما أن الموجود في الكافي:" جبينيه ".ومن القريب جداً كونهما حديثاً واحداً - كما ادعاه غير واحد - لتقارب لسانهما، ولاشتراكهما في الإمام المروي عنه (عليه السلام)، وفي ثلاثة من رجال السند البزنطي وابن بكير وزرارة.

وأما بقية النصوص فكثير منها قد تضمن المسح على الوجه، وأما الباقي فقد تضمن الجبين أو الجبينين على اختلاف نسخ الأحاديث، حيث لم أعثر على حديث تتفق نسخه أو رواياته في ذلك، فقد تقدم اختلاف موثق زرارة برواية الكليني بين التهذيبين والكافي، كما أن صحيح عمرو بن أبي المقدام روي في الوسائل عن الشيخ هكذا:" ثم مسح على جبينيه..."(1) ، والموجود في الطبعة الحديثة من التهذيبين هكذا: "ثم مسح على جبينه" وصحيح زرارة رواه في الوسائل عن الفقيه بالوجهين(2) والموجود في الطبعة الحديثة من الفقيه: "جبينيه" ،وصحيحه الآخر رواه في الوسائل عن مستطرفات السرائر هكذا: "ثم مسح بجبينه" (3) والموجود في الطبعة الحجرية من السرائر: "بجبينيه".

وكأن الأصحاب فهموا من الجميع مسح الجبهة، لأن الجبين وإن أطلق على جانب الجبهة فالجبينان جانباها، إلا أنهما قد يطلقان أيضاً عليها أو على ما يعمها.

ففي لسان العرب: "والجبين فوق الصدغ. وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها. ابن سيدة: والجبينان حرفان مكتنفا الجبهة من جانبيها فيما بين الحاجبين مصعداً إلى قصاص الشعر. وقيل: هما ما بين القصاص إلى الحجاجين(4). وقيل: حروف الجبهة ما بين الصدغين(5) متصلاً عدا الناصية. كل ذلك جبين واحد. قال: وبعض يقول: هما جبينان. قال الأزهري وعلى هذا كلام العرب. والجبهتان الجبينان".

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 6، 8، 9.

(4) الحجاجين: منبت الحاجبين.

(5) الصدغ ما انحدر من الرأس إلى مركب اللحيين. وقيل: هو ما بين العين والأذن. وقيل: الصدغان ما بين لحاظي العينين إلى أصل الأذن... ويسمى أيضاً الشعر المتدلي عليه صدغاً. لسان العرب.

ص: 170

وجبينيه (1)

وفي القاموس: "والجبينان حرفان مكتنفا الجبهة من جانبيها فيما بين الحاجبين مصعداً إلى قصاص الشعر. أو حروف الجبهة ما بين الصدغين متصلاً بحذاء الناصية كله جبين".

وعليه ما ورد في موثق عمار: "قال علي (عليه السلام): لا تجزي صلاة لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين"(1) ، وفي صحيح عبد الله بن المغيرة:" لا صلاة لمن لم يصب الأنف ما يصيب جنبيه"(2). وما تضمن من النصوص رشح الجبين عند الموت(3) ، حيث لا يراد منه إلا رشح الجبهة. وقول زهير.

وانصره بمطرد الكعوب *** يقيني بالجبين ومنكبيه

ولو غض النظر عن ذلك فوجوب مسح الجبين أو الجبينين يستلزم مسح الجبهة، لأنه لا يراد به مسحه وحده، أو مسح الجبينين وحدهما، لأنه المنصرف من مسح الوجه الذي تضمنته الآيتان وأكثر النصوص، لكونه في جانبه وخروج أكثره عنه، بل مقتضى الجمع بين الجميع إرادة مسح الجبينين متصلاً بالجبهة، ويكون إغفال الراوي لها للمفروغية عنها. وكأن ما في الفقيه والهداية من الاقتصار على ذكر الجبينين والحاجبين مبني على أحد الوجهين المذكورين ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. فلاحظ.

(1) كما في جامع المقاصد وكشف اللثام والمدارك وعن مجمع البرهان وغيرها، بل عنه أنه المشهور. وفي كشف اللثام: "ويمكن أن يدخل في مقصود الأكثر" .وكأنه لتعبير جماعة بمسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف كما في المقنعة وجمل العلم والعمل والمبسوط والنهاية وإشارة السبق والغنية والمراسم والوسيلة والسرائر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 4 من أبواب السجود حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 4 من أبواب السجود حديث: 7.

(3) الكافي ج: 3 ص: 130، 134، 135.

ص: 171

وعن ابن سعيد وغيره، بل في أمالي الصدوق أنه مضى عليه مشايخنا (قدس سرهم)(1). بل ربما يدعى أنه مراد من اقتصر على ذكر الجبهة - كالفاضلين والشهيدين وغيرهما، بل نسب لأكثر المتأخرين - كما قربه في الجواهر، لقرائن يأتي التعرض لها.

وقد استدل عليه بالنصوص المتضمنة للجبينين، بل للجبين أيضاً بعد القطع بعدم إرادة مسح جبين واحد. فإن المراد من هذه النصوص إما مسح جانبي الجبهة، ويكون مسح الجبهة مستفاداً بالتبع، كما سبق، أو من الإجماع. أو ما يعم مسح الجبهة، لأن المراد بالجبين أو الجبينين ما يعمها وجانبيها.

لكن استفادة ذلك ممن أطلق مسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف لا يخلو عن إشكال، لأن قصاص الشعر عرفاً منبته من جانب الجبهة، لا من تمام الوجه. وهو الأظهر في اللغة قال في لسان العرب: "وقصاص الشعر... نهاية منبته ومنقطعه على الرأس في وسطه. وقيل قصاص الشعر حدّ القفا. وقيل: هو حيث تنتهي نبتته من مقدمه ومؤخره. وقيل: قصاص الشعر نهاية منبته من مقدم الرأس ويقال: هو ما استدار به كله من خلف وأمام وما حواليه" .وفي القاموس: "وقصاص الشعر حيث تنتهي نبتته من مقدمه ومؤخره" .ونحوه في مجمع البحرين. ويناسبه تسمية الناصية بالقصة.

كما يناسب ذلك تحديدهم الأسفل بطرف الأنف، لا ما يستدير إلى الصدغين حيث يظهر من ذلك اختصاص المحدود بالجبهة. وهو المناسب أيضاً لقوله (عليه السلام) في موثق عمار: "ما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف مسجد"(2).

وأشكل من ذلك استفادته ممن خص المسح بالجبهة. فإن القرائن التي ذكره

********

(1) قال":"فإذا أراد الرجل أن يتيمم ضرب بيديه على الأرض مرة واحدة، ثم ينفضهما، فيمسح بهما وجهه، ثم يضرب بيده اليسرى الأرض، فيمسح بها يده اليمنى من المرفق إلى أطراف الأصابع، ثم يضرب بيمينه الأرض فيمسح بها يساره من المرفق إلى أطراف الأصابع. وقد روي أن يمسح الرجل جبينه وحاجبيه ويمسح على ظهر كفيه. وعليه مضى مشايخنا" ".

(2) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 9 من أبواب السجود حديث: 4.

ص: 172

في الجواهر ترجع إلى أنه يظهر عدم الخلاف بينهم وبين من اقتصر على الجبين أو الجبينين، واستدلالهم على الجبهة بنصوص الجبين، وعدم توجههم لعلاج التعارض بين نصوص الجبهة ونصوص الجبين، فإنه استظهر من ذلك كله أن مرادهم بالجبهة ما يعمّ الجبينين.

وهو كما ترى، إذ كما يمكن ابتناء كلامهم على ذلك يمكن ابتناؤه على حمل الجبين والجبينين على الجبهة، كما يناسبه ما تقدم من لسان العرب وغيره. بل لا يعهد استعمال الجبهة فيما يعم الجبينين لا عرفاً ولا لغة.

ومن هنا يشكل إثبات القول بوجوب مسح الجبينين مع الجبهة قبل جامع المقاصد. إذ لم يصرح بالجبينين إلا الصدوق في الفقيه والهداية وعن الكاتب وظاهر العماني. وحمل كلامهم على خصوص الجبهة غير عزيز، لما تقدم.

ولاسيما مع ما تقدم من الصدوق من تخصيص المنتهى بالحاجبين دون ما يحاذيهما عرضاً في جانبي الوجه، ومع قوله في المقنع:" امسح بهما بين عينيك أسفل حاجبيك ".بل ظاهر المحكي عن الكاتب، حيث قال:" ومهما وصلت إليه من الوجه أجزأ من غير أن يدع جبينه وموضع سجوده "،إذ يقرب جداً كون عطف موضع السجود تفسيرياً، ولاسيما وفي أحدى نسختي المختلف في نقل كلامه جبهته بدل جبينه، كما أن ذلك هو ظاهر العماني أيضاً بقرينة ما تقدم عنه من تواتر الأخبار في تيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين علم عماراً بمسح جبهته.

ومن ذلك يتضح أن الأصحاب (رضي الله عنهم) فهموا من نصوص الجبين والجبينين الجبهة، وهو مبني على ما تقدم. بل هو الظاهر من النصوص المذكورة بعد العلم بعدم إرادة مسح جانبي الجبهة أو أحدهما فقط، لأن استعمالهما في مجموع الجبهة وجانبيها بعيد جداً، ولا شاهد له من اللغة.

وأما ما تقدم من لسان العرب، فهو ظاهر في إرادة استعماله في خصوص الجبهة. إلا أن يراد بالصدغين الشعر المتدلي إلى العذار، حيث يكون العموم مستفاد

ص: 173

من قوله المتقدم:" وقيل حروف الجبهة ما بين الصدغين متصلاً عدا الناصية ".لكنه بعيد عن مساق كلامه المتقدم جداً، حيث يظهر من صدره أن الجبين ما بين العين والأذن. وحينئذ فما بين الجبينين ليس إلا الجبهة. ولاسيما وأن ظاهر ما تقدم منه في تفسير الصدغين أن إطلاقهما على الشعر بتبع إطلاقهما على ما تدلى عليه بل حيث ذكر ذلك في حروف الجبهة فظاهره إرادة أطرافها البارزة منها، وخصوصاً مع ما سبق من عدم معهودية إطلاق الجبهة على ما يعم الجانبين، حيث يتعين في كلامه المذكور إرادة أن الجبين مطابق للجبهة بمعناها المعهود، لا الأعم منه ومن الجانبين.

وأما حمل النصوص على إرادة الجانبين فقط، مع إغفال الراوي للجبهة للمفروغية عنها. فهو وإن تقدم منا احتمالاً، إلا أنه بعيد جداً عن ظاهر الكلام.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من حمل النصوص المذكورة على بيان الحدّ العرضي دون الطولي، ويكون بيانه ببيان طرفيه، مع المفروغية عن المتوسط بينهما، وهو الجبهة.

إذ فيه: أن قوة ظهور النصوص في إرادة تمام الممسوح غير قابلة للإنكار، خصوصاً مع كونها بيانية حاكية لما وقع من تيممهم (عليهم السلام) في مقام التعليم، ولا ملزم بتكلف ذلك بعد إمكان حمل الجبين على خصوص الجبهة الذي هو أحد معنييه، الذي شاع استعماله فيه، وقد فهمه الأصحاب منه، كما تقدم.

على أن حمل النصوص على الجبين بالمعنى المقابل للجبهة مستلزم لكون المسموح عرضاً في التيمم أوسع من المغسول في الوضوء، لوضوح أن ما بين الإبهام والوسطى الذي يجب غسله في الوضوء لا يستوعب الجبينين بالمعنى الأول المتقدم من لسان العرب، بل يسع بعضهما لا غير.

وهو مما تأباه الآيتان ونصوص التيمم المتضمنة للوجه جداً، خصوص

ص: 174

قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة:" فلما أن وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل مسحاً، لأنه قال: بوجوهكم"(1). كما تأباه كلمات جماعة من الأصحاب، حيث ذكروا في ردّ القول بوجوب مسح تمام الوجه أن التيمم مبني على التخفيف. نعم بناء على ما يأتي من سيدنا المصنف (قدس سره) في المسألة الرابعة والعشرين في تحديد الجبين لا مجال للإشكال المذكور.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد ملاحظة جميع ما تقدم في الجبين في حمل النصوص على خصوص الجبهة. ولأجله يقرب كون منشأ اختلاف النصوص في تثنية الجبين وإفراده وإبداله بالجبهة هو النقل بالمعنى أيضاً، لا اختلاف الروايات أو خطأ النسخ فقط.

وبما ذكرنا يظهر أنه لا موجب لما تكلفه في الحدائق في توجيه ما عليه الأصحاب من الاقتصار على الجبهة من حمل نصوص الجبين عليها مجازاً للمجاورة. فإن المجاز المذكور بعيد جداً مع عدم القرينة المتصلة، بل يظهر مما تقدم أن الاستعمال المذكور ليس مجازياً. فلاحظ.

هذا والمنقول عن الصدوق الأول وجوب مسح تمام الوجه. قال في الذكرى: "وفي كلام الجعفي إشعار به" وهو الذي ذكره الصدوق الثاني في الأمالي فيما تقدم من كلامه، ونسبه في المقنع للرواية بعد أن اختار ما تقدم من مسح ما بين العينين إلى الحاجبين.

وقد يستدل له بالنصوص الكثيرة المتضمنة مسح الوجه. ولاسيما صحيح ليث عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في التيمم قال: تضرب بكفيك على الأرض مرتين ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك"(2). وموثق سماعة:" سألته عن التيمم فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين(3). فإن مسح الذراعين يناسب كون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 175

الممسوح في التيمم تمام المغسول في الوضوء.

كما هو صريح صحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التيمم فضرب بكفيه الأرض ثم مسح بها وجهه، ثم ضرب بشماله الأرض، فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع، واحدة على ظهرها، وواحدة على بطنها، ثم ضرب بيمينه الأرض، ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه. ثم قال: هذا التيمم على ما كان فيه الغسل وفي الوضوء الوجه واليدين إلى المرفقين وألقى [وأبقى] ما كان عليه مسح الرأس والقدمين فلا يؤمم بالصعيد"(1).

وكأن الصدوقين (قدس سرهما) اعتمدا على هذه النصوص، حيث أفتيا بمضمونها في الوجه واليدين أيضاً، كما نسبه في السرائر إلى بعض أصحابنا.

لكن لا مجال للتعويل عليها في مقابل النصوص الكثيرة المصرحة بمسح الجبهة أو الجبين، والأكثر منها التي اقتصر فيها على مسح الكفين. ولاسيما مع ترجحها بموافقتها لظاهر الكتاب لمكان الباء، كما أشير إليه في صحيح زرارة عن أبي جعفر(2) (عليه السلام)، وبمخالفة العامة، على ما حكاه عنهم غير واحد.

مضافاً إلى أن اشتهار النصوص المذكورة رواية وعملاً، وقلة النصوص الأول، بل ندرة صحيح محمد بن مسلم، كما في المعتبر وإلى هجر النصوص عملاً، حيث لم يعرف العمل بهما إلا ممن سبق. ولاسيما مع اقتصار الصدوق الثاني في ذلك على خصوص الأمالي و على اضطراب في كلامه، كما تقدم. ومن هنا يتعين طرح النصوص الأول، أو حملها على التقية، كما ذكره الشيخ وغيره.

هذا وربما تجمع بين الطائفتين بالبناء على التخيير - كما في المعتبر واستحسنه في المدارك - أو على الاستحباب، كما استحسنه في الذكرى واحتمله في الروض والمدارك أيضاً. وكذا في المنتهى ومحكي كشف الرموز، لكن في خصوص اليدين. إلا أنه بعيد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 176

(177)

من قصاص الشعر إلى الحاجبين والى طرف الأنف الأعلى (1) المتصل بالجبهة، والأحوط مسح الحاجبين أيضاً (2)،

جداً عن مساق النصوص بمجموعها، كما قد يظهر بالتأمل.

وأما النصوص التي أطلق فيها مسح الوجه مع الكفين فيسهل حملها بقرينة نصوص الجبين ونحوها على إرادة مسحه في الجملة بالمقدار المعهود منه، وهو خصوص الجبهة.

(1) كما قيده به غير واحد. والمراد به ما يلي الجبهة. ويقتضيه ما تقدم. وما عن الجعفرية وحاشية الإرشاد من أنه لو نزل حتى بلغ المارن كان أولى. غير ظاهر الوجه. وأشكل منه ما عن بعضهم من لزوم مسحه.

(2) فقد تقدم من الصدوق في الفقيه والهداية الفتوى بذلك. قال في الذكرى بعد أن حكى ذلك عنه:" ولا بأس به ".واختاره في جامع المقاصد، وتقدم من أمالي الصدوق أنه الذي مضى عليه المشايخ. بل مقتضى قول العلامة في المنتهى:" لا يجب مسح ما تحت شعر الحاجبين بل ظاهره، كالماء "المفروغية عنه. وهو المناسب لتحديدهم الممسوح بطرف الأنف لوضوح أنه أسفل من الحاجبين.

بل قد يستظهر ممن عبر بالجبهة، بناء على أنها مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية، كما عن الخليل وذكره غير واحد قولاً، بل اقتصر عليه بعضهم. وأما تعريفها بأنها موضع السجود فمن الظاهر عدم كونه حقيقياً.

هذا ويظهر مما تقدم أن اللازم مسح عظم الجبهة بتمامه منحدراً للأسفل، ومسح الحاجب إنما يجب بالمقدار الذي يستلزم ذلك، دون ما قد ينزل عن ذلك كما قد يتفق لبعض من يغلظ حاجباه.

لكن قد يظهر من الروض التوقف، لاقتصاره على نقله عن بعض من سبق. بل في الروضة أن ما يجب مسحه منهما ما يتوقف عليه من باب المقدمة، وإلا فل

ص: 177

(178)

ثم مسح تمام ظاهر (1)

دليل، وعن الكفاية أن المشهور عدم وجوب مسحهما. ومقتضاه خروجهما عن الجبهة بتمامهما. وهو في غاية المنع.

(1) كما هو ظاهر الأصحاب أو صريحهم، المدعى عليه إجماعهم. للنصوص الكثيرة المتضمنة مسح الكفين(1).

لكن في السرائر: "وقد ذهب قوم من أصحابنا إلى المسح على اليدين من أصول الأصابع إلى رؤوس الأصابع" .وكأنه لصحيح حماد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه سئل عن التيمم فتلا هذه الآية:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "،وقال:" فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق "قال: فامسح على كفيك من حيث موضع القطع. وقال: وما كان ربك نسياً"(2). لأن موضع القطع هو أصول الأصابع. وربما ينزل عليه قوله في صحيح أبي أيوب:" ثم مسح فوق الكف قليلاً "(3) وفي صحيح داود بن النعمان:" فمسح وجهه ويديه وفوق الكف قليلاً"(4). بحمل قوله (عليه السلام): "قليلاً" على بيان الممسوح من الكف، لا مما زاد عليها.

لكن الأول ضعيف في نفسه بالإرسال غير ظاهر الانجبار بعمل الأصحاب، إذ لو تمت النسبة فمن القريب ندرة القائل بذلك، بعد ما سبق من الأصحاب. والصحيحان إن لم يكونا ظاهرين في مسح ما زاد على الكف بدواً، ولاسيما الثاني منهما، فلا أقل من لزوم حملهما على ذلك بقرينة النصوص الكثيرة الظاهرة في مسح تمام الكفين، والتي يصعب جداً تنزيلها على بعضهما، ولاسيما خصوص الأصابع. على أنه لا مجال للخروج عما عليه جمهور الأصحاب، تبعاً لظاهر النصوص الكثيرة،

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 178

الكف اليمنى (1) من الزند إلى أطراف الأصابع بباطن الكف اليسرى (2)، ثم مسح تمام ظاهر الكف اليسرى كذلك بباطن الكف اليمنى.

في مثل هذه المسألة التي يكثر الابتلاء بها ويمتنع عادة خفاء الحكم فيها.

(1) الاقتصار على الكفين هو المعروف من مذهب الأصحاب المدعى عليه الإجماع في كلام غير واحد. ويشهد به النصوص الكثيرة. وعليها يحمل إطلاق المسح على اليدين في خبر زرارة(1). خلافاً للصدوق الأول وولده في الأمالي، فقد تقدم عنهما عند الكلام في مسح الوجه الحكم باستيعاب اليدين ظاهرهما وباطنهما للمرفقين. وتقدم الكلام في دليليهما، وضعفه.

كما أنهم صرحوا بأن المسح لظاهر الكفين دون باطنهما، بل هو معقد الإجماعات المشار إليها. ويقتضيه قوله (عليه السلام) في صحيح الكاهلي: "ثم مسح كفيه إحداهما على ظهر الأخرى"(2). كما قد يظهر عدم وجوب مسحهما معاً من قوله (عليه السلام) في موثق زرارة:" ثم مسح جبينيه وكفيه مرة واحدة"(3) ، وفي صحيح عمرو بن أبي المقدام: "ومسح على جبينيه وكفيه مرة واحدة"(4).

هذا وفي المقنع:" ثم تدلك أحدى يديك بالأخرى فوق الكف قليلاً ".وفي الفقيه في بيان تيمم الجنب:" ومسح على ظهر يديه فوق الكف قليلاً ".وكأن الزيادة على الكف مستحبة، أو مقدمة علمية، لأنه (قدس سره) في الفقيه لم يسبق منه ذكر الرواية المتضمنة لذلك، بل الرواية المتضمنة لمسح الكف لا غير.

وكيف كان فهو مقتضى الجمع بين النصوص المتضمنة المسح على الكف أو على ظهرها وما تقدم في صحيحي أبي أيوب وداود بن النعمان. نعم لم يتضح وجه ما في الفقيه من اقتصاره على ذلك في تيمم الجنب، دون التيمم بدل الوضوء.

(2) يستفاد كون المسح بباطن الكف مما تقدم من لزوم الضرب به.

********

(1و2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 7، 1، 3، 6.

ص: 179

(180)

(مسألة 23): لا يجب المسح بتمام كل من الكفين، بل يكفي المسح ببعض كل منهما (1) على نحو يستوعب الجبهة والجبينين.

(مسألة 24): المراد من الجبهة الموضع المستوي (2)، والمراد من الجبين ما بينه وبين طرف الحاجب (3).

(مسألة 25): الأحوط وجوباً تعدد الضرب، فيضرب ضربه للوجه وضربة للكفين (4).

(1) كما في جامع لمقاصد والحدائق والجواهر ومحكي الروض وغيرها. لإطلاق النصوص، وخصوص صحيح زرارة:" ثم مسح جبينه [جبينيه] بأصابعه"(1).

(2) كما يظهر مما تقدم من لسان العرب في تعريف الجبين ومما عن الخليل من أنها مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية، وهو المفهوم منها عرفاً.

(3) لا يخفى أن طرف الحاجب حدّ الجبهة عرفاً ولا يخرج عنها بمقدار معتد به بحيث يعد شيئاً في قبالها، مع أن الذي يظهر من اللغويين أنه بالمعنى المقابل للجبهة عبارة عن صفحة الوجه المسامته للجبهة. ففي مفردات الراغب "فالجبينان جانبا الجبهة" ،وفي مجمع البيان: "والجبين ما عن يمين الجبهة وشمالها، وللوجه جبينان الجبهة بينهما" ،ونحوه ما تقدم من لسان العرب وكأنه هو الذي فهمه في جامع المقاصد، حيث قال: "وهما المحيطان بالجبهة يتصلان بالصدغين".

ومن ثم سبق منا أن البناء على وجوب غسل الجبينين يستلزم كون الممسوح في التيمم أوسع عرضاً من المغسول في الوضوء، أما ما ذكره (قدس سره) هنا فيكون أقل كثيراً. فلاحظ.

(4) ففي الذكرى أن ظاهر المفيد في كتاب الأركان لزوم الضربتين مطلقاً. وربم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 8.

ص: 180

حكي ذلك عن رسالة علي بن بابويه. لكن في الذكرى أنه اختار ثلاث ضربات واحدة للوجه، وأخرى لليد اليمنى تمسح من المرفق، وثالثة لليسرى تمسح للمرفق أيضاً. وهو المطابق لما تقدم من ولده في المجالس على اضطراب في كلامه المتقدم ولما ذكره في المقنع رواية. وتقدم عند الكلام في مسح الوجه أن الرواية المذكورة هي صحيح محمد بن مسلم الذي تقدم عدم التعويل عليه، بل يلزم حمله على التقية أو الاستحباب.

فالكلام إنما هو فيما تقدم عن المفيد. وقد يستدل له بصحيح إسماعيل بن همام عن الرضا (عليه السلام): "قال: التيمم ضربة للوجه، وضربة للكفين"(1) ، وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" سألته عن التيمم فقال: مرتين مرتين، للوجه واليدين"(2) ، وصحيح ليث المرادي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في التيمم قال: تضرب بكفيك على الأرض مرتين، ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك"(3).

لكن صحيح ليث - مع اشتماله على مسح الذراعين الذي تقدم الكلام فيه - كالصريح في تقدم الضربتين معاً على مسح الوجه، وليس هو المدعى في المقام، بل تخلل مسح الوجه بينهما. ومجرد عدم القائل بذلك لا يقتضي تنزيله على المدعى، بنحو ينهض دليلاً له، بل يتعين البناء على إجماله، أو حمله على الاستحباب، كما لم يستبعده بعض مشايخنا (قدس سره).

وأما صحيح محمد بن مسلم فهو لا يخلو عن إجمال، إذ كما يمكن حمله على إرادة الضربتين من المرتين، وتفريقهما على الوجه واليدين، مع كون التكرار للتأكيد، فيطابق القول المذكور، كذلك يمكن حملهما على اللف والنشر، بإرادة أربع ضربات: اثنتان للوجه، واثنتان لليدين، كما عن بعض العامة(4). بل يمكن حمل المرتين على المسحتين، ويكون التأكيد لدفع توهم وجوب مسح الرأس والرجلين أيضاً.

ودعوى: أن التيمم ثلاث مسحات، لأن لكل يد مسحة ولا يمسحان دفعة.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 3، 1، 2.

(4) حكاه عن بعض العلماء في بداية المجتهد ج: 1 ص: 68 على ما نقل عنه.

ص: 181

مدفوعة بأن اتحاد اليدين سنخاً يصحح مثل ذلك، كما ورد في المرسل عن ابن عباس في الوضوء:" إنه قال غسلتان ومسحتان"(1).

نعم صحيح إسماعيل ظاهر في المدعى. وحمله على إرادة تقديم الضربتين على المسح، نظير ما تقدم في صحيح ليث - كما ذكره بعض مشايخنا - بعيد جداً لا يناسب تفريق الضربتين على الوجه واليدين.

هذا وقد أطلق الصدوق في المقنع والهداية والمرتضى في جمل العلم والعمل ومحكي شرح الرسالة والسيد في الغنية الاكتفاء بضربة واحدة للوجه واليدين، وإن أشار في الغنية لرواية التفصيل الآتية، وجعله مقتضى الاحتياط. كما أن القول المذكور هو ظاهر الكليني، حيث اقتصر على ذكر النصوص الآتية دليلاً له. وهو المحكي عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد والمفيد في الغرية، وظاهر القاضي وجماعة من متأخري المتأخرين.

ويقتضيه النصوص البيانية المتضمنة لتيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام تعليم عمار، والردع عما صنعه من التمعك في التراب عندما أجنب، ولتيمم الأئمة (عليهم السلام) ابتداء، أو بعد نقل ما صنعه عمار، وكذا النصوص المتضمنة لشرحهم (عليهم السلام) للتيمم قولاً(2) ، حيث لم تتضمن إلا ضربة واحدة قبل مسح الوجه واليدين، فإنها كالصريحة في وحدة الضرب.

وهناك قول بالتفصيل بين ما إذا كان التيمم بدلاً عن الوضوء فتكفي ضربة واحدة، وما إذا كان بدلاً عن الغسل فلابد من ضربتين. وبذلك صرح في الفقيه والمقنعة والمبسوط والنهاية والخلاف وإشارة السبق والمراسم والوسيلة والشرايع والقواعد والمنتهى وعن شرح الرسالة للمرتضى وغيرها. بل نسب للمشهور تارة، وللأكثر أخرى.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 9.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11، 13 من أبواب التيمم.

ص: 182

ويستدل عليه بأنه مقتضى الجمع بين نصوص المرة ونصوص المرتين. إما لأن المتيقن من الأولى ما كان بدلاً عن الوضوء، ومن الثانية ما كان بدلاً عن الغسل، فيتعين الجمع بذلك بين النصوص رفعاً للتنافي بينها. وأما لأنه مقتضى بعض النصوص، التي تصلح أن تكون شاهد جمع بين الطائفتين.

ويشكل الأول بأنه لا يخرج عن الجمع التبرعي الذي لا مجال للتعويل عليه في مقام الاستدلال. ولاسيما بملاحظة أن أكثر نصوص المرة البيانية واردة في تعقيب قصة عمار الواردة في الجنابة.

وأما الثاني فهو موقوف على النظر في النصوص المذكورة فمنها: صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قلت له: كيف التيمم؟ قال: هو ضرب واحد للوضوء والغسل من الجنابة تضرب بيدك مرتين، ثم تنفضهما نفضة للوجه ومرة لليدين"(1) ، بناء على أن الواو في قوله:" والغسل "ليست بعاطفة، بل استئنافية، وأن المراد أن التيمم للوضوء ضربة واحدة، وللغسل ضربتان. ولاسيما بناء على روايته في المعتبر وبعض نسخ الخلاف هكذا:" هو ضربة واحدة للوضوء وللغسل [والمغسل خ. ل] من الجنابة تضرب...".

لكنه كما ترى مخالف لظاهر الحديث جداً. كيف ولازمه التفكيك في الجواب بين التيممين، فلم يبين في كيفية التيمم عن الوضوء إلا وحدة الضرب، بينما بين في كيفية التيمم عن الغسل تمام كيفيته، كما هو مقتضى السؤال. كما أن لازمه أيضاً التفكيك بينها بالتعبير عن الضرب في الأول بالمصدر، وفي الثاني بالفعل... إلى غير ذلك مما يجعل الحمل المذكور مستهجناً.

ومن هنا كان ظاهر الواو العطف، بل هو كالمقطوع به، ويكون المراد بقوله (عليه السلام):" ضرب واحد "بيان وحدة كيفية التيمم في المقامين، فيكون من أدلة القول الأول. وما في المعتبر وبعض نسخ الخلاف لم يثبت. نعم هو مناسب لسوق الشيخ (قدس سره) في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 183

التهذيب الحديث المذكور دليلاً على التفصيل المدعى. إلا أن ذلك لا ينهض دليلاً على صحة النسخة المذكورة. ولاسيما بعد ملاحظة ابتناء استدلال الشيخ على مخالفة الظاهر في الحديث الآتي أيضاً.

ومنها: صحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التيمم، فضرب بكفيه الأرض، ثم مسح بهما وجهه، ثم ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع واحدة على ظهرها وواحدة على بطنها، ثم ضرب بيمينه الأرض ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه. ثم قال: هذا التيمم على ما كان فيه الغسل، وفي الوضوء الوجه واليدين إلى المرفقين وألقى [أبقى] ما كان عليه مسح الرأس والقدمين، فلا يؤمم بالصعيد"(1).

بناء على أن الغسل في قوله (عليه السلام): "هذا التيمم على ما كان فيه الغسل وفي الوضوء" بضم الغين، فتكون الواو عاطفة، والمقابلة بين الغسل والوضوء بلحاظ تعدد الضرب فيما كان بدل الغسل ووحدته فيما كان بدل الوضوء.

وهو كما ترى تكلف مستهجن، بل يشكل - مضافاً إلى ما سبق من تضمنه شرح التيمم على خلاف ما عليه فتوى الأصحاب ونصوصهم -.

تارة: بأن صدره الذي حمل على التيمم بدلاً عن الغسل قد تضمن ثلاث ضربات، لا ضربتين، كما هو المدعى.

وأخرى: بأنه لا إشعار فيه بأن وجه المقابلة بين ما كان بدل الغسل وما كان بدل الوضوء هو تعدد الضرب ووحدته.، إذ لم يتعرض للضرب عند ذكر الوضوء.

وثالثة: بركاكة التعبير عن المدعى بقوله: "على ما كان فيه الغسل" ،بل حقه أن يقال: "على من كان عليه الغسل" .وكذا عطف الوضوء على ذلك بمفرده، وعدم الربط بين قوله: "الوجه واليدين..." وما قبله، بل عدم تمامية تركيب جملة به... إلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 184

غير ذلك مما يقطع معه بزيادة الواو بين الوضوء والغسل.

بل في الجواهر: "ولعل بعض النسخ بدون الواو على ما قيل، بل فيما حضرني من نسخة الوافي ذلك" .نعم ذلك لا يناسب استدلال الشيخ بالرواية على التفصيل المذكور. ومن ثم كان الأظهر زيادتها، والتباس الأمر على الشيخ في إثباتها.

وعليه يكون الغَسل بفتح الغين، ويكون مضمون ذيل الحديث: أن الذي يتيمم ويمسح من الأعضاء هو موضع الغسل في الوضوء، دون موضع المسح فيه. وعليه يتجه جرّ الوجه اليدين، لكونهما بدلاً من الموصول في قوله: "هذا التيمم على ما كان..." .كما أن قوله: "الرأس والقدمين" بدل من قوله: "ما كان عليه مسح" .وهو الذي فهمناه منه فيما سبق عند التعرض لمختار علي بن بابويه في مسح الوجه.

ومنها: ما في المنتهى من أن الشيخ روى في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): "ان التيمم من الوضوء مرة واحدة، ومن الجنابة مرتان".

لكن صرح غير واحد بأن ذلك وهم منه (قدس سره) في فهم كلام الشيخ، وأن كتب الحديث خالية عن ذلك، وإنما أشار الشيخ لمضمون الصحيحين السابقين اللذين استظهر منهما التفصيل المدعى، ففي التهذيب بعد أن روى الصحيحين السابقين ونصوص التعدد، ونبّه إلى خلوّ نصوص التعدد من التفصيل، وأجاب عنه بأنه مقتضى الجمع بين النصوص، قال: "مع أنا قد أوردنا خبرين مفسرين لهذه الأخبار، أحدهما عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، والآخر عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وأن التيمم من الوضوء مرة واحدة ومن الجنابة مرتان" .وربما يكون العلامة (قدس سره) قد حاول في المنتهى نقل مضمون الصحيح حسب اجتهاده وما فهمه منه.

ومنها: ما أرسله في الغنية والمعتبر ومحكي جمل العلم والعمل وشرح الشرايع للصيمري من ورود روايات بالتفصيل وبتعدد الضرب فيما هو بدل عن غسل الجنابة.

ص: 185

لكن من القريب جداً كون المراد بها الصحيحين السابقين، بل هو كالمقطوع به بعد ملاحظة استدلال الشيخ وجماعة بهما، وتصريح المحقق في المعتبر بأن من تلك الروايات صحيح زرارة المتقدم.

نعم من الغريب جداً استدلالهم بالصحيحين مع ظهور ضعف دلالتهما. ولاسيما مع عدم اختصاص الفتوى بذلك من الشيخ وأتباعه، حيث قد يحتمل متابعة من بعده له في تكلف حمل الصحيحين على ذلك، لحسن ظنهم به، كما هو أهله، بل سبقه إلى الفتوى بذلك المفيد في المقنعة والصدوق في الفقيه والمرتضى في شرح الرسالة، كما تقدم، مع وضوح اختلاف الأذواق والمشارب بينهم.

اللهم إلا أن يكون التشبث بالصحيحين لتأييد ما ارتكز في أذهانهم - خصوصاً القدماء - من محاولة الجمع بين النصوص مهما أمكن، ولموافقة القول المذكور بدواً للاحتياط، ولمناسبته لكون الوضوء أخف من الغسل، حيث كان ذلك بمجموعه هو الدافع المهم لهم في البناء على القول المذكور ومحاولة الاستدلال له، لا وضوح دلالة الصحيحين المذكورين على التفصيل، كما يناسب ذلك ظهور اضطراب بعضهم في الفتوى، كالصدوق والمفيد والمرتضى.

ومن هنا لا يتضح لنا دليل التفصيل المذكور. ولاسيما مع أن عمدة نصوص المرة النصوص البيانية الواردة في تعقيب قصة عمار حينما أجنب، فحملها على التيمم بدلاً عن الوضوء خروج بها عن مورد صدورها.

مضافاً إلى إطلاق ما تقدم في صحيح زرارة من أن التيمم ضرب واحد، وإلى خصوص ما تضمن عدم الفرق بين التيمم بدلاً عن الوضوء والتيمم بدلاً عن الغسل، وهو موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سألته عن التيمم من الوضوء والجنابة ومن الحيض للنساء سواء؟ فقال: نعم"(1). ومن ذلك كله يظهر ضعف التفصيل المذكور، وتعذر الجمع به بين النصوص.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 6.

ص: 186

ومن ثم فقد يجمع بينها بأحد وجهين:

الأول: تقديم نصوص التعدد وتقييدها لإطلاق النصوص الأخر الشارحة للتيمم قولاً كخبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):" في التيمم قال: تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما وتمسح بها وجهك ويديك"(1) ، وحمل النصوص البيانية على بيان الكيفية من دون نظر إلى حيثية الضرب، أو على إهمال الراوي لبيان الضربة الأخرى وإن أتي بها في مقام البيان، كما قد يؤيده عدم التعرض فيها لبعض ما يعتبر في التيمم، نظير النصوص البيانية الواردة في الوضوء، كما قيل، ولازم ذلك البناء على وجوب الضربتين مطلقاً.

لكن قد يوهن بندرة القول بذلك، حيث لم ينقل إلا عن ظاهر المفيد في الأركان كما سبق. كما أن ذلك بعيد جداً عن مساق النصوص المذكورة، خصوصاً البيانية منها، لقوة ظهورها في بيان تمام الكيفية المعتبرة، فعدم التعرض فيها إلا لضربة واحدة مع كثرتها يجعلها كالنص في عدم وجوب ما زاد عليها خصوصاً ما تضمن منها حكاية الإمام (عليه السلام) لتيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام تعليم عمار، ردعاً له عن تيممه بالتمعك بالتراب، فإنه كالأساس في شرح التيمم وبيانه عملاً وذلك يناسب استيفاءه لتمام ما يعتبر فيه، فكيف يمكن مع ذلك أن يهمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الضربة الثانية، أو يهملها الإمام (عليه السلام) في مقام حكاية فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو كانت واجبة.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من حمل النصوص المذكورة على عدم بيان تمام كيفية التيمم، بل لردع عمار عما توهمه من لزوم مماسة الجسم للتراب ومباشرته له وبيان لزوم توسط اليدين في إيصال أثر التراب من دون نظر لمقدار الضرب جمعاً مع نصوص التعدد.

وجه الإشكال: أن فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وارد لتعليم عمار للتيمم لجهله المطلق به، وهو لا يناسب إهمال شيء معتبر فيه. وأما الاستشهاد لذلك بإهمال هذه النصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 7

ص: 187

لبعض ما يعتبر في التيمم. فهو غير ثابت.

غاية الأمر أنه لم يتعرض فيها للمسح من الأعلى. لكن لو تم وجوبه فمن القريب أن يكون إهماله اتكالاً على انصراف المسح إليه ولو لمعهودية ذلك في الوضوء. كما أنه قد تضمن بعض النصوص الضرب على البساط والمسح، ولا ريب في الاتكال فيه على وضوح اعتبار كون التيمم بالأرض من الآية والنصوص والإجماع، ولا كذلك الضرب في المقام، كما لعله ظاهر.

هذا وقد يدعى نصوصية بعض تلك النصوص في عدم وجوب إعادة الضرب. وهو صحيح زرارة الحاكي لتيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيه: "ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد ثم مسح جبينه [جبينيه] بأصابعه وكفيه إحداهما بالأخرى، ثم لم يعد ذلك"(1) ، حيث دلّ على عدم الإعادة بالضرب ثانياً.

لكنه - كما ترى - مخالف للظاهر جداً، بل ظاهره إما عدم إعادة مسح إحدى الكفين بالأخرى، لبيان عدم وجوب مسح باطن الكفين مع مسح ظاهرهما، أو عدم إعادة تمام ما فعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو التيمم بمجموعه، كما هو الأقرب، فيدل على اكتفاء الجنب عند تعذر الماء بتيمم واحد، لا عدم إعادة خصوص الضرب في ضمن التيمم الواحد، كما هو محل الكلام. فالعمدة ما سبق.

الثاني: حمل نصوص التعدد على الاستحباب، كما عن شرح الرسالة للمرتضى (قدس سره)، ولم يستبعده في الذكرى، واستحسنه في المعتبر وإن ذكر في صدر كلامه أن التفصيل أجود الأقوال الثلاثة المتقدمة. وهو وإن كان مقتضى الجمع العرفي في موارد اختلاف النصوص في الأقل والأكثر.

إلا أنه قد يوهن في خصوص المقام بعدم ظهور بناء قدماء الأصحاب عليه وعدم التفاتهم إليه. وبعدم الإشارة إليه في النصوص البيانية على كثرتها. وبأن عمدة نصوص التعدد صحيح إسماعيل بن همام المتقدم في أدلة تعدد الضرب وصحيح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 8.

ص: 188

(189)

وأحوط منه استحباباً أن يمسح (1) الكفين مع الوجه في الضربة الأولى من دون فرق بين ما هو بدل الوضوء وما هو بدل الغسل.

(مسألة 26): إذا تعذر الضرب والمسح بالباطن انتقل إلى الظاهر (2)،

زرارة المتقدم في أدلة للتفصيل، وقوة ظهورهما في الوجوب غير خفية. فتأمل.

ومن هنا كان الأقرب هو العمل بنصوص وحدة الضرب لأنها أشهر رواية ولتضمنها شرح التيمم عملاً في أصل تشريعه، أما نصوص التعدد فهي منحصرة بصحيح إسماعيل وصحيح زرارة على اضطراب في الثاني، وهما إلى الشذوذ وأقرب.

ولاسيما مع موافقتها للمشهور بين العامة المنسوب لأعيانهم من الصدر الأول، كعمر والحسن البصري والشعبي ومالك والليث بن سعد والثوري وأبي حنيفة والشافعي، ولم ينقل المرة إلا عن قليل منهم، وهو كاف في ترجيح نصوص المرة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) المناسب بناء على ما ذكره (قدس سره) وجوب الاحتياط بذلك، لظهور نصوص المرة في اعتبار كون المسح بأثر الضربة الأولى، وهو غير محرز مع الضربة الثانية، لاحتمال صيرورته بأثرها عرفاً لا بأثر الأولى.

(2) كما في جامع المقاصد وعن الذكرى وإرشاد الجعفرية والمقاصد العلية وغيرها. وقد استدل عليه سيدنا المصنف (قدس سره) بالإطلاق بعد قصور دليل اعتبار الباطن عن صورة التعذر.

لكن المراد بالإطلاق إن كان هو إطلاق الآيتين الكريمتين فالظاهر من الآية الثانية، بقرينة قوله تعالى:" فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه"(1) ، ومن الأولى(2) بمقتضى المناسبات الارتكازية، مباشرة الأعضاء الممسوحة لما يتيمم به، كمباشرة

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

(2) سورة النساء الآية: 43.

ص: 189

الأعضاء المغسولة في الوضوء للماء، وليس اليد إلا واسطة يمكن الاستغناء عنها، ولذا جرى عليه عمار في الجملة بطبعه.

وحيث دلت النصوص والإجماع على إرادة المسح بأثر ما يتيمم به، الحاصل في اليدين بضربهما على الصعيد، وعدم الاجتزاء بمباشرة الصعيد للأعضاء الممسوحة، كشف عن عدم إرادة ظاهر الآيتين وسوقهما لبيان الممسوح لا غير من دون نظر لكيفية استعمال الصعيد، فلا مجال للتمسك بإطلاقهما لإثبات الاكتفاء بمباشرة الصعيد للأعضاء الممسوحة عند انحصار الأمر به، فضلاً عن إثبات الاكتفاء بالضرب والمسح بظاهر اليدين عند تعذر تحقيقهما بباطنهما.

وإن كان هو إطلاق نصوص الأمر بالضرب، فمن الظاهر أن أكثر النصوص لا إطلاق لها، لورودها في حكاية فعل المعصوم (عليه السلام) وينحصر الإطلاق في خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "في التيمم قال: تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك ويديك"(1). وهو منصرف بالقرائن المتقدمة للضرب بالباطن ودعوى: أن الانصراف مختص بحال الاختيار. ممنوعة جداً، بل لا معنى لها.

وأما قصور دليل اعتبار الباطن عن حال التعذر فهو إنما يتجه لو كان الدليل منحصراً بالإجماع، وقد سبق الاستدلال عليه بالانصراف بنحو يصلح لتقييد الإطلاق لو تم. فراجع.

هذا وقد استدل له بعض مشايخنا (قدس سره) بصحيح زرارة الوارد في الحائض والنفساء، المتضمن أنها لا تدع الصلاة على حال(2) بدعوى: أن المستفاد منه عموم عدم سقوط الصلاة بحال.

لكن تقدم في المسألة التاسعة منع دلالة الصحيح المذكور على ذلك وعدم الدليل على العموم المذكور.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 190

مع أنه قد اعترف بقصور العموم - لو تم - عن إثبات مشروعية الصلاة مع فقد الطهور، كما اعترف بأن مقتضى إطلاق دليل اعتبار الضرب بالباطن اعتباره حتى في حال التعذر المستلزم لتعذر التيمم حينئذٍ، فإن مقتضى الجمع بين الأمرين سقوط الصلاة في الفرض، خروجاً عن عموم عدم سقوط الصلاة بحال لو تم.

لكنه (قدس سره) حاول تقريب اقتضاء العموم المذكور الاجتزاء بالضرب بالباطن وصحة التيمم وعدم سقوط الصلاة حينئذٍ بأن مقتضى قولهم (عليهم السلام):" لا صلاة إلا بطهور "(1) توقف الصلاة على استعمال الطهور، وهو الماء والتراب، فإن تمكن المكلف من استعمال الطهور على الكيفية المستفادة من النصوص وجب، وإلا فالمرجع إطلاق الكتاب المقتضى لزوم مسح الوجه واليدين، فالمكلف قادر على الطهور، فلا تسقط الصلاة عنه، بل يجب عليه الإتيان بها مع استعمال الطهور بالوجه المذكور في الكتاب. وعلى ذلك يجري الحال في جميع موارد التعذر، كالأقطع وغيره.

إلا أنه يشكل بأن المستفاد من النصوص إن كان هو إطلاق التقييد بالكيفية المذكورة فيها لاستعمال الطهور - وهو التراب - بنحو يشمل حال التعذر - كما هو مبنى كلامه - لم ينفع إطلاق الكتاب في الاكتفاء بالكيفية المذكورة فيه لاستعمال الطهور وفي تحقق الشرط الركني للصلاة، لسقوط الإطلاق المذكور عن الحجية بالتقييد المفروض.

وإن كان هو تقييده بالكيفية المذكورة في الجملة ولو في خصوص حال القدرة، أو الأمر به بنحو تعدد المطلوب، كفى إطلاق الكتاب في تصحيح التيمم بالكيفية المذكورة فيه وفي تحقق الشرط الركني للصلاة بلا حاجة إلى عموم عدم سقوط الصلاة بحال المدعى في المقام.

على أن إطلاق الكتاب إنما يقتضي مباشرة أعضاء المسح للطهور، كما سبق، لا الضرب بظاهر اليد والمسح بها عند تعذر الضرب والمسح بالباطن، الذي هو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 191

المدعى.

وإن شئت قلت: عموم عدم سقوط الصلاة بحال - لو تم - إنما يقتضي مشروعية الصلاة ولو من دون طهور، فإن أمكن البناء على ذلك تعين البناء على مشروعية الصلاة في المقام ونحوه ولو من دون تيمم، وكان المرجع في مشروعية التيمم دليله، وإن لم يمكن ذلك، لثبوت ركنية الطهور، توقف البناء على مشروعية الصلاة في المقام ونحوه على ثبوت مشروعية التيمم، ولم ينهض بذلك العموم المذكور.

بل لابد فيه من الرجوع لدليل التيمم، فإن لم ينهض به كان مقتضى إطلاق دليل اعتبار الأمر المتعذر أو مقتضى استصحاب عدم الطهارة عدم مشروعية الصلاة. وإن نهض به تعين البناء على مشروعية الصلاة لإطلاق أدلتها من دون حاجة لعموم عدم سقوط الصلاة بحال.

نعم لو علم بعدم سقوط الصلاة بحال أو في خصوص المقام، وبعدم مشروعية الصلاة من دون طهور، لزم العلم بمشروعية التيمم بالوجه الميسور، وهو أمر آخر غير التمسك بإطلاقات الأدلة.

فالعمدة في المقام: ما هو المرتكز من ابتناء الطهارات الثلاث على الميسور - وإن لم تثبت قاعدة الميسور كلية في سائر التكاليف، كما تقدم غير مرة - بملاحظة النصوص وكلمات الأصحاب في مباحث الجبائر وفروع الأقطع والمسلوس والمبطون والمستحاضة، والتيمم بالغبار عند عدم التراب، بل تشريع التيمم عند تعذر الماء وغير ذلك، فإن ذلك يشرف بنا على القطع بمشروعية التيمم في المقام وأمثاله، وفي الاجتزاء بالمقام بالضرب والمسح بظاهر الكف.

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من الإشكال في الحكم المذكور، لمباينة الظاهر للباطن وعدم كونه ميسوراً له عرفاً. فهو يندفع بأن المناسبات الارتكازية تقتضي استناد الطهارة لمسح الوجه وظاهر الكفين، لا للضرب، بل هو شرط لتحققهما وإن كان هو جزءاً من التيمم، فالتنازل عن خصوصية الباطن في الضرب والمسح والاكتفاء

ص: 192

وكذا إذا كان نجساً نجاسة متعدية (1) ولم تمكن الإزالة، أما إذا لم تكن

بالضرب والمسح بالظاهر هو مقتضى الاكتفاء بالميسور عرفاً وارتكازاً. نعم يتجه ما ذكره في مثل بدلية مسح الرأس أو الخدين عن مسح الجبهة، أو مسح الذراعين عن مسح الكفين، أو مسح باطن الكفين عن مسح ظاهرهما.

هذا ولو غض النظر عما ذكرنا من الاكتفاء بالميسور، فإن فرض العلم بمشروعية التيمم في المقام تعين الجمع بين كل ما يحتمل دخله فيه، ولو بأن يضم للضرب والمسح بالظاهر مسح الأعضاء بالأرض مباشرة كالأقطع ومسحها بباطن كفي الغير بعد ضرب الأرض وغير ذلك، عملاً بقاعدة الاشتغال بالطهارة. وإن احتمل عدم مشروعيته تعين جريان حكم فاقد الطهورين، لاستصحاب عدم الطهارة.

نعم لو كان حكم فاقد الطهورين هو الجمع بين الأداء والقضاء كان الأحوط في الأداء التيمم بالجمع بكل ما يحتمل دخله فيه. ولعله لذا قال في الجواهر بعد أن مال للاجتزاء بالضرب والمسح بظاهر الكفين: "وإن كان الأحوط حينئذٍ الجمع بينه وبين الإتيان بكل ما يحتمل مدخليته حتى حكم فاقد الطهورين، إن لم يكن ذلك متعيناً. للبراءة اليقينية، كما في كل ما لم يتضح من الأدلة حكمه".

لكن الظاهر أن ذلك منه تشبث بالاحتمالات الفرضية التي هي بالوسواس أشبه. مع أنه لا وجه لتعينه لو كانت الاحتمالات معتداً بها بعد إمكان التمسك بالأصول التي يظهر الحال فيها بملاحظة ما تقدم وبالتأمل التام في أطراف المسألة.

(1) لما سبق من اعتبار طهارة ما يتيمم به. لكن يظهر من بعض مشايخنا أن المتيقن من دليل اعتبار طهارة ما يتيمم به هو طهارته في نفسه في رتبة سابقة على التيمم به، ولا يقدح نجاسته بسبب الضرب عليه والتيمم به.

وفيه أولاً: أن المعتبر في التيمم لما كان هو الضرب المبني على نحو من الدفع والاعتماد فهو متأخر زماناً عن ملاقاة رطوبة اليد النجسة الموجبة لتنجس ما يتيمم به.

ص: 193

متعدية ضرب به ومسح (1). وإذا كان على الممسوح حائل لا تمكن إزالته

نعم لا يتم ذلك فيما لو كانت اليد جافة بحيث لا يحصل التنجيس بمجرد الضرب، بل بعده بسبب الضغط على الجرح وانفتاقه وسيلان الدم أو القيح منه.

وثانياً: أن المناسبات الارتكازية تقضي بأن اعتبار طهارة ما يتيمم به بنحو يعم حال الاستعمال. ولذا لا ريب في اعتبار طهارة الماء في الطهارة المائية بالنحو المذكور، مع تشابه أدلة اعتبار الطهارة في المقامين.

(1) كما في جامع المقاصد ومفتاح الكرامة والجواهر، بل نفى في الأخير وجدان الخلاف فيه بين الأصحاب. ولا ينبغي التأمل فيه بناء على عدم اعتبار طهارة الماسح، على ما يأتي الكلام فيه في المسألة الثلاثين.

وأما بناء على اعتبارها، فحيث ينحصر الدليل على اعتبارها بالإجماع ونحوه مما لا إطلاق له، فإن كان الدليل على اعتبار الضرب والمسح بالباطن ظهور الأدلة في ذلك - كما تقدم - كان مقتضى إطلاقها لزوم الضرب به في المقام وعدم مانعية النجاسة، لفرض عدم إطلاق دليل مانعيتها، ليعارض إطلاق دليل لزوم الضرب والمسح بالباطن. وإن كان الدليل على اعتبار الضرب والمسح بالباطن. منحصراً بالإجماع - كما تقدم من سيدنا المصنف (قدس سره) - فحيث لا إطلاق له أيضاً لزم الجمع بين الضرب والمسح به والضرب والمسح بالظاهر.

اللهم إلا أن يدعى الإجماع أو القطع بسقوط اعتبار طهارة الماسح في المقام، ولذا جزم بوجوب المسح بالباطن هنا بعض من صرح باعتبار طهارة الماسح، كالمحقق الثاني في جامع المقاصد.

ومنه يظهر الإشكال في استدلال سيدنا المصنف (قدس سره) على وجوب المسح بالباطن في المقام بقوله: "لإطلاق الأدلة. ودليل اعتبار الطهارة لا يقتضي اعتبارها مع الاضطرار".

ص: 194

(195)

مسح عليه (1). أما إذا كان ذلك على الباطن الماسح فالأحوط وجوباً الجمع بين الضرب والمسح به والضرب والمسح بالظاهر (2).

(مسألة 27): المحدث بالأصغر يتيمم بدلاً عن الوضوء (3)، والجنب يتيمم بدلاً عن الغسل (4)، والمحدث بالأكبر غير الجنابة يتيمم

(1) بناء على ما يأتي في المسألة الواحدة والثلاثين من جريان حكم الجبيرة في التيمم.

(2) المناسب لما تقدم منه (قدس سره) من انحصار الدليل على تعيين الباطن بالإجماع، الذي لا إطلاق له يشمل صورة وجود الحائل، هو الاكتفاء بضرب الظاهر والمسح به، وعدم وجوب ضم الضرب والمسح بالباطن له، فضلاً عن الاكتفاء به، فإنه مخالف لدليل مانعية الحائل، كما نبه له في مستمسكه.

أما بناءً على ما سبق منا من أنه مقتضى ظاهر الأدلة، كمانعية الحائل، فالمتعين مع عدم وضوح الترجيح الجمع بين الأمرين، كما ذكره في المتن. ودعوى: أن مقتضى إطلاق دليل بدلية الجبيرة عن البشرة الاكتفاء بالضرب والمسح بالباطن مع الحائل عند تعذر الضرب والمسح به من دون حائل، الذي هو الواجب الأولي الاختياري.

مدفوعة: بأن إطلاق دليل بدلية الجبيرة يختص بالممسوح، دون الماسح على ما يأتي التعرض له في المسألة الواحدة والثلاثين. مع أن الحائل أعم من الجبيرة.

(3) كما هو صريح الآيتين الكريمتين وجملة من النصوص.

(4) كما هو صريح الآيتين الكريمتين وجملة من النصوص. كما أن ظاهرها أو صريحها الاكتفاء بالتيمم وعدم الحاجة لضم الوضوء. ولاسيما مثل صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "في رجل أجنب في سفر ومعه ماء قدر ما يتوضأ به. قال: يتيمم ولا يتوضأ"(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 195

عن الغسل (1). والأحوط وجوباً أن يتيمم أيضاً عن الوضوء (2).

وكذا صحيح زرارة المتضمن لتيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ردع عمار عن التمعك بالتراب حينما أجنب، وفيه:" ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد، ثم مسح جبينه [جبينيه] بأصابعه وكفيه إحداهما بالأخرى. ثم لم يعد ذلك"(1) ، بناء على أن المراد بقوله (عليه السلام): "ثم لم يعد ذلك" عدم إعادة التيمم بتمامه، كما هو الظاهر، وتقدم منا التنبيه له عند الكلام في وحدة الضرب وتعدده. وكيف كان فالظاهر المفروغية عن الحكم المذكور بينهم، وفي الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه" .كما أن الظاهر عدم توقف إجزائه عن الوضوء على نية الاستباحة عن الحدث الأصغر، كما في الجواهر. لإطلاق الأدلة المتقدمة. قال في الجواهر: "لكن حكى في جامع المقاصد عن ظاهر الشيخ وجوبه. ولعله لضعف البدل. وهو ضعيف جداً. كضعف ما حكاه عن ظاهره من إيجاب التعيين في الأحداث الصُّغَر لو اجتمعت".

(1) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه في الجملة ما تضمن أن الميت ييمم(2) ، وصحيح أبي بصير وموثق عمار وغيرهما من النصوص الآتية.

وظاهر الأصحاب عدم الفرق بين الأغسال في كيفية التيمم، وأنها جميعاً كالتيمم بدلاً عن الجنابة، بل صرح بذلك عن المقنعة. ويقتضيه في الجملة صحيح أبي بصير: "سألته عن تيمم الحائض والجنب سواء إذا لم يجدا ماءً؟ قال: نعم"(3). وقريب منه موثق عمار(4) المتقدم عند الكلام في تعدد الضرب ووحدته.

(2) كأنه لما تقدم منه (قدس سره) في المسألة التاسعة عشرة من مباحث الحيض من التوقف في إجزاء غسل غير الجنابة عن الوضوء. حيث يظهر منه (قدس سره) في مستمسكه ابتناء هذه المسألة على تلك المسألة، كما هو أيضاً ظاهر جماعة من الأصحاب. فإن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 7، 6.

ص: 196

قيل بعدم إجزاء الغسل عن الوضوء تعين البناء على وجوب تيممين أحدهما بدل عن الغسل، والآخر بدل عن الوضوء. وبذلك صرح في القواعد وجامع المقاصد، وحكي عن جماعة ممن تأخر عن العلامة.

وقد وجهه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن المستفاد من الأدلة بدلية التيمم عن الوضوء والغسل، ولازم ذلك تعدد البدل تبعاً لتعدد المبدل. نعم لو كان المستفاد من الأدلة بدلية التراب عن الماء أمكن الاكتفاء بتيمم واحد بدلاً عن الأمرين اللذين هما طهارة مائية. لكنه خلاف ظاهر الأدلة. ولو سلم ظهورها في ذلك فلا إطلاق لدليل البدلية يقتضي قيام التراب باستعمال واحد مقام الماء في تمام استعمالاته.

لكن يشكل ما ذكره أولاً: بعدم وضوح ظهور الأدلة في بدلية التيمم عن الوضوء والغسل، لا بدلية التراب أو الأرض عن الماء، فإن الآيتين الشريفتين صالحتان للأمرين. والنصوص مختلفة المفاد، وإن كان ظاهر أكثرها بدلية التراب أو الأرض عن الماء، مثل ما تضمن أن الله جعل الأرض مسجداً وطهوراً(1) ، وما تضمن أن رب الماء هو رب الصعيد(2) ، وما تضمن أن الله جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً(3).

نعم ورد في صحيح زرارة فيمن لم يتوضأ أن التيمم أحد الطهورين(4) ، وفي صحيح محمد بن مسلم المتضمن عدم إعادة الجنب صلاته إذا تيمم لها، قال (عليه السلام):" إن رب الماء رب الصعيد، فقد فعل أحد الطهورين"(5). وتنزيلهما على ما تقدم غير عزيز. ولاسيما بلحاظ أن الطهور ما يتطهر به، لا نفس الطهارة. ولا أقل من التوقف والتردد بين الأمرين.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24، 25 من أبواب التيمم.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 197

وثانياً: أنه لا أثر لتعيين أحد الأمرين في محل الكلام، بل الأثر لظهور الأدلة في عموم البدلية أو إطلاقها بنحو يجتزأ بتيمم واحد عن كلا الطهارتين وعدمه، فمع الأول يتعين الاجتزاء بتيمم واحد، حتى لو كانت البدلية بين التيمم والوضوء أو الغسل، ومع عدمه يتعين تكرار التيمم ولو لأنه مقتضى أصالة الاشتغال بالطهارة.

ودعوى: أن تعدد المبدل منه يقتضي تعدد البدل. إنما تتجه لو ابتنت البدلية على اختصاص كل من الوضوء والغسل بتيمم، ولا شاهد لذلك من الأدلة، بل المستفاد منها مجرد وفاء التيمم بغرض كل منهما، وحينئذٍ لا مانع من وفاء تيمم واحد بذلك لو كان هو مقتضى الإطلاق.

ومن هنا يبتني الكلام على مسألة التداخل كما صرح في الجواهر، وقد ذكرنا في الأصول أن الأصل وإن كان هو عدم التداخل مع تعدد الأمر تبعاً لتعدد السبب، إلا أن ذلك يختص بالأمر النفسي كالأمر بالعتق في الظهار والقتل، لأن ظهور الأمر في كلا الدليلين في الاستقلالية مستلزم لتعدد المأمور به، لامتناع تعدد الأمر مع وحدة المأمور به إلا أن يكو ن أحد الأمرين مؤكداً للآخر من دون أن يكون مستقلاً عنه، وهو خلاف ظاهر الخطاب. ولا يجري ذلك فيما لو سيق الكلام لبيان مطلوبية السبب من أجل تحقيق المسبب لا لنفسه، لإمكان تحقيق السبب الواحد لمسببات متعددة، فلا مانع في المقام من قيام التيمم الواحد بأثر كل من الغسل والوضوء. وقد تقدم منّا نظير ذلك عند الكلام في اعتبار طهارة الأعضاء في الوضوء.

وبالجملة: حيث كان مقتضى القاعدة التداخل في أمثال المقام كان مقتضى الإطلاق الاكتفاء بتيمم واحد بدلاً عن الغسل والوضوء معاً. وما في جامع المقاصد من أن المبدل منه القوي إذا كان متعدداً فالمبدل الضعيف أولى بالتعدد. كما ترى لا ينهض بالخروج عما يقتضيه ظاهر الأدلة.

نعم لابد من البناء على عدم الفرق في الكيفية بين التيمم بدلاً عن الوضوء والتيمم بدلاً عن الغسل، أو إجزاء التيمم بإحدى الكيفيتين عن الأخرى، وإلا فل

ص: 198

موضوع للتداخل.

قال في المدارك: "وأعلم أن ظاهر كلام الأصحاب يقتضي تساوي الأغسال في كيفية التيمم. وبه صرح المفيد في المقنعة... ولم يذكر التيمم بدلاً من الوضوء. واستدل له الشيخ في التهذيب بما رواه عن أبي بصير... وعن عمار الساباطي... قال في الذكرى: وخرج بعض الأصحاب وجوب تيممين غير الجنب بناء على وجوب الوضوء هناك. والخبران غير مانعين منه لجواز التسوية في الكيفية لا الكمية. وما ذكره أحوط، وإن كان الأظهر الاكتفاء بالتيمم الواحد بناء على ما اخترناه من اتحاد الكيفية وعدم اعتبار نية البدلية، فيكون جارياً مجرى أسباب الوضوء أو الغسل المختلفة. ولو قلنا بإجزاء الغسل مطلقاً عن الوضوء - كما ذهب إليه المرتضى (رضي الله عنه) - ثبت التساوي مطلقاً من غير إشكال".

وقد يظهر منه - كالذكرى - أن الاجتزاء بتيمم واحد هو ظاهر الأصحاب، وأن القول بتعدد التيمم يبتني على تخريج لبعضهم. نعم ما ذكره (قدس سره) من ابتناء الاكتفاء بتيمم واحد على عدم اعتبار نية البدلية غير ظاهر الوجه، حيث لا مانع من نية بدلية التيمم الواحد عن الغسل والتيمم معاً.

هذا مضافاً إلى معتبر أبي عبيدة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن المرأة الحائض ترى الطهر وهي في السفر، وليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها، وقد حضرت الصلاة. قال: إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله، ثم تتيمم وتصلي. قلت: فيأتيها زوجها في تلك الحال؟ قال: نعم إذا غسلت فرجها وتيممت فلا بأس به"(1). فإن السؤال فيه لما لم يكن عن مشروعية التيمم، بل عن وظيفة الحائض الظاهر في إرادة تمام الوظيفة بل هو كالصريح بلحاظ ذكر غسل الفرج في الجواب فإطلاق الجواب ظاهر جداً في الاجتزاء بتيمم واحد. ولاسيما بملاحظة ذيله، المتضمن للترخيص في إتيان زوجها لها إذا تيممت، لقوة ظهوره في إرادة التيمم الذي يستباح به الصلاة، مع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 199

(200)

وإذا تمكن من أحدهما المعين من الوضوء أو الغسل أتى به وتيمم عن الآخر (1)،

عدم الإشكال ظاهراً في أن المراد به تيمم واحد بدلاً عن الغسل لا غير.

هذا كله بناء على عدم إجزاء غسل غير الجنابة عن الوضوء. أما البناء على إجزائه عنه فالظاهر عدم الإشكال بينهم في الاجتزاء بتيمم واحد، كما سبق من المدارك.

لكن منع من ذلك بعض مشايخنا بدعوى: أن الثابت بالنص إنما هو إغناء الغسل عن الوضوء، لا إغناء التيمم الذي هو بدل عنه، بل يتعين عليه تيمم آخر بدلاً عن الوضوء.

وهو كما ترى، لأنه بعد فرض إجزاء الغسل عن الوضوء فإجزاء التيمم عنه مقتضى إطلاق البدلية المستفاد من الأدلة بألسنتها المتقدمة. ولاسيما بملاحظة أن إجزاء الغسل عن الوضوء ليس تعبدياً محضاً، بل لمطهريته، كما هو مقتضى قولهم (عليهم السلام):" وأي وضوء أطهر من الغسل "(1) وكما أن بدلية التيمم عن الغسل ليست تعبدية أيضاً، بل لمطهريته المستفادة مما دل على طهورية الأرض والتراب.

هذا كله مضافاً إلى معتبر أبي عبيدة المتقدم الذي سبق تقريب قوة ظهوره في اكتفاء الحائض بتيمم واحد، فإنه لو أمكن تكلف الخروج عنه بناء على عدم إجزاء الغسل عن الوضوء بأن تعدد المبدل يقتضي تعدد البدل فلا مجال للخروج عنه بناء على إجزاء الغسل عن الوضوء كما لا يخفى. وإن كان الظاهر أنه لا مجال للخروج عنه على كلا المبنيين، لقوة ظهوره وعدم رجوع قضية تبعية تعدد البدل لتعدد المبدل إلى محصل ظاهر.

(1) لعدم مشروعية التيمم بدلاً عن الطهارة المائية إلا مع تعذرها، فلا يجزي عما لا يتعذر منها. هذا بناء على تعدد التيمم في الفرض أما بناء على وحدته لإجزاء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 200

الغسل عن الوضوء فالمتعين الاجتزاء بالتيمم مع تعذر الغسل ولو مع القدرة على الوضوء، عملاً بإطلاق دليل بدلية التيمم عن الغسل المقتضى لقيامه مقامه في الإجزاء عن الوضوء.

ودعوى: أن الطهارة الترابية مشروطة بتعذر الطهارة المائية فكيف يجزي التيمم عن الوضوء مع القدرة عليه في المقام.

مدفوعة بأن إجزاء التيمم عن الوضوء في المقام ليس لبدليته عنه، كي تتوقف على تعذره، بل لبدليته عن الغسل المفروض تعذره، وإجزاؤه حينئذٍ عن الوضوء في طول إجزاء الغسل عنه، لإطلاق دليل بدلية التيمم عن الغسل، كما سبق. وقد ثبت نظير ذلك في التيمم بدلاً عن غسل الجنابة.

أما بناء على عدم إجزاء الغسل عن الوضوء، وأن الاكتفاء بتيمم واحد إنما هو للتداخل في نفس التيمم، فمن الظاهر أن تداخل التيممين فرع مشروعية التيمم عن الوضوء، ولا مجال لمشروعيته مع فرض القدرة على الوضوء.

نعم مقتضى إطلاق معتبر أبي عبيدة الاجتزاء بالتيمم في المقام مطلقاً ولو مع القدرة على الوضوء، لأن اقتصار الإمام (عليه السلام) على غسل الفرج ظاهر في عدم لزوم الوضوء لو كان الماء الذي عندها يكفي له، كما هو الحال في التيمم عن الجنابة.

ومقتضى ذلك البناء على الاكتفاء بالتيمم حتى بناء على عدم إجزاء الغسل عن الوضوء. بل قد يجعل الحديث المذكور من أدلة إجزاء الغسل عنه. فلاحظ.

ثم إن مقتضى ذلك إجزاء التيمم بدلاً من الأغسال المندوبة عن الوضوء، حتى مع القدرة عليه. لعموم دليل إجزاء الغسل عن الوضوء لها. بل حتى على القول بعدم إجزائها عن الوضوء يتعين البناء على الاكتفاء بتيمم واحد وإجزائه عن الوضوء حتى مع القدرة عليه لمعتبر أبي عبيدة.

إلا أن يقتصر فيه على مورده وهو التيمم بدلاً عن غسل الحيض. أو يتعدى منه

ص: 201

وإذا تمكن من أحدهما غير المعين اغتسل وتيمم عن الوضوء (1).

لسائر الأغسال الواجبة دون المستحبة، اقتصاراً فيما خالف القواعد على المتيقن.

كما أنه لابد من ثبوت بدلية التيمم عن الأغسال المستحبة، الذي تقدم التعرض له في آخر الكلام في الأغسال المستحبة. فراجع.

(1) لأهمية الحدث الأكبر المقتضي لتقديم الغسل له على الوضوء للحدث الأصغر. ولا أقل من احتمال الأهمية فيتعين تقديمه، كما في سائر موارد التزاحم. وحينئذٍ يشرع التيمم بدلاً عن الوضوء بلا إشكال، بناء على عدم إجزاء الغسل عن الوضوء. وقد تقدم في المسوغ السادس تقريب جريان قواعد التزاحم في أمثال المقام عند الكلام في التزاحم بين إزالة الحدث وإزالة الخبث لقلة الماء. فراجع.

ص: 202

(203)

الفصل الرابع

يشترط في التيمم النية (1)، على ما تقدم في الوضوء (2)، مقارناً بها الضرب (3) على الأحوط وجوباً.

(1) إجماعاً محصلاً ومنقولاً مستفيضاً حدّ الإستفاضة إن لم يكن متواتراً منا ومن جميع علماء الإسلام، إلا من شذ. كذا في الجواهر. وقد تقدم في الوضوء ما ينفع في المقام.

(2) حيث تقدم هناك تحديد النية، وبيان منافياتها كالرياء، وغير ذلك.

(3) كما في المنتهى والذكرى وجامع المقاصد وغيرها القطع به، وفي المدارك أنه مذهب الأكثر، وعن الكفاية أنه الأشهر. والوجه فيه: أنه أول أجزاء التيمم، كما تقتضيه النصوص الكثيرة الشارحة للتيمم البيانية منها وغيرها مما تضمن بيانه بالقول(1).

وفي الوسيلة مقارنتها للمسح. وإليه يرجع ما في التذكرة وعن نهاية الأحكام والفخرية من جواز تأخيرها له. وكأنه لأن التيمم عندهم هو المسح، كما صرح به في المفاتيح. والضرب إما غير واجب - كما هو مقتضى ما تقدم عن نهاية الأحكام من جواز الحدث بعد الضرب - أو واجب في التيمم خارج عنه، لكونه شرطاً فيه.

وقد يستدل لهم تارة: بظاهر الآيتين الشريفتين، حيث لم يعد الضرب في سياق أجزاء التيمم. وأما ما في الجواهر من احتمال كون قوله تعالى:" فتيمموا "كناية عن

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11، 12 من أبواب التيمم.

ص: 203

الضرب، بقرينة اشتمال النصوص عليه. فهو - مع أنه خلاف الظاهر - لا ينفع في إثبات كونه جزءاً، لظهوره في كونه مقدمة للمسح المقصود بالأصل، لا جزءاً في مقابله، بقرينة تفريع المسح عليه بالفاء، كما قد يظهر بالتأمل. ويناسبه قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة بعد ذكر الآية:" فلما أن وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل"(1). لظهوره في أن بدل الوضوء هو المسح لا غير.

وأخرى: بقوله (عليه السلام) في معتبر زرارة: "إن خاف على نفسه من سبع أو غيره، وخاف فوات الوقت، فليتيمم: يضرب بيده على اللبد أو البرذعة، ويتيمم ويصلي"(2). لظهور ذيله في أن التيمم بعد الضرب. ولا ينافيه ذكر التيمم قبل الضرب أيضاً، لقرب كون ذلك للتمهيد للتيمم بذكر مقدمته، جمعاً بين الصدر والذيل بعد ظهور وحدة المراد من التيمم فيهما.

ومثله قوله (عليه السلام) في موثق سماعة فيمن مرت به جنازة وهو على غير وضوء:" يضرب بيديه على حائط اللبن فليتيمم به"(3). وبذلك يتعين حمل النصوص المتضمنة للضرب في شرح التيمم على كون الضرب مقدمة له، لا جزءاً منه، فهو كتناول الماء في الوضوء. ولاسيما بملاحظة ارتكاز أن البدلية قائمة بين المسح والغسل، كما أشير إليه في صحيح زرارة المتقدم.

ويندفع الأول بأن ظاهر الآيتين ليس مجرد عدم جزئية الضرب للتيمم، ليجمع بينها وبين النصوص بأنه واجب ليس بجزء، بل عدم وجوبه أيضاً، وحيث كان ذلك مخالفاً للنصوص الظاهرة في وجوبه وجزئيته، فكما يتعين الخروج به عن ظهور الآية في عدم وجوبه، يتعين الخروج به عن ظهورها في عدم جزئيته.

وأما تفريع المسح على التيمم بالفاء في الآيتين فهو لا ينفع في إثبات عدم جزئية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من صلاة الجنازة حديث: 5.

ص: 204

(205)

الضرب لو كان المراد من التيمم الضرب، لأنه يكفي في التفريع كون المسح بالأثر الحاصل من الضرب وإن كان الضرب جزءاً أيضاً.

كما يندفع الثاني بأن معتبر زرارة لا يخلو عن إجمال، إذ كما يمكن حمله على أن التيمم بعد الضرب، عملاً بالذيل، وحمل الصدر على التمهيد له بذكر مقدمته - كما سبق - يمكن حمله على أن التيمم يبدأ بالضرب، عملاً بالصدر، وحمل الذيل على إرادة إكمال التيمم، نظير قولنا: غسل وجهه وتوضأ، أو: كبر وصلى.

كما أن من القريب حمل موثق سماعة على ذلك، أو على إرادة ما يعم الضرب من التيمم، ويكون شرحاً للمراد من قوله: "يضرب بيده" ،كما قد يناسبه التفريع المستفاد من الفاء، حيث يقرب كونه تفريعاً على السؤال، لا بياناً لما يراد بعد الضرب، وإلا كان الأنسب عطفه بالواو.

على أن الأمر في الحديثين لا يزيد على الاستعمال الذي هو أعم من الحقيقة، فلا يخرج به عن ظاهر النصوص الكثيرة الشارحة للتيمم، والظاهرة في كون الضرب جزءاً منه.

وأما ارتكاز أن البدلية قائمة بين المسح والغسل، فمقتضاه عدم خصوصية الضرب، بل يكفي كل ما يقتضي المسح بأثر التراب، كما هو الحال في الاغتراف بالنسبة إلى الغسل، وحيث كانت النصوص تأباه جداً، خصوصاً ما تعرض منها لتعدد الضرب، تعين رفع اليد عن الارتكاز المذكور، والعمل بظاهر النصوص، ورفع اليد بها عما يوهم خروج الضرب عن التيمم.

مضافاً في ذلك كله إلى صحيح المفضل بن عمر: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، ما تقول في المرأة تكون في السفر مع الرجال ليس فيهم لها ذو محرم، ولا معهم امرأة، فتموت المرأة، ما يصنع بها؟ قال: يغسل منها ما أوجب الله عليه التيمم، ولا تمس، ولا يكشف لها شيء من محاسنها التي أمر الله بسترها. قلت: فكيف يصنع

ص: 205

(مسألة 28): لا تجب فيه نية البدلية (1) عن الوضوء أو الغسل،

بها؟ قال: يغسل بطن كفيها، ثم يغسل وجهها، ثم يغسل ظهر كفيها"(1). لظهوره أو صراحته في أن بطن الكفين مما يجب عليه التيمم، وليس هو إلا بضربهما في الأرض قبل مسح الوجه بهما. وربما ينزل عليه صحيح زرارة المتقدم، بحمل المسح على ما يعم مماسة الأرض بالضرب عليها.

(1) كما في الجواهر. والعمدة فيه إطلاق أدلة تشريعه، وبه يخرج عن مقتضى قاعدة الاشتغال التي هي المرجع في أمثال المقام من موارد الشك في المحصل، حيث كان المطلوب هو الطهارة المترتبة عليه. ومنه يظهر ضعف ما في الوسيلة والذكرى وجامع المقاصد وعن جماعة من اعتبار نية البدلية، وجعله في الخلاف أحوط بعد أن قوى الاكتفاء بنية الاستباحة.

نعم حيث لا إشكال ظاهراً في اختلاف أثر التيمم باختلاف ما يقع بدلاً عنه، فأثر التيمم بدلاً عن الغسل غير أثر التيمم بدلاً عن الوضوء، فمع ثبوت كلا التيممين على المكلف لو لم يقصد أحدهما بعينه لا مجال لترتب كلا الأثرين على التيمم الواحد، لعدم المرجح، ويتعين بطلانه، وعدم صحته إلا مع تعيين ما يقع بدلاً عنه ليترتب أثره. ولعل هذا هو مراد من يدعى اختلاف حقيقة التيمم في المقام.

لكن ذلك إنما يقتضي اعتبار نية البدلية عن أحد الأمرين مع اجتماعهما، كما هو الحال بناء على ما سبق منهم من عدم الاكتفاء بتيمم واحد بدلاً عنهما لو قيل بعدم إجزاء غسل غير الجنابة عن الوضوء، ولا يقتضي اعتبار نية البدلية مع الانفراد، إما لوحدة الحدث، أو لإجزاء الغسل عن الوضوء المقتضي لإجزاء التيمم عنه، أو للاجتزاء بتيمم واحد حتى مع عدم إجزاء الغسل عن الوضوء، كما سبق. فلاحظ.

هذا وقد سبق في المسألة الثالثة والسبعين من مباحث الوضوء عند الكلام في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 206

بل تكفي نية الأمر المتوجه إليه، ومع تعدد الأمر لابد من تعيينه بالنية (1).

تداخل الوضوء والغسل مع اجتماع أسبابهما أن مقتضى التداخل اتحاد حقيقة الغسل وإن اختلف أثره. وعلى ذلك يتعين وحدة حقيقة التيمم الذي هو بدل عن الغسل، فلا يحتاج إلى نية البدلية.

بل حتى مع البناء على عدم رجوع التداخل لوحدة حقيقة الغسل يتعين البناء على وحدة حقيقة التيمم، لعين ما سبق في توجيه الاجتزاء بتيمم واحد عن الغسل والوضوء لو اجتمعا، فلا يحتاج إلى نية البدلية عن غسل بعينه، حتى لو قيل بلزوم تعيين سبب الغسل مع تعدده، الذي هو خلاف التحقيق.

نعم لو قيل بعدم الاجتزاء بتيمم واحد مع تعدد أسباب الغسل، بل يجب تعدد التيمم بتعددها، لعدم ملازمة التداخل في الغسل للتداخل في التيمم، فمع تعدد الإحداث يلزم تعيين الحدث الذي يراد التيمم عنه. لعين ما سبق بناء على تعدد التيمم بدلاً عن الوضوء والغسل مع اجتماعهما.

لكن المبنى المذكور ضعيف جداً. لمخالفته لإطلاق أدلة الطهورية، كما سبق نظيره عند الكلام في الاجتزاء بتيمم واحد عن غسل غير الجنابة لو قيل بإجزائه عن الوضوء. فراجع.

(1) كأنه لاعتبار قصد الامتثال، وقصد امتثال الأمر فرع تعيينه، أما الأمر المردد فلا وجود له ليمتثل. لكن ذلك إنما يتم - في الجملة - في الأوامر التعبدية، التي لا تسقط إلا بقصد امتثالها أو قصد ملاك المحبوبية المستكشف بها، ومن الظاهر أن أوامر الطهارة توصلية، ولذا تجزي الطهارة لغاية في الغايات الأخر التي لم تقصد بها.

وليس مرجع عبادية الطهارات إلى عبادية أوامرها، بل إلى لزوم إيقاعها بوجه عبادي، ومن الظاهر أنه يكفي في تحقق العبادية التقرب بالعمل بلحاظ التوصل به لامتثال الأمر وإن لم يعين ذلك الأمر مع تعدده ولو إجمالاً، بل وإن لم يكن الأمر

ص: 207

(208)

(مسألة 29): الأقوى أن التيمم رافع للحدث (1)

موجوداً، بل كان محتملاً، أو اعتقد المكلف وجوده خطأً.

هذا ولو فرض تعدد حقيقة التيمم باختلاف ما يقع بدلاً عنه من غسل أو وضوء، أو باختلاف الأمر به، فحيث لا مائز بين حقائقه إلا النية لزم تعيينه ولو من طريق تعيين الأمر الذي يراد امتثاله، لتتعين حقيقة ما وقع، ولا يشرع ما خلا عن التعيين، إذ لا وجود للمردد بين الحقيقتين. إلا أنه لا شاهد على ذلك، ومقتضى الإطلاق عدم اعتبار قصد شيء حتى التقرب لولا ما سبق من المفروغية عن عبادته.

(1) المعروف من مذهب الأصحاب أن التيمم ليس رافعاً للحدث، بل هو مبيح لما يتوقف على الطهارة مع بقاء الحدث على حاله. وقد ادعى الإجماع على ذلك منّا - بل من عامة المسلمين عدا الشاذ منهم - في كلام جماعة كثيرة تبلغ حدّ الاستفاضة، كما يظهر بمراجعة مفتاح الكرامة في بحث نية التيمم، ومسألة ما إذا تيمم الجنب ثم أحدث بالأصغر في أواخر مباحث التيمم.

ولا يظهر الخلاف في ذلك من القدماء إلا من السيد المرتضى في شرح الرسالة في المسألة المذكورة، وإن حاول بعضهم توجيهه بما لا ينافي الإجماع أو توجيه الإجماع بما لا ينافيه، ويأتي التعرض لكلامه في المسألة الأربعين إن شاء الله تعالى. كما لا يظهر الخلاف في ذلك من المتأخرين إلا من الشهيد في القواعد والدروس، بل حتى الذكرى على غموض في كلامه ومهما كان فالمعروف من مذهب الأصحاب (رضي الله عنهم) عدم رافعية التيمم للحدث.

بل في التذكرة والمنتهى والإرشاد وروض الجنان وعن التحرير والمقاصد العلية عدم جواز نية رفع الحدث، بل احتمل في التذكرة بطلان التيمم معها، وجزم به في المبسوط والمعتبر والقواعد وجواهر القاضي. فإن أرادوا به ما إذا نوى الرفع مع نية الاستباحة فهو أمر زائد على ما سبق من المشهور. وإن أرادوا به ما إذا اقتصر عليه

ص: 208

رجع إلى ما سبق من المشهور. اللهم إلا أن يدعى ملازمة نية الرفع لنية الاستباحة، فيرجع للأول.

وكيف كان فالعمدة في استدلالهم على عدم مشروعية نية الرفع - بعد الإجماع - أنه حيث لا إشكال في وجوب الطهارة المائية على المتيمم لو وجد الماء، وفي أن الطهارة المائية المذكورة ليست لحدث جديد، لعدم كون وجدان الماء من أسباب الحدث، بل للحدث الأول، تعين عدم رافعية التيمم له.

مضافاً إلى النصوص المتضمنة إطلاق الجنب على المتيمم. مثل ما رواه العامة من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمرو بن العاص لما صلى بأصحابه متيمماً: "صليت وأنت جنب"(1) ، وموثق ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قلت له: رجل أمّ قوماً وهو جنب وقد تيمم وهم على طهور. قال: لا بأس"(2). وربما استدل بغيرهما.

هذا ولكن مقتضى قوله تعالى بعد ذكر التيمم: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم" (3) ترتب الطهارة على التيمم. وهو أيضاً مقتضى النصوص المستفيضة بل المتواترة المتضمنة طهورية التراب والتيمم، وقوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم في متيمم أصاب الماء وقد صلى ركعتين: "يمضي في صلاته ولا ينقضها لمكان أنه دخلها وهو على طهر بتيمم"(4). وتشهد به مرتكزات المتشرعة، بل يظهر من الأصحاب المفروغية عنه، ولذا عدوا التيمم ثالث الطهارات.

وأما حمل جميع ذلك على إرادة أنه بحكم الطهارة في جواز الدخول في الغايات المعتبرة فيها، وليس طهارة حقيقية، بحيث يكون دليل جواز الدخول في تلك الغايات بالتيمم مخصصاً لعموم اعتبار الطهارة فيها بلسان الحكومة. فهو مما تأباه تلك الأدلة،

********

(1) كنز العمال ج: 5 ص: 143 حديث: 2943.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 17 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 3.

(3) سورة المائدة الآية: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 209

كالمرتكزات.

وحينئذ فمن الظاهر أن الطهارة تضاد الحدث، وسببها رافع له، فإذا كان التيمم مطهراً تعين رافعيته له.

لكن في الجواهر أن أدلة طهورية التراب لا تستلزم رافعية التيمم للحدث لعدم التنافي بينهما، وعلى ذلك جرى بعض مشايخنا (قدس سره) بعد أن استبشع القول بالإباحة بمعنى عدم المطهرية وإن ترتبت أحكامها، فالتزم بأن الجنب إذا تيمم فهو جنب متطهر، لا أنه غير جنب، ولا أنه مستبيح للصلاة من دون طهارة.

وفيه: أن طهورية التراب ترجع إلى كونه آلة لإحداث الطهارة، كما هو صريح ما تضمن مطهرية التيمم. ومن الظاهر أن الطهارة ليست إلا نحواً من النزاهة والنظافة تقابل نحواً من الكدر والقذر، وبلحاظ ذلك كان التقابل بينها وبين خبث النفس، أو النسب أو الأصل أو النجاسة الخبيثة، أو الأحداث الصغيرة والكبيرة من تقابل الضدين، فاجتماع الطهارة بالمعنى الذي يفيده الوضوء والغسل والتيمم مع الحدث من اجتماع الضدين الممتنع عقلاً. والالتزام في المقام به أبشع من الالتزام بعدم إفادة التيمم للطهارة وإنما يترتب عليه أحكامها، إذ ليس في ذلك إلا الخروج عن قوة ظهور الأدلة في إرادة مطهريته حقيقة وحملها على مطهريته حكماً.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الجنب عرفاً وشرعاً كل من حصل له سبب الجنابة ولم يغتسل. فهو مسلم بالإضافة إلى العرف، لعدم إدراكهم مطهرية التيمم. وأما بالإضافة إلى الشرع فهو ممنوع لا يناسب الاعتراف بمطهرية التيمم شرعاً إن أريد بالجنب من ثبت له حدث الجنابة فعلاً، وإنما يتجه لو أريد به من ثبت له مقتضي الحدث، لأن تعرض التيمم للبطلان بوجدان الماء المستلزم لفعلية الحدث تبعاً للسبب الحاصل له سابقاً يصحح نسبة الحدث له اقتضاء. لكن ذلك يرجع لتحديد مفهوم الجنب عند الإطلاق، لا لاجتماع الحدث والطهارة فيه وفي غيره ممن يتيمم عند الحدث. ومن هنا لا مخرج عما ذكر من أن وضوح مطهرية التيمم وتضاد الطهارة مع

ص: 210

الحدث ملزم بالبناء على رافعيته له.

ولا مجال مع ذلك للاستدلال على عدم رافعيته بما تقدم من النصوص المتضمنة إطلاق الجنب على المتيمم، لعدم كثرتها وصراحتها بنحو يخرج بها عما ذكرنا. ولاسيما مع ما سبق من صدق الجنب عرفاً، بل وشرعاً بنحو من العناية، فإن الاستعمال أعم من الحقيقة ويكفي فيه أدنى مناسبة.

وأشكل من ذلك ما في الجواهر بأن مقابلة التيمم بالطهور في ذيل موثق ابن بكير كالصريح في بقاء الحدث. إذ فيه: أنه إن رجع إلى عدم مطهرية التيمم فهو لا يناسب ما اعترف به من دلالة الأدلة على طهورية التراب، إذ لا معنى لطهوريته مع عدم مطهرية استعماله، أما لو بني على مطهرية التيمم فلابد من كون المقابلة غير حقيقية، ولا مجال للاستشهاد بها.

وأما الإجماع المدعى على عدم رافعيته فلا ينهض بالاستدلال لوضوح أن ذلك أمر علمي محض لا يترتب عليه العمل، ولم تتضمنه النصوص، ليعلم رأي الأصحاب والمتشرعة فيه قبل عصر تدوين الفتاوى وتفريع الفروع والتدقيق في تخريجها، يوم كان فقه الطائفة منحصراً برواياتها، كي يحتمل أو يعلم بكونه إجماعاً تعبدياً مستنداً لرأي المعصوم.

وإنما ظهر القول بذلك عند ما بدأ الأصحاب بتفريع الفروع وتخريج وجوهها لمجاراة العامة ومقارنة أقوالنا بأقوالهم من حيثية الفتوى والاستدلال، ومستنده فيما يظهر منهم هو الوجه المتقدم، حيث ذكره الشيخ في الخلاف عاضداً له ببعض النصوص المتقدمة، وجرى عليه من بعده. فهو إجماع دليلي لا ينهض بالحجية.

وأما الوجه المتقدم الذي عرفت أنه عمدة الدليل في المقام فهو إنما يتم لو كان الحدث أمراً حقيقياً تكوينياً حيث لا يعقل عوده بعد ارتفاعه ووجوده بعد انعدامه إلا بتجدد سببه. أما حيث كان أمراً اعتبارياً فمن الممكن الحكم برجوعه بعد ارتفاعه، للحكم ببطلان الرافع، بلا حاجة إلى تجدد السبب، لأن الاعتبار خفيف المؤنة.

ص: 211

وبذلك يفرق بين رجوعه للحكم ببطلان الرافع المطهر ورجوعه بتجدد السبب، فالأول رجوع للفرد الأول المستند للسبب الأول، والثاني حدوث لفرد آخر مستندللسبب المتجدد.

ولذا كان الفرق واضحاً مفهوماً بين كون الارتداد مثلاً مبطلاً للطهارة وكونه سبباً للحدث. حيث يظهر الأثر العملي بينهما فيما لو ارتد الشخص ولم يكن قد أجنب أصلاً، فإنه لا يحكم بجنابته بالارتداد على الأول ويحكم بها على الثاني.

ونظير ذلك في الاعتباريات مسقطية التهاتر للدين، فيما لو باع المدين عيناً للدائن بقدر دينه في الذمة، حيث يسقط الدين ما دام البيع نافذاً، فإذا بطل بالتقابل أو بغيره من موجبات الفسخ، عاد الدين الأول وترتبت أحكامه، دون أحكام الملك الجديد بسب جديد، فلا يجب فيه الخمس مثلاً لو كان ميراثاً. فلاحظ.

وبذلك يجمع بين رافعية التيمم للحدث التي هي مقتضى مطهريته وبطلانه بوجدان الماء، فيكون رافعاً موقتاً معرضاً للبطلان، بحيث تسقط رافعيته ببطلانه ويعود ما ارتفع به. وإلى هذا يرجع ما ذكره الشهيد في القاعدة المائة والسادسة والسبعين من كتاب القواعد والفوائد. وربما يرجع إليه ما في الدروس قال:" ويجب فيه نية الاستباحة، لا رفع الحدث. إلا أن يقصد رفع الماضي ".ونحوه عن البيان. وإلا فظاهره في غاية الغرابة، لظهور أن المتيمم ليس مستمر الحدث - كالمستحاضة - ليكون له حدث ماض ولاحق. كما نبّه لذلك في جامع المقاصد.

كما لعله إلى ما ذكرنا نظر سيدنا المصنف (قدس سره) على إيهام في كلامه، كما يظهر بمراجعة ما ذكره في مسألة ما إذا أحدث المتيمم بدلاً عن الغسل حدثاً يوجب الوضوء. فراجع. بل به صرح بعض مشايخنا (قدس سره) في توجيه رافعية التيمم وإمكان القول بها، وإن اختار بعد ذلك أنه مبيح لا غير.

ص: 212

رفعاً ناقصاً (1)

(1) لأن بدلية التيمم عن الطهارة المائية اضطرارية، والمناسب للبدلية الاضطرارية عدم وفاء البدل بتمام ملاك المبدل، فإنه وإن أمكن وفاء البدل الاضطراري في حال الاضطرار بتمام ملاك المبدل في حال الاختيار، إلا أنه خلاف المنسبق من إطلاق دليل البدلية المذكورة.

ومن ثم يفهم منه - كما سبق - فعلية ملاك المبدل وتحقق موضوعه في حال الاضطرار بنحو لا يجوز تفويته بإيقاع النفس في الاضطرار، مع أنه لا محذور في ذلك لو كان البدل الاضطراري وافياً بملاكه.

ويشهد به أيضاً قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم فيمن أجنب في السفر ولم يجد إلا الثلج:" هو بمنزلة الضرورة يتيمم ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي يوبق دينه"(1).

ويناسب ذلك استحباب إعادة الصلاة به في جملة من الموارد التي تضمنتها النصوص(2) ، وكراهة إمامة المتيمم للمتوضئين التي تضمنتها بعض النصوص أيضاً(3) ، واستحباب تحمل المشقة الشديدة في استعمال الماء التي تضمنتها نصوص آخر(4).

وبذلك يخرج عن إطلاق طهورية الأرض، خصوصاً ما تضمن أن التراب أو التيمم أحد الطهورين، وأن رب الماء هو رب الصعيد، ونحو ذلك مما يظهر منه بدواً مساواة التراب والتيمم للماء وللطهارة المائية في الطهورية المعهودة المطلوبة. ولاسيما ما كان منها مسوقاً للردع من استئناف الصلاة بالتيمم أو إعادتها بوجدان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 9.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14، 16 من أبواب التيمم.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 17 من أبواب صلاة الجماعة.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب التيمم.

ص: 213

لا يجزي مع الاختيار (1)، لكن لا تجب فيه نية الرفع ولا نية الاستباحة للصلاة (2) مثلاً.

الماء(1) ، حيث يظهر منه عدم الموضوع للاستئناف لوفاء التيمم بالمطلوب. إلا أنه لابد من الخروج عن جميع ذلك، وحمله على مجرد تحقق أصل الطهارة المطلوبة ولو بأدنى مراتبها التي يتحقق بها الإجزاء، بقرينة ما تقدم. فلاحظ.

(1) يعني مع القدرة على الطهارة المائية، أو مع فعلية التكليف بها، على ما سبق الكلام فيه في تحديد موضوع التيمم. لكن عدم إجزاء الرفع الناقص حال الاختيار فرع تحققه، وهو غير معلوم، بل لما كان مقتضى أدلة تشريع التيمم عدم مشروعيته إلا مع الاضطرار كان مقتضاها عدم حصول الرفع الناقص به في غير هذا الحال. ولذا لا إشكال في عدم الاجتزاء بالتيمم الحاصل حين القدرة على الطهارة المائية وفعلية التكليف بها حتى بعد تعذرها وسقوط التكليف بها وإن لم يتحقق الحدث الناقض له، بل لابد من إعادته حينئذٍ. وكذا بطلان التيمم بوجدان الماء حتى لو تعذر بعد ذلك، فيجب إعادته، ولا يجزي التيمم الأول. ومن ثم كان الأولى له (قدس سره) أن يقول بدل ذلك: يجزي مع الاضطرار.

(2) لعدم الدليل على وجوب أحد الأمرين. وإطلاق الأدلة الشارحة للتيمم بدفعه. لكن صرح غير واحد بوجوب نية الاستباحة. بل في جامع المقاصد: "ولا ريب في اعتبار قصد الاستباحة، لامتناع حصولها بدون النية" .وهو كما ترى مصادرة، بل مقتضى إطلاق دليل تشريعه حصولها ولو مع عدم النية. ويظهر تفصيل الكلام في ذلك مما تقدم منا في المسألة الواحدة والسبعين من مبحث الوضوء عند الكلام في النية، فإن الكلام في المقامين على نهج واحد.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14، 21 من أبواب التيمم.

ص: 214

(215)

(مسألة 30): يشترط فيه المباشرة (1) والموالاة (2)

(1) كما هو ظاهر الأصحاب ونفى في المنتهى الخلاف فيه، وظاهر كشف اللثام وصريح الحدائق دعوى الإجماع عليه، ونفى الريب فيه في المدارك. وهو كذلك لظهور نسبته للمكلف في الآيتين وغيرهما في مباشرته له، كما هو المقطوع به من النصوص البيانية أيضاً. وقد تقدم نظير ذلك في الوضوء.

(2) كما عن جماعة التصريح به، ونسبه في المنتهى إلى علمائنا، وفي الذكرى والحدائق نسبته للأصحاب، وفي المدارك إلى قطعهم، وفي جامع المقاصد والروض أن الدليل عليه الإجماع. وقد استدل عليه بوجوه:

الأول: ما في الخلاف والمعتبر من أن التيمم إنما يشرع في ضيق الوقت، فلو لم يوال فيه لخرج الوقت وفاتت الصلاة. وفيه - مع أن ذلك لا يقتضي اعتبار الموالاة في التيمم شرطاً، بل وجوبها فيه كوجوبها في الغسل لو وقع في ضيق الوقت، وأنه موقوف على عدم مشروعية التيمم في السعة -: أن المراد بضيق الوقت هو ضيقه عن الطهارة المائية، وهو لا يستلزم الموالاة المعتبرة في التيمم عندهم قطعاً.

الثاني: أن ذلك مقتضى البدلية، ولعله عليه يبتني ما في الدروس من عدم اعتبارها فيما كان بدلاً عن الغسل، وعن نهاية الأحكام احتماله. وفيه - مع مخالفته لإطلاق معاقد الإجماعات وجملة من أدلتهم في المقام - أن البدلية إنما تقتضي قيام البدل مقام المبدل في المشروعية والأثر، لا اشتراكهما في الأجزاء والشرائط.

الثالث: التيمم البياني عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) قال في الذكرى: "فيجب التأسي" .ويشكل بأن التيممات البيانية وإن صدرت في مقام شرح ماهية التيمم، فتكون ظاهرة في لزوم متابعتها، ومن القريب جداً وقوعها بنحو المولاة. إلا أن من القريب أيضاً انصراف البيان فيها للكيفية من حيثية مقدار الممسوح وكيفية المسح. ولاسيما بلحاظ صدور كثير منها في مقابل تمعك عمار بالتراب، وإنما وقعت

ص: 215

بنحو المولاة لعدم المقتضي للتراخي بعد أن كان المراد بيان تمام الأجزاء، لا لكونها شرطاً في الواجب، ولذا لم ينبه الراوي لهذه الجهة في مقام حكاية الفعل، حيث يناسب ذلك جداً انصراف البيان لغيرها.

الرابع: ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن جعل الماهية المخترعة المركبة موضوعاً لعنوان كالتيمم والوضوء والغسل والصلاة وغيرها ظاهر في كونها عملاً واحداً، ولابد في وحدته عرفاً من اتصال أجزائه بنحو لا يفصل بينها بما يخل بهيئتها عرفاً لينتزع منها صورة واحدة تكون هي موضوع ذلك العنوان، فالموالاة بالمعنى المذكور من لوازم جعل العنوان للعمل المركب، بحيث يكون من الماهيات المخترعة. وما دل في الغسل على جواز تفريقه تعبد خاص يقتصر على مورده، لمخالفته لمقتضى الأصل. ولعله إلى هذا يرجع ما في الجواهر من أن التفريق المنافي لهيئة التيمم وصورته مانع من صدق الاسم.

وفيه: أن الوحدة لما لم تكن حقيقية، بل اعتبارية فهي تابعة لاعتبار من بيده الاعتبار، وهو يختلف من حيثية اعتبار الاتصال وعدمه باختلاف الموارد، كما تختلف في ذلك الماهيات العرفية فيعتبر فيها الاتصال تارة، كما في الثوب والسيارة، والمحاضرة، ولا يبتني عليها أخرى، كما في الدولة والأسطول، والحرب.

وحينئذ إذا كان مقتضى الإطلاق أو الدليل الخاص جواز الفصل الطويل لم يخل بالوحدة المذكورة، ولا بصدق العنوان الواحد على الأجزاء المتفرقة. ولذا لم يمنع جواز التفريق في الغسل والحج والعمرة والكفارة وغيرها من اعتبار الوحدة وصدق العنوان على مجموع أجزائها مع الفصل الطويل المخل بالهيئة. وعلى ذلك يكون اعتبار الاتصال بين أجزاء المركب الواحد ذي العنوان الواحد هو المحتاج للدليل.

الخامس: استفادته من الآيتين الكريمتين إما لأن عطف التيمم بالفاء ظاهر في لزوم تعقيب التيمم بمجموع أجزائه لإرادة القيام إلى الصلاة من دون فصل، وذلك لا يكون إلا بالموالاة، كما في المنتهى والذكرى. وإما لأن عطف المسح بالفاء فيها أيض

ص: 216

ظاهر في لزوم تعقيبه على ما قبله من دون فصل. وإما لأن الأمر بالمسح فيها ظاهر في الفور.

والكل كما ترى، لأن التيمم في الآيتين الشريفتين ظاهر في القصد، لا في المعنى الشرعي المعهود. مع أن المراد بالفاء الأولى بيان ترتب وجوب التيمم على تحقق الحدث وعدم الماء، لا بيان لزوم التعجيل بالتيمم عند إرادة القيام للصلاة. والمراد بالفاء الثانية تفريع المسح على قصد الصعيد، لا بيان وجوب التعجيل به عنده. كيف ولا ريب في عدم وجوب ذلك، بل قيل بوجوب تأخير التيمم إلى آخر الوقت. كما أن المعروف عدم دلالة الأمر على الفور.

ومن ذلك يظهر إمكان الاستدلال بإطلاق الآيتين الكريمتين على عدم اعتبار الموالاة، كما هو أيضاًَ مقتضى إطلاق بعض النصوص، كخبر زرارة عن أبي جعفر: "في التيمم. قال: تضرب بكفيك الأرض، ثم تنفضهما، وتمسح بهما وجهك ويديك"(1). بل قد يستفاد من بعض النصوص البيانية، وهي المتضمنة لحكاية الإمام (عليه السلام) تيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما علم عماراً(2) ، فإنه وإن كان المظنون قوياً مولاته (صلى الله عليه وآله وسلم) في تيممه، لعدم الغرض في التراخي بعد أن كان الغرض تعليم تمام الأجزاء، كما سبق، إلا أن إهمال الإمام (عليه السلام) لذلك، وعدم التنبيه عليه في مقام الحكاية المقصود منها التعليم، واقتصاره على بيان الأجزاء قد يظهر في عدم اعتبار ما زاد عليها.

ومن هنا ينحصر الأمر بالإجماع حيث لا يبعد نهوضه برفع اليد عن مقتضى الإطلاق المذكور في مثل هذه المسألة العملية الشايعة الابتلاء، فإنه يبعد خفاء الحكم فيها عليهم. ولا يقدح فيه عدم تعرض بعض الأصحاب له، كالصدوق والمفيد والمحقق والعلامة في الشرايع والقواعد وغيرهم، لقرب غفلتهم عن ذلك بسبب تعارف التيمم بنحو الموالاة. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 8، 9.

ص: 217

حتى فيما كان بدلاً عن الغسل (1). ويشترط فيه أيضاً الترتيب على حسب ما تقدم (2)، والأحوط وجوباً البدئة من الأعلى والمسح منه إلى

بل لا ينبغي التأمل في عدم شرطيته لو تعذر، عملاً بإطلاق الأدلة بعد قصور الإجماع - لو تم - عن الفرض المذكور.

ثم إنه وإن عبر بعضهم بوجوب الموالاة في التيمم، إلا أن الظاهر إرادة الوجوب الوضعي، الراجع لكونها قيداً فيه، فيبطل مع الإخلال بها، لا التكليفي. بل هو بعيد في نفسه جداً، مدفوع بالأصل قطعاً. وما في الذكرى ويظهر من كشف اللثام ومحكي المقاصد العلية ومجمع البرهان من احتمال ذلك، أو القول به مع احتمال عدم البطلان بالإخلال به. ضعيف جداً.

هذا والظاهر أن المعيار في الموالاة على حفظ الصورة عرفاً، بحيث يعد المكلف منشغلاً بالتيمم من دون قطع له وانشغال بغيره. لأن ذلك هو المنسبق منه. وما عن الذكرى من اعتبار عدم الفصل بمقدار زمان جفاف الماء لو كان وضوءاً. غريب وبعيد عن ظاهر كلامهم جداً، لاحتياج إرادته إلى عناية لابد معها من التنبيه. نعم هو المناسب للوجه الثاني من الاستدلال. كما أني لم أجده في الموضع المناسب من الذكرى. فراجع.

(1) كما هو مقتضى إطلاق الأصحاب، وأكثر وجوه الاستدلال المتقدمة وإن كان مقتضى الوجه الثاني عدم وجوب المولاة فيه، كما تقدم عن نهاية الأحكام احتماله ومن الدروس الجزم به.

(2) إجماعاً صريحاً وظاهراً محكياً عن جماعة كثيرة. ولعل إهمال بعضهم لذكره رأساً، أو لذكر الترتيب بين الكفين، للمفروغية عنه، لا للخلاف فيه. وإلا كان المناسب التنبيه لعدم وجوبه رداً على القائلين بوجوبه.

ويكفي في الترتيب بين الضرب والمسح تفريع المسح على تيمم الصعيد في

ص: 218

الآيتين الشريفتين ولاسيما مع قوله في الثانية:" فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه "لوضوح أن مصحح نسبة المسح للصعيد المسح بأثره الحاصل من الضرب المستلزم لتقديمه. كما يكفي في الترتيب بين الوجه واليدين في المسح ظاهر النصوص البيانية الواردة لشرح التيمم وبيان كيفيته.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من إجمالها، لأن مجرد وقوع الترتيب بين الأفعال لا يدل على وجوبه بعد أن كان من ضروريات الأفعال التي يتعذر الجمع بينها. فهو إنما يتم في الفعل الابتدائي، دون مثل المقام مما كان الفعل فيه صادراً لبيان كيفية الفعل المشروع، حيث يظهر في اعتبار تمام ما اشتمل عليه من الأفعال والهيئات.

هذا وقد استدل (قدس سره) بصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في بيان تيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام تعليم عمار(1) حيث أشتمل على الترتيب بين مسح الوجه ومسح اليدين. بدعوى أن حكاية الترتيب من الإمام (عليه السلام) ظاهرة في اعتباره.

لكنه يشكل بأن الاستدلال إن كان بالترتيب منه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام تعليم عمار، فهو لا يزيد على الترتيب من الأئمة (عليهم السلام) في مقام بيان التيمم الذي تضمنته النصوص البيانية الأخر، والتي سبق الاستدلال بها.

وإن كان بلحاظ أن حكاية الإمام (عليه السلام) للترتيب في تيمم النبي ظاهرة في وجوبه، وليس كحكاية الرواة للترتيب في تيممهم (عليهم السلام). فهو إنما يتم لو كانت الحكاية منهم (عليهم السلام) في مقام تعليم التيمم، ولا يظهر من الصحيح ذلك، بل مجرد نقل قضية خارجية. على أن حكايتهم (عليهم السلام) لتيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام التعليم لا تزيد على تيممهم بأنفسهم في مقام التعليم. فالظاهر عدم الفرق بين هذا الصحيح وغيره، واستفادة اعتبار الترتيب من الكل بالتقريب المتقدم.

نعم النصوص المذكورة لم تتضمن الترتيب بين اليدين، لكن الاستدلال لم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 9.

ص: 219

الأسفل (1)

كان بالتيمم البياني، لا بنقله، فمن البعيد جداً خلوّ التيممات البيانية عنه ووقوع بعضها بعكس الترتيب. بل هو كالمقطوع بعدمه، لعدم مناسبته لمفروغية الأصحاب المذكورة، ومجرد عدم التنبيه عليه لا يمنع من استفادة الوجوب منها، ولاسيما مع قرب المفروغية عنه والاتكال على معروفيته، خصوصاً مع ثبوته في الوضوء وقرب كونهما على نحو واحد.

ويؤيده قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة حكاية عن تعليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار:" ثم مسح كفيه كل واحدة على الأخرى، فمسح اليسرى على اليمنى، واليمنى على اليسرى"(1). فإن الواو وإن تدل على الترتيب وضعاً، إلا أن من البعيد جداً حكاية الإمام (عليه السلام) لفعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعكس الترتيب.

وأظهر منه صحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التيمم. فضرب بكفيه الأرض، ثم مسح بهما وجهه، ثم ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع... ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه..."(2). فإنه وإن اشتمل في كيفية التيمم على ما لا مجال للبناء عليه، إلا أن اشتماله على الترتيب بين اليدين يناسب ما ذكرنا جداً. على أن ما يأتي في البدأة بالأعلى ينفع في المقام.

(1) على المشهور كما عن الكفاية، وعن المنتهى أنه ظاهر المشايخ، وفي مفتاح الكرامة" هو ظاهر جمهور الأصحاب ".وكأنه لظهور التحديد في كلماتهم بمن وإلى في الترتيب لا في مجرد تحديد الممسوح. لكن في بلوغ ذلك حدّ الإجماع إشكال، وفي نهوضه بالحجية على ذلك منع ظاهر. كالاستدلال عليه بأدلة البدلية، كما يظهر مما تقدم في الموالاة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 220

(221)

وطهارة الماسح والممسوح (1).

نعم لو ثبت اشتمال النصوص البيانية عليه لتعارفه وكان عدم التنبيه عليه فيها للمفروغية عنه، أتجه نهوضها بإثبات وجوبه، نظير ما تقدم في الترتيب بين اليدين. لكنه لم يثبت.

اللهم إلا أن يقال: لا إشكال في اشتمال بعضها عليه، وإلا لنبّه الأصحاب لوجوب مخالفة ذلك لو أجمعت النصوص البيانية عليه، فيكون البعض المشتمل على ذلك ظاهراً في وجوبه، ولا شاهد على اشتمال بعضها على خلافه ليرفع به اليد عن الظهور المذكور.

ولاسيما مع قرب المفروغية عنه ومع اشتمال صحيح محمد بن مسلم المتقدم في الترتيب بين اليدين عليه، حيث يناسب ذلك جداً، ومعه يشكل الرجوع لإطلاق المسح في الآيتين الكريمتين والنصوص الشريفة، خصوصاً مع سوقه فيها في مساق الغسل في الوضوء الذي ثبت إرادة ذلك فيه في الجملة. وذلك إن لم ينهض بإثبات وجوبه - بضميمة قاعدة الاشتغال - فلا أقل من نهوضه بوجوب الاحتياط فيه. فتأمل.

(1) كما في جامع المقاصد وعن جماعة، بل في شرح المفاتيح نسبته للفقهاء، وعن حاشية القواعد للشهيد الإجماع عليه. لكن لا مجال لثبوته بعد قلة التعرض لذلك من الأصحاب كما في المدارك. بل في الجواهر: "فلم أعثر على مصرح بشيء منه من قدماء الأصحاب" .وعن ابن فهد والعميدي في حواشيه التصريح بجواز نجاسة اليدين، وفي المدارك والحدائق وعن مجمع البرهان الميل إليه. ومن ثم لا مجال لدعوى الإجماع، فضلاً عن حجيته.

ودعوى: أن الإجماع وإن لم يثبت من فتوى الأصحاب، إلا أنه يمكن إثباته بملاحظة المرتكزات، الراجعة إلى أن الطهارة الحدثية فرع الطهارة الخبثية، فمع

ص: 221

(222)

(مسألة 31): مع الاضطرار يسقط المعسور ويجب الميسور، على حسب ما عرفت في الوضوء من حكم الأقطع (1)،

عدم طهارة الماسح والممسوح من الخبث لا يمكن تأثير المسح الطهارة من الحدث. فالإجماع المذكور ارتكازي لا يقدح فيه قلة المصرحين بالحكم، ولا تصريح بعضهم بخلافه لشبهة يغفل معها عن مقتضى الارتكاز.

مدفوعة بأن ذلك - لو تم - إنما ينهض باعتبار الطهارة الخبيثة للمطهر من الحدث، وهو في المقام التراب - على ما أشرنا إليه عند الكلام في اعتبار طهارته - لا الماسح الذي هو آلة التطهير - بعد أن لم تكن نجاسته مسببة لنجاسة التراب المطهر لفرض الجفاف - فضلاً عن الممسوح.

ومثله الاستدلال بأن مقتضى بدلية التيمم عن الوضوء والغسل اعتبار الطهارة في أعضائه كما تعتبر في أعضائهما. لما سبق عند الكلام في اعتبار الموالاة من عدم اقتضاء البدلية مساواة البدل للمبدل منه في الشروط. ولاسيما بملاحظة أن اعتبار طهارة أعضاء الوضوء والغسل إنما هو لتجنب نجاسة الماء المطهر، الذي لا مجال له في المقام، لفرض جفاف التراب المطهر فلا ينفعل بملاقاة الأعضاء الماسحة. ومن ثم يشكل إثبات المدعى - وإن قريباً للمرتكزات - بعد إطلاق الأدلة. فلاحظ.

(1) أما عدم سقوط التيمم في الأقطع فالظاهر عدم الإشكال فيه بينهم، وفي الجواهر: "بلا خلاف، بل لعله إجماعي إن لم يكن ضرورياً، لقاعدة الميسور" .لكن قال في المبسوط: "وإذا كان مقطوع اليدين من الذراعين سقط عنه فرض التيمم. ويستحب أن يمسح ما بقي، لأن ما أمر الله بمسحه قد عدم فيجب أن يسقط فرضه".

وقد حمله غير واحد على سقوط التيمم عن اليدين، كما صرح هو به في الخلاف، فيكون المراد باستحباب مسح ما بقي هو مسح ما بقي من اليدين، مع وجوب مسح الجبهة محافظة على الميسور من التيمم، كما يناسبه استدلاله. بل حكمه باستحباب

ص: 222

مسح ما بقي ظاهر في مفروغيته عن وجوب الصلاة، المستلزم لوجوب الطهارة لها ومشروعيتها، لسقوط الصلاة عنده عن فاقد الطهورين.

ومن ثم لا يقدح كلامه هذا في الإجماع المدعى، تبعاً للمرتكزات ولو بملاحظة ما ثبت في الوضوء والغسل، حيث يفهم من مجموع ذلك ابتناء الطهارات الثلاث على الميسور وإن لم يثبت عموم قاعدة الميسور، كما تكرر منا التنبيه له، وإلا فالبناء على سقوط الصلاة عن مثل الأقطع مما لا يظن بأحد احتماله.

ولولا ذلك لكان مقتضى الارتباطية المستفادة من الآيتين الشريفتين ومن النصوص البيانية تعذر التيمم. ولا مجال للخروج عنه بما تضمن أن الصلاة لا تسقط بحال، كما يظهر مما تقدم في أواخر الكلام في المسألة التاسعة في فصل مسوغات التيمم، وأشرنا إليه في المسألة السادسة والعشرين في فصل كيفية التيمم.

لكن ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن مقتضى الآيتين الكريمتين في مقطوع اليد الواحدة وجوب مسح الثانية، لأن الجمع في الوجوه والأيدي انحلالي بلحاظ مجموع المكلفين الراجع إلى أنه يجب على كل مكلف غسل وجهه ويديه، فإذا كان ذا يدين وجب مسحهما، وإذا كان ذا يد واحدة وجب مسحها كما ثبت في الوضوء أيضاً.

ويشكل بأن الجمع وإن كان بنحو الانحلال إلا أن المراد به مسح كلا اليدين بنحو الارتباطية لكل مكلف كما هو الحال في الوضوء أيضاً، كما يناسبه النصوص الشارحة للوضوء والتيمم. ولذا لا إشكال ظاهراً في نقصان وضوء الأقطع وتيممه، فلا يجوز اختيارهما مع إمكان المبادرة للوضوء والتيمم قبل القطع.

والاكتفاء بغسل إحدى اليدين في الوضوء إنما هو للأدلة الخاصة المطابقة للمرتكزات المشار إليها. وإنما يتجه ما ذكره لو اختلف الناس خلقة فكان لبعضهم يد واحدة ولبعضهم أكثر، لا في مثل الأقطع مما كان مشمولاً ذاتاً لأدلة التقييد، وكان الاكتفاء فيه بالميسور لأمر طارئ.

على أن ما ذكره لا يتجه في مقطوع اليدين، لأن مقتضى عطف الوجوه على

ص: 223

الأيدي وجوب الجمع بين الوجه واليد في المسح، بنحو يظهر في الارتباطية بينهما، كما هو ظاهر النصوص أيضاً. فالعمدة ما ذكرنا، لأن الجهة الارتكازية المتقدمة تقتضي الاكتفاء بالميسور في المقامين.

ودعوى: أنه حيث كان الواجب مسح الوجه باليدين فمع قطعهما معاً يتعذر الواجب المذكور، ومسحه بغيرها ليس ميسوراً منه، لأنه ليس بعضاً منه، بل مباين له، بخلاف مسحه بواحدة منهما لو قطعت الأخرى.

مدفوعة بأن المراد بالميسور في المقام ليس هو جزء الواجب - كما هو مقتضى الجمود على لفظ الميسور في قاعدته - بل ما هو الأقرب له ارتكازاً، كما يظهر بملاحظة أحكام الجبائر، وصورة تعذر المباشرة في الطهارات الثلاث، والتيمم بالغبار ونحو ذلك. ومنه يظهر عموم الحكم لموارد تعذر بعض أجزاء التيمم من غير جهة القطع، سواءً ابتنى على الاستمرار - كالشلل اللازم - أم كان موقتاً لمرض أو قيد أو نحوهما.

ثم إنه بعد فرض مشروعية التيمم في محل الكلام فحيث لا دليل على كيفيته يكون مقتضى القاعدة الإتيان بكل ما يحتمل دخله فيه، سواء احتمل وجوبه بدواً أم علم إجمالاً بوجوبه أو وجوب أمر آخر، خروجاً عن مقتضى قاعدة الاشتغال بالطهارة المفروض مشروعيتها ووجوبها مقدمة للصلاة ونحوها.

إلا أن الارتكازيات المشار إليها آنفاً المقتضية للاكتفاء بالميسور كما تنهض بإثبات مشروعية التيمم قد تنهض بتعيين الكيفية الميسورة، فيجب العمل بها إذ لولا حجيتها لم تشرع الطهارة ولم يجب التيمم الناقص رأساً، ولا وجه مع ذلك للتعويل على الاحتمالات البعيدة أو غير العرفية.

فمثلاً في مقطوع اليد الواحدة إذا كان لها بقية يمكن الضرب والمسح بها - كالذراع - الميسور عرفاً هو الضرب بالبقية مع كف اليد السالمة لكن ليس لإشراكه في مسح الوجه مع كف اليد السالمة، بل لمسح ظهر كف اليد المذكورة مع مسح تمام الوجه بتلك الكف، لأنه أقرب عرفاً وارتكازاً من مسح بعض الوجه ببقية اليد المقطوعة

ص: 224

وذي الجبيرة (1)،

التي هي ليست من أعضاء التيمم، فضلاً عن مسح بعض الوجه بكف شخص آخر أو بالأرض رأساً. كما أن مسح ظهر كف اليد الصحيحة ببقية اليد المقطوعة أقرب من مسحه بكف شخص آخر أو بالأرض رأساً.

نعم لو لم يبق من اليد المقطوعة ما يمكن المسح به أتجه مسح اليد السالمة بالأرض، وهو أقرب من مسحه بكف شخص آخر، لأن المباشرة أهم عرفاً من كون المسح بالآلة، لا بالأرض رأساً. وإن كان الجمع بين الأمرين حسناً، بل قد يكون لازماً، لعدم بلوغ الأقربية حداً يكفي في الخروج عن مقتضى قاعدة الاشتغال.

ومنه يظهر الحال في مقطوع الكفين معاً، حيث يتعين عليه الضرب بالباقي من اليد أو اليدين، ومسح الوجه به مع إمكانه، أما مع تعذره فيتعين مسح الوجه بالأرض، وضمّ مسحه بكف الغير احتياطاً. وكذا الحال في غير مقطوع اليد ممن يتعذر عليه الضرب بها لشلل أو مرض أو قيد. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) فقد تقدم في آخر المسألة الثامنة والثلاثين من فصل الجبائر في الوضوء أن الجبيرة تجري في التيمم، وأن العمدة فيه صحيح كليب: "سألت أباعبد الله (عليه السلام) عن الرجل إذا كان كسيراً كيف يصنع بالصلاة؟ قال: إن كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره وليصل"(1). وانصرافه إلى التخوف من استعمال الماء ليس بحد يمنع من التمسك بإطلاقه. ولاسيما مع اعتضاده بقرب فهم عدم الخصوصية للوضوء والغسل في نصوص الجبيرة فيهما، لاشتراك الكل في عدم مباشرة الطهور لموضع الغسل والمسح، وبظهور مفروغية الأصحاب عن ذلك وقضاء المرتكزات المتشرعية به تبعاً لذلك.

هذا وقد استدل عليه بعض مشايخنا تارة: بما يتضمن تيمم الكسير، كمرسل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 225

ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: يتيمم المجدور والكسير بالتراب إذا أصابته جنابة"(1). بدعوى غلبة وقوع الكسر في أعضاء التيمم وتعارفه.

وأخرى: بما تضمن عدم سقوط الصلاة بحال، لحكومته على أدلة الارتباطية بين الأجزاء والشرائط في سائر الموارد، ومنها المقام.

لكن يظهر ضعف الثاني مما تقدم في المسألة التاسعة في فصل مسوغات التيمم، وأشرنا إليه في المسألة السادسة والعشرين في فصل كيفية التيمم.

وأما الأول فيندفع بأن النصوص المذكورة - مع غض النظر عن ضعفها على مسلكه - إنما تضمنت مشروعية التيمم للكسير من دون أن تنهض ببيان كيفيته المشروعية، فإذا كان مقتضى أدلة شرح التيمم عدم صحته مع الجبيرة لم تنهض هذه النصوص ببيان صحته ومشروعيته.

ولذا لا يظن منه ولا من غيره البناء على نهوض إطلاق هذه النصوص بإثبات صحة التيمم للكسير لو تعذر عليه المسح حتى على الجبيرة، أو مع طهارة التراب أو الماسح أو الممسوح أو غير ذلك مما قد يبتلي به الكسير.

نعم لو كان حصول الكسر والجبيرة في أعضاء التيمم من الكثرة بحدّ يتعذر عرفاً معها خروجه عن إطلاق النصوص المذكورة، لاستلزامه حملها على الفرد النادر، كانت تلك النصوص دليلاً على مشروعية التيمم مع الجبيرة، لكونه لازماً لمؤداها عرفاً. لكنه ليس كذلك قطعاً.

ومن ثم كان الظاهر انحصار الدليل على مشروعية التيمم على الجبيرة بما ذكرنا. نعم هو مختص بما إذا كانت الجبيرة على الممسوح ولا يعم ما إذا كانت على الماسح كباطن الكفين، فلابد في التعميم من إلغاء خصوصيته عرفاً، وهو غير بعيد.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 226

(227)

والحائل (1)، والعاجز عن المباشرة (2) كما يجزي هنا حكم اللحم الزائد واليد الزائدة (3) وغير ذلك.

(مسألة 32): العاجز ييممه غيره، ولكن يضرب بيدي العاجز ويمسح بهما مع الإمكان (4)

(1) ففي الصحيح عن أبي الورد عن أبي جعفر (عليه السلام) في المسح على الخفين: "فقلت: فهل فيهما رخصة؟ فقال: لا إلا من عدو تتقيه أو ثلج تخافه على رجليك"(1). وهو وإن كان مختصاً بالوضوء، إلا أن إلحاق التيمم به في ذلك قريب جداً بلحاظ ما سبق في وضوء الأقطع، خصوصاً مع عموم حكم الجبائر. فلاحظ.

(2) فتجب عليه الاستنابة عند علمائنا كما في المدارك، وبلا خلاف، كما في الجواهر. ويقتضيه صحيح ابن أبي عمير عن محمد بن مسكين [سكين] وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قيل له: إن فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات. فقال: قتلوه، ألا سألوا؟ ألا يمموه؟ إن شفا العي السؤال "(2) وفي صحيحه الآخر عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام):" قال: يؤمم المجدور والكسير إذا أصابتهما الجنابة"(3). وهما محمولان على صورة تعذر المباشرة، كما يناسبه ما في الأول من فرض تغسيل المجدور وعدم اغتساله. مضافاً إلى ما سبق في الأقطع وذي الجبيرة والحائل، حيث يجري نظيره في المقام.

(3) للتشابه في لسان الأدلة بين الوضوء والتيمم.

(4) كما في جامع المقاصد والمدارك وعن ظاهر الذكرى. ويقتضيه ما تقدم عند الكلام في النية من ظهور الأدلة في أن الضرب بكف المتيمم أول أجزاء التيمم، لا من مقدماته، وما تقدم في صحيح المفضل بن عمر من أن باطن اليدين الذي يكون به

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 38 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 1، 10.

ص: 227

الضرب والمسح من أعضاء التيمم، حيث يتعين حينئذٍ المحافظة على ذلك مع الإمكان والاقتصار في الخروج عن مقتضى الواجب الأولي على المباشرة.

لكن قد يظهر من الجواهر الميل إلى أن الضرب والمسح يكون بيدي النائب المباشر - وإن اعترف بعدم الوقوف على قائل بذلك - لأصالة البراءة من وجوب الأول، بل هو خلاف إطلاق الأمر بالتولية. بل قد لا يجتزأ بالضرب والمسح بيد العليل، لعدم استناد المسح إليه، فتكون بالنسبة للعامل كالآلة الأجنبية. مع تركهم هذا التفصيل في الطهارة المائية، بل ظاهر أمر الصادق (عليه السلام) الغلمة بحمله وتغسيله(1) عدمه، لتمكن الغلمة من تحريك الماء بيديه (عليه السلام)، ولم يلزمهم (عليه السلام) به.

والكل كما ترى! لأن الأصل في المقام هو الاشتغال لا البراءة. وإطلاق الأمر بالتولية لما كان وارداً مورد الاضطرار كان اللازم حمله على ترك خصوص ما تعذر وهو المباشرة مع حفظ تمام ما يعتبر في التيمم. بل لما كان المراد بالتولية التولية في التيمم كان مقتضاه تحقيق التيمم بتمام أجزائه، ومنها المسح والضرب بيد الميمم، كما سبق. وحينئذٍ فالذي يكون كالآلة الأجنبية هو يد النائب لا يد الميمم.

ومنه يظهر الفرق بين التيمم والطهارة المائية، لأن الصب وتحريك الماء مقدمة للغسل الواجب في الطهارة المائية، ولا يعتبر فيه خصوص يد المتطهر، بل يكفي وصول الماء بأي وجه اتفق ولو بمثل نزول المطر. غايته أنه يجب أن يستند للمتطهر مع القدرة، وهو متعذر في المقام حتى مع تحريك الغير للماء بيد المتطهر، لأن وصول الماء حينئذ يستند للمحرك، لا للمتطهر.

وأشكل منه ما عن ابن الجنيد من أن النائب يضرب بيديه الأرض، ثم يضرب على يدي المريض، ثم يمسح بيدي المريض. فإن رفع اليد عن الضرب بيدي المريض مع التمكن منه بلا وجه. مع أن المسح حينئذٍ لا يكون بأثر الأرض الحاصل باليد عند ضربها بها الواجب بمقتضى أدلة شرح التيمم، بل بأثر أثرها، وحصوله فضلاً عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 228

(229)

ومع العجز يضرب المتولي بيدي نفسه ويمسح بهما (1).

(مسألة 33): الشعر المتدلي على الجبهة يجب رفعه ومسح البشرة تحته (2)، وأما الثابت فيها فالظاهر الاجتزاء بمسحه (3).

الاكتفاء به يحتاج إلى الدليل. ومن ثم لا مخرج عن الوجه الأول.

(1) اقتصاراً في التيمم على الميسور بالتقريب المتقدم في الأقطع. نعم قرب في كشف اللثام لزوم ضرب النائب بيديه الأرض، ثم يضرب بهما على يدي المريض، ويكون المسح بيدي المريض مع الإمكان، نظير ما تقدم عن ابن الجنيد. لكنه يشكل بما سبق من أن المسح لا يكون بأثر الأرض، بخلاف ما لو كان المسح بيد النائب. ومن ثم كان هو الأقرب عرفاً وارتكازاً، فيتعين. نعم يحسن ضمّ ما ذكره إليه احتياطاً.

(2) لأنه حائل عرفاً، والمستفاد من أدلة شرح التيمم وجوب مسح البشرة، فإنها هي الجبهة والجبين.

(3) ففي الجواهر: "الأقوى عدم وجوب استبطانه حتى لو كان التيمم بدل الغسل، وحتى فيما لا ينبت فيه غالباً، كالجبهة. بل يمكن القول بعدم وجوب استبطان شعر الأغم، وهو من كان قصاص شعره على بعض الجبهة أيضاً للعسر والحرج. فتأمل جيداً" .لكن العسر والحرج وإن كفى في سقوط مسح البشرة، فيجب المسح على الحائل، لما تقدم، إلا أنه لا يطرد.

نعم قد يستفاد عدم وجوب الحلق من السكوت عنه في النصوص مع غفلة العرف عنه. ولاسيما مع عدم الأشكال في عدم وجوب حلق الحاجبين لو غلظا بحيث شغلا قسماً من عظم الجبهة. والأمر في الكفين أظهر، لغلبة نبات الشعر فيهما، وكثيراً ما يكون كثيفاً، فيكون مانعاً من مسح ما تحته من البشرة، فلو لزم استيعاب البشرة لوقع الهرج والمرج وكثر السؤال عن ذلك.

ص: 229

(مسألة 34): إذا خالف الترتيب بطل مع فوات الموالاة وإن كانت لجهل أو نسيان (1)، أما لو لم تفت صح إذا أعاد على نحو يحصل به الترتيب (2).

(مسألة 35): الخاتم حائل (3) يجب نزعه حال التيمم.

(مسألة 36): الأحوط وجوباً اعتبار إباحة الفضاء الذي يقع فيه التيمم (4) بل إذا كان التراب في إناء مغصوب لم يصح الضرب عليه (5) إل

(1) وفي جامع المقاصد: "وهو إجماع علمائنا" .لإطلاق دليل اعتبار الترتيب الشامل لحال الجهل والنسيان. نعم قد يقال: هذا إنما يتم مع عدم التدارك على ما يطابق الترتيب، أما معه فالإخلال إنما يكون بالمولاة، وحيث ينحصر الدليل عليها بالإجماع - لو تم - كما سبق، فاللازم في البناء على البطلان من عمومه لصورة الفوت عن جهل أو نسيان، ولا طريق لإحراز ذلك بعد كونه دليلاً لبياً، بل المتيقن منه صورة الإخلال العمدي. فلاحظ.

(2) لعدم الدليل على مبطلية الفعل الذي خولف به الترتيب لما سبقه، كي يجب الاستئناف، والإطلاق يدفع ذلك.

(3) كما في القواعد وغيره. لكن المتيقن منه حال المسح، أما حال الضرب فكثيراً ما لا يكون حائلاً لعدم مماسة ما تحته للأرض حال الضرب مع نزعه إذا كانت صلبة، وحينئذٍ يشكل ما في جامع المقاصد وكشف اللثام من تعميم وجوب نزعه لحال الضرب.

(4) بل هو المتعين. لأن حركة الأعضاء في المسح والضرب تصرف في الفضاء المذكور، فتحرم ويمتنع التقرب بها فيبطل التيمم. نعم هو يختص بحال الالتفات لذلك، إذ مع عدمه لا يمتنع التقرب.

(5) يظهر الحال فيه مما سبق.

ص: 230

أن يكون كبيراً جداً بحيث لا يصدق على الضرب فيه التصرف في الإناء.

(مسألة 37): إذا شك في جزء منه بعد الفراغ لم يلتفت (1). وكذا لو شك في جزء منه بعد التجاوز عن محله (2). وإن كان الأحوط استحباباً التدارك (3).

(1) لقاعدة الفراغ التي كان مورد بعض أدلتها الشك في الطهارة.

(2) لقاعدة التجاوز، بناء على ما هو الظاهر من عمومها لغير الصلاة، واختصاص المخرج عنها بالوضوء، وعدم إلحاق الغسل والتيمم به، على ما سبق تفصيل الكلام فيه في المسألة السابعة والثلاثين في فصل أحكام الجنابة. فراجع.

(3) خروجاً عن شبهة الخلاف، إما لدعوى اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة، أو لدعوى إلحاق الغسل والتيمم بالوضوء الذي ثبت عدم جريانها فيه.

(1) إجماعاً، كما في المعتبر والقواعد وعن كثير من كتب الأصحاب. وقد يبتني على ما عليه جماعة من عدم جواز الطهارة للصلاة قبل وقتها، لعدم الأمر بالصلاة حينئذٍ، ليدعو للطهارة التي هي مقدمة لها، كي يمكن التقرب بالطهارة بالإتيان بها بالداعي المذكور.

ص: 231

ص: 232

(233)

الفصل الخامس

لا يجوز التيمم لصلاة مؤقتة قبل دخول وقتها (1)،

لكن المبنى المذكور ضعيف، إذ لو تم عدم داعوية أمر الصلاة للطهارة قبل الوقت - حيث لا مجال لإطالة الكلام في ذلك، بل هو موكول لبحث مقدمة الواجب من الأصول - إلا أن ما هو الشرط في الصلاة ليس هو خصوص الطهارة المأتي بها بداعي أمر تلك الصلاة، بل مطلق الطهارة ولو بداعٍ آخر، غاية الأمر أن الطهارة لما كانت عبادة فلابد من الإتيان بها بوجه قربي، ويكفي في مقربيتها الإتيان بها قبل الوقت من أجل التهيؤ لامتثال أمر الصلاة في الوقت، على ما أطلنا الكلام فيه في المسألة الواحدة والسبعين من مباحث الوضوء، عند الكلام في النية، وفي المسألة المائة منها، عند الكلام في الوضوء التهيئي من الوضوءات المستحبة. فراجع.

ومن ثم كان مقتضى عموم بدلية التراب عن الماء مشروعية التيمم للصلاة قبل الوقت، بعد فرض تحقق مسوغه من عدم وجدان الماء ونحوه.

لكن استشكل في ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) بدعوى: أنه تعالى كنى عن دخول الوقت بقوله: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا..."(1). فالآية لا تنهض بإثبات

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

ص: 233

مشروعية الطهارات الثلاث إلا بعد الوقت.

غاية الأمر أنه ثبت مشروعية الغسل والوضوء قبل الوقت، لأن الغسل مستحب نفسي في جميع الأوقات، بل قيل بوجوبه النفسي. كما أن الوضوء قد ثبت مشروعيته واستحبابه في كل وقت، ولم يثبت ذلك في التيمم، بل يقتصر في مشروعيته على دخول الوقت وتحقق الحاجة إليه.

ويندفع ما ذكره أولاً: بأن القيام إلى الصلاة في الآية الشريفة ليس كناية عن دخول الوقت بحيث تكون الآية مسوقة لبيانه، غاية الأمر أن المكلف لا يقوم للصلاة إلا بعد دخول وقتها، لكن من المعلوم أن الخصوصية المذكورة ملغية عرفاً، وأن المفهوم من الآية الشريفة بيان شرطية الطهارة للصلاة، وأنه لا يمكن الإتيان بها إلا بعد الطهارة، خصوصاً بناء على ما تضمنه موثق ابن بكير(1) من أن المراد بالقيام إلى الصلاة القيام من النوم، حيث لا يكون المراد بالآية إلا بيان سببية النوم للحدث ولزوم الطهارة منه مقدمة للصلاة من دون نظر إلى وقت إيقاع الطهارة وإلا فمقتضى الجمود على التعبير بالقيام للصلاة قصور الآية عن إثبات مشروعية الطهارة قبل القيام للصلاة حتى بعد الوقت مع القطع بعمومه لذلك، وليس هو إلا لما سبق.

على أن الآية الثانية كالصريحة فيما ذكرنا، فإن قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا... "(2) غير مسوق إلا لبيان مانعية السكر والجنابة من الصلاة، ولزوم الطهارة من الجنابة مقدمة للصلاة من دون نظر إلى وقت إيقاع الطهارة.

وثانياً: بأن ما تضمن مشروعية الغسل والوضوء قبل الوقت إنما اقتضى مشروعيتهما من حيثية كونهما سبباً للطهارة، ومقتضى عموم بدلية التيمم عنهما المستفادة من مثل قولهم (عليهم السلام):" التراب أحد الطهورين ".و:" يكفيك الصعيد عشر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(2) سورة النساء الآية: 43.

ص: 234

(235)

ويجوز عند ضيق وقتها وفي جوازه في السعة إشكال (1).

سنين "وغيرهما عند تحقق مسوغه من عدم وجدان الماء ونحوه، والتقييد فيه بدخول الوقت يحتاج إلى دليل.

وثالثاً: أنه التزم قدس سره بمشروعية التيمم قبل الوقت عند تعذره في الوقت، أو عند اعتبار الطهارة في تمام الوقت - كما قيل به في الصوم - مع عدم الدليل على ذلك بالخصوص، فإن بني على قصور دليل تشريعه عما قبل الوقت - لما سبق - لم تنهض الحاجة للطهارة بتشريعه، بل يتعين البناء على تعذر الطهارة، وجريان بيان حكم فاقد الطهورين.

ومن هنا ينحصر الدليل في المقام بالإجماع المدعى في كلامهم، وفي نهوضه بالخروج عن مقتضى الإطلاقات إشكال، لاحتمال ابتنائه على ما سبق ضعفه، مع عدم وضوح كونه إجماعاً تعبدياً ينهض بالحجية بعد عدم دعواه إلا من المحقق ومن بعده، من دون أن يظهر التعرض له من القدماء، وإنما الخلاف بين من تقدم في جواز البدار في أول الوقت وعدمه، الذي يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، ويبدو منهم أن موضوع كلامهم البدار للصلاة معه، لا البدار به بنفسه ليكشف عن مفروغيتهم عن عدم جواز تقديمه على الوقت.

(1) حيث حكى المنع منه مطلقاً عن المشهور تارة، وعن مشهور القدماء أخرى، وعن الأكثر ثالثة، وفي السرائر أنه مذهب جميع أصحابنا إلا من شذ ممن لا يعتدّ بقوله، لأنه عرف باسمه ونسبه، بل في الانتصار والناصرية والغنية وغيرها الإجماع عليه.

وظاهر الإرشاد ومحكي التحرير والبيان وظاهر الجعفي وغيرها. وحكي أيضاً عن الصدوق (قدس سره). وعن ابن الجنيد جواز التقديم - بل رجحانه - إذا علم أو ظن باستمرار فقد الماء. وقواه في المعتبر، وكأنه لحكمه بأن من تيمم وصلى ثم وجد الماء

ص: 235

وهو في وقت فلا إعادة عليه. وبه يخرج عن ظاهر قوله في المقنع:" واعلم أنه لا يتيمم الرجل إلا أن يكون في آخر الوقت".

وجرى عليه في التذكرة والقواعد والمختلف وجامع المقاصد واللمعة ومحكي نهاية الأحكام والفخرية وغيرها. وفي جامع المقاصد:" عليه أكثر المتأخرين "،وفي الروضة أنه أشهر الأقوال بينهم.

ومنشأ اختلاف الأقوال هو الاختلاف في مقتضى القاعدة، واختلاف الأخبار، كما سيأتي التعرض لها.

هذا وحيث كانت إطلاقات مشروعية التيمم واردة مورد الاضطرار كانت منصرفة لوجود المسوغ - من فقد الماء أو تعذر استعماله أو غيرهما - في تمام الوقت. ولا يهم مع ذلك تحقيق أن مقتضى إطلاقها اللفظي الاكتفاء بحصول المسوغ عند إرادة الغاية التي يشرع لها التيمم، إذ لا أثر للإطلاق مع الانصراف المذكور.

ويترتب على ذلك مشروعية التيمم واقعاً باستمرار العذر في تمام الوقت، فيجوز الإتيان به من أول الوقت برجاء استمراره وإن لم يكن مظنوناً، وتكون صحته مراعاة بذلك.

نعم لا يجوز الإتيان به مع القطع بعدم الاستمرار، لتعذر التقرب به المعتبر فيه بمقتضى عباديته. كما يترتب عليه عدم مشروعيته واقعاً مع عدم استمرار العذر وإن قطع المكلف باستمراره، بل ينكشف عند ارتفاع العذر بطلانه من أول الأمر. فإن رجع القول الثالث الذي تضمن التفصيل المتقدم إلى ذلك كان دليله ما ذكرنا من الانصراف، وإلا كان مبنياً على نحو من الجمع بين النصوص يأتي الكلام فيه.

هذا وقد تضمنت جملة من النصوص المنع من البدار بالتيمم قبل تضيق الوقت، ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سمعته يقول: إذا لم تجد ماء وأردت التيمم فأخر التيمم إلى آخر الوقت، فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض"(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 236

وفي موثق ابن بكير عنه (عليه السلام): "قلت له: رجل أمّ قوماً وهو جنب وقد تيمم وهم على طهور. قال: لا بأس. فإذا تيمم الرجل فليكن ذلك في آخر الوقت، فإن فاته الماء فلن تفوته الأرض"(1).

وفي موثقه الآخر:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أجنب فلم يجد ماء يتيمم ويصلي؟ قال: لا حتى آخر الوقت، إنه إن فاته الماء لم تفته الأرض"(2).

وفي موثق زرارة: "إذا لم يجد المسافر الماء فليمسك ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم وليصل في آخر الوقت..."(3). لكن رواه الكليني بسند صحيح هكذا:" إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت... "وهو أجنبي عن محل الكلام، فيكون اضطراب متنه مانعاً من التمسك به في المقام. فتأمل.

مضافاً إلى ما تضمن الأمر بالإعادة، كصحيح يعقوب بن يقطين:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل تيمم فصلى، فأصاب بعد صلاته ماء، أيتوضأ ويعيد الصلاة، أم تجوز صلاته؟ قال: إذا وجد الماء قبل أن يمضي الوقت توضأ وأعاد، فإن مضى الوقت فلا إعادة عليه"(4).

اللهم إلا أن يقال: الحكم فيه بعدم الإعادة بعد الوقت مستلزم لمشروعية التيمم الذي صلى به، ومقتضى التفصيل فيه بين وجدان الماء في الوقت ووجدانه بعد الوقت عموم مشروعية التيمم لما إذا كان قد وقع في سعة الوقت. ومن ثم لا ينهض بالاستدلال في المقام. والعمدة صحيح محمد بن مسلم والموثقان. وكأنها هي الوجه في القول الأول.

لكنها معارضة بجملة أخرى من النصوص ظاهرة أو صريحة في مشروعية التيمم في سعة الوقت. كصحيح يعقوب بن يقطين المتقدم، وصحيح زرارة: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإن أصاب الماء وقد صلى بتيمم وهو في وقت؟ قال: تمت صلاته

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب التيمم حديث: 3، 4.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 3، 8.

ص: 237

ولا إعادة عليه"(1). وقريب منه صحيح أبي بصير(2). وحديث معاوية بن ميسرة، بل صحيحه:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل في السفر لا يجد الماء تيمم فصلى، ثم أتى الماء وعليه شيء من الوقت، أيمضي على صلاته أم يتوضأ ويعيد الصلاة؟ قال: يمضي على صلاته، فإن رب الماء هو رب التراب"(3). وقريب منه في التعليل المذكور موثق يعقوب بن سالم(4) وخبر علي بن سالم(5) وكذا النصوص الكثيرة الآتية في المسألة التاسعة والثلاثين الواردة في وجدان الماء في أثناء الصلاة(6).

بل قد يستفاد من بعض ما أطلق فيه عدم الإعادة من دون تنبيه على بقاء الوقت، كصحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أجنب، فتيمم بالصعيد وصلى، ثم وجد الماء. قال: لا يعيد. إن رب الماء رب الصعيد، فقد فعل أحد الطهورين"(7) ، وصحيح العيص:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي الماء وهو جنب وقد صلى. قال: يغتسل ولا يعيد الصلاة"(8). لا بلحاظ عموم التعليل في الأول، فإن شموله للمقام فرع مشروعية التيمم في سعة الوقت التي هي محل الكلام، بل لأن احتمال خصوصية وجدان الماء في وجوب الإعادة إنما يتجه لو كان المراد به وجدانه في الوقت، حيث يحتمل معه انكشاف عدم مشروعية التيمم، أما لو كان المراد به وجدانه بعد الوقت فلا خصوصية لوجدان الماء في وجوب الإعادة، بل مرجع وجوب الإعادة حينئذٍ إلى عدم إجزاء الصلاة بالتيمم - وإن كانت مشروعة بل واجبة - عن الصلاة بالطهارة المائية، لعدم كونها بدلاً اضطرارياً، بل ميسوراً لا يجزي عن المعسور. ومن ثم كان ظهورهما في إرادة الوجدان في سعة الوقت قريباً جداً. ولا أقل من كونهما مؤيدين للنصوص المتقدمة الكثيرة الواضحة الدلالة. وكأنها هي المستند للقول الثاني.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 9، 11.

(3و4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 13، 14، 17.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم.

(7و8) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 15، 16.

ص: 238

هذا وقد يجمع بين هذه الطائفة والطائفة الأولى بوجوه كثيرة لا مجال لاستقصائها، لظهور ضعف جملة منها، ولنقتصر منها على وجوه ثلاثة:

الأول: حمل الطائفة الأولى على التأخير لآخر الوقت عرفاً غير المنافي لوجدان الماء بعد الفراغ من الصلاة أو في أثنائها، دون التأخير لآخر الوقت دقة كي لا يجتمع مع وجدان الماء بعد الفراغ. وحينئذٍ لا يكون الحكم في الطائفة الثانية بعدم إعادة الصلاة بوجدان الماء منافياً للحكم في الطائفة الأولى بعدم جواز البدار ووجوب التأخير.

لكنه كما ترى، لأن حمل الطائفة الأولى على التأخير لآخر الوقت دقة وإن كان متعذراً لعدم تيسر ضبط الآخر بالنحو المذكور الملزم بحمله على التأخير لآخر الوقت عرفاً، إلا أنه لما كان منشأ الأمر بالتأخير ارتكازاً هو الاهتمام بالطهارة المائية، فالمناسب لذلك هو التأخير إلى أن يخشى فوت أصل الصلاة الذي هو أهم من فوت الطهارة المائية، كما هو المناسب للتعليل في جملة منها بأنه إن فاته الماء لم تفته الأرض، الظاهر في المفروغية عن عدم كون التأخير بالنحو الذي يعرض أصل الصلاة للفوت، بل هو صريح موثق زرارة لو غض النظر عما تقدم من اضطراب متنه. والظاهر أن ذلك هو مراد القائلين بعدم جواز البدار، وإلا كان الحمل المذكور بلا شاهد.

ومن الظاهر أن ذلك مما تأباه نصوص الطائفة الثانية، إذ هي كالصريحة في سعة الوقت للطهارة المائية والصلاة. ولاسيما مع عموم بعضها لما إذا كانت الطهارة هي الغسل، ومع ظهور نصوص كلتا الطائفتين في أن المراد بالوقت هو وقت الإجزاء المقتضى لسعة الوقت لإعادة صلاتين لا صلاة واحدة.

بل في بعض نصوص الطائفة الثانية أن وجدان الماء بسبب سير المصلي من المكان الذي صلى فيه للمكان الذي فيه الماء، ومن الظاهر أن ذلك لا يناسب إيقاع الصلاة في آخر الوقت مهما فسر به.

بل عدم التنبيه في جميع نصوص هذه الطائفة للزوم التأخير لآخر الوقت وأن

ص: 239

صحة الصلاة بالتيمم إنما تختص بذلك يجعلها كالصريحة في جواز البدار للصلاة وعدم وجوب تأخيرها. ومن ثم كان الجمع المذكور موهوناً جداً.

الثاني: حمل الطائفة الأولى على إحداث التيمم في أول الوقت، والثانية على الصلاة بتيمم سابق لصلاة سابقة، كما قد يظهر من المبسوط، حيث صرح بعدم جواز التيمم إلا في آخر الوقت عند خوف فوت الصلاة، وأنه لو تيمم في أول الوقت لم يستبح به الصلاة، ولو صلى به أعاد الصلاة بتيمم مستأنف أو وضوء إن وجد الماء، ثم ذكر أن التيمم لا ينتقض بخروج الوقت، بل ينتقض بوجدان الماء، وذكر حكم وجدانه في أثناء الصلاة، وأنه يمضي في صلاته، ثم يتطهر للصلوات الآتية. وقد يبتني عليه ما يأتي منه في المسألة الآتية. وكأنه لتضمن الطائفة الأولى المنع من البدار للتيمم ثم الصلاة، لا للصلاة بتيمم، لتشمل من سبق منه التيمم لصلاة سابقة قد مضى وقتها.

لكنه يشكل بأن اختصاص الطائفة الأولى بذلك لا يكفي في حمل الطائفة الثانية على خصوص من سبق منه التيمم بعد صراحة بعض نصوصها في فرض إحداث التيمم للصلاة. فلاحظ صحيحي أبي بصير ومعاوية بن ميسرة وموثق يعقوب بن سالم وخبر علي بن سالم المتقدمة، وصحيح محمد بن مسلم بناء على أنه من نصوص المسألة، حيث يمتنع أو يصعب تنزيلها على من سبق منه التيمم لغير الصلاة التي يجد الماء في وقتها.

على أن من القريب إلغاء خصوصية إحداث التيمم في نصوص الطائفة الأولى، على ما يأتي تفصيل الكلام فيه في المسألة الآتية. ومن ثم لا مجال للتعويل على الجمع المذكور.

الثالث: حمل الطائفة الثانية على ما إذا كانت الصلاة بالتيمم لليأس من وجدان الماء في أثناء الوقت، وحمل الطائفة الأولى على صورة رجاء وجدان الماء في الوقت، كما جرى عليه سيدنا المصنف (قدس سره). ويناسبه التفصيل المتقدم في القول الثالث وإن لم

ص: 240

يطابقه. وكأنه لظهور التعليل في جملة من نصوص الطائفة الأولى بأنه إن فاته الماء لم تفته الأرض في رجاء وجدان الماء في الوقت.

ويشكل بأن التعليل المذكور ظاهر في كون رجاء وجدان الماء حكمة لاحظها الشارع الأقدس عند الأمر بالتأخير، لا علة يدور الحكم مدارها ويعمل المكلف عليها. ولازم ذلك كون الملحوظ هو رجاء الشارع الأقدس، لا رجاء المكلف، وعموم الأمر بالتأخير لما إذا تحقق للمكلف اليأس من وجدان الماء، ومن ثم يكون الجمع المذكور تبرعياً خالياً عن الشاهد.

بل يبعد جداً حمل الطائفة الثانية على صورة خصوص اليأس من وجدان الماء مع ورود بعضها في السفر، حيث يصعب القطع بعدم الماء في المنازل اللاحقة. بل إهمال التنبيه فيها لوقوع التيمم مع اليأس خطأ موجب لقوة ظهورها في العموم لغير صورة اليأس.

مضافاً إلى عدم مناسبة الجمع المذكور لصحيح محمد بن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قلت له: رجل تيمم ثم دخل في الصلاة، وقد كان طلب الماء فلم يقدر عليه، ثم يؤتى بالماء حين يدخل في الصلاة. قال: يمضي في الصلاة. واعلم أنه ليس ينبغي لأحد أن يتيمم إلا في آخر الوقت"(1). فإن ظهوره في الردع عما وقع من الصلاة بتيمم مع صحتها لا يناسب اختصاص مشروعية التيمم وصحة الصلاة معه بصورة اليأس، واختصاص النهي عن البدار بصورة عدم اليأس برجوعه إلى مباينة مورد النهي لمورد الحديث وعدم وروده للردع عنه. ومن ثم لا مجال للبناء على الجمع المذكور.

نعم لا بأس بالبناء على كون الأمر بالتأخير طريقياً لإحراز عدم الوجدان في تمام الوقت، الذي تقدم أنه موضوع مشروعية التيمم بمقتضى القاعدة. لأن ذلك هو المناسب لاهتمام الشارع بالطهارة المائية ارتكازاً، وللتعليل المذكور. وإلا فمن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 241

(242)

البعيد جداً كونه شرطاً تعبدياً للطهارة الترابية، بحيث لا تشرع في أول الوقت ولو مع استمرار عدم الوجدان واقعاً والعلم بذلك. بل يصعب حمل إطلاقات مشروعية التيمم - كالآيتين ونحوهما - عليه جداً... إلى غير ذلك مما يظهر بالتأمل، حيث يكفي ذلك في انصراف الأمر بالتأخير لما ذكرنا، فيطابق القاعدة.

غاية الأمر أن البناء على كون الأمر المذكور إلزامياً لا يناسب نصوص الطائفة الثانية المتضمنة صحة الصلاة مع مخالفته. ومن ثم كان الظاهر الجمع بين الطائفتين بحمل الأمر المذكور على الاستحباب احتياطاً لتحصيل الطهارة المائية، فإن ذلك أقرب عرفاً من جميع الوجوه المتقدمة. ويشهد به صحيح محمد بن حمران المتقدم، لأن الجمع فيه بين صحة الصلاة والأمر بالتأخير لا يناسب وجوب التأخير وإن كان طريقياً، بل يتعين معه حمل الأمر بالتأخير على الاستحباب.

ويترتب على ذلك أنه مع استمرار عدم الوجدان في تمام الوقت واقعاً لا يحسن التأخير واقعاً، بل يرجح التقديم، عملاً بعموم رجحان إتيان الصلاة في أول الوقت. نعم مع احتمال وجدان الماء في الوقت يحسن التأخير ظاهراً احتياطاً للطهارة المائية التي هي أهم من فضيلة الوقت. ومع تجدد الوجدان في الوقت واقعاً يحسن التأخير واقعاً لأهمية الطهارة المائية، لكن مع إجزاء الصلاة بالتيمم في الجملة لنصوص الطائفة الثانية.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن مقتضى الجمع بين صحيح يعقوب المتقدم وبقية نصوص الطائفة الثانية هو البناء على استحباب الإعادة وإن صحت الصلاة بالتيمم وهو كالصريح من صحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في رجل تيمم فصلى، ثم أصاب الماء. فقال: أما أنا فكنت فاعلاً، إني كنت أتوضأ وأعيد"(1). بناء على ظهوره في إصابة الماء في الوقت، لنظير ما تقدم في صحيحي محمد بن مسلم والعيص من نصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 10.

ص: 242

(243)

الطائفة الثانية. فلاحظ.

الثاني: لما لم يكن لنصوص الطائفة الثانية إطلاق يقتضي جواز التقديم، وإنما استفيد من الحكم بعدم الإعادة، حيث يستفاد منها المفروغية عن جواز التقديم، فاللازم الاقتصار فيها على المتيقن. وحيث سبق أن حملها على خصوص صورة اليأس من الوجدان في الوقت بعيد عنها، كما أنه لا يناسب صحيح محمد بن حمران المتقدم، فالمتعين التعميم لصورة الظن بعدم الوجدان، بل لصورة احتمال الوجدان من دون ظن بأحد الطرفين، لأن عدم الإشارة في هذه النصوص على كثرتها لوقوع التيمم عن ظن بعدم الوجدان، مع أنه من سنخ العذر المسوغ، موجب لقوة ظهورها في العموم لصورة عدمه، نظير ما تقدم في اليأس من الوجدان، ولا معارض لهذا الظهور بعد ما سبق في وجه الجمع بين طائفتي النصوص.

نعم لا مجال لتعميمها لصورة العلم بالوجدان في أثناء الوقت، لأن مقتضى الوضع الطبيعي للمكلف - بعد ارتكاز أهمية الطهارة المائية وأنها الواجب الأولي - هو الانتظار، ومن ثم كان الظاهر مفروغيتهم عن وجوب الانتظار حينئذٍ. بل ظاهر الجواهر وعن البرهان القاطع وهداية الكاظمي الإجماع عليه.

بل لا يبعد قصورها عن صورة الظن بالوجدان في أثناء الوقت، لأن الظن في ذلك طريق عرفاً، فالمبادرة معه تحتاج إلى عناية، فتخرج عن المتيقن من النصوص بعد ما سبق من عدم الإطلاق فيها.

ودعوى: أن مقتضى التعليل في جملة من نصوص الطائفة الثانية بأن رب الماء هو رب الصعيد، وأن التيمم أحد الطهورين العموم لصورة الظن بالوجدان، بل لصورة العلم به لولا الإجماع المدعى فيها.

مدفوعة بأن التعليل المذكور ليس مسوقاً لبيان مشروعية التيمم، وإلا كان مقتضاه أنه في عرض الطهارة المائية، لا في طولها وعند تعذرها، بل هو مسوق لبيان صحة الصلاة وإجزائها في فرض مشروعية التيمم وصحته كما تصح مع الطهارة

ص: 243

(244)

المائية، فلا ينهض ببيان مورد مشروعية التيمم، ليتمسك بعمومه.

الثالث: مورد النصوص المتقدمة هو عدم وجدان الماء، كما هو موضوع كلام قدماء الأصحاب، بل جمهورهم، إلا أنه قد يستفاد من عدم تعرضهم لبقية الأعذار إلحاقها به في الحكم المذكور، كما هو ظاهر أو صريح جملة من كلمات المتأخرين منهم، بل في الروض الإجماع على عدم الفرق. وكأنه لحمل عدم الوجدان على ما يعمّ بقية الأعذار، أو لإلغاء خصوصيته.

لكن لا قرينة على الأول، بل النظر في مجموع الأدلة شاهد بخلافه، كما أشرنا إليه في أوائل الكلام في المسوغ الثاني من مسوغات التيمم وغيره. وأما الثاني فهو محتاج إلى لطف قريحة، ولا يتضح لنا بعد الفرق بين عدم الوجدان وخوف الضرر مثلاً بأن عدم الوجدان لا ضابط له غالباً ويكثر خضوعه للأسباب الآنية، حيث يكثر مع ذلك الجهل باستمراره وعدمه، بخلاف الضرر، فإنه كثيراً ما ينضبط ويعرف بقاؤه في تمام الوقت وعدمه. كما أنه قد يظهر من النصوص الفرق بينهما ولو في استحباب الإعادة في خارج الوقت.

ومن ثم صرح في الجواهر بأن أدلة المضايقة تقصر عن غير فقد الماء من أسباب التيمم لولا الإجماع المتقدم عن الروض. لكنه - كما ترى - ليس بنحو ينهض بالحجية والخروج عن مقتضى القاعدة المتقدمة.

ودعوى: أن المرض وعدم وجدان الماء لما سيقا في الآيتين الشريفتين - اللذين هما الأصل في تشريع التيمم - في مساق واحد كان الظاهر وحدة المراد بهما من حيثية الاستمرار في تمام الوقت وعدمه، فإذا استفيد من نصوص المقام الاكتفاء بعدم الوجدان في بعض الوقت من دون استمرار تعين حمل المرض عليه في الآيتين الشريفتين، لوحدة السياق. وحينئذٍ يسهل التعدي منهما لسائر الأعذار.

مدفوعة بأن نصوص المقام لا تقتضي عموم عدم الوجدان للوجدان في بعض الوقت، ولذا لا يصح التيمم مع العلم بل الظن بعدم استمرار فقد الماء، كما تقدم،

ص: 244

(245)

(مسألة 38): إذا تيمم لصلاة فريضة أو نافلة ثم دخل وقت أخرى، فإن يئس من التمكن من الطهارة المائية جاز له المبادرة إلى الصلاة (1).

بل مجرد صحة الصلاة الواقعة بالتيمم، المستلزم لصحة التيمم في الجملة ولو للاكتفاء بسبب الجهل بالتيمم الفاقد للموضوع في صحة الصلاة، وذلك لا يستلزم التعدي لغير عدم وجدان الماء من الأعذار، بل يتعين الاقتصار على مورد النصوص المذكورة والرجوع في غيره لمقتضى القاعدة الذي سبق تنقيحه في أول الكلام في هذه المسالة.

ومن ذلك يظهر لزوم الاقتصار على الصلاة، وعدم التعدي لغيرها من الغايات، بل يتعين الرجوع فيها لمقتضى القاعدة المذكور. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

(1) صرح غير واحد بابتناء الكلام في هذه المسألة على المسألة السابقة جوازاً ومنعاً وتفصيلاً. لكن صرح في المدارك بجواز تقديم الصلاة هنا حينئذٍ حتى على القول بعدم جوازه فيما سبق، كما صرح في المبسوط بجواز البدار هنا مع منعه منه هناك، وكذا في الروضة مع ميله لعدم جواز البدار هناك. بل في الجواهر أن صريح جماعة وظاهر آخرين اختصاص الخلاف بالمسألة الأولى، وأما في هذه المسألة فيجوز البدار. وهو متجه بناء على الوجه الثاني للجمع بين النصوص في المسألة السابقة. لكن سبق المنع منه.

ودعوى: أنه حيث تقدم اختصاص نصوص وجوب التأخير بإحداث التيمم، فلا موجب للبناء في غيره ممن سبق منه التيمم على وجوب تأخير الصلاة. مدفوعة بما أشرنا إليه آنفاً من قرب إلغاء خصوصية مورد تلك النصوص وتعميمها لهذه المسألة. ولعله لذا حكي عن السيد المرتضى في الإصباح والشهيد في البيان عدم جواز البدار هنا أيضاً.

على أنه سبق أن وجوب التأخير هو مقتضى القاعدة الأولية في الجملة، وأن

ص: 245

اللازم الاقتصار في الخروج عنه على المتيقن من نصوص جواز التقديم، وحيث كان مقتضى إطلاق بعض تلك النصوص العموم للمسألتين كان اللازم اشتراكهما في الحكم.

وأشكل من ذلك ما قد يظهر من المبسوط وغيره من الاستدلال بعموم ما تضمن إجزاء التيمم الواحد لصلوات كثيرة(1). إذ فيه: أنه أعم من جواز البدار للصلاة في أول الوقت.

ودعوى: أن ظاهر النصوص المذكورة صحة التيمم في تمام أوقات الصلوات اللاحقة، لا أنه يبطل بدخول الوقت ثم يصح في آخره، ومع صحته تصح الصلاة به.

مدفوعة بأن صحته بدخول الوقت أعم من جواز الصلاة به. بل القاعدة كما تقتضي عدم مشروعيته مع التمكن من الطهارة في أثناء الوقت تقتضي عدم مشروعية الدخول به في الصلاة التي يتمكن المكلف من الطهارة في أثناء وقتها. فتكون صحتها مع دخول الوقت مُراعىً فيها استمرار العذر. فتأمل جيداً.

والذي ينبغي أن يقال: إن كان المرجع في المسألة الأولى القاعدة أو نصوص جواز البدار المتقدمة في المسألة السابقة تعين اشتراك المسألتين في الحكم. وكذا لو كان المرجع في تلك المسألة نصوص المنع من البدار لو حملت على كون المنع طريقياً تحفظاً على الطهارة المائية المحتملة التحصيل، بحيث تقصر عن صورة العلم باستمرار عدم الوجدان، لقرب إلغاء خصوصية موردها جداً بعد كون مضمونها ارتكازياً مطابقاً للقاعدة. ولو لم يتم كفت القاعدة في اشتراك المسألتين في الحكم، لمطابقة النصوص المذكورة لها حينئذٍ.

وأما لو كان المرجع فيها نصوص المنع من البدار، مع حملها على وجوب التأخير تعبداً حتى مع استمرار عدم الوجدان والعلم، فحيث كانت النصوص المذكورة مختصة بالمسألة السابقة توقف العمل بها في المقام على إلغاء خصوصيتها، وهو لا يخلو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التيمم حديث: 10.

ص: 246

(247)

(مسألة 39): لو وجد الماء في أثناء العمل فإن كان دخل في صلاة فريضة أو نافلة (1) مضى في صلاته وصحت على الأقوى (2)،

عن إشكال، لعدم ارتكازية مضمونها، بل هو تعبدي محض، فيتعين الاقتصار على مورده والرجوع في هذه المسألة للقاعدة.

(1) يأتي الكلام في مساواة النافلة للفريضة في الحكم بعد الكلام في مقتضى الأدلة في أصل المسألة إن شاء الله تعالى.

(2) كما في المقنعة والمبسوط وعن المرتضى في شرح الرسالة، بل في الجواهر أنه المشهور تحصيلاً، ونقلاً في جامع المقاصد والروض ومجمع البرهان، بل في السرائر الإجماع عليه.

ويقتضيه إطلاق صحيح محمد بن حمران(1) المتقدم في المسألة السابعة والثلاثين، وصحيح زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): "في رجل لم يصب الماء وحضرت الصلاة، فتيمم وصلى ركعتين، ثم أصاب الماء، أينقض الركعتين ويتوضأ ثم يصلي؟ قال: لا، ولكنه يمضي في صلاته فيتمها ولا ينتقضها، لمكان أنه دخلها على طهر بتيمم"(2) ، فإن مورده وإن كان بعد مضي الركعتين، إلا أن مقتضى عموم التعليل في ذيله المضي في الصلاة بمجرد الدخول فيها بتيمم.

لكن في النهاية وعن ابن الجنيد والمرتضى والجعفي وجماعة من متأخري المتأخرين التفصيل بين الدخول في الركوع فيمضي في الصلاة، وعدمه فينقضها ويتوضأ. لصحيح زرارة:" قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن أصاب الماء وقد دخل في الصلاة؟ قال: فلينصرف فليتوضأ ما لم يركع، وإن كان قد ركع فليمض في صلاته، فإن التيمم أحد الطهورين"(3). وقريب منه حديث عبد الله بن عاصم الذي لا يبعد اعتباره.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 3، 4، 1.

ص: 247

هذا وقد وقع الكلام في الجمع بين الطائفتين. واحتمل في الجواهر حمل الدخول في الصلاة في صحيح محمد بن حمران على الدخول في الركوع، لأنه هو الدخول الكامل، ولاسيما مع ملاحظة ما ورد من أن أولها الركوع، وأن الصلاة ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود، وأن أدراك الركعة في الجماعة بادراك الركوع. ولو تم ذلك جرى في التعليل المتقدم في صحيح زرارة ومحمد بن مسلم. لكنه كما ترى تكلف يأباه الصحيحان.

ومثله ما في التهذيبين من احتمال حمل الطائفة الثانية على سعة الوقت، حيث لا يشرع التيمم حينئذٍ عنده. ويناسبه ما احتمله في الجواهر من حمل صحيح محمد بن حمران على ضيق الوقت عن استئناف الصلاة بالطهارة المائية، كما يشعر به ذيله.

إذ فيه: أن البناء على عدم مشروعية التيمم في سعة الوقت - لو تم - اقتضى وجوب الاستئناف حتى بعد الركوع، ولا يناسب التفصيل الذي تضمنته الطائفة الثانية. كما أن حمل صحيح محمد بن حمران على ضيق الوقت لا يناسب السؤال فيه مع إهمال التنبيه على الضيق، والذيل حيث كان ظاهراً في الردع عما وقع - كما سبق - كان ظاهراً في فرض سعة الوقت، لا مشعراً بضيقه.

ومن هنا حمل في المبسوط وغيره الطائفة الثانية على الاستحباب. بل في المعتبر أن العمل بظاهر الطائفة الثانية بالبناء على الوجوب مستلزم لتعذر العمل بالطائفة الأولى، أما العمل بظاهر الطائفة الأولى فهو لا يمنع من العمل بالطائفة الثانية، بل يقتضي تنزيلها على الاستحباب.

لكنه يشكل بأنه كما يمكن حمل الطائفة الثانية على الاستحباب جمعاً مع الطائفة الأولى، كذلك يمكن تقييد الطائفة الأولى وحملها على الوجدان بعد الركوع جمعاً مع الطائفة الثانية.

بل هو أولى بلحاظ أن التعليل المذكور في صحيح زرارة ومحمد بن مسلم من الطائفة الأولى يشابه التعليل المذكور في صحيح زرارة من الطائفة الثانية، وحيث

ص: 248

سيق التعليل في صحيح زرارة المذكور لتصحيح المضي في الصلاة في خصوص صورة الوجدان بعد الركوع كان صالحاً للقرينية على تقييد التعليل في صحيح زرارة ومحمد بن مسلم بالصورة المذكورة. وأما صحيح محمد بن حمران فهو مطلق يسهل تقييده بما بعد الركوع.

ومن هنا كان الأقرب ذلك ولاسيما مع ما في الجواهر من موافقة عموم المضي في الصلاة الذي تضمنته الطائفة الأولى لفتوى كثير من العامة، كالشافعي وداود وأحمد - في رواية - وأبي ثور وابن المنذر، بخلاف التفصيل الذي تضمنته الطائفة الثانية، فإنه لم ينقل عن أحد منهم.

ولو فرض التوقف وعدم ترجيح أحد الجمعين كان اللازم الرجوع في صورة الوجدان قبل الركوع لإطلاق ما تضمن انتقاض التيمم بوجدان الماء المستلزم لبطلان الصلاة ووجوب الاستئناف بالطهارة المائية.

ودعوى: أن ذلك لا يناسب حرمة قطع الصلاة وإبطالها. مدفوعة بأن عموم حرمة قطع الصلاة غير ثابت. ولو ثبت فهو لا يمنع من بطلانها تبعاً لبطلان التيمم بمقتضى الإطلاق المتقدم. ومن ثم كان المتعين البناء على التفصيل المذكور.

هذا وفي خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "سألته عن رجل صلى ركعة على تيمم، ثم جاء رجل ومعه قربتان من ماء قال: يقطع الصلاة ويتوضأ ثم يبني على واحدة"(1). وفي خبر الحسن الصقيل:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل تيمم ثم قام يصلي، فمر به نهر وقد صلى ركعة. قال: فليغتسل وليستقبل الصلاة. قلت: إنه قد صلى صلاته كلها. قال: لا يعيد"(2).

لكنهما - مع ضعفهما، وعدم ظهور القائل بهما، ومخالفتهما لما سبق من النصوص المعتبرة - محمولان على الاستحباب جمعاً لو نهضا بالاستدلال. ولاسيما مع ما عن نهاية الأحكام من الإجماع على إتمام الصلاة لو وجد الماء بعد الركوع. ثم إن في المقام أقوال

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 5، 6.

ص: 249

وفيما عدا ذلك يتعين الاستئناف بعد الطهارة المائية (1).

أخر لا شاهد لأكثرها ويظهر ضعف باقيها مما تقدم، ولا مجال لإطالة الكلام فيها.

هذا ومقتضى إطلاق النصوص السابقة عدم الفرق بين الفريضة والنافلة. ودعوى: انصراف النصوص للفريضة. ليست بنحو تنهض بالخروج عن الإطلاق. ولاسيما مع ما تضمنه الصحيحان من التعليل، وما تضمنته الطائفة الثانية من خصوصية الركوع في الصلاة، لعدم الفرق في الخصوصية المذكورة بين الفريضة والنافلة. ولو تم الإنصراف فإلغاء خصوصية الفريضة والتعدي للنافلة قريب جداً، بل لعلها أولى منها بذلك عرفاً.

نعم لو كان الوجه في وجوب المضي هو حرمة القطع كان مختصاً بالفريضة. لكنه ليس كذلك، كما سبق.

ثم أن المتيقن من النصوص السابقة جواز المضي في الصلاة مع وجدان الماء بعد الركوع أو مطلقاً، وإجزاء الصلاة معه بالتيمم. ولا ظهور لها في وجوب المضي وعدم جواز القطع واستئناف الصلاة بالماء، لورود الأمر بالمضي فيها مورد توهم الحظر. كما أن التعليل لا ينهض إلا بإجزاء الصلاة بالتيمم في الفرض لا تعينها.

ومن ثم لا يبعد البناء على جواز القطع، بل رجحانه لإدراك الصلاة بالطهارة المائية، بعد قصور دليل حرمة القطع عن مثل ذلك مما كان القطع فيه لغرض عقلائي. ولاسيما مع ما تقدم في خبري زرارة والصقيل.

(1) لاختصاص النصوص بالصلاة، فيرجع في غيرها لعموم دليل بطلان التيمم بوجدان الماء(1). لكن قد يدعى إلحاق الطواف بالصلاة، لما ورد من أن الطواف بالبيت صلاة.

وفيه أولاً: أن المضمون المذكور لم نعثر عليه من طرقنا، وإنما ورد من طرق

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التيمم.

ص: 250

العامة(1).

وثانياً: أن اختلاف الطواف عن الصلاة في كثير من الأحكام مانع من البناء على عموم التنزيل، لاستلزامه تخصيص الأكثر، بل يتعين إجماله وعدم الاستدلال به في المقام، خصوصاً مع قرب انصرافه عن مثل الحكم المذكور مما كان من أحكام التيمم عرفاً، وإرجاعه للصلاة يبتني على نحو من التكلف.

وثالثاً: أن عموم التنزيل - لو تم - إنما ينفع في المقام بناء على إطلاق المضي في الصلاة بالتيمم مع وجدان الماء بعد الدخول منها، أما بناء على المختار من اختصاصه بالوجدان بعد الركوع فلا موضوع له، لعدم تنزيل شيء من أجزاء الطواف منزلة الركوع في الصلاة.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه لو تيمم المكلف لغاية غير الطواف، ثم دخل في الطواف بالتيمم المذكور، ووجد الماء بعد تجاوز النصف، فمن القريب الاجتزاء بما وقع منه ولزوم الطهارة المائية للباقي لا غير. لفحوى ما تضمن أن المرأة إذا حاضت بعد تجاوز النصف أجزأها الإتمام بعد الطهر، ولا تستأنف، لأن الفصل بزمان الحيض أطول من الفصل بزمان الإتيان بالطهارة المائية في المقام.

نعم لو كان التيمم للطواف تعين استئناف الطواف مطلقاً، لأن وجدان الماء كاشف عن بطلان التيمم من أول الأمر فلا يشرع به الدخول في الطواف، بل يقع باطلاً.

وفيه: أن الإشكال في الاكتفاء بما وقع من الطواف بالتيمم ليس من جهة الفصل بينه وبين الباقي بالطهارة المائية، ليستفاد العفو عنه مما تضمن العفو عن الفصل بزمن الحيض، بل لأنه ينكشف بوجود الماء عدم مشروعية الدخول في الطواف بالتيمم، لأن كون التيمم طهارة اضطرارية ناقصة صالح للقرينية على تقييد إطلاق مشروعيته للغايات بحيث يقتضي عدم إجزائه للغاية إلا مع تعذر إيقاعها بالطهارة المائية. ومجرد صحته بلحاظ الغاية التي وقع لها لا تقتضي جواز الدخول به للغاية الأخرى مع سعة

********

(1) عن سنن البيهقي ج: 5 ص: 87، وكنز العمال ج: 3 ص: 10 رقم: 206. وذكره مرسلاً في الخلاف والمسالك.

ص: 251

(252)

(مسألة 40): إذا تيمم المحدث بالأكبر بدلاً عن الغسل ثم أحدث بالأصغر لم ينتقض تيممه (1).

وقتها وإمكان إيقاعها بالطهارة المائية.

ولذا لا إشكال عندهم في عدم جواز الدخول بالتيمم لضيق الوقت - بناء على مشروعيته - في غير الغاية التي ضاق وقتها، حتى مقارناً للغاية التي ضاق وقتها حيث يكون صحيحاً بالإضافة إليها. فلاحظ.

ومن ذلك يظهر الحال في وجدان الماء في أثناء صلاة الميت إذا صلي عليه بعد أن يمم لتعذر التغسيل، فإنه تقدم في المسألة الثانية عشرة من فصل غسل الميت وجوب استئناف الغسل، لانكشاف بطلانه من أول الأمر بوجدان الماء، بناء على ما تقتضيه القاعدة من عدم جواز المبادرة، فينكشف بطلان الصلاة. بل حتى بناء على جواز البدار فحيث كان مقتضى القاعدة بطلان التيمم بوجدان الماء يتعين بطلان تيمم الميت قبل الدفن، فتبطل الصلاة عليه، ويجب استئنافها بعد التغسيل ولو لفوات الموالاة.

ولا مجال للبناء على وجوب المضي فيها بعد اختصاص النصوص بالصلاة الحقيقية، ولاسيما بناء على المختار من التفصيل بين الدخول في الركوع وعدمه، لعدم الدليل على تنزيل شيء من أجزاء صلاة الميت منزلة الركوع. نظير ما سبق.

نعم قد يتجه بناء على جواز البدار عدم وجوب إعادة الصلاة لو كان وجدان الماء بعد الفراغ منها، لوقوعها عن طهارة صحيحة.

هذا وحيث كانت نصوص المقام مختصة بعدم وجدان الماء فلا مجال للتعدي لبقية الأعذار إذا ارتفعت في أثناء الصلاة، نظير ما تقدم في أول الفصل فيما لو وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة.

(1) بل يجب الوضوء لا غير، كما عن المرتضى في شرح الرسالة، وأفقه المفاتيح، وقواه في الحدائق، وعن الكفاية الميل إليه. ويظهر من الذكرى التوقف. خلاف

ص: 252

للمشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً شهرة كادت تكون إجماعاً، كما في الجواهر.

واستدل للمشهور بوجوه:

الأول: أن التيمم مبيح لا رافع، فمع انتقاضه بالحدث الأصغر وارتفاع الإباحة به، يتعين إعادته للحدث الأكبر، لعدم الأثر للحدث الأصغر مع بقاء الحدث الأكبر.

وفيه - مع أنه تقدم في المسألة التاسعة والعشرين أن التيمم رافع للحدث -: أن كونه مبيحاً لا يستلزم إعادته بالحدث الأصغر، لإمكان بقاء إباحته من حيثية الحاجة للغسل، وعدم رافعية الحدث الأصغر إلا للإباحة من حيثية الوضوء، فيجب مع التمكن منه دون الغسل، بل ذلك هو مقتضى إطلاق دليل التنزيل، حيث يقتضي كون إباحته بحكم رافعية كل من الغسل والوضوء، فكما أن الغسل بعد تحقق سببه رافع للحدث الأكبر وحده أو مع الأصغر، فالتيمم الذي هو بدل عنه موجب للإباحة من الحيثية المذكورة، وكما أن سبب الحدث الأصغر لا يرفع الطهارة من الحدث الأكبر فهو مع التيمم لا يرفع الإباحة من حيثيته، بل من حيثية الحدث الأصغر لا غير، فلابد من رفعه بالوضوء مع القدرة عليه.

الثاني: صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال بعد بيان كيفية التيمم: "ومتى أصبت الماء فعليك الغسل إن كنت جنباً، والوضوء إن لم تكن جنباً"(1). حيث اعتبر في الوضوء عدم الجنابة، وهي موجودة في المقام.

وفيه - مضافاً إلى ما سبق من أن المتيمم في المقام ليس جنباً حقيقة أو حكماً -: أنه وارد لبيان الوظيفة من حيثية وجدان الماء الذي شرع التيمم لفقده، لا من حيثية الحدث الحاصل بعد التيمم مع استمرار فقد الماء الذي شرع التيمم لأجله.

الثالث: النصوص المتضمنة أمر الجنب بالتيمم وإن وجد من الماء ما يكفيه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 253

للوضوء، كصحيح الحلبي:" أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يجنب ومعه قدر ما يكفيه من الماء للوضوء والصلاة، أيتوضأ بالماء أو يتيمم؟ قال: لا بل يتيمم..."(1).

وفيه - مضافاً أيضاً إلى ما سبق من عدم كون المتيمم جنباً -: أنه وارد لبيان الوظيفة من حيثية حصول سبب الجنابة، لا مطلقاً ولو بلحاظ حصول سبب الوضوء بعد الإتيان بالتيمم الذي اقتضاه سبب الجنابة وعدم انتقاضه بوجدان الماء.

الرابع: ما تضمن انتقاض التيمم بالحدث، كصحيح زرارة: "قلت: لأبيجعفر (عليه السلام): يصلي الرجل بتيمم واحد صلاة الليل والنهار كلها؟ فقال: نعم ما لم يحدث أو يصب ماءً"(2).

وفيه: أنه وارد لبيان أن أثر التيمم - كأئر الغسل والوضوء - يستمر ما لم ينتقض بالحدث أو يبطل بوجدان الماء، من دون نظر إلى الوظيفة بعد انتقاضه، وأنها الغسل أو الوضوء. فهو كما لو قيل: يصلي الرجل بالطهارة المائية ما لم يحدث. فإنه لا يكون دليلاً على وجوب إعادة كل من الوضوء والغسل بحدوث أحد أسباب الحدث الأكبر أو الأصغر.

الخامس: ما ذكره بعض مشايخنا من الاستدلال بإطلاق الآيتين الشريفتين، بدعوى: أن المستفاد منهما أن كل من كانت وظيفته الغسل عند وجدان الماء يكلف بالتيمم عند عدمه، ولا يشرع له الوضوء.

وفيه: أن المفروض في المقام تحقق التيمم ممن وظيفته الغسل لفقد الماء، فلا تنهض الآيتان بإثبات وجوبه ثانياً. غاية الأمر أنه يعلم بانتقاض التيمم المذكور في الجملة بحصول سبب الحدث الأصغر، ولا يعلم بانتقاضه وارتفاع أثره رأساً، ليجب إعادته، أو انتقاضه بارتفاع بعض مراتب أثره، وهو الطهارة من الحدث الأصغر التي يجب لها الوضوء مع القدرة عليه، ولا نظر في الآيتين الشريفتين إلى ذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 254

ومثله استدلاله بإطلاق النصوص الآمرة بالتيمم للجنب، بدعوى: أن مقتضى الإطلاق المذكور وجوب التيمم عليه عند حدوث سبب الحدث الأصغر. لاندفاعه - مضافاً إلى ما سبق من عدم كون المتيمم جنباً - بأن النصوص المذكورة لا تنهض إلا ببيان وجوب التيمم الأول بعد حدوث سبب الجنابة، ولا تنهض ببيان وجوب إعادته بحدوث سبب الحدث الأصغر أو غيره، وإنما المرجع فيه القاعدة المقتضية للوضوء بعد فرض القدرة عليه، كما سبق.

وكذا استدلاله بالنصوص المتضمنة لإطلاق الجنب على المتيمم، كموثق عبد الله بن بكير:" قلت له: رجل أم قوماً وهو جنب وقد تيمم وهم على طهور فقال: لا بأس"(1). إذ فيه: أن الإطلاق المذكور - لو تم، ولم يبتن على المجاز والتوسع، لما سبق - إنما يدل على عدم رافعية التيمم للجنابة، ولا يقتضي إعادة التيمم في المقام، إلا بناء على ما سبق منه من الاستدلال بما تضمن وجوب التيمم على الجنب، وقد عرفت أنه إنما ينهض بإثبات وجوب التيمم الأول، لا وجوب إعادته في المقام أو غيره.

السادس: استدلاله بما تضمن وجوب التيمم لكل صلاة حتى يوجد الماء، كصحيح أبي همام عن الرضا (عليه السلام): "يتيمم لكل صلاة حتى يوجد الماء"(2) ، بدعوى: أنه قد تضمن جعل وجدان الماء غاية للتيمم، فما دام لم يجده تكون وظيفته التيمم وإن أحدث بالأصغر.

وفيه: أن ظاهره بدواً وجوب تكرار التيمم لكل صلاة، وحيث لا مجال للبناء على ذلك فلا بد إما من طرحه، أو حمله على الاستحباب، فلا ينفع فيما نحن فيه. وربما يحمل على إرادة أن وظيفته الاجتزاء بالتيمم للصلوات التي يؤتى بها قبل وجدان الماء من دون إرادة تكرار التيمم لكل واحدة، وحينئذٍ لا ينهض بإثبات وجوب إعادة التيمم للحدث الأصغر في محل الكلام.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 17 من أبواب صلاة الجماعة.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 20 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 4.

ص: 255

ومن ثم لا يظهر للمشهور دليل يعتد به يرفع به اليد عما تقتضيه القاعدة التي أشرنا إليها وأشار إليها المرتضى (قدس سره). قال في محكي كلامه:" لأن حدثه الأول قد ارتفع، وجاء ما يوجب الصغرى، وقد وجد من الماء ما يكفيه لها، فيجب عليه استعماله، ولا يجزيه تيممه".

ويمكن تقريب دلالة الآيتين الشريفتين على ذلك، بأنه بعد فرض أن المحدث بالأكبر في المقام قد أتى بالتيمم لا مجال لتطبيق ما تضمنتاه عليه من وجوب التيمم على المحدث بالأكبر إذا لم يجد الماء، لأن ذلك لا يقتضي إلا وجوب التيمم الأول، ولا ينهض بوجوب إعادته، بل يتعين تطبيق ما تضمنتاه من وجوب الوضوء عليه بحدوث سببه مع فرض وجدان الماء له.

إن قلت: مقتضى إطلاق قوله تعالى:" إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... "(1) بناء على أن المراد بالقيام للصلاة فيه القيام من النوم أن كل من قام من النوم وكان جنباً ولا ماء عنده للغسل يجب عليه التيمم، فيشمل من تيمم بدلاً عن الغسل ثم نام ثم قام إلى الصلاة، لعدم الإشكال في جنابته، ويتم في غيره ممن حصل له الحدث الأصغر بغير النوم من أسبابه بعدم الفصل.

قلت: الشخص المذكور وإن كان جنباً بالأصل، إلا أنه بالتيمم السابق على النوم طاهر من الجنابة حقيقة أو حكماً على الكلام في رافعية التيمم أو إباحته للصلاة لا غير. على أن من القريب بناء على حمل القيام إلى الصلاة على القيام من النوم كون المراد بالجنب هو المحتلم في نومه في مقابل من كانت جنابته بالجماع الذي ذكر بعد ذلك، ولا يشمل الجنب بجنابة سابقة على النوم بجماع أو غيره. فلاحظ.

على أن ما ذكرنا هو المناسب للمرتكزات المتشرعية بدواً، لأن انتقاض التيمم الذي هو بدل عن الغسل رأساً بالحدث الأصغر الذي لا يوجب الغسل يحتاج إلى عناية، فلو كان البناء عليها شرعاً لكثر السؤال والجواب عن ذلك واحتاج الأمر

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

ص: 256

(257)

والأحوط استحباباً الجمع بين التيمم والوضوء. ولو لم يتمكن من الوضوء تيمم بدلاًَ عما في ذمته من دون قصد الوضوء والغسل (1).

(مسألة 41): لا تجوز إراقة الماء الكافي للوضوء أو الغسل (2) بعد دخول الوقت، وإذا تعمد إراقة الماء بعد دخول وقت الصلاة وجب عليه

للبيان بالخصوص، فمع عدمه يتعين جري المتشرعة على مقتضى المرتكزات المذكورة، وحيث كانت المسألة عملية فمن القريب جداً قيام سيرة المتشرعة على ذلك، لأنه الأنسب بسكوت النصوص عن ذلك.

إن قلت: ذلك لا يناسب ذهاب المشهور لانتقاض التيمم، وندرة القول بوجوب الوضوء.

قلت: لا يظهر القول بمذهب المشهور قبل الشيخ (قدس سره) وقد اختلف هو والمرتضى (قدس سره) واحتج كل منهما لقوله، واقتنع المشهور بحجة الشيخ (قدس سره)، وجروا على ذلك لاجتهاد منهم لا يستند إلى دليل خاص، بل قد يكون لرفعة مقام الشيخ العلمي عندهم أثرها فيه، من دون أن يكشف عن بطلان الاستدلال الذي ذكرناه، ولا عن عدم قيام السيرة على قول المرتضى (قدس سره)، إذ كثيراً ما تكون الشهرة المبتنية على الاجتهاد في فهم الأدلة مخالفة للسيرة، كالشهرة على عدم شرعية معاملة الصبي، وعلى عدم صحة بيع المعاطاة. وكيف كان فلا مخرج عما ذكرنا. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) هذا في الجنابة. أما في غيرها من أسباب الحدث الأكبر فبناء على ما سبق منه (قدس سره) في المسألة السابعة والعشرين لا يتم الاحتياط إلا بتيمم آخر بدلاً عن الوضوء.

(2) وفي الحدائق أنه ظاهر الأصحاب. خلافاً لما يظهر من المعتبر - عند الاستدلال على أن من أراق الماء وتيمم وصلى لم يجب عليه الإعادة - من إطلاق جواز الإراقة، وفي الجواهر:" بل لعل الإجماع على خلافه ".بل لا يبعد كون ذلك من المعتبر

ص: 257

لمجرد الاحتجاج في مقابل العامة، وإلا فقد ذكر في أواخر مسائل التيمم أنه لا يجوز للمالك أن يبذل الماء لغيره مع وجوب الصلاة، والمقامان من باب واحد.

وكيف كان فيشهد لما عليه الأصحاب إطلاق دليل وجوب الطهارة المائية. وأما تشريع التيمم عند فقدها، فهو لا ينافي الإطلاق المذكور بعد كونه بدلاً اضطرارياً ناقصاً، يجتمع مع تمامية ملاك الطهارة المائية حال عدم الماء، فتكون إراقة الماء تفريطاً في امتثال التكليف التام الملاك. وقد تقدم بيان ذلك غير مرة. فراجع المسألة الأولى والمسألة التاسعة والعشرين. ومع ذلك لا حاجة للتشبث لحرمة الإراقة بالإجماع.

هذا وقد استدل عليه في الجواهر بأولويته من وجوب الطلب. وأورد عليه الفقيه الهمداني (قدس سره) بعدم الملازمة بينهما، لإمكان كون كل من القادر والعاجز موضوعاً مستقلاً، كالحاضر والمسافر، فلا يحرم على المكلف نقل نفسه من إحدى الحالتين للأخرى، وإن وجب عليه الفحص مع الشك في القدرة لإحراز ما يقتضيه تكليفه، نظير الفحص عن قطع المسافة في السفر وعدمه. وما ذكره متين جداً.

ثم إن ذلك كما يقتضي عدم جواز الإراقة بعد الوقت يقتضي عدم جوازها قبله لو علم بعدم القدرة على الماء بعده. لما ذكرناه في الأصول من وجوب حفظ المقدمات المفوتة، وهي التي لو لم يؤت بها قبل الوقت تعذر تحصيلها وتحصيل ذيها بعده، فإن وجوبها مقتضى المرتكزات العقلائية، ويظهر منهم المفروغية عن الجري عليه في كثير من الموارد.

ومن ثم استظهر في مفتاح الكرامة لزوم العصيان من الإراقة بل حكى في الجواهر عن الوحيد (قدس سره) الجزم بحرمة الإراقة. قبل الوقت مع احتمال عدم القدرة على الماء بعد الوقت، فضلاً عن العلم بذلك.

لكن ادعى في الجواهر القطع بعدم الإثم في إراقة الماء قبل الوقت. للأصل، وعدم وجوب مقدمة الواجب قبله سيما فيما لها بدل شرعي. بل يشمله ما حكي من الإجماع على عدم وجوب الوضوء قبل الوقت. كظاهر الأخبار المعلقة له عليه، كقوله (عليه السلام):

ص: 258

"إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة. ولا صلاة إلا بطهور"(1).

ويشكل بأنه لا مجال للأصل مع ما سبق. وعدم وجوب مقدمة الواجب قبل الوقت - لو تم - يختص بالوجوب الشرعي المقدمي، بناء على القول به دون العقلي الراجع لعدم جواز تعجيز النفس عن امتثال التكليف، والذي قد يرجع إليه وجوب المقدمات المفوتة. ولا ينافيه جعل البدل بعد كون بدليته اضطرارية، كما سبق.

وكذا الإجماع على عدم وجوب مقدمة الوضوء قبل الوقت، فإنه لو تم يختص بالوجوب الشرعي المذكور، ولا يعمّ الوجوب العقلي الارتكازي المشار إليه.

ومثله الخبر المذكور، حيث لا يراد به إلا بيان وجوب الطهارة تبعاً لوجوب الصلاة متطهراً، كما يظهر من ذيله. ولا ينافي وجوب حفظ القدرة على ذلك عقلاً بحفظ مقدمتها قبل الوقت. ولاسيما مع ما اعترف به في الجواهر في ذيل كلامه من وجوب حفظ أصل الطهور قبل الوقت، بحيث لو لم يحصله كان فاقداً للطهورين في الوقت، لوضوح أن مقتضى الحديث تعليق وجوب أصل الطهور بدخول الوقت، لا خصوص الطهارة المائية. وما ذكره لا يناسب الجمود على مقتضى الشرطية في الحديث إلا بناء على ما ذكرنا من عدم منافاة الشرطية لوجوب حفظه قبل الوقت ولو عقلاً مع تعذره في الوقت.

نعم لو قلنا بقصور إطلاق وجوب الطهارة المائية عن صورة فقد الماء لم يجب حفظ الماء قبل الوقت مع القدرة على التيمم بعده. لكن سبق المنع من ذلك، وأنه عليه يبتني أيضاً عدم جواز التفريط بالماء بعد الوقت.

نعم الظاهر اختصاص ذلك، بما إذا علم بعدم القدرة على الماء بعد الوقت، أما مع احتمال القدرة عليه فالظاهر جواز التفريط بالماء، لعدم العلم معه بتفويت التكليف في وقته. ومن القريب قيام السيرة على ذلك، تبعاً للمرتكزات. أما بعد الوقت فحيث تنشغل الذمة بالتكليف، فاللازم إحراز الفراغ عنه، وهو لا يحرز مع التفريط بالماء إذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 259

التيمم مع اليأس من الماء (1)

احتمل تعذر غيره. فتأمل جيداً.

(1) قطعاً، كما في كشف اللثام. والظاهر عدم الإشكال فيه بينهم. وما في الخلاف والنهاية والمبسوط وعن غيرها من وجوب إعادة الصلاة مع الإخلال بالطلب أجنبي عما نحن فيه، لإمكان وجود الماء حينئذٍ، بخلاف المفروض في محل الكلام، بل قد صرح في المبسوط بأن من كان معه من الماء ما يكفيه لطهارته فأراقه ولا يقدر على غيره كان فرضه التيمم والصلاة ولا إعادة عليه بعد وجدان الماء.

وكأن الوجه فيه: إطلاق دليل مشروعية التيمم بفقد الماء، وسقوط الطهارة المائية الحاصل في المقام ولو بسبب التفريط بالماء وإراقته.

ودعوى: أن ذلك لا يناسب ما تقدم في المسألة التاسعة في فصل مسوغات التيمم من انصراف عدم الوجدان عما إذا فرط في الطلب حتى ضاق الوقت.

مدفوعة بأن انصراف عدم الوجدان عن صورة التفريط في الطلب لا يستلزم قصور فقد الماء عن صورة التفريط فيه، لأن عدم الوجدان حينئذٍ قد يكون مقارناً لوجود الماء واقعاً في المسافة القريبة، فلا يكون التيمم معه لعدم الماء، بل لضيق الوقت الذي تقدم عدم مسوغيته للتيمم ولو مع عدم التفريط، بخلاف التفريط بإراقة الماء، حيث يستلزم في محل الكلام فقده واقعاً، وفقد الماء من المسوغات قطعاً. والبناء على قصوره عن صورة التفريط صعب جداً، لأن ذلك يجري في بقية الأعذار كالمرض وخوف العطش، والبناء على عدم مشروعية التيمم مع حصولها بتفريط المكلف صعب جداً. ولاسيما مع ما تضمن مشروعية التيمم لمن صار في أرض لا يجد فيها إلا الثلج، حيث قال (عليه السلام):" هو بمنزلة الضرورة يتيمم، ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي يوبق دينه"(1). فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 9.

ص: 260

(261)

وأجزأ (1). ولو تمكن بعد ذلك لم تجب عليه الإعادة ولا القضاء (2). ولو كان على وضوء لا يجوز إبطاله (3) بعد دخول الوقت إذا علم بعدم وجود الماء أو يئس منه. ولو أبطله والحال هذه وجب عليه التيمم، وأجزأ أيضاً.

(مسألة 42): يشرع التيمم لكل مشروط بالطهارة (4) من الفرائض والنوافل، وكذا كل ما يتوقف كماله على الطهارة إذا كان مأموراً به على

(1) كما تقدم من المبسوط وتبعه جماعة. لابتناء تشريع التيمم على إجزائه، لا على مجرد وجوب أداء الصلاة به من دون إجزاء، فإن بني على عموم دليل تشريعه للمقام تعين الإجزاء، وإلا تعين عدم مشروعيته وعدم وجوب المبادرة للصلاة به.

ومنه يظهر ضعف ما في القواعد والدروس وعن البيان من عدم الإجزاء. إلا أن يرجع إلى عدم مشروعية التيمم وعدم وجوب الصلاة به. أو التردد في ذلك، المقتضى للجمع بين المحتملين من الأداء بالتيمم والإعادة بالماء. فلاحظ.

هذا كله في الإراقة بعد الوقت. قال في الجواهر: "أما قبله فيصلي بتيممه المتجدد إجماعاً، كما في المنتهى، ولا يعيد قطعاً" .وهو ظاهر بناء على عدم وجوب حفظ الماء قبل الوقت، لعدم التفريط حينئذٍ، فلا مجال لتوهم قصور إطلاق مشروعية التيمم وإجزائه. لكن حيث سبق المنع من ذلك، وأنه يجب حفظ الماء قبل الوقت أيضاً، فالأمر يبتني على ما سبق.

(2) هذا عين الإجزاء الذي تقدم منه قدس سره.

(3) الكلام فيه هو الكلام في سابقه. ومثله سائر صور تعجيز المكلف نفسه عن الصلاة بالطهارة المائية. هذا وأما الغسل فقد تقدم في المسألة الثامنة في فصل سبب الجنابة جواز نقضه في الجملة. فراجع.

(4) قال في المنتهى: "ويجوز التيمم لكل ما يتطهر له من فريضة ونافلة ومس مصحف وقراءة عزائم ودخول مساجد وغيرها".

ص: 261

وهو المناسب لإطلاق بعض أدلة مشروعية التيمم وأدلة بدليته عن الوضوء والغسل، مثل قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن حمران وجميل فيمن وجد الماء أثناء الصلاة: "فإن الله عز وجل جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً"(1) ، وقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة:" فإن التيمم أحد الطهورين"(2) ، وقوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم: "إن رب الماء رب الصعيد، فقد فعل أحد الطهورين"(3) ، وقوله (عليه السلام) في موثق سماعة فيمن يخاف قلة الماء:" يتيمم بالصعيد ويستبقي الماء، فإن الله عز وجل جعلهما طهوراً الماء والصعيد"(4) ، وغيرها.

فإن المستفاد من هذه الإطلاقات مطهرية التيمم وقيامه مقام الغسل والوضوء في كل ما يحتاج إليهما فيه، سواءً كان منشأ الحاجة توقف صحة العمل أم كماله أم جوازه عليه.

بل حتى في موارد الحاجة للطهارة لمطلوبيتها لنفسها، كالوضوء والغسل للكون على الطهارة أو لتأكيد الطهارة - كما في موارد الوضوء التجديدي والأغسال الزمانية المستحبة - يلزم البناء على ذلك ما لم يثبت مخرج عنه.

نعم تقدم في آخر الكلام في الأغسال المستحبة الإشكال في عموم بدلية التيمم عنها. فراجع. كما يأتي في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى المنع من مشروعيته للصوم - كما يناسبه ما في بعض النصوص - لا لقصور في عموم دليل المشروعية، بل لخروجه عنه موضوعاً. لكنه يختص بصوم الجنب والحائض بعد الطهر، ولا يجري في المستحاضة لو قيل بتوقف صحة صومها على الأغسال. فما في المنتهى من إلحاقها بالجنب والحائض في غير محله.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التيمم حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 15.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 262

كما أنه حيث كان المعيار في تشريع التيمم الاضطرار والحاجة، ولو بلحاظ متابعة الرجحان الشرعي، فاللازم اعتبار الحاجة للطهارة، ليكون تعذر الطهارة المائية منشأ للاضطرار للتيمم. وذلك لأحد أمور:

الأول: وجوبها لنفسها - كما لو نذر الكون على الطهارة - أو لغيرها، كالطهارة لصلاة الفريضة وطوافها.

الثاني: استحبابها لنفسها - كالكون على الطهارة من دون أن يجب بنذر ونحوه - أو لغيرها، كالطهارة لصلاة النافلة وقراءة القرآن والكون العبادي في المسجد. لأن رجحان الفعل المقتضي لفعله كاف في صدق الاضطرار الذي يشرع به التيمم.

الثالث: الاضطرار الخارجي للفعل الذي يتوقف حله على الطهارة، كما لو اضطر الجنب للمكث في المسجد، فإن الجمع بين سدّ الاضطرار وتجنب الحرام لا يكون إلا بالطهارة، وذلك كاف في الحاجة لها والاضطرار إليها. ومثله ما لو توقف امتثال التكليف على فعل ما يحرم بدون الطهارة، كما لو اضطر لمس المصحف من أجل رفع الهتك والتوهين له.

أما مع عدم ذلك فلا مجال لمشروعية التيمم، فلا يشرع التيمم لمس المصحف من دون حاجة لذلك. لأن حرمة المس بنفسها لا تصلح للداعوية للطهارة ما لم يكن هناك داع للمس من ضرورة خارجية أو توقف امتثال خطاب شرعي عليه وإن كان استحبابياً، ومع عدم الداعوية للطهارة لا منشأ للاضطرار المأخوذ في تشريع التيمم.

وهذا بخلاف الطهارة المائية، لعدم أخذ الاضطرار والحاجة فيها. بل غاية ما يعتبر فيها التقرب، ويكفي فيه الإتيان بالفعل بداعي تجنب الحرام في الفعل الذي يراد إيقاعه ولو من دون حاجة إليه، كما تقدم في المسألة السابعة والتسعين في فصل غايات الوضوء. فراجع.

اللهم إلا أن يقال: الاضطرار المعتبر في مشروعية التيمم ليس هو الاضطرار الحقيقي الناشئ من الحاجة لفعل ما يتوقف صحته أو حله أو كماله على الطهارة، بل

ص: 263

الاضطرار النسبي بلحاظ تعذر الطهارة المائية ولو مع عدم الحاجة للفعل المذكور، ولذا يشرع التيمم - كما يأتي - لوطء الحائض بعد النقاء قبل الغسل، وللنوم. مع أنه لا يعتبر فيه الحاجة للأمرين. ومن هنا يتجه جواز التيمم لمس المصحف ولو مع عدم الحاجة له. فتأمل جيداً.

هذا وعن الألفية الميل إلى عدم قيام التيمم مقام الغسل بالإضافة إلى وطء الحائض بعد النقاء، وعن الذكرى الإشكال في قيامه مقامه. لكن الذي وجدته فيه هو الجزم بقيامه مقامه. وكيف كان فيشهد بعدم قيامه مقامه بعض النصوص.

لكن يتعين رفع اليد عنه بغير واحد من النصوص المصرحة بالاكتفاء به، كما تقدم في المسألة السادسة عشرة من فصل أحكام الحيض.

وقال في كشف اللثام: "واستثنى فخر الإسلام في الإيضاح دخول المسجدين واللبث في المساجد ومسّ كتابة القرآن. وبمعناه قوله في شرح الإرشاد إنه يبيح الصلاة من كل حدث والطواف من الأصغر خاصة. ولا يبيح من الأكبر إلا الصلاة والخروج من المسجدين. ونسبه فيه إلى المصنف أيضاً" .وعن كشف الغطاء أنه قواه، وعمه لكل ما كان الموجب لرفع الحدث فيه الاحترام كمسّ أسماء الله تعالى وقراءة العزائم ووضع شيء في المساجد ونحو ذلك.

فإن كان المنشأ لذلك دعوى قصور أدلة تشريع التيمم عن الغايات المذكورة. فقد ظهر ضعفها مما سبق. وإن كان منشؤه أن التيمم لما لم يكن رافعاً للحدث لم يصلح لرفع جهة المنع من فعل الحدث، وهي منافاة الاحترام. فيظهر ضعفه مما تقدم في المسألة الأربعين وغيرها من أن التيمم رافع للحدث أو بحكم الرافع.

على أنه قد تضمن صحيح أبي حمزة(1) أن من احتلم في أحد المسجدين فعليه التيمم حال الخروج منه، ويظهر منهما الفتوى بذلك. وهو يبتني على مشروعية التيمم لتجنب الكون المحرم في المسجد. وقد تقدم الكلام فيه في ذيل المسألة الخامسة عشرة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 264

الوجه الكامل، كقراءة القرآن والكون في المسجد ونحو ذلك، بل لا يبعد مشروعيته للكون على الطهارة (1). أما ما يحرم على المحدث من دون أن يكون مأموراً به - كمس القرآن ومسّ اسم الله تعالى - فلا يشرع التيمم

في فصل أحكام الجنابة. فراجع.

وإن رجع إلى ما سبق منا من عدم مشروعية التيمم إلا مع الاضطرار، الذي لا يحصل لمجرد تجنب حرمة العمل من دون اضطرار إليه. فقد عرفت الإشكال فيه. مع أنه لا يناسب إطلاق ما تقدم منهم الشامل لما إذا اضطر لشيء من الغايات السابقة. بل لا يناسب التعميم للطواف الذي هو عبادة مستحبة، ولقراءة العزائم التي هي كقراءة سائر القرآن مستحبة أيضاً.

على أنه لم يتضح الفرق بين مثل الصلاة مما يشرع له التيمم قطعاً وقراءة العزائم وغيرها مما تقدم في كلامهم في كون منع الحدث من الثاني لمنافاته للاحترام دون الأول، بل لا يبعد كون الجميع بملاك واحد، وهو الاحترام. ولاسيما بلحاظ قوله (عليه السلام) في موثق مسعدة بن صدقة فيمن يصلي مع القوم جماعة من غير وضوء ثم يعيدها بوضوء: "سبحان الله فما يخاف من يصلي من غير وضوء أن تأخذه الأرض خسفاً"(1). لأن المناسبات الارتكازية تقتضي كون التهديد المذكور بلحاظ عدم مناسبة الحدث لرفعة مقام الصلاة واحترامها، ولو بلحاظ كونها وقوفاً بين يدي الله عز وجل وانعطافاً إليه.

(1) كما نص على ذلك في الجواهر. واستشكل فيه السيد الطباطبائي في العروة الوثقى. وكأنه لعدم رافعيته للحدث، ويظهر ضعفه مما تقدم. بل ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أنه لا يناسب جزمه بمشروعية التيمم بدلاً عن الوضوء التجديدي، كما عن المعتبر والمنتهى والنفلية والجامع النص عليه، واختاره في الجواهر. قال:" وكان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 265

لأجله، كما أشرنا إلى ذلك في غايات الوضوء (1)، فلابد للمحدث إذا اضطر إلى مس القرآن أن يتيمم لغير المس مثل قراءة القرآن وحينئذٍ يجوز المس له.

الأنسب العكس بدعوى: أن أدلة البدلية ربما تنصرف إلى صرف طبيعة الأثر، فلا تشمل التجديد، لأنه يوجب أثراً بعد أثر، وإن كانت هذه الدعوى ضعيفة أيضاً".

لكن قد يكون الوجه عنده لمشروعية التيمم للتجديد خصوص بعض النصوص الذي استدل به في الجواهر، وهو صحيح أبي همام عن الرضا (عليه السلام):" قال: يتيمم لكل صلاة حتى يوجد الماء"(1) ، وخبر السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام): "قال: لا يتمتع بالتيمم إلا صلاة واحدة ونافلتها"(2).

بدعوى أنه بعد تعذر حملهما على الوجوب يتعين حملهما على الاستحباب، فإنه أولى من حملهما على التقية، لتوقفه على تعذر الجمع العرفي، ويكون ذلك هو الفارق بين التيمم للكون على الطهارة والتيمم بدلاً عن الوضوء التجديدي، لا القاعدة المقتضية لعدم الفرق بينهما.

نعم يشكل بأن الخبرين ظاهران في تجديد التيمم لكل صلاة حتى لو كان بدلاً عن الغسل، والذي ذكره في العروة الوثقى هو التيمم بدلاً عن الوضوء التجديدي الذي يشرع لغير الصلاة، ولعله هو ظاهر الجواهر. ومن ثم ينحصر الدليل عليه بإطلاق دليل البدلية، الذي لو تم جرى في التيمم للكون على الطهارة، ويتجه الإشكال عليه بما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره).

(1) في المسألة السابعة والتسعين، وقد تقدم منه (قدس سره) الاستدلال له بأن الغاية المذكورة لما لم تكن مأموراً بها مقيدة بالطهارة لم تكن الطهارة لها مأموراً بها غيرياً، لتصلح لتشريع الطهارة كي تكون الطهارة عبادة يمكن التقرب بها. ومن ثم لا يختص ذلك بالتيمم بل يجري في الوضوء والغسل.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التيمم حديث: 4، 6.

ص: 266

(267)

(مسألة 43): إذا تيمم المحدث لغاية جازت له كل غاية، وصحت منه (1). فإذا تيمم للكون على الطهارة صحت منه الصلاة وجاز له

لكن تقدم أن عبادية الطهارات ليست مبنية على كون أوامرها عبادية، فإن جميع أوامرها توصلية، بل منشأ عباديتها هو توقف صحتها على التقرب بها، ويكفي في التقرب قصد التجنب بها عن الحرام، كالمسّ ودخول المساجد حال الحدث. ومن ثم تقدم منّا جواز الوضوء بقصد الغايات المذكورة. وكذا الحال في الغسل.

وذلك هو المناسب لما ورد من أن من احتلم في أحد المسجدين الشريفين فعلية التيمم للخروج منهما(1) ، كما أشرنا إليه آنفاً، فإنه كالصريح في جواز جعل المرور في المسجدين غاية للتيمم بلحاظ الفرار به عن المرور المحرم، لا لتحصيل المرور الواجب أو المستحب. ولا مجال للبناء على حمله على التيمم لغاية أخرى، لأنه تكلف يحتاج إلى عناية لا مجال لحمل الحديث عليه، كما لعله ظاهر.

ومثله ما أشرنا إليه من النصوص المتضمنة لمشروعية التيمم لوطء الحائض إذا نقت من الحيض، لوضوح أن الداعي له ليس إلا رفع كراهة الوطء في حق الزوج أو الزوجين معاً، لا التقرب بأمر غاية مطلوبة شرعاً. وكذا ما ورد من استحباب التيمم للنوم(2) ، لوضوح أنه لا يرجع لاستحباب إحداث النوم عن طهارة، لتكون الطهارة مستحبة مقدمة لتحصيل النوم المستحب، بل لكون النوم عن طهارة أفضل من النوم على غير طهارة، فهي لتجنب النوم غير الأفضل، ولجعل النوم الحاصل هو الأفضل، نظير التيمم لوطء الحائض.

(1) قال في المبسوط:" وإذا تيمم جاز أن يفعل جميع ما يحتاج في فعله إلى الطهارة، مثل دخول المسجد وسجود التلاوة ومس المصحف والصلاة على الجنائز

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 5 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الوضوء، وج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم.

ص: 267

دخول المساجد والمشاهد وغير ذلك مما يتوقف صحته أو كماله أو جوازه على الطهارة المائية. نعم لا يجزئ ذلك فيما إذا تيمم لضيق الوقت (1)

وغير ذلك ".ويقتضيه إطلاق أدلة التيمم وطهورية الأرض الذي سبق التعرض له في المسألة السابقة.

وقد تقدم من غير واحد الإشكال في التيمم من الحدث الأكبر للطواف، وفي التيمم لمس القرآن وقراءة العزائم والمكث في المساجد غير ذلك. فإن كان مرادهم المنع من جعلها غاية للتيمم، فقد سبق الإشكال فيه. وإن كان مرادهم المنع من استباحتها بالتيمم بعد فرض وقوعه وصحته، أشكل بإطلاق مشروعية التيمم حتى لو قيل بعدم كونه رافعاً للحدث، لما سبق من أنه حينئذٍ يكون بحكم الرافع. ولاسيما بملاحظة ما سبق من ورود الأمر بالتيمم للخروج من المسجدين الشريفين، إذ لولا كون التيمم رافعاً لحرمة الكون في المسجدين لم يكن له فائدة، ومن الظاهر أن حرمة المكث في بقية المساجد بملاك حرمة مطلق الكون في المسجدين الشريفين.

بل من المعلوم من سيرة المسلمين في العصور السابقة الالتزام نوعاً بالصلاة في المساجد، فلو كان البناء على تجنب دخول المسجد للمتيمم لكثر السؤال عن ذلك، فالسكوت عنه، وعدم ورد النصوص فيه، مناسب للمفروغية عن جواز دخول المسجد للجنب. بل يصعب جداً حمل النصوص الواردة في إمامة المتيمم للمتوضئين(1) على إمامتهم في غير المسجد، لغلبة إقامة الجماعة في المساجد.

(1) لأن الطهارات الثلاث لما لم تكن مطلوبة لنفسها، بل بلحاظ غاياتها فالترتب بين الطهارة الترابية والمائية يرجع للترتب بين العمل الواجد للطهارة الترابية والعمل الواجد للطهارة المائية، فلا يشرع الأول إلا بتعذر الثاني.

وحينئذٍ إذا كان المسوغ للتيمم مختصاً ببعض الغايات تعين عدم استباحة بقية

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 17 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 268

(269)

على الأحوط وجوباً (1).

(مسألة 44): ينتقض التيمم بمجرد التمكن من الطهارة المائية (2)

الغايات به، فالتيمم لضيق الوقت - بناء على مشروعيته - إنما يشرع بلحاظ تعذر الإتيان بذات الوقت بالطهارة المائية، وذلك لا يقتضي مشروعيته لغيرها مما لا يتعذر بالطهارة المائية لسعة وقته.

ومنه يظهر جريان ذلك في التيمم لغير ضيق الوقت من الأعذار بناء على ما سبق في أول هذا الفصل من أن مقتضى القاعدة عدم مشروعية التيمم إلا مع استيعاب الوقت بالعذر، فلو تيمم للعجز عن استعمال الماء - لعدم وجدانه أو للخوف من استعماله - لصلاة موقتة في تمام وقتها لا يجوز له أداء غيرها من الصلوات غير الموقتة، كالقضاء. كما يظهر بأدنى تأمل.

(1) لم يتضح الوجه في تردده في ذلك بعد ما ذكرنا وما ذكره هو (قدس سره) في وجه الحكم.

(2) إجماعاً محصلاً ومنقولاً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً منا ومن العامة عدا الشاذ. كذا في الجواهر. للنصوص المستفيضة كصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في رجل تيمم قال: يجزيه ذلك إلى أن يجد الماء "(1) وغيره.

والظاهر من وجدان الماء هو الوجدان مع القدرة على الاستعمال، لما هو المعلوم من أن وجدان ما يتعذر استعماله لا يمنع من مشروعية التيمم، فضلاً عن أن يبطل التيمم الصحيح. بل قال (عليه السلام) في مرسل العياشي:" إذا رآى الماء وكان يقدر عليه انتقض التيمم"(2).

ثم إن مورد النصوص المذكورة وإن كان خصوص وجدان الماء إلا أن المناسبات الارتكازية تقتضي إلغاء خصوصيته والعموم لجميع موارد القدرة على الطهارة المائية،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التيمم حديث: 2، 6.

ص: 269

وإن تعذرت عليه بعد ذلك (1)، وإذا وجد من تيمم تيممين (2) من الماء ما يكفيه لوضوئه انتقض تيممه الذي هو بدل عنه (3)، وإذا وجد ما يكفيه للغسل انتقض ما هو بدل عنه خاصة وإن أمكنه الوضوء به (4)، فلو فقد الماء بعد ذلك أعاد التيمم بدلاً عن الغسل.

كما هو معقد الإجماع المتقدم. كما يكفي ارتفاع العذر المصحح لترك الطهارة المائية، ومنه ما لو تيمم للزوم الحرج أو خوف العطش ثم ارتفعا.

(1) بلا إشكال، لإطلاق النصوص المتقدمة، ولخصوص صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: "قلت: فإن أصاب الماء ورجا أن يقدر على ماء آخر وظن أن يقدر عليه كلما أراد فعسر ذلك عليه. قال: ينقض ذلك تيممه. وعليه أن يعيد التيمم"(1) ، وغيره.

(2) بناء على وجوب تعدد التيمم مع الحدث الأكبر غير الجنابة. وقد تقدم منّا في المسألة السابعة والعشرين المنع منه.

(3) لعين ما سبق.

(4) لأهمية رفع الحدث الأكبر بالغسل أو احتمال أهميته، فيتعين صرف الماء له عقلاً، المستلزم للعذر في ترك الوضوء، فيخرج عن منصرف أدلة انتقاض التيمم بالوجدان، لما سبق من أن مرجعها إلى ارتفاع العذر المصحح لترك الطهارة المائية غير الحاصل في الفرض.

بل لو فرض عدم الأهمية تعين انتقاض أحد التيممين تخييراً، لتعذر الطهارة بالإضافة إلى أحد الحدثين، فمع صرف الماء لأحدهما يبقى العذر بالإضافة للآخر. ومنه يظهر ضعف ما في الجواهر من انتقاض كلا التيممين، لدعوى صدق الوجدان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 270

(271)

(مسألة 45): إذا وجد جماعة متيممون ماء مباحاً لا يكفي إلا لأحدهم فإن تسابقوا إليه وسبقوا كلهم لم يبطل تيممهم (1)، وإن سبق واحد بطل تيمم السابق (2)، وإن لم يتسابقوا إليه بطل تيمم الجميع (3)، وكذا إذا كان الماء مملوكاً وأباحه المالك للجميع، وإن أباحه لبعضهم بطل تيمم ذالك البعض لا غير.

في كل منهما وعدم الترجيح. حيث يظهر مما ذكرنا اندفاع الدعوى المذكورة.

نعم لو فرض عدم الترجيح وعدم استعمال الماء لكلا الحدثين اتجه بطلان التيممين معاً، لعدم العذر بالإضافة إلى كل منهما. أما مع فرض ترجيح الغسل أو احتمال ترجيحه فاللازم البناء على عدم بطلان التيمم بدلاً عن الوضوء، لتعذر الوضوء خارجاً لحرمة صرف الماء فيه أو احتمالها احتمالاً منجزاً فيتعذر التقرب به حتى لو لم يغتسل. إلا أن يفرض تعذر الغسل بعد ذلك لضيق الوقت مثلاً - بناء على كونه مسوغاً للتيمم - فيتعين وجوب الوضوء وبطلان تيممه أيضاً.

(1) كما في الجواهر، لاشتراكهم جميعاً في الماء المذكور، وحيث لا تكفي حصة كل منهم له تعين بقاء تيممه صحيحاً. نعم لو بذل الشركاء نصيبهم لواحد انتقض تيممه فقط، لقدرته على استعماله حينئذٍ.

(2) كما في الجواهر، لصيرورة الماء له وقدرته على استعماله، ويتعذر استعماله على الآخرين حينئذ، فلا يبطل تيممهم. نعم لو بذله لأحدهم بطل تيممه أيضاً. ومجرد حرمة البذل عليه تكليفاً لا ينافي ترتب الأثر عليه، وجواز استعمال المبذول له، فيبطل تيممه.

(3) كما في الجواهر. ولعله المراد مما في المنتهى من إطلاق انتقاض تيمم الكل بوجدان ماء لا يكفي إلا لأحدهم، وإلا كان خالياً عن الدليل. وكيف كان فالوجه في بطلان تيمم الجميع قدرة كل منهم على استعمال الماء.

ص: 271

(272)

(مسألة 46): حكم التداخل الذي مرّ سابقاً في الأغسال يجري في التيمم أيضاً، فلو كان هناك أسباب عديدة للغسل يكفي تيمم واحد عن الجميع (1).

(1) كما عن جامع المقاصد وقواه في الجواهر. ويقتضيه إطلاق دليل وجوب التيمم لكل سبب، إذ مقتضاه الاكتفاء بصرف الوجود المقتضي للاكتفاء بتيمم واحد للكل، كما يظهر وجهه مما تقدم في المسألة السابعة والعشرين من الاكتفاء بتيمم واحد بدلاً عن الغسل والتيمم. فراجع.

مضافاً إلى إطلاق دليل البدلية المقتضي لوفاء التيمم بتمام ما يفي به الماء. وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من تمحض الدليل المذكور ببيان طهورية التراب من دون نظر إلى بقية الآثار التي منها إجزاء الغسل الواحد عن الأسباب المتعددة.

فهو كما ترى، إذ لو كان المراد به أن مفاد الأدلة إثبات الطهورية للتراب في الجملة من دون نظر إلى سعة الطهورية وضيقها، فهو في غاية المنع، ولذا لا إشكال في نهوض الإطلاق المذكور برافعية التيمم لجميع الأحداث التي يرفعها الماء. وإن كان المراد به أن مفاد الأدلة إثبات الطهورية على سعتها، من دون نظر لما زاد على ذلك من الأحكام، أشكل بأن التداخل راجع إلى سعة الطهورية وليس هو خارجاً عنها، فكما يكون مقتضى الإطلاق سعة طهورية التراب بنحو تشمل جميع الأحداث مع انفرادها يكون مقتضاه سعتها بنحو تشمل جميع الأحداث مع اجتماعها.

هذا وقد ادعى (قدس سره) أن مقتضى إطلاق الآية الاجتزاء بتيمم واحد مع اجتماع الجنابة مع بقية الأحداث، لأن مفادها أن من قام وكان جنباً وجب عليه الغسل، ومع العجز عنه يكفيه التيمم عنه، ومقتضى ذلك الاكتفاء بالتيمم المذكور حتى لو اجتمع مع الجنابة بقية الأحداث الكبيرة.

لكنه كما ترى فإن الآية ظاهرة في وجوب الغسل أو التيمم من حيثية النوم والجنابة ولا نظر لها إلى بقية الأحداث، كما لا نظر لها للخبث، فلا تنافي وجوب إزالته

ص: 272

(273)

وحينئذٍ فإن كان من جملتها الجنابة لم يحتج إلى الوضوء (1) أو التيمم بدلاً عنه، وإلا وجب الوضوء أو تيمم آخر (2) بدلاً عنه على الأحوط وجوباً.

(مسألة 47): إذا اجتمع جنب ومحدث بالأصغر وميت، وكان هناك ماء لا يكفي إلا لأحدهم فإن كان مملوكاً لأحدهم تعين صرفه لنفسه (3)،

بأمر غير الغسل أو التيمم المذكورين.

وإلا فاللسان المذكور لا يختص بالآية، بل يجري في جميع أدلة الغسل بأسبابه، فكما دلت الآية على اكتفاء الجنب بالغسل أو التيمم دلت أدلة وجوب غسل الحيض مثلاً بضميمة أدلة البدلية على اكتفاء الحائض بالغسل، أو التيمم، فإذا كان مقتضى إطلاق الآية اكتفاء الجنب بالغسل أو التيمم ولو مع مس الميت مثلاً، فليكن مقتضى إطلاق أدلة وجوب غسل الحيض بضميمة أدلة البدلية اكتفاء الحائض بالغسل أو التيمم مع مس الميت أيضاً. وهكذا بقية أدلة الأغسال. فالعمدة ما سبق.

ومنه يظهر ضعف ما عن جامع المقاصد من احتمال عدم التداخل لأن التيمم طهارة ضعيفة مع انتفاء النص وعدم تصريح الأصحاب فيتعين الوقوف مع اليقين. إذ فيه: أن ضعف الطهارة لا أثر له في المقام بعد نهوض ما سبق بالبناء على التداخل.

(1) كما هو مقتضى إطلاق البدلية.

(2) لكن تقدم في المسألة السابعة والعشرين تقريب عدم وجوب ذلك. لإطلاق أدلة البدلية، بناء على ما هو الظاهر من إجزاء كل غسل عن الوضوء، ولخصوص معتبر أبي عبيدة المتقدم(1). فراجع.

(3) كما في الشرايع. لقدرته بذلك على استعماله، فيجب، ولا يشرع له التيمم معه. كما لا يجب عليه بذله لغيره، بل لا يجوز، لعدم جواز تعجيز نفسه عن استعمال

********

(1) وسائل الشيعة ح: 2 باب: 21 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 273

وإلا ففيه التفصيل السابق (1).

الماء مع قدرته عليه كما تقدم في المسألة الواحدة والأربعين.

وهذا في الجنب وغير المتوضئ ظاهر، وأما في الميت فلأنه وإن لم يكن مكلفاً، إلا أن خروج مؤنة التجهيز من التركة تقتضي اختصاصه بالماء ووجوب تغسيله به كفاية على غيره، وعدم جواز تصرفهم فيه بغير ذلك.

هذا ولا مجال لتوهم مزاحمة تكليف الجنب وغير المتوضئ بصرف الماء لأنفسهما إذا كان مملوكاً لهما بتكليفهما بتجهيز الميت كفاية، فلابد من الترجيح بالأهمية. لاندفاعه بأن وجوب تجهيز الميت على الأحياء كفاية لا يقتضي وجوب بذلهم مؤنة التجهيز مقدمة له، بل وجوب نفس التجهيز في ظرف تيسر المؤن من تركته أو ببذل باذل، كما تقدم في المسألة التاسعة والثلاثين في فصل تكفين الميت. ومما سبق يظهر الحال فيما إذا كان المال مملوكاً لشخص آخر، فبذله لأحدهم بعينه وخصه به، حيث يجري فيه ما سبق. بل لعله فيه أظهر كما قد يظهر بالتأمل.

ثم إنه لا مخرج عما سبق من النصوص الآتية، لاختصاص أكثرها بما إذا كان الماء مشتركاً بين الكل. نعم في مرسل محمد بن علي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قلت له: الميت والجنب يتفقان في مكان لا يكون فيه الماء إلا بقدر ما يكتفي به أحدهما، أيهما أولى أن يجعل الماء له؟ قال: يتيمم الجنب، ويغتسل الميت بالماء"(1). وإطلاقه شامل لما إذا كان الماء مختصاً بأحدهما.

إلا أن ضعف سنده وعدم ظهور القائل بمضمونه مانع من الخروج به عما سبق. ولاسيما مع قرب انصرافه عما إذا كان الماء مختصاً بأحدهما، ولا أقل من لزوم حمله على غير الصورة المذكورة تحكيماً لما سبق من القاعدة. فتأمل.

(1) يعني المتقدم في المسألة الخامسة والأربعين. لكن ذلك إنما يتجه فيما إذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 274

كان الماء مباحاً، حيث يمكن فرض التسابق فيه، فمن سبق له اختص به، وسبق الميت لابد أن يكون بسبق وليه. مع أن ذلك لا يخرج عن مفروض صدر المسألة، لأنه بسبق أحدهم إليه يملكه ويختص به، ومع سبق الكل يجري فيه حكم اشتراكهم فيه الذي يأتي الكلام فيه.

على أن الكلام هنا ليس في بطلان تيممهم الذي هو موضوع التفصيل المتقدم، بل في حكم استعمالهم للماء، فالتحويل فيه على ما سبق هنالك غير ظاهر.

أما إذا كان مملوكاً للكل فاللازم امتناع استعمال الجنب والميت له، لعدم كفاية حصة كل منهما لغسله.

نعم حصة غير المتوضئ كثيراً ما تفي بوضوئه فيتعين عليه إيقاعه بها، ويتعذر حينئذٍ الغسل على صاحبيه. وحينئذ يجوز لكل منهما بذل حصته للآخر بعد عدم قدرته على رفع حدثه به، إلا أن المفروض عدم وفاء الباقي للغسل لفرض عدم وفاء جميع الماء إلا لأحدهم فمع أخذ غير المتوضئ حصته ينقص الباقي عن مقدار الغسل للآخرين.

لكن المشهور - كما قيل - ترجيح الجنب. لصحيح عبد الرحمن بن أبي نجران:" أنه سأل أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن ثلاثة نفر كانوا في سفر، أحدهم جنب، والثاني ميت، والثالث على غير وضوء، وحضرت الصلاة، ومعهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم، من يأخذ الماء وكيف يصنعون؟ قال: يغتسل الجنب ويدفن الميت بتيمم، ويتيمم الذي هو على غير وضوء، لأن غسل الجنابة فريضة، وغسل الميت سنة، والتيمم للآخر جائز"(1). وخبر الحسين بن النضر الأرمني: "سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن القوم يكونون في السفر فيموت منهم ميت ومعهم جنب ومعهم ماء قليل قدر ما يكفي أحدهما أيهما يبدء به؟ قال: يغتسل الجنب، ويدفن الميت،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 275

لأن هذا فريضة وهذا سنة"(1). وخبر الحسن التفليسي:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن ميت وجنب اجتمعا ومعهما ماء يكفي أحدهما أيهما يغتسل؟ قال: إذا اجتمعت سنة وفريضة بدئ بالفرض"(2).

هذا وقد أشكل بعض مشايخنا (قدس سره) على ذلك بضعف النصوص المذكورة. أما الأخيران فلعدم ثبوت وثاقة الحسين بن النضر، ولا الحسن التفليسي. وأما الأول، فلاضطراب سنده.

وتوضيح ذلك: أن الحديث، وإن كان صحيحاً على رواية الصدوق، لصحة طريق الصدوق لعبد الرحمن بن أبي نجران، إلا أن الشيخ في التهذيبين روى بسنده عن الصفار عن محمد بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن رجل حدثه، قال: "سألت أبا الحسن (عليه السلام)..." وذكر الخبر باختلاف يسير. والظاهر اتحاد الخبرين، إذ من البعيد رواية عبد الرحمن له مرتين: مرة عن الإمام مشافهة ومرة بواسطة مع اتفاق لسان الخبرين، فيكون مضطرب السند مردداً بين الصحيح والمرسل. بل يبعد الأول أن عبد الرحمن لم يعدّ من أصحاب الكاظم (عليه السلام)، وإنما عدّ من أصحاب الرضا والجواد (عليهما السلام)، فإن المناسب لذلك عدم روايته عن الكاظم (عليه السلام) إلا بواسطة.

كما استشكل في دلالة الصحيح بإجمال التعليل، لاشتراك غسل الجنابة والوضوء في كونهما فريضة، لذكرهما في القرآن المجيد، وفي جواز التيمم بدلهما. مضافاً إلى أن مقتضى اشتراكهم في الماء عدم جواز بذل من هو على غير وضوء حصته للجنب. بل فرض كفاية الماء لتغسيل الميت المشتمل على ثلاثة أغسال لا يناسب عدم إمكان تغسيله به إذا توضأ به الشخص المذكور، لقلة ماء الوضوء جداً، ومن البعيد بل الممتنع عادة كونه بقدر ما يغسل به الميت دقّة بحيث إذا نقص كفاً أو كفين تعذر تغسيل الميت به.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التيمم حديث: 4، 3.

ص: 276

لكن ما ذكره من اضطراب سنده وإن كان تاماً، إلا أنه قد لا يمنع من الاستدلال به بعد ظهور اعتماد الأصحاب عليه وعلى الخبرين الآخرين، لشهرة القول بمضمونها. وقد ذكر في المعتبر أن العامل بها من الأصحاب كثير، بل لا يعرف التصريح بردها. غاية الأمر ذهاب الشيخ في المبسوط للتخيير، لتعارض النصوص.

وأما الدلالة فمن الظاهر أن إجمال التعليل لو تم لا يقدح فيها. مع أنه لا يبعد رجوع تعليل تقديم غسل الجنابة على الوضوء مع اشتراكهما في كونهما فريضة لها بدل إلى أن أهمية غسل الجنابة تقتضي تقديمه وانتقال من ليس على وضوء للتيمم بعد كونه جائزاً له.

وأما أن اشتراكهم في الماء يقتضي عدم جواز بذل من هو على غير وضوء حصته للجنب. فهو لا يزيد على كون ذلك مقتضى القاعدة، ولا يمنع من الخروج عنه بالحديث، ليكون قادحاً في دلالته. على أنه لا يبعد ابتناء اشتراك المسافرين ونحوهم - ممن يشتركون في مؤنهم ضمناً - على إعمال الأولويات العرفية والشرعية في كيفية صرف مؤنهم، ومنها الماء، لا على مقتضى الأصل الأولي من استقلال كل منهم بحصته وعدم التصرف فيها إلا بإذنه، بحيث يكون البناء المذكور كالشرط الضمني يلزم العمل عليه، فمع فرض أولوية الجنب بالماء يتعين بذل الماء له.

وأما ما ذكره من أن فرض كفاية الماء لغسل الميت المشتمل على ثلاثة أغسال لا يناسب عدم تغسيله به لو أخذ منه مقدار الوضوء، فكان الأولى له أن يذكر أن الماء الذي يكفي لتغسيل الميت ثلاثة أغسال لابد أن يزيد على غسل الجنابة والوضوء كثيراً. فلعل الأولى في دفعه أن يحمل تغسيل الميت على غسل واحد له، لقلة الماء، خصوصاً مع تعذر الخليطين غالباً في السفر، لعدم تهيؤ المسافرين لموت بعضهم في سفرهم، كما يظهر من غير واحد من النصوص الواردة في تغسيل الميت في السفر. ومن هنا لا مجال لرفع اليد عن الحديث المذكور مع تأيده بالخبرين المذكورين بمثل هذه المناقشات. ومثله

ص: 277

نعم يعارضها في ذلك خبر أبي بصير الذي لا يبعد اعتبار سنده: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم كانوا في سفر، فأصاب بعضهم جنابة، وليس معهم من الماء إلا ما يكفي الجنب لغسله يتوضؤن هم هو أفضل، أو يعطون الجنب فيغتسل وهم لا يتوضؤون؟ فقال: يتوضؤون هم ويتيمم الجنب"(1). وهو مطابق للقاعدة، لأن حصة كل منهم إذا كانت بقدر وضوئه كان عليه استعماله، فلا يبقى للجنب ما يفي غسله، ويتعين عليه التيمم.

لكنه مهجور عند الأصحاب، حيث لم يعرف وجود قائل به، فلا مجال لرفع اليد به عن حديث عبد الرحمن والخبرين الموافقين له. ولاسيما وأن مورده الدوران بين اغتسال الجنب ووضوء جماعة، لا وضوء واحد، الذي مورد النصوص المذكورة.

ومثله مرسل علي بن محمد المتقدم، فإنه وإن ذكر في الشرايع ومحكي التحرير أنه قيل بذلك، إلا أنه قال في الجواهر:" لكن لم نعرف قائله، كما اعترف بذلك بعضهم".

ومن ثم لا جابر له لينهض بمعارضة النصوص المتقدمة، فضلاً عن أن يترجح عليها. وأما تأييده بأن غسل الميت خاتمة طهارته، فينبغي إكمالها، والحي قد يجد الماء فيغتسل، وبأن القصد في غسل الميت الطهارة من الخبث، وهي لا تحصل بالتيمم والقصد من غسل الجنب الدخول في الصلاة وهو حاصل به. فهو لا ينهض بجعله حجة في المقام، ومن هنا لا مخرج عن مقتضى النصوص الأول.

هذا وقد خير في المبسوط والخلاف الكل في استعمال الماء، لعدم المرجح، ولاختلاف النصوص المقتضي لحملها على التخيير.

وفيه: أنه يكفي في الترجيح حديث عبد الرحمن وما وافقه. واختلاف النصوص لا يقتضي الجمع العرفي بينها بالتخيير، بل يأباه لسان حديث عبد الرحمن جداً. نعم لو فرض حجيتها ذاتاً واستحكام تعارضها لزم التساقط، والبناء على لزوم الوضوء عملاً بالقاعدة، على ما تقدم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 278

ثم إنه قال في المعتبر بعد ذكر ما سبق من المبسوط: "والذي ذكره الشيخ (قدس سره) ليس موضع البحث، فإنا لا نخالف أن لهم الخيرة، لكن البحث في الأولى أولوية لا يبلغ اللزوم، ولا ينافي التخيير" ،وحكى في مفتاح الكرامة نحوه عن المهذب البارع والمحقق الثاني وسبط الشهيد الثاني. وظاهرهم المفروغية عن حمل نصوص الأولوية على الاستحباب، كما هو ظاهر الشرايع، وصريح القواعد وغيرها.

لكن في الخروج بذلك عن ظاهر النصوص المتقدمة إشكال، خصوصاً بملاحظة التعليل المستفاد منها بتقديم الفريضة. ولاسيما مع ظهور إطلاق التقديم والأولوية في كلام جماعة في إرادة اللزوم. فالبناء على التقديم لو لم يكن أقوى فهو أحوط.

نعم يختص ذلك بما إذا كان الماء لهم جميعاً لاختصاص النصوص به. أما إذا اختص به أحدهم - ولو لسبقه إليه أو لتخصيص غيره به بتمليك أو بذل - فلا مخرج عن مقتضى القاعدة الذي سبق.

كما أنه يستفاد من النصوص حكم بقية صور اجتماع الجنب مع غيره من المحدثين بالأكبر أو الأصغر، حيث يتعين تقديم الجنب على غيره من المحدثين بالأكبر، لعموم التعليل بتقديم الفريضة على السنة، وعلى المحدثين بالأصغر بلحاظ الترجيح المستفاد من حديث عبد الرحمن.

وأما صور اجتماع غير الجنب من المحدثين بالأكبر مع الميت فالنصوص المتقدمة قاصرة عنها. وما يظهر من بعضهم من إلحاقهم بالجنب في غير محله. فالمتعين الرجوع فيها للقاعدة المتقدمة.

وكذا اجتماع غير المتوضئ مع المحدث بالأكبر غير الجنابة. ودعوى: أن مقتضى تقديم الفريضة المستفاد من تلك النصوص تقديم الوضوء حينئذٍ. مدفوعة بأن المحدث بالأكبر غير متوضئ أيضاً، لأن أسباب الحدث الأكبر نواقض الوضوء أيضاً، فلا ترجيح من هذه الجهة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

ص: 279

(280)

(مسألة 48): إذا شك في وجود حاجب في بعض مواضع التيمم فحاله حال الوضوء والغسل في وجوب الفحص حتى يحصل اليقين أو الظن بالعدم (1).

(1) كما تقدم منه في المسألة السادسة في فصل أفعال الوضوء، وتقدم منّا عدم الاكتفاء بالظن، بل لابد من الفحص مع عدم العلم ما لم يرجع للوسواس. فراجع. والله سبحانه وتعالى العالم. والحمد لله رب العالمين.

انتهى الكلام في التيمم شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين). وبه ينتهي الكلام في الطهارة من الحدث. صباح الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الأولى سنة ألف وأربعمائة وأربع عشرة للهجرة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلوات وأزكى التحية في النجف الأشرف ببركة الحرم الشريف، على مشرفه الصلاة والسلام. بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه نجل سماحة حجة الإسلام والمسلمين آية الله (السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم) دامت بركاته. ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق. وهو أرحم الراحمين، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 280

(281)

المبحث السادس: في الطهارة من الخبث وفيه فصول

الفصل الأول: في عدد الأعيان النجسة

وهي اثنا عشر:

الأول والثاني: البول والغائط من كل حيوان له نفس سائله محرم الأكل (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(1) إجماعاً في الجملة حكاه غير واحد، وفي الجواهر أن نقله مستفيض إن لم يكن متواتراً. والنصوص به مستفيضة، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "سألته عن البول يصيب الثوب. قال: اغسله مرتين"(1). وصحيح عبد الله بن سنان:" قال أبو عبد الله (عليه السلام): اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه "(2) ونحوهما غيرهما. لأن المستفاد عرفاً من الأمر بغسل الثوب هو النجاسة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ح: 2 باب: 8 من أبواب النجسات حديث: 2.

ص: 281

وأما الغائط فيقتضي نجاسته - مضافاً إلى عدم الفصل بينه وبين البول - النصوص الواردة في الموارد المتفرقة، كنصوص الاستنجاء من الغائط، وصحيح محمد بن مسلم في حديث:" إن أبا جعفر (عليه السلام) وطأ على عذرة يابسة فأصاب ثوبه، فلما أخبره قال: أليس هي يابسة؟ قال: بلى، قال: فلا بأس"(1) ، وموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه سئل عن الدقيق يصيب فيه خرء الفار؟ قال: إذا بقي منه شيء فلا بأس يؤخذ أعلاه"(2) ، وغيرها.

هذا وعن ابن الجنيد القول بطهارة بول الرضيع قبل أن يتغذى بالطعام أو باللحم. للأصل ولموثق السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام):" أن علياً (عليه السلام) قال: لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم، لأن لبنها يخرج من مثانة أمها. ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل أن يطعم، لأن لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين"(3). وما عن القطب الراوندي بسنده عن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): "قال: قال علي (عليه السلام): بال الحسن والحسين (عليهما السلام) على ثوب رسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يطعما فلم يغسل بولهما عن ثوبه"(4) ، ونحوه خبر الجعفريات(5).

لكن لا مجال للأصل مع الدليل. والموثق - مع اشتماله على ما لا قائل به من نجاسة لبن الجارية - معارض بصحيح الحلبي:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الصبي. قال: تصب عليه الماء. فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً..."(6). والخبران - مع عدم وضوح حجية سندهما - معارضان بما عن أم الفضل في حديث بول الحسين (عليه السلام) من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "مهلاً يا أم الفضل، فهذا ثوبي يغسل. وقد أوجعت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(4) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 282

(283)

بالأصل أو بالعارض (1) كالجلال والموطوء.

ابني"(1).

مضافاً إلى ظهور هجرها من الأصحاب، المسقط لها عن الحجية. فلتحمل على نفي الغسل مع وجوب الصب الذي تضمنته بعض النصوص(2) - ومنها ما ورد في بول الحسن(3) (عليه السلام) - لا بدونه، ليدل على طهارته.

(1) بلا خلاف أجده فيه، كما في الجواهر. وهو مقتضى إطلاق معاقد الإجماعات السابقة. بل في المختلف وعن الذخيرة الإجماع في ذرق الدجاج الجلال، وفي الغنية الإجماع في مطلق الجلال، وفي التذكرة نفي الخلاف فيه وفي الموطوء، وفي المفاتيح الإجماع فيهما وفي كل ما حرم بالعارض.

ويقتضيه إطلاق ما تضمن نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، كصحيح عبد الله بن سنان المتقدم. ودعوى انصرافه لخصوص ما حرم بالأصل. ممنوعة. ولو تم الإنصراف فهو بدوي لا يخرج به عن مقتضى الإطلاق.

ودعوى: أن الإطلاق المذكور معارض لما دل على طهارة بول البقر والإبل ونحوهما بالعموم من وجه، فيرجع في مورد المعارضة لقاعدة الطهارة. مدفوعة: بأن إطلاق نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه مقدم عرفاً، لأنه من سنخ العنوان الثانوي المقدم حكمه عرفاً على الحكم الأولي. كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره).

بل ذكر (قدس سره) أنه بعد تعارض الإطلاقين يكون المرجع إطلاق نجاسة البول، لا قاعدة الطهارة. لكنه موقوف على ثبوت الإطلاق المذكور وهو غير ظاهر. وأما مثل صحيح محمد بن مسلم المتقدم فهو - لو لم يكن منصرفاً لبول الإنسان - وارد لبيان كيفية التطهير من البول بعد المفروغية عن النجاسة، لا لبيان النجاسة، ليكون له

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 283

إطلاق يقتضي نجاسة كل بول فيرجع إليه في مثل المقام. فالعمدة ما تقدم.

ودعوى: أنه لو بني على عموم نجاسة بول ما يحرم أكل لحمه ولو بالعرض لأشكل الأمر فيما حرم للضرر والغصب والنذر ونحوها من العناوين الثانوية. مدفوعة بظهور دليل نجاسة بول ما حرم أكل لحمه في إرادة ما حرم أكل لحمه بعنوان كونه أكل لحم الحيوان، لا بعنوان كونه مضراً أو غصباً أو نحوهما من العناوين الثانوية الخارجة عن ذلك، كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره).

ثم إن المذكور في كلماتهم أن ما يحرم أكل لحمه بالعرض ثلاثة أمور:

الأول: الحيوان الجلال. على المشهور شهرة عظيمة، كما في الجواهر. خلافاً لما عن الإسكافي، فحكم بالكراهة. بل نسب للشيخ (قدس سره) أيضاً حاكياً له عن أصحابنا. لكن الظاهر عدم صحة النسبة، لأن محل كلامه - كما في المبسوط والخلاف - ما كان أكثر أكله العذرة، ومحل الكلام هو الذي يكون جميع أكله عرفاً هو العذرة. ولاسيما وأنه قال في الخلاف بعد الحكم بالكراهة فيما سبق:" وروى أصحابنا تحريم ذلك إذا كان غذاؤه كله من ذلك".

ويشهد للمشهور ظاهر النصوص. ففي صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: لا تأكل لحوم الجلالات. وإن أصابك شيء من عرقها فاغسله"(1). وكذا النصوص الواردة في إستبراء الجلال الظاهرة في حرمة لحمه قبله(2). وحمل الجميع على الكراهة بلا شاهد.

ومنه يظهر ضعف ما عن الكفاية من أن مستند التحريم أخبار لا يستفاد منها أكثر من الرجحان مع ما عرفت من العمومات الدالة على الحل. فالقول بالكراهة مطلقاً أقرب. انتهى.

والمشهور - كما قيل - أن الجلال هو الذي يكون غذاؤه عذرة الإنسان لا غير.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 284

ويقتضيه - مضافاً إلى الأصل - مرسل موسى بن اكيل عن أبي جعفر (عليه السلام): "في شاة شربت بولاً ثم ذبحت. قال: يغسل ما في جوفها، ثم لا بأس به. وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة ما لم تكن جلالة. والجلالة التي يكون ذلك غذاؤها"(1). وصحيح زكريا بن آدم عن أبي الحسن (عليه السلام):" أنه سأله عن دجاج الماء. فقال: إذا كان يلتقط غير العذرة فلا بأس "(2) وغيرهما، بناء على اختصاص العذرة بغائط الإنسان أو انصرافها إليه، كما هو غير بعيد. ولا أقل من كونه المتيقن منها، فيرجع في غيره لإطلاقات الحل أو أصل الحل. ويأتي تمام الكلام في تحديده عند الكلام في مطهرية الإستبراء.

الثاني: أن يشرب الحيوان لبن خنزيرة، فإن اشتد حرم لحمه ولحم نسله أبداً، ولا إستبراء فيه. ولا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد. بل عن الغنية الإجماع على التحريم. كذا في الجواهر.

لموثق حنان بن سدير:" سئل أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر عنده عن جدي رضع من لبن خنزيرة حتى شب وكبر واشتد عظمه. ثم إن رجلاً استفحله في غنمه فخرج له نسل فقال: أما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنه. وأما ما لم تعرفه فكله..."(3).

وإن لم يشتد كره أكل لحمه، ويستبرأ بسبعة أيام، كما في الشرايع وعن غيره. ويقتضيه موثق السكوني عنه (عليه السلام): "أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن حمل غذي بلبن خنزيرة، فقال: قيدوه واعلفوه الكسب والنوى والشعير والخبز إن كان استغنى عن اللبن، وإن لم يكن استغنى عن اللبن فليقى على ضرع شاة سبعة أيام ثم يؤكل لحمه"(4).

لكن في موثق بشر بن مسلمة عن أبي الحسن (عليه السلام):" في جدي رضع من لبن خنزيرة، ثم ضرب في الغنم. فقال: هو بمنزلة الجبن فما عرفت أنه ضربه فلا تأكله وم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 24 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 5.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 25 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 4.

ص: 285

لم تعرفه فكل"(1). ومقتضى إطلاقه العموم لما إذا لم يشتد ولا ينافيه موثق حنان بعد أن كان التقييد فيه في كلام السائل.

على أن موثق حنان وإن روي كما سبق في الكافي والتهذيبين، إلا أنه روي في قرب الإسناد بسند معتبر هكذا: "سمعت رجلاً يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن حمل رضع من خنزيرة، ثم استفحل الحمل في غنم..."(2). وحيث كان الظاهر أنهما رواية واحدة فهي مضطربة المتن.

مع أن التفصيل بين ما اشتد وغيره بالحرمة والكراهة خالٍ عن الشاهد بعد عدم ما يدل على الترخيص في الثاني. والتعويل فيه على الإجماع غير ظاهر، لعدم وضوح حجية الإجماع بعد قرب كون مستنده النصوص. على أنه لم يتضح قيام الإجماع على التفصيل، بل المتيقن قيام الإجماع على الحرمة مع الاشتداد، ولم يثبت الإجماع على عدمها وثبوت الكراهة مع عدمه.

اللهم إلا أن يقال: موثق بشر وإن روي هكذا في التهذيب والاستبصار إلا أنه روي في الكافي هكذا:" في جدي يرضع من لبن خنزيرة "وهو ظاهر في استمرار الرضاع مدة معتد بها فيناسب الاشتداد فإن أمكن ترجيح الكافي لاضبطيته، وإلا كان مفاده هو المتيقن الذي يمكن الخروج به عن أصالة الحل. ويبتني وجه الكراهة في غيره على قاعدة التسامح في أدلة السنن بناء على عمومها للمكروهات، لاحتمال صحة رواية الإطلاق للموثقين.

نعم يشكل حمل موثق السكوني المتضمن للإستبراء على خصوص ما إذا لم يشتد، لعدم القرينة فيه على ذلك، بل التعبير بأنه غذي بلبن خنزيرة منصرف لما إذا كان قد تغذى به مدة معتداً بها، وإلا فلو أريد ما يعم المرة لكان الأنسب أن يقال: رضع من خنزيرة. بل الأمر فيه بتقييده ظاهر في فرض تعايشه مع الخنزيرة، بحيث

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 25 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(2) قرب الإسناد ص: 47.

ص: 286

يحتاج تركه لرضاعها للحبس والتقييد، وهو مناسب لألفته الرضاع منها، أو تعوده على ذلك.

ومن هنا يتجه البناء على عمومه لمحل الكلام لو لم يختص به. ودعوى: سقوطه عن الحجية بهجره عند الأصحاب. ممنوعة بعد ظهور كلمات بعضهم في أنه محمول على ما إذا لم يشتد بالرضاع. فلاحظ.

الثالث: موطوء الإنسان ونسله بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد، بل عن بعض نسبته إلى الأصحاب الظاهرة في الإجماع، بل ادعاه آخر. كذا في الجواهر. والنصوص به في الجملة مستفيضة. ففي روايات عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) وإسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم موسى (عليه السلام) والحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وفيها الصحيح: "في الرجل يأتي البهيمة. فقالوا جميعاً: إن كانت البهيمة للفاعل ذبحت، فإذا ماتت أحرقت بالنار ولم ينتفع بها... وإن لم تكن البهيمة له قومت وأخذ ثمنها منه، ودفع إلى صاحبها، وذبحت وأحرقت بالنار ولم ينتفع بها... فقلت: وما ذنب البهيمة؟ فقال: لا ذنب لها، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل هذا وأمر به لكيلا يجتزئ الناس بالبهائم وينقطع النسل" (1) وغيرها. وهي وإن اختصت بالموطوء إلا أن ظاهرهم وصريح بعضهم العموم لنسله، وهو المناسب لارتكاز تبعية النسل للأصل.

نعم قد يستشكل في عموم الحكم للذكر فضلاً عن نسله، لخروجه عن المتيقن من النصوص المتضمنة لعنوان البهيمة. ولاسيما مع ما في موثق سماعة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي بهيمة شاة أو ناقة أو بقرة"(2) ، وما فيه وفي غيره(3) من تحريم لبنها. كما قد يستشكل في مثل الطير مما لا يعد بهيمة عرفاً.

اللهم إلا أن يستفاد التعميم في الموردين من مثل التعليل في الروايات السابقة

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب نكاح البهائم والأموات والاستمناء حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3.

ص: 287

(288)

أما ما لا نفس له سائلة (1)

وبالمناسبات الارتكازية المناسبة لإلغاء خصوصية موارد النصوص عرفاً، خصوصاً مع ظهور بناء الأصحاب على العموم. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) لعل المشهور طهارة بول وخرء ما ليس له نفس سائلة وإن كان محرم الأكل، بل استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، وعن شرح الدروس عدم تحققه. وإن كان مقتضى إطلاق ما عن جماعة من نجاسة بول وخرء ما لا يؤكل لحمه من دون تقييد بكونه ذا نفس سائلة قد يقتضي الخلاف.

وكيف كان فقد استدل عليه بقاعدة الطهارة بعد قصور أدلة النجاسة عنه، وانصرافها إلى غيره، وبطهارة ميتته ودمه، فصارت فضلاته كعصارة النباتات.

ويشكل الأول بأن الانصراف - لو تم - بدوي لا يخرج به عن الإطلاق الحاكم على الأصل، كإطلاق قوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان المتقدم:" اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه"(1). وأما الثاني فهو - كما ترى - لا ينهض بإثبات حكم شرعي.

ومثله الاستدلال بموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه. قال: كل ما ليس له دم فلا بأس"(2). بدعوى: أن مقتضى إطلاقه شموله لما إذا تفسخ في المائع فصار ما في جوفه من البول والغائط في المائع، ولازم ذلك طهارتهما.

للإشكال فيه بأنه لما كان وارداً لبيان انفعال المائع بالميتة من هذه الأشياء فلا نظر في إطلاقه لحكم ما في جوفه. غاية الأمر أن يستفاد منه تبعاً، وهو موقوف على شيوع التفسخ وظهور الفضلتين المذكورتين في المائع، ولا مجال له في المقام، ولاسيم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 288

مع عدم وضوح وجود البول للأمور المذكورة في النص، وأن طهارة الرجيع لهذه الأمور ونحوها مما يشيع الابتلاء به ويصعب تجنبه لا يستلزم طهارته من غيرها مما لا يشيع الابتلاء به.

مضافاً إلى أن التفسخ في الزيت والسمن ونحوها نادر، والتفسخ في البئر قد لا يقدح، لاعتصام البئر لا لعدم نجاسة فضلة الحيوان. وظهور الموثق في خصوصية ما لا نفس له بإطلاقه - من دون فرق بين هذه الأمور وغيرها - إنما هو من حيثية ميتته، لا من حيثية الفضلتين المذكورتين.

وأشكل من ذلك ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الاستدلال بموثق حفص بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام):" قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة"(1). بدعوى: أن مقتضى إطلاقه عدم انفعال الماء بشيء من أجزاء ما لا نفس له.

إذ فيه: أن الفضلتين المذكورتين ليستا من أجزاء الحيوان، ليكون مقتضى الإطلاق طهارتهما، فالحديث مختص بميتة ما لا نفس له سائلة، وهو أجنبي عن محل الكلام. ومن هنا يشكل إثبات الحكم المذكور. ولعله لذا تردد في الشرايع والمعتبر فيه، وإن قرب بعد ذلك الطهارة.

لكن لا ينبغي الإشكال في طهارة الفضلتين إذا كان الحيوان مما يطير، كالذباب لما يأتي في المسألة الأولى. وكذا في طهارة الرجيع ولو من غير الطائر، لما تقدم من عدم عموم يقتضي نجاسته من غير مأكول اللحم، وإنما استفيد من الأدلة الواردة في الموارد الخاصة، التي لا مجال لاستفادة الكلية المذكورة منها بنحو تشمل محل الكلام، ومن الإجماع على عدم الفصل بينه وبين البول في النجاسة، والمتيقن من مورده ما له نفس سائلة.

ولاسيما مع شيوع الابتلاء برجيع ما ليس له نفس سائلة في مثل الذباب والخنافس ونحوها، ولو كان البناء على نجاسته لظهر وبان، مع ظهور حال المتشرعة

********

(1) وسائل الشيعة: ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 289

أو كان محلل الأكل، فبوله وخرؤه طاهران (1).

في عدم البناء على نجاسته.

وأما البول فحيث كان الدليل على عموم نجاسته مختصاً بما تضمن نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه فهو قاصر عن بول ما لا لحم له مما ليس له نفس سائلة كالخنفساء ونحوها لو فرض أن لها شيء يصدق عليه البول عرفاً.

ويختص الإشكال بما يصدق عليه البول مما له لحم ولا يطير، كما قد يدعى في السلحفاة. وحينئذٍ يصعب البناء على طهارته والخروج عن الإطلاق المذكور، لعدم وضوح المخرج عنه فيه بعد عدم شيوع الابتلاء به، ليظهر حاله من السيرة.

هذا وفي مفتاح الكرامة: "والمراد بذي النفس السائلة الحيوان الذي له عرق يخرج منه الدم شخباً لا رشحاً، كما في المنتهى والتحرير ونهاية الأحكام وكشف الالتباس والدلائل، مائياً كان كالتمساح أو لا، كما في الذكرى والدروس" .وظاهرهم التسالم على ذلك، حيث لم يذكر ما يخالفه، ويمتنع عادة الخطأ منهم في ذلك مع كثرة الابتلاء به وبأحكامه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) طهارة بول وخرء محلل الأكل هو المعروف من مذهب الأصحاب وعن غير واحد دعوى الإجماع عليه. ويقتضيه جملة من النصوص كصحيح زرارة: "أنهما (عليهما السلام) قالا: لا تغسل ثوبك من بول شيء يؤكل لحمه"(1) ، وموثق عمار:" عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه" ،ونحوهما غيرهما. ولم يعرف الخلاف في ذلك إلا في موردين:

الأول: ما عن الإسكافي والشيخ وجماعة من متأخري المتأخرين من القول بنجاسة فضلة الخيل والحمير والبغال. وهو إنما يكون استثناء من العموم المتقدم بناء على ما هو المشهور من حلية لحمها. أما بناء على ما عن المفيد من تحريم لحم الحمار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 290

والبغل والخيل الهجان، وعن الحلبي من تحريم لحم البغل، فلا يكون نجاسة فضلة ذلك استثناء من العموم المذكور. لكنه ضعيف لأنه وإن كان مقتضى ظاهر بعض النصوص، إلا أنها محمولة على الكراهة جمعاً مع غيرها. وتمام الكلام في محله.

وكيف كان فيشهد بنجاسة فضلتها جملة من النصوص، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن الثوب يقع في مربط الدابة على بولها وروثها كيف يصنع؟ قال: إن علق به شيء فليغسله، وإن كان جافاً فلا بأس"(1) ، وصحيح الحلبي:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أبوال الخيل والبغال. فقال: اغسل ما أصابك منه"(2) ، وموثق سماعة: "سألته عن أبوال السنور والكلب والحمار والفرس. قال: كأبوال الإنسان"(3) ، وموثق زرارة عن أحدهما (عليه السلام):" في أبوال الدواب يصيب الثوب فكرهه. فقلت: أليس لحومها حلالاً؟ فقال: بلى، ولكن ليس مما جعله الله للأكل"(4) ، وصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يمسه بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال: يغسل بول الحمار والفرس والبغل، فأما الشاة وكل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله"(5) ، ونحوها غيرها. والأخيران يصلحان للحكومة على عموم طهارة فضلة ما يؤكل لحمه، لصلوحها لشرحه وحمله على إرادة ما جعله الله للأكل، لا كل ما حلّ أكله بنحو يعمّ ما جعل للركوب.

لكن لابد من الخروج عنها بجملة من النصوص صريحة في الطهارة. كمعتبر أبي الأغر النحاس - بناء على ما هو الظاهر من وثاقة أبي الأغر، لرواية ابن أبي عمير وصفوان عنه -:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أعالج الدواب فربما خرجت بالليل وقد بالت وراثت فيضرب أحدهما برجله أو يده فينضح على ثيابي فأصبح فأرى أثره فيه. فقال: ليس عليك شيء"(6) ، ومعتبر معلى بن خنيس وعبد الله بن أبي يعفور

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 21، 11.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(4و5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 7، 10، 2.

ص: 291

بناء على ما هو الظاهر من وثاقة الحكم بن مسكين، لرواية ابن أبي عمير والبزنطي عنه، معتضداً بوقوعه في أسانيد كامل الزيارات -: "كنا في جنازة وقدامنا حمار، فبال فجاءت الريح ببوله حتى صكت وجوهنا وثيابنا، ودخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام)، فأخبرناه، فقال: ليس عليكم بأس"(1) ، ونحوهما غيرهما. فيتعين حمل النصوص المتقدمة على الكراهة.

مضافاً إلى أن شيوع الابتلاء بفضلة هذه الدواب الموجب لوضوح سيرة المتشرعة فيها من عهد المعصومين (عليهم السلام) مانع عادة من خفاء حكمها على الأصحاب، وحيث ذهب المشهور إلى الطهارة، بل يظهر من بعضهم المفروغية عنه، لعدم إشارتهم للخلاف المذكور، فلا معدل عن الحكم بها.

ومنه يظهر ضعف ما عن الحدائق من التفصيل بين البول والروث بنجاسة الأول دون الثاني، لمثل صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: لا بأس بروث الحمير، واغسل أبوالها"(2) ، وصحيح عبد الأعلى بن أعين: "سألت أبا عبد الله عن أبوال الحمير والبغال. قال: اغسل ثوبك. قال: قلت: فارواثها قال: هو أكثر [أكبر] من ذلك"(3). ونحوه صحيح أبي مريم(4) وقريب منها غيرها.

وجه الضعف: أنه لابد من الخروج عن هذه النصوص بالصحيحين المتقدمين وحملها على الكراهة، غاية الأمر أن مقتضى الجمع بينها وبين النصوص الظاهرة في نجاسة الروث والمحمولة على الكراهة - كما سبق - هو البناء على كون كراهة البول أشد من كراهة الروث.

الثاني: ما في المقنعة والمبسوط والخلاف وظاهر التهذيب وعن الصدوق من غسل الثياب من ذرق الدجاج خاصة. لكن المذكور في المقنعة في باب تطهير الثياب وإن كان هو إطلاق الدجاج، إلا أن في باب تطهير المياه تقييده بالجلال. كما أن المحكي

********

(1و2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 14، 1، 13، 8.

ص: 292

(293)

(مسألة 1): بول الطير وذرقه طاهران وإن كان غير مأكول اللحم (1)، كالخفاش والطاووس ونحوهما.

عن صيد الخلاف الطهارة مدعياً عليها الإجماع(1) ، وبها صرح في الاستبصار.

وكيف كان فقد يستدل على النجاسة بخبر فارس:" كتب إليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب: لا"(2).

لكنه - مع ضعفه، وأن عدم الصلاة فيه أعم من النجاسة - معارض بخبر وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): "إنه قال: لا بأس بخرء الدجاج والحمام يصيب الثوب" (3) المعتضد بالإطلاقات المتقدمة. ولاسيما مع ندرة القول المذكور، وشيوع الابتلاء بذلك بنحو يمنع من خفاء حكمه نظير ما تقدم في سابقه. فليحمل خبر فارس على الكراهة أو على التقية، لموافقته لبعض العامة، فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) كما هو مقتضى إطلاق الفقيه وصريح المبسوط باستثناء الخفاش، وحكي عن الجعفي وابن أبي عقيل، ويظهر من المنتهى الميل إليه، وفي الجواهر: "بل هو ظاهر كشف اللثام وشرح الدروس" وحكي أيضاً عن غير واحد من متأخري المتأخرين.

ويقتضيه صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: كل شيء يطير فلا بأس ببوله وخرئه"(4). وروي مرسلاً في الفقيه، وفي البحار:" وجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي نقلاً من جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: خرء كل شيء يطير وبوله لا بأس به"(5).

إن قلت: النسبة بينه وبين إطلاق نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه هي العموم من

********

(1) من صيد الخلاف:" إجماع الفرقة وأخبارهم على أن ذرق وروث ما يؤكل لحمه طاهر... "ولم يذكر فيه خصوص ذرق الدجاج.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب النجاسات حديث: 3، 2، 1.

(5) بحار الأنوار ج: 80 ص: 110.

ص: 293

وجه، فيتعارضان في مورد الإجماع، وهو الطائر المحرم الأكل، وبعد تساقطهما يكون المرجع إطلاق ما تضمن نجاسة البول. ولاسيما مع ما عن المختلف نقلاً من كتاب عمار بن موسى عن الصادق (عليه السلام): "قال: خرء الخطاف لا بأس به. هو مما يؤكل لحمه. ولكن كره أكله لأنه استجار بك وآوى إلى منزلك، وكل طير يستجير بك فأجره"(1). لظهوره في أن العلة في طهارة خرئه حلية أكله، لا طيرانه.

قلت: الظاهر تقديم عموم الطهارة في المقام لقوة ظهوره في خصوصية الطيران في الحكم، فلو قدم عموم النجاسة لزم إلغاء خصوصيته، بخلاف ما لو قدم عموم الطهارة حيث لا يلزم منه إلغاء خصوصية حرمة الأكل في النجاسة، بل تخصيصها بغير الطير.

ولاسيما مع ندرة البول للطير المأكول اللحم، بل عن المحقق البغدادي العلم بعدم البول لغير الخفاش، فلو قدم عموم النجاسة بقي عموم الطهارة في البول بلا مورد، أو في مورد نادر، بخلاف العكس.

وما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن لها بولاً يخرج مع الخرء، ولذا قد يخرج منه الخرء مائعاً. كما ترى، فإن ذلك لا يصدق عليه البول عرفاً، وإن كان منه أو من سنخه حقيقة، كما تضمنه حديث توحيد المفضل(2).

مع أن تساقط العمومين في مورد الاجتماع بالمعارضة يقتضي الرجوع لأصالة الطهارة، لا لعموم نجاسة البول، لعدم ثبوت العموم المذكور، كما تقدم عند الكلام في فضلة ما يحرم أكله بالعرض.

وأما حديث عمار فظهوره في اختصاص العلة، بحلية الأكل ليس بنحو ينهض برفع اليد عن ظهور حديث أبي بصير في خصوصية الطيران في الطهارة، فليجمع بينهما بكون حلية الأكل أقوى العلتين وأولاهما بالذكر، ولو لخصوصية مقام السؤال.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 20.

(2) بحار الأنوار ج: 3 ص: 103 الطبعة الحديثة.

ص: 294

على أن الشيخ رواه بطريق معتبر بإسقاط لفظ (خرء)، فيخرج عن محل الكلام.

نعم قد يدعى سقوط حديث أبي بصير لشذوذه ومخالفته لأصول المذهب، فقد قال الشيخ في الاستبصار عند الكلام في بول الخفاش وفي ردّ الرواية الدالة على طهارته:" فالوجه في هذه الرواية أن نحملها على ضرب من التقية، لأنها مخالفة لأصول المذهب، لأنا قد بينا أن كل ما لا يؤكل لحمه لا تجوز الصلاة في بوله، والخفاش مما لا يؤكل لحمه، فلا تجوز الصلاة في بوله ".فإن ما ذكره يجري في غير الخفاش، بل هو أولى بالطهارة بعد ما قيل من عدم النفس السائلة له.

وقال في مباحث البئر من السرائر:" وقد اتفقنا على نجاسة ذرق غير مأكول اللحم من سائر الطيور. وقد رويت رواية شاذة لا يعول عليها أن ذرق الطائر طاهر، سواءً كان مأكول اللحم أو غير مأكوله. والمعول عند محققي أصحابنا والمحصلين منهم خلاف هذه الرواية، لأنه هو الذي يقتضيه أخبارهم المجمع عليها ".وقال في التذكرة:" وقول الشيخ في المبسوط بطهارة ذرق ما لا يؤكل لحمه من الطيور لرواية أبي بصير ضعيف، لأن أحداً لم يعمل بها".

لكن كلام الشيخ في الاستبصار لا يناسب في ما تقدم منه في المبسوط. وما تقدم من السرائر لا يناسب ما تقدم من غير واحد من أعيان قدماء الأصحاب من العمل بحديث أبي بصير. ومثله ما تقدم من التذكرة. بل هو لا يناسب ما في المنتهى من الميل للعمل بالحديث المذكور.

وأشكل من ذلك ما في المعتبر، من أن الرواية وإن كانت حسنة، إلا أن العامل بها قليل، وما في المختلف من أن الرواية مخصوصة ببول الخفاش، للإجماع على نجاسته، فتختص بما يشاركه في العلة، وهو عدم كونه مأكولاً.

لاندفاع الأول بأن قلة العمل بالرواية لا يسقطها عن الحجية إذا كانت معتبرة السند ما لم تكن مهجورة، وهو غير حاصل في المقام بعد ما سبق من عمل من عرفت. وبعد ظهور كلام غير واحد في أن عدم العمل بها لمعارضتها بنصوص نجاسة بول

ص: 295

(296)

ما لا يؤكل لحمه، لا لظهور خلل فيها لهم خفي علينا. واندفاع الثاني بأن تخصيصها ببول الخفاش - لو تم - قد يكون للنص الخاص الآتي الذي لا يجري في غيره من غير مأكول اللحم.

بقي في المقام أمران:

الأول: أنه تقدم من الشيخ في المبسوط استثناء الخفاش من حكم الطير المتقدم. كما تقدم منه في الاستبصار ردّ الرواية الدالة على طهارته بمخالفتها لأصول المذهب، وفي التهذيب رميها بالشذوذ، وتقدم من المختلف تخصيص عموم طهارة فضلة الطير في الخفاش للإجماع على نجاسته.

ويشهد للنجاسة خبر داود الرقي:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فاطلبه فلا أجد. فقال: اغسل ثوبك"(1). لكنه معارض بمعتبر غياث عن جعفر عن أبيه: "قال: لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف"(2). المعتضد بما عن نوادر الراوندي عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام):" إن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن الصلاة في الثوب الذي فيه أبوال الخشاشيف ودماء البراغيث فقال: لا بأس"(3). بل مما تقدم يظهر أنه كالمتيقن من صحيح أبي بصير المتضمن طهارة بول الطائر.

وحينئذٍ يشكل التعويل على خبر داود في الخروج عن عموم طهارة فضلة الطير، لأنه - لو تم انجباره بعمل المشهور لكون اعتمادهم في الخفاش عليه لا على عموم نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه - معارض بالحديثين المتقدمين، فيتعين حمله على الكراهة.

ولا مجال لما تقدم من الشيخ في الاستبصار والتهذيب بعد موافقة الحديثين لعموم طهارة فضلة الطير الذي عمل به هو (قدس سره). بل قد يكون موردهما المتيقن منه، كما سبق. كما لا مجال لردهما بالإجماع المتقدم من المختلف. لعدم وضوح الإجماع المذكور

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب النجاسات حديث: 4، 5.

(3) مستدرك السائل ج: 2 باب: 6 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 296

(297)

(297)

(مسألة 2): ما يشك في إنه له نفس سائلة محكوم بطهارة بوله

بعد كون ظاهر الفقيه والمقنع وما عن الجعفي وابن أبي عقيل البناء على الطهارة، لإطلاقهم طهارة فضلة الطير من دون استثناء، وإنما يختص الاستثناء بالشيخ. بل لعل مراد المختلف من الإجماع هو خصوص إجماع الشيخ والقائلين بعموم نجاسة فضلة ما لا يؤكل لحمه، لا إجماع الكل، وإلا فلم ينقل القول بنجاسة فضلة الخفاش عن غير الشيخ ممن يقول بطهارة فضلة الطير. ومن هنا كان المتعين الطهارة.

الثاني: مقتضى عموم طهارة فضلة الطير طهارة فضلة ما حرم منه بالعرض كالدجاج والبط الجلال، بناء على طهارة فضلة الدجاج غير الجلال، وإلا فبناء على استثنائه من عموم طهارة فضلة المأكول يتعين نجاسة الجلال منه بالأولوية. لكن عرفت ضعف المبنى المذكور.

اللهم إلا أن يدعى انصراف العموم المتقدم عن الجلال، بدعوى: قضاء المناسبات الارتكازية بورود العموم المتقدم لرفع اليد عن مقتضى طبع الحيوان من نجاسة فضلته في نفسه لكونه غير مأكول اللحم، ولا نظر له لنجاسته لجهة خارجة عن مقتضى طبعه طارئة عليه.

أو يدعى أن مثل الدجاج والبط وإن صدق عليه عنوان الطائر بلحاظ حكايته عن قسم خاص من الحيوان، إلا أنه يشكل أن يصدق عليه أنه يطير الذي هو الموضوع للعموم المتقدم، لعدم تحقق الطيران منه إلا نادراً، خصوصاً مع قرب كون منشأ الحكم بطهارة فضلة الطير التخفيف بلحاظ صعوبة التحرز منها، وهو لا يجري في مثل الدجاج من الطيور الداجنة.

لكن هذا إنما يقتضي استثناء خصوص الدواجن من الطيور إن حرمت بالعرض، دون ما حرم بالعرض من الطير الذي يكثر منه الطيران، بخلاف الأول، فإنه يقتضي عموم الاستثناء لكل ما يحرم بالعرض. فلاحظ.

ص: 297

(298)

وخرئه (1)، وكذا ما يشك في أنه محلل الأكل أو محرمه (2).

(الثالث): المني (3)

(1) لأصالة الطهارة. بل قد يدعى جريان استصحاب عدم كون الحيوان ذا نفس سائلة من باب استصحاب العدم الأزلي، فيحكم على أصالة الطهارة. فتأمل.

هذا كله بناء على طهارة فضلة ما ليس له نفس سائلة مطلقاً، أما بناء على ما تقدم من التفصيل فالمرجع في مورد الشك أصالة طهارة الفضلة.

وكذا لو كان منشأ الشك التردد في الحيوان ذي الفضلة، كما لو تردد البعر بين كونه من فأر وكونه من وزغ حيث تجري أصالة الطهارة في الفضلة في مورد الشك بلا إشكال.

(2) لأصالة الطهارة، إما بعد الفحص، بأن كان الشك للشبهة الحكمية، كما لو احتمل حرمة لحم الكنغر، أو بدونه، بأن كان الشك للشبهة الموضوعية كما لو علم بأن الفضلة لحيوان معين اشتبه حاله بين أن يكون أرنباً وأن يكون غزالاً. ومثله ما لو ترددت الفضلة بين حيوانين يحل أكل لحم أحدهما دون الآخر.

ودعوى: أن مقتضى عموم نجاسة البول والغائط البناء على النجاسة ما لم يعلم بأنه من حيوان محلل الأكل. مدفوعة بما سبق عند الكلام في نجاسة الغائط وفي نجاسة فضلة ما حرم العرض من عدم ثبوت العموم المذكور.

مع أن العموم - لو تم - بعد أن كان مخصصاً في مأكول اللحم فلا مجال للتمسك به في مورد الشك، بناء على ما هو التحقيق من عدم التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. نعم لو كان هناك أصل يحرز عدم حل الأكل اتجه الرجوع للعموم. لكن لا أصل يحرز ذلك، بل مقتضى الأصل الحلية بلحاظ ذات الحيوان. فلاحظ.

(3) إجماعاً محصلاً ومنقولاً صريحاً في الخلاف والتذكرة وكشف اللثام وعن النهاية وكشف الالتباس، وظاهراً في المنتهى وغيره. كذا في الجواهر.

ص: 298

من كل حيوان له نفس سائلة (1)

والنصوص(1) به مستفيضة، بل متواترة.

نعم في صحيح أبي أسامة: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تصيبني السماء وعلي ثوب فتبله وأنا جنب، فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني، أفأصلي فيه؟ قال: نعم"(2). وقريب منه موثقه(3). وفي صحيح زرارة:" سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟ قال: نعم لا بأس به إلا أن تكون النطفة فيه رطبة، فإن كانت جافة فلا بأس"(4). حيث قد يدعى دلالتها على طهارة المني ومعارضتها لما سبق.

لكنها لا تدل على طهارته، بل على عدم تنجيسه لملاقيه. بل مقتضى الجمع بين الأولين والأخير التفصيل في ذلك بين الرطب والنجس. وذلك مما لا يمكن البناء عليه، بل لا يمكن الخروج بهذه النصوص عما تقدم مما يقتضي النجاسة. فلابد من طرحها، أو حملها على التقية، لموافقتها لبعض العامة. ولاسيما مع مناسبته لما رووه عن عائشة من أنها كانت تفرك المني من ثوب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يذهب فيصلي فيه(5).

(1) كما هو معقد الإجماع المتقدم. وقد ذكر غير واحد أنه لا مجال لاستفادته من النصوص المطلقة. قال في الجواهر: "لتبادر الإنسان منها، كما اعترف به جماعة من الأعيان، حتى ادعى بعضهم أنها ظاهرة كالعيان، بحيث لا يحتاج إلى البيان. ولعله لاشتمالها أو أكثرها على إصابة الثوب ونحوه مما يندر غاية الندرة حصوله من غير الإنسان".

وأظهر من ذلك ما لو قيل باختصاصه لغة بما يخرج من الرجل كما هو مقتضى ما في لسان العرب وعن الصحاح من أنه ماء الرجل، أو من الإنسان كما هو مقتضى

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب النجاسات وغيرها.

(2) ،

(3) ،

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات حديث: 3، 6، 7.

(5) الفقه على المذاهب الأربعة ج: 1 ص: 13. والتاج الجامع للأصول ج: 1 ص: 88.

ص: 299

ما في القاموس من أنه ماء الرجل والمرأة.

لكنه لا يناسب ظهور مفروغية الفقهاء من العامة والخاصة على العموم لما يخرج من أي حيوان، لظهور نزاعهم في عموم حكمه وخصوصه في المفروغية عن عمومه موضوعاً، كما هو ظاهر مفردات الراغب أيضاً. ومن ثم لا يبعد حمل كلام من تقدم من اللغويين على التمثيل لا التخصيص، كما قطع به بعضهم. وينحصر وجه قصور النصوص بالانصراف المدعى.

لكنه لا يخلو عن إشكال إذ لا منشأ له ارتكازي، بل ليس منشؤه إلا غلبة الابتلاء بمني الإنسان في الثوب ونحوه، ومثل ذلك لا يقتضي إلا الانصراف البدوي. بل لو فرض تمامية الانصراف في الجملة، إلا أن إلغاء الخصوصية قريب جداً. ولاسيما بضميمة ظهور مفروغية الأصحاب عن عموم الحكم لغير الإنسان، حيث يكاد يقطع بعدم إطلاعهم على ما لم نطلع عليه من الأدلة، خصوصاً مع عدم شيوع الابتلاء به بنحو يمنع من خفاء حكمه، فلابد من استفادتهم له من النصوص، إما بإطلاقها أو لفهم عدم الخصوصية ارتكازاً لموردها لو تم انصرافها للإنسان، لما ذكرناه من عدم كون منشأ الانصراف ارتكازياً.

وهو المناسب لإهمال النصوص التعرض لحكم مني غير الإنسان، لأنه وإن لم يكن الابتلاء به شايعاً شيوعه في مني الإنسان، إلا أنه مورد للابتلاء كثيراً، فلولا وفاء النصوص ببيان حكمه في الجملة لكان المناسب التعرض له والسؤال عن حكمه. ومن ثم لا معدل عن البناء على استفادة العموم في الجملة من النصوص.

هذا وفي الجواهر أنه قد يستفاد العموم من صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "ذكر المني وشدده، وجعله أشد من البول. ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة..."(1).

بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن الدليل ينحصر به، لدعوى أن مقتضى أشدية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 300

وإن حلّ أكل لحمه (1).

المني من البول نجاسة مني كل حيوان ينجس بوله، وهو كل ما يحرم أكله من ذي النفس السائلة. ولا ينافي ذلك انصراف ذيل الصحيح لمني الإنسان، لاشتماله على حكم آخر غير حكم الصدر.

لكنه كما ترى، لأن التشديد ليس وارداً لبيان النجاسة، بل بعد المفروغية عنها من دون نظر لموضوعها، فلا إطلاق للحديث لينظر في انصرافه لمني الإنسان وعدمه. مع أن الاستدلال إن كان بلحاظ إطلاق المني لزم دلالته على نجاسة المني حتى من غير ذي النفس السائلة، مع أنه اعترف بقصور الصحيح عن إثبات نجاسته، لطهارة بوله. وإن كان بلحاظ أشديته فالأشدية ليست بلحاظ العموم والسعة، بل بلحاظ تأكد النجاسة، كما اعترف به هو، واحتمله في الجواهر، وأصرّ عليه سيدنا المصنف (قدس سره). نعم لو كان لسان الحديث هكذا: مني كل حيوان أشد من بوله، كان لما ذكره وجه.

(1) كما هو مقتضى إطلاق معقد الإجماع المتقدم. وبه يخرج عن إطلاق موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه"(1). وكذا موثق ابن بكير الوارد في جواز الصلاة في كل ما يكون مما يؤكل لحمه(2).

اللهم إلا أن يقال: لما لم يكن الابتلاء بمني غير الإنسان شايعاً بنحو يمتنع خفاء حكمه على الأصحاب عند تحرير الفتاوى، ولاسيما مع أن جملة من عبارات قدماء الأصحاب وبعضهم من نقلة الإجماع قد اقتصر فيها على إطلاق حكم المني من دون تنصيص على التعميم لغير الإنسان، فإنه وإن تقدم تقريب عموم المني في كلامهم لغير الإنسان، إلا أنه يحتمل كون عموم الحكم عندهم تابعاً لحرمة الأكل، اعتماداً على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 12.

(2) ملحق وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 301

وأما مني ما لا نفس له سائلة فطاهر (1).

الإطلاق المتقدم في الموثقين، لظهور عملهم بهما واعتمادهم عليهما، كما هو ظاهر حال من روى الموثقين ممن كان دأبه على بيان فتاواه برواياته، ولم يتضح التنصيص على عموم الحكم بنحو ينافي إطلاق الموثقين إلا من جماعة ممن تأخر عنهم يحتمل غفلتهم عن ذلك.

ولاسيما مع عدم وضوح عموم المني لغة لما يكون به التلقيح مما يخرج من جملة من الحيوانات المحللة الأكل، كالطيور ونحوها، فإنه تقدم تقريب عمومه لما يخرج من غير الإنسان، إلا أنه لا طريق لإحراز عموم الغير لكل حيوان. ومن هنا يصعب القطع بل الوثوق بما تضمنه معقد الإجماع المذكور، لينهض بالخروج عن إطلاق الموثقين.

(1) كما صرح به غير واحد، بل قرب سيدنا المصنف (قدس سره) انعقاد الإجماع عليه قال:" كما أن الظاهر انعقاده على طهارته من غير ذي النفس. وتردد المحقق في الشرايع والمعتبر غير قادح، لأنه اختار فيهما الطهارة بعد ذلك. ولأجل ذلك لا يكون للاهتمام في إثبات عموم النصوص مزيد فائدة".

لكنه غير ظاهر بعد إطلاق جماعة نجاسة المني من دون تنبيه على استثناء ما لا نفس له سائلة. ولعله لذا حكي عن بعضهم أن ظاهر الأكثر النجاسة. ومن هنا لا مجال للتعويل على الإجماع في المقام.

نعم يتجه الحكم بالطهارة بناء على اختصاص المني بما يخرج من الإنسان، أو انصراف إطلاق نصوص نجاسته إليه، حيث يتعين الاقتصار في التعدي عنه والخروج عن أصل الطهارة على الإجماع غير الشامل له. لكن عرفت ضعف المبنى المذكور.

كما يظهر ضعف جملة من الوجوه التي تجري في المقام مما تقدم عند الاستدلال بها لطهارة فضلة ما لا نفس له سائلة، بل لعل الاستدلال ببعضها بها هنا أضعف، كما يظهر بالتأمل.

ص: 302

(303)

(الرابع): الميتة من الحيوان ذي النفس السائلة (1)

فالعمدة في المقام عدم وضوح صدق المني على ما يخرج مما لا نفس له سائلة، وإن كان هو ظاهر مفردات الراغب، لنظير ما سبق في ذيل الكلام في مني مأكول اللحم، بل هو هنا أظهر. ومعه يتعين الرجوع لأصل الطهارة.

(1) قال في الجواهر:" وأما ذو النفس السائلة فميتة غير الآدمي منه نجسة إجماعاً محصلاً ومنقولاً في الغنية والمعتبر والمنتهى والذكرى وكشف اللثام والروض وعن نهاية الأحكام والتذكرة وكشف الالتباس وغيرها، بل في المعتبر والمنتهى أنه إجماع علماء الإسلام... وأما ميتة الآدمي من ذي النفس فنجسة بلا خلاف أجده فيه، بل في الخلاف والغنية والمعتبر والمنتهى والذكرى والروض وعن ظاهر الطبريات والتذكرة وصريح نهاية الأحكام وكشف الالتباس وغيرها الإجماع عليه".

ويقتضيه طوائف من النصوص منها: ما ورد في البئر التي يموت فيها الحيوان، حيث يظهر من غير واحد من نصوصه ذلك مثل ما تضمن إراقة الدلو الذي فيه يخرج فيه الميتة(1) وما تضمن النزح إذا انتنت من الميتة(2).

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن مطهرية النزح لما لم تكن عرفية فالأمر بالنزح لا يكون ظاهراً في نجاسة البئر ليلزمه نجاسة الميتة ومنجسيتها. فهو يندفع بأنه لو سلم عدم كون مطهرية النزح عرفية، إلا أنه لا ريب في ظهور الأمر به في انفعال البئر، ولو لكونه مطهراً شرعاً. ويناسبه قوله (عليه السلام) في موثق عمار:" يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين فينزفون يوماً إلى الليل، وقد طهرت"(3). بل قد يظهر من مجموع النصوص المفروغية عن النجاسة، وأن منش

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب 15 من أبواب الماء المطلق حديث: 3، وباب: 17 منها حديث: 4، 7، 11، وباب: 18 منها حديث: 1، باب: 19 منها حديث: 4، باب: 22 منها حديث: 1، 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 23 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 303

السؤال هو احتمال عدم انفعال البئر أو الجهل بكيفية التطهير منها.

بل استدل في الجواهر وغيره بما تضمن الأمر بالنزح لموت الحيوان مطلقاً أو خصوص بعض الحيوانات من النصوص الكثيرة، لدعوى أن ظاهر الأمر بالنزح النجاسة. ولا ينافيه ما تضمن عدم وجوب النزح، لأن منشأه اعتصام البئر، لا عدم نجاسة ما أمر بالنزح من أجله.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأنه بعد ثبوت عدم انفعال البئر وعدم وجوب نزحها فلابد من حمل الأمر بالنزح على الاستحباب، وهو كما يكون للتنزه عن أثر النجاسة يكون للتنزه عن أثر غيرها، كما ورد الأمر بالنزح لبعض ما لا نفس له سائلة ولدخول الجنب(1) ، والأمر بغسل الثوب والبدن لملاقاة كثير من الأمور التي ثبت طهارتها وعدم تنجيسها.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن نصوص النزح كما تدل على نجاسة البئر تدل على نجاسة الميتة، فرفع اليد عن الدلالة الأولى وسقوطها عن الحجية لا يقتضي رفع اليد عن الثانية، لأن التلازم بين الدلالتين وجوداً لا يقتضي التلازم بينهما في الحجية.

فهو ممنوع جداً، لقصور الكبرى التي أشار إليها عما إذا كان سقوط إحدى الدلالتين عن الحجية مبتنياً على كذبها، كما في المقام، وإنما يتم ذلك فيما إذا كان عدم حجيتها لعدم تمامية موضوع الحجية فيها، من دون أن يرجع إلى كذبها، كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة، حيث لا تثبت السرقة بذلك ولا يترتب أثرها، وهو الحد، لعدم ثبوت حقوق الله تعالى بذلك، ويثبت لازمها، وهو الضمان، لأنه من حقوق الناس التي يكفي فيها رجل وامرأتان.

ومنها: ما ورد في السمن والعسل أو الطعام أو الشراب تموت فيه الفأرة أو الجرذ أو الدابة أو تقع فيه الميتة، من المنع عن أكلها، أو الأمر بإلقائها وما يليها إن كان

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 19، 22 من أبواب الماء المطلق.

ص: 304

جامداً، وفي القدر إذا وقعت فيه فأرة من الأمر بإهراق المرق وغسل اللحم(1).

وأما ما في المدارك من أنه غير صريح في النجاسة. فهو لا يمنع من الاستدلال بعد ظهوره فيه عرفاً، لظهور أن وظيفة الإمام (عليه السلام) بيان المحذور الشرعي، فيحمل أمره بعدم الانتفاع بالطعام والشراب على ذلك، لا على التنزه بلحاظ تنفر النفس منه، ولاسيما مع أنه قد يكون كثير المالية يصعب على كثير من الناس إتلافه وعدم الانتفاع به. بل في خبر جابر: "فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها. قال: فقال له أبو جعفر (عليه السلام): إنك لم تستخف بالفأرة، وإنما استخففت بدينك، إن الله حرم الميتة من كل شيء"(2). على أن التنزه لتنفر النفس مما يدركه كل أحد ولا يحتاج فيه لأمره (عليه السلام).

ومنها: ما ورد في الماء القليل تكون فيه الفأرة الميتة، من الأمر بغسل الثوب منه وإعادة الوضوء والصلاة(3). وما ورد في الماء تكون فيه الجيفة من الأمر بالوضوء من الجانب الآخر، واجتناب الماء كله إذا غلب ريح الجيفة(4). وما تضمن انفعال الماء بميتة ذي النفس السائلة(5).

ومنها: ما ورد من النهي عن الأكل في آنية أهل الكتاب إذا كانوا يأكلون فيها الميتة والدم ولحم الخنزير، كما في صحيح محمد بن مسلم(6) وقريب منه قوله في معتبر يونس:" وإنما كره أن يؤكل سوى الأنفحة مما في آنية المجوس وأهل الكتاب لأنهم لا يتوقفون الميتة والخمر"(7).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 5 من أبواب الماء المضاف، وج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات، وج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به، وج: 16 باب: 43، 44 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 5 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات.

(6) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 54 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

(7) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

ص: 305

ومنها: ما ورد فيمن كان عمله بجلود الحمر الميتة من الأمر باتخاذ ثوب للصلاة(1).

ومنها: ما تضمن الأمر بغسل الثوب بمس ميت الإنسان وغيره(2).

ومنها: ما تضمن الأمر بغسل ما يفصل من الميتة مما لا تحله الحياة، كصحيح حريز: "قال أبو عبد الله لزرارة ومحمد بن مسلم: اللبن واللباء والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي. وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه"(3).

وما في المدارك من احتمال كون الأمر بغسله لإزالة الأجزاء المتعلقة به من الميتة لمانعيتها من الصلاة، خلاف الظاهر جداً، لعدم كفاية الغسل غالباً في إزالة الأجزاء المذكورة. مع أن الفصل قد لا يكون بالنتف أو القلع من المنبت، ليمكن استصحاب المقلوع لشيء من أجزاء الميتة، بل قد يكون بالقطع بمثل السكين. وهناك نصوص أخر متفرقة في أبواب الفقه ربما يستفاد منها الحكم المذكور.

ومنه يظهر الإشكال فيما عن المعالم من أن العمدة في المسألة الإجماع.

وأشكل منه ما في المدارك، قال عند الكلام في ميتة الإنسان:" وبالجملة: فالروايات متضافرة بتحريم الصلاة في جلد الميتة، بل الانتفاع به مطلقاً. وأما نجاسته فلم أقف فيها على نص يعتد به. مع أن ابن بابويه رحمه الله تعالى روى في أوائل كتاب من لا يحضره الفقيه مرسلاً عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والسمن والماء ما ترى فيه؟ قال: لا بأس بأن يجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن ويتوضأ منه ويشرب، ولكن لا تصل فيه. وذكر قبل ذلك من غير فصل يعتد به أنه لم يقصد في كتابه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه. قال: بل إنما قصدت إلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب النجاسات، وباب: 3 من أبواب غسل المس.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3.

ص: 306

إيراد ما أفتي به واحكم بصحته واعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته. والمسألة قوية الإشكال".

إذ فيه: أنه لا مجال للإشكال في جميع ما سبق من النصوص بعد أن كان جملة منها معتبرة السند تامة الدلالة. ومجرد عدم التصريح فيها بالنجاسة لا يقدح، فإن أكثر النجاسات لم يصرح فيه بذلك، وإنما استفيدت نجاستها من الأمر بغسل ما أصابه أو إراقته أو نحو ذلك مما تضمنته النصوص المتقدمة. ولاسيما مع أن الحكم من الوضوح عند الأصحاب والمتشرعة بحد يلحقه بالضروريات، حيث يمتنع عادة خطؤهم في مثل هذا الحكم الشايع الابتلاء.

وأما ما حكاه عن الصدوق، فإن كان المراد به أن اعتماده (قدس سره) على المرسل جابر له. فهو - لو تم - لا يقتضي نهوضه بمعارضة النصوص المتقدمة، المعتضدة بما سبق. على أنه غير تام بعد إعراض جمهور الأصحاب عنه، وعدم روايتهم له ولا تعويلهم عليه. وإن كان المراد أنه مانع من انعقاد الإجماع على الحكم. ففيه: أن خروج الصدوق (قدس سره) عن الإجماع لا يقدح فيه بعد ما سبق من المؤيدات له. مع أن في النصوص الكفاية.

على أن المرسل قد يبتني على طهارة جلد الميتة بالدبغ أو غير ذلك. كما قد يبتني عمل الصدوق به على استثناء الجلد من النجاسة، أو استثناء الاستعمال المذكور من عموم أحكامها... إلى غير ذلك مما لا مجال معه للخروج عما سبق.

ومثله ما ذكره من التردد في ميتة الآدمي، حيث احتمل وجوب الغسل بمسه تعبداً لا لنجاسته، وحمل عليه ما حكاه عن ابن إدريس من أنه لو لاقى الإناء جسد الميت وجب غسله. أما لو لاقى الإناء قبل غسله مايعاً لم ينجس ذلك المايع. قال ابن إدريس:" وحمله على ذلك [يعني: على الإناء في الانفعال] قياس، وتجاوز في الأحكام بغير دليل، والأصل في الأشياء الطهارة إلى أن يقوم دليل".

إذ فيه: أنه خلاف ظاهر الأمر بالغسل في النصوص المشار إليها آنفاً. وما عن ابن إدريس - بقرينة ما سبق من تعليله - ليس ظاهراً في عدم تنجس الإناء، بل في عدم

ص: 307

تنجيسه للمايع، فيرجع إلى عدم تنجيس المتنجس بالميتة، وهو أمر آخر خارج عن محل الكلام.

نعم قال بعد ذلك: "وإن كنا متعبدين بغسل ما لاقى جسد الميت، لأن هذه نجاسات حكميات وليست عينيات" .وظاهره التفصيل في النجاسات بين العينيات والحكميات، فالأولى يتنجس ملاقيها بنحو ينجس، والثانية يجري على ملاقيها حكم النجاسة - وهو وجوب الغسل - من دون أن ينجس. وهو تفصيل غريب، خصوصاً في مثل الإناء الذي لا يحتمل وجوب غسله تعبداً حتى لو لم يستعمل فيما يعتبر فيه الطهارة، فإذا لم يكن منجساً لما يلاقيه لا يبقى معنى لوجوب غسله، بخلاف مثل الثوب الذي يمكن وجوب غسله تعبداً من أجل الصلاة فيه وإن لم يكن نجساً ولا منجساً لما يلاقيه.

هذا وفي المفاتيح بعد ذكر صحيح الحلبي المتضمن غسل الثوب بإصابة جسد الميت: "لا دلالة فيه، لإمكان أن يكون المراد منه إزالة ما أصاب الثوب مما على الميت من رطوبة أو قذر تعدّيا إليه... إذ لو كان الميت نجس العين لم يطهر بالتغسيل... والمستفاد من بعض الأخبار عدم تعدي نجاسة الميتة مطلقاً، ولا بعد فيه، لأن معنى النجاسة ينحصر في وجوب غسل الملاقي، كما يأتي بيانه في حكم نجاسة الكافر" .وقد أشار بذلك إلى ما ذكره في مبحث نجاسة الكافر حيث قال بعد ذكر الأخبار الدالة على عدم نجاسته: "وفي هذه الأخبار دلالة على أن معنى نجاستهم خبثهم الباطني، لا وجوب غسل الملاقي".

ويظهر ضعفه بأدنى تأمل. لظهور الأمر بغسل الثوب في النجاسة. وحمله على أن المراد منه إزالة ما أصاب الثوب مما على الميت من رطوبة أو قذر، بعيد جداً، لعدم خصوصية الموت في ذلك. ومجرد طهارة الميت بالتغسيل لا ينافي نجاسته. والمراد بكونه نجس العين عدم استناد نجاسته لملاقاة النجاسة، ليختص بموضع الملاقاة، لا عدم زوال نجاسته. نظير عدهم الخمر من النجاسات مع زوال نجاسته بالانقلاب.

ص: 308

وإن كان محلل الأكل (1) وكذا أجزاؤها المبانة منها (2)

وأما حمل النجاسة في الميتة مطلقاً على الخباثة فهو تحكم. وقياسه على الكافر مع الفارق، لأن نصوص الطهارة هي الملزمة، بحمل ما يظهر منه نجاسته على الخباثة، أو على معنى آخر يناسب الطهارة، ولا نصوص في المقام تدل على الطهارة، ليخرج بها عن ظهور نصوص النجاسة في النجاسة المصطلحة.

(1) لعموم معقد الإجماع، وإطلاق بعض النصوص المتقدمة مثل ما ورد في نزح البئر إذا أنتنت من الميتة، وما ورد في الماء تكون فيه الجيفة، وما ورد من النهي عن الأكل في آنية أهل الكتاب إذا كانوا يأكلون فيها الميتة، وخصوص ما ورد فيمن كان عمله بجلود الحمر الميتة، وما ورد في غسل ما ينفصل عن الميتة مما لا تحله الحياة، وقد تقدم التعرض لجميع ذلك. فلاحظ.

(2) بلا خلاف ظاهر، وفي المدارك أن الحكم بنجاسة ما قطع من حي أو ميت مقطوع به في كلام الأصحاب. قال (قدس سره): "واحتج عليه في المنتهى بأن المقتضى لنجاسة الجملة الموت، وهذا المعنى موجود في الأجزاء فيتعلق بها الحكم. وضعفه ظاهر، إذ غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميت، وهو لا يصدق على الأجزاء قطعاً. نعم يمكن القول بنجاسة القطعة المبانة من الميت استصحاباً لحكمها حال الاتصال" .وما ذكره من الإشكال على ما في المنتهى قد يتجه فيما ينفصل من الحي، لعدم صدق الميت أو الميتة عليه، ولا على ما أخذ منه، ولا على المجموع منهما. دون ما ينفصل من الميت، لأنه حيث صدق عنوان الميتة الذي هو موضوع النجاسة على المجموع حين الاتصال فالمستفاد عرفاً منه عدم دخل الاتصال في النجاسة، ولا يحتمل كون التقطيع من المطهرات.

بل قد يجري ذلك في موت الحيوان بالتقطيع، كما لو قطع نصفين، حيث يصدق الميت أو الميتة على المجموع، فينجس كل منهما وإن لم يصدق على كل منهما العنوان

ص: 309

(310)

وإن كانت صغاراً (1).

(مسألة 3): الجزء المقطوع من الحي بمنزلة الميتة (2)، ويستثنى من ذلك الفالول، والبثور، وما يعلو الشفة، والقروح ونحوها عند البرء،

المذكور. على أن صحيح محمد بن مسلم المشار إليه آنفاً المتضمن النهي عن استعمال آنية اهل الكتاب إذا كانوا يأكلون فيها الميتة كالنص فيما نحن فيه. وكذا ما ورد فيمن كان عمله بجلود الحمر الميتة.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): "مضافاً إلى تعليل جواز الصلاة في صوف الميتة بإنه ليس فيه روح، كما في صحيح الحلبي، وتعليل طهارة الأنفحة بأنها ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم، كما في خبر الثمالي. بل نصوص استثناء مالا تحله الحياة ظاهرة في خصوصية له يمتاز عن بقية الأجزاء، كما لا يخفى".

ودعوى: أن النصوص المذكورة واردة لبيان جواز الصلاة في الشيء وأكله، لا لبيان طهارته، لينفع فيما نحن فيه. مدفوعة بإنه لا مجال لذلك في جميع النصوص المذكورة، بل بعضها ظاهر في الطهارة، خصوصاً ما عبر فيه بأنه ذكي. فلاحظها.

ومن ذلك يظهر أنه لا يحتاج في البناء على النجاسة للاستصحاب، كما يظهر مما تقدم من المدارك. وإن كان ينهض بإثباتها، بناء على ما هو الظاهر من جريانه في الأحكام الشرعية المتعلقة بالموضوع الخارجي الجزئي غير القابل للتقييد، خلافاً لبعض مشايخنا (قدس سره)، ومن أن الانفصال لا يوجب تبدل الموضوع، بل هو من سنخ الحال للطارئ، خلافاً لشيخنا الأستاذ (قدس سره). فلاحظ.

(1) لعموم ما تقدم.

(2) بلا خلاف ظاهر، وقد تقدم من المدارك أنه مقطوع به في كلام الأصحاب. كما تقدم عن المنتهى الاستدلال له بوجود مقتضي النجاسة فيه. وقد تقدم ضعفه. فالعمدة النصوص.

ص: 310

منها: ما ورد فيما قطعته الحبالة من الصيد، كصحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): "ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يداً أو رجلاً فذروه فإنه ميت، وكلوا ما أدركتم حياً وذكرتم اسم الله عليه" (1) ونحوه غيره.

وعن الفقيه الهمداني (قدس سره) الإشكال في دلالته بأن تطبيق عنوان الميتة عليه إن حمل على التنزيل فالمنصرف منه التنزيل بلحاظ الأثر الظاهر وهو حرمة الأكل، وإن حمل على التطبيق الحقيقي، فهو إنما ينفع مع وجود كبرى مسلمة معلومة الانطباق على الصغرى المنقحة، كي يصح إيكال تطبيقها إلى السائل، وذلك غير محرز في المقام، لعدم إطلاق ظاهر يشمل مثل هذا الفرد الخفي، بل منصرف الإطلاقات هو الميتة المعهودة التي هي بمعنى الحيوان الميت.

ويندفع بأنه إن حمل على التنزيل فإطلاقه يقتضي العموم لجميع الآثار والأحكام، ومنها في المقام النجاسة. وانصراف التنزيل للأثر الظاهر ممنوع. على أن اختصاص الأثر الظاهر بالحرمة دون النجاسة لا يخلو عن الإشكال. مضافاً إلى أن سوق التنزيل لتعليل حرمة الأكل - كما في الصحيح المتقدم - لا يناسب تخصيصه بحرمة الأكل، لرجوعه إلى تعليل الحكم بنفسه، وهو مستهجن، بخلاف ما لو حمل على الإطلاق لرجوعه إلى التعليل بالكبرى العامة المقبول عرفاً.

وإن حمل على التطبيق الحقيقي فليس مرجعه إلى رفع اشتباه الأمر الخارجي - نظير ما لو أخبر الإمام (عليه السلام) عن حيوان يتقلب بأنه ميتة وأن تقلبه ليس لحياته، كما يتوهم الناظر، بل لتدحرجه من جبل أو نحوه - لوضوح حال الجزء المبان من الحي وعدم بيان الإمام (عليه السلام) فيه أمراً خفي على العرف، بل إلى أن دليل حكم الميتة يراد منه ما يعم الجزء المذكور، وإن فهم العرف منه خصوص الحيوان الميت.

ومن ثم يكون مرجع التطبيق المذكور إلى النظر لأدلة أحكام الميتة، كما هو الحال في التنزيل، ويكون مقتضى إطلاق التطبيق النظر لجميع تلك الأحكام، ومنها أدلة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 24 من أبواب الصيد حديث: 1.

ص: 311

النجاسة، وصرفها لخصوص أدلة حرمة الأكل يحتاج إلى قرينة مخرجة عن الإطلاق، نظير ما ذكرناه في التنزيل، من دون فرق بينهما من هذه الجهة.

ومنها: ما ورد في قطع إليات الغنم، كمعتبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه قال في إليات الغنم تقطع وهي أحياء: إنها ميتة"(1) ، وفي صحيح الكاهلي:" سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن قطع إليات الغنم. فقال: لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك. ثم قال: إن في كتاب علي (عليه السلام): إن ما قطع منها ميت لا ينتفع به"(2) ، ونحوهما غيرهما.

ومنها: ما ورد فيما يقطع من الإنسان. وهو مرسل أيوب بن نوح عنه (عليه السلام): "إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسها إنسان فكل ما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه"(3). وضعفه منجبر بالعمل به فيما تضمنه من التفصيل، كما سبق في مبحث غسل مس الميت.

والكلام في هاتين الطائفتين كما سبق. بل عن الفقيه الهمداني (قدس سره) الاعتراف بنهوض هاتين الطائفتين بالمطلوب، لدعوى: ظهورهما في تنزيل الجزء منزلة ميتة الحيوان المأخوذة منه، ومعه لا مجال للتطبيق الحقيقي للقطع بعدم صدق الحيوان المقطوع منه على الإلية المقطوعة منه.

وإن كان ما ذكره غير خال عن الإشكال أولاً: لعدم وضوح الوجه في كون المشبه به هو ميتة الحيوان المقطوعة منه، لا مطلق الميتة.

نعم قد يدعى ذلك في مرسل أيوب بن نوح، بقرينة تفريع وجوب غسل المس عليه، لأن غسل المس من أحكام ميت الإنسان، لا مس كل ميتة، كما في الحدائق.

لكنه يندفع بأن المفرع على التنزيل المذكور ليس هو وجوب غسل المس الذي هو من أحكام ميت الإنسان، بل التفصيل فيه بين ما كان فيه عظم وغيره، ومن الظاهر

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 3 من الذبايح حديث: 3، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل المس حديث: 1.

ص: 312

وقشور الجرب ونحوه، المتصل بما ينفصل من شعره وما ينفصل بالحك ونحوه من بعض الأبدان فإن ذلك كله طاهر (1) إذا فصل من الحي.

أن التفصيل المذكور ليس من أحكام ميت الإنسان. ومن هنا يتعين حمل التنزيل على تنزيل القطعة منزلة الميت مطلقاً، ويكون وجه التفريع هو أن التنزيل المذكور راجع لتحقق موضوع التفصيل المذكور، وبدونه لا موضوع له. كما تقدم نظير ذلك عند الكلام في وجوب تغسيل القطعة من الميت إذا كان فيها عظم غير الصدر. فراجع المسألة الثانية والسبعين في أحكام الدفن.

وثانياً: لأنه إذا كان إطلاق التنزيل منصرفاً لخصوص حرمة الأكل، لأنه الأظهر، كما ذكره في النصوص السابقة، فما الوجه في عموم التنزيل في المقام للنجاسة، وما الفرق بين الطائفتين مع وحدة لسانهما؟!.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال لحمل التنزيل في هذه النصوص على كونه بلحاظ خصوص الأكل. أما مرسل أيوب بن نوح فظاهر. وأما نصوص قطع إليات الغنم فلتفريع النهي عن مطلق الانتفاع فيها على التنزيل المذكور.

نعم تصلح هذه النصوص لأن تكون قرينة على عموم التنزيل حتى في النصوص الأول، لوحدة اللسان فيها، فتشهد هذه النصوص بعدم انصرافه لخصوص الأكل. فلاحظ.

(1) كما في المنتهى وعن غيره، بل عن الحدائق: الظاهر أنه لا خلاف فيه بينهم وإن اختلف المدرك لذلك. والعمدة فيه - بعد عدم صدق الميتة عليه - قصور أكثر نصوص التنزيل المتقدمة إليها الإشارة عنه، لاختصاصها بما قطعت الحبالة من الصيد وبإليات الغنم.

وأما ما تقدم في صحيح الكاهلي من قوله (عليه السلام):" إن ما قطع منها ميت لا ينتفع به "،فكما يحتمل أن يكون مرجع ضمير" منها "فيه الغنم، فيعم غير الإليات، كذلك

ص: 313

يحتمل أن يكون مرجعه الإليات، فيختص بها.

بل الأول منصرف عن محل الكلام مما كان من شأنه الانفصال، ولم يكن جزءاً معتداً به. ولاسيما بملاحظة قوله (عليه السلام):" لا ينتفع به "حيث لا يبعد ظهوره في فرض كون المقطوع مما ينتفع به لولا الموت، وأن الموت هو المانع من الانتفاع به.

نعم لا إشكال في التعدي عن مورد النصوص كما لو كان المقطوع بضعة لحم ليس من شأن الحبالة أن تقطعه، أو كان جزءاً ليس من شأنه أن ينتفع به زهداً فيه، أو محرم الأكل. إلا أن المتيقن التعدي للأجزاء اللحمية، دون مثل القشور والبثور والزوائد ونحوها مما من شأنه الانفصال. ولاسيما مع مناسبة طهارته لمرتكزات المتشرعة وسيرتهم للغفلة عن نجاسة مثل هذه الأجزاء، فلو كان الحكم النجاسة مع شيوع الابتلاء بذلك لظهر وبان.

وبذلك يظهر الحال في مرسل أيوب بن نوح، فإن القطعة فيه تنصرف عن مثل هذه الأمور الصغيرة والتي من شأنها الانفصال، كما لعله ظاهر.

هذا وقد يستدل على الطهارة وعدم جريان حكم الميتة في ذلك بصحيح علي بن جعفر:" أنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام)... وعن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال: إن لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس، وإن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله"(1) ، حيث يدل على عدم قدح حمل ما يفصله عن جسده في الصلاة، ولو كان ميتة أو بحكمها لأبطلها.

لكنه موقوف على عموم عدم جواز الصلاة في الميتة لمثل هذا الحمل غير المبني على الدوام، وعلى أن جواز مثل هذا الحمل مبني على قصور عموم تنزيل الجزء المفصول منزلة الميت عن مثل هذا الجزء، ليستلزم عدم نجاسته، لا على استثنائه منه، كي لا ينافي النجاسة عملاً بعموم التنزيل. وكلا الأمرين لا يخلو عن إشكال. فالأولى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 27 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 1.

ص: 314

(315)

(مسألة 4): أجزاء الميتة إذا كانت لا تحلها الحياة طاهرة (1)،

الرجوع لما سبق. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) الظاهر عدم الإشكال في الحكم، وقد ادعى الإجماع من جماعة على خصوص بعض المذكورات، مما قد يمكن بملاحظة مجموعه استظهار الاتفاق على الكلية المذكورة، كما ادعاه في كشف اللثام.

وكيف كان فلا يبعد كونه مقتضى الأصل، لقرب انصراف ما تضمن نجاسة الميتة بمقتضى المناسبات الارتكازية إلى خصوص ما تحله الحياة ويطرء عليه الموت منها. ولا مجال لقياسه بما تضمن نجاسة مثل الكلب والخنزير، لظهور كون موضوع النجاسة في ذلك هو العنوان المنتزع من الذات التي لا يفرق فيها بين ما تحله الحياة وغيره، بخلاف عنوان الميتة المنتزع من الموت الذي يطرأ عرفاً على خصوص بعض الأجزاء.

هذا ويشهد بالكلية المذكورة عموم التعليل في صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، إن الصوف ليس فيه روح"(1). وهو وإن كان وارداً لبيان جواز الصلاة في الصوف، لا في طهارته، إلا أن الطهارة تثبت بالأولوية. فتأمل.

مضافاً إلى أن المانعية من الصلاة والنجاسة لما كانا معاً واردين على عنوان الميتة، وكان التعليل المذكور راجعاً إلى قصور عنوان الميتة ولو تنزيلاً عن مورده، كان المفهوم عرفاً عدم الخصوصية للمانعية من الصلاة والتعدي لسائر أحكام الميتة، كما هو مقتضى عدم الفصل بينها عندهم.

وفي خبر أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث:" أن قتادة قال له: أخبرني عن الجبن فقال: لا بأس به. فقال: إنه ربما جعلت فيه أنفحة الميت. فقال ليس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 315

به بأس، إن الأنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم، إنما تخرج من بين فرث ودم، وإنما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة... "(1) فإن عموم التعليل فيه شاهد بالكلية المذكورة أيضاً.

وقريب منه صحيح حريز:" قال أبو عبد الله (عليه السلام) لزرارة ومحمد بن مسلم(2): اللبن واللباء والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه"(3). فإن المراد بما يفصل من الشاة ليس إلا ما يتعارف أخذه منها وهي حية، وهو يختص بما لا تحله الحياة منها.

نعم يقصر عن مثل العظم مما لا يفصل عنها إلا بعد الموت، وهو غير مهم بعد عموم اشتمال جملة من النصوص على بعض تلك الأمور بالخصوص.

كما قد تستفاد الكلية مما تضمن استثناء كل نابت. ففي صحيح الحسين بن زرارة: "وقال أبو عبد الله (عليه السلام): العظم والشعر والصوف والريش، كل ذلك نابت لا يكون ميتاً. قال: وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة. قال: لا بأس بأكلها"(4). فإن تطبيق النابت على الأربعة المذكورة ومنها العظم يناسب كون المراد به ما يكون عرفاً مبايناً للشيء النابت فيه مما يكون مقر الحياة وجريان الدم، وهو ما لا

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(2) كذا في إحدى نسختي الوسائل، والمطبوع من الكافي والاستبصار والخلاف وإحدى نسختي التهذيب. وفي النسخة الأخرى من الوسائل:" قال عبد الرحمن بن أبي عبد الله لزرارة ومحمد بن مسلم... "وهو الموجود في إحدى نسختي التهذيب، وحكي عن بعض نسخ الكافي. والظاهر أنه خطأ أولاً: لأن عبد الرحمن بن أبي عبد الله متأخر طبقة عن زرارة ومحمد بن مسلم فقد روى عن محمد بن مسلم وروى عنه من لم يدركهما. فكيف يمكن مع هذا أن يفتي لهما. وثانياً: لعدم مألوفية إثبات فتاوى الأصحاب بعضهم لبعض في كتب الحديث. وثالثاً: لرفعة مقام زرارة ومحمد بن مسلم عن أخذ الحكم من غير الإمام. ولا أقل من سقوط رواية التهذيب بالتعارض، فتبقى روايتا الاستبصار والخلاف حجة، لعدم اختلاف النسخ فيهما، فتعضدان رواية الكافي، التي لم يثبت التعارض فيها. وبالجملة: لا تنهض النسخة الأخرى بمعارضة النسخة المثبتة في المتن. منه عفي عنه.

(3) ،

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3، 12.

ص: 316

وهي الصوف والشعر والوبر (1) والعظم (2) والقرن (3) والمنقار والظفر والمخلب (4)

تحله الحياة، وما ليس فيه دم ولا له عروق.

هذا مضافاً إلى إمكان استفادة الكلية المذكورة بملاحظة الأمور المعدودة في النصوص، فإن إلغاء خصوصيتها عرفاً والتعدي منها لكل ما لا تحله الحياة قريب جداً. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في العموم المذكور.

نعم في مكاتبة أبي إسحاق عن أبي الحسن (عليه السلام):" كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكياً. فكتب: لا ينتفع من الميتة باهاب ولا عصب. وكلما كان من السخال الصوف إن جز والشعر والوبر والأنفحة والقرن. ولا يتعدى إلى غيرها إن شاء الله"(1). وظاهر ذيلها عدم العموم. لكنها مع ضعف سندها وعدم خلوها عن الاضطراب - معارضة بالنصوص المتضمنة لأمور أخر. فلتحمل على الحصر الإضافي بلحاظ مثل الجلد مما تحله الحياة، وإلا فلا يظهر عامل بالظاهر المذكور.

(1) وقد تضمنها جميعاً معتبر يونس عنهم (عليهم السلام): "قالوا: خمسة أشياء ذكية مما فيه منافع للخلق: الأنفحة والبيض والشعر والوبر..." (2) ومكاتبة أبي إسحاق المتقدمة. كما تضمن الصوف صحاح الحلبي وحريز والحسين المتقدمة وغيرها. وتضمن الشعر صحيحا حريز والحسين المتقدمان وغيرهما.

(2) كما تقدم في صحيح الحسين بن زرارة. نعم قد يشعر التعليل المتقدم في خبر أبي حمزة بنجاسة العظم. لكن لابد من الخروج عنه بالصحيح، لأنه أقوى سنداً، وأظهر دلالة.

(3) وقد تضمنه صحيح حريز ومكاتبة الجرجاني المتقدمان وغيرهما.

(4) لم أعثر عليها في شيء من النصوص بالخصوص، وإن كان الظاهر عدم

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 7، 2.

ص: 317

والريش (1) والظلف (2) والسن (3) والبيضة (4) إذا اكتست القشر الأعلى

الإشكال فيها للكبرى المتقدمة.

(1) وقد تضمنه صحيح الحسين المتقدم وغيره.

(2) لم أعثر عليه في النصوص بالخصوص. نعم تقدم في صحيح حريز ذكر الحافر، كما ذكر في مرسل ابن أبي عمير الذي رواه الصدوق في الخصال بسنده إلى ابن أبي عمير وفي الفقيه مرسلاً عن الصادق(1) (عليه السلام)، ولا يبعد إلحاق الظلف به عرفاً. على أنه داخل في الكبرى المتقدمة.

(3) فقد تقدم استثناء الناب في صحيح حريز. وفي صحيح الحسين بن زرارة المتقدم: "وسأله أبي وأنا حاضر عن الرجل يسقط سنه، فيأخذ سن إنسان ميت فيجعله مكانه. قال: لا بأس"(2) ، وفي موثقه:" كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي يسأله عن السن من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة. فقال: كل هذا ذكي"(3) ، بناء على روايته في الوسائل. لكن في رواية الكافي: "وأبي يسأله عن اللبن في الميتة" .والأمر سهل بعد الكبرى المتقدمة.

نعم في صحيح الحلبي: "سألته (عليه السلام) عن الثنية تنفصم وتسقط أيصلح أن تجعل مكانها سن شاة؟ قال: إن شاء فليضع مكانها سناً بعد أن تكون ذكية"(4). لكن لا مجال لرفع اليد به عما سبق بعد ظهور عدم العامل به، وإمكان حمله على سن نجس العين، أو على التطهير من ملاقاة النجاسة، أو الاستحباب.

(4) فقد تضمنها صحيحا حريز والحسين بن زرارة وخبر أبي حمزة المتقدمة وغيرها. مضافاً إلى عدم كونها من أجزاء الميتة، ليتوهم عموم دليل نجاسة الميتة لها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 9.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 12، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 318

وإن لم يتصلب (1)، سواء أكان ذلك كله مأخوذاً من الحيوان الحلال أم الحرام (2)،

(1) المعروف اعتبار وجود القشر للبيضة في طهارتها وجواز أكلها، بل قيل: إنه متفق عليه. وقد اختلفوا في التعبير عنه، فعبر بعضهم بالصلب، وآخر بالأعلى، وثالث بالفوقاني، ورابع بالغليظ. وهو المطابق لموثق غياث بن إبراهيم أو صحيحه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في بيضة أخرجت من است دجاجة ميتة. قال: إن اكتست البيضة الجلد الغليظ فلا بأس بها"(1).

وبه يخرج عن مقتضى إطلاق النصوص المتقدمة والأصل المقتضيين للحلية والطهارة بمجرد اكتسائها الجلد وإن كان رقيقاً - كما عن بعض العامة - لمانعيته من انفعالها بملاقاة الميتة.

لكن ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه لا ظهور للحديث في النجاسة بل في حرمة الأكل لا غير، فلا موجب للخروج به عن مقتضى القاعدة من طهارة البيضة لمباينتها للميتة، كما سبق. بل هي مقتضى إطلاق غير واحد من النصوص المتقدمة وغيرها الدالة على استثناء البيضة من حكم الميتة، للتصريح فيها بذكاة المستثنيات.

وما ذكره وإن كان قريباً، إلا أن غير واحد من النصوص المذكورة ظاهر في تفرع الحلية على الطهارة والتلازم بينهما من حيثية عدم منافاة الموت لهما كصحيح حريز المتقدم، وصحيح يونس عنهم (عليهم السلام) قالوا: خمسة أشياء ذكية مما فيه منافع الخلق: الأنفحة والبيض والصوف والشعر والوبر. ولا بأس بالجبن..."(2). ومن هنا يصعب التفكيك بين الحلية والطهارة في التقييد المستفاد من الحديث المتقدم. فتأمل.

(2) كما عن الشهيد وغيره، بل هو مقتضى إطلاق المشهور. خلافاً لما عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 319

وسواء أخذ بجز أم نتف أم غيرهما (1).

العلامة في المنتهى ونهاية الأحكام فقوى نجاسة بيض الجلال وغير المأكول. وكأنه لاختصاص بعض النصوص بالمأكول، مثل ما ورد في بيض الدجاجة، وما تضمن حلية أكل البيض.

لكن المستفاد منها أن حلية الأكل لأنه مأكول بالذات من دون أن يمنع منه كونه من الميتة، لاختصاص الميتة بأجزائها دون ما خرج منها، وذلك يقتضى الطهارة فيما هو طاهر بالذات وإن كان محرم الأكل.

على أن ذلك مقتضى إطلاق بقية النصوص، خصوصاً ما تضمن منها الحكم بالذكاة التي يراد منها الطهارة، وهي وإن وردت لبيان جواز الأكل، إلا أنه ليس لاختصاص الذكاة به، بل لشرطيتها فيه، فلا تنافي العموم لغيره وإن حرم أكله بالأصل. على أن ذلك مقتضى أصالة الطهارة بل واستصحابها بعد ما سبق من قصور ما دل على نجاسة الميتة عن البيضة مما هو خارج عنها مباين لها.

(1) كما هو مقتضى إطلاق النصوص المتقدمة، خصوصاً قوله (عليه السلام) في صحيح حريز المتقدم في أوائل المسألة: "وكل شيء يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي" وخصوص خبر أبي البختري عن جعفر عن أبيه: "قال: لا بأس بما ينتف من الطير والدجاج ينتفع به للعجين وأذناب الطواويس وأعراق الخيل وأذنابها" بناء على عمومه لما ينتف من الميت، أو عدم الفصل بينه وبين ما ينتف من الحي.

لكن قال الشيخ في النهاية: "ويحل من الميتة الصوف والشعر والوبر والريش إذا جز، ولا يحل شيء منه إذا قلع منها" .وكأنه لأن أصولها مما تحله الحياة أو لأنها بالنتف تستصحب شيئاً مما تحله الحياة من أجزاء الميتة. ولخصوص مكاتبة أبي إسحاق المتقدمة التي اشترط فيها الجز في الصوف.

وفيه: أن الأول مقطوع بعدمه في الريش إذا تم وانتهى نموه. وأما الشعر

ص: 320

نعم يجب غسل المنتوف من رطوبات الميتة (1)، ويلحق بالمذكورات

والصوف فلو تم كون أصولها مما تحله الحياة كان مقتضى إطلاق دليل طهارتها طهارة أصولها مع ذلك، لعدم كونها من أجزاء الميتة، بل من النابت فيها.

وأما استصحابها لشيء من أجزاء الميتة، فهو غير لازم، ولو حصل خرج عن محل الكلام من طهارة الشعر والصوف بانفسهما. على أن ذلك لا يقتضي تحريم المنتوف بتمامه - كما هو مقتضى الجمود على كلامه المتقدم - بل خصوص أصوله الحية أو الملتصقة بها أجزاء الميتة.

وأما المكاتبة فهي - مع ضعف سندها، وعدم خلوها عن الاضطراب لعدم ذكر خبر المبتدأ فيها، ولعدم تمامية الحصر الذي تضمنته - قد خصت اشتراط الجز بالصوف، والظاهر أنه ناش من تعارف الجزّ فيه، دون النتف، لضعفه، فيكون الجزّ أرفق به، بل لعله لا يمكن نتفه من أصله، لتتأتى فيه شبهة النجاسة، بخلاف الشعر والريش، فلو كان التقييد بالجزّ لتوقف الحل عليه كان الأنسب التقييد به فيهما لتعارف نتفهما.

(1) لتنجسه بها. وعليه ينزل الأمر بالغسل في صحيح حريز المتقدم أو على الاحتياط مراعاة لاحتمال تنجسه بملاقاة الميتة برطوبة، أو للتنزه عنه نظير الأمر بالغسل أو بصب الماء أو بالنضح مع ملاقاة النجاسة من دون رطوبة.

وعلى الأول يحمل على الوجوب، كما هو مقتضى القاعدة، ويختص حينئذٍ بموضع الملاقاة أما على الأخريين فيتعين الحمل على الاستحباب، بقرينة إهماله في بقية النصوص على كثرتها مع شدة الحاجة لبيانه بسبب الغفلة عنه بعد مخالفته للقاعدة.

ولعل ما عن شرح الدروس من أن الأحوط غسل الكل مطلقاً وإن أخذ بالجزّ، لإطلاق الصحيح، راجع لبعض ما ذكرنا. وإلا فلو أريد منه وجوب الاحتياط المذكور أشكل بما سبق.

ص: 321

(322)

الأنفحة (1)،

(1) قال في الجواهر: "فلا أعرف خلافاً في طهارتها، كما اعترف به بعضهم، بل في المنتهى أنه قول علمائنا، وفي المدارك أنه مقطوع في كلام الأصحاب، وفي كشف اللثام - كما عن الغنية - دعوى الإجماع صريحاً" .ويقتضيه النصوص الكثيرة منها صحيح يونس وموثق الحسين بن زرارة وخبر أبي حمزة ومكاتبة أبي إسحاق المتقدمة.

نعم ما تضمنه خبر أبي حمزة من التعليل بأن الأنفحة ليس فيها عروق ولا فيها دم ولا بها عظم، لا يخلو عن إشكال، إذ لو أريد بالأنفحة الظرف فالظاهر أنه مما تحله الحياة، وبه دم، كبقية حشوة الحيوان، من المعدة والأمعاء ونحوها.

وإن كان المراد بها المظروف وهو اللبن المستجبن - كما يناسبه قوله (عليه السلام): "إنما تخرج من بين فرث ودم" - فالأنسب تعليله بأنه قد خرج من الأم الحية التي رضع منها الجدي، لا من الجدي الميت. مع أن طهارته بالذات لا تنافي في وجوب اجتنابه لتنجسه عرضاً بملاقاته لأجزاء الميتة التي تحلها الحياة.

لكن إجمال التعليل المذكور وإشكاله لا يوجب رفع اليد عن الحكم المعلل. ولاسيما مع خلوّ أكثر النصوص عن التعليل به.

نعم في معتبر أبي الجارود: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة. فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل..."(1) ، ونحوه غيره في تضمنه في وضع الميتة في الجبن، والظاهر أن المراد به وضع الأنفحة الميتة، كما هو صريح خبر بكر بن حبيب:" سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الجبن، وأنه توضع فيه الأنفحة من الميتة. قال: لا تصلح. ثم أرسل بدرهم فقال: اشتر من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء"(2).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 68 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 5، 4.

ص: 322

وحينئذٍ يكون مقتضى النصوص المذكورة حرمة الأنفحة الميتة ونجاستها واقعاً، مع حِلّ الجبن ظاهراً، لأصالة الحل - كما في بعض النصوص المذكورة - أو ليد المسلم، كما هو مقتضى خبر بكر المتقدم.

لكن لا مجال للخروج بذلك عما سبق من النصوص الكثيرة المعول عليها عند الأصحاب. فلتحمل هذه النصوص على التقية، أو على أن الحرمة الواقعية هي الناشئة من ملاقاة الأنفحة من الميتة لأجزاء الميتة أو لما يلاقيها برطوبة بسبب تسامح صانعي الجبن من الأعراب والبدو وعدم تحرزهم غالباً.

هذا وقد اختلفت كلمات اللغويين في تعريف الأنفحة، فيظهر من بعضها أنها المظروف وهو المادة المتجبنة التي توضع في الجبن، وهو الذي سبق أنه المناسب لخبر أبي حمزة. ويظهر من بعضها أنها نفس الظرف، وهو معدة الحيوان قبل أن يتغذى بالطعام.

ولازم الأول البناء على نجاسة الظرف عملاً بعموم نجاسة الميتة، لأنه مما تحله الحياة، كما أشرنا إليه آنفاً. غايته أنه لا ينجس المظروف وإن لاقاه برطوبة، بل قد يدعى نجاسة ظاهره فيغسل بعد فصله عن الظرف لتماسكه وتجبنه.

أما على الثاني فاللازم البناء على طهارة الظرف بالذات، وإن لزم تطهير ظاهره لملاقاته لأجزاء الميتة الأخرى برطوبة. كما يطهر المظروف حينئذ بمقتضى القاعدة، لعدم كونه من أجزاء الحيوان، بل من جملة غذائه الذي يدخل جوفه عند الرضاع.

وحيث لا طريق لإحراز أحد الأمرين يتعين الاقتصار عملاً على الأول، لأنه المتيقن في الخروج عن مقتضى القاعدة. وما عن المدارك من أن الثاني مقتضى الأصل في غير محله بعد ما عرفت.

ص: 323

(324)

واللبن في الضرع (1)، ولا ينجس بملاقاة الضرع النجس وإن كان الأحوط استحباباً اجتنابه.

(1) كما في المقنعة والنهاية والغنية والوسيلة وظاهر الكليني والصدوق في الكافي والفقيه وعن المقنع والقاضي وغيرها، بل لعله المعروف بين الأصحاب، وقد نسب للأكثر تارة، والأشهر أخرى، والمشهور ثالثة، وغير ذلك. بل في الدروس أن القائل برواية التحريم نادر، وفي الخلاف والغنية الإجماع على الطهارة.

للنصوص، كصحيح حريز المتقدم، وصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): "...قلت: اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت. قال: لا بأس به"(1) ، وموثق الحسين بن زرارة على ما في رواية الكافي المتقدم عند الكلام في السن، ونحوها مرسل الصدوق(2). ويناسبه ما تقدم في خبر أبي حمزة من التعليل.

وفي المراسم والسرائر والتذكرة والمنتهى وجامع المقاصد وغيرها المنع منه، وجعله الأشبه في الشرايع والنافع، وفي المنتهى وجامع المقاصد أنه المشهور، وفي السرائر أنه نجس بغير خلاف عند المحصلين من أصحابنا".

لعموم انفعال المائع بملاقاة النجاسة. ولظهور حصر المستثنيات من الميتة في غيره في مكاتبة أبي إسحاق. ولخبر وهب: "عن جعفر عن أبيه (عليه السلام): إن علياً (عليه السلام): سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن. فقال علي (عليه السلام): ذلك الحرام محضاً"(3).

لكن عموم الانفعال قابل للتخصيص. وكذا ظهور حصر المستثنيات في مكاتبة أبي إسحاق ولاسيما مع ما سبق مع عدم خلوها عن الاضطراب، وكثرة الخروج عن الحصر المذكور فيها، ومع قرب خروج اللبن عن موضوع الحصر، لعدم كونه من أجزاء الميتة.

وأما خبر وهب فهو ضعيف في نفسه. وانجباره بعمل الأصحاب ممنوع، لعدم

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 10، 9، 11.

ص: 324

ولاسيما إذا كان الحيوان غير مأكول (1). هذا كله في ميتة طاهرة العين أما ميتة نجسة العين فلا يستثنى منها شيء (2).

وضوح الشهرة، بل عدم ظهور عمل القدماء به. قال في محكي كشف الرموز في رد ما سبق حجة من ابن إدريس:" والدعوى مجوفة [محرفة] وفي الاستدلال ضعف. أما الأول فلأن الشيخين مخالفاه، والمرتضى وأتباعه غير ناطقين به، فما أعرف من بقي معه من المحصلين... ".والظاهر أن اعتماد من سبق ليس عليه، بل على القاعدة، لاستحكامها في نفوسهم. على أنه لو تم انجباره بالعمل فهو لا ينهض في قبال ما سبق من النصوص المعتبرة التي عمل بها جماعة من القدماء والمتأخرين، فلابد من طرحه، أو حمله على التقية، لموافقته لجماعة من العامة، كما ذكره الشيخ (قدس سره).

لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره):" والرواية وإن كانت ضعيفة السند... إلا أنها منجبرة بالقاعدة. كما أن روايات الطهارة وإن كانت صحيحة، إلا أنها مخالفة للقاعدة، وطرح الأخبار الصحيحة المخالفة لأصول المذهب غير عزيز. إلا أن تعضد بفتوى الأصحاب - كما في الأنفحة - أو بشهرة عظيمة توجب شذوذ المخالف، وما نحن فيه ليس كذلك ".وكأن ذلك لاستحكام مقتضى القاعدة في نفسه، وإلا فيظهر ضعفه بأدنى تأمل.

(1) للشبهة المتقدمة في جميع المستثنيات.

(2) قال في الجواهر:" على الأظهر الأشهر، بل المشهور شهرة كادت تكون إجماعاً. بل هي كذلك، إذ لم نجد ولم يحك فيه خلاف من أحد، إلا من المرتضى في الناصريات، فحكم بطهارة شعر الكلب والخنزير فيها، بل ظاهره ذلك في كل ما لا تحل الحياة منه، والى ما عساه يظهر من المدارك من الميل إلى طهارة ما لا تحله الحياة من خصوص الكافر، وهما غير قادحين في الإجماع المنقول، فضلاً عن المحصل".

والوجه فيه أن المنصرف من النصوص هو الاستثناء من نجاسة الموت، فل

ص: 325

ينافي نجاسة الجزء ذاتاً تبعاً لحيوانه وإن كان مما لا تحله الحياة. فهي واردة لبيان أن الموت لا ينجس الأجزاء المذكورة، لا أنه يطهرها بعد نجاستها حال حياة الحيوان.

ودعوى: أن دليل نجاسة الحيوان يقصر عما لا تحله الحياة منه. ممنوعة جداً. وقياسه بما لا تحله من الميتة في غير محله، كما يظهر مما تقدم في أول المسألة. ولاسيما مع أن جملة من نصوص الانفعال بملاقاة الكلب والخنزير كالصريحة في نجاسة الشعر، لأن الملاقاة غالباً تكون به، لا بالأجزاء التي تحلها الحياة، بل هو صريح معتبر برد الإسكاف:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إنا نعمل بشعر الخنزير، فربما نسي الرجل فصلى وفي يده شيء منه. قال: لا ينبغي أن يصلي وفي يده شيء منه. وقال: خذوه فاغسلوه فما كان له دسم فلا تعملوا به، وما لم يكن له دسم فاعملوا به، واغسلوا أيديكم منه"(1) ، ونحوه معتبره الآخر(2) وخبر سليمان الإسكاف(3).

نعم قد يستدل للطهارة بصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس"(4).

بدعوى: أن غلبة تقاطر الماء من الحبل على الدلو عند إخراجه من البئر، وغلبة ملاقاة يد المستقي للماء بعد ملاقاتها للحبل توجب ظهور الصحيح في طهارة الحبل المذكور وطهارة شعر الخنزير المتخذ منه.

وقد أجاب عن ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) بأن السؤال فيه عن حكم الماء ظاهر في المفروغية عن نجاسة شعر الخنزير، فلابد من حمل نفي البأس على عدم انفعال الماء بملاقاة النجس، أو عدم إصابة الحبل أو الماء المتنجس به لماء الدلو.

وفيه: أن السؤال عن حكم الماء كما يكون للشك في انفعاله بعد الفراغ عن نجاسة الشعر، كذلك يكون للشك في نجاسة شعر الخنزير، بل لعل الثاني أظهر،

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 65 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2، 1، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 326

(327)

(مسألة 5): فأرة المسك طاهرة إذا انفصلت من الظبي الحي (1)،

لما فيه من المحافظة على خصوصية شعر الخنزير، بخلاف الأول، فإنه يقتضي إلغاء خصوصيته، ورجوع السؤال إلى السؤال عن حكم ملاقاة أي نجس.

ولاسيما بملاحظة موثق الحسين بن زرارة:" كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي يسأله عن السن [اللبن. الكافي] من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة. فقال: كل هذا ذكي. قلت: فشعر الخنزير يجعل حبلاً يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضأ منها. فقال: لا بأس به. قال الكليني: وزاد فيه علي بن عقبة وعلي بن الحسن ابن رباط، والشعر والصوف كله ذكي"(1). فإنه كالصريح في طهارة شعر الخنزير فيصلح قرينة على بيان المراد من الصحيح.

نعم هما ظاهران في طهارته حتى حال الحياة. بل احتمال نجاسته حال الحياة وطهارته بالموت غريب. فيبتني الحكم فيهما إما على استثنائه من نجاسة الخنزير، أو على طهارة الخنزير. وهما معاً مخالفان للنصوص الصريحة في نجاسة الخنزير، والصريحة أو كالصريحة في نجاسة شعره، فيكونان معارضين للنصوص المذكورة، ولا ينبغي الإشكال في ترجيح تلك النصوص التي هي أكثر عدداً، وعليها عمل الأصحاب. ولاسيما مع قول بعض العامة بالطهارة.

(1) الفأرة تؤخذ تارة: من الظبي المذكى. وأخرى: من الظبي الحي. وثالثة: من الظبي الميت. ولا إشكال في طهارتها في الصورة الأولى، وهي المتيقنة من النصوص والفتاوى. وأما في الثانية فالمعروف من مذهب الأصحاب الطهارة، ولم يعرف الخلاف في ذلك إلا من كشف اللثام. لعموم ما دلّ على نجاسة ما ينفصل من الحي.

وعن كاشف الغطاء الإشكال فيه بأن الفرد الشايع هو الساقط من الحي، فيكون ما دل على الطهارة من النصوص دالاً على طهارته. وكأنه يريد بذلك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

ص: 327

النصوص الكثيرة الدالة على طهارة المسك(1). لكن الاستدلال بها موقوف على ثبوت غلبة رطوبة المسك داخل الفأرة بحيث لو كانت نجسة لتنجس بها، وإلا أمكن طهارته مع نجاستها.

نعم في صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن فأرة المسك تكون مع من يصلي، وهي في جيبه أو ثيابه. فقال: لا بأس بذلك"(2). والاستدلال به وإن كان موقوفاً على عموم مانعية الميتة النجسة من الصلاة حتى لو كانت مما لا تتم به الصلاة، إلا أنه يمكن الاستدلال على ذلك بصحيح عبد الله بن جعفر:" كتبت إليه - يعني أبا محمد (عليه السلام) -: يجوز للرجل أن يصلي ومعه فأرة المسك؟ فكتب: لا بأس به إذا كان ذكياً"(3).

وحمله على طهارة نفس المسك - لو تم - لا يمنع من الاستدلال، حيث لا يحتمل اعتبار طهارة المسك المحمول مع عدم مانعية الميتة المحمولة. ومن ثم فالظاهر تمامية الاستدلال بصحيح علي بن جعفر بضميمة ما سبق من كاشف الغطاء من أن الفرد الشايع من الفأرة المنفصل من الحي.

ودعوى: أنه يلزم تقييده بما إذا كان الحيوان المأخوذ منه مذكى، لصحيح عبد الله بن جعفر المتقدم، فإن تذكير الضمير المستتر الذي هو اسم كان فيه ملزم بحمله على الحيوان الذي تؤخذ منه الفأرة، فيكون مفاده نجاسة الفأرة المأخوذة من غير المذكى وإن كان حياً.

مدفوعة: بأن إرجاع الضمير للحيوان من دون أن يكون متقدماً صريحاً ولا ضمناً بعيد جداً، بل لابد من رجوعه إلى المسك، أو إلى الفأرة نفسها، وهو الأظهر، لأنها هي المسؤول عنها والمذكورة أصالة، ويكون تذكير الضمير بتأويلها بما مع المصلي، أو لوقوع التحريف فيه، لشيوعه كثيراً في النقل، وحينئذٍ لا يدل الصحيح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 92 من أبواب آداب الحمام حديث: 3، وراجع باب: 95، 97 منها.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 41 من أبواب لباس المصلي حديث: 1، 2.

ص: 328

أما إذا انفصلت من الميت ففيها إشكال (1)،

إلا على اعتبار طهارة الفأرة من دون تحديد لمورد ذلك، فلا ينافي طهارة المأخوذ من الحي.

بل حمل صحيح علي بن جعفر على غير المأخوذ من الحي مع كونه هو الفرد الشايع بعيد جداً، فلابد من حمل صحيح عبد الله بن جعفر على مالا ينافيه، إما بحمله على ما ذكرنا، أو على أن التقييد فيه بما إذا كان الحيوان المأخوذ منه الفأرة مذكى في مقابل ما إذا كان ميتاً، لا في مقابل ما إذا كان حياً. وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في نهوض صحيح علي بن جعفر بالاستدلال على طهارة الفأرة المأخوذة من الحي.

مضافاً إلى ما أشار إليه في الجواهر وأوضحه من تأخر عنه من قصور ما دلّ على نجاسة الجزء المبان من الحي عن فأرة المسك، لاختصاصه بما يقطع من الحي، كإليات الغنم وما تقطعه الحبالة من الصيد، ولا مجال للتعدي منه لما من شأنه أن ينفصل إذا انفصل بنفسه.

هذا وأما الصورة الثالثة - وهي المأخوذة من الميت - فسيأتي الكلام في حكمها.

(1) فقد صرح غير واحد بطهارتها حينئذٍ. قال في التذكرة: "المسك طاهر إجماعاً، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتطيب به. وكذا فأرته عندنا، سواءً أخذت من حية أو ميتة" .وقريب منه في الذكرى. وظاهرهما الإجماع عليه عندنا.

لكن في المنتهى أن الأقرب نجاستها. وكأنه لنجاستها بالموت كسائر أجزاء الحيوان، وليس الانفصال مطهراً لها. ودعوى: أنها من الأجزاء التي لا تحلها الحياة. مدفوعة بما ذكره غير واحد من أنها من سنخ الجلد الذي تحله الحياة بلا إشكال.

نعم قد يستدل على طهارتها بإطلاق صحيح علي بن جعفر المتقدم أو عمومه المستفاد من ترك الاستفصال.

ص: 329

ويندفع بأنه حيث كان الشايع - كما تقدم - هو انفصال الفأرة حال الحياة، فحمله على خصوص ذلك أقرب من رفع اليد عن عموم نجاسة أجزاء الميتة. ولا أقل من لزوم حمله على ذلك بقرينة صحيح عبد الله بن جعفر الذي هو كالصريح في وجود النجس في مورد السؤال، وحيث كان المتيقن من إطلاق صحيح علي بن جعفر هو المأخوذ من الحي - كما سبق - ولا إشكال في طهارة المأخوذ من المذكى، فالمتعين كون النجس هو المأخوذ من الميت.

ودعوى: حمل صحيح عبد الله بن جعفر على نجاسة نفس المسك، لكونه من القسم المعمول من دم الظبي، لا من القسم من المتكون من الظبي بطبعه. مدفوعة - مضافاً إلى ما سبق من تقريب رجوع الضمير في الصحيح للفأرة، لا للمسك - بأن المسك الحقيقي هو المتكون من الظبي طبعاً، وأما المعمول من دمه فليس مسكاً حقيقياً، بل هو من سنخ المسك المغشوش فلا مجال لحمل الصحيح عليه. ولاسيما مع كون السؤال فيه عن فأرة المسك، والمسك المغشوش لا يكون في فأرة.

هذا كله بناء على ما عن المشهور من كون الفأرة ملتحمة بالظبية ومتصلة بها، ثم تنفصل طبعاً إذا استكملت نموها. قال سيدنا المصنف (قدس سره): "أما بناء على غير المشهور من كونها مودعة فيها - كما عن كشف الغطاء في شرح القواعد من أنها تتكون في جوف الظبي فيلقيها كالبيضة، وحكي أيضاً عن ابن فهد الطبري، بل عن بعضهم أن هذا القسم هو الشايع الغالب من المسك، وإطلاقه ينصرف إليه. انتهى - فلا إشكال في طهارتها، سواءً أخذت من الحي أم من الميت، لعدم كونها جزءاً من الحيوان، فلا تشملها أدلة نجاسة القطعة المبانة من الحي، ولا أدلة نجاسة أجزاء الميتة، والأصل فيها الطهارة. وكذا الحال لو شك في ذلك بنحو الشبهة الموضوعية".

لكن ما ذكره لو تم صغروياً لا يناسب صحيح عبد الله بن جعفر الذي تقدم أنه كالصريح في وجود النجس من المسك أو فأرته، حيث يكشف إما عن عدم تمامية الدعوى المذكورة، أو عن نجاسة المسك أو الفأرة حتى بناء على تماميتها، فيخرج به

ص: 330

ومع الشك في ذلك يبني على الطهارة (1). وأما المسك فطاهر على كل حال (2). إلا أن يعلم برطوبته المسرية حال موت الظبي، ففيه

عن مقتضى الأصل الذي نقحه. وإن كان الأول أظهر، إذ لو كانت الفأرة من سنخ البيضة فنجاستها إذا كانت مأخوذة من الميت بعيدة جداً. إلا أن تكون من سنخ البيضة إذا اكتست الجلد الرقيق.

وكذا الحال فيما يظهر من بعض المعاصرين من أن الفأرة عبارة كيس مباين للجلد، وأنه غشاء رقيق جاف محيط به الجلد. حيث قد يتوهم عدم كون الغشاء المذكور مما تحله الحياة وإن كان متصلاً بالحيوان متعلقاً بجلده نظير القرن، فيكون من مستثنيات الميتة. فإن ذلك لا يناسب صحيح عبد الله بن جعفر أيضاً، لعين ما تقدم. ومن هنا كان الظاهر تمامية ما سبق عن المنتهى من نجاسة المأخوذمن الميت.

(1) لأصالة الطهارة، بل استصحابها، لليقين بطهارة الفأرة قبل موت الحيوان. ولا مجال للرجوع إلى أصالة عدم التذكية، لعدم توقف طهارة الفأرة على تذكية الحيوان بناء على ما سبق من طهارة الفأرة المأخوذة من الحي. ومنه يظهر عدم توقف البناء على طهارة الفأرة على أخذها من المسلم خلافاً لما قد يظهر من العروة الوثقى.

نعم لو علم بفصلها عن الحيوان بعد موته وشك في تذكيته اتجه - بناء على نجاسة المأخوذ من الميت - البناء على نجاستها ما لم تؤخذ من المسلم، كما نبّه له بعض مشايخنا (قدس سره).

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، وتقدم من التذكرة والذكرى دعوى الإجماع عليه، كما حكي عن ظاهر غير واحد. والعمدة في ذلك: أن المسك الموجود في الفأرة عنصر خاص مستحيل من الدم، أو تفرزه آلة الإفراز منه كما تفرز سائر الفضلات، وهو مباين للدم عرفاً ولسائر أجزاء الحيوان، فيتعين طهارته ذاتاً،

ص: 331

(332)

إشكال(1).

(مسألة 6): ميتة ما لا نفس له سائلة طاهرة (2) كالوزغ، والعقرب،

ولو للأصل، ونجاسة الفأرة بالموت لا تقتضي نجاسة ما فيها.

وأما الاستدلال على الطهارة بالنصوص الكثيرة المشار إليها آنفاً الدالة على طهارة المسك. فيشكل بأنه لا إطلاق لها لينفع في إثبات عموم طهارة المسك لما إذا أخذت فأرته من ميت، لورودها في قضية خاصة، مثل صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): "كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله ممسكة إذا هو توضأ أخذها بيده وهي رطبة، فكان إذا خرج عرفوا أنه رسول الله صلى الله عليه وآله برائحته"(1) ، أو لبيان أحكام أخر غير النجاسة مثل وضعه في الدهن والطعام(2).

هذا كله في المسك الموجود في الفأرة الذي تقدم أنه المسك الحقيقي، وأما بقية أنواع المسك المذكورة في كلمات المتأخرين فالظاهر عدم كونها مسكاً حقيقياً، بل هي قسم من دم الظبي الذي يحمل رائحة المسك أو شيء معمول منه، فيلحقه حكم الدم المذكور، وهو خارج عن موضوع النصوص وعن موضوع كلمات الأصحاب، لأن كلامهم في مسك الفأرة.

(1) يبتني على ما تقدم منه (قدس سره) من الإشكال في نجاسة الفأرة المأخوذة من الميت. وحيث تقدم أن الأقرب نجاستها يكون الأقرب نجاسته بملاقاتها. لكن النجس حينئذ خصوص الملاقي للجلد منه، دون بقية ما في الفأرة.

(2) كما هو المشهور شهرة كادت تكون إجماعاً. كذا في الجواهر بل ادعى عليه الإجماع صريحاً في الخلاف والغنية. وفي السرائر أنه مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وعن الذخيرة:" قد تكرر في كلام الأصحاب نقل الإجماع على طهارته ".ويدل عليه موثق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 58 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 95 من أبواب آداب الحمام.

ص: 332

حفص عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام):" قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة"(1). ونحوه أو عينه مرفوع محمد بن يحيى عن أبي عبد الله(2) (عليه السلام).

والإشكال في دلالته بعدم التصريح فيه بالميتة. مدفوع بأن ذلك هو المفهوم منه بقرينة الحصر بما ليس له نفس سائلة، لأن الحصر المذكور إنما يتم في الميتة، أما في غيرها فأكثر الحيوانات التي لها نفس سائلة طاهرة لا تفسد الماء، والذي يفسده منها قليل جداً، وهو الكلب والخنزير وما وقع الكلام في إلحاقه بهما.

نعم هو مختص بالماء، فلو فرض احتمال نجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة من دون أن ينجس الماء لم ينهض الموثوق بدفعه. لكن لا يظن بأحد احتمال ذلك، ولاسيما وأن أكثر أدلة نجاسة الميتة واردة في انفعال الماء بها، فينهض الموثق بتقييده، ولا يتضح إطلاق لباقيها يشمل ما ليس له نفس سائلة، ليحتاج للدليل المخرج عنه، بل مقتضى الأصل حينئذٍ الطهارة فيه. فلاحظ.

هذا وقد يستدل أيضاً بموثق عمار عنه (عليه السلام): "سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه. قال: كل ما ليس له دم فلا بأس"(3). بدعوى: عدم الفصل بين ما لا دم له، كالوزغ، وما له دم من دون أن تكون له نفس سائلة، كالسمك.

ويشكل بأن مجرد عدم الفصل - لو تم - لا ينهض بتتميم الاستدلال بالنصوص المذكورة ما لم يرجع للإجماع التعبدي على عدم الفصل، وهو غير ظاهر بعد قرب استناده لموثق حفص ونحوه مما يستفاد منه عموم طهارة ميتة غير ذي النفس ولو كان هو النصوص الواردة في بعض الميتات الخاصة والسيرة على طهارة كثير من الأمور بعد إلغاء خصوصية مواردها وفهم العموم من مجموعها.

نعم قد يحمل الموثق على كل ما ليس له نفس سائلة بقرينة ذكر الذباب فيه،

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 2، 5، 1.

ص: 333

لأن الذباب قد يكون له دم ولو في بعض حالاته، كما تشهد به التجربة. لكنه لا يخلو عن إشكال.

وأشكل منه الاستدلال بموثق أبي بصير:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما يقع في الآبار. فقال: أما الفأرة وأشباهها فينزح منها سبع دلاء، إلا أن يتغير الماء فينزح حتى يطيب فإن سقط فيها كلب فقدرت أن تنزح ماءها فافعل. وكل شيء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس"(1). وقريب مما تضمنه ذيله صحيح ابن مسكان أو مرسله(2). بل لعله عينه.

وجه الإشكال - مضافاً إلى ما سبق -: أنه بعد أن كان التحقيق اعتصام البئر وعدم انفعالها بالنجاسة فعدم وجوب النزح بوقوع ما لا دم له لا يدل على طهارته بل قد يكون لاعتصامها مع نجاسته، غاية الأمر أن النجاسة على قسمين: قسم يستحب له النزح، وقسم لا يستحب.

هذا وقد يدعى أن مقتضى مفهوم موثق عمار نجاسة كل ما له دم، والنسبة بينه وبين موثق حفص العموم من وجه، فيرجع في مورد الاجتماع - وهو ما له دم وليس له نفس سائلة كالسمك - إلى عموم نجاسة الميتة.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك أيضاً، إذ لا مفهوم لهذه النصوص، لعدم كون القضية فيها شرطية، بل حملية، واشتمال الخبر فيها على الفاء إنما يدل على التفريع الذي يكفي فيه العلية ولو مع عدم الانحصار، لا على الإناطة والانحصار التي هي المعيار في المفهوم. ولو فرض إشعارها أو دلالتها على المفهوم فلا ريب في كون ظهور الاستثناء الذي تضمنه الموثق في الحصر أقوى منه، فيقدم عليه، ولا تصل النوبة للتساقط والرجوع لعموم نجاسة الميتة.

ولاسيما مع ظهور مفروغية الأصحاب عن طهارة مثل السمك من حيوانات

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 334

الماء التي لها دم من دون أن تكون لها نفس سائلة، حيث يبعد جداً خطؤهم في ذلك مع شيوع الابتلاء به، فإن ذلك يصلح شاهداً على تقديم ظهور موثق حفص في الحصر على مفهوم موثق أبي بصير لو تم.

وبالجملة: الظاهر انحصار الدليل على العموم المذكور بموثق حفص وتمامية الاستدلال به عليه، معتضداً بالإجماع المدعى من جماعة من الأصحاب، إذ يبعد جداً خطؤهم في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء، حيث يكثر الابتلاء بميتة ما لا نفس له من الحشرات والأسماك وغيرها، فلو كان الحكم فيها النجاسة لظهر وبان، ولم يخف على جمهور الأصحاب.

نعم في صلوح الإجماع المذكور لإثبات العموم إشكال، لإمكان نجاسة بعض الأفراد مما لا يكثر الابتلاء به أو لا يتضح التسالم على طهارته. ففي النهاية: "وكل ما يقع في الماء فمات فيه مما ليس له نفس سائلة فلا بأس باستعمال الماء، إلا الوزغ والعقرب خاصة، فإنه يجب إهراق ما وقع فيه وغسل الإناء حسب ما قدمناه" .ثم حكم في مسألة تطهير الآبار بوجوب نزح ثلاث دلاء لموت الحية أو الوزغة أو العقرب. ونحوه في المبسوط، ومثله ما في المقنعة والوسيلة من الحكم بذلك لوقوع الوزغة، وما في المراسم والوسيلة وعن المهذب من أن الماء لا ينجس بموت ما لا نفس له إلا العقارب والوزغة، وما في المراسم من تطهير البئر ينزح دلو واحد لموت الوزغة.

لكن قد يبتني ذلك كله أو بعضه على نجاسة الأمور المذكورة حال الحياة، كما يناسبه ما في المقنعة والنهاية من غسل الثوب بمس الوزغة برطوبة، وما في الوسيلة من وجوب غسل ما مس الوزغ برطوبة، ورش ما مسه جافاً، وقريب منه في المراسم. وحينئذٍ يخرج عما نحن فيه من نجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة. إذا المراد به نجاسته بالموت، لا بالذات حتى حال الحياة.

وكيف كان فقد يستدل لهم بموثق سماعة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن

ص: 335

جرة وجد فيها خنفساء قد مات؟ قال: ألقه وتوضأ منه. وإن كان عقرباً فارق الماء وتوضأ من ماء غيره "(1) وقريب منه موثق أبي بصير من دون فرض الموت(2). ومعتبر هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حياً هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ به [منه]؟ قال: يسكب منه ثلاث مرات - وقليله وكثيره بمنزلة واحدة - ثم يشرب منه [ويتوضأ منه] غير الوزغ، فإنه لا ينتفع بما يقع فيه"(3).

لكن المراد بذلك إن كان هو نجاسة العقرب والوزغ حتى حال الحياة، كما هو مقتضى إطلاق موثق أبي بصير في العقرب ومقتضى معتبر هارون في الوزغ. فيدفعه في العقرب معتبر هارون، وفي الوزغ صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن العظاية والحية والوزغ يقع في الماء فلا يموت أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به"(4).

وإن كان نجاستهما بالموت مع طهارتهما حال الحياة فلا دليل على ذلك في الوزغ. نعم يشهد به في العقرب موثق سماعة. ولا معارض له إلا خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن العقرب والخنفساء وأشباههن تموت في الجرة أو الدن يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به"(5).

وهو لا يخلو عن ضعف في السند، حيث رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن العلوي عن جده علي بن جعفر، وعبد الله المذكور لم ينص أحد على توثيقه. وإن كان من البعيد جداً رواية الحميري عنه كثيراً من دون أن يكون ثقة عنده. ولاسيما مع تأيد الخبر المذكور بموثق أبي بصير المتقدم المتضمن عدم إفساد العقرب للبئر إذا وقعت حيث يصعب جداً حمله على خصوص صورة عدم موتها فيه. ومن القريب ابتناؤه على عدم نجاسة ما لا يجب النزح له، وإن لم يبلغ مرتبة الاستدلال،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الأسئار حديث: 6، 5.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الأسئار حديث: 4، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب الأسئار حديث: 5.

ص: 336

والسمك. ومنه الخفاش، على ما قضى به الاختبار (1).

لما سبق.

على أن من القريب هجر الأصحاب لموثق سماعة، لتصريح عامتهم بطهارة ميتة ما لا نفس له سائلة من دون استثناء، وقرب ابتناء فتوى من سبق على التنزه، أو البناء على النجاسة حال الحياة، كما يناسبه ما تقدم منهم في الوزغ وغيره. فالخروج به عن عموم انفعال الماء بموت غير ذي النفس وموت غير ذي الدم في غاية الإشكال. بل لعل الأقرب حمله على كراهة الوضوء. فتأمل جيداً.

هذا وأما الحكم في النصوص وكلمات جماعة من الأصحاب بنزح البئر لموت بعض هذه الأمور فيها، فلا مجال لاستفادة الحكم بالنجاسة منها بعد البناء منا على عدم وجوب النزح للنجاسات وورود الأمر بالنزح لغير النجاسات، كما سبق غير مرة.

(1) تقدم في ذيل الكلام في فضلة ما لا نفس له سائلة أن المراد بذي النفس السائلة أن له عرق يخرج منه الدم شخباً، وهو أمر حسي يمكن الإطلاع عليه بالاختبار لعامة الناس. ومن ثم اكتفى (قدس سره) باختباره في ذلك.

وأما ما قد يدعى من أن الخفاش علمياً من ذي النفس. فالظاهر ابتناؤه على اشتماله على دورة دموية يجري فيها الدم بدفع من القلب الذي هو أمر لا يدركه إلا علماء التشريح، وهو غير كاف في إثبات حكم ذي النفس، لأنه يرجع إلى أن للخفاش عروقاً يجري فيها الدم، وليس هو موضوعاً للأحكام، بل لابد من كون خروج الدم بنحو الشخب والدفع، وهو أمر عرفي، فإذا لم يكن كذلك بالتجربة خرج عن موضوع الأحكام.

اللهم إلا أن يكون وجود الدورة الدموية بالنحو المذكور مستلزماً لشخب الدم مع كبر الخفاش، وأن عدم الشخب في مورد التجربة لصغر الخفاش. وحينئذٍ

ص: 337

(338)

وكذا ميتة ما يشك في أنه له نفس سائلة أم لا (1).

(مسألة 7): المراد من الميتة ما مات بدون تذكية على الوجه الشرعي (2).

يتعين جريان الأحكام في جميع الأفراد، لأن المستفاد عرفاً من أدلتها اعتبار واجدية الحيوان بطبيعته للنفس السائلة، في ثبوتها لتمام أفراده، لا اعتبار واجدية الفرد لها فعلاً في ثبوتها له. وذلك - لو تم - يرجع لنقص الاختبار وعدم استيعابه.

(1) لأصل الطهارة. بل لأصالة عدم كون الحيوان مما له نفس سائلة الحاكمة على الأصل المذكور. نعم ذلك مبني على جريان الاستصحاب في العدم الأزلي، لما ذكرناه آنفاً من أن المراد من ذي النفس، هو الطبيعة الواجدة لها، لا واجدية الفرد لها فعلاً، ليمكن اليقين بعدمه في بدء تكوينه.

(2) الميتة تارة: تستعمل فيما يقابل الحي. وأخرى: في خصوص ما مات حتف أنفه، كما في قوله تعالى: "حرّمت عليكم الميتة والدم... والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"(1). وثالثة: فيما مات بدون تذكية.

وموضوع الأحكام الشرعية - من حرمة الأكل، والمانعية من الصلاة، والنجاسة، وغيرها مما وقع الخلاف فيه - ما يطابق المعنى الثالث خارجاً من دون إشكال بينهم.

وإنما وقع الكلام في ترتب الأحكام المذكورة مع عدم إحراز تذكية الحيوان، أو عدم ترتبها إلا مع إحراز موت الحيوان بوجه غير شرعي. وهو يبتني على الكلام في تحديد موضوع الأحكام المذكورة مفهوماً، وهل هو متقوم بأمر عدمي ينهض الأصل بإحرازه لترتب أحكامه أو لا، بل هو أمر وجودي مقتضى الأصل عدمه فلا تترتب أحكامه؟

لعل المشهور الأول، لدعوى أن استصحاب عدم التذكية يحرز الموت بالمعنى

********

(1) سورة المائدة الآية: 3.

ص: 338

المذكور فتترتب أحكامه. وعلى ذلك جرى بعض مشايخنا (قدس سره) في حرمة الأكل والمانعية من الصلاة.

لدعوى ظهور أدلتهما في توقفهما على التذكية، كما هو مقتضى قوله تعالى في الآية السابقة:" إلا ما ذكيتم "،وقوله (عليه السلام) في موثقة ابن بكير المتضمنة جواز الصلاة في أجزاء ما يؤكل لحمه:" إذا علمت إنه ذكي وقد ذكاه الذبح"(1) ، وقوله (عليه السلام) في موثقة سماعة: "إذا رميت وسميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا" (2) وغيرهما. لدلالة الآية الشريفة على توقف جواز الأكل على التذكية، ودلالة النصوص المذكورة على توقف جواز الصلاة عليها. فاستصحاب عدمها يحرز حرمتها.

أما في النجاسة وحرمة الانتفاع - بناء على القول بها - فلم يكتف بالشك التذكية، ولا باستصحاب عدمها، لعدم الدليل على أخذ التذكية شرطاً في الطهارة وحلية الانتفاع. بل ليس المأخوذ في موضوع الحكمين المذكورين إلا عنوان الميتة، ومن الظاهر أنه ليس المراد بالميتة هنا مطلق ما فارق الحياة، ولا خصوص ما مات حتف أنفه بل هو عبارة عما مات بسبب غير شرعي، كما هو المفهوم منه في عرف المتشرعة، ويشهد به تصريح بعض أهل اللغة، والميتة بالمعنى المذكور أمر وجودي ملازم لعدم التذكية، لا متقوم به، ولا ينهض استصحاب عدم التذكية بإحرازه.

ولو فرض الشك في أن موضوعه هو الموت بالمعنى المذكور أو عدم التذكية كفى ذلك في المنع من التمسك باستصحاب عدم التذكية لإحراز الحكمين المذكورين.

هذا ويشكل ما ذكره بأنه لا مجال لأخذ الوجه الشرعي للموت في مفهوم الميتة، لأنه إن كان المراد بالوجه الشرعي ما يحل إحداث الموت به ويحرم إحداثه بغيره تكليفاً، فمن الظاهر أنه لا ينحصر السبب الذي يحل إحداث الموت به للحيوان بالوجه الذي يتحقق به التذكية، بل يجوز إحداثه بالوجه الذي يترتب عليه حكم الميتة، كالجرح في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 2 من أبواب لباس المصلي حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 339

غير المذبح.

وإن كان المراد بالوجه الشرعي هو الوجه الذي تترتب معه الأحكام الشرعية الملازمة للتذكية - كالأكل واللبس والبيع والطهارة - كان عنوان الميتة من العناوين المنتزعة من الأحكام المذكورة المتأخرة عنها رتبة، وامتنع أخذها في موضوعها، مع وضوح أخذها في الأحكام المذكورة. وهو مستلزم لكون عنوان الميتة المأخوذ في موضوع تلك الأحكام ذا مفهوم متقرر في أذهان العرف المتشرعي مع قطع النظر عن الأحكام المذكورة، ولا يناسب المعنى الذي ذكره.

فالظاهر أن المأخوذ في الميتة التي هي موضوع الأحكام هو عدم التذكية. غايته أن أخذه يكون بأحد وجوه:

الأول: أن يكون موضوع الأحكام هو الميتة من الموت بالمعنى المقابل للحياة، فتكون شاملة للمذكى، غاية الأمر أنها مقيدة بعدم التذكية، فيكون عدم التذكية قيداً في موضوع تلك الأحكام زائداً على عنوان الميتة من دون تصرف في مفهوم الميتة.

الثاني: أن يكون موضوع تلك الأحكام هو الميتة بعد التصرف في معناها وإرادة ما يطابق غير المذكى منها، بأن تكون من العناوين المركبة، وتتقوم بأمر عدمي زائد على الموت، وهو عدم التذكية، بأن يكون العدم المذكور قيداً في مفهومها، لا في أحكامها مع عموم مفهومها. فالميتة عبارة عما مات ولم يذك، فيكون التقابل بينها وبين المذكى كالتقابل بين العدم والملكة.

الثالث: كالثاني، إلا أن الميتة متقومة بأمر وجودي زائد على الموت ملازم لعدم التذكية، بأن تكون عبارة عما مات بسبب لا يوجب التذكية، فيكون كل من الميتة والمذكى عنوانين وجوديين متضادين.

وعلى الأولين تنهض أصالة عدم التذكية بإحراز موضوع الأحكام المذكورة، ولا تنهض بذلك على الثالث.

ص: 340

إذا عرفت هذا فنقول: لا ريب في أن الميتة لغة مأخوذة من الموت المقابل للحياة فتصدق بدواً على المذكى وغيره، كما أنها تستعمل عرفاً في خصوص ما مات حتف أنفه، وحيث لا ريب عندهم في قصور أحكامها عن المذكى، وشمولها لكل ما لم يذك، فالظاهر ابتناء ذلك على ما ارتكز عندهم - ويستفاد من الأدلة - من أن الأحكام المذكورة إنما ثبتت للميتة بلحاظ خبث الموت وقذره، وذلك يقتضي اختصاصها بصورة عدم التذكية الرافعة للقذر والخبث المذكورين، وهو مناسب لكون التذكية من سنخ المانع من الأحكام المذكورة، ولازمه أخذ عدمها فيها، إما لكونه قيداً في الميتة التي هي موضوع الأحكام المذكورة - كما هو مقتضى الوجه الأول - أو لكونه مأخوذاً في مفهوم الميتة بالمعنى الذي صارت به موضوعاً لهذه الأحكام - كما هو مقتضى الوجه الثاني - ولا يناسب الوجه الثالث.

ويشهد بنفي الثالث - مضافاً إلى ذلك - بل بخصوص الثاني: أن أدلة أكثر الأحكام المذكورة قد اشتملت على كل من الأمرين، فكثير من النصوص قد اشتمل على حرمة أكل الميتة والصلاة فيها والانتفاع بها، كما اشتملت الآية الشريفة وكثير من النصوص على اعتبار التذكية في جواز الأكل والصلاة والانتفاع.

وظاهر كلتا الطائفتين دخل العنوان المذكور فيها في ترتب الحكم، وذلك لا يكون إلا بما ذكرنا من كون المراد بالميتة ما يساوق غير المذكى، ليتحد مفاد كلتا الطائفتين، خصوصاً ما ورد فيه العنوانان في كلام واحد مثل موثق سماعة: "سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال: إذا سميت ورميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا"(1).

أما لو حملت الميتة على معنى آخر ملازم لعدم التذكية، فيلزم كون أخذ الميتة في موضوع هذه الأحكام عرضياً لملازمته للموضوع، لا حقيقياً لدخله بنفسه فيه، وهو خلاف الظاهر جداً. فلاحظ مثل صحيح الحلبي:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 341

الخفاف التي تباع في السوق. فقال: اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه"(1) ، وموثق سماعة: "أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن تقليد السيف في الصلاة وفيه الفراء والكيمخت فقال: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة"(2).

على أنه لو فرض إمكان التصرف في الظهور المذكور فكما يمكن البناء على أن الدخيل هو المذكى وتنزيل أخذ الميتة في الأدلة الأخر على كونه عرضياً بلحاظ ملازمتها لعدم التذكية، كذلك يمكن العكس بالبناء على كون الدخيل هو عنوان الميتة، بما هو أمر وجودي وتنزيل أدلة أخذ عدم التذكية في ظاهر الأدلة الآخر على كونه عرضياً بلحاظ ملازمته لعنوان الميتة المذكور، ولا مرجح للأول، والمتعين مع الشك عدم نهوض أصالة عدم التذكية بإحراز الأحكام المذكورة، نظير ما تقدم منه.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد الجمع بين الطائفتين المذكورتين من النصوص في أن المراد بالميتة في الطائفة الأولى ما يساوق ما لم يذك، وأن ذلك هو المعنى المتشرعي أو المنصرف إليه الإطلاق منها، فيتعين حمل نصوص النجاسة عليه، إذ لا يحتمل تعدد معناها مفهوماً مع التطابق الخارجي المصداقي بين موضوع الأحكام جميعاً.

ويؤيد ما ذكرنا أمور:

الأول: ما في كلام غير واحد من اللغويين، ففي الصحاح والقاموس:" الميتة ما لم تلحقه الذكاة "،وفي لسان العرب:" والميتة ما لم تدرك ذكاته "وفي مفردات الراغب:" والميتة من الحيوان ما زال روحه بغير تذكية "،وفي مجمع البيان:" حرمت عليكم الميتة... أي حرم عليكم أكل الميتة والانتفاع بها، وهو كل ما له نفس سائلة... فارقه روحه من غير تذكية. وقيل: الميتة كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية... "وقريب منه ما في تفسير الطبري. فإن هذه الكلمات صريحة في أخذ عدم التذكية في الميتة التي هي موضوع الكلام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 12.

ص: 342

نعم نسب في تقرير درس بعض مشايخنا (قدس سره) التصريح بالمعنى الذي ذكره - وهو ما مات بوجه غير شرعي - لمجمع البحرين تارة، وللمصباح أخرى. لكن لم أعثر في مجمع البحرين على تعرض لشرح مفهوم الميتة. كما أن ما في المصباح لا ينهض به، لأنه قال: "والميتة من الحيوان ما مات حتف أنفه... والمراد بالميتة في عرف الشرع ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة".

وهو ظاهر في بيان مصاديقها، وأنها أعم من المعنى اللغوي الذي ذكره، لا في شرح مفهومها لينافي ما ذكرنا. ولاسيما بلحاظ ما سبق من امتناع أخذ عدم المشروعية في موضوع أحكام الميتة، فلا يصح أخذه إلا لتحديد المصاديق لا غير.

وهذا بخلاف من سبق فإن كلامهم مسوق لشرح المفهوم، وهو وإن لم يبلغ مرتبة الحجية، لابتناء كلام اللغويين على التسامح في التعاريف واختلاط ضوابط المصاديق بالحدود المفهومية، إلا أنه يصلح للتأييد وتقريب مفاد الأدلة الشرعية، وتحديد المفهوم المتشرعي التابع لها.

الثاني: أنه قد وردت نصوص كثيرة في الصيد والذباحة(1) قد تضمنت لزوم العلم باستناد الموت للسبب المذكي ومعللاً في بعضها بأنه لا يدري باستناده للسبب المذكي(2). والظاهر المفروغية عند الأصحاب - تبعاً لسيرة المتشرعة الارتكازية - على ترتيب جميع أحكام الميتة ومنها النجاسة، لا خصوص حرمة الأكل والمانعية من الصلاة، وإلا لجاز أخذ الجلد والانتفاع به فيما يعتبر فيه الطهارة، ولو كان بناؤهم على ذلك لظهر وبان لأهمية الجلد حينئذٍ. ومن ثم لا ينبغي الشك في عدم بنائهم على ذلك، مع أن الأصل لا يحرز استناد الموت للسبب الذي لا يوجب التذكية، وهو شاهد بالمفروغية عن كون المراد بالميتة في جميع تلك الأحكام ما لم يذك، فينهض الأصل بإحرازها وإحراز الأحكام بتبعها.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 5، 14، 18، 19، 20، 22 من أبواب الصيد، وباب: 13 من أبواب الذبح.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 5 من أبواب الصيد حديث: 1، وباب: 13 من أبواب الذبح حديث: 2.

ص: 343

(344)

(مسألة 8): ما يؤخذ من يد المسلم من اللحم والشحم والجلد إذا شك في تذكية حيوانه فهو محكوم بالطهارة ظاهراً (1)،

الثالث: أن حرمة البيع في ظاهر الأدلة من أحكام الميتة، فلو لم يكن عدم التذكية مأخوذاً في المراد منها لم تنهض أصالة عدم التذكية بإثبات حرمة البيع، بل مقتضى أصالة عدم كون الحيوان ميتة جواز البيع ونفوذه، مع أنه لا يظن بأحد جواز البيع إذا لم تحرز ذكاته بيد المسلم ونحوها.

ومن هنا لا ينبغي التأمل في أن ما هو الموضوع لجميع الأحكام هو الميتة بالمعنى المساوق لما لم يذك. ولعل إرادة ذلك مبني في أول الأمر على انصراف إطلاق الميتة لذلك بسبب القرينة المشار إليها آنفاً من أن ثبوت هذه الأحكام بلحاظ قذر الموت وخبثه المستلزم لقصورها عن المذكى ومانعية التذكية من ثبوتها، ثم صار هذا سبباً لتبدل معنى الميتة في عرف المتشرعة، وكون المراد منها عندهم ما لم يذك، بنحو صار هو المفهوم من إطلاقها في جملة من أدلة الأحكام المذكورة، فصارت الميتة مقابلة للمذكى، لا أعم منه، بحيث يكون قصورها عنه من باب التخصيص والاستثناء. نعم يتجه الاستثناء إذا لم يكن المستثنى منه عنوان الميتة، بل سبب الموت، كما في الآية الكريمة. فلاحظ.

بقي شيء: وهو أنه سبق من بعض مشايخنا (قدس سره) أن موضوع حرمة الانتفاع - لو قيل بها - من أحكام الميتة، لا من أحكام غير المذكى، لعدم ورود ما يشهد باعتبار التذكية في حلّ الانتفاع. لكن موثق سماعة المتقدم شاهد بذلك، وقد استدل هو (قدس سره) به للقول بحرمة الانتفاع. والأمر سهل بعد ما سبق.

(1) أشرنا سابقاً إلى أن مقتضى الأصل الأولي مع الشك في تذكية الحيوان هو البناء على النجاسة وسائر أحكام الموت، لاستصحاب عدم التذكية الذي سبق أنه يحرز كون الحيوان ميتة بالمعنى الذي هو موضوع الأحكام.

ص: 344

وقد استشكل في ذلك صاحب المدارك تارة: بعدم حجية الاستصحاب. وأخرى: بإنه لو سلم العمل به فهو إنما يقيد الظن والنجاسة لا يحكم بها إلا مع اليقين أو الظن الذي يثبت اعتباره شرعاً.

ويندفع الأول بتمامية الدليل على اعتبار الاستصحاب على ما حقق في محله. والثاني بأن النجاسة كغيرها من الأحكام والموضوعات الخارجية يكفي في إحرازها الأصل. وما تضمن توقف البناء عليها على العلم لا يراد به توقفه على العلم بما هو صفة خاصة، بل بما هو طريق يحرز معه الواقع، فيقوم مقامه الطرق الظنية المعتبرة، والأصول الإحرازية والتعبدية، كما حقق في محله من الأصول.

بل لا إشكال في جريان استصحاب النجاسة، لقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة فيمن علم إصابة النجاسة لثوبه ولم يعلم موضعها: "تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك"(1).

وأشكل من ذلك ما في الحدائق من الإشكال في استصحاب عدم التذكية بأنه خلاف القاعدة المتفق عليها نصاً وفتوى من أن كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال، وكل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر. وقد ذكروا أنه يجب رفع اليد عن الأصل بالدليل، فترجيحهم العمل بالأصل المذكور على هذه القاعدة المنصوصة خروج عن القواعد.

إذ فيه: أن القاعدتين المذكورتين عبارة عن أصالتي الطهارة والحلّ المحكومتين للاستصحاب، وليستا من الأدلة، ليكونا مقدمتين عليه.

ومن ثم لا ينبغي التأمل في جريان استصحاب عدم التذكية ذاتاً مع الشك فيها، فتجري أحكام غير المذكى من حرمة الأكل والبيع والصلاة في الشيء ونجاسته بناء على ما تقدم. وإنما الكلام في المخرج عن ذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 345

والمصرح به في كلام غير واحد أمارية يد المسلم على التذكية، قال سيدنا المصنف (قدس سره):" والظاهر أن هذا هو المشهور "،وفي الجواهر:" للسيرة المستقيمة ومحكي الإجماع".

والذي ينبغي أن يقال: النصوص في المقام على طوائف ثلاث:

الأولى: ما تضمن جواز ترتيب آثار التذكية مطلقاً حتى يعلم بعدمها، كموثق سماعة المتقدم في المسألة السابقة، ومعتبر علي بن أبي حمزة:" إن رجلاً سأل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن الرجل يتقلد السيف ويصلي فيه. قال: نعم. فقال الرجل: إن فيه الكيمخت. قال: وما الكيمخت؟ قال: جلود دواب منه ما يكون ذكياً ومنه ما يكون ميتة، فقال: ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه"(1) ، وصحيح جعفر بن محمد بن يونس: "أن أباه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا أعلم أنه ذكي. فكتب: لا بأس به"(2).

الثانية: ما تضمن المنع من ترتيب الأثر مطلقاً حتى يعلم بالتذكية، كقوله (عليه السلام) في موثق ابن بكير:" فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكي وقد ذكاه الذبح"(3).

الثالثة: ما تضمن جواز ترتيب الأثر في موارد خاصة، كالسوق، وأرض الإسلام، ونحوهما مما يأتي الكلام فيه.

ومقتضى الجمع العرفي جعل هذه الطائفة شاهد جمع بين الطائفتين الأوليين، فتنزل الأولى على موارد هذه الطائفة، وتخصص الطائفة الثانية بها. بل حيث كان مفاد هذه الطائفة ترتيب أثر التذكية في مورد الأمارة عليها يكفي في الجمع بينها وبين الطائفة الثانية حمل أخذ العلم بالتذكية في الطائفة الثانية على أنه مأخوذ بما هو طريق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 55 من أبواب لباس المصلي حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 2 من أبواب لباس المصلي حديث: 1.

ص: 346

(347)

يقوم مقامه سائر الطرق ومنه ما تضمنته الطائفة الثالثة، فلا تكون منافية لها، بل منقحة لموضوعها. ومن ثم يكون العمل على الطائفة الثالثة فاللازم تحديد مفادها.

وقد اشتملت على عنوانين:

الأول: السوق، حيث قد تضمن جملة منها جواز ترتيب أثر التذكية على ما يؤخذ من السوق، كصحيح الحلبي: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق. فقال: اشتر وصل فيها حتى تعلم إنه ميتة بعينه" (1) وصحيح البزنطي: "سألته عن الرجل يأتي السوق، فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية، أيصلي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة، إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك"(2) ، وغيرهما.

ومقتضى إطلاقها العموم لسوق غير المسلمين، ودعوى: انصرافه لسوق المسلمين، لغلبته. ممنوعة، لأن الغلبة لا تصلح لتقيد الإطلاق، والانصراف لموردها بدوي لا يعتد به. ومثلها دعوى: أن خصوصية السوق إنما هي بلحاظ أماريته على التذكية، وهي إنما تتم في سوق المسلمين، دون غيره.

لاندفاعها بعدم وضوح ابتناء الحكم على الأمارية المذكورة، بل لعله مبتن على التسهيل ورفع الحرج، منعاً لاضطراب نظام الناس. كما هو المناسب لما يأتي من العموم لسوق المخالفين، مع معروفية القول بطهارة جلد الميتة بالدبغ، وحلية ذبائح أهل الكتاب عندهم، ومع اختلافهم معنا في بعض شروط التذكية.

ولاسيما وأن أخذ السوق لم يكن للتقييد به في كلام الإمام، ليكون ظاهراً في الخصوصية كي يدعى أن المنصرف منه ملاحظة الأمارية، بل هو مأخوذ في كلام السائل غير الظاهر في التقييد، وإنما بني على التقييد لكونه شاهد جمع بين الطائفتين الأوليين. فلاحظ.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 2، 3.

ص: 347

وأشكل من ذلك ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن أدلة اعتبار السوق ليست واردة بنحو القضية الحقيقية، بل بنحو القضية الخارجية، وهي مختصة بأسواق المسلمين، ولا إطلاق للقضية الخارجية، كي يتمسك به لتعميم الحكم لسوق غير المسلمين.

لاندفاعه أولاً: بعدم الوجه في حملها على القضية الخارجية، كيف ولا إشكال في شمولها للأسواق المتجددة بعد ورود الأسئلة المذكورة. ومجرد العلم بعدم دخل خصوصية السوق، بحيث لا يعم الحكم مثل الشوارع والطرق - لو تم - لا يصلح قرينة على حمل القضية على الخارجية، بل غاية ما يقتضي ذلك إلغاء خصوصية السوق والعموم لجميع المواضع المعدة للبيع. على أنه في غاية الإشكال لإمكان خصوصية السوق الذي هو عبارة عن الموضع المعد لتجمع البائعين، دون مواضع البيع المفردة.

وثانياً: بأن الظاهر عدم اختصاص الأسواق الموجودة في عصر الروايات التي هي محل الابتلاء بأسواق المسلمين، لكثرة وجود أهل الذمة في تلك البلاد المناسب لاختصاصهم بأسواق لهم، واشتراكهم مع المسلمين في بعض الأسواق، بحيث لا يصدق عليه أنه سوق المسلمين. مضافاً إلى قرب ابتلاء المسلمين بالدخول لبلاد الكفر المجاورة والشراء من أسواقهم. ولعله لذا حكي عن بعضهم إطلاق اعتبار السوق.

لكن لابد من رفع اليد عن الإطلاق المذكور بصحيح فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم:" أنهم سألوا أباب جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق، ولا يدري ما صنع القصابون. فقال: كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه"(1).

مضافاً إلى قرب قيام الإجماع على عدم اعتبار سوق غير المسلمين، والمفروغية عن ذلك، وأن القول المشار إليه - لو صحت النسبة - شاذ نادر.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في حجية سوق المسلمين. ويكفي فيه غلبة المسلمين عليه، بحيث يعد سوقهم لا سوقاً لغيرهم أو مشتركاً بينهم وبين غيرهم،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الذبايح حديث: 1.

ص: 348

(349)

ويناسبه ما يأتي.

الثاني: الصنع في أرض الإسلام، كما تضمنه صحيح إسحاق بن عمار عن العبد الصالح (عليه السلام): "أنه قال: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس"(1).

ويناسبه موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):" أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين. فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام): يقوّم ما فيها ثم يؤكل، لأنه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل له يا أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي. فقال: هم في سعة حتى يعلموا"(2) ، حيث لابد من حمله - ولو بقرينة صحيح إسحاق - على ما وجد في أرض يغلب فيها المسلمون كالعراق. بل لعله المتيقن منه بعد ظهور كونهما إشارة إلى قضية خارجية يسهل السؤال عن حكمها منه (عليه السلام).

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن المحتمل لو لم يكن ظاهراً أن السؤال فيها من جهة النجاسة العرضية للأمور المذكورة من جهة مساورة المجوسي، لا من جهة الشك في التذكية، فلا تكون مما نحن فيه. فلا يتضح وجهه. ولاسيما مع أن مقتضى مطابقة الجواب للسؤال حمل العلم فيه على العلم بكونها سفرة مجوسي، مع ما هو المعلوم من عدم كفاية العلم بكونها سفرة المجوسي في البناء على نجاسة الأمور المذكورة بالعرض، خصوصاً بناء على طهارة المجوسي، بخلاف ما لو حمل على الشك في التذكية، حيث يكفي في التوقف عن اللحم العلم بكونه للمجوسي، لعدم إحراز التذكية له.

نعم ذلك يختص باللحم. لكنه غير مانع من الاستدلال، لظهور الحديث في أن العلم المذكور رافع للسعة في الجملة في مقابل عموم السعة مع الجهل، لا رافع له

********

(1) ،

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 5، 11.

ص: 349

في جميع ما اشتملت عليه السفرة. وعلى كل حال لا ينبغي التوقف في كفاية الصنع في أرض الإسلام - ولو لغلبة المسلمين - في البناء على التذكية.

هذا والمستفاد عرفاً من أمارية السوق والصنع في الأرض التي يغلب فيها المسلمون أن أماريتهما في طول أمارية يد المسلم، من أجل كونهما - بلحاظ الغلبة - أمارة على صيرورة المأخوذ تحت يد المسلم، فهما أمارة على الأمارة. كما يناسبه ما في خبر إسماعيل بن عيسى: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البايع مسلماً غير عارف؟ قال: عليكم أنتم أن تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه"(1).

وعلى ذلك يكفي العلم ببيع المسلم له ولو في غير السوق، وصنع المسلم له ولو في غير أرض الإسلام. بل يكفي كونه تحت يد المسلم إذا كان مستعملاً استعمالاً يتوقف على التذكية، كالصلاة فيه وتهيئته للأكل ونحوهما، كما يناسبه خبر إسماعيل وموثق السكوني، كما يكفي عمل المسلم فيه عملاً يناسب التذكية وإن لم تكن شرطاً فيه أو في حليته، كدبغه وصنع الفراء منه ونحوهما، لصحيح إسحاق بن عمار بعد ما سبق من حمله على كون العمل في أرض الإسلام في طول يد المسلم.

هذا وفي حديث محمد بن الحسين [الحسن] الأشعري:" كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال: إذا كان مضموناً فلا بأس"(2). لكن ذلك لا يناسب النصوص الكثيرة الناهية عن السؤال وحمله على غير سوق المسلمين أو على الشراء أو من غير المسلم ليناسب ما تقدم في خبر إسماعيل بن عيسى. بعيد جداً لأن سوق المسلمين أظهر الأفراد أو المتيقن منه. فلابد من حمله على الكراهة بالمعنى الآتي في صحيح الحلبي، أو على فراء خاص معهود مجلوب من بلاد الكفر أو نحو ذلك.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 7، 10.

ص: 350

(351)

بقي في المقام أمور:

الأول: مقتضى إطلاق النصوص والفتوى، بل معقد الإجماع المتقدم عدم الفرق في حجية يد المسلم بين المؤمن والمخالف المستحل لجلد الميتة بالدبغ وغيره. وفي روض الجنان أنه المشهور في الفتاوى والأخبار، وعن كشف الالتباس نسبته للأكثر. خلافاً للتذكرة والمنتهى ونهاية الأحكام والذكرى ومحكي التحرير والهلالية وفوائد الشرايع وحاشية الإرشاد وكشف اللثام والشافية، فمنعوا من ترتيب الأثر على ما يوجد عند مستحل الميتة.

قال في التذكرة: "وإنما اعتبرنا في المسلم انتفاء استباحته ليحصل الظن بالتذكية، إذ لا فرق في انتفاء الظن بين المستبيح من المسلم والكافر" .وهو - كما ترى - لا ينهض بالخروج عن إطلاق النصوص المتقدمة.

نعم قد يستدل على ذلك بصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أدخل سوق المسلمين - أعني هذا الخلق الذي يدعون الإسلام - فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها: أليس هي ذكية؟ فيقول: بلى. فهل يصلح لي أن ابيعها على أنها ذكية؟ فقال: لا، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنها ذكية. قلت: وما افسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق للميتة، وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكاته..." (1) وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): "قال: تكره الصلاة في الفراء إلا ما صنع في أرض الحجاز أو ما علمت منه الذكاة"(2) ، بناء على أن خصوصية أرض الحجاز لعدم استحلال أهلها الميتة بالدبغ.

وخبر أبي بصير:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في الفراء. فقال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) رجلاً صرداً لا يدفئه فراء الحجاز، لأن دباغها بالقرض، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 61 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 61 من أبواب لباس المصلي حديث: 1.

ص: 351

القميص الذي يليه، فكان يسئل عن ذلك، فقال: إن أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة، ويزعمون أن دباغه ذكاته"(1).

لكن مقتضى النصوص المذكورة عدم اختصاص التوقف بما يكون تحت يد المستحل، بل عمومه لكل مورد يحتمل فيه عدم التذكية بسبب الاستحلال ولو مع احتمال عدم استحلال صاحب اليد، بل ولو مع العلم بعدم استحلاله إذا احتمل أخذه له من المستحل ولو بوسائط ولا يظن من أحد القول بذلك. كما لا تناسبه النصوص الكثيرة التي سبق الاستدلال بها لحجية يد المسلم.

مضافاً إلى أن صحيح عبد الرحمن إنما تضمن عدم جواز الاعتماد على إخبار البايع بالتذكية في التعهد بها عند البيع ثانياً، بسبب الشبهة المذكورة الناشئة من استحلال أهل العراق جلد الميتة بالدبغ، لا على المنع من ترتيب أثر التذكية بالشراء من السوق الذي هو محل الكلام. بل هو خلاف ما تضمنه من جواز البيع بعد الشراء من السوق، مع عدم جواز بيع الميتة.

وأما صحيح الحلبي فهو - مع عدم صراحته في الحرمة - لا يناسب جداً نصوص السوق الكثيرة، حيث لا مجال لحملها على خصوص ما صنع في أرض الحجاز، بل هو خلاف صريح إسحاق بن عمار وخبر إسماعيل بن عيسى المتقدمين، فلابد من طرحه، أو حمله على الكراهة من حيثية التحفظ على الواقع، وإن كان قد يطرأ ما يقتضي مرجوحية العمل عليها من لزوم الحرج والضيق، كما يناسبه التأكيد على الجواز في نصوص السوق، خصوصاً مثل خبر الحسن بن الجهم: "قلت لأبي الحسن: اعترض السوق فاشتري خفاً لا أدري أذكي هو أم لا. قال: صل فيه. قلت: فالنعل؟ قال: مثل ذلك. قلت: إني أضيق من هذا. قال: أترغب عما كان أبو الحسن (عليه السلام) يفعله"(2).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 61 من أبواب لباس المصلي حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 9.

ص: 352

وأما خبر أبي بصير فقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن ما تضمنه من حكاية إلقاء الإمام (عليه السلام) الفرو حال الصلاة إنما يكون له ظهور في المنع من الصلاة فيه لو كان وارداً لبيان حكم الصلاة في الفراء من حيثية الشبهة الموضوعية. لكنه خلاف ظاهر السؤال، بل ظاهره السؤال عن الحكم من حيثية الشبهة الحكمية، وحينئذٍ لا ظهور لحكاية إلقائه (عليه السلام) الفراء حال الصلاة في المنع، بل قد يكون للاحتياط الاستحبابي أو الكراهة.

وكأنه لأن حكاية الإلقاء حينئذٍ لا تكون جواباً عن السؤال الظاهر في السؤال عن الحكم الإلزامي ليكون لها ظهور في الإلزام، بل هي حكاية ابتدائية تفضلاً منه (عليه السلام) فلا قرينة في ورودها لبيان الإلزام، ومجرد الفعل المحكي لا يقتضيه.

لكن إطلاق السؤال عن العنوان وإن كان ينصرف للسؤال من حيثية الشبهة الحكمية، إلا أن الجواب في الحديث قرينة على كون المراد به السؤال من حيثية الشبهة الموضوعية. ولاسيما مع عدم المنشأ لتوهم المنع من الصلاة في الفراء من حيثية الشبهة الحكمية بعد ظهور كون المسؤول عنه هو فراء مأكول اللحم ليناسب الجواب، بل لا يظن حصول الشبهة في ذلك، خصوصاً لمثل أبي بصير. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في ظهور الحديث في السؤال من حيثية الشبهة الموضوعية، وظهور الجواب في بيان ذلك.

نعم في صلوح ذلك لحمل الجواب على بيان الإلزام مع أن فعله (عليه السلام) المحكي به لا يستلزمه إشكال. ولو تم فلا ريب في سهولة حمله على الاحتياط الاستحبابي أو الكراهة. بل تعينه، بلحاظ نصوص السوق المشار إليها التي يصعب جداً حملها على خصوص صورة عدم احتمال الاستحلال بعد كون الاستحلال قولاً شايعاً عند العامة، وخصوصاً في العراق الذي هو من أهم مراكز التشيع التي هي مورد العمل بنصوص السوق. بل لعله المتيقن من إطلاق نصوصها. بل من القريب كون منشأ السؤال في النصوص والاهتمام بالشبهة هو القول المذكور مع أن ضعف سنده يهون

ص: 353

(354)

الأمر فيه. ومن جميع ما تقدم يظهر ضعف القول المذكور.

ومثله ما في المبسوط وعن محكي النهاية من عدم جواز شراء الجلد ممن يستحل الميتة أو كان متهماً فيه. لعدم الشاهد عليه، وبعض النصوص المتقدمة صريح في جواز الشراء مع الشبهة المذكورة التي قد توجب الاتهام، بل مقتضى إطلاقها حينئذٍ الجواز مع العلم باستحلال البايع.

هذا وعن الجعفرية وإرشادها وكفاية الطالبين وغيرها الجواز فيما في يد المستحل إذا أخبر بالتذكية، وجعله الأقرب في الذكرى ومحكي البيان، وبه جزم في الدروس مع ظهور كلامه في التردد في التحريم بدونه. وقد يستدل له بخبر الأشعري المتقدم. لكنه لا يختص بالمستحل، بل يبعد جداً تخصيصه به بعد كون موضوع السؤال فيه السوق، ومن ثم تقدم حمله على الكراهة.

نعم قد استدل له ببناء العقلاء على قبول قول صاحب اليد فيما تحت يده، ولا مخرج عن ذلك فيما نحن فيه، وإن قيل بوجود المخرج عنه في خبر الكافر، كما يأتي. لكنه مختص بغير صورة التهمة. فلابد من الاقتصار على ذلك.

ومنه يظهر ضعف ما عن كشف اللثام من عدم قبول خبره وإن كان ثقة، لعدم إيمانه. مع احتمال أنه يريد بالذكاة الدبغ والطهارة. إذ فيه: أن الإيمان غير مأخوذ في موضوع بناء العقلاء. والاحتمال المذكور خروج عن محل الكلام.

الثاني: مقتضى إطلاق نصوص السوق وسوق المسلمين جواز ترتيب أثر التذكية مع العلم بكون البايع كافراً، فضلاً عما إذا كان مجهول الحال. لكن في المستند الإجماع على الخروج عن ذلك فيما لو كان البايع كافراً، وهو المناسب لما تقدم من أن المستفاد عرفاً من أمارية السوق والصنع في الأرض التي يغلب فيها الإسلام كون أماريتهما في طول أمارية يد المسلم، بلحاظ أماريتهما بحكم الغلبة على كون المباشر للبيع والذي صنع الجلد مسلماً، فمع العلم بعدم كونه مسلماً لا موضوع للأمارية، ويعضده أو يؤيده خبر إسماعيل بن عيسى، بناء على أن أسواق الجبل من أسواق

ص: 354

(355)

المسلمين، وإلا خرج عما نحن فيه. ومنه يظهر ضعف ما عساه يتوهم من حلية ما في سوق المسلمين وإن كان في يد كافر، كما أشار إليه في الجواهر.

وأما إذا كان البايع في السوق مجهول الحال فعن المستند البناء على تذكية ما يؤخذ منه، عملاً بالإطلاق المذكور واقتصاراً في الخروج عنه على المتيقن وهو معلوم الكفر. لكن قيده سيدنا المصنف (قدس سره) بما إذا قامت أمارة على إسلامه لأن أدلة السوق إنما تقتضي البناء على التذكية بعناية كون البيع تصرفاً من المسلم.

ويشكل أنه يكفي في الأمارية غلبة المسلمين في سوقهم، حيث تكون الغلبة المذكورة أمارة على إسلام مجهول الحال، كما هو المناسب لإطلاق نصوص السوق، ولما تضمن الاكتفاء في البناء على التذكية بالصنع في البلاد التي يغلب عليها المسلمون، إذ هو كالنص في الاكتفاء باحتمال كون المباشر للصنع مسلماً وعدم اعتبار العلم بذلك. بل ذلك هو الظاهر من سيرة المسلمين، حيث لا يظن منهم السؤال عن إسلام البايع في أسواق المسلمين.

وبملاحظة جميع ذلك يظهر قرب الاكتفاء بيد مجهول الحال في البلاد التي يغلب فيها المسلمون وإن لم يكن في السوق، كالبايع المنفرد في بعض الأماكن، وصاحب البيت المستطرق ونحوهم. وهو المناسب لظهور سيرة المسلمين على ترتيب أثر الإسلام على مجهول الحال في بلاد المسلمين من احترام المال والدم ووجوب التجهيز و غيرهما.

نعم لا مجال لذلك إذا كان في سوق غير المسلمين أو السوق المشترك بينهم وبين غيرهم، بحيث لا يصدق عليه أنه سوق المسلمين، عملاً بظاهر التقييد في صحيح فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم المتقدم. بل لا يبعد التعدي لمثل الأحياء السكنية المختصة بغير المسلمين أو المشتركة، لفهم عدم الخصوصية للسوق. فلاحظ.

الثالث: لا إشكال ظاهراً في عدم جواز ترتيب أثر التذكية فيما لم يؤخذ من المسلم ولم يكن مصنوعاً في أرض الإسلام إلا بناء على ما تقدم من المدارك والحدائق

ص: 355

الذي قد سبق ضعفه. والنصوص المتقدمة شاهدة به.

نعم في صحيح إسماعيل بن الفضل:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لباس الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلين. فقال: أما النعال والخفاف فلا بأس بهما"(1). لكن ظاهره التفصيل بين الجلود، فلا تجوز الصلاة فيها، والنعال والخفاف، فتجوز الصلاة فيها.

وحيث لا يحتمل عرفاً الفرق في إحراز التذكية بينهما وبين الجلود فالظاهر حمل التفصيل على الفرق ثبوتاً، لكون الخفاف والنعال مما لا تتم به الصلاة مع اتفاقهما في عدم إحراز التذكية إثباتاً، فلا ينافي النصوص المتقدمة، بل يعضدها.

نعم التفصيل المذكور لا يناسب النصوص الكثيرة الظاهرة أو الصريحة في عدم جواز الصلاة في الميتة وإن كانت مما لا تتم به الصلاة. لكنه ملزم بطرحه لا بحمله على إحراز التذكية في الخفاف والنعال، بعد أن كان ذلك خلاف ظاهره.

هذا وهل يكتفى بإخبار الكافر بالتذكية حينئذٍ أولا؟ وجهان يشهد للأول قوله (عليه السلام) في خبر إسماعيل بن عيسى: "عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك" .لأن المنصرف منه السؤال من البايع مع المفروغية عن قبول الجواب حينئذٍ.

وقد يشكل الاستدلال به بضعف سنده، لعدم النص على توثيق إسماعيل، ولا ابنه سعد الراوي عنه. لكنه قد يندفع بأن ابن محبوب يروي عن الأول، وراوي هذا الحديث وغيره عن الثاني أحمد بن محمد بن عيسى الذي أخرج البرقي عن قم، لأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، فكيف يمكن أن يروي هو عمن ليس بثقة؟ بل المناسب لتشدده المذكور وثاقة إسماعيل أيضاً، لأن منشأ التشدد المذكور هو الاهتمام بوثاقة الرواية. فتأمل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 38 من أبواب لباس المصلي حديث: 3.

ص: 356

(357)

بل لا يبعد ذلك حتى لو علم بسبق يد الكافر عليه (1)

مضافاً إلى ما أشرنا إليه آنفاً من بناء العقلاء على قبول قول صاحب اليد فيما تحت يده. غاية الأمر أنه يختص بصورة عدم التهمة التي لابد من حمل خبر إسماعيل عليها، لعدم الإطلاق له.

نعم قد ينافي ذلك صحيح عيسى بن عبد الله: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صيد المجوس فقال: لا بأس إذا أعطوكه حياً، والسمك أيضاً، وإلا فلا تجوز شهادتهم عليه، إلا أن تشهده"(1).

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من الإشكال في سنده لاشتراك عيسى. فيندفع بأن الظاهر أنه عيسى بن عبد الله القمي الثقة، لأن الراوي عنه أبان بن عثمان الذي روى عن عيسى بن عبد الله تارة، وعن عيسى القمي أخرى وعن عيسى بن عبد الله القمي ثالثة، والأخيران مفسران للأول.

وهو وإن ورد في المجوس، إلا أن التعدي عنهم لغيرهم من الكفار قريب جداً بعد اشتراك الكل في عدم التزامهم بالتذكية وعدم أمارية أيديهم عليها. ولأجله يقرب حمل السؤال في خبر إسماعيل بن عيسى المتقدم على الكناية عن لزوم تحصيل العلم أو قيام الطريق المعتبر على التذكية. ومن هنا كان الأقرب التوقف عن قبول خبره. نعم إذا أخبر بأخذه من المسلم، فالظاهر قبول خبره مع عدم التهمة، لخروجه عن مفاد الصحيح.

(1) كما في الجواهر وعن كاشف الغطاء قال في كشف الغطاء:" وما يؤتى به من بلاد الكفار - كالبرغال والقضاعي ونحوه - لا بأس به إذا أخذ من أيدي المسلمين ".لإطلاق النصوص المتقدمة.

ودعوى: أن ترك الاستفصال فيها إنما يدل على العموم مع العلم بالابتلاء في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الصيد حديث: 1.

ص: 357

عصور صدورها بيد المسلم المسبوقة بيد الكفار، حيث يمكن وقوع الواقعة المسؤول عنها على نحوين، أما إذا كان الحال فيها واحداً فلعل عدم الاستفصال لعدم الحاجة للتفصيل، لا لعدم التفصيل.

مدفوعة بأن ذلك إنما يتم إذا كانت القضية خارجية، فإن عدم الاستفصال والإطلاق بل العموم فيها إنما يقتضي العموم لجميع الأفراد والفروض الواقعة، دون غيرها، فلا يمكن الاستدلال بها للعموم في فرض إلا بعد إحراز وقوعه، أما إذا كانت القضية حقيقية - كما هو الظاهر في النصوص المتقدمة وفي جميع القضايا الشرعية بمقتضى طبعها - فهي تشتمل عن فروض محتملة وإن لم تكن واقعة، فيصح الاستدلال بها لكل فرض صالح للوقوع وإن لم يحرز وقوعه حين صدور الخطاب. على أنه من البعيد جداً عدم الابتلاء بالفرض المذكور في عصر صدور النصوص بعد وضوح كثرة اختلاط المسلمين بالكفار ودخولهم لبلادهم للتجارة وغيرها.

نعم ذكر في الجواهر أن يد الكافر أمارة على عدم التذكية، كما أن يد المسلم أمارة على التذكية مستدلاً على ذلك بصحيح إسحاق بن عمار وخبر إسماعيل بن عيسى المتقدمين، حيث قد يدعى حينئذٍ تعارض الأمارتين المستلزم لتساقطهما والرجوع لأصالة عدم التذكية.

لكن ذكر فيه أيضاً أنه ظاهر أدلة أمارية يد المسلم على التذكية أقوائية أماريته عليها من أمارية يد الكافر على عدمها، وأنها مع وجودها لا يلتفت إلى غيرها. ويشكل بعدم وضوح الأقوائية المذكورة. إلا أن يرجع ما ذكره إلى قصور إطلاق أمارية يد الكافر على عدم التذكية عن صورة وجود يد المسلم، فيكون العمل حينئذٍ بيد المسلم لانفرادها بالأمارية، لا لاقوائية أماريتها، نظير تقديم يمين المنكر على يمين المدعي. لكن لا وجه لذلك بعد إطلاق كلا الدليلين.

ودعوى: أن النسبة بين الإطلاقين العموم من وجه الملزم بترجيح إطلاق دليل حجية اليد لأنه أكثر عدداً، وأوضح دلالة. ولاعتضاده بأصالة الصحة في فعل

ص: 358

المسلم. مدفوعة بأنه لا تعارض بين الإطلاقين لاختلاف موضوعهما، فلا موضوع للترجيح بينهما لو نهض ما سبق به، وإنما التعارض بين الأمارتين نفسهما، ومع عدم الترجيح بينهما يتعين التساقط، والرجوع لأصالة عدم التذكية، كما سبق.

فالعمدة في دفع ذلك أنه لا دلالة لصحيح عمار وخبر إسماعيل على أمارية يد الكافر على عدم التذكية. ومجرد ظهور الأول في توقف البناء على التذكية على العمل في أرض الإسلام، وظهور الثاني في لزوم السؤال عن التذكية مع الأخذ من الكافر، لا يقتضي ذلك، لقرب ابتنائه على العمل بأصالة عدم التذكية بعد عدم المخرج عنها مما هو أمارة على التذكية. ومن ثم لا ينبغي التأمل في عدم المعارض ليد المسلم في المقام لو تمت حجيتها كما هو مقتضى الإطلاق المتقدم.

كما لا ينبغي التأمل في العمل عليها فيما إذا احتمل عدم أخذ المسلم له من الكافر إلا بعد إحراز تذكيته بعلم أو بيد مسلم سابقة على يد الكافر أو غيرهما. وإنما الإشكال فيما إذا علم بأخذه منه من دون إحراز تذكيته للبناء - اجتهاداً أو تقليداً - على عدم توقف ترتيب الأثر على إحرازها، أو غفلة أو تسامحاً، كما هو الشايع في عصورنا فيما يستورد من البلاد غير الإسلامية. حيث قد يستشكل في ذلك بقصور أمارية يد المسلم في الفرض المذكور، لأن أماريتها إنما هو بتوسط ظهور حال المسلم في الحفاظ على التذكية، فمع العلم بعدم اهتمامه بإحرازها لا منشأ للأمارية.

ويندفع بأن ذلك لا ينهض بالخروج عن مقتضى الإطلاق، ولاسيما بعد ما سبق من عموم حجية اليد للمخالفين مع بنائهم على حلية ذبائح أهل الكتاب وشيوع القول بينهم بطهارة جلد الميتة بالدبغ وغير ذلك.

ولأجل ذلك وغيره يتعين البناء على أن ملاك الأمارية ليس فعلية الكشف عن الواقع، بل الكشف عنه نوعا مع تبعية الأمارية سعة وضيقاً لعموم الدليل وخصوصه، وحيث سبق تمامية الإطلاق في المقام فالمتعين البناء على عموم الأمارية ولو مع عدم فعلية الكشف.

ص: 359

فالأولى أن يقال: المناسبات الارتكازية تقضي بابتناء أمارة يد المسلم على التذكية على احترام يده وتصديقها فيما هي ظاهرة فيه نوعاً، وذلك يوجب انصراف إطلاق أدلتها عما إذا ابتنت اليد على الخروج عن مقتضى الميزان الشرعي في ترتيب أثر التذكية، نظير قصور أدلة أمارية اليد على الملكية عما إذا علم بابتنائها على إهمال الميزان الشرعي، كما لو علم بأن صاحب اليد قد أخذ المال بلا مبرر شرعي وإن احتمل استحقاقه له في الواقع، وقصور قاعدة الصحة في تصرف الوكيل عما إذا علم بعدم ابتناء تصرفه على إحراز إذن الموكل وإن احتمل إذنه في الواقع، وقصور قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به عما إذا علم بعدم ابتناء إقراره بما ملكه على علمه بوقوع ما أقر به، كما لو أقر الوكيل على الطلاق بإيقاع الطلاق مع العلم بعدم ابتناء إقراره على إحراز إيقاعه للطلاق وإن احتمل إيقاعه له واقعاً.

وهذا بخلاف حجية الإقرار في حق المقر فإنها لا تبتني على احترام إقرار المقر، بل على مجرد إلزامه بإقراره في حق نفسه، ولا مانع من عمومه لما إذا علم بعدم ابتناء الإقرار منه على إحرازه لما أقر به، بعد عموم دليله له.

هذا مضافاً إلى صحيح إسحاق بن عمار المتقدم، لظهوره في عدم جواز الصلاة فيما صنع في غير أرض الإسلام، مع ما هو المعلوم من أن الابتلاء بذلك إنما يكون غالباً بتوسط شرائه من سوق المسلمين. وحمله على مجرد عدم الصلاة فيه من الحيثية المذكورة وإن جازت الصلاة فيه من حيثية أخرى، كالسوق ونحوه. بعيد جداً بعد غلبة تحقق الحيثية التي يدعى جواز الصلاة فيه بلحاظها، لظهوره في بيان قضية فعلية عملية، لا اقتضائية خارجة عن مقام العمل.

وأظهر منه صحيح إسماعيل بن الفضل المتقدم الظاهر في عدم البناء على تذكية ما لم يكن من أرض المصلين. لظهوره في عدم البناء على تذكية الجلود المجلوبة من أرض الكفر، ومن الظاهر أن الجلب من أرضهم لا يستلزم الصنع فيها، وكثيراً ما يقوم المسلمون به، فلو كانت يدهم أمارة على تذكيته لكان المناسب التنبيه عليها.

ص: 360

وحملها على خصوص ما لم يعلم بمرور يد المسلم عليه حمل على الفرد النادر.

ودعوى: أن المصنوع من أرض الكفر والمجلوب منها يعلم بعدم تذكيته غالباً، لندرة تولي المسلمين للتذكية في بلاد الكفر. مدفوعة بأن المراد من بلاد الكفر ليس هو خصوص ما كان كل أهلها كفاراً، بل يكفي فيها غلبة الكفر. بل مقتضى صحيح عمار الاكتفاء بعدم غلبة المسلمين، ومن الظاهر حصول احتمال تولي المسلمين للتذكية في ذلك.

ومثلها دعوى: أنه لو تم ظهور الصحيحين في ذلك لزم البناء على عدم تذكية المصنوع في بلاد الكفر والمجلوب منها حتى لو احتمل أخذ المسلم له بعد إحراز التذكية. لاندفاعها بأن ذلك وإن كان مقتضى الإطلاق، إلا أن ندرة الفرض المذكور - خصوصاً في تلك العصور - وارتكازية أمارية يد المسلم فيه، موجبان لانصراف الإطلاق عنه، نظير ما صنعه المسلمون في بلاد الكفر.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في ظهور الصحيحين في عدم حجية يد المسلم في الفرض. وهو المناسب لما سبق من اختصاص حجية اليد بما إذا ظهر منها البناء من صاحبها على التذكية، لقيامه فيما تحت يده بما يناسبها من التصرفات، ومن الظاهر أن الاحتياج إلى ذلك إنما هو بعناية تصديق الشارع له في البناء المذكور، وحمله فيه على الصحة، ومع فرض عدم إحرازه شرعاً للتذكية - إما بأن يكون غير بانٍ عليها، أو كان بانياً عليها بوجه مردوع عنه شرعاً - كيف يدخل في إطلاق أدلة الحجية؟!.

على أن مقتضى ذلك أن من لم يحرز تذكية الشيء يستطيع أن يستحله بتكليف مسلم بمناولته إياه، أو بإغفاله حتى يحمله ثم يأخذه منه، أو بإجباره على أخذه ودفعه له. بل يكتفي بأخذه منه ولو صرح الدافع بأنه لا يحرز تذكيته، بل يحرز عدمها بمقتضى الأصل. وذلك بعيد جداً لا يناسب مرتكزات المتشرعة، بل هو مستهجن عندهم. ومن ثم لا مجال للبناء على حجية اليد على التذكية في المقام.

ومثله ما إذا علم بإحرازه للتذكية شرعاً بوجه يخطؤه الآخذ منه فيه،

ص: 361

(362)

وكذا ما صنع في أرض الإسلام، أو وجد مطروحاً في أرض المسلمين (1) إذا كان عليه أثر الاستعمال منه الدال على التذكية، مثل ظرف الماء والسمن واللبن (2)، لا مثل ظروف العذرات والنجاسات.

(مسألة 9): المذكورات إذا أخذت من أيدي الكافرين محكومة بالنجاسة ظاهراً (3) إلا أن يعلم بسبق يد المسلم عليها (4).

لاختلافهما اجتهاداً أو تقليداً، كما إذا كان المكلف يرى - بمقتضى اجتهاده أو تقليده - أن يد المستحل للميتة بالدبغ ليست بحجة، فأخذها ممن يعلم بأنه قد اعتمد على اليد المذكورة في البناء على التذكية لبنائه على حجيتها بمقتضى اجتهاده أو تقليده. ثم إن ذلك لا يختص بالمسبوق بيد الكافر، بل يجري في كل ما لم يحرز المسلم صاحب اليد تذكيته، كالمطروح في أرض الكفر، أو في أرض الإسلام من دون أن يظهر عليه أثر الاستعمال.

(1) فقد تضمن الأول صحيح إسحاق بن عمار، والثاني موثق السكوني. لكن تقدم أماريتهما - كأمارية سوق المسلمين - في طول أمارية يد المسلم، بلحاظ أمارية الغلبة على كون المباشر للتصرف هو المسلم، لا في قبال أمارية يد المسلم، ولذا تسقط عن الأمارية إذا علم بكون المباشر كافراً.

(2) لاختصاص مورد النصوص به. وقد تقدم بيان الضابط لذلك.

(3) لأصالة عدم التذكية، كما تقدم في أول المسألة السابقة، وتقدم التعرض لخلاف صاحبي المدارك والحدائق، ولضعفه. كما تقدم في أواخر المسألة المذكورة التعرض لدعوى صاحب الجواهر ابتناء الحكم بالنجاسة على أمارية يد الكافر على عدم التذكية، ولدفعها.

(4) فيحكم بتذكيتها عملاً بأماريتها فتكون حاكمة على أصالة عدم التذكية بناء على انحصار وجه النجاسة بها. أما بناء أمارية يد الكافر على عدم التذكية فقد تقدم من الجواهر أن أمارية يد المسلم على التذكية مقدمة على أمارية يد الكافر على

ص: 362

(363)

(مسألة 10): السقط قبل ولوج الروح نجس (1)،

عدمها. لكن تقدم ضعفه، وأنه لو تمت أمارية يد الكافر على عدم التذكية لزم البناء على تعارض اليدين وتساقطهما ثم الرجوع لأصالة عدم التذكية الحاكمة بالنجاسة.

ثم إنه مما تقدم يظهر أنه يكفي العلم بسبق كونه في سوق المسلمين أو بصنعه في أرض المسلمين، أو كون اللحم أو الجلد مطروحاً في أرضهم بالنحو الذي تقدم كفايته في الأمارية على التذكية ولو في طول أماريته على يد المسلم، حيث يتعين الخروج في جميع ذلك عن أصالة عدم التذكية، التي تقدم انحصار وجه النجاسة بها.

(1) بلا خلاف كما عن لوامع النراقي، وعن محكي شرح المفاتيح الاتفاق عليه. وقد استدل له بوجوه:

الأول: أنه ميتة، لأن الموت يقابل الحياة تقابل العدم والملكة، ولا يعتبر في صدقه سبق الحياة.

وفيه: أولاً: المنع من ذلك، بل سبق أن المراد بالميتة ما مات ولم يذك. وثانياً: ما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) من عدم إطلاق لأدلة نجاسة الميتة يشمل مثل ذلك.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الإطلاق يتم في مثل صحيح حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء وأشرب، فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا توضأ ولا تشرب"(1). لاشتماله على النتن الحاصل في الجيف، بل ويشمل المذكى أيضاً إذا نتن، لولا الخروج عنه فيه بما دل على طهارته مطلقاً، فيبقى غيره على حكم الإطلاق.

ففيه: أنه لو سلم عموم الجيفة لكل منتن، وعدم اختصاصه بالميتة المعهودة، إلا أن هذا الحديث ونحوه مما تضمن انفعال الماء بالجيفة أو الميتة إذا كان قد تغير، أو كان دون الكر ليست واردة لبيان نجاسة الجيفة والميتة، ليكون لها إطلاق يشمل موارد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 363

الشك، بل لبيان انفعال الماء بالملاقاة أو عدم انفعاله مع المفروغية عن نجاسة الملاقى من دون أن يكون لها إطلاق في ذلك.

نعم قد يتجه الإطلاق المذكور في مثل موثق حفص عنه (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): "قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة"(1). لوروده لبيان النجاسة من حيثية الملاقى، إلا أنه حيث يعلم بعدم إرادة الحكم بنجاسته ذاتاً، بل من حيثية الموت المفروغ عن منجسيته للحيوان، فلا يتضح شموله للمقام.

الثاني: أنه من قبيل القطعة المبانة من الحي، فيشمله دليل نجاسته. وفيه: أن دليل نجاسة القطعة المبانة من الحي مختص بالجزء المتصل بالحيوان دون المتكون فيه، كالجنين.

وأما دعوى: أنه مما لا تحله الحياة الذي تقدم طهارته. فهي كما ترى، لوضوح أن المراد بما تحله الحياة ليس خصوص ما ولجته الروح استقلالاً، بل مطلق ما له لحم وعروق يجري فيها الدم، وإن لم يستقل بروح، ومن الظاهر تحقق ذلك في الجنين وإن لم تلجه الروح.

الثالث: ما عن الفقيه الهمداني (قدس سره) من أن مقتضى ما تضمن أن ذكاة الجنين ذكاة أمه(2) كون الجنين ميتة مع عدم ذكاة أمه، كما في المقام.

وقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بأنه وارد لبيان الاكتفاء بذكاة الأم في ذكاة الجنين، من دون أن يكون له إطلاق في بيان موضوع الذكاة، بل لعله مختص بما ولجته الروح.

لكنه يندفع بعدم الإشكال في عموم الحكم لما لم تلجه الروح، وأنه مع عدم تذكية أمه يعامل معاملة غير المذكى، بل هو مقتضى ما تضمن تحديد الموضوع بما إذا أشعر وأوبر وبما إذا كان تاماً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 18 من أبواب الذبائح.

ص: 364

وكذا الفرخ في البيض (1) على الأحوط وجوباً فيهما.

ففي صحيح محمد بن مسلم:" سألت أحدهما (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" قال: الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه، فذلك الذي عنى الله عز وجل "(1) وفي صحيحه الآخر عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: إن كان تاماً فكله فإن ذكاته ذكاة أمه"(2). بل الظاهر أن ذكر التمامية والأشعار والأوبار ليس لشرطيتهما في كونه موضوعاً للموت والتذكية وترتب أحكامها، بل لشرطيتهما في حلّ أكله زائداً عليها.

ومثل ذلك ما قد يدعى من أن موضوع النصوص الجنين الذي هو حمل حين موت أمه، دون ما يسقط منها وينفصل منها. إذ فيه: أنه لا إشكال في عدم الفرق بين القسمين وإلغاء خصوصية مورد النصوص ارتكازاً.

وبالجملة: المستفاد من النصوص المذكورة المفروغية عن كون الجنين موضوعاً للتذكية والحكم شرعاً بالموت من دون نظر لولوج الروح فيه استقلالاً. وهو المناسب لمرتكزات العرف والمتشرعة في أن الموضوع هو كل ما يكون موضوعاً للحياة ولو تبعاً، لا خصوص الحياة المستقلة الموقوفة على ولوج الروح الأخرى غير روح ما هو التابع له.

ولذا يعم ذلك ما يتبع الجنين - كالمشيمة ونحوها وإن لم يكن قابلاً للروح المستقلة - حيث تقتضي مرتكزاتهم بنجاسته مع انفصال الحياة عنه في بطن الحيوان أو بعد خروجه منها من دون تذكية للحيوان التابعة له. ولذا لا إشكال ظاهر في البناء على ترتيب أثر الموت في جميع ذلك مع موت الحيوان الذي يحمله وعدم تذكيته. فلاحظ. والله سبحانه العالم.

(1) يجري فيه جميع ما تقدم في السقط عدا النصوص المتضمنة إن ذكاة الجنين

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 8 من أبواب الذبائح حديث: 3، 6.

ص: 365

(366)

(مسألة 11): الأنفحة ما يستحيل إليه اللبن الذي يرتضعه الجدي أو السخل قبل أن يأكل (1).

(الخامس): الدم (2) من الحيوان ذي النفس السائلة، أما دم ما لا نفس

ذكاة أمه. والعمدة فيه مرتكزات العرف والمتشرعة المتقدمة آنفاً، حيث لا يفرق فيها بين السقط والفرخ، كما لعله ظاهر.

(1) فقد تقدم في المسألة الرابعة - عند الكلام في استثناء الأنفحة من نجاسة الميتة - أن الأنفحة مرددة بين الظرف، وهو معدة الحيوان، والمظروف، وهو المادة المتجبنة، وأن اللازم الاقتصار في البناء على الطهارة على الثاني اقتصاراً على المتيقن في الخروج عن مقتضى القاعدة.

(2) فإن نجاسته في الجملة إجماعية بين الشيعة، بل بين المسلمين، بل هي من ضرويات هذا الدين، كما في الجواهر. وقال سيدنا المصنف (قدس سره): "إجماعاً صريحاً وظاهراً محكياً عن جماعة كثيرة، وإن اختلفت عباراتهم في معقده، ففي بعضها دم مطلق ذي النفس، وفي بعضها دم ذي العرق - وهو راجع إلى الأول - وفي بعضها الدم المسفوح، والمسفوح هو المصبوب، وعليه يكون بين هذا العنوان وما قبله عموم من وجه، لعمومه لمثل دم السمك، وعدم شموله للتخلف في اللحم ونحوه من أجزاء الحيوان...

لكن ادعى غير واحد من الأجلاء أن المراد مطلق دم ذي النفس، بقرينة تعرضهم لطهارة غير ذي النفس والمتخلف في الذبيحة، دون ما عداهما من دم ذي النفس غير المسفوح، ولورود النصوص الكثيرة الظاهرة في نجاسة غير المسفوح من دم ذي النفس، كدم الرعاف، أو ما يوجد في الأنف، وعند قطع الثالول، ونتف لحم الجرح، وحك الجلد، وقلع السن، ودم الجروح والقروح والحيض والنفاس والاستحاضة، وغير ذلك، مع عدم تعرضهم لرد هذه النصوص وبيان الوجه فيه من

ص: 366

ضعف دلالة أو سند أو غير ذلك، بل لا ريب في بنائهم على قبولها، فإن ذلك شاهد بإرادة العموم، كما ادعاه جماعة.

إلا أنه لا يخلو عن إشكال، لإباء كلماتهم عن الحمل على ذلك، ولاسيما بملاحظة تعليلهم طهارة المتخلف بأنه ليس بمسفوح، وأن طهارته لعدم المقتضي للنجاسة، والبناء على نجاسة الدم في الموارد المذكورة يمكن أن يكون لبنائهم على أنها من المسفوح، لخروجه من العروق الدقاق، أو لكون المراد منه مطلق الخارج من البدن أو غير ذلك.

وبالجملة: ثبوت كلية نجاسة دم ذي النفس بالإجماع غير واضح. وإن كان يساعدها ارتكاز المتشرعة، من غير فرق بين الإنسان الذي هو مورد النصوص المتقدمة وغيره. لكن الرجوع إلى هذا الارتكاز في مورد الخلاف والإشكال محل تأمل ونظر".

لكن بعض مشايخنا (قدس سره) قرب التعويل على الارتكاز المذكور، لكونه متصلاً بعصور المعصومين (عليهم السلام) ولذا وقع السؤال عن أحكامه على إطلاقه غير مقيد بشيء، ووقع الجواب كذلك، كما في صحيحة إسماعيل بن بزيع: "كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن (عليه السلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شيء من عذرة، كالبعرة ونحوها، ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة؟ فوقع (عليه السلام) بخطه في كتابي: ينزح دلاء منها"(1).

وموثق أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلى فيه وهو لا يعلم فلا إعادة عليه، وإن هو علم قبل أن يصلي فنسي وصلى فيه فعليه الإعادة "(2) وغيرهما، إذ لولا ارتكاز عموم نجاسته في أذهانهم لم يكن وجه لإطلاق السؤال والجواب عن أحكامه الثابتة له من حيثية نجاسته، وهو الوجه في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 21.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 7.

ص: 367

السؤال عن بعض الأفراد الخفية، كدم البراغيث ونحوه.

وفيه: أن مراده بذلك إن كان هو الاستدلال بإطلاق النصوص المذكورة فمن الظاهر أنه لا إطلاق لها بعد ورودها لبيان أحكام أخر غير النجاسة مترتبة عليها، كانفعال الملاقي ونحوه، حيث يتعين حملها على الدم المفروض نجاسته لا مطلق الدم، كما هو الحال في سائر الموضوعات المذكورة على هذا النحو، كالميتة والبول وغيرها حيث لا يحتمل ظهور الأدلة التي تضمنتها في العموم لما ثبت طهارته، كميتة ما لا نفس له سائلة وبول مأكول اللحم ونحوهما. ولا يكون وجه الإطلاق حينئذٍ إلا غلبة الابتلاء بالقسم النجس، أو غلبة النجاسة في أفراد العنوان المذكور أو نحو ذلك.

وإن كان هو الاستدلال بالمفروغية المدعى استفادتها من هذه النصوص فهي إنما تدل على المفروغية عن النجاسة في الجملة، لا عن عموم النجاسة، بل كيف يحتمل المفروغية عن عموم النجاسة، مع شيوع الابتلاء بالقسم الطاهر من الدم، كالمتخلف في الذبيحة، ودم ما لا نفس له، بل كيف يقع السؤال عن مثل دم البراغيث لو كان مفروغاً عن نجاسته. ولو فرض تحقق المفروغية المذكورة مع كل ذلك فاللازم عدم حجيتها، لثبوت خطئها.

هذا وقد استدل غير واحد للعموم بإطلاق موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سئل عما تشرب منه الحمامة، فقال: كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب. وعن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب فقال: كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضأ منه ولا تشرب"(1) ، بدعوى: أن مقتضى إطلاقه عموم نجاسة الدم.

لكن الموثق ليس وارداً لبيان نجاسة الدم، بل لبيان طهارة سؤر الطير ذاتاً، كما هو مقتضى السؤال فيه، والنهي عن شرب الماء والوضوء به مع الدم إنما ورد تبعاً، لتوضيح مفاد الاستثناء.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الأسئار حديث: 2.

ص: 368

على أن جعل موضوع النهي هو رؤية الدم لا وجوده واقعاً ظاهر في كون المراد بالاستثناء بيان عدم ترتب الحرمة ظاهراً مع احتمال عدم وجود الدم على منقار الطير، فهو وارد لبيان الحكم الظاهري بعد المفروغية عن وجوب الاجتناب واقعاً مع وجود الدم واقعاً، للمفروغية عن نجاسته واقعاً من دون أن يكون وارداً لبيان ذلك ليتم إطلاقه فيه. نظير ما تقدم في النصوص الأخر.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن حملها على بيان الحكم الظاهري يقتضي الحكم بالنجاسة مع العلم بسبق ملاقاة المنقار للدم، للعلم بنجاسة المنقار سابقاً. فهو كما ترى، لأن الشرط لما كان هو رؤية الدم على المنقار حين شرب الطائر فهو يدل على الطهارة بدونه ولو مع العلم بالسبق، ويكون ذكر الشرط لبيان عدم وجوب الاجتناب مع الشك في وجود الدم حين الشرب سواءٌ علم بسبقه أم لم يعلم.

وأضعف من ذلك ما ذكره من أن الموثق إما أن يكون وارداً لبيان عدم تنجس بدن الحيوان بملاقاة النجاسة، أو لبيان طهارته بزوالها، أو لبيان عدم جريان استصحاب النجاسة في الحيوان تخصيصاً لعموم أدلة الاستصحاب، أو لبيان أصالة كون الدم الموجود على منقاره من القسم النجس. وعلى كل حال مقتضى إطلاق الدم فيه عموم نجاسة الدم.

لاندفاعه أولاً: بأنه لا شاهد على شيء من هذه الوجوه، خصوصاً بعد أن كان الحديث مسوقاً لبيان طهارة سؤر الطائر واقعاً والاستثناء فيه مذكور تبعاً. وبعد أن كانت هذه الوجوه منوطة بوجود الدم واقعاً لا برؤيته، بل الظاهر من الإناطة بالرؤية هو ما ذكرنا من إرادة بيان الحكم الظاهري.

وثانياً: بأن وروده لبيان أحد الأمور المذكورة لا يناسب دعوى وروده لبيان نجاسة الدم ليتم إطلاقه في ذلك. ولاسيما الوجه الأخير، فإن فرض وروده لبيان أصالة كون الدم الموجود على المنقار من القسم النجس ملازم لفرض أن الدم واقعاً على قسمين طاهر ونجس، فكيف يكون له إطلاق يقتضي عموم نجاسة الدم

ص: 369

واقعاً؟!.

هذا وأما الاستدلال على العموم بالنبوي: "إنما يغسل الثوب من البول والدم والمني" (1) وقريب منه غيره مما ذكره الفقهاء في مقام الاستدلال، وما في خبر دعائم الإسلام عن الصادقين (عليهما السلام): "أنهما قالا في الدم يصيب الثوب: يغسل كما تغسل النجاسات"(2).

فهو كما ترى! لضعف الأخبار المذكورة بالإرسال، وذكر الفقهاء للنبوي المتقدم ونحوه لا يكفي في جبرها بعد قرب عدم اعتمادهم عليها، لوضوح الحكم عندهم، وذكرهم لها لأجل مجاراة العامة أو إلزامهم، لأنها من رواياتهم.

مضافاً إلى ما قيل في دفع الاستدلال بالأول من أنه وارد لبيان عقد النفي، ولا إطلاق له في عقد الإثبات، كما يناسبه ما رواه العامة من أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمار حين رآه يغسل ثوبه من النخامة:" ما نخامتك ودموع عينك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء"(3) ، وفي دفع الاستدلال بالثاني من وروده لبيان كيفية التطهير من الدم مع المفروغية عن نجاسته، لا لبيان نجاسته ليتم له الإطلاق في ذلك فتأمل. والأمر سهل.

ومن ثم كان الظاهر عدم ثبوت دليل يعتد به ينهض بعموم نجاسة الدم. نعم الظاهر عدم الإشكال في نجاسة كل ما يخرج من جسد الحيوان الذي له نفس سائلة بجرح ونزف ونحوهما وإن لم يكن بدفع، كما يناسبه النصوص المشار إليها في كلام سيدنا المصنف (قدس سره) المتقدم وغيرها بعد إلغاء خصوصية مواردها واعتضادها بمرتكزات المتشرعة وسيرتهم.

وربما يراد من المسفوح في كلام الفقهاء ما يعمّ ذلك. وإن كان هو غير مهم بعد

********

(1) الذكرى ج: 1 ص: 111.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 15 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(3) جمع الجوامع للسيوطي ج: 1 ص: 83 حديث: 1757.

ص: 370

عدم الدليل على نجاسة المسفوح عدا قوله تعالى: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس"(1).

فإن الاستدلال به موقوف أولاً: على أن المراد بالرجس النجس عيناً، دون الخبيث. وثانياً: على رجوع التعليل للكل لا لخصوص لحم الخنزير وكلاهما غير ظاهر.

نعم الظاهر من كلماتهم الإجماع على نجاسة الدم المسفوح. لكن - لو تمت - يلزم الاقتصار في معقده على المتيقن، وهو الخارج بدفع، فالتعميم لغيره لابد أن يستند لدليل آخر.

ثم إنه قد حكي الخلاف عن بعض القدماء في نجاسة بعض مراتب الدم القليل فعن ابن الجنيد طهارة ما دون الدرهم من الدم وسائر النجاسات. قال سيدنا المصنف (قدس سره):" وكأنه اعتمد في الدم على ما سيأتي من النصوص المتضمنة للعفو عما دون الدرهم، وفي غيره على القياس عليه ".لكن لا ظهور لنصوص العفو في الطهارة.

بل حيث كان التفكيك في طهارة الشيء ونجاسته بين القليل والكثير لا يناسب المرتكزات العرفية ولا المتشرعية - ولاسيما وأن القليل قد يكون منفصلاً من الكثير - كان الظاهر حمل النصوص المذكورة على مجرد العفو مع النجاسة.

ولاسيما مع ظهور بعضها في نجاسة الدم المذكور، بل المفروغية عنها، كصحيح ابن أبي يعفور:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يكون في ثوبه نقط دم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى أن يغسله، فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى، أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته. إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً، فيغسله ويعيد الصلاة"(2). فإن الأمر بغسله ظاهر في نجاسته، وفرض السائل نسيان غسله ظاهر في المفروغية عنها.

********

(1) سورة الأنعام الآية: 145.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 371

(372)

له سائلة - كدم السمك والبرغوث والقمل ونحوها - فإنه طاهر (1).

ولا أقل من لزوم حملها على ذلك، للنصوص الأخر الظاهرة أو الصريحة في النجاسة، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "في الرجل يمس أنفه في الصلاة فيرى دماً كيف يصنع أينصرف؟ قال: إن كان يابساً فليرم به، ولا بأس"(1) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن رجل رعف وهو يتوضأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا "(2) وموثق عمار المتقدم في الطائر الذي على منقاره دم وغيرها، لوضوح أن ما يخرج بمس الأنف وقطرة الدم وما يكون على منقار الطائر لا يتجاوز مقدار الدرهم غالباً.

ومن ثم لا يبعد حمل كلام ابن الجنيد على مجرد العفو أيضاً. وإلا فإن كان الحكم مختصاً بما إذا كان الخارج من الحيوان قليلاً دون ما إذا كان كثيراً وانفصل منه القليل لم يناسب إطلاق نصوص العفو، بل القطع بعمومها، كالفتاوى. وإن كان عاماً لكل قليل وإن انفصل عن الكثير فمن البعيد جداً مطهرية الانفصال والتقطع للدم، بل يكاد يقطع بعدمه.

ومثله في جميع ذلك أو أكثره ما قد يظهر من الفقيه من طهارة ما لا يبلغ قدر الحصمة من الدم. وكأنه لخبر المثنى بن عبد السلام عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قلت له: إني حككت جلدي فخرج منه دم، فقال: إن اجتمع قدر حمصة فاغسله، وإلا فلا"(3). لكن حمل خلافه ودليله على العفو غير عزيز بعد ما تقدم.

كما أنه قد ينسب الخلاف للشيخ في نجاسة ما لا يدركه الطرف من الدم. وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً في أوائل الفصل الثاني في أحكام المياه. فراجع.

(1) للإجماع محصلاً ومنقولاً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً على طهارته، خصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 82 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 372

في السمك. كذا في الجواهر. قال سيدنا المصنف (قدس سره): "وكفى به دليلاً على الطهارة" .والوجه فيه: إن كثرة الابتلاء بالدم المذكور مانع من خفاء حكمه على الأصحاب، بحيث يدعى الإجماع فيه على خلاف الواقع. هذا مضافاً إلى أصالة الطهارة بعد ما تقدم من عدم ثبوت نجاسة الدم بنحو يشمل المقام. ومنه يظهر ضعف ما يظهر من المبسوط والجمل والوسيلة والمراسم من نجاسة الدم المذكور وإن لم تجب إزالته للصلاة.

هذا وقد يستدل للطهارة بموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إن علياً (عليه السلام) كان لا يرى بأساً بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل. يعني: دم السمك" (1) وخبر محمد بن الريان: "كتبت إلى الرجل (عليه السلام): هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث، وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم البق على البراغيث فيصلي فيه، وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به. فوقع: يجوز الصلاة والطهر منه أفضل"(2). لكنه يشكل بأن مفادهما مجرد العفو في الصلاة، لا الطهارة.

ومثلهما في ذلك صحيح ابن أبي يعفور:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في دم البراغيث؟ قال: ليس به بأس. قلت: إنه يكثر ويتفاحش. قال: وإن كثر "(3) فإن السؤال فيه عن الكثرة والتفاحش يناسب العفو عن الصلاة، لما سبق آنفاً من بعد احتمال خصوصية الكثرة في النجاسة. ولاسيما بملاحظة قوله بعد ذلك:" قلت: فالرجل يكون في ثوبه نقط دم لا يعلم به ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة"(4).

نعم الظاهر تمامية الاستدلال بمعتبر غياث عن جعفر عن أبيه (عليه السلام): "قال:

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب النجاسات حديث: 2، 3، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 373

(374)

(مسألة 12): إذا وجد في ثوبه مثلاً دماً لا يدري أنه من الحيوان ذي النفس السائلة أو من غيره بنى على طهارته (1).

لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف"(1). لأن إطلاق نفي البأس ظاهر في الطهارة. لكنه مختص بمورده، ولا مجال للتعدي منه لسائر ما لا نفس له سائلة، خصوصاً ما له لحم كالسمك.

نعم ذكر في الجواهر أنه يمكن تتميم دلالة هذه النصوص على عموم النجاسة بعدم الفصل. وكأنه لعدم الفصل بين العفو عن الصلاة والطهارة، ولا بين دم البراغيث والبق والسمك وغيرها. لكن في بلوغ عدم الفصل مع قطع النظر عن الإجماع المتقدم حداً يصلح للاستدلال إشكال.

وأشكل من ذلك استدلاله بطهارة الميتة من هذه الأمور، واستدلال بعض مشايخنا بموثق حفص عن أبيه (عليه السلام):" قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة"(2).

لاندفاع الأول بأن الاستدلال إن كان بالأولوية فهي ممنوعة، وإن كان بعدم الفصل فهو أوهن مما تقدم.

واندفاع الثاني بأن الموثق ظاهر في طهارة الحيوان نفسه فيحمل على الميتة، ولا يشمل الدم ونحوه مما هو خارج عنه وإن خرج منه. وقد تقدم في مسألة طهارة بول ما لا نفس له سائلة ما ينفع في المقام.

(1) لأصالة الطهارة، من دون فرق بين القول بثبوت عموم يقتضي نجاسة الدم، وعدمه، إذ على الثاني - الذي عرفت أنه الظاهر - يكون المورد من موارد الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي لا يكون العام حجة فيه بلا كلام، وعلى الأول يكون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 374

المورد من موارد الشبهة المصداقية من طرف الخاص الذي كان التحقيق عدم حجية العام فيه.

ودعوى: أن مقتضى استصحاب عدم كونه مما لا نفس له سائلة البناء على نجاسته، بناء على ما هو التحقيق من أن إحراز عدم عنوان الخاص بالأصل يقتضي جريان حكم العام. مدفوعة بعدم وضوح جريان الأصل المذكور حتى بلحاظ العدم الأزلي، لعدم وضوح كون خصوصية الدم المذكورة من لواحق وجوده، لا من شؤون ذاته غير المفارقة له حتى أزلاً وبلحاظ ما قبل وجوده. فلاحظ.

ومثلها دعوى: أن المستفاد من موثق عمار - المتقدم عند الاستدلال على عموم نجاسة الدم - أصالة النجاسة في الدم وإن لم يعلم أنه من حيوان أو من ذي النفس، حيث تضمن الحكم بنجاسة الماء مع وجود الدم في منقار الطير من دون تنبيه على لزوم إحراز كونه من القسم النجس.

لاندفاعها بما سبق من عدم القرينة على سوق الحديث لبيان أصالة نجاسة الدم، بل سبق أن مقتضى إناطة نجاسة الماء برؤية الدم لا بوجوده واقعاً سوقه لبيان أصالة الطهارة في الماء ما لم يعلم تنجسه بالدم لفرض كونه نجساً، الملازم لكون موضوع الحديث هو الدم المفروض فيه النجاسة، لا مطلق الدم، نظير ما في موثق سماعة: "سألته عن شراء الخيانة والسرقة، فقال: إذا عرفت أنه كذلك فلا، إلا أن يكون اشترتيه من العامل"(1) ، ونحوه غيره، حيث لابد من حمله على السرقة من محترم المال بنحو لا يملك السارق المال، ولا يتوهم وروده لبيان أصالة كون السرقة من محترم المال لو احتمل كونها من غير محترم المال، بحيث يكون السارق مالكاً.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن حمله على صورة العلم بنجاسة الدم حمل له على الفرد النادر لندرة العلم بنجاسة ما في منقار الطائر من الدم. ومن ثم جزم بأصالة النجاسة في الدم وإن خصها بالدم الذي في منقار الطائر لاختصاص الموثق به.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 6.

ص: 375

(376)

(مسألة 13): دم العلقة المستحيلة من النطفة، والدم الذي يكون في البيضة نجس (1) على الأحوط وجوباً.

فهو في غاية المنع بعد غلبة كون الطيور التي على منقارها دم والتي هي مورد السؤال في الموثق هي الجوارح التي من شأنها افتراس الحيوانات ذات النفس السائلة كالطيور والأرانب ونحوها، فإن احتمال طهارة الدم الذي في منقارها نادر الحصول أو غير حاصل. ومن هنا لا مجال للبناء على أصالة النجاسة في الدم الذي في منقار الطائر، فضلاً عن غيره.

ومثله ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من البناء على النجاسة فيما إذا تردد الدم بين أن يكون من ذي النفس وأن يكون من غير ذي النفس إذا كان انتقاله إليه من ذي النفس، كما لو علم المكلف بأن الدم الذي في ثوبه منه أو من البرغوث أو البعوض الذي امتصه من ذي النفس.

لدعوى: أن مقتضى استصحاب كون الدم لذي النفس نجاسته. لاندفاعه بأن احتمال صيرورته دماً لغير ذي النفس إن ابتنى على الاستحالة عرفاً منع من جريان استصحاب كونه لذي النفس، لاحتمال تبدل الموضوع، وأن الذي كان دم ذي النفس هو دم آخر غير الدم المشكوك.

وإن لم يبتن على الاستحالة لدعوى عدم تبدل الدم عرفاً بصيرورته في جوف الحيوان الذي امتصه فلا مجال للاستصحاب المذكور للعلم بكونه هو دم ذي النفس، غاية الأمر أن دم ذي النفس إن خرج منه للخارج تنجس، وإن خرج منه لحيوان آخر يبقى طاهراً، وحينئذٍ لا طريق لإحراز كونه قد خرج منه للخارج، ليحكم بنجاسته، بل مقتضى الأصل طهارته. فلاحظ.

(1) كما صرح به جماعة من القدماء والمتأخرين. قال في المعتبر:" العلقة التي يستحيل إليها نطفة الآدمي نجسة. قاله الشيخ في الخلاف. واستدل بإجماع الفرقة.

ص: 376

لنا أنها دم حيوان له نفس، فتكون نجسة. وكذا العلقة التي يوجد في بيضة الدجاج وشبهه".

لكن إجماع الخلاف ليس بنحو ينهض بالاستدلال، ولاسيما، بعد قلة الابتلاء بالحكم، لقلة تمييز العلقة بعد خروجها من المرأة وغيرها من الحيوان وعدم خلوها غالباً من دم النفاس عند الإسقاط، فهي نجسة ولو عرضاً.

وأما ما تقدم من المعتبر فهو موقوف على ثبوت عموم نجاسة دم ذي النفس بنحو يشمل ما يتكون فيه ولم يكن جزءاً منه، أو ما يكون مبدأ نشوئه ليشمل مثل علقة البيضة، وهو ممنوع، بل المتيقن منه دمه الذي يخرج منه والى هذا يرجع ما في الذكرى، قال:" وفي الدليل منع. وتكونها في الحيوان لا يدل على أنها منه".

وأضعف من ذلك ما في التذكرة وعن الخلاف من الاستدلال بأنه دم. لابتنائه على عموم نجاسة الدم الذي هو أولى بالمنع.

هذا وقد استشكل شيخنا الأستاذ (قدس سره) في كونه دماً وإن كان بصورته، إذ ليس في المقام إلا تفسير العلق لغة بالدم المتجمد، ولم يحرز كونها من العلق المفسر بذلك قال في كشف اللثام:" بل قد منع بعضهم الدخول في اسم الدم عرفاً، خصوصاً التي في البيضة، ولذا حكي عن الشيخ حلها ".وقد يؤيد ما ذكروه الاكتشافات الحديثة، لما قيل من أن العلقة المذكورة هي مبدأ تكون قلب الحيوان.

إلا أن المدار في تشخيص الموضوع بمقتضى الإطلاقات المقامية هو التطبيق العرفي الحقيقي وإن ابتنى على شيء من التسامح، والعرف يرى العلقة دماً حقيقة لا مجازاً. وهو ظاهر غير موضع من الكتاب المجيد.

اللهم إلا أن يثبت بالاكتشاف الحديث كون التطبيق العرفي المذكور خطئياً ناشئاً من كون العلقة بلون الدم، بحيث لو اطلع العرف على الأمر المنكشف لعدل عن الحكم بكون العلقة دماً، وحكم بكون التطبيق في الكتاب المجيد مجازياً. فتأمل.

ص: 377

ولعله لذا تردد في الحكم بالنجاسة في ظاهر الذكرى وكشف اللثام وحكي عن الأردبيلي، بل في الحدائق أن الأقوى الطهارة، ولاسيما ما في البيضة. والعمدة فيه الأصل بعد ما سبق من عدم تمامية عموم نجاسة الدم، وعدم وضوح كونه دماً.

ثم إنه لو تمت نجاسة العلقة في البيضة ففي تنجس بقية البيضة بها إشكال، لا من جهة غلظ أجزائها وكثافتها، لعدم كفاية الكثافة بالمرتبة المذكورة في منع الانفعال، بل لاحتمال كون العلقة محاطة بغشاء يمنع من سريان النجاسة.

ولعل ذلك هو المنشأ لما سبق عن الشيخ، حيث لا يبعد كون مراده حلّ البيضة التي فيها العلقة، لا حلّ العلقة نفسها، فإنه بعيد جداً، لأنها دم أو مبدأ نشوء حيوان لم يكمل وقد صرح بحرمته.

هذا ومقتضى إطلاق المتن عموم الكلام للدم الذي في البيضة غير العلقة التي هي مبدأ نشوء الفرخ. وقد تردد في نجاسته السيد الطباطبائي في العروة الوثقى مع جزمه بنجاسة العلقة التي هي مبدأ نشوء الحيوان.

وكأنه لدعوى عدم كونه دم حيوان لا بمعنى كونه جزءاً منه، ولا بمعنى ما يتكون فيه، ولا بمعنى ما يكون مبدءاً لنشوئه. غاية الأمر أنه متكون في البيضة التي في جوفه، ولا إشكال في قصور عموم نجاسة دم الحيوان عن مثله.

وهو مبني على كون الدم متكوناً في البيضة بعد تماميتها. لكن المدعى من بعض أهل الخبرة أن الدم في البيضة - غير النطفة - هو عبارة عن دم الحيوان الذي تكونت البيضة في جوفه، قد خرج منه بنزف ونحوه لخلل في جهازه وصار في البيضة في جملة أجزائها التي احتواها قشرها.

وبناء على ذلك يكون كسائر الدم النازف من الحيوان، غاية الأمر أنه لم يخرج منه ابتداء، بل بتوسط خروج البيضة منه.

ويكون احتمال نجاسته أقوى من احتمال نجاسة العلقة في الحيوان، فضلاً عن

ص: 378

(379)

(مسألة 14): الدم المتخلف في الذبيحة بعد خروج ما يعتاد خروجه منها بالذبح طاهر (1)، إلا أن يتنجس بنجاسة خارجية مثل السكين التي يذبح بها.

العلقة في البيضة ويكفي في البناء على نجاسته عموم نجاسة دم الحيوان بمعنى ما يعد من أجزائه.

اللهم إلا أن يقال: ما دل على نجاسة الدم يقصر عن الدم الخارج من الحيوان بالنحو المذكور، لاختصاص النصوص المتقدمة بالدم الخارج من الحيوان مباشرة بدفع منه وبتوسط عروقه الغليظة أو الدقيقة، ولا يشمل الخروج بالنحو المذكور، خصوصاً بعد كونه عرفاً معدوداً من توابع البيضة، غفلة عن كونه من دم الحيوان الذي خرجت منه. حيث يتجه مع ذلك الرجوع لقاعدة الطهارة أو استصحابها بلحاظ طهارته قبل خروجه وانفصاله عن الحيوان.

ولو غض النظر عن ذلك، وبني على نجاسة الدم المذكور، فهو إنما يقتضي نجاسة ما هو فيه من البياض أو الصفار دون الآخر لانفصال أحدهما عن الآخر بغلاف الصفار، غاية الأمر أنه لو كان في البياض ينجس ظاهر الصفار، فمع تطهيره يطهر ويجوز أكله، كما يجوز أكله لو ألقي ظاهره.

بل لو كان الدم في نفس الغلاف كما قد يشاهد في عروقه، بنحو يعلم أو يحتمل وجوده في ضمن الغلاف من دون أن يظهر في أحد وجهيه، تعين تجنب الغلاف فقط والبناء على طهارة كل من الصفار والبياض وجواز أكلهما.

(1) إجماعاً في الجملة مصرحاً به أو ظاهراً من كلام جماعة، وإن اختلف معقده، ففي المختلف الموجود في عروق الحيوان، وعن كنز العرفان والحدائق الموجود في تضاعيف اللحم، ويقتضيه في الجملة سيرة المتشرعة على طهارة اللحم بعد تطهير المذبح الملازم لطهارة ما يخرج منه من الدم بعد ذلك، وأكل اللحم المشتمل على الدم

ص: 379

(380)

(مسألة 15): إذا خرج من الجرح أو الدمل شيء أصفر يشك في أنه دم أم لا يحكم بطهارته (1)، وكذا إذا شك من جهة الظلمة أنه دم أم قيح، ولا يجب عليه الاستعلام (2) وكذلك إذا حك جسده فخرجت رطوبة

الموجود في عروقه، وأكل الكبد ونحوه مما يشتمل على الدم الملازم لطهارته.

مضافاً إلى ما عرفت من عدم ثبوت عموم نجاسة دم الحيوان الملزم بالاقتصار في النجاسة على المتيقن وهو غير محل الكلام، سواءً كان متخلفاً في العروق أم في تضاعيف اللحم أم في القلب والكبد.

نعم قد يقتصر على صورة خروج ما يتعارف خروجه، دون ما لو حبس الدم عن الخروج أو لم يخرج لمرض الحيوان، للمرتكزات فتأمل. أما لو قيل بعدم التذكية حينئذٍ فلا أثر لذلك، لنجاسة الحيوان بالموت فينجس الدم تبعاً له أو بالملاقاة.

ومنه يظهر عموم الطهارة لما يوجد في الأجزاء غير المأكولة منه، كالطحال - كما جعله شيخنا الأعظم (قدس سره) الأظهر في كلماتهم - وفي الحيوان المذكى غير المأكول، وإن اختار السيد الطباطبائي في منظومته نجاسته، ونسبه للمعظم. كل ذلك للأصل المتقدم، فلا يهم قصور السيرة لو تم. فلاحظ.

(1) للأصل. إلا أن يكون مختلطاً بالدم، فإن الظاهر نجاسته، لصدق الدم على الخليط فينجس وينجس. نعم إذا كان الدم مستهلكاً عرفاً فالمتعين الطهارة، لقصور الأدلة عنه، نظير ما يأتي في اللبن.

(2) لعموم دليل قاعدة الطهارة، ورجوع وجوب الاستعلام والفحص إلى عدم جريان الأصل بدونهما، وهو راجع إلى تخصيص العموم المذكور المحتاج للدليل.

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم صدق الفحص بمثل النظر مما لا يحتاج إلى مزيد مؤنة ولعله احتاط بعض الأعاظم (قدس سره) بالاختبار في بعض الفروع

ص: 380

(381)

يشك في أنها دم، أو ماء أصفر يحكم بطهارتها (1).

(مسألة 16): الدم الذي يوجد في اللبن عند الحلب نجس ومنجس اللبن (2).

مع تيسره. فهو - لو تم - إنما ينفع لو كان موضوع الأدلة هو الفحص. أما حيث كان الموضوع هو عدم العلم بالنجاسة فلا إشكال في أن مقتضى عموم دليله عدم وجوب ذلك.

(1) لعين ما سبق. هذا ولم يتعرض (قدس سره): لحكم التردد في الدم بين كونه من المتخلف في الذبيحة وكونه من الخارج بالذبح. وقد يقال بنجاسته (إما) لعموم نجاسة الدم بعد كون دليل طهارة المتخلف لبياً، وهو الإجماع والسيرة، بناء على حجية العام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص إذا كان دليل التخصيص لبياً (وإما) لاستصحاب نجاسة الدم المذكور حال حياة الحيوان قبل خروجه من جسده.

ويظهر ضعف الأول مما سبق من عدم ثبوت العموم المذكور. مع أن التحقيق عدم حجية العام في الشبهة المصداقية مطلقاً حتى مع كون المخصص لبياً. وأما الثاني فهو مبني على نجاسة الدم في الباطن حال حياة الحيوان، وهو ممنوع. ومن ثم كان الظاهر الطهارة، للأصل.

(2) لكونه خارجاً من الحيوان بنزف فينجس. نعم إذا كان مستهلكاً في الدم أشكل نجاسته وتنجيسه، لأنه عند نزفه من الجرح الداخلي طاهر، لكونه في الباطن، وعند خروجه مع اللبن مستهلك فيه لا وجود له عرفي، ليكون موضوعاً للحكم بالنجاسة.

ويناسب ذلك ما هو المعلوم ودلت عليه النصوص من عدم انفعال الماء الكثير وماء المطر باختلاطه بالبول والدم ونحوهما من دون أن يتغير به، مع ما هو المعلوم من السيرة من طهارة الماء القليل المأخوذ منه وإن علم بالتدقيق أنه مشتمل على أجزاء

ص: 381

(382)

(السادس والسابع): الكلب، والخنزير البريان (1)

بولية ودموية أو نحوها ما دامت غير متميزة فيه.

نعم بعد فرز الدم - كما تيسر في عصورنا ببعض الأجهزة الحديثة - ربما يقال بنجاسته حينئذ. لكنه لا ينجس اللبن، لانفصاله عنه حينئذٍ. بل لا يمكن البناء على نجاسة اللبن بالدم المذكور، حيث انكشف - بسبب الأجهزة الحديثة - عدم خلوّ اللبن عن ذلك نوعاً. وقد حكي في وقته فتوى سيدنا المصنف (قدس سره) بالطهارة حينما استفتي بذلك.

(1) قال في الجواهر: "للإجماع المحصل - بل ضرورة المذهب - والمنقول في الخلاف وعن غيره على الكلب، كما أنه نفى الخلاف عن نجاسة الثاني فيه أيضاً، كالإجماع في الذكرى والمدارك على نجاسة عينهما ولعابهما، وفي المنتهى والتذكرة وكشف اللثام على نجاستهما، وفي المعتبر على وجوب غسل ثوب لاقاهما رطباً".

وقد يستدل على نجاسة الخنزير بقوله تعالى: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس" (1) بناء على أن المراد بالرجس النجاسة الخبثية. لكنه غير ظاهر، بل من القريب أن يكون المراد به الخبيث.

فالعمدة النصوص، وقد استفاضت بنجاسة الكلب، كصحيح البقباق: "قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، وإن مسّه جافاً فاصبب عليه الماء..." (2) وفي صحيحه الآخر عنه (عليه السلام): "فقال: رجس نجس لا يتوضأ بفضله، واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب..."(3) ، وفي معتبر معاوية بن شريح عنه (عليه السلام):" أنه سئل عن سؤر الكلب يشرب منه أو يتوضأ؟ قال: لا. قلت: أليس هو سبع؟ قال: لا والله إنه نجس، لا والله إنه نجس "(4) ونحوها غيرها.

********

(1) سورة الأنعام الآية: 145.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 382

نعم في صحيح ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه والسنور أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك أيتوضأ منه أو يغتسل؟ قال: نعم، إلا أن تجد غيره فتنزه عنه"(1).

وقد يتوهم الجمع بينه وبين النصوص المتقدمة بحملها على الكراهة. لكنه لا يناسب تلك النصوص، خصوصاً مثل معتبر معاوية. بل الحمل المذكور لا يناسب تسالم الأصحاب في مثل هذا الحكم الشايع الابتلاء.

ومن هنا إن أمكن الجمع بينه وبين تلك النصوص بحمله على الكر تعين، ولاسيما بملاحظة موثق أبي بصير عنه (عليه السلام): "قال: ليس بفضل السنور بأس أن يتوضأ منه ويشرب، ولا يشرب سؤر الكلب، إلا أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه"(2).

وإن لم يمكن - لاستبعاد خفاء اعتصام الكر على مثل ابن مسكان، ولأن المنصرف من السؤال كون منشأه الشك في وجود مقتضى الانفعال، فلا يناسب ابتناء الجواب على فرض وجود المانع منه. فتأمل - تعين طرح الصحيح أو حمله على التقية، لأن القول بالطهارة شايع عند العامة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أنه لو تم ورود الصحيح في خصوص القليل فغاية ما يستفاد منه عدم انفعال الماء القليل بالملاقاة، فينافي نصوص الانفعال، من دون أن ينافي نصوص نجاسة الكلب بوجه.

ففيه: أن حمله على ذلك ليس بأولى من حمله على طهارة الحيوانات المذكورة، بل لعل الثاني أولى لظهور ذكر الحيوانات في خصوصيتها. على أن جملة من نصوص نجاسة الكلب قد وردت في السؤر، فلابد من التعارض بينها وبين الصحيح، والمتعين ما سبق.

هذا وفي الفقيه:" ومن أصاب ثوبه كلب جاف ولم يكن بكلب صيد فعليه أن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الأسئار حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الأسئار حديث: 7.

ص: 383

بجميع أجزائهما (1)،

يرششه بالماء، وإن كان رطباً فعليه أن يغسله، وإن كان كلب صيد وكان جافاً فليس عليه شيء، وإن كان رطباً فعليه أن يرششه بالماء".

ولا شاهد للتفصيل المذكور من النصوص التي بين أيدينا. بل قد ينافيه صحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكلب السلوقي فقال: إذا مسسته فاغسل يدك"(1).

هذا وأما الخنزير فمقتضى جملة من النصوص نجاسته، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض فإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه. إلا أن يكون فيه أثر فيغسله. قال: وسألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات" (2) ونحوه غيره.

نعم في معتبر زرارة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستسقى به الماء. قال: لا بأس"(3). لكن جواز الاستقاء بالجلد أعم من طهارته، ولا قرينة على كون الغرض منه الشرب أو الوضوء، بل لعل منشأ السؤال احتمال حرمة الانتفاع به، لخصوصيته، أو لأنه ميتة، أو احتمال انفعال ماء البئر به.

ولا أقل من لزوم حمله على ذلك أو نحوه بقرينة النصوص الأول المعّول عليها عند الأصحاب. ولو تعذر ذلك تعين طرحه، لنحو ما سبق في الكلب. وهو اللازم فيما ورد لحم الخنزير وودكه مما يأتي التعرض له عند الكلام في نجاسة الخمر.

(1) أما ما تحله الحياة كالجلد فلعدم الإشكال في دلالة نصوص النجاسة على نجاسته واحتمال طهارته بالموت أو الانفصال غير عرفي، وتقدم الكلام في معتبر زرارة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 16.

ص: 384

وفضلاتهما ورطوباتهما (1) دون البحريين (2).

في جلد الخنزير. وأما ما لا تحله الحياة كالشعر فقد تقدم خلاف المرتضى (قدس سره) فيه عند الكلام في مستثنيات الميتة وتقدم وجهه وضعفه. فراجع.

(1) لأنها ملحقة بهما عرفاً، أو لملاقاتها لهما برطوبة مسرية. وأما ما كان محرماً بعنوانه كغائط وبول ما لا يؤكل لحمه فالأمر فيه أظهر.

(2) ففي التذكرة ونهاية الأحكام والذكرى وعن التحرير وغيرها طهارة كلب الماء، وعن الكفاية أنه المشهور. وعن السرائر أنه نجس. وعن البيان احتمال نجاسته ونجاسة خنزير الماء. وفي مفتاح الكرامة: "وفي المنتهى: الأقرب أن كلب الماء يتناوله هذا الحكم، لأن اللفظ يقال عليه بالاشتراك".

لكنه يشكل أولاً: بعدم وضوح الاشتراك، لعدم صحة إطلاق الكلب عليه، إلا أن يضاف للماء، فهو نظير الماء المطلق والماء المضاف.

وثانياً: بأن المدعى إن كان هو الاشتراك اللفظي فهو لا ينفع في التعميم، بناء على ما هو الظاهر عدم صحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وحيث لا إشكال في إرادة البري يتعين عدم إرادة كلب الماء.

وإن كان هو الاشتراك المعنوي - كما جنح إليه شيخنا الأستاذ (قدس سره) - فهو موقوف على وجود الجامع العرفي، وهو بعيد جداً، بل يقطع بعدمه. مع أنه لو تم فلا إشكال في انصراف الإطلاق للبري.

ومن ثم لا يبعد التصحيف في عبارة المنتهى، وأن الصحيح ما في المطبوع الحديث منه. قال: "الأقرب أن كلب الماء لا يتناوله هذا الحكم، لأن اللفظ مقول عليه وعلى المعهود بالاشتراك اللفظي" وهو المناسب لما في الجواهر من تفرد السرائر بالقول بالنجاسة.

هذا وقد استدل بعض مشايخنا (قدس سره) على طهارته بصحيح عبد الرحمن بن

ص: 385

الحجاج: "سأل أبا عبد الله (عليه السلام) رجل وأنا عنده عن جلود الخز. فقال: ليس بها بأس. فقال: الرجل: جعلت فداك أنها علاجي [في بلادي]، وإنما هي كلاب تخرج من الماء. فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا قال: ليس به بأس"(1).

وهي وإن وردت في خصوص كلب الماء، إلا أن سؤاله (عليه السلام) عن أنها هل تعيش خارج الماء ونفيه البأس عنها بعد فرض عدم عيشها خارجه كالصريح في أن العلة في الحكم بالطهارة كون الحيوان مما لا يعيش خارج الماء، فيشمل خنزير الماء أيضاً. وقد سبقه إلى ذلك كله شيخنا الأعظم (قدس سره).

لكنه موقوف على أن يكون الخز المسؤول عنه في الصحيح هو كلب الماء الذي هو محل الكلام، وفي الجواهر أنه الذي قطع به بعض المحصلين من معاصريه مستشهداً عليه بالصحيح. وهو غير ظاهر، ومجرد تعبير السائل عنه بأنها كلاب تخرج من الماء لا يكفي في إثباته، لقرب كون المراد بذلك أنها من السباع، لا أنها الحيوان المعروف المسمى بكلب الماء.

وأما التعليل الذي أشار إليه، فلعله مسوق لتعليل تذكيتها لدفع توهم نجاستها بالموت بعد الفراغ عن طهارتها بالأصل، كما يناسبه خبر ابن أبي يعفور:" كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه، رجل من الخزازين، فقال له: جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخز؟ فقال: لا بأس بالصلاة فيه. فقال له الرجل: جعلت فداك إنه ميت... فتبسم أبو عبد الله (عليه السلام) ثم قال له: أتقول: إنه دابة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج، فإذا فقد الماء مات؟ فقال الرجل: صدقت جعلت فداك هكذا هو. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): فإنك تقول: إنه دابة تمشي على أربع، وليس هو في حدّ الحيتان، فتكون ذكاته خروجه من الماء؟ فقال الرجل: إي والله هكذا أقول. فقال: له أبو عبد الله (عليه السلام): فإن الله تعالى أحله، وجعل ذكاته موته، كما أحل الحيتان وجعل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 10 من أبواب لباس المصلي حديث: 1.

ص: 386

(387)

ذكاتها موتها"(1).

وحينئذٍ لا ينافي نجاسة بعض حيوانات الماء بالذات المانعة من قابليتها للتذكية. ولا أقل من لزوم حمل التعليل على ذلك لو تم إطلاق دليل نجاسة الكلب أو الخنزير. فالعمدة ما سبق من عدم تمامية الإطلاق في الكلب. ومثله الخنزير في ذلك.

بقي شيء: هو أن المعروف بين الأصحاب عدم نجاسة شيء من الحيوانات الصامتة غير الكلب والخنزير. لكن قد ينسب لبعض القدماء نجاسة حيوانات أخرى.

منها: المسوخات. ففي بيع المبسوط وأطعمة الخلاف أنه كلها نجسة، بل في الثاني الإجماع عليه. ودليله غير ظاهر.

نعم في خبر أبي سهل القرشي: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لحم الكلب. فقال: هو مسخ. قلت: حرام؟ قال: هو نجس. أعيدها ثلاث مرات، كل ذلك يقول: هو نجس"(2). لكن الاستدلال به - مع غض النظر عن سنده - موقوف على سوق قوله (عليه السلام):" هو مسخ "لتعليل قوله (عليه السلام):" هو نجس "وهو غير ظاهر.

ومنها: العقرب والوزغ. فقد تقدم عند الكلام في ميتة ما لا نفس له سائلة ظهور بعض كلماتهم في نجاستهما حال الحياة أيضاً، وتقدم وجهه وضعفه.

ومنها: والأرنب والثعلب. ففي المبسوط والنهاية والحلبيين وغيرهما نجاستها، بل عن الغنية الإجماع عليه. ويقتضيه صحيح يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته هل يحل أن يمس الثعلب والأرنب أو شيئاً من السباع حياً أو ميتاً؟ قال: لا يضره، ولكن يغسل يده"(3). والإشكال في سندها بالإرسال قد لا يتم بعد ما قيل من أن يونس لا يرسل إلا عن ثقة، ولاسيما مع ظهور عمل غير واحد من القدماء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 8 من أبواب لباس المصلي حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 2 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 387

بالحديث.

نعم ظاهره عدم خصوصية الثعلب والأرنب في الحكم، وأن الحكم فيهما تابع لعموم الحكم في السباع. وحينئذٍ يعارضه في ذلك صحيح البقباق: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلا سألته عنه. فقال: لا بأس، حتى انتهيت إلى الكلب فقال: رجس نجس"(1).

على أن جملة من النصوص قد دلت على قبول الأرنب والثعلب للتذكية، كصحيح جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته عن الصلاة في جلود الثعالب. فقال: إذا كانت ذكية فلا بأس"(2) ، وخبر محمد بن إبراهيم: "كتبت إليه أسأله عن الصلاة في جلود الأرانب. فكتب مكروه"(3) ، وغيره من النصوص الكثيرة الواردة في جواز الصلاة ومنعها، لظهورها في المفروغية عن تذكيتها، ومن الظاهر أن نجس العين غير قابل للتذكية، بل لما كان المس لهما بمس شعرهما كفى في طهارة الأرنب ما في صحيح محمد بن عبد الجبار في وبر الأرنب وما لا يحل أكل لحمه من قوله (عليه السلام):" وإن كان الوبر ذكياً حلت الصلاة فيه إن شاء الله"(4).

ومن ثم لابد من طرح حديث يونس أو حمله على الاستحباب، أو على المس حال الموت بنحو يقتضي نجاسة الشعر لوجود الرطوبة المسرية أو نحو ذلك.

ومنها: الفأرة. ففي المقنعة والنهاية والوسيلة وعن موضع من المقنع والفقيه غسل ما أصابته برطوبة، بل في كتاب البيع من المبسوط عدها من نجس العين. ويشهد به صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب أيصلي فيها؟ قال: اغسل ما رأيت من أثرها، وما لم تره انضحه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 7 من أبواب لباس المصلي حديث: 9، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 14 من أبواب لباس المصلي حديث: 4.

ص: 388

(389)

(الثامن): المسكر (1) المائع بالأصالة بجميع أقسامه

بالماء" (1) وغيره.

لكن لابد من حمله على الاستحباب. لصحيحه الآخر عنه (عليه السلام): "وسألته عن فأرة وقعت في حب دهن وأخرجت قبل أن تموت أبيعه من مسلم؟ قال: نعم ويدهن به"(2) ، وصحيح إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه ونتوضأ منه "(3) وغيرهما.

ولا يبعد كون بعض ما تقدم منهم مبنياً على الجري على عبارات النصوص، ولذا اختفلت بعض كلماتهم بما لا يسعنا استقصاؤه، ولا يهمنا بعد وضوح الحكم.

(1) كما هو المشهور نقلاً تحصيلاً قديماً وحديثاً بيننا وبين غيرنا شهرة كادت تكون إجماعاً، بل هي كذلك. كذا في الجواهر. وقد تكررت دعوى الإجماع صريحاً وظاهراً عليه في كلام غير واحد، كالسيدين والشيخ والمحقق وغيرهم على ما حكي عنهم. ويشهد به كثير من النصوص.

منها: موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في الإناء يشرب فيه النبيذ. فقال: تغسله سبع مرات... ولا تصل في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى يغسل..."(4) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أيصلح للمرأة أن تصلي وهو على رأسها؟ قال: لا حتى تغتسل منه"(5) ، وصحيح يونس عن بعض من رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإن صليت فيه فأعد صلاتك"(6) ،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 33 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الأسئار حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 35 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 37 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 389

وقريب منها خبر هشام بن الحكم في الفقاع(1) ، وخبر زكريا بن آدم في قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم قال (عليه السلام): "يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، واللحم اغسله وكله"(2) ، وخبر أبي بصير في حديث النبيذ:" قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يبل الميل ينجس حباً من ماء، يقولها ثلاثاً"(3) ، ومعتبر عمر بن حنظلة: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره؟ قال: لا والله ولا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب"(4) ، وخبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) في الأكل على خوان أصابه الخمر، قال:" إن كان الخوان يابساً فلا بأس"(5).

ومنها: ما ورد في أواني الخمر، كموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سألته عن الدن يكون فيه الخمر... قال: إذا غسل فلا بأس. وعن الإبريق وغيره يكون فيه خمر... قال: إذا غسل فلا بأس. وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر. قال: تغسله ثلاث مرات سئل يجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات"(6). ونحوه في وجوب الغسل غيره(7).

ومنها: ما ورد في أواني المشركين والثياب التي عندهم، كصحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس. فقال: لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر"(8) ، وصحيح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب 20 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2. وأشار إليه في ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 18 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 25 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(7) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5، 6.

(8) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 54 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3.

ص: 390

إسماعيل بن جابر: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله... ثم قال: لا تأكله، ولا تتركه تقول: إنه حرام، ولكن تتركه تتنزه عنه، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير" (1) وما في معتبر يونس عنهم (عليهم السلام): "وإنما كره أن يؤكل سوى الأنفحة مما في آنية المجوس وأهل الكتاب لأنهم لا يتوقون الميتة والخمر" (2) وصحيح عبد الله بن سنان: "سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده علي فاغسله قبل أن أصلي فيه فقال أبو عبد الله (عليه السلام): صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه"(3) ، وقريب منه صحيحه الآخر وخبر خيران الخادم إلا أن فيهما:" لا يصلي فيه حتى يغسله"(4). قال سيدنا المصنف (قدس سره): "فإن الأمر فيه وإن كان محمولاً على الاستحباب لكنه يدل بالتقرير على نجاسة الخمر".

ونحوهما في الدلالة بالتقرير والظهور في المفروغية صحيح معاوية بن عمار: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهو أخباث [أجناب] وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال، ألبسها ولا أغسلها وأصلي فيها؟ قال: نعم..." (5) وقريب منه خبر أبي جميلة عنه(6) (عليه السلام) وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سأله عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه الخمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه..."(7).

وقد يؤيده ما ورد في نزح البئر لوقوع الخمر فيها(8) ، بناء على ما تقدم غير مرة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 54 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 1، 7.

(7) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(8) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 15 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 391

من أنه بعد البناء على عدم تنجس البئر لا يمكن الاستدلال بنصوص النزح على نجاسة ما تنزح له، إذ كما يمكن أن يكون استحباب النزح للتنزه عن أثر النجاسة يمكن أن يكون للتنزه عن أثر غيرها، كما ورد النزح لبعض الأمور التي ثبت عدم نجاستها.

هذا وقد ذهب الصدوق إلى جواز الصلاة في الثوب الذي أصابه الخمر. ومن ثم نسب له القول بطهارتها كما نسب لأبيه في رسالته وللحسن والجعفي، على إشكال في الأخير. وعن ظاهر الأردبيلي أو صريحه القول بالطهارة، وظاهر المدارك وعن الخونساري التوقف.

لجملة من النصوص. كمعتبر الحسن [الحسين خ ل] بن أبي سارة: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أصاب ثوبي شيء من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس إن الثوب لا يسكر"(1).

وقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن مقتضى التعليل فيه طهارة الثوب لأنه لا يسكر ونجاسة الخمر لأنها تسكر، فهو من أدلة النجاسة. نعم لا قائل بمضونه.

ويندفع بأنه لا قرينة على كون المعلل هو طهاة الثوب، بل المنع من الصلاة فيه، فمقتضاه أن المنع عن الخمر لما كان من أجل إسكارها فلا يتعدى للثوب لعدم إسكاره، فيكون مقتضاه عدم نجاسة الخمر، لأنها لو كانت نجسة لتعدت للثوب.

ومثله في ذلك خبره:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون، فيمر ساقيهم ويصب على ثيابي الخمر. فقال: لا بأس به، إلا أن تشتهي أن تغسله لأثره"(2) ، وصحيح علي بن رئاب: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي فاغسله أو أصلي فيه؟ قال: صل فيه. إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر، إن الله تعالى إنما حرم شربها"(3) ، ومرسل الصدوق في الفقيه:" سئل أبو جعفر وأبو عبد الله (عليه السلام) فقيل لهما: إنا نشتري

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 10، 12، 14.

ص: 392

ثياباً يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها أنصلي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم لا بأس، إنما حرم الله أكله وشربه، ولم يحرم لبسه ومسه والصلاة فيه ".وعن العلل روايته مسنداً بطريق صحيح عن بكير عن أبي جعفر (عليه السلام) وعن أبي الصباح وأبي سعيد والحسن النبال عن أبي عبد الله(1) (عليه السلام)، وموثق ابن بكير:" سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب، قال: لا بأس"(2) ، ومعتبر الحسن بن موسى بن الحناط: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشرب الخمر ثم يمجه من فيه فيصيب ثوبي. فقال: لا بأس" (3) وخبر حفص الأعور: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف يجعل فيه الخل؟ قال: نعم"(4).

ومن هنا قد يدعى أن مقتضى الجمع العرفي حمل نصوص النجاسة على استحباب الغسل المطهر أو كراهة الاستعمال بدونه.

لكنه لا يناسب بعض نصوص الطائفة الأولى كحديث يونس المقتضي غسل الثوب كله عند الجهل بموضع الملاقاة وإعادة الصلاة إذا وقعت معه. وصحيح عبد الله بن سنان وخبر أبي بصير المتضمنين التعبير بالتنجيس، ومعتبر عمر بن حنظلة الظاهر في شدة أمر الخمر، ولا بعض نصوص الطائفة الثانية، كقوله (عليه السلام) في صحيح علي بن رئاب:" إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر "،لظهوره في أن الغسل لاستقذار المكلف، لا لاستقذار الشارع له ولو بمرتبة يقتضي كراهة الاستعمال.

بل ملاحظة مجموع نصوص كلتا الطائفتين لا تناسب الحمل المذكور جداً. ومن هنا كان الظاهر تعذر الجمع العرفي بين الطائفتين واستحكام التعارض بينهما.

وفي المعتبر بعد أن حكم بضعف ما ذكره من أخبار كلتا الطائفتين قال:" لكن مع اختلاف الأصحاب والأحاديث يؤخذ بالأحوط في الدين ".وفيه: أنه لا مجال

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 15، 11.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 39 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

ص: 393

للإشكال بضعف السند بعد ما سبق من استفاضة نصوص كلتا الطائفتين واعتبار جملة منها. على أنه مع ضعفها لا موضوع للترجيح، بل المرجع الأصل وهو يقتضي الطهارة. مع أن التحقيق عدم كون الاحتياط من المرجحات.

ومثله ما في التهذيبين وغيرهما من ترجيح النجاسة بموافقة الكتاب لقوله تعالى:" إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان"(1) ، بناء على أن الرجس هو النجس لغة، كما في التذكرة وعن المنتهى، وغير واحد من أهل اللغة، وفي التهذيب: "والرجس هو النجس بلا خلاف".

لاندفاعه بأن الرجس وإن فسر لغة بالنجس، إلا أنه لا يراد به النجس بالمعنى الذي هو محل الكلام، فإنه معنى شرعي حادث، بل مطلق القذر وإن كان معنوياً، ولذا يوصف به الأفعال والصفات والعذاب ونحوها، كقوله تعالى: "وأما الذين في قلوبهم مرض فزادهم رجساً إلى رجسهم" (2) وقوله سبحانه: "كذلك يجعل الرجس على الذين لا يؤمنون" (3) إلى غير ذلك. ويناسبه في المقام عطف الميسر والأنصاب على الخمر في الآية الشريفة.

وأما ما في الجواهر في تقريب حمل الرجس في الآية على النجس من قوله: "ولعله لا ينافيه وقوعه مع ذلك خبراً عن الأنصاب والأزلام، لإمكان أن يراد به بالنسبة إليهما المستقذر عقلاً من باب عموم المجاز. على أنه يمكن - بل هو الظاهر - دعوى كونه خبراً عن الخمر خاصة، فيقدر حينئذٍ لهما خبراً. ولا يجب مطابقة المحذوف والموجود، وإن كان دالاً عليه، كما في عطف المندوب على الواجب بصيغة واحدة، فيتعين حينئذٍ كون الرجس بمعنى النجس" .فهو كما ترى تكلف وخروج عن الظاهر بلا شاهد.

********

(1) سورة المائدة الآية: 90.

(2) سورة التوبة الآية: 125.

(3) سورة الأنعام الآية: 125.

ص: 394

وما أبعد ما بينه وبين ما في مجمع البيان حيث قال: "لابد من أن يكون في الكلام حذف، والمعنى شرب الخمر وتناوله أو التصرف فيه وعبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام رجس أي خبيث من عمل الشيطان" .وبالجملة: لا دلالة في الآية الشريفة على النجاسة، لتنهض بترجيح نصوصها.

ومن ثم قد يتعين الرجوع للمرجح الثالث وهو مخالفة العامة، كما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) وهو يقتضي تقديم نصوص الطهارة لأن المشهور بينهم النجاسة، ولم يعرف القول بالطهارة إلا عن ربيعة الرأي ومالك وداود وأحد قولي الشافعي، على إشكال في النسبة لبعضهم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن نصوص الطهارة وإن خالفت مشهور العامة في الفتوى فهي موافقة لهم في العمل، لأن أمراءهم وسلاطينهم كانوا يشربون الخمر، ولا يجتنبوبه به. فهو كما ترى لأن المرجح للنصوص عند التعارض هو مخالفة الفتوى دون العمل.

نعم بعد نقل القول بالطهارة عمن تقدم يشكل تمامية المرجح المذكور، لأن من سبق من أعيان العامة، ولا يتضح عموم الترجيح لمثل هذه الشهرة، بل غاية ما يدعى اختصاصها بما إذا كان المخالف لندرته شاذاً لا يخل بنسبة الحكم إليهم عرفاً.

نعم ورد الأمر بترك ما كان حكامهم وقضاتهم إليه أميل والأخذ بالآخر. وتشخيص ذلك في المقام لا يخلو عن إشكال. ومثله ما في كشف اللثام من أن المشهور عند العامة العفو عن قليل الخمر في الصلاة، فتكون نصوص الطهارة موافقة لهم في ذلك ويكون الترجيح لنصوص النجاسة.

إذ فيه: أن النصوص المذكورة لا تختص بالقليل، ولاسيما بملاحظة التعليل فيها بأن الله تعالى إنما حرم شربها، وبأن الثوب لا يسكر، فهي ظاهرة في الطهارة التي هي مخالفة للمشهور بين العامة كما سبق. ومن ثم لا مجال لإعمال المرجح المذكور في كلتا الطائفتين. وقد يتعين ذلك البناء على التساقط والرجوع لأصالة الطهارة.

ص: 395

هذا كله بالنظر للطائفتين بأنفسهما. لكن لابد من تقديم الطائفة الأولى بلحاظ صحيح علي بن مهزيار: "قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا: لا بأس بأن تصلي فيه، إنما حرم شربها. وروى غير زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) إنه قال: إذا أصابك خمر أو نبيذ يعني: المسكر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإن صليت فيه فاعد صلاتك، فأعلمني ما آخذ به. فوقع (عليه السلام) بخطه وقرأته: خذ بقول أبي عبد الله (عليه السلام)"(1). لظهوره في أن العمل على ما ينفرد به الإمام الصادق (عليه السلام) وهو دليل النجاسة، لا ما يشارك فيه أباه (عليه السلام) وهو دليل الطهارة.

ودعوى: أنه من جملة نصوص النجاسة المعارضة لنصوص الطهارة، فلا يكون شاهداً على تقديمها على نصوص الطهارة. مدفوعة بأنه لما كان ناظراً لكلتا الطائفتين كان متأخراً عنهما رتبة وحاكماً عليهما، وكان كاشفاً عن خلل في نصوص الطهارة مانع من الرجوع لأصالة الجهة فيها.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى لزوم طرحه لموافقته للعامة. لاندفاعها بأن موافقة العامة إنما توجب طرح الحديث عند التعارض، لا مطلقاً، وحيث سبق عدم كونه طرفاً للتعارض فلا مجال لطرحه بموافقتهم، بل مقتضى أصالة الجهة فيه لزوم العمل به.

وقريب منه في ذلك معتبر خيران الخادم، بناء على ما هو الظاهر من الاعتماد على حديث سهل بن زياد:" كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صل فيه، فإن الله إنما حرم شربها، وقال بعضهم: لا تصل فيه. فكتب (عليه السلام): لا تصل فيه، فإنه رجس "(2) فأنه وإن لم يتعرض فيه لطائفتي النصوص، إلا أن من الظاهر ابتناء اختلاف أصحابنا المشار إليه فيه على اختلاف النصوص، فترجيح إحدى الفتويين راجع لترجيح النص

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 2، 4.

ص: 396

الذي هو دليلها.

هذا مضافاً إلى تأيد مضمونهما بأن نصوص النجاسة أكثر عدداً، وقد وردت بألسنة مختلفة، يظهر من بعضها المفروغية عن النجاسة ووضوحها، لورودها في بعض الأحكام المترتبة على النجاسة ككيفية التطهير منها، واجتناب الكفار من أجلها، وحكم الشك في ملاقاة ما يؤخذ منهم لها، حيث يبعد جداً مع ذلك مخالفة مضمونها بأجمعها وعدم ثبوت أصل النجاسة.

مضافاً إلى أن بعض نصوص الطهارة المتقدمة إنما تضمن نفي البأس عن إصابة الخمر والنبيذ للثوب من دون تصريح بجواز الصلاة فيه، ومقتضى إطلاقه وإن كان هو عدم مانعيته عن الصلاة، إلا أن حمله بقرينة نصوص النجاسة على دفع توهم حرمة لبس ما أصابه الخمر تكليفاً تنفيراً عنه غير عزيز.

وكذا حمل خبر حفص المتضمن جواز جعل الخل في دن الخمر إذ جفف على جعله بعد تطهيره، لدفع توهم أن جفاف الخمر فيه مانع من تطهيره بالغسل لاستحكام الخمر فيه وتكثفه بجفافه.

فلم يبق إلا حديث الصدوق ومعتبر الحسن بن سارة وصحيح علي بن رئاب الصريحة في جواز الصلاة في الثوب الذي يصيبه الخمر والنبيذ قبل غسله، ومن الظاهر قصورها عن معارضة نصوص النجاسة الكثيرة العدد الواضحة الدلالة.

ولاسيما مع اشتمال الأول على طهارة ودك الخنزير ولعله الذي أشير إليه في صحيح علي بن مهزيار، حيث يوجب ذلك الريب فيه، بل في بقية نصوص الطهارة، ويجعلها من المشكل الذي يرد علمه لهم (عليهم السلام)، أو من الشاذ النادر الذي يجب تركه والأخذ بالمشهور الذي لا ريب فيه.

ولعله لذا قال في الذكرى:" والصدوق وابن أبي عقيل والجعفي تمسكوا بأحاديث لا تعارض القطعي ".ومن هنا لا ينبغي التأمل في النجاسة، بل في وضوحها. فلاحظ.

ص: 397

(398)

بقي شيء: وهو أن المصرح به في كلام غير واحد من الأصحاب - ومنهم بعض مدعي الإجماع - عموم النجاسة لكل مسكر، وفي المعتبر:" والأنبذة المسكرة عندنا في التنجيس كالخمر، لأن المسكر خمر "،وعن التحرير أن عمل الأصحاب على ذلك، وفي المدارك أنهم قد قطعوا بذلك، وعن المصابيح:" حكم سائر المسكرات حكم الخمر عندنا".

ومن ثم ادعي الإجماع المركب تارة والإجماع على الملازمة بين نجاسة الخمر ونجاسة مطلق المسكر أخرى. لكن من الظاهر أن دعوى الإجماع بالنحو المذكور لا ينهض بالاستدلال بنفسها، لابتناء الإجماع لو تم على فهم ذلك من الأدلة، فاللازم النظر فيها.

ويمكن تقريب دلالتها على ذلك بأن جملة من النصوص وإن اشتملت على عنوان الخمر والنبيذ أو عليهما معاً وعلى الفقاع، إلا أن النظر في مجموع النصوص يقضي بإلغاء خصوصية العناوين المذكورة، لاشتمال بعض نصوص كلتا الطائفتين على المسكر، أو عطفه على الخمر أو عطف النبيذ عليه، بل بعض فقرات موثق عمار قد أشتمل على النبيذ وآخر على الخمر وثالث على الخمر والمسكر ورابع على الخمر المسكر.

ويؤيد ذلك عموم الحكم في خبر هشام بن الحكم للفقاع الذي هو أخف أنواع المسكر وأخفاها. ولاسيما مع أن العموم هو المستفاد في بقية الأحكام - غير حرمة الشرب والحدّ التي تظافرت الأدلة بعمومها لكل مسكر - كالنزح في البئر، وحرمة العصر والغرس والتطهير بالانقلاب، وغير ذلك مما تضمنت الأدلة أخذ عناوين خاصة فيه كالنبيذ والخمر.

وكأن ذلك كله ناش من عموم التحريم الذي تظافرت به الأدلة، بضميمة ارتكاز أن جميع الأحكام على نسق واحد. ومن ثم كان عموم الحكم مفروغاً عنه عند الأصحاب بمقتضى سلائقهم الأولية في فهم النصوص من دون تعمل وتمحل. ولا يبعد كون ذلك وحده كافياً في البناء على العموم، لكشفه عن قرينة قد أدركوه

ص: 398

بمرتكزاتهم بسبب قربهم من عصر الصدور.

ولو غض النظر عن ذلك أمكن الاستدلال بغير واحد من النصوص منها: معتبر عمر بن حنظلة المتقدم الذي أطلق فيه المسكر. وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الإشكال في سنده، لعدم النص على توثيق عمر المذكور. فهو مدفوع باستفادة وثاقته من رواية صفوان عنه الذي قيل أنه لا يروي إلا عن ثقة معتضداً بمجموعة من القرائن ذكرها هو (قدس سره) وغيره تكفي بمجموعها في إثبات وثاقته، بل رفعة شأنه.

ومنها: موثق عمار المتقدم أيضاً.

ودعوى: معارضتهما بما دل على طهارة مطلق المسكر، كموثق ابن بكير المتقدم، وما دل على ترجيح حديث النجاسة على حديث الطهارة مختص بما ورد في النبيذ المسكر، دون ما ورد في مطلق المسكر، كما ذكر ذلك في الجملة بعض مشايخنا (قدس سره).

مدفوعة أولاً: بإمكان حمل موثق ابن بكير بقرينة نصوص النجاسة على مجرد بيان حلّ لبس الثوب الذي يصيبه المسكر تكليفاً لا على الطهارة، كما أشرنا إليه آنفاً.

وثانياً: بأن صحيح ابن مهزيار وإن تضمن ترجيح الحديث المتضمن نجاسة الخمر والنبيذ المسكر ولزوم العمل عليه، إلا أنه لو لم ينهض بترجيح ما تضمن نجاسة مطلق المسكر، لفهم عدم الخصوصية، فلا أقل من كونه موجباً لسقوط موثق ابن بكير المتضمن طهارة مطلق المسكر عن الحجية بعد أن كان الخمر والنبيذ أظهر أفراد المسكر، فلا ينهض بمعارضة نجاسة مطلق المسكر ليسقط عن الحجية، بل يتعين العمل عليه.

ومنها: ما تضمن عموم الخمر لأقسامها، كصحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) أو عن علي بن جعفر بن إسحاق عنه (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الخمر من خمسة: العصير من الكرم، والنقيع من الزبيب، والبتع من العسل والمزر من الشعير، والنبيذ من التمر" (1) وغيره.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1، 3.

ص: 399

فإنه وإن كان ظاهراً بدواً في بيان أقسام الخمر الحقيقية، فيكون أجنبياً عما نحن فيه من عموم الحكم لغير الخمر، إلا أن الظاهر أن المراد به بيان الأقسام للخمر بلحاظ أخذها في موضوع الأحكام الشرعية توسعاً في عنوان الخمر مفهوماً، كما يناسبه اشتماله على النبيذ الذي يظهر من كثير من نصوص المقام وغيرها أنه مباين للخمر، وحيث لا جامع عرفي بين الأقسام المذكورة إلا الإسكار فيكون المقسم في النصوص المذكورة هو المسكر، وهو الذي حرمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن حرم الله تعالى الخمر بعينها، كما تضمنته النصوص الكثيرة، كحديث الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): "سألته عن النبيذ فقال: حرم الله الخمر بعينها وحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأشربة من كل مسكر" (1) وغيره.

وإليه يرجع ما تضمن أن كل مسكر خمر، كخبر عطاء بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر" (2) وغيره.

كما يرجع إليه ما تضمنته جملة من كلمات اللغويين في تعريف الخمر من أنها كل مسكر، فإن الظاهر ابتناؤه على بيان موضوع الأحكام، لا الخمر الحقيقية، وإلا فصريح النصوص أن الخمر في الأصل قسم من المسكر.

وحينئذٍ إن رجعت الأدلة المذكورة إلى التصرف في مفهوم الخمر شرعاً كان مقتضى الإطلاق المقامي حمل الخمر في أدلة أحكامها على هذا المعنى، وإن رجعت إلى التوسع في إطلاق الخمر مجازاً تنزيلاً لكل مسكر منزلة الخمر كان مقتضى إطلاق التنزيل ثبوت جميع الأحكام ومنها النجاسة، كما جرى عليه الأصحاب.

ودعوى: انصراف التنزيل حينئذٍ لخصوص الحرمة دون النجاسة. مدفوعة بأن ذلك مسلم في مثل صحيح علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام): "قال: إن الله عز وجل لم يحرم الخمر لاسمها، ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب 15 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

ص: 400

(401)

- ومنه السبيرتو (1)

فهو خمر"(1) ، بل قد يتم في خبر عطاء المتقدم، لكن لا مجال له في مثل صحيح ابن الحجاج المتقدم بناء على ما سبق، لعدم الموجب للانصراف المذكور بنحو يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق. فلاحظ.

(1) حيث لا إشكال في مسكرية الأثيلي منه، بسبب شيوع استعماله في الأدوية ونحوها، فإنه إذا كانت نسبته عالية فيها تحقق به الإسكار، بل يشيع استعماله من أجل الإسكار وإن كان كثيراً ما يكسر بالماء، لقوة إسكاره وتأثيره على البدن. بل هو اليوم العنصر المسكر المجعول في الأشربة المسكرة جيدها ورديئها، ومنه ما يطلق عليه في عرفنا الخمر.

نعم كثيراً ما تضاف إليه مواد سامة من أجل المنع من شربه وتخصيص الانتفاع به في الجهات الأخرى. لكن ذلك لا يخرجه عن الإسكار قطعاً، ولا يوجب تبدل حكمه الثابت من حيثيته.

وأما المثيلي فقد شهد جماعة ممن يعتمد عليهم من أهل الخبرة - ولبعضهم المقام الرفيع في المعرفة - بأنه مسكر أيضاً وإن كان ساماً، بل قد يقتل، لأن الإسكار مستند للمادة الكحولية الموجودة في القسمين بل في أقسام أخرى كثيرة.

بل ذكر من لا يشك في دينه ومعرفته، أنه رأى من يستعمله للإسكار بعد التدرج في استعماله وتطبيع البدن عليه منعاً من إضراره، لتيسره لهم دون الأثيلي، وأن هؤلاء يذكرون أنه أجود إسكاراً.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من انصراف إطلاق المسكر في أدلة النجاسة عما لا يتعارف شربه أو يتعذر شربه وإن أوجب الإسكار لو شرب. ولاسيما بلحاظ عدم وجوده في زمان تحريم الخمر والمسكر.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 9 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 401

(402)

دون الجامد (1)

فهو كما ترى، لا يظن به ولا بغيره الالتزام به في سائر الأحكام ومنها حرمة الشرب أو ثبوت الحدّ، وما الفرق بينها وبين النجاسة بعد فرض ثبوت الإطلاق أو العموم في الكل.

على أنه سبق تعارف شرب بعض أقسامه وشيوعه. إلا أن يدعى الانصراف لخصوص ما يتعارف شربه عصر صدور التحريم. لكن وضوح ضعفه يغني عن إطالة الكلام فيه.

(1) كما صرح به جماعة، وقطع به في المدارك، بنحو يظهر منه كون ذلك مراد الأصحاب، كما عن الذخيرة التصريح بذلك، واستظهر اتفاقهم عليه في محكي شرح الدروس والحدائق، وعن الدلائل الإجماع عليه.

وكأن وضوح ذلك هو الذي أوجب غضهم النظر عن إطلاق نجاسة المسكر في المبسوط والشرايع والقواعد والإرشاد والدروس ومحكي المختلف والتحرير والتنقيح وغيرها، بل صرح غير واحد بتنزيله على المايع.

والوجه فيه قصور ما دل على نجاسة الخمر والنبيذ ونحوهما حتى لو قلنا بإلغاء خصوصية مواردها، فإن المتيقن منه التعدي لكل مسكر مايع. وكذا حديثا عمر بن حنظله وعمار المتضمنان لعنوان المسكر، لأن المنصرف من قوله في ابن حنظلة:" قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته... "خصوص المائع لأنه الذي يقدر بالقدح، والذي يذهب عاديته بمجرد صب الماء عليه من دون حاجة للمرس والتذويب. بل لا ينبغي التأمل في ذلك بعد قوله (عليه السلام) في الجواب:" لا والله ولا قطرة قطرت في حب...".

وكذا قوله (عليه السلام) في موثق عمار:" ولا تصل في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى يغسل "فإن التصرف فيه بالتقييد بالرطوبة حفاظاً على إطلاق المسكر ليس بأولى من

ص: 402

وإن غلا وصار مائعاً بالعارض (1). لكنه حرام (2).

حمل المسكر فيه على المائع، بل الثاني أنسب بسياقه مع الخمر.

وأما أدلة التنزيل فقد سبق انصراف التنزيل لخصوص الحرمة فيما كان منها بلسان كل مسكر خمر لو تم إطلاقه وعدم انصرافه للمايع المسانخ للخمر. وأما ما كان منها بلسان تقسيم الخمر إلى الأقسام المتقدمة - كحديث ابن الحجاج - فقد سبق أن عموم المقسم فيه لكل مسكر إنما هو لكونه الجامع العرفي بين الأقسام المذكورة بضميمة ما تضمن حرمة كل مسكر، والمتيقن من الجامع المذكور هو المايع منه، الذي لا إشكال في اختصاص كلمات اللغويين به.

ولاسيما بملاحظة اختصاص جملة من نصوص تحريم المسكر بالشراب ومنها خبر عطاء المتقدم. غاية الأمر أن ظاهر بعضها العموم، إلا أنه لا يبعد تنزيله عليها جمعاً كما يظهر بملاحظتها. ولو فرض بقاؤه على العموم فلا قرينة على تعميم المقسم تبعاً له، بل المتيقن أو المنصرف منه المايع، كما ذكرنا.

(1) كما في التذكرة والروض والمسالك وعن الذكرى، وفي الجواهر:" بل قد يظهر من الذخيرة والحدائق الإجماع عليه ".وقد يشكل بلحاظ إطلاق النصوص المتقدمة. اللهم إلا أن يدعى انصرافها للمايع بالأصل، لظهورها في لزوم النجاسة للإسكار، وهو لا يكون إلا في المايع بالأصل، ويقصر عن المايع بالعرض بعد فرض عدم نجاسته حال جموده وإسكاره. فيكون المرجع فيه الأصل، المقتضي للطهارة.

هذا وقد صرح في التذكرة والروض والمسالك ومحكي المنتهى والذكرى بعدم طهارة المائع بالأصل إذا عرضه الإنجماد. قال سيدنا المصنف (قدس سره):" بل الظاهر التسالم عليه، كما يظهر من عدم عدّ الجمود من المطهرات ".والعمدة فيه: أن الجمود إن منع من صدق الإطلاق كفى الاستصحاب في البناء على النجاسة وإلا فالأمر أظهر.

(2) بلا إشكال ظاهر، وظاهرهم المفروغية عنه، بل الإجماع عليه. إما لعموم

ص: 403

(404)

(مسألة 17): العصير العنبي إذا غلا بالنار فالظاهر بقاؤه على الطهارة (1)

التنزيل المتقدم، بناء على عمومه للجامد، على ما تقدم الكلام فيه، أو لعموم التعليل المستفاد من مثل صحيح علي بن يقطين المتقدم.

(1) كما صرح به غير واحد من المتأخرين، بل عن المستند استظهار شهرته بين متأخري المتأخرين. خلافاً لما صرح به غير واحد من نجاسته أو كونه بحكم المسكر، بل عن غير واحد أنه المشهور مطلقاً أو بين المتأخرين. وفي المختلف:" الخمر وكل مسكر والفقاع والعصير إذا غلا قبل ذهاب ثلثيه بالنار أو من نفسه نجس ذهب إليه أكثر علمائنا، كالشيخ المفيد والشيخ أبي جعفر والسيد المرتضى وأبي الصلاح وسلار وابن إدريس ".بل عن أطعمة التنقيح دعوى الاتفاق على أنه بعد الغليان بحكم الخمر. ومن ثم قد يستدل على النجاسة بالإجماع.

لكن لا مجال لدعوى الإجماع، فضلاً عن الاستدلال به، بعد ما سبق من عدم الإجماع على نجاسة الخمر، بل بعد تصريح غير واحد بعدم وضوح القول بنجاسته من جملة ممن صرح بنجاسة الخمر، ففي الذكرى بعد أن حكى القول بالنجاسة مع الغليان والاشتداد عن ابن حمزة والمحقق والتردد عن العلامة في النهاية:" ولم نقف لغيرهم على قول النجاسة ".وفي مفتاح الكرامة بعد حكاية ما سبق عن المختلف:" ولعله ظفر به في كتبهم ولم نظفر به ".ويظهر من مجموع كلام المختلف وكلامهم أن محل كلامهم هو الخمر والمسكر، وتعميمه هو محل الكلام لغيرهما لمفروغيته عن عدم الفرق ولو بالنظر للأدلة، لا لتصريحهم بالعموم.

على أن جملة منهم قد أخذوا الاشتداد زائداً على الغليان في موضوع النجاسة أو في معقد الشهرة أو الإجماع، ففي مفتاح الكرامة:" وهذا الحكم - أعني نجاسة العصير إذا غلا واشتد - مشهور بين الأصحاب، كما في الذكرى... "وفي مجمع البحرين:" وهو قبل غليانه طاهر حلال، وبعد غليانه واشتداده - وفسر بصيرورة أعلاه أسفله، نجس

ص: 404

حرام. نقل عليه الإجماع من الإمامية. أما بعد غليانه وقبل اشتداده فحرام أيضاً، وأما النجاسة فمختلف فيها ".وسبقه في التفصيل المذكور ما في كنز العرفان.

ولعل الاشتداد عندهم ملازم للإسكار، كما قد يظهر مما في كنز العرفان، قال:" الخمر في الأصل مصدره خمره إذا ستره، سمي به عصير العنب والتمر إذا غلا واشتد، لأنه يخمر العقل أو يستره، كما سمي مسكراً لأنه يسكره، أي يحجره ".بل ظاهر كلامه أن الذي يشتد هو الخمر الذي يتخذ من العنب، الذي لا إشكال في إسكاره، ومقتضى الأدلة المتقدمة نجاسته.

نعم صرح هو مبحث العصير العنبي بأن المراد بالاشتداد صيرورة أعلاه أسفله وأن يصير له قوام. لكن لا طريق لإحراز أن ذلك مراد غيره منه في العصر، بل في الذكرى بعد أن نسب للمعتبر أنه لا ينجس إلا مع الاشتداد قال:" فكأنه يرى الشدة المطربة، إذ الثخانة حاصلة بمجرد الغليان".

ومن ثم كانت كلماتهم في غاية الاضطراب، حيث يختلط فيها الخمر المتخذ من العنب بالعصير العنبي إذا غلا ولم يسكر الذي هو محل الكلام. ولا مجال مع ذلك لدعوى الشهرة في محل الكلام، فضلاً عن الإجماع. ولاسيما أنا لم نجد في الذكرى لدعوى الشهرة، ولا في أطعمة التنقيح لدعوى الإجماع المتقدمتين عيناً ولا أثراً.

ومنه يظهر حال الاستدلال على النجاسة بمثل صحيح ابن الحجاج المتقدم في وجه عموم الحرمة لكل مسكر، المتضمن أن من أقسام الخمر العصير من الكرم، فإن كون الخمر المتخذ من العنب يسمى عصيراً لا يقتضي كون كل عصير من العنب خمراً.

كيف ولا إشكال في أن القسم المذكور من أظهر أفراد الخمر والمسكر، أو هو الخمر الحقيقي، مع أن العصير الذي هو محل الكلام ليس خمراً، وإن كان مسكراً فإسكاره خفي غير عرفي، أما ما يكون إسكاره ظاهراً فلا إشكال في نجاسته بناء على ما تقدم، والظاهر خروجه عن محل الكلام، كما يناسبه جعلهم العصير في محل الكلام

ص: 405

مقابلاً للمسكر.

ومن ثم لا مجال للاستدلال في المقام بعموم نجاسة المسكر، كما عن السيد الطباطبائي (قدس سره). ومثله الاستدلال على كونه مسكراً بصحيح عمر بن يزيد: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يهدى إليه البختج من غير أصحابنا. فقال: إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه، وإن كان ممن لا يستحل فأشربه" (1) بدعوى: أن مانعية استحلال المسكر من شرب ما يؤخذ من الشخص إنما هي من جهة أنه مع استحلاله لا يؤمن كون ما يهديه مسكراً، وذلك لا يكون إلا لإسكار البختج.

إذ فيه: أنه موقوف على انحصار البختج بالعصير الذي هو محل الكلام، ولا شاهد لذلك، فإن غاية ما قيل في تفسير البختج أنه العصير المطبوخ، وهو أعم من محل الكلام، حيث يمكن أن يكون في العصير المطبوخ نوع مسكر لا يؤمن من مستحل المسكر إهداؤه. على أن عدم جواز شرب ما يؤخذ من مستحل المسكر قد لا يكون من جهة احتمال كون ما يؤخذ منه مسكراً، بل لاحتمال حرمته من غير إسكار، بلحاظ أن تسامحه في المسكر يستلزم تسامحه في المحرم غير المسكر بالأولوية.

وكذا الاستدلال على نجاسة العصير بما تضمن من النصوص نزاع إبليس مع آدم ونوح (عليهما السلام) في العنب، وأنه قد جعل له منها الثلثان(2) وما تضمن عدم جواز بيع العصير بعد الغليان(3) وأنه لا خير فيه(4). حيث لا يظهر وجه الاستدلال بالنصوص المذكورة. إذ هي إنما تضمنت حرمة الشرب أو هي المتيقن منها، وهي أعم من النجاسة.

نعم تضمن خبر أبي الربيع الشامي السؤال عن الخمر كيف كان بدؤ حلاله

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به.

(4) وسائل الشيعة ج: 7 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 6، 7.

ص: 406

وحرامها ومتى اتخذت، وتعرض الإمام (عليه السلام) لنزاع آدم وإبليس في العنب وتحكيمهما روح القدس وضرب روح القدس العنب بالنار وأخذ النار الثلثين وبقاء الثلث إلى أن قال (عليه السلام): فقال الروح أما ما ذهب منهما فحظ إبليس، وما بقي فلك يا آدم "(1) حيث قد يتوهم منه أن ما لم يذهب ثلثاه خمر نجس.

لكنه كما ترى إنما تضمن ذهاب الثلثين بالنار من العنب، لا من عصيره، وترتب تحريم ثلثي العصير المغلي على ذلك تعبد محض، كما أن كون ذلك هو الأصل لصنع الخمر وتحريمه خفي الوجه، فلا مجال لاستفادة كون العصير قبل ذلك خمراً.

بل لا إشكال في عدم كونه خمراً حقيقة، وكونه خمراً تنزيلاً لا ينهض الخبر ببيانه بعد وروده لبيان الأصل لوجود الخمر وبدء تكوينها.

هذا وقد يستدل على النجاسة بما رواه في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج، ويقول: قد طبخ على الثلث، وأنا أعرفه أنه يشربه على النصف. فقال: خمر لا تشربه... "(2) بدعوى: أن مقتضى إطلاق التنزيل فيه النجاسة.

لكنه يشكل أولاً: بأنه قد ينفع لو كان وارداً لبيان الحكم الواقعي، حيث يكون مقتضى الإطلاق فيه العموم لجميع أحكام الخمر، أما حيث كان وارداً لبيان الحكم الظاهري فهو مسوق لبيان التعبد الظاهري بمقتضى التنزيل بعد الفراغ عن ثبوت أصل التنزيل واقعاً، من دون أن يكون له إطلاق فيه، ليشمل النجاسة، بل المتيقن منه الحرمة، كما نبه لذلك سيدنا المصنف (قدس سره). بل قد يقال: إن تعقيب التنزيل بالنهي عن الشرب مانع من انعقاد ظهور إطلاق التنزيل في العموم لجميع أحكام الخمر. فتأمل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4، التهذيب ج: 9 ص: 234.

ص: 407

وإن صار حراماً (1)،

وثانياً: بأن الصحيح قد روي في الكافي(1) خالياً عن كلمة: (خمر)، وهو الأنسب بسياقه، لأن التنزيل إنما هو بلحاظ الحكم الواقعي والمسؤول عنه هو الحكم الظاهري، فإن لم يوجب ذلك ترجيح رواية الكافي - ولاسيما مع ما اشتهر من كونه أضبط - فلا أقل من سقوط الروايتين بالتعارض، والاقتصار على المتيقن منهما، وهو الحرمة.

ودعوى: أن اللازم ترجيح رواية التهذيب، لأن الخطأ بالزيادة أبعد من الخطأ بالنقيصة عند العقلاء. ممنوعة، لعدم وضوح أولوية الخطأ بالنقيصة عند العقلاء بنحو تنهض بالترجيح عند التعارض.

نعم مع عدم التعارض لعدم ظهور حال راوي الكلام الخالي عن الزيادة في استيفاء تمام كلام المنقول عنه تتعين حجية رواية الزيادة. لكن المقام ليس كذلك.

وأما ما عن الفقيه الهمداني (قدس سره) من الإشكال في الاستدلال به بأنه لم يعلم كون البختج مطلق العصير الذي يغلي، بل لعله قسم خاص منه يكون مسكراً قبل استكمال طبخه، وقريب منه ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره). فقد يدفع بما ذكره بعض مشايخنا من أن العصير المسكر لا يحل و يطهر بذهاب الثلثين، وظاهر الصحيح أن ذهاب الثلثين موجب لحل البختج وطهارته.

اللهم إلا أن يحتمل كون ذهاب الثلثين في هذا القسم مستلزماً لخروجه عن الإسكار فيحل حينئذٍ. فتأمل. وكيف كان فلا مخرج عن أصالة الطهارة في المقام.

(1) بلا إشكال وهو المتيقن من النصوص والفتاوى، وفي المعتبر وظاهر ما تقدم من مجمع البحرين وكنز العرفان الإجماع عليه. ويقتضيه صحيح حماد بن عثمان

********

(1) الكافي ج: 6 ص: 421.

ص: 408

عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: لا يحرم العصير حتى يغلي"(1) ، وفي حديثه الآخر عنه (عليه السلام):" سألته عن شرب العصير قال: تشرب ما لم يغل، فإذا غلى فلا تشربه. قلت: أي شيء الغليان؟ قال: القلب "(2) إلى غير ذلك مما يأتي بعضه.

نعم في موثق ذريح:" سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا نش العصير أو غلا حرم"(3). وظاهره الاكتفاء بأحد الأمرين من النشيش والغليان. وقد فسر النشيش بالصوت السابق على الغليان. ولعله عليه يبتني ما ذكره السيد (قدس سره) في العروة الوثقى حيث قال: "بل الأقوى حرمته بمجرد النشيش وإن لم يصل إلى حدّ الغليان".

لكنه - مع عدم ثبوته - لا يناسب بقية النصوص الصريحة في اعتبار الغليان كما لا يناسب العطف في الموثق نفسه، إذ مع الاكتفاء بالنشيش يلغو جعل الغليان المتأخر عنه سبباً للتحريم.

نعم بناء على أن العطف في الموثق بالواو كما عن بعض الاجلة نسبته للنسخ المصححة من الكافي، يرجع مفاده لمفاد بقية النصوص ويرتفع الإشكال. إلا أنه يشكل التعويل على ذلك بعد عدم الإشارة للنسخة المذكورة في الطبعة الحديثة المحققة على نسخ كثيرة المعتضدة برواية التهذيب التي لم ينقل فيها اختلاف النسخ. ولا أقل من معارضتها بنسخ الكافي المشار إليها، وبعد تساقط الكل يكون المرجع رواية التهذيب.

هذا وقد يرفع التنافي بين الموثق وبقية النصوص بحمل النشيش فيه على صوت الغليان كما فسر بذلك في جملة من كلمات اللغويين. لكنه لا يناسب العطف بأو في الموثق نفسه إذ لا يحسن الترديد بين المتلازمين.

ولعل الأولى حمل النشيش على تفاعل العصير وتغيره بنفسه، من دون نار، كما يناسبه قوله (عليه السلام) في خبر عمار الوارد في نقيع الزبيب: "فإذا كان أيام الصيف وخشيت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3، 4.

ص: 409

أن ينش جعلته في تنور سخن [مسجور. كافي] قليلاً حتى لا ينش"(1) ، فيرجع الترديد في الموثق إلى حصول التحريم بكل من النشيش بغير النار والغليان بها، ولا أثر لتفاعل العصير بالنار قبل الوصول إلى مرتبة الغليان.

ولعله إلى هذا يرجع الغليان بغير النار في كلمات الأصحاب، فإنهم أطلقوا الغليان بنحو يظهر منهم حصوله بغير النار كما يحصل بالنار، كما يظهر ذلك من بعض النصوص كخبر أبي كهمس الآتي في آخر الكلام في حكم ما غلا من قبل نفسه(2).

نعم الاحتمال المذكور إنما ينفع في ردّ موثق ذريح وعدم الخروج به عن بقية النصوص، لأن ورود الاحتمال المذكور فيه كافٍ في التوقف عنه. لكنه لا يبلغ مرتبة تصحح العمل على طبق الجمع المذكور، لعدم خروجه عن كونه تبرعياً، لأن مجرد استعمال النشيش في خبر عمار فيما يكون بغير النار لا ينهض بتفسيره في الموثق ولاسيما مع ضعف الخبر المذكور. ومما ذكرنا يظهر ضعف ما سبق من السيد في العروة الوثقى.

هذا وأما موضوع النجاسة لو قيل بها فقد اختلفوا بين من اقتصر فيه على الغليان ومن أضاف إليه الاشتداد، مع اختلافهم في المراد بالاشتداد فقيل هو الثخانة ولو بأدنى مراتبها الحاصل بمجرد الغليان. لكنه لا يناسب ما في المعتبر من الاكتفاء في التحريم بالغليان وتوقف النجاسة على الاشتداد، وكذا ما تقدم من مجمع البحرين وعن كنز العرفان.

ومن ثم قد يحمل على مرتبة عرفية من الثخانة تحصل باستمرار الغليان مدة معتد بها. أو على قذف الزبد، أو على ما يلازم الإسكار، كما يناسبه ما تقدم من الذكرى وعن كنز العرفان. والكل خال عن الدليل عدا الأخير، حيث لا إشكال معه في النجاسة بناء على ما تقدم من عموم النجاسة لكل مسكر. وبذلك يظهر اضطراب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 410

(411)

فإذا ذهب ثلثاه صار حلالاً (1).

كلمات الأصحاب في المقام. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

(1) إجماعاً، كما في مفتاح الكرامة وظاهر غير واحد المفروغية عنه. والنصوص به مستفيضة، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه "(1) وغيره. ويستفاد من خبر أبي الربيع الشامي المتقدم وغيره من النصوص الواردة في خصومة إبليس مع آدم ونوح (عليهما السلام)، حيث تضمنت حلية الثلث، المعلوم أنه لا يراد منه إلا الثلث من العصير. بل هو المصرح به في غير واحد منها، كصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيه بعد التعرض للخصومة المذكورة:" فقال أبو جعفر (عليه السلام): فإذا أخذت عصيراً فطبخته حتى يذهب الثلثان نصيب الشيطان فكل واشرب"(2). كما يستفاد من صحيح معاوية بن عمار المتقدم وغيره مما ورد في العصير المأخوذ من الغير... إلى غير ذلك. وظاهر الأصحاب والنصوص المذكورة، بل صريح جملة منها، عدم حليته بغير ذلك.

لكن في الوسيلة: "وإن غلا بالنار حرم شربه حتى يذهب على النار نصفه ونصف سدسه، ولم ينجس، أو يخضب الإناء ويعلق به ويحلو" .وهو يخالف المشهور في أمرين لم أعثر عاجلاً على موافق له فيهما، عدا ما يأتي من النهاية.

الأول: الاكتفاء بأن يذهب على النار نصفه ونصف سدسه، الذي هو دون الثلثين بنصف سدس، لظهور أن الثلثين نصف وسدس تام.

وكأنه استند في ذلك لخبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: العصير إذا طبخ حتى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف، ثم يترك حتى يبرد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه"(3). بناء على ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن الدانق كناية عن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 7.

ص: 411

السدس، ويناسبه ما ذكره غير واحد من اللغويين من أنه سدس الدرهم والدينار، حيث لا جامع عرفي بينهما إلا مطلق السدس، وهو المناسب أيضاً للسان الخبر، حيث لم يفرض فيه مقدار معين.

ولا يخفى أن ظاهر غير واحد من النصوص المشار إليها آنفاً وإن كان هو ذهاب الثلثين بالطبخ على النار، إلا أنه يسهل رفع اليد عن ذلك لأجل الخبر المذكور، وحملها على استناد ذهاب الثلثين للنار والطبخ وإن كان لا يتم إلا بالتبريد الذي هو وقت الاستعمال غالباً.

لكن يشكل التعويل على الخبر بعد ضعف سنده وظهور حال الأصحاب في الإعراض عنه. ولاسيما وأن تحديد النقص الحاصل بالتبريد والتبخر بنصف السدس لا يخلو عن إشكال، بل قد لا يساعد عليه الواقع الخارجي.

الثاني: الاكتفاء في الحلية بأن يخضب العصير الإناء ويعلق به ويحلو، فإن الظاهر أن قوله:" أو يخضب... "معطوف على مدخول (حتى). وكأنه استند في ذلك لصحيح معاوية بن وهب:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البختج. فقال: إذا كان حلواً يخضب الإناء وقال صاحبه قد ذهب ثلثاه وبقي الثلث، فاشربه"(1) ، وصحيح عمر بن يزيد: "قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان يخضب الإناء فاشربه"(2) ، وخبر إسحاق في ماء الزبيب والعسل المطبوخ على الثلث، وفيه:" قال: أليس حلواً؟ قلت: بلى. قال: اشربه"(3) ، وفي خبره الآخر نحوه، إلا أنه قال: "اشرب الحلو حيث وجدته أو حيث أصبته"(4).

لكن ظاهر الأول اشتراط الأمور المذكورة في تصديق الخبر بذهاب الثلثين، لا في أماريتها بأنفسها عليه، فضلاً عن الاجتزاء بها بدلاً عنه. وأما الثاني فهو - مع

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 56.

ص: 412

(413)

وإن غلا بغير النار فالأحوط وجوباً فيه النجاسة (1)،

عدم نهوضه بتمام المدعى - لا ينهض بالإفادة بنفسه، بل لابد من معرفة ما يتعلق به من سؤال أو نحوه، ولعله صادر على غرار الصحيح الأول. وأما حديثا إسحاق فهما - مع ورودهما في ماء الزبيب - ضعيفا السند مختصان بالحلاوة. مع أن الأول منهما ظاهر في اشتراطها مع ذهاب الثلثين، ولا قائل به. فلينزل على ملازمة ذهاب الثلثين للحلاوة. وعليها يحمل الثاني. ومن ثم لا مجال لإثبات ما ذكره والخروج عن مقتضى النص والفتوى المتقدم.

هذا وقد قال الشيخ (قدس سره) في النهاية: "وإذا غلا العصير على النار لم يجز شربه إلى أن يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وحدّ ذلك هو أن يراه صار حلواً، أو يخضب الإناء ويعلق به، أو يذهب من كل درهم ثلاثة دوانيق ونصف وهو على النار، ثم ينزل به ويترك حتى يبرد، فإذا برد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه" .ويظهر حاله مما سبق.

(1) قال في الوسيلة: "وإن غلا لم يخل إما غلا من قبل نفسه حتى يعود أسفله أعلاه حرم ونجس، إلا أن يصير خلاً بنفسه أو بفعل غيره، فيعود حلالاً طيباً. وإن غلا بالنار..." إلى آخر ما تقدم. ولم يعرف له موافق صريح في ذلك حتى حكي عن بعض الأجلة الانتصار له في رسالته (إفاضة القدير في حكم العصير)، فاستدل للقول المذكور بوجوه، ونسبه لجماعة منهم الشيخ وابن إدريس، وفي كلامهما ما يناسب ذلك، خصوصاً الشيخ في النهاية، حيث صرح بعدم جواز شرب العصير إذا غلا بغير النار حتى يصير خلاً، حيث يظهر منه أنه بحكم المسكر، ولذا لا يحل بذهاب الثلثين، بل بصيرورته خلاً.

وكيف كان فقد يستدل عليه بوجوه أشار إليها في محكي الرسالة المذكورة:

الأول: أن النصوص التي أطلق فيها الغليان من دون نسبة إلى النار - كحديثي حماد المتقدمين - ظاهرة في إطلاق الحرمة وعدم ارتفاعها بذهاب الثلثين، وفي أن

ص: 413

موضوعهما ما غلا من قبل نفسه، كما أن ما تضمن أن تحليله بذهاب الثلثين مختص بما إذا غلا بالنار للتعبير فيه بالطبخ أو البختج الذي هو عبارة عن العصير المطبوخ ونحو ذلك.

وفيه: أنه لا ظهور للنصوص التي أطلق قيها الغليان من دون نسبة للنار في الاختصاص بما كان غليانه من قبل نفسه، بل هي أعم مما غلا بالنار.

اللهم إلا أن يكون السؤال في صحيح حماد الثاني عن حقيقة الغليان شاهد بأن المراد به الغليان بغير النار، وإلا فالغليان بالنار أمر واضح عند العرف.

وأظهر من ذلك معتبر محمد بن عاصم عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: لا بأس بشرب العصير ستة أيام" (1) فإن التحديد بذلك لابد لتجنب تفاعله أو غليانه بعد ذلك. وكأنه إلى هذا يرجع ما عن ابن عمير من قوله بعد روايته للحديث: "معناه ما لم يغل".

على أن عموم نصوص التحريم لما غلا بالنار لا ينفع عمومها إذا كان دليل تحليله بذهاب الثلثين مختصاً بما غلا بالنار، حيث يلزم البناء في غيره على إطلاق التحريم، عملاً بالعموم المذكور.

وقد أجاب بعض مشايخنا (قدس سره) عن ذلك بأن في أدلة التحليل ما هو ظاهر في العموم، وهو صحيح عبد الله بن سنان قال: "ذكر أبو عبد الله (عليه السلام) أن العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فهو حلال"(2) ، فإنه شامل للعصير الذي يغلي بنفسه، فتدل على حليته بالطبخ المترتب عليه ذهاب الثلثين.

لكنه يشكل بأن ذلك إنما يتم لو كان مرجع الشرطية توقف الحلية على الطبخ، بأن يكون الشرط هو الطبخ بالنحو المذكور، كما هو مقتضى الجمود على لسان الشرطية، ولا مجال للبناء على ذلك، لأن مقتضاه حرمة العصير قبل الطبخ، وهو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 414

لا يتم إلا في العصير الذي يغلي من قبل نفسه، ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على اختصاص الصحيح به. ومن هنا يتعين تنزيل الشرطية على كون الشرط هو ذهاب الثلثين، وكون الطبخ موضوعاً للشرطية. فكأنه قيل العصير المطبوخ إذا استمر طبخه حتى يذهب ثلثاه فهو حلال. وحينئذٍ يقصر عن العصير غير المطبوخ وإن غلا من قبل نفسه.

إن قلت: إذا غلا العصير من قبل نفسه ثم طبخ دخل في عموم الصحيح، فيكون مقتضاه حليته بذهاب الثلثين بالطبخ.

قلت: بناء على ما سبق يكون مفاد الصحيح حلية العصير بذهاب الثلثين من حيثية الطبخ، لا مطلقاً، فذهاب الثلثين إنما يرفع الحرمة الثابتة بالطبخ، لا كل حرمة وإن كانت ثابتة قبله بسبب غليان العصير من قبل نفسه، بل الحرمة المذكورة تابعة لدليلها، فإذا كان مقتضاه عدم ارتفاعها بذهاب الثلثين يتعين بقاؤها. ومن هنا لا مجال للبناء على عموم الصحيح. فلاحظ.

الثاني: صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه"(1). بدعوى: أن مقتضى تقييد موضوع الحرمة المغياة بما أصابته النار إطلاق الحرمة في غيره وعدم ارتفاعها بذهاب الثلثين، وإلا لم يكن للتقييد فائدة.

ويشكل - مع ابتنائه على مفهوم الوصف - بأن للعصير الذي لا تصيبه النار فردين ما لم يغل أصلاً، وما غلا من قبل نفسه ولا إشكال في اختلافهما حكماً وعدم شمول المفهوم المدعى لهما معاً. ولازم ذلك قصور موضوع القضية عن أحدهما. وحينئذٍ فكما يمكن أن يكون موضوع القضية خصوص العصير الذي غلا وحرم، ويكون فائدة التقييد بالنار بيان اختصاص تقييد الحرمة بعدم ذهاب الثلثين بها، وأنه بدونها تكون الحرمة مطلقة، كذلك يمكن أن يكون موضوع القضية العصير الذي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 415

يغلي بالنار من دون أن يكون مسوقاً للحصر، ليكون له مفهوم بالإضافة إلى ما غلا بغير النار. بل تركيب القضية بنفسه إنما يناسب الثاني لا الأول، وتنزيله على الأول يبتني على تكلف محتاج إلى قرينة.

نعم لو قيل: كل عصير غلا وحرم إن كان قد أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، كان وافياً بالثاني. لكن لسان الحديث بعيد عن ذلك، كما هو ظاهر.

الثالث: خبر عمار المتقدم عند الكلام في ثبوت التحريم بالغليان المتضمن لجعله في تنور سخن قليلاً خوفاً من أن ينش، حيث لا وجه للحذر من نشيشه بنفسه إلا تجنب حرمته المطلقة وإلا فحرمته المغياة بذهاب الثلثين ليست محذوراً بعد تعرضه (عليه السلام) في ذيل الرواية لغليانه حتى يذهب ثلثاه.

وفيه - مع أنه وارد في عصير الزبيب الذي حكي عن بعض الأجلة القول بحليته فضلاً عن طهارته -: أن تجنب نشيشه بنفسه قد يكون لمانعيته من ترتب الأثر المقصود منه، وهو صلوحه للانتفاع وترتب الفائدة عليه لا لتوقف حلية الاستعمال عليه، كما نبّه لذلك سيدنا المصنف (قدس سره) قال: "وقوله في السؤال: كيف يطبخ حتى يصير حلالاً. وإن كان ظاهراً في السؤال عما يعتبر في الحل لا غير، لكن الخصوصيات المذكورة في الجواب لما لم يمكن البناء على اعتبار أكثرها في الحل يتعين البناء على كون الإمام (عليه السلام) في مقام بيان ما يعتبر في الحل وما يعتبر في حصول المقصود".

الرابع: صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "سألته عن نبيذ قد سكن غليانه. فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مسكر حرام..."(1). بدعوى ظهوره في مسكرية النبيذ المذكور، وحيث لا يمكن حمله على ما غلا بالنار، لعدم مسكريته، ولذا يحل بذهاب الثلثين، والمسكر لا يحل بذلك، يتعين حمله على ما غلا بنفسه، ولاسيما مع قرب كون المعهود من النبيذ ذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 25 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 416

وفيه - بعد تسليم سوق الكبرى للمفروغية عن تحقق موضوعها، لا لإيكال تطبيقها للسائل -: أنه وارد في النبيذ، ولعل المعهود فيه الإسكار في فرض السؤال.

وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن ما عدا الوجه الأول لا ينهض بإثبات التحريم، فضلاً عن النجاسة، وأما الأول فهو وإن نهض بإثبات التحريم، إلا أنه لا ينهض بالنجاسة.

نعم ادعى بعض الأجلة أن العصير إذا غلا من قبل نفسه صار مسكراً، ويناسبه الرضوي:" فإن نش من غير أن تصيبه النار فدعه حتى يصير خلاً"(1). بل من القريب أن يبتني على ذلك ما تقدم من الشيخ وابن حمزة وغيرهما من توقف حليته على صيرورته خلاً، إذ بعد عدم الشاهد عليه من النصوص ينحصر وجهه بثبوت مسكريته عندهم، وحيث كانت المسكرية من الأمور الوجدانية فمن البعيد جداً الخطأ فيها.

ويناسب ذلك أيضاً خبر أبي كهمس: "سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن العصير فقال: لي كرم وأنا اعصر كل سنة واجعله في الدنان وأبيعه قبل أن يغلي. قال: لا بأس به، وإن غلا فلا يحل بيعه. ثم قال: هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمراً"(2). فإن حرمة بيعه تناسب كونه مسكراً، كما قد يشير إليه قوله (عليه السلام) في الذيل:" هو ذا... "،حيث تظافرت النصوص بحرمة بيع الخمر المسكر، وإلا فلا يظن منهم البناء على حرمة بيع العصير الذي يحل بذهاب الثلثين.

كما يناسبه أيضاً موثق عبيد بن زرارة عنه (عليه السلام):" إنه قال في الرجل إذا باع عصيراً فحبسه السلطان حتى صار خمراً فجعله صاحبه خلاً، فقال: إذا تحول من اسم الخمر فلا بأس "(3) لظهوره في صيرورة العصير بطول المدة بنفسه خمراً، وذلك ل

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

ص: 417

بل الأحوط وجوباً النجاسة بمجرد النشيش (1)، وإذا لم يغل ولم ينش فهو طاهر وحلال.

يكون إلا بتفاعله بالغليان أو نحوه.

(1) كأنه لموثق ذريح:" سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا نش العصير أو غلا حرم "(1) بناء على ما سبق عند الكلام في تحريم الغليان للعصير من حمل النشيش على ما يكون بغير النار. والظاهر أن مراده (قدس سره) من النشيش تفاعل العصير بمرتبة ضعيفة لا تبلغ مرتبة الغليان.

ويشكل تارة: بما سبق من عدم بلوغ الحمل المذكور مرتبة تصحح العمل عليه. وأخرى: بعدم ثبوت كون النشيش أضعف من الغليان سابقاً عليه بعد تفسيره في اللغة بالغليان تارة، وبصوته أخرى.

ولاسيما مع أن حمل نصوص التحريم بالغليان على خصوص الغليان بالنار بعيد جداً بعد ورود إطلاق الغليان على ما يكون بغير النار في جملة من النصوص منها خبر كهمس المتقدم المتضمن جواز بيع العصير قبل غليانه.

بل السؤال عن تفسير الغليان في حديث حماد المتقدم عند الكلام في حصول التحريم بالغليان لا يناسب اختصاص الغليان في الحديث المذكور بما يكون بالنار، لبعد خفاء الغليان بالنار، بل المناسب لذلك عمومه للغليان بغيرها أو اختصاصه به - كما ذكرناه آنفاً - لأنه تدريجي بطيء مسبوق بتفاعل العصير، فقد يحسن السؤال عن المرتبة من التفاعل التي يحصل الغليان.

وحينئذٍ يكون حصول التحريم بالنشيش لو حمل على ما يسبق الغليان منافياً للنصوص المذكورة. ومن هنا لا مجال للبناء على حصول التحريم قبل الغليان. بل يتعين تنزيل النشيش في موثق ذريح على ما يناسب ذلك أو طرحه. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

ص: 418

(419)

(مسألة 18): العصير الزبيبي والتمري لا ينجس ولا يحرم بالغليان بالنار (1)،

(1) فإن العصير وإن أطلق - في بيان موضوع الحرمة والنجاسة بالغليان - في القواعد وعن أكثر كتب العلامة، بل الأصحاب، كما في مفتاح الكرامة، إلا أن العصير كثيراً ما يطلق على خصوص ماء العنب، بل ادعى انصرافه له، كما قد يظهر من جملة من النصوص، وقد أطال في الحدائق في توضيح ذلك، وفي مجمع البحرين:" والعصير من العنب "ويناسبه صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم المتضمن أن العصير هو الخمر المتخذ من العنب.

ولا أقل من العلم بعدم إرادتهم كل شيء يستخرج من الشيء بعصره، الملزم بحمل اللام فيه على العهد لا الجنس، والمتيقن منه عصير العنب، الذي اقتصر عليه جماعة مصرحين به، بل عن الأردبيلي أن المشهور اختصاصه بالعنبي، وعن حواشي القواعد والمقاصد العلية دعوى الإجماع على ذلك في غير الزبيب، وفي الحدائق أن المشهور طهارة ماء الزبيب، وعن الذخيرة: إني لا اعلم قائلاً بنجاسته.

نعم قد يظهر من التهذيب في مقام الجمع بين الروايات القول بنجاسة عصير التمر، وهو المحكي عن كاشف الغطاء، والشيخ سليمان البحراني والسيد نعمة الله الجزائري وغيرهم، وعن الفخر أنه حكى عن والده اجتناب عصير الزبيب. ومن ثم حكي القول بالنجاسة في المقام.

وكيف كان فقد يستدل على حرمة عصير الزبيب والتمر بصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه"(1). ويندفع بما سبق من انصراف العصير لعصير العنب. ولو سلم عمومه فلا مجال لحمل الصحيح عليه، لاستلزامه تخصيص الأكثر الملزم بحمل اللام فيه على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 419

العهد، نظير ما تقدم في كلام الأصحاب.

على أن صدق العصير عليها لا يخلو عن إشكال، لأن العصير هو السائل المعتصر من الأجسام، والماء هنا خارج عن الزبيب والتمر مضاف إليهما من أجل تذويب ما فيهما من المواد السكرية واستخراهما لا معتصر منهما.

كما قد يستدل على حرمة عصير الزبيب بجملة من النصوص.

منها: موثق عمار عنه (عليه السلام): "سئل عن الزبيب كيف يحل طبخه حتى يشرب حلالاً؟ قال: تأخذ ربعاً من زبيب فتنقيه ثم تطرح عليه اثني عشر رطلاً ماء، ثم تنقعه ليلة فإذا كان من غد نزعت سلافته، ثم تصب عليه من الماء بقدر ما يغمره، ثم تغليه بالنار غلية، ثم تنزع ماءه فتصبه على الأول ثم تطرحه في إناء واحد ثم توقد تحته النار حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وتحته النار، ثم تأخذ رطل عسل فتغليه بالنار غلية وتنزع رغوته ثم تطرحه على المطبوخ، ثم اضربه حتى يختلط به، واطرح فيه إن شئت زعفراناً وطيبه إن شئت بزنجبيل قليل..." (1) وقريب منه روايته الأخرى المتقدمة إليها الإشارة في الاستدلال لتفصيل ابن حمزة، إلا أن في آخرها: "فإن أحببت أن يطول مكثه عندك فروقه"(2). بل لا يبعد اتحادهما مع استناد الاختلاف بينهما للنقل بالمعنى.

وقد استشكل في الاستدلال بهما سيدنا المصنف (قدس سره) قال:" ولكن يشكل - مضافاً إلى أن الخصوصيات المذكورة فيهما مما لا يحتمل دخلها في الحل - بأنه لم يظهر من السؤال إرادة الحل في قبال التحريم الحاصل بالغليان - كما هو المدعى - أو في قبال التحريم الحاصل بالنشيش والتغير الملازم للبقاء غالباً، الذي هو موردها بقرينة المقادير المذكورة فيهما، وما في ذيل أحدهما من قوله: فإذا أردت أن يطول مكثه فروقه. بل الثاني أقرب بقرينة ما في رواية إسماعيل بن الفضل من قول الصادق (عليه السلام): وهو شراب طيب لا يتغير إذا بقي إن شاء الله تعالى".

ويندفع بأن السؤال فيه لما كان عن الطبخ بالوجه المحلل، وهو الذي يترتب

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3، 2.

ص: 420

عليه حلية الشرب، كان ظاهر الجواب أن الطبخ المذكور فيه هو الطبخ الذي لا يحلل غيره، ومجرد اشتماله على أمور خارجة عن الطبخ يعلم بعدم وجوبها لا يمنع من الظهور المذكور.

غاية الأمر أن ترفع اليد بسبب العلم المذكور عن ظهور سوقها في كونها قيوداً للطبخ المحلل وشروطاً في ترتب الحل عليه، فيحمل على كونها دخيلة في صلوحه لأن ينتفع به، أو في ترتب النفع المقصود عليه.

وأما حمل الحل المسؤول عنه على الحل في قبال التحريم الحاصل بالنشيش والتغير الملازم للبقاء فهو - مع كونه خلاف ظاهر نسبة التحليل في السؤال للطبخ - لا يناسب وظيفة الإمام (عليه السلام)، حيث لا يراد به حينئذٍ السؤال عما يحل معه الشرب من النشيش والتغير، بل عما يمنع من حصولهما خارجاً، وهو أمر تكويني لا شرعي، والمناسب في السؤال عنه أن يقال: كيف يطبخ حتى لا ينش ويتغير لو تأخر؟

ومجرد تعرض الإمام (عليه السلام) لبعض الخصوصيات غير الدخيلة في التحليل تفضلاً منه لا يشهد بسوق السؤال لذلك بعد ظهور حال السائل وكلامه في سوقه لما هو الدخيل في التحليل شرعاً، بل في مفروغية السائل عن أن الطبخ على نحوين محرم ومحلل، ومن الظاهر أنه لا منشأ للمفروغية عن محرمية الطبخ إلا ما يشاع من تحريم العصير بالغليان، كما يناسبه الجواب.

ومن ذلك يظهر أن كون مورد الخبرين مناسباً لفرض بقاء العصير مدة طويلة لا يكفي في الخروج عن الظهور المذكور المستند لتركيب الكلام. على أنه لا شاهد في شيء مما ذكره على فرض بقاء العصير. أما المقادير فهي ليست من الكثرة بحدٍ تستلزم البقاء غالباً، حيث قد لا يتجاوز أو لا يبلغ صافي العصير بعد الغليان المفروض اللترين.

وأما قوله:" فإن أحببت أن يطول مكثه... "فهو يتضمن فرضاً زائداً على محل

ص: 421

الكلام، بل يشهد بعدم فرض إرادة طول المكث فيه. كما أن خبر إسماعيل بن الفضل(1) لا يصلح شاهداً على تحديد المراد في حديثي عمار، لاختلافه معهما في المضمون، ولأنه وارد لتعليم عصير يتداوى به، ولم يتضمن السؤال عن الطبخ المحلل. مع أن الفقرة المذكورة فيه من كلام الراوي، لا من كلام الإمام (عليه السلام).

نعم اشتراكه معهما في لزوم ذهاب الثلثين لا أكثر ولا أقل مؤيد لكون ذهاب الثلثين شرطاً تعبدياً في الحلية في عصير الزبيب المطبوخ، كعصير العنب المعلوم فيه ذلك، وإلا فمن البعيد جداً دوران قابلية البقاء من دون تغير ونشيش مدار ذهاب الثلثين لا أقل ولا أكثر، بل المناسب لذلك أن يناط بانعقاد العصير وكثافته بمرتبة خاصة ككونه يخضب الإناء، أو نحو ذلك.

ومنها: معتبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن الزبيب هل يصلح أنه يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فيشرب منه السنة. فقال: لا بأس"(2).

ويشكل بأن التقييد بذهاب الثلثين لما كان في كلام السائل لم يكن للحديث مفهوم يقتضي نفي البأس بدونه. ولاسيما وأن السؤال قد تضمن فرض بقائه إلى سنة، حيث يحتمل حينئذٍ كون ذهاب الثلثين سبباً في عدم تخمره وإسكاره بالتأخير، كما نبه لذلك غير واحد.

اللهم إلا أن يقال: حمل السؤال على تجنب التخمير والإسكار خارجاً، لا على تجنب الحرمة تعبداً لا يناسب وظيفة الإمام (عليه السلام). ولاسيما أن خصوصية ذهاب الثلثين لا أقل ولا أكثر في منع التخمير والإسكار بعيد، نظير ما تقدم في خبر إسماعيل بن الفضل. والتقييد بذهاب الثلثين وإن كان في كلام السائل فلا يدل على المفهوم، إلا أن التفات السائل لخصوصية ذلك لا منشأ له ظاهراً إلا ما شاع عن الشارع الأقدس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 8 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

ص: 422

من محللية ذهاب الثلثين للعصير المطبوخ، فيكون جواب الإمام (عليه السلام) مبنياً على إقرار ذلك. ولعل منشأ السؤال معه احتمال عدم عمومه للزبيب، أو عدم كفايته في فرض البقاء سنة لاحتمال تعرضه للإسكار. فهو إن لم ينهض بالاستدلال صالح للتأييد بلا إشكال.

ومنها: خبر زيد النرسي المنقول عن أصله: "سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الزبيب يدق ويلقى في القدر، ثم يصب عليه الماء ويوقد تحته. فقال (عليه السلام): لا تأكله حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث، فإن النار قد أصابته. قلت: فالزبيب كما هو يلقي في القدر ويصب عليه الماء ثم يطبخ ويصفى عنه الماء. فقال: كذلك هو سواء، إذا أدت الحلاوة إلى الماء وصار حلواً بمنزلة العصر، ثم نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد"(1).

ودلالته ظاهرة، وليس إشكالهم إلا في سنده تارة: لعدم ثبوت وثاقة زيد النرسي. وأخرى: لعدم ثبوت كتابه، فقد قال الشيخ في الفهرست:" زيد النرسي وزيد الزراد لهما أصلان لم يروهما محمد بن علي بن الحسين، وقال في فهرسته: لم يروهما محمد بن الحسن بن الوليد، وكان يقول: هما موضوعان، وكذلك كتاب خالد بن عبد الله بن سدير، وكان يقول: وضع هذه الأصول محمد بن موسى الهمداني ".قال سيدنا المصنف (قدس سره):" وهذه الدعوى وإن غلطهما فيها ابن الغضائري وغيره بأن الأصلين قد رواهما محمد بن أبي عمير، لكنها توجب الارتياب، إذ من البعيد أن يكون الصدوق وشيخه مما خفي عليهما ذلك فجزما بالوضع. ومما يزيد في الارتياب أن الشيخ... "إلى آخره ما ذكره، وقد تضمن أن الشيخ لم يرو عن زيد إلا حديثاً واحد، والكليني لم يرو عنه إلا حديثين، ولا يظهر منهما أخذ الأحاديث المذكورة من كتابه.

وثالثة: لأنه لم يصح نسبة الرواية المتقدمة للكتاب المذكور، لأنها وإن رويت عن زيد في البحار ومستدرك الوسائل، إلا أن المجلسي (قدس سره) ذكر في مقدمة البحار أنه

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 423

قد أخذ الكتاب المذكور من نسخة قديمة مصححة بخط الشيخ منصور بن الحسن الآبي من دون أن يذكر سنده للنسخة المذكورة.

لكنه يندفع الأول بما تكرر منا من الاكتفاء برواية ابن أبي عمير عن شخص في ثبوت وثاقته، وقد فصلنا الكلام فيه في مبحث الكر من هذا الشرح. ولاسيما مع اعتضاده بكون الرجل من رجال كامل الزيارات.

كما يندفع الثاني بأن الذي يظهر من الصدوق تبعيته في ذلك لشيخه ابن الوليد، ولا وثوق بدعوى ابن الوليد وضع الكتاب مع إصرار غير واحد على رواية ابن أبي عمير للكتاب المذكور، بل الظاهر أنه اجتهاد منه، لسوء ظنه بمحمد بن موسى الهمداني، كسائر القميين، لنسبتهم الغلو له، وإلا فمن البعيد جداً إطلاعه على ذلك من طريق الحسّ أو ما يقرب منه.

نعم الوجه الثالث لا طريق لدفعه، وإن كان الرجوع لكلام المجلسي قد يوجب الركون له. ومن ثم لا ينبغي التأمل في صلوح الخبر المذكور لتأييد موثق عمار، كبقية الأخبار المتقدمة. ومثلها في التأييد ما عن الرسالة الذهبية للإمام الرضا (عليه السلام) في صفة الشراب الذي يحل شربه واستعماله بعد الطعام، حيث ذكر ماء الزبيب يصنع على وجه خاص ومن خصوصياته أن يذهب ثلثاه بعد الغليان(1). والظاهر أن ذلك هو الدخيل في حلية الشرب، دون بقية الخصوصيات، إذ لم يظهر من أحد القول بدخلها في الحلية.

ودعوى: أن هذه النصوص وإن تم سند بعضها، إلا أنها موهونة بمخالفة المشهور.

ممنوعة، لعدم وضوح إعراضهم عنها، بعد رواية القدماء لبعضها في الأبواب المناسبة بنحو يظهر منهم التعويل عليها. بل ما سبق من الشيخ في العصير التمري

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 424

يناسب قوله بنظيره في العصير الزبيبي. بل لعله أولى منه، كما هو ظاهر ابن إدريس. وعدم تصريح المشهور بالعموم لا يشهد بعدم بنائهم عليه بعد إطلاق العصير في كلام جماعة. وانصرافه للعنبي ليس بنحو يوجب اليقين باختصاص فتواهم به، بل لعل العموم مفروغ عنه عند بعضهم، تبعاً لعموم بعض النصوص - غفلة عن المناقشة المتقدمة فيها - وخصوص النصوص المتقدمة، أو لفهم عدم الخصوصية للعصير العنبي. ومن ثم لا مجال للخروج عنها. فلاحظ.

هذا وقد يستدل في المقام بالاستصحاب بلحاظ حاله حين كان عنباً.

لكنه يندفع تارة: بأن موضوع التحريم لما كان هو شرب العصير الذي هو كلي فهو قابل التقييد بحال العنبية، ولا يحرز عمومه لحال الزبيبية، فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز الموضوع، وهو الحال في كثير من موارد الشك في بقاء الحكم التكليفي، على ما أوضحناه في الأصول.

وأخرى: بأن موضوع الحرمة المتيقنة لما كان هو عصير العنب فهو مباين لعصير الزبيب، لأن عصير العنب ماؤه الذي يستخرج منه وعصير الزبيب هو الماء الذي انقع فيه حتى حمل المواد السكرية والحلاوة منه.

وثالثة: بأن الاستصحاب في المقام تعليقي، لأن الحرمة معلقة على الغليان، والتحقيق عدم جريانه، على ما أوضحناه في الأصول. فالعمدة في المقام النصوص المتقدمة.

هذا وأما العصير التمري فقد يستدل على حرمته بالغليان ببعض النصوص أيضاً، كموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث له قال:" سئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتى يحل؟ قال: خذ ماء التمر فأغسله حتى يذهب ثلثا ماء التمر"(1).

ويشكل - كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) - بإجمال النضوح، إذ من المحتمل أن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 32 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

ص: 425

يكون فيه من الأجزاء ما يوجب صيرورته مسكراً لو لم يذهب ثلثاه. ولاسيما مع وصفه بالمعتق، إذ من المحتمل أن يصير خمراً بمرور مدة طويلة لولا ذلك.

ومثله موثقه الآخر عنه (عليه السلام): "سألته عن النضوح. قال: يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يتمشطن"(1).

مضافاً إلى أن مقتضاه عدم التمشط به ووضعه في الرأس قبل ذهاب الثلثين، ولا قائل بذلك، وإنما قيل بحرمة شربه قبل ذهاب الثلثين، ولا يشعر به الموثق المذكور. بل لعل ذلك جار في الموثق الأول أيضاً، لأن النضوح طيب يستعمل وليس شراباً أو طعاماً.

ومن ثم لا يبعد كون النهي عن وضعه على الرأس أو التطيب به تجنباً عن إسكاره الموجب لنجاسته، فيكون إذهاب الثلثين تحصيناً له عن الإسكار والنجاسة.

نعم يبقى ما سبق من استبعاد خصوصية ذهاب الثلثين لا أقل ولا أكثر في التحصين من الإسكار، لكنه ليس بحدّ ينهض بنفسه بالاستدلال.

وأضعف من ذلك الاستدلال بالنصوص الناهية عن استعمال النبيذ الذي يجعل فيه القعوة والعكر فيغلي(2). لقرب كون النبيذ المذكور مسكراً، بل هو ظاهر بعضها أو صريحه. ولاسيما مع ورودها فيما يغلي من دون نار الذي سبق قرب كونه مسكراً.

هذا وقد يستدل على عدم الحرمة بمجرد الغليان بغير واحد من النصوص الظاهرة في دوران حرمة النبيذ مدار الإسكار وجوداً وعدماً، كصحيح صفوان:" كنت مبتلى بالنبيذ معجباً به، فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصف لك النبيذ. فقال: أنا أصفه لك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مسكر حرام... "(3) وغيره.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 37 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 24 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 17 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3.

ص: 426

(427)

فيجوز وضع التمر والزبيب والكشمش في المطبوخات (1)، مثل المرق

وفيه: أن ذلك إنما ورد في النبيذ الذي يبقى فيه التمر مدة حتى يتخمر بنفسه أو بالاستعانة بما يلقى فيه من العكر أو نحوه من دون غليان، في مقابل ما يلقى فيه التمر مدة قصيرة حتى يحلو الماء ثم يستخرج منه ويشرب من دون أن يسكر، والكلام في المقام في عصير التمر الذي يستخرج به حلاوته منه، ثم يغلى بالنار، ودوران حرمة الأول مدار الإسكار وعدمه لا تنافي دوران حرمة الثاني مدار ذهاب الثلثين وعدمه. فالعمدة في المقام الأصل بعد عدم وضوح دليل على الحرمة. وإن كان الاحتياط حسناً بلحاظ بعض ما سبق. بل قد يلزم.

بقي شيء: وهو أن الكلام المتقدم في عصيري الزبيب والتمر إنما هو مع الغليان بالنار، وأما مع الغليان بغيرها فالنصوص المتقدمة قاصرة عنه. والكلام في الحرمة والنجاسة يبتني على ما تقدم في عصير العنب من الكلام في مسكريته، حيث لا يبعد اشتراكهما معه في ذلك، وقد يناسبه ما سبقت الإشارة إليه من نصوص النبيذ.

ولا ينافيه ما تضمنه بعضها من جعل العكر ونحوه مما يعين على الغليان، حيث لا يبعد ظهوره في أن المدار على الغليان. والأمر سهل بعد كون المدار على الإسكار الذي هو أمر وجداني، لا شرعي. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) الظاهر عدم تفرعه على ما سبق، بل يحل ذلك مطلقاً وإن قلنا بحرمة عصير التمر والزبيب بالغليان، لأن وضع هذه الأمور في المطبوخات لا يوجب غليان شيء في داخلها يصدق عليه أنه ماء الزبيب أو التمر، لعدم اشتمالها على الماء، بل على مادة سكرية غليظة لا تغلي. بل هي ترق من دون أن يصدق عليها الغليان.

بل لو فرض تحقق الغليان فيها داخل الزبيب والتمر ففي التحريم إشكال، لأن موضوع التحريم - لو تم - هو ما يغلي بعد استخراجه منها، لعدم صدق العصير حينئذٍ عليه. والتعدي عن العصير لكل ما يخرج منها ولو من غير عصر لا يقتضي

ص: 427

(428)

والمحشي والطبيخ وغيرها، وكذا دبس التمر المسمى بدبس الدمعة (1).

(التاسع): الفقاع (2)

التعدي لما لم يخرج وغلا في مكانه.

نعم لو خرج منها شيء قليل وغلا خارجاً عنها تعين تحريمه لو قلنا به في العصير، وحينئذٍ لا يحل إلا بذهاب الثلثين أو بالاستهلاك. بل لو قلنا بالنجاسة لم ينفع أحد الأمرين، لتنجس ما يتصل به من المرق أو الدهن. وذهاب الثلثين والاستهلاك إنما يطهران العصير لا ما تنجس به، إلا الإناء ونحوه فإنه يطهر بذهاب الثلثين، كما يأتي.

ومن الغريب ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من الطهارة بالاستهلاك. نعم لو استهلك المتنجس بالعصير قبل أن ينجس غيره تعين البناء على الطهارة وكذا لو استهلك العصير قبل الغليان، فإنه لا ينجس حينئذٍ بغليان المرق، ولا ينجسه، كما هو ظاهر. لكن الأول فرض غير حاصل ظاهراً. والثاني مخالف لظاهر كلامه أو صريحه.

ومما ذكرنا يظهر الحال في وضع العنب في الأمراق ونحوها. فإن الظاهر عدم غليان مائه في داخله، ولو غلا لم يحرم. إلا أن يكون غليانه بعد خروجه منه، فيجري فيه ما تقدم.

(1) من الظاهر أن الدبس المذكور هو عصير التمر الحقيقي فوضعه في المرق إن لم يوجب غليانه فلا إشكال، وإن أوجب غليانه ابتنى الكلام فيه على الكلام المتقدم في عصير التمر، لأن المراد بعصير التمر فيما تقدم وإن كان هو ما يعصر منه بعد وضع الماء عليه، إلا أن التعدي منه لما يخرج منه بنفسه لا يخلو عن وجه. فتأمل.

(2) إجماعاً محصلاً ومنقولاً صريحاً في الانتصار والمنتهى والتنقيح وجامع المقاصد، وعن الخلاف والغنية والمهذب البارع وكشف الالتباس وإرشاد الجعفرية، وظاهراً في التذكرة وعن المبسوط وغيرهما. وكذا في الجوهر. وكأن المراد به الإجماع

ص: 428

ممن ذهب إلى نجاسة المسكر.

ويقتضيه ما سبق في نجاسة الخمر بضميمة النصوص المستفيضة المتضمنة أنه خمر، كصحيح الوشا عن الرضا (عليه السلام): "كتبت إليه أسأله عن الفقاع فكتب حرام وهو خمر..."(1) ، سواءً كان التطبيق فيها حقيقياً أم أدعائياً تنزيلاً، إذ نجاسته على الأول مقتضى دليل نجاسة الخمر، وعلى الثاني مقتضى إطلاق التنزيل. مؤيداً بخبر هشام بن الحكم:" أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفقاع فقال: لا تشربه فإنه خمر مجهول، وإذا أصاب ثوبك فأغسله"(2).

نعم في خبر زكريا بن آدم: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيها لحم كثير. قال: فقال: يهراق المرق أو يطمعه أهل الذمة أو الكلاب، واللحم أغسله وكله... قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم. قال: فقال: فسد... قلت: والفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شيء من ذلك؟ قال: أكره أن آكله في شيء من طعامي"(3).

وقد يظهر من اختلاف الجواب في الفقاع عن الجواب في الخمر والنبيذ المسكر عدم نجاسة الفقاع، بل كراهة أكل ما لاقاه لا غير. وحينئذٍ قد يسهل رفع اليد به عن الإطلاق المتقدم وحمل خبر هشام من أجله على الاستحباب. لكن ذلك لا يخلو عن إشكال. على أن ضعف سنده وعدم ظهور عامل به مانع من التعويل عليه والخروج به عما سبق. بل يتعين طرحه، أو حمله على الحرمة.

هذا ويظهر من بعض النصوص اختصاص الحرمة والنجاسة ببعض أقسام الفقاع. ففي صحيح مرازم الذي رواه عنه ابن أبي عمير:" كان يعمل لأبي الحسن (عليه السلام) الفقاع في منزله. قال ابن أبي عمير: ولم يعمل فقاع يغلي"(4).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 27 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1، 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 26 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 39 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 429

وهو شراب مخصوص متخذ من الشعير (1)

وفي موثق عثمان بن عيسى أو صحيحه: "كتب عبد الله بن محمد الرازي إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): إن رأيت أن تفسر لي الفقاع، فإنه قد اشتبه علينا، أمكروه هو بعد غليانه أم قبله؟ فكتب (عليه السلام): لا تقرب الفقاع إلا ما لم يضر آنيته أو كان جديداً. فأعاد الكتاب إليه: كتبت أسأل عن الفقاع ما لم يغل، فاتاني: إن اشربه ما كان في إناء جديد أو غير ضار، ولم أعرف حدّ الضراوة والجديد. وسأل أن فسر ذلك له، وهل يجوز شرب ما يعمل في الغضارة والزجاج والخشب ونحوه من الأواني؟ فكتب: يعمل الفقاع في الزجاج، وفي الفخار الجديد إلى قدر ثلاث عملات، ثم لا يعد بعد ثلاث عملات إلا في إناء جديد. والخشب مثل ذلك"(1).

وفي صحيح علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام):" سألته عن شرب الفقاع الذي يعمل في السوق ويباع ولا أدري كيف عمل ولا متى عمل، أيحل أن أشربه؟ قال: لا أحبه"(2).

ويظهر من الأول بقرينة ما ذكره ابن أبي عمير حرمته بعد الغليان. ولعله هو الظاهر من الثاني، لأن السؤال وإن كان عن الكراهة قبل الغليان أو بعده، وقد يظهر من الجواب أن المعيار في الحرمة أمر غير الغليان، إلا أن من القريب رجوع السؤال إلى حكم ما قبل الغليان مع المفروغية عن الحرمة بعده، فيكون الجواب راجعاً للتفصيل قبل الغليان لا غير، كما يناسبه السؤال الثاني. وحينئذٍ يتعين البناء على حرمته بعد الغليان مطلقاً مع التفصيل فيما قبل الغليان بالوجه المذكور في الجواب. فلاحظ.

(1) كما عن غير واحد. ولا أقل من كونه المتيقن منه بعد احتمال كون إطلاقه على ما يتخذ من غيره حادثاً من دون أن يكون موضوعاً في الأصل للقدر الجامع، حيث لا مجال معه لتنزيل النصوص على الإطلاق المذكور.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 39 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2، 3.

ص: 430

(431)

وليس منه ماء الشعير الذي يصفه الأطباء (1).

(العاشر): الكافر (2).

نعم قد يستفاد من النصوص المتقدمة أنه محرم بملاك مناسب للخمر من حيثية الإسكار، فأثره وإن لم يكن هو السكر الظاهر، إلا أنه إن فيه خاصية الإسكار بمرتبة ضعيفة قد تخفى أو يستهان بها عند العامة، وحيث تضمنت النصوص أن الخمر لم تحرم لاسمها، بل لإسكارها أمكن التعدي لكل ما يؤثر من السكر بالنحو المذكور، وإن لم يكن مسمى باسمه أو كانت تسميته به حادثة.

وبعبارة أخرى: مقتضى الجمع بين ما دل على أن الخمر لم تحرم ولم تنجس لاسمها، بل لأثرها ونصوص المقام الظاهرة في أن حرمة الفقاع ونجاسته بملاك حرمة الخمر هو البناء على دوران الحرمة والنجاسة مدار السكر الذي في الفقاع وإن حصل في غيره. فلاحظ.

(1) لعدم وضوح صدق اسمه ولا تحقق خاصيته فيه. كما نبه له غير واحد.

(2) إجماعاً، كما في الانتصار والناصريات والخلاف والغنية والمنتهى ونهاية الأحكام وعن السرائر والمعتبر والبحار والدلائل وغيرها، وهو ظاهر التذكرة. بل في التهذيب: "أجمع المسلمون على نجاسة المشركين والكفار إطلاقاً" .لكن المشهور عن العامة الطهارة، بل لعل إجماعهم على طهارة غير المشرك.

وكيف كان فقد يستدل على النجاسة بقوله تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا"(1). بناء على إطلاق النجس بالفتح بمعنى النجس كما عن جماعة من اللغويين وأرسله إرسال المسلمات في لسان العرب ومفردات الراغب ومختار الصحاح والقاموس، أو أنه مصدر أخبر به عن العين في المقام للمبالغة، كما في زيد عدل، فإنه أولى من تقدير (ذوو) ليمكن حمله على النجاسة

********

(1) سورة التوبة الآية: 28.

ص: 431

العرضية بلحاظ ابتلائهم بها غالباً.

على أن إطلاق وصفهم بأنهم ذوو نجس تمهيداً لإطلاق النهي عن قربهم المسجد الحرام يقتضي ملازمتهم للنجس وعدم إنفكاكهم عند التطهير، وهو ملازم للنجاسة الذاتية، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف (قدس سره).

لكنه يشكل بأن النجس لغة الخبيث، كالرجس. وظهوره في خصوص النجاسة الخبيثة التي هي محل الكلام حادث بعد تشريع النجاسة المذكورة وشيوع الابتلاء بها، ولا يعلم حصول ذلك حين نزول الآية الشريفة، فلعل المراد بها الخباثة الثابثة لهم بنظر الشارع بسبب شركهم ومحاربتهم لله تعالى ولدينه ولأوليائه ومعاداتهم لهم. نظير قوله تعالى عن المنافقين:" فأعرضوا عنهم أنهم رجس"(1) ، وقوله سبحانه: "وأما الذين في قلوبهم مرض فزادهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون"(2).

وتفريع النهي عن قرب المسجد الحرام لا يشهد بإرادة النجاسة الخبيثة التي هي محل الكلام، لأن النجاسة بالمعنى المتقدم تناسب التفريع أيضاً. نظير قوله تعالى:" ما كان للمشركين إن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين"(3).

وأما فهم الأصحاب النجاسة الخبيثة التي هي محل الكلام من الآية الكريمة واستدلالهم بها عليها. فهو لا ينهض بالقرينية على ظهورها فيها، لقرب التباس الأمر في ذلك عليهم بسبب ظهور النجاسة في عصور أهل الاستدلال في النجاسة المذكورة. ومما ذكرنا تظهر مواقع النظر في كلمات سيدنا المصنف (قدس سره) في المقام. فلاحظها.

هذا ولا يخفى أن الآية الشريفة مختصة بالمشركين، ولا تشمل غيرهم من غير أهل الكتاب، فضلاً عن أهل الكتاب. ودعوى: أن التعميم يتم بعدم الفصل المدعى

********

(1و2) سورة التوبة الآية: 95 والآية: 125.

(3) سورة التوبة الآية: 17-18.

ص: 432

في الغنية والرياض والجواهر. ممنوعة، لقرب وجود المخالف في نجاسة الكتابي كما يأتي. ولو سلم عدمه لم ينفع ما لم يرجع للإجماع على الملازمة وعدم الفصل، وهو غير ثابت.

ومثله ما يظهر من الجواهر من احتمال تعارف إرادة مطلق الكافر من المشرك، فإنه لا شاهد له، بل الشاهد من الكتاب المجيد والعرف واللغة على خلافه. وكذا تعميم الحكم لليهودي والنصراني بضميمة ما دل على نسبة الإشراك إليهم كقوله تعالى: "وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يُضاهِئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا الاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون"(1).

لاندفاعه بأن نسبة الشرك إليهم بنسبة الولد له تعالى ليست على نحو الحقيقة، وكذا نسبته إليهم بلحاظ اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً، إذ لا يراد به إشراكهم به تعالى في الألوهية والعبادة، بل في الطاعة، كما في صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في قول الله عز وجل: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" .فقال: والله ما صاموا لهم ولا صلوا لهم، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً فاتبعوهم "(2) ونحوه غيره. فهو على نحو ما في موثق ضريس عنه (عليه السلام):" في قول الله عز وجل: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون. قال: شرك طاعة، و ليس شرك عبادة..."(3) ، ونحوه غيره.

نعم لا إشكال في ابتناء التثليث عند طائفة من النصارى على نحو من الشرك. وكذا ما ينسب للمجوس من القول بإلهية يزدان والنور والظلمة لو تم. إلا أنه - مع عدم اطراده في جميع الكفار - مخالف للظاهر من المشركين في الآية الشريفة، بضميمة

********

(1) سورة التوبة الآيتان: 30، 31.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3، 7.

ص: 433

الآيات الكثيرة المتضمنة مقابلة أهل الكتاب والمجوس للمشركين، وخصوص ما في سورة براءة من افتتاحها بالبراءة من المشركين وتتابع أحكامهم فيها بما في ذلك الحكم الذي تضمنته الآية المذكورة، ثم التعرض لحكم أهل الكتاب والاكتفاء منهم بالجزية.

وقد ظهر بما تقدم عدم نهوض الآية الشريفة بإثبات نجاسة المشركين، فضلاً عن بقية الكفار. نعم لو تمت دلالتها على نجاسة المشركين أمكن التعدي للملحدين النافين لإله خالق، وللنافين ألوهية الله تعالى المثبتين ألوهية غيره من غير أهل الكتاب، بالأولوية العرفية، لارتكاز أن الحكم بالنجاسة للتنفير الذي هو أولي في الطائفتين المذكورتين منه في المشركين. لكنه مع عدم تمامية الدلالة المذكورة - كما سبق - غير مطرد في تمام المدعى كما هو ظاهر.

كما أنه لو تم الدليل على نجاسة أهل الكتاب أمكن التعدي لغيرهم من الكفار بتنقيح المناط أو الأولوية أو عدم الفصل. فاللازم النظر في ذلك. وقد استدل على نجاستهم بجملة من النصوص.

منها: ما ورد في أوانيهم وطعامهم، كصحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس. فقال: لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر" .وصحيح زرارة: عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه قال في آنية المجوس: إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء"(1) ، وصحيح إسماعيل بن جابر وعبد الله بن طلحة عنه (عليه السلام):" قال: لا تأكل من ذبيحة اليهودي، ولا تأكل من آنيتهم"(2) ، وخبر هارون بن خارجة: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أخالط المجوس فآكل من طعامهم؟ فقال: لا"(3) ، ونحوها غيرها(4).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 54 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2، 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 1، وج: 16 باب: 54 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3.

ص: 434

ويشكل بأنه حيث لا مجال للبناء على إطلاق النهي عن استعمال آنيتهم والأكل من طعامهم، بل هو لا ينفع حينئذٍ في البناء على النجاسة، فلابد إما من حمله على ما إذا استلزم مباشرتهم لهما برطوبة، أو على غلبة ابتلاء الآنية بالنجاسة العرضية بسبب عدم توقيهم عن النجاسة كالخمر والميتة ولحم الخنزير، وعدم إحراز تطهيرها. ولاسيما مع احتياج تطهير الإناء إلى عناية، وغلبة تنجس الطعام المطبوخ بالآنية المذكورة.

ولا يتضح أولوية الأول، بل هو لا يناسب تقييد النهي في بعضها بالآنية التي يشربون فيها الخمر. بل يتعين الثاني بلحاظ معتبر يونس عنهم (عليهم السلام):" وإنما كره أن يؤكل سوى الأنفحة مما في آنية المجوس وأهل الكتاب، لأنهم لا يتوقون الميتة والخمر"(1) ، ونحوه غيره مما يأتي.

ومنها: ما ورد في مصافحتهم، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): "في رجل صافح رجلاً مجوسياً فقال: يغسل يده ولا يتوضأ"(2) ، وخبر أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام):" في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني. قال: من وراء الثوب، فإن صافحك بيده فاغسل يدك"(3). لظهورهما في وجوب الغسل وذلك لا يكون إلا من جهة تنجسها بالمصافحة. نعم لابد من حملها على صورة الرطوبة المسرية.

لكنه يحتاج إلى عناية لا شاهد عليها. ولاسيما بعد عدم غلبة الرطوبة حين المصافحة. وليس هو بأولى من حملهما على الاستحباب تنزهاً عن أثر مس الكافر ومصافحته ولو مع عدم الرطوبة. خصوصاً بملاحظة رواية خالد القلانسي: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ألقى الذمي فيصافحني قال: امسحها بالتراب وبالحائط. قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها"(4). بل فرض الرطوبة لا يناسب ما في خبر أبي بصير من الأمر بالمصافحة من وراء الثوب من دون تنبيه إلى غسله، بل يناسب ما ذكرنا من التنزه عن أثر مسّ الكافر ومصافحته.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 3، 5، 4.

ص: 435

ومنه يظهر الجواب عن صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة وأرقد معه على فراش واحد، وأصافحه قال: لا"(1) ، وصحيحه الآخر الآتي المتضمن النهي عن مصافحته. حيث لا شاهد على حمله على النهي من حيثية النجاسة في حال الرطوبة. بل لعل الأظهر حمله على النهي تنزهاً عن مسّ المجوسي ومصافحته تنفيراً عنه وردعاً عن تكريمه ونحوه غيره مما تضمن ذلك.

ومنها: ما ورد في مؤاكلتهم ومخالطتهم، كصحيح عبد الله بن يحيى الكاهلي: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم مجوسي، أيدعونه إلى طعامهم؟ فقال: أما أنا فلا أواكل المجوسي، وأكره أن أحرم عليكم شيئاً تصنعون في بلادكم"(2) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه؟ قال: لا بأس ولا يصلي في ثيابهما. وقال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة، ولا يقعده على فراشه، ولا مسجده، ولا يصافحه. قال: وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للبس لا يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: إن اشتراه من مسلم فليصل فيه، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلي فيه حتى يغسله"(3) ، وصحيحه الآخر المتقدم وغيرها.

لكنها ظاهرة بدواً في النهي عن المخالطة والمؤاكلة مع قطع النظر عن النجاسة. وحملها على النهي إرشاداً للنجاسة بعد تنزيلها على صورة الرطوبة المسرية، ليس بأولى من إبقائها على إطلاقها وحملها على النهي التنزيهي تنفيراً عن معاشرتهم. ولاسيما وأن حمل صحيح الكاهلي على صورة الرطوبة يحتاج إلى عناية بعد عدم ظهور الطعام في خصوص الرطب. وكذا النهي عن إقعاده على الفراش والمسجد في صحيحي علي بن جعفر.

مع أن النهي نظراً للنجاسة وفرض الرطوبة المسرية كما يكون إلزامياً لنجاستهم

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 6، 2، 10.

ص: 436

الذاتية يكون تنزيهاً بلحاظ كثرة ابتلائهم بالنجاسة العرضية، نظير ما تقدم، ولا قرينة على الأول بعد عدم كونه الظاهر بدواً من الكلام. بل صحيح الكاهلي ظاهر في الكراهة، للاقتصار فيه على تنزهه (عليه السلام) بنفسه عن مؤاكلتهم من دون أن يحرمها على غيره ممن يبتلي بذلك.

ودعوى: أن التنبيه على تعودهم ذلك في بلادهم مشعر بأن عدم التحريم منه (عليه السلام) في حقهم للتقية. ممنوعة، حيث لا تقية من المجوس غالباً، بل المنصرف منه كون عدم التحريم إرفاقاً بهم في منعهم مما تعودوا عليه، ويحتاجون إليه بسبب معاشرتهم.

وكذا التفريق في صحيحي ابن جعفر بين الفراش واللباس وبين نوم المسلم على فراش اليهودي والنصراني وإقعاد المسلم المجوسي على فراشه ومسجده، فإن ذلك كله لا يناسب النهي الإلزامي إرشاداً للنجاسة، بل التنزيهي بلحاظ احتمالها أو بلحاظ التنفير عن معاشرة الكفار وتكريمهم. كما لعله ظاهر.

على أنه يكفي في حملها على الكراهة صحيح العيص بن القاسم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني والمجوسي. فقال: إن كان من طعامك وتوضأ فلا بأس" (1) وقريب منه صحيحه الآخر(2). بل قد ينفعان في الدلالة على الطهارة، لأن المؤاكلة معرضة للابتلاء بالرطوبة المسرية، فعدم التنبيه فيهما لذلك قد يوجب ظهورهما في الطهارة.

كما أن ما تضمنه صحيح علي بن جعفر الأول من الأمر بغسل الثوب الذي يشترى من الكافر مع الجهل بأصله لو حمل على الإلزام إنما يدل على عدم الرجوع لقاعدة الطهارة فيما تحت يده، لا على نجاسته واقعاً، لينفع فيما نحن فيه. على أنه لابد من حمله على الاستحباب بقرينة ما يأتي.

ومنها: ما ورد في مساورتهم كصحيح سعيد الأعرج: "سألت أبا عبد الله

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 53 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 4.

ص: 437

عن سؤر اليهودي والنصراني. فقال: لا"(1) ، وصحيح علي بن جعفر:" إنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام) عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام قال: إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام. إلا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل"(2) ، وصحيح الوشا عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه كره سؤر ولد الزنا وسؤر اليهودي والنصراني والمشرك وكل من خالف الإسلام. وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب"(3).

لكن الأخير - مع ضعف سنده - مناسب للكراهة بقرينة ذكر ولد الزنا والتشديد على سؤر الناصب، إذ التشديد في النجاسة المصطلحة خال عن الأثر العملي فيبعد التنبيه عليه، بخلافه في الكراهة.

وكذا صحيح علي بن جعفر بقرينة ما في ذيله:" وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يضطر إليه "فإن الترخيص مع الاضطرار لا يناسب النجاسة، بل المناسب لها حينئذٍ الانتقال للتيمم.

وما في الوسائل من حمله على الكرّ أو ذي المادة. لا شاهد عليه، بل هو بعيد جداً. ومثله ما عن الشيخ - وإن لم اعثر عليه في كلامه - من حمل الاضطرار فيه على التقية، فإنه خلاف الظاهر جداً، بل الظاهر منه انحصار الماء به.

نعم من القريب أن يكون الذيل المذكور رواية أخرى في كلام آخر لا تتمة لما تقدم. وحينئذٍ لا يمنع من ظهور ما تقدم في النجاسة، كظهور صحيح سعيد الأعرج فيها. ومن ثم كانا هما العمدة في أدلة النجاسة.

وحينئذٍ يكون ذيل صحيح ابن جعفر المتقدم معارضاً لهما في ذلك. وكذا ذيله الآخر المروي عن كتاب علي بن جعفر:" سألته عن اليهودي والنصراني يشرب من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 3 من أبواب الأسئار حديث: 2.

ص: 438

الدورق أيشرب منه المسلم؟ قال: لا بأس"(1). كما تصلح لذلك بعض النصوص المتقدمة بعد ملاحظة ما ذكرناه في تعقيبها فلاحظها.

ومثلها في ذلك جملة من النصوص التي استدل ويستدل على الطهارة منها: موثق عمار: "سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنه يهودي؟ فقال: نعم. فقلت: من الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم"(2).

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من إمكان ابتناء الحكم فيه على عدم انفعال الماء القليل، فيكون كغيره مما ورد في سائر النجاسات. ففيه: أنه بعد البناء على انفعال الماء القليل يصلح الموثق دليلاً على طهارة اليهودي. ولاسيما مع ظهوره في خصوصية اليهودي في السؤال المناسب للسؤال عن حيثية اقتضائه الانفعال بعد الفراغ عن قابلية الماء له.

ولا أقل حينئذٍ من نهوضه بمعارضة صحيحي ابن جعفر وسعيد الأعرج للذين تقدم أنهما العمدة في دليل النجاسة، وينهض بحملهما على الكراهة.

ومنها: ما ورد في طعامهم وآنيتهم، كصحيح إسماعيل بن جابر:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في طعام أهل الكتاب فقال (عليه السلام): لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ولا تتركه تقول: إنه حرام، ولكن تتركه تتنزه عنه، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير"(3) ، وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "سألته عن آنية أهل الكتاب فقال: لا تأكل في آنيتهم إذ كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير"(4) ، وخبر زكريا بن إبراهيم:" دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: إني رجل من أهل الكتاب وإني أسلمت وبقي أهلي كلهم على النصرانية، وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم بعد، فآكل من طعامهم؟. فقال: لي: يأكلون الخنزير.

********

(1) هامش الوسائل في تعقيب الحديث المتقدم.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 3 من أبواب الأسئار حديث: 3.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 54 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 6.

ص: 439

فقلت: لا، ولكنهم يشربون الخمر. فقال لي: كل معهم وأشرب"(1).

نعم استشكل سيدنا المصنف (قدس سره) في صحيح إسماعيل بأن تكرار النهي عن الأكل الدال على مزيد الاهتمام به لا يناسب كونه تنزيهياً، وهو مما يوجب الريب في الذيل بنحو يشكل معه العمل به، وفي صحيح محمد بن مسلم بأنه لا مفهوم للشرطية فيه.

ويندفع الأول بأن تكرار النهي وشدة الاهتمام به يناسب كونه معرضاً لئلا يعمل به، أما لاحتفافه بما يوجب ذلك من احتمال كونه تنزيهاً أو غير مراد به ظاهره، أو لتعرضه للمزاحمات الخارجية، وإلا فالنهي الظاهر في الحرمة الذي من شأنه أن يعمل به لا موجب لتكراره وتأكيده، فالتكرار لا ينافي التنزيه بل قد يناسبه، فلا موجب لرفع اليد عن التصريح في الذيل بالكراهة.

والثاني بأنه مخالف للظاهر جداً، لأن التقييد بقيد مناسب للحكم عرفاً إن لم يكن مسوقاً للمفهوم يكون موهماً لخلاف الواقع، فكيف بالشرط الظاهر في المفهوم في نفسه؟!.

نعم ما ذكره في خبر إبراهيم من ضعف سنده وعدم الجابر له تام. لكنه لا يمنع من كونه مؤيداً للصحيحين، كما يؤيدهما صحيح محمد بن مسلم ويعضدها معتبر يونس المتقدمان. فراجع.

ومنها: ما ورد في ثيابهم التي يعملون كصحيح معاوية: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث [أجناب]، وهم يشربون الخمر، ونساؤهم على تلك الحال، ألبسها ولا أغسلها وأصلي فيها؟ قال: نعم. قال معاوية: فقطعت له قميصاً وخطته، فتلت له أزراراً ورداء من السابري، ثم بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار، فكأنه عرف ما أريد فخرج فيها إلى الجمعة"(2) ، وحديث

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 54 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 440

المعلى بن خنيس: "سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا بأس بالصلاة في الثياب التي تعملها المجوس والنصارى واليهود"(1) ، وصحيح إبراهيم بن أبي محمود:" قلت للرضا (عليه السلام): الخياط أو القصار يكون يهودياً أو نصرانياً وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال: لا بأس "(2) وغيرها. فإن بعضها وإن لم يصرح فيه بأن السؤال من حيثية النجاسة، إلا أن ذلك هو المنصرف منها، ولاسيما مع التنبيه في بعضها على أنهم لا يتوقون النجاسات.

لكن حملها في الوسائل على صورة عدم العلم بتنجيسهم لها. قال سيدنا المصنف (قدس سره):" وهو غير بعيد، كما يشهد به ما ذكر في جملة منها من أنهم يشربون الخمر ويأكلون الميتة، ولا إشكال في نجاستهما".

وهو كما ترى، لأن احتمال عدم سراية نجاسة الخمر والميتة منهم للثياب معتد به، بخلاف عدم سراية نجاسة أعيانهم لو قيل بها، لابتناء نسج الثياب و قصرها على غسلها ومسهم لها برطوبة، كما لعله ظاهر.

بل الإنصاف أن التنبيه في تلك النصوص وغيرها لأكلهم الميتة وشرب الخمر، ظاهر في المفروغية عن طهارتهم الذاتية، إذ لو كان البناء على نجاستهم لكان أولى بالذكر، فإنه أنسب بقوة احتمال التنجيس. ومثلها في ذلك كثير من النصوص المانعة أو المسوغة للصلاة في الثياب التي يستعيرونها أو تؤخذ منهم مع التنبيه فيها لشربهم الخمر وأكلهم الميتة ولحم الخنزير(3).

ومنها: صحيح إبراهيم بن أبي محمود:" قلت للرضا (عليه السلام): الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة. قال: لا بأس تغسل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) التهذيب ج: 6 ص: 385 حديث: 1142.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73، 74 من أبواب النجاسات.

ص: 441

يديها"(1). وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من ظهوره في قضية خارجية، وهي قضية جارية خاصة تخدم الإمام (عليه السلام) بقرينة ضمير الخطاب، وحينئذٍ لا مجال للاستدلال به، لإجمال الواقعة المذكورة لاحتمال أن خدمتها له (عليه السلام) ليست باختياره، بل بإلزام سلطان الجور.

ففيه أولاً: إن احتمال كون القضية المسؤول عنها خارجية بعيد جداً لا يناسب مقام الإمام (عليه السلام). ومجرد اشتمال السؤال عن ضمير الخطاب لا يصلح شاهداً على ذلك، نظير ما تقدم في صحيحه الآخر.

وثانياً: إن اقتصار الإمام (عليه السلام) في رفع البأس على غسل يديها ظاهر في كفايته في دفع محذور النجاسة. ولو كان المسوغ هو الاضطرار مع النجاسة الذاتية لم يكن لذكر ذلك، بل كان المناسب التنبيه إلى محاولته (عليه السلام) عدم مساورتها أو التطهير بعد المساورة.

وثالثاً: إن من البعيد جداً بلوغ تقية الإمام الرضا (عليه السلام) من سلطان الجور حداً يستخدم معه علناً من يرى نجاسته ويبتلى بها في طعامه وشرابه وعبادته. ومن ثم كان الصحيح وافياً بالدلالة على الطهارة، بل بالمفروغية عنها، لظهوره في أن منشأ السؤال النجاسة العرضية، كما تقدم في سابقه.

ومثله في ذلك النصوص الكثيرة الواردة في تزويج الكتابية(2) ، حيث لم ينبه فيها على كثرتها لحكم مساورتها، مع أنه أهم من التنبيه في بعضها لمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير(3) ، لأن ذلك أمر متعلق بها، وهذا أمر متعلق بالمسلم المتزوج لها والذي سبقت النصوص لبيان حكمه، وعليه يتحدد مصير علاقتهما ومعاشرتهما.

بل حيث تضمنت جملة من تلك النصوص التثبيط عن ذلك فالمنع من المساورة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 11.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 2 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه حديث: 1.

ص: 442

من أظهر مظاهر التثبيط وادعى دواعي الترك، فعدم التعرض له يوجب ظهور النصوص المذكورة بمجموعها في عدم كون المساورة محذوراً، وفي طهارتها الذاتية.

ومنها: موثق عمار ومعتبر زيد بن علي المتضمنين تغسيل الكتابي للمسلم عند فقد المماثل(1). قال سيدنا المصنف (قدس سره): "فإن البناء على وجوب التغسيل بالماء النجس بعيد جداً، لأنه يزيد الميت نجاسة. وحمله على التغسيل بالكثير أبعد... وإن كان الإشكال فيها لا يختص بهذه الجهة، لأن عبادة الكافر أيضاً باطلة بالإجماع" .لكن الاكتفاء للضرورة بالتغسيل بغير نية أو بنية ناقصة ليس كالاكتفاء بالتغسيل بالماء النجس الذي يزيد الميت نجاسة. ومن ثم كان الاستدلال بهما قريباً جداً.

هذه النصوص التي يمكن الاستدلال بها على الطهارة والتي ظهر ضعف المناقشات في الاستدلال بها كما اعترف به سيدنا المصنف (قدس سره) في آخر كلامه، كما يأتي. وربما كانت هناك بعض النصوص الأخر في أبواب الفقه المتفرقة.

بل يظهر من جملة من النصوص المتقدمة وغيرها المفروغية عن الطهارة، لما أشرنا إليه من أن التنبيه فيها من السائل أو الإمام (عليه السلام) لابتلاء الذمي بالنجاسة العرضية، وإهمال النجاسة الذاتية، مشعر أو ظاهر في المفروغية عن الطهارة الذاتية، كما سبق التنبيه لذلك في بعضها.

هذا وقد يدعى أنه يلزم حمل هذه النصوص على التقية لموافقتها لمذهب العامة، وقد أصر على ذلك في الحدائق وشدد النكير على من عمل بهذه النصوص وجمع بينها وبن نصوص النجاسة بحمل تلك على الكراهة.

ويشكل أولاً: بأن كثرة نصوص الطهارة، وورودها في موارد مختلفة ومناسبات متعددة، مع فتوى الأصحاب بما يطابقها في بعض المواد - كالتزويج من الكتابية، وتغسيل الكتابي للمسلم - ومع ظهور جملة منها في المفروغية عن الطهارة الذاتية، كما سبق، كل ذلك يأبى حملها على التقية. ولاسيما وإن بعضها قد ورد مورد النهي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب غسل الميت حديث: 1، 2.

ص: 443

عن مخالطة أهل الكتاب على خلاف ما عليه العامة، إلا أنه اشتمل على بعض القرائن التي تشهد بالكراهة، أو بأن منشأ النهي الاحتياط لتجنب النجاسة الخارجية التي يتعرضون لها دون النجاسة الذاتية.

وثانياً: بأن الترجيح بمخالفة العامة فرع استحكام التعارض بين الطائفتين، ولا مجال له مع إمكان الجمع بينهما عرفاً بالحمل على الكراهة تنفيراً عنهم وتوهيناً لهم أو احتياطاً لاحتمال ابتلائهم بالنجاسة العرضية، خصوصاً مع كثرة الشواهد على ذلك، كما يظهر مما تقدم.

وأضعف من ذلك دعوى ترجيح نصوص النجاسة بموافقتها للكتاب، حيث يظهر ضعفها مما سبق من عدم دلالة الآية الشريفة على نجاسة المشركين فضلاً عن أهل الكتاب.

نعم لا مجال لدعوى العكس، وأن نصوص الطهارة هي الموفقة للكتاب، لقوله تعالى: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم" (1) فإن تحليل الطعام ملازم للطهارة عرفاً لغلبة ابتلائه بمباشرتهم برطوبة عند الطبخ ونحوه.

لاندفاعها - مضافاً إلى توقفها على استحكام التعارض بين الطائفتين - بأنه قد صرح في جملة من النصوص بأن المراد بالطعام الحبوب ونحوها دون الذبائح(2) ، ولا قرينة على أن المراد به ما هو صالح للأكل فعلاً لطبخه، بل لعل المراد به ما من شأنه أن يؤكل، لبيان حليته واقعاً لدفع احتمال حرمة الطعام بإضافته لهم تنفيراً عنهم، أو لبيان تحملهم وزر خبث المكسب مع حلّ المال للمسلم، نظير ثمن الخمر والخنزير، أو لبيان حليته ظاهراً لدفع خبث مكاسبهم.

وبالجملة: لا مجال لإعمال المرجحات الخارجية بين الطائفتين، لعدم وضوح ثبوتها، وعدم وصول النوبة إليها بعد إمكان الجمع الدلالي.

********

(1) سورة المائدة الآية: 5.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 51 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 444

نعم قد يدعى بل ادعي سقوط نصوص الطهارة بهجر الأصحاب لها وإعراضهم عنها، قال سيدنا المصنف (قدس سره) بعد ذكر جملة من النصوص المذكورة ومناقشتها بما سبق: "وكيف كان إن أمكن البناء على المناقشات المذكورة في هذه النصوص - ولو للجمع بينها وبين ما دل على النجاسة - فهو المتعين. وإن لم يمكن ذلك - لبعد المحامل المذكورة وإباء أكثر النصوص عنها - فالعمل بنصوص الطهارة غير ممكن، لمخالفتها للإجماعات المستفيضة النقل - كما عرفت - بل للإجماع المحقق - كما قيل - فإن مخالفة ابن الجنيد..." .ثم حاول بيان عدم قدح كلام من نسب له الخلاف في الإجماع المدعى ودافع عن الإجماع المذكور، ونحوه كلام غيره.

حتى أن بعض مشايخنا (قدس سره) مع إصراره في المقام على وفاء النصوص بالطهارة ومبناه في الأصول وفي كثير من فروع الفقه على عدم صلوح دعاوى الإجماع للخروج عن مفاد النصوص توقف عن العمل بالنصوص المذكورة في المقام لمخالفة معظم الأصحاب لها من القدماء والمتأخرين، والزم بالاحتياط.

لكن الإنصاف أنه لا مجال للتعويل على دعاوى الإجماع بعد ملاحظة النصوص المتقدمة، فإن روايتهم لها على كثرتها وتعدد الجهات المنظورة فيها، واختلاف ألسنتها، وعدم ظهور رفضهم لها واستنكارهم لمضمونها، مما يصعب معه إحراز الإعراض عنها من قدماء الأصحاب الذين ليس لهم تحرير للفروع مستقل عن النصوص، بل تعرف آرائهم عن طريق روايتهم. ولاسيما مع وضوح عملهم ببعضها، كنصوص تزويج الكتابية، وتغسيل الكتابي للمسلم، ونصوص الثياب المأخوذة من الكافر التي سبق ظهور بعضها في المفروغية عن الطهارة الذاتية.

ومنها توقيع الحميري الذي هو من أواخر هذه الطبقة: "إنه كتب إلى صاحب الزمان (عليه السلام): عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة ولا يغتسلون من الجنابة وينسجون لنا ثياباً، فهل تجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل: فكتب إليه في الجواب: لا بأس

ص: 445

بالصلاة فيها"(1).

كما أن الكليني (قدس سره) قد أثبت في الكافي جملة من هذه النصوص، مع ظهور كلامه في مقدمته في صحة الروايات التي أثبتها فيه بحيث تصلح للعمل ولو تخييراً إلا مع التعارض بينها، فيهمل ما أتضح مخالفته للكتاب أو موافقته للعامة، وحيث سبق عدم استحكام التعارض بينها وبين نصوص النجاسة لم يبعد عمله بها بعد جمعها مع نصوص النجاسة بما سبق. ولعله لذا لم يثبت شيئاً من نصوص طهارة الخمر، واقتصر على نصوص نجاسته في الباب المناسب له، بنحو يظهر منه العمل عليها، دون نصوص طهارته.

وكذا الحال في الصدوق الذي صرح بأنه لا يثبت في كتابه الفقيه إلا ما يفتي به ويراه حجة بينه وبين ربه، حيث أثبت فيه قسماً من نصوص الطهارة ونصوص النجاسة، مع أنه اقتصر على النص الدال على طهارة الخمر من دون أن يذكر شيئاً من نصوص نجاسته، بنحو يظهر منه العمل بالأولى دون الثانية. حيث لا مجال مع كل ذلك لإحراز إعراض هذه الطبقة عن نصوص الطهارة مع ما هي عليه من وضوح الدلالة وكثرة العدد.

نعم لا يبعد عدم جلاء الحكم عندهم بسبب اضطراب النصوص وعدم اهتمامهم بتحرير الفتاوى ليتضح الحكم الذي عليه معولهم لعدم توجههم لذلك، وإنما يعتمدون على النصوص على اضطرابها من دون تحديد لمقتضى الجمع بينها، أو مع الجمع بينها بوجه بدوي.

كما يظهر ذلك من بعض أهل الفتوى أنفسهم، كالمفيد، فقد قال في المقنعة في باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات:" وإذا صافح الكافر المسلم ويده رطبة بالعرق أو غيره غسلها من مسه بالماء، وإن لم يكن فيها رطوبة مسحها ببعض الحيطان أو التراب ".وقال في باب الذبائح والأطعمة:" ولا يجوز مؤاكلة المجوس ولا استعمال

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 9.

ص: 446

آنيتهم حتى تغسل، لاستحلالهم الميتة وإهمالهم الطهارة من النجاسات، ويجتنب الأكل والشرب في آنية مستحلي شرب الخمور وكل شراب مسكر، ولا تستعمل حتى تغسل "،وحكي عنه الحكم في الغرية بكراهة سؤر اليهودي والنصراني.

وكذا الشيخ (قدس سره) في النهاية، فإنه ذكر في المصافحة نظير ما سبق من المفيد في المقنعة، وذكر في كتاب الأطعمة إنه لا يجوز مؤاكلة الكفار، لأن الطعام ينجس بمباشرتهم، ثم قال بعد قليل:" ويكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفار إلى طعامه فيأكل معه، فإن دعاه فليأمره بغسل يديه، ثم يأكل معه إن شاء ".حيث يقرب كون ما ذكره أخيراً إشارة لمضمون بعض النصوص بعد الجمع بينها.

هذا وقد نسب الخلاف في النجاسة لابن عقيل وابن الجنيد، حيث حكم الأول بعدم نجاسة سؤر اليهودي والنصراني، وذكر الثاني أنه لو تجنب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي آنيتهم، وكذلك ما وضع في أواني مستحل الميتة ومؤاكلتهم ما لم يتيقن طهارة أوانيهم وأيديهم، كان أحوط.

وذكر غير واحد أن الأول قد يبتني على ما ذهب إليه من عدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة، وكلام الثاني غير صريح في الطهارة. ويشكل بأن الأول لا يناسب أخذ خصوصية اليهودي والنصراني في موضوع كلامه، والثاني لا ينافي ظهور كلامه في البناء على الطهارة.

ومع ذلك كله كيف يمكن دعوى الإجماع من الطبقة الأولى من أهل الفتوى على النجاسة، فضلاً عن طبقة الرواة. نعم لا يبعد ظهور القول بالنجاسة فيمن تأخر عن أولئك من أهل الفتوى، بل لعله إجماع عندهم.

لكنه لا ينهض بالاستدلال بنفسه، لقرب استناده للاجتهاد منهم في فهم النصوص والجمع بينها وتأثره بسيرة الشيعة على تجنبهم نتيجة النهي الكثير الذي تضمنته النصوص والذي سبق حمله بعد الجمع بين النصوص على الكراهة، تنفيراً عنهم وتوهيناً لهم، أو احتياطاً للنجاسة الخارجية التي يتعرضون لها، حيث لا يبعد

ص: 447

اهتمام الشيعة بالنهي المذكور والتزامهم بالعمل عليه حتى صار شعاراً لهم، فأوهم ذلك التحريم عندهم معتضداً بما توهمه بعض النصوص مما أوجب خفاء الحال والتباسه على أهل الفتوى.

على أنه قال في المعتبر: "أواني المشركين طاهرة ما لم يعلم نجاستها بمباشرتهم أو ملاقاة نجاسة... ويستوي في ذلك المجوسي ومن ليس من أهل الكتاب. وفي الذمي روايتان أشهرهما النجاسة نجاسة عينية ونجاسة ما يلاقيه بالمايع" وظاهره أن الحكم بنجاسة الذمي يبتني على تقديم أشهر الروايتين بنظره، وليس من الوضوح بحيث يُستغنى عن ذلك بالإجماع كالمشركين.

مع أن الإجماع المذكور لا يناسب ما ذكروه من جواز اشتراط الإمام على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين. قال في الجواهر: "كما صرح به غير واحد، بل في المسالك: هذا هو المشهور في الأخبار والفتاوى، وهو الذي شرطه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل لا أجد فيه خلافاً، كما اعترف به في المنتهى، بل عن التذكرة الإجماع عليه. وهو الحجة بعد الأصل...".

فإن ذلك وإن لم يوجد في أخبارنا، وإنما رواه العامة، إلا أن قبول الأصحاب له وفتواهم به لا يناسب القول بالنجاسة، لما هو المعلوم من قضاء الضيافة بطبعها مساورتهم ومخالطتهم في الأكل والشرب والغسل والفراش ونحوها.

ولذا قال في الجواهر: "الظاهر ابتناء ذلك على طهارتهم، أو قبل الحكم بنجاستهم... فالمتجه حينئذٍ مع الحكم بنجاستهم اشتراط الضيافة عليهم بما لا يتجنبه المسلمون من حبوبهم ونحوها".

لكن ليس لذلك في كلمات قدماء الأصحاب من أثر. والبناء عليه يحتاج إلى عناية لا تناسب طبيعة الحكم. ومن ثم كان بناء الأصحاب على الحكم المذكور شاهداً باضطراب مبناهم في المقام.

على أنه لو تم الإعراض منهم في الجملة فمن الظاهر أنه يبتني على حمل

ص: 448

النصوص التي سبق الاستدلال بها للطهارة على خلاف ظاهرها أو على التقية، فمع ظهور خطئهم في ذلك - لما سبق - لا أثر لإعراضهم.

ومن هنا لا مجال للتوقف عن العمل بما يقتضيه النظر في النصوص بعد اشتهارها، ووضوح مضمونها، ورواية الأصحاب لها، بنحو لا يظهر منهم الإعراض عنها واستنكار مضمونها، بل يظهر منهم التعويل عليها في الجملة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم، ومنه نستمد التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ثم إن نصوص الطهارة - كما ترى - مختصة باليهودي والنصراني والمجوسي. ولا مجال للتعدي لغيرهم حتى من يحكم بكفره من فرق المسلمين، لإمكان خصوصية الأديان الثلاثة في الطهارة، بسبب إقرار الإسلام لها وقبولها من أهلها وإن كانت منسوخة ومحرفة وباطلة. فاللازم الرجوع في غير الأديان المذكورة لأدلة أخر.

أما المشركون فقد سبق ضعف الاستدلال على نجاستهم بالآية الشريفة. وينحصر الدليل على نجاستهم بالإجماع المدعى. وهو غير بعيد بعد ملاحظة كلام أهل الفتوى. وإن كان في نهوضه وحده بالاستدلال إشكال، بعد عدم تعرض النصوص للحكم المذكور، ليتضح حال طبقة الرواة، وعدم وضوح حال ارتكازات المتشرعة وسيرتهم، فإن سيرتهم على تجنبهم وإن كانت قريبة إلا أنها قد تكون على نحو سيرتهم على تجنب الكتابيين التي عرفت قرب ابتنائها على النهي المؤكد عليه في النصوص، والذي عرفت لزوم حمله على الكراهة.

ولاسيما مع شيوع الابتلاء بالمشركين في صدر الإسلام، ولو كان البناء على نجاستهم - ولو في أواخر أيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - لكثر نقل ما يناسب ذلك، لأهمية الآثار العملية المترتبة عليها، من تجنب مساورتهم، والحذر في مخالطتهم، والتزام التطهير منهم، مع عدم ظهور ذلك بوجه معتد به يناسب شيوع الابتلاء وأهمية الآثار المذكورة، حيث قد يناسب ذلك جداً الطهارة. وإن كان التجنب راجحاً يحسن العمل عليه عند تيسره بعد امتياز المشركين وعدم مخالطة المسلمين لهم.

ص: 449

(450)

وهو من انتحل ديناً غير الإسلام (1)، أو انتحل الإسلام وجحد ما يعلم إنه من الدين الإسلامي (2).

نعم يصعب جداً الخروج عن الإجماع المذكور بعد عدم ظهور ما يوجب الخدش فيه في الفتاوى والنصوص. ومن ثم يتعين فيهم الاحتياط.

وأولى منهم بذلك الملحدون المنكرون للخالق المعبود، والمثبتون الخلق والعبادة لغيره تعالى دونه، كما سبق عند الكلام في مفاد الآية الشريفة.

نعم يشكل الحال في الموحدين المنتحلين ديناً آخر غير الأديان الثلاثة المذكورة، حيث لا مجال لإلحاقهم بالمشركين بتنقيح المناط، فضلاً عن الأولوية. ومجرد عدم إقرار الإسلام لهم على دينهم لا يكفي في إلحاقهم بالمشركين.

اللهم إلا أن يقال: إنما يشكل إلحاقهم بالمشركين إذا كان الدليل على نجاسة المشركين هو على الآية الكريمة، أما حيث كان الدليل عليها هو الإجماع - الذي تقدم صعوبة الخروج عنه ولزوم الاحتياط لأجله - فالظاهر أنه يشمل كل من انتحل غير الأديان الثلاثة، لأن معقده في جملة من كلماتهم وإن كان هو المشركين، إلا أنه يظهر من مجموع كلماتهم عمومه لكل كافر، بحيث يكون الكفر بطبعه مقتضياً للنجاسة لولا المخرج من النصوص ونحوها، نظير ما تقدم من المعتبر، إذ لا أقل من كون ذلك كافياً في الإلزام بالاحتياط فيهم كالمشركين. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) بل هو مطلق من لم ينتحل الإسلام ولو بعدم انتحاله للدين أصلاً، كالمنكرين للخالق، أو المشككين غير المهتمين بتحقيق الحقائق الدينية، أو الغافلين تقصيراً أو قصوراً.

(2) المعروف بين الأصحاب وتظافرت به كلماتهم هو كفر منكر الضروري، وأرسل الكلام بعضهم إرسال المسلمات، وفي الروض وظاهر نهاية الأحكام الإجماع عليه. ومقتضى الجمود على ظاهر كلماتهم كون ذلك موجباً للكفر بنفسه، لا من حيثية رجوعه

ص: 450

إلى إنكار الدين بنحو ينافي التدين به.

لكن يظهر من بعضهم أن حصول الكفر به إنما هو بلحاظ رجوعه إلى إنكار الدين المتوقف على العلم بثبوته فيه، ليكون إنكاره إنكاراً له، كما يناسبه ما في كشف اللثام من تقييده بما إذا علم بكونه ضرورياً. وعليه لا يختص بالضروري، بل يعم كل ما علم المنكر بكونه من الدين ولو بالاستدلال الخفي، كما أصر عليه غير واحد.

قال في محكي مجمع البرهان: "المراد بالضروري الذي يكفر منكره الذي ثبت عنده يقيناً أنه من الدين ولو بالبرهان وإن لم يكن مجمعاً عليه، إذ الظاهر من دليل كفره هو إنكار الشريعة وإنكار صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلاً في ذلك الأمر مع ثبوته يقيناً، وليس كل من أنكر مجمعاً عليه يكفر. بل المدار على حصول العلم والإنكار وعدمه. إلا إنه لما كان حصوله في الضروري غالباً جعل ذلك المدار وحكموا به".

وظاهره تنزيل مراد الأصحاب على ذلك. ويناسبه ما ذكره غير واحد - وتشهد به بعض النصوص(1) - من عدم لزوم الكفر إذا كان الإنكار للشبهة، أو للبعد عن دار الإسلام. وإن كان في بلوغ ذلك حداً يخرج به عن ظاهر العنوان في كلماتهم إشكال. ولاسيما مع تمثيل بعضهم بالخوارج والنواصب، مع أن إنكار عامتهم لمودة أهل البيت عليهم السلام وتدينهم ببغضهم وكفرهم ليس بنحو ينافي تدينهم بالدين، بل لاعتقادهم مطابقته للدين.

وكيف كان فقد يستدل على حصول الكفر لإنكار الضروري بنفسه وإن لم يستلزم إنكار الدين أو تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجملة من النصوص.

منها: حديث بريد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام): "سألته عن أدنى ما يكون به العبد مشركاً. قال: من قال للنواة إنها حصاة وللحصاة إنها نواة، ثم دان به"(2).

وفيه: أنه إنما يتضمن نسبة الشرك لكل من دان بالباطل وبما يخالف الواقع. وهو

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 14 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها.

(2) الكافي ج: 2 ص: 397 كتاب الكفر والإيمان باب الشرك.

ص: 451

- مع عدم اختصاصه بمخالف الضروري - أجنبي عما نحن فيه، إذا الكلام في مجرد عدم التدين بالواقع، لا في التدين بخلافه. والحديث إنما هو في الثاني، نظير قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة:" ومن نصب ديناً غير دين المؤمنين فهو مشرك"(1) ، وقوله (عليه السلام) في موثقه أو صحيحه الآخر: "ومن نصب ديناً غير دين الله فهو مشرك"(2).

على أن من أوضح مصاديق ذلك المخالفين الذين اعتقدوا بشرعية إمامة خلفاء الجور، ودانوا في الأصول والفروع بخلاف دين الله تعالى الذي هو دين المؤمنين، من دون أن يوجب ذلك كفرهم بالمعنى المقابل للإسلام، والذي هو موضوع النجاسة عند الأصحاب (رضي الله عنهم)، وإن كانوا كالكفار في الخروج عن حوزة الرحمة الإلهية. ومن ثم قد يحمل الحديث المذكور وما جرى مجراه على ذلك.

ومنها: حديث الكناني عن أبي جعفر (عليه السلام) في كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:" فما بال من جحد الفرائض كان كافراً؟!"(3) ، وحديث داود الرقي: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفرائض الله عز وجل؟ فقال: إن الله عز وجل فرض فرائض موجبات على العباد، فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافراً..." (4) وغيرهما.

وقد يستشكل في الاستدلال بهما وبجميع ما تضمن التعبير بالجحود بما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) من احتمال اختصاص الجحود بالإنكار عن علم، بل جزم بذلك بعض مشايخنا (قدس سره)، وهو المذكور في مفردات الراغب ومختار الصحاح، ونسب للجوهري.

لكنه غير ظاهر، بل المنسبق من الجحود مطلق الإنكار ولو عن جهل مركب أو بسيط، فهو ضد الإقرار، كما في لسان العرب. وهو المناسب لكثرة استعماله في النصوص في ذلك، كصحيح محمد بن مسلم: "كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالساً عن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 3، 21.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 13، 2.

ص: 452

يساره وزرارة عن يمينه، فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في من شك في الله؟ قال: كافراً يا أبا محمد. قال: فشك في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: كافر. ثم التفت إلى زرارة فقال: إنما يكفر إذا جحد"(1) ، وموثق سدير:" قال أبو جعفر (عليه السلام) في حديث: إن العلم الذي وضعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند علي (عليه السلام) من عرفه كان مؤمناً، ومن جحده كان كافراً"(2).

وأما قوله تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً"(3). فهو لا يشهد بالاختصاص. بل هو بالتقييد أنسب.

فالأولى الجواب عنها بعدم إمكان الالتزام بمضمونها على إطلاقه، فإن أعظم الفرائض الولاية التي جحد بها المخالفون من دون أن يوجب ذلك كفرهم بالمعنى المقابل للإسلام، على نحو ما سبق على أنها أخص من المدعى، لعدم اختصاص الضروري بالفرائض.

هذا لو أريد بالفرائض هي الخمس التي بني عليها الإسلام. أما لو أريد بها مطلق الفرض والواجب فتكون أعم، ويظهر الحال فيها حينئذٍ مما يأتي.

ومنها: موثق عبد الرحيم القصير أو صحيحه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" أنه كتب إليه مع عبد الملك بن أعين: سألت رحمك الله عن الإيمان. ولإيمان هو الإقرار... والإسلام قبل الإيمان، وهو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي أو بصغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عنها كان خارجاً من الإيمان... ولا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود والاستحلال، وأن يقول للحلال هذا حرام، وللحرام هذا حلال ودان بذلك، فعندها يكون خارجاً من الإسلام والإيمان، وداخلاً في الكفر... "(4) وصحيح عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام) في حديث أنه قال:" من ارتكب كبيرة فزعم أنه

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب حد المرتد حديث: 56، 19.

(3) سورة النمل الآية: 14.

(4) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب حد المرتد حديث: 50.

ص: 453

حلال أخرجه ذلك من الإسلام"(1) ، ونحوه موثق مسعدة بن صدقة(2) وغيره.

لكنها - كبعض النصوص السابقة أو جميعها - لا تختص بالضروري، ولا إشكال في عدم الالتزام بإطلاقها و إطلاق بقية النصوص، إذ لا ريب في أن خطأ المجتهد في الحكم الشرعي والتزامه بخلاف الواقع وتدينه به لا يخرجه عن الدين وإن كان مقصراً، وكذا الحال في مقلد المجتهد المذكور وإن كان مقصراً في تقليده.

وليس حملها على خصوص الأمر الضروري بأولى من تقييدها بما إذا كان جحد الواقع الثابت في الدين والتدين بخلافه وتحليل الحرام وتحريم الحلال منافية للتدين بالدين الحق، بأن علم الشخص بتضمن الدين لذلك الأمر الذي أنكره، حيث يرجع إنكاره حينئذٍ إلى عدم الإقرار بالدين بتمامه وعدم الإذعان له على ما هو عليه، بل إلى التدين والإيمان ببعضه دون بعض، وذلك مخرج عن الدين وموجب للكفر، إذ لابد في الإسلام من الإيمان بجميع ما أنزل الله تعالى إجمالاً على نحو ما أنزل، حتى الشرايع والكتب السابقة، فضلاً عما تضمنته هذه الشريعة المقدسة، وهو لا يجتمع مع إنكار البعض تفصيلاً مع العلم بكونه من الدين والشريعة.

والظاهر لزوم حمل النصوص المذكورة على ذلك، لما تقدم من عدم الكفر بإنكار الضروري للشبهة، ولصعوبة حمل النصوص على خصوص الضروري، لقوة ظهورها في أن المعيار على الجحود والاستحلال بنحو يأبى عن التخصيص. ولاسيما حديث عبد الرحيم القصير المصرح فيه بالعموم لجميع الذنوب صغيرها وكبيرها، لكثرة الذنوب، فيصعب حمله على خصوص الضروري.

بل اشتمال بعض النصوص المذكورة على التفريق بين ارتكاب المعصية من دون استحلال وارتكابها مع الاستحلال، وأن الكفر إنما يكون بالثاني مناسب لكون الثاني أشد جرماً، وحيث كانت الجريمة في الأول مختصة بصورة العلم يكون الأمر معصية، فمن البعيد جداً عموم الثاني لصورة الجهل. ولا أقل من التوقف في مفاد

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 10، 11.

ص: 454

(455)

هذه النصوص، مع البناء على عدم قدح إنكار الضروري بما هو في الإسلام عملاً بالنصوص الشارحة للإسلام المتضمنة للاكتفاء بالشهادتين.

بقي شيء: وهو أن ما سبق إنما يقتضي كفر منكر الضروري إذا كان إنكاره منافياً للإيمان بجميع ما أنزل الله إجمالاً. أما نجاسته حينئذٍ فهي مقتضى إطلاق عموم معقد الإجماع بل عمومه المصرح به في كلام من سبق.

إلا أن ذلك قد ينافي ما هو المعلوم من سيرة الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم مع أئمة الضلالة وأركان النفاق الأولين وأشياعهم وأتباعهم، فإنهم قد أنكروا كثيراً من أصول الدين وفروعه الظاهرة، كولاية أهل البيت (عليهم السلام) وإمامتهم وطهارتهم والمتعتين وغيرها، مع العلم منهم بتشريع تلك الأمور وثبوتها عن الله تعالى، بل وضوح ذلك عند إنكارهم لها، وإن خفيت بعد ذلك على بعض أتباعهم بسبب علماء السوء، الذين حاولوا تبرير أعمالهم، وتكلف المخرج لها بإثارة الشبه، واختلاق الأخبار، وغير ذلك، ومع ذلك لم يعرف منهم تجنب مساورتهم أو التطهير بعدها عند الاضطرار لها. ولو كان البناء بذلك لظهر وبان، لكثرة الابتلاء به جداً.

اللهم إلا أن يقال: لما لم يكن الإنكار عن شبهة موجباً للكفر، فدعوى الشبهة منهم وإن علم بكذبها، للعلم بوضوح الحق لهم، إلا أنها تقبل منهم كما تقبل دعوى الإسلام ممن يعلم بعدم اعتقاده به من المنافقين، لاشتراكهم معهم في الإقرار كذباً بالإسلام وبجميع ما أنزل الله تعالى والإذعان به على إجماله. ويختص الكفر الذي ترتفع به العصمة بما إذا ابتنى إنكار الضروري على عدم الإذعان بالإسلام بالنحو المذكور، استهواناً بأمر الله تعالى وتنزيله الذي بلغ به رسوله، وإعلاناً بمضادته والرد عليه.

نعم عن المفيد في الإرشاد: "روت العامة والخاصة أن قدامة بن مظعون شرب الخمر، فأراد عمر أن يحده فقال: لا يجب علي الحد، إن الله يقول:" ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا"(1). فدرأ عنه الحدّ.

********

(1) سورة المائدة الآية: 93.

ص: 455

فبلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، فمشى إلى عمر فقال: ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرم الله، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلون حراماً. فاردد قدامة فاستتبه مما قال، فإن تاب فأقم عليه الحدّ، وإن لم يتب فاقتله فقد خرج من الملة..."(1). وهو صريح في ثبوت الكفر بإنكار الضروري مع دعوى الشبهة الواضحة البطلان.

لكنه - مع ضعيف سنده - معارض بصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) المتضمن لنقل قصة قدامة بن مظعون بوجه آخر، قال فيه: "أتي عمر بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر وقامت عليه البينة، فسأل علياً (عليه السلام) فأمره أن يجلده ثمانين. فقال قدامة: يا أمير المؤمنين ليس علي حدّ أنا من أهل هذه الآية... فقال علي (عليه السلام): لست من أهلها إن طعام أهلها لهم حلال، ليس يأكلون ولا يشربون إلا ما أحل الله لهم. ثم قال (عليه السلام): إن الشارب إذا شرب لم يدر ما يأكل ولا ما يشرب فاجلدوه ثمانين جلدة"(2).

على أنه يمكن حمل الحديث على الكفر الواقعي، وهدر الدم قد يكون لذلك، لأن اعتصام المنافق بالإسلام قد يكون لمصالح ثانوية، منها المهادنة لحفظ المؤمنين، ونحوها مما قد يختص بما إذا كان الخروج عن الدين الحقيقي خروج فرقة ودعوة خصوصاً إذا كانت ذات شوكة وقوة، أما إذا كان خروجاً فردياً فقد تقتضي المصلحة هدر الدم درءاً لمادة الفساد وقطعاً لأصوله قبل أن يستفحل.

وبالجملة: الحديث - لو كان حجة - إنما يدل على الكفر بإنكار الضروري لشبهة واضحة الفساد بنحو يقتضي هدر الدم، لا بنحو يقتضي النجاسة، فلا يخرج به عما سبق. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 2 من أبواب حدّ السكر حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 3 من أبواب حدّ السكر حديث: 5.

ص: 456

(457)

ولا فرق بين المرتد، والكافر الأصلي (1) الحربي والذمي (2)، والخارجي (3)

والغالي (4)

(1) لإطلاق جملة من الأدلة النقلية، وعموم معقد الإجماع، لو تم الاستدلال بذلك على النجاسة.

(2) لا يخفى أن مقتضى أكثر النصوص المتقدمة دليلاً للطهارة والنجاسة عدم الفرق بين الحربي والذمي، لإطلاق العناوين المأخوذة فيها، كاليهودي والنصراني والمجوسي، ومن خرج عن الإسلام. وكذا جملة من عبارات الأصحاب. فلاحظها.

(3) بلا كلام كما في جامع المقاصد، وإجماعاً كما عن الدلائل. وقد يستدل له بموثق الفضيل:" دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وعنده رجل، فلما قعدت قام الرجل فخرج فقال لي: يا فضيل ما هذا عندك؟ قلت: وما هو؟ قال: حروري. قلت: كافر؟ قال: أي والله مشرك"(1) ، بدعوى: أن مقتضى إطلاق التنزيل النجاسة، بضميمة ما دل على نجاسة الكافر. ويظهر الكلام في ذلك مما يأتي في الناصب، بل يظهر حكم الخارجي أيضاً مما يأتي هناك، لأن الخارجي أظهر أفراد الناصب.

(4) بلا كلام، كما في جامع المقاصد، وإجماعاً، كما عن الدلائل. ولا ينبغي الإشكال في كفره إذا رجعت دعواه إلى ربوبية الأئمة (عليهم السلام) أو أحدهم دون الله تعالى، لأن ركن الإسلام الأول هو ربوبية الله تعالى، دون غيره، فهم خارجون عن الإسلام بإنكار ذلك أو بإنكار نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما عن كشف الغطاء. وما قد يستظهر من الأصحاب من ابتناء كفرهم على إنكار الضروري مع انتحال الإسلام، في غير محله، كتوجيه ذلك في الجواهر بأنهم يعترفون بالصانع.

نعم لا يبعد كون مراد الأصحاب خصوص بعض فرقهم، كمن يدعي حلوله تعالى في الأئمة (عليهم السلام) أو في بعضهم، من دون إنكار لله عز وجل ولا جعل الشريك له،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب حدّ المرتد حديث: 55.

ص: 457

(458)

والناصب (1). هذا في غير الكتابي.

حيث يتعين ابتناء الكفر بذلك على الكفر بإنكار الضروري.

وحينئذٍ يجري فيه ما سبق من عدم وضوح حصول الكفر بذلك إلا إذا كان منافياً للإقرار بما أنزل الله تعالى وبلغ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إجماله، لعلم المنكر باشتمال ما بلغ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما أنكره أو ملازمته له.

نعم استدل في الجواهر على النجاسة - مع قطع النظر عن ذلك - بما رواه الكشي في أمر فارس بن حاتم القزويني الغالي عن الإمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام) من أنه قال: "توقوا مساورته" .لكن المحكي عن الكشي والموجود في موضعين منه أنه (عليه السلام) قال: "توقوا مشاورته" بالشين المعجمة(1). فيكون أجنبياً عما نحن فيه.

اللهم إلا أن يقال: ملاحظة ما ورد في أركان الإسلام تشهد بأن المراد بالتوحيد ليس مجرد تفرد الله عز وجل بالربوبية، بل كون جميع خلقه عبيداً له داخرين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، بل هم خاضعون له مسيرون بتدبيره، والظاهر أن الحلول ينافي ذلك، فيكون الاعتقاد به كفراً بلا حاجة إلى ما ذكرناه في شرط حصول الكفر بإنكار الضروري. فلاحظ.

(1) بلا كلام، كما في جامع المقاصد وعن الدلائل، وعن شرح المفاتيح أن الظاهر عدم الخلاف فيه، وفي مفتاح الكرامة: "لا كلام لأحد في نجاسة الناصب فيما أجده".

وقد يستدل له بوجوه:

الأول: ما تضمن أنهم كفار، كخبر الفضيل بن يسار: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المرأة العارفة هل أزوجها الناصب؟ قال: لا، لأن الناصب كافر"(2). إما بدعوى: ظهوره في كفره حقيقة، كما هو الأصل في الحمل. أو بدعوى: ظهوره في كفره ادعاء

********

(1) رجال الكشي طبع النجف الأشرف ص: 440، 444.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 10 من أبواب ما يحرم بالكفر من كتاب النكاح حديث: 15.

ص: 458

بلحاظ تنزيله منزلة الكافر شرعاً، ومقتضى إطلاق التنزيل النجاسة، نظير ما تقدم في الخارجي.

ومثله في ذلك ما تضمن أن بغضهم (عليهم السلام) كفر(1) ، كما في غير واحد من النصوص. بل هو أظهر منه، لصراحته في إرادة النصب لهم (عليهم السلام)، لا النصب لدعوتهم وشيعتهم الذي شاع إطلاق الناصب عليه في النصوص، والذي لا مجال لاحتمال كونه مستلزماً للنجاسة.

لكنه يشكل - مضافاً إلى ابتنائه على عموم نجاسة الكافر، الذي سبق الكلام فيه - بأن ملاحظة النصوص الكثيرة تشهد بأن الكفر كما يطلق على ما يقابل الإسلام - الذي هو موضوع النجاسة عندهم - كذلك يطلق على ما يقابل الإيمان، إما بلحاظ عدم الإيمان معه بالإسلام الحقيقي التام الذي أنزله تعالى، أو بلحاظ رجوعه للكفر بمقدمات قد تكون خفية، كما تضمنه صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قلت له: أرأيت من جحد إماماً منكم ما حاله؟ فقال: من جحد إماماً من الأئمة وبرئ منه ومن دينه فهو كافر ومرتد عن الإسلام، لأن الإمام من الله ودينه دين الله ومن برئ من دين الله فدمه مباح في تلك الحالة. إلا أن يرجع أو يتوب إلى الله مما قال"(2) ، أو بلحاظ مشاركته للكفر في العذاب الأخروي، نظير ما تضمن الحكم عليه بأنه يهودي أو نصراني(3) ، وإن حكم معه بالإسلام في الدنيا وقُبِل منه إظهاره وترتبت أحكامه، مثل ما تضمن أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، أو جاهلية كفر ونفاق، أو ميتة كفر ونفاق، وما تضمن كفر من لم يعرفهم، أو أنكرهم (عليهم السلام)، أو أنكر واحداً منهم، أو رد عليهم، أو على واحد منهم، أو ادعى منصبهم، أو نحو ذلك مما ذكر جملة منه في الباب العاشر من أبواب حدّ المرتد من الوسائل.

نعم المعنى الأول هو الظاهر من الإطلاق. لكن لا مجال لحمل النصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب حدّ المرتد حديث: 23، 24.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب حدّ المرتد حديث: 38، 11.

ص: 459

المذكورة عليه بنحو ينفع في الاستدلال، إذ المعنى المذكور لا ينطبق على الناصب عرفاً، فلا مجال للبناء على كون الحمل معه في النصوص حقيقياً. والبناء على أن الحمل فيها ادعائي بلحاظ تنزيله منزلة الكافر شرعاُ ليس بأولى من البناء على حمل الكفر فيها على ما يقابل الإيمان، الذي لا ينفع في البناء على النجاسة.

الثاني: ما تضمن الحكم بالنجاسة، كموثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: "وإياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت فهو شرهم، فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه"(1).

قال سيدنا المصنف (قدس سره):" والخدشة في الدلالة بأن النجاسة القابلة للزيادة والنقيصة هي الباطنية. مندفعة بمنع ذلك ضرورة. كالخدشة بأنه مسوق مساق ولد الزنا والجنب ممن كانت الخباثة فيه باطنية. وجه الاندفاع: أنه لا مانع من كون النجاسة الخارجية العينية أيضاً موجبة للخباثة المعنوية، فيكون الجميع بنحو واحد وإن اختلفت الموارد، فالسياق المذكور لا يوجب رفع اليد عن ظاهر الفقرة في النجاسة العينية. فتأمل".

لكن الإنصاف أن ظهور التعبير بالنجاسة في عصر صدور الرواية في النجاسة الخبيثة ليس بحدّ ينهض بالاستدلال بعد سوق الرواية لبيان الخباثة المعنوية، ولاسيما مع عدم ورودها لبيان حكم الناصب، بل للتنفير عن استعمال غسالة الحمام الذي ادعى أهل المدينة في أن الغسل به شفاء من العين(2). خصوصاً بعد ملاحظة خبر ابن أبي يعفور الآخر عنه (عليه السلام):" قال: لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمام فإن فيها غسالة ولد الزنا، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء، وفيها غسالة الناصب، وهو شرهما، أن الله لم يخلق خلقاً شراً من الكلب، وأن الناصب أهون على الله من الكلب"(3).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الماء المضاف والمستعمل حديث: 5، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الماء المضاف والمستعمل حديث: 4.

ص: 460

الثالث: أنه منكر للضروري، فيكون كافراً. لكن ذلك - مع ابتنائه على عموم نجاسة الكافر - إنما يتم فيمن نصب لهم (عليهم السلام) رداً على ما أنزله الله تعالى فيهم وجعله لهم من المقام الرفيع، لالتفاته لذلك، ولا يتم فيمن اشتبه عليه الحال بسبب طمس الظالمين للحقائق، كما هو الحال في كثير من النصاب.

هذا كله مضافاً إلى ما هو المعلوم من شيوع الابتلاء بالنصاب من الصدر الأول، حتى جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) علماً يعرف به المؤمن من المنافق والطيب من الخبيث وقد عرف بذلك حتى كانت الأنصار تمتحن أولادها بحبه وبغضه، وحتى قال من قال:

"وفينا الغش والذهب المصفى علي بيننا شبه المحك"

وقد ظهر بغض جماعة كثيرة ونصبهم له (عليه السلام) ولعموم أهل البيت (عليهم السلام) حتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواقفهم منهم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلاً عما بعدها، حيث تحزبوا ضدهم ومنعوهم حقهم وفعلوا معهم الأفاعيل وجرى على ذلك من جرى جيلاً بعد جيل، حتى صار ذلك ديناً يتدين به الضالون والمارقون. ولو كان البناء على النجاسة لظهر وبان، بل لاضطرب الأمر على المؤمنين ووقعوا في أعظم الحرج، بل لتعرضوا للمهالك لو ظهر ذلك عنهم، ولردود الفعل المناسبة، وأظهرها الحكم بنجاستهم... إلى غير ذلك مما لا يخفى على من أمعن النظر. فالحكم المذكور لا يناسب الهدنة التي صرحت النصوص ببقائها حتى ظهور القائم عجل الله فرجه وغلبة سلطان الحق به.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن كثيراً ممن كان يظهر بغضهم (عليهم السلام) إنما يظهره تقية - خصوصاً في عصر بني أمية - من دون أن يكون مبغضاً لهم واقعاً، وقيام السيرة على طهارة المبغضين واقعاً ممنوعة.

فهو كما ترى فإن كثرة المبغضين لهم (عليهم السلام) وشيوع الابتلاء بهم بنحو لا يناسب نجاستهم من الصدر الأول من الظهور بحدّ لا يقبل الإنكار، بل ولا التشكيك.

ص: 461

ومثله ما ذكره من إمكان أن يكون الحكم بنجاسة الناصب قد انتشر في زمان الصادقين (عليهما السلام)، إذ كثير من الأحكام كان مخفياً قبل ذلك. إذ فيه: أن ذلك قد يتم فيما لا يكون مورداً للابتلاء والعمل في الصدر الأول، أما ما كان مورداً لذلك - كالنجاسة في محل الكلام - فلابد من ظهور حكمه في الصدر الأول ولو بمقتضى إقرار المعصومين (عليهم السلام) أو سيرتهم، وحينئذٍ لو كان المستفاد من ذلك ما لا يناسب البيانات الصادرة عن الصادقين (عليهما السلام) تعين الجمع العرفي مع إمكانه، وهو يقتضي في المقام حمل ما ظاهره النجاسة على كراهة المباشرة أو على الخباثة الباطنية أو نحو ذلك.

على أنه لو تعلق الغرض ببيان حكم سبق إخفاؤه للمصلحة فالمناسب كثرة البيانات الشرعية به وتوضيحها له وتأكيدها عليه حتى يتوجه المتشرعة له ويتبينوه بعد غفلتهم عنه، لا الاقتصار في بيانه على مثل موثق ابن أبي يعفور الوارد لبيان حكم آخر، أو على مثل الحكم بكفر الناصب الذي يحتاج استفادة النجاسة منه إلى كلفة ومقدمات مطوية قد تخفى.

ومن الغريب ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) انتصاراً لشيخنا الأعظم (قدس سره) من أن النواصب إنما كثروا في دولة بني أمية التي قامت على بغض أهل البيت والنصب لهم. ولعل الأئمة إنما لم يعلنوا نجاستهم لشيعتهم رأفة بهم، لئلا يقعوا في الحرج بسبب كثرة ابتلائهم بمخالطتهم أو تقية عليهم، وإنما أظهروها بعد ذلك في دولة العباسيين الذين كانوا يوالونهم ظاهراً، خصوصاً المأمون، ولم يعلم من سيرة الأئمة (عليهم السلام) مساورة النصاب بأنفسهم، فلا مخرج عن الرواية المتضمنة لنجاستهم.

حيث يظهر اندفاعه مما سبق من كثرة النواصب من الصدر الأول، وظهور سكوت الأئمة فيه وفيما بعده عن تنبيه شيعتهم لنجاستهم في عدمها بنحو يصلح قرينة على حمل الرواية - لو تمت دلالتها بدواً - على ما يجتمع مع الطهارة الخبيثة.

واختلاط الأئمة (عليهم السلام) وخواصهم في جميع العصور موجب للعلم العادي بمخالطتهم لهم، بحيث لو كان البناء على عدم مباشرتهم برطوبة، والتطهير منهم

ص: 462

(463)

أما الكتابي فطاهر في نفسه (1)، وينجس بالنجاسات التي يلاقيها، فإذا طهر نفسه منها فسؤره طاهر (2)

لو حصل ذلك اضطراراً، لظهر وبان، ولم يخف على شيعتهم ومواليهم. بل سبق أن الحكم المذكور لا يناسب الهدنة التي رحم الله تعالى بها الشيعة، ومنّ بها عليهم، وحقن بها دماءهم.

فلم يبق في المقام إلا الإجماع وقد سبق منا الإشكال فيه في الكافر، وهو في المقام أوهن وأشكل بملاحظة ما ذكرنا من السيرة. ومن ثم لا ينبغي التأمل في الطهارة. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. ومنه نستمد التوفيق والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) كما يظهر مما تقدم. وقد ألحق (قدس سره) هذا الاستثناء في أواخر أيام حياته بعد أن أعلن عدوله عن عموم نجاسة الكافر.

(2) هذا ولو شك في نجاسته العرضية فقد يدعى أن الأصل فيه النجاسة حملاً للنصوص الدالة على النجاسة على النجاسة الظاهرية العرضية التي يكثر تعرضهم لها ويقوى احتمالها فيهم. أو لبعض النصوص الآمرة بالغسل، مثل قوله (عليه السلام) في صحيح إبراهيم بن أبي محمود المتقدم في الجارية النصرانية تخدمك: "لا بأس تغسل يديها"(1) ، وما ورد في تغسيل الذمي للمسلم من الأمر باغتساله قبل ذلك.

ويشكل الأول بعدم الشاهد على الحمل المذكور، وليس هو بأولى من حمل النصوص المذكورة على الاستحباب أو كراهة المساورة. بل ذلك هو الظاهر بعد ظهور جملة من نصوص الطهارة في جواز المباشرة فعلاً بنحو لا يناسب النجاسة الظاهرية العرضية.

والثاني بأنه لا ظهور لصحيح إبراهيم في الأمر بغسل اليد، بل في بيان المبرر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 11.

ص: 463

(464)

ويجوز أكل الطعام الذي يباشره (1).

(الحادي عشر): عرق الجنب من الحرام (2)، وفي عموم

لمساورة الجارية مع ابتلائها بالنجاسة العرضية. فهو وارد لبيان زوال النجاسة بغسل اليد، لا لبيان وجوب غسل اليد ظاهراً عند احتمال النجاسة العرضية. والأمر باغتسال الذمي عند تغسيل المسلم حكم تعبدي خاص لا يتعدى عن مورده، ولا يشهد بالمدعى، لأن الاغتسال قد لا يوجب التطهير لقلة الماء الذي يغتسل به، كما أنه يكفي في التطهير الذي يتوقف عليه التغسيل غسل اليدين. كما لعله ظاهر.

نعم لا مجال للبناء على مطهرية غيبة الكافر لو علم ابتلاؤه بالنجاسة، لاختصاص دليل مطهرية الغيبة بالمسلم، على ما يأتي في محله. فاللازم الرجوع للقواعد المقتضية للبناء على الطهارة الظاهرية عند الشك في النجاسة، وكذا مع العلم بتعاقب الحالتين من التنجيس والتطهير ولو غير المقصود مع الجهل بالتاريخين أو العلم بتاريخ التطهير والجهل بتاريخ التنجيس. أما لو علم بتاريخ التنجيس وجهل تاريخ التطهير، بحيث لم يعلم سبقه على التنجيس ولحوقه له فاللازم البناء على النجاسة، لاستصحابها. وكذا لو علم بتاريخ التنجيس وشك في أصل التطهير لا في تاريخه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) يعني مع طهارة الطعام ذاتاً وعدم إحراز نجاسته، دون مثل اللحوم التي لم يحرز تذكيتها، بل كان مقتضى الأصل عدمها، وترتب آثار الميتة عليها، ومنها النجاسة.

(2) كما عن القاضي ومحكي ابن الجنيد، وظاهر الأمر بغسل الثوب منه في النهاية. وقد يحمل عليه ما في المقنعة من الأمر بغسل الثوب منه والعمل في الطهارة بالاحتياط وقد نسبه للأصحاب في الغنية والمراسم، وإلى أحد القولين في الوسيلة، وفي المبسوط:" وجب غسل ما عرق فيه على رواية بعض أصحابنا".

وقد يستفاد من المنع من الصلاة في الثوب الذي يصيبه في محكي رسالة الصدوق

ص: 464

الأول وفي الفقيه والخلاف مدعياً في الأخير أن عليه إجماع الإمامية وأخبارهم التي ذكرها في التهذيبين، وعن أمالي الصدوق أنه من دين الإمامية. وقد نسبه في موضع آخر من المبسوط إلى رواية أصحابنا.

لكن قال:" ويقوى في نفسي أن ذلك تغليظ في الكراهة، دون فساد الصلاة لو صلى فيه "وفي المراسم:" وهو عندي ندب ".وأصرّ في السرائر على طهارته ناسباً ذلك للمفيد في رسالته إلى ولده، وحكى ما تقدم من المبسوط، ثم قال:" والغرض من هذا التنبيه إلى أن من قال: إذا كانت الجنابة من حرام وجب غسل ما عرق فيه، رجع عن قوله في كتاب آخر، فقد صار ما اخترناه إجماعاً ".وعليه جرى في الشرايع والنافع وفي المختلف والقواعد، ونسب للشهدين وغيرهما، بل المشهور بين المتأخرين.

وكيف كان فقد استدل في التهذيب لوجوب الغسل احتياطاً للطهارة بعد أن ذكر ما سبق من المقنعة بموثق الحلبي أو صحيحه:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره. قال: يصلي فيه، وإذا وجد الماء غسله"(1) ، بدعوى: أنه لما كانت الجنابة لا تتعدى إلى الثوب، ولم يكن عرق الجنب منجساً له، تعين حمله على الجنابة من الحرام.

لكنه كما ترى، إذ لا شاهد لحمل الحديث على ذلك بعد عدم الإشارة فيه للعرق، بل هو ظاهر فيما احتمله في التهذيب وقربه في الاستبصار من إصابة الثوب بنجاسة المني، فيكون أجنبياً عن محل الكلام.

ومثله في ذلك صحيح أبي بصير: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب يجنب فيه الرجل ويعرق فيه. فقال: أما أنا فلا أحب أن أنام فيه، وإن كان الشتاء فلا بأس ما لم يعرق فيه"(2). فإنه وإن احتمل في الاستبصار حمله على الجنابة من الحرام، إلا أنه لا شاهد عليه، بل لا مجال له بعد قوله (عليه السلام):" أما أنا فلا أحب أن أنام فيه ".ولعله لذا قرب في الاستبصار حمله على الكراهة، بل قال" وهو صريح فيه".

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات حديث: 11، 10.

ص: 465

ومنه يظهر ضعف ما سبق من الخلاف، إذ لم يذكر في التهذيبين من الأخبار في المسألة إلا الحديثين المتقدمين. كما يقرب تنزيل ما سبق من المبسوط عليهما أيضاً. إذ من البعيد جداً أن يريد غيرهما مع اقتصاره عليهما في كتابي الأخبار.

لكن استظهر بعض مشايخنا أن المراد به مرسل علي بن الحكم عن أبي الحسن (عليه السلام) المروي في الكافي، قال (عليه السلام) في حديث:" لا تغتسل من غسالة ماء الحمام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، ويغتسل فيه ولد الزنا، والناصب لنا أهل البيت، وهو شرهم"(1). واستشكل فيه - مع ضعف السند - بأنه لا يدل على نجاسة عرق الزنا، بل على نجاسة بدنه، مع عدم الإشكال في طهارته، مع أنه معارض بما دل على طهارة بدنه.

أقول: لم يتضح عاجلاً مراده بما دل على طهارة بدن الزاني. ولو تم الدليل على نجاسة بدنه كفى في البناء على نجاسة عرقه.

فالعمدة أن الحديث لا يدل على نجاسة بدن الزاني، لأن النهي عن غسالة غسله قد يكون لعدم صحة الاغتسال بغسالة مطلق الجنب فضلاً عن الزاني، أو للاستخباث والاستقذار، أو بلحاظ الأثر الوضعي، ردعاً عما يدعيه أهل المدينة من أن فيه شفاء من العين، كما أشرنا إليه آنفاً وتضمنه خبر محمد بن علي بن جعفر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) المروي في الكافي أيضاً أنه (عليه السلام) قال في حديث: "من اغتسل من الماء الذي اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلا نفسه. فقلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن أهل المدينة يقولون إن فيه شفاء من العين. فقال: كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام، والزاني، والناصب الذي هو شرهما، وكل من خلق الله، ثم يكون فيه شفاء من العين؟!"(2). على أنه من البعيد جداً كون مراد الشيخ في المبسوط هو الحديث المذكور مع أن الذي ذكره هو في التهذيبين ما سبق. فلاحظ.

هذا وقد يستدل بل استدل أيضاً بما في الذكرى بعد نقله عن المبسوط ما تقدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات حديث: 13.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

ص: 466

من نسبة ذلك إلى رواية أصحابنا:" ولعله محمد بن همام بإسناده إلى إدريس بن يزداد الكفرتوتي أنه كان يقول بالوقف، فدخل سر من رأى في عهد أبي الحسن عليه السلام، وأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أيصلى فيه؟ فبينما هو قائم في باب طاق لانتظاره عليه السلام إذ حركه أبو الحسن عليه السلام بمقرعة، وقال مبتدئاً: إن كان من حلال فصل فيه، وإن كان من حرام فلا تصل فيه"(1). ونحوه ما رواه في المناقب عن علي بن مهزيار عنه(2) (عليه السلام) وما رواه في البحار عن كتاب عتيق عن علي بن يقطين بن موسى الأهوازي(3). ونحوها أيضاً الرضوي(4).

وقد استشكل فيها غير واحد بضعف السند. ودفعه سيدنا المصنف (قدس سره) بإنجبارها بعمل الأصحاب. لكن لم يتضح عملهم بالنصوص المذكورة بعد ما سبق من ظهور حال الشيخ في أن النصوص المعول عليها عند الأصحاب في المسألة هي النصوص الأول، حيث لا طريق معه لإحراز اعتمادهم في الحكم على هذه النصوص مع عدم إشارتهم إليها، وعدم ذكرها في كتب الحديث المعتمدة. بل لا يتضح وجود فتوى معتد بها من غير الصدوقين بعد اضطراب الشيخين في الفتوى والاستدلال، وظهور كلامهما في المقنعة والتهذيب في ابتناء الحكم على الاحتياط، كما قد يوهم ذلك محكي كلام ابن الجنيد على ما نقله في الجواهر، وبعد عدم عثورنا على كلام القاضي إذ قد يحتمل الخطأ في فهم كلامه ونقله، وهذا المقدار من الفتوى لا يكفي في جبر ضعف النص. فلاحظ.

نعم تعدد النصوص المتقدمة قد يوجب الوثوق بصدور بعضها وصحة مضمونها إجمالاً عدا الرضوي الذي لم يعلم كونه لسان رواية بل قد يكون فتوى

********

(1) ذكرى الشيعة ج: 1 ص: 120 واللفظ له. وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات حديث: 12. ورواه بتفصيل عن كتاب إثبات الوصية للمسعودي في مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(2) المناقب ج: 3 ص: 516 طبع النجف الأشرف.

(3) بحار الأنوار ج: 5 ص: 188 الطبعة الحديثة.

(4) فقه الرضا ص: 4.

ص: 467

لبعض الأصحاب.

لكن في كفاية ذلك في الحجية إشكال بعد ظهور تجاهل مثل الشيخ للروايات المذكورة. ولاسيما أن الامتحان الذي تضمنته هذه النصوص أو أكثرها يناسب سبق علم الراوي بالحكم على ما يطابق الجواب مع عدم ظهور منشئه بعد خلوّ النصوص المعروفة بين الأصحاب عن التعرض للتفصيل المذكور، بل قد أطلق في جملة منها عدم البأس بعرق الجنب والحائض(1).

بل من غريب المصادفات صدور الامتحان المذكور من ثلاثة أشخاص مع الإمام الهادي (عليه السلام) دون بقية الأئمة (عليهم السلام) من دون سابق اتفاق بينهم.

على أن من البعيد صدق رواية علي بن مهزيار، لأنه من الأعيان الأجلاء المختصين بالأئمة الثلاثة الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) فكيف يمكن بقاؤه شاكاً في الإمامة إلى دخول الإمام الهادي (عليه السلام) إلى سامراء في عهد المتوكل الذي بويع بعد إمامته (عليه السلام) باثنتي عشرة سنة. بل قد تضمنت بعض الروايات أنه ممن يختص به (عليه السلام) ويستعين (عليه السلام) به في أموره قبل خلافة المتوكل بأربع سنين(2).

ومن ثم يحتمل الخلل في نقل الروايات، حيث يحتمل معه خفاء بعض القرائن الموجبة لحمل التفصيل على الكراهة أو شدتها. بل قد يضعف ظهورها في الحرمة بلحاظ عدم ورودها من أجل العمل، بل من أجل الامتحان مع علم السائل بالحكم العملي، حيث يمكن اكتفاء الإمام (عليه السلام) بعلم السائل بالكراهة عن إقامة القرينة عليها. فتأمل جيداً.

هذا مضافاً إلى أن هذه النصوص إنما تضمنت مانعية العرق من الصلاة في الثوب، وهي أعم من نجاسته. وأما ما في الرياض من أن الملازمة بين الحكمين هنا ثابتة بناء على عدم القائل بالمانعية من الصلاة ممن يذهب للطهارة فالقول بالمانعية دون

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات.

(2) بحار الأنوار ج: 50 ص: 131 الطبعة الحديثة.

ص: 468

بقية أحكام النجاسة إحداث قول ثالث. فيشكل بعدم كفاية ذلك في الاستدلال. إلا أن يرجع إلى الإجماع على الملازمة، ولا طريق لتحصيله. ولاسيما مع عدم تجلي الفرق بين النجاسة والمانعية من الصلاة في جملة من كلمات القدماء.

بل قال في الفقيه: "وإذا عرق في ثوبه وهو جنب فليتنشف فيه إذا اغتسل، وإن كانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة فيه وإن كانت من حرام فحرام الصلاة فيه" .وإطلاق جواز التنشف بالثوب مع التفصيل في جواز الصلاة قيه ظاهر في طهارته مطلقاً وإن كانت الجنابة من حرام وإنما حرمت الصلاة فيه حينئذٍ لا غير، ولا مجال معه لدعوى الملازمة.

نعم قرب سيدنا المصنف (قدس سره) دلالة النصوص المذكورة على النجاسة بأنه لما لم يمكن الجمود على ظاهرها من عموم المنع عن الصلاة في الثوب وإن غسل يتعين إما حمله على صورة وجود العرق المذكور حال الصلاة أو على عدم الغسل بالماء، والثاني أقرب، لانصراف السؤال إلى حيثية النجاسة والطهارة لعرق الجنب، كما يظهر من النصوص الواردة في نفي البأس عن عرق الجنب.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن إناطة المنع من الصلاة بعدم الغسل لا يستلزم النجاسة، بحيث ينفعل الملاقي للثوب وإن جف. بل قد يكون بلحاظ مانعية العرق ولو بلحاظ أثره الباقي بعد الجفاف، والذي لا يزول عرفاً إلا بالغسل بالماء الذي ينحصر به التنظيف عرفاً.

وبعبارة أخرى: العرق ليس كالماء يزول عرفاً بالجفاف، بل هو من سنخ الوسخ الذي يبقى ببقاء أثره ولا يزول إلا الغسل، وحينئذٍ فالمنصرف من إطلاق مانعيته من الصلاة في الثوب مانعيته بلحاظ أثره العرفي المذكور الذي لا يزول إلا بالغسل، ولا ملزم بحمل الإطلاق على مانعيته بلحاظ النجاسة التي تسري بالملاقاة بالرطوبة وإن شاركت الأثر المذكور في الزوال بالغسل.

ومن ثم لا مجال للخروج عن إطلاق النصوص المتضمنة عدم البأس بعرق

ص: 469

(470)

الحكم للحرام بالعارض، سواءً أكانت من جهة الفاعل - كالصائم - أم القابل - كالحائض - أم نفس الفعل - كالوطء المنذور تركه - إشكال (1)، والعموم أحوط وجوباً.

(الثاني عشر): عرق الإبل الجلالة (2)، دون غيرها من الحيوان الجلال.

الجنب(1) المطابقة لمقتضى الأصل. بل يشكل البناء على المانعية من الصلاة بعد ما سبق من الإشكال في سند هذه النصوص. وإن كان الاحتياط في ذلك حسناً أو لازماً. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) قال في المنتهى: "لا فرق بين أن يكون الجنب رجلاً أو امرأة، ولا بين أن تكون الجنابة من زنا أو لواط أو وطء بهيمة أو وطء ميتة وإن كانت زوجة [زوجته] أو وطأ محرماً... والاستمناء باليد كالزنا، أما الوطء في الحيض أو الصوم فالأقرب طهارة العرق فيه، وفي المظاهرة إشكال" .وفي طهارة شيخنا الأعظم (قدس سره): "ولعل وجه الحكم بالطهارة في الوطء في الصوم والحيض أن المتبادر من الجنابة من الحرام كون الحرمة من جهة الفاعل أو القابل، لا من جهة نفس الفعل" .وذكر سيدنا المصنف (قدس سره) إن مقتضى الإطلاق عدم الفرق بين الحرمة من جهة الفاعل والقابل ونفس الفعل وإن كانت دعوى الانصراف إلى خصوص الوطء لا تخلو من وجه.

لكن من القريب جداً عموم الانصراف للزنا واللواط ووطء البهيمة والاستمناء، وإن سقطت حرمتها للضرورة أو لرفع القلم، دون مثل وطء الشبهة، فضلاً عما حرم بجهة عرضية، كالوطء حال الصوم أو الحيض، بل حتى المظاهرة، حيث يقرب جداً الانصراف عن ذلك فتأمل جيداً.

(2) كما في المقنعة والتهذيب والنهاية والمبسوط والمنتهى وكشف اللثام وعن القاضي وغيره. وقد يستظهر من الكليني والصدوق، بل عن اللوامع نسبته

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات.

ص: 470

للصدوقين. ونسب لأصحابنا في الغنية والمراسم. لصحيح حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة، وإن أصابك شيء من عرقها فاغسله"(1) ، وصحيح هشام بن سالم عنه (عليه السلام):" قال: تأكل اللحوم الجلالة، وإن أصابك من عرقها فاغسله"(2).

وذهب إلى الطهارة في المراسم والشرايع والنافع والقواعد والمختلف والدروس والذكرى وغيرها، بل لعله المشهور بين المتأخرين. حملاً للصحيحين على الاستحباب لوجوه ذكرها في الجواهر ترجع إلى أمرين:

الأول: ما دلّ على طهارة سؤرها المناسب لطهارة عرقها، وما دل على طهارتها، لأن العرق تابع للحيوان في الطهارة والنجاسة ولاسيما مع عدم خلوها عن العرق جافاً ورطباً، فلو كان العرق نجساً لم يكن الحكم بطهارتهما عملياً. بل هو لا يناسب ما دل على جواز ركوبها وحمل الأثقال عليها ونحوهما مما هو مستلزم للعرق غالباً من دون أمر بالتجنب أو التحفظ من المباشرة.

كما أنه لا يناسب ما دل على طهارتها بالإستبراء من غير أمر بتطهير الجسد لو كان قد عرق. ودعوى: حصول الطهارة له تبعاً. ممنوعة، إذ ليس المستفاد منه إلا حلّ الأكل، لا طهارة البدن من النجاسة العرضية، وليس هو من زوال العين المطهر للحيوان، لفرض وجوده جافاً.

مضافاً إلى استبعاد الفرق بينها وبين ما يحرم أكله بالأصل من الحيوان أو بالجلل من غير الإبل، كاستبعاد الفرق بين العرق وغيره من الفضلات مما لا يدخل تحت عنوان نجس، كاللعاب.

وفيه: أنه لا دليل بالخصوص على طهارتها وطهارة سؤرها، بل العمدة فيها الأصل المؤيد في الجملة ببعض النصوص، وحينئذٍ لا مجال لرفع اليد بذلك عن ظاهر الصحيحين.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب النجاسات حديث: 2، 1.

ص: 471

بل إن تمت منافاة نجاسة عرقها لطهارتها وطهارة سؤرها تعين رفع اليد عن طهارتهما لأجل الصحيحين. ولعله عليه يبتني ما عن ابن الجنيد والمرتضى والشيخ وغيرهم من نجاسة سؤرها. وإن لم تتم المنافاة - كما هو الظاهر - فلا وجه لرفع اليد عن الصحيحين.

وكذا الحال في جواز ركوبها، حيث لا دليل عليه بالخصوص، بل تضمن النهي عنه في موثق بسام الصيرفي عن أبي جعفر (عليه السلام): "في الإبل الجلالة قال: لا يؤكل لحمها ولا تركب أربعين يوماً"(1). فإن حمل على الحرمة كان مناسباً لنجاسة العرق، وإن حمل على الإرشاد لتجنب النجاسة كان مؤيداً أو دليلاً على نجاسته.

وأما عدم الأمر بالتطهير من العرق بعد الإستبراء، فيمكن ابتناؤه على طهارة الحيوان بزوال عين النجاسة، إذ المراد به زوالها بما لها من وجود عرفي ظاهر، لا ما يعم زوال الأثر الباقي عند الجفاف، ولذا لا إشكال في طهارة جسم الحيوان من البول والعرق النجسين ونحوهما بالجفاف بنحو لا يبقى له معه وجود ظاهر.

ولو غض النظر عن ذلك فالجمع بين الصحيحين وعدم التنبيه للتطهير بعد الإستبراء إنما يكون عرفاً بالبناء على الطهارة تبعاً، لا برفع اليد عن ظهور الصحيحين في الوجوب، كما يظهر بملاحظة النظائر.

واستبعاد الفرق بين الإبل الجلالة وغيرها مما يحرم أكل لحمه بغير الجلل في غير محله بعد كون سبب التحريم في الجلالة هو أكل العذرة النجسة. على أنه لو تم لا يبلغ مرتبة الحجية. وأما الفرق بينها وبين بقية الجلالات فيظهر الكلام فيه مما يأتي.

وأما الفرق بين العرق وغيره من فضلات الإبل الجلالة - كالريق - فيجري فيه ما سبق في طهارة السؤر، كما يظهر بأدنى تأمل. بل ليس الفرق بينه وبينها في الطهارة بأبعد من الفرق بينه وبين البول في النجاسة، وليس هو ينهض بإثبات حكم شرعي.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3.

ص: 472

الثاني: أنه بعد ظهور كلام الأصحاب في اختصاص احتمال النجاسة بعرق الإبل الجلالة دون بقية الجلالات، حيث لم ينقل العموم عن غير النزهة، فلابد إما من حمل صحيح هشام بن سالم بإطلاقه على الاستحباب وجعله قرينة على حمل صحيح حفص عليه أيضاً، وإما من إبقاء صحيح حفص على ظاهره في الوجوب مع كونه مخصصاً لصحيح هشام، أو قرينة على حمله على الأعم من الوجوب والاستحباب، أو على حمل الجلالة فيه على خصوص الإبل، أو على عود الضمير على خصوصها. وليس الثاني بأولى من الأول، بل الأول هو الأولى. ولاسيما مع إعراض المشهور عن القول بالنجاسة في عرق الإبل.

ويندفع بأن الأظهر هو الجمع بين الصحيحين حينئذٍ بحمل صحيح هشام على الأعم من الوجوب أو الاستحباب أو على إرادة خصوص الإبل لقرينة خفيت علينا، كما يظهر بملاحظة النظائر. على أن ظهور حال الأصحاب في عدم احتمال عموم النجاسة لغير الإبل من الجلالات إنما هو لاقتصار القدماء على الإبل. ولعله للجمود على صحيح حفص، حيث كثيراً ما تكون فتاواهم مطابقة للنص، من دون إعراض منهم عن مفاد بقية النصوص، أو للاجتهاد منهم في الجمع بين الصحيحين، من دون أن يبلغ مرتبة الإجماع الحجة المخرج عن إطلاق صحيح هشام، ولاسيما مع عموم مرسل الصدوق:" قال: ونهى (عليه السلام) عن ركوب الجلالة وشرب ألبانها، وقال: إن أصابك شيء من عرقها فاغسله"(1). حيث لا يبعد كونه منقولاً بالمعنى بعد الجمع بين الصحيحين، ويظهر منه العمل على ذلك.

ومع ذلك كيف يمكن الخروج عن ظاهر صحيح هشام وحمله على الاستحباب، فضلاً عن جعله قرينة على حمل صحيح حفص عليه. ومنه يظهر ضعف ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من سقوط صحيح هشام عن الحجية بإعراض الأصحاب. ولعله لذا ذهب في كشف اللثام ومحكي النزهة للعموم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

ص: 473

(474)

هذا وقد استشكل بعض مشايخنا في دلالة الصحيحين على النجاسة بأن اشتمال صدرها على النهي عن أكل لحم الجلال وشرب لبنه صالح للقرينية على أن الأمر بالغسل ليس بلحاظ النجاسة، بل بلحاظ المانعية من الصلاة المتفرعة على كون الجلال محرم الأكل، فإن كل ما يحرم أكل لحمه يحرم الصلاة في أجزائه وفضلاته.

لكنه غير ظاهر بعد عدم الإشارة في الصحيحين للصلاة، وخصوصاً في صحيح حفص، الذي تضمن صدره النهي عن شرب اللبن، لعدم تفرع المانعية المذكورة عليه إلا بعناية التلازم بينهما، لكونهما معلولين لعلة واحدة، ولا إشارة لذلك فيه. بل هو لا يناسب تخصيص الأمر بالغسل بالعرق دون اللبن مع ذكره أيضاً فيه. ومن ثم لا مخرج عن ظهور الصحيح بل الصحيحين في النجاسة.

بقي شيء: وهو أن الأصحاب قد تعرضوا لاحتمال النجاسة في جملة من الأمور غير ما تقدم.

منها: بعض الحيوانات الصامتة. وقد تقدم الكلام فيها في ذيل الكلام في نجاسة الكلب والخنزير.

ومنها: ولد الزنا. إما للبناء على كفره، أو لما تضمن تعليل النهي عن الاغتسال بغسالة الحمام بأنه يغتسل منه الزاني مما تقدم بعضه في مبحث نجاسة عرق الجنب من الحرام.

ويندفع الأول بمنع الصغرى. وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في ذيل المسألة الرابعة من فصل تغسيل الميت. كما يظهر مما تقدم في نجاسة الكافر الإشكال في الكبرى، خصوصاً بنحو تشمل المقام.

كما يندفع الثاني بما تقدم في مبحث نجاسة عرق الجنب من الحرام من أن تعليل النهي عن الغسل بغسالة الحمام لا يدل على النجاسة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

ص: 474

انتهى الكلام في فصل عدد الأعيان النجسة شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين) تأليف سيدنا الأستاذ الجد الفقيد السعيد آية الله العظمى (السيد محسن الطباطبائي الحكيم) (قدس سره). وكان ذلك نهار الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر شوال من السنة السادسة عشرة بعد الألف والأربعمائة للهجرة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التحية. بقلم العبد الفقير إلى الله تعالى (محمد سعيد) عفي عنه نجل سماحة حجة الإسلام والمسلمين آية الله السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته، في داره في النجف الأشرف ببركة الحرم المقدس المشرف على مشرفه الصلاة والسلام. والحمد لله رب العالمين وصلواته على رسوله الكريم وآله الغر الميامين. ومنه نستمد العون والتوفيق والتأييد والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 475

ص: 476

فهرست تفصيلى

(5)غسل الجمعة5

(8)وقت غسل الجمعة8

(13)بقي في المقام أمران (الأول): الكلام في مشروعية القضاء مع الفوت عن عذر وبلا عذر13

(13)(الثاني): الكلام في مشروعية القضاء بعد السبت13

(14)الكلام في تقديم غسل الجمعة يوم الخميس14

(17)الكلام في صحة غسل الجمعة من الجنب والحائض17

(18)غسل يوم العيدين18

(20)غسل يوم عرفة20

(22)غسل يوم التروية ويوم الغدير22

(24)غسل يوم المباهلة24

(25)غسل يوم مولد النبي (ص) ويوم نوروز25

(26)أغسال شهر رجب26

(27)أغسال شهر رمضان27

(32)باقي الأغسال المندوبة32

(35)الكلام في ناقضية الحدث الأكبر للأغسال الزمانية35

(35)

ص: 477

الكلام في الأغسال المكانية35

(39)وقت الأغسال المكانية39

(40)الكلام في الأغسال الفعلية40

(46)الكلام في مشروعية التيمم بدلاً عن الأغسال المستحبة عند تعذرها46

(49)المبحث الخامس: التيمم49

(55)الفصل الأول في مسوغات التيمم (الأول): عدم وجدان الماء55

(57)وجوب الفحص وعدمه مع العلم بفقد الماء57

(62)إذا علم بوجود الماء في الفلاة62

(66)جواز الاستنابة في الطلب66

(68)إذا علم بوجود الماء خارج الحد68

(70)إذا طلب الماء قبل دخول الوقت70

(74)سقوط الطلب مع ضيق الوقت74

(75)إذا ترك الطلب وصلى بعد ضيق الوقت75

(80)إذا تبين وجود الماء بعد طلبه وعجزه عن حصوله80

(84)(المسوغ الثاني): عدم التمكن من الوصول إلى الماء والكلام فيه84

(90)(المسوغ الثالث): خوف الضرر من استعماله والكلام فيه90

(92)بقي أمران (الأول): الكلام في الإعادة لمن تيمم لخوف الضرر92

(94)(الثاني): عدم الفرق بين متعمد الجنابة وغيره94

(98)(المسوغ الرابع): خوف العطش98

(100)(المسوغ الخامس): توقف تحصيله على الاستيهاب الموجب لذله والكلام فيه100

(101)(المسوغ السادس): أن يكون مبتلى بواجب يتعين صرف الماء فيه101

(106)(المسوغ السابع): ضيق الوقت والكلام فيه106

(110)إذا خالف المكلف فتوضأ في مورد الحرج110

ص: 478

(112)استحباب التيمم إذا آوى إلى فراشه ناسياً للوضوء112

(113)التيمم لصلاة الجنازة113

(115)الفصل الثاني فيما يتيمم به الكلام في التيمم بما يسمى أرضاً115

(122)الكلام في اعتبار علوق شيء من الأرض باليد في التيمم وعدمه122

(125)عدم جواز التيمم بما لا يصدق عليه اسم الأرض125

(132)عدم جواز التيمم بالنجس وجملة ما لا يجوز التيمم به132

(134)التيمم في الممتزج بما يخرجه عن اسم الأرض134

(138)إذا اشتبه التراب بالمغضوب138

(140)إذا اشتبه التراب بالرماد والنجس140

(141)إذا عجز عن التيمم بالأرض141

(144)إذا عجز عن التيمم بالغبار تيمم بالوحل144

(148)الكلام في فاقد الطهورين148

(154)إذا تمكن من الثلج ولم يمكن إذابته154

(158)مستحبات التيمم158

(160)مكروهات التيمم160

(163)الفصل الثالث كيفية التيمم163

(167)أن يكون الضرب دفعة واحدة وأن يكون بباطن الكفين167

(168)في كيفية مسح الجبهة والجبينين168

(177)المقدار الواجب في مسح الجبهة177

(178)المقدار الواجب في مسح ظاهر اليدين178

(180)الكلام في تعدد الضرب180

(189)إذا تعذر الضرب والمسح بالباطن189

(195)لزوم وقوع التيمم بدلاً عن الوضوء أو الغسل وعدمه195

ص: 479

(200)إذا تمكن من الإتيان بالوضوء أو الغسل تيمم عن الآخر200

(203)الفصل الرابع شروط التيمم203

(205)الكلام في نية البدلية عن الوضوء أو الغسل205

(208)رافعية التيمم للحدث208

(215)اعتبار المباشرة والموالاة215

(221)اعتبار طهارة الماسح والممسوح221

(222)حكم الاضطرار والأقطع222

(227)في تيمم العاجز227

(229)سائر شروط التيمم229

(233)الفصل الخامس التيمم قبل الوقت233

(235)جواز التيمم عند ضيق الوقت235

(242)بقي في المقام أمور (الأول): في استحباب الإعادة وإن صحت الصلاة بالتيمم242

(243)(الثاني): الكلام في جواز التيمم مع الظن باحتمال الماء وعدمه243

(244)(الثالث): إلحاق بقية الأعذار في استعمال الماء بعدم وجدانه244

(245)إذا تيمم لصلاة ودخل وقت أخرى245

(247)وجدان الماء في أثناء العمل247

(252)المتيمم بدلاً عن الغسل إذا أحدث بالأصغر252

(257)إراقة الماء الكافي للوضوء أو الغسل بعد دخول الوقت257

(261)موارد مشروعية التيمم261

(267)إذا تيمم لغاية جاز له كل غاية من غايات التيمم267

(269)حكم وجدان الماء وانتقاض التيمم269

(271)إذا وجد المتيممون الماء وسبق إليه أحدهم271

(272)حكم التداخل في التيمم272

ص: 480

(273)إذا اجتمع جنب ومحدث بالأصغر وميت وكان هناك ماء لا يكفي إلا لأحدهم273

(280)حكم الشك بوجود حاجب في مواضع التيمم280

(281)المبحث السادس في الطهارة من الخبث الفصل الأول في عدد الأعيان النجسة (الأول والثاني): البول والغائط281

(283)ما يحرم أكل لحمه بالعارض283

(288)بول وغائط ما لا نفس له سائلة أو محلل الأكل288

(293)بول الطير وذرقه293

(296)بقي في المقام أمران (الأول): في استثناء الخفاش296

(297)(الثاني): طهارة بول وذرق ما حرم من الطير بالعرض297

(297)الكلام فيما يشك في أن له نفس سائلة297

(298)(الثالث من الأعيان النجسة): المني298

(303)(الرابع من الأعيان النجسة): الميتة من الحيوان ذي النفس السائلة303

(310)الجزء المقطوع من الحي310

(315)أجزاء الميتة إذا كانت لا تحلها الحياة315

(322)الكلام في إلحاق الأنفحة بما لا تحله الحياة322

(324)في إلحاق اللبن في الضرع بما لا تحله الحياة324

(327)حكم فأرة المسك إذا افصلت من الظبي327

(332)طهارة ميتة ما لا نفس له سائلة332

(338)المراد من الميتة338

(344)اللحوم والشحوم والمأخوذة من يد مسلم344

(347)اشتمال بعض النصوص على عنوان السوق في اعتبار الحلية347

(349)اشتمال بعض النصوص على عنوان الصنع في أرض الإسلام في اعتبار الحلية349

ص: 481

(351)بقي في المقام أمور (الأول): الكلام في عدم الفرق حجية يد المسلم بين المؤمن والمخالف351

(354)(الثاني): ترتيب أثر التذكية في سوق المسلمين إذا كان البائع كافراً354

(355)(الثالث): عدم جواز ترتيب أثر التذكية إذا لم يؤخذ من يد مسلم355

(357)اللحوم والشحوم المأخوذة من يد مسلم إذا سبقت يد الكافر عليه357

(362)اللحوم والشحوم المأخوذة من يد كافر362

(363)الكلام في السقط قبل ولوج الروح363

(366)(الخامس من الأعيان النجسة): الدم من كل حيوان ذي نفس سائلة366

(372)طهارة دم ما لا نفس له سائلة372

(374)إذا وجد في ثوبه دماً مردداً بين ما له نفس سائلة وغيره374

(376)دم العلقة المستحيلة من النطفة376

(379)الدم المتخلف في الذبيحة379

(380)حكم الشك بوجود الدم وتردده بينه وبين القيح380

(381)الدم الذي يوجد في اللبن عند الحلب381

(382)(السادس والسابع من الأعيان النجسة): الكلب والخنزير382

(387)بقي شيء: الكلام في الحيوانات النجسة العين غير الكلب والخنزير387

(389)(الثامن من الأعيان النجسة): المسكر389

(398)الكلام في عموم النجاسة لكل مسكر398

(401)في نجاسة السبيرتو401

(402)طهارة المسكر الجامد وإن حرم أكله402

(404)الكلام في طهارة العصير العنبي إذا غلا بالنار404

(411)العصير العنبي إذا غلا وذهب ثلثاه411

(413)العصير العنبي إذا غلا بغير النار413

(419)الكلام في العصير الزبيبي والتمري إذا غلا بالنار419

(427)الكلام في العصير الزبيبي والتمري إذا غلا بغير النار427

(428)(التاسع من الأعيان النجسة): الفقاع428

ص: 482

(431)(العاشر من الأعيان النجسة): الكافر431

(450)الكلام في كفر منكر الضروري450

(455)رجوع كفر منكر الضروري إلى منافاته للإيمان بما أنزل الله تعالى455

(457)عموم الحكم لجميع أصناف الكفار457

(458)الكلام في كفر النواصب458

(463)طهارة الكتابي463

(464)(الحادي عشر من الأعيان النجسة): عرق الجنب من الحرام464

(470)(الثاني عشر من الأعيان النجسة): عرق الإبل الجلالة470

(474)أعيان نجسة احتملها الأصحاب474

ص: 483

المجلد 9

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

* الجزء التاسع

الفصل الثاني: في كيفية سراية النجاسة إلى الملاقي

بسم الله الرحمن الرحيم

(5) (5) (5) (مسألة 19): الجسم الطاهر إذا لاقى الجسم النجس لا تسري النجاسة إليه إلا إذا كان في أحدهما رطوبة مسرية (1)،

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(1) فلا تنتقل مع الجفاف بلا إشكال ظاهر، ويظهر من بعض كلماتهم المفروغية عنه، بل أدعي الإجماع عليه في المختلف وكشف اللثام ومحكي الذخيرة والدلائل وغيرها. وهو المناسب لارتكازيات المتشرعة وسيرتهم التي لا يبعد ابتناؤها على قياس سريان النجاسة بسريان القذارات العرفية.

مضافاً إلى صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الفراش يصيبه الاحتلام كيف يصنع به؟ قال: اغسله، وإن لم تفعله فلا تنام عليه، فإن نمت عليه وأنت رطب الجسد فاغسل ما أصاب من جسدك»(1) وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام): «سألته عن المكان يغتسل فيه من الجنابة أو يبال فيه أيصلح أن يفرش. فقال: نعم إذا

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 9.

ص: 5

كان جافاً»(1) وصحيحه الثالث عنه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يمر بالمكان فيه العذرة فتهب الريح فتسفي عليه من العذرة فيصيب ثوبه ورأسه يصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال: نعم ينفضه ويصلي فلا بأس»(2) ونحوها غيرها. وقد ذكر جملة منها في الباب السادس والعشرين من أبواب النجاسات من الوسائل. وهي وإن وردت في موارد خاصة، إلا أن استفادة العموم بضميمة المناسبات الارتكازية قريبة جداً.

بل قد يستفاد العموم من صحيح محمد بن مسلم: «كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) إذ مر على عذرة يابسة فوطأ عليها، فأصاب ثوبه. فقلت: جعلت فداك قد وطأت على عذرة فأصابت ثوبك. فقال: أليس هي يابسة؟ فقلت: بلى، فقال: لا بأس. إن الأرض يطهر بعضها بعضاً»(3). بتقريب: أن مقتضى عموم التعليل عدم البأس بكل يابس. بل هو صريح موثق عبد الله بن بكير: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يبول ولا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط. قال: كل شيء يابس زكي [ذكي. يب]»(4).

اللهم إلا أن يقال: لم يتضح ورود قوله (عليه السلام) في الصحيح: «أليس هي يابسة؟» في مقام التعليل لتقريب الحكم للسائل وتوضيح وجهه له، بل لعله وارد لمجرد تحديد مورد السؤال لبيان حكمه، الذي هو مقتضى الجمود على السؤال. على أن قوله (عليه السلام) بعد ذلك «إن الأرض يطهر بعضها بعضاً» ظاهر في تعليل نفي البأس بمطهرية الأرض المناسب للتنجس بالملاقاة ولو مع الجفاف. ومجرد امتناع الالتزام بذلك، لقصور مطهرية الأرض عن الثوب - خصوصاً مع عدم فرض مسح الثوب بالأرض -

لا يوجب ظهور الصحيح في المطلوب ونهوضه بالاستدلال عليه. بل يلزم البناء على إجماله حينئذ.

وأما الموثق فالاستدلال به موقوف على أن المراد به الكناية عن عدم سريان

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 11، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 31 من أحكام الخلوة حديث: 5.

ص: 6

النجاسة من الذكر لغيره، لا طهارة الذكر بالتجفيف، كما عن بعض العامة، إذ لا قائل بالعموم المذكور حينئذ حتى منهم، وإنما خصوه ببعض النجاسات، بخلاف ما لو حمل على الأول. ومن ثم لا يبعد إرادته. لكن في كفاية ذلك في نهوض الموثق بالاستدلال في المقام إشكال بعد عدم الإشارة فيه للملاقي، وإنما اقتصر فيه على ذكر الذكر. فلاحظ.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن إطلاقات الأمر بالغسل بإصابة النجاسة تقصر عن صورة الجفاف، لأن الغسل عبارة عن إزالة الأثر، ولا يتحقق الأثر إلا مع الرطوبة المسرية.

وفيه: أن الظاهر عدم توقف صدق الغسل على إزالة الأثر، إذ لا إشكال في صدقه مع عدم وجود أثر في المغسول، ومع وجوده وعدم زواله بالغسل. ولاسيما أن الكلام إنما هو في اعتبار لزوم التأثير في التنجيس عند الملاقاة، وإن ذهب الأثر بالجفاف قبل الغسل، وأن المراد بالأثر ما يعمّ رطوبة الماء التي لا تزول بالغسل بل تتأكد. مع أنه لو تم كفى في الأثر النجاسة الشرعية، ولذا لا إشكال في صدق الغسل المطهر مع رطوبة المتنجس المغسول وجفاف النجس عند الملاقاة، مع أن الأثر الخارجي حينئذ في النجس لا في المتنجس، وليس في المتنجس إلا النجاسة، فإذا فرض أن مقتضى إطلاق أدلة الانفعال حصول النجاسة مع الجفاف صدق الغسل المطهر بلحاظ إزالة النجاسة المذكورة.

فالعمدة في وجه اعتبار الرطوبة المسرية ما تقدم. وبه يخرج عن إطلاقات الانفعال بالمماسة لو تمت. بل هو موجب لانصرافها لصورة الرطوبة بنحو يمنع من ظهورها في العموم.

هذا وقد تقدم في المسألة السادسة والسبعين عند الكلام في غسل مس الميت استثناء بعضهم ملاقاة الميتة، والحكم بنجاسة الملاقي مع الجفاف، وتقدم ضعفه.

بقي شيء: وهو أن المشهور بين الأصحاب (رضي الله عنهم) استحباب رش الثوب

ص: 7

ونضحه بالماء عند ملاقاة الحيوانات النجسة مع الجفاف. لجملة من النصوص، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله، فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض، فإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه. إلا أن يكون فيه أثر فيغسله»(1) ومرسل جرير: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا مس ثوبك كلب فإن كان يابساً فانضحه، وإن كان رطباً فاغسله»(2) وغيرهما. بل في المبسوط: «وكل نجاسة أصابت الثوب أو البدن وكانت يابسة لا يجب غسلهما، وإنما يستحب مسح اليد بالتراب أو نضح الثوب».

لكن ظاهر أو صريح المقنعة والنهاية والوسيلة وجوب النضح في الثوب في مسّ جملة من النجاسات مع الجفاف، ووجوب مسح اليد أخذاً بظاهر الأمر. وفيه: أنه يظهر عدم النضح من عدم التنبيه عليه في جملة من النصوص، ومنها بعض النصوص المتقدمة عند الكلام في اعتبار الرطوبة في الانفعال مع شدة الحاجة إليه لو كان واجباً. بل هو ظاهر الأمر بالمضي في الصلاة في صحيح علي بن جعفر المتقدم، حيث يصلح ذلك قرينة على حمل الأمر به في النصوص على الاستحباب. ولاسيما بملاحظة الارتكاز المتقدم على عدم الانفعال مع الجفاف، بضميمة ما لعله المفروغ عنه بينهم من عدم مانعية شيء غير النجاسة.

وأما المسح بالتراب ففي الشرايع والمنتهى أنه لم يثبت، وفي الجواهر: «ولم يثبت ما يدل على استحبابه، فضلاً عن وجوبه، كما اعترف به جماعة». نعم في خبر خالد القلانسي: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ألقى الذمي فيصافحني. قال: امسحها بالتراب. قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها»(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 8

يعني: تنتقل من أحدهما إلى الآخر بمجرد الملاقاة (1)، فإذا كانا يابسين

لكنه - مع ضعف سنده، وابتنائه على نجاسة الذمي، واختصاصه ببعض ما ذكروه - إن حمل على صورة الجفاف لم يناسب الأمر بالغسل في مصافحة الناصب، وإن حمل على صورة الرطوبة لم ينهض بالاستدلال للمدعى. ومن ثم يتعين حمله على الاستحباب تنفيراً عنهم وتنزهاً عن أثر مصافحتهم، نظير ما تقدم عند الكلام في نجاسة الكافر جواباً عن نصوص مصافحته. فراجع.

هذا مضافاً في الأمرين - وهما نضح الثوب بالماء ومسح الجسد بالتراب - إلى سيرة المتشرعة، لظهور أن مسّ النجس مع الجفاف مورد للابتلاء العام من صدر الإسلام فلو كان الواجب فيه أحد الأمرين لظهر وبان وجرت عليه سيرة المتشرعة من الصدر الأول، بنحو لا يخفى على الأصحاب حتى كان المشهور بينهم عدم وجوبهما، وجرت سيرة المتشرعة تبعاً لهم على تركهما.

ومن ثم قد يحمل كلام من تقدم على الاستحباب حملاً للوجوب في كلام بعضهم على ما يعم الاستحباب، كما قد يستعمل في النصوص. وإن كان ذلك يصعب في كلام ابن حمزة في الوسيلة. ولعله لذا كان ظاهر المعتبر أن استحباب الرش مع الجفاف إجماعي، كالنجاسة مع الرطوبة، حيث قال: «إذا لاقى الكلب والخنزير والكافر المحكوم بنجاسة عينه ثوباً أو جسداً وهو رطب غسل موضع الملاقاة وجوباً، وإن كان يابساً رش الثوب بالماء استحباباً. وهو مذهب علمائنا أجمع...». فلاحظ.

(1) كما في الجواهر حاكياً عن منظومة السيد الطباطبائي التصريح به، مستدلاً عليه بصحيح البقباق: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، وإن مسه جافاً فاصبب عليه الماء»(1). وكأنه لظهور الإصابة في الانتقال الدفعي المحسوس، الذي يكون في الرطوبة المسرية بالمعنى المتقدم. أما الرطوبة غير

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 9

أو نديين جافين لم يتنجس الطاهر بالملاقاة وكذا لو كان أحدهما مائعاً بلا رطوبة (1)، كالذهب والفضة ونحوهما من الفلزات فإنها إذا أذيبت في ظرف نجس لا تنجس.

المسرية فهي تنتقل تدريجاً بنحو لا يحس إلا من طريق الأثر، وهو ترطب الملاقي.

مضافاً إلى ما هو المرتكز من أن الانفعال مع الرطوبة إنما هو لنجاسة الرطوبة المنتقلة وانفعالها، وذلك إنما يكون في الرطوبة المسرية، التي هي عبارة عن جسم قائم بنفسه محسوس عرفاً نجس في نفسه، أما الرطوبة غير المسرية فليس لها وجود عرفي صالح للاتصاف بالنجاسة، بل هو من سنخ العرض غير المدرك عرفاً إلا في موضوعه من دون أن يكون لها وجود عرفي، وإن كانت هي جسماً دقة، لعدم الاعتداد بذلك في الحكم بالنجاسة. ولاسيما بملاحظة السيرة العملية، لبناء المتشرعة بمقتضى ارتكازياتهم على طهارة الأجسام الرطبة بالرطوبة المذكورة من دون نظر لمنشئها.

وبذلك يتعين تنزيل الإطلاقات المتضمنة للانفعال بالملاقاة أو بالملاقاة مع الرطوبة على خصوص صورة الرطوبة المسرية، كما يناسبه - في الجملة - مقابلة الرطوبة بالجفاف في بعض النصوص، لصدق الجفاف مع الرطوبة المسرية. نعم قد لا يصدق به اليبس الذي تضمنته بعض النصوص. لكن لابد من رفع اليد عنه بما سبق. ولا أقل من عدم صلوحه لرفع اليد عنه. فيتعين الرجوع مع التعارض للأصل، وهو يقتضي الطهارة. فلاحظ.

(1) لقضاء المناسبات الارتكازية بعدم الانفعال في مثل الفلزات الذائبة بالأصل - كالزئبق - أو بالنار، كالذهب.

وقد يستفاد من صحيح البقباق المتقدم، بدعوى ظهوره في اعتبار العلوق والتلويث في التنجيس. لكن الفلزات قد تعلق ببعض الأجسام، فالذهب المائع قد يعلق بالنحاس، كما قد يعلق الرصاص المائع بكثير من الأجسام. فالعمدة ما سبق.

ص: 10

(11) (مسألة 20) الفراش الموضوع في أرض السرداب إذا كانت الأرض نجسة لا ينجس وإن سرت رطوبة الأرض له (1)، وصار ثقيلاً بعد أن كان خفيفاً، فإن مثل هذه الرطوبة غير المسرية لا توجب سراية النجاسة. وكذلك جدران المسجد المجاور لبعض المواضع النجسة مثل الكنيف ونحوه، فإن الرطوبة السارية منها إلى الجدران ليست مسرية ولا موجبة لتنجسها وإن كانت مؤثرة في الجدار على نحو تؤدي إلى الخراب.

(مسألة 21): يشترط في سراية النجاسة في المائعات (2) أن لا يكون

هذا وقد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره) إن المدار في التنجيس إن كان على الرطوبة المائية لزم عدم تنجس الدهن والزيت، ونحوهما مما يخلو عن الأجزاء المائية، ولا يمكن البناء على ذلك، وإن كان على الميعان لزم الانفعال في الفلزات. ولم يستبعد (قدس سره)

كون ذلك هو الوجه في توقف بعض السادة المعاصرين (قدس سره) في مثل الزئبق. نعم جزم شيخنا (قدس سره) بعد ذلك بالانفعال في مثل الدهن والزيت دون مثل الفلزات، وإن خفي عليه وجه الفرق بينهما، لعدم وضوح المدار في الانفعال عنده.

لكن لا مجال للبناء على أن المدار على الرطوبة المائية بعد ورود النصوص بانفعال الدهن والزيت ومطابقته للمرتكزات. كما لا مجال للبناء على أن المدار على الميعان بعد عدم الدليل عليه ومنافاته للمرتكزات، بل يتعين كون المدار على الرطوبة - بالمعنى المقابل للجفاف - وإن لم تكن مائية.

(1) إلا أن تكون رطوبة الأرض كثيرة، بحيث يصدق البلل عرفاً. كل ذلك لما تقدم.

(2) يظهر الكلام فيه مما تقدم في أوائل الفصل الثاني من مبحث أحكام المياه عند الكلام في انفعال الماء القليل بالملاقاة، لعدم الفرق بين الماء القليل وبقية المايعات

ص: 11

المائع متدافعاً إلى النجاسة وإلا اختصت النجاسة بموضع الملاقاة، ولا تسري إلى ما اتصل به من الأجزاء، فإذا صب الماء من الإبريق على شيء نجس لا تسري النجاسة إلى العمود (1)، فضلاً عما في الإبريق. وكذا الحكم لو كان التدافع من الأسفل إلى الأعلى كما في الفوارة.

(مسألة 22): الأجسام الجامدة إذا لاقت النجاسة مع الرطوبة المسرية تنجس موضع الاتصال، أما غيره من الأجزاء المجاورة له فلا تسري النجاسة إليه وإن كانت الرطوبة المسرية مستوعبة للجسم (2)، فالخيار أو البطيخ أو

بعد فرض عدم اعتصامه بالكرية ونحوها.

(1) وهو الماء المتدافع بين فتحة الإبريق وموضع النجاسة.

(2) بلا إشكال ظاهر لعدم الدليل على سريان النجاسة في تمام الجسم حينئذ، بل هو بعيد عن المرتكزات جداً إن لم يكن خلاف المقطوع به منها.

كما أنه خلاف المقطوع به من السيرة، لكثرة الابتلاء بمثل الخروج من الحمام والسير في الأرض النجسة مع استيعاب الرطوبة المسرية لتمام البدن، ولا إشكال في اكتفائهم بتطهير القدمين حينئذ. وكذا لا إشكال في اكتفائهم بتطهير موضع الملاقاة من الثلج واللحم والخضروات والفواكه المقشورة ونحوها مع استيعاب الرطوبة المسرية لجميع سطوحها وأعماقها... إلى غير ذلك.

كما قد تضمنت جملة من النصوص الاكتفاء عند وقوع النجاسة في السمن والعسل الجامدين بإلقائها وما حولها(1) مع استيعاب الرطوبة المسرية لجميع أجزائها.

نعم لا إشكال في استيعاب النجاسة لتمام أجزاء الجسم المائع بملاقاة النجاسة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 12

نحوهما إذا لاقته النجاسة يتنجس موضع الاتصال منه لا غير، وكذلك بدن الإنسان إذا كان عليه عرق ولو كان كثيراً، فإنه إذا لاقى النجاسة تنجس الموضع الملاقي لا غير، إلا أن يجري العرق المتنجس على الموضع الآخر فإنه ينجسه أيضاً (1).

(مسألة 23): يشترط في سراية النجاسة في المائعات أن لا يكون المائع غليظاً وإلا اختصت بموضع الملاقاة لا غير (2)، فالدبس الغليظ إذا أصابته النجاسة لم تسر النجاسة إلى تمام أجزائه، بل يتنجس موضع الاتصال لا غير وكذا الحكم في اللبن الغليظ (3). نعم إذا كان المائع رقيقاً سرت النجاسة

لبعض سطوحه - كالماء المطلق والمضاف والزيت - تبعاً للارتكاز. بل هو المقطوع به من النصوص والإجماع والسيرة.

(1) بناءً على تنجيس المتنجس - كما يأتي - لأن المنجس حينئذ هو ملاقاة العرق المتنجس، لا ملاقاة النجاسة التي نجست العرق. وكذا تسري النجاسة إذا كانت الرطوبة كثيرة لها وجود متميز عن الجسم بحيث يصدق عليها الماء، فإنه حينئذ يتعين سريان النجاسة في تمام سطوحها، لما سبق في المايع. لكن سريان النجاسة حينئذ للجسم الذي تحتها بتوسط ملاقاتها، فيبتني على تنجيس المتنجس أيضاً.

(2) بلا إشكال ظاهر. والنصوص به مستفيضة، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فإن كان جامداً فألقها وما يليها، وكل ما بقي، وإن كان ذائباً فلا تأكله، واستصبح به. والزيت مثل ذلك»(1) ونحوه غيره.

(3) الظاهر أن المراد به اللبن الرائب المنتزع الكثير من مائه. أما الحليب فلا

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3.

ص: 13

إلى تمام أجزائه (1) كالسمن والعسل في أيام الصيف، بخلاف أيام البرد فإن الغلظ مانع من سراية النجاسة إلى تمام الأجزاء، والحد في الغلظ، والرقة أمر عرفي، فما يستقذر (2) جميعه بمجرد ملاقاة القذارة لجزء منه فجميعه

يغلظ إلا أن يتجمد. والظاهر عدم نظره (قدس سره) له.

(1) بلا إشكال أيضاً. ويقتضيه النصوص المشار إليها وغيرها مما ورد في الماء القليل وغيره.

هذا وقد اختلفت النصوص في الزيت، فظاهر صحيح زرارة المتقدم جريان التفصيل المتقدم فيه. بل هو صريح معتبر إسماعيل بن عبد الخالق(1) وغيره.

لكن الجمود في الزيت نادر جداً، كما يناسبه صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قلت: جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل. فقال: أما السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله. والزيت يستصبح به»(2). فإن صدره محمول على الشتاء بقرينة التفصيل في النصوص الأخر، فيكون مقتضى ذيله نجاسة الزيت بتمامه حتى في الشتاء، ولا وجه له إلا ما ذكرناه من ندرة جموده. ونحوه في ذلك غيره. فلابد من حمل نصوص التفصيل في الزيت على فرض جموده وإن كان نادراً.

(2) كأن الوجه في جعل المعيار الاستقذار هو دعوى أن المنسبق من جعل المدار على الغلظة والرقة ابتناء المعيار في الانفعال بالنجاسة شرعاً على ما هو المعيار في الاستقذار عند العرف.

لكن لا قرينة على ذلك. ولاسيما أن الاستقذار العرفي قد يختلف باختلاف كمية الملاقي، فإذا كان غليظاً في الجملة لا يسري الاستقذار مع الكثرة، كما قد يختلف باختلاف كمية النجس الملاقى، فالمائع الكثير قد يستقذر بانغماس الحيوان الميت بتمامه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

ص: 14

فيه ولا يستقذر بانغماس جزء صغير منه، ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على ذلك في الانفعال بالنجاسة.

على أن النصوص لم تتعرض لعنوان الغلظ والرقة، وإنما تضمنت عنواني الجمود والذوبان، والمفهوم عرفاً من الجمود التصلب والتماسك، كما صرح بذلك في اللغة. ويقابله الذوبان ولو مع الغلظة والثخانة، ويؤكد ذلك ما في معتبر إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله (عليه السلام) حيث قال فيه: «أما الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له، فيبتاع للسراج. وأما الأكل فلا. وأما السمن فإن كان ذائباً فهو كذلك، وإن كان جامداً والفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها وما حولها، ثم لا بأس به. والعسل كذلك إن كان جامداً»(1). فإن اعتبار كون الفأرة في أعلى السمن وإن أمكن أن يكون من أجل إحراز سبق الجمود على وقوع الفأرة، إذ مع رؤيتها في الأسفل قد يكون وقوعها سابقاً على الجمود، فينجس تمام السمن قبل أن ينجمد. إلا أن إحراز ذلك إنما يحتاج إليه فيما إذا كان المانع من الانفعال هو الجمود المانع من رسوب الفأرة في أسفل السمن، إذ لو كان المانع من الانفعال أعم من ذلك فوجودها في الأسفل لا يستلزم نجاسة السمن بتمامه، ومع احتمال طهارته فالأصل الطهارة. بل فرض بقائها في أعلى السمن ملازم لكون الجمود بمرتبة تمنع من رسوب الفأرة.

وهو المناسب لما تضمنه هو وغيره من إلقاء ما حول النجاسة. لظهوره في أن ما حولها يتميز بعد رفعها، وذلد لا يكون إلا في الجمود بالنحو المذكور.

نعم قد لا يناسب ذلك ما في صحيح الحلبي. قال (عليه السلام) فيه: «إن كان سمناً أو عسلاً أو زيتاً، فإنه ربما يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله وكله، وإن كان الصيف فارفعه حتى تسرج به...»(2). لأن السمن في الشتاء وإن كان ينجمد بالنحو المذكور، إلا أن الزيت والعسل كثيراً ما لا يبلغان ذلك. لكن لابد حمله على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4.

ص: 15

(16) نجس، وما لا يكون كذلك اختصت النجاسة بموضع الاتصال منه،

ومع الشك يبنى على الطهارة (1).

(مسألة 24): الأقوى أن المتنجس كالنجس ينجس ما يلاقيه مع الرطوبة المسرية (2)

خصوص ما إذا كانا جامدين، للتقييد بذلك فيهما في غير واحد من النصوص، كمعتبر عبد الخالق المتقدم، وصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه، فإن كان جامداً فألقها وما يليها، وإن كان ذائباً فلا تأكله واستصبح به. والزيت مثل ذلك»(1) وغيرهما. ولعله لندرة الجمود في الزيت أطلق في جملة من النصوص الاستصباح به وعدم أكله، ومنها معتبر عبد الخالق المتقدم، كما أشرنا إليه.

(1) إذ بعد عدم العموم الذي يكون مرجعاً في الانفعال يتعين الرجوع للأصل، وهو يقتضي الطهارة.

(2) على المشهور شهرة عظيمة، على ما قيل. بل نسبت دعوى الإجماع عليه للقاضي في الجواهر والمحقق في المعتبر والفاضل الهندي في كشف اللثام وجماعة من متأخري المتأخرين، بل حكي عن جماعة منهم دعوى الضرورة عليه من المذهب، بل الدين.

ويقتضيه جملة من النصوص منها: ما دل بعمومه أو بصراحته على انفعال الماء القليل بالمتنجس، التي تقدمت في أول الكلام في الفصل الثاني من مباحث المياه. وهي وإن اختصت بالماء، إلا أنه لا ينبغي التأمل في إلغاء خصوصيته عرفاً. بل غيره أولى منه بالانفعال لما هو المتركز من أولويته بعدم الانفعال بعد كونه أظهر المطهرات.

ومثلها في ذلك النصوص التي تقدم في فصل الماء المستعمل الاستدلال بها على نجاسة ماء الغسالة، فإنه وإن تقدم الإشكال في دلالة بعضها، إلا أن منشأ الإشكال

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 16

في جملة منها عدم وضوح كون موردها ماء الغسالة، بل لعله الماء الملاقي، وعلى كل حال تنهض بالاستدلال في المقام، إذ لو كان موردها الماء الملاقي جرى فيها ما تقدم في نصوص انفعال الماء القليل المتنجس، وإن كان موردها ماء الغسالة فهو من أفراد الماء الملاقي، بل من أخفاها، حيث ذهب بعضهم لطهارته استثناءً منها. فراجع. نعم يأتي من بعض مشايخنا خروجها عن محل الكلام، ويأتي الكلام فيه.

ومنها: النصوص الكثيرة الواردة في أهل الكتاب المانعة أو المرخصة في مباشرتهم أو مباشرة الثياب ونحوها مما تجري عليه أيديهم، والتي أشير فيها إلى ابتلائهم بالنجاسات، كالخمر والميتة، بنحو يظهر في المفروغية عن تنجيسهم لما يباشرونه بسبب تنجسهم بالنجاسات المذكورة، وقد تقدم الكلام فيها عند الكلام في نجاسة أهل الكتاب. فراجع وتأمل.

ومنها: النصوص الكثيرة الواردة في الأواني، مثل ما تضمن النهي عن آنية أهل الكتاب إذا كانوا يأكلون فيها الميتة أو لحم الخنزير أو يشربون فيها الخمر(1) ، ومنها ما تقدم عند الكلام في نجاسة الكافر، وما تضمن غسل الإناء من سؤر الكلب والخنزير(2) ولموت الجرذ(3). لوضوح أن الإناء حيث لا يستعمل فيما يشترط فيه الطهارة، فلابد من كون الأمر يغسله لتجنب انفعال ما يجعل فيه من الماء والطعام ونحوها.

ومثلها في ذلك ما تضمن الأمر بغسل الإناء القذر وأواني الخمر(4) ولا مجال لحمله على خصوص ما بقي فيه أثر النجاسة، لمخالفته للإطلاق. على أنه لا يناسب الأمر بتثليث الغسلات، حيث تكفي الغسلة الأولى في زوال أثر النجاسة.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 72 من أبواب النجاسات.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الأسئار.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51، 53 من أبواب النجاسات.

ص: 17

وأما ما عن الفقيه الهمداني (قدس سره) من أن الأمر بغسلها قد يكون لحرمة استعمالها حال نجاستها ومبغوضية ذلك، لا إرشاداً لانفعال ما يلاقيه. فهو كما ترى! حيث لا منشأ لاحتمال حرمة استعمال الإناء النجس، ولا يمكن البناء على ذلك، بل يتعين كون منشأ الحاجة للتطهير هو تجنب انفعال الملاقي لها.

ومنها: ما ورد في غسل الفراش والنهي عن تعريضه للنجاسة(1). لوضوح أنه - كالإناء - لا يستعمل فيما يشترط فيه الطهارة، فلابد من كون وجه ذلك تجنب انفعال ملاقيه به.

نعم قد يشكل بأنه حيث كان موضوعه الفراش الذي يصيبه البول فملاقاته مستلزمة لملاقاة البول الذي أصابه، فالانفعال إنما يكون بملاقاة النجس لا المتنجس.

اللهم إلا أن يقال: أن البول - خصوصاً ما كان منه رقيقاً - بعد جفافه ليس له وجود عرفي ليكون هو المتنجس للملاقي ولذا يطهر بالشمس لو أصاب الأرض. بل في صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن المكان يغتسل فيه من الجنابة أو يبال فيه أيصلح أن يفرش؟ فقال: نعم إذا كان جافاً»(2). لظهور أن الاغتسال من الجنابة إنما يقتضي تعرض المكان للبول مقدمة للغسل ولملاقاة ماء تطهير الفرج من المني الموجب لارتفاع أثر البول من المكان، فالذي يلاقيه الفراش هو المتنجس لا عين النجاسة ولا أثرها.

ومنها: موثق عمار الوارد في مطهرية الشمس للمكان المتنجس بالبول أو غيره، حيث قال (عليه السلام): «وإن كانت رجلك رطبة وجبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع حتى ييبس، وإن كان غير الشمس

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب النجاسات، وباب: 26 منها حديث: 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 11.

ص: 18

أصابه حتى ييبس فإنه لا يجوز ذلك»(1). لظهوره في انفعال البدن الرطب بالموضع المتنجس إذا لم يجف أو جفّ بغير الشمس.

ومنها: موثقه الآخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) في من يجد في إنائه فأرة وقد توضأ من ذلك الإناء أو اغتسل أو غسل ثيابه به، قال (عليه السلام): «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم يفعل ذلك بعدما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء، يعيد الوضوء والصلاة»(2). لصراحته في تنجيس الماء المتنجس بالفأرة.

ومنها: صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أيصلي عليه؟ قال: إذا يبست فلا بأس»(3) ونحوه موثق عمار(4). لظهور أنه لا يراد بالماء القذر إلا المتنجس فإناطة الصلاة عليه بالجفاف كالصريح في منجسية الماء المذكور لما يلاقيه.

ومنها: صحيح المعلى بن خنيس: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء أمر عليه حافياً؟ قال (عليه السلام): «أليس وراءه شيء جاف؟ قلت: بلى. قال: فلا بأس إن الأرض يطهر بعضهاً بعضاً»(5). فإنه كالصريح في تنجيس الماء المتنجس بالخنزير لباطن القدم.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) خروج موثق عمار الثاني وما بعده عن محل الكلام، إذ الكلام إنما هو في منجسية المتنجس بعد جفافه من أثر النجاسة، لا مع بقاء رطوبته المتنجسة بها، إذ لا قائل بعدم منجسيته حينئذ. ولو تم ذلك جرى في نصوص تنجيس ماء الغسالة، كما أشرنا إليه آنفاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 43 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 19

لكن لم يتضح مأخذ ما ذكره من كلمات من نسب له القول بعدم تنجيس المتنجس. ولو تم كان هو أولى بالإشكال، لأن خصوصية بقاء الرطوبة الأولى المتنجسة بعيدة جداً بعد فرض عدم اشتمال الرطوبة المذكورة على عين النجس، فليست الرطوبة المذكورة إلا كسائر المتنجسات. ولو فرض الجمود على مفاد الأدلة فهي كما دلت على الانفعال مع بقاء الرطوبة - كما في النصوص المذكورة - دلت على الانفعال مع جفافها، كما في النصوص الأخر، ومنها موثق عمار الأول. وكيف كان فالنصوص وافية بإثبات تنجيس المتنجس.

هذا وقد قال سيدنا المصنف (قدس سره): «مضافاً إلى استفادته مما دل على سراية نجاسة الأعيان النجسة إلى ملاقيها، فإن المرتكز في ذهن العرف أن السراية عرفاً من أحكام مطلق النجاسة، لا النجاسة الذاتية خاصة. وكما لا نحتاج إلى دليل على السراية في كل واحدة من النجاسات بالخصوص، بل يكتفي بما دل على السراية في بعضها إلغاء لخصوصية المورد عرفاً، كذلك المقام». وما ذكره (قدس سره) وإن كان قريباً، ولعله عليه تبتني مفروغية الأصحاب عن الانفعال، كما يأتي، إلا أن في بلوغه مرتبة الاستدلال إشكال. ولاسيما بملاحظة ارتكاز أن نجاسة الأعيان النجسة أشد وآكد من نجاسة المتنجس بها، حيث يمكن مع ذلك السريان فيها دونه.

نعم يمكن تتميم الاستدلال المذكور بمعتبر معاوية بن شريح: «سأل عذافر أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع يشرب منه أو يتوضأ منه؟ قال: نعم اشرب منه وتوضأ منه. قلت له: الكلب؟ قال: لا. قلت: أليس هو سبع؟ قال: لا والله إنه نجس، لا والله إنه نجس»(1) فإن تعليل نجاسة السؤر بنجاسة الكلب لا يكون ارتكازياً إلا إذا رجع إلى ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من ارتكاز أن السراية من أحكام مطلق النجاسة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من الإشكال ففيه تارة: بضعف السند، لعدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الأسئار حديث: 6.

ص: 20

ثبوت توثيق معاوية بن شريح، وأخرى: بعدم ظهوره في التعليل، بل لدفع ما توهمه السائل من كون الكلب من السباع التي حكم (عليه السلام) بطهارة سؤرها، فهو وارد لمجرد بيان أنه ليس من تلك السباع.

فيندفع بأن يمكن استفادة وثاقة معاوية من رواية ابن أبي عمير وصفوان عنه، بل من رواية البزنطي أيضاً بناء على اتحاده مع معاوية بن ميسرة، كما يناسبه رواية هذا الحديث وغيره عنهما معاً.

كما أن وروده للردع عن توهم كون الكلب من السباع التي حكم (عليه السلام) بطهارتها لا ينافي ظهوره في تعليل ما حكم به (عليه السلام) من حرمة سؤر الكلب، وبيان ما يقتضي قصور إطلاق حلية سؤر السباع عنه بسبب نجاسته، دفعاً لتوهم التنافي بين الحكمين.

وبعبارة أخرى: لما حكم (عليه السلام) بطهارة سؤر السباع ثم بنجاسة سؤر الكلب الذي هو منها توهم السائل التدافع بن الحكمين، فأراد عليه السلام ردعه عن ذلك ببيان المقتضى لنجاسة سؤر الكلب الملزم بقصور عموم حلية سؤر السباع عنه، دفعاً للتنافي المذكور، وهو راجع لتعليل الحكم بحرمة سؤر الكلب، بضميمة ارتكاز أن سؤر النجس نجس، وكل نجس حرام.

وقريب منه ذلك في صحيح البقباق: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة... فقال: لا بأس به، حتى انتهيت إلى الكلب، فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله، وأصبب ذلك الماء، واغسله بالتراب أول مرة، ثم الماء»(1) فإن التمهيد للحكم بعدم الوضوء بالماء وصبه - الذي يستفاد منه نجاسته وعدم الانتفاع به - بأنه رجس نجس ظاهر في تعليله بذلك.

لكن استشكل في ذلك بعض مشايخنا تارة: بعدم وضوح ورود التمهيد المذكور في مقام التعليل، بل لا مجال للبناء على ذلك، حيث لا إشكال في عدم وجوب التعفير

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الأسئار حديث: 4.

ص: 21

لكل ملاق للنجس.

وأخرى: بأن التمهيد المذكور كما تضمن أنه نجس تضمن أنه رجس، وإطلاق النجس على المتنجس وإن كان شايعاً، إلا أن إطلاق الرجس عليه غير معهود، فلا مجال للتعدي له بمقتضى التعليل المذكور لو تم.

ويندفع الأول بأن ظاهر التمهيد لبيان الحكم بشيء كونه علة له، والمعلل في المقام هو حكم السؤر المسؤول عنه، لا حكم الإناء، وبيانه (عليه السلام) لحكم الإناء تفضل مبتدأ بعد استكمال بيان الحكم المسؤول عنه الذي سيق التعليل له.

والثاني بأن عدم معهودية استعمال الرجس في المتنجس إنما هو لعدم شيوع استعماله في النجاسة الخبيثة المعهودة، لا لأن الرجس مختص بنجس العين، والنجس أعم منه ومن المتنجس. وإلا فالرجس والنجس بمعنى واحد، وهما في أصل اللغة بمعنى الخبيث، وإطلاقهما في مورد النجاسة الخبيثة الشرعية حادث.

على أنه لو سلم اختلافهما معنى وأن الرجس أخص من النجس، فتعقيب الرجس بالنجس لابد أن يكون لكفاية النجس في التعليل، لا لكونهما معاً علة بنحو التقييد، بحيث لابد من اجتماعهما، للغوية تقييد الأخص بالأعم.

وبالجملة: الظاهر وفاء الصحيحين بالتعليل المبتني على الارتكاز الذي أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) بنحو ينهض بالاستدلال في المقام.

على أنه بعد ثبوت تنجيس المتنجس في الجملة من النصوص المتقدمة يصلح الارتكاز المذكور قرينة لإلغاء خصوصية مواردها وفهم عموم تنجيس المتنجس منها حتى لو غض النظر عن التعليل المذكور. فلاحظ.

هذا وقد ذهب الكاشاني إلى عدم تنجيس المتنجس وربما نسب للسيد المرتضى وابن إدريس وبعض متأخري المتأخرين. ولا تخلو النسبة عن إشكال أو منع.

وقد استدل (قدس سره) تارة: بالأصل، لعدم الدليل على التنجيس، ومقتضى الأصل

ص: 22

طهارة الملاقي. والأخرى: بالنصوص الدالة على عدم التنجيس.

ويظهر اندفاع الأول مما سبق، حيث تنهض النصوص السابقة بالخروج عن الأصل، وأما الثاني فلا يظهر حاله إلا بعد النظر في النصوص التي أشار إليها، والتي ذكرها غيره مستدلين بها له. وهي جملة من النصوص.

منها: صحيح العيص: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه. قال: يغسل ذكره وفخذيه. وسألته عن من مسح ذكره بيده ثم عرقت يده فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال: لا»(1).

فإن مقتضاه عدم تنجس الثوب باليد المتنجسة بالبول عند مسح الذكر. لكن ينافي ذلك صدره المتضمن غسل للفخذين لملاقاتهما للذكر المتنجس بالبول.

ودعوى: أنه ليس المفروض في الصدر مسح الذكر بالحجر قبل عرقه مع الفخذين، بل مع سبق العرق لأن الوارد في المقام حالية، وذلك مستلزم لتنجس العرق بالبول قبل مسحه، فينجس الذكر والفخذين، بناء على ما تقدم من بعض مشايخنا - عند الكلام في موثق عمار الثاني ونحوه من نصوص النجاسة - من الاتفاق على تنجيس المتنجس قبل جفافه، وخروجه عن محل الكلام. وحينئذ لا يكون الذيل الذي فرض فيه عرق اليد بعد مسح الذكر بها منافياً للصدر.

مدفوعة أولاً: بأن ذلك مستلزم للغوية ذكر مسح الذكر، لأن العرق حينئذ يتنجس بخروج البول. وثانياً: بأن العرق مهما بلغ من الكثرة لا ينجس بتمام سطوحه بمماسة بعضه لموضع البول، ليكون منجساً للفخذين. ومن هنا كان الظاهر من السؤال هو عرق الذكر والفخذين بعد مماسة بعضها ببعض عند القيام بعد مسح الذكر، كما هو المتعارف، والواو في المقام عاطفة لا حالية، ومن هنا لا مناص عن التدافع بين الصدر والذيل. فإن كانا رواية واحدة كانت مجملة، وإن كانا روايتين -

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 وقد ذكر صدر الحديث في باب: 31 من أبواب النجاسات حديث: 1، وذيله في ج: 2 باب: 6 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 23

كما هو غير بعيد بلحاظ تكرار قول: «وسألته» كانتا متعارضتين وتعين تساقطهما. إلا أن يحمل الذيل حينئذ على مسح الذكر من دون بول لدفع توهم وجوب غسل اليد حينئذ.

على أنه قد يحمل الذيل - سواءً كانا رواية واحدة أم روايتين - على إصابة اليد للثوب من دون يقين بكون موضع الإصابة فيها هو الموضع الذي أصاب البول، ويكون منشأ السؤال عن ذلك توهم أن العلم الإجمالي بالنجاسة منجز لاحتمال النجاسة في ملاقي بعض أطرافه، ويكون الحكم بعدم غسل الثوب ظاهرياً لدفع الاحتمال المذكور، لا واقعياً لبيان عدم تنجيس المتنجس، فلا ينافي الصدر ويخرج عن محل الكلام. وحينئذ لا ينهض الذيل بالاستدلال، ويبقى الصدر دليلاً على التنجيس من دون معارض.

ومنها: موثق حنان بن سدير: «سمعت رجلاً سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: إني ربما بلت فلا أقدر على الماء، ويشتد ذلك عليّ. فقال: إذا بلت فامسح ذكرك بريقك، فإن وجدت شيئاً فقل: هذا من ذاك»(1).

والاستدلال به موقوف على كون موضع مسح الذكر بالريق هو موضع خروج البول منه المتنجس به، حيث يدل حينئذ على أن الريق لا ينجس بملاقاة الموضع المذكور ولا ينجس ما يصيبه من البدن والثياب. ولا شاهد على ذلك.

بل هو لا يناسب قول السائل: «ويشتد ذلك عليّ». إذ ليس منشأ الشدة هو توقع خروج البول منه، لظهور عدم الفرق في ذلك بين وجدان الماء وعدمه. ومثله خروج البلل منه من دون استبراء، بل المناسب حينئذ تنبيهه للاستبراء وإرشاده له.

ومن هنا كان الظاهر أن منشأ الشدة هو توقع نزول البلل المحكوم بالطهارة ذاتاً بلحاظ ملاقاته لمخرج البول الباقي على النجاسة بسبب عدم وجدان الماء، فيتنجس بذلك، أو مماسة موضع البول من الذكر للشاب أو الفخذين من التعرق، فينجسها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 13 من أبواب نواقص الوضوء حديث: 7.

ص: 24

وعلى كلا الاحتمالين يدل على مذهب المشهور من تنجيس المتنجس.

وحينئذ لا يصلح مسح الذكر بالريق لحلّ المشكلة إلا إذا كان الموضع الممسوح منه غير مخرج البول، حيث يبقى الريق على الطهارة، ويتردد الأثر الذي يجده في بدنه وثيابه بين أن يكون من البلل أو العرق المتنجس وأن يكون من الريق الطاهر، ويكون مقتضى الأصل طهارته.

ومنها: موثق سماعة: «قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): إني أبول ثم أتمسح بالأحجار فيجيء مني البلل ما يفسد سراويلي. قال: ليس به بأس»(1) لظهوره في طهارة البلل المذكور مع ملاقاته لموضع البول المتنجس به عادة.

ويندفع بأنه كما يمكن ابتناء طهارة البلل المذكور على عدم تنجس المتنجس يمكن ابتناؤه على إجزاء التمسح بالأحجار في التطهير من البول، كما عن جمهور العامة.

وأما الإشكال فيه بضعف السند، لعدم توثيق الحكم بن مسكين والهيثم بن أبي مسروق النهدي. فيندفع بثبوت وثاقتهما من وقوعهما في أسانيد كتاب كامل الزيارات، ومن رواية ابن عمير والبزنطي عن الأول، ومن رواية أحمد بن محمد بن عيسى - الذي أخرج البرقي عن قم لأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل - عن الثاني معتضداً بقول النجاشي عنه: «قريب الأمر»، وقول حمدويه عنه وعن أبيه: «سمعت أصحابي يذكرونهما [بخير خ. ل]. كلاهما فاضلان».

ومنها: خبر حفص بن الأعور «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف يجعل فيه الخل؟ قال: نعم»(2). لكن في موثق عمار(3) أنه لا يجعل فيه الخل حتى يغسل معتضداً بموثقه في الإناء القذر أنه يغسل ثلاثاً(4). فإن أمكن تنزيله عليهما

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 13 من أبواب نواقص الوضوء حديث: 4.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 2، 1.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 2، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 25

فهو، وإلا فكما يمكن ابتناؤها على عدم تنجيس المتنجس يمكن ابتناؤه على طهارة الخمر. بل لعل الثاني أظهر، لبعد حمل التجفيف فيه على صورة عدم بقاء أجزاء خمرية فيه. ولذا سبق منا عده من نصوص طهارة الخمر، فيجري فيه ما جرى فيها.

ومنها: خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الكنيف يصب فيه الماء، فينضح على الثياب، ما حاله؟ قال: إذا كان جافاً فلا بأس»(1).

والاستدلال به مبني على ما سبق من بعض مشايخنا من اختصاص القول بعدم تنجيس المتنجس بما إذا كان جافاً ولم يبق فيه الرطوبة التي نجسته، حيث قد يدعى حينئذ دلالته على عدم تنجيس الماء بملاقاة الكنيف الجاف وإن كان متنجساً بما يقع فيه من القذر، إذ لولا تنجس به لا منشأ للإشكال والسؤال.

لكن ظاهر الخبر اعتبار الجفاف حين صب الماء الذي كان منه الانتضاح لا جفاف الرطوبة المنجسة له، ومقتضاه أنه لو كان رطباً لتنجس الماء المذكور حتى لو كان سبب الرطوبة ماء قد أصابه بعد جفاف الرطوبة التي نجسته، وحيث لا قائل بالتفصيل المذكور يتعين طرح الخبر، أو حمله على ما لا ينافي الأدلة الأخرى وإن كان مخالفاً لظاهره.

على أن الخبر - لو نهض بالاستدلال - مختص بالملاقاة غير المستقرة، والبناء على عدم الانفعال فيها لا يستلزم البناء على عدم الانفعال في الملاقاة المستقرة، كما أشار إلى ذلك سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره. وإن كان التحقيق حصول الانفعال بها، كما تقدم في مسألة انفعال الماء القليل من مباحث المياه.

ومنها: صحيح حكم بن حكيم: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أبول فلا أصيب الماء، وقد أصاب يدي شيء من البول، فأمسحه بالحائط وبالتراب، ثم تعرق يدي فأمسح [فأمس] به وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي. قال: لا بأس»(2).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 60 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 26

والاستدلال به مبني على أن المفروض فيه كون موضع العرق الممسوح من اليد هو الموضع الذي أصابه البول منها، ويكون منشأ السؤال الشك في تنجيس المتنجس الذي هو محل الكلام، أما لو كان السؤال عن مسح اليد بالثوب أو الجسد حال تعرقها من دون يقين بإصابة موضع البول منها برطوبة لهما، لتوهم منجزية العلم الإجمالي بنجاسة اليد في المقام، لاحتمال النجاسة في ملاقيها، نظير ما ذكرناه في صحيح العيص، فيكون أجنبياً عما نحن فيه. ولا قرينة على الأول وإن استوضحه سيدنا المصنف (قدس سره).

بل لا يبعد الثاني بملاحظة ما عليه كثير من المتفقهين والعوام من ترتيب أثر النجاسة على تمام الموضع بتنجس بعضه، إما جهلاً بالحكم الشرعي أو تورعاً واحتياطاً يبلغ الالتزام. ولعله لذا حكي عن الكاشاني في الوافي ذكر الاحتمالين معاً في توجيه الصحيح، وعدم الجزم بإرادة الأول منه.

ومنها: صحيح علي بن مهزيار: «كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنه بال في ظلمة الليل وأنه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنه أصابه ولم يره، وأنه مسحه بخرقة ثم نسي أن يغسله، وتمسح بدهن فمسح به كفيه ووجهه ورأسه، ثم توضأ وضوء الصلاة فصلى. فأجابه بجواب قرأته بخطه: أما ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشيء إلا ما تحقق، فإن حققت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلاة اللواتي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، وما فات وقتها فلا إعادة عليك لها، من قبل أن الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت، وإذا كان جنباً أو صلى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته، لأن الثوب خلاف الجسد، فاعمل على ذلك إن شاء الله»(1). فإن ما تضمنه من صحة الوضوء المستلزم لعدم نجاسة مائه إنما يتجه بناء على عدم تنجيس المتنجس.

وقد استشكل فيه بعض مشايخنا بأن إضماره مانع من التعويل عليه، فإنه لا

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 27

اعتبار بالمضمرات إلا إذا ظهر من حال السائل أنه ممن لا يسأل غير الإمام، كزرارة ومحمد بن مسلم وعلي بن مهزيار، ولا يعلم ذلك في سليمان بن رشيد، إذ لعله من أكابر العامة وقد سأل مسألته هذه من فقهائهم. غايته أن علي بن مهزيار ظن بطريق معتبر عنده أو اطمأن بأن المسؤول هو الإمام، وذلك لا يجدي في حق غيره.

لكنه كما ترى، فإن علي بن مهزيار قد أخبر جازماً بأن سليمان قد سأله، وأنه قد قرأ الجواب بخطه، وحيث كان ظاهره أن المسؤول هو الإمام، وأن الخط خطه (عليه السلام) فلابد من تصديقه فيه بعد وثاقته، لأنه خبر قابل للصدق، والأصل استناده فيه إلى الحس أو الحدس القريب منه. بل الإنصاف أن احتمال كون المسؤول غير الإمام لو حصل فهو من سنخ الوسواس الذي لا يعتد به.

وبعبارة أخرى: المضمِر في المقام ليس هو سليمان بن رشيد، بل علي بن مهزيار المفروض أنه ممن لا يعتد بكلام غير الأئمة (عليهم السلام).

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره في المعتبر من جهالة المكاتب إذ لو أراد به المكاتب بالفتح فقد عرفت أنه الإمام. وإن أراد به المكاتب بالكسر فلا تقدح جهالته بعد نقل علي بن مهزيار للمكاتبة بنحو يظهر منه الإطلاع عليها حساً.

على أن رواية الأصحاب للمكاتبة في الكتب المعدة لأحاديث الأئمة (عليهم السلام) شاهد بنسبتها لهم (عليهم السلام)، وحيث يمكن إطلاعهم على ذلك عن طريق الحس أو الحدس القريب منه تعين قبول ذلك منهم.

نعم قد يشكل متن الصحيح بأن النجاسة الخبيثة المفروضة فيه والتي تقتضي إعادة الصلاة في الوقت دون القضاء خارجه إن كانت هي نجاسة الموضع الذي أصابه البول من الكف فقط، فالغسل الوضوئي قد يصلح لتطهيره، كما لو كان قد غسل يده قبل الوضوء من حدث البول استحباباً، ليتم به مع غسلها في الوضوء غسلتان. بل لو كان الموضع المتنجس باطن الكف لغسل في نفس الوضوء مرتين مرة عند غسله ومرة عند الغسل به، على أنه كثيراً ما يتعرض الكف لأن يغسل في غير حال الوضوء.

ص: 28

فإطلاق الحكم ببطلان الصلاة من حيثية النجاسة الخبيثة من دون تنبيه لذلك لا يناسب إرادة خصوص النجاسة المذكورة، بل النجاسة الشاملة الحاصلة بالتدهين التي يظهر من تنبيه السائل للتدهين اهتمامه بها. بل قد يظهر منه مفروغيته عنها، فإنها هي التي لا تزول بالغسل الوضوئي.

لكنها مبنية على تنجيس المتنجس، حيث ينجس الدهن باليد المتنجسة بالبول ثم ينجس الأعضاء المدهونة به، وحينئذ يتعين تنجيس اليد والأعضاء المذكورة لماء الوضوء، فيبطل الوضوء، بل يكفي في بطلان الوضوء نجاسة أعضاء الغسل والرأس بسبب التدهين، أو خصوص الموضع الذي أصابه البول منها، بناء على ما هو المعروف من اشتراط طهارة أعضاء الوضوء في صحته. ومن الظاهر أن بطلان الوضوء يأباه ذيل الحديث.

على أن المنساق من قوله (عليه السلام): «اللواتي صليتهن بذلك الوضوء» كون الخلل في الوضوء، وهو لا يناسب ذيل الحديث، كما ذكرنا، بل المناسب له بطلان الصلوات اللواتي صلاهن من دون تطهير.

ومن ثم كان الحديث مضطرباً، وعن الكاشاني أنه يشبه أن يكون قد وقع فيه غلط من النساخ. ومع ذلك يصعب الاستدلال به في المقام.

هذه عمدة النصوص المستدل بها لعدم تنجيس المتنجس، كما قيل. وقد ظهر مما سبق وهن الاستدلال بها، لما سبق من جهات الإشكال فيها.

هذا كله مضافاً إلى أنه لو أمكن تتميم دلالة بعض هذه النصوص، وغض النظر عما سبق من الإشكال فيها إلا أنه لا مجال للاستدلال بها من جهتين:

الأولى: معارضتها بالنصوص المتقدمة دليلاً لتنجيس المتنجس، والتي هي كثيرة جداً، مشهورة مضموناً، مقبولة عند الأصحاب. فلابد من تنزيل هذه النصوص عليها جمعاً، ومع تعذره يتعين طرحها.

ص: 29

الثانية: ظهور هجر الأصحاب لهذه النصوص وإعراضهم عنها، لظهور تسالمهم على تنجيس المتنجس ومفروغيتهم عنه، كما سبق التنبيه عليه والإشارة لكلماتهم فيه، حيث يوجب ذلك الريب في هذه النصوص بنحو تسقط معه عن الحجية.

نعم قد أنكر بعض من قارب عصرنا ذلك، مدعياً عدم العثور على من أفتى من القدماء بالنجاسة، كما ذكر ذلك أيضاً بعض مشايخنا (قدس سره)، منبهاً على عدم تحريرهم للمسألة مع كثرة الابتلاء بها في اليوم والليلة والقرى والأرياف.

لكن شيوع الابتلاء بالمسألة يستلزم عادة السؤال عن حكمها لو كان خفياً، ولو وقع السؤال عنها لكثرت النصوص بذلك. ومن الظاهر عدم وجود مثل هذه النصوص في المقام، غاية الأمر وجود بعض النصوص التي يستفاد منها الحكم تبعاً من دون أن ترد لذلك، بحيث يكون هو المقصود منها بالأصل.

ولابد أن يكون ذلك لوضوح الحكم المذكور عند المتشرعة من عمل

المعصومين (عليهم السلام)، أو بياناتهم العامة، أو تسالم أهل الفتوى، أو المرتكزات أو غير ذلك، وفي مثل ذلك يمتنع عادة خطأ المشهور في الحكم.

ولا ينبغي التأمل في ذهاب المشهور لعموم الانفعال، كما يظهر من رواية الأصحاب للنصوص الكثيرة الدالة عليه، وظهور تسالمهم على قبولها والعمل بها والتعويل عليها.

وهو الذي يظهر من الكاشاني نفسه، حيث قال بعد الحكم بعدم الانفعال بالمتنجس والاستدلال عليه: «إلا أن هذا الحكم مما يكبر في صدور الذين غلب عليهم التقليد من أهل الوسواس...»، ومن الظاهر أن التقليد إنما يكون لقدماء الأصحاب وأعاظمهم.

كما أن المحقق في المعتبر حينما أشار لما تقدم في مبحث نجاسة الميتة عن ابن إدريس من أن الإناء إذا لاقى جسد الميت وجب غسله. لكن لا يجب غسل ملاقيه. وحمل الملاقي على الإناء قياس، قال في ردّه: «لما اجتمعت الأصحاب على نجاسة اليد

ص: 30

الملاقية للميت وأجمعوا على نجاسة المائع إذا وقعت فيه نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع، لا بالقياس على نجاسة اليد... اللهم إلا أن يقول إن الميت ليس بنجس وإنما يجب الغسل تعبداً». كما ذكر أيضاً إن إناء الولوغ لو وقع في ماء قليل نجس، وقال في وجه استحباب أن يحفر لماء غسل الميت حفيرة: «لأنه ماء مستقذر، فيحفر له ليؤمن من تعدي قذره».

ويظهر ذلك أيضاً مما ذكروه في حكم غسالة الولوغ، حيث حكم في المعتبر بنجاستها وتنجيسها لما تصيبه، لأنها ماء قليل لاقى نجاسة، فيجب أن ينجس، خلافاً للشيخ في الخلاف، حيث ذكر عدم وجوب غسل ملاقيها، محتجاً بأنها لو كانت نجسة لزم نجاسة المتخلف منها في الإناء، فينجس به ماء الغسلة الثانية وهكذا، ولازمه امتناع تطهير الإناء، ومن الظاهر رجوع الحجة المذكورة إلى أن مقتضى القواعد الأولية النجاسة والتنجيس، إلا أنه لابد من الخروج عنه في المورد، لأن العمل عليه مستلزم لامتناع تطهير الإناء.

كما هو مقتضى ما ذكر في الخلاف أيضاً قبل ذلك في وجه نجاسة غسالة الغسلة الأولى لتطهير الثوب من أنها ماء قليل معلوم حصول النجاسة فيه، فوجب أن يحكم بنجاسته... إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في كلماتهم المتفرقة التي يضيق الوقت عن استقصائها. ويظهر من مجموعها مفروغيتهم عن أن عموم الانفعال بالنجاسة يشمل نجاسة المتنجس.

وكأنه لأن المتنجس قد حمل صفة النجاسة بتنجسه، فيلحقه حكمها، لما سبق من الارتكاز المعتضد بالتعليل في حديثي معاوية بن شريح والبقباق من أن السريان من أحكام مطلق النجاسة. ولعل ذلك هو الوجه في عدم تحريرهم المسألة مستقلاً مع شيوع الابتلاء بها.

وأما ما تقدم من ابن إدريس فالظاهر ابتناؤه على دعوى أن نجاسة الملاقي للميت حكمية، لا عينية، مع مفروغيته عن سريان نجاسة ملاقي النجاسات العينية،

ص: 31

كما يظهر من كلامه. وهو المناسب لما صرح من أنه يجب غسل ما أصابه الماء النجس من البدن، كما أنه قال في أحكام الولوغ: «والماء الذي ولغ فيه الكلب والخنزير إذا أصاب الثوب وجب غسله، لأنه نجس، وإن أصابه من الماء الذي يغسل به الإناء من الغسلة الأولية يجب غسله...». وهو مناسب لما عليه الأصحاب.

كما أن نسبة القول بعدم الانفعال للسيد المرتضى (قدس سره) قد تبتني على ما ينسب له من عدم انفعال الملاقي للنجاسة بها، وإنما يجب غسله لإزالة عينها، فإذا أمكن إزالتها بالمسح من دون غسل - كما في الأجسام الصيقلية - أجزأ. فإن مرجعه إلى أن الملاقي للنجاسة إذا لم يحمل عينها لا ينجس ملاقيه، لطهارته، لا لأن المتنجس لا ينجس.

ومن ثم لم يظهر القول بعدم تنجيس المتنجس من أحد القدماء، بل الظاهر منهم التسالم على التنجيس. وذلك وحده كاف في وهن الأخبار المستدل بها على عدمه، وفي البناء على تنجيس المتنجس بعد ما سبق من شيوع الابتلاء بالمسألة بنحو يمتنع معه خطأ المشهور في حكمها.

وأما دعوى أن البناء على التنجيس مستلزم للهرج والمرج، لكثرة الابتلاء، بالمتنجس وصعوبة توقي العامة منه، لكثرة وجوهه وعدم انضباطها، وتسامح عامة الناس فيها، بنحو يستلزم استيعاب النجاسة لأكثر ما يبتلي به الإنسان من طعام وشراب ولباس ومكان وغير ذلك.

فيظهر اندفاعها مما تقدم في مسألة انفعال الماء القليل، حيث يظهر مما ذكرناه هناك ابتناء هذا الوجه ونحوه على المبالغة والتهويل، وعدم رجوع ذلك إلى محصل يخرج به عن مقتضى النصوص الخاصة والعامة ومرتكزات المتشرعة وتسالم الأصحاب. بل هو هنا أهون منه هناك، لأن تطهير الماء بوجه غير مقصود أصعب من تطهير غيره.

نعم لا إشكال في وقوع المخالفة من عامة الناس في ذلك كثيراً، بسبب الغفلة عن الحكم أو الموضوع أو التسامح فيهما. إلا أن ذلك لا يبلغ حداً يمنع من الرجوع للأصل في غير موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي الذي لا يخرج بعض أطرافه عن

ص: 32

(33) من دون فرق بين المتنجس بواسطة واحدة وبوسائط (1).

الابتلاء - على ما تقتضيه القاعدة - من دون أن يلزم من ذلك الهرج والمرج، ولا العسر والحرج النوعي. فراجع وتأمل جيداً.

(1) أشار بذلك إلى ما قد يدعى من التفصيل بين المتنجس بعين النجس فينجس، والمتنجس بالمتنجس فلا ينجس. وربما نسب ذلك للسيد الصدر شارح الوافية. وهو الذي جرى عليه بعض مشايخنا في غير الماء، أما في الماء فقد ذهب إلى عموم الانفعال في مبحث كيفية سراية النجاسة، وعدل عما سبق منه في مبحث انفعال القليل من جريان التفصيل المذكور فيه أيضاً.

وكيف كان فقد سبق منا في مبحث انفعال الماء القليل تقريب عموم الانفعال فيه. ومن القريب جداً إلغاء خصوصيته، لما أشرنا إليه في أول أدلة الانفعال من أولوية الماء بعدم الانفعال بسبب كونه أظهر المطهرات.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من تقريب احتمال خصوصيته، بلحاظ لطافته وتأثره بما لا يتأثر به غيره. ومن هنا اهتم الشارع الأقدس بالتحفظ عليه ونظافته.

فهو كما ترى، إذ لا دخل للطافة بالانفعال تبعاً للمرتكزات، بل هي تابعة للرطوبة المسرية، ولا يظهر من الشارع امتياز الماء عن غيره في زيادة قابليته للانفعال. واهتمامه بالتحفظ عليه إنما هو مقدمة للحفاظ على طهوريته، كاهتمامه بحفظ الثوب عن ملاقاة النجاسة أو تطهيره منها للحفاظ على صحة الصلاة به، ولا دخل لذلك بقابليته للانفعال.

على أنه يكفى في عموم الانفعال في الماء وغيره ما أشرنا إليه آنفاً من الارتكاز المعتضد بالعموم المستفاد من التعليل في الحديثين المتقدمين، خصوصاً بعد البناء على عموم الانفعال للمتنجس في الجملة، لأن التفكيك بين المتنجسات أصعب من التفكيك بين النجس والمتنجس في التأثير، فضلاً عن التفكيك بين الماء وغيره في

ص: 33

الانفعال والتأثر. بل كل ذلك مغفول عنه عرفاً، فلو كان التفصيل ثابتاً للزم التنبيه له في النصوص وتحديد المراتب المتنجسة من غيرها والأجسام المتنجسة وغيرها.

ومن ثم كان ظاهر الأصحاب المفروغية عن العموم. ولاسيما بملاحظة ما تقدم من الكلام في غسل الثوب من غسالة الولوغ، مع وضوح أن الغسالة متنجسة بالإناء المتنجس بالماء المتنجس بالولوغ، حيث ظهر منهم المفروغية عن أن مقتضى عموم الانفعال هو نجاسة الثوب، وإنما الكلام في المخرج عن ذلك.

وأما دعوى: أن النجاسة تخف بتعدد الوسائط، وذلك يناسب عدم السريان مع تعدد الوسائط، خصوصاً مع كثرتها وتراميها.

فتندفع أولاً: بأن النجاسة حكم شرعي تعبدي تخفى علينا ضوابط شدته وضعفه، فمع عموم الأدلة المستفاد مما تقدم لا طريق لإحراز خفته بالنحو الذي يناسب عدم السريان. ولا مجال لقياسه بالقذارة العرفية، فإن إدراك العرف لها ملازم لإدراكهم شدتها وضعفها. غاية ما سبق دعواه أن المناسبات الارتكازية تصلح لتفسير الأدلة في النجاسة الخبيثة بنحو يناسب القذارة العرفية في السريان وشروطه كالرطوبة وعدم التدافع ونحو ذلك، لا أن السراية في النجاسة الخبيثة مطابقة للسراية في القذارة.

وثانياً: بأن الجهات الارتكازية المدعاة كما تقتضي خفة النجاسة مع تعدد الوسائط تقتضي اختلاف مراتبها باختلاف النجاسات وباختلاف المتنجسات من حيثية أنواعها ومراتبها، ومع اختلاف مرتبة النجاسة من هذه الجهات يصعب التحديد بحسب المرتكزات، وذلك مانع من اتكال الشارع والمتشرعة على المرتكزات في التحديد، بل يحتاج معه لضوابط شرعية تعبدية، وحيث لا أثر لذلك في النصوص كشف عن عدم دخل النجاسة في المانعية من الانفعال، وأن النجاسة بجميع مراتبها تسري كما يظهر التسالم بين الأصحاب على ذلك.

وبالجملة: بعد أن كان مقتضى الارتكاز والأدلة الشرعية سريان النجاسة حتى

ص: 34

(35) (مسألة 25): تثبت النجاسة بالعلم، وبشهادة العدلين (1)، وبإخبار ذي اليد (2).

من المتنجس فلو كان ذلك منوطاً بمرتبة خاصة لزم تحديدها تعبداً ببيانات شرعية واضحة، لشدة الحاجة لذلك بعد امتناع الاتكال على الارتكاز في التحديد، لالتباس الحدود على الارتكاز في الأمور المقولة بالتشكيك، فعدم التعرض لذلك في النصوص مع شدة الحاجة إليه مناسب لعموم السريان، لكون ذلك مقتضى طبع النجاسة ارتكازاً، بنحو يؤكد ما سبق من عموم دليل الانفعال، وظهور تسالم الأصحاب على العموم. فلاحظ وتأمل جيداً. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. ومنه نستمد العون والتسديد.

(1) كما لعله المعروف بين الأصحاب لعموم حجية البينة، الذي تقدم الاستدلال عليه في المسألة التاسعة عشرة من مباحث الاجتهاد والتقليد.

وعن صريح القاضي وظاهر عبارتي الشيخ والكاتب عدم حجيتها في إثبات النجاسة. لأنها لا تفيد العلم، فلا يخرج بها عن عموم ما دل على أن كل شيء طاهر حتى يعلم أنه قذر(1).

وفيه: أن مقتضى الجمع بين الدليلين حمل العلم في النصوص على أنه طريقي يقوم مقامه سائر الطرق، ومنها البينة. وذلك هو المناسب لمعتبر عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الجبن «قال: كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه الميتة»(2). ويأتي تمام الكلام في ذلك في المسألة الثانية والأربعين من فصل المطهرات.

(2) لبناء العقلاء على حجية إخبار ذي اليد فيما تحت يده. نعم الظاهر

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 37 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 60 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 2.

ص: 35

اختصاص بنائهم على ذلك بصورة عدم التهمة. وقد يستدل عليه بصحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول: قد طبخ على الثلث وأنا أعرف أنه يشربه على النصف أفأشربه بقوله؟ فقال: لا تشربه. قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف، يخبرنا أن عنده بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، يشرب منه؟ قال: نعم»(1) ونحوه غيره.

لكن الاستحلال على النصف لا يوجب التهمة في الإخبار بذهاب الثلثين، غاية الأمر أنه قد يوجب التوقف في الأخبار بالحلية، لاحتمال ابتنائه على الاستحلال المذكور.

نعم يمكن أن يستأنس له بخبر العلا بياع السابري فيمن أودعت رجلاً مالاً، وأقرت عنده أن المال لامرأة معينة، فلما ماتت أراد الورثة استحلافه على أنه ليس عنده لها شيء، حيث قال (عليه السلام): «إن كانت مأمونة عنده فليحلف لهم، وإن كانت متهمة فلا يحلف»(2) وفي صحيح أبي بصير في مضارب وصى أن ما تركه لأهل المضاربة، حيث سئل (عليه السلام) عن نفوذ وصيته فقال: «نعم إذا كان مصدقاً»(3).

وعلى ما ذكرنا يشكل حجية إخبار الوسواسي بالنجاسة، لأن الحديثين المتقدمين وإن كانا ظاهرين في الائتمان من تعمد الكذب، إلا أن بناء العقلاء أخص من ذلك، لعدم بنائهم على التعويل على خبره مع عدم الائتمان من حيثية الخطأ. ولا أقل من عدم وضوح بنائهم على حجيته حينئذ، فيكون المرجع أصالة الطهارة. ويأتي في تمام الكلام في ذلك في المسألة الثانية والأربعين من فصل المطهرات.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 13 باب: 16 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 2، 14.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 13 باب: 16 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 2، 14.

ص: 36

(37) (مسألة 26): ما يؤخذ من أيدي الكافرين من الخبز، والزيت، والعسل، ونحوها من المائعات، والجامدات طاهر (1)، إلا أن يعلم بمباشرتهم له بالرطوبة المسرية (2). وكذلك ثيابهم (3) وأوانيهم (4)، والظن بالنجاسة لا عبرة به.

(1) للأصل.

(2) فيحكم بنجاسته بناء على نجاستهم. وكذا إذا علم بإمساسهم له نجساً أو متنجساً برطوبة كالميتة ولحم الخنزير وما لاقاهما.

(3) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه - مضافاً إلى الأصل المتقدم - النصوص الكثيرة الواردة في ثيابهم(1) المتقدم بعضها في مبحث نجاسة الكافر.

(4) بلا خلاف أجده فيه كما في الجواهر. وفي كشف اللثام: «اتفاقاً إلا ممن يجري الظن مجرى العلم». والوجه فيه الأصل المتقدم.

نعم تضمنت جملة من النصوص النهي عن الأكل في آنيتهم(2). لكن حيث لا يمكن حمله على عموم الحرمة الواقعية - الذي هو مقتضى الجمود على مفادها - فكما يمكن حمله على الحرمة الظاهرية عند الشك في طهارتها، يمكن حمله على الحرمة الواقعية عند العلم بنجاستها كما هو الغالب، أو على عموم الكراهة. ولا ملزم بالأول، ليخرج عن مقتضى الأصل المتقدم. ولاسيما مع تأيده بالإجماع المدعى و بالنصوص الواردة في الثياب المشار إليها آنفاً.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73، 74 من أبواب النجاسات.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 54 من أبواب النجاسات.

ص: 37

ص: 38

الفصل الثالث: في أحكام النجاسة

اشارة

(39) (39) (مسألة 27) يشترط في صحة الصلاة (1)

(1) قال في الجواهر: «بالإجماع محصله ومنقوله في السرائر والخلاف والمعتبر وغيرها. بل والنصوص الدالة على إعادة الصلاة من البول والمني والخمر والنبيذ والدم وعذرة الإنسان والسنور والكلب ونحوها، المتممة بعدم القول بالفصل».

بل الظاهر استفادة العموم من نفس النصوص المذكورة، لإلغاء خصوصيته مواردها، حيث يستفاد من مجموعها كون المانع هو النجاسة، تبعاً للمرتكزات المتشرعية.

ولاسيما بملاحظة مثل قوله في صحيح زرارة في الثوب الذي أصابه دم رعاف أو غيره أو شيء من مني: «قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله. قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه [قد خ. ل] أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك [طهارته]»(1) وقوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان في الثوب الذي يستعيره الذمي: «فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه»(2) وما تقدم في نصوص عدم تنجيس المتنجس من قوله (عليه السلام)

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 7 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 34 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 39

في صحيح علي بن مهزيار: «من قبَل أن الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت»(1)... إلى غير ذلك مما قد يجده المتتبع.

هذا والمنصرف من الأدلة المتقدمة أن النجاسة مانعة من الصلاة، بل هو مقتضى الجمود على مفاد أكثرها. وهو المناسب للمرتكزات المتشرعية الصالحة لتنزيل ما قد يظهر منه شرطية الطهارة على ذلك. فتأمل. على أنه لا أثر لذلك بعد أصل الطهارة، حيث يحرز به الطهارة في مورد الشك، كما يحرز عدم النجاسة بالأصل أيضاً.

ثم إنه لا فرق في ذلك بين الكثير والقليل عدا الدم على ما يأتي. لكن في المختلف عن ابن الجنيد: «كل نجاسة وقعت على الثوب وكانت عينها فيه مجتمعة أو متفشية [منبسطة خ. ل] دون سعة الدرهم - الذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى - لم ينجس الثوب بذلك. إلا أن يكون النجاسة دم حيض أو منياً فإن قليلهما وكثيرهما سواء». وكأنه هو الوجه فيما سبق في مبحث نجاسة الدم من نسبة القول بعدم نجاسة ما دون الدرهم من النجاسات له. وتقدم ضعفه.

ومثله ما حمل عليه كلامه في المختلف من العفو عن كل نجاسة دون الدرهم. إذ ينحصر الدليل عليه بالقياس على الدم، الذي لا مجال له عندنا. ولاسيما مع ظهور بعض النصوص في عموم مانعية النجاسة في بعض النجاسات غير الدم والمني للقليل، كصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن رجل يبول بالليل، فيحسب أن البول أصابه فلا يستيقن فهل يجزيه أن يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟ قال: يغسل ما استبان أنه أصابه، وينضح ما يشك فيه من جسده أو ثيابه، ويتنشف قبل أن يتوضأ»(2) وغيره. والمنساق منها أن الأمر بالتطهير من أجل الصلاة. بل نصوص الاستنجاء كالصريحة في ذلك، لوضوح أن ما يصيب الذكر حين البول ويحتاج للاستنجاء قليل جداً لا يبلغ الدرهم. وقد تضمنت جملة من النصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 40

وأجزائها المنسية (1)، بل سجود السهو على الأحوط (2) طهارة بدن المصلي (3) وتوابعه - من شعره (4)

لزوم الاستنجاء من البول من أجل الصلاة(1).

على أن الظاهر من كلامه المتقدم نجاسة القليل وعدم تنجيسه، لا العفو عنه مع التنجيس. وحينئذ يظهر ضعفه كما سبق أيضاً، فإن دليل عدم العفو دليل على التنجيس ومثله في الإشكال ما عن مياه فارقيات السيد - كما في الجواهر - من العفو عن البول إذا ترشش عند الاستنجاء. لعدم الدليل على ذلك بعد عموم دليل النجاسة ودليل مانعيتها للمترشش، كما سبق تقريبه. ولعله لذا قد يحمل كلامه على إرادة ما يترشش من ماء الاستنجاء من البول. ولاسيما بلحاظ أنه هو الذي يترشش حال الاستنجاء، لا البول نفسه، كما لا يخفي.

(1) إجماعاً ادعاه سيدنا المصنف (قدس سره). والوجه فيه: أن المستفاد من أدلة القضاء كون المأتي به بعد الصلاة هو الجزء المنسي فيها، لا واجب أخر بدلاً عنه، كقوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان: «فاصنع الذي فاتك سواءً»(2) ونحوه غيره. وحيث كان مرجع شرطية الطهارة الخبثية في الصلاة إلى شرطيتها في أجزائها تعين شرطيتها في الجزء المتدارك.

(2) تقدم في مبحث شرطية الوضوء للصلاة من الفصل السابع من مباحث الوضوء الكلام في اشتراط سجود السهو بشروط الصلاة، وتقدم أن الأظهر عدمه.

(3) فإنه المتيقن من الأدلة المتقدمة.

(4) قد يظهر من عدم تنبيه الأصحاب له المفروغية عنه، لفهمه من إطلاق مانعية النجاسة من الصلاة. ولا مجال لقياسه بالطهارة الحدثية، حيث لم يريدوا من

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9، 10 من أبواب أحكام الخلوة.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 26 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.

ص: 41

وظفره (1) ونحوهما - وطهارة ثيابه (2)، من دون فرق بين الساتر وغيره (3).

إطلاق غسل البدن ما يشمل الشعر. للفرق بأن مرجع عدم وجوب غسل الشعر في الطهارة الحدثية إلى قصور موضوع الحدث عنه عرفاً، ولا مجال لذلك هنا، لعدم الإشكال في حمله انفعاله بملاقاة النجس وحمله للنجاسة الخبثية. ومنه يظهر قرب فهمه مما دل على اعتبار طهارة البدن في الصلاة، لتبعيته له عرفاً.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من استفادته مما دل على مانعية نجاسة الثوب. فلا يخلو عن إشكال، لقصور دليله مانعية الثوب ونحوه عما لا تتم به الصلاة. فلاحظ.

(1) بلا إشكال، لكونه من أجزاء البدن عرفاً.

(2) كما هو معقد الإجماع المتقدم وقد تضمنته النصوص الكثيرة. والظاهر أن المراد به مطلق اللباس، إما لأنه مطابق للثوب لغة، أو لإلحاقه به عرفاً، بحيث يستفاد حكمه منه تبعاً، كما يستفاد مما تضمن استثناء ما لا تتم به الصلاة مع عدم كونه من الثياب قطعاً. ولاسيما بملاحظة مثل صحيح زرارة عن أحدهما (عليه السلام): «قال: كل ما كان لا تجوز الصلاة فيه وحده لا بأس بأن يكون عليه الشيء...»(1). فإنه ظاهر في مانعية النجاسة إذا كانت على ما تجوز الصلاة فيه وحده، ومرجع ذلك إلى أن موضوع مانعية النجاسة هو ما يصلى فيه، وذلك يصدق على ما يلبس.

(3) قال سيدنا المصنف (قدس سره): «إجماعاً. لإطلاق النص والفتوى». ويستفاد أيضاً مما تضمن استثناء ما لا تتم به الصلاة.

هذا وفي الجواهر: «نعم لا عبرة بالزائد على القامة من اللباس زيادة خارجة عن المعتاد يخرج بها عن اسم الملبوس أو المحمول، وفاقاً للمحكي عن صريح جماعة ومستحسن المعالم وظاهر الخلاف بل صريحه. إذ لا دليل على اعتبار طهارة ذلك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 42

(43) (مسألة 28): الطواف الواجب والمندوب كالصلاة في ذلك (1).

الزائد، ضرورة انصراف الأدلة إلى غيره». وقد صرح بعدم مانعية ذلك في المعتبر والتذكرة، بل مقتضى إطلاق كلاهما عدم مانعية نجاسة ما زاد عن القامة وإن لم يخرج في طوله عن المعتاد.

ولا يخفى أنه حيث لا يراد بما تضمن مانعية نجاسة الثوب نجاسته بتمامه، بل نجاسة جزء منه فلا ريب في شمول إطلاقه لنجاسة الجزء المذكور، لعدم خروجه عن الجزئية بزيادته عن القامة. فليس في المقام إلا دعوى الانصراف عنه، وهو يحتاج إلى لطف قريحة.

(1) كما عن الأكثر، بل في الخلاف والغنية الإجماع عليه. لمعتبر يونس بن يعقوب: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رأيت في ثوبي شيئاً من دم وأنا أطوف قال: فاعرف الموضع، ثم اخرج فاغسله، ثم عد فابن طوافك»(1) ونحوه خبره الآخر(2).

نعم في مرسل البزنطي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قلت له رجل في ثوبه دم مما لا تجوز الصلاة في مثله فطاف في ثوبه، فقال: أجزأه الطواف، ثم ينزعه ويصلي في ثوب طاهر»(3). لكن لما لم يكن السؤال فيه عن حكم إيقاع الطواف بالثوب النجس، بل عن حكم الطواف بعد وقوعه، فهو إن لم يكن ظاهراً في عدم تعمد إتباع الطواف به، فلا أقل من لزوم حمله على ذلك، جمعاً مع الحديثين الأولين.

ومنه يظهر ضعف ما في الوسيلة من كراهة الطواف مع نجاسة الثوب والبدن، وما عن ابن الجنيد من كراهة الطواف في ثوب أصابه دم لا يعفى عنه ومال إليه في المدارك. ومن جميع النصوص المتقدمة يظهر صحة الطواف مع النجاسة من دون تعمد.

كما إن مقتضى إطلاق الحديثين الأولين العموم للدم القليل. نعم قد يظهر من

********

(1و2و3) ، وسائل الشيعة ج: 9 باب: 52 من أبواب الطواف حديث: 1، 2، 3.

ص: 43

(44) (44) (مسألة 29): الغطاء الذي يتغطى به المصلي إيماء إن كان ملتفاً به المصلي بحيث يصدق أنه صلى فيه وجب أن يكون طاهراً وإلا فلا (1).

(مسألة 30): يشترط في صحة الصلاة طهارة محل السجود (2)

السؤال في الأخير المفروغية عن عدم قدح ما يعفى عنه في الصلاة. لكن في الاكتفاء بذلك في الخروج عن الإطلاق إشكال، بل منع. ولاسيما مع قوة إطلاق الأول بنحو يشمل القليل. وتمام الكلام في محله.

(1) فإن النصوص وإن اشتملت على عنوان الثوب، إلا أنها - كما تقدم - محمولة على كل ما يصدق عليه اللبس، وهو لا يصدق في مثل اللحاف إلا مع الإلتفاف به. وأما ما ذكره السيد في العروة الوثقى من الاحتياط بإلحاق اللحاف بالثوب إذا كان ساتراً، دون ما إذا كان الساتر غيره. فهو غير ظاهر الوجه. ولاسيما مع تصريحه بعدم الفرق في اللباس الذي يعتبر طهارته بين الساتر وغيره. على أنه لو فرض دخل التستر فيه فالمراد به فعلية الساترية وإن كان هناك ساتر غيره، فمن لبس ثوبين كل منهما ساتر في نفسه لابد في صحة صلاته من طهارتهما معاً، لا طهارة أحدهما، كما هو ظاهر.

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب المدعى عليه الإجماع في الغنية والمعتبر والتذكرة والمختلف والمنتهى والذكرى والتنقيح وجامع المقاصد ومحكي إرشاد الجعفرية ومجمع البرهان وشرح الشيخ نجيب الدين وغيرها.

نعم قد يظهر من بعضهم في مبحث مطهرية الشمس جواز السجود على الموضع الذي تجففه مع بقائه على النجاسة. لكنه ليس لعدم اعتبار طهارة مسجد الجبهة، بل للعفو عن النجاسة مع تجفيف الشمس لها، ولذا صرحوا بعدم جواز السجود على ما جف بغير الشمس. ومن ثم كان الظاهر التسالم على اعتبار طهارة مسجد الجبهة.

وقد يستدل عليه من النصوص بصحيح زرارة: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلي فيه. فقال: إذا جففته الشمس فصل

ص: 44

عليه، فهو طاهر»(1) ، وصحيح ابن محبوب: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى، ثم يجصص به المسجد، أيسجد عليه؟ فكتب إلي بخطه: إن الماء والنار قد طهراه»(2).

وقد استشكل سيدنا المصنف (قدس سره) في الأول بأن السؤال فيه عن الصلاة في المكان، وهو أمر آخر غير السجود عليه. وفي الثاني بتعذر العمل بظاهره.

وكأنه بلحاظ أن الإيقاد على الجص بالعذرة وعظام الموتى لا يوجب نجاسته ليحتاج للتطهير، لأن الظاهر أن الوقود منفصل عن الجص، ولو اتصل به فهو لا ينجسه، لجفافه حين الإيقاد. ولاسيما مع أن العظام من مستثنيات الميتة. واشتمالها على المخ السائل وسيلانه على الجص غير مفروضين في السؤال.

ولو فرض أن الجص قد تنجس بهما فالماء والنار لا يطهراه، لعدم مطهرية النار إلا مع الاستحالة غير الحاصلة في الجص بطبخه. وحمله على مطهريتها للعذرة والعظام المحروقة لاستحالتها رماداً مخالف لظاهر نسبة التطهير للجص نفسه بسبب الماء والنار معاً. كما أن الماء لا يطهر الجص لو كان نجساً، لعدم غسله لأكثره، لأنه ينفذ فيه حتى يكون كالوحل، ولا ينغسل به، وعدم انفصال غسالته لو غسله. على أن ملاقاة الماء له بعد ملاقاة النار بمدة طويلة، والالتزام حينئذ باستناد التطهير لهما معاً بنحو التشريك في غاية الغرابة. ومنه يظهر الإشكال في جملة من كلمات بعض

مشايخنا (قدس سره) في المقام.

نعم يمكن الجواب عما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) بأن السؤال في صحيح زرارة وإن كان عن الصلاة في المكان، إلا أن الجواب قد تضمن جواز الصلاة على المكان، فيكون ظاهراً في إناطة جوازه بالطهارة، والمتيقن من ذلك مسجد الجبهة. فتأمل. وتعذر العمل بصحيح ابن محبوب في تطهير الماء والنار للجص لا يمنع من العمل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 81 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 45

وهو ما يحصل به مسمى وضع الجبهة (1)، دون غيره من مواضع السجود (2)، وإن كان أحوط استحباباً.

بظهوره في توقف صحة السجود عليه على طهارته، بل ظاهر السؤال فيه المفروغية عن ذلك، وهو المناسب للاتفاق المدعى ممن سبق. وكفى بذلك بمجموعه دليلاً في المقام.

هذا وفي البحار أن ظاهر بعض النصوص عدم اشتراط طهارة مسجد الجبهة. وكأنه يشير للنصوص الآتية المتضمنة جواز الصلاة على الموضع النجس أو في الموضع النجس. إلا أنها - مع معارضتها بغيرها مما يأتي - لا تنهض دليلاً في المقام، لأن جواز الصلاة في الموضع النجس أو عليه أعم من جواز السجود عليه، فلا يخرج به عما تقدم. فلاحظ.

(1) فلا مانع من نجاسة ما زاد عليه وإن كان مماساً للجبهة، فالطهارة في المقام شرط فيما يجب السجود عليه، لا في تمام ما يسجد عليه وإن كان زائداً على الواجب، كما يناسبه ذكرهم له في سياق وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه. ولا أقل من إجمال معقد إجماعهم، الملزم بالاقتصار فيه على المتيقن. وكذا الحال في الصحيحين. فلا مخرج عن أصل البراءة من اعتبار طهارة ما زاد عن ذلك أو مانعية نجاسته.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعى عليه الإجماع من غير أبي الصلاح الحلبي فقد حكي عنه اعتبار الطهارة في جميع المساجد السبعة.

وقد يستدل له بالنبوي: «جنبوا مساجدكم النجاسة»(1). وبإطلاق صحيح زرارة المتقدم المستفاد منه عدم جواز الصلاة على المكان النجس.

وهو كما ترى، لضعف النبوي بالإرسال، ولاحتمال حمله على بيوت الله تعالى، كما فهمه بعض الناقلين له في مقام الاستدلال به، ولو حمل على مساجد الصلاة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 24 من أبواب أحكام المساجد حديث: 2.

ص: 46

فالمنصرف منها أو المتيقن مسجد الجبهة، نظير قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(1). وكأنه لأنه ركن السجود المأخوذ في مفهومه لغة. وأما الصحيح فهو مجمل من هذه الجهة، والمتيقن منه اعتبار مسجد الجبهة، كما تقدم.

هذا وعن المرتضى اعتبار طهارة تمام مكان المصلي أو خصوص ما يلاقي بدنه. وقد يستدل له بما تضمن النهي عن الصلاة على الشاذكونة(2) التي أصابتها الجنابة، كموثق ابن بكير: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشاذكونة يصيبها الاحتلام أيصلى عليها؟ فقال: لا»(3). وما تضمن النهي عن الصلاة على المكان القذر، كموثق عمار

عنه (عليه السلام): «سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس، ولكنه قد يبس الموضع القذر، قال: لا يصلى عليه...»(4) وغيره. ومنه ما تضمن إناطة جواز الصلاة بإصابة الشمس، كصحيح زرارة المتقدم.

لكن النصوص المذكورة معارضة بغيرها مما تضمن الترخيص في الصلاة على الشاذكونة، والمكان القذر، كصحيح زرارة أو موثقه عن أبي جعفر (عليه السلام): «سألته عن الشاذكونة يكون عليها الجنابة أيصلى عليها في المحمل قال: لا بأس»(5). وقريب منه خبر ابن أبي عمير(6) ، وصحيح علي جعفر عن أخيه (عليه السلام): «عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة، أيصلى فيهما إذا جفا؟ قال: نعم»(7) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام): «سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أيصلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم.

(2) هي بالفتح ثياب غلاظ مضربة تعمل باليمن، مجمع البحرين.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 4، وج: 3 باب: 38 من أبواب مكان المصلي حديث: 4.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 47

(48) (مسألة 31): كل واحد من أطراف الشبهة المحصورة بحكم النجس، فلا يجوز لبسه في الصلاة، ولا السجود عليه (1)، بخلاف ما هو

عليه؟ قال: إذا يبست فلا بأس»(1) ونحوها غيرها. فلابد من الجمع بين نصوص الشاذكونة بالحمل على الكراهة.

وربما يحمل موثق ابن بكير المانع على صورة الرطوبة، التي لا إشكال في قصور الخبرين المجوزين عنها. لكنه بعيد جداً، حيث يبعد خفاء الحكم مع الرطوبة على مثل ابن بكير حتى يسأل عنه. والأمر سهل.

وأما نصوص المكان والبواري فيمكن الجمع بينها بالحمل على الكراهة أيضاً، أو بالحمل على غير موضع السجود بقرينة ما تضمن اعتبار طهارته.

وأما الجمع بينها بحمل نصوص النهي على صورة إصابة الموضع النجس بأجزاء البدن، وحمل نصوص الجواز على صورة عدم إصابته. فلا شاهد عليه. وبالجملة: لا شاهد للقول المذكور، بل مقتضى أصالة البراءة عدم اشتراط ذلك في الصلاة.

(1) لتنجز احتمال التكليف في كل منهما بسبب العلم الإجمالي المذكور، بناء على ما هو المشهور المنصور من حجية العلم الإجمالي بنحو يقتضي الموافقة القطعية، على ما حققناه في الأصول.

نعم الظاهر اختصاص ذلك بالآثار المترتبة على النجاسة فعلاً، كالمانعية من لبسه أو السجود عليه في الصلاة، وحرمة الأكل والشرب ونحوها. للعلم به تبعاً للعلم بالنجاسة إجمالاً، دون الآثار التعلقية التي تترتب عليه بتوسط أمر غير حاصل فعلاً، كنجاسة الملاقي الموقوفة على الملاقاة، إذ بعد فرض عدم تحقق ذلك الأمر حين العلم بالنجاسة لا يعلم بحصول التكليف إجمالاً، فلا موجب لتنجزه بالعلم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 48

من أطراف الشبهة غير المحصورة (1). ولا فرق بين العلم بالحكم التكليفي أو الوضعي والجاهل بهما (2)

بالنجاسة.

ومن ثم كان التحقيق عدم الاجتناب عن ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة. إلا أن يكون بنفسه طرفاً لعلم إجمالي منجز، كما لو لاقى كل طرف من أطراف العلم الإجمالي ثوباً، حيث يعلم حينئذ بنجاسة الثياب الملاقية.

والظاهر أن ذلك هو مراد سيدنا المصنف (قدس سره)، وإن أوهم كلامه عموم تنزيل أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة منزلة النجس بنحو يشمل ذلك، بل بنحو يقتضي ترتب آثار النجس على كل منهما، فلا تصح الصلاة لو كررها المكلف بكل منهما، مع أن ذلك غير مراد له قطعاً، وليس المراد إلا تنجز احتمال النجاسة في كل منهما، فلا تجزي الصلاة به وحده، من دون أن يمنع من صحة الصلاة بهما معاً التي يعلم معها بتحقق الصلاة بالطاهر.

(1) وكذا إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن الابتلاء، فإن العلم الإجمالي لا يكون منجزاً ولو مع انحصار الشبهة، كما لو علم إجمالاً بنجاسة ثوبه أو ثوب غيره ممن لا يأذن بالصلاة في ثوبه، حيث لا يكون العلم الإجمالي منجزاً حينئذ، ولا يمنع من الرجوع إلى أصالة الطهارة في ثوبه. وتمام الكلام في ذلك، وفي ضابط الشبهة غير المحصورة، في علم الأصول.

(2) الظاهر أن مراده بالحكم الوضعي هو نجاسة الأمر النجس، كنجاسة عرق الجنب من الحرام، ونجاسة الكافر، وبالحكم التكليفي مانعية النجاسة من الصلاة التي هي منتزعة من التكليف بالصلاة المقيدة بعدم النجاسة.

وقد أشار بذلك إلى الكلام في عموم المانعية لصورة الجهل بالحكمين المذكورين أو بأحدهما، كما لو صلى في الثوب الملاقي للمتنجس بتخيل طهارته، للجهل بأن

ص: 49

المتنجس ينجس، أو صلى بالثوب الملاقي لقليل من المني عالماً بنجساته لتخيل أن المني كالدم يعفى عن القليل منه، حيث وقع الكلام منهم في عموم المانعية لذلك بنحو يقتضي بطلان الصلاة في الفرضين المذكورين أو قصورهما عنها فتصح الصلاة فيهما معاً، أو التفصيل بينهما.

لا ينبغي التأمل في أن مقتضى إطلاق أدلة شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة عموم الشرطية أو المانعية لحال العلم بالحكم التكليفي والوضعي والجهل بهما أو بأحدهما، لأن موضوع الحكم هو الطهارة والنجاسة الواقعيان دون احرازهما، ولذا ثبت بطلان الصلاة بالنجاسة نسياناً وإن كان الناسي قد يحرز الطهارة، ولا إشكال ظاهراً في صحة الصلاة واقعاً لو صادفت الطهارة وإن لم تحرز حينها.

كما لا ريب في أن مقتضى أصل الطهارة واستصحابها جواز الدخول في الصلاة، ومقتضى استصحاب النجاسة عدمه، مع أن المحرز بالأصل هو الطهارة والنجاسة بذاتهما، لا بعنوان كونهما محرزتين. وقد أطلنا الكلام في ذلك عند الكلام في الاستدلال بصحيحة زرارة الثانية على الاستصحاب من كتابنا (المحكم في الأصول). فراجع.

ودعوى: امتناع تكليف الجاهل، لأن الغرض من التكليف إحداث الداعي للعمل، ولا يصلح التكليف للداعوية مع الجهل به.

مدفوعة بأن عدم داعوية التكليف مع الجهل به ليس لقصور في ملاكه ولا في موضوعه ولا في متعلقه، بل لتوقف داعوية الداعي - في رتبة متأخرة عن ثبوته - على الإلتفات إليه، ومثل ذلك لا يقتضي قصور التكليف، ولا الإجزاء. ولذا لا إشكال في وجوب التدارك في الوقت وخارجه مع ترك الامتثال للجهل بأصل التكليف أو الغفلة عنه. وبعبارة أخرى: مثل هذا القصور في الداعوية لا يقتضي قصور الداعي في نفسه.

والحاصل: أنه لا إشكال في أن مقتضى إطلاقات أدلة الشرطية أو المانعية العموم لصورة الجهل بالحكم الوضعي والتكليفي. ومقتضاه عدم الاجتزاء بالصلاة

ص: 50

الواقعة مع النجاسة حينئذ. وهو الحال في سائر الأجزاء والشرائط، فإن مقتضى أدلتها العموم لصورة الجهل بالحكم الشرعي المستلزم لعدم الاجتزاء مع الإخلال بالجزء أو الشرط حينئذ.

نعم قد يدعى لزوم الخروج عن ذلك بحديث: «لا تعاد الصلاة...» المشهور، وهو صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنه قال: لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود. ثم قال: القراءة سنة، والتشهد سنة، ولا تنقض السنة الفريضة»(1) ، بناء على ما هو الظاهر - وعن المشهور - من أن المراد بالطهور الإشارة للطهارة من الحدث، دون الطهارة من الخبث، لعدم الإشكال في صحة الصلاة مع الإخلال بالطهارة من الخبث للاضطرار أو الجهل.

ولاسيما مع تعليل الإعادة مع الإخلال بها نسياناً بالعقوبة في موثق سماعة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرى في ثوبه الدم، فينسى أن يغسله حتى يصلي. قال: يعيد صلاته كي يهتم بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه...»(2). فإن التعليل بالعقوبة، وإغفال التعليل بأنه من أركان الصلاة، مناسب جداً لعدم كونه من الأركان.

مضافاً إلى ما نبه له بعض مشايخنا (قدس سره) من أن ما تضمنه الذيل من أن القراءة سنة والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة. راجع للتفريق بين الأركان الخمسة المذكورة وغيرها من واجبات الصلاة بأن الأركان فريضة وغيرها سنة. والمراد بالفريضة ذلك ما فرض في الكتاب، وبالسنة ما وجب بالسنة. والذي تضمنه الكتاب هو الطهارة الحدثية دون الخبثية، وإنما استفيد اعتبارها من الصلاة من النصوص لا غير.

نعم ذكر في مجمع البيان في الوجه الأول لتفسير قوله تعالى: "وثيابك فطهر"(3)

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 29 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(3) سورة المدثر الآية: 4

ص: 51

أنه تطهير الثياب من النجاسة للصلاة، وقد يناسبه قوله تعالى قبل ذلك: "وربك فكبر".

إلا أن النصوص قد تظافرت بتفسير تطهير الثياب في الآية الشريفة بتقصيرها وتشميرها(1) وفي خبر عبد الرحمن بن عثمان: «قال أبو الحسن (عليه السلام): أن الله عز وجل قال لنبيه: وثيابك فطهر وكانت ثيابه طاهرة، وإنما أمره بالتشمير»(2).

وحينئذ يكون مقتضى عموم الحديث عدم الإعادة في المقام ونحوه من موارد الإخلال بالجزء أو الشرط للجهل بالحكم الشرعي. وهو لا ينافي ما سبق من عموم الجزئية والشرطية والمانعية لحال الجهل بالحكم الشرعي، لأن الاجتزاء بالناقص بعد وقوعه لا يتوقف على تحقق الامتثال به، ليستلزم كون متعلق الأمر المتمثل هو ما يعم الناقص، ومرجعه إلى قصور دليل الجزئية أو الشرطية عن حال الجهل، بل قد يكون للاجتزاء بالناقص حينئذ تفضلاً من المولى أو لتعذر استيفاء مصلحة التام بعد الإتيان بالناقص. كما هو الحال في النسيان أيضاً، حيث لا إشكال في الاجتزاء معه بالناقص في كثير من الموارد. وهو يبتني على ما ذكرنا، ولا يتوقف على قصور الجزئية أو الشرطية عن حال النسيان، فإنه مخالف لإطلاق أدلة الجزئية والشرطية أيضاً من دون أن ينافيه دليل الإجزاء لو تم في مورد.

هذا وعن بعض الأعاظم دعوى اختصاص حديث: «لا تعاد...» بالنسيان لوجه ذكره بعض مشايخنا في المقام، وقد يرجع لما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في أوائل فصل الخلل في الصلاة وقد أطالا في مناقشته ودفعه بما يغني عن التعرض له. بل هو لا يرجع إلى محصل ظاهر بعد وضوح صدق الإعادة مع الجهل كالنسيان بلحاظ أن الأمر المعاد من سنخ المأتي به.

نعم قد يدعى لزوم حمله على خصوص النسيان لأحد الأمرين:

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 22 من أبواب أحكام الملابس.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 22 من أبواب أحكام الملابس حديث: 8.

ص: 52

الأول: الإجماع المدعى على أن الجاهل بالحكم بحكم العامد. لكنه - لو تم - ليس بنحو يصلح للخروج عن مقتضى إطلاق الحديث، لعدم وضوح ابتنائه على تعبد شرعي لم يصل إلينا، بل قد يبتني على ملاحظة القواعد العامة من دون خصوصية للصلاة، مع الغفلة عن إطلاق الحديث فيها المخرج عن القواعد المذكورة، أو تخيل اختصاصه بالنسيان بسبب النصوص الواردة فيه بالخصوص، مع الغفلة عن عدم منافاتها لعمومه للجهل.

ولاسيما مع أن التصريح بذلك إنما حصل في عصر تحرير الفتاوى منفصلاً عن النصوص، أما القدماء الذين كانت فتاواهم تعرف من طريق روايتهم للنصوص فلا طريق لإحراز ذهابهم إلى اختصاص الحديث بالنسيان مع روايتهم له من دون تنبيه منهم لتقييده بذلك.

مضافاً إلى ذهاب جماعة كثيرة إلى الإجزاء في العبادات أو مطلقاً مع اختلاف التقليد، والعدول من مجتهد إلى آخر بأحد الأسباب المسوغة للعدول، فإنه وإن كان بينه وبين المدعى في مفاد الحديث عموم من وجه - لاختصاص المدعى بما عدا الأركان من أجزاء الصلاة وشروطها، مع عمومه للخلل السهوي وللجهل من غير جهة اختلاف التقليد، كالجهل التقصيري، واختصاص ما ذكروه بالخلل من جهة اختلاف التقليد، مع عمومه لأركان الصلاة وغيرها وسائر ما يعتبر في العبادات أو مطلقاً - إلا أن تحديد سور القضية المستفادة من الإجماع في غاية الصعوبة والإشكال.

الثاني: ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) - في مباحث الخلل من كتاب الصلاة - من أن ظاهر ذيل الصحيح كون الوجه في نفي الإعادة أن ماعدا الخمسة سنة، فيجب تقييده بما دل على وجوب الإعادة بترك السنة تعمداً، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «إن الله عز وجل فرض الركوع والسجود، والقراءة سنة، فمن ترك القراءة متعمداً أعاد الصلاة، ومن نسي القراءة فقد تمت صلاته ولا شيء عليه»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 27 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 2.

ص: 53

وإطلاق الترك التعمدي يشمل الترك للجهل بالحكم.

وقد أجاب (قدس سره) عن ذلك بما حاصله: أن الترك العمدي ينصرف إلى الترك عن علم بالحكم، فهو يبتني على تعمد المخالفة وإنقاص الصلاة. ولا ينافيه مقابلته بالنسيان المشعر بانحصار الأمر بهما، لقرب كون ذكر النسيان لأنه أحد أفراد العذر أو أظهرها وأشيعها، لا لخصوصية فيه من بينها، بحيث ينحصر عدم الإعادة به.

وإن شئت قلت: لو فرض ظهور المقابلة بين العمد والنسيان في الانحصار، فالتنازل عن خصوصية النسيان وتعميم الإعادة لجميع موارد العذر الإثباتي، ومنها الجهل بالحكم، أقرب عرفاً من حمل التعمد على ما يعمّ الجهل بالحكم. ولاسيما مع بنائهم على عدم الإعادة مع الترك العمدي لنسيان الحكم أو لتخيل الإتيان بالجزء أو الشرط أو لقيام الحجة عليهما خطأ. وكذا مع الجهل بالموضوع كالصلاة في النجس أو فيما لا يؤكل لحمه لعدم علمه بلبسه. ولا أقل من الإجمال وعدم نهوض الصحيح بالاستدلال وتقييد إطلاق حديث: «لا تعاد...».

ومثله في ذلك جميع ما تضمن المقابلة بين التعمد والنسيان. وكذا موثق منصور بن حازم: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني صليت المكتوبة فنسيت أن أقرأ في صلاتي كلها. فقال: أليس قد أتمت الركوع والسجود؟ قلت: بلى. قال قد تمت صلاتك إذا كان نسياناً»(1). فإنه من القريب سوق الشرطية للحصر الإضافي في مقابل العمد، أو كونها غير مسوقة للمفهوم بل لمجرد التأكيد على مورد السؤال. ويناسبه بناؤهم على عدم الإعادة مع نسيان الحكم وغيره مما تقدم، كما أشار إلى بعض ذلك سيدنا

المصنف (قدس سره).

نعم في صحيح ميسر عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: شيئان يفسد الناس بهما صلاتهم قول الرجل: تبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك. وإنما هو شيء قالته الجن بجهالة فحكى الله عنهم. وقول الرجل: السلام علينا وعلى عباد الله

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 29 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 2.

ص: 54

الصالحين»(1) وقريب منه مرسل الصدوق. مع وضوح أن الناس من العامة إنما تأتي بالتسليم في التشهد الأول جهلاً بمبطليته.

لكن لا يبعد كون المراد بالإفساد إنقاص الصلاة والإتيان بها على خلاف الوجه المأمور به، من دون نظر للإعادة، لما سبق من أن نقص العمل وعدم مطابقته للمأمور به يجتمع مع عدم وجوب الإعادة، ولاسيما وإن قول: تبارك اسمك... ذكر يبعد وجوب إعادة الصلاة معه فالحديثان واردان لبيان عدم مشروعية الكلامين المذكورين في الصلاة، لا لبيان وجوب الإعادة بهما، فلا ينافيان عموم حديث: «لا تعاد...» للجاهل بالحكم.

على أنهما مختصان بموردهما، فلو فرض البناء على الإعادة فيه تخصيصاً للحديث فلا مانع من العمل به في غير الكلامين المذكورين.

ومن ثم لا مخرج عن إطلاق الحديث، ولا ملزم بحمله على خصوص النسيان وقصوره عن الجهل بالحكم ونحوه من الأعذار.

ثم إن بعض مشايخنا (قدس سره) فصّل في وجوب الإعادة مع الجهل بالحكم بين القاصر والمقصر، فحكم بعدم وجوب الإعادة في الأول، عملاً بإطلاق الحديث الشريف، وبوجوب الإعادة في الثاني، لأن إطلاق الحديث الشريف وإن كان شاملاً له بدواً، إلا أنه لابد من البناء على قصوره عنه، لئلا يلزم حمل أدلة الجزئية والشرطية والمانعية على خصوص صورة الإخلال العمدي مع العلم بالحكم، وهو حمل على الفرد النادر، بل غير المتحقق لأن الإقدام على الامتثال بما يعلم بعدم تماميته لا يصدر إلا من اللاعب العابث، ولا يمكن التقرب به إذا كان عبادياً إلا على وجه التشريع المحرم.

لكنه - كما ترى - يبتني على أن الاجتزاء بالناقص وعدم الإعادة معه مستلزم لكونه امتثالاً للتكليف الراجع لقصور أدلة الجزئية والشرطية والمانعية عن مورد عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 12 من أبواب التشهد حديث: 1.

ص: 55

الإعادة وتقييدها بغيره. وقد عرفت آنفاً المنع من ذلك، وأن عدم الإعادة مع النقصان قد يكون للاجتزاء بالناقص تفضلاً من المولى، أو لتعذر استيفاء ملاك التام معه من دون أن ينافي عموم مطلوبية التام، ويكون الغرض من تشريع التام مطلقاً الحث عليه، وجعله مورداً لمسؤولية المكلف وفي عهدته.

مع أنه إذا تم عموم حديث: «لا تعاد...» في نفسه للناسي والجاهل بقسميه، ولزم من إبقائه على عمومه حمل أدلة الجزئية والشرطية والمانعية على الفرد النادر - كما

ذكره (قدس سره) - فحيث لا شاهد من الحديث ولا غيره على التفصيل بين القاصر والمقصر، بل هو مغفول عرفاً، يلزم البناء على إجمال الحديث، أو حمله على خصوص النسيان، لأنه المتيقن للإجماع على إرادته منه وللأدلة الكثيرة الواردة على عدم الإعادة معه.

وبالجملة: لا مجال للتفصيل المذكور بعد عدم الشاهد عليه، وهو كغيره من التفصيلات التبرعية، بل لابد إما من البناء على اختصاص الحديث بالنسيان - كما هو المشهور - أو البناء على عمومه لغيره من الأعذار الإثباتية، كالجهل بالحكم ونسيانه وغيرهما، كما هو الظاهر.

أما سيدنا المصنف (قدس سره) فهو مع التزامه بعموم الحديث للجاهل بالحكم بقسميه قد ذكر أنه لابد من الخروج عنه في خصوص المقام بما تضمن وجوب الإعادة على من صلى عالماً بالنجاسة، كصحيح عبد الله بن سنان: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم. قال: إن كان قد علم أنه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن يصلي، ثم صلى فيه ولم يغسله، فعليه أن يعيد ما صلى، وإن كان لم يعلم به فليس عليه إعادة»(1). وفي صحيح محمد بن مسلم في الدم يكون في الثوب: «وإذا كنت رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم، فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة، فأعد ما صليت فيه»(2) وفي حديث إسماعيل الجعفي في الدم يكون في الثوب أيضاً: «وإن كان أكثر من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 56

قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته...»(1) ، وفي خبر علي بن جعفر: «إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي...»(2) ونحوها غيرها.

وتوضيح ما ذكره: أنه لا مجال لحمل هذه النصوص على خصوص صورة العلم بالنجاسة والمانعية، إما لوضوح وجوب الإعادة فيها بنحو يستغنى معه عن السؤال كما ذكره (قدس سره)، وإما لعدم الإقدام على الامتثال بما يعلم بعدم تماميته إلا من العابث، ولا يمكن معه التقرب إلا على وجه التشريع المحرم، نظير ما تقدم من بعض مشايخنا (قدس سره).

وحينئذ تكون هذه النصوص أخص من حديث «لا تعاد...»، لورودها في خصوص النجاسة وعمومه لغيرها من غير الخمسة.

وقد أجاب عن ذلك بعض مشايخنا بأن الأمر بالإعادة في هذه النصوص للإرشاد إلى شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة، فهي كسائر ما تضمن بيان أجزاء الصلاة وشروطها محكومة لحديث «لا تعاد...»، ولا تنهض بتخصيصه.

ويندفع بأن النصوص المذكورة ليست واردة للإرشاد إلى شرطية الطهارة أو مانعيتها وإن استفيد منها ذلك، بل هي واردة لبيان حكم وقوع الصلاة مع النجاسة بعد المفروغية عن مانعيتها في الجملة، كما يشهد به تعرضها لصورة إيقاع الصلاة جهلاً بالنجاسة، فهي مساوقة لحديث: «لا تعاد...» وفي مرتبته، ولا وجه لحكومته عليه، خصوصاً بملاحظة ما سبق من امتناع حملها على خصوص صورة العلم بالحكم.

فالعمدة في الجواب عن هذه النصوص: أنه لم يفرض فيها العلم والإلتفات للنجاسة حين الصلاة، بل صريح جملة منها فرض العلم بها قبل الصلاة، وهو محتمل الباقي أو الظاهر منه، ولا شاهد على حملها على صورة الإلتفات لذلك حين الصلاة - إما مع سبق العلم بها أو حصوله حين الصلاة - مع كون العذر هو الجهل بالمانعية،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 10.

ص: 57

بل هو يحتاج إلى كلفة وتنبيه، بل هي تنصرف إلى صورة الغفلة والنسيان حين الصلاة، لأن ذلك هو العذر الشايع عند الناس الذي تكرر ذكره في النصوص. ولا أقل من الإجمال الموجب للاقتصار في الخروج عن إطلاق حديث: «لا تعاد...» على المتيقن، وهو نسيان النجاسة.

ودعوى: أن مقتضى إطلاق النصوص الحمل على الأعم من الأمرين معاً. مدفوعة بأن تعليل الإعادة مع النسيان بالعقوبة في موثق سماعة السابق، والتعبير معه بتضييع الغسل في صحيح محمد بن مسلم السابق أيضاً، مناسبان لكون العلم السابق بالنجاسة مقتضياً للعمل، لفرض العلم بالمانعية، إذ مع الجهل بالمانعية لا موضوع للعقوبة والتضييع. فمع فرض شمول هذه النصوص للعلم السابق مع النسيان المفروض معه العلم بالمانعية لا يمكن عرفاً شمول إطلاقها لصورة العلم المقارن للصلاة مع الجهل بالمانعية، لعدم الجامع بين الأمرين عرفاً.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن مقتضى إطلاق ما تضمن إعادة الصلاة بالنجاسة نسياناً العموم لصورة الجهل بالحكم الوضعي أو التكليفي، وحيث كان أخص من حديث: «لا تعاد...» تعين العمل بإطلاقه، وإذا كان العلم بالنجاسة السابق على الصلاة مع النسيان موجباً للإعادة مع الجهل بالحكم فالعلم بها المقارن للصلاة أولى بأن يكون موجباً لها مع الجهل المذكور.

لاندفاعها بأن التعبير بالتضييع والتعليل بالعقوبة لا يناسبان الإطلاق المذكور، بل يتعين لأجلهما حمله على خصوص صورة العلم بالحكم. بل الإنصاف أن الإطلاق المذكور منصرف إلى ذلك مع غض النظر عن التعليل والتعبير المذكورين، لانصرافه إلى ما إذا كان النسيان هو السبب في الصلاة مع النجاسة، بحيث لولاه لم تقع الصلاة معها، وذلك إنما يكون مع العلم بالحكم، أما مع الجهل به فالصلاة تقع بالنجاسة حتى مع العلم بها والإلتفات إليها، ولا أثر للنسيان.

وقد تحصل من جميع ما تقدم أنه لا مخرج عن إطلاق حديث: «لا تعاد...»

ص: 58

في جميع ذلك (1).

المقتضى للإجزاء مع الجهل بالحكم التكليفي والوضعي في النجاسة وغيرها، فاللازم البناء عليه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

(1) يعني: في اشتراط الطهارة في البدن واللباس، وطهارة مسجد الجبهة، وجريان حكم العلم الإجمالي، فلا يفرق فيها بين العلم بالحكم الوضعي والتكليفي والجهل بهما أو بأحدهما. هذا هو الذي يظهر من سياق كلامه (قدس سره).

لكن عموم ذلك لطهارة مسجد الجبهة لا يخلو عن إشكال بناء على ما ذكره من أن المخرج عن إطلاق حديث «لا تعاد...» هو ما تضمن إعادة الصلاة مع العلم بالنجاسة، لاختصاصه بنجاسة الثوب والبدن، وعدم وروده في مسجد الجبهة وكذا الحال فيما دل على بطلان الصلاة مع نسيان النجاسة. وإلحاق مسجد الجبهة بالثوب والبدن يحتاج إلى دليل، فلا مخرج فيه عن إطلاق حديث: «لا تعاد...» مع النسيان، فضلاً عن الجهل بالحكم التكليفي أو الوضعي.

كما أن جريان حكم العلم الإجمالي لا يخلو عن إشكال أيضاً، إذ مع الجهل بأحد الحكمين لا يتنجز العلم الإجمالي بالنجاسة، ولا يمنع من الامتثال. فإذا صلى المكلف بأحد الثوبين المعلوم ملاقاة أحدهما للكافر مثلاً، وهو لا يرى نجاسته أو لا يرى مانعية النجاسة، ثم علم بذلك بعد الفراغ من الصلاة، فإن تبين أن الثوب الذي صلى فيه هو الثوب الطاهر فلا إشكال في صحة صلاته، لمطابقتها للمأمور به وتأتي قصد القربة منه بسبب جهله بالحكم حينها.

وإن تبين أنه الثوب النجس فالظاهر البناء على صحة صلاته أيضاً حتى لو تم ما سبق منه (قدس سره) في الجاهل بالحكم، لعدم شمول ما تضمن بطلان الصلاة في الثوب الذي علم بنجاسته له، لأن الذي سبق العلم به هو نجاسة أحد الثوبين، لا

ص: 59

(60) (مسألة 32): لو كان جاهلاً بالنجاسة ولم يعلم بها حتى فرغ من صلاته فلا إعادة عليه في الوقت (1)

خصوص الثوب الذي صلى فيه، فلا مخرج عن حديث: «لا تعاد...». بل ذلك هو مقتضى إطلاق ما تضمن صحة الصلاة بالثوب جهلاً بنجاسته.

ولا مجال لقياسه بما إذا صلى فيه مع العلم بالحكم، لانصراف الجهل بالنجاسة إلى الجهل المعذر، ولا يشمل الجهل مع تنجز احتمال النجاسة بالعلم الإجمالي. كما أن حديث: «لا تعاد...» يقصر عندهم عن صورة التردد في صحة الصلاة حين الانشغال بها.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يتبين أحد الأمرين، حيث يتعين البناء على الصحة حتى لو فرض البطلان في الصورة الثانية. لقاعدة الفراغ، بناء على ما هو الظاهر من عمومها لما إذا علم بالغفلة حين العمل عن منشأ الشك في البطلان. فلاحظ.

(1) وفاقاً للمشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً. كذا في الجواهر. وهو مقتضى إطلاق الشيخ في مبحث لباس المصلي من النهاية، بل هو كالصريح منه في مبحث تطهير الثياب والبدن من النجاسات. وكذا في التهذيبين.

ويقتضيه - مضافاً إلى إطلاق حديث: «لا تعاد...» بناء على ما تقدم - النصوص الكثيرة. كصحيح عبد الله بن سنان المتقدم، وصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد»(1) ، ونحوه صحيح عبد الله بن سنان وصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إن أصاب ثوب الرجل الدم، فصلى فيه وهو لا يعلم، فلا إعادة عليه، وإن هو علم قبل أن يصلي، فنسي وصلى فيه، فعليه الإعادة»(2) ، وغيرها مما يأتي بعضه.

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 5، 7.

ص: 60

لكن صرح في المبسوط ومياه النهاية بوجوب الإعادة إذا علم بوقوع الصلاة في النجاسة في الوقت وهو ظاهره في الخلاف، وتبعه على ذلك ابن زهرة في الغنية وجماعة، بل في الغنية الإجماع عليه.

قال في المنتهى: «احتج الشيخ بأنه لو علم في الصلاة الإعادة، فكذا إذا علم في الوقت». وهو - كما ترى - بالقياس أشبه.

نعم قد استدل له - مضافاً إلى الأصل - بصحيح وهب بن عبد ربه عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في الجنابة تصيب الثوب، ولا يعلم به صاحبه، فيصلي فيه، ثم يعلم بعد ذلك. قال: يعيد إذا لم يكن علم»(1) ، وموثق أبي بصير عنه (عليه السلام): «سألته عن رجل صلى وفي ثوبه بول أو جنابة. قال: علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم»(2). بدعوى: أن مقتضى الجمع بينهما وبين النصوص السابقة حملهما على وجوب الإعادة إذا علم بالنجاسة في الوقت، وحمل النصوص السابقة على نفي القضاء إذا علم بها بعده.

وفيه أولاً: أن متن الحديثين لا يخلو عن إشكال، لأن صحيح وهب قد رواه في الوسائل عن الشيخ، والموجود في التهذيب بطبعتيه القديمة والحديثة، وفي الاستبصار بطبعته الحديثة روايته هكذا: «لا يعيد إذا لم يكن علم». وهو الأنسب بالشرط الذي تضمنه الصحيح، لأن الذي يناط بعدم العلم هو عدم الإعادة. أما على المتن الأول فلابد من تنزيل الشرط على محض الإشارة لمورد السؤال، وهو خلاف الظاهر جداً.

نعم في الطبعة القديمة للاستبصار روايته كما في الوسائل. وهو المناسب لما في التهذيب من عدّ الصحيح من النصوص الموهمة للإعادة، المحتاجة للتأويل. لكن ذلك وحده لا يكفي في ردّ النسخة الأخرى والاستدلال بالصحيح لوجوب الإعادة.

وأما موثق أبي بصير فالاستدلال به موقوف على أن يكون قوله (عليه السلام): «علم به أو لم يعلم» قضية شرطية مسوقة للتعميم في الحكم بعدم الإعادة، وقوله (عليه السلام): «إذا

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 8، 9.

ص: 61

علم» مسوقاً لبيان إناطة الإعادة بالعلم بعد الصلاة بوقوعها حال النجاسة. وهما وإن كانا مناسبين للتفريع بالفاء في قوله (عليه السلام): «فعليه الإعادة»، لدخولها على جواب الشرط إذا كان جملة اسمية، إلا أنهما مخالفان للظاهر جداً.

أما الأول فلعدم ما يثير احتمال الاختصاص بالعلم بعد إطلاق السؤال، ولاسيما مع ابتناء التعميم قبل بيان الحكم على عناية، وليس هو كتعميمه بعد بيانه.

وأما الثاني فلأن الإناطة المذكورة راجعة إلى إناطة تنجز الحكم بالعلم بموضوعه التي هي عقلية محضة مستغنية بوضوحها عن تعرض الإمام لها في الجواب.

مع أن متعلق العلم في الفقرة الأولى إن كان هو العلم حين الصلاة بالنجاسة فالإناطة في الفقرة الثانية إنما يحتاج إليها على الشق الثاني من التعميم، أما على الشق الأول فهي مستغنى عنها، لأن العلم حين الصلاة بالنجاسة مستلزم للعلم بوقوع الصلاة حينها.

وإن كان هو العلم قبل الصلاة بالنجاسة مع فرض الغفلة عنها حين الصلاة، لزم اختلاف متعلق العلم في الفقرتين، وهي مخالفة أخرى للظاهر. وبذلك يظهر أن الوجه الذي يبتني عليه الاستدلال بالموثق مستلزم لركاكة متنه.

ومن هنا لا يبعد حمل قوله (عليه السلام): «علم به أو لم يعلم» على الاستفهام، وحمل قوله (عليه السلام): «فعليه الإعادة إذا علم» على التفصيل في الإعادة بين شقي الاستفهام. غاية الأمر أنه قد لا يناسب ذلك التفريع بالفاء، إلا أنه أهون مما سبق على الوجه الأول بكثير. وحينئذ يكون مطابقاً لنصوص المشهور. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال، أو الذي يلزم معه الحمل على الثاني بقرينة نصوص المشهور.

وثانياً: أنه لا شاهد على الجمع المذكور لعدم الإشارة للتفصيل المذكور في شيء من النصوص المتقدمة. ومجرد التعبير بالإعادة في صحيح وهب وموثق أبي بصير لا يقتضي الاختصاص بما إذا علم بالنجاسة في الوقت، لأن الإعادة أعم من القضاء.

ص: 62

لكن ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الشاهد عليه ما دلّ على عدم وجوب القضاء من الإجماع وصحيح العيص: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل صلى في ثوب رجل أياماً، ثم إن صاحب الثوب أخبره أنه لا يصلى فيه. قال: لا يعيد شيئاً من صلاته»(1) ، ونحوه صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتى إذا كان من الغد كيف يصنع؟ قال: إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي، ولا ينقص منه شيء، وإن كان قد رآه وقد صلى فليعتد بتلك الصلاة، ثم ليغسله»(2) بدعوى: أنه بعد تقييد صحيح وهب وموثق أبي بصير المتضمنين للإعادة بذلك، وحملهما على خصوص الإعادة في الوقت، يكونان أخص من نصوص عدم الإعادة، فتقيد بهما وتحمل على ما إذا علم بالنجاسة بعد الوقت.

وفيه: أنه لا مجال لدعوى الإجماع الحجة بعد ظهور أن اختلاف الأصحاب في المسألة للاختلاف في مفاد النصوص والجمع بينها، لا للمفروغية عن وجوب القضاء، ولاسيما مع ظهور محكي المنتهى وجود الخلاف، حيث نسب سقوط القضاء لأكثر أصحابنا. بل صرح في الخلاف باختلاف أصحابنا في مسألة من صلى بالنجاسة ثم علم بذلك إلى أربعة أقوال، منها: وجوب الإعادة والقضاء مطلقاً علم بالنجاسة قبل الصلاة أو لم يعلم.

بل القول المذكور هو ظاهر الصدوق والمفيد، قال في الفقيه: «وإن كان الدم دون حمصة فلا بأس بأن لا يغسل. إلا أن يكون دم الحيض، فإنه يجب غسل الثوب منه ومن البول والمني قليلاً كان أو كثيراً، وتعاد منه الصلاة علم به أو لم يعلم». وقال في المقنعة في أواخر باب أحكام السهو في الصلاة: «ومن ظن أنه على طهارة فصلى ثم علم بعد ذلك بأنه كان نجساً ففرط في صلاته فيه من غير تأمل له أعاد ما صلى فيه في ثوب طاهر من النجاسات».

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 6، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 6، 10.

ص: 63

وأما صحيح العيص فهو - مع ابتنائه على حجية خبر صاحب الثوب - لا يختص بالقضاء، بل يشمل الإعادة، لعمومه لما إذا أخبره الرجل بعد صلاته في يومه أو ليلته قبل خروج وقتها. وأما صحيح علي بن جعفر فلو فرض ظهور صدره المتضمن لأمر بالتدارك بالقضاء في القضاء المقابل للإعادة، إلا أنه لا إشكال في عموم ذيله المتضمن لعدم التدارك لما إذا رآه بعد الصلاة قبل خروج وقتها.

وثالثاً: أن الجمع المذكور تأباه جملة من نصوص المشهور، لقوة ظهورها في أن موضوع عدم الإعادة الصلاة مع الجهل بالنجاسة، في قبال الصلاة مع سبق العلم بها، من دون إشارة لمضي وقتها. ولاسيما مثل صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دماً وهو يصلي. قال: لا يؤذنه حتى ينصرف»(1) ، وصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل صلى في ثوب فيه جنابة ركعتين، ثم علم به. قال: عليه أن يبتدئ الصلاة. قال: وسألته عن رجل يصلي وفي ثوبه جنابة أو دم حتى فرغ من صلاته ثم علم. قال: مضت صلاته ولا شيء عليه»(2).

وصحيح زرارة: «قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر فيه شيئاً، ثم صليت فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: لم ذاك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً»(3). فإن التعليل فيه كالصريح في أن منشأ عدم الإعادة وجود العذر المسوغ للصلاة، وهو لا يناسب جداً وجوب الإعادة في الوقت وعدم سقوطها إلا بخروجه. ومن ثم لا مجال للجمع المذكور بعد خلوه عن الشاهد وإباء النصوص له.

هذا وفي الدروس: «ولو جهل النجاسة فالأقوى الصحة. وقيل: يعيد في الوقت. وحملناه في الذكرى على من لم يستبرئ بدنه وثوبه عند الظنة، للرواية».

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 41 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 64

وقد يستفاد ذلك من الصدوق في الفقيه، حيث أرسل فيه رواية بالتفصيل المذكور في المني(1). ولعلها رواية ميمون [منصور] الصيقل عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قلت له: رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل، فلما أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة. فقال الحمد لله الذي لم يدع شيئاً إلا وله حد. إن كان حين قام نظر فلم ير شيئاً فلا إعادة عليه، وإن كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة»(2).

وقد يناسبه مفهوم صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال: «ذكر المني فشدده، فجعله أشد من البول. ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك. فكذلك البول»(3). وقد قوّاه في الحدائق جمعاً بين النصوص المتقدمة، بشهادة هذه النصوص. بل استظهره من عبارة المقنعة المتقدمة.

لكن المقابلة بين الصدر والذيل في صحيح محمد بن مسلم تناسب عدم سوقه للمفهوم، وأن ذكر النظر لمجرد تحقق موضوع عدم إصابة النجاسة والجهل بها، فيشكل جعله شاهداً في المقام على التفصيل المذكور.

نعم هو صريح خبر الصيقل ومرسل الصدوق. إلا أنهما لم يتضمنا تقييد الإعادة بظن الإصابة، بل ولا يعم الشك فيها، والبناء على إطلاقهما لا يناسب أكثر نصوص المشهور، لقوة ظهورها في أن المدار على الجهل، خصوصاً صحيح العيص المتقدم المتضمن الصلاة في ثوب الغير من دون إشارة للسؤال منه عن أنه هل تجوز الصلاة فيه، وخبر علي بن جعفر المتقدم المتضمن إصابة الثوب بالدم عند الحجامة، وصحيح محمد بن مسلم المتضمن النهي عن إعلام المصلي بإصابة الدم لثوبه حتى يفرغ من صلاته.

كما أن حمل الخبر والمرسل على خصوص صورة الظن التي يسهل تنزيل كثير من نصوص المشهور على غيرها بلا شاهد، فيكون الجمع بذلك تبرعياً.

********

(1و2و3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 4، 3، 2.

ص: 65

(66) (66)بل هو لا يناسب ما في صحيح زرارة، حيث قال - بعدما تقدم فيه من الحكم بعدم الإعادة مع الجهل -: «قلت: فهل عليّ أن شككت في أنه أصابه أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك»(1).

ومنه يظهر الإشكال فيما ورد في الحدائق من أن عدم وجوب النظر لا ينافي وجوب إعادة الصلاة معه. لظهور الصحيح في انحصار فائدة النظر في إذهاب الشك، مع أنه لو وجبت الإعادة لكان من فوائده المهمة التحفظ على صحة الصلاة وتجنب وجوب إعادتها لو ظهر له بعد ذلك نجاسة الثوب. ومن ثم يتعين الجمع بينهما وبين نصوص المشهور بحملهما على الاستحباب.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن مقتضى ما يأتي في مبحث العفو عن الدم دون الدرهم عن ابن أبي عقيل أنه يرى أن الصلاة في الدم إنما تجزي مع الجهل إذا كان الدم بقدر الدينار. ويظهر ضعفه مما سبق، لظهور عموم بعض نصوصه لما زاد عن قدر الدينار والدرهم من الدم، كصراحة جملة منها في العموم لغير الدم من النجاسات. وكذا مما يأتي من نصوص العفو عن الدم دون الدرهم، لصراحتها في الصحة مع العلم.

الثاني: أنه ورد في حديث أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام): «قال: لا تعاد الصلاة من دم لا [لم] تبصره غير دم الحيض، فإن قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء»(2). وعن بعض نسخ الكافي روايته هكذا: «من دم تبصره». وكيف كان فمقتضاه وجوب إعادة الصلاة في الثوب الذي أصابه دم الحيض وإن لم يعلم بإصابته له، استثناء من عموم نصوص المشهور المتقدمة.

وقد يستشكل فيه من وجهين:

الأول: أن الحديث المذكور ضعيف السند، لأن في سنده أبا سعيد المكاري

********

(1) هامش وسائل الشيعة ج: 2 باب: 41 من أبواب النجاسات ذيل الحديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 66

الذي لا نص على توثيقه. بل قد يكون في قول النجاشي في ترجمة ابنه الحسين: «كان هو وأبوه وجهين في الواقفة وكان [الحسين. ظ] الحسن ثقة في حديثه» إشعار بعدم وثاقة أبيه، كما ذكر ذلك بعض مشايخنا (قدس سره).

ويندفع بأن اقتصار النجاشي على بيان وثاقة ابنه لا يشعر بذلك بعد قرب كون منشئه أن ابنه هو صاحب الترجمة. بل تصريحه بأنهما وجهين في الواقفة مناسب جداً لكونهما وجهين في أصحابنا، لأن الواقفة فرقة منشقة على أصحابنا، والوجه فيها هو الوجه في أصحابنا قبل الانشقاق. ولاسيما مع رواية الأجلاء عنه، كأبي أيوب الخزاز وأبان ومعاوية بن وهب ويحيى الحلبي.

بل يكفي في وثاقته رواية ابن أبي عمير وصفوان عنه، مؤيداً أو معتضداً برواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه، وهو الذي أخرج البرقي من قم لأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، كما تكرر منا التعرض لذلك.

على أنه يكفي في انجبار سند الحديث - لو تم ضعفه في نفسه - اعتماد الأصحاب عليه في استثناء دم الحيض من عموم العفو عن الدم القليل. ومن ثم لا ينبغي التوقف في الحديث من هذه الجهة.

الثاني: ظهور إعراض الأصحاب عن الحديث في هذا الحكم، حيث أهملوا استثناء الدم المذكور من عموم عدم إعادة الصلاة في النجس، والإعراض المذكور وإن لم يقدح في أصالة الصدور فلا ينافي ما تقدم من حجية الخبر، إلا أنه يقدح في أصالة الظهور أو الجهة، ويمنع من التمسك بهما.

اللهم إلا أن يقال: قد يبتني عدم الاستثناء منهم على حمل قوله (عليه السلام) في الحديث: «لا تبصره» وقوله: «لم يره» على الكناية عن القلة، ولو لصعوبة الخروج عندهم عن عموم النصوص الكثيرة المتضمنة عدم الإعادة مع الجهل بالنجاسة، ولاسيما مع قوة تأثر المشهور بآراء الشيخ (قدس سره) وتأويلاته.

على أن الكليني قد أودع الحديث المذكور في باب الرجل يصلى في الثوب وهو

ص: 67

ولا القضاء في خارجه (1).

غير طاهر عالماً أو جاهلاً، بنحو يظهر منه التعويل عليه في تمام مضمونه. ولعل ذلك رأي أمثاله ممن تعرف فتاواهم من رواياتهم في كتبهم المعدة للعمل.

مضافاً إلى أن مثل الصدوق والمفيد ممن يرى لزوم الإعادة والقضاء مع الصلاة في النجس جهلاً - الذي تقدم من الخلاف أنه أحد الأقوال في المسألة - مستغن عن الاستثناء. بل صرح الصدوق بالاستثناء فيما تقدم من كلامه، كما صرح به في الفقه الرضوي(1) ، الذي لا يبعد كونه كتاباً لأحد الأصحاب، ولاسيما مع ظهور اضطراب الأصحاب (رضوان الله عليهم) كثيراً في مسألة الصلاة في النجس جهلاً.

وبالجملة: من الصعب جداً مع كل ذلك استيضاح سقوط الحديث عن الحجية في هذا الحكم. ولا أقل من الاحتياط، كما جرينا عليه.

(1) قال في الجواهر: «بلا خلاف، كما في السرائر وعن التنقيح وكشف الرموز. بل في المدارك والذخيرة والحدائق أن ظاهر الأصحاب الاتفاق عليه. بل في الغنية والمفاتيح وعن المهذب الإجماع عليه». لكن تقدم أن صريح الخلاف وظاهر محكي المنتهى وجود قول من أصحابنا بوجوب القضاء، وأن القول المذكور هو ظاهر المفيد في المقنعة. ومن الغريب بعد ذلك ردّ القول المذكور في الجواهر بالإجماع المدعى مع إلتفاته لذلك.

فالعمدة في رده النصوص الكثيرة التي تقدم الاستدلال بها للمشهور الدالة بإطلاقها بل فحواها على نفي القضاء، بل هو صريح بعضها.

نعم في موثق عبد الله بن بكير: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلاً ثوباً، فصلى فيه وهو لا يصلى فيه. قال: لا يعلمه. قلت: فإن علمه؟ قال: يعيد»(2).

********

(1) الفقه الرضوي ص: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 47 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 68

(69) (مسألة 33): لو علم في أثناء الصلاة بوقوع بعض الصلاة في النجاسة، فإن كان الوقت واسعاً بطلت في واستأنف في الصلاة (1)،

وظاهره إرادة الإعلام بعد الصلاة، لا حين إعارة الثوب، وهو شامل للإخبار بعد الوقت، بل هو كالمتيقن من فرض كثرة الصلوات التي صلاها في الثوب. ولا مجال لحمله على امتناع الصلاة فيه لأمر غير النجاسة، ككون الثوب حريراً، أو من غير مأكول اللحم. لأن أظهر أفراد المانعية من الصلاة وأشيعها النجاسة.

ومن ثم يصلح الموثق شاهداً على للقول المذكور. كما قد يستشهد له بإطلاق صحيح وهب وموثق أبي بصير اللذين سبق الاستدلال بهما للتفصيل بين القضاء والإعادة، بناء على ما سبق من عدم نهوضهما به.

لكن يظهر مما سبق الإشكال في الاستدلال بصحيح وهب وموثق أبي بصير لوجوب التدارك. فلم يبق إلا موثق عبد الله بن بكير، ولا مجال للخروج به عن نصوص المشهور، بل يتعين حمله من أجلها على الاستحباب. وكذا الحال في صحيح وهب وموثق أبي بصير لو فرض نهوضهما بدواً بالاستدلال على وجوب التدارك، وغض النظر عما سبق فيهما.

(1) كما في المفاتيح والرياض، وظاهر الوحيد في حاشيته على المدارك القول به. بل مقتضى ما تقدم من المنتهى عن الشيخ في وجه وجوب الإعادة في المسألة السابقة المفروغية عنه. لصحيح زرارة الطويل فيمن أصاب ثوبه دم رعاف أو غيره أو شيء من مني: «قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيده إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطباً، قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً»(1). لظهور صدره في كون ما رآه في أثناء الصلاة هو ما شك فيه قبلها، كما

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 69

هو المناسب لتعليل عدم الإعادة في الذيل باحتمال وقوعه عليه في الأثناء.

وصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل صلى في ثوب فيه جنابة ركعتين، ثم علم به. قال: عليه أن يبتدئ الصلاة»(1). وقوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم المتقدم: «إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته فلا إعادة عليك فكذلك البول»(2) فإنه إن لم يختص بصورة العلم بسبق النجاسة، لاستبعاد وقوع المني والبول في الأثناء، فلا أقل من كونها متيقنة من إطلاقه.

وقد يستدل أيضاً بصحيحه الأخر عنه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دماً وهو يصلي. قال: لا يؤذنه حتى ينصرف»(3) ، بحمل النهي فيه عن الإعلام في الأثناء على الإرشاد على المحافظة على صحة الصلاة، وذلك لا يكون إلا مع البطلان لو علم بالنجاسة في الأثناء. لكنه غير ظاهر، لامكان ورود النهي المذكور للإرشاد إلى عدم إحراجه بتكليف نزع الثوب في الأثناء لو أمكن والبطلان مع تعذر نزعه. فالعمدة الصحاح الثلاثة الأول.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): «وبها يخرج عما دل على نفي الإعادة في الجاهل، سواءً كان دالاً على حكم المقام بالإطلاق أم بالأولوية». وظاهره المفروغية عن نهوض ما دل على صحة الصلاة بالنجاسة جهلاً بصحتها في المقام، كما هو ظاهر الجواهر وغيره أيضاً.

لكن لا مجال لاستفادته من إطلاقه بعد اختصاص أدلته بالإلتفات بعد الصلاة. كما لا مجال لاستفادته منه بالأولوية، لأن الاجتزاء بالناقص مع الغفلة عن نقصه وعدم الإلتفات إليه إلا بعد إكمال العمل لا يستلزم الاجتزاء به مع الإلتفات

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 41 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 70

إليه في الأثناء، بحيث له البناء على ما مضى منه وإكماله. نظير الاجتزاء بالناقص مع عدم الإلتفات لنقصه إلا بعد الوقت، بحيث لا يجب القضاء، فإنه لا يستلزم الاجتزاء به مع الإلتفات إليه في الوقت بحيث لا تجب الإعادة.

نعم يتجه الإطلاق والأولوية من حيثية مقدار النقص، فإن ما دل على الاجتزاء بالصلاة في النجاسة جهلاً كما يشمل إيقاعها بتمامها في النجاسة يشمل إيقاع بعضها فيها، بل الثاني أولى بالاجتزاء به. لكن لابد من اشتراك الكل في عدم الإلتفات للنقص إلا بعد الفراغ من الصلاة، وهو خارج عن محل الكلام.

كما أنه لو كان الاجتزاء بالصلاة في النجاسة جهلاً مبنياً على أن المانع ليس هو النجاسة الواقعية، بل إحرازها - فتكون الصلاة المذكورة من أفراد المأمور به التامة التي يتحقق بها الامتثال - يتجه الإطلاق والأولوية أيضاً، فمع الإلتفات للنجاسة في أثناء الصلاة لا نقص فيما وقع منها، كما لا نقص فيها لو وقعت بتمامها مع النجاسة جهلاً، فيتعين الاجتزاء به والبناء عليه وإكمال الصلاة خالية من المانع المذكور.

نعم يختص ذلك بما إذا كان الالتفات له بعد التخلص منه، كما لو صلى في ثوب نجس جهلاً ركعتين، ونزعه، ثم علم بنجاسته. أما إذا التفت إليه قبل التخلص منه ونزعه، فقد يشكل بلحاظ العلم بلبس النجس في الصلاة من حين الالتفات للنجاسة إلى حين التخلص منها بالنزع.

على أنه سبق ضعف المبنى المذكور وأن الاجتزاء بالصلاة مع النجاسة جهلاً ليس لكونها امتثالاً تاماً بل للاجتزاء بالناقص تفضلاً. وحينئذ يحتمل اختصاص ذلك بما إذا كان الإلتفات للنقص بعد الفراغ من الصلاة الذي هو مفاد الأدلة، ولا طريق لتعميمه لما إذا كان الإلتفات إليه في أثنائها، كما ذكرنا.

وقد ظهر بذلك أن ما تضمنته الصحاح المذكورة مطابق لمقتضى القاعدة، وهو عدم إجزاء الناقص من دون أن ينافي ما تضمن صحة الصلاة بالنجاسة جهلاً، كي يدعى أنها هي المخرجة عنه، كما تقدم من سيدنا المصنف (قدس سره) وجرى عليه غيره.

ص: 71

ومنه يظهر الحال فيما لو علم في أثناء الصلاة بعد التخلص من النجاسة بوقوع بعض الصلاة معها، كما لو نزع ثوبه في أثناء الصلاة فظهر له بعد نزعه قبل الفراغ من الصلاة أنه كان نجساً. فإنه وإن كان خارجاً عن مورد الصحاح المتقدمة، إلا أن بطلان الصلاة حينئذ هو مقتضى القاعدة الأولية، من دون أن تنهض نصوص صحة الصلاة مع النجاسة جهلاً بالخروج عنها، لما سبق.

اللهم إلا أن يخرج عن القاعدة المذكورة بعموم حديث: «لا تعاد الصلاة...»، بناء على ما تقدم في المسألة الواحدة والثلاثين من اختصاص الطهور المستثنى فيه بالطهارة الحدثية.

هذا وقد صرّح المحقق (قدس سره) في مورد الكلام بأنه إن أمكنه إلقاء الثوب النجس والتستر بغيره من دون فعل مناف للصلاة وجب، وإلا استأنف الصلاة، وحكاه في مفتاح الكرامة عنه وعن العلامة في كتبهما. وسبقهما إلى ذلك الشيخ في مبحث لباس المصلي من النهاية. وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده في شيء من ذلك بين أجلاء القائلين بمعذورية الجاهل مطلقاً إلى ما بعد الفراغ». بل قال بعد تقريب عدم الفرق في معذرية الجهل بالنجاسة - على القول به - بين تمام الصلاة وبعضها: «ولذا لم يعرف خلاف بين الأصحاب على هذا التقدير، بل نفى عن الإشكال عنه في الذكرى ونسبه إلى الوضوح في مجمع البرهان». وهو مبتن على ما سبق من الإطلاق والأولوية الذين عرفت الإشكال فيهما.

وأشكل من ذلك جري الشيخ في المبسوط على التفصيل المذكور مع تصريحه فيه قبل ذلك بوجوب إعادة الصلاة مع الإلتفات للنجاسة بعد الفراغ منها قبل خروج الوقت، كما تقدم.

وكيف كان فقد يستدل لهم بصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إن رأيت في ثوبك دماً وأنت تصلي ولم تكن رأيته قبل ذلك، فأتم صلاتك، فإذا انصرفت فاغسله. قال: وإن كنت رأيته قبل أن تصلي فلم تغسله، ثم رأيته بعد وأنت

ص: 72

في صلاتك فانصرف فاغسله وأعد صلاتك»(1). وموثق داود بن سرحان عنه (عليه السلام): «في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دماً قال: يتم»(2).

بحملهما على المضي في الصلاة مع التخلص عن النجاسة بنزع الثوب أو تطهيره، وحمل الصحاح السابقة على صورة تعذر التخلص عنه، بشهادة صحيح محمد بن مسلم: «قلت له الدم يكون عليّ وأنا في الصلاة. قال: إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره، وإن لم عليك ثوب غيره فامض في صلاتك، ولا إعادة عليك، ما لم يزد على مقدار الدرهم. وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم تره...»(3) ، حيث تضمن جواز المضي في الصلاة مع إمكان التخلص من النجاسة، وعدم جوازه بدونه، إلا أن تكون النجاسة معفواً عنها، لكونها دون الدرهم، فيكون شاهداً للجمع بين الطائفتين المتقدمتين.

ويشكل أولاً: بأن الاستشهاد بالصحيح المذكور موقوف على كون موضوع الشرطية الأولى هو الدم الكثير، حيث يتعين حينئذ حمل الأمر بطرح الثوب على الوجوب، وهو خلاف الظاهر جداً بعد كون موضوع الثانية خصوص القليل بقرينة قوله: «ما لم يكن...» فلابد إما من كون موضوع الشرطية الأولى خصوص القليل بأن يرجع القيد في قوله: «ما لم يكن...» للشرطيتين معاً، كما هو الظاهر، فيكون أجنبياً عن المقام، ويتعين حمل الأمر بطرح الثوب ونزعه على الاستحباب، أو كون موضوعها الأعم من القليل والكثير بأن يرجع القيد في قوله: «ما لم يكن...» للشرطية الثانية فقط، فيتعين حمل الأمر بطرح الثوب ونزعه على الأعم من الوجوب والاستحباب، فلا ينهض بإثبات وجوب النزع في الكثير، ليكون شاهد جمع بين الطائفتين.

نعم روى الشيخ (قدس سره) في التهذيب الصحيح المذكور بسنده عن الكليني هكذا: «ولا إعادة عليك وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشيء». ومقتضاه أن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب النجاسات حديث: 3، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 73

موضوع الشرطيتين معاً الدم الكثير، فتدل الشرطية الأولى على وجوب الطرح والنزع مع الامكان وصحة الصلاة حينئذ كما عليه المشهور، ويكون الحديث شاهد جمع بين الطائفتين. وأما الشرطية الثانية المتضمنة صحة الصلاة مع تعذر الطرح والنزع، فلابد من طرحها، لمخالفتها لاتفاق الأصحاب، ولا تمنع من الاستدلال بالشرطية الأولى، كما في الجواهر.

لكن في نهوض الاتفاق المدعى بإسقاط إحدى الشرطيتين عن الحجية دون الأخرى مع ظهور الارتباط بينهما إشكال. على أن الذي يهون الأمر هو سقوط رواية الشيخ في التهذيب عن الحجية بمعارضتها لروايته لها في الاستبصار بسنده عن الكليني أيضاً بالوجه الأول. فلا تنهض بمعارضة رواية الكافي والفقيه بالوجه الأول. ولاسيما مع ظهور كونهما أضبط. بل حصول التحريف في رواية التهذيب حينئذ كالمقطوع به.

وثانياً: بأن الجمع المذكور مما تأباه كلتا الطائفتين، فمن الطائفة الأولى صحيح زرارة المتضمن ذيله الأمر بغسل الثوب والبناء على ما مضى من الصلاة عند احتمال وقوع النجاسة في الأثناء، حيث لا مجال معه لحمل الحكم ببطلان الصلاة في الصدر على خصوص صورة تعذر التخلص من النجاسة، كما هو ظاهر.

كما أن التأكيد على عدم الفرق بين رؤية النجاسة قبل الصلاة وعدمها في

قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم المتقدم: «وما كان أقل من ذلك فليس بشيء، رأيته قبل أو لم تره» مشعر أو ظاهر في عدم كون الغفلة عن النجاسة منشأ للعفو عنها مع العلم بها في أثناء الصلاة، بل منشؤها أمر آخر. ولعله ما ذكرنا من فرض كون الدم دون الدرهم. فلاحظ.

وأما الطائفة الثانية فالأمر فيها بالمضي في الصلاة من دون تنبيه للتخلص من النجاسة ظاهر جداً في عدم وجوب التخلص منها. ولاسيما صحيح عبد الله بن سنان، فإن قوله (عليه السلام) في ذيله: «فإذا انصرفت فاغسله» كالصريح في عدم وجوب غسله حال

ص: 74

الصلاة. بل التعرض فيه لذلك مع وضوح خروجه عن حكم الصلاة المسؤول عنه لا يناسب إهمال وجوب الغسل لو كان شرطاً فيها.

وبذلك ظهر أنه لا مجال للجمع المذكور بذلك، لا بشهادة صحيح محمد بن مسلم، ولا بشهادة الإجماع على عدم جواز المضي في الصلاة من دون تخلص من النجاسة.

نعم لو أمكن حمل الطائفة الثانية على المضي في الصلاة مع التخلص من النجاسة، ولو بقرينة الإجماع المدعى، لأمكن الجمع بينها وبين الطائفة الأولى، إما بحمل الطائفة الأولى على استحباب الإعادة، أو حمل هذه الطائفة على احتمال وقوع الدم في أثناء الصلاة، وحيث لا مرجح لأحد الوجهين تعين سقوط الطائفتين معاً بالمعارضة، والرجوع للقاعدة المقتضية للإعادة، كما سبق. لكن سبق تعذر الحمل المذكور عرفاً.

ومن ثم تسقط هذه الطائفة بمخالفتها للإجماع المذكور، وتنفرد الطائفة الأولى بالحجية، معتضدة بالقاعدة المذكورة. ويتعين وجوب الاستئناف.

وأما ما في الجواهر من أن ذلك يكاد يكون خرقاً للإجماع، إذ لم نعرف أحداً قال بمعذورية الجاهل إلى ما بعد الفراغ وأوجب الاستئناف هنا.

فهو كما ترى! للاطمئنان بعدم رجوع ذلك إلى إجماع تعبدي على الملازمة، لينهض بالخروج عن مفاد الأدلة، بل هو مبني على كون ذلك مقتضى الجمع بين النصوص، فمع ظهور خطئهم فيه يتعين العمل على ما تقتضيه القاعدة والنصوص المعتبرة، وهو ما تقدم، ولاسيما مع ما سبقت الإشارة إليه من ظهور اضطرابهم كثيراً في هذه المسائل.

بقي شيء: وهو أن مقتضى المقابلة في صحيح زرارة بين العلم بسبق النجاسة على الصلاة واحتمال وقوعها في الأثناء وإن كان هو الصحة مع وقوعها في الأثناء حتى لو وقع بعض الصلاة بالنجاسة، كما لو علم وهو في الركعة الرابعة بوقوعها في

ص: 75

الركعة الثالثة. إلا أن المناسبات الارتكازية تقتضي حمله على خصوص صورة عدم وقوع شيء من أجزاء الصلاة مع النجاسة كي لا يلزم فقد الصلاة لشرطها.

وإن شئت قلت: حيث لم يكن المحذور هو الصلاة مع العلم بالنجاسة، لفرض عدم العلم في المقام، فلابد من كون المحذور هو الصلاة مع النجاسة واقعاً ولو مع الجهل بها. ولا فرق ارتكازاً بين تمام ما مضى من الصلاة وبعضه في ذلك. وذلك يقتضي حمل قوله: «لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك» على إيقاعه في الأثناء من دون أن يقع شيء من الصلاة في النجاسة، لأنه مقتضى ارتكازية التعليل.

ولو فرض أجمال التعليل من هذه الجهة كان المرجع إطلاق قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم: «وإن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة» المعتضد بالقاعدة المقتضية للبطلان كما تقدم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الصحة مقتضى إطلاق صحيح محمد بن مسلم الآخر المتضمن لطرح الثوب وموثق داود بن سرحان.

فيظهر اندفاعه مما سبق من حمل صحيح محمد بن مسلم على الدم دون الدرهم، أو إجماله من هذه الجهة، ومن سقوط موثق داود بن سرحان عن الحجية بما تضمنه من جواز المضي في الصلاة مع النجس. على أنه لو تم حجية إطلاقهما كان معارضاً بإطلاق صحيح محمد بن مسلم الأول، ومع التساقط فالمرجع القاعدة التي سبق أنها تقتضي البطلان.

نعم قد يتجه العفو عن مقارنة النجاسة لما يقبل التدارك، كالقراءة والذكر، فضلاً عن المستحبات، كالقنوت، وما ليس بجزء كالجلوس من السجود. إذ بعد أن كان المستفاد من صحيح زرارة عدم مبطلية عروض النجاسة في الصلاة، وأنها ليست كالحدث، يتعين كونها مبطلة لأجزائها، فمع إمكان تدارك الجزء لا وجه للبطلان.

ولاسيما أنه من الصعب جداً حمل إطلاق قوله (عليه السلام): «لعله شيء أوقع عليك» على خصوص إيقاعه مقارناً للالتفات إليه، بحيث لم يقع شيء من أجزاء الصلاة

ص: 76

وإن كان الوقت ضيقاً حتى عن إدراك ركعة (1)، فإن أمكن التبديل أو التطهير بلا لزوم المنافي فعل ذلك وأتم الصلاة (2)،

- المبتنية بطبعها على الاستمرار والإسراع - حال حصول النجاسة.

على أن التعليل المذكور قد لا يبتني على ما ذكرنا آنفاً من كون المحذور هو وقوع أجزاء الصلاة مع النجاسة، بل على كون المحذور هو الدخول في الصلاة حال النجاسة، فمع فرض صحة الدخول فيها، للعلم بعدم وجود النجاسة قبل الصلاة، تصح الصلاة وإن وقع بعض أجزائها مع النجاسة جهلاً. بل هو أنسب بالإطلاق. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

(1) بناءً على ما عليه الأصحاب من الاجتزاء في إدراك الوقت بإدراك ركعة، وقد تقدم الكلام فيه في المسوغ السابع من مسوغات التيمم. وتقدم هناك أن الدليل على ذلك إنما يقتضي وجوب إتمام الصلاة لو أدرك ركعة منها في الوقت، لا جواز تأخيرها حتى يبقى من الوقت مقدار ركعة، بل مقتضى ما دل على لزوم إيقاع الصلاة في الوقت عدم جواز التأخير حينئذ.

وعلى ذلك قد يدعى في المقام الاجتزاء بما وقع من الصلاة في النجاسة مع ضيق الوقت عنها بتمامها، ولا يعتبر فيه ضيقه حتى عن إدراك ركعة منها.

لكن حيث كان الاجتزاء بما وقع من الصلاة في النجاسة ليس لكونه فرداً اختيارياً، بل لكونه فرداً اضطرارياً فالمتيقن من تشريعه صورة تعذر إدراك ركعة من الصلاة في الوقت، ولا طريق لإحراز تشريعه بمجرد تعذر إيقاع تمام الصلاة فيه. فلاحظ.

(2) كما في العروة الوثقى وجملة من شروحها وحواشيها. وقد يستدل له بأحد وجهين:

الأول: أن ما دل من النصوص المتقدمة على بطلان الصلاة مع العلم بالنجاسة

ص: 77

في الأثناء ووجوب استئنافها ينصرف عن مثل المقام مما يتعذر معه استئناف الصلاة التامة في الوقت.

لكن النصوص المذكورة مسوقة لبيان بطلان الصلاة حينئذ، كبطلانها مع نسيان النجاسة، ووجوب الإعادة إنما هو تابع لذلك، من دون أن يكون قيداً في البطلان، فضلاً عن أن يكون القيد خصوص الإعادة في الوقت.

ومن ثم لا يظن منهم الالتزام بذلك مع نسيان النجاسة والالتفات لها في الأثناء لو تعذر استئنافها في الوقت، مع سوق العلم بالنجاسة قبل الصلاة وفي أثنائها في مساق واحد في صحيح محمد بن مسلم من تلك النصوص. على أنه لو فرض قصور النصوص المذكورة عن شمول الفرض كفى في البناء على البطلان القاعدة، بناء على ما تقدم.

الثاني: أن الوقت أهم من الطهارة الخبثية، فيسقط اعتبار الطهارة إذا أدى إلى فوات الصلاة في الوقت.

وفيه: أن ذلك إنما يقتضي سقوط اعتبار الطهارة في الأجزاء الباقية من الصلاة لو تعذرت الطهارة فيها، أما الأجزاء السابقة فحيث كان إيقاعها عند الشروع في الصلاة مع الطهارة ممكناً، وإنما أوقعت مع النجاسة جهلاً، فلا مزاحمة بين شرطية وقوعها بالطهارة ووجوب إيقاعها في الوقت، لتكون أهمية الوقت منشأ لسقوط شرطية الطهارة فيها بل هي قد وقعت باطلة، ولا تصح بتعذر تداركها بعد ذلك.

نعم يتجه الاستدلال بذلك فيما إذا وقعت النجاسة في أثناء الصلاة وتعذر إزالتها وضاق الوقت عن استئناف الصلاة، حيث تصح الأجزاء الأولى لوقوعها مع الطهارة، والأجزاء الباقية لسقوط شرطية الطهارة بالمزاحمة للوقت، كما يأتي في المسألة اللاحقة.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن إلحاق الجهل بالتعذر في إجراء حكم التزاحم مما يساعده المذاق العرفي. فهو غريب جداً، بل لم يلتزم هو (قدس سره) بذلك في

ص: 78

(79) وإلا صلى فيه (1). والأحوط استحباباً القضاء أيضاً.

(مسألة 34): لو عرضت النجاسة في أثناء الصلاة (2)، فإن أمكن

النسيان الذي هو نظير الجهل في المعذرية. ومن ثم كان الظاهر بطلان الصلاة في الفرض.

نعم بناء على ما عليه المشهور من صحة الأجزاء السابقة بسبب الجهل يتعين البناء على الصحة في المقام، لفرض المحافظة على الطهارة في باقي الأجزاء، كما هو الحال مع سعة الوقت.

(1) هذا يتم بناء على صحة الأجزاء السابقة - إما مطلقاً كما عليه المشهور، أو في خصوص ضيق الوقت عن الاستئناف كما سبق منه (قدس سره) - لأن مقتضى أهمية الوقت من الطهارة الخبثية سقوط اعتبارها في الأجزاء الباقية بعد الإلتفات للنجاسة، كما أصرّ عليه في الجواهر، رداً على ما في المدارك من التشكيك في الأهمية المذكورة، فإن الظاهر أن التشكيك في ذلك في غير محله، كما يظهر مما ورد في انحصار الساتر بالنجس. بل الظاهر مفروغية الأصحاب (رضوان الله عليهم) عن ذلك.

هذا كله بناءً على أنه مع انحصار الساتر في النجس يجب الصلاة فيه، أما بناء على أنه يجب الصلاة عارياً فاللازم النزع إذا كانت النجاسة في الثوب إلا مع الاضطرار للبس الثوب، فيجوز لبسه حينئذ. ويأتي الكلام في ذلك في المسألة الثامنة والثلاثين إن شاء الله تعالى.

(2) يعني: من دون أن يقع بعض الصلاة حال النجاسة. بل يكفي عدم العلم بوقوع بعضها في الحال المذكور، لاستصحاب عدم النجاسة حين الإتيان بالأجزاء الماضية من الصلاة، أو استصحاب عدم وقوع الأجزاء المذكورة مع النجاسة من باب استصحاب العدم الأزلي. ولذا كان موضوع ما يأتي من المعتبر والجواهر عدم العلم بسبق النجاسة، لا عدم سبقها واقعاً، ولا خصوص صورة العلم بعدم سبقها.

ص: 79

التطهير أو التبديل على وجه لا ينافي الصلاة فعل ذلك (1)، وأتم صلاته ولا إعادة عليه (2).

(1) من أجل رفع النجاسة المعلومة عن بقية أجزاء الصلاة، حيث سبق الاتفاق على مانعيتها من صحتها، كما هو مقتضى القاعدة العامة، والنصوص الخاصة التي يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى.

(2) قال في الجواهر: «لم أجد فيه خلافاً هنا، بل الظاهر أنه إجماعي كما اعترف بهما بعضهم». وممن ذكر الإجماع المحقق في المعتبر. وقد استدل له سيدنا المصنف بواجدية الصلاة بتمام أجزائها للطهارة، والنجاسة الطارئة إنما هي حال عدم الانشغال بشيء من الأجزاء، ولا دليل على مانعيتها. ولعله إليه يرجع ما في الجواهر قال: «ضرورة عدم كون عروض النجاسة من المبطلات القهرية كالحدث ونحوه».

وقد يشكل بأنه إن استفيد من أدلة اعتبار الطهارة في الصلاة أو مانعية النجاسة منها أن موضوع الشرطية أو المانعية هو الصلاة فلا إشكال في أن الأكوان المتخللة هي أكوان صلاتية، ولازم ذلك بطلان الصلاة بمقارنتها للنجاسة.

وإن أستفيد منها أن موضوع الشرطية أو المانعية هو الأفعال الصلاتية - التي هي المرادة من الأجزاء في كلامهم - فاللازم البناء على صحة الصلاة لو وقعت الأجزاء مع النجاسة سهواً، لكن مع تدارك الأجزاء المذكورة إذا لم يستلزم زيادة الركن.

وحيث لا إشكال في عدم البناء على ذلك وأن الأمر مردد بين صحة الصلاة من دون تدارك الأجزاء المذكورة للعفو عن النجاسة حينئذ، وبطلانها حتى مع تداركها لعدم العفو عنها لزم البناء على الأول، الذي لا يبعد كونه هو المستفاد من أدلة الشرطية أو المانعية، لظهورها في أن الموضوع هو الصلاة بما أنها عمل واحد، لا أجزاؤها بما أنها أفعال متفرقة، كما هو الحال في سائر الشروط التي تضمنتها الأدلة اللفظية، كالطهارة الحدثية والستر والاستقبال وغيرها.

ص: 80

فالعمدة في المقام النصوص منها: قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة المتقدم في أول المسألة السابقة: «وإن لم تشك ثم رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك...»(1).

ومنها: نصوص الرعاف في أثناء الصلاة، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«سألته عن الرجل يصيبه الرعاف وهو في الصلاة. فقال: إن قدر على ماء عنده يميناً أو شمالاً أو من بين يديه، وهو مستقبل القبلة، فليغسله عنه، ثم ليصل ما بقي من صلاته، وإن لم يقدر على ماء حتى ينصرف بوجهه أو يتكلم فقد قطع صلاته»(2) ، ونحوه غيره. ومنها يظهر توقف صحة الصلاة على عدم لزوم المنافي من التطهير.

نعم في صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال: إذا لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس، وإن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله. وعن الرجل يكون في صلاته، فرماه رجل فشجه فسال الدم، فانصرف فغسله ولم يتكلم حتى رجع إلى المسجد، هل يعتد بما صلى أو يستقبل الصلاة؟ قال: يستقبل الصلاة، ولا يعتد بشيء مما صلى»(3). وقريب منه غيره.

لكن يتعين حملها على صورة توقف التطهير على فعل المنافي - ومنه الإلتفات - كما هو الغالب بقرينة النصوص المتقدمة، فإنه أقرب عرفاً من التفصيل بين الرعاف وغيره. ولاسيما بملاحظة صحيح زرارة المتقدم الوارد في دم الرعاف وغيره والمني.

هذا وحيث كانت النصوص مختصة بصورة حصول النجاسة قهراً، فالتعدي عنها لصورة تعمد ملاقاة النجاسة، أو لبس النجس، من دون أن ينشغل حالها بأفعال الصلاة موقوف على تحقيق مقتضى القاعدة التي تقدم الكلام فيها في تعقيب ما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 4 باب: 2 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 6، 15.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 4 باب: 2 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 6، 15.

ص: 81

(82)وإذا لم يمكن ذلك، فإن كان الوقت واسعاً استأنف الصلاة بالطهارة (1). وإن كان ضيقاً، فمع عدم إمكان النزع لبرد ونحوه - ولو لعدم الأمن من الناظر - يتم صلاته، ولا شيء عليه (2). ولو أمكنه النزع ولا ساتر له غيره فلا يبعد أيضاً وجوب الإتمام فيه (3). والأحوط استحباباً القضاء أيضاً.

(مسألة 35): إذا نسي أن ثوبه نجس وصلى فيه كان عليه الإعادة إن ذكره في الوقت (4).

(1) بلا إشكال ظاهر، وقد صرح بالإجماع عليه في الجواهر. ويقتضيه - مضافاً إلى القاعدة - بعض نصوص الرعاف، ومنها قوله (عليه السلام) صحيح الحلبي المتقدم: «وإن لم يقدر على ماء حتى ينصرف بوجهه أو يتكلم فقد قطع صلاته»، ونحوه غيره.

(2) لأن الوقت أهم من مانعية النجاسة الخبثية، كما تقدم في آخر المسألة السابقة.

(3) إنما يتجه ذلك بناءً على أنه مع انحصار الساتر في النجس يجب الصلاة فيه. أما بناء على أنه يجب الصلاة عارياً مع الامكان وعدم الاضطرار للبس الثوب، فيجب نزع الثوب إذا كانت النجاسة فيه لا في البدن، والصلاة عارياً، كما تقدم نظيره في المسألة السابقة. ولعل الاحتياط الاستحبابي الذي ذكره (قدس سره) يبتني عليه. ويأتي الكلام في ذلك في المسألة الثامنة والثلاثين إن شاء الله تعالى.

(4) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، ونفى الخلاف فيه في السرائر، بل في الغنية ومحكي شرح الجمل الإجماع عليه.

للنصوص المستفيضة الواردة في نجاسة الثوب، كصحيح زرارة: «قلت له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني، فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي شيئاً وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك.

ص: 82

قال: تعيد الصلاة وتغسله»(1) ، وموثق سماعة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرى في ثوبه الدم، فينسى أن يغسله حتى يصلي. قال: يعيد صلاته، كي يهتم بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه»(2) ، وغيرها مما تقدم جملة منه في المسألة الثانية والثلاثين والثالثة والثلاثين.

ومثلها في ذلك النصوص الواردة في نجاسة البدن، كصحيح ابن مسكان: «بعثت بمسألة إلى أبي عبد الله (عليه السلام) مع إبراهيم بن ميمون، قلت: سله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله، فيصلي، ويذكر بعد ذلك أنه لم يغسلها. قال: يغسلها ويعيد صلاته»(3) ، ونحوه حديث الحسن أو الحسين بن زياد(4) ، ونصوص نسيان الاستنجاء، كصحيح عمرو بن أبي نصر: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أبول وأتوضأ وأنسى استنجائي ثم أذكر بعدما صليت. قال: اغسل ذكرك، وأعد صلاتك، ولا تعد وضوءك»(5) وغيره.

ومال في المعتبر إلى عدم وجوب الإعادة، وحكاه في التذكرة عن الشيخ في موضع، وجزم به في المدارك، وحكي عن غيره.

لصحيح العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشيء ينجسه، فينسى أن يغسل، فيصلي فيه، ثم يذكر أنه لم يكن غسله، أيعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد، قد مضت الصلاة، وكتبت له»(6). قال في المعتبر: «قال الشيخ: هذا خبر شاذ لا يعارض به الأخبار التي ذكرناها. ويجوز أن يكون مخصوصاً بنجاسة معفو عنها. وعندي أن هذه الرواية حسنة، والأصول يطابقها، لأنه صلى صلاة مشروعة مأمور بها، فيسقط بها الفرض. ويؤيد ذلك قوله (عليه السلام): عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان. لكن القول الأول أكثر، والرواية به أشهر».

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 2، 5.

(3و4) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 4، 6.

(5) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 18 من أبواب نواقص الوضوء حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 83

ويشكل بأن ما تضمنه الصحيح مخالف للأصل، لعدم مشروعية الصلاة المأتي بها واقعاً بعد فقدها للشرط، ومقتضى الأصل عدم الاجتزاء بها. وحديث العفو عن الخطأ والنسيان إنما يقتضي عدم العقاب، لا صحة العمل الناقص والاجتزاء به بعد ظهور الحال.

نعم هو مقتضى عموم حديث: «لا تعاد الصلاة...» الذي لا إشكال في شموله للنسيان، بناء على ما تقدم في المسألة الواحدة والثلاثين من أن الطهور المستثنى فيه يختص بالطهارة الحدثية.

لكن النصوص التي اعتمدها المشهور تنهض بتخصيص العموم المذكور لولا معارضة الصحيح لها. ومن ثم لابد من علاج المعارضة المذكورة.

وقد يدعى أن مقتضى الجمع بينه وبينها حملها على استحباب الإعادة، الذي هو نحو من الجمع العرفي يرتفع معه التعارض، وعليه جرى في المدارك.

وقد استشكل فيه بعض مشايخنا بأن ذلك إنما يتم لو كان الأمر بالإعادة ونفيها في النصوص المذكورة مولويين، أما حيث كانا إرشاديين إلى بطلان الصلاة وعدمه فهماً متعارضان، للتنافي بين الفساد وعدمه.

لكنه يندفع بأن الأمر الإرشادي بالإعادة كما يمكن أن يكون إلزامياً كناية عن فساد الصلاة، يمكن أن يكون استحباباً كناية عن نقص في الصلاة لا يبلغ مرتبة الفساد وعدم الاجزاء، والأول وإن كان هو الظاهر من الأمر بالإعادة بدواً، إلا أن ورود التصريح بعدم الإعادة صالح للقرينية عرفاً على حمله على الثاني.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن اشتمال بعض النصوص على التفصيل بين الجاهل والناسي بالأمر بالإعادة في الثاني دون الأول، يأبى حمل الأمر بالإعادة للناسي على الاستحباب، لأن الجاهل أيضاً تستحب له الإعادة.

لاندفاعه بأن الاستحباب ذو مراتب، فيمكن الجمع بحمل التفصيل المذكور

ص: 84

على كون استحباب الإعادة في الناسي بمرتبة أشد. على أن الدليل على استحباب الإعادة في الجاهل ليس بذلك الوضوح. فلاحظ.

فالعمدة في وهن الجمع المذكور ما أشار إليه (قدس سره) من أن اشتمال موثق سماعة(1) على تعليل الأمر بالإعادة بالعقوبة لا يناسب الاستحباب، لعدم تحقق العقوبة به.

مضافاً إلى أن تعليل عدم الإعادة مع الشك في صحيح زرارة بالاستصحاب بعد الحكم بالإعادة مع النسيان، مع اشتراكهما في فقد الشرط لا عن عمد، راجع إلى أن الاستصحاب عذر شرعي، بخلاف النسيان ولو في خصوص المقام، وعدم كون النسيان في المقام عذراً شرعياً يناسب وجوب الإعادة، دون استحبابها. وكذا التعبير في جملة من نصوص المشهور بأن عليه الإعادة بمفاد الجملة الاسمية، ولاسيما مع ورود بعضها في فرض كثرة الصلوات وخروج وقتها(2). فتأمل. بالجملة: التأمل في مجموع نصوص الإعادة لا يناسب حملها على استحبابها.

ومن ثم كان الظاهر استحكام التعارض بين الصحيح ونصوص المشهور فاللازم النظر في المرجحات حينئذ. وقد سبق من المعتبر عن الشيخ رمي الصحيح بالشذوذ. فلا يعارض الأخبار الأول الكثيرة المشهورة رواية، لما هو المعلوم من مرجحية الشهرة في الرواية، بل هي أول المرجحات.

وهو إن كان تاماً بملاحظة حال الصحيح وحده، إلا أنه قد لا يتم بلحاظ اعتضاده بجملة من النصوص في نسيان الاستنجاء، كمعتبر هشام بن سالم: «في الرجل يتوضأ وينسى أن يغسل ذكره وقد بال. قال: يغسل ذكره ولا يعيد الصلاة»(3) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن رجل ذكر وهو في صلاته أنه لم يستنج من الخلا. قال: ينصرف ويستنجي من الخلا ويعيد الصلاة، وإن ذكر وقد فرغ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 6، وباب: 40 منها حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 85

من صلاته فقد أجزأه ذلك ولا إعادة عليه»(1) ، وموثق عمار: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)

يقول: لو أن رجلاً نسي أن يستنجي من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة»(2) ، وصحيح عمرو بن أبي نصر: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني صليت فذكرت أني لم أغسل ذكري بعد ما صليت، أفأعيد؟ قال: لا»(3).

لكن النصوص المذكورة معارضة بجملة من النصوص في موردها قد تضمنت الأمر بإعادة الصلاة، كما سبق. ومن ثم يتعين النظر في الجمع بين الطائفتين.

ومن القريب حمل صحيح عمرو بن أبي نصر على عدم إعادة الوضوء، فإنه وإن كان بعيداً بدواً، إلا أنه قد يتعين بلحاظ صحيحه المتقدم المفصل بين الوضوء والصلاة، وموثقه الآخر المقتصر فيه على عدم إعادة الوضوء(4).

كما أن موثق عمار يقرب حمله على عدم الاستنجاء من الغائط بالماء مع الاستنجاء بالأحجار، بقرينة موثقة الآخر عنه (عليه السلام): «في الرجل ينسى أن يغسل دبره بالماء حتى صلى، إلا أنه قد تمسح بثلاثة أحجار قال: إن كان في وقت تلك الصلاة فليعد الصلاة، وليعد الوضوء، وإن كان قد مضى وقت تلك الصلاة التي صلى فقد جازت صلاته، وليتوضأ لما يستقبل من الصلاة»(5). فإنه صريح في ذلك. غاية الأمر أنه يتعين حمل الأمر بالإعادة فيه على الاستحباب.

بل قد يصلح ذلك قرينة على تنزيل صحيح علي بن جعفر عليه أيضاً، ولو للجمع بين النصوص.

وأما معتبر هشام بن سالم فمتنه لا يخلو عن اضطراب، لأن السؤال فيه إنما كان عن الوضوء، ولم تفرض فيه الصلاة، ليناسب الجواب فيه بعدم إعادة الصلاة. ومن ثم قد يكون لفظ الصلاة في الجواب مصحفاً عن الوضوء الذي اختلفت النصوص

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4، 3.

(3و4) ، وسائل الشيعة ج: 1 باب: 18 من نواقص الوضوء حديث: 6، 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 86

في إعادته مع نسيان الاستنجاء.

اللهم إلا أن يراد بالوضوء في السؤال غسل الغائط بالماء، كما هو غير بعيد، فيرتفع الاضطراب بذلك، ويبقى دليلاً على عدم وجوب إعادة الصلاة، ويكون عاضداً لصحيح العلاء المتقدم في الثوب.

لكنه - لو تم - لا يمنع من شذوذ الحديثين معاً في مقابل النصوص الكثيرة المتقدمة ولاسيما مع مخالفتها للمشهور بين الأصحاب. بل لم ينسب عدم وجوب الإعادة مع نسيان الاستنجاء لأحد من الأصحاب، وإنما الخلاف بينهم في وجوب إعادة الصلاة وحدها أو مع الوضوء.

كما أنه لم يظهر القول بعدم وجوب الإعادة مع الصلاة في الثوب النجس نسياناً قبل المحقق في المعتبر في كلامه السابق على تردد منه ظاهر. ونسبته في التذكرة للشيخ في موضع لا يناسبه كلامي الشيخ والمحقق المتقدمين، ولا كلام الشيخ في كتبه المعروفة. ومن ثم يشكل التعويل على النسبة المذكورة.

كما يشكل التعويل على الحديثين مع إعراض جمهور الأصحاب عنهما، وشيوع الابتلاء بالمسألة، حيث يبعد جداً خطؤهم فيها. ولا أقل من حصول الريب فيهما الملزم بالتوقف فيهما وسقوطهما عن الحجية. وتنفرد نصوص المشهور بالحجية بنحو يلزم بالعمل بها.

وأما دعوى ترجيحها بمخالفته العامة، كما يظهر من بعض مشايخنا (قدس سره). فلا مجال له بعد ظهور الخلاف بينهم، واختلاف النقل عنهم، كما يظهر بمراجعة الخلاف والتذكرة. والعمدة ما ذكرنا. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

ص: 87

وإن ذكر بعد خروج الوقت فعليه القضاء (1).

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب أيضاً المنفي عنه الخلاف والمدعى عليه الإجماع في كلام من سبق في لزوم الإعادة في الوقت.

ولم يعرف الخلاف فيه إلا من الشيخ في الاستبصار، حيث ذكره وجهاً للجمع بين نصوص الإعادة وصحيح العلاء المتقدم، بشهادة صحيح علي بن مهزيار المتقدم في أدلة عدم تنجيس المتنجس، والوارد فيمن نسي تطهير كفه من البول حتى تمسّح بدهن وتوضأ وصلى، حيث قال (عليه السلام) فيه: «فإن تحققت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلاة التي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، وما فات وقتها فلا إعادة عليك له، من قبل أن الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت»(1). وقد تقدم هناك تقريب سند الحديث ووافقه على ذلك في الوسائل والمفاتيح، وحكي عن العلامة في بعض كتبه، وفي الحدائق أنه المشهور بين المتأخرين.

لكن قد يشكل ما ذكروه في المقام بأن الصحيح لا يصلح لأن يكون شاهد جمع بين صحيح العلاء ونصوص المشهور، حيث يصعب جداً حمل عدم الإعادة في صحيح العلاء على خصوص القضاء خارج الوقت، ولاسيما مع إشعاره بتمامية الصلاة وقبولها.

نعم حيث سبق وهن صحيح العلاء بشذوذه وإعراض المشهور عنه فلا يهم عدم ملائمته لصحيح ابن مهزيار، ويكفي في التفصيل جعل صحيح ابن مهزيار مقيداً لإطلاق نصوص المشهور، وقرينة على حملها على خصوص الإعادة في الوقت.

لكن تقدم في مسألة تنجيس المتنجس أن متن صحيح ابن مهزيار لا يخلو عن إشكال، لظهور صدره في أن بطلان الصلاة لخلل في الوضوء، وظهور ذيله في أن بطلانها من جهة النجاسة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 88

ولا فرق بين الذكر بعد الصلاة وفي أثنائها (1)، مع إمكان التبديل أو التطهير

ومن ثم قال سيدنا المصنف (قدس سره): «لكن يشكل بأن ذيله وإن كان صريحاً في التفصيل بين الوقت وخارجه، لكنه غير ظاهر في الناسي، ومورده وإن كان هو الناسي، لكنه لا يظهر منه كون الذيل حكماً له، لما فيه من الاضطراب في المتن فإن ظاهر صدره أن الخلل كان من الوضوء، لا من مجرد النجاسة، وذيله ظاهر في كون الخلل من جهة النجاسة، ومع هذا الاضطراب لا يحصل الوثوق النوعي بعدم طروء الخلل من جهة الزيادة أو النقيصة. بل قيل: إنه يشبه أن يكون وقع فيه غلط من النساخ».

فإن تم ذلك فهو. وإلا أشكل الاستدلال به على التفصيل المذكور بما أشار إليه في الجواهر من إباء بعض نصوص الإعادة عنه، كقوله (عليه السلام): في صحيح محمد بن مسلم: «وإذا كنت رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم، فنسيت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة، فأعد ما صليت فيه»(1). وقوله (عليه السلام) في صحيح علي بن جعفر فيمن احتجم، فأصاب ثوبه دم ولم يعلم به إلا من الغد: «إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي، ولا ينقص منه شيء»(2).

حيث يصعب جداً أيضاً حملهما على وجوب تدارك ذات الوقت واستحباب تدارك ما خرج وقتها، بعد إشعار الأول بأن علة القضاء تضييع الغَسل المشترك بين الكل، والتأكيد في الثاني على عدم إنقاص شيء من الصلوات، ومع فرض الفوت فيه بالإضافة إلى الكل. فتأمل جيداً.

(1) لأن المستفاد من الأمر بالإعادة مع الصلاة في النجس نسياناً أن ذلك من جهة مانعية النجاسة من الصلاة، وعدم كون النسيان عذراً موجباً للعفو عنها، وذلك كما يقتضي الإعادة مع الإلتفات بعد الفراغ يقتضي الاستئناف مع الإلتفات في الأثناء.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 10، البحار ج: 10 ص: 282.

ص: 89

ولاسيما مع التعليل بالعقوبة في موثق سماعة المتقدم.

ولا يهم مع ذلك تحقيق قصور إطلاق ما تضمن الإعادة مع الصلاة في النجس نسياناً عن صورة وقوع بعض الصلاة أو شموله لها، كما هو غير بعيد.

مضافاً إلى قوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان: «وإن كنت رأيته قبل أن تصلي فلم تغسله ثم رأيته بعد وأنت في صلاتك فانصرف فاغسله وأعد صلاتك»(1).

وأما صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن رجل ذكر في صلاته أنه لم يستنج من الخلا. قال: ينصرف ويستنجي من الخلا، ويعيد الصلاة»(2) ، ونحوه أو عينه صحيحه الآخر(3). فلا مجال للاستدلال بهما بعد احتمال أن يكون منشأ الإعادة فيهما توقف التطهير على كشف العورة المبطل للصلاة. وبعد ما سبق عند الكلام في وجوب إعادة الناسي إذا ذكر في الوقت من قرب حمل الثاني على نسيان الاستنجاء بالماء مع تحقق التمسح بالأحجار. فالعمدة ما سبق.

نعم في صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض، فإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه. إلا أن يكون فيه أثر فيغسله»(4) حيث يظهر منه جواز المضي في الصلاة حتى لو كان فيه أثر يقتضي تنجسه.

لكن حيث كان ظاهره جواز المضي في الصلاة من غير تطهير، ولا قائل بذلك - نظير ما تقدم فيمن علم بالنجاسة في الأثناء - تعين كون موضوع السؤال صورة عدم الأثر الموجب للتنجيس والذي يستحب مع النضح، ويكون قوله: «إلا أن يكون فيه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 19 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 90

(91) (91) وعدمه (1).

(مسألة 36): إذا نسي أن عرق الجنب مثلاً نجس، وصلى في ثوب يعلم أنه أصابه عرق الجنب، وجبت الإعادة أو القضاء (2) وكذا إذا كان جاهلاً أن عرق الجنب نجس (3).

(مسألة 37): إذا طهر ثوبه النجس وصلى فيه ثم تبين له أن النجاسة

أثر فيغسله» استثناء منقطعاً من استحباب النضح قبل الدخول في الصلاة، وليس استثناء متصلاً من موضوع السؤال. فلاحظ.

(1) لعموم ما تقدم. نعم تقدم في المسألة الثالثة والثلاثين منه (قدس سره) استثناء صورة ضيق الوقت عن إعادة الصلاة مع الدخول فيها جهلاً بالنجاسة، وتقدم منا أن ذلك لو تم يجري مع النسيان. فراجع.

(2) قال (قدس سره): «لإطلاق دليل الإعادة على العالم». وقد تقدم منه في المسألة الواحدة والثلاثين أن مقتضى حديث: «لا تعاد الصلاة...» وإن كان هو عدم الإعادة في الجاهل بالحكم، فضلاً عن الناسي، إلا أن ما تضمن وجوب الإعادة مع العلم بسبب النجاسة ملزم بالخروج عن ذلك، وحينئذ فمقتضى إطلاق ذلك عدم الفرق بين الجاهل بالحكم والناسي له.

لكن تقدم منا اختصاص ما تضمن وجوب الإعادة مع العلم بسبب النجاسة بما إذا التفت المكلف إلى مانعيته من الصلاة، ولا يشمل صورة الجهل بالمانعية أو نسيانها، وحينئذ يتعين البناء على صحة الصلاة في المقام، عملاً بعموم حديث «لا تعاد». بعد اختصاص ما دلّ على الإعادة مع النسيان بنسيان الموضوع. كما أنه سبق عدم الفرق في عموم الحديث المذكور بين القاصر والمقصر، خلافاً لبعض

مشايخنا (قدس سره). فراجع.

(3) يظهر الحال مما تقدم هنا في الناسي، وما تقدم في المسألة الواحدة والثلاثين.

ص: 91

باقية فيه، لم تجب الإعادة ولا القضاء، لأنه جاهل بالنجاسة (1).

(1) لا يخفى أن موضوع النصوص ليس هو الجهل بالنجاسة، بل الجهل بسببها كإصابة الدم والبول والمني ونحوها، ومن الظاهر أنه لا جهل في المقام بذلك، بل سبق العلم به غايته أن الإقدام معه ليس للنسيان، بل لتخيل التطهير، نظير الإقدام لتخيل عدم نجاسة الشيء، كعرق الجنب.

وقد تقدم منه (قدس سره) في المسألة الواحدة والثلاثين وجوب الإعادة معه لإطلاق أدلة وجوبها مع الصلاة في الثوب مع العلم بتحقق أسباب النجاسة فيه، ولازم ذلك البناء على الإعادة هنا للإطلاق المذكور.

نعم تقدم منا عدم وجوب الإعادة هناك لانصراف الإطلاق إلى ما إذا كان الأمر المعلوم يقتضي الاجتناب، للعلم بكون الأمور المذكورة أسباباً للنجاسة، والعلم بمانعية النجاسة من الصلاة. ولاسيما بملاحظة التعليل بالعقوبة في موثق سماعة المتقدم في أول المسألة الخامسة والثلاثين، والتعبير بالتضييع في صحيح محمد بن مسلم المتقدم في أواخر المسألة المذكورة. ولأجله يتعين عدم الإعادة في المقام. فلاحظ.

هذا ومقتضى ذلك عدم الإعادة في جميع موارد اعتقاد التطهير خطأ، سواءً كان للخطأ في أصل التطهير منه أو من غيره، أم للخطأ في صحته مع وقوعه منه أو من غيره.

لكن في صحيح ميسر: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غَسله فأصلي فيه فإذا هو يابس قال: أعد صلاتك. أما إنك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء»(1).

ومقتضاه التفصيل بين مباشرة المكلف نفسه للتطهير والتعويل على الغير فيه، ولا يظهر منهم الفتوى بذلك، لعدم إشارتهم لمضمون الصحيح، مع شدة الحاجة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 92

(93) (مسألة 38): إذا لم يجد إلا ثوباً نجساً، فإن لم يمكن نزعه لبرد أو نحوه صلى فيه (1)،

لبيانه، لشيوع الابتلاء به فيسقط بإعراض الأصحاب عنه.

بل قد يدعى ابتناء الحكم في الصحيح على عدم حجية أصالة الصحة في عمل الغير، ولو في خصوص التطهير وأن وجوب الإعادة لوقوع الصلاة حال النجاسة من دون عذر مبرر. وحينئذ لا يناسب سيرة المتشرعة على التعويل على النساء والجواري والخدم في ذلك، وعدم مباشرة المكلف بنفسه التطهير، وعدم فحصه عن صحته لو وقع من الغير.

لكنه يندفع بأنه حيث لم يتضمن الصحيح الردع عن الدخول في الصلاة، فلابد أن يبتني الدخول فيها إما على حجية قاعدة الصحة عند الشك فيها في المورد من دون ردع ظاهر، أو على اعتقاد صحة العمل من دون اعتماد على القاعدة المذكورة، لأن الاعتماد عليها فرع الشك في الصحة. وكيف كان فلابد أن يكون الأمر بالإعادة غير مبتن على عدم حجية أصالة الصحة، بل على التعبد المحض.

وحينئذ إن أحرز إعراض الأصحاب عما هو ظاهر فيه من وجوب الإعادة

- كما هو غير بعيد - تعين سقوطه عن الحجية، أو حمله على استحباب الإعادة. وإلا تعين البناء على مضمونه من وجوب الإعادة من دون أن يرجع ذلك إلى سقوط أصالة الصحة في عمل الغير عن الحجية.

نعم هو مختص بالمني، ولا مجال للتعدي منه لكل نجاسة، بل غاية الأمر أن يتعدى منه لكل ما يكون مثله مما يحتاج فيه زوال العين إلى عناية ومؤنة، ويصعب العلم به حال الغسل وبلل الثوب بالماء.

(1) قولاً واحداً، كما في الجواهر، وظاهر مفتاح الكرامة، حيث أهمل التعليق على الحكم بذلك في القواعد. لما هو المعلوم من أهمية الصلاة في الوقت، بحيث لا

ص: 93

ولا يجب عليه القضاء (1)

يحتمل سقوطها من أجل تعذر التخلص من النجاسة.

كما أنه المناسب لما هو المعلوم من مشروعية الصلاة للمسلوس والمستحاضة، بل كل من لا يستطيع إزالة النجاسة عن بدنه، ومنه الذي يجامع ولا ماء عنده، الذي صرح في الآيتين الشريفتين بأنه يصلي بتيمم، حيث يصعب جداً حملهما على صورة التطهير من الخبث، مع ما هو المتركز من أن مانعية النجاسة في الثوب مسانخة لمانعية النجاسة في البدن.

وهو المناسب أيضاً للعفو عن الثوب الذي فيه دم الجروح والقروح وثوب المربية، حيث إن المرتكز أن منشأ العفو لزوم الحرج النوعي من التطهير، وهو يقتضي العفو عن النجاسة مع تعذر التخلص منها بالأولوية العرفية.

مضافاً إلى ما قيل من أن ذلك هو المتيقن من نصوص الصلاة في الثوب النجس مع الانحصار به، من دون أن يعارضها فيه نصوص الصلاة عارياً، لقصورها عن صورة تعذر النزع.

بل قد يدعى أن ذلك صريح موثق الحلبي أو صحيحه: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام)

عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول، وليس معه ثوب غيره، ولا يقدر على غسله. قال: يصلي فيه إذا اضطر إليه»(1) ، بناء على أن المراد بالاضطرار إليه الاضطرار الناشئ من تعذر النزع، لا الاضطرار الناشئ من انحصار الساتر به. ويأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. فلاحظ.

(1) كما صرح به غير واحد، وفي الجواهر: «بل هو المشهور المعروف، بل لم نتحقق فيه خلافاً من غير الشيخ وعن ابن الجنيد». ولا ينبغي التأمل في أن مقتضى الأصل الإعادة لو قدر على الثوب الطاهر في الوقت، لأن المتيقن من مشروعية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 7.

ص: 94

الصلاة مع النجاسة تعذر تجنبها في تمام الوقت، فمع تجدد القدرة في الوقت ينكشف عدم مشروعية الصلاة الواقعة في النجس فلا تجزئ. ولعله خارج عن مورد كلام المشهور القائلين بعدم الإجزاء ووجوب الإعادة.

نعم لو اعتقد استمرار التعذر في تمام الوقت ومشروعية الصلاة بالنجاسة معه فلا يبعد البناء على عدم وجوب الإعادة، لحديث: «لا تعاد الصلاة...»، بناء على ما سبق في المسألة الواحدة والثلاثين من اختصاص الطهور فيه بالطهارة الحدثية، وهذا بخلاف صورة الشك، حيث لا يحرز معه مشروعية الصلاة، ليكون عذراً مصححاً للإقدام.

ودعوى: جريان استصحاب بقاء التعذر حينئذ، كما يظهر من بعض

مشايخنا (قدس سره)، فيكون الإقدام معه عن عذر كاف في عموم حديث: «لا تعاد...».

مدفوعة بأن ذلك إنما يتم لو كان موضوع مشروعية الصلاة مع النجاسة بقاء تعذر الصلاة في كل آن إلى تمام الوقت، أما إذا كان موضوعه تعذر ماهية الصلاة بما لها من أفراد طولية وعرضية في مجموع الوقت فهو أمر لا يحرز في أول الوقت. ليستصحب وحيث كان دليل مشروعية الصلاة مع النجاسة لبياً فلا طريق لإحراز كون الموضوع بالوجه الأول. فلاحظ. هذا كله لو قدر على الثوب الطاهر في الوقت.

أما لو استمر العذر في تمام الوقت فلا إشكال في أن مقتضى الأصل عدم القضاء، لاختصاص أدلة القضاء بمن لم يصل في الوقت، ولا تشمل من صلى فيه صلاة مشروعة وإن كانت اضطرارية.

نعم استدل الشيخ لوجوب إعادة الصلاة بموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه سئل عن رجل ليس عليه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه، وليس يجد ماء يغسله، كيف يصنع؟ قال: يتيمم ويصلي، فإذا أصاب ماء غسله، وأعاد الصلاة»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 8.

ص: 95

وقد اختلف كلامه (قدس سره) فقد حمله في الاستبصار وموضع من التهذيب على ما نحن فيه من فرض تعذر نزع الثوب، وحمله في موضع آخر من التهذيب على صورة إمكان النزع التي يأتي الكلام فيها. لكن لا شاهد بحمله على صورة تعذر النزع، بل هي تحتاج إلى عناية لا قرينة في الموثق عليها.

مضافاً إلى ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أنه لا يظهر منه كون الإعادة لأجل الصلاة في النجاسة، بل لعله لأجل التيمم الذي تضمنت جملة من النصوص الأمر بالإعادة معه(1) ، والتي يتعين حملها على الاستحباب.

اللهم إلا أن يقال: الأمر بالإعادة مع الصلاة بالتيمم وإن تعين حمله على الاستحباب، إلا أنه يختص بما إذا كان نقص الصلاة منحصراً بالتيمم، لما تضمن إجزاء الصلاة بالتيمم، ولا يشمل المقام ونحوه مما كان النقص فيها من جهة أخرى، كنجاسة الثوب. وحينئذ لا ملزم بحمل الأمر بالإعادة في الموثق على الاستحباب. ولاسيما مع ظهور السؤال في أن منشأه حيثية نجاسة الثوب، لعدم الإشارة فيه للتيمم.

وأشكل من ذلك ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الموثق وارد فيمن يتيمم للصلاة صاحبة الوقت وصلى، ثم قدر على الماء في أثناء الوقت، حيث ينكشف حينئذ عدم مشروعية التيمم وبطلان الصلاة به، فيجب إعادتها. وعليه يحمل الموثق، ولا قرينة على حمله على كون منشأ الإعادة هو نجاسة الثوب أيضاً.

لاندفاعه بأنه لا شاهد في الموثق على كون إصابة الماء قبل خروج الوقت. ومجرد التعبير بالإعادة لا يقتضيه، لأنها أعم. بل من البعيد جداً حمله على خصوص الوجدان في الوقت، لاحتياجه إلى عناية. ولاسيما مع ابتناء الاضطرار ارتكازاً على اليأس من تحصيل الماء في تمام الوقت. مع أن الظاهر عدم وجوب إعادة الصلاة بالتيمم حتى مع وجدان الماء في الوقت، كما تقدم في أوائل الفصل الخامس في أحكام التيمم.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات.

ص: 96

(97)وإن أمكن نزعه فالظاهر وجوب الصلاة فيه (1). والأحوط استحباباً الجمع بين الصلاة فيه والصلاة عارياً.

وأما ما سبق منّا من عدم القرينة على حمل الموثق على صورة تعذر النزع فهو لا ينافي الاستدلال بإطلاقه على وجوب الإعادة في الصورة المذكورة لو أمكن البناء على الإطلاق المذكور، وهو ما يأتي الكلام فيه في بيان حكم صورة إمكان النزع إن شاء الله تعالى.

(1) ففي كشف اللثام بعد أن جعل التخيير بين الصلاة في الثوب والصلاة عرياناً أقوى من القول بوجوب الصلاة عرياناً قال: «بل الأحوط والأقوى الصلاة في الثوب، وعن المعالم تقويته، وفي المدارك لا ريب أنه الأولى، وعن البيان أنه رجحه. بل قد يظهر من الفقيه، حيث اقتصر على ذكر رواية الحلبي الآتية.

وكيف كان فيقتضيه جملة من النصوص، كموثق الحلبي أو صحيحه وموثق عمار المتقدمين وصحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره آخر. قال: يصلي فيه فإذا وجد الماء غسله»(1). ونحوه صحيحه الآخر في الثوب الواحد الذي فيه بول(2) ، وصحيح عبد الرحمن وموثقه أو صحيحه الآخر اللذين لا يبعد اتحادهما(3) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام): «سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة، فأصاب ثوباً نصفه دم أو كله دم، يصلي فيه أو يصلي عرياناً؟ قال: إن وجد ماء غسله، وإن لم يجد ماء صلى فيه ولم يصل عرياناً»(4).

لكن المعروف عدم وجوبه، وعن الدلائل أنه لعله لم يذهب أحد من علمائنا إلى وجوبه. بل في المبسوط والنهاية والخلاف والشرايع والإرشاد وعن السرائر والكامل

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 1، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 4، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 97

والتحرير وجوب الصلاة عارياً، وقد يظهر من الكليني، حيث اقتصر على موثق سماعة الآتي، وفي الذكرى عن غيره أنه المشهور، بل في الخلاف الإجماع عليه.

لغير واحد من النصوص، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة، وليس عليه إلا ثوب واحد، وأصاب ثوبه مني. قال: يتيمم ويطرح ثوبه، ويجلس مجتمعاً فيصلي، ويومي إيماءً»(1) ، وموثق سماعة: «سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض، وليس عليه إلا ثوب واحد، وأجنب فيه، وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال: يتيمم، ويصلي عرياناً قاعداً يومي إيماءً»(2) ، ونحوه موثقه الآخر، إلا أن فيه: «يتيمم ويصلي عرياناً قائماً يومي إيماءً»(3).

والإشكال في الأول بأن في سنده محمد بن عبد الحميد العطار الذي لم يوثق صريحاً، فإن النجاشي قال في ترجمته: «محمد بن عبد الحميد بن سالم العطار أبو جعفر. روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى. وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين. له كتاب النوادر». وظاهره رجوع التوثيق لأبيه عبد الحميد، لا إليه.

مدفوع بأن كلام النجاشي وإن كان ظاهراً بدواً في رجوع التوثيق للأب، إلا أن ذلك لا يناسب كون كتاب النوادر للابن، حيث رواه عنه النجاشي بطريق الحميري الذي لا يمكن عادة روايته عن الأب.

مضافاً إلى استفادة توثيقه من كونه من رجال كامل الزيارات، وممن روى عنه ابن أبي عمير، مؤيداً برواية جماعة من الأعيان عنه، وبما ذكره النجاشي في ترجمته سهل بن زياد من أنه كاتب الإمام العسكري (عليه السلام) على يد محمد بن عبد الحميد العطار، فإن ظاهره ليس مجرد كونه واسطة في إيصال الكتاب، وإلا فكل من يكاتب لابد من أن يستعين بواسطة لإيصال كتابه، بل كونه من ذوي الاختصاص بهم (عليهم السلام) المتصدين لإيصال كتب شيعتهم إليهم (عليهم السلام)، نظير السفراء، وذلك ملازم للوثاقة عادة، وإن لم يكن لازماً لها شرعاً ولا عقلاً.

********

(1و2و3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 46 من أبواب النجاسات حديث: 4، 1، 2.

ص: 98

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الإشكال في الموثقين بالإضمار، إذ ليس سماعة في الجلالة والاعتبار كمحمد بن مسلم وزرارة وأضرابهما، كي لا يحتمل سؤاله من غير الإمام (عليه السلام).

لاندفاعه بأن سؤال غير الإمام ليس ممتنعاً عادة حتى على الأئمة (عليهم السلام) لبعض المصالح، فضلاً عن أصحابهم مهما بلغت جلالتهم، إذ لا ينحصر وجه السؤال بالاستفتاء من أجل العمل، وليست القرينة على حمل المضمرات على سؤال الإمام هي جلالة مقام السائل، بل هي ظهور حال الأصحاب الراوين للحديث المدونين له في الكتب المعدة لنقل أخبار الأئمة (عليهم السلام)، حيث يكشف ذلك عن إطلاعهم على كون المسؤول والمجيب هو الأمام.

وهو في مثل سماعة من أهل الكتب ميسور جداً، حيث يسهل عليهم العلم بأن الكتاب في أحاديث الأئمة (عليهم السلام)، بأن يبدأ في الكتاب بالتصريح بالإمام المسؤول، ثم يضمر بعد ذلك عند استطراد الأحاديث التي معه. على أن الرجوع لما ذكره (قدس سره) في معجمه في ترجمة سماعة شاهد بأنه من الأعيان من حيثية كثرة رواياته.

مع أنه يكفي في الوثوق بالروايات الثلاث ظهور اعتماد الأصحاب عليها في البناء على إجزاء الصلاة عارياً أو وجوبه، بحيث قد يظهر في إجماعهم على ذلك، حيث يمتنع عادة خطؤهم في نسبة الروايات المذكورة للأئمة (عليهم السلام) مع اعتمادهم عليها بالوجه المذكور.

ومن هنا لابد من النظر في الجمع بين الطائفتين، وقد يجمع بينهما بوجهين:

الأول: حمل الطائفة الأولى على صورة تعذر النزع، لبرد أو لعدم الأمن من الناظر أو نحوهما، بشهادة قوله (عليه السلام) في حديث الحلبي المتقدم في الصورة الأولى: «يصلي فيه إذا اضطر إليه»، كما أشرنا إليه في ذيل الكلام في صورة تعذر النزع.

لكن أشرنا هناك أيضاً إلى ما ذكره غير واحد من احتمال أن يكون المراد بالاضطرار فيه الاضطرار للصلاة فيه من جهة انحصار الساتر به، فيكون تأكيداً

ص: 99

للمفروض في السؤال، لا قيداً زائداً عليه. وهو وإن كان خلاف الأصل، إلا أن في كفاية ذلك في ظهور الحديث في الأول إشكالاً أنه بعد الإشارة في السؤال لجهة الاضطرار فإطلاق الاضطرار في الجواب ينصرف إليها، ولو كان المراد به غيرها لكان المناسب التنبيه له.

نعم لو فرض إجمال الاضطرار من هذه الجهة فلا يمنع من كون الصحيح شاهد جمع في المقام، لأنه حيث كان المتيقن منه جواز الصلاة فيه مع تعذر النزع، لأنها المتيقن من الاضطرار فيه، كان صالحاً لتقييد إطلاق الطائفة الثانية بغير الصورة المذكورة، فتكون بعد التقييد أخص من الطائفة الأولى، فتنهض بتخصيصها، وحملها على صورة الاضطرار لعدم النزع. ولا يبعد كفاية ذلك عرفاً في الجمع بين الطائفتين ورفع التنافي بينهما.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن الطائفة الأولى لو كان موردها تعذر النزع كان المتعين ذكره في السؤال، فإنه مما له مزيد دخل في الحكم، فإهماله يدل على عدم دخله.

لاندفاعه بأن ذلك يجري في كل قيد يكون به الجمع بين النصوص المطلقة. نعم إذا كانت إرادة القيد محتاجة لعناية كان إهماله في المطلقات مانعاً من حملها عليه في مقام الجمع، لاستهجانه عرفاً، ولا مجال لذلك في المقام، لأن لبس الثوب مما يحتاج إليه نوعاً، فحمل نصوص الصلاة فيه على خصوص تعذر نزعه غير مستهجن عرفاً. فلاحظ.

فالعمدة في رد الجمع المذكور - بعد ما سبق من انصراف الاضطرار فيه للاضطرار من جهة انحصار الساتر به - هو إباء بعض نصوص الطائفة الأولى عنه، كصحيح علي بن جعفر المتقدم، فإن فرض الرجل فيه عارياً، ثم الأمر له بلبس الثوب لأجل الصلاة، والنهي عن الصلاة عارياً لا يناسب الاضطرار للبس الثوب مع قطع النظر عن الصلاة، بحيث يتعذر عرفاً الصلاة عارياً.

ص: 100

وإن شئت قلت: لا ريب في قوة ظهوره في الأمر بلبس الثوب لأجل الصلاة، لا في مجرد عدم وجوب نزعه بسبب الاضطرار للبسه مع قطع النظر عنها. ومن ثم لا مجال للجمع المذكور.

الثاني: الجمع بينهما بالتخيير، بدعوى: أن كلاً منهما صريح في جواز ما تضمنه من الصلاة في الثوب والصلاة عارياً، وظاهر في لزومه، فيجمع بينهما برفع اليد عن ظهور كل منهما في لزوم ما تضمنه بقرينة الآخر الصريح في جواز ما تضمنه.

وفيه: أن كلاً من الطائفتين صريح في بيان الوظيفة، والحث على ما تضمنه منها، لا في مجرد الترخيص فيها، والحث على كل من الوظيفتين ينافي الحث على الأخرى. نعم الحث على الشيء قد يرد لبيان الجواز دفعاً لتوهم الحظر، ولا مجال لاحتماله في المقام، فإن جميع النصوص واردة لبيان الوظيفة في مقام التحير من دون إشعار بتوهم الحظر عن شيء، ليحمل الأمر به والحث عليه على مجرد الترخيص فيه.

وبعبارة أخرى: الجمع المذكور في المقام موقوف على ورود كلتا الطائفتين في مقام توهم المنع والحظر عما تضمنته، ولا مجال لاحتمال ذلك بأدنى ملاحظة لها، كما لا يخفى.

نعم قد يتجه الجمع بالتخيير فيما إذا أمكن عرفاً حمل كل من الدليلين على الحث على القدر المشترك بين مضمونيهما، وإلغاء خصوصية كل منهما، كما إذا ورد: إن ولد لك ولد فتصدق على زيد، وورد: إن ولد لك ولد فتصدق على عمرو، وعلم من الخارج بالاكتفاء بصدقة واحدة، حيث قد يمكن حمل كل منهما على إلغاء خصوصية كل من الرجلين والحث على القدر المشترك، كأصل الصدقة، أو خصوص الصدقة على أولاد بكر، أو على العلماء أو نحو ذلك مما هو مشترك بينهما.

ومنه ما قد تختلف فيه الأدلة من الأمر بأحد خصال الكفارة منفرداً، حيث يكون ظاهر كل منها التعيين، ويسهل الجمع بينها بالتخيير بحمل الأمر في كل منها على القدر المشترك المعهود شرعاً، وهو الكفارة المخيرة، وإلغاء خصوصية كل منها بعينه.

ص: 101

ومن الظاهر أنه لا مجال لذلك في المقام، لعدم القدر المشترك بين الصلاة في الثوب والصلاة عارياً، لا عرفاً، ولا شرعاً، بل بينهما كما المنافاة عرفاً. ولاسيما أن الصلاة عارياً لما كانت اضطرارية بالإيماء فالأمر بها ظاهر في شدة أهمية مانعية النجاسة في الصلاة من شرطية الستر فيها، وهو لا يناسب الترخيص في الصلاة في الثوب.

وبالجملة: الجمع بالتخيير في المقام وأمثاله ليس عرفياً، فلا مجال للبناء عليه من دون شاهد خارجي، وحيث كان مفقوداً كان الظاهر استحكام التعارض بين الطائفتين.

ومن ثم قد يدعى لزوم ترجيح الأولى، لأنها أكثر عدداً وأصح سنداً. ولا مجال لترجيح الثانية بالشهرة في الفتوى، لأنها ليست من مرجحات الروايات عند التعارض.

لكن حيث كان التحقيق هو الاقتصار في الترجيح على المرجحات المنصوصة، فالشهرة في الرواية التي ثبت الترجيح بها في النصوص لا يكفي فيها ذلك، بل لابد فيها من كون أحد الخبرين مشهوراً معروفاً بين الأصحاب، والآخر شاذاً نادراً، ومن الظاهر عدم صدق ذلك في المقام، لأن نصوص الطائفة الأولى خمسة، ونصوص الطائفة الثانية ثلاثة، وهو لا يكفي في شذوذها، ولاسيما مع اشتهار الفتوى بها.

ولو فرض البناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة لكان ترجيح الطائفة الأولى بأنها أكثر عدداً وأصح سنداً معارضاً بترجيح الطائفة الثانية بشهرة الفتوى بمضمونها بين الأصحاب.

وأشكل من ذلك ما ذكره غير واحد من ترجيح الطائفة الأولى بأن تفويت شرط الساتر أولى من تفويت أصل الساتر. ولاسيما مع أنه يلزم من الصلاة عارياً إبدال الركوع والسجود بالإيماء.

لاندفاعه بأن ذلك من المرجحات المضمونية غير المنصوصة فلا مجال للتعويل عليه بناء على ما سبق. مضافاً إلى أن شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة لا تختص

ص: 102

بالساتر، بل تعم أصل الصلاة، فليس محذور الصلاة في الثوب هو تفويت شرط الساتر، ليدعى أنه أولى من تفويت أصل الساتر، بل هو تفويت شرط الصلاة فيكون كالصلاة عارياً الذي يفوت به شرطها الآخر، وهو الساتر. فلاحظ.

ومن هنا يتعين سقوط كلتا الطائفتين، كما هو الأصل في المتعارضين، بعد عدم ثبوت دليل معتد به على التخيير يخرج به عن مقتضى الأصل المذكور، على ما أوضحناه في الأصول.

ودعوى: سقوط الطائفة الأولى عن الحجية بهجر المشهور لها، لعدم ظهور القول بوجوب الصلاة في الثوب إلا من المتأخرين، فتنفرد الطائفة الثانية بالحجية.

مدفوعة بأنه لم يثبت الهجر المسقط لها عن الحجية بعد ظهور حال الصدوق في العمل بهذه الطائفة وظهور حال الشيخ في الجمع بين الطائفتين بحمل الأولى على تعذر النزع، وقرب ابتناء القول بالتخيير ممن يأتي على الجمع بين الطائفتين بالوجه المتقدم.

ومن هنا يتعين البناء على كلتا الطائفتين بالتعارض، والرجوع للأصل المقتضي للاحتياط بالتكرار. وذلك للتزاحم بين شرطية الساتر مع المحافظة على الركوع والسجود التامين ومانعية للنجاسة مع التنزل للركوع والسجود الإيمائيين، وحيث لا طريق للجزم بأهمية أحد الأمرين يتعين الاحتياط بالتكرار، لعدم إحراز الفراغ عن التكليف بدونه.

وأما ما اشتهر من البناء على التخيير عند التزاحم بين التكليفين مع عدم ثبوت أهمية أحدهما، سواءً علم بأهمية أحدهما إجمالاً أو شك في ذلك، أم علم بتساويهما فهو مختص بالتزاحم بين التكليفيين الاستقلاليين، كالتزاحم بين إنقاذ مؤمنين من الهلكة، فإنه بعد تعذر الجمع بينهما بالتكرار يتعين الاحتياط به خروجاً عن التكليف بأحدهما المعلوم إجمالاً. وقد ذكرنا في خاتمة مباحث التعارض من الأصول حقيقة التزاحم بين التكاليف الضمنية بما لا مجال معه لإطالة الكلام في ذلك هنا، بل نكتفي بما تقدم.

ص: 103

(104)ودعوى: أن ذلك إنما يتم فيما إذا علم بأهمية أحدهما إجمالاً، للعلم الإجمالي حينئذ بالتكليف التعييني بالواجد لأحدهما، ولا يحرز الفراغ عنه إلا بالتكرار، أما مع احتمال التساوي المستلزم لاكتفاء الشارع بأحد الأمرين، فالمتعين الاجتزاء به، وعدم الاعتناء باحتمال أهمية أحدهما، لأصالة البراءة من وجوب كل منهما بعينه، وليس هناك علم إجمالي مانع من التعويل عليه.

مدفوعة بأن المقام من الدوران بين التخيير والتعيين، والتحقيق فيه عندنا لزوم الاحتياط المقتضي في المقام الجمع بين الطرفين لاحتمال التعيين في كل منهما، ولا مجال معه لجريان البراءة من التعيين والبناء على التخيير، على ما أوضحناه في الأصول. ولاسيما أن احتمال التخيير في المقام ليس لقصور ملاك التعيين، بل لمزاحمته. فلاحظ.

هذا وقد قرب في المعتبر وكشف الرموز والمنتهى والذكرى والدروس التخيير في محل الكلام بين الصلاة في الثوب النجس والصلاة عارياً ويظهر من المختلف الميل إليه، كما قد يظهر من الشيخ في موضع من التهذيب، وهو المحكي عن ابن الجنيد والبيان وغيرهما. ويظهر من غير واحد ابتناؤه على العمل بكلتا الطائفتين، إما للجمع العرفي بينهما بذلك، أو التخيير بينهما بعد استحكام التعارض. وقد ظهر مما تقدم ضعف كلا الوجهين، كضعف دعوى: أن ذلك مقتضى الأصل بعد البناء على التساقط.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن المصرح في كلامهم عدم الإعادة مع الصلاة عارياً لوجوبها تعييناً لو تخييراً. وأما مع الصلاة في الثوب النجس فقد يدعى وجوب الإعادة، لموثق عمار المتقدم في صورة تعذر النزع. فقد حمله الشيخ في موضع من التهذيب على جواز الصلاة في الثوب مع الإعادة تخييراً بينها وبين الصلاة عارياً. وقد تقدم عدم إمكان حمله خصوص ارتفاع العذر في الوقت، ولا على خصوص صورة تعذر النزع.

وحينئذ لا يبعد حمله على الاستحباب، لعدم الأمر بالإعادة في بقية نصوص

ص: 104

(105) (105) (مسألة 39): إذا كان عنده ثوبان يعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما وجبت الصلاة في كل منهما (1). ولو كان عنده ثوب ثالث يعلم بطهارته

الصلاة في الثوب النجس، مع شدة الحاجة إليه لو كان واجباً للغفلة عنه. بل النصوص المذكورة مسوقة سؤالاً وجواباً لبيان تمام الوظيفة الواجبة، فعدم الأمر فيها بالإعادة موجب لقوة ظهورها في عدم وجوبها. ولاسيما مع عدم مألوفية الجمع في شيء من فروع الصلاة بين وجوب الصلاة الاضطرارية ووجوب إعادتها. كما أن التنبيه في صحيح الحلبي الأول على غسل الثوب إذا وجد الماء مع خروجه عن الوظيفة المطلوبة في مورد السؤال مع إغفال الإعادة يجعله كالصريح في عدم وجوبها. وذلك بمجموعه كاف في رفع اليد عن ظهور الأمر في موثق عمار في الوجوب وحمله على الاستحباب. ولعله لذا حمله عليه في الوسائل، وإن كان قد حمله أيضاً - كجميع نصوص الصلاة في الثوب النجس - على صورة تعذر النزع.

الثاني: قد اختلفت نصوص الصلاة عارياً في كون المصلي قاعداً، كما في صحيح الحلبي وأحد موثقي سماعة، وكونه قائماً، كما في موثق سماعة الآخر.

لكن من القريب اتحاد موثقي سماعة، لتقارب لسانيهما، حيث يقرب معه كون الاختلاف بينهما بسبب النقل بالمعنى. ومرجع ذلك إلى الخطأ في أحد النقلين عن سماعة الموجب لتساقطهما، وانفراد صحيح الحلبي المتضمن للصلاة قاعداً بالحجية.

غاية الأمر أن يحمل على ما إذا خاف المصلي من وجود الناظر، مع وجوب القيام عند الأمن منه، لأن التفصيل المذكور ثابت في صلاة العراة عموماً، والمقام من صغرياته.

ومنه يظهر أنه لو فرض تعدد موثقي سماعة فالمتعين الجمع بين نصوص المقام بذلك، وتمام الكلام في مسألة تعذر الساتر من مبحث لباس المصلي.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، بل لم يعرف مخالف في ذلك إلا

ص: 105

ابنا إدريس وسعيد في السرائر والجامع، فحكما بوجوب الصلاة عارياً، وإن نسبه في الخلاف لقوم من أصحابنا، وفي السرائر لبعضهم.

ويقتضيه - مضافاً إلى لزوم الاحتياط في تحصيل الصلاة بالثوب الطاهر بعد إمكان تحصيلها وعدم إحراز الفراغ عنها إلا بالوجه المذكور - صحيح صفوان: «أنه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الرجل معه ثوبان، فأصاب أحدهما بول، ولم يدر أيما هو وحضرت الصلاة، وخاف فوتها وليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال (عليه السلام): يصلي فيهما جميعاً»(1).

ويستدل للقول الآخر بما أرسله في المبسوط، قال: «وروي أنه يتركهما ويصلي عرياناً»(2). بعدم تيسر الجزم بالنية المعتبرة في العبارة مع الصلاة في الثوبين، فيدور الأمر بين رفع اليد عن مانعية النجاسة مع المحافظة عن شرطية الساتر، فيكتفي بالصلاة في أحدهما، ورفع اليد عن شرطية الساتر مع المحافظة على مانعية النجاسة، والثاني أهم، بناء على ما سبق أنه المشهور من وجوب الصلاة عارياً مع انحصار الساتر بالنجس.

ويندفع بأن ضعف المرسل مانع من التعويل عليه في قبال ما سبق. وأما الوجه الآخر فهو يبتني على اعتبار الجزم بالنية في العبادات، وهو ممنوع مع القدرة عليه، فضلاً عن التعذر، على ما تقدم في المسألة الثالثة من مبحث التقليد، وأطلنا الكلام فيه في مبحث العلم الإجمالي من مباحث الأصول.

على أنه قد سبق الإشكال في أهمية مانعية النجاسة من شرطية الستر. مع أن الدوران هنا - بعد فرض طهارة أحدهما - ليس بين رفع اليد عن مانعية النجاسة وعن شرطية الستر، بل بين رفع اليد عن الجزم بالنية وعن شرطية الستر، ولا إشكال في تعين الأول، لأن دليل الجزم بالنية - لو تم - لبي لا إطلاق له يشمل المقام، بخلاف دليل مانعية النجاسة. على أنه لو تم جميع ذلك في نفسه، فلابد من رفع اليد عنه بالصحيح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 46 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) ج: 1 ص: 39 الطبعة الحديثة.

ص: 106

(107) تخير بين الصلاة فيه والصلاة في كل منهما (1).

(مسألة 40): إذا تنجس موضع من بدنه وموضع من ثوبه، ولم يكن عنده من الماء ما يكفي لهما معاً، لكن كان يكفي لأحدهما فالظاهر وجوب تطهير البدن (2). ولو كان الموضعان من ثوبه أو بدنه وجب تطهير

المعول عليه عند الأصحاب.

وبذلك يظهر أن الواجب شرعاً واقعاً هو إحدى الصلاتين، فالامتثال إنما يكون بها واقعاً، ووجوب الجمع بينهما عقلي، والمنوي هو الامتثال بهما إجمالاً، وبكل منهما احتمالاً.

لكن في الجامع بعد أن أفتى بالصلاة عرياناً، قال: «وروي أنه يصلي في كل واحد منهما صلاة. وإن صحّ ذلك حمل على أنه قد فرض عليه الصلاة مرتين، كما يصلي عند التباس القبلة الصلاة أربع مرات». ومقتضاه نية الامتثال جزماً بكل من الصلاتين هنا وبكل من الأربع عند اشتباه القبلة. وهو غريب جداً.

(1) بناءً على ما هو التحقيق من الاجتزاء بالامتثال الإجمالي - وإن استلزم التكرار - مع تيسر الامتثال التفصيلي. وقد تقدم في المسألة الثالثة من مبحث التقليد التعرض لوجهه. كما أطلنا الكلام في ذلك في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع من الأصول.

(2) وقد علله (قدس سره) - بعد الفراغ عن لزوم تقليل النجاسة، الذي يأتي الكلام فيه في الفرع اللاحق من هذه المسألة - باحتمال أهمية نجاسة البدن. وكأنه لأنها أشد لصوقاً بالمصلي من نجاسة ثوبه، فيترجح إزالتها في مقام التزاحم.

ولا إشكال في لزوم مراعاة احتمال الأهمية في مقام التزاحم، إذ بعد العلم بثبوت ملاك الإلزام في كل منهما، والشك إنما هو في سقوط الإلزام بسبب العجز من جهة التزاحم، يعلم بكون المحافظة على محتمل الأهمية عذراً في ترك الآخر، ولا يعلم

ص: 107

أحدهما (1) مخيراً (2)، إلا مع الدوران بين الأقل والأكثر، أو الأخف

بكون المحافظة على الآخر عذراً في ترك محتمل لأهميته، فيتعين الاحتياط بالمحافظة على محتمل الأهمية، بعد أن كان الشك في العذر المسقط لا في أصل ثبوت التكليف والملاك.

هذا كله بناءً على وجوب الصلاة في الثوب النجس عند انحصار الساتر به، كما هو مختاره (قدس سره). أما بناء على وجوب الصلاة عارياً فقد قال (قدس سره): «فلا ينبغي الإشكال في وجوب تطهير البدن عملاً بمانعية النجاسة، لأنه إذا طهر بدنه وصلى عارياً لم يصل في النجاسة، بخلاف ما لو طهر الثوب وصلى فيه، لأنه صلى وبدنه نجس قطعاً».

وبعبارة أخرى: بعد أن كان وجوب الصلاة عارياً عند انحصار الساتر بالثوب النجس مبنياً على أهمية مانعية النجاسة من شرطية الستر، فاللازم الحفاظ على مانعية النجاسة بتطهير البدن والصلاة عارياً، ولا يجوز صرف الماء في تطهير الثوب وإبقاء البدن نجساً المستلزم للصلاة في النجاسة.

وأما بناءً على ما سبق منّا من لزوم الاحتياط بالجمع بين الصلاة في الثوب النجس والصلاة عارياً، لعدم وضوح أهمية أحد الأمرين - من مانعية النجاسة وشرطية الستر - بعينه، فاللازم التخيير بين تطهير الثوب والاقتصار على الصلاة فيه مع نجاسة البدن وتطهير البدن مع الاحتياط المتقدم بالجمع بين الصلاتين، لأن أهمية طهارة البدن من طهارة الثوب لا تستلزم أهمية طهارة البدن من الستر، ومع التردد بينهما يتعين التخيير المذكور.

(1) لأن الظاهر من دليل مانعية النجاسة كون مانعيتها بنحو الانحلال، لا بنحو المجموعية، فمع القدرة على تقليل النجاسة وتعذر إزالتها بتمامها يجب تقليلها، لأن الزائد من النجاسة مانع مستقل.

(2) لعدم المرجح بينهما من حيثية الموضع، لفرض كونهما معاً في الثوب أو في البدن.

ص: 108

(109) والأشد (1)، فيختار التطهير من الأكثر (2) أو الأشد (3).

(مسألة 41): يحرم أكل النجس وشربه (4). ويجوز الانتفاع به فيما لا يشترط فيه الطهارة (5).

(1) كنجاسة البول ونجاسة الدم، حيث لا يبعد استفادة كون الثانية أخف من عدم احتياج التطهير فيها للتعدد، أو من العفو عن قليلها في الصلاة، بخلاف الأول. بل لا يبعد لذلك كون نجاسة البول أشد من جميع النجاسات التي لا يعتبر في التطهير منها التعدد، خصوصاً المني الذي ورد أن البول أنجس منه(1). كما صرح في بعض النصوص بأن الغائط أقذر وأنجس من المني(2).

(2) لأن فيه تقليلاً للنجاسة كماً أو مرتبة، وقد سبق لزومه.

(3) حيث لا يبعد أهمية مانعيته. ولا اقل من احتمال أهميته الذي تقدم أنه يجب مراعاته ومنه يظهر لزوم ترجيح التطهير من محتمل الأشدية.

(4) من دون فرق بين الأعيان النجسة والمتنجسات، بلا إشكال ظاهر في الجميع، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، كما هو المنقول في حرمة الجامدات النجسة والمتنجسة والمائعات كذلك، بل لعله من الضروريات.

ويستفاد من النصوص الواردة في الماء القليل المتضمنة لإراقته، وفي المرق الذي يقع فيه نجاسة، وفي الدهن والسمن والعسل المتنجسة، والنصوص الواردة في تطهير الأواني وغير ذلك من النصوص الكثيرة.

(5) ويقتضيه - بعد الأصل - السيرة المستمرة على الانتفاع بالنجاسات بالتسميد والإحراق وغيرها. وأظهر من ذلك الحال في المتنجسات، حيث لا يتوقون عن الثياب المتنجسة، وسقي المياه المتنجسة للأطفال والحيوانات، وغسل الأرض ورشها بها للتبريد، وإطعام الطعام والعلف المتنجسين للأطفال والحيوانات، وغير ذلك.

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الجنابة حديث: 5، 4.

ص: 109

مضافاً إلى النصوص الكثيرة الواردة في الأعيان النجسة، مثل معتبر البزنطي عن الرضا (عليه السلام): «سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من إلياتها وهي أحياء أيصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: نعم يذيبها ويسرج بها، ولا يأكلها ولا يبيعها»، ونحوه خبر علي بن جعفر عن أخيه(1) (عليه السلام).

ومعتبر الحسن بن علي في إليات الغنم أيضاً: «قلت: فنصطبح بها؟ قال: أما تعلم أنه يصيب اليد والثوب، وهو حرام»(2). فإن الردع عن الاستصباح من جهة إصابة اليد والثوب ظاهر في جوازه ذاتاً.

وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الماشية تكون للرجل، فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها؟ قال: لا. ولا لبسها فلا يصل فيها»(3). فإنه ظاهر في جواز اللبس من دون صلاة، وأن المنهي عنه هو اللبس مع الصلاة، دفعاً لتوهم مطهرية الدبغ للميتة.

ومعتبر زرارة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به الماء. قال: لا بأس»(4) ، ومعتبر برد الاسكاف الوارد في العمل بشعر الخنزير، وفيه: «فما كان له دسم فلا تعملوا به، وما لم يكن له دسم فاعملوا به»(5) ، ومعتبره الآخر وخبر سليمان الاسكاف(6) الواردين فيه أيضاً.

وخبر قاسم الصيقل: «كتبت إلى الرضا (عليه السلام): إني أعمل أغماد السيوف من جلود الميتة، فتصيب ثيابي، فأصلي فيها؟ فكتب إليّ: اتخذ ثوباً لصلاتك»(7). وقريب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6 وذيله.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب الذبائح حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 16.

(5) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 65 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(6) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 65 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 3.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 110

منه الخبر عنه وعن ولده(1).

وصحيح علي الواسطي: «دخلت الجويرية - وكانت تحت عيسى بن موسى -

على أبي عبد الله (عليه السلام)، وكانت صالحة، فقالت: إني أتطيب لزوجي، فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر، وأجعله في رأسي. قال: لا بأس»(2).

ومعتبر علي بن أبي حمزة على أبي عبد الله (عليه السلام) في الكيمخت «قال: وما الكيمخت؟ قال: جلود دواب، منه ما يكون ذكياً، ومنه ما يكون ميتة. قال: ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه»(3). وقريب منه موثق سماعة(4). لظهورهما في اختصاص المنع عن لبس الميتة بالصلاة.

وخبر وهب عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام): «أنه كان لا يرى بأساً أن يطرح في المزارع العذرة»(5). وقد يعثر المتتبع على غير ذلك.

بل قد يستفاد المفروغية عنه من مثل صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ، أيصلح للمرأة أن تصلي وهو على رأسها؟ قال: لا حتى تغتسل منه»(6) ، وصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقي به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس»(7). وقريب منه موثق ولده الحسين(8). لأن السؤال فيها عن الصلاة في النضوح، والوضوء من الماء، قد يظهر في المفروغية عن جواز صنع النضوح ووضعه في الرأس، واستقاء الماء بالحبل المذكور. فلاحظ.

مضافاً إلى ما ورد في المائع المتنجس، الذي قد يظهر منهم مساواته للنجس في الحكم، لكونه غير قابل للتطهير، كالنصوص الكثيرة المتضمنة الأمر بالاستصباح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 38 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 37 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 4، 12.

(4) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 4، 12.

(5) ، وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 3.

(6) ، وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 3.

(7) ، وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 3.

(8) ، وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 3.

ص: 111

بالزيت والسمن المتنجسين(1).

هذا وعن ظاهر جماعة وصريح آخرين حرمة الانتفاع بأعيان النجاسة مطلقاً إلا ما خرج بدليل. وقد يلحق بها ما لا يقبل التطهير من المتنجسات. وظاهر مفتاح الكرامة والجواهر القول بذلك أو الميل إليه.

قال في الجواهر: «بل ربما ظهر من ملاحظة كلامهم في الدهن النجس الإجماع على عدم جواز الانتفاع به، بل في المحكي عن شرح الإرشاد للفخر وتنقيح المقداد ذلك، حيث قالا: إنما يحرم بيعها لأنه محرمة الانتفاع، وكل محرم الانتفاع لا يصح بيعه. أما الصغرى فإجماعية. بل لعل ذلك ظاهر الغنية أيضاً...».

وقد يستدل له - بعد الإجماع المدعى - بإطلاق قوله تعالى: "وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ"(2) ، بناء على أن الرجز النجس. لأن الانتفاع بالشيء لا يناسب هجره. وكذا قوله تعالى في الخمر:" رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ"3. لأن مقتضى التفريع كون منشأ الاجتناب عن الخمر كونه رجساً نجساً، فيدل على وجوب اجتناب كل نجس.

وبقوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ"4. بدعوى: أن إطلاق نسبة التحريم للأعيان يقتضي حرمة جميع الانتفاعات بها. وهو وإن اختص بالأمور المذكورة في الآية الشريفة، إلا أنه يمكن التعدي لجميع النجاسات بعدم الفصل أو بفهم عدم الخصوصية.

وبقوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول بعد الحكم بحرمة بيع النجس بأنواعه: «لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام»(5).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 43 من أبواب ما يكتسب به، وج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) سورة المدثر الآية: 5.

(3) ، سورة المائدة، الآية: 90، 3.

(4) ، سورة المائدة، الآية: 90، 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 112

لكن لا مجال لدعوى الإجماع بعد عدم تحرير المسألة بهذا الوجه في كلمات القدماء وقد تعرض شيخنا الأعظم في مكاسبه لوجه الإشكال في استفادة الإجماع منها. وما تقدم عن الفخر والمقداد لا يناسب ما تقدم من النصوص المتضمنة جواز الاستصباح بالدهن النجس التي ذكرها القدماء من أهل الحديث والاستدلال، ولا يتضح منهم هجرها، بل المعروف منهم العمل عليها، بل لعل الإجماع منهم على ذلك.

على أنه لو تمت دعوى الإجماع منهم ففي نهوضها بالاستدلال إشكال، لقرب ابتنائها على فهمهم ذلك من بعض الأدلة التي استوضحوا الإجماع على قبولها وعدم ردها، لما هو المعلوم من كثرة اضطرابهم في دعاوى الإجماع.

وأما الآية الأولى فهي لا تنهض بالاستدلال، لأن الرجز هو الخبيث، لا النجس الشرعي الذي هو محل الكلام، ولذا فسره بعضهم بهجر عبادة الأصنام، وآخرون بالمعاصي، وثالث بالفعل القبيح والخلق الذميم... إلى غير ذلك. ومثلها الآية الثانية، كما يظهر مما تقدم في الاستدلال على نجاسة الخمر عند سوقها مرجحاً لنصوص النجاسة.

على أنه لو تم الاستدلال بهما لما نحن فيه لزم حرمة الانتفاع بالمتنجس حتى لو أمكن تطهيره، والتزام التخصيص فيهما في ذلك قد يأباه لسانهما.

وأما الآية الثالثة فهي قاصرة عن إفادة المدعى، لأن إطلاق النهي عن الأعيان ظاهر في النهي عما يقصد نوعاً منها، وهو الأكل في المقام.

وأما رواية تحف العقول فهي ضعيفة بالإرسال مضطربة المتن، حتى استظهر بعضهم أنها منقولة بالمعنى. مع أن مقتضاها العموم للمتنجس وإن أمكن تطهيره، ولا يظن بأحد البناء على ذلك، بحيث يحتاج جواز الاستعمال فيه للدليل المخرج عنها. ومن ثم لا مجال للاستدلال بها خصوصاً في قبال ما سبق من السيرة والنصوص. ويأتي الكلام في الحكم المذكور في المسألة الخامسة من مقدمات التجارة إن شاء الله تعالى.

ص: 113

(114) (مسألة 42): لا يجوز بيع الأعيان النجسة (1)

(1) بلا خلاف يعتد به، كما في الجواهر، وفي التذكرة: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية... فلو باع نجس العين - كالخمر والميتة والخنزير - لم يصح إجماعاً». وفيه أيضاً: «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعاً منا». وقد ادعي الإجماع على حرمة بيع كثير من النجاسات - كالخمر والفقاع والميتة والدم وغيرها - بنحو قد يظهر منه الإجماع على الكلية المذكورة، عداماً استثني ككلب الصيد.

وقد يستدل له بعد الإجماع المذكور بقوله تعالى:" والرجز فاهجر "(1) وقوله عز وجل في تحريم الخمر:" رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه "(2) بناء على الرجز والرجس فيهما النجس. بدعوى: أن البيع ينافي الهجر والاجتناب. وبرواية تحف العقول المتقدمة. وبالنبوي المشهور: «إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه». وبالنصوص الكثيرة الناهية عن بيع الخمر والكلب والخنزير والميتة، بإلغاء خصوصية مواردها، بحيث يستفاد منها عموم حرمة بيع النجس، أو بعدم الفصل.

ويندفع بأن الإجماع لم يثبت بنحو يعتد به في الخروج عن عمومات الصحة، إذ التأمل في كلماتهم يكشف عن أن المنشأ لحرمة بيعه حرمة الانتفاع به مطلقاً أو الانتفاع الظاهر، كما علل بذلك في كلمات غير واحد مثل ما تقدم عن الفخر والمقداد، وفي الغنية بعد أن اشترط في المعوضين ثبوت المنفعة المباحة قال: «وقيدنا بكونها مباحة تحفظاً من المنافع المحرمة. ويدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلم للصيد والزيت النجس للاستصباح تحت السماء، وهو إجماع الطائفة».

ويشهد بذلك استثناء كثير من النجاسات التي ينتفع بها منفعة محللة مقصودة

********

(1) سورة المدثر، الآية: 5.

(2) سورة المائدة، الآية: 90.

ص: 114

عند بعضهم واختلافهم فيه لاختلافهم في حلية الانتفاع أو في كونه مقصوداً، كما يظهر بمراجعة مفتاح الكرامة.

على أنه يصعب جداً استفادة إجماع تعبدي منهم في المقام، بل من القريب ابتناء الإجماع المدعى على فهمهم ذلك من الأدلة بتكلفات ومقدمات مطوية، كما هو الحال في كثير من الإجماعات على كبريات قد تكون متصيدة من الأدلة من دون أن تتضمنها النصوص بعمومها، فإنه يصعب جداً الوثوق بها، فضلاً عن العلم الذي عليه المعول في الأدلة اللبية.

وأما الآيتان الكريمتان فيظهر الحال فيهما مما تقدم في المسألة السابقة من أن المراد بالرجز معنى غير النجاسة الشرعية التي هي محل الكلام، وأن مقتضاهما العموم للمتنجس. فراجع.

كما يظهر مما تقدم وهن الاستدلال برواية تحف العقول. ولاسيما بملاحظة ابتناء حرمة البيع فيها على حرمة جميع وجوه التصرف الذي سبق عدم امكان البناء عليه. مضافاً إلى ما تضمنه صدرها من جواز بيع كل شيء يكون فيه الصلاح من جهة من الجهات.

وأما النبوي فضعفه مانع من الاستدلال به، لأنه لم يذكر في كتبنا إلا مرسلاً، ولم يرد مسنداً إلا في كتب العامة وبطرقهم. مع أن المحكي روايته في كتبهم المعتمدة هكذا: «إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم ثمنه» ولا مجال للبناء على العموم المذكور، إذ لا إشكال في جواز بيع كثير مما يحرم أكله كالدهن المتنجس والطيور المحرمة الأكل والطين وغيرها. فلابد من حمله على أن يكون الأكل هو المقصود نوعاً من الانتفاعات به، كالشحوم ونحوها، فلا مجال للتعدي لغيره، فضلاً عن التعدي لكل نجس. ولم يرد بالوجه الأول إلا في بعض المواضع من مسند أحمد، وحينئذ من الظاهر أنه لا مجال لحمله على خصوص ما حرم منه كل شيء، لعدم وجود ذلك، ولا على كل ما يحرم منه شيء من الانتفاعات ولو كان نادراً، لأنه خلاف الظاهر منه عرفاً

ص: 115

ويجوز بيع الأعيان المتنجسة (1) إذا كان لها منفعة محللة معتد بها عند

ولاستلزامه كثرة التخصيص المستهجن، بل الظاهر حمله على ما يحرم الانتفاع الظاهر منه، وهو لا يستلزم حرمة بيع الأعيان النجسة مطلقاً.

وأما النصوص الناهية عن بيع بعض الأعيان النجسة - كالخمر والخنزير وغيرهما - فهي مختصة بمواردها، ولا مجال لاستفادة الكلية المذكورة منها بإلغاء خصوصية مواردها. ولاسيما مع استثنائهم من الكلية المذكورة - تبعاً للنصوص - بيع الميتة المختلطة بالمذكى على من يستحل أكل الميتة، وبيع كلب الصيد، وبيع العبد الكافر مع نجاسته عند المشهور، وليس إلحاق بقية النجاسات بالمستثنى منه بأولى من إلحاقها بالمستثنى.

وأشكل من ذلك تتميم الاستدلال بها بعدم الفصل. لعدم وضوح قيام إجماع تعبدي على الملازمة، وليس إلا لإجماع المدعى على عموم المنع الذي سبق عدم نهوضه بالاستدلال في المقام. ومن ثم لا مجال للخروج عن عموم نفوذ العقود والتجارة وغيرها، بل يتعين الاقتصار على خصوص ما دل الدليل على حرمة بيعه تخصيصاً للأدلة المذكورة.

وتمام الكلام في ذلك في مبحث المكاسب المحرمة.

(1) من الظاهر اشتراك الأعيان المتنجسة مع النجسة في جملة من الأدلة المتقدمة. ومن ثم عمم غير واحد حرمة البيع لكل ما لا يقبل التطهير من النجاسات، وأطلق في الشرايع حرمة بيع المائع النجس عدا الأدهان. لكن لو بني على العمل بعموم الأدلة المذكورة لزم العموم لكل متنجس وإن أمكن تطهيره.

وكأن منشأ تخصيص سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره الحرمة بالأعيان النجسة أن العمدة في دليل المنع بنظرهم هو الإجماع، والمتيقن منه أعيان النجاسات دون المتنجسات وإن تعذر تطهيرها. ولاسيما بملاحظة النصوص المستفيضة التي أشرنا

ص: 116

العقلاء على نحو يبذل بإزائها المال، وإلا فلا يجوز بيعها وإن كان لها منفعة

محللة جزئية (1).

(مسألة 43): يحرم تنجيس المساجد (2)

إليها، الدالة على جواز بيع الدهن المتنجس التي عولوا عليها في الجملة. لكن عرفت عدم نهوض الإجماع بالاستدلال حتى في النجاسات، فلا يهم تحقيق عمومه أو خصوصه.

(1) كما هو الحال في غير المتنجسات، على ما يذكر في مباحث المكاسب المحرمة.

(2) يظهر المفروغية عن الحكم المذكور مما في المفاتيح من عدم الخلاف في وجوب إزالة النجاسة عن المساجد، لوضوح أن وجوب التطهير إنما هو لعدم مناسبة المسجد للنجاسة المقتضي للمنع من تنجيسه، كما تستفاد المفروغية أيضاً مما صرح به جماعة من وجوب تطهير البدن والثياب لدخول المساجد، وإن قصره بعضهم على ما إذا كانت النجاسة متعدية.

بل في الخلاف في مسألة حرمة دخول المشرك للمساجد: «لا خلاف في أن المساجد يجب أن تجنب النجاسات». وقريب منه عن كشف الحق، وفي السرائر في أواخر الكلام في غسل الميت: «ولا خلاف أيضاً بين الأمة كافة أن المساجد يجب أن تنزه وتجنب النجاسات العينيات»... إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا يبقى بملاحظتها شك في الإجماع على حرمة تنجيس المسجد.

وقد يستدل عليه - مع ذلك - بأمور:

الأول: قوله تعالى:" وإنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا"(1) ، بناء على أن المراد بالنجس ما هو محل الكلام، وهو المتصف بالنجاسة الخبثية، فإن مقتضى تفريع النهي عن قرب المشركين للمسجد الحرام على نجاستهم

********

(1) سورة التوبة، الآية: 28.

ص: 117

كون النجاسة علة النهي، فيكون مقتضى عموم التعليل النهي عن قرب كل نجاسة، وحرمة دخولها المسجد، وهو يقتضي حرمة التنجيس بالأولوية القطعية، بل العرفية الراجعة لظهور الدليل نفسه في العموم. وهو وإن كان مختصاً بالمسجد الحرام، إلا أنه يتمم بعدم الفصل المحكي والمحصل بين المسجد الحرام وغيره، كما في الجواهر.

ويشكل بما سبق عند الكلام في نجاسة الكافر من عدم وضوح ظهور النجس في الآية في النجاسة الخبثية التي محل الكلام. فراجع. مضافاً إلى أن المفرع على نجاسة المشركين ليس هو النهي عن قربهم للمسجد الحرام مطلقاً، بل النهي عن قربهم في العام الثاني، ومن الظاهر أن حرمة إدخال النجاسة للمسجد وتنجيسه لم يشرع على هذا النحو، بل لو شرع لكان تشريعه على نحو الإطلاق، فالحكم المذكور حكم سياسي خاص بمورده لا مجال للتعدي عنه لكل نجس بالمعنى الذي هو محل الكلام.

ولاسيما مع قرب كون النجَس بالفتح مصدراً لا وصفاً بمعنى النجس بالكسر، ويكون إطلاقه على المشركين مبالغة في نجاستهم، فالمفرع عليه ليس مطلق النجاسة، بل النجاسة بمرتبة خاصة تناسب المبالغة المذكورة، ولا مجال مع ذلك للتعدي لكل نجس، خصوصاً بملاحظة ما يأتي من عدم الإشكال في جواز إدخال النجس للمسجد في الجملة، مع إباء لسان التعليل في الآية عن التخصيص ارتكازاً.

ومن القريب جداً أن يكون الحكم المذكور مساوقاً لما ورد من نداء أمير

المؤمنين (عليه السلام) لما بعثه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسورة براءة بأنه لا يحج بعد العام مشرك، وهو أجنبي عما نحن فيه جداً.

الثاني: قوله تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود"(1) ، وقوله عز وجل مخاطباً إبراهيم (عليه السلام):" وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود"(2).

********

(1) سورة البقرة، الآية: 125.

(2) سورة الحج، الآية: 26.

ص: 118

(119)وفيه أولاً: أنه لم يتضح كون المراد بالتطهير هو التطهير من الخبث الذي هو محل الكلام، لعدم وضوح شيوع الاستعمال فيه في شريعة إبراهيم (عليه السلام) بل قد يراد به التطهير من رجس الأوثان أو من المشركين، كما روي مرسلاً عن الصادق (عليه السلام) في تفسير علي بن إبراهيم.

وثانياً: أنهما مختصان بالبيت وهو الكعبة الشريفة، ومن الممكن اختصاصها بمزيد التعظيم عن المسجد الحرام، فضلاً عن بقية المساجد.

وثالثاً: أن ظاهرهما الأمر بتطهير البيت من أجل من يعتريه من الطائفين وغيرهم، تشريفاً وتكريماً لهم، أو لتجنب تنجسهم بالنجاسة المتعدية، أو لغير ذلك، ولا ظهور لهما في الأمر بتطهير البيت لذاته نفسياً، كما هو المدعى في المقام.

الثالث: النبوي المذكور في كتب الفقهاء: «جنبوا مساجدكم النجاسة»(1).

لكنه لا ينهض بالاستدلال بعد ضعف سنده وعدم وضوح انجباره بعمل الأصحاب لعدم وروده في كتب الحديث المعول عليها عندهم، وذكره في كتب الفقهاء قد يكون لتأييد الحكم المذكور والاستئناس له بالسنة بعد المفروغية عنه بينهم، وإلا فمن البعيد جداً اعتمادهم على مثل هذه المراسيل في الفتوى بالحكم الشرعي. ومجرد موافقته لفتوى المشهور لا تكفي في انجبار ضعف سنده ما لم يرجع لاعتمادهم عليه. على أن المساجد فيه قد تحمل على مسجد الجبهة، أو جميع أعضاء السجود، نظير ما ورد في تفسير قوله تعالى: "وأن المساجد لله"(2).

الرابع: صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الدابة تبول فتصيب بولها المسجد أو حائطه أيصلى فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا جف فلا بأس»(3). بدعوى: ظهوره في مفروغية السائل عن وجوب إزالة النجاسة، وإنما تردد في فورية ذلك،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 24 من أبواب أحكام المساجد كتاب الصلاة حديث: 2.

(2) سورة الجن، الآية: 18، وسائل الشيعة ج: 18 باب: 4 من أبواب حد السرقة حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 18.

ص: 119

بحيث يجب تقديمها على الصلاة، وقد أقره الإمام (عليه السلام) على ذلك، ولم يردعه عن اعتقاده الوجوب.

وفيه: أنه لم يتضح من السؤال مفروغية السائل عن وجوب إزالة النجاسة، لعدم وضوح بنائه على نجاسة أبوال الدواب وإن دلت عليها بعض النصوص، كما سبق في محله. بل هو لا يناسب التفصيل بين الجفاف وعدمه، لعدم الفرق بينهما في وجوب إزالة النجاسة عن المسجد عندهم، بل قد يكون السؤال بلحاظ استقذار البول، المقتضى لتنزيه المسجد عنه بغسله منه. ويرجع التفصيل بين الجفاف وعدمه للفرق بينهما في حصول الإهانة للمسجد وعدمها.

أو بلحاظ احتمال نجاسة البول، المقتضية لامتناع الصلاة في موضعه أو في موضع يستلزم مماسته. ويرجع التفصيل بين الجفاف وعدمه للردع عن احتمال نجاسته، وأنه لا محذور في الصلاة إلا التقذر بملاقاة البول والتلوث به الذي لا يتحقق مع جفافه.

ولعل الثاني أظهر، بلحاظ أنه ظاهر في السؤال عن صحة الصلاة في المسجد قبل الغسل وجوازها وضعاً، لا عن وجوب المبادرة للغسل تكليفاً مع قطع النظر عن الصلاة في المسجد، كما هو الحال في حق من لا يريد الصلاة أو يريد الصلاة في غير المسجد.

وأما احتمال رجوع السؤال للترجيح بين المستحبين، وهما المبادرة لغسل البول، والمبادرة للصلاة من دون نظر لوجوب إزالة النجاسة أو وجوب المبادرة إليها، كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره).

فهو مخالف لظاهر الصحيح، لأن المنصرف من السؤال هو السؤال عن الترخيص في الصلاة قبل غسل البول، في مقابل المنع منها، لا في مقابل رجحان تأخيرها واستحبابه.

الخامس: النصوص الكثيرة المتضمنة جواز اتخاذ الكنيف مسجداً بعد تنظيفه

ص: 120

وطمه بالتراب، معللاً في جملة منها بأن التراب يطهره(1). لدلالتها على عدم جواز اتخاذ الأرض المتنجسة مسجداً قبل التنظيف والطم بالتراب، لمنافاة النجاسة للمسجدية، المستلزمة لحرمة تنجيس المسجد ووجوب تطهيره لو تنجس.

وفيه: أن جملة من النصوص المذكورة وإن اشتملت على عنوان التنظيف، إلا أن الظاهر منه التنظيف بإزالة عين النجاسة، لا بالغسل المطهر، ولذا نسب في جملة منها التطهير للتراب، بل ظاهر بعضها أو صريحه عدم وجوب إزالة عين النجاسة، وأنه يكفي وضع التراب عليها، لأن تنظيف المكان وتطهيره يكون بذلك.

كصحيح الحلبي في حديث: «أنه قال لأبي عبد الله (عليه السلام): فيصلح المكان الذي كان حشّاً زماناً أن ينظف ويتخذ مسجداً؟ فقال: نعم إذا ألقي عليه من التراب ما يواريه، فإن ذلك ينظفه ويطهره»(2) ، وموثق مسعدة بن صدقة عنه (عليه السلام): «أنه سئل أيصلح مكان حشّ أن يتخذ مسجداً؟ فقال: إذا ألقي عليه من التراب ما يواري ذلك ويقطع ريحه فلا بأس، وذلك لأن [أن خ. ل] التراب يطهره. وبه مضت السنة»(3).

ومن الظاهر أنه لا يراد بتطهير التراب للمكان - مع وجود عين النجاسة فيه أو رفعها - مطهريته من الخبث الذي نحن بصدده، بل ما يساوق رفع الاستقذار وذهاب الرائحة، ولزوم ذلك قد يكون لتجنب هتك المسجد، وهو أجنبي عما نحن بصدده.

وأما ما يظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) من دلالة النصوص المذكورة على لزوم طهارة ظاهر المسجد. فهو مندفع بأن ذلك لا يناسب تعليل لزوم إلقاء التراب بمطهريته، الظاهر في لزوم التطهير للباطن النجس، لكن بالمعنى المتقدم من الطهارة الذي يحصل حتى مع نجاسة التراب الملقى عليها، كما هو مقتضى إطلاق النصوص المذكورة أيضاً.

نعم لو تضمنت النصوص المذكورة لزوم إلقاء التراب الطاهر على النجاسة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 11 من أبواب أحكام المساجد.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 11 من أبواب أحكام المساجد حديث: 1، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 11 من أبواب أحكام المساجد حديث: 1، 5.

ص: 121

من دون تعليل بمطهريته للمكان كان لما ذكره وجه.

ومن ثم لا تنهض النصوص المذكورة بإثبات وجوب طهارة ظاهر المسجد بالمعنى الذي هو محل الكلام، فضلاً عن باطنه.

السادس: صحيح الحلبي: «نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: أين نزلتم؟ فقلت نزلنا في دار فلان، فقال: إن بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً، أو قلنا له: إن بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً، فقال: لا بأس، إن الأرض تطهر بعضها بعضاً...»(1). وقريب منه صحيحه الآخر وفي ذيله: «قلت: فأطأ على الروث الرطب. قال: لا بأس. أنا والله ربما وطئت عليه ثم أصلي ولا أغسله»(2). بدعوى ظهورهما في المفروغية عن حرمة تنجيس المسجد، ولذا استدعى الحال السؤال عن الدخول للمسجد بعد تنجس الرجل بالمشي في الزقاق المذكور.

وفيه: أنه لا قرينة على كون منشأ السؤال هو محذور تنجيس المسجد، بل لعله منشأه هو محذور الصلاة مع نجاسة الرجل، كما هو المناسب للجواب بطهارة القدم بالمشي التي شرط في الصلاة، لا بجفاف القدم الذي هو يكفي في عدم تنجيس المسجد. بل ذلك كالصريح من ذيل الصحيح الثاني المتقدم، حيث نبه (عليه السلام) إلى عدم مانعية ملاقاة الروث الرطب من الصلاة، لا من دخول المسجد.

السابع: صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المستحاضة: «فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر... وتحتشي وتستثفر ولا تحني [تحيى]، وتضم فخذيها في المسجد وسائر جسدها خارج. ولا يأتيها بعلها أيام قرئها، وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء»(3).

حيث ادعى في المدارك والحدائق أنه يلوح من ذيله عدم جواز إدخال النجاسة

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 4 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 4، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

ص: 122

المتعدية. وكأنه للاقتصار فيه في دخول المسجد من دون تحفظ على صورة عدم ثقب الدم الكرسف والأمن من تلويث المسجد به.

وفيه: أن التحفظ في صورة ثقب الدم الكرسف قد يكون من أجل الصلاة، تجنباً لزيادة الحدث والنجاسة فيها، لا من أجل المسجد وتلويثه، وإلا فثقب الدم الكرسف لا يستلزم تلوث المسجد به مع امكان التحفظ منه بالاستثفار ونحوه مما يجب من أجل الصلاة.

الثامن: حديث عبد الله بن ميمون القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: «قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تعاهدوا نعالكم عند أبواب المسجد»(1) ، ونحوه أوعينه مرسل مكارم الأخلاق(2). فإن تعاهد النعل إنما هو للاحتياط والتحفظ من إدخال النجاسة للمسجد، بلحاظ حرمة إدخالها، أو حرمة تنجيس المسجد بها المترتب على الإدخال.

وفيه: أنه بعد أن لم يكن التعاهد للنعل واجباً، بل مستحباً، فكما يمكن أن يكون استحبابه بلحاظ حسن الاحتياط بالفحص تحفظاً من احتمال إدخال النجاسة أو التنجيس للمسجد المحرم مطلقاً عندهم يمكن أن يكون تحفظاً من احتمال خصوص التلويث الموجب لهتك المسجد الذي لا إشكال في تحريمه، أو من احتمال تقذر المسجد ولو بغير النجاسة - كالروث الطاهر - المرجوح من دون أن يكون محرماً.

ومن ثم كان الظاهر انحصار الدليل على حرمة تنجيس المسجد ووجوب تطهيره بالإجماع المشار إليه آنفاً، كما اعترف به في الحدائق وإن كان ظاهره عدم التعويل عليه. وهو كاف في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء، حيث يمتنع عادة خفاء الحكم فيها على الأصحاب وخطئهم فيها.

اللهم إلا أن يقال: لم يتضح من الإجماع كون حرمة التنجيس تعبدية عندهم، بل لعلها بلحاظ لزوم الهتك والتوهين للمسجد للبناء على أن التنجيس هتك

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 3 باب: 24 من أبواب أحكام المساجد حديث: 1، 3.

ص: 123

للمسجد وتوهين له مطلقاً ولو بنظر الشارع الأقدس الذي تكون النجاسة عنده من سنخ القذارة عند العرف، فكما يكون تقذير المسجد هتكاً له عرفاً يكون تنجيسه هتكاً له شرعاً. كما يناسبه تعميم جماعة منهم الحكم لكل ما يحرم توهينه وهتكه، كالضرائح المقدسة والمصحف الشريف والتربة الحسينية.

وحيث لم يثبت ذلك عندنا - لأن التوهين المعلوم التحريم أمر عرفي، لم يتضح من الشارع الأقدس التصرف فيه، بحيث يرجع الحكم منه بالنجاسة للحكم بحصول التوهين بها شرعاً - أشكل التعويل على الإجماع المذكور.

على أن عدم احتمال خطأ أهل الفتوى في مثل هذه الكبرى الشايعة الابتلاء لا ينافي احتمال الخطأ منهم في صياغتها وتحديدها، بعد عدم تضمن الأدلة النقلية لها بحدودها المذكورة، ليتضح من تعويلهم على تلك الأدلة جريهم على مفادها بحدوده، وإنما استفيدت من أهل الفتوى بملاحظة مجموع كلماتهم.

حيث يتوجه حينئذ احتمال اضطراب الأمر عليهم بسبب أن كثيراً من أفراد النجاسة الشايعة من المستقذرات العرفية الموجبة لهتك المسجد المحرم ارتكازاً، وكثيراً منها لا يناسب المسجد بلحاظ كونه معرضاً لابتلاء المصلين ونحوهم بالنجاسة، خصوصاً مع شيوع السجود منهم على أرض المسجد، حيث قد يكون ذلك مهيأ لهم نفسياً لاستفادة الحكم المذكور من آية المشركين، معتضداً ببقية النصوص المتقدمة، كما حصل لجماعة كثيرة منهم، حتى منع جمع منهم إدخال النجس والمتنجس للمسجد ولو مع عدم تعدي نجاستهما، بنحو لا يتضح المنشأ له لولا الآية الشريفة.

وكيف يمكن مع ذلك كشف تصريحات أهل الفتوى المتقدمة إليها الإشارة عن البناء على الكبرى المذكورة بحدودها ممن سبقهم من الأصحاب الذين لم يتوجهوا لتحرير الفتاوى، وإنما كانوا يقتصرون على إثبات النصوص وتعرف آراؤهم منها، مع ما سبق من قصور الآية والنصوص عن إفادة هذه الكبرى.

ومن هنا يشكل جداً التعويل على الإجماع في إثبات الكبرى على عمومها وعدم

ص: 124

قصرها على صورة لزوم هتك المسجد وتوهينه. ولاسيما مع مناسبة ذلك للنصوص الكثيرة المشار إليها آنفاً المتضمنة جواز اتخاذ الكنيف مسجداً، فإنها وإن لم تصلح دليلاً على التقييد، لامكان الاقتصار فيها على موردها، وهو النجاسة الباطنة السابقة على المسجدية، إلا أنها مناسبة جداً لما سبق. وإن كان الخروج مع ذلك عن الإجماع المتقدم صعب جداً.

نعم لما كان المسجد من الأوقاف العامة وليس من المباحات الأصلية أشكل التصرف فيه بالتنجيس مع احتمال تحريمه وعدم مناسبته للمسجدية، لعدم وضوح السلطنة عليه حينئذ، بل يكون التصرف المذكور تعدياً عرفاً ومحرماً ما لم يثبت جوازه شرعاً، أو يأذن به الولي لصالح المسجد.

وبعبارة أخرى: لما كان المسجد قبل المسجدية مملوكاً لمالكه ولا يجوز التصرف فيه إلا بأنه فجواز التصرف فيه بعد وقف المالك له مسجداً مبني على نفوذ الوقف وملائمة التصرف للجهة الموقوف عليها، فمع الشك في ملائمة التصرف للجهة الموقوف عليها لا يحرز المسوغ له، بل يحرم ارتكازاً بعد احترام المال ذاتاً، نظير ما تقدم في المسألة الثالثة من أحكام التخلي من حرمة التصرف في الوقف ما لم يحرز دخوله في الجهة الموقوف عليها. فتأمل جيداً.

لكن ذلك بنفسه لا يقتضي وجوب التطهير كفائياً، لعدم كون ترك التطهير تعدياً. غاية الأمر أنه قد يجب التطهير على من نجسه لإزالة أثر اعتدائه مع قدرته عليه إذا لم يلزم منه اعتداء آخر على المسجد. فتأمل.

هذا وقد استدل في الحدائق لجواز تنجيس المسجد بموثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الدمل يكون بالرجل فينفجر وهو في الصلاة. قال: يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض، ولا يقطع الصلاة»(1). قال: «فإن إطلاقها شامل لما لو كانت الصلاة في المسجد، بل هو الغالب» .

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب أحكام المساجد حديث: 8.

ص: 125

لكنه كما ترى! لعدم ورودها لبيان جواز تنجيس الحائط، بل لبيان عدم الحاجة لقطع الصلاة من أجل مسح ما ينزل من الدمل، أو عدم جواز قطعها لذلك، لعدم منافاة المسح المذكور لها، فلا ينافي حرمة تنجيس الحائط لو كان مسجداً أو ملكاً للغير أو وقفاً لا يناسبه التصرف المذكور، وليست غلبة كونه مسجداً بحد تمنع من حمل الرواية على غيره بعد عدم الإطلاق فيها.

على أنه لم يتضح ملازمة انفجار الدمل لخروج الدم ونجاسة القيح به، بل كثيراً ما يخرج منه القيح الخالص، خصوصاً في أول انفجاره من قبل نفسه. فالاستدلال المذكور موهون جداً.

ثم إن مقتضى إطلاق الأصحاب عموم الحرمة لباطن المسجد، وفي الجواهر التصريح بذلك، وأن ما تضمن جواز اتخاذ الكنيف مسجداً مختص بمورده. ومنع منه بعض مشايخنا. عملاً بالأصل بعد قصور أدلة الحرمة عن ذلك، لوضوح اختصاص الإجماع والارتكاز بالظاهر وكذا جملة من النصوص المتقدم الاستدلال بها، ومنها نصوص اتخاذ الكنيف مسجداً، وعن الأردبيلي البناء لأجل هذه النصوص على عدم اشتراط الطهارة في المسجد بحيث يكون التحت أيضاً طاهراً، وكذا الفوق.

لكن ظهر حال النصوص مما تقدم، وأما الإجماع فيصعب جداً البناء على اختصاصه بالظاهر بعد استدلال جماعة من الأصحاب بآية المشركين والنبوي اللذين لا مجال لتوهم ذلك فيهما. كما يصعب التفكيك بين الباطن والظاهر ارتكازاً بعد البناء على حرمة التنجيس تعبداً مع قطع النظر عن الهتك وابتلاء المصلين بالنجاسة. بل يصعب جداً بالنظر للارتكاز أن تتخذ في المسجد بالوعة للماء المتنجس إذا لم تشتمل على عين النجاسة، فضلاً عما إذا اشتمل عليها.

وأشكل من ذلك جواز تنجيس الفوق الذي تقدم عن الأردبيلي، فإنه منافٍ للمرتكزات جداً. إلا أن يريد منه الفضاء الأعلى من دون بناء، حيث تكون النجاسة غير متعدية بل يكون ظرفاً للنجاسة لا غير، فإنه لا مجال لدعوى المنع من ذلك بناء

ص: 126

(127) وبنائها (1) وسائر آلاتها (2)،

على ما يأتي من جواز إدخال النجاسة للمسجد. ولاسيما مع علّوه المفرط، بحيث لا يكون ملحقاً بالمسجد عرفاً. فلاحظ.

(1) لإطلاق بعض الأدلة المتقدمة، ومنها آية المشركين التي هي عمدة الأدلة عنده (قدس سره) بعد الإجماع.

لكن استشكل السيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة الوثقى في وجوب إزالة النجاسة عن الجانب الخارجي من جدار المسجد وأقره على ذلك جماعة من محشيها.

وكأنه لخروجه عن المتيقن من الإجماع الذي سبق أنه عمدة الدليل في المقام، ولاسيما مع عدم وضوح استنكاره حسب ارتكازيات المتشرعة.

وأما إطلاق الآية الشريفة - لو تم الاستدلال بها - فيشكل تماميته بعد العلم بعدم إرادة المعنى الحقيقي من القرب فيها، إذ لا إشكال في جواز قرب المشرك فضلاً عن غيره من النجاسات من المساجد، بل التصاقه بحائطه من الخارج وليس النهي عن القرب فيها إلا كناية عن دخوله فيها. نعم تنجيس ظاهر المسجد ليس كالتصاق الكافر به من الخارج ارتكازاً. إلا أن ذلك لا يكفي في إحراز دخوله في إطلاق الآية.

على أن من القريب عدم بناء المتشرعة على التقيد فيه، ولو للغفلة عنه، بسبب انكشاف الحائط من الجانب المذكور، وعدم تميزه عن حيطان الدور والبنايات المجاورة، ولو كان بناؤهم على التحفظ من تنجيسه لاحتاج إلى عناية زائدة، ولو كان كذلك لظهر وبان. ومن ثم كان الظاهر عدم حرمة تنجيسه. إلا أن يكون بحيث يوجب هتك المسجد وتوهينه. فلاحظ.

(2) إن كان المراد بالآلات ما يدخل في البناء، من الأخشاب والأبواب ونحوها، فالكلام فيه يظهر مما سبق في البناء. وإن كان المراد بها ما هو خارج عن ذلك - كالمنبر ودولاب الكتب ونحوهما - فالكلام فيها يظهر مما يأتي في الفراش.

ص: 127

وكذلك فراشها (1)

(1) كما نسبه (قدس سره) لكثير. قال: «ولم ينقل فيه خلاف» وفي الجواهر: «بل قد تشعر عبارة مجمع البرهان بالإجماع عليه». وقد يستدل له بآية المشركين، بناء على عموم النجاسة فيها للمتنجس. لكن استشكل (قدس سره) فيه بالمنع من العموم، لما يأتي

منه (قدس سره) في النجاسة غير المتعدية من الفرق بين النجس والمتنجس. بل سبق منّا الإشكال في أصل الاستدلال بالآية الشريفة في المقام.

وفي الجواهر: «ولعله لتبعيتها للمسجد بإضافتها إليه، وتحقق تحقيره بتحقيرها، كتعظيمه ما دامت فيه. ولامكان صدق تلويث المسجد بتلويثها».

والكل كما ترى! إذ التبعية موقوفة على إطلاق يقتضي حرمة تنجيس المسجد، لينظر في استفادة حكمها منه تبعاً، وهو مفقود، كما يظهر مما سبق.

وأما تحقق تحقيره بتحقيرها، فهو موقوف على أن يكون مبنى الحكم بحرمة التنجيس ووجوب التطهير لزوم تحقير السجود وهتكه، وقد سبق المنع من ذلك عند الكلام في الاستدلال بالإجماع.

وأما ما ذكره أخيراً من امكان صدق تلويث المسجد بتلويثها. ففيه: أنه لو أريد به صدقه حقيقة، فهو مقطوع البطلان، ولو أريد به صدقه مجازاً فهو لا ينفع. إلا أن يرجع إلى استفادته من دليله تبعاً، الذي سبق منه التعرض له أولاً، وسبق الكلام فيه.

فالعمدة في حرمة التنجيس ما سبق في المسجد من أن التصرف في الوقف لا يجوز من دون إحراز شمول الوقف للتصرف المذكور، وحيث كان الوقف على المسجد راجعاً للترخيص في التصرف المناسب للمسجد، ومع الشك في مناسبة التنجيس له يتعين حرمته. وهذا يجري في جميع ما وقف للمسجد من أجل أن يكون فيه، ولا يختص بالفراش.

لكن بعض مشايخنا (قدس سره) فصل بين مثل الفراش مما وقف للعبادة ومثل المنبر مما

ص: 128

وقف لغير العبادة، فمنع من تنجيس الأول، لأنه وقف للعبادة لا للتنجيس، ورخص في الثاني، لعدم منافاته لجهة الوقف.

ويشكل بأنه ليس شيء من ذلك يوقف للتنجيس، وإنما يوقف لأن يكون في المسجد، وينتفع به فيه، فإن كان المعيار في المنع منافاته للانتفاع الموقوف عليه في المسجد، فمن الظاهر أن المنافي للصلاة شرعاً هو نجاسة مسجد الجبهة، والاقتصار على ذلك يقتضي حرمة تنجيس موضع السجود من الفراش إذا كان مما يسجد عليه

- كالحصير - وكان معداً عند الناس للسجود.

وإن بني على التعميم بلحاظ بناء الناس خارجاً على مساورة فراش المسجد، وعدم التوقي من ملاقاته برطوبة، فوقفه لانتفاع الواردين للمسجد يقتضي المنع مما ينافي سيرتهم المذكورة. فهو يجري في جميع ما يوقف لأن يوضع في المسجد وينتفع به فيه، لعموم سيرة الناس بالوجه المذكور للجميع.

على أنه لا يعتبر في المنع منافاة التصرف للجهة الموقوف عليها، بل يكفي عدم إحراز عموم الوقف له وتضمنه للترخيص فيه كما سبق. وذلك يجري في الجميع.

نعم هو لا يقتضي وجوب التطهير كما سبق، خصوصاً في حق غير من نجسه، وخصوصاً إذا كان وقفه بعد تنجيسه.

وكأن الوجه الذي اعتمده سيدنا المصنف (قدس سره) في العموم هو الإجماع الذي قد يثبت أو يعتضد بارتكازات المتشرعة.

لكن سبق الإشكال في الاعتماد على الإجماع في أصل الحكم، فضلاً عن هذه الخصوصيات التي لم ينبه لها جماعة كثيرة. والارتكاز قد يبتني على اختلاط النجاسة بالهتك، بسبب فتوى الفقهاء في المقام، ولم يتضح كونه ارتكازاً مستقلاً عن فتاواهم مستنداً للشارع الأقدس، لينهض بالحجية. بل الإنصاف أن دعوى الارتكاز على العموم المذكور في غاية الإشكال. والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

ص: 129

وإذا تنجس شيء منها وجب تطهيره (1). بل يحرم إدخال النجاسة العينية غير المتعدية إذا لزم من ذلك هتك حرمة المسجد (2)، مثل وضع العذرات والميتات فيه، بل مطلقاً (3) على الأحوط وجوباً، إلا فيما لا يعتد به، لكونه من

(1) بلا إشكال فيه بينهم، بحيث لو تم الإجماع على حرمة التنجيس لتم على وجوب التطهير. وكذا الحال في أكثر الأدلة اللفظية المتقدمة، فإنها تقتضي عدم مناسبة النجاسة للمسجد، فكما يحرم تنجيسه يجب تطهيره لو تنجس. نعم ما سبق منا من الوجه لا يقتضي وجوب التطهير في غير مورد لزوم هتك المسجد وإهانته، كما سبق التعرض لذلك.

(2) بلا إشكال، لحرمة هتك المسجد إجماعاً وارتكازاً بعد كونه من شعائر الله تعالى.

(3) كما هو مقتضى إطلاق ما تقدم من الخلاف والسرائر، وإطلاق الشرايع والنافع والمعتبر والتذكرة والقواعد والإرشاد والمنتهى ومحكي غيرها. بل في الذكرى: «قاله الأصحاب... والظاهر أن المسألة إجماعية».

ويستفاد أيضاً من إطلاق جماعة وجوب تطهير الثياب والبدن لدخول المساجد بالأولوية، لأنه إذا حرم إدخال المتنجس حرم إدخال عين النجاسة بالأولوية. بل قد يشتمل الثوب والبدن المتنجسين على عين النجاسة، فإذا حرم إدخالها مع تبعيتها للطاهر حرم إدخالها مع استقلالها بالأولوية أيضاً.

وكيف كان فالوجه فيه ظاهر بناء على تمامية الاستدلال بالآية الشريفة، لوضوح أن موردها لما كان هو دخول الكافر فهي لا تختص بالتنجيس قطعاً. لكن سبق المنع من الاستدلال بها.

ومثله الاستدلال بالنبوي المتقدم. لما سبق من ضعفه سنداً ودلالة. على أن النجاسة اسم مصدر من نجس - كما في مجمع البحرين - واستعماله في الأعيان النجسة توسع، ولا قرينة على إرادته في الحديث، بل مقتضى الأصل استعماله على الوجه

ص: 130

توابع الداخل (1)، مثل أن يدخل وعلى ثوبه أو بدنه دم لجرح أو قرحة أو نحو ذلك. بل الأحوط استحباباً المنع مطلقاً. نعم لا بأس بإدخال المتنجس (2)

الأول، ومقتضاه حرمة تنجيس المسجد ووجوب تطهيره، لا حرمة إدخال النجاسة فيه. كما ذكر ذلك في الجملة بعض مشايخنا (قدس سره).

وبالتأمل فيما سبق من وجوه الاستدلال على حرمة تنجيس المسجد يتضح ما يمكن أن يساق منها دليلاً على حرمة إدخال النجاسة للسمجد، كما يتضح عدم نهوضه بالاستدلال. ومن ثم لا مجال للبناء على حرمة إدخال النجاسة في غير صورة لزوم هتك المسجد وإهانته.

ولعله لذا استشكل في نهاية الأحكام في عموم الحرمة للنجاسة غير المتعدية، بل لذا ذهب جماعة من المتأخرين لجواز إدخالها، كالشهيدين والمحقق الثاني وصاحب المدارك وغيرهم، كما حكي عن بعضهم.

(1) حيث لا إشكال في جوازه بملاحظة النصوص المتضمنة جواز اجتياز الحائض في المسجد(1) وأخذ شيء منه(2) ودخول المستحاضة للمسجد وطوافها بالبيت(3). وكذا السيرة على دخول ذوي الجُروح والقُروح ونحوهم.

(2) كما صرح بذلك جماعة، حيث قيدوا إطلاق من سبق منه وجوب تطهير الثياب والبدن من النجاسة بما إذا كانت متعدية. وكأن الوجه الذي اعتمده سيدنا المصنف (قدس سره) في المقام ما ذكره في مستمسكه من أن القدر المتيقن من آية المشتركين هو أعيان النجاسات، لأن النجس لما كان مصدراً، وحمله على العين لا يصح إلا على وجه المبالغة، فالموضوع للحكم هو النجس على نحو المبالغة، وصدقه على المتنجس

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 15 من أبواب الجنابة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 17 من أبواب الجنابة، وج: 2 باب: 35 من أبواب الحيض.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 4 باب: 15 من أبواب المستحاضة، وباب: 3 من أبواب النفاس، وج: 9 باب: 91 من أبواب الطواف.

ص: 131

(132) إذا لم يكن فيه عين النجاسة (1).

(مسألة 44): تجب المبادرة إلى إزالة النجاسة من المسجد (2) وآلاته وفراشه، حتى لو دخل المسجد ليصلي فيه فوجد فيه نجاسة وجبت المبادرة إلى إزالتها مقدماً لها على الصلاة مع سعة الوقت (3). لكن لو صلى وترك

غير واضح.

ومن ثم ذكر (قدس سره) أن مقتضى ذلك قصور الآية الشريفة عن حرمة تنجيس المسجد بالمتنجس، وأن الدليل عليه ينحصر بالإجماع.

بل ذكر (قدس سره) أنه لو أمكن الفرق بين النجاسات يشكل الاستدلال بالآية الشريفة على المنع من كل نجاسة. لكن الظاهر امكان البناء على ذلك، لامكان خصوصية نجاسة الشرك وأهميتها. ومن ثم سبق أنه لا مجال للتعدي من المشرك لكل نجاسة. فراجع وتأمل جيداً.

(1) يعني: إذا كان المتنجس غير تابع للداخل، وإلا جاز وإن كان فيه عين النجاسة، كما تقدم منه (قدس سره).

(2) بلا خلاف، بل لعله إجماعي، كما حكاه بعضهم. كذا في الجواهر، وفي المدارك أن الأصحاب قد قطعوا بذلك. وهو المستفاد من جميع أدلة وجوب إزالة النجاسة عن المسجد وعن آلاته وفراشه لو تمت لابتنائه ارتكازاً على منافاة النجاسة للمسجدية، وعدم مناسبتها لها، وذلك يقتضي طهارة المسجد وتجنيبه النجاسة في جميع الأزمنة على نحو الاستغراق الملازم للفورية

(3) كما هو مقتضى القاعدة في مزاحمة التكليف المضيق للموسع.

وأما ما عن المستند من قصور دليل الفورية عن صورة المزاحمة للواجب وإن كان موسعاً، لاختصاص الدليل عليها بالإجماع، وهو قاصر عن صورة مزاحمته لتكليف آخر وإن كان موسعاً.

ص: 132

الإزالة عصى، وصحت الصلاة (1). أما في الضيق فتجب المبادرة إلى الصلاة

فهو ممنوع أولاً: لما تقدم من أن جميع الأدلة اللفظية المستفاد منها وجوب التطهير تقتضي الفورية. وثانياً: لعموم الإجماع بمقتضى المناسبة الارتكازية القاضية بأن وجوب التطهير لعدم المناسبة بين النجاسة والمسجدية، كما تقدم.

ومثله في الإشكال ما ذكره من أنه لو استفيدت الفورية من دليل لفظي كان بينه وبين دليل التكليف المزاحم عموم من وجه، ومع فقد الترجيح فالمرجع التخيير.

لاندفاعه بأن المقام من صغريات التزاحم الذي يتعين فيه تقديم التكليف المضيق في مقام الامتثال، لا من صغريات التعارض، ليجري فيه ما ذكره من الترجيح والتخيير لو تم في نفسه.

(1) بناءً على ما هو التحقيق من أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده، فالأمر بالإزالة فوراً لا يقتضي النهي عن الصلاة، ليمتنع التقرب بها، والإتيان بها على وجه العبادية. وحينئذ يمكن الإتيان بها بوجه العبادية بلحاظ التقرب بالملاك، بل التقرب بالأمر الترتبي، بل الأصلي بناء على عدم التزاحم بين الأمر الموسع والمضيق، ليلزم تقييد الأول بغير الفرد المزاحم على ما ذكرناه مفصلاً في مسألة الضد من كتاب (المحكم في الأصول).

نعم تقدم في فصل شرائط الوضوء عند الكلام في الوضوء من الإناء المغصوب الإشكال في حصول قصد القربة بالعمل إذا ابتنى على قصد المعصية وإن لم يتحد معها. وذلك يجري في المقام إذا كان الداعي للاستمرار في ترك تطهير المسجد هو الصلاة، بحيث لولا الصلاة لبادر للتطهير. فراجع وتأمل جيداً.

هذا كله مع الإلتفات للنجاسة، كما هو مفروض كلام سيدنا المصنف (قدس سره) بقرينة حكمه بحصول المعصية. أما مع الغفلة عنها فلا إشكال عندهم في الصحة، لأن النهي عن الضد - لو تم - لا يمنع من التقرب مع الغفلة عنه. وتمام الكلام في

ص: 133

(134) مقدماً لها على الإزالة (1).

(مسألة 45): إذا توقف تطهير المسجد على تخريب شيء منه لم يجب (2)،

ذلك في الأصول عند الكلام في اقتضاء النهي عن العبادة للفساد.

(1) لأن التكليف بالصلاة في وقتها أهم من الأمر بالإزالة فوراً. والظاهر عدم الإشكال في ذلك عندهم. كما لا ينبغي الإشكال فيه لأدلة الحكمين.

(2) علّله (قدس سره) بمزاحمة حرمة التخريب لوجوب الإزالة، ومع عدم إحراز أهمية أحدهما يتعين التخيير. بل إذا لم يكن تنجيس المسجد بعين النجاسة بل بالمتنجس فحيث سبق منه (قدس سره) قصور الآية عنه وانحصارها بالإجماع، فمع الشك في وجوب الإزالة مع لزوم التخريب يكون المرجع فيه البراءة، فتكون حرمة التخريب بلا مزاحم، كما ذكر (قدس سره) ذلك أيضاً.

وفيه: أن الشك في وجوب الإزالة مع لزوم التخريب وقصور الإجماع عنه ليس لاحتمال قصور ملاكه، بل هو ارتكازًا للمزاحمة بحرمة التخريب، فلابد من الرجوع فيه لمقتضى القاعدة في المزاحمة، ولا مجال معه للرجوع للبراءة من التطهير لتبقى حرمة التخريب بلا مزاحم. على أن الدليل على حرمة التخريب ينحصر أيضاً بالإجماع وارتكاز المتشرعة.

وأما ما ذكره أولاً من مزاحمة حرمة التخريب لوجوب الإزالة، فهو وإن كان متيناً، إلا أن الرجوع معه للتخيير موقوف على عدم أهمية أحد الأمرين أو احتمالها في أحدهما بعينه، وهو يختلف باختلاف الموارد من حيثية نوع النجاسة ومكانها من المسجد، ومراتب التخريب اللازم من التطهير.

بل يأتي منه (قدس سره) وجوب التخريب لأجل التطهير مع وجود الباذل للتعمير، ووجوب بذل المال غير المضر بالحال لو توقف عليه التطهير. ومقتضى الجمع بين الأمرين هو وجوب التطهير إذا لزم منه التخريب الذي يتوقف تعميره على بذل مال

ص: 134

(135) إلا إذا كان يسيراً لا يعتد به. نعم إذا وجد باذل لتعميره وجب تطهيره وإن لزم تخريبه أجمع (1).

(مسألة 46): إذا توقف تطهير المسجد على بذل مال وجب (2)، إلا

لا يضر بالحال، ووجوب بذل ذلك المال، مقدمة لامتثال التكليف بالتطهير بوجه لا يزاحمه حرمة التخريب. فلاحظ.

(1) علّله (قدس سره) بأهمية وجوب الإزالة حينئذ. لكن في عمومه إشكال، بل الظاهر اختلافه باختلاف مدة الخراب قبل إكمال التعمير، واختلاف حال النجاسة. ثم إن الظاهر عدم الفرق بين وجود الباذل فعلاً قبل الإقدام على التخريب وحصوله بعد حصول التخريب لو علم بذلك.

(2) قال (قدس سره): «لإطلاق الدليل». فإن مقتضى الإطلاق المذكور وجوبه حينئذ، فتجب مقدمته. نعم هو موقوف على وجود دليل لفظي لوجوب التطهير له إطلاق شامل لما إذا توقف على بذل المال. والظاهر انحصاره بآية المشركين والنبوي، وقد ظهر ضعف الاستدلال بهما مما تقدم.

ودعوى: أنه حتى لو كان الدليل هو الإجماع أو نحوه من الأدلة اللبية، فحيث يعلم - تبعاً للمرتكزات - بثبوت ملاك وجوب التطهير فيما لو توقف على بذل المال، ولذا لا إشكال في حسن بذله، تعين البناء على عموم وجوب التطهير لصورة ما إذا توقف على بذل المال، فيجب البذل مقدمة له.

مدفوعة بأن المعلوم - تبعاً للمرتكزات - إنما هو ثبوت الملاك المقتضي لرجحان التطهير، من دون أن يعلم بأهمية الملاك المذكور بحيث يقتضي الوجوب في الحال المذكور، ليجب بذل المال مقدمة لامتثال الواجب.

نعم لا ريب - تبعاً للمرتكزات المتشرعية - في وجوب بذل المال إذا لزم من بقاء النجاسة الهتك بمرتبة معتد بها. فلاحظ.

ص: 135

إذا كان بحيث يضّر بحاله (1). ولا يضمنه من صار سبباً للتنجيس (2). كما لا يختص وجوب إزالة النجاسة به (3).

(1) لقاعدة نفي الضرر. لكن بذل المال المعتد به بنفسه ضرر عرفاً وإن لم يضر بالحال، فإن بني على إعمال قاعدة نفي الضرر لزم البناء على عدم وجوب بذل المال المعتد به مطلقاً. وليس وجوب التطهير مما يستلزم عادة بذل المال المعتد به، ليعلم بتخصيص قاعدة نفي الضرر في ذلك، ويقتصر في نفي الوجوب على صورة الإضرار بالحال.

نعم قد يتمسك في صورة الإضرار بالحال بقاعدة نفي الحرج. أو يدعى العلم بعدم تكليف الشارع الأقدس بما يؤدي إلى الإضرار بالحال. فتأمل جيداً.

(2) لعدم الدليل على الضمان. ومجرد وجوب التطهير عليه تكليفاً لإزالة أثر اعتدائه على المسجد - كما أشرنا إليه آنفاً - لا يستلزم انشغال ذمته به وضعاً، بحيث تكون خسارته عليه، حتى أنه لو امتنع من بذل المال ألزم به، ومع تعذر إلزامه يجوز للغير بذل المال بنية الرجوع عليه. لعدم المنشأ للملازمة المذكورة.

ودعوى: أن التنجيس نقص في المسجد كتنجس الثوب، فيكون مضموناً، كما لو كسر باب المسجد.

مدفوعة: بأن ضمان النقص ليس بتداركه وإزالة أثره، بل بضمان أرشه، وهو فرق ما بين الصحيح والمعيب. مع أنه لا مجال له في المسجد، لعدم لحاظ المالية في وقفه، بل الملحوظ فيه حفظ عنوان خاص، فلا يكون مضموناً لا بمنفعته ولا بوصفه كالطهارة. بخلاف مثل بابه وبنائه وفراشه، فإنها وقفت عليه وخصصت به بما أنها مال ذا منفعة وقيمة خاصة، فتكون مضمونه، كسائر الأوقاف الملحوظ فيها ذلك. فلاحظ.

(3) لإطلاق الأدلة المسوقة عليه أو عمومها. ولا ينافي ذلك ما تقدم من احتمال

ص: 136

(137) (137) (مسألة 47): إذا توقف تطهير المسجد على تنجس بعض المواضع الطاهرة وجب إذا كان يطهر بعد ذلك (1).

(مسألة 48): إذا لم يتمكن الإنسان من تطهير المسجد وجب عليه إعلام غيره إذا احتمل حصول التطهير بإعلامه (2).

وجوب التطهير على من نجسه لإزالة أثر اعتدائه لو تم، لإمكان اجتماع وجوب الشيء عيناً على شخص خاص مع وجوبه كفائياً على العموم، نظير وجوب إشغال المشاعر بالحج بما لا يحصل معه تعطيلها، ووجوب الحج عيناً على المستطيع الذي لم يحج.

(1) قال (قدس سره): «لوجوب ارتكاب أقل المحذورين عند التزاحم». هذا ولو دار الأمر بين التعجيل بتطهير المسجد مع تنجيس بعض المواضع الطاهرة ثم تطهيره، وانتظار تطهيره من دون لزوم ذلك، لزم الترجيح بلحاظ سعة الموضع الذي يتنجس وطول زمان الانتظار. نعم لا يبعد أهمية حرمة التنجيس من وجوب التطهير، فلابد من ملاحظة هذه الجهة في التزاحم.

وبذلك يظهر الحال فيما لو لزم من تطهير الموضع النجس تنجيس ما يتعذر تطهيره، حيث لا يبعد حرمة التطهير حينئذ مطلقاً. إلا في مورد لزوم الهتك من تركه. فلاحظ.

(2) علله (قدس سره): بأنه بعد ما كان تطهير المسجد الواجب غير مشروط بالمباشرة، بل يكفي فيه الاستنابة، ولذا يجب الاستئجار وبذل الأجرة لو توقف التطهير عليه، وجب الإعلام مقدمة لحصول التطهير من الغير. وإليه يرجع ما ذكره بعض

مشايخنا (قدس سره) في المقام.

وفيه: أن ذلك إنما يتم لو كان إعلام المكلف بالنجاسة للغير يقتضي نيابة ذلك الغير عن المكلف في التطهير بحيث يستند فعله إليه، كأجيره وغلامه، حيث يكون الإعلام من المكلف مقدمة لحصول التطهير منه ولو من غير مباشرة فيتحقق

ص: 137

به امتثاله.

أما إذا لم يكن كذلك، بل يعمل المباشر لنفسه امتثالاً لتكليفه بالتطهير، فلا يكون الإعلام من المكلف العاجز مقدمة لامتثال تكليفه، ووجوب ذلك يحتاج للدليل.

مثلاً إذا وجبت نفقة الولد على كل من أبيه وأمه وجب على الأب مع واجديته للنفقة إخبار وكيله بحاجة الولد للنفقة، لينفق عليه من ماله وكالة عنه، مقدمة لامتثاله التكليف بالإنفاق الثابت عليه بعد أن لم يكن الإنفاق الواجب مشروطاً بالمباشرة.

أما مع عجز الأب عن النفقة ولولا بنحو المباشرة، وسقوط التكليف عنه لفقره، فوجوب إعلامه للأم بحاجة الولد للنفقة، مقدمة لامتثالها هي التكليف الثابت عليها، يحتاج إلى دليل، بل هو كسائر موارد الإعلام بموضوع التكليف في حق الغير.

ولعله لذا استظهر السيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة الوثقى عدم وجوب الإعلام في صورة عدم لزوم الهتك، واستشكل في وجوبه إذا لزم الهتك. وأقره على عدم وجوب الإعلام بعض محشيها في الموردين، وبعضهم في خصوص الأول. وهو الذي أصر عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره) مستدلاً عليه بنحو ما ذكرنا.

نعم ما سبق مبني على رجوع التكليف الكفائي إلى تكليف الكل عيناً بفعله

- بنحو المباشرة أو مطلقاً - مع سقوط التكليف عن الكل بامتثال أحدهم، لتعذر الامتثال في حق الباقين، أو لحصول الغرض، أو لارتفاع الموضوع. أما بناءً على ما ذكرناه في الأصول، من رجوع التكليف الكفائي إلى تكليف الكل بالماهية المطلقة، المتحققة بصرف الوجود الصادر منه أو من غيره، فاللازم البناء على وجوب الإعلام مقدمة لامتثال التكليف المذكور، لأن عجزه عن مباشرة التطهير والاستبانة فيه لا يسقط التكليف عنه بعد أن كان المكلف به هو الأعم من فعله وفعل غيره، وكان قادراً على ذلك بقدرته على فعل الغير، بسبب قدرته على مقدمته، وهي إعلام الجاهل

ص: 138

(مسألة 49): إذا تنجس حصير المسجد وجب تطهيره (1)، أو قطع موضع النجس منه إذا كان ذلك أصلح من إخراجه وتطهيره (2).

بالنجاسة، فيتعين وجوب المقدمة المذكورة عقلاً.

هذا مع العلم بتطهير الغير لو أعلم بالنجاسة، أما لو احتمل ذلك فالاحتمال المذكور يرجع للشك في القدرة على الامتثال، الذي يجب معه الاحتياط بالسعي لتحصيل الامتثال.

ويترتب على ما ذكرنا وجوب الاشتراك في التطهير ولو بفعل المقدمات على من عجز عن الاستقلال به، تحقيقاً للواجب، وهو الماهية المطلقة المذكورة. أما بناء على الوجه الأول في حقيقة الواجب الكفائي فيحتاج وجوب الاشتراك حينئذ للدليل، كما لعله ظاهر. فلاحظ.

(1) لما تقدم منه (قدس سره) من حرمة تنجيس فراش المسجد، وتقدم الكلام فيه.

(2) إذ فرض كونه أصلح ملزم بتعيينه لمصلحة الوقف. لكن لما كان في القطع غالباً إفساد في الحصير بمرتبة ما، فكونه أصلح من التطهير مستلزم لكون التطهير إفساداً أيضاً، وكون الترجيح بينهما لدفع الأفسد بالفاسد.

وحينئذ يقع الإشكال في وجوب التخلص من النجاسة بكل من الوجهين لحرمة الإفساد في الوقف، فلو تم إطلاق لوجوب التخلص من نجاسة فراش المسجد كان مزاحماً بحرمة الإفساد في الوقف، ولا دليل على كونه أهم لو لم يكن المرتكز أهمية حرمة الإفساد. ولا أقل من الشك، فيلزم الامتناع من القطع والتطهير معاً، لأصالة حرمة الإفساد في الوقف، وأصالة البراءة من وجوب تخليص المسجد من النجاسة. فتأمل.

نعم لو كانت النجاسة موجبة للهتك كان للترجيح بين الأمرين وجه، لأهمية الهتك جداً، بنحو قد تقدم على الإفساد في المسجد وفي وفراشه ارتكازاً.

ص: 139

(140) (مسألة 50): لا يجوز تنجيس المسجد الذي صار خراباً (1)

(1) لعدم بطلان مسجديته بذلك بلا خلاف أجده بيننا، كما في الجواهر. والوجه فيه: أن وقف المسجد لم يلحظ فيه إلا حفظ العنوان الخاص من دون أن يتقوم بالمنفعة، ومجرد إعداده شرعاً لبعض المنافع - كالصلاة - لا يجعله متقوماً بتلك المنافع، بحيث يبطل بسقوطه عنها بسبب الخراب. وحينئذ لو شك في بطلان مسجديته فالأصل بقاؤها، فتترتب أحكامها بمقتضى إطلاق أدلتها المتقدمة.

لكن في المسالك: «وهذا كله يتم في غير المبني في الأرض المفتوحة عنوة، حيث يجوز وقفه تبعاً لآثار التصرف، فإنه حينئذ ينبغي بطلان الوقف بزوال الآثار، لزوال المقتضي للاختصاص، وخروجه عن حكم الأصل...».

وفيه: أن المراد بصحة وقفه تبعاً لآثار التصرف إن كان هو كفاية الملكية الموقته تبعاً لآثار التصرف أو السلطنة الموقتة على الأرض تبعاً للآثار المذكورة في صحة وقفها مسجداً فهو لا يقتضي زوال المسجدية بزوال آثار التصرف، بل لما كانت المسجدية مبنية على التأبيد ارتكازاً فالسلطنة عليها ترجع على ما هي عليه من التأبيد، ولا وجه لبطلانها حينئذ بزوال آثار التصرف، بل مقتضى الأصل عدمها، لأن تحديد أمد السلطنة أو الملكية لا يقتضي تحديد سعة السلطنة بحيث يقتضي قصور التصرف التابع لها عما إذا انتهى أمدها، فالوكيل المفوض على الدار مدة معينة له وقفها مثلاً بنحو يقتضي التأبيد، بحيث لا يبطل الوقف بانعزاله عن الوكالة.

وإن كان المراد أن صاحب الأرض الخراجية لما لم يكن مالكاً لها، وإنما هو صاحب حق فيها تبعاً لآثار تصرفه، فالثابت من سلطنته عليها هو سلطنته على التصرفات التابعة للآثار المحدودة بزوالها، ولا دليل على سعة سلطنته بنحو يشمل التصرفات المطلقة غير المحدود والموقتة.

ففيه: أن قصور السلطنة عن التأبيد يقتضي قصورها عن وقف المكان مسجداً

ص: 140

بعد ابتناء المسجدية على التأبيد، وعدم انفكاكها عنه ارتكازاً.

ولو لم تكن المسجدية ملازمة للتأبيد، بحيث يمكن جعل مسجدية موقتة لكان الأنسب منه عدم الاقتصار في الاستثناء على المسجد المبني في الأرض المفتوحة عنوة، بل يعم الكلام كل مسجد موقت ولو في غير الأرض المذكورة، بل حتى لو كان التوقيت بالأشهر أو السنين في الأرض المفتوحة عنوة وغيرها، لا بخصوص بقاء الآثار والعمارة.

وبالجملة: بعد ابتناء المسجدية على التأبيد ارتكازاً إن فرض مشروعية اتخاذ المسجد في الأرض المفتوحة عنوة لزم عدم تبعيته للآثار، وعدم بطلانه بزوالها، وإن لم يشرع يبطل الوقف من أول الأمر حتى مع بقاء الآثار.

هذا وحيث كانت الأرض المذكورة ملكاً لعموم المسلمين فالمتعين عدم نفوذ التصرف فيه بالوقف وغيره إلا بإذن وليهم الحقيقي - وهو إمام الحق ومن يقوم مقامه -

أو الامضائي، وهو خلفاء الجور الذين ثبت إمضاء تصرفهم في الأرض المذكورة من قبل الأئمة (عليهم السلام).

فقد تضمنت النصوص جواز تقبلها وزراعتها بالخراج والمقاسمة(1) ، وجواز الشراء مما يأخذونه من الغلات باسم الخراج والمقاسمة(2). كما أن الظاهر من سيرة المتشرعة مضي تصرفهم فيها باقطاعها لأشخاص خاصين ووقفها مساجد ورباطات وغيرها. وتمام الكلام في محله.

وعليه يتعين عدم بطلان مسجدية المساجد فيها بالخراب إن وقفت بإذن الولي، كما هو الحال في المساجد التي في الأراضي الأخرى، وإلا فهي باطلة من أول الأمر.

نعم عدم جواز التنجيس حينئذ ووجوب التطهير لا يكفي فيه بقاء المسجدية، بل لابد معه من ثبوت الإطلاق لدليل الحكمين، وقد تكرر منا إنكار الإطلاق المذكور،

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 11 باب: 71، 72 من أبواب جهاد العدو.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52، 53 من أبواب ما يكسب به.

ص: 141

والإشكال في التعويل على الإجماع والارتكاز في أصل الحكم فضلاً عن عمومه.

بل يصعب جداً البناء على عموم الإجماع والارتكاز للمساجد الخراب المكشوفة التي صارت ساحات أو التي لم يبق من عمارتها إلا أطلال لا تلفت النظر، لغفلة المتشرعة عن حرمة تنجيسها ووجوب تطهيرها، وعدم التزامهم بالجري عليه، وذلك منهم وإن أمكن أن يكون بسبب الغفلة عن الموضوع وعدم تجليه لهم، لا للبناء منهم على قصور الحكم، إلا أنه يصعب معه البناء على عموم الإجماع والارتكاز.

ودعوى: أنه لما كان المفروض حرمة تنجيسها ووجوب تطهيرها قبل الخراب، فيستصحب ذلك بعده.

مدفوعة أولاً: بعدم ثبوت اليقين بذلك - الذي هو ركن الاستصحاب - في حق من لم يجمع شرائط التكليف - من البلوغ وغيره - قبل الخراب، بل الثابت في حقه اليقين بالعدم. كما لا يثبت أيضاً في وجوب التطهير بالإضافة إلى النجاسة الحادثة بعد الخراب ولو بعد التكليف حيث لا يعلم بوجوب التطهير منها حين حدوثها.

نعم يمكن فرض اليقين التعليقي، فيقال: كان قبل الخراب يجب تطهيره لو تنجس فهو كما كان. بل يمكن فرض اليقين التعليقي حتى في صورة الخراب قبل التكليف، فيقول المكلف كان هذا المسجد قبل الخراب يحرم على تنجيسه ويجب علي تطهيره لو كنت بالغاً فهو كما كان. لكن لا عبرة باليقين المذكور، بناء على ما هو التحقيق من عدم جريان الاستصحاب التعليقي.

وثانياً: أن الاستصحاب لا يجري في المقام، لعدم إحراز وحدة الموضوع، لاحتمال أخذ العمارة قيداً في المسجد الذي يحرم تنجيسه ويجب تطهيره، بحيث ينتهي الحكمان بذلك لارتفاع موضوعهما، ولا يعلم كون الموضوع هو مطلق المسجد، بحيث لو كان الحكمان يرتفعان حال الخراب لكان الخراب من سنخ الرافع مع بقاء الموضوع، على ما ذكرناه في ضابط جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية من الأصول.

نعم ما تقدم منافي وجه حرمة تنجيس المسجد من احتمال منافاة التنجيس

ص: 142

(143) وإن لم يصل فيه أحد (1)، ويجب تطهيره إذا تنجس (2).

(مسألة 51): إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد المسجدين أو أحد المكانين من مسجد وجب تطهيرهما (3).

(مسألة 52): يلحق بالمساجد المصحف الشريف والمشاهد المشرفة. والضرايح المقدسة (4)

للعنوان الموقوف عليه قد يجري هنا. فلاحظ.

(1) لعدم أخذ الصلاة مقوماً لعنوان المسجدية ولا شرطاً في أحكامها.

(2) يظهر الكلام فيه مما سبق. ويأتي في المسألة الثالثة والخمسين ما يتعلق بالمقام.

(3) عملاً بالاحتياط اللازم مع العلم الإجمالي، كما حقق في الأصول.

(4) كما يستفاد من الحكم بوجوب تطهيرها في الدروس وجامع المقاصد والروض والروضة وغيرها. وكأنه يبتني على أن تنجيسها مستلزم لهتكها المحرم. وقد أشرنا آنفاً إلى المنع من ذلك، وأن الهتك المحرم أمر عرفي لا دخل للشارع الأقدس به، وحكمه بالنجاسة لا يقتضيه. فراجع ما سبق عند الكلام في الاستدلال بالإجماع على حرمة تنجيس المساجد ووجوب تطهيرها.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الاستدلال في خصوص خط المصحف الشريف من استفادة وجوب إزالة النجاسة عنه من فحوى ما تضمن النهي عن مس الحدث له.

إذ فيه: أنه لا مجال للبناء على الفحوى المذكورة بعد الجهل بملاكات الأحكام. ولاسيما مع ثبوت جواز الصلاة مع النجاسة الخبثية في بعض الموارد مع عدم مشروعيتها حال الحدث، بل لابد فيها من الطهارة ولو الاضطرارية.

ص: 143

والتربة الحسينية (1)

ومن ثم قد يناط الحكم بحصول الهتك والإهانة عرفاً وعدمه، كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره).

نعم ذكر (قدس سره) أن الذي تقتضيه المرتكزات الفرق بين إحداث الإهانة وإبقائها، بالحرمة في الأول، دون الثاني، فيحرم التنجيس لو استلزم الإهانة، ولا يجب التطهير حينئذ.

لكنه لا يخلو عن إشكال، فإن إبقاء الهتك والإهانة للمقدسات مما تأباه المرتكزات الشرعية جداً، ولعه لذا أفتى (قدس سره) بعدم الفرق. نعم لا ريب في أن فعل ما يوجب الهتك أشد حرمة من عدم رفعه.

كما أن إبقاءه وعدم رفعه ولو إلى أمد قد يكون راجحاً لبيان جريمة الفاعل والتشنيع عليه، فيخرج عن كونه إهانة إلى كونه تكريماً للمشهد، لأن التشنيع على المعتدي تكريم للمعتدى عليه، وتنبيه لرفعه مقامه، وسبب لشدّ القلوب إليه.

إلا أن ذلك خارج موضوعاً عن محل الكلام من حرمة التنجيس مع لزوم الهتك ووجوب التطهير حينئذ.

هذا وما تقدم منا في وجه تحريم تنجيس المسجد مطلقاً وإن لم يستلزم الهتك من حرمة التصرف في الوقف بما يحتمل منافاته له - لو تم - جار في الأوقاف المقدسة، كالضرائح المطهرة والمشاهد المشرفة ونحوها.

نعم هو لا يقتضي وجوب التطهير، ولا يمنع من وقف ما هو نجس أو متنجس ليكون فيها. كما لا يجري في المصحف الشريف وغيره من الأمور المملوكة غير الموقوفة، بل المتعين فيها الاقتصار في حرمة التنجيس ووجوب التطهير على صورة لزوم الهتك.

(1) لصيرورتها بأخذها للتبرك شعاراً من شعائر الإيمان، فيحرم هتكها

ص: 144

بل تربة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسائر الأئمة (عليهم السلام) (1) المأخوذة للتبرك (2) فيحرم تنجيسها إذا كان يوجب إهانتها وتجب إزالة النجاسة عنها حينئذ.

وإهانتها. بل مقتضى إطلاقهم، بل تصريح بعضهم، حرمة تنجيسها مطلقاً، إما لما تقدم من ملازمة مطلق النجاسة للهتك والإهانة، أو لما دل على وجوب تعظيم التربة الحسينية، وتنجيسها مناف للتعظيم.

لكن تكرر منا منع الأول. وأما الثاني فلم نعثر من دليله إلا على ما تضمن شرطية التعظيم - من التقبيل والدعاء ونحوهما - لتحقق الشفاء بها، لا على الأمر بالتعظيم نفسياً(1). على أن عموم منافاة التنجيس للتعظيم ممنوع، فإن طلي الموضع المتنجس بها للاستشفاء لا ينافي التعظيم قطعاً. فلا مخرج عما سبق.

(1) لعين ما تقدم. واقتصار غير واحد على تربة الحسين (عليه السلام) لعله لمعروفية أخذها والتبرك بها بالاستشفاء بها والسجود عليها وغيرهما.

(2) اختلف الأصحاب (رضي الله عنهم) في تحديد التربة التي يجب احترامها، فقد يظهر من بعضهم إطلاق الحكم في تربة الحسين (عليه السلام)، كما قد يناسبه ما عن كاشف الغطاء من النهي عن إخراج أواني كربلاء إلى غيرها.

وفي كتاب الأطعمة والأشربة من الروضة بعد تحديد ما يستشفى به من طين قبر الإمام الحسين (عليه السلام): «وليس كذلك التربة المحترمة منها، فإنها مشروطة بأخذها من الضريح المقدس، أو من خارجه - كما مرّ - مع وضعها عليه، أو أخذها بالدعاء». وقريب منه مع اختلاف يسير عن المهذب.

لكن لا مجال للبناء على الأول، إذ هو - مع فقد الدليل عليه - مخالف بعمومه للسيرة القطعية. وأما الثاني فهو خال عن الدليل. والذي تقتضيه المرتكزات الاقتصار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 70، 73 من أبواب المزار، وج: 16 باب: 73 من أبواب الأطعمة المحرمة، وكامل الزيارات ص: 275 إلى ص: 285.

ص: 145

(146) (مسألة 53): إذا غصب المسجد وجعل طريقاً أو دكاناً أو خاناً أو نحو ذلك، ففي حرمة تنجيسه ووجوب تطهيره إشكال (1).

على ما أخذ للتبرك، لقدسيته بملاحظة انتسابه لصاحب الحرم، حيث يكون شعاراً للإيمان، كما سبق.

(1) علل بقصور إطلاق دليل الحكمين عن الصورة المذكورة، فقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الدليل عليهما ينحصر بآية المشركين، وهي مختصة بالمسجد الحرام، والعموم لغيره كان بالإجماع، والمتيقن من معقده غير المقام.

وفيه: أن العموم للمقام ليس أفرادياً، بل هو أحوالي ثابت بمقتضى إطلاق الآية الشريفة، حيث أن مقتضاها عدم جواز قرب المشرك من المسجد الحرام حتى لو غصب شيء منه وجعل طريقاً أو دكاناً أو غيرها. وحينئذ يعمم الحكم بإطلاقه الأحوالي المذكور بعدم الفصل المدعى منهم بين المسجد الحرام وغيره.

أما بعض مشايخنا (قدس سره)، فحيث كان عمدة الدليل عنده على الحكمين نصوص اتخاذ الكنيف مسجداً، فقد ذكر أن المتيقن منها ما يصدق عليه أنه مسجد بالفعل، بمعنى ما يصدق عليه عنوان المسجد عرفاً، دون ما هو مسجد واقعاً ولم يكن مسجداً عرفاً، بل هو عرفاً طريق أو دكان أو نحوهما.

وفيه: أن المستفاد من النصوص المذكورة توقف جعل المسجد على طهارة المكان من دون نظر لحكم ما هو المسجد فعلاً بعد جعل المسجدية. غاية الأمر أن المدعى

له (قدس سره) أن مقتضى التعليل فيها بأن التراب يطهره منافاة النجاسة للمسجدية، وذلك يقتضي عدم الفرق بين حالتي احداث المسجدية وفعليتها. وحينئذ من الظاهر أن المراد بجعل المسجد هو جعل عنوانه بوقف الموضع مسجداً، لا بناؤه بصورة المسجد، ولذا ادعى (قدس سره) عموم الحكم لحال خراب المسجد. وحينئذ يكون مقتضى التعليل المتقدم منافاة النجاسة للمسجد بالمعنى المذكور الصادق على ما غصب وغيرت صورته، ولا

ص: 146

والأقوى عدم وجوب تطهيره من النجاسة الطارئة عليه بعد الخراب (1). ومثله مساجد الكفار إذا لم تتخذ مسجداً (2)، أما إذا اتخذت مسجداً جرى

يختص بما لم يغصب ويغير.

نعم سبق منا الإشكال في الاستدلال بالآية الشريفة والنصوص المذكورة وغيرها مما قد يدعى ثبوت الإطلاق له، لينفع الكلام في سعة مفادها بنحو يشمل المقام، بل سبق الإشكال في الاستدلال بالإجماع، وأن المتيقن في المقام من الأدلة صورة لزوم الهتك التي لا مجال لها في المقام، لأن هتك المسجد وتوهينه وانتهاك حرمته إنما هو بغصبه وتغيير عنوانه، لا بتنجيسه بعد التغيير، فضلاً عن عدم إزالة النجاسة عنه لو تنجس. بل لو كان الدليل في المقام هو الإجماع لكان المتيقن منه غير محل الكلام.

ثم إنه بعد فرض قصور الأدلة يتعين الرجوع للأصل. وهو يقتضي البراءة. نعم تقدم في المسألة الخمسين عند الكلام في حكم المسجد الخراب تقريب جريان الاستصحاب في المقام في حرمة التنجيس ووجوب التطهير، وتقدم المنع منه، وما تقدم هناك جار هنا كما قد يجري هنا ما تقدم منّا في وجه حرمة التنجيس. فلاحظ.

(1) لأصالة البراءة بعد عدم جريان استصحاب وجوب الإزالة عنده، لأنه تعليقي، لعدم اليقين بسبق وجوب إزالة النجاسة المذكورة قبل الخراب إلا معلقاً على حصولها قبله.

ويظهر منه (قدس سره) التوقف في وجوب التطهير عن النجاسة الحاصلة قبل الخراب وفي حرمة التنجيس. وكأنه لشبهة جريان الاستصحاب فيهما منجزاً لا بنحو التعليق. لكنه - مع اختصاصه بالواجد لشرائط التكليف قبل الخراب - قد يشكل بعدم إحراز بقاء الموضوع على ما سبق التعرض له في المسألة الخمسين.

(2) عملاً بالأصل بعد قصور الأدلة اللفظية واللبية عنه، واختصاصها بمساجد المسلمين.

ص: 147

عليها جميع أحكام المسجد (1).

وقد يشكل بأن المسجد حقيقة واحدة في جميع الأديان السماوية الحقة، شرعت لينتسب المكان له تعالى ويكون مجمعاً لعباده من حيثية عبوديتهم له، وإقرارهم بدينه الحق، ليتعبدوا فيه ويذكروه واختلاف أسمائها بين الأديان لا يرجع لاختلاف الحقيقة.

ويناسبه ما هو المعلوم من أن المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد الكوفة أسبق من الإسلام. وكذا قوله تعالى: "قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً"(1). ولعله لذا توقف السيد الطباطبائي في العروة الوثقى في حكم مساجد اليهود والنصارى. نعم لا مجال لذلك في معابد الأديان المبتدعة الوثنية وغيرها.

لكن اتحاد ماهية المسجد حقيقة لا ينافي تعدده عرفاً، بحيث يقصر إطلاق المسجد عن شمول الأمور المذكورة المعنونة عند العرف بعنوان مباين لعنوان المسجد عرفاً، فلا تعمها أحكامه، كما يناسبه قوله تعالى:" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً "(2) حيث عدت الصوامع والبيع والصلوات قبال المساجد، لا من افرادها.

هذا كله بناء على ثبوت إطلاق لفظي للحكم المذكور. أما بناءً على كونه دليلاً لبياً فقصوره عن شمولها أظهر. بل لا ينبغي التأمل بالنظر للسيرة في عدم جريان أحكام المسجد على الأماكن المذكورة.

(1) بلا إشكال، لصيرورتها بذلك مساجد حقيقة وعرفاً.

********

(1) سورة الكهف، الآية: 18.

(2) سورة الحج، الآية: 40.

ص: 148

تتميم فيما يعفى عنه في الصلاة من النجاسات

(149) (149) وهو أمور:

(الأول): دم الجروح والقروح (1) في البدن واللباس (2)، حتى تبرأ بانقطاع الدم انقطاع برء (3)

(1) بلا خلاف أجده، بل عليه الإجماع محصلاً ومنقولاً. كذا في الجواهر. ونفى عنه الخلاف أيضاً في كشف اللثام. وأدعي الإجماع عليه في الخلاف والغنية ومفتاح الكرامة.

والنصوص به مستفيضة، كصحيح إسماعيل الجعفي: «رأيت أبا جعفر (عليه السلام) يصلي والدم يسيل من ساقه»(1) ، وصحيح ليث المرادي: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل تكون به الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوّة دماً وقيحاً، وثيابه بمنزلة جلده. فقال: يصلي في ثيابه ولا يغسلها ولا شيء عليه»(2) وغيرهما.

(2) كما هو مقتضى إطلاق بعضهم وصريح آخرين. ويقتضيه إطلاق بعض النصوص وصريح بعضها، ومنها صحيح ليث المتقدم.

(3) اختلفت كلمات الأصحاب (رضي الله عنهم) في تحديد موضوع المسألة ففي الفقيه: «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه...». وقريب منه في المقنعة.

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب المزار حديث: 3، 5.

ص: 149

وظاهرها الاكتفاء بكون الجرح ذا دم ولو متقطع، وليس ذكر السيلان فيهما إلا تمهيداً لبيان إصابة الثوب بدمه، لا لاعتبار السيلان فضلاً عن استمراره.

ولعله إليه يرجع التعبير بالقرح الدامي والجرح اللازم في النهاية والمبسوط والوسيلة وغيرها. بأن يكون المراد بكون القرح دامياً كونه ذا دم في مقابل ما لا دم فيه، حيث يخرج عن موضوع العفو، وبكون الجرح لازماً هو الجرح الذي لم يبرأ.

لكن ظاهر بعضهم إرادة لزوم الدم لهما واستمرار سيلانه، كما يظهر من التذكرة، حيث قال: «وإن كان دم قرح أو جرح سائلاً ملازماً». بل صرح باعتبار استمرار خروج الدم وعدم انقطاعه في المراسم والشرايع والدروس وغيرها.

وفي مفتاح الكرامة: «ولعل مراد الجميع استمرار الدم بحيث لا تحصل فترات يمكن فعل الصلاة فيها، لاشتراكها في اعتبار المشقة». وهو المصرح به في الذكرى مع اعترافه أنه مخالف لظاهر الرواية.

وكيف كان فيشهد للأول إطلاق صحيح ليث المتقدم وموثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله أو صحيحه: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه، فيسيل منه الدم والقيح، فيصيب ثوبي، فقال: دعه فلا يضرك أن لا تغسله»(1). وأظهر منهما موثق أبي بصير: «دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وهو يصلي، فقال لي قائدي: إن في ثوبه دماً، فلما انصرف قلت له: إن قائدي أخبرني أن بثوبك دماً. فقال لي: إن بي دماميل. ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ»(2). فإن تعليق غسل الثوب على برئ الجرح لا على انقطاع الدم كالصريح في عدم اعتبار استمرار الإدماء، فضلاً عن استمرار السيلان.

هذا وقد يستدل لاعتبار استمرار خروج الدم بصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «سألته عن الرجل يخرج به القروح فلا تزال تدمي كيف يصلي؟ فقال: يصلى وإن كانت الدماء تسيل»(3). وقريب منه ما في مستطرفات السرائر عن نوادر

********

(1و2و3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات حديث: 6، 1، 4.

ص: 150

البزنطي بسنده الموثق عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر(1) (عليه السلام)، ومرسل ابن أبي عمير عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إذا كان بالرجل جرح سائل، فأصاب ثوبه من دمه، فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم»(2) وما في مستطرفات السرائر عن نوادر البزنطي بسنده الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: إن صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها ولا حبس دمها يصلي. ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة»(3).

وفيه: أن القيد في صحيح محمد بن مسلم وما في مستطرفات السرائر مذكور في كلام السائل، فلا ينهض بالتقييد. على أنه لا يبعد حمل قوله: «فلا تزال تدمى» على تعاقب الإدماء منها مرة بعد مرة، لا على استمرار الإدماء الواحد، فهو نظير قولنا: «لا يزال زيد يسافر» فلا ينافي انقطاع الدم منها موقتاً. ولو تم ظهوره بدواً في التقييد باستمرار الإدماء فلابد من رفع اليد عنه بموثق أبي بصير المتقدم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عمومه لصورة السيلان وعدمه، بلحاظ أن الواو وصلية. فهو إنما يقتضي عدم اعتبار السيلان، ولا ينافي اعتبار استمرار إدماء الجرح وإن لم يكن دمه سائلاً. ولا يبعد كون مراد من عبر باستمرار السيلان - كما في المراسم - هو الإدماء لا السيلان خارج موضع الجرح، فيرجع لما في الشرايع وغيره من الاقتصار على الجروح التي لا ترقأ، وإلا فمن البعيد جداً اقتصارهم على خصوص ما يستمر سيلان دمه خارج موضع الجرح.

وأما المرسل فلا ظهور له في أخذ السيلان قيداً في العفو، بل في ذكره تمهيداً لإصابة الثوب بالدم. على أن قوله (عليه السلام): «حتى يبرأ وينقطع الدم» كالصريح في عدم وجوب غسل الثوب قبل انقطاع الدم انقطاع برء، وعدم الاكتفاء فيه بالانقطاع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات ذيل حديث: 4، والسرائر آخر ص: 495.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(3) هامش وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات والسرائر حديث: 4، والسرائر أول ص: 496.

ص: 151

الموقت.

وأما حديث محمد بن مسلم المروي في مستطرفات السرائر، فهو لا يقتضي اعتبار استمرار السيلان، بل تعذر حبس الدم وإن كان نزف الدم من القرحة متقطعاً. والظاهر أن تعذر حبس الدم إنما ذكر فيه مقدمة لبيان إصابة الدم للثوب، لا اعتباره بنفسه، فإن الظاهر عدم وجوب حبس الدم، كما يناسبه ما تقدم في صحيح إسماعيل الجعفي، لظهور أن الساق مما يسهل ربطه وحبس دمه.

وربما يكون نظرهم في التقييد بالصورة المذكورة إلى دعوى ورود العفو مورد الاضطرار المناسب للاقتصار فيه على صورة عدم الفترة، والرجوع في غيرها لعموم مانعية النجاسة.

لكن لم يتضح ورود العفو مورد الاضطرار، بل مقتضى النصوص المتقدمة وروده مورد الامتنان بالتخفيف والتسهيل، فلا ينافي العموم لصورة الفترة. بل هو المتعين بملاحظة النصوص المذكورة. ومن ثم ذكر في المسالك والروض والمدارك أن مقتضى النصوص عدم اعتبار استمرار خروج الدم، وأن الغاية البرء.

هذا ومقتضى إطلاق حديث عبد الرحمن المتقدم العفو عن دم الجرح حتى بعد برئه. لكنه لو لم ينصرف إلى بقاء الجرح دامياً فلا أقل من تقييده بذلك بلحاظ قوله (عليه السلام) في موثق أبي بصير المتقدم: «ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ»، لأن فعله (عليه السلام) وإن كان أعم من الوجوب، إلا أنه لما كان وارداً لدفع توهم عموم مانعية النجاسة الارتكازي عند المتشرعة، فاقتصاره (عليه السلام) في بيان الخروج عنه على حال ما قبل البرء قد يظهر في تحديد الخروج عنه بما قبل البرء، وقصره على ذلك.

مضافاً إلى مرسل سماعة المتقدم الذي هو كالصريح في ذلك، والذي هو حجة بناء على المختار من حجية مراسيل ابن أبي عمير. والى ظهور مفروغية الأصحاب عن عدم العفو بعد البرء، التي قد تنهض وحدها دليلاً على التقييد بلحاظ شيوع الابتلاء بالمسألة، حيث يبعد معه خطؤهم في حكمها.

ص: 152

(153) والأقوى اعتبار المشقة النوعية بلزوم الإزالة أو التبديل في كل يوم مرة (1)،

بل يبعد جداً حمل نصوص مانعية الدم الكثيرة على خصوص ما عدا دم الجروح والقروح من المصلي نفسه، خصوصاً صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، فعلمت أثره... ونسيت أن بثوبي شيئاً وصليت... قال: تعيد الصلاة وتغسله...»(1). ومن ثم لا ينبغي التأمل في عدم العفو بعد البرء.

بل المناسبات الارتكازية تقضي بالاكتفاء بمرتبة من البرء تقتضي انقطاع الدم منه، كما نبّه له في المدارك، وهو ظاهر سيدنا المصنف (قدس سره)، ولا يعتبر البرء التام بحيث لا يحتاج إلى علاج، لعدم دخله في موضوع العفو الذي هو الدم، وهو المناسب لمرسل سماعة المتقدم، لقرب كون عطف انقطاع الدم على البرء لبيان المراد من البرء، وتحديده بما يساوق انقطاع الدم. فلاحظ.

(1) قال في الشرايع: «وعفي في الثوب والبدن عما يشق التحرز منه من دم القروح والجروح». وظاهره الاقتصار على خصوص مورد الجرح لو تيسر التخفيف، فضلاً عما لو أمكنت الصلاة مع الطهارة بالتطهير أو التبديل من دون حرج. وقد صرح في المنتهى ونهاية الأحكام بوجوب التبديل مع الإمكان، كما صرح في النهاية بوجوب إزالته مع عدم المشقة، واستشكل في وجوب التخفيف. وقد يراد ذلك ممن اعتبر المشقة في الإزالة، كما في المراسم ومحكي التحرير، وإن أمكن حمل كلامهم على خصوص ما إذا أمكن إزالة الدم بتمامه والصلاة بالطاهر.

هذا وقد أطلق جماعة العفو عن الدم المذكور ولو مع كثرته، بل في المبسوط والخلاف في ذيل أحكام المستحاضة التصريح بعدم وجوب شد الجرح، وأن حمله على المستحاضة قياس. وصرح بعدم اعتبار المشقة في جامع المقاصد والمسالك والروض والمدارك ومحكي غيرها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 153

وهو المناسب لإطلاق النصوص المتقدمة، وخصوص ما تقدم في صحيح إسماعيل الجعفي من أنه رأى الإمام الباقر (عليه السلام) يصلي والدم يسيل من ساقه، وظاهره أنه لم يربط الجرح، مع أن ربطه مانع من انتشار الدم، وهو ميسور له (عليه السلام)

عادة، كما تقدم، وما تقدم في موثق أبي بصير من أنه (عليه السلام) لا يغسله حتى تبرأ الدماميل، ونحوه المرسل عن سماعة مع أن تبديل الثوب أو تطهيره في أثناء تلك المدة ميسور عادة. بل يصعب جداً حمل ما تقدم في صحيح ليث من جواز الصلاة في الثوب والجلد الملوءين دماً على خصوص صورة تعذر تقليل النجاسة، بتبديل الثوب أو تطهيره في أثناء المدة.

هذا وقد يستدل لاعتبار المشقة بعموم مانعية النجاسة، والاقتصار في الخروج عنه على المتيقن. ولاسيما مع ورود نصوص العفو مورد العذر والاضطرار، أو مورد المشقة، بحيث تكون مساوقة لأدلة نفي العسر.

وفيه: أنه لا وجه للاقتصار على المتيقن في الخروج عن مقتضى عموم مانعية النجاسة بعدما سبق من عموم الدليل المخرج عنه. وورود النصوص مورد الاضطرار أو المشقة ممنوع، بل هي واردة مورد التخفيف والتسهيل، كما سبق عند الكلام في اعتبار استمرار خروج الدم.

وقد يستدل أيضاً بموثق سماعة: «سألته عن الرجل به الجرح والقرح، فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه. قال: يصلي، ولا يغسل ثوبه كل يوم إلا مرة، فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة»(1) بدعوى: أنه بعد تعذر حمل قوله: «لا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه» على تعذر الغسل حقيقة، لمنافاته للأمر بغسله في اليوم مرة، لامتناع الأمر بالمتعذر، يتعين حمله على كون الغسل شاقاً.

وفيه: أنه حيث كان ظاهر الحديث تعذر ربط الجرح حقيقة فاللازم بمقتضى السياق حمله على تعذر الغسل حقيقة أيضاً. غايته أن المراد به الغسل المطلوب للصلاة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 154

وهو الغسل الذي يمكن معه إيقاع الصلاة في أوقاتها بالطهارة، بقرينة الأمر بالغسل كل يوم مرة المستلزم لامكان الغسل في الجملة. نعم التقييد بتعذر الغسل لما كان في كلام السائل لم ينهض برفع اليد عن العفو المستفاد من الأدلة المتقدمة.

ودعوى: أن قوله (عليه السلام): «فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة» لما كان وارداً مورد التعليل كان صالحاً لتقييد العفو بصورة التعذر أو المشقة.

مدفوعة: بأن قوله (عليه السلام): «فإنه لا يستطيع...» إنما ينهض بتعليل عدم وجوب الطهارة التامة في جميع الصلوات، ولا ينهض بتعليل الاكتفاء بالغسل مرة واحدة في اليوم، فلابد من حمله على بيان الحكمة لا التعليل الحقيقي، الذي يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً، لينهض بتقييد الحكم بالعفو.

ولاسيما وأن جزمه (عليه السلام) بعدم الاستطاعة بالنحو المذكور مانع من حمله على حقيقته، لوضوح اختلاف الناس في ذلك كثيراً، فلابد من حمله على بيان عدم الاستطاعة بالإضافة للنوع، كما هو الحال في كثير من التعاليل الواردة منهم (صلوات الله عليهم) المحمولة على بيان حكمة الحكم لا علته التي يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً.

على أنه يأتي أن الأمر بالغسل مرة واحدة محمول على الاستحباب، حيث يتعين كون ذلك منه (عليه السلام) مسوقاً لتعليل عدم استحباب الغسل زائداً على المرة، لا لتعليل عدم وجوبه، كي ينهض بتحديد موضوع العفو وتقييده.

ومثله الاستدلال بقوله (عليه السلام) في حديث محمد بن مسلم المروي في مستطرفات السرائر المتقدم: «إن صاحب القرحة التي لا يستطيع ربطها ولا حبس دمها يصلي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة» بدعوى: أن التقييد في كلامه (عليه السلام) بعدم استطاعة ربط القرحة وحبس دمها ظاهر - بعد حمل عدم الاستطاعة على المشقة - في عدم العفو مع تيسر ربطها.

لاندفاعه بعد عدم القرينة على حمل عدم الاستطاعة على المشقة - بأن ذكر عدم

ص: 155

استطاعة ربط الجرح ليس لتقييد العفو به، بل للتمهيد لفرض إصابة الدم للثوب، كما تقدم. مضافاً إلى ما تقدم من أن الغسل مرة واحدة محمول على الاستحباب، فالقيد لو تم مسوق لبيان شرط عدم استحباب الغسل أكثر من مرة، لا لبيان شرط عدم وجوبه، لينفع فيما نحن فيه.

ثم إنه لو سلم تمامية ظهور الحديثين بدواً في لزوم الاقتصار على ما يشق التحرز عنه من مراتب النجاسة تعين رفع اليد عنهما بما تقدم، خصوصاً صحيح إسماعيل الجعفي وموثق أبي بصير والمرسل عن سماعة، لصعوبة حملها على تعذر التخفيف جداً.

نعم لو كان المدعى ظهورهما في اعتبار المشقة في تحصيل الطهارة التامة في الصلاة لم تنهض ما سبق برفع اليد عنهما. لكن لا شاهد فيهما على ذلك ولا ينهضان بإثباته، ليخرج بذلك عن الإطلاقات.

هذا وقد قال السيد الطباطبائي في العروة الوثقى: «نعم يعتبر أن يكون مما فيه مشقة نوعية، فإن كان مما لا مشقة في تطهيره أو تبديله على نوع الناس فالأحوط إزالته أو تبديل الثوب». ولم يتضح الوجه في احتمال ذلك بنحو يلزم بالاحتياط بعدما سبق من إطلاق النصوص. إلا أن يرجع إلى دعوى انصراف الإطلاق عن الصورة المذكورة. لكنه غير ظاهر بنحو ينهض برفع اليد عن الإطلاق.

نعم تقدم في موثق سماعة التعليل بأنه لا يستطيع غسله في كل ساعة، وتقدم حمله على التعليل بلحاظ النوع. إلا أن التعليل بالقضية النوعية ظاهر في بيان الحكمة لا علة الحكم التي يدور مدارها وجوداً وعدماً، بحيث يكون الحكم تابعاً لتحقق العلة نوعاً، بأن يكون وجود الأمر المعلل به نوعاً قيداً في الحكم. ولاسيما مع ما سبق من أن التعليل المذكور إنما يقتضي عدم وجوب الطهارة التامة في جميع الصلوات، لا الاكتفاء بالغسل مرة واحدة في اليوم، فتعليله بذلك لابد أن يكون لبيان الحكمة

لا غير.

مضافاً إلى ما سبق من أن الأمر المعلل به ليس هو العجز عن مطلق الغسل

ص: 156

فيكون مقتضى التعليل عدم العفو مع القدرة عليه نوعاً، بل العجز عن الغسل كل ساعة، والعجز عنه نوعاً لا يستلزم العجز عن مطلق الغسل. وما سبق أيضاً من أن الغسل مرة واحدة في اليوم حيث لم يكن واجباً بل مستحباً - كما اعترف به السيد المذكور - لم ينهض تعليله المذكور لتقييد دليل العفو.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في المقام من عدم العفو إذا لم يكن الغسل في اليوم مرة شاقاً نوعاً، حيث لا منشأ له بعدما سبق من الكلام في الموثق. ولاسيما أن العلة المذكورة في الموثق هي تعذر الطهارة التامة في جميع الصلوات، لا تعذر الغسل مرة في اليوم، كما تقدم.

على أن المشقة النوعية - كغيرها من الأمور النوعية - غير منضبطة خارجاً ولا طريق لتحديدها، فلا مجال لأخذها قيداً في الحكم الشرعي. نعم يمكن كونها علة لثبوت الحكم الشرعي في مورد منضبط محدد تم الدليل عليه. فلاحظ.

ثم إن ما تضمنه موثق سماعة وصحيح محمد بن مسلم المتقدمان محمول عند جماعة على الاستحباب، وادعى سيدنا المصنف (قدس سره) أنه المشهور بين من تعرض للحكم، وأنه لم يحك فيه خلاف.

والوجه فيه: ما تقدم في موثق أبي بصير ومرسل سماعة من عدم الغسل إلا بعد البرء وانقطاع الدم. بل عدم التنبيه في المطلقات للغسل في اليوم مرة لا يناسب وجوبه جداً. مضافاً إلى أن كثرة الابتلاء بالمسألة مانع من خفاء الوجوب على المشهور لو كان. وذلك كاف في حمل الحديثين على الاستحباب. فما في الحدائق من الميل للوجوب عملاً بظاهر الحديثين ضعيف جداً.

وأولى منهما بذلك صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الدمل يسيل منه القيح، كيف يصنع؟ قال: إن كان غليظاً أو فيه خلط من دم فاغسله كل يوم مرتين غدوة وعشية...»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 8.

ص: 157

(158)فإذا لم يلزم ذلك فلا عفو. ومنه دم البواسير إذا كانت ظاهرة (1)، أما الباطنة فالأحوط إن لم يكن أقوى عدم العفو عن دمها. وكذا كل جرح أو قرح باطني خرج دمه إلى الظاهر (2).

(مسألة 54): كما يعفى عن الدم المذكور يعفى أيضاً عن القيح المتنجس به (3)

(1) لا ينبغي التأمل في عدم صدق الجرح والقرح على البواسير الظاهرة، بل هي منابع للدم كما اعترف به (قدس سره) وما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أنها من سنخ القروح ممنوع جداً.

وحينئذ يبتني العفو عن دمها إذا كانت ظاهرة على إلحاقه بدم الجروح والقروح، لفهم عدم الخصوصية عرفاً، أو لتنقيح المناط، لصعوبة تجنبه. وكلاهما غير ظاهر بعد كون الحكم تعبدياً مخالفاً للقواعد.

ولاسيما مع كونها طويلة المكث لا تبرأ إلا أن تقطع، وإن كان خروج الدم منها ليس مستمراً، بل في نوبات تطول وتقصر، وانقطاع نوبة الدم ليس شفاء وبرءاً لها عرفاً. وعلى ذلك فالالتزام باستمرار العفو مادامت موجودة صعب جداً، وتحديده بانتهاء النوبة يحتاج إلى دليل بعد ما سبق من عدم صدق البرء به.

(2) كما عن كشف الغطاء. لانصراف القروح والجروح لخصوص الظاهر منها، دون الباطن وما ذكره في الجواهر من شمول إطلاق الجروح والقروح لها غريب، إذ لا إشكال في مقابلة دم الجروح لدم الرعاف ودم الاستحاضة وغيرهما عرفاً. وحينئذ يتوقف عموم العفو على فهم عدم الخصوصية أو تنقيح المناط. وكلاهما في غاية الإشكال، بل المنع. فلا مخرج عما تقتضيه القواعد من عدم العفو إلا في مورد الحرج الشخصي.

(3) كما هو مقتضى حديثي ليث وعبد الرحمن بن أبي عبد الله. وحملهما على عدم

ص: 158

والدواء الموضوع عليه (1)، والعرق المتصل به (2). كما أن الأحوط وجوباً شده إذا كان في موضع يتعارف شده (3).

تنجس القيح مما لا مجال له بعد فرض خروج الدم من الجرح والقرح. مضافاً إلى أن ملازمة القروح للقيح تلزم بحمل ما تضمنها من النصوص على عموم العفو له.

(1) لتعارف وضعه على القرح والجرح واحتياجهما له، فيصعب حمل النصوص المتقدمة على صورة عدمه.

(2) لعين ما تقدم في الدواء. بل لما كان المرتكز عرفاً كون الحكم المذكور ارفاقياً تسهيلياً فهو مناسب للعفو عما تنجس بملاقاة الدم المذكور، كالماء والوسخ الذي يعلق بالثوب ونحوهما مما يكثر الابتلاء به مع طول المدة التي يغلب ابتناء الجروح الدامية عليها. ومن ثم يغفل عن وجوب التحفظ منها بعد العفو عن الدم المنجس لها، فعدم التنبيه للزوم التحفظ منها موجب لاستفادة العفو عنها من الإطلاقات المقامية لأدلة العفو عن الدم في المقام. ولعله لذا قوى العفو عن المائع المتنجس بالدم في المدارك والذكرى. وما عن المنتهى من اختصاص العفو بالدم لأنه المتيقن. ضعيف، بل غريب. وإن كان ما رأيته من عبارة المنتهى لا تخلو عن غموض.

(3) كما جزم به في العروة الوثقى. وقد يستدل عليه تارة: بلزوم الاقتصار على المتيقن من دليل العفو، وهو صورة الشدّ مع الإمكان. ولاسيما وأن ذلك هو المتعارف تجنباً لقذر الدم ونجاسته.

وأخرى: بالتقييد بتعذر ربط الجرح في حديث عبد الرحمن بن أبي عبد الله، وحديث محمد بن مسلم المتقدم عن مستطرفات السرائر، وموثق سماعة.

وثالثة: بالتعليل في الموثق المذكور بأنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة، فإن ارتكازية التعليل تقتضي حمله على إرادة العجز عن تجنب النجاسة ولو بغير الغسل كالشدّ.

ص: 159

(160) (مسألة 55): إذا كانت الجروح والقروح المتعددة متقاربة بحيث تعد جرحاً واحداً عرفاً (1) جرى عليه حكم الواحد. فلو برء بعضها لم يجب غسله بل هو معفو عنه حتى يبرأ الجميع.

ويندفع الأول بأنه لا وجه للاقتصار على المتيقن من دليل العفو مع إطلاق دليله. وتعارف شدّ الجرح إنما هو حيث يمكن تجنب القذارة والنجاسة، أما مع فرض تعديها فتعارف الاهتمام بتقليلها بالشدّ ونحوه لا تخلو عن إشكال. على أن التعارف لا يمنع من الرجوع للإطلاق.

كما يندفع الثاني بأن تعذر ربط الجرح في النصوص المذكورة لم يتضح كونه وارداً مورد تقييد العفو به، بل الظاهر أن ذكره مقدمة لغرض إصابة الدم للثوب الذي هو موضوع العفو. على أنه في حديث عبد الرحمن وموثق سماعة مذكور في كلام السائل لا في كلام الإمام (عليه السلام).

وأما الثالث فيظهر ضعفه مما سبق من أن التعليل في موثق سماعة لا ينهض بتقييد الإطلاق. ولاسيما أن البناء على عموم وجوب تجنب النجاسة يقتضي عدم جواز ملاقاة الثوب للدم لو أمكن بحيث يقتصر في العفو على ما إذا اضطر المكلف لتنجس الثوب بالدم. ولا يظن بهم الالتزام بذلك.

ولعله لذا أطلق العفو جماعة من الأصحاب. بل سبق من المبسوط والخلاف التصريح بعدم وجوب شد الجرح. عملاً بالإطلاق المعتضد بما تقدم في صحيح إسماعيل الجعفي من صلاة الإمام الباقر (عليه السلام) والدم يسيل من ساقه، حيث يقرب جداً عدم شده (عليه السلام) لساقه مع تعارف شده وسهولته، كما سبق.

(1) إنما تعد جرحاً واحداً عرفاً إذا كانت متقاربة جداً بحيث يحتاج تمييز الفواصل بينها إلى فحص وتأمل. على أن صدق الواحدة عرفاً في ذلك مبني على التسامح الذي لا يعول عليه في تطبيق موضوعات الأحكام ومتعلقاتها.

ص: 160

ولا ريب في أن مقتضى القاعدة سقوط العفو عن دم كل جرح وقرح ببرئه اقتصاراً في الخروج عن عموم مانعية النجاسة على المتيقن. وهو المناسب لقوله (عليه السلام) في المرسل المتقدم عن سماعة: «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم»(1) ، حيث جعل غاية العفو عن دم الجرح برؤه.

نعم مع تقارب الجروح أو القروح بحيث تكون في مكان واحد عرفاً لا يبعد بناء المتشرعة على التسامح وعدم التطهير إلا بعد برء الكل، لأن التطهير وإن كان مخففاً للنجاسة، إلا أن ابتناء العفو عن دم الجروح و القروح على عدم مراعاة تخفيف النجاسة، تسهيلاً على المكلفين وإرفاقاً بهم، موجب لغفلتهم عن التخفيف المذكور وتسامحهم فيه.

وقد يناسب ذلك إطلاق صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «سألته عن الرجل يخرج به القروح، فلا تزال تدمي كيف يصلي؟ قال: يصلي وإن كانت الدماء تسيل»(2). وقريب منه ما في مستطرفات السرائر بسنده الموثق عن عبد الله بن عجلان(3).

فإن الظاهر المراد باستمرارها في الإدماء ليس هو استمرارها على نحو المجموعية، بحيث يكون كل منها مستمر الإدماء، بل على التعاقب بحيث لا يخلو بعضها من الإدماء، ولا أقل من شمول الإطلاق لذلك، لشيوعه وتعارفه، بحيث يصعب أو يتعذر حمل الإطلاق على خصوص الأول. وحينئذ يكون مقتضى الإطلاق العفو إذا كان بعضها دامياً حتى لو انقطع بعضها عن الإدماء، لتماثله للشفاء.

وأظهر من ذلك قوله (عليه السلام) في موثق أبي بصير المتقدم: «إن بي دماميل، ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ»، حيث جعل غاية العفو برأها أجمع.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن لا إطلاق في الموثق، لأنه حكاية فعل

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات حديث: 7، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات ذيل حديث: 4، والسرائر آخر ص: 495.

ص: 161

(162) (مسألة 56): إذا شك في دم أنه دم جرح أو قرح أولاً لا يعفى عنه (1).

في قضية شخصية، ولعل دماميله (عليه السلام) كانت متقاربة بحيث تعد عرفاً قرحة واحدة ذات شعب. ولو تم إطلاقه كان معارضاً بالمرسل المتقدم عن سماعة، الذي تضمن أن غاية العفو عن دم الجرح برؤه، والذي كان بناء المشهور على حجيته كسائر مراسيل ابن أبي عمير، وبعد تساقطهما يكون المرجع عموم مانعية النجاسة من الصلاة.

فهو كما ترى! لأن الموثق وإن كان وارداً لبيان عمله (عليه السلام) الشخصي، إلا أن التعرض لذلك في مقام دفع توهم عموم مانعية النجاسة من الصلاة للمورد موجب لظهوره في بيان الحكم الشرعي، وقوله (عليه السلام): «إن بي دماميل» ظاهر في تعددها عرفاً، ولا أقل من أن يفهم منه عموم العفو لذلك بعد ظهوره في بيان الحكم الشرعي.

ولا مجال لدعوى معارضته بالمرسل المذكور، لأن المرسل المذكور إن لم يكن ظاهراً في صورة وحدة الجرح فلا أقل من عمومه لها، فيكون الموثق ونحوه مما ورد في صورة تعدد الجرح أو القرح مخصصاً له ومقدماً عليه، ويحمل المرسل على صورة وحدة الجرح جمعاً.

بل مقتضى إطلاق الأحاديث المتقدمة العموم للجروح المتفرقة التي يبعد بعضها عن بعض إذا كان من شأنها تنجيس الثوب. ولا بأس بالبناء على ذلك لو لا احتمال الانصراف. فتأمل.

(1) لاستصحاب عدم كونه دم قرح أو جرح، الذي هو موضوع العفو، فيتعين الرجوع فيه لعموم المانعية، بناء على التحقيق من أن الأصل النافي لعنوان الخاص ينهض بإثبات حكم العام.

والاستصحاب المذكور لا يبتني على استصحاب العدم الأزلي، لأن إضافة الدم للجرح أو القرح أو الرعاف أو غيرها ليس بلحاظ اختلاف الماهية والحقيقة أو لوازمها، ليمتنع استصحاب عدمه حتى بلحاظ العدم الأزلي، ولا بلحاظ اختلاف

ص: 162

(163) (الثاني): الدم (1)

لوازم الوجود - كالقرشية والبياض - ليبتني استصحاب عدمها على استصحاب العدم الأزلي، بل بلحاظ اختلاف موضع خروج الدم، فهي منتزعة من ذلك، ومن الظاهر أن ذلك أمر حادث طارئ على الدم متأخر عن وجوده، والدم قبل ذلك موجود في العروق والأوردة، وليس هو حينئذ دم قرح ولا جرح ولا غيرهما، فيستصحب العدم المذكور من حال ما قبل خروجه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا ويظهر من شيخنا الأستاذ (قدس سرهما) من أن موضوع الحكم بالمانعية والعفو هو الدم المتحقق خارجاً، والدم قبل خروجه ليس موضوعاً للمانعية حتى لو قلنا بنجاسته، وحينئذ لا يمكن استصحاب عدم كونه دم قرح أو جرح إلا بلحاظ العدم الأزلي السابق على وجوده.

فهو غريب جداً بعد وضوح أن الدم الموجود في الباطن عين الدم الخارج من الجرح والقرح وغيرهما، وأن خروجه ليس وجوداً له، بل هو أمر طارئ على الدم الموجود متأخر عن وجوده، فإذا لم يكن حين وجوده في الباطن دم جرح ولا قرح أمكن استصحاب العدم المذكور له بعد خروجه. ومجرد اختصاص الأثر المطلوب

- وهو المانعية أو العفو - بحال خروجه للظاهر لا يمنع من الاستصحاب بلحاظ الحال السابق على ذلك، إذ لا يشترط في الاستصحاب ترتب الأثر على المستصحب في زمان اليقين به، بل يكفي ترتبه عليه حال الشك الذي يستصحب فيه. وكأن ما ذكراه مبني على الخلط بين الوجود في الخارج المقابل للعدم، والوجود في الخارج المقابل للوجود في الباطن. فليلحظ ما ذكره في التنقيح هنا.

(1) العفو عن الدم المذكور في الجملة مما لا إشكال فيه بين الأصحاب، ودعوى الإجماع عليه منهم مستفيضة كالنصوص به، على ما يأتي. ومقتضى النصوص والفتاوى عدم مانعية الدم المذكور واقعاً، فيجوز الصلاة مع العلم به، لا إجزاء

ص: 163

الصلاة مع الجهل به، مع البطلان لو كان قد علم به.

لكن عن ابن أبي عقيل أنه قال: «إذا أصاب ثوبه دم، فلم يره حتى صلى فيه، ثم رآه بعد الصلاة وكان الدم على قدر الدينار، غسل ثوبه ولم يعد الصلاة، وإن كان أكثر من ذلك أعاد الصلاة. ولو رآه قبل صلاته أو علم أن في ثوبه دماً ولم يغسله حتى صلى أعاد وغسل ثوبه قليلاً كان الدم أو كثيراً. وقد روي أنه لا إعادة عليه إلا أن يكون أكثر من مقدار الدينار».

وهو مخالف للإجماع بقسميه وللنصوص، كما في الجواهر، ويتضح مما يأتي إن شاء الله تعالى. وأما الرواية التي أشار إليها فهي صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) وفيه: «وإن أصاب ثوبك قدر دينار من الدم فاغسله، ولا تصل فيه حتى تغسله»(1). وهو مخالف للنصوص الآتية المتضمنة للتقدير بالدرهم. وما في الوسائل من اتفاقهما في المساحة، ممنوع جداً بالنظر لما عثرنا عليه من الدراهم والدنانير الإسلامية، بل الدراهم أكبر، ولو كان المراد بالدرهم غير الإسلامي فالأمر أظهر. فالعمدة أن نصوص الدرهم تترجح على الصحيح المذكور بأنها مشهورة رواية، ومجمع على العمل بها، فيتعين لأجل ذلك طرح الصحيح أو حمله على الاستحباب، كما حمل عليه صدره المتقدم عند الكلام في حكم غسل الثوب من دم الجروح والقروح. فراجع.

هذا والمعروف بين الأصحاب اختصاص العفو المذكور بالدم، تبعاً لاختصاص النصوص به. لكن في المختلف: «قال ابن الجنيد: كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها فيه مجتمعة أو منفشة [متفرقة] دون سعة الدرهم، الذين يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى، لم ينجس الثوب بذلك. إلا أن تكون النجاسة دم حيض أو منياً، فإن قليلهما وكثيرهما سواء».

وهو تعد عن مورد النصوص من دون وجه ظاهر. وأشكل من ذلك حكمه بعدم تنجس الثوب بملاقاة النجاسة، مع أن النصوص إنما تضمنت جواز الصلاة في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 8.

ص: 164

في البدن واللباس (1)

الثوب، من دون أن تنافي تنجسه، الذي هو مقتضى إطلاق أدلة الانفعال، بل الفرق في الانفعال بين قلة النجاسة وكثرتها مما تأباه المرتكزات جداً، ولاسيما أن بعض نصوص المقام قد تضمن الأمر بغسله. ففي صحيح ابن أبي يعفور الآتي: «يغسله ولا يعيد الصلاة»(1).

(1) أما اللباس فهو المتيقن منهم، لأنهم بين من اقتصر عليه ولم يتعرض للبدن - كما في الفقيه والهداية والمقنعة والمراسم والغنية، مدعياً عليه في الأخير الإجماع - ومن صرح بالتعميم أو أطلق، كما يأتي.

وهو مورد النصوص أيضاً، كصحيح إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال في الدم يكون في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته...»(2). ونحوه غيره.

وأما البدن فهو المصرح به في كلام جماعة كثيرة حيث ذكروه مع الثوب. وهو داخل في معقد الإجماع المدعى في الانتصار ومحكي التحرير وكشف الالتباس، وإحدى نسختي التذكرة، وفي الأخرى: «قطعاً». وهو مقتضى إطلاق العفو من جماعة كثيرة مع دعوى الإجماع عليه في الخلاف والمختلف والمدارك وغيرها. وعن الدلائل: «إن الأصحاب صرحوا بعدم التفرقة بين الثوب والبدن، لاشتراكهما في لزوم المشقة». ولا يخفى أن التعليل لا ينهض دليلاً في المقام، بعد عدم الإشارة إليه في النصوص.

وكذا ما قد يدعى من أولوية البدن بالعفو، فإنها لا تتم إلا في دم القروح والجروح مما لا يصل للثوب إلا من البدن، أما في المقام فقد تكون نجاسة البدن أشد لأنها ألصق بالمصلي من نجاسة الثوب وكذا ما قيل من أنه بعد العفو عنه فلا فرق بين

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2.

ص: 165

البدن واللباس، لظهور أنه بعد أن كان نجساً العفو عنه قابل للعموم والخصوص، ويحتاج الأول إلى دليل.

ومثله الاستدلال بخبر المثنى بن عبد السلام عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قلت له: إني حككت جلدي فخرج منه دم، فقال: إن اجتمع قدر حمصة فاغسله، وإلا فلا»(1).

إذ فيه - مع الغض عن سنده -: أنه قاصر دلالة بعد ظهوره في طهارة الدم المذكور وبعد جعل المعيار فيه قدر الحمصة الذي لا مجال للبناء على كونه معياراً في العفو سواءً أريد به التقدير بحجم الحمصة - كما هو ظاهره - أم بسعة محيطها أم بوزنها. وحمله على خصوص وزن حمصة يساوي سعة الدرهم تكلف لا مجال لحمل الحديث عليه في مقام الاستدلال به. وما في الجواهر من أنه لولا ذلك لكان من الشواذ المتروكة. لا يكفي في حمله عليه بنحو يكون حجة فيه.

فالعمدة في المقام الإجماع على العموم المدعى ممن سبق حيث قد يظهر منهم المفروغية عن عدم الفرق ويلزم معه حمل من اقتصر على الثوب على مجاراة النص، أو مجرد التمثيل من دون خلاف في البدن.

لكن الاكتفاء بذلك في الجزم بالحكم إشكال، لقرب ابتناء التعميم في كلامهم على فهم عدم الخصوصية أو تنقيح المناط، أو دعوى الإجماع. والأولان في غاية الإشكال، كما يظهر مما سبق في وجه منع الأولوية، والثالث محل الكلام.

ولاسيما بملاحظة صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «في الرجل يمس أنفه في الصلاة فيرى دماً كيف يصنع؟ أينصرف؟ قال: إن كان يابساً فليرم به ولا بأس»(2). فإن مقتضى مفهومه ثبوت البأس لو لم يكن يابساً، مع ظهور أن مس الأنف يكون بالإصبع والدم الذي يعلق به ليس كثيراً.

ونحوه صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «عن الرجل يكون به الثالول أو

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب النجاسات حديث: 5، 2.

ص: 166

إذا كانت سعته (1) أقل من الدرهم (2)

الجرح هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته، أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال: إن لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس، وإن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله»(1) فإنه كثيراً ما يكون الدم السائل بسبب ذلك قليلاً لا يبلغ سعة الدرهم. ولعله لذا قال المجلسي في البحار: «وربما يستشكل في البدن، لورود أكثر الروايات في الثوب».

(1) فإن المدار في التقدير على سعة الدرهم لا وزنه. وهو الذي صرح به غير واحد ويظهر من الباقين، لأنه المنصرف من التقدير في الفتاوى والنصوص بعد كون المقدر هو الدم الذي في الثوب فإن الذي يعرف منه عادة هو المساحة دون الوزن.

(2) كما ذكر ذلك جمهور الأصحاب، ومنهم مدعو الإجماع في المقام، بنحو يظهر منهم عدم العفو عن المساوي للدرهم. بل صرح جماعة منهم بذلك، ومنهم الشيخ في معقد إجماع الخلاف.

ويقتضيه صحيح ابن أبي يعفور: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى أن يغسله، فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى، أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته. إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً، فيغسله ويعيد الصلاة»(2). وقريب منه مرسل جميل(3).

وقد يظهر من صحيح إسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال في الدم يكون في الثوب: إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، وإن كان أكثر من قدر الدرهم، وكان رآه فلم يغسله حتى صلى، فليعد صلاته...»(4).

فإن مقتضى مفهوم صدره مانعية ما كان بقدر الدرهم ومقتضى مفهوم ذيله عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 63 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1، 4، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1، 4، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1، 4، 2.

ص: 167

مانعيته، فيدور الأمر بين عدم سوق القضيتين للمفهوم المستلزم لإهمال حكم ما كان بسعة الدرهم، وكون إحدى القضيتين قرينة على الأخرى. وحيث كان الأول بعيداً عن مقتضى وظيفة الإمام (عليه السلام) في مقام الجواب تعين الثاني، وحينئذ لا يبعد تحكيم الأولى على الثانية، لسبق أنس الذهن بها، فتحمل الثانية على عدم سوقها للمفهوم.

لكن الإنصاف أن ذلك لا يخلو عن خفاء، خصوصاً مع احتمال كون إهمال حكم ما كان بسعة الدرهم لعدم تيسر تحديده غالباً، أو كون تدافع القضيتين بسبب النقل بالمعنى. والأمر سهل بعد الاستغناء عن ذلك بالحديثين الأولين.

هذا وفي المراسم العفو عما كان بمقدار الدرهم فما دون. ويشهد له صحيح

محمد بن مسلم: «قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة. قال: إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، وما كان أقل من ذلك فليس بشيء، رأيته قبل أو لم تره. وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه»(1). قال سيدنا المصنف (قدس سره): «فإنه يدل عليه بالمفهوم أو المنطوق في الفقرات الثلاث».

لكن ادعى بعض مشايخنا (قدس سره) إجماله وتدافع الفقرات فيه. وكأنه لدعوى أن المراد باسم الإشارة في قوله (عليه السلام): «وما كان أقل من ذلك فليس بشيء» هو الدرهم - كما

استظهره في الجواهر - لا ما زاد عليه.

وفيه: أن حمل اسم الإشارة على ما زاد على الدرهم إن لم يكن ظاهر الكلام في نفسه فلا أقل من كونه مقتضى الجمع بين الفقرات الثلاث. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في تمامية دلالة الصحيح.

ودعوى: أن مقتضى الجمع بينه وبين ما سبق هو حمله على إرادة درهم فما زاد. مدفوعة بعدم الشاهد على الجمع المذكور. نعم ادعى في الحدائق شيوع هذا النحو من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 168

(169)الاستعمال في الأخبار. لكنه اعترف بعدم العثور إلا على رواية واحدة، ولسانها يشبه لسان صحيح إسماعيل المتقدم.

ومثله ما في الجواهر من تقريب حمل النصوص الأول المانعة عن مقدار الدرهم على ما زاد على الدرهم، لغلبة عدم معرفة مقدار الدرهم إلا بالزيادة عليه. فإنه تكلف خال عن الشاهد أيضاً.

نعم روى الفقرة المذكورة في الفقيه هكذا: «فإن كان أقل من درهم فليس بشيء»(1). وحينئذ يضعف ظهور الحديث في العفو عما كان بقدر الدرهم، أو يكون مجملاً، نظير ما تقدم في صحيح إسماعيل الجعفي. وحيث لا يتضح ترجيح أحد الوجهين يتعين سقوط الحديث.

على أنه لو فرض استحكام التعارض بين النصوص فيما كان بقدر الدرهم يتجه البناء على مانعيته، كما هو المشهور، إما لترجيح النصوص الأول بأنها أظهر دلالة وأكثر عدداً، أو لتساقطها والرجوع لعموم مانعية النجاسة من الصلاة. فلاحظ.

بقي في المقام أمران:

الأول: أنه لا إشكال في مانعية ما كان من الدم بقدر الدرهم أو زائداً عليه إذا كان دماً واحداً. أما إذا كان متعدداً متفرقاً بحيث يكون كل دم منها دون الدرهم إلا أنها تبلغ بمجموعها الدرهم أو تزيد عليه، فقد وقع الكلام في مانعيته، فذهب إلى العفو عنه وعدم مانعيته في المبسوط والسرائر والشرايع والنافع والروضة والمدارك والحدائق وعن غيرها، بل في الذكرى أنه المشهور.

واستدل له بصحيح عبد الله بن أبي يعفور المتقدم، وفيه: «قلت له: فالرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعدما صلى أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته، إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً»(2).

********

(1) من لا يحضره الفقيه ج: 1 ص: 161 باب: 39 حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 169

بدعوى: أن قوله (عليه السلام): «مجتمعاً» إما أن يكون خبراً ثانياً أو حالاً، وعلى كلا التقديرين يدل على أنه لابد في مانعية الدم من أمرين كونه بقدر الدرهم وكونه مجتمعاً، فمع فقد أحدهما بأن كان مجتمعاً دون الدرهم، أو متفرقاً بقدر الدرهم فلا يكون مانعاً. ومثله في ذلك قوله (عليه السلام) في مرسل جميل: «لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب فيه الدم متفرقاً شبه النضح. وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعاً قدر الدرهم»(1).

وفيه: أن الدم تارة: يطلق بلحاظ وحدة الوجود المتمثل في البقعة الواحدة، فيقبل التكثر والتعدد بتعدد البقع، فتكون البقع المتعددة دماء متعددة، لا دماً متفرقاً. وأخرى: يطلق بلحاظ الطبيعة القابلة للإتحاد والتكثر، فيراد بالدم الذي يصيب الثوب الأعم من البقعة الواحدة والبقع المتعددة.

ومن الظاهر أنه لا يصح باللحاظ الأول وصف الدم الذي يصيب الثوب مثلاً بالاجتماع والتفرق، بل بالإتحاد والتعدد لا غير، لأن تفرق الدم ملازم لتعدده بهذا اللحاظ. أما باللحاظ الثاني فيصح وصفه بالاجتماع والتفرق، لأن التفرق لا يخل بوحدته.

وبذلك يتضح أن الدم الموضوع في الحديثين الشريفين، والذي هو مورد التفصيل بين بلوغ مقدار الدرهم وعدمه هو الدم باللحاظ الثاني، كما يناسبه السؤال في الصحيح وموضوع الحكم في المرسل وفرض الاجتماع فيهما معاً.

وحينئذ من الظاهر أنه لا مجال لحملهما على التقييد بالاجتماع الفعلي بعد كون الموضوع في المرسل هو الدم متفرقاً شبه النضح، والمستثنى منه في الصحيح هو نقط الدم الظاهرة في البقع الصغيرة التي هي دون الدرهم، لاستلزامه كون القيد في المرسل مبايناً مورداً للمقيد، والاستثناء في الصحيح منقطعاً، وكلاهما خلاف الظاهر، كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 170

مضافاً إلى أن لازمه عدم مانعية المتفرق وإن كان كل جزء منه أكثر من الدرهم، لأنه إذا كانت مانعية الدم الذي يصيب الثوب مشروطة بأمرين كونه بقدر الدرهم، وكونه مجتمعاً، لزم عدم مانعيته مع تخلف أحدهما من دون فرق في ذلك بين أن يكون قوله (عليه السلام): «مجتمعاً» خبراً، وأن يكون حالاً ولا يكفي في المانعية حينئذ بلوغ بعضه قدر الدرهم نعم لو قيل: إلا أن يكون فيه مجتمع بقدر الدرهم، أو: إلا يكون منه مجتمع بقدر الدرهم. كان دالاً على مانعيته حينئذ.

وكذا لو كان موضوع الحديثين هو الدم باللحاظ الأول، كما لو قيل: «يجوز الصلاة في بقعة الدم ما لم تكن بقدر الدرهم». لكن سبق أن ذلك لا يناسب الحديثين.

ومن ثم يتعين حمل الاجتماع المأخوذ قيداً على الاجتماع التقديري، فيرجع إلى أن الدم المتفرق إنما يمنع من الصلاة إذا كان بقدر الدرهم لو كان مجتمعاً، لأن ذلك هو المناسب لأخذ الاجتماع قيداً في فرض تفرق الدم، كما أشار إليه في الحدائق.

ودعوى: أنه لابد في الحال المقدرة من اختلاف زمانها مع زمان العامل، كما في قولهم: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، ولا مجال لذلك هنا، ضرورة اتحاد زمان كون الدم مقدار الدرهم وزمان الاجتماع المقدر.

مدفوعة بأن ذلك وإن ذكره النحاة شرطاً في الحال المقدرة، ومثلوا له بالمثال المتقدم، إلا أنها في الحقيقة ليست حالاً مقدرة، بل فعلية بلحاظ لاحق، والحال في الحقيقة الأمر الحالي الفعلي المنتزع من الوجود الاستقبالي. أما ما نحن فيه فالحال فيه مقدرة، ولا تكون فعلية بلحاظ زمان ما، ولا مشاحة في الاصطلاح.

ومثلها دعوى: أنه لو كانت الحال هنا مقدرة لكان الحديث مختصاً بالاجتماع التقديري، دون الفعلي التحقيقي، كما في المدارك.

لاندفاعها بأن المستفاد عرفاً من الكلام أخذ الاجتماع التقديري من أجل تحديد مقدار الدم، لا لخصوصية التقدير بحيث يكون التقدير قيداً زائداً على الاجتماع. على

ص: 171

أن التقييد بالاجتماع التقديري إنما كان في فرض تفرق الدم كما هو مورد الحديثين، فلا ينهض بعموم التقييد بالتقديري لما إذا لم يكن الدم متفرقاً، بل يتعين الرجوع فيه لإطلاق بقية نصوص المقام المتضمنة عدم العفو عما كان بقدر الدرهم، المعتضد بعموم مانعية النجاسة.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الحديثين فيما ذكرنا، فيطابقان إطلاق بقية النصوص الظاهرة في أن المعيار على كون الدم بمقدار درهم مجتمعاً كان أو متفرقاً.

ثم إنه قد يستدل على العفو عن الدم المتفرق إذا لم يبلغ شيء منه مقدار الدرهم بصحيح الحلبي - بناء على ما هو الظاهر من وثاقة محمد بن سنان -: «سالت أبا

عبد الله (عليه السلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا وإن كثر، فلا بأس بشبهه من الرعاف. ينضحه ولا يغسله»(1). بتقريب: أن مقتضى إطلاق التشبيه بدم البراغيث العفو عن نقط دم الرعاف وإن كثر وبلغ مجموعه الدرهم.

وفيه: أن الغالب عدم بلوغ دم البراغيث مقدار الدرهم وإن كثر، فلا يتضح شموله لنقط دم الرعاف الذي يبلغ بمجموعه الدرهم. ولو سلم عمومه له كفى في الخروج عنه صحيح ابن أبي يعفور ومرسل جميل المتقدمان الواردان في الدم المتفرق الذي يشبه دم البراغيث، بناء على ما سبق من أن مفادهما مانعية المتفرق إذا كان مجموعه بقدر الدرهم.

ولو غض النظر عنهما كفى إطلاق مثل صحيح محمد بن مسلم المتضمن مانعية ما كان بقدر الدرهم الشامل للمتفرق، غاية الأمر أن يكون بينه وبين الصحيح المذكور عموم من وجه، فيرجع في مورد الاجتماع - وهو المتفرق الذي لا يبلغ الدرهم -

لعموم مانعية النجاسة.

هذا وأما الإشكال فيه بظهوره في طهارة الدم المذكور، كما يناسبه قياسه بدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 7.

ص: 172

(173)البراغيث، والاكتفاء بنضحه من دون غسل. فيندفع بأن قياسه بدم البراغيث إنما هو في عدم مانعيته من الصلاة، لأن ذلك هو المسؤول عنه. وأما الأمر بالنضح فهو حكم آخر قد يكون مختصاً بدم البراغيث. ولا أقل من لزوم حمله على ذلك، لما هو المعلوم من نجاسة دم الرعاف مطلقاً. على أن لسان الصحيح لا يخلو عن اضطراب. وقد يكون فيه شيء من التصحيف. فلاحظ.

والحاصل: أنه لا مجال للبناء على عدم مانعية الدم المتفرق إذا كان مجموعه بقدر الدرهم.

ولعله لذا أطلق في الفقيه والهداية والمقنعة والانتصار والدروس مانعية الدم إذا كان بقدر الدرهم. بل صرح بالتعميم للمتفرق في المراسم والوسيلة والتنقيح والتذكرة والمختلف والقواعد والمنتهى والذكرى وجامع المقاصد والروض وعن ابن البراج والبيان وغيرهما. وعن كشف الالتباس أنه المشهور ونسب لأكثر المتأخرين في كلام غير واحد.

هذا وقد نسب للنهاية والمعتبر استثناء صورة التفاحش من العفو المتفرق. وكلامهما لا يخلو عن غموض، كدليل الاستثناء المذكور. إذ لم نعثر على ما يناسب ذلك إلا على مرسل دعائم الإسلام عن الصادقين (عليهم السلام) في الدم: «ورخصا في النضح اليسير منه ومن سائر النجاسات مثل دم البراغيث وأشباهه. قالا: فإذا تفاحش غسل»(1). وضعفه مانع من الاعتماد عليه. ولاسيما مع اشتماله على ما لا نقول به من عموم العفو لسائر النجاسات. بل من البعيد جداً تعويلهما عليه.

الثاني: لو كان الدم متفرقاً في ثياب متعددة. ولم يبلغ ما في كل منها قدر الدرهم إلا إن المجموع يبلغ الدرهم فهل يحكم بالمانعية أو بالعفو؟ صرح بالأول في جامع المقاصد والمسالك والجواهر ومحكي الموجز والدلائل، وجعله الأوجه في الروض.

وصرح بعض مشايخنا (قدس سره) بالثاني، مستدلاً بإطلاق نصوص المقام المتضمنة

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 15 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 173

العفو عما دون الدرهم من الدم في الثوب، فإن مقتضاه أن لكل ثوب حكمه، فيعفى عما فيه الدم إذا كان دون الدرهم.

وما ذكره قد يكون مقتضى الجمود على عبارة النصوص، إلا أن المناسبات الارتكازية تقضي بعدم العفو، لإلغاء خصوصية وحدة الثوب، وأن العفو إنما هو بلحاظ قلة الدم، فالدم القليل معفو عنه في مقابل بقية النجاسات التي لا يعفى عن قليلها، كما صرح به في بعض النصوص.

ولعل هذا هو المنشأ لإلحاق المشهور البدن بالثوب، كما جرى عليه هو أيضاً، وإن سبق منا التوقف فيه، إذ لو كانت لوحدة الثوب خصوصية في موضوع العفو فالتعدي للبدن يكون أشكل.

وبعبارة أخرى: المستفاد من النصوص العفو - ولو بمعونة المناسبات الارتكازية - هو العفو عن الدم الذي يصيب الثوب، وذلك يقتضي إلغاء خصوصية وحدة الثوب، وليس مفادها العفو عن الثوب الذي يصيبه الدم القليل، ليكون لكل ثوب عفو خاص به.

على أنه لا إطلاق في النصوص يقتضي جواز الصلاة في الثياب المتعددة التي أصابها الدم، بل ظاهرها أو المتيقن منها فرض وحدة الثوب الذي أصابه بالدم، والتفصيل فيه بين قلة الدم وكثرته.

وحينئذ لو بني على الجمود على مفادها لزم عدم جواز الصلاة في الثياب المتعددة التي يصيبها الدم وإن كان مجموع الدم دون الدرهم. ولو بني على التعدي عن موردها فالمتيقن منه ما إذا لم يبلغ مجموع الدرهم، بلحاظ أنه بعد فرض العفو عنه فلا خصوصية عرفاً لكونه في ثوب واحد، أما إذا بلغ مجموع الدم الدرهم فلا مجال لجوازه.

نعم لو كان لسان النصوص هكذا: «لا يجوز الصلاة في الثوب الذي فيه دم دون الدرهم» كان لما ذكره وجه. إلا أن النصوص لا تنهض بذلك. كما يظهر

ص: 174

(175) البغلي (1)

بملاحظتها والتأمل فيها.

ولعله لما ذكرنا كان ظاهر من لم ينبه على ذلك من الأصحاب المفروغية عن عدم العفو، للغفلة عنه بعد ظهور كلمات جماعة من القدماء في عدم العفو، حيث قسموا الدم إلى ما يجب إزالة قليله وكثيره كدم الحيض، وما لا يجب إزالة قليله ولا كثيره كدم الجروح والقروح، وإلى ما يجب إزالة كثيره دون قليله، وحددوا القليل فيه بما دون الدرهم، حيث يظهر منهم أن المعيار في العفو على قلة الدم بالمقدار المذكور من دون نظر لوحدة الثوب وتعدده. وما ذلك منهم إلا لوضوح ما ذكرنا، ولو بمعونة المناسبات الارتكازية.

(1) بسكون الغين وتخفيف اللام - كما عن جماعة - أو بسكون الغين وتشديد اللام، كما عن آخرين. وكيف كان فالبغلي هو المذكور في الشرايع والتنقيح والمنتهى والقواعد وعن جماعة. والمذكور في الفقيه والهداية والمقنعة والانتصار والغنية وعن غيرها هو الوافي المضروب من درهم وثلث. وإليه يرجع ما في المبسوط والخلاف من أن المعفو عنه هو مقدار الدرهم المضروب من درهم وثلث.

وفي التذكرة أن الدرهم المضروب من درهم وثلث هو البغلي، وهو ظاهر الخلاف. بل صريح الذكرى أن الوافي هو البغلي، وصريح المعتبر أن الوافي المضروب من درهم وثلث هو المسمى بالبغلي، وهو المحكي عن أكثر كتب المتأخرين.

وعليه لا خلاف بين القولين كما قد يناسبه ما عن الدلائل من نسبة العفو عن البغلي إلى مذهب الإمامية، وإن كان قد يظهر الخلاف بين القولين من السرائر.

ودعوى: أن تقديرهم لوزنه لا يناسب ما تقدم من أن المدار في العفو على المساحة دون الوزن. مدفوعة بأن التقدير المذكور إنما هو للإشارة إلى الدرهم الوافي المعروف ذو المساحة المعروفة عند القدماء فيما يظهر، وإن خفيت بعد ذلك حتى

ص: 175

احتاجت للتقدير، كما يأتي.

بل ظاهرهم أنه أوسع من الدرهم الإسلامي المشهور، إذ لو كان مساوياً له مساحة لم يكن للتنبيه للدرهم الوافي في كلماتهم وجه. كما أن كونه أقل مساحة منه بعد كونه أكثر وزناً من أبعد البعيد، بل لا يناسب ما يأتي من التقدير في كلامهم، ولا ما أشرنا إليه في أول المسألة في سعة الدرهم غير الإسلامي الذي عثرنا عليه.

وكيف كان فلا ريب في أن الدرهم الشايع في عصور الصادقين (عليهم السلام) الذين صدرت عنهم نصوص العفو هو الدرهم الإسلامي الذي هو ثلاثة أرباع الدرهم المذكور في كلام من تقدم، ومقتضى ذلك حمل إطلاق الدرهم في النصوص المذكورة عليه. ولذا احتاج الأصحاب (رضوان الله عليهم) للتنبيه على الخروج عنه وعدم الاكتفاء بالإطلاق.

ولا مخرج عن الإطلاق المذكور في النصوص إلا الرضوي: «إن أصاب ثوبك دم فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف والوافي ما يكون وزنه درهماً وثلثاً»(1). وهو - كما ترى - لا ينهض بالحجية بعد عدم وضوح سنده، بل عدم وضوح كونه رواية عن معصوم، وعدم انجباره بالعمل لو كان رواية. ومن ثم استشكل في المدارك في حمل الدرهم على البغلي.

لكن في الحبل المتين: «وظني أنه لا إشكال في ذلك، لأن أحكامهم (عليهم السلام) متلقاة من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد وردت روايات صحيحة بأنها مثبتة عندهم في صحيفة بإملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخط أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكون الدرهم البغلي متروكاً في عصر الصادق (عليه السلام) لا يقدح في حمل الرواية الواردة عنه (عليه السلام) عليه». ونحوه عن اللوامع.

وهو كما ترى! إذ أخذهم (عليهم السلام) الحكم منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا ينافي حمل كلامهم مع الإطلاق على ما هو المشهور في زمانهم، لأن وظيفتهم (عليهم السلام) في مقام البيان ملاحظة القرينة المذكورة عند الإطلاق. ولذا احتاج الأصحاب للتقييد مع وضوح أخذهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 176

الحكم عنهم (عليهم السلام). والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل في ظهور النصوص في الدرهم الإسلامي المذكور.

بل لو فرض إجمالها تعين الاقتصار في العفو على الأقل، والرجوع في الزائد لعموم مانعية النجاسة، كما هو مقتضى القاعدة في كل مورد يدور الأمر بين الأقل والأكثر لإجمال المخصص.

وأما ما في الجواهر من تقريب الرجوع للأصل المقتضى للبراءة من المانعية، لأنه المرجع عند اشتباه أفراد الخاص. فهو ممنوع جداً. لأن ما ذكره إنما يتم في اشتباه الأفراد للشبهة المصداقية، أما إذا كان للشبهة المفهومية في الخاص - كما في المقام - فالشك يرجع حينئذ للشك في زيادة التخصيص التي يدفعها العموم الحجة. وتمام الكلام في محله من الأصول.

ولعله لذا أطلق الدرهم في النهاية والوسيلة، بنحو يظهر منه إرادة الدرهم الإسلامي المشهور. وإن كان من البعيد جداً خروجهما عما عليه الأصحاب، وصرح به الشيخ نفسه في الخلاف والمبسوط، مكتفيين بالإطلاق من دون تنبيه منهما للخلاف، وتنصيص على إرادة الدرهم الإسلامي. ومن ثم لا يبعد إرادتهما البغلي واعتمادهما في الإطلاق على معروفية إرادة البغلي من الدرهم بين الأصحاب. ويصعب مع ذلك عدهما مخالفين في المقام.

لكن في كفاية ذلك في الإجماع التعبدي الذي يصلح قرينة على تفسير النصوص، والخروج عن ظاهر إطلاقها إشكال. وإن كان ذهاب الأصحاب لذلك وخروجهم عن ظاهر النصوص من دون مستند بعيداً جداً.

نعم لو تم ما ذهب إليه بعضهم من أن الرضوي هو رسالة علي بن بابويه والد الصدوق، فلا يبعد أن يكون من بعده قد اعتمد عليه. قال في الذكرى: «وقد كان الأصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرايع الشيخ أبي الحسن بن بابويه - رحمة الله

ص: 177

(178) ولم يكن من دم الحيض (1)

عليهم - عند إعواز النصوص، لحسن ظنهم به، وإن فتواه كروايته...»(1). ونحوه عن المفيد الثاني ابن شيخ الطائفة الطوسي.

لكن لا مجال للوثوق - فضلاً عن العلم - بأن تفسير ابن بابويه للدرهم بالبغلي ناش من اطلاعه على نص معتبر بذلك، بل قد يكون اجتهاداً منه لبعض الوجوه المتقدمة أو غيرها. ومع ذلك لا مجال للخروج به عما سبق من ظهور نصوص المقام. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

(1) فإنه المتيقن من الدماء الثلاثة في عدم العفو عند الأصحاب، حيث اقتصر عليه بعضهم، كما في الفقيه والهداية والمقنعة، ونسبه للأصحاب في المعتبر وجامع المقاصد، وفي المدارك ومحكي الدلائل أن الأصحاب قاطعون به. وفي كشف اللثام وعن التنقيح الإجماع عليه، وعن الذخيرة وشرح القواعد لكاشف الغطاء أنه مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفاً. نعم نسبه للمشهور في الذكرى من دون أن يشير لمن خالف المشهور.

وكيف كان فقد استدل عليه في الجواهر بما دل على وجوب غسل دم الحيض(2) ، بضميمة ما قيل من قصور أدلة العفو عن شمول دم الحيض لندرته، خصوصاً مع اختصاص الخطاب فيها بالذكور، واحتمال إصابة ثيابهم من دم الحائض نادر بالضرورة.

هذا ولا يخفى أنه لو تم قصور أدلة العفو عن دم الحيض لم يحتج لنصوص وجوب غسل دم الحيض، لكفاية عموم مانعية الدم والنجاسة في الصلاة، وإن لم يتم لم تنفع نصوص وجوب غسل دم الحيض، لأن النصوص المذكورة - كنصوص وجوب

********

(1) الذكرى ج: 1 ص: 51.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب النجاسات.

ص: 178

(179) والنفاس والاستحاضة (1)

غسل دم الرعاف ودم الجروح وغيرها من أقسام الدم - محكومة عرفاً لنصوص العفو بعد فرض عمومها، كما لعله ظاهر. مع أن الظاهر تمامية إطلاق نصوص العفو، والندرة المذكورة لا تكفي في قصور الإطلاق.

فالعمدة في المقام حديث أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام): «قال: لا تعاد الصلاة من دم لا [لم خ. ل] تبصره غير دم الحيض، فإن قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء»(1).

والظاهر أن اعتماد الأصحاب عليه، كما هو صريح المعتبر وظاهر غيره. ويناسبه انحصار دليل الحكم به. وقد تقدم في المسألة الثانية والثلاثين عند الكلام في من صلى بالنجاسة جاهلاً تقريب اعتبار سنده وحجيته. فراجع.

كما أن دلالته وافية، لصراحته في عموم مانعية دم الحيض للقليل منه. وحمله على ما كان بقدر الدرهم فما زاد، دون ما نقص عنه، بعيد جداً، بل لا يناسب صراحته في خصوصية دم الحيض.

ولو غض النظر عن ذلك كان بينه وبين أدلة العفو عما دون الدرهم من الدم عموم من وجه، وظهوره في عموم مانعية دم الحيض أقوى من ظهور أدلة العفو في العموم لدم الحيض، فيقدم عليها. ومع فرض التساوي بينهما وتساقطهما، فالمرجع عموم مانعية النجاسة، وعموم مانعية دم الحيض الذي تضمنته النصوص المشار إليها آنفاً.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة وفي جامع المقاصد بعد أن نسب الحكم في دم الحيض للأصحاب قال: «وألحقوا به دم الاستحاضة والنفاس»، وفي السرائر أنه لا خلاف فيه، بل في الخلاف والغنية الإجماع عليه، وعن ظاهر كشف الحق أنه من دين

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 179

الإمامية. ولعله لذا قال سيدنا المصنف (قدس سره): «العمدة فيه ظاهر الإجماع المحكي عن جماعة».

لكن لا مجال لذلك بعد نسبة إلحاقهما للشيخ في المنافع والمعتبر والمدارك ومحكي كشف الالتباس والدلائل، وإلى الشيخ ومن تبعه في كشف اللثام، كما يناسبه ما تقدم من الاقتصار على دم الحيض في الفقيه وفي الهداية والمقنعة. بل والرضوي الذي لا يبعد كونه كتاباً لأحد الأصحاب، وما في الانتصار من الاقتصار عليه في صدر كلامه، ثم ظهور بقية كلامه في احتمال عدم الفرق بينه وبين النفاس من دون إشارة لدم الاستحاضة. بل يظهر من الاقتصار في النافع والمعتبر على نسبة إلحاقهما بدم الحيض للشيخ التردد فيه، بنحو لا يناسب ثبوت الإجماع على الإلحاق جداً. ولا أقل من عدم ثبوت الإجماع أو عدم نهوضه بالاستدلال في المقام.

ومثله الاستدلال بأن النفاس حيض، أو حيض محتبس، وبما دل على لزوم تبديل القطنة على المستحاضة. لاندفاع الأول بعدم وضوح الدليل على ذلك، وإنما الذي ورد أن الحيض يحبس حال الحمل ليكون غذاء للجنين(1). مع أنه لو ورد فلم يتضح وروده للتنزيل بلحاظ الأحكام الشرعية، بل لعله لبيان قضية واقعية.

والثاني بعدم وضوح وجوب تبديل القطنة على المستحاضة، كما يظهر مما سبق في أحكامها. مع أنه لو تم فقد يكون منشؤه الخوف من زيادة الدم على المقدار المعفو عنه.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): «وأضعف من ذلك الاستدلال عليه في الذكرى بأن أصل النفاس حيض، والاستحاضة مشتقة منه، وبتساويهما في إيجاب الغسل، وهو يشعر بالتغليظ». ومن ثم لا مجال للبناء على إلحاق دم الاستحاضة.

نعم قد يتجه إلحاق دم النفاس، لظهور مفروغيتهم عن مساواة النفاس للحيض في الأحكام. وإن كان في بلوغ ذلك حداً ينهض بالاستدلال إشكال.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الحيض.

ص: 180

(181) ولا من نجس العين (1)

(1) كما ذكره العلامة والشهيد وجماعة ممن تأخر عنهما. والعمدة فيه ما ذكره غير واحد من أن أدلة العفو إنما تقتضي العفو عن حيثية نجاسة الدم، لا من حيثية نجاسة أخرى، وهي نجاسة نجس العين، بل مقتضى إطلاق أدلة مانعية النجاسة عدم العفو من الحيثية المذكورة.

إلا أن يقال: هذا إنما يتجه لو كانت الأدلة قد تضمنت العفو بعد التنبيه لنجاسة الدم، كما لو قيل مثلاً: الدم نجس لا تصح الصلاة معه إلا أن يكون بقدر الدرهم، أما حيث ورد العفو ابتداء، فالمنصرف منه الاستثناء، من عموم مانعية النجاسة.

نعم لا يبعد انصراف الدم المعفو عنه للدم النجس بالذات، دون الطاهر بالذات - كالدم المتخلف في الذبيحة - المتنجس بالعرض، لارتكاز خصوصية الدم في الاستثناء، ولا خصوصية له ارتكازاً لو كان طاهراً بالذات متنجساً.

على أنه لو تم ما ذكروه فمن الظاهر أن خصوصية دم نجس العين ليست بلحاظ كونه من أجزائه، بل بلحاظ كونه متنجساً به، بناء على ما هو الظاهر من قابلية النجس للتنجس، وحيث كانت النجاسة بالعرض ارتكازاً دون النجاسة بالذات الثابتة لأعيان النجاسات - ومنها الدم - فالعفو عن نجاسة الدم الذاتية موجب لغفلة العرف عن مانعية النجاسة العرضية الذي قد تثبت له، وبنائهم على العفو عنها تبعاً، وإلا لزم عموم الاستثناء للدم المتنجس وإن لم يكن من عين النجس، ولا يظن منهم الالتزام بذلك.

وقد استدل لاستثناء دم نجس العين في الحدائق بانصراف الدم في نصوص العفو لما هو الشايع المعتاد، كدم الإنسان والحيوانات التي يتعارف ذبحها ونحو ذلك.

لكن الانصراف المذكور بدوي لا يعول عليه في الخروج عن الإطلاق. ولو تم كان الاستثناء أوسع كثيراً من المدعى، كما لا يخفى.

ص: 181

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الاستدلال لاستثناء أجزاء نجس العين، ومنه الكافر، بأن مقتضى إطلاق ما تضمن النهي عن الصلاة في ثوب اليهودي والنصراني(1) بطلان الصلاة فيما تنجس من ثيابهما بدمهما، وحيث كان بينه وبين إطلاق العفو عن الدم دون الدرهم عموم من وجه يتعين تساقطهما في الثوب المتنجس بما دون الدرهم من دمهما، والرجوع لإطلاق ما تضمن بطلان الصلاة في دم نجس العين وإن كان دون الدرهم.

لاندفاعه بأن الإطلاقات المذكورة حيث كانت منزلة على ما إذا كان ثوبه نجساً من دون خصوصية لتنجسه بدمه فهي مساوقة لإطلاقات مانعية النجاسة التي لا إشكال في تقديم إطلاقات العفو عن الدم دون الدرهم عليها، لأنها أخص منها، وإلا فالإطلاقات المذكورة كما تشمل الثوب الذي ينجس بدمه، تشمل الثوب الذي ينجس بدم طاهر العين، فلو بني على ما ذكره لزم عدم العفو عنه أيضاً.

هذا وأما الاستدلال لذلك بأن دم نجس العين من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، بناء على ما يأتي من قصور العفو عن دم ما لا يؤكل لحمه. فهو إنما يتم في الكلب والخنزير، دون الكافر بناء على نجاسته، لأن مانعية إجزاء ما لا يؤكل لحمه من الصلاة تقصر عن أجزاء الإنسان.

نعم يبعد جداً مانعية بقية فضلات نجس العين، كلعابه وإن قلّ، وعدم مانعية القليل من دمه وذلك مناسب جداً لقصور دليل العفو عن قليل الدم من دمه. لكنه ليس بأبعد مما التزموا به من عدم التعدي في العفو من الدم للمتنجس به، فضلاً عن المتنجس بغيره. فلاحظ.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما في الوسيلة وعن القطب الراوندي من الاقتصار في الاستثناء على الكلب والخنزير، ونسبه في المعتبر لبعض القميين. فإنه إن ابتنى على مانعية نجاسة ملاقاتهما زائداً على نجاستهما ذاتاً لزم العموم لدم كل نجس العين - كما

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 74 من أبواب النجاسات.

ص: 182

(183)ولا من الميتة (1) ولا من غير مأكول اللحم (2) وإلا فلا يعفى عنه على الأظهر.

نسبه في المختلف لهما - بل لكل دم متنجس زائداً على نجاسته. وإن ابتنى على مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه لزم التعدي لدم جميع ما لا يؤكل لحمه.

هذا وقد استنكر في السرائر استثناء دم الكلب والخنزير. قال: «وهذا خطأ عظيم وزلل فاحش لأن هذا هدم وخرق لإجماع أصحابنا».

لكن ذلك وحده لا يكفي في بطلان القول المذكور، لأن عدم تنبيه الأصحاب لذلك قد يكون بلحاظ أن موضوع العفو عندهم نجاسة الدم من حيث هو دم لا بلحاظ أمر خارج عنه، ككونه من نجس العين، كما قد يكون لغفلتهم عن هذه الجهة مع ندرة الابتلاء بالدماء المذكورة، فلا يمتنع عليهم عادة الخطأ في حكمها. ومن ثم لا مجال للتعويل على الإجماع لو فرض قصور الأدلة عن عموم العفو.

(1) الكلام فيه هو الكلام في نجس العين.

(2) كما عن كشف الغطاء. لعموم أو إطلاق ما تضمن مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه من الصلاة. ولا يعارضه إطلاق أدلة العفو في المقام. لما سبق من أن المنصرف منه العفو استثناءً من عموم مانعية النجاسة، ولا إطلاق له يقتضي العفو من جميع الحيثيات حتى حيثية ما لا يؤكل لحمه. وإلا كان مقتضى إطلاق تلك الأدلة عدم العفو عن الدم الطاهر إذا كان أكثر من الدرهم، ولا يظن من أحد البناء على ذلك.

على أنه لو تم إطلاق أدلة العفو من جميع الحيثيات كان معارضاً لإطلاق أدلة مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه وإن لم يكن الثاني أقوى فلا أقل من تساقطهما والرجوع لعموم مانعية النجاسة. بل من البعيد جداً مانعية فضلاته الطاهرة وإن كانت دون الدرهم وعدم مانعية دمه إذا كان دونه.

وأما ما في الجواهر من أن ملاحظة كلام الأصحاب ومعاقد إجماعاتهم واقتصارهم في الاستثناء على الدماء الثلاثة أو مع نجس العين على كلام منهم قد

ص: 183

تقدم يشهد لإطلاق أدلة العفو ويوهن عموم أدلة مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه للدم المذكور.

فهو كما ترى! إذ لو كان مراده حجية الإجماع بنفسه ودليليته على العفو عن الدم المذكور. فالظاهر عدم حصول إجماع صالح للاستدلال بعد احتمال كون نظرهم للعفو من حيثية مانعية النجاسة، أو غفلتهم عن الخصوصية المذكورة، مع عدم شيوع الابتلاء بذلك، ليمتنع عادة خطؤهم في حكمه، نظير ما تقدم.

ولو كان مراده صلوح الإجماع المذكور لترجيح عموم أدلة العفو على عموم أدلة مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه وإن لم يكن حجة بنفسه، نظير جبر الشهرة للخبر الضعيف. أشكل بعدم نهوض الإجماع أو الشهرة بجبر الدلالة، وترجيح أحد الإطلاقين على الآخر، وإنما ينهضان بجبر السند، لكشفهما عن إطلاع المشهور على ما يوجب الوثوق بصدور الخبر وإن خفي علينا.

وأضعف منه ما عن الفقيه الهمداني (قدس سره) من قصور أدلة مانعية ما لا يؤكل لحمه عن الدم ونحوه من النجاسات التي هي مانعة حتى لو كانت من مأكول اللحم، لأن الأدلة المذكورة بصدد بيان المانعية من حيثية حرمة الأكل بحيث لو كان الشيء من محلل الأكل لم يكن مانعاً.

إذ فيه: أنه بعد امكان تعدد جهة المنع فلا مانع من شمول الأدلة المذكورة لما هو مانع من حيثية النجاسة. ولاسيما مع اشتمال بعض النصوص المذكورة على البول والروث الذين هما مانعان من حيثية النجاسة(1). على أن ذلك إنما يقتضي قصورها عن الدم إذا كان بقدر الدرهم فما زاد، ولا يقتضي قصورها عما هو أقل من ذلك، لعدم مانعيته إلا من حيثية حرمة أكل اللحم، كما لعله ظاهر. وحينئذ يجري فيه ما سبق من قصور عموم العفو، لتعدد الحيثية، أو معارضته بعموم ما لا يؤكل لحمه، وبعد تساقطهما فالمرجع عموم مانعية النجاسة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 2 من لباس المصلي حديث: 1.

ص: 184

(185) (مسألة 57): لا يلحق بالدم المتنجس به (1).

هذا وقد ذهب في الحدائق إلى عموم مانعية دم الغير إن كان قليلاً، وحكاه عن الاسترابادي معترفاً بانفرادهما بذلك. لمرفوع البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: دمك أنظف من دم غيرك إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس، وإن كان دم غيرك قليلاً أو كثيراً فاغسله»(1) ، مؤيداً بقوله في الفقه الرضوي: «وأروي: ليس دمك مثل دم غيرك»(2).

وهو لو تم يغنيه عما سبق منه من الاستدلال لاستثناء دم نجس العين بانصراف أدلة العفو لأفراد الدم المتعارفة، لأن دم نجس العين من دم الغير. إلا أن يريد من الغير خصوص الإنسان. لكنه مخالف لظاهر المرفوع.

وكيف كان فالحديث ظاهر في طهارة دم الإنسان في حق نفسه إذا كان قليلاً، لا في انحصار العفو به مع نجاسته كما هو المدعى. على أن ضعفه مانع من التعويل عليه بعد عدم انجباره بالعمل، بل ظهور الإعراض عنه، بل الإجماع على خلافه بنحو يبعد جداً خطؤه في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء.

مع أنه لا يناسب ما تقدم في حديث أبي بصير من استثناء دم الحيض في الخطاب الموجه للراوي، لأنه من دم الغير بالإضافة له، فلولا عموم العفو لدم الغير لم يحسن الاستثناء المذكور. ومن ثم يتعين طرح المرفوع، أو حمله على الاستحباب.

(1) كما في المنتهى، وعليه جرى في العروة الوثقى وجملة من حواشيها. وهو المناسب لما يأتي في المسألة التاسعة والخمسين من الحدائق والبيان. اقتصاراً في الخروج عن عموم مانعية النجاسة على مورد النصوص، وهو الدم.

خلافاً للجواهر ويناسبه ما يأتي في المسألة المذكورة من المدارك وعن الذكرى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) الرضوي ص: 6.

ص: 185

(186) (مسألة 58): إذا تفشى الدم من أحد الجانبين إلى الآخر فهو دم واحد (1). نعم إذا كان قد تفشى من مثل الظهارة إلى البطانة فهو دم

والمعالم. وقد يستدل عليه تارة: بالأولوية المستفادة من عدم زيادة الفرع على الأصل. وأخرى: بأن معنى نجاسة المتنجس بالملاقاة انتقال أحكام النجس إليه، لا غيرها. وثالثة: بمناسبته للتخفيف الذي هو المنشأ للعفو في المقام. ورابعة: بالشك في تناول أدلة المانعية لمثله.

ويندفع الأول بأن الأولوية لما كانت مبنية على عدم زيادة الفرع على أصله فهي ليست قطعية، لعدم القطع بمبناها، والأولوية الظنية ليست بحجة.

والثاني بأن معنى نجاسة المتنجس انتقال النجاسة له مما لاقاه، لا كونه بأحكامه، ولذا لا نلتزم بوجوب التعدد في التطهير من المتنجس بالبول مثلاً.

والثالث بأن مناسبة التخفيف لا تنهض بالاستدلال ما لم تكن يقينية، ولا مجال لذلك بعد قصور دليل التخفيف والعفو عن غير الدم.

والرابع بأنه لا يشك في تناول عموم أدلة المانعية لمثله، ولذا لا إشكال في مانعيته لو لم يرد العفو عن الدم في المقام، وإنما المنشأ لاحتمال العفو فيه هو دليل العفو عن الدم بضميمة بعض الوجوه المتقدمة أو نحوها، فمع عدم تماميتها يتعين الرجوع لعموم أدلة المانعية.

(1) كما في المدارك، بل قيل: إنه الأشهر. وقد يرجع إليه ما في جامع المقاصد والمسالك والروض وظاهر المنتهى ونهاية الأحكام من أنه إذا أصاب الدم وجهي الثوب معاً فإن تفشى من أحدهما للآخر فهو دم واحد. وفي الذكرى وعن البيان التفصيل بين الرقيق والصفيق، وأنه واحد في الرقيق متعدد في الصفيق.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في اتحاد الدم مع اتصال ما في أحد وجهي الثوب بالآخر، وعدم فصل العدم بينهما، فإن ذلك هو المعيار في وحدة الوجود عرفاً

ص: 186

متعدد (1)، فيلحظ التقدير المذكور على فرض اجتماعه، فإن لم يبلغ المجموع سعة الدرهم عفي عنه، وإلا فلا.

وعقلاً.

ودعوى: أن المعيار في التقدير ليس على وحدة الدم، بل على وحدة السطح الظاهر، ومع التفشي يكون للدم سطحان ظاهران، فتلحظ سعة كل منهما وتضم للأخرى.

مدفوعة بأن معيار التقدير وإن كان هو السعة إلا أن موضوعه هو الدم لا السطح، فمع وحدة الدم يتعين ملاحظة سعة واحدة وإن تعدد سطحه. على أنه لا منشأ لملاحظة ظهور السطح، بل إن كان المعيار على الدم تعين وحدته كما ذكرنا. وإن كان المعيار على السطح تعين البناء على تعدد السعة لتعدد السطح مع عدم ظهور أحد السطحين، لعدم تفشي الدم. وحيث لا يمكن البناء على ذلك تعين الأول. من دون فرق في ذلك بين الثوب الصفيق والرقيق.

ومن ذلك يظهر أنه لو فرض إصابة الدم لوجهي الثوب المتحاذيين معاً تعين التفصيل بين اتصال الدميين من الداخل وعدمه، فيحكم بتعدد الدم مع الانفصال ووحدته مع الاتصال، كما لو وضع على الدم دم آخر من دون أن تتسع المساحة. ولعله إليه يرجع ما تقدم من جامع المقاصد والروض والمسالك وظاهر المنتهى.

نعم إذا لم يكن الاتصال بين تمام السطحين، بل بين بعضهما، فالدم وإن كان واحداً، إلا أن مساحته تتسع بلحاظ موضع الانفصال.

(1) مما تقدم يظهر التفصيل في ذلك أيضاً بين ما إذا اتصل الدم بعضه ببعض في طبقات الثوب لتلاصقها ولو بسبب الدم، وما إذا لم يتصل، لانفصال الطبقات بعضها عن بعض، فيحكم بالإتحاد في الأول والتعدد في الثاني.

ص: 187

(188) (مسألة 59): إذا اختلط الدم بغيره من قيح أو ماء أو غيرهما لم

يعف عنه (1).

(1) كما في الحدائق وعن البيان، ويناسبه ما سبق في المسألة السابعة والخمسين من المنتهى. اقتصاراً في الخروج عن عموم مانعية النجاسة على مورد النصوص، وهو الدم. خلافاً لما في المدارك وعن الذكرى والمعالم وقواه في الجواهر لما تقدم في المسألة السابعة والخمسين من دعوى الأولوية وغيرها مما قد سبق ضعفه. بل قد يظهر من الذكرى العفو عما يختلط بالدم وإن زاد على الدرهم. وهو أشد ضعفاً.

نعم قد يستفاد من صحيح الحلبي - المتقدم في آخر الكلام في الدم المتفرق - المتضمن للنضح بالماء، عدم ارتفاع العفو بإصابة الماء الطاهر للثوب بعد إصابة الدم له وإن زاد المجموع منه ومن الدم عن مقدار الدرهم، فضلاً عما إذا لم يزد عليه، بناء على ما سبق من أن الصحيح المذكور لا يدل على طهارة الدم القليل، ليتعين طرحه بعد مخالفته للنص والفتوى بنجاسة الدم مطلقاً.

لكنه لو تم يتعين الاقتصار فيه على مورده، وهو الماء الطاهر الذي يصيب الثوب بعد إصابة الدم له دون غيره. على أنه تقدم الإشكال في عموم النضح في الصحيح للدم، بل قد يختص بدم البراغيث. فراجع.

هذا وقد تردد في العروة الوثقى في المسألة. لكنه استثنى صورة ما إذا لم تتعد الرطوبة عن موضع الدم فحكم بالعفو. ويظهر منه أن الوجه في ذلك عدم كون الرطوبة منجسة للموضع الذي أصابته، لتنجسه بالدم قبل ذلك. وقد أقره على ذلك غير واحد منهم سيدنا المصنف (قدس سره)، إلا أنه استشكل في العفو بأن الثوب وإن لم يتنجس بالرطوبة المذكورة، إلا أن الصلاة بها صلاة في النجس.

وفيه - مع عدم صدقه في فرض جفاف الرطوبة حين الصلاة، وعدم بقاء شيء مما كان متنجساً بالدم في الثوب -: أن المراد بالنجس إن كان هو الثوب فالمفروض

ص: 188

العفو عنه بعد كون تنجسه بالدم الأقل من الدرهم لا بغيره. وإن كان هو الرطوبة فالمراد بالصلاة فيها كونها محمولة في الصلاة، ولا إشكال في عدم مانعية المحمول المتنجس إذا لم تتم به الصلاة.

نعم لم يتضح الوجه في مبنى الحكم، وهو عدم تنجس الموضع بالرطوبة المذكورة. فإنه إن ابتنى على عدم تنجس المتنجس ثانياً. فهو ممنوع جداً بعد إطلاق أدلة الانفعال وعمومه ارتكازاً، بل لا يناسب اقتصارهم في محل الكلام على الرطوبة المتنجسة بالدم الموجود، دون المتنجسة بغيره، فضلاً عن النجسة، كالبول.

وإن ابتنى على ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم تنجس المتنجس بما تنجس بمنجسه، فالرطوبة بعد أن كانت متنجسة بالدم الذي نجس الثرب لم تكن منجسة للثوب ثانياً. فهو غير ظاهر المأخذ بعد إطلاقات أدلة الانفعال، أو إلغاء خصوصية مواردها عرفاً.

نعم قد يغفل عرفاً عن تنجس المتنجس، لغلبة عدم الأثر للنجاسة الثانية، وخصوصاً بما تنجس به، لارتكاز كون نجاسته أخف من نجاسة ما نجسه.

لكن لا مجال لذلك في فرض اختصاص النجاسة الثانية ببعض الأحكام، كما في المقام، حيث يعفى عن نجاسة الدم ولا يعفى عن نجاسة المتنجس به. ومن ثم كان الاستثناء في غير محله.

نعم لا يبعد العفو عن مثل العرق مما يكثر الابتلاء به ويغفل عنه، حيث لا يبعد أن يستفاد العفو عنه حينئذ من النصوص بإطلاقها المقامي. فلاحظ.

بقي في المقام فرع أهمله هنا سيدنا المصنف (قدس سره) وهو أنه إذا زال الدم بعينه عن الثوب أو البدن - لو قلنا بعموم العفو له - بحكّ أو نحوه فهل يبقى العفو أولاً؟ حكم بالأول في نهاية الأحكام والمدارك والعروة الوثقى وبعض حواشيها وشروحها ومحكي شرح الموجز. وقد يستدل له تارة: بالاستصحاب. وأخرى: بالأولوية، لخفة النجاسة بزوال العين.

ص: 189

لكن المراد بالاستصحاب إن كان هو استصحاب صحة الصلاة به، فهو - مع كونه تعليقاً - لا يجري في نفسه، لعدم كون الصحة حكماً مجعولاً، بل هي منتزعة من الأمر بالصلاة المقيدة بعدم النجاسة بما عدا ما دون الدرهم من الدم. ومثله استصحاب جواز الصلاة، إذ لا يراد به الجواز التكليفي، بل الوضعي الراجع لصحة الصلاة بالثوب.

وأما استصحاب عدم مانعية النجاسة الموجودة في الثوب فإنه وإن كان منجزاً إلا أن عدم المانعية ليس حكماً مجعولاً، بل منتزعاً، كالصحة، على ما تقدم.

وأما الأولوية بلحاظ خفة النجاسة، فهي لا تخلو عن إشكال، لأن المانع حيث كان هو نجاسة الثوب، فهي لا تخف بزوال عين النجاسة. غاية الأمر أن يتخلص به من حمل عين النجاسة، وهو ليس محذوراً في الصلاة، ليكون ارتفاعه موجباً للأولوية. وحيث كان الحكم تعبدياً مخالفاً للقاعدة، فقد يكون التخفيف امتنانياً مختصاً بمورده بلحاظ شيوع الابتلاء به، ويقصر محل الكلام، لندرة الابتلاء به.

هذا وقد استدل بعض مشايخنا (قدس سره) بصحيح ابن أبي يعفور المتقدم: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى فيصلي... قال (عليه السلام): يغسله، ولا يعيد صلاته»(1). بدعوى: أن المفروض فيه حيث كان هو وجود الدم قبل الصلاة بمدة، فمقتضى ترك الاستفصال فيه عدم الفرق في العفو بين وجود الدم حين الصلاة وزواله حينها. وبذلك يمتاز الصحيح المذكور عن غيره من نصوص المسألة.

وفيه: أن موضوع السؤال في الصحيح حيث كان هو الثوب الذي فيه نقط دم فالظاهر من فرض الصلاة فيه هو الصلاة فيه حال وجود الدم فيه، ولا يعم الصلاة فيه حال زوال الدم عنه. نعم لو كان لسان السؤال فيه هكذا: «الثوب يصيبه الدم لا يعلم به...» كان لدعوى عمومه وجه. على أنه بعيد جداً بلحاظ احتياج زوال الدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 190

(191) (مسألة 60): إذا تردد قدر الدم بين المعفو عنه والأكثر بنى على العفو (1)

عن الثوب إلى عناية فينصرف عنه الإطلاق.

ومثله دعوى: أن العفو لما كان عن نجاسة الدم استثناء من عموم مانعية النجاسة فلا أثر لزوال عين الدم مع بقاء نجاسته في العفو. لاندفاعها بأن عموم العفو عن النجاسة وخصوصه تابع لعموم دليله وخصوصه، فإذا كان الدليل مختصاً بحال وجود الدم تعين الاقتصار عليه.

نعم قد يكون الوجه المذكور سبباً في فهم العرف عدم الخصوصية لحال وجود الدم، بل لا إشكال في غفلتهم عن شرطية وجود عين الدم في العفو، لكون العفو حال عدمه أولى عرفاً، بحيث يفهم من الأدلة تبعاً، وإن لم يكن أولى حقيقة، لما سبق. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في عموم العفو. فلاحظ.

(1) كما قواه بعض الأعاظم (قدس سره) في حاشيته على العروة الوثقى. وقد استدل له سيدنا المصنف (قدس سره) - بعد امتناع الرجوع لعموم مانعية النجاسة أو الدم، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص، والتحقيق امتناعه - بأصالة البراءة من مانعية المشكوك، كما جرى على ذلك هو وبعض الأعاظم (قدس سره) في نظائر المقام - كالشك في كون اللباس مما يؤكل لحمه - لأنه حيث كانت المانعية انحلالية، فكل فرد مانع مستقل، ومع الشك في فردية فرد للمانع يشك في مانعيته، والأصل

البراءة منها.

وفيه: أنه حيث لم تكن المانعية مجعولة، بل منتزعة التكليف بالمقيد بعدم المانع - كالصلاة المقيدة بعدم نجاسة ماعدا ما نقص عن مقدار الدرهم من الدم - فلابد من إحراز امتثال التكليف المذكور بالإتيان بالمقيد المذكور، خروجاً عن مقتضى التكليف اليقيني، ودليل البراءة لا ينهض بإحرازه، وليس الشك في سعة التكليف، لعدم الإجمال في حدوده. وتمام الكلام في الأصول، حيث أفضنا الكلام في ذلك في التنبيه

ص: 191

الثاني من تنبيهات المقام الأول من مبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين من كتاب (المحكم في الأصول).

ومثله ما يظهر من الجواهر من التمسك في أمثال المقام باستصحاب بقاء الثوب على صحة الصلاة به. حيث يظهر مما تقدم أن صحة الصلاة بالثوب ليست مجعولة بنفسها، لتستصحب، بل منتزعة من تقييد الصلاة بعدم نجاسة الثوب بالوجه الخاص، فلابد من إحراز الامتثال بالإتيان بالصلاة المقيدة بذلك، والاستصحاب المذكور لا يحرز ذلك، إلا بناء على الأصل المثبت.

هذا وأما استصحاب عدم كون الدم بقدر الدرهم، فهو مبني على أن موضوع التقدير هو الدم بذاته، وكونه بقدر الدرهم عبارة عن حالة طارئة عليه بعد إصابته للثوب، أو أن موضوع التقدير هو سطح الدم الحاصل على الثوب، الذي لا وجود له قبل إصابة الثوب.

فعلى الأول يتعين جريان الاستصحاب المذكور من دون أن يبتني على استصحاب العدم الأزلي، لوضوح أن صيرورة الدم في الثوب بقدر الدرهم ليس لازماً لذات الدم ولا لوجوده، بل هو لو حصل له متأخر عن وجوده مسبوق بالعدم بلحاظ حال ما قبل إصابة الدم للثوب، فإن الدم حينئذ لم يكن في الثوب بقدر الدرهم، فيمكن استصحاب ذلك له بعد إصابته للثوب. بل قد يقطع بعدم كونه بقدر الدرهم حتى في أول زمان إصابته للثوب، كما إذا كان الدم قليلاً يعلم بأنه في أول زمان إصابته للثوب كان دون الدرهم، وإنما يحتمل بلوغه قدر الدرهم بعد ذلك بسبب تفشيه فيه وانبساطه، فيمكن بلحاظ الزمان المذكور استصحاب عدم بلوغه الدرهم. بل يمكن حتى استصحاب كونه دون الدرهم، كما لعله ظاهر.

أما على الثاني فلا مجال لجريان الاستصحاب المذكور حتى بناء على جريان استصحاب العدم الأزلي، لأن سعة السطح الخاص مقومة لذاته غير منفكة عنه بلحاظ حال ما قبل وجوده، كما هو الحال في جميع المقادير والكميات، فإنها وإن لم

ص: 192

تكن مقومة لماهية ذي الكم الخاص إلا أنها مقومة لذاته بخصوصيته، لانتزاعها من الأجزاء بذواتها، فكما لا ينفك ذو الكم عن ذاته حتى قبل وجوده، ولا تنفك أجزاؤه عن ذواتها حتى قبل وجودها، كذلك لا ينفك ذو الكم عن الكم الثابت له حتى قبل وجوده، لأنه منتزع منه ومن أجزائه بذواتها، فالرجال العشرة لا ينفكون عن كونهم عشرة حتى قبل وجودهم، والمتر من القماش لا ينفك عن كونه بقدر المتر حتى قبل وجوده، وهكذا جميع الكميات. والى هذا يرجع ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في المقام. وقد تقدم في مسألة الشك في كرية الماء ما ينفع هنا، لأن المقامين من باب واحد.

هذا ولا يبعد ظهور النصوص في الثاني، لأن التقدير وإن نسب للدم فيها لفظاً، إلا أنه حيث لا يتقدر الدم بالسعة، بل بالحجم ذي الأبعاد الثلاثة، فالظاهر رجوع التقدير للسطح الخاص المنبسط على الثوب لا غير، لأنه القابل للتقدير المذكور.

نعم لو كان التعبير هكذا: «ما لم يصر بسعة الدرهم» لكان ظاهراً في الأول. ومن ثم يشكل جريان استصحاب عدم كون الدم بقدر الدرهم. وإن كان لابد من التأمل التام في المقام.

نعم الظاهر جريان أصل الطهارة في المقام، لأن المناسبات الارتكازية قاضية بأن التقدير بسعة الدرهم لا يراد منه إلا بيان مقدار النجاسة الحاصلة بالدم التي يعفى عنها في الثوب استثناء من عموم مانعية النجاسة، ومن الظاهر أن مقتضى أصل الطهارة الاقتصار في البناء على النجاسة على المتيقن، وهو الموضع القليل من الثوب الذي لا يبلغ الدرهم.

فكما ينهض الأصل المذكور بإحراز جواز الصلاة في الثوب عند الشك في إصابته بالدم أو غيره من النجاسات رأساً، ينهض بإحراز جوازها عند الشك في كمية نجاسته بعد العلم بأصلها إذا احتمل كونها أكثر من المعفو عنه، سواء كان ذلك الشك في سعة الإصابة الواحدة، أم للعلم بإصابة قليلة، والشك في إصابة أخرى إذا ضمت إليها يكون المجموع أكثر من درهم. لأن مقتضى الأصل المذكور في المقدار

ص: 193

الزائد من الثوب.

بل حيث سبق أن الظاهر مانعية النجاسة، لا شرطية الطهارة، فالظاهر جريان استصحاب عدم وقوع الصلاة المأتي بها بالنجاسة بالمقدار الزائد على المعفو عنه، وهو ما يبلغ الدرهم من الدم، بناء على ما هو التحقيق من جريان استصحاب العدم الأزلي. فلاحظ.

هذا ولو تردد الدم مع كونه دون الدرهم بين المعفو عنه وغيره، كدم الحيض ودم ما لا يؤكل لحمه فالأقرب العفو، كما في الدروس والعروة الوثقى وجملة من شرحها وحواشيها وعن الموجز وشرحه وغيرها. قال سيدنا المصنف (قدس سره): «بل قيل: إن عليه بناء الفقهاء».

لا لعموم العفو عن الدم دون الدرهم، لعدم حجية العام في الشبهة المصداقية، كما هو المشهور المنصور في الشبهة المصداقية، ولا لأصالة البراة من المانعية، لما سبق من عدم كون المانعية محصولة، ولا لاستصحاب جواز الصلاة في الثوب، إذ لا يراد به الجواز التكليفي، بل الوضعي الراجع لصحة الصلاة به وهي غير مجعولة كما سبق في تعقيب ما ذكره في الجواهر.

بل المرجع مع احتمال كونه دم الحيض أو نحوه استصحاب عدم كون الدم من الدم الخاص. وهو لا يبتني على استصحاب العدم الأزلي. لأن خصوصية دم الحيض تابعة لمنبع الدم، لا من لوازم ذاته، فالدم في البدن ليس دم حيض ولا دم رعاف ولا دم جرح ولا غير ذلك، فإذا خرج منه ثبتت له إحدى الخصوصيات باختلاف منبعه. ولو فرض ابتناؤه على استصحاب العدم الأزلي فالتحقيق جريانه، على ما أوضحناه في الأصول.

وأما مع احتمال كونه دم ما لا يؤكل لحمه، فالمرجع هو استصحاب عدم حمل اجزاء ما لا يؤكل لحمه إلى حال الصلاة، حيث يحرز به فقد الصلاة للمانع المذكور. فلاحظ.

ص: 194

(195) (195) ولم يجب الاختبار (1) وإذا انكشف بعد الصلاة أنه أكثر لم تجب الإعادة (2).

(مسألة 61): الأحوط استحباباً الاقتصار في مقدار الدرهم على ما يساوي عقد السبابة. وإن كان الأقوى كون مقداره ما يقرب من أخمص الراحة (3)، وهو ما انخفض منها الذي لا يمس الأرض عند وضعها عليها.

(1) لعدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية. هذا وقد احتاط بعض الأعاظم (قدس سره) هنا بالاختبار مع تيسره. وقد تقدم في المسألة الخامسة عشرة من الفصل الأول في عدد النجاسات ما ينفع في المقام.

(2) يقتضيه - مضافاً إلى عموم: «لا تعاد الصلاة...» - أن نصوص عدم الإعادة مع الجهل بالنجاسة وإن اختصت لفظاً بصورة الجهل بأصل النجاسة، لا بكونها معفواً عنها، إلا أن مناسبة الحكم والموضوع قاضية بأن منشأ العفو معذرية الجهل بالنجاسة من حيثية مانعيتها لا بذاتها، وذلك يقتضي عموم العفو للمقام، لفرض الجهل فيه بالنجاسة المانعة.

بل حيث تضمنت بعض نصوص المقام اشتراط الإعادة في الكثير برؤيته، فالظاهر منها أن الشرط الرؤية الموجبة للعلم بكونه دماً كثيراً الذي هو موضوع المانعية. وبذلك يخرج عن إطلاق ما دل على وجوب الإعادة مع سبق العلم بالنجاسة.

بل الإنصاف قصور الإطلاق المذكور بدواً عن محل الكلام، وانصرافه لما إذا كانت النجاسة المعلومة مانعة من الصلاة، بحيث يكون سبب الصلاة معها نسيانها، دون ما إذا لم تكن مانعة، بحيث يصلي المكلف معها حتى مع تذكرها وعدم نسيانها.

(3) حيث تقدم منه (قدس سره) ومن الأصحاب أن المراد بالدرهم هو البغلي فقد ادعى ابن إدريس أنه شاهد واحداً منه فكانت سعته تقرب من سعة أخمص الراحة، وقد جرى على التحديد بذلك غير واحد. بل ذكروا أنه بقدر أخمص الراحة، كما نسب إلى أكثر الأصحاب.

ص: 195

لكن الاكتفاء بشهادة ابن إدريس لإثبات ذلك غير خالية عن الإشكال، لابتنائها على تشخيص الدرهم البغلي بما رآه أولاً، وعلى تقديره بما ذكره ثانياً. والأول مبني على الاجتهاد منه، حيث إنه بعد أن ذكر التحديد بالدرهم الوافي، وأنه قد يسمى بالبغلي قال: «وهو منسوب إلى مدينة قديمة يقال لها: بغل، قريبة من بابل، بينها وبينها قريب من فرسخ، متصلة ببلدة الجامعين، تجد فيها الحفرة والنباشون دراهم واسعة، شاهدت درهماً من تلك الدراهم. وهذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام المعتاد، يقرب سعته عن سعة أخمص الراحة». وما ذكره في أصل التسمية قد خالفه فيه غيره.

وأما الثاني فهو مبني على التقريب والتسامح، فإن ضبط سعة أخمص الراحة من أشكل الأمور، إذ لو أريد به ما لا يمس الأرض عند مجرد مس الكف لها كان كبيراً جداً، وإن أريد به ما لا يمسها عند اعتماد الكف على الأرض كان صغيراً جداً، وبينهما مراتب. كما أن سعة أخمص الراحة تختلف باختلاف الأشخاص اختلافاً فاحشاً.

بل قد تختلف الدراهم المضروبة أيضاً، لعدم دقة تحديد آلات صب الدراهم. ومجرد مقاربة الدرهم الذي رآه لأخمص راحته، حسب نظره، وكيفية اختباره، لا يكفي في إطلاق التحديد.

على أنه سبق منا الإشكال في التحديد بالدرهم البغلي، وأن مقتضى إطلاق النصوص المقامي التحديد بالدرهم الإسلامي.

نعم لا إشكال في اختلاف الدراهم الإسلامية في السعة حسبما عثرنا عليه منها، ويناسبه تعدد مراكز ضربها. وحينئذ ينبغي الاقتصار على الأقل، إذ بعد الإرجاع إليها على اختلافها، وعدم وضوح وجود فرد شايع ينصرف الإطلاق إليه، لا يصدق على ما يساوي الأقل أنه دون الدرهم. ولا أقل من كون ذلك مقتضى الاقتصار في الخروج عن عموم مانعية النجاسة على المتيقن.

وقد عثرنا على مجموعة من الدراهم يتراوح قطرها بين السنتمترين وثمانية

ص: 196

(197) (الثالث): الملبوس الذي لا تتم به الصلاة وحده (1)، كالخف والجورب والتكة والقلنسوة والخاتم والخلخال والسوار (2) ونحوها،

ملمترات ونصف، والسنتمترين وخمسة ملمترات ونصف وربما كان هناك ما ينقص عنها قليلاً، فاللازم الاحتياط بمراعاته.

(1) بلا خلاف محقق أجده فيه، كما اعترف به غير واحد. كذا في الجواهر. وأدعي الإجماع عليه في الانتصار والخلاف والسرائر وظاهر التذكرة وعن غيرها.

ويشهد له موثق زرارة أو صحيحه عن أحدهما (عليه السلام): «قال: كل ما كان لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشيء، مثل القلنسوة والتكة والجورب»(1). ونحوه مرسل إبراهيم بن أبي البلاد عنه(2) (عليه السلام) وفي مرسل عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام):

«كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلي فيه وإن كان فيه قذر مثل القلنسوة والتكة والكمرة والنعل والخفين وما أشبه ذلك»(3). وقريب منه مرسل حماد بن عثمان عنه(4) (عليه السلام).

واقتصر في المراسم على القلنسوة والجورب والتكة والخف والنعل. وحكي ذلك عن القطب الراوندي وأبي الصلاح. فإن كان مرادهم التمثيل بها فلا خلاف، وإن كان مرادهم الحصر بها كان ما سبق حجة عليهم.

(2) فإنهما وإن لم يكونا من سنخ الساتر إلا أن مقتضى عموم الكبرى المتقدمة عموم العفو لهما. والتمثيل بالثلاثة المتقدمة لا ينهض بتقييدها. على أن المراد بكون الشيء من سنخ الساتر إن كان هو كونه مسنوجاً - بناء على اشتراط ذلك في الساتر في الصلاة - فالخفّ والنعل المصرح بهما في بعض النصوص ليسا منه. اللهم إلا أن يستشكل في النصوص المشتملة عليهما بضعف السند. فالعمدة ما ذكرناه أولاً.

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب النجاسات حديث: 1، 4.

(3و4) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب النجاسات حديث: 5، 2.

ص: 197

فإنه معفو عنه في الصلاة إذا كان متنجساً ولو بنجاسة من غير المأكول (1).

هذا وقد يخصص العفو بالملبوس، بل بخصوص ما كان منه في محله المعد له، فلا يعفى عن الجوراب مثلاً لو لبس في الكف. والتخصيص بالملبوس يبتني على ما يأتي في المحمول. وأما التخصيص بخصوص ما كان منه في محله فهو خال عن الشاهد. ودعوى الانصراف لذلك غير مسموعة.

(1) لإطلاق النصوص المتقدمة. اللهم إلا أن يقال: النصوص المتقدمة إما مختصة بحيثية النجاسة - كمرسل عبد الله بن سنان المتقدم وغيره - أو منصرفة إليها، كحديث زرارة المتقدم، حيث تضمن جواز الصلاة في ما لا يتم به الصلاة إذا كان عليه الشيء، وظاهره استثناء ذلك مما تضمن النهي عن الصلاة فيما تصيبه النجاسة، لا مما تضمن النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه، لأن موضوع النهي هناك نفس أجزاء ما لا يؤكل لحمه، لا ما تصيبه من الثياب وغيرها.

وبعبارة أخرى: الصلاة في المقام واجدة لحيثيتين الأولى: قائمة بما لا تتم به الصلاة كالقلنسوة والجورب. الثانية: قائمة بنفس الشيء الذي يحمله الأمر الذي لا تتم به الصلاة وهو جزء ما لا يؤكل لحمه. ونصوص المقام إنما تضمنت العفو عن الجهة الأولى دون الثانية.

بل يبعد جداً العفو عن النجاسة من غير المأكول فيما لا تتم به الصلاة مع عدم العفو عن غير النجس من أجزائه، بل حتى عن غير المنجس وإن كان نجساً، كالدم اليابس العالق بالقلنسوة من دون أن ينجسها، فإن مقتضى عموم أدلة مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه مانعيته وإن كان فيما لا تتم به الصلاة.

لكن في الجواهر قرب أن مقتضى إطلاق النصوص والفتاوى عدم الفرق. وأنه حينئذ يتعين البناء على العفو عن الأجزاء غير النجسة إذا كانت فيما لا تتم به الصلاة بمفهوم الموافقة.

ص: 198

(199) نعم لا يعفى عنه إذا كان متخذاً من نجس العين (1).

ولعل مراده بمفهوم الموافقة الأولوية القطعية. وإلا فمفهوم الموافقة مبني على ظهور الكلام في ثبوت الحكم في مورد المفهوم بسبب وضوح أولويته عند العرف، ولذا عدّ من الظهورات، ولا يظن به (قدس سره) الالتزام بذلك في المقام.

وكيف كان فلا مجال للتعويل على إطلاق النصوص بعد ما سبق، ولا على إطلاق الفتاوى بعد استثنائهم ما نحن فيه من عموم مانعية النجاسة، حيث يصعب معه البناء على عموم فتاواهم للعفو من جهة أخرى. ولعل عدم استثنائهم نجاسة ما لا يوكل لحمله لغفلتهم عن ذلك، لا لبنائهم على العموم.

كما أن جعل إطلاق نصوص المقام - لو تم - منشأ للبناء على العفو عن الأجزاء غير النجسة، بضميمة الأولوية أو مفهوم الموافقة، ليس بأولى من جعل عموم مانعية ما لا يؤكل لحمه للأجزاء الطاهرة منشأ للبناء على عدم العفو في المقام، حملاً لإطلاق دليل العفو على غير نجاسة ما لا يؤكل لحمه، بضميمة الأولوية أو مفهوم الموافقة المذكورين. فلاحظ.

(1) لاختصاص نصوص المقام بالمتنجس، كما يظهر بملاحظتها. فلا مخرج عن عموم مانعية النجاسة. ولخصوص ما تضمن النهي عن الصلاة في الميتة، كصحيح ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الميتة: «قال: لا تصل في شيء منه ولا شسع»(1) ، وما تضمن النهي عن الصلاة في الخفّ إذا كان ميتة وفي السيف إذا كان فيه الميتة(2).

نعم في موثق الحلبي - بناء على ما سبق في مبحث الماء المستعمل من وثاقة أحمد بن هلال - عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 1 من أبواب لباس المصلي حديث: 2.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات.

ص: 199

بالصلاة فيه، مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخفّ والزنار(1) يكون في السراويل ويصلى فيه»(2). ومقتضاه إطلاق جواز الصلاة فيما لا تتم الصلاة به وإن كان من الميتة - كالخفّ - أو من الإبريسم أو غيرهما من موانع الصلاة.

وفي صحيح إسماعيل ابن الفضل: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لباس الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلين. فقال: أما النعال والخفاف فلا بأس بهما»(3). وهو ظاهر في أن السؤال من حيثية عدم التذكية، لعدم إحرازها، أو للعلم بعدمها فيما لم يكن من بلاد الإسلام، لا من حيثية النجاسة العرضية، لعدم اختصاص النجاسة العرضية بالأمور المذكورة في السؤال، وعدم إطلاق المانعية بسببها، بل تختص بحال عدم التطهير. وحيث لا يحتمل الفرق بين الخفاف والنعال وبقية الجلود الملبوسة في السؤال في إحراز التذكية تعين ابتناء الفرق بينهما وبينها على جواز الصلاة في الميتة إذا كانت مما لا تتم به الصلاة.

لكن الأول لا يخلو عن إجمال، لأنه وإن كان ظاهراً في خصوصية ما لا تتم الصلاة فيه في ارتفاع المانعية من الصلاة إلا أن جهة المانعية غير مبينة فيه، وعدم التعرض لها قد يكون ظاهراً في العموم لو لم تقيد التكة فيها بالابريسم. أما مع تقييدها بذلك فقد يكون ظاهراً في إرادة المانعية من جهته لا غير في جميع الأمثلة حتى الخف الذي قد يتخذه بعض المترفين من الابريسم، ولو بأن يكون وجهه الظاهر منه. ولا أقل من كون المتيقن منه ذلك بنحو يمنع من ظهوره في العموم. على أنه لو فرض ظهوره في العموم فهو من سنخ المطلق القابل للتقييد بغير الميتة، بقرينة النصوص السابقة.

وأما الثاني فقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن جواز الصلاة فيه قد يكون للشك

********

(1) الزنار: ما يشد به الوسط.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 14 من أبواب لباس المصلي حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 200

في تذكيته، حيث إن استصحاب عدم التذكية وإن أحرز عدم التذكية، إلا أنه لا يحرز أنه ميتة، وما دل على اعتبار التذكية إنما دل عليه فيما تتم به الصلاة، أما فيما لا تتم به الصلاة فإنما دل الدليل مانعية الميتة لا غير.

وهو مبني على ما سبق منه في المسألة السابعة من الفصل السابق من أن الميتة عنوان وجودي لا يكفي في إحرازه استصحاب عدم التذكية. وقد سبق منا المنع من ذلك.

على أنه يمكن استفادة اعتبار التذكية في ما لا تتم به الصلاة من بعض النصوص كصحيح البزنطي عن الرضا (عليه السلام): «سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه وهولا يدري، أيصلي فيه؟ قال: نعم»(1) ونحوه خبر الحسن بن الجهم(2). لظهورهما في مفروغية السائل عن اعتبار التذكية في جواز الصلاة في الخف.

مضافاً إلى أن أدلة العفو فيما لا يؤكل لحمه ظاهرة في الاستثناء من عموم المانعية أو الشرطية الذي هو المرجع في غيره، فإذا كانت الميتة مانعة في غيره لم تكن مانعة فيه، وإذا كانت التذكية شرطاً في غيره لم تكن شرطاً فيه. واحتمال استثنائه من شرطية التذكية وثبوت مانعية الميتة فيه بعيد جداً بعد كون الفرق بينهما - لو تم - مفهومياً لا مصداقياً.

ومن هنا كان الظاهر اتحاد مورد الصحيح مع مورد النصوص السابقة. وحملها لأجله على الكراهة بعيد جداً مع كثرتها، وكون المنساق منها ابتناء المنع فيما لا تتم به الصلاة على عموم مانعية الميتة في الصلاة المبنية على الإلزام. بل هو كالصريح من صحيح ابن أبي عمير المتقدم.

ومثله حمله لأجلها على كون منشأ السؤال فيه هو العلم بالنجاسة العرضية. فإنه - مع بعده عن ظاهر النصوص، لما سبق - لا يناسب المورد، حيث يبعد جداً إحراز التذكية في الجلود المصنوعة في غير بلاد الإسلام، خصوصاً في تلك الأيام.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 6، 9.

ص: 201

(202) (مسألة 62): الأحوط وجوباً عدم العفو عن المحمول المتخذ من نجس العين (1)،

ولا أقل من تساقط كلتا الطائفتين بالمعارضة، والرجوع لعموم مانعية

النجاسة. فلاحظ.

(1) ففي المبسوط والسرائر وجواهر القاضي والجامع والمختلف ونهاية الأحكام وعن الإصباح والموجز وظاهر البيان أنه لو حمل قارورة مشدودة الرأس فيها نجاسة فسدت الصلاة.

وقد يستدل لهم بصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يمرّ بالمكان فيه العذرة، فتهب الريح فتسفي عليه من العذرة فيصيب ثوبه ورأسه يصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال: نعم ينفضه ويصلي فيه، فلا بأس»(1) بدعوى: ظهوره في وجوب نفض العذرة عن الثوب وإن لم تنجسه. وصحيحه الآخر: «سألته عن الرجل يصلي ومعه دبة من جلد الحمار أو بغل قال: لا يصلح أن يصلي وهو معه، إلا أن يتخوف عليها ذهابها فلا بأس أن يصلي وهي معه»(2). وقريب منه صحيحه الآخر(3) ، أو هو عينه.

وصحيح الحميري: «كتبت إليه يعني أبا محمد (عليه السلام): يجوز للرجل أن يصلي ومعه فارة المسك؟ فكتب: لا بأس به إذا كان ذكياً»(4).

لكن ذكر النفض في الأول لما لم يرد ابتداءً، بل لبيان عدم وجوب الغسل أشكل ظهوره في الوجوب، بل لعله لأجل التخلص من القذر الذي يهتم به الإنسان، خصوصاً المتدين الذي يهتم بطهارة بدنه وثيابه، لأن بقاءه يوجب نجاستهما لو ابتلي بالرطوبة. مضافاً إلى ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من اختصاصه بالأعيان الملتصقة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 60 من أبواب النجاسات حديث: 2، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 60 من أبواب النجاسات حديث: 2، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 41 من أبواب لباس المصلي حديث: 2.

ص: 202

ببدن المصلي ولباسه، على نحو تعد كجزء منه، ولا يشمل المحمول المحض، كالقارورة في كلماتهم.

وأما صحيحا ابن جعفر فهما غير ظاهرين في الميتة. ولعل الوجه في السؤال فيهما النهي عن أكل لحم الحمار والبغل، حيث قد يتوهم بسببه المانعية من الصلاة، إما لتوهم كون النهي تحريمياً، أو لتوهم عموم المانعية لكراهة الأكل.

نعم أثبت شيخنا الأعظم (قدس سره) أحدهما هكذا: «من جلد حمار ميت». لكن لم يتضح مأخذه، بل الظاهر أنه اشتباه.

ودعوى: أن النهي فيهما عن حمل الدبة في الصلاة ملزم بحملهما على الميتة بعد ما هو المعلوم من عدم حرمة أكل لحم الحمار والبغل، وعدم مانعية أجزائهما من الصلاة.

مدفوعة بأن ذلك لا يصلح قرينة على الحمل المذكور، بحيث ينهضان بالاستدلال على المدعى. ولاسيما مع تضمن جملة من النصوص الأمر بغسل الثوب من بولهما، المناسب للنهي عن أكلهما، كالمقام.

هذا مضافاً إلى أن الصحيحين غير ظاهرين في التحريم، لأن التعبير بأنه لا يصلح، والترخيص مع خوف ذهابها، مناسبان للكراهة جداً.

فلم يبق إلا صحيح الحميري. فإن كان مرجع الضمير في قوله: «فإن كان ذكياً» هو الفارة دل على مانعية حمل الميتة لا غير، وإن كان مرجعه المسك دل على مانعية المسك أيضاً، ويتعدى لغيره من النجاسات بعدم الفصل. ومساق السؤال يناسب الأول، وتذكير الضمير يناسب الثاني. لكن ملازمة نجاسة المسك لنجاسة الفأرة تقتضي استهجان الثاني، لما فيه من الخروج عن مساق السؤال من دون فائدة. ومن ثم كان الأظهر الأول. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال على العموم. فلاحظ.

هذا وقد استشكل سيدنا المصنف (قدس سره) في النصوص المذكورة لو تمت دلالتها على المانعية بالمعارضة بما اشتمل من نصوص العفو عما لا تتم به الصلاة على مثل

ص: 203

(204) وكذا المتنجس إذا كان مما تتم به الصلاة (1).

قوله (عليه السلام): «عليه الشيء» أو: «فيه القذر» مما هو ظاهر في وجود عين النجاسة. قال: «والاختلاف في المورد لا يقدح في تحقق المعارضة لإلغاء خصوصية المورد عرفاً، فإن الجمود في كلٍّ على مورده بعيد عن الأذواق العرفية».

لكنه إنما يتجه في صحيح ابن جعفر الأول، لأن النجاسة فيه من توابع الثوب، كالنجاسة في نصوص العفو، وإن اختلفا في كونها منجسة فيها غير منجسة فيه. أما بقية نصوص المقام فاختلافها عن نصوص العفو باستقلال النجاسة بنفسها وعد تبعيتها للمحول مانع من التعارض بين الطائفتين، وملزم بحمل كل منهما على مورده، فيعفى عن النجاسة المحمولة إذا كانت تابعة لغيرها، ولا يعفى عنها إذا كانت مستقلة بنفسها.

فالعمدة ما عرفت من عدم تمامية دلالة النصوص المتقدمة عدا صحيح الحميري، وقد سبق أن المتيقن منه مانعية الميتة، ولا مجال للتعدي لغيرها.

(1) كما هو مقتضى من قصر العفو عما لا تتم به الصلاة على اللباس في السرائر وعن جماعة، فإن عدم العفو عن المحمول إذا كان مما لا تتم به الصلاة يقتضي عدم العفو عنه إذا كان مما تتم به الصلاة بالأولوية.

وكيف كان فالوجه فيه عموم عدم صحة الصلاة في النجاسة المستفاد من مجموع النصوص الواردة في الثوب والبدن، المؤيدة أو المعتضدة بخبر خيران الخادم: «كتبت إلى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير، أيصلي فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا، فقال بعضهم: صلّ فيه، فإن الله إنما حرم شربها وقال بعضهم: لا تصل فيه فكتب: لا تصلّ فيه، فإنه رجس»(1) وقول أبي عبد الله (عليه السلام) في خبر موسى بن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 204

أكيل: «لا تجوز الصلاة في شيء من الحديد، فإنه نجس ممسوخ»(1). فإن مقتضى عموم التعليل فيهما عدم جواز الصلاة في النجس.

اللهم إلا أن يقال: لما كان منصرف نصوص الثوب هو الثوب الملبوس دون المحمول، فالمستفاد من مجموع نصوص الثوب والبدن هو عموم مانعية نجاسة البدن واللباس، لا ما يعم المحمول.

وخبر خيران إنما يدل على العموم المدعى لو كان المراد منه: لا تصل في الخمر فإنه رجس، أو لا تصل في الثوب فإنه رجس، أما لو كان المراد منه: لا تصل في الثوب فإن الخمر رجس فهو إنما يدل على عموم النهي عن الصلاة في الثوب الذي يصيبه النجس، لا عموم الصلاة في النجس وإن لم يكن ثوباً.

ولعل ذلك هو الأقرب بلحاظ أن موضوع السؤال هو الثوب، وأن إرجاع الرجس للخمر هو المناسب لوصفها بذلك في الكتاب المجيد، ولوروده للردع عن التعليل المشار إليه في قول بعض أصحابنا: «فإن الله إنما حرم شربها». ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال على العموم المدعى.

وخبر موسى بن أكيل - مع ضعفه في نفسه - لما كان محمولاً على الكراهة، لعدم الإشكال في طهارة الحديد، وجواز الصلاة فيه، لم ينهض دليلاً في المقام، لأن البناء على كون الكبرى المستفادة من التعليل إلزامية، وأن التسامح في تطبيقها هو المنشأ للكراهة، ليس بأولى من البناء على أن الكبرى المذكورة غير إلزامية مع كون تطبيقها حقيقياً.

نعم قد يستفاد العموم المذكور مما تضمن العفو عن الصلاة في النجس إذا كان مما لا تتم به الصلاة، لأن مقتضى مفهومه عدم العفو عنه إذا كان مما تتم به الصلاة.

لكن استشكل في الاستدلال به غير واحد بأن ظرفية النجس للصلاة لما لم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 32 من أبواب لباس المصلي حديث: 6.

ص: 205

تكن حقيقية، لعدم كونها زمانية ولا مكانية تعين حملها على التوسع بإرادة الظرفية للمصلي، وذلك إنما يتم في مثل اللباس مما يكون مشتملاً على المصلي، ولو على بعضه - كالخاتم والقلنسوة - دون المحمول المحض الذي هو محل الكلام.

نعم ورد في النصوص التعبير بالصلاة في السيف(1) في أجزاء ما لا يوكل لحمه ولو مثل الروث والشعر(2) ونحوه مما لا مجال للظرفية فيه حتى بلحاظ المصلي، فيتعين رفع اليد عن ظهور (في) في جميع ذلك في الظرفية، وحملها على معنى (مع). إلا أنه لا ملزم بذلك في المقام بعد إمكان المحافظة على الظرفية بالاقتصار على اللباس ونحوه.

ويندفع بأنه لا مجال لتوهم كون الملحوظ في المقام الظرفية للمصلي، لاستهجان التصريح بظرفية جملة من الملبوسات له، فلا يصح أن يقال: صلى زيد وهو في خاتمه أو في قلنسوته أو في جوربه أو في سراويله أو نحو ذلك مما لا يكون الملبوس مشتملاً على تمام البدن أو أكثره. ولابد حينئذ من كون الظرفية زمانية، يراد بها حال الملابسة بين الشيء والمصلي.

ومقتضى الإطلاق عموم الملابسة وعدم تقييدها باللبس، بل الشمول لمطلق الاستصحاب له وكونه معه، كما يناسبه النصوص التي تقدم الاعتراف بعدم ورودها في الملبوس، وخصوص صحيح عبد الله بن سنان عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: كل ما كان على الإنسان أو معه، مما لا تجوز الصلاة فيه وحده، فلا بأس أن يصلي فيه وإن كان فيه قذر...»(3) ، حيث فرضت فيه الظرفية للصلاة بالإضافة إلى ما كان على الإنسان - وهو الملبوس - وما كان معه، وهو المحمول غير الملبوس. وإرساله إن كان مانعاً من الاستدلال به على الحكم الشرعي فهو غير مانع من الاستدلال به على صحة الاستعمال ولو من غير الإمام (عليه السلام) بنحو يناسب كون الاستعمال المذكور

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 57 من أبواب لباس المصلي.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 2 من أبواب لباس المصلي.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 206

أما إذا كان لا تتم به الصلاة - كالساعة والدراهم والسكين والمنديل ونحوها -

فهو معفو عنه (1).

عرفياً. والالتزام باختلاف مفاد (في) في هذه النصوص عن مفادها نصوص المقام لا يناسب المرتكزات البيانية جداً.

ومن ثم كان عموم نصوص المانعية للمحمول قريباً. ولاسيما مع تأيده بحديث عبد الله بن سنان المتقدم بناء على ما سبق من الاستدلال بالمفهوم، لصراحته في العموم للمحمول. فلاحظ.

(1) كما صرح به غير واحد. والوجه فيه: أنه إن بني على أن الصلاة في النجس لا تصدق على الصلاة مع حمل النجس، فعموم مانعية النجاسة قاصر عنه. وإن بني على أنها تصدق عليها، فعموم العفو عما لا تتم الصلاة به شامل له. والتفكيك بينهما بلا وجه.

مع أن مقتضى حديث عبد الله بن سنان المتقدم عدم الفرق في العفو عما لا تتم به الصلاة بين الملبوس والمحمول. بل قد يدعى أن ما تضمن العفو عما لا تتم الصلاة به لو اختص بالملبوس يقتضي العفو عن المحمول الذي لا تتم الصلاة به بالأولوية، حيث لا يحتمل عرفاً شرطية اللبس في العفو عن النجس.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه يمكن الاستدلال على العفو عنه بإطلاق أدلة العفو عما لا تتم به الصلاة، بدعوى: أنها وإن اختصت بالملبوس، إلا أن مقتضى إطلاقها عموم العفو عنه لحال حمله وعدم لبسه. وحينئذ يتعدى للمحمول الذي ليس من شأنه اللبس - كالسكين - بالقطع بعدم الفرق أو بالأولوية.

وفيه: أن النصوص المذكورة لما كانت واردة مورد العفو فهي ناظرة إلى أدلة المانعية، فإذا كانت أدلة المانعية مختصة بالملبوس - كما بنى هو (قدس سره) عليه، لما سبق - كانت أدلة العفو مختصة به، لأن المستثنى لا يكون أعم من المستثنى منه.

ص: 207

(208) (الرابع): ثوب المربية للطفل (1)، أمّاً كانت أو غيرها كما قيل (2).

(1) كما في النهاية والمبسوط والشرايع وظاهر الفقيه والمقنع وغيرها، بل هو المعروف بين الأصحاب، وادعى جماعة الشهرة فيه بل لا يعرف الخلاف فيه إلا من أصحاب المعالم والمدارك والذخيرة، تبعاً لتردد الأردبيلي فيه.

واستدل له بخبر أبي حفص عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن امرأة ليس لها إلا قميص واحد، ولها مولود، فيبول عليها، كيف تصنع؟ قال: تغسل القميص في اليوم مرة»(1). وضعف سنده منجبر بعمل المشهور به. فتوقف من سبق أو خلافه فيه في غير محله.

(2) كما هو ظاهر التعبير بالمربية في كلام جماعة. بل في التذكرة ونهاية الأحكام والدروس والمسالك وعن جماعة العموم للمربي، لدعوى القطع بعدم الفرق، أو لعموم العلة، وهي المشقة. وكلاهما كما ترى خروج عن المتيقن من النص، بل الظاهر منه، وهو الأم، لأن نسبة الولد والمولود للمرأة ظاهر في ولادتها له. ولا مجال للقطع بعدم الفرق، لاحتمال الاختصاص بالأم، لأنها أدعى للإرفاق والتخفيف لشدة ارتباطها بولدها، وصعوبة تركها له عليها وعليه. كما أن المشقة ليست علة منصوصة، فالتعدي من أجلها أشبه بالقياس.

هذا وعن جماعة الاقتصار على كون الولد ذكراً. وقد يستفاد من التعبير بالصبي في المبسوط والنهاية والشرايع وغيرها، لأنه الظاهر أو المتيقن من لفظ المولود، فيلزم الاقتصار عليه بعد ثبوت الفرق بين بول الذكر والأنثى في كيفية التطهير الكاشف عن الفرق في نحو النجاسة.

لكن الظاهر عموم المولود للأنثى. بل مناسبة وروده مورد التخفيف، بلحاظ الحرج النوعي، موجب للغفلة عن الفرق بينهما، بحيث تلغى خصوصية الذكر عرفاً لو فرض قصور الخبر عن الأنثى، وليس هو ككيفية التطهير التابعة ارتكازاً لنحو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب لباس المصلي حديث: 1.

ص: 208

فإنه معفو عنه إن تنجس ببوله إذا لم يكن عندها غيره (1) بشرط غسله في اليوم والليلة مرة (2)، مخيرة بين ساعاته (3)

النجاسة. ومن ثم كان الأظهر العموم، كما في الدروس والمسالك والروض وعن الذكرى وأكثر المتأخرين. بل في المدارك أنه ينبغي القطع به.

(1) يعني: بحيث تستغني به عن النجس. لما يأتي في آخر المسألة.

(2) كما تضمنه الخبر المتقدم الذي هو دليل المسألة.

هذا ولا يبعد انصراف الخبر إلى صورة صعوبة تحصيل ثوب آخر لها وإن لم تبلغ مرتبة الحرج، لأن قول السائل: «كيف تصنع؟» ظاهر في كون أمرها محيراً، إذ لو تيسر لها الاستغناء عنه وتحصيل ثوب آخر فلزوم تحصيله ارتكازاً مغن عن السؤال عن وظيفتها وهو المناسب لما يأتي من التعدي لمن كان لها أكثر من ثوب واحد مع الحاجة للبس الكل. نعم لو كان بيان حكمها من الإمام (عليه السلام) ابتدائياً أمكن البناء على إطلاقه، وإن أمكن دعوى انصرافه أيضاً.

وكأن هذا هو مراد ما في كشف اللثام من احتمال وجوب تحصيل ثوب آخر عليها مع قدرتها، ولو بالاستعارة أو الاستئجار، وعن المعالم نسبة القول به لجماعة من المتأخرين.

أما لو أريد به الاكتفاء بالقدرة من دون حرج، أو ولو معه، فهو لا يناسب إطلاق الخبر، إذ يكفي في حسن السؤال عن وظيفتها صعوبة المحافظة على طهارة اللباس في جميع الصلوات وإن لم تبلغ مرتبة الحرج.

(3) يعني: بين ساعات اليوم. أما الاختصاص باليوم فلاختصاص الخبر به.

وأما ما في المنتهى ونهاية الأحكام من أن اليوم يطلق على الليل والنهار. فهو في غاية المنع بعد ملاحظة العرف واللغة.

ومثله ما في جامع المقاصد من أن المراد به في المقام ذلك، إما لأنه المعنى

ص: 209

الحقيقي، أو لاستفادته بالتبعية والتغليب. لاندفاعه بأنه بعد ما عرفت من اختصاص اليوم بالنهار فالتبعية والتغليب يحتاجان إلى قرينة. ومجرد وجود صلاة ليلية تقتضي التطهير لا يصلح قرينة على ذلك.

نعم لو كان مراده الاجتزاء بغسل واحد لليوم والليل وإن كان الغسل في النهار اتجه الاستدلال عليه بالخبر من دون حاجة إلى دعوى العموم أو التغليب لأن الأمر بالغسل في اليوم من دون تقيد للغسل في الليل ظاهر في الاجتزاء بغسل النهار له.

وأما التخيير بين ساعات اليوم فهو المصرح به في كلام غير واحد، عملاً بإطلاق الخبر.

لكن قد يقال: إنما يكون للخبر إطلاق إذا كان الأمر بالغسل مرة واحداً وارداً لبيان وجوبها. والظاهر أنه ليس كذلك، بل هو وارد لبيان الاكتفاء بها، وعدم وجوب ما زاد عليها بعد الفراغ عن وجوبها بمقتضى القاعدة. وحينئذ يلزم المبادرة إليها عند الحاجة إليها في اليوم، عملاً بمقتضى القاعدة، لعدم المرخص لتركها حينئذ، ويكتفي بها عما بعدها من موارد الحاجة إليها، كما هو مقتضى الخبر.

ودعوى: أن عدم وجوب ما زاد على الغسلة الواحدة لا يستلزم وجوب المبادرة لها عند الحاجة إليها، لامكان اكتفاء الشارع بالغسل المتأخر. مدفوعة بأنه لا مسوغ لترك المبادرة لها بعد اقتضاء القاعدة وجوبها، وعدم نهوض الخبر بالترخيص في تركها، لعدم تحقق ما يكفي عنها.

ومقتضى ذلك وإن كان هو وجوب غسل الثوب لصلاة الصبح، لو تنجس قبلها، لأنها أول صلاة اليوم، ومبدأ الحاجة للغسل فيه، إلا أن ورود الخبر مورد التخفيف، وصعوبة الغسل لصلاة الصبح، صالحان للقرينية على إرادة الغسل لما بعدها. ولاسيما وأن جفاف الثوب لصلاة الصبح موقوف غالباً على غسله ليلاً، لا في اليوم، كما تضمنه الخبر. فتأمل.

نعم ورود الخبر مورد الاضطرار ولو بلحاظ صعوبة المحافظة على الطهارة في

ص: 210

ولا يتعدى من البول إلى غيره (1)،

تمام الصلوات مناسب لتحريها في وقت الغسل أكثر ما يمكن من الصلوات من دون صعوبة ولا حرج، فتغسله قريباً من وقت الصلاة، وتبادر للصلاة به، وتجمع بين أكثر من صلاة. كل ذلك عملاً بالقاعدة بعد عدم نهوض الخبر بالخروج عنها بقرينة الاضطرار المشار إليها.

وأما ما في جامع المقاصد من أن الظاهر اعتبار كون الغسل في وقت الصلاة، لأن الأمر بالغسل يقتضي الوجوب، ولا وجوب في غير وقت الصلاة.

ففيه - مع ابتنائه على عدم وجوب المقدمة قبل الوقت -: أن وجوب الغسل عند الوقت مع نجاسته فيه لا ينافي جواز تقديمه عليه لبقاء أثره - وهو الطهارة، التي هو الشرط في الصلاة - إلى دخول الوقت.

على أنه تقدم أن الأمر بالغسل مرة ليس وارداً لبيان وجوبه، بل لبيان الاكتفاء بالمرة. وعليه لا مانع من شمول الإطلاق للغسل قبل الوقت، ولاسيما مع تعارف ذلك من أجل أن يجفّ عند الوقت. بل التقيد بعدم الغسل إلا في الوقت يحتاج إلى كلفة لا مجال لحمل الإطلاق عليها.

هذا ولو نجس الطفل ثوبها بعد غسله قبل أداء الصلاة من دون تسامح منها لم يجب إعادة الغسل عملاً بالخبر.

(1) كالغائط، فضلاً عن مثل الدم. وبه صرح غير واحد. لظهور النص في التخفيف من حيثية البول، فيحتاج التخفيف من حيثية غيره لدليل، خصوصاً بعد كون البول أكثر ابتلاء وأشيع، حيث لا يبعد مع ذلك اختصاصه بالتخفيف.

لكن في جامع المقاصد بعد الاعتراف باختصاص الخبر بالبول قال: «وربما كني بالبول عن النجاسة الأخرى، كما هو قاعدة لسان العرب في ارتكاب الكناية فيما يستهجن التصريح به». وظاهره التردد في العموم للغائط، كما هو ظاهر التذكرة

ص: 211

ولا من الثوب إلى البدن (1)، ولا من المربية إلى المربي (2)، ولا من ذات الثوب الواحد إلى ذات الثياب المتعددة (3) مع عدم حاجتها إلى لبسهن جميعاً، وإلا فهي كالثوب الواحد (4).

ونهاية الأحكام والمسالك من جهة الاشتراك في المشقة. بل عن نهاية الأحكام تقريب العموم له أخيراً، وإن لم أجده فيه. بل قد يستفاد العموم من كل من أطلق حكم المربية من دون تقييد بالبول ولعله لذا كان ظاهر كشف اللثام نسبته للأصحاب أو للمشهور.

لكن ضعف الجميع ظاهر، لاحتياج الكناية إلى قرينة، والاشتراك في المشقة ممنوع بعد ما سبق من أن الابتلاء بالبول أكثر. مع أنه لا ينفع بعد عدم التعليل بالمشقة في الخبر.

(1) كما هو ظاهر اقتصارهم على الثوب، تبعاً للخبر. لكن في كشف اللثام: «ومن المتأخرين من حمل البدن على الثوب بادعاء اشتراك المشقة». وربما علل أيضاً بعدم التنبيه له في النص مع غلبة الابتلاء به.

ويظهر ضعف الأول مما سبق. وأما الثاني فيندفع بظهور السؤال في الخبر في خصوصية الثوب بالاهتمام. ولعله لأنه أكثر تنجساً، ولصعوبة تطهيره عند كل صلاة، بخلاف البدن، ولا مجال مع ذلك لفهم العفو عنه من الخبر، ولاسيما أن مقتضى الوجه المذكور العفو عنه مطلقاً، بحيث لا يحتاج لتطهيره حتى مرة واحدة. فلاحظ.

(2) كما تقدم عند الكلام في العموم لغير الأم.

(3) كما صرح به غير واحد، ولعله ظاهر الباقين. اقتصاراً على مورد النص.

(4) كما صرح به غير واحد. لفهم عدم الخصوصية للثوب الواحد حينئذ. وهو مناسب لما سبق منّا من قصر الحكم في الثوب الواحد على صورة صعوبة الاستغناء عنه بغيره كما أشرنا إليه هناك.

ص: 212

الفصل الرابع: في المطهرات

(213) (213) وهي أمور:

(الأول): الماء (1)، وهو مطهر لكل متنجس يغسل به (2)

(1) تقدم في أول مبحث المياه الوجه في عموم مطهرية الماء لجميع أفراده والدليل عليه.

(2) الظاهر عدم الإشكال في ذلك بينهم. ويقتضيه - مضافاً إلى مرتكزات المتشرعة - النصوص الكثيرة الواردة في النجاسات في الموارد المتفرقة، بضميمة فهم عدم الخصوصية لمواردها، بعد ارتكاز ابتناء التطهير فيها على مطهرية الماء - التي هي في نفسها ارتكازية، وقد تضمنتها الأدلة - التي لا يفرق فيها بين الموارد.

بل في معتبر مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: «قال جابر بن عبد الله: إن دباغة الصوف والشعر غسله بالماء، وأي شيء يكون أطهر من الماء؟!»(1) فإن تعليل طهارة الصوف بغسله بالماء بمطهرية الماء ظاهر في المفروغية عن عموم مطهرية الماء للمتنجسات.

ولا يقدح في الاستدلال نسبة الحديث لجابر بن عبد الله. لظهور حكايته (عليه السلام) لكلامه في إمضائه وتقريره. بل لا يبعد كون التعليل للإمام (عليه السلام) لتأكيد كلام جابر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 213

وتقريره.

هذا مضافاً إلى ما نبه له سيدنا المصنف (قدس سره) من الاستدلال بمثل قوله (عليه السلام) في موثق عمار الوارد فيمن يجد في إنائه فأرة ميتة وقد استعمل من ذلك الماء: «فعليه أن يغسل ثيابه، ويغسل كلما أصابه ذلك الماء»(1). لظهوره في عموم مطهرية الغسل بالماء لكل ما يصيبه الماء النجس مما يقبل الغسل. وهو وإن ورد في نجاسة خاصة، إلا أنه يمكن التعدي عنها بإلغاء خصوصية المورد عرفاً، أو بالإجماع، كما قد يدعى.

وقد استدل (قدس سره) أيضاً بما تضمن طهورية الماء، كالنبوي: «خلق الله الماء طهوراً»(2). بدعوى: أن مقتضى إطلاقه المقامي الإيكال في كيفية التطهير للعرف، وعلى ذلك يتعين البناء على مطهرية الماء لكل متنجس يرى العرف قابليته لأن يطهر بالماء.

وما ذكره (قدس سره) متين جداً، لولا عدم العثور على دليل لطهورية الماء وارد في مقام البيان، ليكون له الإطلاق المقامي المذكور. والنبوي الذي ذكره (قدس سره) لم يثبت بوجه ينهض بالاستدلال، كما ذكرناه في مسألة طهارة الماء في أول مبحث المياه. وذكرنا في مسألة مطهرية الماء المطلق بعض النصوص الأخر التي لا تنهض بالعموم المذكور أيضاً.

نعم قد يستظهر ذلك من صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن ماء البحر أطهور هو؟ قال: نعم»(3) ونحوه معتبر أبي بكر الحضرمي(4). فإن إطلاقهما المقامي تام في إفادة طهورية ماء البحر، ويمكن التعدي عنه لغير ماء البحر بالعلم بعدم الفرق.

اللهم إلا أن يقال: يظهر منهما ومن غيرهما أن في ماء البحر ما يوجب احتمال

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 2.

ص: 214

على نحو يستولي على المحل النجس (1). بل يطهر الماء النجس على تفصيل تقدم في أحكام المياه (2). نعم لا يطهّر المضاف في حال كونه مضافاً (3).

عدم طهوريته، وأن النصوص المذكورة واردة لدفع ذلك، وبيان أنه طهور كسائر أفراد الماء، من دون أن تكون واردة لبيان طهوريته ابتداءً، ليكون مقتضى الإطلاق المقامي عموم طهوريته، ويتعدى منه لغيره من أفراد الماء. فتأمل جيداً.

(1) لأن ذلك هو المعيار في مطهرية الماء حسب المرتكزات العرفية. فهو يحمل النجاسة عن الموضع باستيلائه عليه، ويخرجها عنه بانفصاله عنه، كما يحمل القذر العرفي ويخرجه عن الموضع باستيلائه عليه وانفصاله عنه. ولا دليل على مطهرية الماء في غير ذلك.

أما الإطلاق المقامي فظاهر. وأما النصوص الواردة في أبواب النجاسات المتفرقة، فلأن مواردها مختصة بما يغسل ويستولي الماء فيه على الموضع النجس، والتعدي منها عرفاً إنما يكون إلى ما هو مثلها في ذلك.

وكذا التعليل في معتبر مسعدة بن صدقة، لوضوح أنه وإن ابتنى على عموم مطهرية الماء، إلا أن المتيقن من العموم المذكور هو العموم لموارد الغسل التي منها مورد الخبر، وهو الصوف والشعر.

(2) في المسألة العشرين من الفصل الثاني. لكن الظاهر أن مطهريته له ليس على حد مطهريته للمتنجسات في كونه مزيلاً لنجاستها ارتكازاً، لعدم استيلائه على المحل النجس، نظير ما يأتي في الماء المضاف والمايعات، بل من باب السراية، وغلبة حكم الماء الطاهر على حكم الماء النجس، كما أشرنا إليه هناك.

(3) فإن خرج عن الإضافة للإطلاق طهر كما يطهر الماء النجس. وإن خرج عنه بالاستهلاك فلا موضوع معه عرفاً للنجاسة ولا للطهارة، وإسناد الطهارة إليه حينئذ مبني على التسامح.

ص: 215

(216) وكذا غيره من المائعات (1).

(مسألة 1): يعتبر في التطهير بالقليل انفصال ماء الغسالة (2)

(1) فإنها لا تطهر بالاتصال من دون امتزاج بالماء الطاهر وإن كان معتصماً، لعدم استيلاء الماء الطاهر على المحل النجس، الذي سبق أنه الشرط في تطهير المتنجس، والاكتفاء به في الماء المطلق النجس إنما هو لدليل يخصه، ولا يعم بقية المايعات. بل حتى مع الامتزاج، لعدم كفايته في الاستيلاء والانفصال الذين يتوقف عليهما حمل النجاسة وإخراجها عن المحل النجس.

نعم إذا بلغ الامتزاج حداً استهلك به المايع في الماء المعتصم اتجهت الطهارة حينئذ، كما سبق في المضاف. وربما يرجع إليه ما ذكروه من طهارة المضاف بإلقاء الكر عليه إذا لم يخرجه عن الإطلاق، على كلام لهم لا يسعنا استقصاؤه. وإلا فالإشكال عليه ظاهر مما سبق.

وأشكل من ذلك ما عن العلامة في محكي التذكرة قال: «لو طرح الدهن في ماء كثير وحركه حتى تخلل الماء أجزاء الدهن بأسرها طهر». لوضوح أن الماء لا يستولى على أجزاء الدهن ولا تستهلك فيه.

ولعله لذا اعتبر في العروة الوثقى كون الكرّ حاراً. لكنه لا يوجب أيضاً الاستيلاء على تمام الأجزاء حقيقة ولا عرفاً، فالمتعين بقاؤه على النجاسة. وهو ظاهر ما تضمن إلقاء الزيت والسمن إذا ماتت فيهما فأرة(1). حيث يظهر منه عدم صلوحهما للانتفاع، لتعذر تطهيرهما. كما أشار إلى ذلك سيدنا المصنف (قدس سره).

(2) كما ذكره غير واحد، بل يظهر عدم الخلاف فيه مما يأتي في العصر. وقد استدل عليه بعض مشايخنا (قدس سره) بأخذ الانفصال في مفهوم الغسل الذي تضمنته أدلة التطهير. وكأنه يبتني على تقوّم الغسل بالجريان، كما قد يستفاد من الأصحاب

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 216

(رضوان الله تعالى عليهم)، على ما سبق في أول مبحث الوضوء.

لكن سبق هناك المنع من ذلك، خصوصاً لو أريد من الجريان - كما يظهر من بعضهم - ما يعم انتقال الأجزاء المائية من بعض أجزاء الجسم لآخر بمعونة اليد ولو بمثل الدهن الذي تضمنته بعض نصوص الوضوء والغسل(1). للقطع بعدم صدق الغسل بذلك. بل يظهر من جملة من النصوص التباين بين الغسل والصب(2) وإن تحقق به الجريان بنفسه بسبب كثرته.

ومن ثم كان الظاهر تقوم الغسل باستيلاء الماء بنحو من التعمق والكثرة، بحيث يزال به الوسخ والقذر بدَلك وفرك ونحوهما وإن لم ينفصل الماء، على ما يأتي توضيحه.

هذا مضافاً إلى أن مرادهم من الجريان المقوم للغسل ليس هو ما يساوق انفصال ماء الغسالة، بل مجرد انتقال الماء عن أجزاء الجسم المتنجس. ويكفي في ذلك تردد الماء بين أجزاء المتنجس من دون أن تنفصل عنها، نظير تردده بين أجزاء الإناء مع استقراره فيه. ولذا لا إشكال في الاجتزاء في الغسل المعتبر في الطهارة من الحدث بالغسل الارتماسي غير المتوقف على انفصال ماء الغسل.

على أن جملة من أدلة التطهير لم تتضمن الغسل بل الصب، ولا مجال لإرجاع أحدهما للآخر بعد ما سبق من ظهور النصوص في التقابل بينهما.

وأما ما ذكره (قدس سره) من أن الغسل إنما يتوقف على انفصال ماء الغسالة في الأجسام التي يرسب فيها الماء، كالثياب والفراش، دون ما لا يرسب فيه - كالجسد - الذي هو مورد نصوص الصب، بل يكفي في صدق الغسل فيها وصول الماء إليها. فهو غير واضح المنشأ. على أنه يبقى إطلاق لزوم انفصال ماء الغسالة في الغسل بالماء

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 7، وباب: 31 منها حديث: 2، وباب: 52 منها حديث: 1، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 4، 5، وباب: 3 منها حديث: 2.

ص: 217

القليل - من دون قصر له على ما يرسب فيه الماء - خالياً عن الدليل في كلامه (قدس سره).

هذا ولا ينبغي التأمل في لزوم انفصال ماء الغسالة بناء على نجاسته، فإن نجاسته تمنع من الانتفاع بالجسم المغسول المتصل به وإن طهر. بل يصعب جداً البناء على طهارة المغسول في نفسه حينئذ، فإنه وإن صدق الغسل والصب مع عدم انفصاله، إلا أن ارتكاز تفرع مطهرية الغسل والصب على مطهرية الماء الارتكازية موجب لانصراف الغسل والصب في أدلة التطهير إلى ما يكون بالوجه الذي يترتب عليه الطهارة والنظافة ارتكازاً، بحيث يزول به عرفاً الاستقذار عن الجسم الذي يراد تطهيره وتنظيفه، وحيث كان الماء المطهر حاملاً لخبث المغسول النجس يبقى المغسول مستخبثاً ومستقذراً مادام الماس الحامل لقذره متصلاً به، ولا يزول استقذاره واستخباثه إلا بانفصاله عنه حاملاً لخبثه وقذره. ومن ثم ينصرف إطلاق الغسل والصب في أدلة التطهير إلى خصوص صورة انفصال الماء، كما هو المتعارف.

وبعبارة أخرى: التعارف إنما لا يصلح لتقييد الإطلاق إذا لم يكن مبتنياً على جهة ارتكازية في العموم. وإلا كان مانعاً من ظهور الإطلاق في العموم ولا أقل من إجماله حينئذ، فيلزم الرجوع للأصل، وهو في المقام استصحاب النجاسة.

أما بناءً على طهارة ماء الغسالة مطلقاً أو خصوص الغسلة التي يتعقبها طهارة المحل فيشكل انصراف الإطلاق لصورة الانفصال، لأن الجهة الارتكازية المتقدمة مبتنية على حمل الماء المطهر والمنظف للقذر والخبث. أما مع فرض طهارته، وعدم حمله لشيء من ذلك، فلا منشأ لاعتبار انفصاله عرفاً، فلا موجب لانصراف الإطلاق إلا مجرد التعارف والغلبة، وقد تكرر عدم نهوضهما بتقييد الإطلاق.

ودعوى: أن ذلك إنما يتجه لو كانت طهارة ماء الغسالة ارتكازية، أما إذا كانت تعبدية فهي لا تنافي انصراف الإطلاق الوارد في مقام التطهير بسبب الجهة الارتكازية المتقدمة.

مدفوعة بأن الجهة الارتكازية المتقدمة حيث كانت مبنية على ارتكاز نجاسة

ص: 218

على النحو المتعارف (1)، فإذا كان المتنجس مما ينفذ فيه الماء مثل الثوب

ماء الغسالة فدليل طهارة ماء الغسالة - لو تم - كما يكون رادعاً عن ارتكاز نجاسته يكون رادعاً عن الجهة الارتكازية المتقدمة المبتنية عليها، ورافعاً لموضوعها.

نعم قد تضمن موثق عمار الوارد في غسل الإناء الأمر بإفراغ الإناء من ماء الغسالة(1) ، حيث قال (عليه السلام): «ثم يفرغ منه وقد طهر». وهو ظاهر في توقف التطهير على تمام الكيفية المذكورة في الموثق ومنها الإفراغ، فقد يتعدى منه لغير الإناء وحينئذ قد ينهض دليلاً في المقام حتى بناء على طهارة ماء الغسالة.

لكن الموثق المذكور من أدلة نجاسة ماء الغسالة، كما سبق في محله من مباحث المياه، فلابد بناء على طهارة ماء الغسالة من رفع اليد عنه. اللهم إلا أن يقال: يكفي في رفع اليد عنه حمله على عدم كون الإفراغ من أجل نجاسته من دون أن ينافي ظهوره في توقف طهارة الإناء على الإفراغ.

وأما ما في صحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصبي يبول على الثوب قال: تصب عليه الماء قليلاً ثم تعصره»(2) فالاستدلال به على اعتبار انفصال ماء الغسالة مبني على إبقائه على ظاهره من وجوب العصر. وهو ما يأتي الكلام فيه في المسألة الحادية عشرة إن شاء الله تعالى.

(1) من زوال معظم الماء. ولا يضر تخلف شيء منه لازم عادة للصب والغسل. عملاً بإطلاق دليل الصب والغسل من دون أن تصلح الجهة الارتكازية المتقدمة للردع عنه، لعدم مانعية بقاء المقدار المذكور من زوال الاستقذار العرفي. بل سبق في مبحث نجاسة ماء الغسالة استثناء المتخلف والبناء على طهارته. بل هو المفروغ عنه بينهم. ومعه لا موضوع للاستقذار المذكور، كما تقدم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 219

(220) والفراش فلابد من عصره (1) أو غمزه بكفه أو رجله (2). والأحوط وجوباً عدم الاكتفاء عن العصر بتوالي الصب عليه إلى أن يعلم بانفصال الأول (3). وإن كان مثل الصابون، والطين، والخزف، والخشب، ونحوها

(1) يعني: مع فصله عن ماء الغسالة المتجمع بعد العصر، وتكون فائدة العصر التخلص مما يحمل الجسم النجس في أعماقه بسبب نفوذ الماء فيه.

(2) لانفصال ماء الغسالة بهما كما ينفصل بالعصر. وربما قيل بلزوم الاقتصار على العصر، وعن وسائل البغدادي: «لا يكاد يعرف في ذلك خلاف»، بل ربما أدعي الإجماع عليه. لكن التأمل في كلام جملة منهم شاهد بعدم خصوصية العصر في ذلك. بل لا ينبغي التأمل فيه بعد القطع بإمكان تطهير ما لا يمكن عصره كالبسط الكبيرة والفرش المبطنة بالصوف الكثير والفرش.

ومنه يظهر لزوم الخروج عما قد يستفاد منه خصوصية العصر، كصحيح الحسين بن أبي العلاء المتقدم، فيلزم حمله على ما يعم هذه الأمور. أو يقتصر فيه على مورده مما يقبل العصر.

ومثله دعوى توقف صدق الغسل على العصر. إذ لا ريب في صدق الغسل فيما لا يمكن عصره مما تقدم. على أنه لا مجال لدعوى أخذ انفصال ماء الغسالة ولو بغير العصر في مفهوم الغسل بعدما تقدم في حقيقة الغسل.

(3) كأنه لظهور كلماتهم في توقف التطهير فيما ينفذ فيه الماء على العصر ونحوه بنحو يصعب تنزيلها على ما يعم ذلك. أو لتوقف صدق الغسل على العصر ونحوه مما لا يشمل ذلك.

لكن في صلوح كلماتهم - مع اضطرابها - لأن تكون إجماعاً ينهض بالاستدلال إشكال، بل منع. كما أنه سبق عدم توقف صدق الغسل على انفصال ماء الغسالة، فضلاً عن توقفه على خصوص العصر ونحوه، وأن انفصال ماء الغسالة إنما هو

ص: 220

لنجاسته، بضميمة ارتكاز عدم مطهرية المطهر الذي يحمل الخبث إلا بانفصاله. ولموثق عمار المتقدم.

والأول يقتضي الاكتفاء بانفصال ماء الغسالة بأي وجه اتفق، ولو بالوجه الذي هو محل الكلام، كما اعترف به (قدس سره). والثاني مختص بالإناء الذي لا ينفصل عنه ماء الغسالة إلا بالتفريغ، ولا يقبل العصر ولا غيره مما تقدم، حتى ما هو محل الكلام، لأن كثرة صب الماء فيه لا يدفع ماء الغسالة، بل يوجب اختلاط الماء الجديد بماء الغسالة وتنجسه معه.

نعم قد يقال: محل الكلام في المقام الاكتفاء في تطهير ما ينفذ فيه الماء بتوالي صب الماء عليه حتى يعلم بخروج ماء الغسالة من دون فرك أو دلك أو نحوهما مما يبتني على تعميق الماء في الجسم الذي سبق تقوم الغسل به. وحينئذ لا ريب في عدم صدق الغسل بذلك، بل ليس هو إلا من أفراد الصب، غايته أنه ليس صباً لخصوص الماء الذي يحصل به التطهير، بل لما زاد عليه مما يوجب دفعه وإخراجه عن الجسم. ولا دليل على الاكتفاء به بعد اختصاص أدلة الصب بالأجسام الصلبة التي لا ينفذ فيها الماء وببول الصبي، كما يأتي، وتطابق النصوص والفتاوى على لزوم الغسل فيما عدا ذلك. وأما لو أريد الاكتفاء عن العصر بتوالي الصب بعد غسل المتنجس بالمعنى المتقدم، فهو أمر خارج عن محل الكلام راجع إلى اعتبار الفرك ونحوه مما لم يذكره الأصحاب بدلاً عن العصر.

والذي ينبغي أن يقال: أشرنا آنفاً إلى أن الغسل عرفاً متقوم بنحو من تعميق الماء في الجسم المغسول لإزالة القذر والوسخ منه، ويناسب ذلك مقابلته بالصب في جملة من النصوص، إذ لا ريب في أن ما يكفي فيه الصب يمكن غسله، فلو لم يكن الغسل مبتنياً على كلفة زائدة على الصب لم تحسن المقابلة بينهما.

ولاسيما مع تعليل الاكتفاء بالصب بأنه ماء في بعض النصوص منها صحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البول يصيب الجسد. قال: صب

ص: 221

عليه الماء، فإنما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله مرتين. وسألته عن الصبي يبول على الثوب. قال: يصب عليه الماء قليلاً ثم يعصره»(1). ونحوه في ذلك صحيح البزنطي(2).

كما أن ما تضمنه صحيح الحسين من العدول في بول الصبي عن الغسل والتعبير والعصر ظاهر في عدم تحقق الغسل بهما واحتياجه إلى مونة زائدة عليهما، وهو الظاهر من صحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الصبي قال: تصب عليه الماء، فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً»(3) فإنه لو سلم عدم الحاجة للعصر مع عدم أكل الصبي إلا أن المراد بقوله: «فاغسله بالماء غسلاً» ليس هو العصر، وإلا كان التعبير به أخصر وأفيد، بل هو أمر زائد يحتاج لعناية قابل للتأكد أو محتاج للتأكيد، وهو ما ذكرنا.

وكذا موثق عمار الوارد في أواني الخمر، حيث تضمن السؤال عن استعمال الدن والإبريق الذين فيهما الخمر، والجواب بجواز ذلك بعد غسلهما، ثم قال: «وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر. قال: تغسله ثلاث مرات. وسئل أيجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده، ويغسله ثلاث مرات»(4). لقوة ظهوره في توقف غسل الإناء على دلكه بعد صب الماء فيه، بل كون الغسل عين الدلك المذكور.

ودعوى: أن مقتضى عطف الغسل على الدلك التباين بينهما، وحمله على التفسير خلاف الأصل في العطف. مدفوعة بأنه ليس في المقام إلا صب الماء ودلك الإناء، فلو لم يكن الغسل عين الدلك، ولم يكن العطف تفسيرياً، لكان عين الصب المفروض ولم يكن لذكره وجه، بل كان المناسب أن يقول: لا يجزيه حتى يدلكه بيده.

********

(1) الكافي ج 3 ص 55، أورد صدره في وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 4، وذيله في باب: 3 من الأبواب المذكورة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 222

ولاسيما بملاحظة أن السؤال عن الاجتزاء بالصب بعد الأمر بالغسل ظاهر في عدم تحقق غسل الإناء بصب الماء فيه وإفراغه، وأنه أمر آخر يسأل عن الاجتزاء به عنه، كما أن الردع عنه والأمر بالدلك والغسل ظاهر في انحصار التطهير بالغسل الذي ذكر أولاً، المستلزم لكن العطف تفسيرياً.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد الرجوع للمرتكزات الاستعمالية والنصوص المتقدمة في تقوم الغسل بما ذكرنا، وعدم صدقه على مجرد إصابة الماء للجسم ثم انفصاله عنه بعصر ونحوه.

نعم لا ريب في كثرة استعماله في النصوص في مطلق إزالة النجاسة عن الجسم به ولو من دون غسل بالمعنى المذكور، بل بمجرد إصابته له وانفصاله عنه بعصره أو نحوه، بل حتى فيما لا يحتاج للعصر ونحوه من الأجسام التي لا ينفذ فيها الماء بل ينفصل عنها بمجرد إصابته أو بتفريغها منه. كبعض نصوص الاستنجاء من البول(1) ، وبعض النصوص المتضمنة للغسل من بول الصبي الذي كان غير المتغذي بالطعام أظهر أفراده(2). والنصوص المتضمنة لغسل الإناء(3) ، مع التصريح في بعضها بالاكتفاء بصب الماء فيه وتحريكه ثم إفراغه، ولغسل الثوب والبدن بإصابة الميتة(4) والكلب والخنزير(5) ، مع عدم الإشكال ظاهراً في عدم وجوب الدلك فيها... إلى غير ذلك. بل شاع استعماله في الكتاب والسنة في تطهير البدن من الحدث بالماء مع عدم الإشكال في عدم احتياجه للدلك.

وكأن منبى الاستعمالات المذكورة على أن الغسل بالمعنى العرفي المتقدم إنما يراد من أجل إزالة القذر والأثر الذي يحمله المغسول، وحيث كان الغسل بالمعنى

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 26، 28، 31 من أبواب أحكام الخلوة.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 3، وباب: 4 منها حديث: 1.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12، 13، 53، 64 من أبواب النجاسات.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب النجاسات.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12، 13 من أبواب النجاسات.

ص: 223

الأعم محققاً لإزالة النجاسة - في الموارد المذكورة - والحدث، اللذين هما من سنخ القذر الشرعي، صح إطلاق الغسل عليه بلحاظ ذلك، لمشاركته للغسل في إزالته للأثر المرغوب في إزالته.

إذا عرفت هذا فحيث كان الدلك والفرك ونحوهما مما يقوم الغسل بالمعنى العرفي إنما يحتاج إليها لإزالة الأثر الخارجي كان المناسب عدم اعتبارهما في التطهير من النجاسة الشرعية المجردة عن القذر الخارجي في الشيء النجس، بل يكفي فيه وصول الماء المطهر شرعاً لمحلها وانفصاله عنه حاملاً لها، وهو المناسب لإطلاق طهورية الماء.

خصوصاً مع ثبوت الاكتفاء به في التطهير عن الحدث وفي جملة من موارد التطهير من الخبث، وهي التي تضمنت الأدلة فيها الاكتفاء بالصب ونحوه وإن عبر في بعض أدلتها بالغسل أيضاً بنحو يلزم بحمل الغسل فيها على المعنى الأعم.

ولاسيما بملاحظة ما سبق في صحيحي الحسين بن أبي العلاء والبزنطي من تعليل الاكتفاء بصب الماء في تطهير البدن من البول بأنه ماء، فإنه لولا المفروغية عن أنه يكفي في التطهير من النجاسة الشرعية وصول الماء لم يحسن التعليل المذكور.

نعم في مورد علوق الأمر الذي أوجب تنجس الشيء النجس به لابد من إعمال العناية زائداً على وصول الماء بفرك أو دلك أو نحوهما لإزالته.

وذلك كله مطابق للمرتكزات العرفية في التطهير، الصالحة للقرينية على تفسير الغسل في الأدلة بعد ارتكاز أن مطهريته مبنية على مطهرية الماء، وبعد ملاحظة القرائن المتقدمة.

هذا وقد لا يكون للنجاسة أثر محسوس للعرف، ويلزم الشارع بالغسل بالمعنى الأخص فيها، أو يكون لها شيء من الأثر ويكتفي الشارع بوصول الماء فيها والغسل بالمعنى الأعم. وحينئذ يقتصر في ذلك كله على مورد الأدلة.

ص: 224

وعلى أحد الأمرين يحمل التفصيل بين الجسم والثوب في البول، وبين إصابة الثوب ببول الصبي الذي لم يتغذ بالطعام وإصابته ببول غيره.

وقد ظهر من جميع ما سبق أمران:

الأول: أن مقتضى القاعدة الاكتفاء في التطهير من النجاسة الاكتفاء بوصول الماء واحتياج ما زاد عليه للدليل، وأن الفرك والدلك ونحوهما مما يقوم الغسل بالمعنى العرفي إنما يحتاج إليه لإزالة أثر النجاسة ونحوها مما يعلق بالمتنجس، ويتوقف تطهيره على زواله.

الثاني: أن العصر ونحوه غير معتبر في مفهوم الغسل، لا بالمعنى الأخص الذي هو المعنى العرفي له، ولا بالمعنى الأعم الذي يستفاد من جملة من النصوص، وأنه إنما يعتبر في الغسل بالماء القليل من جهة نجاسة ماء الغسالة. ولازم ذلك الاكتفاء بتوالي الصب حتى يزول ماء الغسالة.

وقد يشهد بذلك صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الفراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول كيف يغسل؟ قال: يغسل الظاهر، ثم يصب عليه الماء في المكان الذي أصابه البول حتى يخرج من جانب الفراش الآخر»(1) حيث لا يبعد كون صب الماء من أجل تطهير باطن الفراش من البول النافذ فيه، وخروجه من الجانب الآخر من أجل انفصال ماء الغسالة بتوالي صب الماء من دون حاجة للعصر.

ولعل التفكيك بين الظاهر والباطن في كيفية التطهير من أجل أن البول الذي يصيب ظاهر الفراش الذي هو منسوج يعلق منه به شيء من أثره لا يزول بالصب، بل لابد فيه من الغسل بالمعنى الأخص، أما ما ينفذ من الظاهر للصوف فلا يحتاج للغسل، بل يكفي فيه صب الماء وجريانه فيه، لأنه أرق لتصفيته بالظاهر المنسوج، ولعدم تماسك الصوف فلا يتكثف فيه أثر البول. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 225

(226) مما ينفذ فيه الرطوبة المسرية يطهر ظاهره بإجراء الماء عليه (1). وفي طهارة باطنه تبعاً للظاهر إشكال.

نعم لا يكفي جفاف ماء الغسالة بالهواء أو الحرارة، لعدم زوال الاستخباث والاستقذار معه، فتقصر أدلة التطهير عنه. ولا أقل من إجمالها بالإضافة إليه، الموجب للرجوع للأصل، وهو استصحاب النجاسة، كما تقدم.

(1) قال في الجواهر: «وأما غسلها بالقليل فصريح جماعة من المتأخرين - كظاهر آخرين - عدم حصول الطهارة به، بل في اللوامع نسبته لأكثر معتبري العصر، كما في المعالم إلى المعروف بين متأخري الأصحاب. لنجاسة الغسالة، وتوقف صدق مسمى الغسل بالقليل على العصر وما يقوم مقامه، أو على الانفصال الممتاز به عن الصب».

ومبنى الاستدلال المذكور على عدم انفصال ماء الغسالة بل ينفذ في باطن الأجسام المذكورة، فلا يتم شرط التطهير.

وهو - كما ترى - لا يطرد، بل قد يكون النافذ في باطن الجسم من سنخ الرطوبة غير المسرية مع انفصال ماء الغسالة بالنحو المعتبر في الأجسام الصلبة التي يكفي فيها الصب، فيتعين البناء على حصول التطهير في المقام.

وهو المتيقن من سيرة المتشرعة، حيث لا ريب في شيوع الابتلاء بنجاسة هذه الأمور، وعدم تيسر تطهيرها بالماء الكثير، بل يكتفون بتطهيرها بالقليل. ويؤيده ما ورد في تطهير لقمة الخبز التي وجدت في بيت الخلاء(1). نعم قد تنفذ الرطوبة المسرية بتوالي الصب الموجب لكثرة الماء. لكنه لا يهم لطهارة الماء المذكور.

هذا وأما لو نفذت الرطوبة المسرية من ماء الغسالة، لشدة رخاوة الجسم مع يبسه، فيتجه الوجه المذكور في الاستدلال. ويمكن الجواب عنه بناء على طهارة ماء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 39 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1، 2.

ص: 226

الغسالة وإن قلنا بلزوم انفصاله، لأن المعتبر انفصاله عن الموضع النجس، والمفروض في المقام انفصاله عن الظاهر النجس ونفوذه في الباطن. أما بناء على نجاسته فالانفصال المذكور إنما ينفع في طهارة الظاهر وحده، وهو خارج عن محل كلامهم.

وقد يستدل على طهارة الباطن حينئذ بوجوه:

الأول: أن المتخلف من ماء الغسالة في الأجسام المذكورة لا يزيد على المتخلف في سائر الأجسام، ولا يتجاوز المقدار المعفو عنه.

وفيه: أن المتخلف في سائر الأجسام ليس هو ماء الغسالة محضاً، بل هو إما ماء يخلف ماء الغسالة أو ماء مختلط بماء الغسالة مع انفصال المعظم من ماء الغسالة والمختلط به، أما في المقام فإذا فرض نفوذ شيء من ماء الغسالة لم يخرج، بل يبقى في الباطن، ولا دليل على العفو عنه. ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى زوال الاستقذار عرفاً إذ الاستقذار إنما يزول بزوال ماء الغسالة أو بتخفيفه.

الثاني: السير لشيوع الابتلاء بنجاسة هذه الأمور، وكثيراً ما لا يتيسر تطهيرها بالكثير، بل يطهرونها بالقليل.

وفيه: أنه لم يتضح بناؤهم على تطهيرها في صورة العلم بنفوذ الرطوبة المسرية من ماء الغسالة التي هي محل الكلام والتي لا يتضح شيوعها، والمتيقن من بنائهم على تطهيرها صورة نفوذ الرطوبة غير المسرية أو المسرية من الماء الزائد على ماء الغسالة بتوالي الصب، أو احتمال ذلك ولعل ذلك هو الذي يشيع الابتلاء به.

الثالث: إطلاقات أدلة الغسل الشاملة للأجسام المذكورة.

وفيه: أن الإطلاقات المذكورة - لو تمت - لا تقتضي العفو عن نجاسة ماء الغسالة، ونجاسة الباطن المتنجس به. نعم لو وردت أدلة خاصة في المقام لكشفت عن العفو، دفعاً للغوية. ويأتي الكلام في الأدلة المذكورة.

الرابع: لزوم الضرر أو لزوم العسر والحرج لو انحصر التطهير بالكثير.

ص: 227

وفيه: أنه إن أريد الضرر والحرج الشخصيان فهما إنما يرفعان التكليف، ولا ينهضان بإثبات الحكم الوضعي. وإن أريد الضرر والحرج النوعيان الكاشفان عن سعة الأمر في التطهير، فلم يثبت لزومهما في هذه الصورة، لعدم وضوح شيوع الابتلاء بها، ولعل الأشيع الصورة الأولى، كما سبق. ومن ثم يشكل البناء على حصول التطهير في الفرض.

هذا كله إذا لم تنفذ من النجاسة رطوبة مسرية للباطن، أما مع نفوذها فالأمر أشكل، لتعذر تطهير الباطن، حيث لا يصل إليه غالباً إلا رطوبة لا يصدق عليها ماء مطلق. ولو صدق لم يتحقق الاستيلاء، ولا انفصال ماء الغسالة بالوجه المعتبر في التطهير. ومن ذلك يظهر تعذر تطهيره حتى بالماء الكثير. غاية الأمر أنه قد يتيسر تطهير الظاهر فقط.

نعم إذا كان النافذ للباطن ماء مطلق، لصلابة الجسم مع وجود مسامات دقيقة فيه - كما يكثر في الخزف - أمكن تطهيره بنفوذ الماء فيه وخروجه بسبب تكاثر الصب، خصوصاً إذا جفف قبل التطهير. لكنه خارج عن محل الكلام.

هذا وقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أنه يمكن أن يستفاد امكان التطهير بالقليل والكثير من بعض النصوص منها: نصوص تطهير الأواني، على اختلاف عناوينها من قدح أو إناء أو دِنّ أو كوز أو ظرف، فإن إطلاق الاجتزاء في حصول الطهارة بمجرد الغسل للسطح الظاهر مع كثرة الموارد التي ترسب فيه النجاسة لكون الظرف من الخزف ونحوه دليل على طهارة الباطن بالتبعية.

ويشكل بأن أواني الخزف والخشب وإن كانت تنفذ فيها الرطوبة النجسة أو المتنجسة، إلا أن في كون الرطوبة النافذة مسرية إشكال أو منع. هذا مع جفافه، أما إذا كان مستنقعاً بالماء الطاهر ثم تنجس، فهو لا يمتص شيئاً من الرطوبة النجسة لإشباعه. واتصال الرطوبة التي فيه بالماء المتنجس لا يقتضي سريان النجاسة فيها بتمامها، لأن النجاسة لا تسري في الرطوبة المسرية بتمامها ما لم يصدق عليه أنها ماء.

ص: 228

إلا أن تكون فيها مسامات وثقوب دقيقة يصدق على النافذ فيها الماء، فيتعين نجاسته بتمامه في الباطن. لكن المسامات المذكورة كما ينفذ فيها الماء المتنجس ينفذ فيها الماء الطاهر عند التطهير فيطهرها، كما تقدم.

نعم يشكل الحال فيما لو كان النافذ هو الرطوبة المسرية النجسة التي لا يصدق عليها الماء، حيث لا تطهر بالاتصال بالماء الكثير فضلاً عن القليل، ولو جففت ثم غسل الإناء حتى نفذت الرطوبة المسرية منه لم تصلح لتطهير الباطن، لعدم صدق الماء عليها وعدم انفصال ماء الغسالة. فلو ثبت ذلك في المقام صح الاستدلال بالنصوص المذكورة.

لكنه لم يتضح بنحو معتد به، لأنه لا يعهد في الأواني الرخاوة بحيث تكون الرطوبة النافذة فيها عند جفافها مسرية.

وكيف كان لا إشكال في العفو عن الأواني المتخذة من المواد المعهودة في العصور السابقة وإن كانت الرطوبة تنفذ فيها في الجملة. إلا أنه لا طريق للتعدي منها إلى كل ما تنفذ فيه الرطوبة المسرية حتى مثل الصابون والطين.

ومنها: موثق السكوني عن جعفر عن أبيه H: «أن علياً سئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة. قال: يهرق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل»(1) ورواية زكريا بن آدم: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير. قال: يهراق المرق... واللحم اغسله وكله»(2).

بدعوى أن اللحم مما تنفذ فيه الرطوبة المسرية، وقد طبخ بالماء المتنجس بالفأرة الميتة، فتنجس باطنه، ومع ذلك اكتفي بتطهيره بغسل ظاهره.

ويشكل بأن باطن اللحم لما كان بنفسه رطباً رطوبة مسرية فوجوده في الماء وغليانه فيه لا يوجب انتقال رطوبة مسرية له من الماء، لإشباعه برطوبته الأصلية.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 5 من أبواب الماء المضاف حديث: 3 ص 150.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8.

ص: 229

وإن كان لا يبعد حصول الطهارة للباطن بنفوذ الماء الطاهر فيه (1) على نحو يصل إلى ما وصل إليه النجس، فيغلب على المحل، ويزول بذلك الاستقذار

ومجرد تبدل طعمه وتأثره بطعم الماء في الملوحة والحموضة ونحوهما في الجملة لا يشهد بتبدل الرطوبة التي فيه برطوبة أخرى من الماء، لنفوذ الآثار المذكورة بالمجاورة، نظير نفوذ الرطوبة غير المسرية، ولذا يكون الأثر في باطن اللحم أضعف منه في الماء كثيراً. غاية الأمر أن رطوبته المذكورة متصلة بالماء النجس، وقد عرفت أن اتصال الرطوبة الطاهرة بالماء النجس لا يوجب سريان النجاسة فيها بتمامها.

ومنها: خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن أكسية المرعزي والخفاف تنقع في البول أيصلي عليها؟ قال: إذا غسلت بالماء فلا بأس»(1). وكأن وجه الاستدلال به أن الجلد تنفذ فيه رطوبة البول، والذي يغسل ظاهره لا غير.

ويشكل بأن الجلد الرقيق قد تنفذ فيه الرطوبة المسرية، إلا أنه ينفذ فيه الماء أيضاً عند التطهير بنحو يرتفع معه الاستقذار عرفاً. والجلد السميك يشكل نفوذ الرطوبة المسرية فيه. على أنه يكفي في الانتفاع بالخف طهارة ظاهره، حيث لا ينجس مباشره حينئذ برطوبة، أما نجاسة باطنه فلا أثر لها بعد كونه مما لا تتم الصلاة فيه.

وبالجملة: لا إشكال في إمكان تطهير الأواني والجلود ونحوها مما يكثر الابتلاء به، إلا أن التعدي منها لكل ما ينفذ فيه الرطوبة المسرية المتنجسة في غاية الإشكال، خصوصاً مثل الصابون والخبز السميك مما لا تكون الرطوبة في باطنه من سنخ الماء المطلق بل المضاف. فلاحظ.

(1) عرفت أن الذي ينفذ لا يصدق عليه ماء مطلق غالباً، وحينئذ كيف يحصل التطهير؟!.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 71 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 230

(231) العرفي، لاستهلاك الأجزاء المائية النجسة (1) الداخلة فيه إذا لم يكن قد جفف، وإن كان التجفيف أسهل في حصول ذلك، وإن كان النافذ في باطنه الرطوبة غير المسرية فقد عرفت أنه لا يتنجس بها.

(مسألة 2): الثوب المصبوغ بالصبغ المتنجس يطهر بالغسل بالكثير إذا بقي الماء على إطلاقه إلى أن ينفذ إلى جميع أجزائه (2). بل القليل أيضاً إذا

(1) الاستهلاك لا ينفع مع التطهير بالماء القليل، لأن الأجزاء المائية تنجس ما يرد عليها قبل استهلاكها فيه. وإنما يتجه ذلك في الماء الكثير. لكنه لا يحتاج للاستهلاك، إذ يكفي اتصال الماء النجس بالمعتصم في طهارته. فلا مانع من حصول التطهير إذا فرض كون النافذ ماء مطلقاً، كما سبق. وكذا التطهير بالماء القليل حينئذ إذا كان الوارد بسبب كثرة الماء موجباً لانفصال ماء الغسالة، كما سبق أيضاً.

(2) يعني وإن صار بعد ذلك أو حين العصر مضافاً. لكن لا مجال لذلك بناء على أخذ العصر في الغسل المطهر، حيث لابد من بقاء الماء على الإطلاق إلى نهاية الغسل المطهر، وأما بناء على ما تقدم من عدم أخذه فيه، وأنه يكفي في التطهير وصول الماء واستيلاؤه على الموضع النجس فقد يشكل بأن خروج الماء الذي في الثوب بالعصر عن الإطلاق ملازم غالباً لكثرة الصبغ النجس في الثوب بنحو يمنع من استيلاء الماء المطلق عليه.

وبعبارة أخرى: الأجزاء المائية المستولية على ظاهر الثوب وإن لم تخرج قبل العصر عن الإطلاق، إلا أن الأجزاء المائية النافذة فيه التي هي دخيلة في تطهيره ولا ترى قبل العصر لابد أن تخرج عن الإطلاق في الفرض المذكور، لأنها بعض قليل من المنفصل بالعصر المفروض خروجه بسبب اختلاطها به عن الإطلاق.

مضافاً إلى ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن خروج الماء بالعصر عن الإطلاق يكشف عن عدم زوال أجزاء الصبغ المتنجس عن الثوب باستيلاء الماء عليه، ولابد في

ص: 231

كان الماء باقياً إلى أن يتم عصره (1).

التطهير من زوال عين المنجس وأثره عن المتنجس.

على أنه لو فرض مطهرية الماء للثوب باستيلائه على الموضع النجس وزوال أجزاء الصبغ عنه. إلا أن خروج الماء عن الإطلاق يستلزم أن يكون للصبغ النجس وجود عرفي فينجس الماء المضاف لعدم عاصمية الكثرة له، فينجس به الثوب حين العصر وإن طهر قبله.

إلا أن يفرض كون انقلاب الماء عن الإطلاق ليس من جهة اختلاطه بأجزاء الصبغ، بل من جهة انفعاله وتأثره بها من دون أن يكون لها وجود عرفي في الثوب. أو يفرض تماسك أجزاء الصبغ - كالرمل بحيث تنفصل عن الثوب، قبل العصر ويطهر ظاهرها بالماء أيضاً، وإنما تنحل وتمتزج بالماء وتخرجه عن الإطلاق بعد انفصاله عن الثوب. لكن لا واقع للفرضين المذكورين.

(1) أما بناءً على ما سبق منّا في الكثير فظاهر. وأما بناء على الاكتفاء فيه بإطلاق الماء إلى أن ينفذ في جميع أجزاء الثوب وإن خرج عن الإطلاق بالعصر بعد ذلك فقد يوجه بأن مقتضى عموم الانفعال نجاسة الماء المذكور ونجاسة الثوب بملاقاته وبتخلفه فيه. والمتيقن من الخروج عن ذلك ما إذا بقي الماء على الإطلاق إلى حين الانفصال، أما مع خروجه عنه قبل الانفصال فلا مخرج عن عموم الانفعال.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن أدلة التطهير تدل بالدلالة الالتزامية على طهارة المتخلف، فإطلاقها محكم.

فيندفع بأن المدلول الالتزامي لها هو العفو عن نجاسة الماء المطهر بسبب التطهير، أما العفو عن نجاسة غيره مما خرج عن الإطلاق فهو خارج عن المدلول الالتزامي، فلا مخرج عن عموم الانفعال. ولعله لذا لم يعتد (قدس سره) بذلك في فتواه.

ومما ذكرنا يظهر الحال في الثوب المتنجس المصبوغ بصبغ طاهر، فإنه لابد في

ص: 232

(233) (مسألة 3): العجين النجس يشكل تطهيره وإن خبز وجفف إلا إذا وضع في الكثير على نحو ينفذ الماء إلى أعماقه (1)، ولا يكفي نفوذ الرطوبة والأجزاء المائية إذا لم يصدق عليها الماء، ولا يجري عليه حكم الخبز المتنجس الذي نفذت الرطوبة النجسة إلى أعماقه (2). ومثل العجين النجس الطين

تطهيره بالكثير والقليل من عدم خروج الماء عن الإطلاق قبل العصر ولا بعده، لعين الوجوه المتقدمة، أو أكثرها. فلاحظ.

(1) بحيث ينفذ فيه ويستولي على تمام سطوح أجزائه الدقيقة الماء المطلق، لا رطوبة الماء المطلق ولا الماء المضاف. لكن الفرض المذكور بعيد جداً، بل غير واقع.

(2) فقد ذكر (قدس سره) أن النصوص المتقدمة التي سبق منه الاستدلال بها مختصة بالتنجس بعد الإنجماد، ولا تشمل المقام. لكن سبق المنع من دلالة النصوص هناك أيضاً.

على أن الاستدلال بالنصوص المذكورة إن ابتنى على دلالتها على طهارة الباطن تبعاً، مع كون المغسول هو الظاهر لا غير لم يحتج إلى ما سبق منه (قدس سره) من لزوم نفوذ الماء الطاهر في الباطن ووصوله إلى ما وصل إليه النجس، بحيث يغلب على المحل ويزول الاستقذار العرفي، لاستهلاك الأجزاء المائية النجسة.

وإن ابتني على طهارته بالماء النافذ فيه لكفاية ذلك في التطهير وزوال الاستقذار العرفي، نظير ما قيل من أن غسل كل شيء بحسبه، فذلك يقتضي التعدي لما إذا كان التنجيس قبل الإنجماد، لعدم الفرق ارتكازاً بينهما من حيثية الاستقذار.

نعم يفرق بينهما بمرسل ابن أبي عمير: «قيل لأبي عبد الله (عليه السلام) في العجين يعجن بماء نجس كيف يصنع به؟ قال: يباع ممن يستحل أكل الميتة»(1) ، وفي مرسله الآخر:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الأسئار حديث: 1.

ص: 233

(234)النجس الذي صنع إناء، فإنه لا يجري عليه حكم الإناء المتنجس.

(مسألة 4): المتنجس بالبول غير الآنية إذا طهر بالقليل فلابد من الغسل مرتين (1)

«ويدفن ولا يباع»(1). لظهورهما في عدم قابلية العجين المذكور للتطهير. فتأمل.

(1) وفاقاً للمشهور بين المتأخرين، كما في الجواهر. وهو المشهور بين الأصحاب، كما في المدارك والحدائق، بل في المعتبر أنه مذهب علمائنا، وعن الذخيرة أن عليه عمل الطائفة.

لصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «سألته عن البول يصيب الثوب. قال: اغسله مرتين»(2) وفي صحيحه الآخر: «اغسله في المركن مرتين»(3) ومثل الأول معتبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله(4) (عليه السلام) وصحيح أبي إسحاق النحوي عنه (عليه السلام): «سألته عن البول يصيب الجسد. قال: صب عليه الماء مرتين»(5) وصحيحي الحسين ابن أبي العلاء والبزنطي الواردين(6) في الثوب والبدن معاً والمتقدمين في تحديد مفهوم الغسل.

هذا وفي المنتهى بعد أن أفتى بوجوب غسل الثوب من البول مرتين واستدل عليه بالنصوص المتقدمة قال: «والأقرب عندي وجوب الإزالة، فإن حصل بالمرة الواحدة كفى». وهو ظاهر المبسوط والنهاية والقواعد، وعن صريح البيان. وكأنه للإطلاقات المقامية لأدلة طهورية الماء، وإطلاق جملة من النصوص المتضمنة للغسل، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الأسئار حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 2، 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 2، 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 4، 7.

ص: 234

لحمه»(1) ، وصحيح ابن جعفر الوارد في غسل الفراش إذا أصابه البول(2) ، المتقدم عند الكلام في الاكتفاء بتوالي الصب في انفصال ماء الغسالة، وغيرها.

لكن لابد من رفع اليد عن الإطلاقات المقامية بنصوص التعدد المتقدمة. كما يتعين تقييدها لأدلة الغسل أو كونها قرينة على سوق بعضها - كصحيح عبد الله بن سنان - لبيان حصول النجاسة من دون نظر لمقدار الغسل الواجب، وسوق بعضها

- كصحيح ابن جعفر - لبيان كيفية غسل المتنجس من دون نظر لمقدار الغسل.

هذا وفي نهاية الأحكام الاكتفاء بالمرة مع الجفاف. إما لأن المطلوب من الغسل هو إزالة العين، والجاف ليس له عين، فيكتفي فيه بالمرة، أو لأن طهورية الماء شرعاً مقتضى تأثيره في الطهارة باستعماله. وهما كما ترى، لمنع الأول كبروياً بل صغروياً كما سيأتي. والثاني راجع إلى الاستدلال بإطلاق الطهورية المقامي الذي سبق لزوم رفع اليد عنه بأدلة التعدد.

نعم قد يستدل له بصحيح الحسين بن أبي العلاء المتقدم على ما في المعتبر والذكرى من روايته هكذا: «وعن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله مرتين، الأول للإزالة والثاني للانقاء».

لكنه يشكل أولاً: بعدم ثبوت الزيادة المذكورة، وقرب كون ذكرها للاجتهاد منها في علة الحكم، لا على أنها جزء من الرواية، كما يناسبه خلو كتب الحديث عنها، على ما ذكره غير واحد. نعم عن عوالي اللآلي ذكره مرسلاً عن الإمام الصادق(3) (عليه السلام). ولعله أخذه منهما.

وثانياً: بأن الجفاف لا يستلزم ارتفاع البول، بل يبقى أثره عرفاً، كما يناسبه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 235

قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي المتقدم: «فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً»(1). إذ لو كان متمحضاً في الماء الذي يذهب عرفاً بالجفاف لم يحتج للغسل المبني على العناية في تعميق الماء، كما تقدم بل هو لا يناسب إطلاق صحيح الحسين نفسه لو تمت الزيادة فيه، لظهوره في احتياج البول للإزالة بالغسل مطلقاً وإن جف.

وثالثاً: بأن ذلك لا يناسب نصوص التعدد. قال سيدنا المصنف (قدس سره): «لأنه يؤدي إلى حمل النصوص على صورة وجود العين، وهو خلاف الغالب، وإلى حمل الأمر بالغسلة الأولى على الحكم العرفي لا الشرعي، وعلى التخييري لا التعييني، لأن الإزالة كما تكون بالغسل تكون بالشمس وبالهواء وبالمسح بشيء وبغيرها، وكل ذلك خلاف الظاهر، بل خلاف السياق مع الأمر بالغسلة الثانية» فلو تمت الزيادة المذكورة تعين حمل الإزالة على إزالة الأثر ولو مع الجفاف، أو حمل الإنقاء على تأكيد الطهارة والاستظهار فيها.

وفي المدارك وعن المعالم الاقتصار في المرتين على الثوب، والاكتفاء بالمرة في غيره. لضعف أدلة التعدد فيه.

لكن يظهر مما سبق منعه، حيث قد دل على ذلك الصحيح إلى أبي إسحاق النحوي الذي قال النجاشي في حقه: «كان وجهاً في أصحابنا قارئاً فقيهاً لغوياً راوية، وكان حسن العمل كثير العبادة والزهد». وروى الكشي في حقه عن حمدوية عن محمد بن عيسى أنه ثقة خير فاضل مقدم معلوم في العلماء والفقهاء الاجلة من هذه العصابة. وقد روى عنه جماعة من أعيان أصحابنا منهم البزنطي الذي قيل إنه لا يروي إلا عن ثقة.

كما دلّ عليه صحيح الحسين بن أبي العلاء، الذي قال النجاشي عنه وعن أخويه: «روى الجميع عن أبي عبد الله (عليه السلام) وكان الحسين أوجههم»، وهو من رجال كامل الزيارات وتفسير القمي، وروى عنه جماعة من الأعيان، منهم صفوان بن يحيى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 236

(237)وابن أبي عمير اللذين قيل إنهما لا يرويان إلا عن ثقة. وكذا صحيح البزنطي الذي رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن كتابه. وظاهر نقله عنه اطلاعه على أنه كتابه بطريق ملحق بالحس، لاشتهار الكتاب في عصره.

بقي في المقام أمور:

الأول: قال سيدنا المصنف (قدس سره): «ثم إنه قد اقتصر في النصوص وكثير من فتاوى الأصحاب على الثوب والبدن، فالتعدي إلى غيرهما محتاج إلى دعوى إلغاء خصوصيتهما عرفاً، كما هو الظاهر وقد قيل: إن التوقف فيه من الخرافات». وفي الجواهر أنه قد يدعى القطع بعدم الفرق من الإجماع أو غيره، وأن الظاهر ممن اقتصر على الثوب والبدن التمثيل.

لكن عن المعالم والذخيرة احتمال الاقتصار عليهما، بل استظهر ذلك في الحدائق ومحكي اللوامع، وأصر عليه بعض مشايخنا (قدس سره) لعدم القطع بعدم دخل خصوصية الثوب والبدن في الحكم، بل يقوى احتمال اختصاص الثوب والبدن باهتمام الشارع بالمحافظة على المرتبة الشديدة من الطهارة. ولاسيما بعد ملاحظة اختلاف حكم الشارع باختلاف الموارد، فأوجب التثليث في الإناء، من دون أن يتعدى لغيره مما هو من جنسه، كالصفر والخزف، واكتفى في الاستنجاء من الغائط بكل ما يرفعه، من دون أن يتعدى لغيره مما ينجس المحل، كالدم.

وهو كما ترى، إذ يكفي في التعدي غفلة العرف عن الخصوصية، بحيث يفهم من النص العموم وإن لم يقطع به بعد التنبيه له، وهي حاصلة في المقام. كيف ولازم الاختصاص أنه لو تنجس الصوف والقطن والغزل ونحوها بالبول كفى في تطهيرها قبل النسج، بل بعده أيضاً قبل أن يصدق عليها عنوان الثوب مرة واحدة.

وخصوصية الإناء عرفاً بلحاظ هيئته حيث يرسب فيه ماء الغسالة لمناسبة ذلك لاحتياج طهارته لعناية زائدة، ولذا يعم التثليث عرفاً كل ما يشاركه في هيئته وإن لم يكن إناء، ويقصر عن الإناء الذي لا يرسب فيه ماء الغسالة. وتطهير مخرج الغائط

ص: 237

(238)خاص بمورده، لخصوصيته في شيوع الابتلاء به، كعدم تنجيس ماء الاستنجاء.

فلا يمنع ذلك من فهم عدم الخصوصية في المقام، الراجع لعدم الفرق ارتكازاً بين المتنجسات في كيفية التطهير إلا ما استثني، كعدم الفرق بين الأجسام في الانفعال، مع كثرة اختصاص النصوص ببعضها كالثوب والبدن، وإن ثبتت بعض المستثنيات، كالبواطن، وكماء الاستنجاء الذي ذهب جماعة إلى عدم انفعاله بالنجاسة. فلاحظ.

نعم قد يناسب ذلك ما تقدم في صحيح علي بن جعفر في الفراش الذي يكون كثير الصوف من الأمر بغسل ظاهره وصب الماء حتى يخرج من الجانب الآخر(1) ، وما تقدم في خبره من إطلاق الغسل في أكسية المرعزي والخفاف التي تنقع في البول(2).

لكن الظاهر ورود الأول لبيان كيفية الغسل، والثاني لبيان إمكان تطهيرهما بالغسل، فلا إطلاق لهما ينفي التعدد ولا أقل من لزوم حملهما على ذلك، أو تقييدهما، جمعاً مع نصوص التعدد بناء على ما سبق من إلغاء خصوصية مواردها.

الثاني: مقتضى إطلاق نصوص التعدد العموم لكل بول نجس. وانصرافها لبول الإنسان بدوي لا منشأ له ارتكازي، فلا يخرج به عن الإطلاق. ولاسيما بملاحظة موثق سماعة: «سألته عن أبوال السنور والكلب والحمار والفرس. قال: كأبوال الإنسان»(3) واحتمال سوقه لبيان أصل النجاسة، خلاف إطلاق التشبيه.

ودعوى: أن مقتضى إطلاق مثل صحيح عبد الله بن سنان: «قال أبو

عبد الله (عليه السلام): اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»(4) الاكتفاء بالمرة.

مدفوعة بأن لا إطلاق له من هذه الجهة، بل هو وارد لبيان أصل النجاسة. وإلا فمن البعيد وروده للإطلاق من هذه الجهة مع خروج بول الإنسان منه الذي هو أكثر أفراد البول شيوعاً في الابتلاء. على أنه لو تم إطلاقه تعين اليد عنه بنصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 71 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 7، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 7، 2.

ص: 238

(239) والمتنجس بغير البول يكفي في تطهيره غسلة واحدة (1). هذا مع زوال

التعدد بعدما سبق.

الثالث: قال في المدارك: «ظاهر عبارات الأصحاب اعتبار الفصل بين الغسلتين لتحقق التعدد، ونقل عن ابن الجنيد التصريح بذلك. واكتفى الشهيد في الذكرى باتصال الماء بقدر الغسلتين. وهو مشكل. نعم لو كان الاتصال بقدر زمان الغسلتين والقطع أمكن الاكتفاء به فيما لا يعتبر تعدد العصر فيه، لأن اتصال الماء لا يكون أضعف حكماً من عدمه».

لكنه كما ترى تخرص لا يخرج به عن ظاهر نصوص التعدد. ولاسيما مع غلبة عدم الاقتصار في الصب على الأقل الذي يتحقق به المسمى، فلو كان استمرار الصب كافياً لزم كثرة الاستغناء عن التعدد، وهو مما تأباه النصوص جداً.

(1) كما هو ظاهر جماعة وصريح آخرين، بل لعله المشهور المعروف بين الأصحاب، حيث اقتصروا على البول في التنبيه على التعدد، ولم يشيروا له في غيره من النجاسات. وكيف كان فقد يستدل عليه بوجهين:

الأول: إطلاقات الغسل في النصوص الكثيرة الواردة في النجاسات.

لكن استشكل في الاستدلال بأنها واردة لبيان حصول النجاسة من دون نظر إلى كيفية التطهير منها فلا إطلاق لها من هذه الجهة.

وما ذكر قد يتجه في بعضها، كقوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان المتقدم: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»(1) ، إلا أنه لا يطرد في جميعها، بل كثير منها ظاهر في بيان الوظيفة عند إصابة النجاسة، فيكون مقتضى إطلاقها الاكتفاء بالغسلة الواحدة. ولا ينافي ذلك في استفادة النجاسة منها، فإن ذلك أعم من كونها مسوقة لها، بحيث لا نظر فيها لبيان الوظيفة، كي لا يتم لها الإطلاق من هذه الجهة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 239

ولاسيما مثل قوله (عليه السلام) في صحيح الفضل: «إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، وإن مسه جافاً فأصبب عليه الماء»(1). فإن التعرض لحكم حالتي الجفاف والرطوبة ظاهر جداً في بيان الوظيفة في كلتا الحالتين. وكذا مثل قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي: «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه، فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء»(2) إلى غير ذلك مما لا ريب في ظهوره في بيان الوظيفة، ولسانه مشابه للسان نصوص التعدد، غايته أن نصوص التعدد مقيدة، وهذه النصوص مطلقة.

وأظهر منها في ذلك صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الفراش يصيبه الاحتلام كيف يصنع به؟ قال: اغسله، وإن لم تفعله فلا تنام عليه حتى ييبس...»(3) ، ومعتبر علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الشطرنج: «فقال: المقلب لها كالمقلب لحم الخنزير. فقلت: ما على من قلب لحم الخنزير؟ قال: يغسل يده»(4).

بل في معتبر مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه قال: «قال جابر بن عبد الله الأنصاري: إن دباغة الصوف والشعر غسله بالماء. وأي شيء يكون أطهر من الماء»(5). وليس هو وارداً لبيان النجاسة، بل لبيان مطهرية الغسل بعد الفراغ عن النجاسة، ومن الظاهر أن مقتضى إطلاقه مطهرية مسمى الغسل. ومن ثم لا ينبغي التأمل في تمامية إطلاق جملة من نصوص الغسل.

نعم قد يستشكل في مورد لا إطلاق فيه. إلا أن يدفع بعدم القول بالفصل، أو بفهم عدم الخصوصية لموارد النصوص المتفرقة ولو بضميمة ارتكاز أن مطهرية الغسل شرعاً متفرعة على مطهريته عرفاً، وإلا لكثر السؤال في خصوصيات الموارد، لشدة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 9.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 240

الحاجة لذلك، لعدم الضابط لموارد القطع بحصول التطهير لو بني على التشكيك، فعدم السؤال عن ذلك شاهد بفهم عموم مطهرية الغسل. وإنما وقع السؤال عن كيفية التطهير في بعض الموارد لخصوصية فيها مثيرة للشك والسؤال، كالأواني التي يستقر فيها ماء الغسالة والفراش الثخين الكثير الصوف الذي يصعب غسله.

الثاني: عموم مطهرية الماء الذي تقدم تقريبه في أول الفصل، فإنه وإن لم يكن وارداً لبيان كيفية التطهير، إلا أنه تقدم أن مقتضى إطلاقه المقامي الإيكال في كيفية التطهير للعرف، وهو يكتفي بالغسل واستيلاء الماء على الموضع النجس مرة واحدة.

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن التطهير من النجاسات من مخترعات الشارع التي لا يدركها العرف، ليرجع إليه فيها. فيندفع بأن الذي قد لا يدركه العرف هو استخباث بعض النجاسات واستقذارها، أما مطهرية الماء من القذر فهو أمر عرفي ارتكازي.

ومثله ما ذكره (قدس سره) من أن القذارات العرفية يختلف التطهير منها بنظر العرف، وبعضها يحتاج للتعدد. لإندفاعه بأن الاحتياج للتعدد عند العرف إنما هو لصعوبة زوال عين القذر في بعض الحالات، أما مع زوال عين القذر فلا يحتاج التطهير إلى أكثر من مرة، بل يكفي استيلاء الماء على الموضع القذر وتنقيته له.

ومن ثم لا ينبغي التأمل في العموم المذكور، ولاسيما بملاحظة ما سبق في آخر الوجه الأول من ظهور ارتكازيته عند المتشرعة من عدم السؤال في خصوصيات الموارد. فلاحظ.

هذا وقد يستدل على التعدد بصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: ذكر المني وشدده وجعله أشدّ من البول ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك. وكذلك البول»(1). بدعوى أن أشدية المني من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 241

العين قبل الغسل، أما لو أزيلت بالغسل فالأحوط عدم احتسابها (1)

البول لا تناسب الاكتفاء في تطهيره بالمرة مع لزوم المرتين في البول، وما في صحيحي الحسين بن أبي العلاء والبزنطي(1) المتقدمين من تعليل الصب مرتين في البول بأنه ماء، حيث لا يناسب ذلك الاكتفاء في غير البول مما له كثافة بالمرة.

وهو كما ترى لإجمال جهة الأشدية في صحيح محمد بن مسلم، بل لعل المتبادر منها أشدية النجاسة والخباثة، وهي لا تستلزم الأشدية في التطهير. بل لو كان المراد الأشدية في التطهير فلعلها بلحاظ احتياج إزالة المني للعناية بسبب كثافته، لا بلحاظ لزوم التعدد وذلك هو الظاهر من التعليل في صحيحي الحسين والبزنطي. ومن ثم لا مخرج عما سبق من الإطلاق المقتضي للاكتفاء بالمرة.

(1) قد اختلفت كلماتهم في المقام، فظاهر القواعد والجواهر احتساب الغسلة المزيلة مطلقاً وينسب لجماعة عدم احتسابها مطلقاً. وظاهر المعتبر التفصيل بين البول وغيره، فتحسب الغسلة المزيلة من الغسلتين الواجبتين في البول، كما هو مقتضى الزيادة التي تقدمت منه في ذيل صحيح الحسين بن أبي العلاء، ولا تحسب من الغسلة الواجبة في غيره، حيث قال: «وهل يراعى العدد في غير البول؟ فيه تردد. أشبهه يكفي المرة بعد إزالة العين، لقوله (عليه السلام) في دم الحيض: حتيه ثم اغسليه، والأمر المطلق يتناول المرة».

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في أن مقتضى إطلاق نصوص التعدد في البول احتساب الغسلة المزيلة، بل هو المقطوع به منه، بسبب عدم التنبيه للزوم إزالة البول قبل الغسلتين.

ولاسيما مع ما تضمنه صحيحا الحسين بن أبي العلاء والبزنطي من تعليل الاكتفاء بالصب مع إصابة البول للجسد بأنه ماء، لرجوعه إلى أن البول لما كان رقيقاً

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 4، 7.

ص: 242

كالماء فلا نحتاج إزالته فيما لا يرسب فيه من الأجسام إلى أكثر من صب الماء عليه من دلك أو نحوه مما يتحقق به الغسل.

وكذا ما تضمنه صحيح نشيط بن صالح من الاكتفاء في الاستنجاء بمثلي ما على الحشفة من الماء، حيث سبق في مبحث الاستنجاء أن مقتضى الجمع بينه وبين نصوص التعدد تقسيم الماء المذكور على الصبتين الراجع إلى إزالة أثر البول من المخرج بمثله في الصبة الأولى، ومن الظاهر أن المثل لقلته لا يستمر صبه بعد زوال الأثر. وذلك وإن أمكن أن يختص بالاستنجاء تخفيفاً، إلا أنه صالح للتأييد في المقام.

ومما سبق يظهر الحال في بقية إطلاقات الغسل في التطهير، لأن الغسل ارتكازاً إنما يحتاج إليه لإزالة العين والأثر كما سبق، فالاكتفاء به في التطهير من دون تنبيه للزوم إزالة العين والأثر قبله كالصريح في احتساب الغسلة المزيلة، ولاسيما قوله (عليه السلام)

في صحيح الحلبي المتقدم الوارد في بول الصبي: «تصب عليه الماء فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً»(1) وما في موثق عمار المتقدم: «وقال في قدح أو إناء يشرب في الخمر قال: تغسله ثلاث مرات. وسئل: أيجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات»(2). إذ هما كالصريحين في أن إزالة العين والأثر بالغسل أو الدلك إنما تكون بالغسل المطهر لا قبله.

وكذا صحيح هارون بن حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: يجزيك من الغسل والاستنجاء ما ملأت [بلت خ. ل] يمينك»(3). فإن قلة ماء الاستنجاء لا تناسب اعتبار إزالة العين قبل الغسل المطهر، إلى غير ذلك، مما يكون الأمر معه من الواضحات.

وأما النبوي الذي استدل به المحقق (قدس سره) في المعتبر فيشكل الاستدلال به أولاً: لضعف النبوي المذكور، لعدم روايته من طرقنا مسنداً، وقد ورد بصور مختلفة في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 13 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 243

كتب العامة بعضها خال عن الحتّ.

وثانياً: لأن الحت وإن كان هو الحك والإزالة بالظفر ونحوه، إلا أن الحديث قد ورد في الدم الذي يصيب الثوب - كما في جملة من طرقه - ومن الظاهر أنه لا يزول بالحت، لنفوذه في الثوب، فلابد من كون الحت من أجل إزالة ما تكثف من الدم أو من أجل تليين موضعه ليسهل نفوذ الماء فيه وإزالة الدم عنه بالغسل، وهو أجنبي عن المدعى. ومن ثم لا ينهض بالخروج عما سبق من الإطلاقات المقتضي لاحتساب الغسلة المزيلة للعين.

بقي في المقام أمران:

الأول: انه لابد في الغسلة خصوصاً المزيلة لعين النجاسة من كثرة الماء بنحو يستولي على العين ويغلب النجاسة عرفاً، لأن ذلك هو اللازم عرفاً في الغسل المطهر والذي يزول به الاستقذار، والذي سبق حمل أدلة التطهير بالماء عليه.

نعم قد ينافيه ما سبق في صحيح صالح بن نشيط من الاكتفاء في الاستنجاء من البول بمثلي ما على الحشفة من الماء وما سبق في صحيح هارون بن حمزة من الاكتفاء في الاستنجاء من الغائط بما يملأ اليمين أو يبلها. لما هو المعلوم من قلة الماء المذكور فيهما. لكن لو تم عدم تحقق الاستيلاء بالنحو المتقدم في مورديهما فاللازم الاقتصار عليهما، لقرب احتمال ابتناء الحكم فيهما على التخفيف بسبب كثرة الابتلاء بهما.

الثاني: أنه بعد البناء على احتساب الغسلة التي بها زوال عين النجاسة فهل يلزم إزالة العين بالغسلة الأولى فيما يعتبر فيه التعدد، كما يظهر من المعتبر، أو يكفي زوالها بمجموع الغسلات المعتبرة في التطهير، كما يظهر من الجواهر؟

الظاهر الأول، لأن مطلقات الغسل تقتضي الاكتفاء بغسلة واحدة مزيلة العين، كما سبق، والمنصرف من أدلة التعدد اعتبار الغسل مرة أو مرات زائدة على ذلك، لا لزوم تقسيم الغسل المطهر إلى غسلات، فالغسلة الأولى التي لا يتم بها زوال العين خارجة عن الغسل المطهر موضوعاً، ولابد في الغسل المطهر من غسل آخر

ص: 244

غيرها. ولاسيما بلحاظ التعليل في صحيحي الحسين بن أبي العلاء والبزنطي للاكتفاء بالصب عند إصابة البول للجسد بأنه ماء، لرجوعه إلى زوال البول بمجرد الصب المستلزم لكون الصبة الثانية حال عدم بقاء البول.

مضافاً إلى ما أشار إليه بعض مشايخنا (قدس سره) من أن أدلة التعدد وإن تضمنت عنوان الإصابة أو نحوها مما لا يصدق بعد الغسلة الأولى التي لا يتم بها زوال العين، إلا أن المناسبات الارتكازية تقضي بأن الموضوع هو أثر ذلك، وهو الملاقات بين النجاسة والمتنجس بها الذي يراد تطهيره بالغسل، وحينئذ فالأثر المذكور لما كان باقياً بعد الغسلة الأولى التي لا يتم بها زوال العين فمقتضى أدلة التعدد لزوم العدد كاملاً في التطهير منه، وذلك لا يكون إلا بكون مبدأ العدد الغسلة التي يتم بها زوال العين.

ودعوى: أن ذلك لا يناسب موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر قال: تغسله ثلاث مرات. وسئل: أيجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات»(1). لأن اعتبار الدلك في الغسلات الثلاث يناسب بقاء عين النجاسة حين كل منها.

مدفوعة بأن الموثق لم يتضمن فرض عدم زوال عين النجاسة قبل الغسلة الثالثة، لينفع فيما نحن فيه، بل مقتضى إطلاقه وجوب الدلك في الغسلتين الأخريين حتى مع زوال عين النجاسة بالغسلة الأولى، بل لعل ذلك هو منصرف الدلك المفروض فيها، فيتعين حمله على لزوم الدلك في بقية الغسلات للاستظهار تعبداً لا لبقاء عين النجاسة، ويختص بمورده خروجاً عن مقتضى القاعدة، نظير ما تقدم في ذيل الكلام في مفهوم الغسل.

ولو لم يكن البناء على وجوب الدلك بعد زوال عين النجاسة بالدلك في المرة الأولى، تعين حمله على بيان مجرد وجوب الدلك المزيل للعين من دون نظر إلى وقته، وحينئذ يكون مقتضى إطلاقه وجوب الدلك المذكور مرة واحدة، ويتعين البناء على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 245

(246) إلا إذا استمر إجراء الماء بعد الإزالة، فتحسب حينئذٍ (1)، ويطهر المحل بها إذا كان متنجساً بغير البول. ويحتاج إلى أخرى إن كان متنجساً بالبول.

(مسألة 5): الآنية إن تنجست بولوغ الكلب فيما فيها من ماء أو غيره مما يصدق معه الولوغ غسلت ثلاثاً (2)،

لزوم إيقاعه في الغسلة الأولى أو قبلها، لما سبق. فلاحظ.

(1) بلا إشكال، لصدق الغسل بعد زوال العين بلحاظ الاستمرار المذكور. وخصوصية حدوث الغسل قبل زوال العين ملغية عرفاً، بل قطعاً.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعى عليه الإجماع في الانتصار والخلاف والغنية، وفي المنتهى والذكرى أنه إجماع ممن عدا ابن الجنيد، فأوجب غسله سبعاً.

ويقتضيه صحيح البقباق: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة... والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلا سألته عنه. فقال: لا بأس به حتى انتهيت إلى الكلب، فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله، واصبب ذلك الماء، واغسله بالتراب أول مرة، ثم بالماء»(1) بناء على روايته هكذا: «ثم بالماء مرتين» كما في الخلاف والمعتبر والتذكرة والمختلف وجامع المقاصد وعن عوالي اللآلي والمنتهى والذكرى وغيرها.

نعم رواه كما سبق خالياً عن لفظ المرتين في التهذيبين والخلاف في مسألة سؤر السباع والبهائم. إلا أنه يوهنه ويعضد الأول أمور:

الأول: أن الشيخ في الخلاف عند نقله للحديث مشتملاً على الزيادة أبعد من الخطأ منه عند نقله له خالياً عنها، لأنه نقله مشتملاً على الزيادة في موضع الحاجة إليها والاستدلال بها، وهو حكم الولوغ، ونقله خالياً عنها في موضع أجنبي عنها وهو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الأسئار حديث: 1.

ص: 246

حكم البهائم والسباع، حيث قد يبتني إهمالها على عدم تركيزه عليها لعدم حاجته لها.

الثاني: أنه قد ساق الحديث في التهذيب دليلاً لما ذكره في المقنعة من وجوب التثليث في الولوغ، ولم يذكر غيره دليلاً لذلك. وهو مناسب جداً لاشتمال الحديث على الزيادة والخطأ منه في حذفها.

الثالث: أن الزيادة المذكورة مناسبة جداً لفتوى الشيخ (قدس سره) نفسه بالتثليث في النهاية والمبسوط والخلاف، وفتوى الصدوق في الفقيه والمقنع، وأبيه من قبل في رسالته - على ما حكي - بل جمهور الأصحاب، حتى عدّ من متفردات الإمامية، وسبق نقل إجماعهم على ذلك.

الرابع: أن قوله (عليه السلام) في الصحيح: «واغسله بالتراب أول مرة» يناسب تعدد المرات في الولوغ، كما في سائر موارد تطهير الإناء، ولو كفت غسلة واحدة بالماء بعد التراب لكان المناسب أن يقول: «واغسله بالتراب ثم بالماء»، أو: «واغسله بالتراب أولاً ثم بالماء». وذلك يوجب الريب في نقل الصحيح خالياً عن لفظ المرتين، بنحو لا يبعد معه سقوطه عن الحجية وتعين النقل الآخر.

ولا أقل من سقوط نقل الشيخ في كتبه بالمعارضة والرجوع إلى رواية الآخرين، حيث لا يبعد نقل بعضهم - كالمحقق في المعتبر - عن كتب مشهورة اطلعوا عليها، إذ من البعيد جداً خطؤهم في نقل الزيادة.

ودعوى: سقوط نقلي الشيخ في الخلاف بالمعارضة، وبقاء نقله في التهذيبين بلا معارض، فيقدم على نقل الآخرين، لأنه مسند فيهما. مدفوعة بأن ذلك إنما يتم لو اختلفت نسخ الخلاف في النقل الواحد. أما حيث كان الاختلاف بين نقلين في موضعين منه فلا وجه لاختصاص التعارض بهما دون النقل في التهذيبين مع وحدة الناقل في الكل.

أما ما في المدارك من احتمال كون زيادة المرتين في المعتبر خطأً من الناسخ وتقليد

ص: 247

غيره له في ذلك. ففيه: أن استدلال المحقق في المعتبر بالحديث للتثليث لا يناسب كون زيادة لفظ المرتين خطأ من الناسخ، ووجوده في الخلاف وفتوى من عرفت به لا يناسب ابتناء النقل المذكور على تقليد الخطأ المذكور.

نعم في بلوغ ذلك كله حدّاً ينهض بالحجية على ثبوت الزيادة إشكال، كالإشكال في البناء على عدمها وثبوت الإطلاق في الصحيح بنحو يقتضي الاكتفاء بغسلة واحدة بالماء.

على أنه لو تم الإطلاق في صحيح الفضل، فمقتضى الجمع بينه وبين ما يأتي من إطلاق اعتبار التثليث في تطهير الإناء هو تقييد كل منهما بالآخر، فيقيد الإطلاق بصدر الصحيح المتضمن كون الغسلة الأولى بالتراب، ويقيد ذيل الصحيح بالإطلاق الملزم بالتثليث، ومرجع ذلك إلى لزوم التثليث في الولوغ عملاً بالإطلاق المذكور، وكون الغسلة الأولى من الثلاث بالتراب، عملاً بصدر الصحيح، كما أشار لذلك سيدنا المصنف (قدس سره).

هذا وعن الاسكافي الغسل سبعاً أولاهن بالتراب. وفي المختلف أنه احتج بأن الكلب أنجس من الفأرة، ويجب لها الغسل سبعاً.

وهو كما ترى إذ لو أريد بالغسل سبعاً للفأرة الغسل لشربها من الإناء، فهو ممنوع، بل الظاهر عدم القائل به. وإن أريد به الغسل لموتها حيث ورد أن الإناء يغسل لموت الجرذ، ففي كون ولوغ الكلب أنجس من موت الفارة إشكال، بل منع. مع أن أشدية النجاسة لا تستلزم أشدية التطهير، كما سبق نظيره.

نعم قد يستدل له تارة: بالنبوي: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، أولهن بالتراب»(1). وأخرى: بموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سأله عن الإناء يشرب فيه النبيذ. فقال: تغسله سبع مرات. وكذلك الكلب»(2).

********

(1) كنز العمال ج 5 ص 89.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

ص: 248

أولاهن بالتراب (1)

ويندفع الأول بأن النبوي عامي لم يروَ من طرقنا. مع أنه ورد في نبوي آخر: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرات»(1) ومقتضى الجمع بينهما الحمل على الاستحباب. ولاسيما بشهادة النبوي الثالث: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرات أو خمساً أو سبعاً»(2).

وأما الثاني فقد أورد عليه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن الموثق خال عن ذكر التراب. لكنه يندفع بإمكان استفادته من صحيح البقباق، بناء على عدم ثبوت روايته بلفظ المرتين. فتأمل.

ومثله ما ذكره من أن صحيح البقباق أخص من الموثق، لاختصاصه بالولوغ، فيجب تقييد الموثق به. لاندفاعه بأن حمل الموثق على غير الولوغ بعيد جداً، بل هو كالمقطوع بعمومه له، وبأنه لا يحتمل وجوب السبع في غير الولوغ من أنحاء ملاقاة الكلب وعدم وجوبها في الولوغ.

فالأولى في الجواب أن الصحيح لو تمت دلالته على التثليث قرينة على حمل الموثق على الاستحباب. بل هو المتعين في الموثق حتى مع قطع النظر عن الصحيح لما ذكره (قدس سره) من مفاده ثبوت حكم النبيذ للكلب، وحيث كان الأمر بالسبع في النبيذ محمولاً على الاستحباب، لما يأتي، تعين ذلك في الكلب أيضاً.

(1) إجماعاً، كما في الغنية، وهو المشهور كما في المختلف والجواهر وعن غير واحد، ومذهب الأكثر كما في المدارك. ويقتضيه صحيح البقباق المتقدم. وقد ينزل عليه إطلاق الغسل مرة بالتراب في الفقيه والمقنع والانتصار والخلاف، بل هو معقد إجماع الأخيرين.

********

(1) عن حاشية ابن مالك على صحيح مسلم ج: 1 ص 162.

(2) عن سنن البهيقي ج: 1 ص: 240.

ص: 249

ممزوجاً بالماء (1) وغسلتان بعدها بالماء.

لكن في المقنعة أن وسطاهن بالتراب. وقد يظهر من الوسيلة. ولم نعثر على ما يشهد به عدا مرسل الوسيلة، قال: «فإنه يجب غسلها ثلاث مرات إحداهن بالتراب. وروي وسطاهن». لكنه لا ينهض حجة بنفسه، فضلاً عن أن ترفع اليد به عن الصحيح المتقدم.

(1) كما في السرائر وعن الراوندي وفي المنتهى بعد أن تعرض لكلام السرائر: «وفي اشتراط الماء نظر. وإن كان ما قاله قوياً» وكيف كان فذلك هو الظاهر من صحيح البقباق، لأن الغسل وإن كان ينصرف للغسل بالماء وحده، إلا أنه مع الإضافة لغيره يستفاد منه مزجه به، بنحو يخرج الماء به عن الإطلاق مع غلبته، نظير الغسل بالصابون والسدر والخطمي والأشنان وغيرها من الاستعمالات الشايعة عرفاً. وهو أولى من حمل الغسل على المسح محافظة على ظهور إطلاق التراب في غير الممزوج. كما هو الوجه فيما في القواعد ومجمع الفائدة وظاهر المختلف وعن غيرها، وفي الرياض أنه الأوجه بمقتضى القواعد الأصولية.

وأشكل منه ما في الدروس وجامع المقاصد وعن الذكرى من التخيير بين الأمرين. إذ فيه أنه بعد فرض الخروج عن المعنى الحقيقي للغسل لا جامع بين المجازين.

بل يظهر من جامع المقاصد أن اللازم حمل الصحيح على غير الممزوج محافظة على الحقيقة في التراب، ومع ذلك قال: «فعلى هذا لو مزج هل يتحقق معه الامتثال أم لا؟ لا أعلم تصريحاً بالمنع. مع أن الحاجة قد تدعو إليه، كما في الإناء الضيق الرأس إذا أريد تعفيره، فإنه بدون المزج متعذر أو متعسر».

وهو كما ترى، إذ مع ظهور الصحيح في غير الممزوج لا وجه لاحتمال حصول الامتثال بالمزج، وتعذر التعفير في بعض الموارد لا يكفي في جوازه. بل لو تم كان

ص: 250

الأولى جعله قرينة على إرادة المزج من الصحيح.

وبما ذكرنا يتضح أنه لا ملزم بالاحتياط بين الأمرين، قال في الجواهر: «كما عساه يميل إليه الأستاذ في شرح المفاتيح».

بقي في المقام أمور:

الأول: قال سيدنا المصنف (قدس سره): «من المحتمل جواز المزج بغير الماء من المايعات لصدق الغسل بالتراب. فتأمل». ولعل أمره بالتأمل إشارة إلى أن منصرف الغسل لما كان هو الماء، فالتقييد بالتراب يقتضي إضافته إليه، لا إلى مطلق المايع.

الثاني: أن ظاهر الغسل بالتراب وإن كان هو التراب الممزوج، إلا أنه لا يبعد ظهوره في كونه بنحو يستتبع تنظيف الإناء من التراب بالماء، كما هو الحال في النظائر، كالغسل بالصابون والأشنان والسدر، فإن المراد بها الاستعانة بالأجسام المذكورة لتأكيد التنظيف الحاصل من الغسل بالماء مع استيلاء الماء على المحل في النهاية.

الثالث: المحكي عن ابن الجنيد عدم اختصاص الغسلة بالتراب، بل يكفي فيها ما يقوم مقامه، والظاهر أن مراده به الأجسام الدقيقة التي يدلك بها عند الغسل كالأشنان والرماد ونجارة الخشب وغيرها. وهو خروج عن ظاهر النص من غير دليل.

ومثله ما في المبسوط من الاجتزاء بها مع فقد التراب، كما يجتزأ بالماء وحده. وكذا ما في القواعد والمختلف والدروس من أنه مع فقد التراب يجتزأ بما يشبهه، فإن فقد أجزأ الماء.

قال في المختلف: «لأن الحكم معلق فيتعين مع وجوده، فإن تعذر فما يقوم مقامه من الأشنان وشبهه، لحصول المقصود من التراب به، فإن فقد الجميع فالماء دفعاً لمشقة الاحتراز».

للمنع من حصول المقصود من التراب بغيره. وإلا لأجزأ اختياراً. ودفع المشقة لا يقتضي حصول الطهارة بغير المطهر.

ص: 251

ومثله ما في القواعد والتذكرة والمنتهى وعن التحرير والبيان من أنه إذا خيف فساد الإناء باستعمال التراب فهو كما لو فقد التراب. وأضعف من الكل الاكتفاء بغسلتين بالماء عند تعذر التراب، كما في المنتهى وعن غيره.

وأما ما ذكره في الجواهر من أنه قد يدعى ظهور النص والفتوى في إرادة الأواني الممكنة التعفير، دون ما يتعذر تعفيره في نفسه، لضيق رأسه جداً أو لنفاسته جداً، فيبقى حينئذ على حكم الأواني المتنجسة بغير الولوغ، قال: «كما اعترف به الأستاذ في كشفه واحتمله غيره».

ففيه: أن انصراف الأدلة عن الإناء المتعذر تعفيره لا يستند إلى مناسبة ارتكازية، بل لمجرد عدم تيسر تعفيره، ومثل ذلك لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق، بل لا يمنع من فهم عدم الخصوصية لو فرض قصور الإطلاق في نفسه. كما لا يبعد فهم عدم الخصوصية للإناء، والتعدي لكل ظرف.

الرابع: صرح في العروة الوثقى بكفاية الرمل. وكأن الوجه فيه كونه من التراب عرفاً، بل لغة، كما يظهر من تعريف بعضهم التراب بأنه ما نَعمُ من الأرض، وتعريف الرمل في لسان العرب بأنه نوع من التراب معروف.

نعم لا حجة في ذلك، لعدم نهوض تعاريف اللغويين بتحديد المفاهيم بنحو الدقة. ولاسيما مع ما عن الجمهرة من أن الصعيد هو التراب الخالص الذي لا يخالطه سبخ ولا رمل، فإن مقتضاه مباينة الرمل للتراب.

فالعمدة ظهور عموم التراب للرمل عرفاً، وأنه كل ما استدق من الأرض، كالطين ومسحوق الصخر والحصى والرمل، لا خصوص الطين، لئلا يلزم كون إطلاقه على مسحوق الصخر والحصى مجازاً، وهو بعيد جداً، ولا ما يعم الأولين دون الرمل، لعدم الجامع العرفي بينهما.

ويناسب ذلك كثير من الاستعمالات، كقولهم: «ترب الرجل» إذا افتقر، كأنه لصق بالتراب، وقولهم: «أترب الرجل» إذا كثر ماله حتى صار بقدر التراب،

ص: 252

وإطلاقهم التراب على المقبرة والقبر، وإطلاقهم الترباء على الأرض بلحاظ تجللها به، وقولهم: «ريح تربة» إذا كانت تحمل التراب و: «لحم ترب» إذا عفر بالتراب... إلى غير ذلك مما لا خصوصية للطين فيه ارتكازاً.

وكذا إطلاقه مجازاً على مسحوق غير الأرض، كالذهب والفضة وجميع الفلزات والمعادن، بل حتى مثل الخشب. لإرتكاز أن مصحح الإطلاق هو النعومة من دون خصوصية للطين. بل يبعد جداً الالتزام بأن الأراضي الرملية الشاسعة ليس فيها تراب... إلى غير ذلك مما يوجب وضوح العموم المذكور.

ومن ذلك يظهر ضعف ما أصر عليه شيخنا الأستاذ وبعض مشايخنا (قدس سرهما) وعن كشف الغطاء من عدم الاجتزاء بالرمل.

الخامس: حيث تقدم ابتناء الغسل على التعميق في إيصال الماء للمحل بمثل الدلك والفرك، فالظاهر لزوم ذلك في الغسل بالتراب، وعدم الاكتفاء باستيعابه للإناء ممزوجاً بالماء من دون عناية. عملاً بظاهر الإطلاق من دون مخرج عنه - من ارتكاز أو غيره - بعد خفاء كيفية تأثير التراب في تطهير الإناء من نجاسة الولوغ.

نعم يكفي مثل وضع التراب الممزوج بالماء في الإناء وخضه بشدة، لأنه نحو من الغسل عرفاً.

أما الغسلتان الأخريان بالماء وحده فلا يعتبر فيهما ذلك، لأن المستفاد من الصحيح وغيره مما تضمن غسل الإناء من ولوغ الكلب كون غسله بالماء على نحو غسله من سائر النجاسات.

السادس: لو تكرر الولوغ في الإناء الواحد أجزأ في تطهيره ثلاث غسلات أولاهن بالتراب. لأصالة التداخل في السبب ومنه الغسل المطهر في المقام وغيره، على ما تقرر في محله من الأصول في ذيل الكلام في مفهوم الشرط.

أما لو اجتمع مع الولوغ غيره من أسباب النجاسة فالتداخل إنما يكون في غسلتين بالماء فقط. لأصالة التداخل المتقدمة، ولزم إضافة غسله قبلهما بالتراب

ص: 253

لنجاسة الولوغ، وغسله ثالثة بالماء للنجاسة الأخرى، لعدم الدليل على الاجتزاء بغسلة التراب عنها.

نعم بناء على ما سبق في الأمر الثاني من أنه يلزم في غسلة التراب تنقية الإناء من التراب بالماء وتنظيفه به، يتعين قيام ذلك مقام الغسلة الثالثة اللازمة في النجاسة الأخرى المصاحبة للولوغ.

بل لو كانت النجاسة الأخرى من توابع الولوغ التي يكثر حصولها معه - كإصابة الإناء بحنك الكلب أو أنفه - فالظاهر الاكتفاء فيها بالتطهير من الولوغ، لأن كثرة حصولها مع الولوغ موجب للغفلة عنها، فعدم التنبيه لها في الصحيح موجب لظهوره في الاكتفاء في التطهير منها بالتطهير من الولوغ.

السابع: ما تقدم من سيدنا المصنف (قدس سره) من أن المعيار في موضوع الحكم هو الولوغ - الذي فسر بشرب الكلب بطرف لسانه - لا وجه له بعد كون موضوع الصحيح هو فضل الكلب، كما نبّه لذلك في مجمع الفائدة. وأن التعبير بالولوغ لم يرد إلا في النبويات التي سبق ضعف سندها، وعدم التعويل عليها في المقام، وفي كلمات جملة من الأصحاب الذي لا يبعد متابعتهم للعامة في تحرير موضوع المسألة، خصوصاً الانتصار والخلاف المبنيين على المقارنة بين مذاهب المسلمين، ولعله لذا لم يذكره الصدوق، بل ذكر الشرب ومطلق المباشرة.

نعم صدر الصحيح وإن تضمن الفضل الشامل للطعام والشرب من الماء وغيره من المايعات، إلا أن ذيله قد تضمن الماء.

لكن لا يبعد تنزيل الذيل على الغالب، فإنه أقرب ارتكازاً من تنزيل الفضل - الذي لا إشكال في عمومه لغير الماء - على خصوص الماء. وإن قيل باختصاص السؤر به، ولاسيما بعد كون الملحوظ في المقام هو سريان النجاسة، الذي لا إشكال في عدم اختصاصه بالماء. فلاحظ.

الثامن: ذكر في الفقيه والمقنع والمقنعة في كيفية تطهير الإناء في المقام أنه يجفف

ص: 254

(255) (مسألة 6): إذا لطع الكلب الإناء أو شرب بلا ولوغ لقطع لسانه أو باشره بلعابه فالظاهر أنه بحكم الولوغ في كيفية التطهير (1). وليس كذلك

بعد الغسلة الثالثة، وعن جملة من المتأخرين الجري على ذلك.

ويشهد به الرضوي: «وإن وقع كلب أو شرب منه أهريق الماء، وغسل الإناء ثلاث مرات بالماء، ومرتين بالتراب، ثم يُجفف»(1).

لكن لا مجال للتعويل عليه كما تكرر غير مرة، خصوصاً بعد اشتماله على ما لا يقول به الأصحاب في كيفية التطهير.

نعم ما حكاه في مستدرك الوسائل هكذا: «وغسل الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب ومرتين بالماء»(2). لكنه خال عن ذكر التجفيف.

ومن ثم لا مجال للخروج عن ظاهر صحيح الفضل وغيره مما تضمن غسل الإناء(3) من عدم اعتبار التجفيف. وربما يحمل ذكر التجفيف في كلماتهم على الغالب، من دون أن يكون شرطاً في التطهير.

(1) أما الشرب من دون ولوغ فلما تقدم في الأمر السابع. وأما لطعه بلسانه فقد صرح به غير واحد، وفي الجواهر أنه ينبغي القطع به.

وقد يوجه بصدق الولوغ عليه، لما في مجمع البحرين، حيث إنه - بعد أن عرف الولوغ بشرب الكلب من الإناء بأطراف لسانه - قال: «ويقال: الولوغ شرب الكلب من الإناء بلسانه أو لطعه له».

لكن لا مجال للبناء على ذلك بعد ملاحظة كلمات اللغويين والاستعمالات المتعلقة بالمادة. على أنه تقدم أن الولوغ لم يؤخذ في دليل المسألة، بل الفضلة غير

********

(1) الرضوي ص: 5 س: 28، الطبعة الحجرية.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 43 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الاسئار حديث: 3.

ص: 255

الحاصلة في المقام.

نعم قال سيدنا المصنف (قدس سره) في وجه الإلحاق: «فإن النجاسة حينئذ سارية من الفم إلى الإناء بلا واسطة، إذ احتمال اختصاص الحكم بالنجاسة السارية إلى الإناء بتوسط المائع مما لا ينبغي دعواه». ولعل ذلك هو الوجه في الأولوية المدعاة في الروض وعن شرح المفاتيح. بل ذكر ذلك شيخنا الأستاذ (قدس سره) صريحاً. وقد يرجع إليه الاستدلال في جامع المقاصد بمفهوم الموافقة.

واستظهر في مجمع الفائدة عدم الإلحاق إن لم يكن إجماع. وجزم به بعض مشايخنا (قدس سره)، لاحتمال خصوصية الشرب، ولا علم لنا بمناطات الأحكام.

لكن ذلك - لو تم - إنما يمنع من الاستدلال بالأولوية القطعية، ولا يمنع من الاستدلال بفهم عدم الخصوصية للشرب عرفاً، وغفلتهم عن الفرق، الراجع لفهم عموم الحكم من النص، وعدم التعويل على مثل هذه الاحتمالات لو نبه إليها. فإنه قريب جداً.

وأما مباشرته بلعابه فعن نهاية الأحكام إلحاقه بالولوغ، لدعوى أن المدار على اللعاب. خلافاً لما ذكره جماعة من عدم إلحاقه به. بل في الروض أنه المشهور، وفي الجواهر أنه المشهور نقلاً وتحصيلاً. لعدم الدليل على الإلحاق. ودعوى أن المدار على اللعاب، خالية عن الشاهد.

وأشكل منها دعوى: أن المعيار في الفضلة التي تضمنها الصحيح ما كان فيه من فضلة فمه شيء من اللعاب. لوضوح أن الفضلة عرفاً بقية الطعام والشراب من دون أخذ اشتمالها على شيء من لعاب صاحب الفضلة.

نعم ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن اللعاب لا يقصر عن سائر المائعات في سراية الأثر بواسطته من الفم أو اللسان إلى الإناء، فإلحاق المائعات بالماء دون اللعاب غير ظاهر. كما ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره) أنه بعد إلحاق اللطع بالولوغ للأولوية يتعين إلحاق مباشرة اللعاب، لأن تنجس الإناء باللطع إنما هو بتوسط اللعاب.

ص: 256

ما إذا تنجس بعرقه أو سائر فضلاته (1)، أو بملاقاة بعض أعضائه (2). نعم إذا صب الماء الذي ولغ فيه الكلب في إناء آخر جرى عليه حكم الولوغ (3).

وما ذكراه قريب جداً. بل من القريب جداً فهم العموم من النص، لغفلة العرف عن الفرق، نظير ما تقدم في اللطع. وإن كان في بلوغ ذلك هنا وفي اللطع حدّ الاستدلال إشكال.

(1) كما في الجواهر. لقصور الصحيح عنها، ولا مجال لدعوى الأولوية، أو فهم عدم الخصوصية.

(2) وفي الذكرى أنه المشهور. لعين ما سبق. لكن عمم في الفقيه والمقنع الحكم لما إذا وقع الكلب في الإناء، وفي المقنعة لما إذا مسه ببعض أعضائه، وعن النراقي موافقتهما، وإليه مال في الجواهر.

ويناسبه ما تقدم في الرضوي. بل قد يدعى فهمه من الصحيح، لإلغاء خصوصية الفضلة وفهم أن موضوع الحكم مطلق المباشرة، ولاسيما مع تعليل الحكم بقوله (عليه السلام): «رجس نجس»، حيث لا خصوصية في ذلك للولوغ.

لكن الرضوي لا ينهض بالاستدلال، كما تكرر غير مرة. وفهم عدم الخصوصية في غاية الإشكال، بل المنع. والمتيقن سوق للتعليل لبيان لزوم الاجتناب عن الماء، لا لبيان كيفية التطهير المذكورة بعد ذلك، وإلا لزم عموم الحكم المذكور لكل نجاسة، ولا يمكن الالتزام به، كما أشار إليه في الجملة سيدنا المصنف (قدس سره).

وأما ما في نهاية الأحكام من الاستدلال بالأولوية، لأن فم الكلب أنظف من بقية أعضائه ولذا كانت نكهته أطيب من غيره من الحيوانات لكثرة لهثه. فهو كما ترى لا يرجع إلى محصل ينهض بالاستدلال.

(3) قال في نهاية الأحكام: «والأقرب إلحاق ماء الولوغ به. لوجود الرطوبة اللعابية غالباً» وقواه في الجواهر، ونقل حكايته المحقق الثاني. وما سبق من نهاية

ص: 257

(258) (مسألة 7): الآنية التي يتعذر تعفيرها بالتراب تبقى على النجاسة (1)، أما إذا أمكن إدخال شيء من التراب الممزوج بالماء داخلها وتحريكه بحيث يستوعبها أجزأ ذلك في طهرها (2).

(مسألة 8): يجب أن يكون التراب الذي يعفر به الإناء طاهراً قبل الاستعمال (3).

الأحكام في توجيهه ممنوع صغروياً وكبروياً.

نعم قد يدعى أن تنجس الإناء بشرب الكلب بتوسط ملاقاته لفضلته، وهو حاصل في المقام. ولو تم تعين العموم لما إذا ولغ في غير الإناء فأصاب ذلك الماء الإناء، كما هو مقتضى إطلاق ما تقدم من نهاية الأحكام.

لكنه إن رجع إلى عموم الصحيح للمقام، لأن موضوعه التنجس بالفضلة. فهو ممنوع جداً، بل هو منصرف لفرض تنجس الإناء بالكلب بتوسط الفضلة، لا في مطلق التنجس بالفضلة.

وإن رجع إلى فهم عدم الخصوصية لمورد الصحيح، أو لتنقيح المناط، فهو قريب جداً. لكن في بلوغ ذلك حدّ الاستدلال إشكال. ولعله لذا صرح بعدم جريان حكم الولوغ في المعتبر والتذكرة والذكرى والمدارك وعن غيرها.

(1) كما يظهر مما تقدم في الأمر الثالث مما ألحقناه بالكلام في حكم الولوغ.

(2) بناءً على الاكتفاء في الغسل بالتراب بوصول التراب الممزوج بالماء لجميع سطوح الإناء. لكن تقدم المنع من ذلك في الأمر الخامس مما ألحقناه بالكلام في حكم الولوغ. كما تقدم كفاية خضّ الماء الممزوج بالتراب بشدة بنحو يصدق به الغسل عرفاً. فراجع.

(3) كما في التذكرة وجامع المقاصد والروض وعن المنتهى والبيان وغيرها. واحتمل في مجمع الفائدة عدم اعتبار طهارة التراب مع يبوسته وعدم مزجه في الماء.

ص: 258

وجرى على ذلك في المدارك ومال إليه في الرياض. بل قد يستظهر من إطلاق قدماء الأصحاب، وإن لم يخل عن الإشكال. وقد استدل له في المدارك بحصول الانقاء بالطاهر والنجس، وبإطلاق صحيح الفضل.

لكن حصول الانقاء بالطاهر والنجس لا ينفع ما لم تكن علة الغسل بالتراب هو الانقاء لا غير، وهو غير ثابت. وأما الإطلاق فهو منصرف للطاهر، لما هو المرتكز من عدم مطهرية النجس لأن فاقد الشيء لا يعطيه، كما ذكر في وجه اعتبار الطهارة في الماء المطهر، لعدم وضوح الفرق بينهما. وما في مجمع الفائدة من عدم استناد الطهارة له وحده لا يصلح فارقاً. ولاسيما مع مشاركة الماء له في ذلك هنا.

بل بناء على اعتبار مزج التراب بالماء يلزم من نجاسة التراب نجاسة الماء، فلا يكون مطهراً.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أنه حيث لابد في الغسل بالتراب من إزالة أثره بالماء - كما سبق منا في الأمر الثاني مما ألحقناه بالكلام في حكم الولوغ - فالمطهر هو الماء المذكور ولابد من طهارته لا غير.

فهو كما ترى، لأن المستفاد من أدلة المقام كون المطهر هو مجموع الغسلة الأولى، فلابد من طهارة تمام ما به الغسل فيها، لا خصوص تنقية الإناء من التراب، ليكتفى بطهارة الماء الذي به التنقية المذكورة.

هذا وأما الاستدلال للمدعى بما تضمن طهورية التراب، بناء على أن الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره. فيندفع - مضافاً إلى الإشكال في المبنى المذكور، كما يظهر مما ذكرناه في أول مباحث المياه من هذا الشرح - بأن مقتضى دليل طهورية التراب حينئذ طهارة التراب ومطهريته، لا شرطية طهارته في مطهريته. فالعمدة ما سبق.

ص: 259

(260) (مسألة 9): يجب في تطهير الإناء النجس من شرب الخنزير غسله سبع مرات (1)،

(1) كما في القواعد والمختلف - وذكر فيه أنه اختاره في أكثر كتبه - والدروس والذكرى وعن غيرها من كتب متأخري المتأخرين. لصحيح علي بن جعفر عن

أخيه (عليه السلام) في حديث قال: «وسألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات»(1).

هذا وفي المبسوط والخلاف وعن المصباح ومختصره أنه كالكلب، مستدلاً في الأولين بأنه يسمى كلباً، وزاد في الأول أنه لم يفرق أحد بينهما، وفي الثاني عموم لزوم غسل الإناء من النجاسات ثلاثاً، والخنزير نجس بلا خلاف.

والكل كما ترى، إذ لو غضّ النظر عن صحيح علي بن جعفر فتسمية الخنزير كلباً إما مجاز لا يصار إليه من دون قرينة، أو مبنية على إرادة السبع من الكلب، وهو مخالف للشايع من إطلاقه، المعلوم عدم إرادته من صحيح البقباق، إذ هو صريح في عدم إرادة السباع منه. كما أن عدم التفريق بينهما لم يثبت بنحو يصلح دليلاً على الإلحاق. وعموم لزوم غسل الإناء من النجاسات ثلاثاً لا ينفع في إثبات حكم الكلب، الذي تكون الغسلة الأولى فيه بالتراب.

هذا ويظهر من جماعة من الأصحاب، بل نسبه في كشف اللثام للأكثر، أن حكم شرب الخنزير حكم سائر النجاسات، فإن قيل بعموم غسل الإناء ثلاثاً من النجاسات إلا ما استثني - كما تقدم من الخلاف - اكتفي فيه بالثلاث من دون تراب، وإن قيل بعموم الاكتفاء في الإناء بالمرة إلا ما استثني - كما هو ظاهرا لنهاية وصريح السرائر والمعتبر - اكتفي فيه بها. وهو يبتني على غضّ النظر عن صحيح ابن جعفر ولو بحمله - كما في المعتبر ومحكي اللمعة - على الاستحباب.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 260

(261) وكذا من موت الجرذ (1)

لكن لا وجه بعد ظهور الصحيح في الوجوب فإن الخروج به عن الإطلاق أنسب بالجمع العرفي من الخروج بالإطلاق عن ظهوره في الوجوب، كما يظهر بملاحظة النظائر، ومنها ولوغ الكلب. بل هو أولى من ولوغ الكلب، لأن ابتلاء المسلمين بالكلب أكثر من ابتلائهم بالخنزير، فحمل الإطلاق على ماعدا الخنزير أهون من حمله على ماعدا الكلب.

ودعوى: سقوط الصحيح بالإعراض، لعدم ظهور عامل به قبل العلامة، بل عدم ظهور من أشار إليه من أهل الاستدلال قبل المحقق في المعتبر.

مدفوعة بعدم وضوح كفاية ذلك في الاعراض المسقط عن الحجية، لامكان ابتناء عدم فتواهم بمضمونه على البناء على الجمع بينه وبين الإطلاقات بالحمل على الاستحباب، كما سبق من المعتبر، لا على إهماله والإعراض عنه.

ولاسيما مع قلة الابتلاء بالخنزير حيث يحتمل كونها المنشأ لعدم تعرض جماعة لحكمه، من دون أن يكون لبنائهم على عدم وجوب السبع فيه إعراضاً عن الصحيح.

بل مقتضى ما في الوسائل ويناسبه طريق الشيخ رواية الكليني له في الكافي، وهو ظاهر في عمله به. وإن لم أجده في الطبعة الحديثة منه. ومن ثم لا مجال للخروج عنه. فلاحظ.

(1) ذكر ذلك كثير من الأصحاب، بل نسبه في جامع المقاصد للمشهور، وإن اختلفوا بين من عبر بالجرذ - كما في الذكرى وجامع المقاصد وعن تعليق النافع - ومن عبر بالفارة - كما في النهاية والمراسم والوسيلة والدروس وغيرها - وعليه قد يحمل ما في المقنع، حيث قال: «وإذا أصبت جرذاً في إناء فاغسل ذلك الإناء سبع مرات». خلافاً للشرايع والنافع والمعتبر والقواعد وعن كشف الرموز من الاكتفاء بالثلاث.

ص: 261

(262) وإذا تنجس الإناء بغير ما ذكر وجب في تطهيره غسله ثلاث مرات (1).

ويشهد للأول موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: «اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتاً سبع مرات»(1). وما ذكره المحقق في المعتبر وغيره من ضعف الحديث، لأن رواته فطحية. ممنوع، كما حقق في الأصول. ومثله ما ذكره من أن ميتة الفارة والجرذ لا يكون أعظم نجاسة من ميتة الكلب والخنزير. فإنه تحكم لا يدفع به الدليل.

على أنه لو تم عدم حجية الموثق لم يبق وجه للبناء على الثلاث من مثل المحقق والعلامة ممن يأتي منه البناء على الاكتفاء بالمرة في الإناء في غير ذلك، لعدم دليل خاص في الجرذ إلا الموثق المتضمن للسبع.

نعم من الظاهر أن موت الجرذ بنفسه لا يوجب نجاسة الإناء، خصوصاً بعد كونه محاطاً بالشعر الذي لا تحله الحياة. بل نجاسة الإناء مع موت الجرذ موقوفة على وجود رطوبة تقتضي سريان النجاسة مما تحله الحياة من أجزاء الجرذ إلى الإناء، ولا إشعار بذلك في الموثق وليس حمله على ذلك للعلم بعدم نجاسة الإناء بمجرد الموت بأولى من إبقائه على ظهوره في سببية الموت بنفسه للأمر بالغسل مع حمله على الاستحباب، للقطع بعدم وجوب غسل الإناء إذا لم يتنجس. ومن ثم لا يخلو الحكم المذكور عن إشكال.

هذا وموضوع الموثق هو موت الجرذ والتعميم للفارة مبني على إلغاء خصوصيته عرفاً، أو القطع بعدم الفرق. وكلاهما لا يخلو عن إشكال أو منع.

(1) كما في الخلاف والدروس والذكرى وجامع المقاصد وعن ابن الجنيد وكثير من متأخري المتأخرين. لموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن الكوز والإناء يكون قذراً كيف يغسل، وكم مرة يغسل؟ قال: يغسل ثلاث مرات، يصب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 262

(263) (مسألة 10): التطهير بالماء المعتصم - كالجاري والكر وماء المطر - يحصل بمجرد استيلاء الماء على المحل النجس، من غير حاجة إلى عصر (1)،

فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه، وقد طهر»(1).

وظاهر النهاية الاكتفاء بالمرة. وهو صريح السرائر والشرايع والمعتبر والنافع والقواعد وعن أكثر كتب العلامة والبيان وغيرها. إما استضعافاً للموثق، أو للجمع بينه وبين مرسل المبسوط: قال: «وقد روي غسله مرة واحدة».

ويظهر ضعف الأول مما تقدم في موت الجرذ. على أن اللازم حينئذ الرجوع بعد سقوطه عن الحجية للأدلة الأخر، وقد سبق وجوب الغسل مرتين للبول، فيلزمهم التفصيل بين نجاسة البول وغيره. إلا أن يكون مبناهم الاقتصار في المرتين للبول على الثوب والبدن. لكن عرفت ضعفه. ويندفع الثاني بعدم نهوض المرسل بالحجية، فضلاً عن أن يرفع به اليد عن ظاهر الموثق.

هذا وفي اللمعة وعن الألفية لزوم المرتين في الإناء. ولا وجه له إلا البناء على عموم لزوم المرتين في تطهير المتنجسات، عملاً بما ورد في البول، بناءً على إلغاء خصوصية البول والتعدي لسائر النجاسات - كما يظهر من الدروس - وإلغاء خصوصية الثوب والبدن والتعدي لسائر المتنجسات، والثاني وإن كان قريباً، كما سبق، إلا أن الأول خال عن الشاهد. على أنه لو تم تعين الخروج عنه بالموثق، الذي عرفت نهوضه بالاستدلال.

(1) كما في التذكرة ونهاية الأحكام وعن جماعة من المتأخرين، بل في الجواهر: «لم نعثر على مصرح بخلافه». ويظهر الوجه فيه مما سبق في المسألة الأولى من أن لزوم العصر ونحوه إنما هو من أجل إخراج ماء الغسالة للبناء على نجاسته، فمع فرض اعتصام الماء وطهارة ماء الغسالة لا موجب لإخراجه بالعصر أو نحوه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 263

(264) ولا إلى تعدد (1).

نعم لو قلنا بتوقف صدق الغسل على إخراج ماء الغسالة تعين لزوم العصر أو نحوه في المقام. لإطلاق الأدلة. ومن ثم ذهب بعض مشايخنا (قدس سره) لعموم اعتبار العصر أو نحوه للكثير. لكن سبق في المسألة المذكورة المنع من أخذ العصر ونحوه في مفهوم الغسل. فراجع.

(1) كما في التذكرة والدروس وعن الذكرى نفي الريب فيه في التطهير من البول، بل في الجواهر انه لم يعرف من صرح باعتبار العدد فيه، بل يظهر من الأصحاب الاتفاق على الاكتفاء فيه بالمرة في الجاري، ولذا نفى الريب عنه في الذكرى، بل صرح به في الكثير أيضاً الشهيدان والمحقق الثاني، كما صرح بعدمه في الأواني العلامة في القواعد والمنتهى والشهيدان والمحقق الثاني وغيرهم. وكيف كان فبعد أن سبق الاقتصار في التعدد على البول والأواني يحسن الكلام في كل منهما على حدة.

أما البول فيشهد بالاكتفاء بالمرة في تطهير الثوب منه بالماء المعتصم صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله في المركن مرتين، فإن غسلته في ماء جار فمرة واحدة»(1).

وهو وإن اختص بالجاري، إلا أن من الظاهر أن التفصيل فيه غير مستوف لصور غسل الثوب الشايعة فضلاً عن جميع صوره، فإن المركن هو الإجانة التي تغسل بها الثياب، ومن الظاهر عدم انحصار التطهير بالماء غير المعتصم بالغسل به، كعدم انحصار الغسل بالمعتصم بالغسل بالجاري.

والالتزام بسوق الصحيح لبيان حكم الصورتين فقط، من دون نظر لغيرهما، بعيد جداً، لعدم مناسبته للسؤال، ولظهور حال المفصل في الاهتمام باستيفاء الأقسام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 264

ومن ثم كان الظاهر من التفصيل في المقام استيفاء الأقسام بالاعتماد على جهة ارتكازية تقتضي إلحاق ما لم ينص عليه من الأقسام بالقسمين المصرح بهما، وليس هنا جهة ارتكازية في الفرق بين القسمين إلا انفعال الماء وقهره بالنجاسة، واعتصامه وعدم انفعاله بها. وذلك كاف في إلغاء خصوصية المركن وفهم العموم لكل ماء غير معتصم، وإلغاء خصوصية الجاري وفهم العموم لكل ماء معتصم.

نعم لو ورد بيان حكم الجاري ابتداءً - كما لو سئل عن التطهير من البول في الماء الجاري فأجيب بالاكتفاء فيه بالمرة - لم يخل التعدي لغيره من أقسام المعتصم عن إشكال، لعدم القرينة على اعتماد المتكلم على الجهة الارتكازية المذكورة في إفادة التعميم. فلاحظ.

على أن من القريب إلغاء خصوصية الجاري والتعميم لكل ماء معتصم حتى في ذلك لما هو المرتكز من أن ميزة الجاري هي اعتصامه، ولذا لا إشكال ظاهراً في حمل الجاري في المقام وغيره على المعتصم ولو بالمادة، دون غيره كالقليل الجاري.

ولعله لما ذكرنا ونحوه حكي عن كثير من الأصحاب أنه لا قائل بالفرق بين الكثير والجاري، حيث لا يبعد فهمهم ذلك من الصحيح بدواً، لا من دليل خارج من إجماع أو نحوه.

هذا مضافاً إلى صحيح داود بن سرحان: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في ماء الحمام؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري»(1) قال سيدنا المصنف (قدس سره): «وإذا ثبت ذلك لماء الحمام الذي يكون في الحياض الصغار يثبت لما في الخزانة بطريق أولى».

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن التنزيل إنما هو بلحاظ اعتصام الماء، لأن ذلك هو المنشأ للسؤال عن ماء الحمام. ففيه أن مجرد كون منشأ السؤال هو الشك في الاعتصام - لو تم - لا يكفي في الخروج عن إطلاق التنزيل، وحمله على خصوص الاعتصام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 265

ومن هنا لا ينبغي التأمل في التعدي عن الجاري لكل معتصم. وإلا فمن البعيد جداً البناء على الاكتفاء بالمرة عند غسل الثوب في النهر الجاري، ولزوم التعدد عند غسله في الحياض الكبيرة المتجمعة عند السدود التي يجري النهر ويستمد منها، وعند غسله في البحر والأهوار التي يصب النهر فيها.

هذا كله في الثوب الذي هو مورد الصحيح، وأما البدن فقد يظهر من صاحب الحدائق التوقف في العموم له، بل هو الذي حكاه في الجواهر عما حضره من نسخة الجامع لابن سعيد، وإن قال: «وظني أنه غلط، لأن المنقول عنه التفصيل بين الجاري والراكد في اعتبار المرة والمرتين من غير فرق بين الثوب والبدن. وعلى كل فهو في غاية الضعف، بل لا يقدح في دعوى تحصيل الإجماع على عدم الفصل».

والعمدة فيه إلغاء خصوصية الثوب عرفاً بلحاظ الجهة الارتكازية المشار إليها آنفاً، فإنها تعم البدن بل كل متنجس. ولاسيما بلحاظ استبعاد الفرق بين المتنجسات في التطهير، حيث يؤكد ذلك إلغاء خصوصية الثوب عرفاً. نظير ما تقدم في وجه تعميم وجوب التعدد في التطهير من البول لغير الثوب والبدن من المتنجسات.

مضافاً إلى أن الأمر بالصب مرتين في البدن قد ورد في سياق الأمر بغسل الثوب مرتين في أكثر النصوص. فحمل الغسل مرتين في الثوب على التطهير بالماء غير المعتصم بقرينة صحيح محمد بن مسلم، مناسب لحمل الصب في البدن مرتين عليه أيضاً.

بل هو شاهد بانصراف الصب المذكور لصب الماء القليل حتى في بقية النصوص الذي لم تتعرض للثوب. ولاسيما مع عدم تعارف الصب في الكثير في العصور السابقة، وإنما تعارف في عصورنا، بسبب شيوع ماء الإسالة.

ويؤيد ذلك أو يعضده عدم الإشكال في طهارة الأرض المتنجسة بالبول بمجرد إصابة المطر لها الذي يشهد له - مضافاً إلى السيرة القطعية - بعض النصوص كصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام): «سألته عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من

ص: 266

الجنابة ثم يصيبه المطر، أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة. قال: إذا جرى فلا بأس به»(1).

لظهور شموله لما إذا لم يبلغ الماء كراً وأخذ منه بعد انقطاع المطر، مع أنه لو توقف التطهير بالمطر على التعدد لزم بقاء ظهر البيت نجساً فينجس ماء المطر الذي حصل عليه بعد انقطاع المطر عنه.

والاقتصار في ذلك على ماء المطر من بين المياه المعتصمة بعيد جداً. خصوصاً مع قرب كون منشأ السؤال عن ماء المطر تقاطره المناسب لكونه من القليل الذي ينفعل بالنجاسة، وورود أدلة اعتصامه لدفع الشبهة المذكورة، وأنه ملحق بالمعتصم، لا لبيان تميزه عن بقية أفراد المعتصم، فبقية أفراد المعتصم أولى بالاعتصام وبترتب الأحكام المناسبة له.

ومن ثم كانت المناسبات الارتكازية قاضية برجوع صحيح محمد بن مسلم المتقدم الوارد في الثوب وما ورد في المطر إلى جامع واحد، وهو سقوط التعدد في التطهير بالماء المعتصم، كما جرى عليه المشهور.

وأبعد من ذلك الاقتصار على الأرض من بين المتنجسات بعدما سبق من عموم لزوم التعدد لكل متنجس بالبول وعدم اختصاصه بالثوب والبدن، فإن إلغاء خصوصية الثوب والبدن في أدلة التعدد تناسب إلغاء خصوصية الأرض في المقام.

هذا ويدل على ما ذكرنا أيضاً صحيح الكاهلي عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في حديث: «كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر»(2). لقوة ظهوره في كفاية مجرد الرؤية في التطهير بلا حاجة إلى التعدد. بنحو لو قدم عليه إطلاق دليل التعدد لزم إلغاء خصوصيته. ولا يضر اختصاصه بالمطر، نظير ما تقدم في صحيح علي بن جعفر.

وكذا ما في المختلف: «ذكر بعض علماء الشيعة أنه كان بالمدينة رجل يدخل على

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 5.

ص: 267

أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيف، وكان يأمر الغلام يحمل كوزاً من ماء يغسل رجله به إذا [إن. خ ل] أصابه، فأبصره يوماً أبو جعفر (عليه السلام)،

فقال: إن هذا لا يصيب شيئاً إلا طهره فلا تُعِد لله منه غسلاً»(1) لظهوره في خصوصية الماء المذكور في التطهير بمجرد الإصابة نظير ما تقدم في حديث الكاهلي.

نعم ضعف سندهما - خصوصاً الثاني - مانع من الاستدلال بهما. غايته أنهما يكونان مؤيدين لما تقدم، الذي هو كاف في إثبات المطلوب. فلاحظ.

هذا وقد أطلق بعض الأصحاب اعتبار التعدد في التطهير من البول، كما في الشرايع والمعتبر وغيرهما. كما فصل بعضهم بين الجاري والراكد، كما في الفقيه، وما تقدم من الجواهر عن الجامع لابن سعيد، ويناسبه الرضوي: «وإن أصاب بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة، ومن ماء راكد مرتين... ثم اعصره»(2).

ولا يبعد حمل الأول على صورة الغسل بالقليل، وإلا فمن البعيد جداً بناؤهم على عمومه للغسل حتى بالجاري، الذي تقدم في صحيح محمد بن مسلم سقوط التعدد معه.

كما لا يبعد حمل الراكد في الثاني على ما تعارف من الغسل في المركن، كما تضمنه صحيح محمد بن مسلم الذي ينحصر دليل التفصيل به، لا إلى مطلق الراكد وإن كان كثيراً أو ذا مادة. وإلا فيظهر ضعفه مما سبق. كضعف ما ذهب إليه بعض مشايخنا (قدس سره) من الاقتصار في سقوط التعدد على الجاري وماء المطر، جموداً على مورد النصوص المتقدمة.

وأما الأواني فأدلة التعدد فيها بين ما له إطلاق يشمل الغسل بالمعتصم، وهو دليل التطهير من شرب الخنزير وموت الجرذ، بل ومن الولوغ أيضاً بناء على ثبوت لفظ المرتين» في صحيح البقباق وما ليس له إطلاق، بل يختص بالقليل، وهو موثق

********

(1) المختلف ص: 3 المسألة الأولى من باب المياه.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات والأواني حديث: 1.

ص: 268

عمار الوارد في تطهير الكوز والإناء القذر، لاختصاص كيفية التطهير المذكورة فيه بالقليل.

والأمر في الثاني سهل، إذ بعد قصور دليل التعدد عن صورة الغسل بالماء المعتصم يكون المرجع إطلاق أدلة الغسل - لو تمت - وإطلاق دليل طهورية الماء المقتضيين للاكتفاء بالمرة.

وأما الأول فقد يستدل لتقييده بغير المعتصم بما ورد في المطر، بناء على ما تقدم من قضاء المناسبات الارتكازية بالتعدي منه لكل ماء معتصم. لكن تقدم عند الكلام في ماء المطر من مباحث المياه التعرض لما استدل به على سقوط التعدد في الإناء به، وسبق منا المنع من نهوض النصوص بذلك. والسيرة لو تمت على طهارة الإناء بإصابة المطر له أو للماء الذي فيه، فالمتيقن منها نجاسة الإناء بغير الولوغ وشرب الخنزير وموت الجرذ.

فلابد إما من التشبث بما سبق في البول للبناء على إلغاء خصوصيته، وأن المستفاد منه سقوط التعدد مطلقاً، لأن الجهة الارتكازية المشار إليها في وجه الاستدلال بصحيح محمد بن مسلم تعم جميع موارد التعدد.

أو دعوى انصراف الغسل في نصوص الإناء للغسل بالقليل، لأنه هو المتيسر لعامة الناس في عصر صدور الروايات أو لنحو ذلك، كما يناسبه موثق عمار المتقدم الوارد في تطهير الكوز والإناء القذر، حيث سئل فيه عن كيفية غسله، وكانت الصورة المذكورة في الجواب هي غسلة بالماء القليل. ولاسيما أن موثق عمار الوارد في غسل الإناء لموت الجرذ من تتمة الموثق المذكور، وقد سبق انصرافه للغسل بالقليل، وأن دليل تعدد الغسل بالماء في الولوغ لم يستفد من إطلاق يعتد به، لعدم ثبوت اشتمال صحيح البقباق على لفظ «مرتين»، وإنما تمم الدليل عليه بإطلاق موثق عمار المذكور، الذي هو مختص بالماء القليل.

على أن خصوصية الإناء ارتكازاً إنما هي بهيئته، كما تقدم عند الكلام في عموم

ص: 269

التعدد في التطهير من البول لغير الثوب والبدن، بلحاظ أنه يرسب فيه ماء الغسالة، واستقذار ماء الغسالة أو نجاسته مثير لشبهة عدم تطهيره أو احتياجه لعناية زائدة في التطهير، ولذا كانت المناسبات الارتكازية قاضية بإلحاق ما يشاركه في الجهة المذكورة في كيفية التطهير وإن لم يصدق عليه الإناء، كالهاون والصفائح المعدنية والقناني الزجاجية، وبقصور تلك الكيفية عن الإناء إذا لم يرسب فيه ماء الغسالة كالصحون المنبسطة والأواني المثقوبة التي لا يرسب الماء فيها بل يتسرب بمجرد صبه على الموضع النجس منها، وكظاهر الإناء.

وحينئذ فمن الظاهر أن الخصوصية المذكورة إنما تقتضي الاستقذار والعناية في التطهير إذا كان ماء الغسالة نجساً، لعدم اعتصامه، أما إذا كان معتصماً فلا أثر للخصوصية المذكورة في الاستقذار ولا في احتياج التطهير للعناية. وكفى بذلك منشأ للانصراف المدعى في المقام، معتضداً أو مؤيداً بجميع ما سبق.

هذا وفي المبسوط ونسخة من الخلاف أنه لو ولغ الكلب في الإناء ثم وقع الإناء في ماء معتصم حصل له بذلك غسلة واحدة. وفي المعتبر والمنتهى أنه يطهر لو تعاقبت عليه الجريات.

وظاهرهم عدم سقوط التعدد في المعتصم، غايته أنه اكتفى في المعتبر والمنتهى عن الغسلات المتعددة بالجريات المتعددة في غمسة واحدة. وكأن مرادهما من الجريات المتعددة تعاقب جريان الماء عليه بسبب تحريكه فيه، بحث يمر عليه مياه متعددة من الماء الكثير الذي وقع فيه.

ويظهر ضعف ما ذكروه مما سبق في وجه سقوط التعدد في الماء المعتصم. ولعله لذا قال في المنتهى في آخر الفرع المذكور: «والأقرب عندي بعد ذلك كله أن العدد إنما يعتبر لو صبّ الماء فيه، أما لو وقع الإناء في ماء كثير أو ماء جارٍ وزالت النجاسة طهر». كما يظهر ضعف ما ذكره الشيخ (قدس سره) من حصول غسلة واحدة مما سبق من لزوم تقديم الغسل بالتراب، بناء على ما يأتي من عدم سقوطه في الكثير. بل لا منشأ

ص: 270

نعم الإناء المتنجس بولوغ الكلب لا يسقط فيه الغسل بالتراب الممزوج بالماء (1)،

لاحتمال سقوط التراب بعد عدم سقوط التعدد ولعله لذا كان في النسخة الأخرى من الخلاف عدم حصول شيء من الغسلات بذلك.

ويظهر ضعف ما في المعتبر والمنتهى من الاكتفاء عن الغسلات المتعددة بالجريات المتعددة من ظهور دليل التعدد في عدم احتساب الغسلة الجديدة إلا بعد تفريغ الإناء من الماء وخلوه منه، وهو الظاهر أيضاً من إطلاق تعدد الغسل.

(1) كما في جامع المقاصد والروض وعن البيان، ويناسبه إطلاق غير واحد خلافاً لما في نهاية الأحكام من النص على عدم الحاجة للتراب حينئذ، وهو ظاهر القواعد والتذكرة والمختلف. ويظهر منه أن الوجه في ذلك اختصاص دليل التعدد بصورة صب الماء في الإناء الذي لا يتم إلا في القليل.

ويظهر ضعفه مما تقدم من اختصاص ذلك بموثق عمار الوارد في تطهير الإناء القذر على إطلاقه، دون بقية ما ورد في الإناء، ومنه الصحيح الوارد في الولوغ.

نعم لو تم انصراف الغسل في بقية ما ورد في الإناء للغسل بالقليل بقرينة موثق عمار المذكور، كما تقدمت الإشارة لذلك اتجه ما ذكره.

لكن في نهوضه وحده بالاستدلال في المقام والخروج عن إطلاق دليل التراب إشكال، بل منع خصوصاً بعد ذكر الغسل بالتراب فيه أولاً قبل التعرض للغسل بالماء، حيث يقوى حينئذ إطلاقه.

على أن من القريب إلغاء خصوصية القليل في الاحتياج للتراب، لأن القلة والكثرة بمقتضى المناسبات الارتكازية إنما يكونان دخيلين في قوة مطهرية الماء وضعفها، لا في الاستغناء عن غيره في التطهير والاحتياج له، وذلك يناسب سقوط التعدد في الكثير دون التراب.

ص: 271

(272) وإن سقط فيه التعدد (1).

(مسألة 11): يكفي الصب في تطهير المتنجس ببول الصبي (2) قبل

نعم لو كان الدليل على سقوط التعدد في المعتصم قوله (عليه السلام) في حديث الكاهلي المتقدم: «كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر» اتجه سقوط التراب أيضاً، كما تقدم في المسألة الثانية عشرة من مباحث المياه. لكنه ممنوع، كما تقدم هناك.

(1) كما يتضح وجهه مما سبق.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب. ونفى وجدان الخلاف فيه في المدارك والحدائق والجواهر ومحكي الذخيرة والمعالم، بل نفى الخلاف فيه في المفاتيح، وفي المدارك والحدائق وعن الدلائل أنه مذهب الأصحاب، وفي الناصريات والخلاف دعوى الإجماع عليه.

ويقتضيه النصوص، كصحيح الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) المتضمن ما تقدم من حكم إصابة البول للجسد والثوب وفيه بعد ذلك: «وسألته عن الصبي يبول على الثوب. قال: تصب عليه الماء قليلاً ثم تعصره»(1) ، وصحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الصبي. قال: تصب عليه الماء، فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً والغلام والجارية في ذلك شرع سواء»(2) ، ونحوهما غيرها مما لم يتضح اعتبار سنده.

نعم في موثق سماعة: «سألته عن بول الصبي يصيب الثوب. فقال: اغسله. قلت: فإن لم أجد مكانه؟ قال: اغسل الثوب كله»(3).

لكن لابد من حمله على من أكل، بقرينة صحيح الحلبي. أو على سوقه لبيان نجاسته من دون نظر لخصوصية الغسل عن الصب، ردعاً عن توهم طهارته الذي قد يظهر من بعض النصوص، وحكي عن ابن الجنيد، على ما تقدم في مسألة نجاسة البول.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2، 3.

ص: 272

(273) أن يتغذى بالطعام (1).

ولعله الأظهر، لأن الذي لم يأكل أظهر أفراد الصبي الذي يبول على الثوب عرفاً، وهو الذي ينسبق من الإطلاق أولاً، فهو وإن لم يكن بالنحو الذي يختص به الإطلاق، إلا أنه كالمتيقن منه في المقام، كما يناسبه الصحيحان الأولان، فيصعب جداً حمل إطلاق الصبي في الموثق المتقدم على غيره.

(1) كما لعله المعروف. ويقتضيه صحيح الحلبي المتقدم. خلافاً للسرائر، فاكتفى بعدم بلوغه السنتين.

وهو خروج عن ظاهر النصوص، إذ لو بني على العمل بإطلاق الصبي - كما في صحيح الحسين - لزم الاكتفاء بعدم بلوغه سن التكليف، وإن بني على العمل بصحيح الحلبي لزم جعل المدار على الأكل.

نعم تضمنت جملة من عبارات الأصحاب عنوان الرضيع. لكنه إن لم يرجع لمفاد صحيح الحلبي خال عن الشاهد. مع أن ظاهره اعتبار فعلية الرضاع، لا عدم تجاوز سن الرضاع الشرعي. ومن ثم قد يحمل ما في السرائر على ما يأتي من اعتبار عدم تجاوز سن الرضاع زائداً على اعتبار عدم الأكل. ويأتي الكلام فيه.

هذا والمراد من عدم التغذي بالطعام عدم التغذي به بالوجه المعتد به، بحيث تصدق أنه من غذائه، كما صرح به جماعة على اختلاف منهم في بيان ذلك. قال في الجواهر: «فلا عبرة بالأكل نادراً أو دواءً ونحوهما، وإلا لم يتحقق موضوع المسألة، لاستحباب تحنيك الولد بالتمر، كما في المنتهى وغيره». وهو أقرب مما في المنتهى حيث قال: «بل الأقرب تعلق الحكم بطعمه مستنداً إلى إرادته وشهوته».

وأما ما في جامع المقاصد والروض والمسالك وعن حاشية الشرايع من اعتبار مساواة الغذاء للبن أو كونه أكثر منه. فهو خروج عن إطلاق صحيح الحلبي من غير دليل.

ص: 273

بل في مدة الرضاع (1)، على الأحوط. وإن كان الأقوى عدم اعتبار ذلك، بل يكفي الصب مادام رضيعاً لم يتغذ وإن تجاوز عمره الحولين، ولا يحتاج إلى العصر (2).

ومثله ما قد يحمل عليه كلام السرائر المتقدم من اعتبار الأكل بعد السنتين، ولا عبرة بالأكل قبلها ولو كثر.

(1) وهي السنتان، فلا يكتفي بالصب بعدها وإن لم يأكل. كما في جامع المقاصد والروض والمسالك وعن حاشية الشرايع. وقد يحمل عليه كلام السرائر المتقدم.

وكأنه لحمل صحيح الحلبي على خصوص الرضيع الذي سبق اشتمال جملة من عبارات الأصحاب عليه، مع حمل الرضيع على من كان في سن الرضاع الشرعي، ويظهر ضعفه مما سبق. أو لحمله على الأعم من فعليته الأكل وشأنيته، لتجازوه سن الرضاع الشرعي. وهو أضعف.

(2) كما هو صريح جماعة، إما لأن العصر هو المقوم للغسل، والذي به يمتاز عن الصب، فيكون ظاهر ما تضمن الاكتفاء بالصب عدم اعتباره، بل يكون كالصريح من صحيح الحلبي المتضمن للتفصيل بين من أكل وغيره بلزوم الغسل في الأول دون الثاني.

وإما لأن الغرض من العصر انفصال ماء الغسالة، وهو غير لازم في المقام، كما صرح به جماعة، بل في المدارك أنه مما قطع به الأصحاب، وقد يظهر من الشيخ في الخلاف دخوله في معقد الإجماع المدعى على الاكتفاء بالصب. قال في الجواهر: «لكن ظهور الأدلة - من النصوص وغيرها، كما لا يخفى على من لاحظها - في خفة هذه النجاسة والتساهل في أمرها، وأنه لذلك خالفت غيرها من النجاسات - مضافاً إلى ظاهر الإجماع السابق وغيره - يمنع اعتبار أصل الانفصال...».

ويظهر ضعف الأول مما سبق في المسألة الأولى من تقوم الغسل بنحو من

ص: 274

والأحوط وجوباً اعتبار التعدد (1).

التعميق لإزالة النجاسة، لا بالعصر. ولاسيما بلحاظ صحيح الحلبي، إذ لو كان الغسل متقوماً بالعصر لكان الأنسب أن يقول فيه: «فإن كان قد أكل فاعصره».

وأما الثاني فيندفع بعدم وضوح قيام إجماع تعبدي على عدم وجوب إخراج ماء الغسالة. ولاسيما مع عدم تعرض بعضهم - كالمفيد في المقنعة - لحكم بول الرضيع أصلاً، ومع تعبير الصدوق في الفقيه بمضمون صحيح الحلبي الذي عرفت حاله، ومع قرب ابتناء ذهاب من ذهب إلى ذلك على الوجه الأول الذي عرفت ضعفه. ومنه يظهر حال ما سبق من الجواهر.

ومن ثم لا مخرج عما سبق في وجه اعتبار العصر ونحوه في سائر النجاسات، ويكون امتياز بول الصبي المذكور عن غيره بالإكتفاء فيه بالصب قبل العصر بلا حاجة إلى الفرك والغمز ونحوهما مما يتحقق به الغسل.

ولاسيما مع ما سبق في صحيح الحسين بن أبي العلاء من الأمر بالعصر. وحمله على العصر للتجفيف، أو عملاً بمقتضى العادة، أو لإخراج عين النجاسة بلا قرينة. وكذا حمله على الاستحباب.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن القرينة عليه تقييد العصر في الصحيح بكونه بعد الصب، للقطع بكفاية العصر حين الصب لو قيل بوجوبه.

ففيه: أنه لا موضوع للعصر إلا بعد الصب. غايته أن الصب قد يستمر زيادة على المقدار الواجب فيجوز حينئذ مقارنة الصب له باستمراره، لكنه خارج عن مفاد الصحيح، فإن موضوعه مسمى الصب الحاصل بأول أزمنته، وهو الذي يلزم تأخر العصر عنه.

(1) كما عن كشف الغطاء، وفي الجواهر: «لم أعثر على موافق له صريحاً». وكأنه لإطلاق نصوص التعدد في البول.

ص: 275

(276) ولا تلحق الأنثى بالصبي (1).

لكنها إنما تضمنت غسل الثوب من البول مرتين، فما دل على عدم وجوب الغسل من بول الرضيع والاكتفاء فيه بالصب مخرج له عنها موضوعاً، بل يكون مقتضى إطلاق الصب فيه الاكتفاء بالمرة معتضداً بالإطلاق المقامي لأدلة طهورية الماء.

نعم الظاهر اختصاص الإطلاق المذكور بصحيح الحسين بن أبي العلاء، حيث لم يشر فيه للتعدد، ولاسيما مع التنبيه فيه على قلة الماء. لقوة ظهوره حينئذ في الاكتفاء بالصبة الواحدة في ذات الماء القليل.

بل قد يقال: إن عدم التعرض فيه للتعدد في الصب من بول الصبي مع التعرض في صدره للتعدد في الغسل من مطلق البول موجب لقوة ظهوره في سقوط التعدد في الصب من بول الصبي. لكنه موقوف على كونهما في كلام واحد، ليكون بعضه قرينة على بعض. وهو غير ظاهر، لما أشرنا إليه غير مرة - تبعاً لشيخنا الأستاذ (قدس سره) - من أن الفصل بين الكلامين بمثل: «وسألته» قد يناسب تعدد الكلام.

كما أن صحيح الحلبي حيث كان مسوقاً للفرق بين بول الصبي وغيره بالصب والغسل يشكل ظهوره في الإطلاق من حيثية التعدد، وينحصر الأمر بصحيح الحسين بالتقريب المتقدم.

(1) قال في الجواهر: «وفاقاً للمشهور، بل لعله لا خلاف فيه... بل في مفتاح الكرامة عن المختلف الإجماع عليه وإن لم أجده فيما حضرني من نسخته».

لاختصاص صحيح الحسين بن أبي العلاء بالصبي، ولما في موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام: «أن علياً عليه السلام قال: لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم، لأن لبنها يخرج من مثانة أمها، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل أن يطعم، لأن لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 276

وفي حديث زينب بنت جحش عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يجزي الصب على بول الغلام، ويغسل بول الجارية»(1) وفي حديث لبابة بنت الحارث في حديث بول الحسن (عليه السلام)

في حجر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «فقلت: أعطني إزارك لأغسله، فقال: إنما يغسل من بول الأنثى»(2).

لكن الموثق ظاهر في التفصيل بين بول الصبي وبول الجارية بطهارة الأول ونجاسة الثاني، لا بالتطهير من الأول بالصب ومن الثاني بالغسل، كما هو المدعى. مضافاً إلى غرابة ما تضمنه من الفرق بين لبنيهما في المنبع ومن إلحاق اللبن بالبول فيهما. والحديثين الأخيرين عاميان، لا ينهضان بالاستدلال. على أن الثاني ظاهر في طهارة بول الصبي كموثق السكوني. فلم يبق إلا الأول، وهو اختصاص صحيح الحسين بالصبي، حيث يلزم معه الرجوع في الصبية لعموم نجاسة البول. إلا أنه لابد من الخروج عنه بصحيح الحلبي المتقدم الصريح في عموم الحكم للجارية.

لكن ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الصحيح مختص بالجارية، وهي لا تعم الرضيعة، وإرادة الأعم منها غير ظاهرة، واستعمالها فيها في موثق السكوني مجاز لا يصار إليه إلا بقرينة. وكون الغلام أعمّ من الرضيع أو محتمل له لا يصلح قرينة على ذلك. على أن تقييد الغلام بغير الرضيع على تقدير عمومه أولى من التجوز في الجارية بحملها على ما يعم الرضيعة، خصوصاً بلحاظ العدول عن التعبير فيه بالصبي - كما في السؤال - إلى التعبير بالغلام، حيث يناسب ذلك اختلاف المراد بهما. ومن هنا يتعين أن يكون المراد بقوله (عليه السلام): «والغلام والجارية في ذلك شرع سواء» التسوية بينهما في وجوب الغسل لغير الرضيع.

وفيه: أن الجارية في الأصل الذي هو مقتضى اشتقاقها صفة للأنثى التي تجري

********

(1) كنز العمال ج: 5 ص: 128 رقم: 2644.

(2) تيسير الوصول ج: 3 ص: 57.

ص: 277

وتسعى، ومنه قوله تعالى: "إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية"(1). وقد شاع إطلاقها على الفتية من النساء بلحاظ شدة جريها أو نحو ذلك حتى عدت من معانيها لغة، كما في لسان العرب والقاموس.

وكذلك شاع استعمالها أيضاً في مطلق الأنثى من الإنسان، كما يظهر من النصوص الكثيرة، ومنها حديثا السكوني وزينب المتقدمان، ويقتضيه المقام، فإنه بعد أن تضمن صدر الصحيح بيان حكم بول الصبي نبّه في ذيله هذا إلى إلغاء خصوصية الصبي، وأن الحكم يعمّ الذكر والأنثى، أو أن الصبي قد استعمل فيه بمعنى الجنس الأعم منهما، فهو أشبه بالمفسر للصدر. ونكتة العدول عن الصبي للغلام هو وروده للتفسير، المناسب لتبديل اللفظ.

على أن ما ذكره (قدس سره) في معنى الحديث إن أراد به بيان مساواة الغلام الكبير للجارية الكبيرة في لزوم الغسل من بولهما، فلا مناسبة بينه وبين الصدر. وإن أراد به بيان مساواة الغلام بعد الأكل للجارية الكبيرة فهو أبعد، بل الأنسب بيان مساواة الغلام بعد الأكل للرجل.

وإن أراد به بيان مساواة الغلام بعد الأكل للجارية بعد الأكل فالحديث لا يستوفي الأقسام، حيث تبقى الجارية قبل الأكل مسكوتاً عنها.

وإن أراد به بيان مساواة الغلام بعد الأكل للجارية مطلقاً قبل الأكل وبعده فهو لا يناسب وحدة السياق بين العنوانين.

مع أن مقتضى الأخيرين الخروج في الجارية عن المعنى اللغوي المتقدم، وهو الفتية من النساء واستعمالها في الأعم منها ومن الرضيعة بعد الأكل أو مطلقاً. لوضوح أن الأكل يجتمع مع الرضاع، ولا يوجب دخولها في المعنى المذكور. ومن هنا يتعين حمله على التساوي بيهما في التفصيل المتقدم بتمامه.

********

(1) سورة الحاقة، الآية: 11.

ص: 278

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من إجمال الصحيح، لأن اسم الإشارة كما يمكن رجوعه للحكم الأول، وهو الاكتفاء بالصب مع عدم الأكل، يمكن عوده للثاني، وهو لزوم الغسل مع الأكل.

لاندفاعه بأن مفاد هذه الفقرة لما كان هو المساواة بين الغلام والجارية، فالمتعين رجوع اسم الإشارة للتفصيل في الغسل والصب بين الأكل وعدمه، لأنه الحكم الثابت للغلام، لا لخصوص أحد شقي التفصيل، لعدم تحقق المساواة بينهما معه.

بل لا مجال لرجوعه للشق الأول، لأنه أبعد، ومع الدوران بينهما يتعين الرجوع للشق الأخير. لكنه مستلزم لعدم استيفاء الأقسام لو أريد به الجارية بعد الأكل، والخروج عن وحدة السياق بين العنوانين لو أريد به الجارية مطلقاً، نظير ما تقدم في مناقشة سيدنا المصنف (قدس سره).

نعم لو كان التعبير هكذا: «وكذلك الجارية» فقد يتجه التردد بين رجوعه للتفصيل بتمامه ولخصوص الشق الأخير منه، دون خصوص الشق الأول.

وإن كان الأظهر حتى مع ذلك هو الرجوع للتفصيل بتمامه، لأن المشبه به عرفاً هو الصبي، وحكمه هو التفصيل بتمامه. بل لو فرض كون المشبه به هو الحكم فالتفصيل هو الحكم المنظور بالأصل، فينسبق كونه هو المشبه به، دون الشق الأخير منه الذي من شؤونه وجزء منه.

ومنه يظهر ضعف ما في الجواهر وعن بعض من سبقه من تقريب رجوعه للشق الأخير من التفصيل - خصوصاً بناء على جريان ذلك مجرى القيد المتعقب لجمل متعددة - بقرينة الشهرة أو الإجماع والأخبار المتقدمة. إذ فيه أن ذلك كله لا ينهض بالخروج عما ذكرنا في معنى الصحيح، كما يظهر مما سبق.

ومن هنا كان الظاهر جريان التفصيل في الأنثى كما يظهر من الصدوق، وحكي عن رسالة والده، لتعبيرهما بما يقارب عبارة الصحيح، كالرضوي. وإليه مال في الحدائق. بل قد يظهر من الكليني، لذكره الصحيح في الباب المناسب من دون

ص: 279

(280) (مسألة 12): يتحقق غسل الإناء بالقليل بأن يصب فيه شيء من الماء (1)، ثم يدار فيه (2) إلى أن يستوعب تمام أجزائه ثم يراق، فإذا فعل ذلك به ثلاث مرات فقد غسل ثلاث مرات وطهر.

إشارة لما ينافيه. وفي الذكرى - بعد أن ذكر امتياز بول الصبي بكفاية الصب وعدم الحاجة للعصر - قال: «وفي بول الصبية قول بالمساواة، والعصر أولى».

بقي شيء: وهو أن السيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة الوثقى بعد أن خص الصب بالصبي اشترط فيه أن يرضع من مسلمة، فلو كان يرضع من كافرة أو خنزيرة وجب الغسل.

وكأنه لأن المستفاد من موثق السكوني المتقدم اعتبار طهارة اللبن في سقوط الغسل. ويظهر ضعفه مما تقدم من أن مفاد الموثق طهارة البول تبعاً لطهارة اللبن. وحيث لا مجال للعمل به في ذلك لا مجال للاستدلال به على التفصيل المذكور.

ومثله دعوى انصراف إطلاق سقوط الغسل في بول الصبي عما إذا كان يرتضع بلبن نجس، فيرجع فيه إلى عموم وجوب الغسل من البول. لاندفاعها بأن الإنصراف المذكور بدوي، بسبب الغلبة، من دون أن يبتني على النكتة المذكورة، فلا يعول عليه في الخروج عن الإطلاق.

(1) بلا إشكال كما تضمنه موثق عمار المتقدم في آخر المسألة التاسعة.

(2) ويجزي ملء الإناء بالماء ثم إفراغه منه، كما في العروة الوثقى، وحكاه في الحدائق عن جمع من الأصحاب. واستشكل فيه في الجواهر بأنه خلاف مقتضى موثق عمار المشار إليه آنفاً وكذا موثقه الثاني الآتي في إناء الخمر المتضمن للغسل والدلك.

لكن الموثق الثاني مختص بمورده، حيث لا إشكال في الاكتفاء بالصب في غير الخمر إذا لم يكن للقذر كثافة وتماسك، كما يشهد به الموثق الأول.

ص: 280

(281) (مسألة 13): يستحب في تطهير أواني الخمر الغسل سبعاً، وإن كان الأقوى أنها كسائر الأواني في كفاية الثلاث (1).

وأما التحريك الذي تضمنه الموثق الأول فالمناسبات الارتكازية قاضية بأن الغرض منه إيصال الماء لجميع مواضع النجاسة، وأن المطهر هو ذلك بأي وجه اتفق، ولذا لا يظن به ولا بغيره التوقف في الاجتزاء بصب الماء على الموضع النجس من الإناء ابتداء بحيث يصل له الماء بالصب رأساً لا بالتحريك بعده.

ودعوى توقف الغسل على جريان الماء على الموضع النجس، وهو لا يتحقق مع ملء الإناء بالماء. مدفوعة بأن الغسل لا يتقوم بجريان الماء، بل لابد فيه من الدلك ونحوه، كما تقدم توضيحه في المسألة الأولى.

(1) كما في الشرايع والنافع والقواعد وأطعمة النهاية والمهذب وكشف الرموز والتنقيح. بل هو ظاهر الخلاف ومن تبعه ممن لم يستثنه من عموم وجوب غسل الإناء ثلاثاً. لموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر قال: تغسله ثلاثاً. وسئل: أيجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده، ويغسله ثلاث مرات»(1). ولأجله ترفع اليد عن ظاهر موثقه الآخر عنه (عليه السلام): «في الإناء يشرب منه النبيذ. فقال: يغسله سبع مرات. وكذلك الكلب»(2) فيحمل على الاستحباب.

ومنه يظهر ضعف القول بوجوب السبع، كما في المقنعة والمبسوط والمراسم والوسيلة والذكرى والدروس وجامع المقاصد وطهارة النهاية وعن غيرها، وفي جامع المقاصد والروض أنه المشهور.

وما في جامع المقاصد من ترجيح حديث السبع على حديث الثلاث بالشهرة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 17. باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

ص: 281

كما ترى، لأن الشهرة المرجحة هي شهرة الرواية، دون شهرة الفتوى لو تمت في المقام. على أن الترجيح فرع استحكام التعارض، ولا مجال له في المقام بعد امكان الجمع بالحمل على الاستحباب.

ومثله ما في الحدائق من الجمع بينهما بالحمل على اختلاف الأواني في قلع النجاسة، فمنها ما تقلع النجاسة عنه بالثلاث، ومنها ما لا تقلع النجاسة عنه إلا بالسبع. فإنه تحكم لا شاهد عيه ولا ضابط له، ولاسيما مع عدم التقارب بين الثلاث والسبع، حيث يقطع بوجود الواسطة بينهما في الأواني. بل لا ينبغي التأمل في لزوم زوال عين النجاسة قبل الغسل أو بعد الغسلة الأولى، وأن لزوم ما زاد عليها تعبد محض، لا من أجل زوال عين النجاسة.

هذا وقيل بالاكتفاء بالمرة، كما في المعتبر والمختلف والتذكرة والمنتهى والإرشاد والروض وغيرها. لضعف نصوص التعدد، أو لحملها على الغالب من توقف الإنقاء على الثلاث، كما في المنتهى. ولإطلاق ما دل على جواز استعمال إناء الخمر بعد غسله، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الشرب في الإناء يشرب فيه الخمر قدحاً عيدان أو باطية. قال: إذا غسله فلا بأس»(1) ونحوه غيره.

وفيه: أن نصوص التعدد من الموثق الذي هو حجة على التحقيق. وحملها على الغالب من توقف الإنقاء على الثلاث لا شاهد له. بل تقدم لزوم زوال عين النجاسة بالغسلة الأولى أو قبلها.

وحينئذ يخرج بهذه النصوص عن إطلاقات الغسل المشار إليها، فتحمل على الغسل المطهر، وهو أقرب عرفاً من حمل نصوص التعدد على الاستحباب. ولاسيما مع قرب ورودها لبيان عدم مانعية استعمال الإناء في الخمر من استعماله في غيره ولو لتوهم عدم قابليته للتطهير.

هذا وقد تقدم في موثق عمار اعتبار الغسل والدلك، وعدم الاكتفاء بالصب،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

ص: 282

(283) (مسألة 14): يعتبر في الماء المستعمل في التطهير طهارته قبل الاستعمال (1)، كالتراب في الولوغ (2).

(مسألة 15): يعتبر في التطهير زوال عين النجاسة (3)، دون

وهو الذي تقتضيه القاعدة المتقدمة في المسألة الأولى لو كان للخمر أثر عرفاً لا يزول إلا بذلك. أما لو لم يكن له أثر معتد به فاللازم الخروج به عن ما تقتضيه القاعدة المتقدمة هناك من الاكتفاء فيه بوصول الماء، وقد سبق أنه لا مانع من الخروج عنها لو دل الدليل عليه بالخصوص.

اللهم إلا أن يحمل الموثق على مثل الأواني الخزفية التي ينفذ فيها الخمر في الجملة وتحتاج إزالته إلى كلفة ومؤنة، دون مثل الأواني الزجاجية والمعدنية، كما يناسبه إهمال الأصحاب لذلك، وعدم تنبيهم لخروجه عن القاعدة. فتأمل جيداً.

(1) بلا إشكال ظاهر، لوضوح ارتكاز أن النجس لا يكون مطهراً، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولما يظهر من النصوص الكثيرة المتضمنة لإراقة الماء النجس من عدم الانتفاع به في التطهير. بل الأمر أوضح من ذلك. ولذا استدل غير واحد على طهارة ماء الغسالة - خروجاً عن عموم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة - بأنه لو كان نجساً لامتنع التطهير بالماء القليل، غفلة عن أن المعتبر في مطهرية الماء طهارته في نفسه في رتبة سابقة على التطهير به، فلا ينافي نجاسته بسبب التطهير به وفي رتبة متأخرة عنه.

وبالجملة: وضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام في الاستدلال عليه.

(2) كما تقدم في المسألة الثامنة.

(3) لظهور أن دليل مطهرية الماء منصرف إلى ما يحصل به التنظيف من النجاسة عرفاً، ولا يكون إلا بزوال العين. وهو المنصرف من إطلاق الغسل. بل هو الظاهر من إضافة الغسل للنجاسة في مثل قوله (عليه السلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل

ص: 283

أوصافها (1)، كاللون والريح، فإذا بقي واحد منهما أو كلاهما لم يقدح في

لحمه»(1). وقوله (عليه السلام): «يستنجي ويغسل ما ظهر منه على الشرج...»(2) ، وغيرهما، حيث يتضمن الغسل معنى الإزالة.

ومنه يظهر عموم الحكم للمتنجس بالمتنجس، فيجب زوال عين المتنجس المنجس إذا لم يطهر بالغسل تبعاً، كالدبس والصبغ المتنجسين.

(1) كما صرح به غير واحد قال في المعتبر: «ويكفي في طهارة محل النجاسة زوال عينها وإن بقي لونها أو ريحها، لأنهما عرضان لا يحملان النجاسة. وعليه إجماع العلماء. ولأن إزالة الرائحة والأثر يتعذر أو يشق، فيسقط اعتباره دفعاً للحرج».

ويرجع الأول إلى أن مقتضى أدلة التطهير والغسل زوال العين، كما سبق، واعتبار ما زاد عليه مخالف للإطلاق.

ودعوى: أن بقاء العرض مستلزم لبقاء العين، لاستحالة انتقال العرض عن موضوعه.

ممنوعة أولاً: لأن انتقال العرض عن موضوعه وإن كان ممتنعاً، إلا أنه يمكن حمل المحل للعرض المماثل بتفاعل الجسمين، نظير حمل لون آخر بالمجاورة كما في الخضاب بعد بلوغه.

وثانياً: لأن الأجزاء الدقيقة التي يتوقف عليها انتقال العرض قد لا تعد من العين عرفاً، فلا يكون بقاؤها منافياً لصدق الغسل والانقاء ونحوهما. وقد تقدم نظير ذلك في المسألة الثامنة من الفصل الثاني من أحكام الخلوة.

أما الثاني فهو بظاهره لا يخلو عن إشكال. لوضوح عدم نهوض دليل نفي العسر والحرج ونحوهما بإثبات حصول الطهارة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 284

إلا أن يرجع إلى أنه لو كان البناء على عدم حصول التطهير حينئذ مع كثرة الابتلاء به للزم الحرج نوعاً من اعتبار التطهير، وهو مما يعلم بعدم ابتناء الأحكام الشرعية عليه، وعدم رضا الشارع به.

بل الإنصاف أنه لو كان الأمر كذلك للزم الهرج والمرج ولكثر السؤال عنه وشاع بيان الشارع فيه، وحيث لا أثر لذلك علم عدم مانعيته من الطهارة.

وكأنه إلى هذا إشارة في الجواهر بقوله: «مؤيداً بالعسر والحرج والسيرة والطريقة المستمرة. سيما في مثل الأصباغ المتنجسة ولو بالعرض من مباشرة الكفار وغيرهم، حيث يكتفي سائر المسلمين بغسلها إذا أريد تطهيرها من ذلك».

هذا مضافاً إلى ما ورد في دم الحيض، كمعتبر علي بن أبي حمزة عن العبد الصالح: «سألته أم ولد لأبيه... قالت: أصاب ثوبي دم الحيض، فغسلته فلم يذهب أثره، فقال: اصبغيه بمشق حتى يختلط ويذهب»(1) وغيره. مؤيداً أو معتضداً بصحيح ابن المغيرة عن أبي الحسن (عليه السلام): «قلت له: إن للاستنجاء حدّ؟ قال: لا، حتى ينقى ماثمة. قلت: فإنه ينقى ماثمة ويبقى الريح. قال: الريح لا ينظر إليها»(2) بناء على ما هو الظاهر من عمومه أو اختصاصه بالاستنجاء بالماء، وعلى عموم قوله: «الريح لا ينظر إليها» لغير موضع الاستنجاء من موارد الغسل من النجاسة.

وبمرسل الفقيه: «سئل الرضا (عليه السلام) عن الرجل يطأ في الحمام، وفي رجله الشقاق، فيطأ البول والنورة، فيدخل الشقاق أثر أسود مما وطئ من القذر وقد غسله، كيف يصنع به وبرجليه التي وطئ بهما، أيجزيه أن يخلل أظفاره [بأظفاره خ. ل]. ويستنجي فيجد الريح من أظفاره ولا يرى شيئاً. فقال: لا شيء عليه من الريح والشقاق بعد غسله»(3).

وأما خبر أبي يزيد عنه (عليه السلام): «أنه سأله عن جلود الدارش يتخذ منها الخفاف

********

(1و2و3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2، 6.

ص: 285

(286) حصول الطهارة مع العلم بزوال العين (1).

(مسألة 16): الأرض الصلبة أو المفروشة بالآجر أو الصخر أو الزفت ونحوها يمكن تطهيرها بالماء القليل (2) إذا جرى عليها (3). لكن

قال: لا تصل فيها، فإنها تدبغ بخرء الكلاب»(1). فهو - مع ضعفه - أجنبي عما نحن فيه، لعدم التعرض فيه لبقاء أثر النجاسة من لون أو نحوه، ولأن نجاسة الخف لا تمنع من الصلاة فيه، لأنه مما لا تتم به الصلاة. ومن ثم لا مخرج عما سبق.

ومنه يظهر ضعف ما في المنتهى من وجوب إزالة اللون إذا أمكن دون الرائحة. وما يظهر من نهاية الأحكام من وجوب ذلك حتى في الرائحة إلا أن يحمل على ما إذا رجع امكان الإزالة إلى بقاء شيء من العين عرفاً، بحيث يتحلل ويزول بالغسل.

لكن في نهاية الأحكام: «ولو بقيت الرائحة واللون وعسر إزالتهما ففي الطهارة إشكال» إلى غير ذلك مما يظهر منه الخروج عما سبق.

(1) أما مع الشك فالمتعين البناء على النجاسة استصحاباً لها.

(2) فإن نصوص التطهير بالماء القليل وإن وردت في الثوب والبدن ونحوهما، دون الأرض، إلا أن الظاهر إلغاء خصوصية مواردها عرفاً. ولاسيما بملاحظة ما أشرنا إليه في المسألة السابقة من حملها على ما يناسب الغسل المنظف عرفاً، حيث لا يفرق في ذلك بين الموارد.

(3) ليتحقق بذلك انفصال ماء الغسالة عن الموضع النجس. بل لو كانت الأرض رخوة كفى في انفصال ماء الغسالة رسوبه في باطنها.

وما في العروة الوثقى من الإشكال في صدق الانفصال بذلك، في غير محله، خصوصاً بناء على ما سبق من حمل أدلة التطهير على ما يناسب التنظيف عرفاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 286

(287) (287) مجمع الغسالة يبقى نجساً (1).

(مسألة 17): لا يعتبر التوالي فيما يعتبر فيه تعدد الغسل (2)، فلو غسل في يوم مرة وفي آخر أخرى كفى ذلك. نعم الأحوط وجوباً المبادرة إلى العصر فيما يعصر (3).

(مسألة 18): إذا جرى ماء الغسالة من الموضع النجس إلى ما اتصل به المواضع الطاهرة لم يتنجس، فلا يحتاج إلى تطهير (4)، من غير فرق بين البدن والثوب وغيرهما من المتنجسات، والماء المنفصل من الجسم محكوم

نعم يتجه الإشكال فيما إذا لم يرسب الماء في باطن الأرض بل بقي في ظاهرها وصيرها موحلة كالأرض الترابية إذا صب عليها الماء فلم ينفذ فيها، بل صيَّر ظاهرها طيناً ووحلاً.

(1) لتنجسه بماء الغسالة.

(2) للإطلاق.

(3) لأن المتيقن من زوال الاستقذار عرفاً بانفصال ماء الغسالة إنما هو مع المبادرة لفصله بالنحو المتعارف في التنظيف، وحيث كانت أدلة التطهير محمولة على الغسل بالنحو الموجب للتنظيف عرفاً أشكل ثبوت الإطلاق لها بنحو يقتضي عدم اعتبار الفورية، سواءً في ذلك أدلة الغسل أم العصر.

وكذا لو كان المنشأ لوجوب العصر هو لزوم انفصال ماء الغسالة النجس، لأن المتيقن من طهارة الموضع بانفصال ماء الغسالة عنه ما إذا كان بالنحو المتعارف في التنظيف. ومنه يظهر العموم لغير موارد العصر من موارد انفصال ماء الغسالة.

(4) لما هو المعلوم من غلبة سريان ماء الغسالة للمواضع المتصلة بالموضع النجس في البدن والثياب وغيرها، وندرة الاقتصار فيه على الموضع النجس أو

ص: 287

بالنجاسة (1).

تعذر ذلك، مع ما هو المعلوم من السيرة - تبعاً للمرتكزات الشرعية، بل العرفية في

التنظيف - من عدم نجاسة تلك المواضع وعدم وجوب تطهيرها بسبب ذلك من دون فرق في ذلك بين غسالة الغسلة المتعقبة بطهارة المحل وغيرها.

وما يظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) من نجاسة ملاقي الأولى دون الثانية حتى على القول بنجاستها. غير ظاهر الوجه بعد ملاحظة السيرة والمرتكزات.

نعم لابد من اتصال المواضع بعضها ببعض، بحيث يكون الانتقال بنحو السيلان والجريان، لا بنحو الطفرة، لخروجه عن المتيقن من السيرة والمرتكزات.

بل لا يبعد الاقتصار في التعدي إليه من المواضع القريبة دون المواضع البعيدة، لخروجها أيضاً عن المتيقن منهما.

كما أنه لابد من انفصال ماء الغسالة بالنحو المتعارف. فلو كان قليلاً فنفذ في المواضع الطاهرة ولم ينفصل عنها تنجست.

خلافاً لما عن البرهان القاطع من الجزم بالطهارة تبعاً، لأجل الحرج، نظير البلة المتخلفة في الموضع النجس بعد انفصال ماء الغسالة.

لكن الحرج الاتفاقي النادر لو تم لا يوجب الحكم بالطهارة كما تقدم غير مرة، والحرج النوعي الموجب للهرج والمرج وكثرة السؤال وانكشاف الحال غير حاصل، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف (قدس سره). ومنه يظهر الفرق بين البلل المذكور والبلل المتخلف بعد انفصال ماء الغسالة بالنحو المتعارف.

بل لابد من كثرة الماء المنفصل، بحيث يعد غسالة لتمام الموضع الذي أصابه، ولا يكفي انفصال القليل بحيث، يحمل الموضع المجاور أكثر ماء الغسالة. كل ذلك للاقتصار على المتيقن من السيرة والمرتكزات.

(1) كما هو الحال في ماء الغسالة في سائر الموارد. ومجرد عدم تنجيسه للموضع

ص: 288

(289) (مسألة 19): الأواني الكبيرة المثبتة يمكن تطهيرها بالقليل (1)، بأن يصب الماء فيها ويدار حتى يستوعب جميع أجزائها (2)، ثم يخرج حينئذٍ ماء

الطاهر الذي مرّ عليه لا يستلزم طهارته.

(1) لإطلاق أدلة غسل الإناء وتطهيره. واختصاص موثق عمار بالإناء غير المثبت الذي يمكن أن يحرك فيه الماء. غير مهمّ بعد ما سبق في المسألة الثانية عشرة من إلغاء خصوصية التحريك، وأن المقصود إيصال الماء بأي وجه اتفق.

(2) الظاهر أن المراد بالإدارة صب الماء مستديراً بنحو يستوعب جميع الأجزاء، لا إدارة الماء بعد صبه. إذ إدارته بعد صبه بتحريك الإناء متعذرة بعد فرض كون الإناء مثبتاً. وإدارته بالآلة موجب لنجاسة الآلة وتنجيسها للماء والإناء، ولا دليل على العفو عنه بحيث يبقى الماء صالحاً للتطهير.

ولا مجال لقياسها بآلة إخراج الماء التي يأتي العفو عنها، للاضطرار لآلة الإخراج المستلزم للعلم بالعفو عنها، بخلاف المقام، لإمكان صب الماء بنحو الاستدارة. بل لعله المتعارف في تطهيرها، لأنه الأيسر.

وحينئذ يشكل لزوم التثليث في المقام، لأن موثق عمار المتضمن للتثليث في الإناء مختص بصورة ما إذا كان استيعاب الماء لتمام سطح الإناء بتحريك الإناء، الموجب لكون التطهير بماء الغسالة المتنجس بصبه في الإناء، حيث يناسب ذلك احتياج التطهير للعناية بتكرار الغسل وتجديده حتى تخف نجاسته ويقوى على التطهير.

ولا مجال للتعدي منه لمثل المقام، حيث لا يعود الماء المصبوب لتطهير باقي سطوح الإناء، بل يطهر كل منها بماء جديد طاهر، كما هو الحال في سائر موارد التطهير بصب الماء على الجسم وإجرائه عليه. نعم قد يتجه الحاجة للتعدد في قعر الإناء الذي يجتمع فيه ماء الغسالة. فلاحظ.

ص: 289

الغسالة المجتمع في وسطها بنزح أو غيره (1)، والأحوط وجوباً المبادرة إلى إخراجه (2)، ولا يقدح الفصل بين الغسلات، ولا تقاطر ماء الغسالة حين الإخراج على الماء المجتمع نفسه (3)، والأحوط وجوباً تطهير آلة الإخراج كل مرة (4).

(1) كسحبه بخرق تمتصه.

(2) نظير ما تقدم في المسألة السابعة عشرة من المبادرة للعصر.

(3) فإن الماء المذكور وإن كان نجساً ومقتضى القاعدة تنجيسه للماء الذي يقع عليه وللإناء الذي هو فيه كما يأتي في آلة الإخراج. إلا أنه لو لا العفو عن ذلك يلزم تعذر تطهير الأواني المذكورة غالباً بالقليل، لغلبة حصول التقاطر المذكور، وحيث لا إشكال في إمكان تطهيرها بالقليل الذي لم يكن التطهير بغيره ميسوراً في العصور السابقة يتعين البناء على العفو عن ذلك.

(4) كما في الروضة وعن جماعة. عملاً بمقتضى القاعدة، لنجاسة الآلة المذكورة بملاقاة الماء المقتضية لتنجيسها للماء وللإناء بعودها إليه ثانياً.

ودعوى: عدم تنجس المغسول بماء غسالته أو بما تنجس بها. إنما تتم قبل انفصال ماء الغسالة فراراً من تعذر التطهير لولا ذلك، أما بعد انفصال ماء الغسالة والمتنجس به فللازم البناء على تنجسه عملاً بمقتضى القاعدة.

ومثلها دعوى: أن مقتضى إطلاق الموثق العفو عن النجاسة المذكورة. لاندفاعها بعدم سوق الموثق لذلك - كما في الجواهر - لأنه بصدد لزوم التفريع في نفسه من دون نظر لكونه بالآلة، ليلزم العفو عن نجاسة آلة التفريغ. ولذا لا إشكال في عدم العفو عن نجاستها لو استندت لأمر آخر غير التفريغ. كما لا مجال لقياسه بتقاطر ماء الغسالة عند الإخراج الذي سبق العفو عنه. للفرق بتعذر التطهير لولا العفو هناك، ولا يتعذر التطهير لولا العفو هنا، غايته أنه يحتاج إلى عناية وكلفة، ولا

ص: 290

(291) (مسألة 20): الدسومة التي في اللحم أو اليد لا تمنع من تطهير المحل (1)، إلا إذا بلغت حداً تكون جرماً حائلاً، ولكنها حينئذ لا تكون دسومة بل شيئاً آخر.

(مسألة 21): إذا تنجس اللحم أو الأرز أو الماش أو نحوها، ولم تدخل النجاسة في عمقها (2)، يمكن تطهيرها بوضعها في طشت وصب

دليل على سقوطها.

نعم لو ورد دليل خاص في تطهير الأواني المثبتة بالقليل فقد يكون السكوت فيه عن التنبيه للعناية المذكورة شاهداً بعدم لزومها، وبالعفو عن هذه النجاسة. إلا أن الدليل لم يرد فيه، بل في الأواني الصغيرة التي يحرك الماء فيها ويفرغ منها بلا حاجة إلى آلة غالباً، ولا مجال لاستفادة العفو منه في المقام.

هذا وقد يدعى غفلة العرف عن تطهير الآلة، خصوصاً بالإضافة إلى ماء الغسالة الواحدة لو أحتيج لإعادة الآلة لتفريغه. ولعله لذا صرح في العروة الوثقى ومحكي نجاة العباد بالعفو في المقام.

لكن في بلوغه حداً يصلح للاستدلال والخروج عن مقتضى القاعدة إشكال، خصوصاً بعد عدم شيوع الابتلاء سابقاً بتطهير الأواني المذكورة، بحيث يعلم كيفية التطهير منها من السيرة. وإن كان من القريب جداً الاستغناء عن التطهير لإعادة الآلة لماء الغسلة الواحدة لمناسبته للمرتكزات المتشرعية والعرفية جداً. فلاحظ.

(1) لعدم مانعيتها من صدق الغسل، ولاسيما مع شيوع الابتلاء بها في المتنجسات، فلو كان البناء على مانعيتها للزم الهرج والمرج ولكثر السؤال والبيان بنحو يظهر الحال.

(2) أما إذا دخلت في عمقها ففي امكان تطهيرها كلام تقدم في المسألة الأولى.

ص: 291

الماء عليها (1) على نحو يستولي عليها، ثم يراق الماء ويفرغ الطشت مرة واحدة (2) فيطهر النجس، وكذا الطشت تبعاً (3). وكذا إذا أريد تطهير

(1) ولا يهم اتصال بعض أجزائها ببعض حال الغسل ونجاسة ماء الغسالة حينئذ، لوحدة الغسل عرفاً، بحيث يكون ماء الغسالة غسالة للكل وملاقاة بعضها لبعض، كملاقاة بعض أجزاء الثوب لبعض عند جمعه في الإناء حين الغسل.

(2) إذا كانت نجاستها بغير البول، أما إذا كانت نجاستها بالبول فلابد من مرة ثانية، نظير ما يأتي في الثوب، بناء على ما سبق في المسألة الرابعة من عموم لزوم التطهير من البول مرتين لجميع المتنجسات وعدم اختصاصه بالثوب والبدن.

(3) فإنه وإن كان ينجس بماء الغسالة - بناء على ما سبق من نجاسة مائها - إلا أن منصرف دليل غسل الإناء ثلاثاً عند تطهيره ما إذا كان نجساً بنفسه، دون ما إذا كان نجساً تبعاً للغسل فيه، بل يكفي غسله مع ما غسل فيه كسائر آلات الغسل، نظير اليد التي يغسل بها الثوب أو يدلك بها البدن عند تطهيره، لغفلة العرف عن تطهير الآلات مع كثرة الابتلاء به.

ولاسيما مع ما في صحيح محمد بن مسلم المتقدم في المسألة العاشرة من الأمر بغسل الثوب الذي يصيبه البول مرتين إذا كان في المركن، من دون تنبيه إلى تطهير المركن، خصوصاً بين المرتين، حيث يتوقف عليه تطهير الثوب فيه بالغسلة الثانية لو لم يطهر بغسله في الأولى تبعاً. لقوة ظهوره حينئذ في طهارة المركن تبعاً.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من اختصاص الصحيح بالمركن، وليس هو من الأواني، لأن الأواني هي الظروف المعدة للأكل والشرب، وليس كل ظرف إناء.

ففيه أولاً: أن المركن هو الإجانة، وهي من الأواني، حيث قد يعجن فيها ويؤكل.

وثانياً: أن المناسبات الارتكازية قاضية بأن حكم الإناء في التطهير يجري في

ص: 292

الثوب، فإنه في يوضع في الطشت، ويصب الماء عليه، ثم يعصر ويفرغ الماء مرة واحدة، فيطهر ذلك الثوب والطشت أيضاً (1). وإذا كانت النجاسة محتاجة إلى التعدد - كالبول - كفى الغسل مرة أخرى على النحو المذكور (2). والأحوط استحباباً تطهير الإناء بعد ذلك (3) ثلاثاً.

(مسألة 22): الحليب النجس لا يمكن تطهيره وإن صنع جبناً ووضع الكثير حتى وصل الماء إلى أعماقه (4).

(مسألة 23): إذا غسل ثوبه النجس ثم رأى بعد ذلك فيه شيئاً من الطين أو دقائق الأشنان أو الصابون الذي كان متنجساً لا يضر ذلك في

كل ما كان بهيئته بحيث يجتمع فيه الماء عند التطهير، كما تقدم في المسألتين الرابعة والعاشرة.

(1) لعين ما سبق.

(2) كما تضمنه صحيح محمد بن مسلم.

(3) أما تطهيره بين الغسلتين فالاحتياط فيه ضعيف جداً لقوة ظهور صحيح محمد بن مسلم في عدم الحاجة لتطهيره لعدم التنبيه فيه لذلك، مع أنه لو وجب تطهيره لتَوقفَ عليه تطهير الثوب الذي ورد الصحيح لبيانه، فعدم التنبيه فيه له كالصريح في عدمه.

(4) لأن وصول الماء لأعماقه لا يقتضي استيلاء الماء على جميع مواضع النجاسة بعد كون المتنجس هو الحليب المنجمد بتمامه لا ببعض سطوحه، غاية الأمر نفوذ الرطوبة غير المسرية، أو صيرورة الماء مضافاً باختلاطه بأجزاء الحليب الدقيقة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن ذلك غسل له، وغسل كل شيء بحسبه. فهو كما ترى، لعدم تحقق الغسل في المقام بعدما سبق من عدم استيلاء الماء بوصف

ص: 293

(294) طهارة الثوب (1)، بل يحكم أيضاً بطهارة ظاهر الطين أو الأشنان أو الصابون (2) الذي رآه بل باطنه (3) إذا نفذ فيه الماء على الوجه المعتبر.

(مسألة 24): الحلي الذي يصوغها الكافر (4) إذا لم يعلم ملاقاته لها مع الرطوبة يحكم بطهارتها (5). وإن علم ذلك يجب غسلها ويطهر ظاهرها

الإطلاق على تمام أجزاء النجس. ويأتي نظير ذلك في المسألة الخامسة والعشرين.

(1) إلا إذا كان الطين أو نحوه لاصقاً بموضع من الثوب، بحيث يمنع من وصول الماء المطلق إليه، فيتعين حينئذ بقاء الموضع المذكور نجساً مع طهارة بقية مواضع الثوب التي وصل إليها الماء.

(2) إذا كان له تماسك بحيث يستولي عليه الماء ويغسله، أما إذا كان مائعاً بحيث لا يستولى عليه الماء المطلق فيتعين نجاسته ونجاسة ما يتصل به من أجزاء الثوب.

(3) بناءً على ما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الأولى من إمكان تطهير الباطن. وتقدم منّا الكلام فيه.

(4) يعني المحكوم بنجاسته. وتجري الأحكام الآتية في كل من يحتمل ملاقاتها عنده للنجاسة مع الرطوبة.

(5) لأصالة الطهارة، بل استصحابها. ومجرد صيرورته عند الكافر لا يقتضي رفع اليد عن الأصل المذكور والخروج عن إطلاق دليله. ولاسيما مع ما ورد من عدم وجوب غسل الثوب الذي يستعيره الكافر(1).

نعم قد يستفاد مما تضمن الأمر بغسل الثوب إذا كان عند من يتعرض للنجاسة(2) المحمول على الاستحباب عموم الاستحباب لغير الثوب، كما في المقام.

********

(1و2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73، 74 من أبواب النجاسات.

ص: 294

ويبقى باطنها على النجاسة (1)، وإذا استعملت مدة وشك في ظهور الباطن وجب تطهيره (2).

(1) هذا إنما يتم إذا علم بملاقاته برطوبة لجميع سطوحها الظاهر والباطنة، بحيث تنجس بتمامها، وهو كالمتعذر. نعم لو قيل بكفاية ذوبان الفلزات في سريان النجاسة فيها يتعين نجاستها بتمامها فيما إذا لاقت النجاسة حال ذوبانها، كالدهن السائل لو تنجس ثم جمد. لكن تقدم منه (قدس سره) ومنا في المسألة التاسعة عشرة في أول الفصل الثاني في كيفية سراية النجاسة المنع من سريان النجاسة فيها بذوبانها.

وحينئذ تكون ملاقاتها للنجاسة برطوبة قبل التذويب أو حاله موجبة لنجاسة بعض سطوحها المردد بين الظاهر والباطن، فيترتب أثر نجاستها في الجملة، دون نجاسة خصوص الظاهر، فضلاً عن الباطن معه، بل يحكم ملاقي الظاهر بالطهارة كسائر أفراد ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، بل غير المحصورة، لخروج نجاسة الباطن عن الابتلاء غالباً.

(2) يظهر الإشكال فيه مما سبق. نعم يتجه ذلك لو فرض نجاستها بتمامها كما هو الحال في نجاسة الدهن أو الشمع الذائب لو انجمد. لاستصحاب نجاسة السطح الظاهر فعلاً، للعلم بنجاسته سابقاً، والشك في تطهيره، بسبب تردده بين السطح الأول الذي طهر والسطح الباطن الذي لم يطهر.

نظير ما لو ابتلي الرجل بامرأة مرددة بين زوجته ومطلقته، أو بامرأة مرددة بين زوجته والأجنبية عنه، حيث يجري في حقه استصحاب زوجية الأولى وعدم زوجية الثانية.

وأما الإشكال فيه تارة: بأنه من استصحاب الفرد المردد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع. وأخرى: بأن احتمال انطباق السطح الظاهر فعلاً على السطح الظاهر سابقاً المعلوم الطهارة مساوق لاحتمال كون رفع اليد عن اليقين بالنجاسة فيه

ص: 295

(296) (مسألة 25): الدهن المتنجس لا يمكن تطهيره بجعله في الكر الحار ومزجه به (1)، وكذلك سائر المائعات المتنجسة فإنها لا تطهر إلا بالاستهلاك (2).

باليقين بالطهارة لا بالشك فيها، فيكون التمسك فيه بعموم دليل الاستصحاب من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

فهو كما ترى، لإندفاع الأول بأن المستصحب نجاسته ليس هو أحد السطحين على تردده، مع كون الأثر لكل منهما بعينه، والاستصحاب للمردد بينهما، بل المستصحب نجاسته هو السطح الظاهر فعلاً المردد واقعاً بينهما، من دون أن يكون لتردده أثر في مقام العمل، وإنما تمام الأثر له بعينه، لأنه هو الذي يلاقى ويحكم بنجاسة ملاقيه.

واندفاع الثاني بأن احتمال كون السطح الظاهر فعلاً هو السطح الظاهر سابقاً المعلوم الطهارة لا يستلزم احتمال كونه معلوم الطهارة، بل هو بواقعه الخارجي الذي هو موضوع الأثر مشكوك الطهارة قطعاً، فلا يجوز رفع اليد عن اليقين بالنجاسة فيه، لأنه رفع اليد عن اليقين بالشك لا غير. ومن ثم لا إشكال في جريان الاستصحاب.

(1) لعدم استيلاء الماء على جميع أجزائه النجسة مهما دقت، وإنما يتم ذلك فيما إذا لم يكن النجس هو الأجزاء الصغيرة بتمامها بل بسطوحها الظاهرة لا غير، كحبات الرمل، حيث يمكن استيلاء الماء عليها حينئذ وتطهر وقد تقدم نظير ذلك في المسألة الثانية والعشرين.

(2) بأن لا يبقى لها وجود عرفي يكون موضوعاً للنجاسة، لغلبة ما تستهلك فيه عليها، بحيث ينفرد عنوانه بالصدق على المجموع، ولا يصدق معه عنوانها حتى بنحو الاشتراك والامتزاج.

ص: 296

(297) (297) (مسألة 26): إذا تنجس التنور يمكن تطهيره بصب الماء من الإبريق عليه (1) ومجمع ماء الغسالة يكون نجساً (2) وإذا تنجس بالبول وجب تكرار الغسل مرتين (3).

(الثاني) من المطهرات: الأرض (4)، فإنها تطهر باطن القدم وما توقي به (5)

(1) يعني مرة واحدة، ولا يحتاج للتعدد، لعدم كونه إناء ولا ملحقا به لعدم تجمع ماء الغسالة فيه، بل في خارجه.

(2) فلو فرض امتصاص التراب والرماد له كفى إخراجهما ولا حاجة إلى غسل شيء.

(3) بناءً على ما سبق من عموم وجوب الغسل من البول مرتين لجميع المتنجسات، وعدم اختصاصه بالثوب والبدن.

(4) كما هو مقتضى إطلاق أكثر الفتاوى والإجماع وإطلاق النصوص الآتية. لكن اقتصر في المقنعة والشرايع ومحكي التحرير على التراب. ويناسبه الاقتصار عليه في حديث أبي هريرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «قال: إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور»(1) وفي نبوي آخر: «إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب»(2).

لكن لا مجال للخروج بهما عما سبق، المعتضد بإطلاق نبويين آخرين مرويين للعامة(3). ومن ثم قد ينهض ذلك قرينة إلغاء خصوصية التراب في كلامهم، وكون مرادهم مطلق الأرض.

(5) إجماعاً كما في جامع المقاصد، وفي المدارك وعن الدلائل أنه مقطوع به في كلام الأصحاب، وزاد في المدارك أن ظاهرهم الاتفاق عليه. لكن في الخلاف في المسألة

********

(1و2) التاج ج: 1 ص: 90.

(3) صحيح ابن حبان ج: 4 ص: 250 حديث: 1403. سنن البيهقي ج: 2 ص: 252 حديث: 1280.

ص: 297

الخامسة والثمانين بعد المائة من كتاب الطهارة: «إذا أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه بالأرض حتى زالت تجوز الصلاة فيه عندنا. وبه قال الشافعي قديماً. وقال: عفي له عن ذلك مع بقاء النجاسة... دليلنا: أنا بينا فيما تقدم أن ما لا تتم الصلاة فيه بانفراده جازت الصلاة فيه وإن كانت فيه نجاسة، والخف لا تتم الصلاة فيه بانفراده».

وظاهره بقاء النجاسة، وأن العفو عن الصلاة في الخف لأنه مما لا تتم به الصلاة. وما في حاشية المدارك للوحيد من التأمل في الظهور المذكور واستظهار الغفلة منه في الاستدلال. غريب.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في تقريب الغفلة المذكورة من أن العفو عما لا تتم به الصلاة لا يناسب القيود المذكورة في كلامه، لعدم اختصاص العفو بصورة إصابة اسفل الخف، ولا بزوال عين النجاسة. ولا بصورة كون الإزالة بالدلك بالأرض.

فهو كما ترى لأن الإشكال عليه في ذكر هذه القيود أو حملها على عدم كونها احترازية، أهون من رفع اليد عن ظهور كلامه في بقاء النجاسة. ولاسيما بملاحظة ما حكاه عن الشافعي. مؤيداً ذلك باقتصاره في النهاية والمبسوط على العفو عن نجاسة ما لا تتم به الصلاة، من دون تعرض لمطهرية الأرض. ومن ثم نسب في المفاتيح الخلاف للخلاف، ورماه بالشذوذ. اللهم إلا أن يكون مراد عدم تطهيره بالدلك والمسح، وإن كان يطهر بالمشي.

هذا وفي المنتهى وعن التحرير الإشكال في مطهرية الأرض للقدم وأن المتيقن مطهريتها لما يتوقى به، مع الاعتراف في الأول بأنه مقتضى صحيح زرارة. كما قد يستفاد أيضاً من الاقتصار على ما يتوقى به القدم في المقنعة والمراسم والوسيلة وإشارة السبق من دون ذكر للقدم.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في مطهرية الأرض لباطن القدم. لصحيح الحلبي: «نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر، فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)

ص: 298

فقال: أين نزلتم؟ فقلت: نزلنا في دار فلان، فقال: إن بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً، أو قلنا له: إن بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً. فقال: لا بأس، إن الأرض تطهر بعضها بعضاً. قلت: والسرقين الرطب أطأ عليه؟ فقال: لا يضرك مثله»(1).

ومعتبره المروي في مستطرفات السرائر عنه (عليه السلام): «قلت له: إن طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه، فربما مررت فيه وليس عليّ حذاء، فيلتصق برجلي من نداوته. فقال: أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت: بلى، فقال: لا بأس، إن الأرض يطهر بعضها بعضاً. قلت: فأطأ على الروث الرطب. قال: لا بأس، أنا والله ربما وطئت عليه ثم أصلي ولا أغسله»(2).

ومعتبر المعلى بن خنيس: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء أمر عليه حافياً، فقال: أليس وراءه شيء جاف؟ قلت: بلى، قال: لا بأس، إن الأرض يطهر بعضها بعضاً»(3).

هذا وقد يستدل بنصوص أخر منها: موثق عمار عنه (عليه السلام) في جملة مسائله له: «وعن الرجل يتوضأ ويمشي حافياً ورجله رطبة. قال: إن كانت أرضكم مبلطة أجزأكم المشي عليها. وقال: أما نحن فيجوز لنا ذلك، لأن أرضنا مبلطة، يعني مفروشة بالحصى»(4).

بناء على ما هو الظاهر من أن منشأ السؤال عن المشي حافياً تنجس الرجل بملاقاة الأرض، وأن المراد بإجزاء المشي على الأرض المبلطة استمرار المشي عليها بعد تنجسها.

نعم يشكل التقييد فيه بتبليط الأرض، حيث لا قائل باعتبار ذلك في مطهريتها، كما لا مجال لحمل النصوص السابقة عليه، لعدم تبليط أرض الطريق أو ندرة تبليطه، وذلك قد يوجب إجماله.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 4، 9.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 3، 8.

ص: 299

ومنها: صحيح الأحول عنه (عليه السلام): «في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف، ثم يطأ بعده مكاناً نظيفاً. قال: لا بأس إذا كانت خمسة عشر ذراعاً أو نحو ذلك»(1).

وفيه: أنه لا يظهر منه السؤال عن طهارة الرجل بعد تنجسها بوط ء الموضع النجس، ليدل على طهارتها بوط ء المكان النظيف، وينفع فيما نحن فيه، بل السؤال عن تنجس المكان النظيف بملاقاة الرجل المتنجسة سابقاً، فالحكم بعدم البأس إنما يدل على عدم تنجسه لا غير.

ولا يخفى أن عدم تنجسه لا يستلزم طهارة الرجل إلا في فرض كون الموضع النظيف رطباً مسبوقاً بموضع جاف من الأرض قد جفف الرجل وطهرها بمرورها عليه ومن الظاهر صعوبة حمل الصحيح على ذلك، لاحتياجه لعناية خاصة.

ولعل الأقرب حمله على التنبيه لجفاف الرجل بسبب المشي بالمسافة المذكورة، فهي لا تنجس الموضع النظيف وإن بقيت نجسة.

ومنها: صحيح زرارة: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام): رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها، أينقض ذلك وضوءه؟ وهل يجب عليه غسلها؟ فقال: لا يغسلها إلا أن يقذرها، ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي»(2).

وفيه: ان ظاهره عدم الفائدة من الغسل إلا رفع الاستقذار، وهو يناسب عدم تنجس الرجل بالعذرة، وإن لزم إزالتها عن الرجل لا غير، كما يناسبه إطلاق المسح حتى يذهب الأثر من دون تقييد بالأرض.

نعم حيث لا مجال للبناء على ذلك فقد يلزم حمله على مجرد عدم تعين الغسل وإن كان مشروعاً للتطهير، مع تقييد المسح بالأرض من أجل مطهريتها، فيناسب المدعى.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 41، 7.

ص: 300

إلا أن الإشكال في كون الحمل المذكور مقتضى الظهور الثانوي الذي يقتضيه الجمع العرفي، ليكون دليلاً في المقام، بل لعله من باب التأويل الذي هو أولى من الطرح، من دون أن يكون الصحيح حجة فيه، لينهض بالاستدلال. غاية الأمر أن يكون مؤيداً، من دون أن يبلغ مرتبة الاستدلال.

ومنها: صحيحه الآخر عنه (عليه السلام): «قال: جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان ولا يغسله. ويجوز أن يمسح رجليه ولا يغسلهما»(1) بناء على حمل مسح الرجلين فيه على المسح بالأحجار، بقرينة ذكرها في الاستنجاء من الغائط.

ولكنه يشكل أولاً: بأنه حيث لم يفرض فيه بدواً نجاسة باطن القدم فالمنصرف منه إرادة مسح الرجلين مما يصيبهما من الغائط عند التخلي في بعض الحالات، والغالب إصابة أسفل الساق دون باطن القدم.

وثانياً: بأن حمل مسح الرجلين على مسحهما بالأحجار بقرينة ذكرها في الاستنجاء من الغائط قد يتجه لو حمل ذكرها على التقييد. أما بعد البناء على عدم التقييد بها، وأنه يجوز في الاستنجاء المسح بكل قالع للنجاسة فيشكل الحمل المذكور.

وثالثاً: بأن مجرد عدم البناء على مقتضى ظهوره الأولي لا يكفي في حمله على ما نحن فيه بنحو يصلح للاستدلال، نظير ما تقدم في صحيحه الأول. ولاسيما مع امكان حمله على المسح في الوضوء في قبال قول العامة بوجوب غسلهما فيه. فالعمدة في المقام الصحاح الثلاث الأول.

هذا وفي حديث الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في الرجل يطأ في العذرة أو البول، أيعيد الوضوء؟ قال (عليه السلام): لا، ولكن يغسل ما أصابه»(2) وظاهره انحصار تطهير باطن القدم بالغسل. لكن لابد من رفع اليد عن الظهور المذكور، وحمله على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 30 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 301

بيان الاكتفاء بالغسل في مقابل الحاجة معه للوضوء، من دون أن يتعين، جمعاً مع ما سبق.

وأما تطهيرها لما يوقي به القدم كالنعل وغيره فقد استدل عليه بأمور:

الأول: إطلاق حديث الحلبي الأول، لعدم التقييد فيه بالحفاء.

وقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بقرب إتحاده مع حديثه الثاني المصرح فيه بالحفاء، وحكايتهما عن واقعة واحدة، للتقارب بين مضمونيهما، فيكون العمل على الثاني لا غير، لأن نسبته للأول نسبة المبين للمجمل، لا نسبة المتعارضين، لينظر في الترجيح بينهما، ولا نسبة المطلق للمقيد، ليتعين العمل على المطلق بعد عدم منافاة المقيد له، لكونهما مثبتين.

وما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من عدم استبعاد تعدد الواقعة، غير ظاهر بعد ملاحظة متن الحديثين وتقارب مضمونيهما.

نعم من الظاهر أن ذلك لا يقتضي اتحاد الحديثين، بل حكايتهما عن واقعة واحدة، فلو تم ذلك، وكان الثاني منهما هو المطابق للواقع، فإهمال الحلبي في الحديث الأول التقييد بالحفاء مع ابتنائه على العناية مناسب لفهمه إلغاء خصوصيته لصورة الانتعال ولبس الخف. وإن كان في بلوغ ذلك مرتبة الاستدلال إشكال.

الثاني: إطلاق صحيح الأحول، لكن سبق الإشكال في نهوضه بالاستدلال في المقام، ليتمسك بإطلاقه.

الثالث: الموثق عن حفص بن أبي عيسى: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن وطئت على عذرة بخفي، ومسحته حتى لم أرَ فيه شيئاً، ما تقول في الصلاة فيه؟ فقال: لا بأس»(1).

وربما حاول بعضهم تقريب اعتبار سنده، لأن في طريقه صفوان بن يحيى،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 302

الذي هو من أصحاب الإجماع.

لكنه يشكل بمنع الكبرى، كما ذكرنا ذلك في مباحث الكر من المياه. غاية الأمر أن صفوان لا يروي إلا عن ثقة، وهو لم يرو عن حفص المذكور بلا واسطة، وإنما روى هنا عن عبد الله بن بكير عنه، وذلك لا يشهد بوثاقته.

وأما الدلالة فمن الظاهر أن مجرد جواز الصلاة في الخف لا يستلزم طهارته بعد أن كان مما لا تتم به الصلاة.

وما قد يظهر من الجواهر من أن إطلاق نفي البأس فيه يقتضي الطهارة. كما ترى! إذ هو إنما يتم لو كان موضوع نفي البأس فيه الخف بنفسه، أما حيث كان موضوعه الصلاة في الخف فلا منشأ لاقتضائه الطهارة بعد العفو عن الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه.

هذا ولكن أصرّ (قدس سره) هو وغير واحد على ظهوره - مع قطع النظر عن ذلك - في سوق السؤال والجواب لبيان الطهارة. بل زاد بعض مشايخنا (قدس سره) أن الإمام (عليه السلام) قرر ما ارتكز في ذهن السائل من عدم جواز الصلاة في الخف على تقدير عدم إزالة العين عنه، وذلك لا يتم إلا بلحاظ الطهارة، لعدم اشتراط زوال العين في العفو عما لا تتم به الصلاة.

ولم يتضح الوجه فيما ذكروه بعد أن كان موضوع السؤال هو جواز الصلاة في الخف الذي هو أعم من طهارته. غاية الأمر أن تعرض السائل لإزالة العين قد يظهر في تخيله عدم جواز الصلاة مع بقائها، وعدم ردع الإمام (عليه السلام) عن ذلك قد يشعر بتقريره له فيه، من دون أن يبلغ مرتبة الظهور الحجة، كما هو الحال في سائر موارد التقييد في كلام السائل، وبعد ثبوت جواز الصلاة مطلقاً لابد من البناء على عدم إرادة مقتضى الإشعار المذكور، لا أنه يلزم البناء على إرادته وصرفه للطهارة التي هو غير مسؤول عنها.

ولاسيما مع إطلاق المسح فيه، وعدم تقييده بالأرض، فإن حمله على خصوص المسح بالأرض ليس بأولى من حمله على كون الغرض منه إزالة العين للاستقذار، أو

ص: 303

لتخيل توقف العفو عما لا تتم به الصلاة على زوال عين النجاسة، ولو في مثل العذرة ما له جرم ظاهر.

الرابع: النبويان المتقدمان، بدعوى انجبارهما بعمل الأصحاب. لكنها ممنوعة لعدم ظهور اعتماد الأصحاب عليهما، بل على نصوصهم المثبتة في كتبهم. ومجرد موافقة فتوى الأصحاب للخبر لا توجب انجباره ما لم يظهر منهم الاعتماد عليه.

الخامس: عموم التعليل في الأحاديث الثلاث الأول بأن الأرض يطهر بعضها بعضاً. وقد وقع الكلام بينهم في مفاد التعليل المذكور. وما قيل أو يمكن أن يقال فيه وجوه:

الأول: أنه إذا تنجس موضع من الأرض طهر بباقيها بسبب المشي عليه والعبور من الطاهر للنجس، ولو لكونه موجباً لانتقال بعض أجزاء الأرض من كل منهما للآخر.

الثاني: أنه حيث كان مسح الموضع النجس من القدم بالأرض يوجب انتقال بعض الأجزاء المتنجسة من الأرض للقدم، فالمراد بالتعليل أن هذه الأجزاء تطهر بالمشي على الأرض الطاهرة بملاقاتها لها واختلاطها بها، ولا يبقى في الرجل شيء نجس.

الثالث: أن المراد به أن الأرض يطهر بعضها البعض الآخر بمعنى أنه يزيل أثر ملاقاته ونجاسة ما تنجس به، نظير قولنا: الماء مطهر للبول والدم لو صح التعبير المذكور.

الرابع: أن بعض الأرض يطهر المتنجس ببعضها. وهو راجع إلى الثالث مصداقاً وإن خالفه مفهوماً.

الخامس: ما عن التوحيد من أن المراد أن بعض الأرض - وهو الطاهر منها - بطهر بعضاً من المتنجسات، وهو أسفل القدم والنعل مثلاً.

السادس: ما عن الوافي من حمله على بيان أمر خارجي، وهو أن النجاسة التي تقع على موضع من الأرض تستهلك وتضمحل في مواضع أخر منها، لتفتت أجزائها

ص: 304

وانتشارها بسبب المشي على الأرض.

والإنصاف أن المعنى الأول هو الظاهر من التعليل. ولو فرض إرادته كان التعليل به راجعاً إلى بيان ارتفاع المانع بعد المفروغية عن مطهرية الأرض ذاتاً للمتنجس الخارج عنها، فهو وارد لبيان أنه بعد الفراغ عن مطهرية الأرض ذاتاً للقدم، لا مجال لتوهم مانعية نجاستها من مطهريتها له، لأن ما تنجس منها يطهر بباقيها.

ولو تم ذلك لم ينهض عموم التعليل بالتعدي عن القدم، لأنه ليس بصدد إثبات مطهريتها للمتنجسات، بل بصدد بيان ارتفاع المانع منها بعد الفراغ عن ثبوتها ذاتاً من دون تحديد لمورد الثبوت، بل لابد من الرجوع فيه لدليل آخر.

لكن الظاهر عدم بنائهم على مطهرية بعض الأرض لبعضها بالمعنى المذكور، فلابد من حمل التعليل على معنى آخر. والمعاني الأخرى المتقدمة غير مفهومة منه، ولا مناسبة لتركيبه الكلامي عرفاً. وذلك موجب لإجماله، وعدم نهوضه بالاستدلال، بل يرد علمه لأهله.

ولاسيما مع وروده فيما لا يناسب شيئاً منها، كما في صحيح محمد بن مسلم: «كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) إذ مرّ على عذرة يابسة، فأصابت ثوبه. فقلت: جعلت فداك قد وطئت على عذرة فأصابت ثوبك. فقال: أليس هي يابسة؟ فقلت: بلى؟ قال: لا بأس، إن الأرض يطهر بعضها بعضاً»(1).

على أن المعنى الثاني راجع إلى مطهرية الأرض للأجزاء المتنجسة منها العالقة بالرجل، ولا نظر فيه لعموم المطهرية لبقية المتنجسات، ليتمسك بعمومه. والمعنى الخامس راجع إلى قضية جزئية لا عموم فيها. والمعنى السادس لا نظر فيه للتطهير الشرعي.

فلم يبق إلا المعنى الثالث والرابع، فإنهما راجعان إلى عموم مطهرية الأرض

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 305

للمتنجس بالنجاسة الحاصلة منها، فلو تم حمل التعليل على أحدهما نفع في المقام.

إلا أنه حيث يعلم بعدم عموم التعليل لكل متنجس بالأرض، وإنما الكلام في العموم لخصوص يتوقى به القدم لا غير، تعين إجمال التعليل وعدم نهوضه بالاستدلال على المدعى، كما ذكر سيدنا المصنف (قدس سره). وما يظهر من شيخنا

الأستاذ (قدس سره) من أن ذلك لا يقتضى سقوط العموم، بل البناء عليه في غير مورد الإجماع على تخصيصه. كما ترى للزوم تخصيص الأكثر.

هذا تمام ما استدل به على عموم مطهرية الأرض لما يوقى به القدم، وقد ظهر عدم نهوض شيء منه بذلك.

نعم من القريب جداً البناء على العموم له، لإلغاء خصوصية القدم في الحكم. لما هو المرتكز من أن المطهرية في المقام تعبدية تخفيفية بلحاظ كثرة ابتلاء الماشي بالنجاسة، خصوصاً في الصدر الأول يوم كان قضاء الحاجة في الطرقات مألوفاً، ومن الظاهر أن ذلك يناسب عموم المطهرية لما يتوقى به القدم، لشيوع الابتلاء به، بل هو أشيع من القدم.

بل المرتكز أنه أولى بالاكتفاء بالطهارة المذكورة من القدم. لما هو المعلوم من أن البدن أولى بالطهارة الكاملة، ومن ثم كان المستفاد عرفاً من التنبيه على الحفاء في بعض النصوص أنه تنبيه على الفرد الا خفى الأولى بعدم العفو. ولعله لذا توقف في القدم من توقف، كما سبق.

وكأنه إلى هذا يرجع ما عن المعالم، فإنه بعد أن ذهب إلى أن عمدة النصوص في المقام هو صحيح زرارة الأول المتقدم، قال عن بقية النصوص: «وهذه الأخبار وإن لم تكن نقية الأسانيد فإنها معتضدة بالحديث الأول الصحيح. وكونه مختصاً بالقدم غير ضائر، فإن ثبوت الحكم فيه يقتضي ثبوته في غيره بطريق أولى. ألا ترى أن الخف والنعل لا توقف لأحد من الأصحاب في حكمها على ما يظهر، وحصل في القدم نوع توقف».

ص: 306

(307) (307)ويؤيد ما ذكرنا ما سبق في ذيل الكلام في حديثي الحلبي من ظهور حال الحلبي في فهم عدم الخصوصية للقدم لو تم حكاية الحديثين عن واقعة واحدة.

مضافاً إلى ظهور شهرة القول بالطهارة شهرة تكاد تلحق بالإجماع، مع شيوع الابتلاء بالمسألة، بنحو يبعد جداً خطأ المشهور فيها. ولاسيما مع وجود أقوال للعامة فيه، فإن ذلك كله مؤيد لما ذكرنا.

بقي شيء: وهو أن المعروف بين الأصحاب كون المطهر هو الأرض، بل سبق من بعضهم التعبير بالتراب. لكن عن ابن الجنيد أنه قال: «وإذا وطئ الإنسان برجله أو ما هو وقاء لها نجاسة... فوطأ بعدها نحواً من خمسة عشر ذراعاً أرضاً طاهرة يابسة طهر ما ماس النجاسة... ولو مسحها حتى يذهب عين النجاسة وأثرها بغير ماء، أجزأ إذا كان ما مسحها به طاهراً».

ومقتضى إطلاق ذيل كلامه العموم لغير الأرض من الأجسام الطاهرة، وعن الذخيرة أنه لا يخلو عن قوة، وجزم به في المستند، وفي نهاية الأحكام الإشكال في المسألة.

وكأن وجه العموم لغير الأرض إطلاق المسح في صحيحي زرارة وحديث حفص المتقدمين، وإطلاق المكان النظيف في صحيح الأحول المتقدم. وما في الحدائق من انصراف المسح للمسح بالأرض غير ظاهر. نعم سبق الإشكال في كون النصوص المذكورة من أدلة المسألة.

مضافاً إلى أن المراد بذلك إن كان هو التفريق بين المشي والمسح، فيراد بالمشي المشي على خصوص الأرض، وبالمسح المسح مطلقاً ولو بغيرها، فهو أمر غير عرفي يصعب تنزيل الأدلة عليه جداً بعد مشاركة المشي للمسح في إزالة العين وانتقالها للممسوس.

وإن كان المراد هو تعميم المشي للمشي على غير الأرض بقرينة إطلاق المسح،

ص: 307

كالنعل والخف والحذاء وغيره (1)

فالظاهر أن العكس هو الأولى عرفاً، لأن ظهور أدلة المشي في خصوصية الأرض أقوى من إطلاق أدلة المسح.

ولاسيما بلحاظ اشتمالها على أن الأرض يطهر بعضها بعضاً، فإنها كالصريحة في خصوصية الأرض في التطهير، لا بلحاظ هيئة التعليل، ليتجه ما ذكره سيدنا

المصنف (قدس سره) من أن التعليل إذا لم يكن مقروناً باللام يضعف ظهوره في الانحصار، والانتفاء عند الانتفاء، بل لأن عنوان الأرض مناسب للمطهرية بمقتضى الارتكازات المتشرعية، فإلغاء خصوصيته صعب جداً. ومن ثم يتعين الاقتصار على الأرض.

(1) كما هو معقد الإجماع المدعى في جامع المقاصد، وبه صرح جماعة. واقتصر في المقنعة والمراسم والشرايع والتذكرة والمنتهى ونهاية الأحكام على الخف والنعل، وفي إشارة السبق والنافع والإرشاد والقواعد والدروس على النعل، وفي الوسيلة على الخف.

ولا يبعد إرادة الكل التعميم، إلغاء لخصوصية ما ذكروه من العناوين. ولاسيما مع التعليل في بعضها - كالمنتهى - بأن الخف والنعل لا ينفكان عن ملاقاة النجاسة، فلو اقتصرنا في إزالتها عنهما على الماء كان حرجاً، والتراب من طبعه إحالة ما يلاقيه، فإذا زالت العين زالت النجاسة.

بل قد يظهر من بعضهم عموم النعل للكل، وإن كان في حيز المنع. إلا أن يرجع إلى ما في الذكرى، حيث قال: «وحكم الصنادل حكم النعل، لأنها مما ينتعل».

وكيف كان فالتعميم هو المناسب للوجه المتقدم منّا دليلاً على مطهرية الأرض لما يوقى به القدم. وكذ لو كان الدليل عليه إطلاق صحيحي زرارة والأحول المتقدمين، أو عموم التعليل بأن الأرض يطهر بعضها بعضاً. وأما لو كان الدليل عليه حديث حفص بن أبي عيسى أو النبويين فلإلغاء خصوصية الخف والنعل فيها عرفاً.

ص: 308

(309) (309) بالمسح بها أو المشي عليها (1)، بشرط زوال عين النجاسة بهما (2) ولو زالت

(1) كما تقدم عن ابن الجنيد. وهو مقتضى تصريح جماعة وظاهر آخرين.

أما المشي فهو المصرح به في حديث الحلبي الثاني وموثق عمار وصحيح الأحول لو كانا من أدلة المسألة. كما أنه المنصرف أو المتيقن من حديث الحلبي الأول ومعتبر المعلى.

وأما المسح فهو المصرح به في صحيحي زرارة وحديث حفص، بناء على أنها من أدلة المسألة. لكن سبق الإشكال في ذلك. ومن ثم يشكل الاجتزاء به.

ودعوى: استفادته من أدلة المشي، إما بإلغاء خصوصية المشي، لأن المستفاد منها أن مطهرية الأرض بلحاظ إزالتها لعين النجاسة وأثرها الظاهر، وإما بلحاظ عموم التعليل بأن الأرض يطهر بعضها بعضاً.

ممنوعة لأن مطهرية الأرض ليست عرفية، بل تعبدية، فيقتصر فيها على مورد الأدلة. والتعليل قد عرفت الإشكال فيه. مع أنه لو دل على عموم مطهرية الأرض فلا ينهض ببيان كيفية حصول التطهير بها.

(2) لأنه المنصرف من أدلة التطهير. ولاسيما أن المستفاد منها مطهرية الأرض للقدم ولما يوقى به، لا للنجاسة التي يحملانها، و مع بقاء عين النجاسة كيف يطهر القدم أو ما يوقى به مع ما هو المرتكز من أن ملاقاة النجاسة موجبة للتنجس حدوثاً وبقاءً؟!. أما لو كان للنجاسة جرم مانع من مماسة القدم وما يوقى به للأرض فالأمر أظهر. هذا مضافاً إلى صحيح زرارة الأول لو كان من أدلة المسألة.

ومما سبق يظهر العموم للمتنجس لو كان القدم أو ما يوقى به قد تنجس به لا بعين النجاسة.

هذا قد سبق من ابن الجنيد اعتبار كون المشي خمسة عشر ذراعاً. وكأنه لصحيح الأحول. لكن سبق الإشكال في الاستدلال به في المقام. ويزيد الإشكال بناء على

ص: 309

عين النجاسة قبل ذلك كفى مسمى المسح بها أو المشي عليها (1). ويشترط على الأحوط وجوباً كون النجاسة حاصلة بالمشي على الأرض (2).

عموم المطهرية للمسح الذي يكون المدار فيه على زوال عين النجاسة. ومن ثم لا يبعد حمله على بيان المقدار الذي من شأنه أن تزول معه عين النجاسة. فلاحظ.

(1) أما كفاية المشي فظاهر لإطلاق أدلته، الشامل لصورة عدم علوق عين النجاسة. وأما المسح لو قيل بكفايته في مطهرية الأرض فلا يخلو عن إشكال لو كان دليله صحيح زرارة الأول، لاختصاصه بإزالة عين النجاسة بالمسح، ولا يشمل صورة زوالها قبله. نعم لو كان دليله صحيحه الثاني فلا يبعد ثبوت الإطلاق له. وأشكل من ذلك ما في الروضة من الاكتفاء بالإمساس حينئذ. حيث لا دليل عليه قطعاً.

(2) لأنه مورد النصوص المتقدمة. ودعوى: إلغاء خصوصية مورد النصوص عرفاً، لارتكاز عدم خصوصية المشي في المقام، كما قد يرجع إليه ما عن الفقيه

الهمداني (قدس سره). مدفوعة بأن ذلك يتم لو كانت مطهرية الأرض عرفية، أما حيث كانت تعبدية تخفيفية، بلحاظ كثرة الابتلاء بالنجاسة - كما سبق - فاللازم الاقتصار على مورد النصوص الذي هو الأكثر شيوعاً.

ومثلها الاستدلال على العموم بإطلاق صحيح زرارة الثاني. لاندفاعه بما سبق من عدم نهوض الصحيح المذكور بالاستدلال في المقام. مضافاً إلى أنه لا يمكن البناء على إطلاقه من حيثية التنجيس بعد شموله لنجاسة غير أسفل القدم وما يوقى به، فلابد من البناء على إجماله، والاقتصار فيه على المتيقن، وهو التنجس بالأرض.

هذا ومقتضى مورد النصوص المتقدمة ما إذا كان التنجيس بسبب ملاقاة القدم أو ما وقي به للنجاسة حال المشي، ولا يشمل ما إذا كان التنجيس بسبب آخر، كما إذا جرحت الرجل حال المشي، فتنجست بالدم الخارج منها. وحينئذ لا مجال للبناء على مطهرية الأرض حينئذ لعين ما سبق.

ص: 310

(311) (مسألة 27): المراد من الأرض مطلق ما يسمى أرضاً (1) من حجر أو تراب أو رمل ولا يبعد عموم الحكم للآجر والنورة (2). والأقوى اعتبار

(1) عملاً بإطلاق النصوص المتقدمة. ولا يجزي غير الأرض مما تفرش به الأرض، كالزفت الذي تعارف في عصورنا. لظهور قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي الثاني: «أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة» في لزوم المشي على الأرض، وعدم الاجتزاء بغيرها. بل هو مقتضى التعليل المتقدم في الصحاح الثلاث، لظهوره في خصوصية الأرض في المطهرية، كما سبق.

ودعوى: أنه يصدق عليه الأرض عرفاً بعد فرشها به وتبعيته لها. مدفوعة بأن صدق الأرض عليه تسامحي لا يكفي في شمول الإطلاق له.

(2) قبل الإحراق بلا إشكال. وبعد الإحراق على الظاهر، لأن الظاهر عدم خروجها عرفاً بالإحراق عن عنوان الأرض، كما تقدم في مبحث التيمم.

ويناسبه حديث السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): «أنه سئل عن التيمم بالجص، فقال: نعم، فقيل: بالنورة؟ فقال: نعم، فقيل: بالرماد؟ فقال: لا، إنه ليس يخرج من الأرض، إنما يخرج من الشجر»(1) وقد تقدم اعتبار سنده وقريب منه مسند الراوندي(2). لظهورهما في عموم الأرض للجص والنورة المطبوخين. وقد تقدم في التيمم ما ينفع في المقام.

هذا وقد يستدل أيضاً باستصحاب مطهريتهما أو كونهما أرضاً. لكن الأول من الاستصحاب التعليقي، لرجوعه إلى استصحاب ترتب الطهارة على تقدير المشي أو المسح، والثاني من استصحاب المفهوم المردد، وهما لا يجريان على التحقيق.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 6 من أبواب أحكام التيمم حديث: 2.

ص: 311

طهارتها (1).

(1) كما في الذكرى وجامع المقاصد والمسالك والحدائق، ونفي عنه البأس في المدارك وتقدم في المحكي من كلام ابن الجنيد، وفي الحدائق أنه ظاهر فحاوى جملة من عباير الأصحاب. خلافاً لظاهر الروضة والرياض من القول بالطهارة، وحكاه في الحدائق عن جماعة من الأصحاب، وفي الروضة أنه مقتضى إطلاق النص والفتوى.

وقد استدل لاعتبار الطهارة بوجوه:

الأول: النبوي المشهور: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(1). فقد استدل به في الحدائق بدعوى: أن الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره.

وفيه: أن الطهور هو المطهر، كما ذكرناه في أول كتاب الطهارة، واعتبار طهارته مبني على شرطية الطهارة في الطهور التي هي محل الكلام. على أنه لو سلم فالنبوي ونحوه إنما يدل على أن الأرض طاهرة مطهرة، لا على اعتبار طهارتها في مطهريتها، كما تقدم نظيره في مسألة اعتبار طهارة ما يتيمم به من مبحث التيمم.

الثاني: صحيح الأحول فقد استدل به بعض مشايخنا (قدس سره) بدعوى: أن التقييد بالنظيف وإن أخذ في كلام السائل، إلا أن قول الإمام (عليه السلام): «لا بأس» راجع إلى نفي البأس عما ذكره السائل في كلامه وتقريره للقيود التي أخذها.

مضافاً إلى أن تقييده (عليه السلام) الجواب بخمسة عشر ذراعاً راجع إلى التقييد فيما إذا أخذه السائل في كلامه وهو المكان النظيف، فكأنه (عليه السلام) قال: لا بأس إذا كان المكان النظيف خمسة عشر ذراعاً. والتقييد بالخمسة عشر ذراعاً وإن كان محمولاً على الغالب من توقف زوال عين النجاسة على ذلك، فيدل على لزوم كون المكان النظيف بمسافة تزول بالمشي عليها عين النجاسة، وعلى كل حال يدل على المدعى من لزوم المشي في المكان النظيف.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم.

ص: 312

وفيه - بعد الغض عما سبق من عدم كونه الصحيح من أدلة المسألة -: أن نفي البأس عن مورد القيود التي ذكرها السائل لا يقتضي إناطة نفي البأس بها، بحيث يثبت البأس مع انتفائها إلا بناء على مفهوم اللقب أو ما دونه.

كما أن التقييد بخمسة عشر ذراعاً إنما يدل على لزوم المسافة المعينة، من دون نظر لموضوعها. وكون موضوعها المكان النظيف تبعاً لفرض السائل لا يدل على التقييد به بنظر المجيب. ولاسيما بعد البناء على أن ذكر المسافة ليس للتحديد بها، بل لغلبة زوال عين النجاسة بها. لظهور عدم توقف زوال عين النجاسة على طهارة موضع المشي.

الثالث: أنه مقتضى الأصل، لعدم وضوح شمول الإطلاق للأرض النجسة. وفيه أنه لا مجال للتوقف في الإطلاق. خصوصاً مع قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي الثاني: «أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟»، وقوله (عليه السلام) في صحيح المعلى: «أليس وراءه شيء جاف؟».

فالعمدة في المقام المناسبات الارتكازية القاضية بأنه لابد من طهارة المطهر، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

ودعوى: أن ذلك إنما يتم لو كانت مطهرية الأرض ارتكازية عرفية، أما حيث كانت تعبدية شرعية فاللازم الجمود فيه على مفاد الأدلة، ولا مجال لتحكيم الارتكازيات فيها.

مدفوعة بأن الارتكاز المذكور يوجب انصراف الإطلاق للطاهر لابتناء الطهورية على إفاضة الطهور من طهارته على النجس ما يغلب نجاسته ويزيلها، فلا يبقى للمطلق ظهور في الإطلاق، بل قد يكون ظاهراً في التقييد بالطهارة.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): «الرجوع إلى العرف في قاعدة الفاقد لا يعطي ليس من باب الرجوع إليهم في كيفية التطهير، لأجل الإطلاق المقامي، بل من جهة أن القاعدة المذكورة توجب دلالة الكلام على اعتبار الطهارة في المطهر، كما توجب دلالته على اعتبار نجاسة المنجس، ولذلك استدل الفقهاء على نجاسة جملة من الأعيان

ص: 313

(314) والأحوط وجوباً اعتبار جفافها (1).

النجسة، بما دل على نجاسة ملاقيها، فلولا أن المتنجس يجب أن يكون نجساً لما كان وجه لذلك الاستدلال. والفرق بينه وبين ما نحن فيه غير ظاهر...».

اللهم إلا أن يقال: إن الاقتصار في حديث الحلبي الثاني ومعتبر المعلى على التقييد بالجفاف من دون تنبيه للنجاسة، مع تعرض الطريق لها غالباً، خصوصاً مع التنبيه في الأول إلى أنه يبال فيه، يوجب قوة ظهورهما في الإطلاق من حيثية الطهارة، وكذا الاقتصار في صحيح الحلبي الأول على وصف الطريق بالقذر من دون تنبيه إلى المرور بموضع طاهر منه. ويصعب مع ذلك رفع اليد عن الإطلاق المذكور من أجل الارتكاز المتقدم، خصوصاً مع ما هو المعلوم من كون الطهارة في المقام تخفيفية لا عرفية.

نعم لو تم الوجه الأول الذي ذكرناه في معنى التعليل بأن الأرض يطهر بعضها بعضاً كان الغالب طهارة الطريق، وحينئذ لا يقوى الإطلاق على رفع اليد عن الوجه الارتكازي المذكور. لكن سبق عدم تماميته. فالأمر لا يخلو عن إشكال.

(1) فقد ذهب لاعتبار الجفاف في جامع المقاصد والمسالك والحدائق، ونفى عنه البأس في المدارك وتقدم في المحكي من كلام ابن الجنيد. وخلافاً لنهاية الأحكام والروضة والرياض وعن الذخيرة.

ويدل على الاشتراط ما تقدم من حديث الحلبي الثاني ومعتبر المعلى. وما في الرياض من الإشكال في سندهما في غير محله، إذ ليس في سند الأول إلا توهم الإرسال، لروايته في مستطرفات السرائر عن نوادر البزنطي مع جهالة طريق ابن إدريس إلى نوادر البزنطي غير قادح بعد قرب اشتهار كتاب النوادر في زمن ابن إدريس بحيث يكون نقله عنه عن حس أو حدس قريب من الحس كما هو الأصل في الحكاية والنقل. والمفضل قد ثبت وثاقته. وكذا المعلى بن خنيس لتظافر الروايات

ص: 314

(315) (مسألة 28): في إلحاق ظاهر القدم (1) وعيني الركبتين

بمدحه، معتضداً بعدّ الشيخ إياه في كتاب الغيبة من السفراء الممدوحين، وبكونه من رجال كامل الزيارات وتفسير القمي، بنحو يلزم لأجله رفع اليد عن تضعيف النجاشي وابن الغضائري، حيث قد يكون منشؤه توهم نسبة الغلوّ له.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من احتمال كون المراد بالأرض اليابسة في حديث الحلبي الثاني ما يقابل الندية بالبول، وبالشيء الجاف في معتبر المعلى ما يقابل المبتل بما يسيل من الخنزير. إذ فيه: أن الاحتمال المذكور مخالف للظاهر جداً، فلا يمنع من الاستدلال بالحديثين.

هذا وأما ما في مفتاح الكرامة من الإشكال في ذلك بأن لازمه انتفاء فائدة التطهير، ولزوم الحرج والمشقة العظيمة في أيام المطر.

فهو كما ترى! لوضوح فائدة التطهير مع الجفاف. كما أن الحرج مع المطر ليس بحدّ يصلح لتعميم المطهرية لحال عدم الجفاف.

ثم إنه حيث تضمن معتبر المعلى اعتبار الجفاف، وحديث الحلبي الثاني اعتبار اليبوسة التي هي أخص من الجفاف، تعين اعتبار اليبوسة وعدم الاكتفاء بالجفاف مع بقاء الرطوبة غير المسرية.

(1) كما قواه في العروة الوثقى، وتبعه جملة من شراحها ومحشيها، وقد استدل عليها تارة: بإطلاق النصوص المتضمنة لعنوان الوط ء والمشي ونحوهما. وأخرى: بعموم التعليل بأن الأرض يطهر بعضها بعضاً.

ويظهر اندفاع الأول مما سبق من عدم نهوض ما تضمن عنوان المشي وغيره بالاستدلال إلا حديث الحلبي الثاني، وهو كالحديثين الآخرين المستدل بهما في المقام قد ورد في مشي السائل، وقضية خارجية لا إطلاق له يشمل مشي غيره إذا كان خارجاً عن الوضع الخارجي.

ص: 315

واليدين (1) إذا كان المشي عليها. وكذلك ما توقى به (2) - كالنعل، وأسفل خشبة الأقطع، وحواشي القدم القريبة من الباطن (3) - إشكال.

كما يظهر اندفاع الثاني مما سبق من أن التعليل إنما يكون له عموم إذا حمل على المعنى الثالث أو الرابع، وهما غير ظاهرين منه، على أنه لو كان ظاهراً في أحدهما فحيث يعلم بعدم عموم التعليل، فلابد من إجماله وعدم نهوضه بالاستدلال.

فالعمدة في المقام فهم عدم الخصوصية للمشي على باطن القدم بلحاظ ما ذكرناه في وجه عموم التطهير لما يوقى به القدم.

نعم المتيقن من ذلك ما إذا كان المشي على ظاهر القدم لآفة لازمة، كما اقتصر عليه في العروة الوثقى، ولا يشمل ما إذا كان نادراً اعتباطاً، أو لعارض موقت.

(1) فقد استشكل فيه في العروة وأقره جملة من محشيها، وسبقه إليه في ظاهر محكي الدلائل. وظاهر شيخنا الأستاذ (قدس سره) الميل لعموم المطهرية لذلك، عملاً بعموم التعليل، بناء على ما سبق منه (قدس سره) من الاقتصار في الخروج عنه على المتيقن. وقد سبق ضعفه. فراجع.

وأما ما سبق من فهم عدم الخصوصية، فهو وإن كان محتملاً. إلا أن في بلوغه حدّ الاستدلال إشكال. نعم هو قريب فيما إذا كان مقطوع الرجلين يمشي منتصباً على موضع القطع منهما. فلاحظ.

(2) مما تقدم يظهر اشتراك الموقى والواقي في وجه المطهرية، وفي وجه

الإشكال فيها.

(3) إن كان المراد بذلك ما إذا كان المشي عليها، فيجرى فيه الكلام المتقدم في المشي على ظاهر القدم، بل لعله عموم المطهرية هنا أظهر.

وإن كان المراد بذلك ما إذا تنجست تبعاً لباطن القدم عند المشي عليه - كما لعله الظاهر - فالظاهر البناء على المطهرية بالمقدار الذي يقتضيه طبيعة المشي على الموضع

ص: 316

(317) (317) (317) (مسألة 29): إذا شك في طهارة الأرض يبنى على طهارتها، فتكون مطهرة حينئذٍ (1). إلا إذا كانت الحالة السابقة نجاستها.

(مسألة 30): إذا كان في الظلمة ولا يدري أن ما تحت قدمه أرض أو شيء آخر من فرش ونحوه لا يكفي المشي عليه في حصول الطهارة (2) بل لابد من العلم بكونه أرضاً.

(الثالث): الشمس، فإنها تطهر (3) الأرض

القذر. لفهمه من النصوص السابقة تبعاً، لشيوع الابتلاء به. بل تقدم قوله في صحيح زرارة: «فساخت رجله فيها». وهو يعمّ ما زاد على ذلك. إلا أنه تقدم الإشكال في الاستدلال به.

(1) لأصالة طهارة الأرض الحاكم على استصحاب نجاسة الرجل.

(2) يعني: ظاهراً. لعدم المحرز لكون ما يمشي عليه أرضاً، فلا مخرج عن استصحاب نجاسة الرجل.

(3) كما هو المعروف بين الأصحاب الذي حكى شهرتهم عليه غير واحد وعن الوحيد أنها شهرة تكاد تبلغ الإجماع، بل في الخلاف والسرائر وعن ظاهر كشف الحق الإجماع عليه.

وعن الراوندي جواز السجود عليها من دون أن تطهر وبه قال في الوسيلة والبهائي في الحبل المتين، وحكاه عن والده، وما إليه في المفاتيح، واستجوده في المعتبر، وإن كان الظاهر من بقية كلامه الميل للطهارة، بل صرح بها في مسألة كيفية تطهير الأرض. وفي المدارك. وعن ظاهر ابن الجنيد التوقف في الطهارة وإن جاز السجود مع الجفاف.

وكيف كان فيدل على الطهارة صحيح زرارة: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن

ص: 317

البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلي فيه فقال: إذا جففته الشمس فصل عليه، فهو طاهر»(1). وما في المدارك من احتمال حمل الطاهر فيه على الطهارة بالمعنى اللغوي، موهون جداً.

ورواية أبي بكر الحضرمي عنه (عليه السلام): «يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر»(2) ، ونحوها أو عينها روايته الأخرى(3) ، بعد حملهما على الإشراق المجفف، جمعاً مع صحيح زرارة.

وقد يستدل أيضاً بموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنه قد يبس الموضع القذر. قال: لا يصلى عليه، وأعلم موضعه حتى تغسله. وعن الشمس هل تطهر الأرض؟ قال: إذا كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس، ثم يبس الموضع، فالصلاة على الموضع جائزة، وإن أصابته الشمس ولم ييبس الموضع القذر وكان رطباً فلا يجوز الصلاة حتى ييبس. وإن كانت رجلك رطبة وجبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع حتى ييبس، وإن كان غير الشمس أصابه حتى ييبس، فإنه لا يجوز ذلك»(4).

بدعوى: أن المراد بقوله (عليه السلام): «فالصلاة على الموضع جائزة» بيان طهارة الموضع لأمور:

الأول: لزوم مطابقة السؤال للجواب وفيه: أن مطابقة الجواب للسؤال لا ينهض قرينة على حمل بيان جواز الصلاة على الكناية عن الطهارة بعد اختلاف التعبير بينهما حيث قد يناسب اختلاف المراد بهما، إذ لو كان المراد بيان الطهارة لكان الأنسب أن يقول: «نعم إذا جففته» فإنه أخصر وأفيد، فالعدول عن ذلك للعبارة الطويلة التي تضمنها الجواب مناسب لاختلاف المراد جداً.

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 1، 5.

(3و4) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 6، 4.

ص: 318

الثاني: الإجماع على اعتبار الطهارة في مسجد الجبهة. وفيه: أنه لا معنى لدعوى الإجماع المذكور مع دعوى الخصم جواز السجود على الموضع الذي تجففه الشمس وإن بقي نجساً.

الثالث: عدم الأمر بإعلام الموضع وغسله كما سبق في صورة يبس الموضع بغير الشمس، حيث يناسب ذلك طهارة الموضع. وفيه: أن إعلام الموضع وغسله إذا كان نجساً غير واجب لنفسه، والأمر به في صورة اليبس بغير الشمس قد يكون من أجل عدم جواز الصلاة عليه الذي تضمنته الفقرة الأولى، فلا حاجة له مع الجفاف بالشمس بعد أن تضمنت الفقرة الثانية جواز الصلاة عليه.

نعم لو كان الإعلام والغسل من أجل تجنب النجاسة بملاقاته برطوبة لم ترتفع الحاجة إليه مع جواز الصلاة على الموضع إلا إذا كان جواز الصلاة ملازماً للطهارة، وحينئذ يكون عدم التنبيه عليه مع التجفيف بالشمس مشعراً بالطهارة. لكن لا قرينة على ذلك.

على أن من القريب كون الفقرة الأولى حديثاً آخر في مجلس آخر، لأن ذكر (عن) يناسب تعدد السؤال، كما اشرنا إليه غير مرة. ويناسبه الموثق نفسه، حيث تضمن مسائل متباينة لا يفصل بينها إلا (عن). وحينئذ لا تصلح إحدى الفقرتين للقرينية على الثانية.

الرابع: قوله (عليه السلام) في ذيل الموثق: «وإن كان رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك حتى ييبس» فإن جواز الصلاة إذا يبس الموضع بالشمس مع رطوبة البدن الذي يصيبه ملازم لطهارة الموضع إذ لو كان نجساً لتنجس به البدن وبطلت الصلاة.

لكنه موقوف على كون فاعل (ييبس) ضميراً عائداً للموضع الذي جففته الشمس من الأرض أما إذا كان عائداً للعضو الرطب من البدن فلا ينفع في المقام. والأول وإن كان هو المناسب لكون الموضع هو الأقرب ولياء المضارعة، إلا أن الثاني

ص: 319

هو الأنسب بكون الشرط الملحوظ بالأصل هو رطوبة الجبهة ونحوها. ومن ثم يصعب تعين الوجه الأول، ليتم الاستشهاد بالفقرة المذكورة على المدعى. فتأمل.

فالعمدة في وجه دلالة ما تضمنه الموثق من الترخيص في الصلاة على الموضع النجس على الطهارة هو ما دلّ على شرطية طهارة مسجد الجبهة من النصوص، ومنها صحيح زرارة السابق، وغيره مما تقدم التعرض له في مسألة وجوب طهارة مسجد الجبهة من فصل أحكام النجاسة. ولا يضر معه ما تقدم من عدم تمامية الإجماع في المقام.

هذا وقد يستشكل في الاستدلال به بلحاظ ما في الحبل المتين وعن الوافي من أن الموجود في النسخ الموثوق بها بدل قوله في ذيل الموثق: «وإن كان غير الشمس أصابه» قوله: «وإن كان عين الشمس أصابه» وعليه يتعين كون (إن) وصلية، وكون فاعل (ييبس) التي قبلها ضمير يعود للرجل وغيرها من أجزاء البدن، وكون فاعل (ييبس) التي بعدها ضمير يعود للموضع من الأرض، وكون «فإنه لا يجوز ذلك» تأكيداً لما قبله لا جواباً للشرط. وحينئذ يكون صريحاً في عدم طهارة الموضع بتجفيف الشمس له، حيث لا تجوز الصلاة عليه مع إصابة بعض البدن له برطوبة.

ويندفع بما ذكره غير واحد من استبعاد صحة النسخة المذكورة، لعدم مألوفية التعبير بعين الشمس بعد أن كانت الإصابة دائماً بشعاعها لا غير، وعدم مناسبته لتذكير الضمير في (أصابه)، ولاستلزامه ركاكة التعبير بوجه ظاهر. ولاسيما مع استدلال الشيخ - الذي هو الراوي له - به على مطهرية الشمس، حيث لا يناسب النسخة المذكورة جداً.

لكن الإنصاف أن في الاكتفاء بذلك في إثبات صحة النسخة الأولى إشكال بعد اختلاف نسخ التهذيبين، ففي الطبعة الحديثة من الاستبصار ونسخة الأصل من الطبعة القديمة للتهذيب في مبحث المطهرات (عين)، وفي الطبعة القديمة للاستبصار (غير)، وهو المثبت في نسخة الهامش من الطبعة القديمة للتهذيب والوسائل الحديثة.

ص: 320

نعم في مبحث مكان المصلي من التهذيب حذفت الجملة بتمامها، حيث وردت العبارة: «وإن كانت رجلك رطبة، أو جبهتك رطبة، أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر، فلا تصل على ذلك الموضع حتى ييبس فإنه لا يجوز ذلك».

وهو لو تم لا ينافي الصدر، حيث يتعين حمل الصدر على صورة الجفاف بالشمس، وحمل الذيل على صورة عدم الجفاف بالشمس، بل الجفاف بعد ذهابها.

لكن لا طريق لإثبات صحة النسخة المذكورة بعد هذا الاضطراب في نقل الحديث واختلاف نسخه. على أنه بعد أن تضمن ذيل الحديث جواز الصلاة على الموضع مع الجفاف بغير الشمس يتعين حمله على الصلاة في المكان دون سجود عليه، وحينئذ يصعب حمل الفقرة المستدل بها على صورة السجود على المكان مع أنهما في سياق واحد.

ودعوى: أن ذلك لا يناسب ما تضمنه الصدر من النهي عن الصلاة على المكان مع جفافه من دون أن تصيبه الشمس. مدفوعة بما سبق من قرب تعدد السؤال، فالاختلاف بينهما نظير الاختلاف بين روايتين، لا نظير تدافع فقرات الرواية الواحدة.

على أنه قد يحمل الصدر على الكراهة في فرض عدم السجود على الموضع، ويكون لإصابة الشمس ولو من دون تجفيف دخل في ارتفاعها. وكيف كان فيشكل الاستدلال بالموثق على المدعى بملاحظة ما سبق من السياق المذكور واختلاف النسخ.

ثم إنه قد يستدل أيضاً بصحيح زرارة وحديد: «قلنا لأبي عبد الله (عليه السلام): السطح يصيبه البول أو يبال عليه ويصلى في ذلك المكان؟ فقال: إن كان تصيبه الشمس والريح وكان جافاً فلا بأس، إلا أن يكون يتخذ مبالاً»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 321

لكنه موقوف على حمله على الجفاف بالشمس، وعلى أن ذكر الريح لمجرد غلبة وجودها مع الشمس لا لدخلها في التطهير، وعلى أن المراد بالصلاة في المكان ما يساوق السجود عليه. والكل غير ظاهر، لظهور الحديث في اعتبار الجفاف حين الصلاة، ودخل الريح في التجفيف كالشمس، وأن المسؤول عنه هو الصلاة في المكان، لا الصلاة عليه. فلعل الأولى حمله على بيان عدم كراهة الصلاة في المكان النجس بالبول مع جفافه، إلا أن يتخذ مبالاً، فيكون كالكنيف. وعلى كل حال فهو أجنبي عن المقام. وكفى فيه النصوص الأول.

هذا وقد يستدل للقول بعدم الطهارة - مضافاً للأصل - بصحيح إسماعيل بن بزيع: «سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول وما أشبهه، هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال: كيف يطهر من غير ماء؟»(1).

لكن يمكن الجمع بينه وبين النصوص السابقة بحمله على ما إذا جف البول قبل إصابة الشمس، فإن الشمس حينئذ لا تطهره إلا إذا صب الماء عليه، واستند جفافه لها. وهو أولى من حمل صحيح زرارة على الطهارة اللغوية، كما تقدم من المدارك، أو على عدم كفاية تجفيف الشمس للبول، بل لابد من إضافة الماء له لتجففه الشمس معه، وتكون نتيجة ذلك عدم مطهرية الشمس إلا مع إراقة الماء ولو بنحو لا يستقل بالتطهير، بل يكون شرطاً في مطهرية الشمس، لأن صحيح زرارة كالصريح في كفاية تجفيف الشمس للبول وحده.

ولو فرض استحكام التعارض فالترجيح للنصوص الأول، لتعاضدها واعتماد المشهور عليها، وهجرهم لهذا الصحيح. ولاسيما في مثل هذه المسألة الشائعة الابتلاء. وخصوصاً مع موافقته للمشهور بين العامة، حيث لم يذهب للطهارة إلا أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي في القديم فيما حكاه عنهم في الخلاف والتذكرة. نعم ذكر في الخلاف أن المطهر عندهم الجفاف ولو بغير الشمس، فتكون كلتا الطائفتين

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 7.

ص: 322

(323) وكل ما لا ينقل (1) من الأبنية وما اتصل بها من أخشاب وأعتاب وأبواب

مخالفتين لهم. لكن نسبه في المنتهى لأبي يوسف ومحمد، يعني ابن الحسن، مع نسبة عدم الطهارة غلا بالماء لمالك وأحمد وأبي ثور وزفر والشافعي في القول الآخر.

ثم إن صحيح زرارة مختص بالتنجيس بالبول، إلا أنه لا يظهر من الأصحاب الخلاف في العموم لغيره وإن كان قد يوهمه اقتصار بعضهم عليه، بل هو كالصريح من المنتهى.

بل قد ينسب للمبسوط، لاقتصاره فيه على ذكر البول ثم الحكم بعدم مطهريتها مع تنجس الأرض بالخمر، وإن إلحاق الخمر بالبول قياس. لكنه صرح في فصل ما يجوز السجود عليه من المبسوط بالعموم لكل نجاسة مائعة مثل البول وما أشبهه. وقريب منه ما يأتي - عند الكلام في مطهرية الجفاف بغير الشمس - من الخلاف.

ولعل الوجه في العموم فهم عدم الخصوصية للبول. بل قد يكون غيره من النجاسات والمتنجسات التي لا جرم لها أولى بذلك عرفاً.

هذا مضافاً إلى إطلاق حديثي الحضرمي، بناء على نهوضهما بالاستدلال، على ما يأتي الكلام فيه، والى التعميم في موثق عمار بناء على أنه من أدلة المسألة، وإن سبق الإشكال في ذلك.

نعم لا ينبغي الإشكال في قصور الأدلة عما له جرم ظاهر لا يزول بالشمس عرفاً. وبه وجه بعضهم ما سبق من المبسوط في الخمر، ولو لاستفادته ذلك مما سبق في موثق عمار المتقدم في المسألة الثالثة عشرة المتضمن دلك الإناء الذي يصيبه الخمر عند غسله. فلاحظ.

(1) كما هو المشهور مطلقاً أو بين المتأخرين. أما الأرض فهي المتيقن من النصوص والفتاوى، بل هي مذكورة في معاقد الإجماعات المتقدمة.

وأما غيرها فقد اختلفت فيه عباراتهم، حيث اقتصر بعضهم على ذكر الأرض

ص: 323

والحصر والبواري، بل في المعتبر أن فيما عدا ذلك من غير المنقول تردد.

وصرح جماعة بالعموم لكل ما لا ينقل، كما في الشرايع والمنتهى والذكرى وغيرها. ويقتضيه عموم وإطلاق روايتي الحضرمي.

ودعوى: أنه حيث لا يمكن البناء على عمومهما، إذ لا إشكال في عدم مطهريتها لغير الحصر والبواري وما ألحق بها من المنقول، فلابد من البناء على إجمالهما، فلا يمكن الاستدلال بهما في مورد الشك.

مدفوعة بأنه يمكن حملهما بقرينة ذلك على غير المنقول. ولاسيما بلحاظ أنهما لم يتضمنا التعبير برؤية الشمس للشيء، أو إصابتها له، بل إشراقها عليه، المناسب لكونها هي الواردة عليه، دون ما إذا كان هو منقولاً إليها.

وذلك وإن كان يشمل لفظاً المنقول لو أشرقت عليه الشمس من دون أن ينقل إليها، إلا أن العلم بعدم اختلاف حاليه في التطهير بالشمس وعدمه يلزم بحمله على ما ليس من شأنه النقل للشمس لثباته، بل لا يراها إلا إذا أشرقت عليه ووصلت هي إليه.

نعم قد يستشكل في الاستدلال بهما، لأن في طريقهما عثمان بن عبد الله الحضرمي، وهو مجهول لم يوثق. لكن لا يبعد انجبارهما بعمل الأصحاب، لظهور اعتمادهم عليهما في المسألة وفي التعميم المذكور.

مع اعتضادهما في الجملة بإطلاق صحيح زرارة، لأن المكان يعمّ غير الأرض مما تفرش به ويثبت فيها أو عليها، ويتعدى منه لغيره مما لا ينقل بفهم عدم الخصوصية أو بعدم الفصل. وهذا بخلاف ما لو كان الموضوع هو الأرض، فإن التعدي لغيرها يحتاج للدليل، لا مكان خصوصيتها في ذلك، كخصوصيتها في المطهرية من الحدث في التيمم، ومن الخبث للقدم وما يوقى به.

ثم إن مقتضى الحديث - بناء على الوجه المتقدم - اعتبار فعلية عدم النقل، وعدم

ص: 324

وأوتاد. وكذلك الأشجار والثمار والنبات والخضروات (1) وإن حان قطفها (2) وفي تطهير الحصر والبواري بها إشكال (3).

الاكتفاء بكون الشيء مما لا ينقل بالأصل وإن طرأه النقل، كالأخشاب المقطوعة والآلات المتخذة من النبات وحجر الرحى ونحوها، خلافاً لما عن الفخر.

هذا وقد يلحق به السفينة، كما عن الموجز الحاوي. ولا يخلو عن إشكال، لكونها من المنقول حقيقة، وإن كان بعض أفرادها - وهو السفن الكبيرة - قد يلحق بغير المنقول تسامحاً.

وأما الاستدلال له بإطلاق المكان في صحيح زرارة. فهو لا يخلو عن إشكال، لقرب انصرافه عن ذلك. ويأتي ما ينفع في المقام.

(1) كما صرح به في الشرايع وغيره. ويقتضيه ما سبق.

(2) كما هو صريح الروضة وعن ظاهر جماعة لإطلاق حديث الحضرمي المتقدم. ومنه يظهر ضعف ما في نهاية الأحكام من إطلاق استثناء الثمرة، وما عن المعالم والذخيرة من أن الأولى إلحاقها بالمنقول إذا صارت في محل القطع.

(3) فقد صرح جماعة بإلحاقها بالأرض وفي الرياض أنه الأشهر، وهو داخل في معقد نفي الخلاف المحكي عن التنقيح.

وقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: إطلاق حديث الحضرمي. وفيه: أنه حيث لا يمكن البناء على العموم المذكور، حيث لا إشكال في عدم مطهرية الشمس للمنقول عدا الحصر والبواري وما ألحق بها، فالأقرب حمله على غير المنقول لما سبق.

وبعبارة أخرى: بعد العلم بعدم عموم الحكم للمنقول فإخراجه رأساً عن موضوع الحديث بلحاظ ما سبق أقرب عرفاً من إبقائه على عمومه والاقتصار في تخصيصه على مورد الإجماع، وهو ماعدا الحصر والبواري وما ألحق بها.

ص: 325

ودعوى: أنها حيث تفرش على الأرض فهي ملحقة بها عرفاً، كما لو فرشت بالرمل أو الحصى أو الزفت. مدفوعة إن الإلحاق بها تسامحي لا حقيقي، بخلاف الرمل والحصى، لأنهما من سنخ الأرض. وأما الزفت فلأنه إذا فرشت به الأرض صار من غير المنقول عرفاً، وليس كذلك الحصر والبواري. ولولا ذلك للزم البناء على مطهرية الأرض للبسط ونحوها من الفراش المنسوج.

الثاني: النصوص الواردة في البواري كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة عليها إذا جفت من غير غسل؟ قال: نعم لا بأس»(1). ونحوه صحيحه الآخر(2) ، وموثق عمار(3). وهي وإن كانت مختصة بالبواري، ولذا اقتصر عليها في محكي النزهة، إلا أن من القريب إلحاق الحصر ونحوها من الفراش المصنوع من نبات الأرض بها. بل عن غير واحد من اللغويين أن الحصير هو البارية.

هذا وأما ما عن بعضهم من العموم لكل ما يصنع من نبات الأرض، كالسلال ونحوها. فهو لا يخلو عن إشكال بعد خروجه عن موضوع هذه النصوص. ولعل مراد القائلين بذلك خصوص ما يفرش، فيرجع للأول.

لكن يشكل الاستدلال بهذه النصوص بأن ظاهر التعبير بالصلاة على المكان وإن كان هو الصلاة مع السجود عليه المستلزم للطهارة، إلا أنه حيث لم يقيد الجفاف فيها بالشمس، ولا إشكال في عدم كفاية مطلق جفاف الموضع النجس في جواز الصلاة مع السجود عليه، فكما يمكن توجيهها بتقييد الجفاف فيها بالجفاف بالشمس، لتدل على مطهرية الشمس للبواري، كذلك يمكن بحملها على الصلاة في الموضع من دون سجود عليه، ولا مرجح للأول. بل لعل الثاني أقرب، لبعد إهمال القيد المذكور لو كان مراداً لتقوم المطهرية به.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 2، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 2، 5.

ص: 326

(327) (مسألة 31): يشترط في الطهارة بالشمس - مضافاً إلى زوال عين النجاسة (1) وإلى رطوبة المحل (2) - اليبوسة المستندة إلى الإشراق عرفاً (3)

ولاسيما مع ورود التعبير بالصلاة على المكان من دون إرادة السجود عليه في بعض النصوص، كخبر ابن أبي عمير: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلي على الشاذكونة وقد أصابتها الجنابة فقال: لا بأس»(1) وغيره.

الثالث: الاستصحاب، لأن البواري والحصر من نبات الأرض الذي كان بالأصل غير منقول، وكانت الشمس تطهره، فيُستصحب الحكم المذكور له بعد جعله بارية أو حصيراً.

وفيه أولاً: أنه بعد قطعه قبل جعله بارية أو حصيراً لم تكن الشمس مطهرة له عندهم، فلو جرى الاستصحاب لكان مقتضاه عدم مطهريتها له بعد جعله بارية أو حصيراً. نعم لا مجال للإشكال المذكور بناء على ما سبق عن الفخر من أن المعيار في مطهرية الشمس كون الشيء بالأصل غير منقول وإن طرأه النقل.

وثانياً: أن الاستصحاب المذكور تعليقي، وهو لا يجري على التحقيق.

(1) كما صرح به غير واحد، واستظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، بل في المدارك وعن اللوامع والمستند الإجماع عليه. لأنه المنصرف من أدلة التطهير، نظير ما تقدم في مطهرية الأرض. فراجع.

(2) لتوقف التجفيف على سبق الرطوبة.

(3) فلا يكفي الإشراق من دون تجفيف، لمفهوم الشرطية في صحيح زرارة. وبه يرفع اليد عن إطلاق روايتي الحضرمي لو تم ولم ينصرف لصورة التجفيف بلحاظ ما سبق من انصراف الأدلة لصورة زوال عين النجاسة.

كما لا يكفي الجفاف من دون أن يستند للإشراق، لظهور حديث الحضرمي في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 327

خصوصية الإشراق، بل الظاهر انصراف نسبة التجفيف للشمس في صحيح زرارة إلى ذلك دون ما إذا كان مستنداً لحرارتها من دون أن تصيب الموضع.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يكن التجفيف مستنداً للشمس، بل للهواء أو النار أو غيرها، حيث لا يطهر عندنا قولاً واحداً، كما في المنتهى، وإجماعاً، كما في التذكرة وظاهر نهاية الأحكام ومحكي السرائر والتحرير.

لكن في الخلاف في المسألة السادسة والثمانين بعد المائة من كتاب الطهارة: «الأرض إذا أصابتها نجاسة - مثل البول وما أشبهه - وطلعت عليها الشمس أو [و خ. ل] هبت عليها الريح حتى زالت عين النجاسة فإنها تطهر... دليلنا: إجماع الفرقة...» وظاهره الطهارة بالجفاف بالريح من دون شمس أو معها على اختلاف النسختين، بل الإجماع على ذلك.

اللهم إلا أن يحمل كلامه على ما إذا كانت الريح تابعة للشمس غير مستقلة بالتجفيف ولا مشاركة للشمس فيه عرفاً، كما يناسبه ما ذكره في المسألة المائتين والست والثلاثين من كتاب الصلاة قال: «إذا بال على موضع من الأرض وجففته الشمس طهر الموضع، وإن جفف بغير الشمس لم يطهر. وكذلك الحكم في البواري والحصر سواء. دليلنا: إجماع الفرقة...».

وكيف كان فيكفي في الحكم بعدم الطهارة صحيح زرارة وصدر موثق عمار المتقدم، مؤيداً بإشعار روايتي الحضرمي بخصوصية الشمس. بل الأمر أظهر من أن يحتاج للاستدلال.

ثم إن المعيار في المقام على الجفاف الذي تضمنه صحيح زرارة، لا على اليبس وإن تضمنه موثق عمار. لما سبق من عدم نهوضه بالاستدلال في المقام. وأما الاستصحاب فهو محكوم للصحيح.

ص: 328

(329) وإن شاركها غيرها في الجملة (1).

(مسألة 32): الباطن النجس يطهر تبعاً لطهارة الظاهر بالإشراق (2).

(1) لغلبة الابتلاء بذلك، فيلزم تنزيل الإطلاق على ما يعمه. أما إذا لم يصح عرفاً نسبة التجفيف للشمس - بسبب قوة الريح بالنحو غير المتعارف أو ضعف شعاع الشمس - فالمتعين عدم الطهارة، لمنافاته لصحيح زرارة.

(2) كما في التذكرة وجامع المقاصد والروض وعن غيرها، لفهمه من النصوص تبعاً، لغفلة العرف عن نجاسة الباطن حينئذ، فعدم التنبيه على بقاء النجاسة في الباطن مع غلبة نفوذها إليه ظاهر في طهارة تمام ما تنجس إذا جف.

هذا وقد استدل بإطلاق النصوص في المقام، حيث تضمنت طهارة المكان والموضع المتنجس إذا أشرقت عليه الشمس وجف بها، والإشراق على الموضع إنما هو بالإشراق على ظاهره لا غير.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن مناسبة الحكم والموضوع في باب التطهير تقتضي اقتصار الطهارة على الموضع الذي يصيبه المطهر، وهو الإشراق في المقام. ولذا صرحوا بعدم طهارة الباطن لو تنجس وحده وجف بإشراق الشمس على الظاهر، مع أنه يصدق الإشراق على المكان بالمعنى المتقدم.

فالعمدة في المقام ما سبق فهمه من النصوص تبعاً، وهو مختص بما إذا تنجس الباطن تبعاً للظاهر، وجف مع الظاهر بسبب الإشراق على الظاهر.

كما أنه لا يبعد اختصاصه أيضاً بما يتعارف نفوذ النجاسة له من العمق القريب من الظاهر، دون العمق البعيد، كما ذكر ذلك في الجملة شيخنا الأستاذ (قدس سره). وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في ضعف ما عن ظاهر المنتهى من اختصاص الطهارة بالظاهر.

ص: 329

(330) (330) (مسألة 33): إذا كانت الأرض النجسة جافة وأريد تطهيرها صب عليها الماء الطاهر أو النجس، فإذا يبس بالشمس طهرت (1).

(مسألة 34): إذا تنجست الأرض بالبول فأشرقت عليها الشمس حتى يبست طهرت من دون حاجة إلى صب الماء عليها (2). نعم إذا كان

(1) وفي الحدائق أنه الظاهر من كلام جملة من المتأخرين، وعن الذخيرة أنه المشهور بينهم. وهو يبتني - كما في الحدائق - على عموم المطهرية لنجاسة غير البول، إذ الشمس وإن لم تجفف البول، إلا أنها جففت الماء المتنجس بصبه على الارض، فتطهر الأرض بجفافه.

ودعوى: أن ذلك إنما يقتضي طهارتها من نجاسة الماء المتنجس الذي جففته الشمس لا من نجاسة البول الذي جف بغير الشمس.

مدفوعة بأن الظاهر التداخل بين النجاستين في المقام، وإلا لزم عدم طهارة الأرض لو أصابها البول فجف بغير الشمس ثم أصابها البول مرة أخرى فجففته الشمس، ولا يمكن البناء على ذلك، ولا حمل النصوص عليه.

بل قد يستفاد التطهير حينئذ من إطلاق روايتي الحضرمي الظاهر في مطهرية الإشراق من كل نجاسة، إذ المتيقن تقييده بما إذا كان الإشراق مجففاً للمتنجس، أما تقييده بعدم جفاف النجاسة بغير الإشراق - بحيث لو جف المتنجس بغيره لم يطهره الإشراق بعد ذلك وإن جففه من رطوبة أخرى - فلا دليل عليه. وصحيح زرارة إنما يقتضي بقاء النجاسة مع بقاء رطوبة البول أو جفافه بغير الشمس، لعدم المطهر، لا لامتناع التطهير، فكما يمكن أن يطهر بالماء لأدلة مطهريته، يمكن أن يطهر بتجفيف رطوبة أخرى كما هو مقتضى إطلاق حديث الحضرمي. فتأمل جيداً.

(2) بلا إشكال لصحيح زرارة. ولا مجال لحمله على صورة صب الماء، كما سبق عند الكلام في الجمع بينه وبين صحيح ابن بزيع.

ص: 330

(331) البول غليظاً له جرم لم يطهر جرمه بالجفاف (1). بل يشكل طهارة سطح الأرض الذي عليه الجرم (2).

(مسألة 35): الحصى والتراب والطين والأحجار المعدودة جزءاً من الأرض بحكم الأرض في الطهارة بالشمس وإن كانت في نفسها منقولة (3). نعم لو لم تكن معدودة من الأرض كقطعة من اللبن في أرض مفروشة بالزفت. أو بالصخر. أو نحوهما فثبوت الحكم حينئذ لها محل إشكال (4).

(مسألة 36): المسمار الثابت في الأرض أو البناء بحكم الأرض. فإذا

(1) إذ ليس مفاد النصوص إلا مطهرية الشمس للمتنجس، وهو الأرض وجميع ما لا ينقل، لا لعين النجاسة. وقد يحمل عليه قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة وحديد المتقدم: «إلا أن يكون يتخذ مبالاً»، بناء على أن الصحيح من أدلة مطهرية الشمس، وإن سبق الإشكال في ذلك.

(2) لما سبق من اعتبار زوال عين النجاسة في التطهير. ولا يظهر الوجه في توقفه (قدس سره) بعد ما سبق منه من الجزم باعتبار زوال عين النجاسة.

(3) لأن نقلها في نفسها لا ينافي صدق كونها من غير المنقول بلحاظ اتحادها عرفاً مع الأرض التي هي عليها، فإن الأرض كثيراً ما تكون مكونة من أجزاء منقولة، ومع ذلك تعد عرفاً من غير المنقول، ولا تختص بالصخور الثابتة.

(4) بل منع، لعدم الاتحاد عرفاً. نعم إذا ثبت فيما هو عليه ببناء ونحوه جرى عليه حكم غير المنقول، فيطهر بالشمس حتى لو كانت نجاسته قبل تثبيته، لإطلاق حديث الحضرمي. وتوقف شيخنا الأستاذ (قدس سره) فيه، أو ميله لعدم مطهرية الشمس له، في فرض نجاسته قبل تثبيته في غير محله.

ص: 331

(332) قلع لم يجر عليه الحكم. فإذا رجع رجع حكمه (1) وهكذا.

(الرابع): الاستحالة إلى جسم آخر (2).

(1) لعين ما سبق.

(2) كما هو المعروف في الجملة المدعى عليه الإجماع من غير واحد في الموارد المختلفة التي يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى.

وحيث لم تشتمل النصوص على عنوان الاستحالة فلا يهم تحديد مفهومها أو مصاديقها، بل ينبغي الكلام في ضوابط المطهرية بسبب تحول النجس وتبدل صورته، فقد اختلفت كلماتهم في ذلك كثيراً.

ولا ينبغي التأمل في الطهارة أو النجاسة مع تبدل حال المنجس أو المتنجس إلى عنوان كان مقتضى إطلاق دليل أو عمومه طهارته أو نجاسته، عملاً بالدليل المذكور بغض النظر عن خصوصية التبدل.

وكذا لو قام الدليل على أن تبدل حال الشيء موجب لارتفاع نجاسته - كما يأتي في انقلاب الخمر خلاً - أو غير موجب لذلك. وإنما الكلام فيما إذا شك في ذلك من دون دليل على أحد الأمرين.

والظاهر حينئذ أنه لا يكفي في الطهارة تبدل عنوان النجس المأخوذ في الحكم بنجاسته مع حفظ ذاته عرفاً، كما لو ورد أن الجلال نجس، فخرج الحيوان عن الجلل بالاستبراء. لأن النجاسة لما كانت من صفات الذات الخارجية التي لا تقبل التقييد، والتي هي محفوظة في حالتي وجود القيد وعدمه، فلابد من كون جميع القيود المأخوذة في الحكم بها تعليلية لا تقييدية، فإذا شك في ارتفاعها بارتفاع القيد أمكن استصحابها، لاتحاد موضوع القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة، وهو الذات المعروضة للنجاسة والمحفوظة في حالتي وجود القيد وعدمه.

وأما ما يأتي من طهارة الخمر بإنقلابه خلاً مع عدم تبدل الذات عرفاً. فهو لا

ص: 332

يبتني على الاستحالة، بل على الأدلة الخاصة، كما أشرنا إليه آنفاً.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يكن العنوان مأخوذاً في الحكم بالنجاسة، كما لو لاقى العنب النجاسة ولم يطهر حتى صار زبيباً، لما هو المعلوم من أن النجاسة إنما وردت عليه بعنوان كونه جسيماً ملاقياً للنجس من دون دخل لكونه عنباً في ذلك.

ومن هنا لابد في الطهارة في محل الكلام من كون التبدل موجباً لتعدد الذات عرفاً، بحيث لا تكون الذات الثانية بقاء للأولى، بل متولدة منها، لانعدام الأولى عرفاً، وتجدد الثانية بعدها خلفاً عنها وإن كانا متحدين دقة. كالبيضة والفرخ، والنظفة والجنين، والحبة والدود ونحوها.

حيث لا مجال مع ذلك لاستصحاب النجاسة، لتعدد الموضوع، لما تقرر في محله من أن المعيار في تعدد موضوع الاستصحاب ووحدته على النظر العرفي لا الدقي. ومع عدم جريان استصحاب النجاسة يكون المرجع قاعدة الطهارة.

إن قلت: ذلك لا يناسب ما هو كالمفروغ عنه بينهم من بقاء الشيء في ملك مالكه الأول، فما لك الفرخ هو مالك البيضة، ومالك الدود هو مالك الحب.

قلت: ليس ذلك مبنياً على بقاء الملكية لبقاء الموضوع، بل على قضية عرفية، وهي تبعية الأمر المتحول إليه للأمر المتحول منه في الملكية، مع تعددهما وتعدد ملكيتهما. نظير تبعية النماء للأصل في الملكية مع عدم الإشكال في تباينهما وتباين ملكيتهما.

ومن هنا لا مخرج عما سبق من أنه لابد في الاستحالة في محل الكلام من تبدل الموضوع عرفاً، بحيث لا يكون الثاني بقاء للأول بنظر العرف، بل مبايناً له. والى هذا يرجع ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره).

بل يكفي حينئذ الشك في الاتحاد، بحيث لا يتيسر للعرف الجزم به وإن لم يجزم بالتعدد. لأن المعتبر في الاستصحاب هو اليقين باتحاد الموضوع، بحيث يصدق كان

ص: 333

(334) فيطهر ما أحالته النار رماداً (1)

هذا كذا فهو كما كان.

(1) على المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً شهرة كادت تكون إجماعاً. كذا في الجواهر. وادعى الإجماع عليه في الخلاف وجامع المقاصد ومحكي السرائر واللوامع، وظاهر المبسوط. نعم قد يظهر من المعتبر التردد فيه.

والوجه في الطهارة ما سبق في معيار الاستحالة المطهرة، فإن الرماد عرفاً ليس بقاء للجسم المحترق، بل هو متولد منه. ولا أقل من عدم وضوح كونه بقاء له عند العرف.

مضافاً إلى السيرة التي أشار إليها في كشف اللثام قال: «وأيضاً فالناس مجمعون على عدم التوقي من رماد النجاسات وأدخنتها وأبخرتها»، ونحوه ما في المنتهى في الرماد. وهو قريب جداً، بل لا ينبغي الريب فيه.

هذا وقد استدل في الخلاف - مضافاً إلى الإجماع - بصحيح الحسن بن محبوب: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى، ثم يجصص به المسجد، أيسجد عليه؟ فكتب إليّ بخطه: إن الماء والنار قد طهراه»(1). وقريب منه صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن بيت قد كان الجص يطبخ فيه بالعذرة أتصلح الصلاة فيه؟ قال: لا بأس. وعن الجص يطبخ بالعذرة أيصلح أن يجصص به المسجد؟ قال: لا بأس»(2).

لكن الاستدلال بهما مبني على أن السؤال إنما هو بلحاظ ملاقاة الجص قبل الإيقاد للعذرة الرطبة والعظام المشتملة على الأجزاء الدهنية، واختلاطه بعد الإيقاد برماد العذرة والعظام، وأن المراد بالماء ماء المطر، فيرجع الجواب حينئذ إلى أن النار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 81 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 65 من أبواب أحكام المساجد حديث: 3.

ص: 334

أو دخاناً (1)،

قد طهرت العذرة والعظام باستحالتهما رماداً، وماء المطر قد طهر الجص المتنجس بملاقات العذرة والعظام قبل الإيقاد. وهو بعيد جداً مبتن على تكلف لا مجال للبناء عليه، بل الظاهر أن الوقود منفصل عن الجص. ومن ثم يكون الصحيح الأول مجملاً، كما سبق عند الكلام في دليل اعتبار طهارة مسجد الجبهة.

وأما الثاني فما تضمنته من جواز الصلاة في البيت وتجصيص المسجد بالجص لا ينافي القواعد، وهو أجنبي عما نحن فيه.

ومثله ما في المنتهى ونهاية الأحكام من أن النار أقوى إحالة من الماء، فكما أن الماء مطهر فالنار أولى. إذ فيه أن مطهرية الماء ليس بملاك الإحالة، لتنفع الأولوية. فالعمدة في وجه الطهارة ما سبق.

(1) على المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً شهرة كادت تكون إجماعاً. كذا في الجواهر. وادعى الإجماع عليه في جامع المقاصد وظاهر التذكرة والمنتهى. وتقدم من كشف اللثام دعوى السيرة على ذلك، كما صرح بها في المعتبر والذكرى.

ويقتضيه - مضافاً إلى ذلك - ما تقدم في معيار الاستحالة المطهرة، بل هو في الدخان أظهر منه في الرماد عرفاً.

مع أن أثر النجاسة ينحصر في مانعية النجس من بعض الأمور - كمانعية الميتة من الصلاة - أو تنجيسه لما يلاقيه برطوبة من الأجسام الطاهرة، والظاهر انصراف أدلة الحكمين عن مثل الدخان مما لا تكثف فيه وليس له وجود مستقر، كالهواء والبخار ونحوهما. ومن ثم تنصرف أدلة النجاسة عنه.

بل هو خارج عرفاً عن موضوع النجاسة والطهارة، لعدم الأثر لاعتبارهما فيه. ولذا لا ريب بملاحظة سيرة المتشرعة ومرتكزاتهم في عدم تنجس الدخان وتنجيسه بمروره على المتنجس الرطب ثم على الجسم الطاهر الرطب.

ص: 335

أو بخاراً (1)، سواء أكان نجساً أم متنجساً (2).

هذا وربما يستفاد الخلاف مما صرح به جماعة من عدم جواز الاستصباح بالدهن المتنجس تحت الظلال، معللاً بأنه لابد من تصاعد الدهن المتنجس مع الدخان، فينجس الظلال.

لكن ذلك إنما يقتضي نجاسة أثر الدخان المتخلف المتكثف في الظلال، لا نجاسة نفس الدخان - بحيث إذا مر على جسم رطب نجسه - بل لا يظن من أحد البناء على ذلك وإن صرح به في نهاية الأحكام.

وأما الكلام في الأثر المذكور فيظهر مما يأتي في المسألة السابعة والثلاثين إن شاء الله تعالى.

(1) قال سيدنا المصنف (قدس سره): «والمعروف الطهارة، بل ظاهر بعض أنه لا كلام فيه». ويقتضيه ما تقدم في الدخان من السيرة القطعية في مثل بخار الحمامات وبخار البول وغيرهما، كما سبق من كشف اللثام. مضافاً إلى الأصل بعد تحقق معيار الاستحالة، وانصراف أدلة النجاسة والانفعال نظير ما تقدم في الدخان.

لكن في كشف اللثام: «وحكم في المنتهى بنجاسة ما يتقاطر من بخار النجس، إلا أن يعلم تكونه من الهوائية. وكذا في المدنيات إن غلب على الظن تصاعد الأجزاء المائية معه بالحرارة. ويدفعه عدم خلو البخار من ذلك عادة مع اتفاق الناس على عدم التوقي. ولا يفترق الحال بين نفسه وما يتقاطر منه وهو واضح». وما ذكره متين جداً.

(2) فإن عبارات جملة منهم - كمعاقد بعض الإجماعات - وإن اختصت بالنجس، إلا أن مقتضى إطلاق بعضهم وصريح آخرين العموم، كعموم معقد بعض الإجماعات. وفي مفتاح الكرامة: «قال الأستاذ أيده الله تعالى: ولعله الظاهر من إطلاق الفقهاء، بل يستفاد منهم الإجماع عليه».

ص: 336

(337) وكذا يطهر ما استحال بخاراً بغير النار (1). أما ما أحالته خزفاً أم آجراً (2)

بل لو فرض اختصاص معاقد الإجماعات بالنجس أمكن التعدي للمتنجس بالأولوية بمقتضى ارتكاز المتشرعة. على أنه يجري فيه جميع ما تقدم في النجس.

لكن عن جماعة الاختصاص بالنجس، لأن الاستحالة فيه توجب ارتفاع الموضوع، لارتفاع العنوان المأخوذ في لسان أدلته، كالكلب والميتة والدم، فيمتنع الاستصحاب، بخلاف المتنجس، لأن الموضوع فيه هو الجسم، وهو باق.

وفيه: أنه إن كان المدعى بقاء الجسم بعينه، بحيث يكون الجسم بعد الاستحالة عين الجسم قبلها، لم ينفع تبدل العنوان في امتناع الاستصحاب في النجس، لما سبق من أن النجاسة لما كانت من عوارض الجسم الجزئي الخارجي، وهو غير قابل للتقييد، فلابد من كون العناوين المأخوذة فيه تعليلية غير مقومة للموضوع ولا يمنع ارتفاعها من جريان الاستصحاب في النجس.

وإن كان المدعى أن الباقي بعد الاستحالة جسم كما كان الموجود قبلها جسماً، فهو لا ينفع في جريان الاستصحاب في المتنجس. ما لم يكن الجسمان متحدين عرفاً، وقد عرفت المنع منه في مورد الاستحالة، وأن الاتحاد بين الجسمين دقي لا عرفي، وهو لا يكفي في جريان الاستصحاب. على أن كون الباقي جسماً يقبل الحكم بالنجاسة عرفاً، لتستصحب فيه، يختص بالرماد، دون الدخان والبخار، كما ذكرناه آنفاً.

(1) لعين الوجوه المتقدمة في البخار الحاصل بسبب النار. ومنه يظهر أيضاً العموم لغير البخار من الأجسام المتحللة، كالغازات.

(2) فقد صرح بالطهارة فيهما في الخلاف ومحكي نهاية الأحكام والبيان والمعالم وموضع من المنتهى وغيرها وقد يرجع إليه الاقتصار على الآجر في المبسوط والتذكرة، حيث لا يبعد أنهما من سنخ واحد، بل الأمر في الخزف أوضح.

لكن توقف في ذلك غير واحد فيما حكي. بل صرح بالنجاسة في المسالك

ص: 337

والروضة والروض وإن اقتصر فيه على ذكر الآجر، وحكاه في الروضة عن الشهيد في غير البيان وجرى عليه غير واحد من المتأخرين وهو المتعين. للاستصحاب.

وقد يستدل على الطهارة - مضافاً إلى الإجماع المدعى في الخلاف - بتحقق الاستحالة. لكن الإجماع المذكور ليس بنحو يعتد به في إثبات حكم شرعي. والاستحالة غير حاصلة بالنحو المتقدم الذي عليه مدار الطهارة، لوضوح أن الخزف والآجر ليسا عرفاً وجوداً مبايناً لأصلهما، وهو الطين، بل التحول إليهما تبدل في حال الموجود الواحد. ولذا سبق منا ومن جماعة جواز التيمم بهما، كما يجوز السجود عليهما أيضاً.

هذا وقد يبتني القول بالطهارة على مطهرية النار التي قد يستدل عليها بوجهين:

الأول: أنها أولى بالمطهرية من الشمس. ولعله بلحاظ أنها أشد حرارة وتأثيراً في الجسم الذي تسخنه، فتحلل النجاسة بها أشد.

وفيه: أنه لم يتضح الوجه في الأولوية بعد كون مطهرية الشمس تعبدية لا عرفية، وعدم الإشارة في الأدلة لعلتها. ولاسيما مع اختصاص مطهريتها بغير المنقول، وبما إذا استند التجفيف لها، ولم يتحقق قبل إصابتها للموضع النجس، من دون أن يقتصر على ذلك القائلون بالطهارة في المقام.

الثاني: النصوص الواردة في الموارد المتفرقة، كصحيح ابن محبوب المتقدم، وصحيح ابن أبي عمير عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في عجين عجن وخبز، ثم علم أن الماء كانت فيه ميتة. قال: لا بأس أكلت النار ما فيه»(1). ورواية الزبيري: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البئر يقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال: إذا أصابته النار فلا بأس بأكله»(2) ، وخبر زكريا بن آدم: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير. قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب. واللحم اغسله وكله.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب أحكام الماء المطلق حديث: 18، 17.

ص: 338

قلت: فإن قطر فيه الدم قال: الدم تأكله النار إن شاء الله. قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم. فقال: فسد، قلت: أبيعه من اليهود والنصارى وأبين لهم؟ قال: نعم، فإنهم يستحلون شربه. قلت والفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شيء من ذلك؟ فقال: أكره أنا أن آكله إذا قطر في شيء من طعامي»(1) ، وصحيح سعيد الأعرج: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قدر فيها جزور وقع فيه قدر أوقية دم أيؤكل؟ قال: نعم، فإن النار تأكل الدم»(2) ، وصحيح علي بن جعفر: «سألته عن قدر فيها ألف رطل ماء يطبخ فيها لحم وقع فيها أوقية دم هل يصح أكله؟ فقال: إذا طبخ فكل، فلا بأس»(3).

لكن هذه النصوص - على كثرتها - لا تنهض بإثبات مطهرية النار في المقام. أما صحيح ابن محبوب فقد تقدم الإشكال في مضمونه، وأن المتعين البناء على إجماله.

وأما بقية هذه النصوص فهي لا تنهض ببيان عموم مطهرية النار، بل هي صريحة في التفصيل بين النجاسات، بل والمتنجسات.

بل لا يظن بأحد البناء على عموم مطهرية النار، إذ لو كان ذلك ثابتاً لظهر وبان، وشاع القول به والعمل عليه، وكثرت الأسئلة عنه وعن فروعه، لشدة الحاجة له، وكثرة الابتلاء به.

وغاية ما يمكن دعواه هو الاقتصار على موارد النصوص لو نهضت بإثبات مضامينها واستفيد منها مطهرية النار في تلك الموارد، وحيث كان المقام خارجاً عن جميع تلك الموارد فالمتعين البناء فيه على النجاسة، لما سبق.

هذا والمناسب التعرض لمفاد هذه النصوص والنظر في نهوضها بإثبات الطهارة في مواردها فنقول:

أما حديث ابن أبي عمير فيظهر من الشيخ في مياه النهاية العمل به، بل التعدي لجميع موارد العجن بالماء النجس، وعدم الاقتصار على الماء الذي وقعت فيه الميتة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 44 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 44 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2، 3.

ص: 339

وعن الذخيرة الميل إليه. وقد يتجه بلحاظ ما هو المختار من حجية مراسيل ابن أبي عمير، وقرب إلغاء خصوصية الماء المذكور.

لكنه معارض بصحيحه الآخر عن بعض أصحابنا - وما أحسبه إلا حفص بن البختري -: «قيل لأبي عبد الله (عليه السلام) في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: يباع ممن يستحل أكل الميتة»(1) ، وصحيحه الثالث عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام):

«قال: يدفن ولا يباع»(2). وحمل الحديثين المذكورين على الاستحباب بعيد جداً، خصوصاً الثاني، لما في الدفن من تضييع المال.

وعليه إن أمكن حمل الأول على ماء البئر - كما يظهر من الفقيه والوسائل - فهو، وإلا فكما يمكن الجمع بينه وبين هذين الحديثين بتقييدهما به بحملهما على الماء النجس بغير الميتة، كذلك يمكن الجمع بتقييده بهما بحمله على الميتة الطاهرة.

بل لعل الثاني أقرب، لشيوع الابتلاء بالميتة الطاهرة، ولاستبعاد كون التنجس بالميتة أخف من سائر أنحاء التنجس. ولا أقل من التكافؤ والتساقط، والرجوع للأدلة الأخر المقتضية للنجاسة.

ولعله لذا يظهر منه (قدس سره) في أطعمة النهاية التردد في ذلك، حيث قال: «وإذا نجس الماء بحصول شيء من النجاسات فيه ثم عجن به وخبز منه لم يجز أكل ذلك الخبز. وقد رويت رخصة في جواز أكله. والأحوط ما قدمناه». ونحوه في المبسوط. بل صرح في التهذيب بالعمل بالخبرين الأخيرين، دون الأول.

وأما حديث الزبيري فقد أفتى بمضمونه في الفقيه والمقنع. وهو - مع ضعف سنده - إنما ينفع بناء على انفعال ماء البئر. أما بناء على المختار من اعتصامه فهو إنما يدل على ارتفاع الكراهة بإصابة النار، فيكون أجنبياً عما نحن فيه، ولا مانع من الالتزام به.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الأسئار حديث: 1، 2.

ص: 340

وأما نصوص القدر التي يقع فيها الدم فيظهر العمل بها من جماعة، كالمفيد في المقنعة وسلار في المراسم، وكذا الشيخ في النهاية والقاضي في المهذب، بعد تقييدهما الدم بالقليل. بل عن القاضي التعميم لغير الدم من النجاسات.

وربما يستشكل في النصوص المذكورة بضعف السند، ففي المختلف أن سعيد الأعرج لا أعرف حاله، وفي أطعمة الدروس: «ولو وقع دم نجس في قدر تغلي على النار غسل الجامد وحرم المايع عند الحليين، وقال الشيخان: يحل المايع إذا علم زوال عينه بالنار. وشرط الشيخ قلة الدم. وبذلك روايتان لم يثبت صحة سندهما. مع مخالفتهما للأصل». وكأنه يريد بالروايتين حديثي زكريا بن آدم وسعيد الأعرج.

لكن الظاهر صحة الثاني، وأن سعيد الأعرج ثقة، لرواية صفوان عنه، ولأن الظاهر أنه ابن عبد الرحمن الذي نص النجاشي على وثاقته. على أن صحيح ابن جعفر كاف في المقام.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من معارضتها بصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «وسألته عن رجل رعف وهو يتوضأ، فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا»(1). وبعد تساقطهما فالمرجع الأصل.

إذ فيه: أن الصحيح وإن تضمن عدم جواز الوضوء بالماء الملاقي للدم كما تضمن ذلك نصوص أخر(2) ، إلا أن من السهل حملها على بيان تنجس الماء من دون نظر إلى بقاء النجاسة وكيفية التطهير منها، فلا تنافي تطهيره بالطبخ أو باتصاله بماء معتصم أو بغيرهما، فليس التعارض بينها وبين نصوص المقام مستحكماً، ليصل الأمر للتساقط والرجوع للأصل، الذي هو استصحاب النجاسة على التحقيق.

نعم قد يقال: إن التعبير في حديثي زكريا وسعيد بأن النار تأكل الدم قد يناسب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 8 من أبواب أحكام الماء المطلق حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 82 من أبواب أحكام الماء المطلق حديث: 8، وج: 2 باب: 8 من أبواب أحكام الماء المطلق حديث: 2.

ص: 341

أم جصاً أم نورة (1)، فهو باق على النجاسة، وفيما أحالته فحماً

كون منشأ السؤال حرمة أكل الدم الواقع لا تنجيسه، وإلا كان الأنسب التعبير بأن النار تطهره. وحينئذ ربما يسهل حمل نصوص المقام على الدم الطاهر المحرم الأكل، ويرجع الجواب إلى استهلاك الدم واضمحلاله بسبب الطبخ.

أو يقال: إن صحيح ابن جعفر قد تضمن أن القدر فيها ألف رطل من الماء، وكما يمكن أن يراد بالرطل العراقي، فينقص عن الكر مائتي رطل، يمكن أن يراد به المدني، فيزيد على الكر أربعمائة رطل. بل لعل الثاني أنسب بكون المخاطب والمخاطب مدنيين. كما أن صحيح سعيد قد تضمن أن القدر فيها جزور، والمعروف أنه الناقة، ومثل القدر المذكورة قد تسع كراً أو أكثر.

فلم يبق إلا خبر زكريا، وهو ضعيف السند، ويسهل حمله على الكرّ، وحمل صدره على الاستحباب، كحمل ما تضمنته النصوص من اعتبار الطبخ والتعبير بأكل النار، على بيان استهلاك الدم واضمحلاله، فراراً عن حرمة أكله وإن لم ينفعل به ما في القدر.

هذا ولو فرض تعذر الحملين المذكورين، وتمامية دلالة النصوص، فيصعب جداً البناء على الحكم المذكور بعد غرابته واستنكاره بحسب المرتكزات المتشرعية، حيث تكون هذه النصوص من المشكل الذي يرد علمه لأهله صلوات الله عليهم. ونسأله سبحانه وتعالى العصمة والسداد.

(1) حيث لا يبعد جريان الخلاف السابق في الخزف والآجر فيهما، لأن تأثير النار فيهما ليس أقل من تأثيرها في الخزف والآجر. بل لا يبعد كون التأثير في النورة أشد. ولعله لذا قال في كشف اللثام: «وأما الاستحالة نورة أو جصاً فكأنها كالاستحالة رماداً أو تراباً أو خزفاً، والأولان أظهر في الأول كالأخير في الأخير» ومراده أن الأظهر إلحاق الاستحالة نورة بالاستحالة رماداً أو تراباً وإلحاق الاستحالة

ص: 342

(343) إشكال (1).

(مسألة 37): لو استحال الشيء بخاراً ثم استحال عرقاً فإن كان متنجساً فهو طاهر (2)، وإن كان نجساً، فإن عدّ العرق من تلك

جصاً بالاستحالة خزفاً.

وكيف كان فالظاهر عدم تحقق معيار الاستحالة المتقدم في النورة، فضلاً عن الجص، وأن المتعين فيهما النجاسة، للاستصحاب.

(1) فقد حكم بالطهارة في المفاتيح وغيره ومال إليه في الحدائق، واستظهره في جامع المقاصد، ومنع منها في المسالك، وظاهر كشف اللثام التوقف. وكأنه للشك في كونه من أفراد الاستحالة. ولكنه يقتضي البناء على الطهارة، لما سبق من أنه مع الشك فيه يشك في بقاء الموضوع ويمتنع جريان الاستصحاب. ومن ثم لم يستبعد سيدنا المصنف (قدس سره) في استدلاله الطهارة. لكن الأقرب عدم تحقق الاستحالة، وإن لم يسهل الجزم بذلك، حيث قد يتعين معه الاحتياط.

(2) ولا مجال لاستصحاب النجاسة فيه بعد مباينته للماء المتنجس عرفاً وإن كان عينه حقيقة. بل لو كان عينه عرفاً - كما لو فرض أن الماء الأول بنظر العرف قد وجد وانعدم - فلا مجال لاستصحاب نجاسته، إذ لابد في الاستصحاب - مضافاً إلى اتحاد الموضوع - من استمراره بحيث يكون الموجود في الزمان الثاني بقاء للموجود في الزمان الأول، ليكون مفاد الاستصحاب استمرار حكمه السابق. أما مع تخلل العدم بينهما فلا مجال لاستمرار الحكم الأول، بل غاية ما يمكن هو ثبوته في الحالين بنحو الطفرة، ولا ينهض بذلك الاستصحاب.

نعم لو كان لدليل تنجس الشيء قبل التبخر إطلاق يقتضي نجاسته بعد التبخر تعين البناء على نجاسته حينئذ، كما لو فرض دلالة الدليل على أن الماء المتغير بملاقاة النجاسة نجس، فإذا فرض أن الماء الحاصل بعد التبخر عين الماء الموجود قبل التبخر

ص: 343

الحقيقة (1) فالعرق نجس (2)، وإلا فطاهر (3)

عرفاً، وقد رجع حاملاً لصفة التغير، تعين نجاسته بمقتضى إطلاق الدليل المذكور، لا بمقتضى الاستصحاب.

وهذا بخلاف ما إذا كان مفاد الدليل حدوث النجاسة للماء بحدوث التغير له من دون نظر للبقاء، كما إذا كان الدليل بلسان: إذا تغير الماء بالنجاسة فإنه ينجس، وكان البناء على بقاء النجاسة ببقاء التغير لليقين أو للاستصحاب، إذ حينئذ لا ينفع اتحاد الماءين عرفاً في البناء عل نجاسة الماء بعد التبخر وإن رجع متغيراً، لعدم اليقين بنجاسته بعد تخلل العدم حال التبخر، كما لا مجال لاستصحابها، لما سبق.

وكذا لو لم يكن الماءان متحدين عرفاً بسبب تخلل العدم بينهما حال التبخر، حيث لا مجال للبناء على نجاسة الماء بعد التبخر إذا رجع حاملاً لصفة التغير حتى لو دل الدليل على أن الماء المتغير بملاقاة النجاسة نجس، لأن الماء الثاني بعد مباينته للأول لم يتغير بملاقاة النجاسة، بل بنفسه، لأن الملاقاة إنما حصلت للأول دون الثاني.

(1) كما لو صدق على عرق الخمر أو المسكر أو البول أنه خمر أو مسكر أو بول.

(2) لعموم أو إطلاق دليل نجاسة عنوان النجس الذي طرأ عليه التبخر. وكذا لو صدق عليه عنوان آخر نجس أيضاً، كما لو صدق على عرق الفقاع الخمر مثلاً.

(3) لأصالة الطهارة بعد عدم كونه بقاء للنجس، ليقتضي الاستصحاب أو إطلاق دليل نجاسة النجس نجاسته، وبعد عدم صدق عنوان المحكوم بنجاسته شرعاً عليه.

لكن في المنتهى الحكم بنجاسة ما يتقاطر من بخار النجس، إلا أن يعلم تكونه من الهواء، كما سبق، وسبق عن المدنيات ذلك إن غلب على الظن تصاعد الأجزاء المائية معه بالحرارة.

ص: 344

(345) وكذا لو شك (1).

(مسألة 38): الدود المستحيل من العذرة أو الميتة طاهر (2)، وكذا كل حيوان تكوّن من نجس أو متنجس (3).

(مسألة 39): الماء النجس إذا صار بولاً لحيوان مأكول اللحم أو عرقاً له أو لعاباً له فهو طاهر (4).

(مسألة 40): الغذاء النجس أو المتنجس إذا صار خرءاً لحيوان

ويظهر الإشكال فيه مما سبق. بل الظاهر من سيرة المتشرعة عدم التوقي عما يتقاطر. وكفى بها دليلاً على الطهارة يستغنى به عن الأصل.

نعم إن رجع ما عن المدنيات إلى فرض تصاعد أجزاء مائية دقيقة مع البخار نظير رذاذ الماء عند الرش بحيث يصدق على تلك الأجزاء الماء لا البخار، اتجه ما ذكره. لكن مع فرض العلم بذلك، ولا يكفي الظن، لعدم الدليل على حجيته.

(1) يعني: في عده من تلك الحقيقة. لأصالة الطهارة.

(2) كما لعله المعروف، بل لا يظن من أحد الخلاف به، ويكفي فيه السيرة على طهارة الدود من دون نظر لما يتكون منه. ولا أقل من تحقق معيار الاستحالة المتقدم.

(3) لعين ما سبق. نعم لو كان الحيوان نجس العين فهو نجس لخصوصية فيه، لا لبقاء نجاسة ما تكون منه.

(4) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه ما تضمن طهارة فضلات ما يؤكل لحمه، فإنه وإن كان وارداً لبيان طهارته من حيثية كونه مضافاً لمأكول اللحم، إلا أن عدم التنبيه على نجاسته بلحاظ أصله مع شيوع الابتلاء بذلك وغفلة العرف عنه موجب لظهوره في الطهارة مطلقاً حتى لو كان أصله نجساً. ولا أقل من تحقق معيار الاستحالة المتقدم. وإن كان الأمر أظهر من ذلك.

ص: 345

(346) مأكول اللحم أو لبناً له (1) أو صار جزءاً من الخضروات أو النباتات أو الأشجار أو الأثمار (2) فهو طاهر. وكذلك الكلب إذا استحال ملحاً (3). وكذا الحكم في غير ذلك مما يعد المستحال إليه متولداً من المستحال منه.

(الخامس): الانقلاب، فإنه مطهر للخمر إذا انقلبت خلاً (4)

(1) يجري فيه ما تقدم في المسألة السابقة.

(2) يجري فيه ما تقدم في المسألة السابقة. مضافاً إلى ما تضمن الترخيص في التسميد بالعذرة()1) ، وإن كان ضعيفاً سنداً وإلى قيام السيرة القطعية على ذلك.

(3) كما في الدروس وجامع المقاصد وكشف اللثام وعن الإيضاح والبيان وظاهر المدنيات، لتحقق معيار الاستحالة المتقدم.

وفي المنتهى ونهاية الأحكام عدم الطهارة. وكذا عن المعتبر، وإن لم أجده فيه. واستدل له بأن الأجزاء قائمة بالأجزاء النجسة وهي باقية. وفيه: أن بقاء الأجزاء دقة لا يستلزم بقاء النجاسة واقعاً، ولا يكفي في استصحابها ظاهراً. وبقاءها عرفاً ممنوع. فلا معدل عن القول بالطهارة لأصالتها.

نعم لابد من عدم تنجس الملح برطوبة الميتة قبل الاستحالة ولو لكون الاستحالة تدريجية، وإلا تعين البناء على نجاسة الملح وإن لم يكن عين النجاسة كالكلب.

(4) إجماعاً، كما في المنتهى والمهذب والبارع وكشف اللثام وما يأتي من السيد الطباطبائي (قدس سره) في منظومته. ويقتضيه النصوص الكثيرة وغيرها مما يأتي التعرض له.

ولا مجال للاستدلال عليه بالأصل، لزوال الحقيقة النجسة وحدوث حقيقة

********

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

ص: 346

(347)أخرى، كما في كشف اللثام. إذ فيه: أن مجرد تبدل العنوان لا يكفي جريان أصالة الطهارة مع اتحاد المتحول إليه مع المتحول عنه عرفاً، بحيث يرى العرف أنهما جسم واحد قد تغير حاله، بل يجري استصحاب النجاسة حينئذ.

نعم إذا بلغ الحال عدهما جسمين أحدهما متولد من الأرض - كالخشب والرماد والعذرة والدود - امتنع جريان الاستصحاب وكان المرجع أصل الطهارة، كما تقدم لكن لا مجال لدعواه هنا.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الخمر والخل حقيقيان عرفاً وإن لم يكونا حقيقتين عقلاً، وأن النجاسة والحرمة قائمتان بعنوان الخمر المفروض زواله. ولذا عدّ الانقلاب في المقام من أفراد الاستحالة. ففيه أن زوال حقيقة النجس وعنوانه عرفاً إنما يمنع من التمسك بإطلاق دليل النجاسة، ولا يمنع من التمسك باستصحابها بعد فرض اتحاد الجسمين عرفاً.

نعم بناءً على مختاره (قدس سره) من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية في الشبهات الحكمية فيتعين بعد عدم جريان الإطلاق الرجوع لأصالة الطهارة. لكن المبنى المذكور غير تام كما أوضحناه في محله. وقد تقدم في أوائل الكلام في الاستحالة ما ينفع في المقام.

بقي شيء: وهو أن المنساق من كلمات الأصحاب جريان ذلك في كل مسكر. ولاسيما مع ما يأتي من تعميمهم الطهارة بالانقلاب للخل لعصير العنب إذا غلا ولم يذهب ثلثاه. نعم قال في نهاية الأحكام: «انقلاب الخمر مطهر لها... أما النبيذ فإشكال، ينشأ من زوال علة التنجيس التي هي الإسكار، وعدم التنصيص عليه بالخصوصية».

لكن الظاهر إلغاء خصوصية الخمر وفهم العموم لكل مسكر من النصوص، لأن المنساق منها أن منشأ حل الخمر وطهارتها بالانقلاب هو زوال الإسكار الذي هو علة الحرمة والنجاسة، بل هو كالصريح من صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):

ص: 347

(348)بنفسها (1)، أو بعلاج (2).

«سألته عن الخمر يكون أوله خمراً، ثم يصير خلاً أيؤكل؟ قال: نعم إذا ذهب سكره فلا بأس». وذلك يجري في كل مسكر.

()()1

(1) كما هو المتيقن المدعى عليه إجماع المسلمين في المنتهى. وتقتضيه السيرة القطعية، حيث يتعارف في تصنيع الخل أن لا يصير المصنع خلاً إلا بعد أن يمر بحالة يكون فيها خمراً أو مسكراً. مضافاً إلى ما يأتي من النصوص.

(2) كما هو مقتضى إطلاق الفتاوى في الجملة، بل ظاهر المنتهى اتفاق علمائنا عليه ويقتضيه النصوص الكثيرة، كإطلاق صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الخمر يكون خمراً ثم يصير خلاً يؤكل؟ قال: نعم إذا ذهب سكره فلا بأس» ونحوه خبره ، وخصوص صحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلاً، قال: لا بأس» وموثق عبيد بن زرارة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام)

()()2()()3()()4

عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلاً، قال: لا بأس» ، وموثقه الآخر عنه (عليه السلام):

()()5

«في الرجل إذا باع عصيراً فحبسه السلطان حتى صار خمراً، فجعله صاحبه خلاً، فقال: إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس» ، وصحيح جميل: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

()()6

يكون لي على الرجل الدراهم، فيعطيني بها خمراً، فقال: خذها ثم أفسدها». وزاد في بعض طرق الحديث: «واجعلها خلاً» ، وغيرها مما يأتي.

()()7

نعم في موثق أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن الخمر يجعل فيها الخل، فقال: لا، إلا ما جاء من قِبَل نفسه». وروي عن الصدوق في عيون الأخبار بأسانيده عن الرضا (عليه السلام): «عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: كلوا خل الخمر، فإنه يقتل الديدان في البطن، وقال: كلوا خل الخمر ما فسد، ولا تأكلوا ما أفسدتموه

()()8

********

ص: 348

(1)وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9، 1، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9، 1، 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9، 1، 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5، 6، 7.

(7) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5، 6، 7.

(8) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5، 6، 7.

أنتم». وقد حملهما غير واحد على الكراهة، جمعاً مع النصوص السابقة، لصراحة تلك النصوص في الحِل.

()()1

لكنه لا يخلو عن إشكال، لصعوبة البناء على الكراهة مع النصوص السابقة الكثيرة التي لا إشارة فيها للمرجوحية.

ولاسيما ما تضمن بيان فائدة خمر الخل، كحديث العيون المتقدم وموثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: خل الخمر يشد اللثة ويقتل دواب البطن ويشد العقل» وغيرهما. فإن الظاهر أن خلّ الخمر المشار إليه هو الذي ينقلب خلاً بعلاج، وإلا فكل خل لابد أن يمر بفترة يحمل بها عنصر الإسكار. كما أن الظاهر أن الخمر المستحكم لا ينقلب خلاً إلا بعلاج وأما حمله على الخل المتحول عن الخمر عند التخليل، في مقابل الخل المتحول عن غيره من أنواع المسكر، فبعيد، بل الظاهر أنه يطلق على ذلك خل العنب، لا خل الخمر. وحينئذ فمن الظاهر أن بيان الفوائد المذكورة لخل الخمر لا يناسب كراهة استعماله.

()()2

ولعله لذا كان الأظهر حمل موثق أبي بصير على التقية، لظهور بعض ما سبق من كلماتهم في أن حرمة ما ينقلب خلاً بعلاج هو قول العامة. نعم يبقى الإشكال في حديث العيون المتقدم.

وكيف كان فلا مجال للعمل بظاهر الحديثين، بل لابد من طرحهما لموافقتهما للعامة، أو لهجرهما عند الأصحاب، أو حملهما على الكراهة بقرينة النصوص الأول. فلاحظ.

هذا وفي المقام موثقان آخران لأبي بصير قد يظهر منهما التفصيل في المقام.

الأول: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخمر يصنع فيها الشيء حتى تحمض. قال:

********

ص: 349

(1)عيون أخبار الرضا ج: 2 باب: 31 حديث: 127 ص: 39.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 45 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 2.

إن كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فلا بأس به». ومقتضاه التفصيل بين كون المجعول في الخمر أكثر منها بحيث يغلب عليها وعدمه، فتحل في الأول وتحرم في الثاني.

()()1

لكنهم لم يتعرضوا للتفصيل بالوجه المذكور، ولا يظن من أحد البناء عليه، حيث يصعب جداً حمل النصوص المتقدمة عليه، لابتنائه على عناية تحتاج إلى تنبيه. بل هو لا يناسب صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه سئل عن الخمر تعالج بالملح وغيره لتحول خلاً. قال: لا بأس بمعالجتها». لما هو المعلوم من عدم كون الملح المعالج به أكثر من الخمر المعالجة.

()()2

ولعله لذا حمله الشيخ في التهذيبين على كون الغلبة بنحو لا توجب انقلاب الخمر، بل خفاء أثرها بسبب غلبة ما جعل فيها عليها، ثم حكم بأنه شاذ متروك الظاهر، لأن الخمر تنجس ما تقع فيه، فيحرم استعماله.

الثاني: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخمر يجعل خلاً، قال: لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يغلبها [يقلبها خ. ل]».

()()3

أما على نسخة (يقلبها) بالقاف - كما في الاستبصار وإحدى نسختي التهذيب -

فمقتضاه التفصيل بين أن يكون الانقلاب بجعل شيء يقلبها، وأن يكون بغيره كالإغلاء والخض.

لكن لا مجال لحمل نصوص الترخيص المتقدمة عليه بحيث يكون شاهد جمع بين الطائفتين لصعوبة حمل الطائفة الأولى على الانقلاب من دون وضع شيء فيها، لعدم معهوديته، بل لعله فرض لا واقع له.

ولخصوص صحيح أبي بصير المتقدم و صحيح عبد العزيز بن المهتدي: «كتبت إلى الرضا (عليه السلام): جعلت فداك العصير يصير خمراً فيصب عليه الخل وشيء يغيره حتى

********

ص: 350

(1)وسائل الشيعة ج: 17 باب: 45 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 11، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 11، 4.

يصير خلاً، قال: لا بأس به».

()()(1)

ومن ثم يتعين حمله على ما حمل عليه الحديثان الأولان - المقتصران في التحليل على ما إذا انقلب الخمر خلاً من قبل نفسه - من الكراهة - كما ذكره في الاستبصار - وغيرها مما تقدم.

وأما على نسخة (يغلبها) بالغين - كما في الكافي وإحدى نسختي التهذيب - فإن حمل على الغلبة من حيثية الأثر رجع إلى النسخة الأولى، وجرى فيه ما سبق.

وإن حمل على الغلبة في المقدار رجع إلى التفصيل بين ما إذا كان المحمول فيها أكثر منها بمقدار معتد به. بحيث يغلب عليه وتضمحل فيه وما إذا لم يكن كذلك، فتحلّ في الثاني دون الأول.

وقد حمله الشيخ (قدس سره) في التهذيب على ما إذا لم تنقلب خلاً حقيقة بوضع الشيء الكثير فيها، بل أوجب ذلك خفاء أثرها بسبب غلبة ما وضع فيها، مثل القليل من الخمر يطرح عليه كثير من الخل، فإنه يصير بطعم الخل من دون أن يصير خلاً، حيث لا يجوز استعماله، بعد فرض بقائه على الخمرية، بل ينجس ما وقع فيه.

ولا ينبغي الإشكال في التحريم حينئذ. لكن لا من أجل الموثق بعد عدم ثبوت النسخة المذكورة وعدم وضوح حملها على المعنى المذكور. بل من جهة القاعدة، إذ بعد فرض عدم الانقلاب فالخمر نجسة منجسة لما جعل فيها، فيحرمان معاً. وما عن أبي حنيفة من إجراء الاستحالة مجرى الانقلاب خال عن الشاهد، بل هو قياس مردود عليه.

نعم وقع الكلام بينهم في طهارة الخمر المذكورة وطهارة ما فيها إذا مر زمان تنقلب فيه تلك الخمر خلاً وعدمها. فقد صرح بالطهارة حينئذ الشيخ في النهاية والتهذيب والعلامة في المختلف، وحكي عن ابن الجنيد قال في النهاية: «وإذا وقع

********

ص: 351

(1)

وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 8.

شيء من الخمر في الخل لم يجز استعماله إلا بعد أن يصير ذلك الخمر خلاً».

وذكر في التهذيب أن علامة ذلك أن يصير ما بقي من ذلك الخمر ولم يصب في الخل خلاً. وعن المختلف تقريب ذلك بأن انقلاب الخمر الباقي الذي لم يصب في الخل خلاً يدل على تمامية استعداد الخل المذكور للانقلاب، المستلزم لانقلاب ما ألقي منه في الخل، لاتحاد مزاجهما. بل الثاني أولى بالإنقلاب بسبب ممازجته للخل.

وقد أنكر ذلك في السرائر والشرايع والنافع والدروس ومحكي التحرير والإرشاد وغيرها. وحمل في كشف اللثام ما ذكره ابن إدريس والفاضلين على أن ذلك منهم لعدم الطريق للعلم بانقلاب الخمر الملقى في الخل قال: «ولو فرض العلم به فالظاهر اتفاقهم على الحل والطهارة».

ولعل الوجه في عدم العلم بالانقلاب أن انقلاب الخمر غير المستهلك لا يستلزم انقلاب الخمر المستهلك، لامكان عدم تفاعل المستهلك بسبب تفرق أجزائه.

على أنه لو علم بانقلاب المستهلك أمكن الإشكال في الحل والطهارة من وجهين:

الأول: أن أدلة الإنقلاب مختصة لما إذا كان للخمر وجود عرفي، أما إذا لم يكن له وجود عرفي فلا موضوع للانقلاب ولا للحل والطهارة به. غاية الأمر أنه لا موضوع معه أيضاً للنجاسة والتحريم وذلك لا يكفي في دفع محذور تنجس الخل الذي وقع فيه وتنجس أوانيه وما يتعلق به، لانحصار دفع محذورها باستفادته من أدلة الانقلاب تبعاً، فمع فرض قصور أدلة الانقلاب لا دافع للمحذور المذكور.

الثاني: أنه لو فرض عموم مطهرية الانقلاب للخمر المستهلك في الخل، ولو لليقين بعدم الفرق، إلا أنه لا دليل على طهارة الخل المتنجس به وطهارة إنائه تبعاً. لاختصاص أدلة الطهارة بالتبع بما إذا كان المتنجس بالخمر تابعاً له، كالملح والخل الذين يعالجان به، والإناء الذي هو فيه، ولا تعم ما إذا لم يكن تابعاً له، فضلاً عما إذا كان الخمر تابعاً له ومستهلكاً فيه، كما هو المفروض في المقام.

ص: 352

(353)نعم لو تنجس بنجاسة خارجية، ثم انقلب خلاً لم تطهر (1)، على الأحوط وجوباً.

ودعوى القطع بعدم الفرق. مردودة على مدعيها، لأن مطهرية الانقلاب للخمر ولتوابعها تعبدية محضة، وليست عرفية، ليتسنى إدراك ملاكها بمقتضى المناسبات الارتكازية. ومن ثم يتعين البناء على بقاء النجاسة عملاً بالاستصحاب.

ثم إن مقتضى إطلاق نصوص علاج الخمر المتقدمة عدم الفرق بين العلاج بجسم يستهلك في الخمر قبل إنقلابها خلاً، والعلاج بجسم لا يستهلك، خصوصاً صحيح أبي بصير المتضمن العلاج بالملح، إذ كثيراً ما لا يذوب بعض الملح، فعدم التنبيه في النصوص للزوم استهلاك الجسم الذي يعالج به قبل الانقلاب يوجب ظهوره في طهارته تبعاً، كطهارة الإناء وآلات العلاج.

ومن ثم لا مجال لتنظر كشف اللثام في الطهارة حينئذ، ولا للتأمل فيها في محكي الكفاية ومجمع البرهان، فضلاً عن القول بعدم الطهارة، كما قد يحكي في المقام. بل قد يظهر من مجمع البرهان، حيث اعتبر في العلاج المطهر أن يكون بنحو الخل القليل. فلاحظ.

(1) كما في القواعد والدروس وعن الإرشاد والتحرير والمهذب البارع. لظهور النصوص في رفع الانقلاب لنجاسة الخمر به وحرمتها، من دون نظر للنجاسة والحرمة من جهة أخرى، كملاقاة النجس.

نعم ذكر غير واحد أن ذلك مبني على مضاعفة النجاسة، وأن الخمر تتنجس بملاقاة النجس. وقد أنكر ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) مدعياً أن الأعيان النجسة لا تتنجس بالملاقاة، ولا تقبل النجاسة العرضية. ومن ثم ذهب للطهارة في المقام.

لكنه يشكل بعدم الدليل على ذلك. بل الظاهر أنها تنجس. لعدم الفرق ارتكازاً في الانفعال بالنجاسة بين الطاهر والنجس، غاية الأمر أن النجاسة الذاتية أجلى وأتم،

ص: 353

فيغفل معها عن النجاسة العرضية، أما مع اختلاف النجاستين في الأثر فالمتعين ترتب أثر كل منهما. كما لو صلى في سراويل من جلد معتقداً تذكيته ناسياً ملاقاته للنجس، ثم ذكر ذلك وانكشف أنه ميتة، فإن المتعين بطلان الصلاة من جهة النجاسة المنسية وإن عفي عن مانعية الميتة للجهل بها.

بل ذلك منه (قدس سره) لا يناسب ما التزم به من أن إسلام الكافر إنما يطهره من نجاسة الكفر، دون النجاسة العرضية بسبب ملاقاته النجاسة حال كفره، وأنه لابد من تطهيره منها.

حيث لا يتم ذلك إلا بالبناء على أن نجاسة بدنه الذاتية بسبب الكفر لا تمنع من عروض النجاسة عليه بملاقاة النجاسة، نظير ما نحن فيه. بل يظهر منه ومن المفروغية عن ذلك، وإن الكلام إنما هو في استفادة الطهارة من النجاسة العرضية تبعاً للطهارة من نجاسة الكفر بالإسلام.

ويزيد في الإشكال ما ذكره من أن المتنجس إذا صار عين النجاسة ارتفعت نجاسته العرضية، وبقيت نجاسته الذاتية، وجرى حكمها لا غير.

إذ فيه: أنه لو كانت أقوائية النجاسة الذاتية موجبة لانصراف إطلاقات الانفعال، وقصورها عن الأعيان النجسة، بنحو يمنع من إثبات حدوث النجاسة العرضية لها، فلا مجال لذلك في المقام، لورود النجاسة العرضية على الطاهر، ودخوله في إطلاق أدلتها بالفرض، فيحتاج زوالها حين صيرورة المتنجس عين النجاسة إلى دليل، وهو مفقود، ويكفي في إحراز بقائها الاستصحاب.

ولا يظن منه دعوى امتناع اجتماع النجاستين بحكم العقل، ليتوجه عدم الفرق فيه بين الحدوث والبقاء، إذ لا مسرح للعقل في الأحكام الشرعية - كالطهارة والنجاسة - التي هي اعتبارات صرفة.

بل ذلك منه أيضاً لا يناسب ظهور مفروغيتهم عن بقاء نجاسة البدن بعد الموت، وإنما وقع الكلام بينهم في وجوب تطهيره منها قبل الشروع في التغسيل أو

ص: 354

يكتفى بإزالتها في أثناء الغسل.

وأشكل من ذلك ما رتبه عليه من طهارة العنب والتمر المتنجسين إذا صارا خمراً ثم انقلب الخمر خلاً، لأنهما بصيرورتهما خمراً ترتفع نجاستهما العرضية، وبانقلاب الخمر خلاً ترتفع نجاسة الخمرية. غاية الأمر أنه لابد من تبديل إنائهما حين صيرورتهما خمراً، لعدم الدليل على طهارة الإناء من النجاسة السابقة على الخمرية.

إذ فيه - مضافاً إلى ما سبق -: أن العنب والتمر إذا صارا خمراً يبقى بعض أجزائهما الكثيفة - كالنوى والقشور وغيرها - على حالتها الاصلية من دون أن تصير خمراً، فإذا فرض كونها متنجسة قبل صيرورتها خمراً تبقى على ذلك حال الخمرية، فتنجس الخل الذي ينقلب إليه الخمر، وأدلة الانقلاب إنما تقتضي طهارتها تبعاً من نجاسة الخمر، لا من النجاسة السابقة عليه المفروضة في المقام. إلا أن يقصر مفروض كلامه عن ذلك، بل يفرض فصلها عن الخمر قبل انقلابها خلاً، نظير ما ذكره في الإناء.

كما لا مجال لذلك في عصير العنب والدبس المتنجسين إذا صارا خمراً، ثم انقلب الخمر خلاً، حيث لا يبقى منهما شيء لا ينقلب خمراً.

لكن البناء على طهارتهما حينئذ - مع مخالفته للقاعدة التي سبق التعرض لها - من المستنكرات المتشرعية. ولو كان البناء عليه لظهر وبان، لشيوع الابتلاء بتنجس عصير العنب والدبس ونحوهما من السوائل السكرية، فلو كانا يطهران بذلك لشاع امكان الانتفاع بهما بالتخليل، لأنهما لا يصيران خلاً إلا بعد أن يصيرا خمراً. ومن ثم كان ما ذكره في غاية الإشكال.

هذا وقد استدل (قدس سره) على الطهارة في محل الكلام - مضافاً إلى ذلك - بإطلاق نصوص العلاج المتقدمة المقتضي لطهارة الخمر بالانقلاب وإن أصابتها نجاسة خارجية، لعدم التقييد فيها بأخذ الخمر من المسلم، بل يشمل ما إذا أخذت من كافر، مع ظهور أن الكافر - بل مطلق صناع الخمر - لا يتحفظ عليها من سائر النجاسات،

ص: 355

(356)وكما أن الانقلاب إلى الخل يطهر الخمر، كذلك العصير العنبي إذا غلا بناء على نجاسته (1)، فإنه يطهر إذا انقلب خلاً (2).

بل هي تتعرض عنده للنجاسة ولو من جهة الأواني أو يده النجسة أو المتنجسة.

لكن الاستدلال إن كان بإطلاق النصوص اللفظي، فمن الظاهر ورود النصوص لبيان أن الإنقلاب رافع للحرمة والنجاسة الخمرية، من دون نظر لما يقارنها، كالنجاسة العرضية والحرمة من حيثية الغصبية ونحوهما.

وإن كان بإطلاقها المقامي فهو موقوف على غلبة الابتلاء بالنجاسة العرضية مع غفلة العرف عنها، حيث يكون عدم التنبيه عليه حينئذ شاهداً بالطهارة منها تبعاً للنجاسة الخمرية، نظير ما يأتي في الأواني، ومن الظاهر عدم بلوغ الأمر هنا لذلك، حيث لا يغلب أخذ الخمر من الكافر وممن يتسامح في النجاسة، ولو تمت الغلبة فالغفلة عن النجاسة الحاصلة من الكافر بعد الإلتفات لنجاسته في غاية المنع. ولو تمت الغفلة فهي قد تبتني على الغفلة عن نجاسته، لا عن كونها سبباً في تنجس الخل الحاصل بالانقلاب، فلتجعل شاهداً على طهارة الكافر، لا على العفو عن النجاسة العرضية الحاصلة منه أو من غيره.

على أن ما ذكره يجري في الإناء أيضاً، لوضوح أن الكافر وصانع الخمر كما لا يتحفظان عليها من النجاسة العرضية لا يتحفظان على إنائها منها، مع أنه سبق منه التصريح بعدم العفو عن نجاسة الإناء من غير جهة الخمرية. ومن ثم كان ما ذكره من الاستدلال بالإطلاق في غاية الإشكال، بل المنع، ولا مخرج عما تقتضيه القاعدة المتقدمة.

(1) وإن كان الظاهر عدم تمامية المبنى المذكور، على ما تقدم في المسألة السابعة عشرة من فصل الأعيان النجسة.

(2) للإجماع بقسميه عليه، كما في الجواهر. وفي منظومة السيد الطباطبائي (قدس سره):

ص: 356

«والخمر والعصير إن تخللا

فباتفاق طهرا وحللا»

نعم في نهوض الإجماع المدعى بالاستدلال إشكال، بعد عدم تصريح جماعة من الأصحاب بذلك، بل ولا بنجاسة العصير، كما سبق، وبعد قرب ابتناء دعوى الإجماع على بعض الوجوه الاجتهادية في مبنى نجاسة العصير المذكور، ولم يتضح كونه إجماعاً تعبدياً مع قطع النظر عن ذلك. ومن ثم يتعين النظر في وجه الحكم المذكور مع قطع النظر عن الإجماع المدعى في المقام.

كما أن الظاهر أن الكلام في المقام لا يبتني على القول بالنجاسة، بل يجري حتى على القول بالحرمة مع الطهارة، لأن أدلة حرمة العصير بالغليان مع النجاسة أو بدونها قد تضمنت شرطية الحل بذهاب الثلثين، فيقع الكلام في أن صيرورة العصير خلاً هل تقوم مقام الغليان في تحليل العصير المستلزم لطاهرته لو كان نجساً، أو لا تقوم مقامه، بل يبقى على حرمته مع النجاسة أو بدونها. ولا يحتمل في المقام طهارة العصير بصيرورته خلاً من دون أن يحل، ليبتني الكلام في المقام على القول بالنجاسة.

إذا عرفت هذا فقد يستدل على طهارة العصير وحليته بالانقلاب خلاً بوجوه:

الأول: أن حرمة العصير ونجاسته لو قيل بها من سنخ حرمة الخمر أو متفرعة عليها، كما قد يظهر من الأدلة التي سيقت لبيان وجه نجاسة العصير، فكما أن حرمة الخمر ونجاسته ترتفع بانقلابه خلاً كذلك حرمة العصير ونجاسته لو قيل بها.

لكن ذلك غير ظاهر كما يظهر بمراجعة ما سبق منّا عند الكلام في دفع أدلة النجاسة التي سبق التعرض لها.

الثاني: أن طهارة الخمر وحليته بانقلابه خلاً تقتضي طهارة العصير وحليته بانقلابه خلاً بالأولوية، لأن الخمر أشد نجاسة وحرمة من العصير.

ويندفع بعدم وضوح منشأ الأولوية بعد عدم ثبوت كون نجاسة العصير وحرمته من سنخ حرمة الخمر ولا متفرعة عليها.

ص: 357

الثالث: ما دل من النصوص على طهارة الخل وحليته مما تضمن بيان فوائده وآثاره. فقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن الخل حيث لا يصير إلا بعد أن ينش العصير بنفسه ويغلي فالنصوص المذكورة تدل على أن صيرورة العصير خلاً رافعة لحرمته ونجاسته الحاصلتين من غليانه ونشيشه بنفسه، وحيث كانت الحرمة والنجاسة المذكورتان أكد من الحرمة والنجاسة الحاصلتين بالغليان بالنار تعين ارتفاع الحرمة والنجاسة الحاصلتان من الغليان بالنار بصيرورة العصير خلاً أيضاً.

()()1

وفيه: أن مجرد أشدية النجاسة والحرمة مع غليانه بنفسه من النجاسة والحرمة مع غليانه بالنار لا يقتضي زوال الأخيرتين بما تزول به الأوليان، وهو الانقلاب للخل، بل يمكن اختصاص كل منهما بمزيل إذا اقتضت ذلك الأدلة، فتزول الأوليان بالانقلاب للخل، لأنهما تابعان للإسكار الذي ينحصر التطهير معه بذهابه، وتزول الأخيرتان بذهاب الثلثين، عملاً بما دلّ على انحصار حله بذلك، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه». وبعبارة أخرى: ما ذكره (قدس سره) يرجع للاستدلال بالأولوية التي أنكرها.

()()2

نعم لو كان هناك دليل يقتضي حل الخل مطلقاً كان الإطلاق المذكور معارضاً للحصر المستفاد من مثل صحيح ابن سنان، وبعد تساقطهما يكون المرجع الأصل.

فإن قلنا بنجاسة العصير بالغليان كان مقتضى الاستصحاب بقاءه على النجاسة بعد صيرورته خلاً، فيحرم. وإن لم نقل بنجاسة العصير بالغليان - كما سبق أنه الحق - فمقتضى الأصل الحل، بناء على ما هو التحقيق من عدم جريان استصحاب الحرمة في مثل ذلك، لتعدد الموضوع، لأن موضوع الحرمة - كسائر الأحكام التكليفية - هو فعل المكلف، كاستعمال العصير في المقام، وهو كلي قابل للتقييد، والشك في بقاء الحكم

********

ص: 358

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 43، 44، 45 من أبواب الأطعمة المباحة.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(359) (السادس): ذهاب الثلثين بحسب الكم (1)، لا بحسب الثقل. فإنه

ملازم للشك في أخذ الحال السابق قيداً في الموضوع، ومع عدم جريان استصحاب الحرمة فالمرجع أصل الحل.

لكن يصعب تحصيل إطلاق يقتضي حل الخل في المقام، فإن النصوص التي أشار إليها بعض مشايخنا (قدس سره) ليست واردة لبيان حلية الخل، بل لبيان فوائده، والحث عليه من أجلها، وهي إنما تقتضي حليته في الجملة، نظير ما تضمن الحث على أكل اللحم والبيض وشرب الماء وغيرها من الأطعمة والأشربة ومن ثم لا مخرج عن مقتضى الحصر المتقدم.

اللهم إلا أن يقال: الحصر المذكور منصرف لبيان ما يحل به العصير بما هو عصير يطلب شربه من أجل حلاوته، فلا ينافي حلية المايع من دون أن يذهب ثلثاه إذا خرج عن كونه عصيراً وصار خلاً، ومع قصور الحصر المذكور عن ذلك يكون المرجع فيه أصل الحل بعد فرض طهارته. فلاحظ.

(1) يعني: الحجم والكيل. هذا ومن الظاهر أن ذهاب الثلثين بحسب الحجم والكيل أسبق من ذهابهما بحسب الوزن، لأن الذاهب بالنار والتبخير هو الأجزاء المائية، وهي أخف من الأجزاء السكرية الباقية.

وحينئذ لا مجال لاحتمال التحديد بالأعم من المساحة والكيل والوزن، كما في الجواهر والعروة الوثقى، إذ لا أثر للاحق مع تحقق السابق. ولأن المراد بالمساحة إن كان هو الحجم فهي عين الكيل، وإن كان خصوص السطح - كمساحة الثياب والأرض - فلا إشكال في عدم الاعتبار بها.

مضافاً إلى أن اختلاف التثليث باختلاف الجهات المذكورة ليس من سنخ اختلاف أفراد المفهوم الواحد، ليكون مقتضى الإطلاق الاكتفاء بأحدها، بل من باب اختلاف الأمر الإضافي باختلاف الجهة الملحوظة في الإضافة، وحيث يمتنع عرفاً

ص: 359

تعدد الجهة الملحوظة، فلابد من كون الملحوظ تعيينها إحدى هذه الجهات، واللازم الكلام في تعيينها لا غير.

ولا ينبغي التأمل في أن المنصرف من إطلاق التحديد بذهاب الثلثين في المقام هو التحديد بحسب الحجم والكيل، لأنه الذي يتيسر لعامة الناس التحديد به في مثل العصير المطبوخ، حيث يسهل معرفة مقدار عمق ثلثه قبل غليانه ثم يغلى كله حتى يبلغ ذلك العمق. وكذا إذا طبخ في مثل القدر، حيث يسهل غالباً معرفة المقدار الباقي فيه بقياس عمقه حتى في حال غليانه من أجل إنهاء تسخينه. ولا يسهل معرفة وزنه، لعدم تيسر الميزان لعامة الناس، خصوصاً في الكميات الكبيرة، ولصعوبة الوزن حال الغليان.

كما يناسب ذلك أيضاً ورود التحديد بالحجم والكيل في عصير العنب في غير واحد من النصوص ، إذ من البعيد جداً اختلاف المراد بذهاب الثلثين في المقام.

()()1

لكن قد يستفاد أن المعيار على الوزن من بعض النصوص منها: خبر منصور بن حازم عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إذا زاد الطلاء على الثلث أوقية فهو حرام». فإن فرض زيادة الأوقية التي هي من الأوزان يناسب كون المعيار في التثليث الوزن.

()()2

وفيه - بعد تسليم عدم استعمال الأوقية في الكيل -: أن فرض الزيادة على الثلث أوقية لا ينافي كون المعيار في التثليث على الكيل.

على أنه روي بسند آخر عن منصور عن ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام) أيضاً: «قال: إذا زاد الطلاء على الثلث فهو حرام» ، بحذف (أوقية)، ومن القريب جداً كونهما رواية واحدة قد اختلف نقلها، والترجيح للثاني، لصحة سنده دون الأول. ولو فرض عدم المرجح تعين التوقف، وعدم ثبوت لفظ (أوقية)، المدعى قرينيته على إرادة الوزن.

()()3

********

ص: 360

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 27 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9، 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 27 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9، 8.

ومنها: صحيح عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل أخذ عشرة أرطال من عصير العنب فصبّ عليه عشرين رطلاً ماء، ثم طبخهما على حتى ذهب منه عشرون رطلاً وبقي عشرة أرطال، أيصلح شرب تلك العشرة أم لا؟ فقال: ما طبخ على الثلث فهو حلال». لوضوح أن الرطل من الأوزان.

()()1

وفيه: أن الرطل وإن شاع استعماله في الوزن، إلا أنه قد يستعمل في الكيل - بل قد يدعى أنه الأصل له - كما تقدم في مسألة تحديد الكرّ بالوزن، ومن القريب إرادته في المقام، لعدم سهولة الوزن في الماء ونحوه من السوائل، نظير ما سبق.

ولو سلم إرادة الوزن منه فهو مذكور في كلام السائل، ولا إشكال في الحل معه، لما عرفت من أن ذهاب الثلثين بالوزن متأخر عن ذهابهما بالكيل، فظهور الحديث في الحلّ في مورد السؤال لا ينحصر بكون المعيار على الكيل. غاية الأمر أن يكون التعبير بالثلث في كلام الإمام (عليه السلام) مشعر بكونه من سنخ الثلث المفروض في السؤال من دون أن يبلغ مرتبة الحجة، فضلاً عن أن يخرج به عما سبق.

ومنها: خبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: العصير إذا طبخ حتى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف ثم يترك حتى يبرد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه» فإن التحديد بالدانق يناسب كون المعيار في التثليث على الوزن.

()()(2)

وفيه: أن الدانق لا ينحصر بالوزن، بل الظاهر أنه السدس من كل شيء، كما يناسبه ما ذكره غير واحد من اللغويين من أنه سدس الدرهم والدينار، حيث لا جامع عرفي بينهما إلا مطلق السدس، ولأنه معرب كما عن المصباح. وذكر غير واحد من مشايخنا كما عن البرهان القاطع أنه معرب عن كلمة (دانك) بالفارسية، بمعنى السدس. بل هو المتعين بلحاظ مورد السؤال، لعدم فرض مقدار خاص فيه.

هذا مضافاً إلى ما تقدم في مبحث النجاسات عند الكلام في حل العصير

********

ص: 361

(1)

وسائل الشيعة ج: 17 باب: 8 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9.

(362)مطهر للعصير العنبي إذا غلا بناءً على نجاسته (1). لكن تقدم أن ما طبخ بالنار طاهر وإن كان حرام الشرب، وما نش أو غلا بغيرها الأحوط وجوباً فيه النجاسة. والأحوط وجوباً في طهارته أن ينقلب خلاً كالخمر (2).

(السابع): الانتقال (3). فإنه مطهر للمنتقل إذا أضيف إلى المنتقل إليه وعدّ جزءاً منه (4)، كدم الإنسان الذي يشربه البق والبرغوث والقمل (5).

نعم لو لم يعد جزءاً منه أو شك في ذلك - كدم الإنسان الذي يمصه العلق -

بذهاب الثلثين من ضعف الخبر المذكور في نفسه، وظهور إعراض الأصحاب عن مضمونه. ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا أن المعيار في التثليث على الكيل.

(1) أما بناء على طهارته فهو محلل له بعد حرمته بالغليان، كما تقدم ذلك مفصلاً في المسألة السابعة عشرة من فصل الأعيان النجسة.

(2) تقدم الكلام في وجه ذلك مفصلاً في المسألة المذكورة.

(3) بلا خلاف أجده فيه ولا إشكال، كما في الجواهر، وفي الحدائق: «مما لا خلاف فيه ولا إشكال يعتريه»، وقريب من ذلك ما عن غيرهما، بل في الجواهر أنه في الجملة من الضروريات ويأتي تمام الكلام في وجهه.

(4) حيث يشمله إطلاق دليل طهارة المنتقل إليه، الشامل لهذا الجزء. وبه يخرج عن استصحاب نجاسة ذلك الأمر المنتقل.

نعم لو كان هناك إطلاق يقتضي نجاسة الأمر المنتقل حتى بعد الانتقال كان معارضاً للإطلاق المذكور، وبعد تساقطهما يكون المرجع استصحاب النجاسة. وكذا لو لم يكن هناك إطلاق يقتضي طهارة الأمر المنتقل إليه، فإن المرجع حينئذ إما إطلاق النجاسة أو استصحابها.

(5) حيث ينسب عرفاً للحيوان الذي امتصه لا للإنسان الذي أُمتص منه،

ص: 362

فيشمله ما تضمن من النصوص طهارة دم البق والبرغوث. بل لا ينبغي التأمل في طهارته في الجميع بمقتضى السيرة القطعية.

()()1

ثم إن هذا متجه إذا كان الدم الذي امتص قد خرج عن الإنسان أو نحوه بجرح أو نحوه، لنجاسته حينئذ، فيطهر بالانتقال المذكور. أما إذا امتصه الحيوان من جسد الإنسان رأساً فالظاهر خروجه عن محل الكلام، لعدم الدليل على نجاسة الدم في الباطن، ليكون الانتقال مطهراً له، بل من البعيد ذلك، إذ لازمه كون تخلف الدم في الذبيحة مطهراً له، وهو بعيد جداً، بل الأقرب طهارة الدم في الباطن وعدم نجاسته إلا بخروجه بجرح أو نحوه، وأن الدم المتخلف باق على الطهارة.

نعم إذا كان الدم دماً لنجس العين فهو نجس مطلقاً وإن لم يخرج، وتتوقف طهارته على إلحاقه عرفاً بالحيوان الذي امتصه.

هذا وقد قرب شيخنا الأستاذ (قدس سره) قصور الأدلة عن إثبات طهارة الدم الذي تمتصه في جوفها من دون أن يدخل في دورتها الدموية، لاختصاص النصوص بالدم الذي يدخل في دورتها الدموية، لأنه الذي يصح عرفاً نسبته لها، أما الذي تمتصه ويبقى في جوفها فهو منسوب للذي امتص منه، كما لو امتص أو أكل غيرها من الحيوانات دماً فإنه لا يصح أن ينسب له حتى يتحلل ويدخل في دورته الدموية، ولذا يحكم بنجاسته إذا قاءه.

وفيه: أنه ليس لهذه الحيوانات في عروقها دم ظاهر يطلق عليه عرفاً أنه دم، بل هي سوائل لا يصدق عليها الدم، فلابد من حمل النصوص المتقدمة على الدم الذي تمتصه حيث يكثر الابتلاء به إذ كثيراً ما تقتل وهو في جوفها، وهو مورد السيرة بسبب ذلك.

نعم لا يبعد عموم دم البراغيث في النصوص لما تفرزه بصورة الدم وهو في الحقيقة من فضلاتها، بل هو المتيقن من صحيح ابن أبي يعفور: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

********

ص: 363

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب النجاسات.

(364)(364)فهو باق على النجاسة (1).

(الثامن): الإسلام (2)، فإنه مطهر للكافر بجميع أقسامه (3)، حتى

ما تقول في دم البراغيث؟ قال: ليس به بأس قلت إنه يكثر ويتفاحش. قال: وإن كثر». لكن يكفي إطلاق المطلق منها.

()()1

والحاصل: أن ما ذكره (قدس سره) يتم في الحيوانات الكبيرة إذا امتصت الدم كبعض الكواسر والحيات. ولا مجال لهذه الحيوانات عليها. فلاحظ.

(1) للاستصحاب الذي يجري حتى مع الشك في عدّ الدم من أجزاء الحيوان المنتقل إليه، حيث لا إطلاق حينئذ يحرز طهارته ليمنع من جريان الاستصحاب.

لكنه موقوف أولاً: على نجاسة الدم قبل الامتصاص، وثانياً: على اليقين بعدم استحالته، ولا إشكال في الثاني في دم العلق. وأما الأول فقد عرفت الكلام فيه، وأن المتعين التفصيل. وحينئذ لا مجال لاستصحاب النجاسة في صورة امتصاص الدم حال طهارته.

بل يتوقف البناء على النجاسة على عموم دليل نجاسة دم ما له نفس سائلة لصورة خروجه بتوسط العلق، وهو غير بعيد، إذ لا يبعد كون العلق عرفاً من سنخ آلة إخراج الدم وكون الدم الخارج بسببه كدم الجروح. فلاحظ.

(2) بلا خلاف أجده فيه ولا إشكال. كذا في الجواهر وحكى فيه عن المنتهى والذكرى وغيرهما الإجماع عليه، قال: «بل هو في الجملة من الضروريات». ويكفي فيه السيرة القطعية من عصر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى يومنا هذا.

(3) يعني: ممن يحكم بنجاسته. أما الطاهر فإسلامه لا يقتضي إلا ارتفاع كراهة مساورته ومباشرته، لعين ما سبق في الطهارة.

********

ص: 364

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(365)المرتد عن فطرة (1)

(1) كما في الذكرى والروضة وحكاه في الجواهر عن العلامة الطباطبائي والمحكي عن التحرير والموجز. بل قد يستفاد من إطلاقهم مطهرية الإسلام للكافر.

إلا أن يستفاد من إطلاقهم أنه لا توبة له عدم تحقق الإسلام منه، فيبقى على النجاسة، لعدم المطهر. ولعله لذا نسب في الجواهر النجاسة لصريح بعضهم وظاهر المعظم أو صريحه، حيث لا منشأ له ظاهراً إلا تصريح المعظم بأنه لا توبة له، بل في الخلاف وكشف اللثام الإجماع عليه. ولعله لذا تردد في نهاية الأحكام في مطهرية الإسلام له.

وكيف كان فيشهد للطهارة إطلاق ما دل على شرح الإسلام، وأنه الشهادتان، فإن مقتضاه تحقق الإسلام من المرتد الفطري، ومع تحقق الإسلام منه لا ينبغي الإشكال في ترتب أحكامه، ومنها طهارته إلا ما دل الدليل على عدم ترتبه، لما هو المعلوم من أن نجاسة الكافر منوطة حدوثاً وبقاء بالحكم بكفره، ولا تسري لحال إسلامه.

ويناسب ذلك ما في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: من كان مؤمناً فعمل خيراً في إيمانه، ثم أصابته فتنة فكفر، ثم تاب بعد كفره كتب له وحسب بكل شيء كان عمله في إيمانه، ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره». وبذلك يخرج عن استصحاب النجاسة، وإن تم موضوعه، لعدم تبدل الذات المحكومة بالنجاسة بالإسلام قطعاً.

()()(1)

هذا وقد استدل في الجواهر على النجاسة بما دل على عدم قبول توبته من الإجماع المدعى ممن سبق والنصوص. لكن الإجماع - لو تم - ليس بنحو ينهض بنفسه بالاستدلال بعد العلم أو الوثوق بابتنائه على النصوص وإرادة مضمونها. فاللازم

********

ص: 365

(1)

الكافي ج: 2 باب إن الكفر مع التوبة لا يبطل العمل حديث: 1.

الكلام في النصوص.

وجملة منها قد تضمنت أنه لا يستتاب، بل يقتل، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام): «سألته عن مسلم تنصر. قال: يقتل ولا يستتاب. قلت: فنصراني أسلم ثم ارتد. قال: يستتاب، فإن رجع وإلا قتل» ، وصحيح الحسين بن سعيد: «قرأت بخط رجل إلى أبي الحسن (عليه السلام): رجل ولد على الإسلام، ثم كفر وأشرك وخرج عن الإسلام، هل يستتاب أو يقتل ولا يستتاب؟ فكتب (عليه السلام): يقتل» وموثق عمار الساباطي: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام): يقول: كل مسلم بين مسلمين ارتد عن الإسلام وجحد محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبوته وكذبه فإن دمه مباح لمن سمع ذلك منه، وامرأته بائنة منه يوم ارتد، ويقسم ماله على ورثته وتعتد امرأته عدة المتوفى عنها زوجها، وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه».

()()1()()2()()3

وهي ظاهرة في أن عدم الاستتابة من أجل عدم إغناء التوبة في دفع القتل كما في المرتد الملي، فلا ينافي تحقق التوبة منه بل وجوبها عليه عقلاً ونقلاً، فضلاً عن الإسلام.

نعم في صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المرتد. فقال: من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل على محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد إسلامه فلا توبة له، وقد وجب قتله وبانت منه امرأته، ويقسم ما ترك على ولده». وإطلاق نفي التوبة له - بعد حمله على المرتد الفطري - يقتضي بدواً عدم ترتب الأثر عليها مطلقاً. لكن من القريب تنزيله على عدم قبول الناس لتوبته، بحيث تغني في دفع القتل عنه، كما تضمنته بقية النصوص.

()()4

فإن أمكن ذلك فهو، وإلا فمن الظاهر أن أثر التوبة هو رفع تبعة العمل، وتبعة الارتداد بحدوثه إنما هو العقاب الأخروي، ووجوب القتل وبقية الأحكام المذكورة في الصحيح، وهي لا تستلزم عدم صحة الإسلام بحيث لا يترتب عليه الأثر شرعاً

********

ص: 366

(1و2و3و4)

وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب حد المرتد حديث: 5، 6، 3، 2.

في الدنيا بالطهارة واحترام المال المستجد وصحة النكاح وحل الذبيحة ونحوها، وفي الآخرة بالنجاة من الخلود في العقاب.

غاية الأمر أن الإسلام المذكور لا يسقط آثار الارتداد الدنيوية والأخروية، فتترتب الأحكام المتقدمة في الدنيا، ويستحق العقاب عليه في الآخرة، من دون أن يستحق به الخلود، لأن الخلود إنما يستحق مع الموت على الكفر.

وبعبارة أخرى: عدم قبول التوبة منه، وعدم سقوط آثار الارتداد بها، لا يستلزم عدم تحقق الإسلام منه وعدم ترتب أثره عليه. بل هو خلاف إطلاق أدلة شرح الإسلام، وأدلة أحكامه وآثاره، من دون مخرج عنها. ومجرد وجوب قتله من أجل الارتداد لا ينافي إسلامه، كما لا ينافيه سائر الحدود الثابتة على المسلم.

وأظهر من ذلك عدم رجوع زوجته وأمواله إليه. إذ ليس من آثار الإسلام رجوع الزوجة البائنة، ولا ملكية ما خرج عن الملك حال الكفر.

من ذلك يظهر الإشكال في حمل الإجماع المدعى على عدم قبول توبة المرتد على عدم قبول إسلامه وعدم ترتب الأثر عليه. ولاسيما مع قرب كون معقد الإجماع مأخوذاً من النصوص المتقدمة التي ظاهر أكثرها عدم إغناء التوبة عن القتل لا غير، كما عرفت.

وأشكل من ذلك ما قد يظهر من بعضهم من عدم قابلية المرتد للتملك. حيث لا منشأ له حتى لو قلنا بعدم قبول إسلامه، لوضوح عدم اختصاص القابلية المذكورة بالمسلم. ومجرد الحكم بقسمة أمواله بالارتداد على ورثته إنما يقتضي خروج أمواله التي ملكها قبل الارتداد عن ملكه، من دون أن ينافي ملكيته لما يحصل عليه بعد ذلك بأسباب الملكية الشرعية. كما لا ينافي احترام تلك الملكية لو أسلم، بناء على ما سبق من قبول إسلامه.

غاية الأمر أنه لو لم يسلم لا احترام لملكيته حينئذ، بل يحق لكل أحد أن يستلب منه المال من دون خصوصية للوارث، كل ذلك عملاً بالقواعد العامة التي لا شاهد

ص: 367

(368)على الأقوى ويتبعه أجزاؤه كشعره وظفره (1) وفضلاته من بصاقه ونخامته وقيئه وغيرها (2).

على الخروج عنها في شيء من ذلك.

(1) بلا إشكال، وفي الجواهر أنه ينبغي القطع به. لأن طهارته إنما هي بطهارة أجزائه وهما منها، ولذا حكم بنجاستهما عند الحكم بنجاسته حال كفره. ومنه يظهر التسامح في التعبير بالتبعية في المقام.

(2) كلبن المرأة. ولا ينبغي التأمل في جميع ذلك بملاحظة السيرة.

وأما في الجواهر من الاستدلال عليه بصدق إضافتها إلى المسلم. ففيه: أنه لا دليل على طهارة ما أضيف منها إلى المسلم، لينظر في شمول إطلاقه للمقام. غاية الأمر أن ما أضيف منها للمسلم لا موجب لنجاسته، فيبقى على أصل الطهارة. وذلك لا يجري فيما تكوّن منها حال الكفر، وتنجس بملاقاة البدن النجس، وبقي متصلاً به بعد إسلامه وطهارته، حيث تحتاج طهارته تبعاً للدليل المخرج عن استصحاب النجاسة.

ومثل ذلك الاستدلال بحديث: «الإسلام يجب ما كان قبله». لظهوره في رفع تبعات الأعمال الصادرة من الكافر، ونجاسة الفضلات ليست منها، بل هي من الآثار الوضعية لملاقاة بدنه كحرمة ذبيحته، وبطلان زواجه من المسلمة ونحوهما.

()()(1)

وأشكل من ذلك ما يظهر من شيخنا الأستاذ (قدس سره) من كون الفضلات المذكورة من سنخ الأجزاء كالشعر والظفر. لوضوح أن الفضلات مباينة للبدن، وليست كالشعر والظفر. فالعمدة ما ذكرنا.

بقي في المقام أمران:

********

ص: 368

(1)

كنز العمال ج: 1 ص: 17 رقم الحديث: 243 وغيره من المصادر.

الأول: هل يحكم بطهارة ثيابه التي باشرها برطوبة حال كفره، أو مطلق ما باشره من متعلقاته كأوانيه وفراشه ونحوها؟ وجهان. قرب العدم في الجواهر، لخروجه عن المتيقن من السيرة.

(369)

لكن قد تقرب الطهارة بملاحظة السيرة، حيث لم يعهد أمر الكافر عند إسلامه بتطهير متعلقاته مع غلبة مباشرته لها برطوبة.

وأما ما يظهر من شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم نهوض ذلك بالاستدلال، وأنه من سنخ الظنون والاستحسانات التي لا تنهض بالحجية.

فهو كما ترى! لرجوع ذلك إلى الاستدلال بالسيرة المتصلة بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم) التي هي من أقوى الأدلة.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من احتمال كون عدم أمره بالتطهير في عصر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعدم تشريع النجاسات وأحكامها بعد، وفي العصور المتأخرة للبناء على بيان الأحكام له تدريجاً.

إذ فيه: أن نجاسة الكافر لو كانت مشروعة فهي من عصر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولو في أواخره، ومن الظاهر أن إسلام المشركين وغيرهم كان محل الابتلاء في جميع أيامه. كما أن بيان الأحكام تدريجاً بعده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو تم يقتضي بيان الحكم المذكور، بل أهمية الآثار المترتبة على طهارة المتعلقات تقتضي المبادرة لبيانها.

نعم الحكم المذكور لا موضوع له في اليهودي والنصراني والمجوسي بعد ثبوت طهارتهم، كما سبق. وأما المشرك فقد تقدم الإشكال في نجاسته، لعدم وضوح الدليل عليها، بل تقدم احتمال قيام السيرة على عدم تجنبه التي هي نظير السيرة المدعاة في المقام، وينحصر وجه البناء على نجاسته بالإجماع المدعى، الذي لو نهض برفع اليد عن دعوى تلك السيرة لنهض برفع اليد عن دعوى هذه السيرة، لأن المقامين من باب واحد.

ص: 369

(370)(370) (التاسع): التبعية. فإن الكافر إذا أسلم يتبعه ولده في الطهارة (1)، أباً

ولا يتضح لنا فعلاً أنه لو تم بناء المسلمين في الصدر الأول على نجاسة الكافر فهم يبنون على عدم وجوب تطهيره لمتعلقاته عند إسلامه، للبناء على طهارتها تبعاً. بل هو بعيد جداً، لعدم وضوح وجه ارتكازي للفرق بين متعلقاته وغيرها مما يباشره حال كفره، التي لا ريب في عدم طهارتها تبعاً. فلاحظ.

الثاني: قال في الجواهر: «أما لو كان بدنه متنجساً بنجاسة خارجية لم تبق عينها ففي طهارته بالإسلام وعدمها وجهان، أقواهما الأول، بناء على عدم تأثر النجس بالنجس، بل وعلى غيره، للسيرة وخلو السنة عن الأمر بذلك مع غلبته». وافقه عليه السيد الطباطبائي في العروة الوثقى وغير واحد من محشيها.

وهو ظاهر بناء على عدم تنجس النجس، كما سبق من بعض مشايخنا (قدس سره). ومن ثم لا يناسب ذلك بناءه على النجاسة في المقام، كما أشرنا إليه في آخر الكلام في مطهرية الانقلاب للخمر.

لكن سبق هناك ضعف المبنى المذكور. وحينئذ يتعين البناء على بقاء النجاسة بعد عدم المطهر. ومجرد عدم ورود الأمر به بالخصوص لا يشهد بالطهارة تبعاً، لكفاية الأمر بالتطهير عموماً من النجاسات العرضية بعد ارتكاز انفعال بدن الكافر وإن كان نجساً ذاتاً، واقتضاء إسلام من يسلم بطبعه تعلم أحكام الإسلام وتطبيقها. ومن ثم لا مجال لدعوى قيام السيرة على عدم التطهير.

بل كيف يمكن البناء على مساعدة السيرة والارتكازيات على عدم استنجاء من يسلم أو عدم تطهيره من مثل المني ودم الحيض ونحوهما مما يشيع الابتلاء به ولا يغفل عنه وعن نجاسته في الإسلام. بل يكاد يقطع بالبناء على التطهير في ذلك. ولا أقل من الشك الذي يتعين معه الرجوع للاستصحاب.

(1) للحكم بإسلامه بلا خلاف أجده - كما اعترف به غير واحد - ولا إشكال.

ص: 370

كان الكافر (1)، أم جداً (2)

كذا في الجواهر. ويشهد له خبر حفص بن غياث: «سالت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب، فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك. فقال: إسلامه إسلام لنفسه ولولده الصغار. وهم أحرار...». وضعف سنده منجبر بعمل الأصحاب، حيث أفتوا بما تضمنه من الأحكام، ومنها الحكم المتقدم.

()()1

مضافاً إلى ما ورد في بعض أحكام المسلم، كإعطاء أولاد المسلم من الزكاة. لشموله لأولاد من كان كافراً فأسلم، مع وضوح اعتبار الإسلام في مستحق الزكاة. هذا كله مع ظهور الإجماع على ذلك، وقيام السيرة عليه.

()()2

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الاستدلال عليه بقاعدة الطهارة، لأن المتيقن من دليل نجاسة ولد الكافر - وهو الإجماع، وعدم القول بالفصل بين المميز المظهر للكفر وغيره - حال ما قبل إسلام أحد أبويه أو جده، فالمرجع مع إسلامهم قاعدة الطهارة.

فهو مبني على مختاره من عدم جريان استصحاب النجاسة في الشبهة الحكمية، وحيث كان الظاهر ضعف المبنى المذكور، فالمتعين للرجوع في المقام لاستصحاب النجاسة الحاكم على أصل الطهارة.

فالعمدة ما سبق. ومنه يظهر أن تبعية الولد في المقام لأبيه ليست في الطهارة ابتداء، بل في الإسلام الذي من أحكامه الطهارة.

(1) فإنه المتيقن من النص والإجماع والسيرة.

(2) كما في العروة الوثقى وجملة من حواشيها قال سيدنا المصنف (قدس سره): «لا تبعد دعوى إطلاق النص بنحو يشمل الأب والجد». لكنه لا يخلو عن إشكال، فإن

********

ص: 371

(1)

وسائل الشيعة ج: 11 باب: 43 من أبواب جهاد العدو حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 6 من أبواب المستحقين للزكاة.

أم أماً (1)

عموم الأب للجد في الجملة وإن كان مسلماً، ولذا تترتب عليه أحكامه في النكاح، إلا أن شيوع إطلاقه في مقابل الجد مانع من الجزم بالإطلاق في المقام.

ودعوى: إن لازم ذلك عدم التبعية لو اسلم الجد وكان الأب ميتاً أو مفقوداً، مع أنه لا يظن التزامهم به. مدفوعة بأن التبعية في الإسلام في ذلك - لو تمت - قد تكون بملاك آخر غير الأبوة، وهو التبعية الخارجية التي قد يتعدى منها لسائر الأرحام إذا كان الطفل تابعاً له منقطعاً عمن هو الأقرب منه لموت أو فقد أو نحوهما، نظير ما يأتي في الأسير. ولا يجري ذلك في صورة وجود الأب وتبعية الولد له.

كما لا يتضح عموم الإجماع المدعى للمقام، بعد كون معقده الأب، الذي عرفت عدم وضوح عمومه للجد. ولاسيما مع قرب ابتنائه على الخبر المتقدم الذي سبق خروج الجد عن المتيقن منه.

وقد ظهر مما سبق أنه لا مجال لأصالة الطهارة هنا، خلافاً لما سبق من بعض مشايخنا (قدس سره)، بل المرجع هو الاستصحاب، معتضداً بارتكاز تبعية الولد لأبيه في أمثال هذه الأحكام.

نعم إذا كان تابعاً لجده منقطعاً عن أبيه - بموت أو غيبة أو نحوهما - فالظاهر التبعية في الإسلام والطهارة، نظير ما يأتي في الأسير.

(1) بلا خلاف أجده فيه كما في الجواهر. ومن الظاهر قصور النصوص المتقدمة عنه. ومن ثم فقد يستدل عليه تارة: بالإجماع المدعى. وأخرى: بما في الجواهر من قاعدة أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ومن لحوق الولد بأشرف أبويه في الحرية، ففي الإسلام أولى.

لكن التعويل على الإجماع المذكور لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح حال الحكم عند القدماء، خصوصاً الذين لا فتاوى لهم إلا ما يستفاد من روايتهم للأخبار. وأما

ص: 372

والطفل المسبي للمسلم، فإنه يتبعه في الطهارة (1)

من تأخر عنهم فإجماعهم - لو تم - قد يستند لبعض الوجوه الاعتبارية أو الاجتهادية، مثل ما تقدم في الجواهر.

وأما أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فهو - مع إرساله - أجنبي عن المقام، فإن العلو إنما يكون بالغلبة الظاهرة، أو بقوة الحجة، والمقام خارج عن الأمرين. على أن الغلبة فرع إحراز مقتضي التبعية في الأم، ليغلب أقوى المقتضيين، وهو أول الكلام.

وأما أولوية التغليب في المقام من التغليب في الحرية فهو غير ظاهر، ولاسيما أن التغليب في الحرية إنما كان في ابتداء وجود الولد وانعقاد نطفته، ونظيره التغليب في الولد المنعقد من أبوين أحدهما كافر والآخر مسلم، دون المقام، حيث يقع الكلام في أنه بعد الحكم بكفره تبعاً لأبويه هل يجره للإسلام إسلام الأم دون الأب؟

ومن ثم كان الحكم بالتبعية للأم في غاية الإشكال. ولاسيما أنه قد وقع في صدر الإسلام إسلام المرأة المزوجة وهجرتها، ولم يعرف الحكم بإسلام أولادها الصغار الذين لم يهاجروا.

وأشكل من ذلك التبعية للجدة لو أسلمت دون الأبوين والجد، كما يظهر من العروة الوثقى وحواشيها المشار إليها. نعم لا بأس بالإلحاق بالأم والجدة مع التبعية الخارجية، نظير ما تقدم في الجد، ويأتي في الأسير.

(1) وعن المعالم وشرح المفاتيح نسبته لظاهر الأصحاب. وقد يستدل عليه بأصل الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب مطلقاً كما في المدارك وعن المعالم - أو في الأحكام الشرعية في الشبهات الحكمية - كما تقدم من بعض مشايخنا (قدس سره) أو لأن نجاسته لما كانت بتبع أبويه، فمع ارتفاع التبعية المذكورة وتبعيته للآسر يرتفع موضوع الحكم بالنجاسة فلا يجري استصحابها.

لكن الظاهر جريان الاستصحاب في نفسه حتى في الأحكام الشرعية في

ص: 373

الشبهات الحكمية - كما حقق في محله - وعدم تبدل الموضوع بذلك، كما يظهر مما تقدم في أول الكلام في مطهرية الاستحالة.

ومثله الاستدلال بلزوم الحرج. فإن الحرج - لو تم وأطرد - لا ينهض برفع النجاسة ونحوها من الأحكام الوضعية، وإنما ينهض برفع التكليف لا غير. وربما يأتي ما ينفع في المقام.

هذا وعن الإسكافي والشيخ والقاضي تبعيته للآسر في الإسلام، فيظهر للحكم بإسلامه، لا للتبعية ابتداء، نظير ما تقدم في تبعيته للأب.

وقد يستدل عليه بأن الدين يثبت للأطفال تبعاً لارتباطهم خارجاً بالكبار، فمع ارتباط الطفل بأبويه يكون تابعاً لهما، ومع انفصاله عنهما وارتباطه بالآسر يكون تابعاً له. وحصر التبعية بالنسب مصادرة.

لكن ذلك بنفسه يحتاج إلى إثبات. لعدم دليل لفظي على التبعية، لينظر في مفاده وسعته. والإجماع لم نتحققه في المقام، بل لا مجال لدعواه بعد تصريح غير واحد بعدم التبعية في الإسلام، واقتصارهم على التبعية في الطهارة، كما هو المحكي عن ابن إدريس والعلامة وولده والكركي. وظاهر بعضهم التوقف.

ومثله الاستدلال بما تضمن أن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، بدعوى حمله على أن مقتضى الفطرة في الطفل الإسلام، وإنما يخرج عنه فيه مع كفر أبويه لتبعيته لهما، فمع انفصاله عنهما يرجع إلى مقتضى الفطرة.

إذ فيه: أن مقتضى ذلك إسلام الطفل حقيقة وإقراره بالعقائد الحقة عند مفارقة أبويه، وهو معلوم البطلان، ولا يمكن حمل الحديث عليه. كما لا نظر له إلى إسلام الطفل أو كفره حكماً وتبعاً.

بل هو ظاهر في أن الطفل لو بقي على فطرته لأختار الإسلام عند ما يعقل، لكن أبويه بتلقينهما له أصول الكفر تدريجاً، وبارتباطه بهما عصبية يكونان سبباً لتقبله

ص: 374

للكفر وإقراره به إذا عقل.

كما يناسبه ما في صحيح فضيل بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه قال: ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه، وإنما أعطى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذمة وقبل الجزية عن رؤوس أولئك بأعيانهم على أن لا يهودوا أولادهم ولا ينصروا وأما أولاد أهل الذمة [فأما الأولاد وأهل الذمة خ ل] اليوم فلا ذمة لهم». وحينئذ يكون أجنبياً عما نحن فيه.

()()1

فالعمدة في المقام: أنه لا ريب في شيوع الابتلاء من الصدر الأول بأولاد الكفار المنقطعين عن آبائهم - بموت أو غيبة أو ضياع أو غيرها - عند دخول الناس في الإسلام أفواجاً، فقد كانت القبائل الصغيرة والكبيرة وسكنة القرى والمدن تدخل الإسلام دفعة، وفي الفترات المتقاربة، ولا ينبغي التأمل في البناء على إسلام هؤلاء الأطفال تبعاً لمن يكفلهم من أرحامهم أو غيرهم. ولولا ذلك لظهر وبان، ولوقع الهرج والمرج ولكثر السؤال عن حكمهم وكيفية التعايش معهم ومعاملتهم، وحيث لا أثر لذلك في النصوص ولا في التاريخ، فالمتعين البناء على ما تقتضيه طبيعة المعاشرة والتعايش من إلحاقهم وتبعيتهم في الإسلام لمن يدير شؤونهم ويتولى تربيتهم ويحوطهم ويحضنهم من أم أو رحم - قريب أو بعيد - أو غريب.

نعم المتيقن من ذلك ما إذا لم يكن معهم من هو الأولى من الكافل والأقرب علقة به، فإذا كان الطفل في كفالة عمه أو رئيس عشيرته أو الذي تبناه وكانت معه أمه مثلاً، فأسلم الكافل وبقيت الأم على كفرها لم يحكم بإسلام الطفل.

وعلى ذلك يتجه البناء على تبعية الطفل الأسير للآسر في الإسلام، فإنه كسائر الكافلين بعد انقطاع الطفل عن أهله، وحينئذ يتعين البناء على طهارته، لأنها من أحكام الإسلام.

ومن جميع ما سبق يظهر أن الطفل يتبع أباه في الإسلام مطلقاً وإن انقطع عن

********

ص: 375

(1)

وسائل الشيعة ج: 11 باب: 48 من أبواب جهاد العدو حديث: 3.

(376)إذا لم يكن مع الطفل أحد آبائه (1). وكذا أواني الخمر، فإنه تتبعها في الطهارة إذا انقلبت الخمر خلاً (2)، وكذا أواني العصير إذا ذهب

أبيه ولم يكن في كفالته وحياطته، عملاً بإطلاق النص والفتوى. أما تبعيته لغير أبيه في الإسلام فهي موقوفة على كونه في كفالته وحياطته مع انقطاعه عن أهله الكفار ممن هو أقرب إليه من الكافل أو أسبق كفالة. فلاحظ.

(1) بل ولا أحد أقاربه الكفار ممن هو أقرب إليه من الآسر. بل حتى من هو أسبق حياطة له وإن كان أجنبياً. فإذا أسر الطفل اللقيط أو المدعى أو المتبنى مع من كان يكفله في بلاد الكفر كان تابعاً لكافله الكافر، لا للآسر المسلم. ويظهر الوجه فيه مما سبق.

(2) بلا إشكال، وإلا لم يكن حلّ الخمر بالانقلاب عملياً. مع أن العرف يغفل عن نجاسة الإناء، فسكوت النصوص عن التنبيه لنجاسته موجب لظهورها في طهارته تبعاً. ومن ثم قال سيدنا المصنف (قدس سره): «فإنها من ضروريات ما يستفاد من نصوص الطهارة بالانقلاب» مضافاً للسيرة القطعية على عدم تجنب الإناء.

وأما ما عن بعض من قارب عصورنا من اختصاص ذلك بما يلاصق الخمر المنقلب من أجزاء الإناء، دون ما فوقها مما نزل الخمر عنه تدريجاً بسبب جفافه، فضلاً عما أصابه الخمر من أجزاء الإناء العليا عند صب الخمر فيه أو عند علاجه بترشح أو نحوه، وأنه يلزم لأجل ذلك ثقب الإناء أو كسره حتى تخرج الخمر بعد انقلابها من أسفله، ولا يميل الإناء عند إخراجه لئلا ينجس ما فيه عند ملاقاة الأجزاء المذكورة. فهو غريب جداً، بعيد عن مفاد الأدلة.

بل ينبغي لأجل ما سبق البناء على طهارة ما يتبع الإناء ويتعارف الابتلاء به عند عملية الانقلاب، كغطاء الإناء، وما يجعل في الخمر من أجل علاجها، ونحو ذلك.

ص: 376

(377)ثلثاه (1) بناء على النجاسة مطلقاً (2). وكذا العامل المتشاغل بذلك وثيابه (3)، وكذا يد الغاسل للميت، والسدة التي يغسل عليها، والثياب التي يغسل فيها (4). فإنها تتبع الميت في الطهارة (5) وأما بدن الغاسل وثيابه

(1) لعين ما سبق في أواني الخمر.

(2) يعني: وإن غلا بالنار.

(3) لغلبة إصابة العصير له ولها قبل ذهاب الثلثين، فعدم التنبيه في النصوص على التطهير مع الغفلة عنه كاشف عرفاً عن طهارته تبعاً.

اللهم إلا أن يقال: ذلك موقوف على أن يكون انقلاب الخمر خلاً بالعلاج يتم حال انشغال المعالج بمباشرته للخمر بالنحو الملازم لإصابتها له قبيل الانقلاب.

أما إذا لم يكن الأمر كذلك، بل يحصل الانقلاب بعد ترك المعالج له مدة معتداً بها، فلا مجال للبناء على طهارته وطهارة ثيابه وآلات العلاج، لأن تركه له قبل الانقلاب يستلزم بناءه على نجاستها بطبعه بلا حاجة إلى تنبيه النصوص على ذلك، ليستفاد من إهمالها طهارتها تبعاً.

بل قد ينعكس الأمر، حيث تكون طهارة هذه الأمور تبعاً هي المحتاجة للتنبيه، ويكون إهمال النصوص التنبيه عليها شاهد بعدمها.

نعم يتجه ذلك في العصير عند ذهاب ثلثيه، لانشغال المعالج به وإصابته له حينئذ، فيتعين البناء على طهارة جميع ما يتعارف إصابة العصير له، كالعود الذي يقاس به ذهاب الثلثين، والملعقة التي يساط بها العصير، ونحوهما.

(4) وكذا الخرقة التي تستر بها عورته حين التغسيل.

(5) الظاهر أن طهارتها ليست بمجرد التبعية، بل لغسلها مع الميت عند غسله بالماء القراح، ولا مجال للبناء على طهارتها بدون ذلك. غاية الأمر أنه لا يشترط في طهارة الثياب والخرقة العصر إلا بعد الفراغ من التغسيل والاستغناء عنها، فلا تكون

ص: 377

(378)(378)وسائر آلات التغسيل (1) فالحكم بطهارتها تبعاً للميت محل إشكال (2).

(العاشر): زوال عين النجاسة عن بواطن الإنسان (3) وجسد

ملاقاتها له قبل العصر موجبة لنجاسته. وإلا فلو كانت ملاقاتها موجبة لنجاسته لتعذر تغسيله معها، فالسكوت في النصوص عن التنبيه لذلك موجب لاستفادة عدم انفعال بدن الميت ويد الغاسل بها. مضافاً إلى قيام السيرة على ذلك.

(1) لم يتضح المراد بالآلات المذكورة. إلا أن يراد بها ظاهر الإناء الذي يصب به الماء على الميت، حيث قد يمسه الغاسل بيده المتنجسة عند تغسيل الميت ومسه. لكن لم يتضح تعارف ذلك، بل لعل المتعارف تولي صب الماء شخص غير الغاسل مع انشغال الغاسل بمسح بدن الميت عند التغسيل من أجل استيعاب الماء لبدنه.

(2) لخروجها عن المتيقن من الدليل المتقدم. هذا وأما جريان ماء تغسيل الميت على مثل رجلي الغاسل فهو لا يكفي في طهارتهما لو تنجستا في أثناء التغسيل، لأنهما منفصلان عن الميت، وليستا من آلات التغسيل المتصلة به، فإذا أصابهما الماء بعد انفصاله عن الميت لم يطهرهما، لنجاسته.

(3) حيث لا يتوقف طهرها على غسلها بلا إشكال ظاهر واستظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، وفي الجواهر في ذيل الكلام في المطهرات أنه متفق عليه، بل قيل: إنه يمكن أن يكون من ضروريات الدين. انتهى.

ويقتضيه - مضافاً إلى ذلك، والى السيرة القطعية - ما ورد في الاستنجاء من الاكتفاء بغسل ظاهر المقعدة وعدم وجوب غسل الباطن ، وما تضمن عدم وجوب غسل باطن الأنف من الدم وغيرهما.

()()(1)()()(2)

********

ص: 378

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 29 من أبواب أحكام الخلوة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 248 من أبواب النجاسات.

الحيوان الصامت (1). فيطهر منقار الدجاجة الملوث بالعذرة بمجرد زوال عينها ورطوبتها. وكذا بدن الدابة المجروحة، وفم الهرة الملوث بالدم، وولد الحيوان الملوث بالدم عند الولادة بمجرد زوال عين النجاسة، وكذا

(1) فإنه لا يتوقف طهارته على غسله أيضاً، كما يتضح بملاحظة السيرة، لعدم بناء المتشرعة على الاهتمام بتطهيره عند إصابة النجاسة له مع شيوع الابتلاء بذلك.

مضافاً إلى ما تضمن طهارة سؤر جملة من الحيوانات مع القطع بتعرضها للنجاسة ولو حين ولادتها، حيث تتلوث بدم أمها، أو لكونها من الكواسر التي تأكل الميتة وغيرها من النجاسات، بل حتى غير الكواسر، حيث يكثر منها أكل المتنجسات وشربها، والتمعك في الأرض المتنجسة وغير ذلك. وكذا ما ورد في الفارة تقع في الدهن والماء وتخرج حية مع العلم بعدم تطهير موضع البول والغائط منها... إلى غير ذلك مما قد يعثر عليه المتتبع.

()()1

فإن النصوص المذكورة وإن كانت مسوقة لبيان الطهارة الذاتية في قبال النجاسة الذاتية الثابتة لمثل الكلب، إلا أن عدم التنبيه فيها للنجاسة العرضية مع كثرة الابتلاء بها موجب لظهورها في عدمها.

هذا وعن الفقيه الهمداني (قدس سره) احتمال ابتناء ذلك على ما لم يستبعده من عدم تنجيس المتنجس، فإن النصوص المتقدمة إنما تدل على عدم نجاسة ملاقي الحيوان، وهو أعم من عدم نجاسة الحيوان.

وفيه - مع أن التحقيق تنجيس المتنجس، كما تقدم -: أن السيرة قاضية باستعمال جلود الحيوانات وأصوافها وأشعارها فيما يعتبر فيه الطهارة كالصلاة، مع ما هو المعلوم من تعرضها للنجاسة، كما سبق.

ومثله ما قد يدعى من ابتناء ذلك على سقوط استصحاب النجاسة في

********

ص: 379

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الأسئار.

(380)يطهر باطن فم الإنسان إذا أكل شيئاً أو شربه بمجرد زوال عين النجاسة، وكذا باطن عينه عند الاكتحال بالنجس أو المتنجس. بل في ثبوت النجاسة لبواطن الإنسان وجسد الحيوان منع (1).

الحيوانات عند احتمال طروء المطهر لها، لا على طهارتها واقعاً بزوال عين النجاسة. ولعله لذا نسب لنهاية الأحكام عدم الحكم بطهارة بدن الحيوان إلا مع احتمال طروء المطهر عليه. وعن بعض مقاربي عصرنا الاحتياط بذلك.

إذ فيه: أنه لا يناسب ما هو المقطوع به من السيرة - ويقتضيه إطلاق النصوص المشار إليها آنفاً - من عدم تجنب الحيوان مطلقاً ولو مع العلم بعدم طروء المطهر عليه.

ومنه يظهر ضعف ما عن الموجز من الحكم بالنجاسة حتى يعلم بورود المطهر عليها، عملاً بإطلاق أدلة التنجيس، ودليل الاستصحاب. لوجوب الخروج عن الإطلاقين المذكورين - لو تما - بما سبق من السيرة والنصوص.

والحاصل: أنه لا ينبغي الإشكال في طهارة الحيوان واقعاً مع زوال عين النجاسة.

(1) كما احتمله في الجواهر، بل استظهر كون ذلك مراد الأصحاب، وإن أوهمت بعض العبارات خلافه.

وكيف كان فيقتضيه في بواطن الإنسان ما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) في فروع نجاسة البول من أنه لا إطلاق لأدلة الانفعال يشمل صورة الملاقاة في الباطن، وإنما هو مستفاد من الحكم بالانفعال في الموارد المتفرقة، وهي مختصة بالملاقاة في الخارج.

لكن ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه يستفاد نجاستها من موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) فيمن يجد في إنائه فأرة، وفيه: «فقال: إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو

ص: 380

يتوضأ أو يغسل ثيابه، ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه، ويغسل كلما أصابه ذلك الماء، ويعيد الوضوء والصلاة». فإن مقتضى عموم قوله (عليه السلام):

()()1

«ويغسل كلما أصابه ذلك الماء» عموم انفعال ما يصيبه ذلك الماء وإن كان من الباطن.

نعم يختص ذلك بالباطن الذي فوق الحلق، كباطن الفم والأنف، أما الباطن الذي هو بمعنى الجوف - كالمعاء والمعدة - فلا إشكال في انصراف العموم عنه، والمتعين فيه الطهارة.

ويشكل أولاً: بقرب كون العموم مسوقاً لبيان نجاسة الفأرة، أو عدم العفو عن النجاسة المذكورة، بعد الفراغ عن حصولها، لا لبيان عموم الانفعال.

وثانياً: بأنه حيث كان الانفعال مستفاداً من الأمر في الموثق بالغسل، فمع عدم وجوب غسل الباطن - كما اعترف به - لا مجال لاستفادة عموم الإنفعال له من الأمر المذكور، كما اعترف بنظيره فيما إذا كانت النجاسة التي تصيب الباطن من الباطن، كدم الرعاف. ودعوى: أن رفع اليد عن المدلول المطابقي في الباطن - وهو وجوب الغسل - لا يستلزم رفع اليد عن المدلول الالتزامي، وهو تنجس الباطن.

ممنوعة، لتفرع الدلالة الالتزامية على الدلالة المطابقية، فمع كشف دليل التخصيص عن قصور المدلول المطابقي عن الباطن، وسقوط الدلالة المطابقية عن الحجية فيه لا مجال لحجية الدلالة الالتزامية فيه.

وأما تفريقه (قدس سره) بين الباطن الذي فوق الحلق وغيره، فلا يتضح المنشأ له. غايته أن الانصراف فيه أقوى وأظهر.

وعلى ذلك لو وضع الإنسان في فمه شيئاً نجساً، فسال لعابه، لم يكن لعابه نجساً ولا منجساً لما يصيبه، لأن النجاسة التي في الفم لا تنجسه ولا تنجس اللعاب.

********

ص: 381

(1)

وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

وأما الحيوان فلنظير ما سبق في الباطن، لاختصاص أدلة الانفعال الواردة في الموارد المتفرقة بغيره. وعدم نهوض موثق عمار بالعموم له، لما سبق.

نعم مقتضى ذلك أنه لو أصيب الحيوان بنجاسة ويبست ثم ذكي قبل أن تزول عين النجاسة عنه أن لا يكون جسمه نجساً، بل يكتفي بزوال العين، كما نبّه له بعض مشايخنا (قدس سره)، لفرض عدم تنجسه بإصابة النجاسة مادام حياً، كما أنه لا ينجس بها بعد تذكيته، لفرض جفافها. وهو ما تأباه المرتكزات جداً. ومن ثم يقرب البناء على تنجسه بالملاقاة، وإن كان في بلوغ ذلك حدّ الفتوى إشكال.

هذا وقد تجعل ثمرة ذلك - كما أشار إليه في الجواهر - ما إذا أصابت النجاسة الحيوان، ثم لاقى موضعها جسماً طاهراً برطوبة، وشك في زوال عين النجاسة حين ملاقاة الجسم الطاهر. فعلى القول بتنجس الحيوان بملاقاة النجاسة يتعين البناء على نجاسة الملاقي، لاستصحاب نجاسة الحيوان، لفرض الشك في حصول المطهر له، وهو زوال عين النجاسة، وعلى القول بعدم تنجس الحيوان لا مجال للبناء على نجاسة الملاقي، لفرض طهارة الحيوان الملاقي له، والشك في ملاقاته للنجاسة التي لاقته، لاحتمال زوالها قبل ذلك، واستصحاب بقائها على الحيوان لا يحرز ملاقاتها إلا بناء على الوصل المثبت.

لكن يشكل ذلك من وجهين:

الأول: ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن ظاهر بعض النصوص عدم جريان الاستصحاب في الحيوان ففي موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا توضأ منه ولا تشرب» حيث تضمن اعتبار رؤية الدم في حرمة السؤر. غاية الأمر أن يتعدى من الرؤية لغيرها من أسباب العلم، للقطع بإلغاء خصوصية الرؤية، ومقتضى ذلك الحكم بطهارة ملاقي الحيوان ما لم يعلم بوجود عين النجاسة، وهو ملازم لعدم

()()(1)

********

ص: 382

(1)

وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الأسئار حديث: 2.

جريان استصحاب النجاسة في الحيوان.

إن قلت: التعدي من العلم لكل محرز غير عزيز، فإن نصوص قاعدة الطهارة مطلقاً وفي خصوص الماء قد تضمنت أخذ العلم بالنجاسة في رفع اليد عن الطهارة الظاهرية، مع عدم الإشكال بينهم في جريان استصحاب النجاسة، وتقديمه على قاعدة الطهارة، وذلك لأن المستفاد من الأدلة كون أخذ العلم بنحو الطريقية، لا بما هو صفة خاصة. ولذا لا إشكال ظاهراً في قيام البينة على وجود النجاسة مقام العلم به في المقام.

()()1

قلت: هذا إنما يقتضي الاكتفاء بإحراز بقاء عين النجاسة ولو بغير العلم، كالبينة والاستصحاب، ولا يقتضي جريان استصحاب نجاسة الحيوان مع الشك في بقاء عين النجاسة من دون محرز له، كما هو المفروض في المقام، لفرض عدم البينة، وعدم جريان استصحاب بقاء عين النجاسة، لأنه مثبت، كما سبق.

إن قلت: بناء على تنجس جسم الحيوان، وطهارته بزوال عين النجاسة، يجري استصحاب بقاء عين النجاسة وعدم زواله، لا من أجل إحراز ملاقاة الجسم الطاهر له، ليبتني على الأصل المثبت، كما سبق، بل من أجل إحراز بقاء نجاسة جسم الحيوان، لأن استصحاب عدم المطهر يحرز بقاء نجاسة المتنجس.

قلت: لما لم تكن مطهرية زوال عين النجاسة مستفادة من دليل لفظي، بل من دليل لبي، أشكل جريان الاستصحاب المذكور، لأن الأدلة اللبية لا تنهض غالباً بتحديد موضوع الأثر بعنوانه، لينفع استصحابه في إحراز الأثر، بل مجرد التلازم بينهما خارجاً. فتأمل جيداً.

مع أن ذلك لا يناسب الموثق، حيث اقتصر في البناء على نجاسة السؤر على العلم بوجود عين النجاسة حين شرب الحيوان، ولم يكتف بالعلم بوجوده على المنقار ولو سابقاً من دون علم بارتفاعه.

********

ص: 383

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق، وج: 2 باب: 37 من أبواب النجاسات.

(384)بل كذا المنع في سراية النجاسة من النجس إلى الطاهر إذا كانت الملاقاة بينهما في الباطن، سواء أكانا متكونين في الباطن - كالمذي يلاقي البول في الباطن (1) - أو كان النجس متكوناً في الباطن. والظاهر يدخل إليه - كماء الحقنة، فإنه

إن قلت: لِمَ لا يستصحب بقاء عين النجاسة من أجل إحراز نجاسة السؤر، كما تضمنه الموثق؟

قلت: الموثق لم يتضمن أخذ بقاء عين النجاسة في موضوع نجاسة السؤر، لينفع استصحاب بقاء عين النجاسة في إحراز حكمه، وهو نجاسة السؤر، بل تضمن كون العلم بوجود عين النجاسة مانعاً من البناء على طهارة السؤر، ولا معنى لاستصحاب العلم.

على أنه لو استفيد من الموثق إناطة نجاسة السؤر واقعاً بوجود عين النجاسة فمن القريب جداً رجوعه إلى أن المنجس حينئذ ملاقاة عين النجاسة، وقد سبق أن استصحاب بقاء عين النجاسة لا يحرز ملاقاته إلا بناء على الأصل المثبت. فلاحظ.

الثاني: ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم جريان استصحاب نجاسة الحيوان، للعلم بعدم استناد الأثر - وهو نجاسة الملاقي - لنجاسة الحيوان، إذ مع زوال عين النجاسة فالحيوان طاهر لا ينجس الملاقي له، ومع بقائه تستند نجاسة الملاقي لملاقاته، لأنها أسبق من ملاقاته لجسم الحيوان.

لكن ذلك إنما يتم فيما إذا كان لعين النجاسة جرم مانع من ملاقاة جسم الحيوان بحيث لا يلاقي الملاقي جسم الحيوان إلا بعد ملاقاته لعين النجاسة، ولا يجري في مثل الرطوبة المائية التي لا تمنع من ملاقاة عين النجاسة رأساً. كما لعله ظاهر.

(1) لقصور أدلة الانفعال عن مثل الملاقة المذكورة. نعم هذا موقوف على عموم نجاسة الأعيان النجسة - كالبول والغائط والدم - لما إذا لم تخرج للظاهر. وهو لا يخلو عن خفاء، لقصور أدلة نجاستها أو انصرافها عن ذلك، ومقتضى الأصل

ص: 384

(385)لا ينجس بملاقاة النجاسة في المعاء (1) - أم كان النجس في الخارج كالماء النجس الذي يتمضمض به فإنه لا ينجس الريق (2)، وكذا إذا كانا معاً متكونين في الخارج ودخلا وتلاقيا في الداخل (3)، كما إذا ابتلع شيئاً طاهراً وشرب عليه ماءً نجساً فإنه إذا خرج ذلك الطاهر من جوفه حكم عليه بالطهارة (4). نعم في جريان الحكم الأخير في الملاقاة في باطن الفم إشكال (5).

(الحادي عشر): الغيبة (6).

الطهارة. وحينئذ لا يكون عدم انفعال الطاهر بها مستثنى من عموم الانفعال، بل خارج عنه موضوعاً.

(1) يجري فيه ما سبق.

(2) لما سبق من قصور أدلة الانفعال عن مثل هذه الملاقاة.

(3) لا يخلو ذلك عن إشكال، لعدم وضوح دخل خصوصية الظرف في الانفعال، بحث يفرق بين كون الملاقاة في الباطن وكونها في الظاهر، خصوصاً إذا كان الباطن فوق الحلق. بل يصعب جداً البناء على عدم الانفعال في مثل ما إذا كان أحد الإصبعين نجساً والآخر طاهراً فتلاقيا برطوبة في الفم ثم أخرجا منفصلين.

نعم إذا كان أحد الأمرين من توابع الباطن عرفاً - كالأسنان الصناعية، وكساء الأسنان من بعض المعادن أو غيرها، وما تشد به الأسنان من خيوط الذهب أو نحوها - فالظاهر كونه بحكم الباطن، لغفلة العرف عنه مع كثرة الابتلاء به من الصدر الأول. ولا أقل من خروجه عن المتيقن من أدلة الانفعال، فيرجع فيه لأصل الطهارة.

(4) عرفت الإشكال في ذلك.

(5) لما أشرنا إليه من أن الإشكال المتقدم فيه أظهر.

(6) لا يخفى أن مطهرية الغيبة ليست على نحو مطهرية ما سبق، فإن الحكم

ص: 385

فإنها مطهرة للإنسان (1)

بالطهارة معها ظاهري، خروجاً عن استصحاب النجاسة، مع تبعية الطهارة الواقعية لحصول أحد المطهرات الأخر.

(1) الظاهر أن مراده (قدس سره) الإنسان المسلم، لأن ذلك هو موضوع كلماتهم في المقام، ومنها ما في العروة الوثقى وجرى عليه سيدنا المصنف (قدس سره) في تعقيبه.

بل أخذ في الجواهر التكليف في موضوع المسألة قال: «فيحكم بطهارة بدن المسلم منه المكلف مع الغيبة عنه، وعلمه بالنجاسة، وتلبسه بما يشترط فيه الطهارة. بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل حكى الإجماع عليه بعض شراح منظومة الطباطبائي». خلافاً للمفاتيح، فجزم بعدم الاكتفاء بذلك، وتردد فيه في المدارك ومحكي مجمع البرهان.

وكيف كان فقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: الإجماع المدعى ممن سبق، وهو الظاهر مما عن تمهيد القواعد. وفيه: أنه لا مجال لدعوى الإجماع في مثل هذه المسألة التي لم تحرر في كلمات قدماء الأصحاب بوجه معتد به، وإنما تعرض لها المتأخرون، على كلام منهم فيها وفي حدودها ودليلها.

الثاني: ظهور حال المسلم في التنزه عن النجاسة. وفيه - مع أنه غير مطرد، ولاسيما في غير المتحرج - أنه لا دليل على حجية الظهور المذكور.

ودعوى: استفادة حجيته من فحوى ما دل على حجية إخبار ذي اليد. ممنوعة، لابتناء الأخبار على عناية تبعد معها الغفلة، بخلاف ظهور الحال، فإن الغفلة في الأقوال أبعد منها في الأحوال والأفعال. مع أن الظاهر اختصاص حجية قول صاحب اليد بصورة عدم التهمة، وفي اشتراط ذلك هنا كلام.

الثالث: أصالة الصحة في عمل المسلم. وفيه: أن مرجع أصالة الصحة في عمل المسلم إلى حمل عمله على عدم العصيان ولو مع الغفلة عن واقع الحال، لا على مطابقة

ص: 386

عمله للواقع.

نعم قد يراد بأصالة الصحة مطابقة العمل للواقع المشروع، بحيث يترتب عليه الأثر المطلوب منه. وهو حينئذ لا يختص بالمسلم، ولا بما يتعلق به، فلو توضأ بماء في الطريق يحكم بصحة وضوئه.

لكن لابد معه من عمل تتوقف صحته على الطهارة، كالصلاة في الثوب، والوضوء بالماء. وهو غير معتبر في المقام، بل غاية ما يقال باعتباره هو معاملته للشيء معاملة الطاهر، ولو بمثل مباشرته للماء ولبسه للثوب الذي من شأنه أن يصلي فيه.

مع أن أصالة الصحة إنما تحرز تحقق الشرط من حيثية صحة العمل وإجزائه لا مطلقاً، بحيث تترتب جميع آثاره ولو كانت أجنبية عن العمل، فمن توضأ بماء يحكم بطهارة ذلك الماء من حيثية صحة وضوئه، لا مطلقاً، بحيث يصح لغيره الوضوء ببقيته، أو شربها، لو كان مستصحب النجاسة.

الرابع: لزوم الحرج لولا ذلك. وفيه: أن الحرج - مع عدم إطراده - لا يقتضي التعبد بالطهارة واقعاً ولا ظاهراً، بل غاية ما يقتضيه هو جواز الارتكاب تكليفاً.

إلا أن يراد بذلك لزوم الحرج بنحو يؤدي إلى الهرج والمرج، المستلزم لكثرة السؤال عن حلّ المشكلة من المعصومين (صلوات الله عليهم)، وحيث لم يظهر ذلك كشف عن البناء على الطهارة. وهو حينئذ راجع إلى السيرة التي استدل بها غير واحد في المقام.

ولا ينبغي التأمل فيها بلحاظ ما هو المعلوم من تعرض كثير من الأمور للنجاسة، كاللحوم عند ذبحها وسلخها، وكالثياب والأواني عند غسلها أو غيره من الحالات، مع أنهم لا يسألون عن تطهيرها إذا تعرضوا للتناول منها أو استعمالها، ولا يفحصون عن ذلك من أجل احتمال عدم التطهير غفلة أو تسامحاً أو تعمداً. بل لو أريد السؤال عن ذلك والفحص عنه لكان من المستنكرات التي يحمل صاحبها على الشذوذ أو الوسواس.

ص: 387

وثيابه وفراشه وأوانيه وغيرها من توابعه (1)، إذا احتمل حصول الطهارة لها (2) من باب الاتفاق (3)، وكان يستعملها فيما يعتبر فيه الطهارة (4)،

والحاصل: أن السيرة في الجملة من الواضحات، وإن وقع الكلام في حدودها سعة وضيقاً، وهو ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

(1) كطعامه الذي يقدمه لأضيافه. وقد قرب العموم لجميع ذلك في الجواهر ومحكي كشف الغطاء. بل عممه في الثاني للأماكن والمساكن. ولا ينبغي التأمل فيه بملاحظة السيرة التي عرفت أنه عمدة أدلة المقام. بل وكذا غيرها مما استدل به هنا كما يظهر بملاحظته.

نعم قد لا تتحقق في بعضها الشروط الآتية، كالفراش والأماكن والمساكن، فإن استعمالها في ما يعتبر فيه الطهارة نادر، أو هو فرض غير واقع.

(2) يعني بأحد المطهرات المعهودة. أما إذا علم بعدم ذلك فلا إشكال في البناء على نجاستها، لما أشرنا إليه آنفاً من أن مطهرية الغيبة ظاهرية لا مجال لها مع العلم بعدم حصول المطهر واقعاً.

(3) الظاهر أن مراده ولو من باب الاتفاق كما هو المصرح به في مختصر المنهاج. وإلا فلا إشكال في الاكتفاء باحتمال التطهير عن قصد وعمد مع العلم بعدم التطهير اتفاقاً من دون ذلك.

(4) كما في العروة الوثقى وتقدم من الجواهر ذكره في بيان معقد الإجماع. والظاهر أن مرادهم بذلك أن يتعامل معها تعامله مع الطاهر، إما باستعماله فيما يشترط فيه الطهارة شرعاً - كالسجود عليه، والوضوء أو الشرب منه، وتقديمه لأن يؤكل أو يشرب - وإما باستعماله فيما لا يستعمل فيه النجس عادة، كطبخه للحم الذي كان متنجساً، وغمسه يده التي كانت متنجسة في الماء الذي من شانه أن يشرب أو يتوضأ منه. لعموم السيرة لهما معاً بلا إشكال، فمن البعيد جداً أن يريدوا الجمود

ص: 388

(389)وإن لم يكن عالماً بالنجاسة (1)

على مفاد العبارة المتقدمة.

لكن استظهر في الجواهر العموم لما إذا لم يكن متلبساً بما يشترط فيه الطهارة، وحكاه عن جماعة. فإن أراد عدم اعتبار استعماله فيما يشترط فيه الطهارة شرعاً، والاكتفاء بتعامله معه تعامله مع الطاهر رجع لما ذكرنا.

وإن أراد عدم اعتبار ذلك أيضاً، والاكتفاء بكونه في حوزته ومن توابعه. فهو ممنوع جداً لا شاهد عليه من السيرة ولا من غيرها. بل مقتضى السيرة عدم الحكم بالطهارة مع الالتفات لسبق تنجسه حتى يتضح الحال، عملاً بمقتضى الاستصحاب.

نعم لا إشكال في بناء المتشرعة بدواً على معاملة الأمور المذكورة معاملة الطاهر. لكن المتيقن منه ما إذا لم يعلم بسبق نجاستها أو غفل عن ذلك، حيث لا إشكال في أن مقتضى الأصل فيها الطهارة، ولم يعلم بناؤهم على الطهارة مع العلم بسبق نجاسة الشيء والإلتفات لذلك، لينحصر الوجه فيه في مطهرية الغيبة، وينفع فيما نحن فيه.

(1) كما هو مقتضى إطلاق بعضهم قال السيد الطباطبائي في منظومته:

واحكم على الإنسان بالطهارةوهكذا ثيابه وما معه

مع غيبة تحتمل الطهارةلسيرة ماضية متبعه

وقواه في الجواهر، وأصرّ عليه غير واحد ممن تأخر عنه. لدعوى عموم السيرة المذكورة، فقد قربه بعض مشايخنا (قدس سره) بأن التأمل في سيرة الأئمة (عليهم السلام) وتابعيهم في عصرهم يناسب عمومها، لأنهم كانوا يساورون المخالفين مع أنهم كانوا لا يرون نجاسة بعض الأمور المعلومة النجاسة عندنا، أو يرون مطهرية ما ليس مطهراً عندنا، كالتمسح لموضع البول والدبغ للميتة.

لكن في كفاية ذلك في إثبات عموم السيرة إشكال، لعدم وضوح حصول العلم

ص: 389

(390)أو كان متسامحاً في دينه (1).

(الثاني عشر): استبراء الحيوان الجلال، فإنه مطهر له من نجاسة الجلل (2).

بسبق تنجس ما يساورونه منهم. غاية الأمر غلبة تعرضه للنجاسة، أو العلم إجمالاً بحصول النجاسة لأبدانهم وأمتعتهم. والأول لا يزيد على الظن، الذي لا يمنع من الرجوع لأصالة الطهارة. والثاني لا ينهض بتنجيز احتمال النجاسة في مورد المساورة بعد خروج بعض أطرافه عن مورد الابتلاء.

وكذا لو فرض العلم في مورد بتعاقب الحالتين من الطهارة والنجاسة مع الجهل بالتاريخ، حيث يسقط استصحاب النجاسة حينئذ، ويكون المرجع أصل الطهارة. وإنما ينفع في إحراز عموم السيرة ما لو فرض الابتلاء بما يعلم بسبق نجاسته عندنا، ويشك في ورود المطهر عليه، كاللحم الذي يتعرض للتنجيس حين الذبح والسلخ لو علم أو احتمل طهارته عندهم، وهو غير معلوم الحصول، لأن الظاهر اتفاقهم معنا في نجاسة مثل ذلك. ولو فرض حصوله فهو ليس من الكثرة بحيث يعلم بابتلاء المؤمنين به وإلتفاتهم إليه، وتسامحهم فيه اكتفاء بالاحتمال، لينفع في إحراز عموم السيرة لذلك، بنحو تتصل بعصور المعصومين (عليهم السلام)، ويستكشف إمضاؤهم لها.

(1) لا ينبغي الإشكال في عموم السيرة للمتسامحين في دينهم. لشيوع الابتلاء بمخالطتهم ومساورتهم بمثل الأكل من طعامهم والشرب من شرابهم، ونحو ذلك، من دون توقف ولا نكير.

(2) قد يوهم هذا ذهابه (قدس سره) إلى نجاسة الحيوان الجلال. لكن الظاهر أنه لا يريد ذلك، حيث لم يتقدم منه (قدس سره) عدّ الجلال من الأعيان النجسة، كما لا دليل عليه. وغاية ما تقدم منه ومنا نجاسة عرق الإبل الجلالة، أو عرق كل حيوان جلال. وهو لا يستلزم ذلك.

ص: 390

(391)والأقوى اعتبار مضي المدة المعينة له شرعاً (1).

نعم تقدم أن الجلل في الحيوان موجب لحرمة أكل لحمه، فينجس بوله وخرؤه. وحينئذ إذا خرج الحيوان بالاستبراء عن الجلل تعين طهارة عرقه، وخرئه وبوله إذا كان مأكول اللحم، لخروجه عن موضوع النجاسة.

ومنه يظهر أن عد الاستبراء من المطهرات يبتني على نحو من التسامح، لأنه لا يطهّر النجس بعد اتصافه بالنجاسة، كغسل الثوب وإسلام الكافر وانقلاب الخمر خلاً، بل يوجب خروج الشيء عن موضوع النجس ابتداء، كإسلام الكافر بالإضافة إلى ولده المتكون منه بعد إسلامه.

(1) وقع الكلام بينهم تارة: في معيار صيرورة الحيوان جلاّلاً. وأخرى: في استبراء الجلال، وخروجه عن الجلل حكماً أو موضوعاً. فينبغي الكلام في مقامين:

المقام الأول: في ما يصير به الحيوان جلالاً. وهو إنما يكون بالتغذي بعذرة الإنسان - كما تقدم في مبحث نجاسة البول والغائط، لا بفضلة غيره مما لا يؤكل لحمه، فضلاً عن بقية النجاسات.

وإنما الكلام في مدة التغذي بها. وفي الجواهر: «ذكر غير واحد أن النصوص والفتاوى المعتبرة خالية عن تعيين المدة التي يحصل فيها الجلل».

واحتمال استفادتها من مدة الاستبراء - لو تم تحديدها - لا شاهد له. فإن مجرد ارتفاع أثر الجلل بمدة معينة لا يلزم توقف تحققه عليها. كما لعله ظاهر.

ومثله ما عن المحقق الثاني (قدس سره) قال: «ويرجع في كونه جلالاً إلى العرف، وقدره بعض المحققين بيوم وليلة. وهو قريب، كما في الرضاع، لأنه أقصر زمان الاستبراء».

وكذا ما ذكره وجهاً في المقام، وهو أن ينبت من العذرة لحمه ويشتد عظمه، لأنه يصير بذلك جزء عضو له. وما استقر به في المسالك من أن تظهر رائحة العذرة في لحمه وجلده.

ص: 391

فإن ذلك كله خال عن الشاهد، وما أشير إليه في كلماتهم لا يصلح شاهداً.

ومن ثم قوى في الرياض الرجوع فيه للعرف، لأنه المحكم فيما لم يرد به من الشرع تعيين أصلاً، وعلى ذلك جرى بعض مشايخنا (قدس سره).

لكنه يشكل أيضاً بما أشار إليه في الجواهر من أنه لا عرف منقح الآن، ليرجع إليه، لعدم شيوع استعمال الكلمة، وعدم تحديد مدلولها في العرف الذي نصل إليه.

هذا وفي مرسل موسى بن أكيل عن أبي جعفر (عليه السلام): «شاة شربت بولاً ثم ذبحت، فقال: يغسل ما في جوفها ثم لا بأس به. وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة ما لم تكن جلالة، والجلالة التي يكون ذلك غذاؤها». والمستفاد منه أن الجلل يتحقق إذا صدق أن غذاء الحيوان هو العذرة، وذلك لا يكون عرفاً إلا باستمراره على التغذي بالعذرة، وحيث لا يراد بذلك استمراره في تمام عمره، لعدم خلو الحيوان عادة عن التغذي بغيرها ولو بالرضاع من أمه في أوائل عمره، تعين حمله على الاستمرار في التغذي بالعذرة مدة معتداً بها.

()()1

وضعف سنده لا يمنع من الاستدلال به مع ظهور عمل الأصحاب له وتعويلهم عليه، حيث أفتوا بمضمونه.

على أنه يكفي في ذلك أيضاً ما تضمن اعتبار أن لا يخلط مع العذرة غيرها، كصحيح زكريا ابن آدم عن أبي الحسن (عليه السلام): «أنه سأله عن دجاج الماء، فقال: إذا كان يلتقط غير العذرة فلا بأس» ، ومرسل علي بن أسباط عمن روى: في الجلالات قال: «لا بأس بأكلهن إذا كن يخلطن» وغيرهما.

()()2()()3

فإن المستفاد منها عدم تحقق الجلل المحرم مع استمرار الحيوان على إلقاط غير العذرة، بل لابد فيه من انقطاعه عن ذلك وتغذيه بالعذرة وحدها، فيرجع إلى مفاد مرسل موسى بن أكيل، ويعتضد أو يؤيد به.

********

ص: 392

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 24 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 5، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 5، 3.

وبذلك يكون المحصل من جميع النصوص توقف الجلل المحرم على ما إذا مر على الحيوان مدة معتد بها يكون غذاؤه فيها العذرة لا يخلط معها غيرها. نعم لا يبعد عدم قدح الخلط القليل الذي لا يعتد به، لعدم خلو الحيوان عنه غالباً.

(393)

المقام الثاني: في استبراء الجلال وما يخرجه عن الجلل حكماً أو موضوعاً.

لا ينبغي الإشكال في أن أدلة آثار الجلل المتقدمة إنما تنهض بإثباتها للحيوان مادام جلالاً، ولا تنهض بإثباتها له بعد ارتفاع الجلل عنه، بل اللازم الرجوع حينئذ للأصل، وهو يقتضي الطهارة والحِلّ.

أما في العرق فلأصالة الطهارة. ولا مجال لاستصحاب النجاسة، لأن المتيقن النجاسة هو العرق المتكون حال الجلل، أما العرق المتكون بعده فهو موضوع آخر لم يعلم بنجاسته سابقاً، والأصل فيه الطهارة، ولذا سبق أن عد الاستبراء من المطهرات مبني على التسامح.

وكذا الحال في البول والغائط. نعم لو جرى استصحاب حرمة أكل الحيوان فقد يكون حاكماً على أصالة الطهارة في البول والغائط.

لكن الظاهر عدم جريانه، لما تكرر منّا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية، لعدم كون موضوعها العين الخارجية الباقية بتبدل الحال

- كالحيوان الخاص في المقام - ليجري استصحاب الحكم لها، بل فعل المكلف الذي هو أمر كلي قابل للتقييد، والمتيقن بثبوت الحكم له منه هو الفعل المقارن للحال السابق، كالأكل حال الجلل في المقام. أما المقارن للحال اللاحق فهو موضوع آخر لا مجال لإثبات الحكم له بالاستصحاب، بل اللازم الرجوع فيه لأصل آخر، وهو في المقام أصالة حلّ الأكل، كما ذكرنا. ومقتضاها طهارة البول والغائط. ولا أقل من الرجوع فيهما لأصالة الطهارة رأساً، كما ذكرناه أيضاً.

ومنه يظهر ضعف ما يظهر من غير واحد، من أن مقتضى الأصل بقاء الحرمة وعدم الرافع لها. حتى حكي عن النراقي الرجوع إليه فيما لم يرد فيه نص على مدة

ص: 393

الاستبراء.

إذا عرفت هذا فارتفاع الجلل فرع تحديد مفهوم الجلل، وحيث سبق أن المعيار فيه كون الحيوان غذاؤه العذرة، فارتفاعه إنما يكون بتبدل حال الحيوان، ولو بأن يخلط مع العذرة غيرها. وما قد يظهر منهم من أنه لابد فيه من منعه منها غير ظاهر الوجه بعدما تقدم.

ومثله ما قد يظهر منهم من فرض بقاء الجلل مع منع الحيوان من العذرة بعد مدة الاستبراء المذكورة في النصوص، فضلاً عما قبلها. فإن الظاهر امتناع الفرض المذكور، كما يظهر مما سبق.

نعم لو بني على أن المعيار في الجلل بعض الآثار - كنتن اللحم والجلد - أمكن وقوع الفرض المذكور. وكذا لو كان له مفهوم عرفي يتيسر تشخيصه. لكن عرفت المنع من الأمرين معاً.

هذا وقد ورد في النصوص تحديد الاستبراء في جملة من الحيوانات بمدد خاصة تمنع فيها عن العذرة، فيتعين العمل عليها فيها.

وما ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) من منع العمل بالنصوص المذكورة، لضعف سندها. في غير محله، لاعتبار سند بعض تلك النصوص، كما يأتي. ولو سلم فهي منجبرة بظهور تسالم الأصحاب على العمل بها، بل باستفاضتها تفصيلاً في بعض تلك الحيوانات - كالإبل - أو إجمالاً - كالبقرة - بحيث لا مجال لاحتمال عدم صدور شيء منها. ومن ثم لا مجال لإهمالها، والرجوع للأصل المتقدم.

وأما الحيوانات التي لم يرد نص بتحديد الاستبراء فيها - كالغزال والحمار - فمقتضى القاعدة الرجوع فيها للأصل المتقدم، لولا أن من القريب جداً أن يستفاد من مجموع النصوص الواردة أن الجلل لابد معه من الاستبراء، وأن الاستبراء يتبع حجم الحيوان بطبعه، لأن المدد المذكورة فيها يزيد كلما كان حجم الحيوان بطبعه أكبر، حيث لا يبعد مع ذلك قياس الحيوان الذي لم تتعرض له النصوص على الحيوانات التي

ص: 394

(395)وهي في الإبل أربعون يوماً (1)، وفي البقر عشرون (2)،

تعرضت لها. كما يأتي من بعضهم في بعض الحيوانات. وإن كان في بلوغ ذلك حداً يمكن معه التعويل عليه في الفتوى إشكال.

وكأنه إلى هذا يرجع ما في الرياض، فإنه بعد أن استوجه الرجوع للأصل قال: «إلا أنه ينبغي تقييده بعدم إمكان استنباط مدته من مدة الجلالات المنصوصة بنحو من فحوى الخطاب والأولوية». وإلا فلا مجال للأولوية مع عدم إدراك ملاك الحكم.

(1) بلا خلاف ظاهر، كما في كشف اللثام، وفي الجواهر: «بل اعترف غير واحد أن ذلك من المتفق عليه نصاً وفتوى». وصرح في الخلاف والغنية بالإجماع عليه. ويشهد به النصوص الكثيرة، ففي موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الدجاجة الجلالة لا يؤكل لحمها حتى تغتذي ثلاثة أيام، والبطة الجلالة بخمسة أيام، والشاة الجلالة عشرة أيام، والبقرة الجلالة عشرين يوماً، والناقة الجلالة أربعين يوماً».

()()1

وفي معتبر الجعفريات عنه (عليه السلام): «قال: الناقة الجلالة لا يحج على ظهرها، ولا يشرب لبنها، حتى تقيد أربعين يوماً. والبقرة الجلالة لا يشرب لبنها، ولا يؤكل لحمها، حتى تقيد عشرين يوماً. والشاة الجلالة لا يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، حتى تقيد سبعة أيام. والبطة الجلالة لا يؤكل لحمها حتى تقيد خمسة أيام. والدجاجة الجلالة تقيد ثلاثة أيام، ثم يؤكل لحمها» ونحوهما في ذلك مسند الراوندي في نوادره ومرسل دعائم الإسلام وغيرها من النصوص المذكورة في الوسائل.

()()2()()3()()4()()5

(2) كما هو المشهور وفي الخلاف والغنية الإجماع عليه. ويقتضيه موثق السكوني المتقدم ومعتبر الجعفريات ومسند الراوندي ومرسل دعائم الإسلام المتقدمة إليها

********

ص: 395

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 16 باب: 19 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 2، 3.

(3) مستدرك الوسائل ج: 16 باب: 19 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 2، 3.

(4) مستدرك الوسائل ج: 16 باب: 19 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 2، 3.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة.

وفي الغنم عشرة (1)

الإشارة، ونحوها رواية القاسم بن محمد الجوهري. وكذا خبر مسمع على رواية التهذيب.

()()(1)()()(2)

لكن رواه في الاستبصار هكذا: «والبقرة الجلالة لا يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها حتى تغتذي أربعين يوماً». وكذا في نسخة من الكافي. وهو الوجه فيما في المبسوط وعن القاضي من أنه أربعين يوماً.

إلا أنه لا مجال له بعد اختلاف نسخ الحديث، وضعف سنده في نفسه، ومعارضته بغيره مما هو أكثر عدداً وأصح سنداً.

وعن الصدوق والاسكافي أنه ثلاثون يوماً. وإن كان ظاهر الأول في الفقيه عدم الجزم به، لأنه عقبه بذكر رواية القاسم بن محمد الجوهري المتقدمة إليها الإشارة.

وكيف كان فيقتضيه خبر مسمع على رواية الكافي في النسخة الأخرى المثبتة في الأصل، حيث وردت هكذا: «والبقرة الجلالة لا يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها حتى تغتذي ثلاثين يوماً».

ومرفوع يعقوب بن يزيد: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): الإبل الجلالة إذا أردت نحرها تحبس أربعين يوماً، والبقرة ثلاثين يوماً، والشاة عشرة أيام» ، ونحوه في ذلك خبر يونس عن الرضا (عليه السلام).

()()(3)()()(4)

لكن اختلاف نسخ خبر مسمع مانع من التعويل عليه، كما سبق. على أن النصوص المذكورة ضعيفة في نفسها، معارضة بما هو أكثر عدداً وأصح سنداً، فيتعين لأجل ذلك طرحها، أو الجمع بينها وبين النصوص الأخر بالحمل على الأفضلية.

(1) كما هو المشهور. ويشهد له موثق السكوني ومرفوع يعقوب بن يزيد

********

ص: 396

(1و2)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6، 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 19 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

وفي البطة خمسة (1)،

المتقدمان ورواية القاسم بن محمد الجوهري المتقدمة إليها الإشارة، وكذا خبر مسمع - الذي تقدمت إليه الإشارة - على رواية الكافي.

لكن في المبسوط أنه سبعة أيام، وتردد في الخلاف وظاهر الغنية بينها وبين العشرة. ويشهد للسبعة معتبر الجعفريات المتقدم، ومرسل دعائم الإسلام المتقدمة له الإشارة. ومقتضى الجمع بينهما وبين ما سبق الحمل على الأفضلية.

هذا وعن الاسكافي أنه أربعة عشر يوماً. ويشهد له خبر يونس المتقدمة إليه الإشارة عن الرضا (عليه السلام): «والشاة أربعة عشر يوماً». لكن ضعف سنده مانع من التعويل، فضلاً عن رفع اليد به عما تقدم مما هو أكثر عدداً وأصح سنداً. فليطرح أو يجمع بينهما بالحمل على الأفضلية.

وحكى في كشف اللثام عن الصدوق أنه عشرون يوماً. ولم يظهر له مستند.

كما أن في حديث مسمع - المتقدمة إليه الإشارة - على رواية التهذيبين: «والشاة الجلالة لا يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها حتى تغذى خمسة أيام». ولا يظهر قائل به. على أن ضعفه واختلاف نسخه مانع من التعويل عليه، فضلاً عن رفع اليد عما سبق.

(1) وفي الجواهر أنه المشهور. ويقتضيه موثق السكوني ومعتبر الجعفريات المتقدمان وكذا مسند الراوندي ومرسل الدعائم وخبر مسمع المتقدمة إليها الإشارة.

وعن الخلاف أنه سبعة، وإن لم أجده فيه. ويشهد له قوله (عليه السلام) في خبر يونس المتقدمة له الإشارة: «والبطة سبعة أيام».

لكن ضعفه مانع من التعويل عليه، فضلاً عن رفع اليد به عما سبق. فليجمع بينهما بالحمل على الأفضلية.

ومثله ما في الفقيه من رواية القاسم بن محمد الجوهري، وفيها: «والبطة تربط ثلاثة أيام». ثم قال: «وروي ستة أيام». لإرسال الروايتين معاً.

ص: 397

وفي الدجاجة ثلاثة (1). والأحوط استحباباً اعتبار زوال اسم الجلل عنها

(1) وفي الجواهر أنه المشهور، وفي الخلاف الإجماع عليه. ويقتضيه موثق السكوني ومعتبر الجعفريات المتقدمان وخبرا مسمع ويونس المتقدم إليهما الإشارة.

لكن عن المقنع: «وروي يوماً إلى الليل». وهو مع ضعفه لم يظهر قائل به. وفي الغنية: «والدجاج خمسة أيام. وروي في الدجاج ثلاثة أيام». ولا شاهد للأول.

()()(1)

هذا وقد ألحق بها وبالبطة في القواعد شبههما. وحكاه في كشف اللثام عن الشيخ. ويظهر الحال فيه مما تقدم فيما لم ينص على مدة الاستبراء فيه.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن إطلاق الاغتذاء في بعض النصوص - ومنها موثق السكوني - وإن كان قد يشمل الاغتذاء بغير العذرة ولو بالاشتراك معها، إلا أن التعبير في بعضها - ومنها

معتبر الجعفريات - بالتقييد والحبس ظاهر في منعها من العذرة، بحيث يختص غذاؤها في مدة الاستبراء بغيرها. فاللازم العمل عليه، لأنه أخص.

الثاني: أن المعروف بين الأصحاب حرمة السمك الجلال، وإن كان خارجاً عما نحن فيه، لطهارة بوله وخرئه بعد أن لم يكن له نفس سائلة، كما أنه لا عرق له، ويشهد له ما يأتي في استبرائه.

مضافاً إلى قرب فهمه مما ورد في الحيوانات المتقدمة، لفهم عدم الخصوصية. بل من إطلاق قول أبي عبد الله (عليه السلام) في صحيح هشام: «لا تأكل لحوم الجلالات، وإن أصابك شيء من عرقها فاغسله». إذ مجرد عدم العرق للسمك لا يوجب قصوره عنه بعد ظهور أن قضية نجاسته حقيقية يراد بها نجاسة عرقها إن كان لها عرق.

()()(2)

والمشهور في استبرائها أن تربط يوماً وليلة. لخبر يونس عن الرضا (عليه السلام): «وفي

********

ص: 398

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 19 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(399)مع ذلك (1)، ومع عدم تعين مدة شرعاً يكفي زوال الاسم (2).

(مسألة 41): الظاهر قبول كل حيوان ذي جلد للتذكية (3) عدا

السمك الجلال أنه سأله عنه فقال: ينتظر به يوماً وليلة».

()()1

لكن في النهاية: «ولا يؤكل من السمك ما كان جلالاً إلا بعد أن يستبرأ يوماً إلى الليلة في ماء طاهر...». وهو قد يظهر في الاكتفاء باليوم وقد يظهر ذلك من الصدوق، حيث اقتصر في الفقيه على رواية القاسم بن محمد الجوهري التي تقدمت الإشارة إليها وفيها: «والسمك الجلال يربط يوماً إلى الليل في الماء». وربما يحمل كلامهما - كالرواية -

على دخول الغاية في المعنى، جمعاً مع خبر يونس المتقدم.

نعم قد يشكل الاستدلال بالخبرين، بضعفهما. إلا أن من القريب انجبارهما بعمل الأصحاب، خصوصاً الأول. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

الثالث: تقدم في مبحث نجاسة البول والغائط أن من جملة ما يحرم بالعرض الجدي الذي ترتضع من لبن خنزيرة، وأنه يحرم بوله وغائطه بذلك. كما تقدم أنه يستبرأ بحبسه سبعة أيام ثم يلقى فيها على ضرع شاة أو يعلف فيها الكسب والنوى. وكان المناسب لسيدنا المصنف (قدس سره) أن يذكره هنا كما ذكر الاستبراء من الجلل.

(1) سبق أن ذلك لازم للاستبراء، وأن فرض بقاء الجلل مع الاستبراء غير واقع.

(2) عملاً بمقتضى الأصل المتقدم. وقد تقدم الإشكال في الاكتفاء بذلك. فراجع.

(3) كما أطلنا الكلام فيه في التنبيه الثالث من تنبيهات فصل الشك في أصل التكليف من مباحث الأصول العملية من كتابنا (المحكم)، وذكرنا هناك أن كل حيوان ذي نفس من شأنه أن يذبح قابل للتذكية شرعاً، تبعاً لقابليته لها عرفاً.

ولعل اقتصار سيدنا المصنف (قدس سره) هنا على ذي الجلد لسوق الحكم المذكور

********

ص: 399

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 5.

نجس العين (1). فإذا ذكي الحيوان الطاهر العين جاز استعمال جلده - وكذا سائر أجزائه - فيما يشترط فيه الطهارة ولو لم يدبغ جلده على الأقوى (2).

تمهيداً لبيان حكم الجلد، وإلا فلا إشكال في العموم لغير ذي الجلد الصالح للاستعمال كالطيور الصغيرة. وتمام الكلام في ذلك في الموضع المذكور. فراجع.

(1) لأن التذكية بنظر العرف والشرع مختصة برفع القذارة العرضية الحاصلة بسبب الموت، دون الخبث الذاتي الثابت حال الحياة، بل لا مزيل له عرفاً، كما لا دليل على زواله شرعاً.

(2) من دون فرق بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، كما صرح به غير واحد. لكن اعتبر الدبغ في استعمال جلد ما لا يؤكل لحمه في المبسوط والنهاية والخلاف ومحكي مصباح السيد والبيان.

كما حكي عن المفيد واليوسفي في كشفه. ونسبه في كشف اللثام للأكثر، وفي محكي الذكرى للمشهور.

واستدل له في الخلاف بعدم الدليل على جواز استعمال الجلد المذكور قبل الدبغ. وهو كما ترى، لأنه مقتضى الأصل، خصوصاً بعد فرض طهارته بالتذكية.

على أنه مقتضى إطلاق ما تضمن جواز الانتفاع بجلد ما لا يؤكل لحمه بعد التذكية، كموثق سماعة: «سألته عن جلود السباع أينتفع بها؟ قال: إذا رميت وسميت فانتفع بجلده. وأما الميتة فلا» وغيره.

()()1

اللهم إلا أن يقال: إنه مسوق لبيان جواز الانتفاع بجلد غير مأكول اللحم في مقابل عدم جواز الانتفاع به رأساً، لأنه مورد السؤال. ومقتضى ذلك جواز الانتفاع به في الجملة ولو مشروطاً بشيء، كالدبغ، والتطهير من النجاسة الخبثية الخارجية، وغيرهما. فالعمدة في المقام الأصل.

********

ص: 400

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4.

(401) (مسألة 42): تثبت الطهارة بالعلم والبينة (1)،

ومثله الاستدلال بما في كشف اللثام عن بعض الكتب عن الرضا (عليه السلام) من أن دباغة الجلد طهارته.

إذ فيه - مع أنه لا يختص بجلد غير مأكول اللحم. وأن عدم الطهارة لا يستلزم حرمة الاستعمال -: أولاً: أنه غير ظاهر في انحصار طهارة الجلد بدباغه، لينافي ما دل على مطهرية التذكية - ويتعين الجمع بينهما حينئذ بتوقف الطهارة على الأمرين - بل مجرد كون الدباغ مطهراً، وهو لا ينافي مطهرية التذكية أيضاً.

وثانياً: أنه لم نعثر على المضمون المذكور إلا في الرضوي: «وكل شيء حل أكل لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي وصوفه وشعره ووبره وريشه وعظامه، وإن كان الصوف والوبر والشعر والريش من الميتة وغير الميتة بعد ما يكون مما أحل الله أكله فلا بأس به. وكذلك الجلد، فإن طهارته دباغته» وهو - على اضطرابه - ظاهر في مطهرية الدبغ لجلد الميتة فيما لا يؤكل لحمه. فلابد من طرحه، أو حمله على التقية.

()()1

هذا ولا يبعد أن يكون نظرهم في المنع إلى أن استعماله قد يكون في المأكول والمشروب، وهو قبل الدبغ قد يوجب تحلل شيء منه واختلاطه بهما.

لكنه كما ترى، لمنع استلزام الاستعمال للاختلاط بوجه معتد به غير مستهلك في المأكول والمشروب، ومع الشك في حصول الاختلاط المذكور فمقتضى الأصل الحلّ والبراءة.

نعم في مورد اليقين بحصول شيء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه في المأكول أو المشروب، بنحو معتد به غير مستهلك، لا شك في حرمة المأكول والمشروب. لكنه خارج عن محل الكلام.

(1) لعموم حجية البينة الذي تقدم الاستدلال عليه في المسألة التاسعة عشرة

********

ص: 401

(1)

فقه الرضا باب اللباس وما يكره فيه الصلاة والنجسات وما يجوز فيه الصلاة قبل باب العتق ص: 41.

من مباحث التقليد. هذا وقد ذكر غير واحد أن النجاسة والطهارة والملكية ونحوها من الأمور الحدسية لما لم يمكن إطلاع الشاهد عليها إلا بالإطلاع على أسبابها فالأخبار عنها إنما يصح بلحاظ الملازمة بين السبب والمسبب، ومع احتمال اختلاف الشاهد والمشهود عنده في الأسباب يتعين عدم حجية الشهادة، لاحتمال اعتماد الشاهد على سبب لا يراه المشهود عنده سبباً.

ومن ثم يتعين عدم حجية الشهادة بالمسبب، كالطهارة في محل الكلام قال في محكي التذكرة عند الكلام في حجية البينة بالنجاسة: «لا تقبل إلا بالمسبب، لجواز أن يعتقد أن سؤر المسوخ نجس».

نعم استثنى بعض مشايخنا (قدس سره) من ذلك ما إذا اتفق الشاهد والمشهود عنده في السبب، فحكم بحجية الشهادة بالمسبب، لرجوع الشهادة بالسبب للشهادة بالمسبب ولو إجمالاً، فمع اتفاقهما فيه يتعين تصديق الشاهد فيه، والانتقال منه للازمه، وهو المسبب.

لكن يشكل بأن الشهادة بالشيء والإخبار عنه تابع لقصد المخبر. فإذا قصد ببيان المسبب الحكاية عن السبب كان السبب مشهوداً به حقيقة بطريق الكناية، ولا إشكال حينئذ في حجية الشهادة به لإطلاق دليلها، ويكون الانتقال منه للمسبب من وظيفة المشهود عنده، لا لحجية الشهادة فيه. أما إذا غفل الشاهد عن ذلك، وقصد الحكاية عن المسبب رأساً، كما هو المدلول المطابقي لكلامه، فلا يكون السبب مشهوداً به، غاية الأمر أنه لازم للمشهود به - وهو حصول المسبب بنظره واجتهاده - فتبتني حجية الخبر فيه على عموم حجية الخبر للازم المخبر عنه.

لكن اللزوم إنما يتم بشرطين:

الأول: عدم احتمال غفلة الشاهد باعتماده في الشهادة على ما ليس سبباً عنده، بمقتضى اجتهاده أو تقليده، إذ كثيراً ما يغفل الإنسان، فيحكم بالنجاسة أو الطهارة أو غيرهما اعتماداً على أسباب لو نبه لأقرّ بعدم سببيتها، فيحكم بنجاسة ثوبه مثلاً

ص: 402

لملاقاته لطفل غير متحرز عن النجاسة، أو لماء في الطريق، أو لأحد أطراف الشبهة المحصورة، كما يحكم بطهارة الأرض مثلاً لأن الماء والشمس تصيبها مع إغفال اعتبار تجفيف الشمس للماء، وبطهارة الإناء لإفاضته مرة واحدة من مخزن للماء يسع كراً من دون إحراز بلوغ مائه كراً حين الإفاضة، وبملكية الشيء استناداً إلى أخذه من الدولة بمقتضى القوانين الوضعية... إلى غير ذلك.

الثاني: عدم احتمال خطئه في الموضوع. إذ كثيراً ما يخطئ في خبره لخطئه في الموضوع الخارجي، لا في الحكم الشرعي، كما لو شهد بطهارة الأرض لاعتقاده بنزول المطهر عليها بسبب نداوتها، مع استناد النداوة في الواقع للطل، أو بنجاسة الثوب لاعتقاده إصابة نزول المطر عليها بسبب نداوتها، مع استناد النداوة في الواقع للطل، أو بنجاسة الثوب لاعتقاده إصابة الكلب له، مع أنه لم يصبه، بل قاربه، أو شهد بزوجية المرأة لاعتقاده بتوكيلها لمن أجرى عقد النكاح مع أنها لم توكله... إلى غير ذلك.

وبالجملة حيث لم يكن السبب مشهوداً به - لتجري أصالة عدم الخطأ فيه بمقتضى دليل لزوم تصديق الشاهد - لعدم قصد الشاهد الإخبار عنه، بل عن المسبب، فالانتقال من المسبب المشهود به لحصول السبب إنما يتم مع الملازمة بينهما، ولا ملازمة بينها مع احتمال أحد الأمرين المذكورين، كما ذكرنا.

ومن ثم لا مجال لما ذكره (قدس سره) من الاستثناء، بل يتعين عموم المنع من قبول الشهادة بالمسبب لو تم ما سبق.

بل بناء على ذلك لا تكفي الشهادة بالسبب أيضاً إذا لم يكن أمراً حسياً محضاً - كانكسار الإناء - بل كان مبتنياً على الاجتهاد والحدس، فكما لا تكفي الشهادة بطهارة الإناء الذي كان نجساً، لاحتمال ابتنائها على ما هو مطهر عند الشاهد دون المشهود عنده، كذلك لا تكفي الشهادة بغمسه في كر طاهر إذا احتمل اختلاف الشاهد والمشهود عنده في مقدار الكر، أو في أسباب طهارته، كما لو احتمل اكتفاء الشاهد

ص: 403

في مطهرية المطر للماء بقطرات قليلة، وكان المشهود عنده لا يكتفي بذلك، أو احتمل اعتقاده اتصاله بمادة تبلغ كراً، وهي لا تبلغه في الواقع وهكذا.

وكما لا تكفي الشهادة بالزوجية في ترتيب أثرها، لا تكفي الشهادة بسببها - وهو

وقوع العقد بين الزوجين - إذا احتمل خطؤه في تحقق شروطه، كاختيار الزوجين أو توكيلهما للمباشر في إيقاع العقد... إلى غير ذلك.

كما أن ذلك لو تم لا يختص بالبينة، بل يعم جميع موارد الاعتماد على الخبر، كإخبار صاحب اليد والوكيل وغيرهما، لأن دليل حجية الخبر فيها إنما يقتضي تصديقه فيما أخبر عنه، لا حجية اجتهاده فيه.

وذلك بهذه السعة مستلزم لإلغاء الخبر وعدم حجية الشهادة في موارد كثيرة. ولاسيما أنه كثيراً ما يتجدد احتمال الخطأ عند تعذر السؤال واستكشاف الحال، لغيبة المخبر أو موته أو نحوهما.

ولا مجال للبناء على ذلك بملاحظة المرتكزات و السيرة على العمل بالخبر وإغفال السؤال، بنحو يكشف عن بطلان الشبهة من أصلها.

ولذا قال سيدنا المصنف (قدس سره) في دفعها: «احتمال الخطأ في المستند ملغي بأصالة عدم الخطأ المعول عليها عند العقلاء في مقام العمل بالخبر، كما يشهد به استقرار سيرة العقلاء والمتشرعة على عدم الفحص والسؤال عن مستند الخبر، بينة كان أو خبر واحد، وموضوعاً كان المخبر به أو حكماً».

فالمقام نظير أصالة الصحة في عمل الغير، حيث لا إشكال في البناء عليها ولو مع العلم بالاختلاف في الاجتهاد، فضلاً عن احتماله أو احتمال الغفلة عن الحكم الشرعي.

ودعوى: أنه لا يعول على أصالة عدم الخطأ في الحكم الشرعي الكلي في غير مورد مشروعية التقليد.

ص: 404

(405)وبإخبار ذي اليد (1)

مدفوعة بأنه إنما لا يعول عليها من أجل التعبد بالحكم الشرعي الكلي، لا من أجل التعبد بالحكم الشرعي الجزئي، كما في محل الكلام كطهارة الثوب وزوجية المرأة الخاصين، حيث يتعين البناء على عدم الخطأ فيه لما ذكرنا.

نظير ما سبق من البناء على عدم الخطأ في مورد أصالة الصحة في عمل الغير. ونظير البناء عليه في الموضوعات الخارجية، خصوصاً ما لا يحسّ بنفسه بل بآثاره، كالموت والمرض والتدين وغيرها، حيث يكثر فيها الخطأ، ومع ذلك لا يعتنى به، ولا يعول على احتماله.

وبالجملة: لا مجال للتوقف في قبول الخبر في محل الكلام، بلحاظ ما سبق من المرتكزات والسيرة.

نعم لا يبعد البناء على عدم حجية الخبر في مورد البينة وغيرها فيما إذا خرج المخبر في قطعه عن المتعارف، كالوسواسي، لعدم بناء العقلاء على حجية الخبر فيما إذا لم يكن المخبر ضابطاً بالوجه المتعارف.

وكذا فيما إذا كان الأمر المشهود به حدساً مبنياً على مقدمات خفية، كما في موارد التقويم في القيميات، حيث يتعين الاقتصار في الرجوع فيه للغير على مورد انسداد باب العلم على المشهود عنده، الذي هو الشرط في جواز الرجوع لأهل الخبرة. فلاحظ.

(1) فقد صرح غير واحد بقبول قوله فيما تحت يده من نجاسة أو طهارة أو غيرهما، وفي الحدائق أنه ظاهر الأصحاب، وعن الوحيد أنه لا ينبغي الشك فيه.

نعم اختلفت كلماتهم في تحديد موضوع الحكم، ففي بعضها أنه قول صاحب اليد، وفي الآخر أنه المالك، وفي ثالث أنه صاحب اليد المالك.

لكن لا يبعد رجوع الكل للأول، لأنه هو مورد السيرة الارتكازية التي هي

ص: 405

عمدة الدليل في المقام، حيث لا ريب عندهم في قبول قول صاحب اليد فيما تحت يده.

وربما يستدل عليه ببعض النصوص، كخبر إسماعيل بن عيسى الوارد في شراء جلود الفراء من المسلم غير العارف وفيه: «عليكم أنتم أن تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» ، بدعوى ظهوره في قبول خبر بايع الجلود بالتذكية.

()()1

وكذا ما تضمن النهي عن السؤال عن الجبن إذا أخذ من المسلم. وخبر عبد الله بن بكير: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلاً ثوباً فصلى فيه وهو لا يصلي فيه. قال: لا يعلمه. قال: قلت: فإن أعلمه. قال: يعيد» ، لتصريحه بوجوب الإعادة على تقدير الإعلام، بناء على حمل الإعلام فيه على الإعلام قبل الصلاة عند إعارة الثوب بحيث وقعت الصلاة فيه نسياناً. أما لو حمل على الإعلام بعد الصلاة فالمتعين حمله على الاستحباب.

()()2()()3

لكن خبر إسماعيل - مع الإشكال في سنده - لابد من حمله على السؤال من أجل تحصيل العلم، لا من أجل العمل بالجواب مطلقاً وإن لم يوجب العلم، ليرجع إلى حجية، كما تقدم في ذيل الكلام في حجية يد المسلم على التذكية.

ونصوص الجبن أجنبية عما نحن فيه، لأن احتمال حرمته إنما هو لاحتمال وضع الميتة فيه، وهو مدفوع بالأصل. ولذا تضمن بعض النصوص أنه حلال ما لم تقم البينة على أن فيه الميتة فلابد من حمل ذكر المسلم على بيان تأكد عدم وجوب السؤال معه، لا إناطته له.

()()4

********

ص: 406

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة، وج: 17 باب: 61 من أبواب الأطعمة المباحة.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 47 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 61 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 2.

وخبر ابن بكير - مع ضعفه في نفسه - لو تم حمله على ما سبق فهو ظاهر في بيان الحكم الواقعي للصلاة في النجس جهلاً، المناسب لفرض كون إخبار المالك بالنجاسة موجباً للعلم، لا بيان حكم الصلاة ظاهراً عند إخبار المالك بالنجاسة، ليدل على حجية خبره.

نعم في موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي (عليه السلام): «أنه كان يقول: من يموت وعنده مال مضاربة. قال: إن سماه بعينه قبل موته، فقال: هذا لفلان، فهو له، وإن مات ولم يذكر فهو أسوة الغرماء». وقد تضمن قبول صاحب اليد في تعيين المالك. وربما يستفاد ذلك من غيره مما قد يظهر بالفحص والتتبع.

()()1

لكن ورد أيضاً في وصية المحتضر بالمال ما يظهر منه توقف القبول على كون الموصي ثقة أو غير متهم كما يأتي. فإن بني على الجمع بينهما كان المعيار على الوثاقة، لأنها أخص، وإن بني على العمل بكلٍّ في مورده لم ينفع الموثق ونحوه في إثبات عموم حجية قول صاحب اليد.

()()2

ومثله في ذلك ما تضمن الاكتفاء بخبر البايع في الكيل وفي استبراء الذمة. فإن نصوص تصديق البايع في الكيل قد تضمن جملة منها الاقتصار في تصديقه على الأخذ منه وأنه لا يجوز للمشتري الاكتفاء بذلك إذا أراد بيعه. ونصوص تصديق البايع في الاستبراء قد تضمن جملة منها اعتبار أمانته والوثوق بخبره.

()()3()()4

ومن ثم يصعب استفادة عموم حجية خبر صاحب اليد من النصوص. ولعله إليه يرجع ما عن الذخيرة وشرح الدروس من عدم الوقوف له على دليل. وإلا فقد عرفت نهوض السيرة الارتكازية به، وأنها عمدة الدليل عليه.

********

ص: 407

(1)

وسائل الشيعة ج: 13 باب: 13 من أبواب كتاب المضاربة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 16 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 14.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب بيع الحيوان، وج: 14 باب: 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

إذا لم تقم قرينة على اتهامه (1).

هذا وأما ما قد يدعى من أنه يمكن استفادة الردع عن هذه السيرة من

قوله (عليه السلام) في موثق أو صحيح مسعدة بن صدقة: «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» بدعوى: أن انحصار الأمر بالاستبانة والبينة ينافي حجية قول صاحب اليد.

()()1

لكنه يندفع بأنه لابد من حمله على الحصر الإضافي، أو إلغاء خصوصية البينة فيه والتعدي لكل ما هو حجة يصح الاعتماد عليه، إذ لا ريب في العمل على الاستصحاب الإلزامي، فضلاً عن الإمارات الأخر.

غاية الأمر أن ذكر البينة فيه شاهد بعدم حجية ما هو الأعم منها، كخبر الثقة، للغوية ذكرها لو كان هو حجة. أما غير ذلك مما كان بينه وبين البينة عموم من وجه موردي - كخبر صاحب اليد - فلا مجال لاستفادة عدم حجيته، لينهض الحديث بالردع عن السيرة في المقام.

(1) لم أعثر عاجلاً على من قيد بذلك، بل في الجواهر التصريح بعموم تصديق صاحب اليد في النجاسة لما إذا كان فاسقاً، حاكياً ذلك عن جماعة. وقد استدل سيدنا المصنف (قدس سره) على ذلك بصحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج، ويقول: قد طبخ على الثلث، وأنا أعرف أنه يشربه على النصف، أفأشربه بقوله، وهو يشربه على النصف؟ فقال: لا تشربه. قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث، ولا يستحله على النصف، يخبرنا أن عنده بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال: نعم».

()()2

قال (قدس سره): «ولعله محمل صحيح معاوية بن وهب: عن البختج فقال: إذا كان

********

ص: 408

(1)

وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

حلواً يخضب الإناء، وقال صاحبه: قد ذهب ثلثاه وبقي الثلث، فاشربه. فإن كونه يخضب الإناء أمارة على عدم ذهاب الثلثين».

()()1

كما يستدل عليه بخبر العلاء بياع السابري: «سألت أبا عبد الله عن امرأة استودعت رجلاً مالاً، فلما حضرها الموت قالت له: أن المال الذي دفعته إليك لفلانة، وماتت المرأة فأتى أولياؤها الرجل فقالوا: إنه كان لصاحبتنا مال، ولا نراه إلا عندك فاحلف لنا ما لها قبلك شيء، أفيحلف لهم؟ فقال: إن كانت مأمونة عنده فليحلف لهم، وإن كانت متهمة فلا يحلف، ويضع الأمر على ما كان، فإنما لها من مالها ثلثه».

()()2

لكن الاستحلال على النصف الذي تضمنه صحيح معاوية ابن عمار لا يوجب التهمة في الأخبار بذهاب الثلثين، حيث لا يبعد ممن لا يرى ثبوت الحكم في موضع خاص أن يصدق في إخباره بنفي ذلك الموضوع، فالحكم المذكور لو تم تعبدي محض.

وأما صحيح معاوية بن وهب فهو وإن تضمن اعتبار الأمرين من خضب الإناء وخبر صاحب اليد، إلا أن من القريب حمله على حجية خضب الإناء وحده، لا أنه شرط في حجية خبر صاحب اليد، كما هو مقتضى الجمع بينه وبين صحيح عمر بن

يزيد: «قال أبو عبد الله (عليه السلام) إذا كان يخضب الإناء فاشربه» ، ويكون ذكر قول صاحب اليد فيه، إما للتأكيد، أو لدفع فرض التعارض بين الحجتين.

()()3

هذا وأما ما تضمن اعتبار كون صاحب اليد في العصير مسلماً ورعاً عارفاً ، فلابد من حمله على الاستحباب، جمعاً مع صحيح معاوية بن عمار.

()()4

وأما خبر العلاء بياع السابري فالمقابلة فيه بين الأمانة والاتهام قد يناسب حمل

********

ص: 409

(1)

وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 16 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 6، 7.

وإذا شك في نجاسة ما علم طهارته سابقاً يبنى على طهارته (1).

الاتهام فيه على ما يقابل الامانة، لا على مقارنة الخبر لما يثير الريب والتهمة الذي هو محل الكلام. وحينئذ يقتصر فيه على مورده، حيث يظهر من النصوص خصوصية الوصية في أمثال ذلك. ومن ثم يشكل استفادة الشرط المذكور من النصوص.

نعم الظاهر قصور السيرة الارتكازية التي سبق أنها عمدة الدليل على حجية قول صاحب اليد عن صورة التهمة بالوجه المذكور، كما لو لم يعهد من صاحب اليد الثقة وكان الأمر الذي يخبر به يجرّ نفعاً له، أو كان الأمر الذي أخبر به مستبعداً في نفسه لخصوصية المورد أو نحو ذلك.

(1) بلا إشكال ظاهر. للاستصحاب، بل هو متيقن من بعض نصوصه.

ص: 410

خاتمة

(411)يحرم استعمال أواني الذهب والفضة (1)

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعى عليه الإجماع في التذكرة والمنتهى والذكرى ومحكي التحرير وغيره. وفي الجواهر: «إجماعاً منا، بل وعن كل من يحفظ عنه العلم... محصلاً ومنقولاً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً».

لكن في المسألة الخامسة عشرة من كتاب الطهارة من الخلاف: «يكره استعمال أواني الذهب والفضة وكذا المفضض، وقال الشافعي: لا يجوز استعمال أواني الذهب والفضة وبه قال أبو حنيفة... وقال الشافعي: يكره المفضض، وقال أبو حنيفة لا يكره، وبه قال داود. دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضاً روى الحلبي...» ثم ذكر نصوص النهي عن أواني الذهب والفضة والمفضض.

وقد حمل الكراهة في كلامه على الحرمة في المعتبر والمختلف والذكرى. وفي كشف اللثام: «وهو بعيد عن عبارته». وكأنه لمقابلته بحكاية عدم الجواز عن العامة. لكن الظاهر أن المقابلة مع العامة ليس في ذلك، بل في حكم المفضض، حيث حكى عن بعضهم عدم كراهته.

ولذا كان استدلاله مناسباً للتحريم أو للأعم منه ومن الكراهة، لاقتصاره على نصوص النهي من دون تنبيه لما يوجب حملها على الكراهة.

هذا مع تصريحه بالتحريم في المبسوط والنهاية، وفي المسألة الثالثة بعد المائة من

ص: 411

كتاب الزكاة من الخلاف أيضاً. ومن ثم كان حمل الكراهة في كلامه على التحريم قريباً جداً.

وكيف كان فالنصوص الواردة في المقام على طوائف:

الأولى: ما تضمن النهي عن الأواني المذكورة، أو عن الأكل أو الشرب فيها. كصحيح الحلبي المذكور في الخلاف: «قال: لا تأكل في آنية من فضة ولا في آنية مفضضة» ، وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: لا تأكل في آنية ذهب ولا فضة» ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام): «أنه نهى عن آنية الذهب والفضة» ، وموثق مسعدة بن صدقة أو صحيحه عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): «أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نهاهم عن سبع، منها الشرب في آنية الذهب والفضة» ، وغيرها.

()()1()()2()()3()()4

الثانية: ما تضمن كراهة الأواني المذكورة، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«أنه كره آنية الذهب والفضة والآنية المفضضه» ، وصحيح ابن بزيع: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن آنية الذهب والفضة فكرههما» وغيرهما.

()()5()()6

الثالثة: ما تضمن التعبير بأنه لا ينبغي، وهو موثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: لا ينبغي الشرب في آنية الذهب والفضة».

()()7

الرابعة: موثق موسى بن بكر عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): «قال: آنية الذهب والفضة متاع الذين لا يوقنون» ، ونحوه مرسل الصدوق عن النبي ومعتبر الجعفريات ونوادر الراوندي. وهناك مضامين أخر لا مجال للاستدلال بها لضعف سندها.

()()8()()9()()10

ولا ريب في ظهور الطائفة الأولى في التحريم، وفي أن مفاد الرابعة أعم

********

ص: 412

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 66 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 7، 3، 11، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 7، 3، 11، 10.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 7، 3، 11، 10.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 7، 3، 11، 10.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 1، 5، 4، 8.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 1، 5، 4، 8.

(8) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 1، 5، 4، 8.

(9) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 1، 5، 4، 8.

(10) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 1.

في الأكل والشرب (1) والطهارة من الحدث والخبث وغيرها من أنواع الاستعمال (2)،

من التحريم، أو أقرب إليه، على ما يأتي توضيحه عند الكلام في تحديد الاستعمال المحرم.

وأما الثانية والثالثة فربما يدعى ظهورهما في الكراهة، وخصوصاً الثالثة، فقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن حملها على التحريم بعيد، وأن حمل الطائفة الأولى على الكراهة أقرب منه. قال: «ولذا كان المحكي عن المجمع - من أنه لولا الإجماع لكان القول بالكراهة حسناً. انتهى - في محله».

لكنه غير ظاهر، بل التعبير المذكور إنما يدل على عدم كون الشيء مناسباً، وهو إن لم يكن مناسباً للحرمة فلا أقل من كونه أعم منها. وأظهر من ذلك الكراهة في الطائفة الثانية، فإنها لغة ضد المحبة، وهي بالحرمة أنسب. وإرادة عدم الإلزام منها اصطلاح متأخر لا مجال لحمل النصوص عليه.

ومن ثم كان الظاهر وفاء النصوص بالتحريم. مضافاً إلى ما عرفت من الإجماع وظهور التسالم على الحكم الذي يبعد الخطأ فيه بعد شيوع الابتلاء بالمسألة.

(1) كما هو المتيقن من النص والفتوى، فقد اقتصر عليه في المقنعة والنهاية والمراسم، بل اقتصر على الشرب في المقنع. وقد يحمل على التمثيل، أو على أن محل كلامهم هو الأكل والشرب، لأنهم تعرضوا له في مبحث الأطعمة والأشربة.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، وفي الجواهر: «لا أجد فيه خلافاً». بل نفى الخلاف فيه الحدائق وكشف الرموز، وادعى الإجماع عليه في التذكرة وظاهر المنتهى ومحكي التحرير أيضاً. كما هو المناسب لما سبق من الخلاف. وهو يبتني على حمل كلام من سبق منه الاقتصار على الأكل والشرب على عدم الحصر، كما تقدم.

وكيف كان فيقتضيه إطلاق ما تضمن من النصوص النهي عن آنية الذهب

ص: 413

والفضة. وقد تقدم بعضها. فإن النهي الوارد على الأعيان بعد تعذر معناه الحقيقي - لعدم تعلق النهي بالأعيان - إما أن يحمل على النهي عن إيجادها، نظير النهي عن الصورة، أو على النهي عن استعمالها.

والأول وإن كان هو الأنسب بحذف المتعلق، لأن وجود الشيء أسبق رتبة من استعماله، خصوصاً مع ما تضمنته بعض النصوص من التعبير بالكراهة. إلا أن الأعيان إذا لم تكن مطلوبة لنفسها كالصورة، بل لاستعمالها والانتفاع بها - كالإناء والفراش واللباس - كان الأقرب حمل النهي على النهي عن الاستعمال والانتفاع المناسب له. ولاسيما مع التصريح في جملة من النصوص بالنهي عن الأكل والشرب، حيث يقرب جداً تنزيله على كونه من صغريات النهي عن الأعيان، لا أجنبياً عنه.

بل لو فرض حمل الإطلاق على النهي عن إيجاد الأواني، فظهور كون الغرض من الأواني هو الاستعمال ينهض بالقرينية على كون النهي عن الإيجاد من أجل حرمة الاستعمال، منعاً لمادة الفساد، نظير حرمة صنع آلات العبادة المحرمة، المتفرعة على حرمة تلك العبادة.

وعلى هذا يتعين البناء على العموم لجميع الاستعمالات المناسبة، كالوضوء والغُسل والغَسل والعجن ونحوها، عملاً بإطلاق النهي. ولا ينافيه الاقتصار في جملة من النصوص على الأكل والشرب بعد عدم ظهورها في الحصر.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن إطلاق النهي ينصرف للاستعمال الظاهر من الإناء الذي يعدّ له، وهو خصوص الأكل والشرب، فيكون الإطلاق المذكور مطابقاً لنصوص النهي عن الأكل والشرب.

فيندفع بأن ما يعدّ له الإناء عرفاً ليس هو خصوص الأكل والشرب، بل لا إشكال في عمومه لمثل الوضوء والغسل والعجن ونحوها، فإنها من الاستعمالات التي تشيع الحاجة إليها، وتؤدى بالإناء، من قديم الزمان وحين صدور النصوص، فلا وجه مع ذلك لانصرافها لخصوص الأكل والشرب.

ص: 414

ومثله في الإشكال ما ذكره (قدس سره) من قصور موثق موسى بن بكر المتقدم ونحوه مما تضمن أن أواني الذهب والفضة متاع الذين لا يوقنون عن غير الأكل والشرب، لدعوى: أن المتاع هو الذي يتمتع به، والتمتع في كل شيء بحسبه، وبالإناء إنما يكون بالأكل والشرب به.

لإندفاعه بأن ذلك لا يناسب شيوع استعمال الإناء في الوجوه الأخرى، وكونها مما يطلب منه نوعاً.

نعم قد يشكل الاستدلال بما تضمن ذلك تارة: بعدم ظهوره في الحرمة، كما سبق، لعدم وضوح دليل على حرمة التمتع بمتاعهم. غاية الأمر أنه ليس من شأن المؤمن ذلك، وهو أعم من الحرمة. وأخرى: بأن مفاده مبغوضية جعل أواني الذهب والفضة متاعاً وأثاثاً بإعدادها للانتفاع، لا مبغوضية التمتع بها واستعمالها فعلاً.

اللهم إلا أن يدفع الأول بأن صلوح مفاد الموثق للكراهة والحرمة في نفسه لا ينافي في حمله على الحرمة بقرينة نصوص النهي والإجماع على الحرمة، حيث يبعد جداً اختلاف موضوعه عن موضوعها، بل المستفاد عرفاً كونه شارحاً لها، ومبيناً لموضوعها، كما أنها شارحة للحكم فيه ومبينة له.

على أن من القريب جداً سوق المضمون المذكور للتنفير عن الأواني المذكورة رأساً، لبيان أن من يتخذها ليس من الموقنين والمؤمنين، لا بضميمة النهي عن التشبه بهم ليدعى عدم الدليل على عموم حرمة التشبه بهم والتمتع بمتاعهم. فتأمل جيداً.

ويندفع الثاني بأن المناسبات الارتكازية قاضية بأن مبغوضية جعل الأواني المذكورة متاعاً، وإعدادها للانتفاع، إنما هي لمبغوضية الانتفاع الفعلي بها باستعمالها فيما تعد له. وبعبارة أخرى: المستفاد عرفاً كون النهي عن اتخاذها متاعاً للكناية عن النهي عن فعلية الانتفاع بها. ومن ثم كان من القريب نهوض الموثق بالاستدلال على العموم المدعى، وكونه عاضداً لإطلاق النهي عن الأواني المذكورة الذي تضمنته النصوص الأول.

ص: 415

(416)ولا يحرم نفس المأكول والمشروب (1).

(1) قطعاً، وفاقاً للأكثر، كما في الجواهر، وفي المبسوط: «ومن أكل أو شرب في آنية ذهب أو فضة، فإنه يكون قد فعل محرماً، ولا يكون قد أكل محرماً إذا كان المأكول مباحاً، لأن النهي عن الأكل فيه لا يتعدى إلى المأكول»، ونحوه في المعتبر، وقريب منه في المهذب والذكرى.

وفي السرائر عن المفيد (قدس سره) في بعض كلامه الحكم بحرمة المأكول والمشروب، وفي الذكرى: «ويلوح من كلام أبي الصلاح». كما ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه نسب للسيد الطباطبائي (قدس سره).

وكيف كان فمن الظاهر - كما ذكره غير واحد - أنه بعد عدم تعلق الحرمة بالأعيان فلا يراد بحرمة المأكول إلا حرمة أكله. غايته أن حرمة أكل الشيء أو شربه تارة: تكون ذاتية بالعنوان الأولي، كحرمة أكل الميتة وشرب الخمر. وأخرى: تكون عرضية وبالعنوان الثانوي، كحرمة أكل المغصوب والمضر وشربهما.

وحينئذ قد يقال: إن كان المراد بحرمة المأكول والمشروب حرمتهما ذاتاً فلا ريب في بطلانه، بل لا يظن بأحد البناء على ذلك، وإن كان المراد حرمتهما عرضاً فلا ينبغي الإشكال فيه بعد دلالة النصوص عليه، بل كونه المتيقن منها.

قال سيدنا المصنف (قدس سره) بعد ذكر وجهي الحرمة المتقدمين: «والحرمة في المقام من قبيل الثاني، كما هو ظاهر. وقد يوهم كلام المفيد أنه من الأول. ولكنه غير مراد له قطعاً». ومن ثم قد يدعى أن النزاع في المقام لفظي، ولا يترتب عليه أثر عملي.

لكن الذي يظهر بملاحظة كلماتهم أن هنا كلاماً آخر، وهو أن تحريم الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة هل يرجع إلى تحريم الازدراد الذي يتحقق به الأكل والشرب، والذي هو متأخر عن تناول الطعام من الإناء، أو إلى حرمة تناول الطعام والشراب من الإناء للأكل والشرب الذي يتحقق به استعمال الإناء والانتفاع به، من

ص: 416

دون أن يحرم الازدراد والأكل والشرب المترتبين على ذلك.

وعلى الأول يتعين حرمة المأكول والمشروب التي سبق أنه لا يراد بهما إلا حرمة أكله وشربه، غايته أنه بعنوان ثانوي متقوم بإضافة الأكل للإناء الخاص، نظير حرمة أكل المغصوب وشربه، الثابتة بعنوان ثانوي منتزع من نحو إضافة المأكول والمشروب للمغصوب منه ومقارنة الأكل والشرب لعدم طيبة نفسه.

ولعله إليه يرجع ما سبق عن المفيد (قدس سره) وغيره، وفي الحدائق أنه يمكن توجيهه به، بل حاول حمل النصوص عليه وتقريبه في نفسه. وهو الذي أصرّ عليه سيدنا المصنف (قدس سره) وجرى عليه غيره.

وعلى الثاني يتعين عدم حرمة المأكول والمشروب، بل حرمة تناولهما من الإناء لا غير، نظير حرمة الأكل والشرب من الإناء المغصوب التي لا يراد بها إلا حرمة التصرف في الإناء بالأكل والشرب منه، من دون أن يحرم الأكل والشرب المترتبان على ذلك. ولعله إليه يرجع ما تقدم من المبسوط والمعتبر، وفي الحدائق أنه المفهوم من كلام جملة منهم، بل نسبه في الجواهر لظاهر الأصحاب.

هذا والظاهر أن ما تضمن من النصوص النهي عن أواني الذهب والفضة، وأنها متاع الذين لا يوقنون، لا ينهض بإثبات حرمة الأكل والشرب المتأخرين عن تناول المأكول والمشروب، لخروجهما عن الاستعمال المتعلق بالإناء، بل يختص استعمال الإناء والانتفاع الظاهر منه إما بوضع المأكول والمشروب وغيرهما في الإناء فقط، وإما بالأعم منه ومن تناولها منه، كما هو الأظهر، المطابق للمرتكزات العرفية، دون ما يترتب على ذلك من وجوه الاستعمال كالأكل والشرب والغسل وغيرها. ولذا كان المشهور عدم بطلان الوضوء والغسل من إناء الذهب والفضة.

وأما ما في الجواهر من عموم الاستعمال الذي يعدّ له الإناء عرفاً لهما لسائر ما يترتب على التناول من الوضوء والغسل وغيرهما، حتى أنه قرب بطلان الوضوء والغسل من الآنية المذكورة، وفاقاً للسيد الطباطبائي وكشف الغطاء. فهو ممنوع، بل

ص: 417

غريب جداً مع وضوح عدم تعلق ذلك بالإناء بوجه.

وأما ما تضمن من النصوص النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، فإن استفيد منه النهي عنهما بما أنهما استعمال للإناء وانتفاع به، فهو راجع لمفاد النصوص الأول، ومن صغرياته، وإن استفيد منه النهي عنهما بعنوانهما، وبما انهما أكل وشرب مترتبين على تناول الطعام والشراب من الإناء المذكور رجع ذلك إلى الوجه الأول الذي سبق أن مقتضاه حرمة المأكول والمشروب بالعنوان الثانوي.

وقد أصرّ سيدنا المصنف (قدس سره) على الثاني، وسبقه إليه في الحدائق في توجيه ما سبق عن المفيد (قدس سره). وكأنه للجمود على أخذ عنوان الأكل والشرب متعلقاًً للنهي في هذه الطائفة، حيث يستفاد منه حرمة الأكل والشرب المقيدين بالخصوصية المذكورة.

ومن ثم ذهب إلى اختلاف الأكل والشرب عن غيرهما من أنحاء الاستعمال، فالمحرم في سائر الاستعمالات هو وضع الشيء في الإناء وتناوله منه دون ما يترتب عليه من استعمالاته، كالغسل والتدهين ونحوهما. أما في الأكل والشرب فالمحرم أمران تناول المطعوم والمشروب من الإناء للطائفة الأولى من النصوص، والأكل والمشرب المترتبين على ذلك للطائفة الثانية منها. والى ذلك جنح صاحب الحدائق.

أما صاحب الجواهر فقد زاد على ذلك، ولم يخص الأمر بالأكل والشرب، بل جعل ظهور نصوص النهي عن الأكل والشرب في عموم التحريم للأكل والشرب، المترتبين على تناول الطعام والشراب من الإناء، قرينة مؤكدة لما سبق منه من عموم استعمال الإناء - المستفاد تحريمه من نصوص النهي عن أواني الذهب والفضة - للتصرف المترتب على تناول الشيء من الإناء والمتأخر عنه، فهو قد أرجع النصوص بعضها إلى بعض، ولم يفرق بين الطائفتين في عموم المفاد وخصوصه، بل حكم بعمومها معاً.

أقول: إرجاع النصوص بعضها إلى بعض وجعل إحدى الطائفتين قرينة الآخر

ص: 418

هو الأنسب في المقام، لبعد التفكيك بينها جداً، بعد ورودها في مساق واحد للتنفير عن أواني الذهب والفضة. كما أنه حيث سبق ظهور نصوص النهي عن الأواني المذكورة في حرمة استعمالها بوضع الشيء فيها وتناوله منها، دون ما يترتب على ذلك من الاستعمالات، فالظاهر عدم نهوض نصوص النهي عن الأكل والشرب في الأواني المذكورة بتحريم ما زاد على ذلك. لأن النهي فيها وإن كان عن الأكل والشرب، إلا أنه ينصرف إلى النهي عن القيد، وبالنهي عن منشأ انتزاعه، وهو تناول المأكول والمشروب من الإناء مقدمة للأكل والشرب، نظير النهي عن الأكل والشرب في الآنية المغصوبة.

ونظير ما لو قيل: لا تزر الإمام الحسين عن طريق بغداد، أو راكباً على حمار، حيث يستفاد منه عرفاً مبغوضية سلوك الطريق المذكور، أو ركوب الحمار، مقدمة للزيارة، لا مبغوضية الزيارة المترتبة على ذلك.

ونظير ما لو قيل: لا تذهب للنجف الأشرف لزيارة زيد، حيث يستفاد منه عرفاً مبغوضية الغاية، وهي الزيارة، لا مبغوضية الذهاب للنجف الأشرف مقدمة للزيارة، الذي هو سابق عليها.

ولذا يصعب جداً البناء على حرمة الأكل والشرب والزيارة لو حصلت التوبة بعد تناول الطعام والشراب من الإناء وبعد الوصول لحرم الإمام الحسين (عليه السلام). وقد صرح في الذكرى بجواز الأكل بعد التوبة.

بخلاف ما لو حصلت التوبة بعد دخول النجف قبل زيارة زيد، حيث يصعب البناء على جواز زيارة زيد، لدعوى: أن المحرم قد حصل - وهو دخول النجف مقدمة للزيارة - من دون أن تحرم الزيارة. غاية الأمر أنها توجب كون الدخول للنجف الذي قد حصل قد وقع على الوجه الحرام، ولا ضير في ذلك، لأن المعصية إنما هي بفعل الحرام، لا بفعل ما يوجب كون ما وقع حراماً. فإن ذلك كله يحتاج إلى عناية خاصة في البيان لا يقتضيها الإطلاق.

ص: 419

ولاسيما بعد اعتضاد ذلك بنصوص النهي عن آنية الذهب والفضة، التي عرفت ظهورها في اقتصار الحرمة على استعمال الإناء غير الشامل للتصرف المترتب على تناول المأكول والمشروب منه، كما عرفت صعوبة التفكيك بين الطائفتين في المفاد.

ونظيره في الأمثلة المتقدمة ما لو ورد أيضاً إطلاق النهي عن سلوك طريق بغداد، أو ركوب الحمار في السفر، أو زيارة زيد. حيث لا يتوقف العرف في أن النهي عن زيارة الحسين (عليه السلام) أو عن دخول النجف الأشرف بالوجه المتقدم من صغريات الإطلاق المذكور.

هذا وقد يدعى منافاة ذلك النبوي المروي في الخلاف: «من شرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ، ونحوه عن المجازات النبوية وعوالي اللآلي. لظهوره في حرمة نفس المشروب، وأنه يغلي ويصوت في الجوف كصوت النار.

()()1()()2

لكنه - مع إرساله - إنما يقتضي كون ذلك عقوبة الشارب في آنية الفضة، من دون أن يتضمن تحديد المحرم الذي هو منشأ استحقاق العقاب المذكور، وأنه تناول الشراب من الإناء أو شربه بعد تناوله أو هما معاً.

ومن هنا كان ما تقدم من المبسوط والمعتبر والذكرى من عدم حرمة المأكول والمشروب هو الأقوى والأنسب بمفاد النصوص. ومرجعه إلى أن تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة كتحريم الأكل والشرب في الإناء المغصوب، لا كتحريم أكل وشرب الطعام والشراب المغصوبين.

ثم أن الأثر للنزاع المذكور يظهر في الإفطار في نهار شهر رمضان بالأكل والشرب من آنية الذهب والفضة، حيث إنه بناء على حرمة المأكول والمشروب يتعين ثبوت كفارة الجمع، بناء على ما هو الظاهر من عموم الحرام للحرام بالعنوان الثانوي.

********

ص: 420

(1)

الخلاف ج: 2 ص: 90 المسألة: 104.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 4، 7.

(421)والأحوط استحباباً عدم التزيين بها (1).

أما بناء على عدم حرمتهما فلا تثبت الكفارة المذكورة.

(1) فقد يدعى تحريمه، لأنه نحو من الاستعمال، كما قد يظهر من الجواهر، قال: «كما يشهد لذلك استثناء بعضهم أو شبهه اتخاذها للمشاهد والمساجد من حرمة الاستعمال».

لكنه في حيز المنع أولاً: لعدم وضوح صدق الاستعمال بذلك، لظهور أن الاستعمال مشتق من العمل بها، وليس وضعها للتزيين عملاً بها، بل تعطيلاً لها. ومن ثم كان ظاهر القواعد وجامع المقاصد أو صريحهما خروجه عن الاستعمال.

وثانياً: لأن المحرم ليس مطلق الاستعمال، حتى مثل تثقيلها للأوراق، أو جعلها حاجزاً دون انفتاح الباب، أو حفر الأرض بها، بل هو العمل الذي يعد الإناء له عرفاً، وليس منه التزيين.

ومثله ما قد يدعى من أنه مقتضى إطلاق ما تضمن النهي عن اتخاذها متاعاً، كموثق موسى بن بكر وغيره. لاندفاعه بأن المتاع هو الأمر الذي يتمتع به وينتفع باستعماله، نظير الأثاث، ولا يشمل التزيين، كما يناسبه قوله تعالى: "ابتغاء حلية أو متاع".

()()1

هذا ويظهر من القواعد ونهاية الأحكام وجامع المقاصد والروض ابتناء حرمة التزيين على تحريم الاقتناء لغير الاستعمال الذي يأتي الكلام فيه.

كما أنه بناء على حرمة التزيين بها فلا يفرق فيه بين المساجد والمشاهد وغيرها، كما في مجمع البرهان. لعموم الأدلة التي سيقت له.

ودعوى: قيام السيرة على تزيين المساجد والمشاهد، وأن فيه تعظيماً لشعائر الله تعالى.

********

ص: 421

(1)

سورة الرعد، الآية: 17.

(422)وكذا اقتناؤها (1)

ممنوعة. فإن السيرة إنما هي على وضع قناديل الذهب والفضة، وفي صدق الإناء عليها إشكال أو منع، كما يأتي. مضافاً إلى ما في الجواهر من حدوث السيرة المذكورة.

وتعظيم شعائر الله تعالى لما كان مستحباً فالاستحباب لا يزاحم الحرمة مع الانحصار، فضلاً عن عدمه. وقد يرجع إلى ذلك ما في الجواهر من استغناء تعظيم شعائر الله تعالى بمحللاته عن محرماته.

(1) فقد منع منه في المبسوط والمعتبر والقواعد ونهاية الأحكام وجامع المقاصد والروض وعن غيرها، وفي المدارك والحدائق وعن الكفاية أنه المشهور، وعن مجمع البرهان أنه مذهب الأكثر، وفي الجواهر: «وفاقاً للمشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً، بل لا أجد فيه خلافاً إلا من مختلف الفاضل، واستحسنه بعض متأخري المتأخرين. بل قد يظهر منه نفسه أنه لا خلاف عندنا في المسألة، بل هو مخصوص بالشافعي أو أحد قوليه».

وكيف كان فقد يستدل عليه تارة: بأنه مقتضى إطلاق النهي عنها في النصوص كما في المعتبر وظاهر نهاية الأحكام، حيث يتعين حمله على أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة، ولا ريب أن مطلق الاتخاذ أقرب من الاستعمال، لأعميته منه، كما في الجواهر، أو لشمول إطلاق النهي للاتخاذ والاستعمال، كما في الحدائق.

وأخرى: بأن مقتضى النهي كراهة وجودها في الخارج المقتضي لمبغوضية إحداثها وإبقائها. بل يظهر لمن يسبر النصوص إن لم يقطع به أن مراد الشارع هو النهي عن وجودها، كما في الجواهر.

وثالثة: بأنه مقتضى إطلاق ما تضمن أنها متاع الذين لا يوقنون، كما في المعتبر أيضاً. وفي الذكرى أن فيه إيماء لذلك.

ص: 422

ورابعة: بأنه مقتضى التعليل في النبوي بأنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة.

()()1

وخامسة: بأن حرمة استعمالها تستلزم حرمة اقتنائها على هيئة الاستعمال كالطنبور، كما في المنتهى ونهاية الأحكام.

وسادسة: بأن فيه تعطيلاً للمال، فيكون سرفاً، لعدم الانتفاع به، كما في المعتبر أيضاً. وفي الذكرى: «لما فيه من السرف وتعطيل الإنفاق».

وسابعة: بأنه تضييع للمال المنهي عنه، كما في المبسوط.

لكن الكل لا ينهض بالاستدلال. لاندفاع الأولين بما سبق من ظهور إطلاق النهي في النهي عن الاستعمال الظاهر الذي يعد له الإناء عرفاً. ومثله الثالث كما يظهر مما تقدم في التزيين.

وكذا الرابع. ولاسيما مع وروده تعليلاً للنهي عن الشرب بآنية الذهب والفضة ولبس الحرير والديباج، مع وضوح عدم حرمة اقتناء الحرير والديباج من دون لبس. على أنه لم يرو مسنداً من طرقنا.

والخامس بمنع الملازمة، ومنع القياس والمقيس عليه.

والسادس بأن تعطيل المال ليس سرفاً ولا محرماً، إذ لا إشكال في جواز تعطيل الدراهم والدنانير وإن وجبت الزكاة فيها. وليس السرف إلا الإجحاف بالمال وإفساده بإتلافه وإنفاقه في الوجوه غير العقلائية، كما تقدم بعض الكلام فيه في تعداد الكبائر من مباحث الاجتهاد والتقليد.

ومنه يظهر وهن ما في نهاية الأحكام من أن تعطيل المال لا يناسب إتلافه المنهي عنه. إذ لا موقع للاستدلال المذكور مع العلم بعدم حرمة تعطيل المال. مع أنه بالقياس الظني أشبه.

والسابع بمنع الصغرى، فإن تضييع المال - لو حرم على إطلاقه - إنما يكون

********

ص: 423

(1)

مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 8، وكنز العمال ج: 8 ص: 16 رقم: 362.

وبيعها وشراؤها وصياغتها وأخذ الأجرة عليها (1).

بالتفريط والسرف فيه، لا بتعطيله واقتنائه من دون انتفاع به فيما يعدّ له.

وأما ما في الجواهر من انجبار ضعف الوجوه المستدل بها بالشهرة المتقدمة. فهو كما ترى! إذ غاية ما يمكن دعواه في أمثال المقام أن الشهرة قد تبتني على فهم الأصحاب الحكم من النصوص بسبب إطلاعهم على ما يتمم دلالتها من القرائن وإن خفيت علينا، ولا مجال لذلك في المقام بعد استدلال الشيخ في المبسوط الذي هو أول من حكي عنه التصريح بالحكم بما تقدم مما هو أجنبي عن مفاد النصوص. ومن ثم لا مخرج عن مقتضى الأصل وهو الحل، كما ذهب إليه في المختلف واستحسنه في المدارك وغيرها.

(1) هذا كله مبني على حرمة اقتنائها مطلقاً الذي عرفت المنع منه.

نعم إذا انحصر الغرض الظاهر من هيئتها بالحرام، وهو الاستعمال المعهود

- نظير انحصار الغرض الظاهر من آلات القمار باللعب بها - أشكلت صياغتها.

بل يحرم بيعها وشراؤها إذا كان لهيئتها دخل فيهما. كما يحرم ثمنها وأخذ الأجرة على صياغتها. ولعله عليه يبتني ما في الذكرى من عدم ضمان كاسرها الأرش، لأنه لا حرمة لها.

لكن ذلك قد يتم في العهود السابقة، ولذا سبق انصراف إطلاق النهي لغير التزيين، أما في عصورنا فبعد ظهور فائدة التزيين - المحللة يتعين جواز صياغتها وأخذ الأجرة عليها وبيعها وشرائها، وحرمة هيئتها، بحيث تكون مضمونة. إلا فيما لا يصلح للتزيين منها.

ودعوى: أنه إذا صار التزيين من فوائدها الظاهرة المطلوبة منها عرفاً دخل في إطلاق النهي عنها، فيحرم الآن، وإن لم يحرم سابقاً.

مدفوعة بأن إطلاق النهي إنما ينصرف للمنافع الظاهرة حين صدوره، دون

ص: 424

(425)والأقوى الجواز في جميعها (1).

(مسألة 43): الظاهر توقف صدق الآنية (2) على انفصال المظروف

المنافع المتجددة بعد ذلك، لأن ظهور المنفعة من سنخ القرينة المحيطة بالكلام الصالحة لبيان أن المراد منه تلك المنفعة، وهي تختص بما هو حاصل حين صدور الكلام. نعم لو كان ظهور المنفعة موضوعاً للخطاب بنحو القضية الحقيقية، كما لو قيل: تحرم كل منفعة للإناء تكون هي الظاهرة والمطلوبة منه عرفاً. اتجه تحريم المنفعة التي يتجدد ظهورها، وتحليل المنفعة التي كانت ظاهرة حين صدور الكلام إذا هجرت بعد ذلك، بحيث صارت لا تعد من منافع الإناء عرفاً.

(1) كما يظهر مما سبق عند التعرض لكل منها.

(2) لا يخفى أن لفظ الإناء والآنية والأواني لا تستعمل في العرف العام في زماننا، وإنما قد تستعمل في أعراف الخاصة ممن لهم صبغة ثقافة وإطلاع على استعمال أهل اللغة والعرف السابق. وهم يستعملونها فيما يناسب المعنى الذي يراد من (الماعون) عند العامة وما يلحق به عندهم، كالكأس بحيث يتقاربان مفهوماً ومصداقاً. وذلك إن لم يكف في معرفة مفهوم الإناء وحدوده فلا أقل من كونه المتيقن منه، بحيث يشك في صدق الإناء في غير مورده، فيكون المرجع فيه البراءة.

كما أن الإناء بهذا المعنى يختص بما من شأنه أن يكون ظرفاً للمأكول والمشروب، دون ما يختص بغيرهما، فهو من شؤون الأكل والشرب.

وأما الرجوع للغويين في تحديد الإناء فلا مجال له، لعدم ثبوت حجية قولهم كما حققناه في محله من الأصول، ولأنهم في المقام بين من أهمل تعريفه، لظهور معناه عرفاً، وبين من فسره بالوعاء. مع العلم بأنه من التفسير بالأعم، إذ لا ريب في صدق الوعاء على مثل القربة والصندوق والسفط وغيرها مما لا يصدق عليه الإناء.

لكن يظهر من الجواهر لزوم العمل على التفسير المذكور، واجتناب الوعاء على

ص: 425

عمومه، إلا في مورد يعلم بعدم صدق الإناء عليه.

وهو غير ظاهر الوجه، إذ بعد ثبوت خطأ التفسير المذكور، ولو في خصوص بعض الموارد، لا وجه لحجيته في مورد الشك. وليس هو من سنخ العام الحجة في غير مورد ثبوت التخصيص.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من لزوم الرجوع في تحديده إلى صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة فضة؟ قال: نعم، إنما يكره استعمال ما يشرب به». بدعوى: أن مقتضاه اختصاص الإناء بما يكون قابلاً لأن يشرب به.

()()1

لاندفاعه - مضافاً إلى أن مقتضاه بيان موضوع الحرمة، لا شرح مفهوم الإناء وتحديده الذي هو مورد الكلام - بأن مقتضاه الاقتصار في الإناء الذي يحرم استعماله على مثل الكوز الصغير الذي يشرب به بلا واسطة، دون ما يشرب منه بالواسطة، فضلاً عما يؤكل منه مطلقاً. لظهور الباء فيه في الآلة والاستعانة، ومن المقطوع به عدم اختصاص الإناء بذلك مفهوماً ولا مصداقاً. كما لا يختص موضوع الحرمة به.

وهل يمكن حمل أدلة النهي عن الأكل في آنية الذهب والفضة على خصوص الأكل في الإناء المذكور، من دون أن يحرم الأكل في الأواني المعدة للمأكول، كالصحون المنبسطة؟!.

على أن الصحيح وإن لم ينص فيه على جهة الاستعمال المحرم، إلا أن توصيف متعلق الاستعمال فيه بأنه يشرب به ظاهر في أن الاستعمال المحرم هو الشرب فقط، وذلك لا يجتمع مع نصوص النهي عن الأكل في إناء الذهب والفضة.

ومن هنا يتعين حمل الصحيح على الإشارة لموضوع التحريم إجمالاً، من دون تحديد له. فلا ينهض بشرح موضوع التحريم، فضلاً عن مفهوم الإناء.

********

ص: 426

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 67 من أبواب النجاسات حديث: 5.

عن الظرف (1) وكونها معدة لأن يحرز فيها المأكول أو المشروب أو نحوهما فرأس (الغرشة) ورأس (الشطب) وقراب السيف والخنجر

(1) فعن كشف الغطاء أن المعتبر في الآنية الظرفية، وأن يكون المظروف معرضاً للرفع والوضع. وكأن المراد بذلك أن يكون الظرف مما يتعارف وضع الشيء فيه ثم أخذه منه، في مقابل ما يوضع الشيء فيه ثم لا يخرج منه، كموضع فص الخاتم، وما يلبس به طرف العصا والرمح من الحديد، والجرس الذي في جوفه شيء للتصويت ونحوها.

وزاد على ذلك سيدنا المصنف (قدس سره) فاعتبر كون المظروف من سنخ المأكول والمشروب ونحوها كالطهور، دون مثل رأس الغرشة والشطب مما يوضع فيه التبوغ، والقراب الذي يوضع فيه السيف، وظرف السيكاير الذي تُقدَّم فيه أو تحمل فيه.

بل الظاهر أنه لابد مع ذلك من ملاحظة كيفية الظرف وكيفية استعمال المظروف فيه، بأن يكون من شأن الظرف وضع المظروف فيه ليستعمل بأخذه من الظرف، لا مع بقائه فيه وهو وجه آخر لخروج مثل رأس الغرشة والشطب.

وكذا إذا ابتنى وضع الشيء فيه على خزنه فيه وحرزه لا ليستعمل منه، كما في الصفائح المعدنية والسفط وظروف التعليب الشائعة في زماننا، ومخازن المياه الشائعة أيضاً، ونحوها.

على أن الظاهر أن القيود المذكورة ونحوها ليست دخيلة بمفهومها، لعدم الطريق لإحراز ذلك بعد عدم التحديد المفهومي الواضح للإناء، بل هي مناسبة خارجاً لمصاديق الإناء. والعمدة ما سبق، فإنه أقرب ما يتيسر لنا في تحديده، مع لزوم ملاحظة المصاديق وعدم إغفالها.

ومن ذلك يشكل شموله لمثل زجاجة المشروبات الغازية التي تعارف استعمالها والشرب منها في عصورنا... إلى غير ذلك.

ص: 427

(428)والسكين (1) (وقاب) الساعة المتداولة في هذا العصر، ومحل فص الخاتم (2)، وبيت المرآة (3)، وملعقة الشاي (4) وأمثالها خارج عن الآنية فلا بأس بها. ولا يبعد ذلك أيضاً في ظرف الغالية والمعجون والتتن والترياك والبن (5).

(مسألة 44): لا فرق في حكم الآنية بين الصغيرة والكبيرة (6)، وبين ما كان على هيئة الأواني المتعارفة من النحاس والحديد وغيره (7).

(1) الظاهر في وجه خروجه - مضافاً إلى ما سبق من كون المظروف مما ليس من شأن الإناء أن يكون ظرفاً له - أنه يعد من توابع المظروف، لا ظرفاً له عرفاً.

(2) يكفى في خروجه - مضافاً إلى ما سبق - السيرة المتصلة بعصور المعصومين (عليهم السلام)

من صياغة الخواتيم من الذهب والفضة ووضع الفص فيها.

(3) يجري فيها ما سبق في قراب السيف ونحوه.

(4) بل جميع الملاعق، لكونها عرفاً آلة للاستعمال، لا ظرفاً للمستعمل من المأكول والمشروب ونحوهما.

(5) لا يبعد أن يكون مراده ما يسمى في عرفنا بالدلة والقمقم وفي صدق الإناء عليهما إشكال. ومثله الإبريق وظروف إعداد الشاي ونحوه.

نعم الظاهر صدق الإناء على الفنجان، والاستكان وظرفه الذي يوضع عليه ونحوها.

(6) للإطلاق. إلا أن يخرج بالكبر أو الصغر عن قابلية الاستعمال المعهود من الإناء، ويكون من سنخ المخازن، كالحب ومخازن المياه، أو يتمحض في التزيين، فيخرج عن موضوع الحرمة.

(7) لعدم الإشكال في عدم توقف صدق الإناء على الهيئة المذكورة، التي هي أقرب للبساطة، وعمومه للهيئات المعقدة التي تعارفت في عصورنا بسبب تطور

ص: 428

(429)(429) (مسألة 45): لا بأس بما يصنع بيتاً للتعويذ من الذهب والفضة، كحرز الجواد "وغيره (1).

الصناعة.

بقي شيء: وهو أن الظاهر عدم الفرق في حرمة الأكل والشرب من الإناء بين الأكل والشرب بالواسطة وبدونها، لما هو المعلوم من تعارف الأكل بالواسطة، بل هو المعهود في الإنسان، فلا مجال لحمل النصوص الناهية عن الأكل والشرب في الآنية المذكور على غيره.

نعم المتيقن من مدلول النصوص المذكورة الواسطة الواحدة كاليد والملعقة ونحوها مما يتناول به الطعام للفم رأساً. أما إذا أخذ الطعام والشراب من الإناء الكبير الذي هو ذهب أو فضة ووضع في الصغير من غيرهما، وأكل من الصغير - كما يتعارف في عصورنا كثيراً - فنصوص الأكل والشرب قاصرة عنه.

ومثله القدر من الذهب والفضة إذا صب منه الطعام أو الشراب في إناء من غيرهما، لأن موضوع النصوص هو الأكل والشرب فيهما، وهو غير صادق في الفرض قطعاً.

بل الحرمة في أخذ الطعام من مثل ذلك تبتني على عموم حرمة الاستعمال الظاهر، الذي سبق أنه المستفاد من إطلاق النهي عن إناء الذهب والفضة. إذ لا إشكال في كون الاستعمال المذكور من الاستعمال الظاهر الذي يعد له الآنية المذكورة، وإن لم يكن أكلاً وشرباً.

(1) كما صرح به غير واحد، بل لا إشكال فيه بعد خروجه عن الإناء عرفاً. ولصحيح منصور عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن التعويذ يعلق على الحائض، فقال: نعم إذا كان في جلد أو فضة أو قصبة حديد».

()()1

********

ص: 429

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 67 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(430) (مسألة 46): يكره استعمال القدح المفضض (1).

نعم في صحيح إسماعيل بن بزيع: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن آنية الذهب والفضة فكرههما. فقلت: قد روى بعض أصحابنا أنه كان لأبي الحسن مرآة ملبسة بالفضة. فقال: لا، والحمد لله، إنما كانت لها حلقة من فضة. وهي عندي. ثم قال: إن العباس حين عذر عمل له قضيب ملبس من فضة من نحو ما يعمل للصبيان تكون فضته نحواً من عشرة دراهم، فأمر به أبو الحسن (عليه السلام) فكسر». وقد يظهر منه المنع من كل ما كان مشتملاً على شيء كهيئة الوعاء له، مثل ما تلبس به المرآة والقضيب، لورود إنكار وقوع ذلك في سياق كراهة آنية الذهب والفضة.

()()(1)

لكن - لو تم ذلك - لابد من حمله على الكراهة، ولو بلحاظ العناوين الثانوية، مثل عدم مناسبة مقام الإمام (عليه السلام) لبعض مظاهر الترف، جمعاً مع مثل صحيح منصور وصحيح علي بن جعفر المتقدم المتضمن أنه إنما يكره ما يشرب به، فإنه وإن تقدم حمله على الإشارة لموضوع التحريم إجمالاً، إلا أنه يصعب حمله على ما يعمّ ما تضمنه صحيح ابن بزيع جداً، بل يكون قرينة على حمل ما تضمنه الصحيح المذكور على الكراهة.

ولاسيما أنه من البعيد جداً صنع القضيب الملبس من فضة في بيت الإمام (عليه السلام) مع كونه محرماً، فإن شيوعه بين عامة الناس مع حرمته تناسب ظهور الإنكار منهم (عليهم السلام)

له، بنحو لا يناسب صنعه في بيوتهم من بعض متعلقيهم.

(1) على المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً. كذا في الجواهر وفي الحدائق أن عليه عامة المتأخرين ومتأخريهم. بل لم يعرف الخلاف فيه إلا مما تقدم من الخلاف من إلحاقه بإناء الذهب والفضة في الحكم بالكراهة التي تقدم حملها على التحريم أو على الأعم منه ومن الكراهة.

********

ص: 430

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 1.

وكيف كان فقد يستدل للتحريم بالنهي عنه في صحيح الحلبي المتقدم في أول الكلام في حكم الأواني. مضافاً إلى الحكم بكراهته في صحيحه الآخر المتقدم هناك أيضاً. وفي موثق بريد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه كره الشرب في الفضة وفي القدح المفضض، وكذلك أن يدهن في مدهن مفضض، والمشطة كذلك» بناء على حمل الكراهة على الحرمة.

()()1

لكن لابد من الخروج عن ذلك - لو تم في نفسه - بصحيح عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام): «قال: لا بأس أن يشرب الرجل في القدح المفضض. واعزل فمك عن موضع الفضة» حيث يتعين لأجله حمل ما تقدم على الكراهة أو على النهي عن موضع الفضة.

()()2

وقد أضاف غير واحد لذلك ما عن الفقيه، حيث زاد في ذيل موثق بريد المتقدم: «فإن لم يجد بداً من الشرب في القدح المفضض عدل بفمه عن موضع الفضة». لظهوره في جواز الشرب من القدح المفضض. لكن المناسب لسياق الكلام كون الفقرة المذكورة من كلام الصدوق، لا من تتمة الموثق.

()()3

ومثله الاستدلال على الجواز أيضاً بما في صحيح معاوية بن وهب: «سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن القدح في ضبة من الفضة. قال: لا بأس. إلا أن تكره الفضة فينزعها» بدعوى أن ذا الضبة من المفضض كما في كشف اللثام والجواهر.

()()4

لكنه لا يخلو عن إشكال، حيث لا يبعد اختصاص المفضض بما تكون الفضة ثابتة فيه، كما يناسبه تفسيره في اللغة بالمرصع بالفضة أو المموه بها، وليست الضبة كذلك، بل مشعوبة في الإناء ملصقة به يسهل نزعها منه، كما قد يظهر من اللغويين، وهو صريح الصحيح المتقدم، وصحيح عمرو بن أبي المقدام: «رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) قد أتي بقدح من ماء فيه ضبة من فضة، فرأيته ينزعها بأسنانه». فالظاهر انحصار دليل الجواز بصحيح عبد الله بن سنان.

()()5

********

ص: 431

(1و2و3و4و5)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 66 من أبواب النجاسات حديث: 2، 5، 3، 4، 6.

والأحوط عزل الفم عن موضع الفضة، بل لا يخلو وجوبه عن قوة (1). والله سبحانه العالم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) فقد صرح به الشيخ في المبسوط وجماعة كثيرة. وفي المدارك أن عليه عامة المتأخرين، وفي الحدائق أن عليه عامة المتأخرين ومتأخريهم، وعن الكفاية أنه المشهور. لظاهر الأمر به في صحيح الحلبي المتقدم وما تقدم عن الفقيه بناء على كونه من تتمة موثق بريد، وإن عرفت الإشكال في ذلك.

وظاهر الشرايع والقواعد التوقف فيه. بل قد يظهر من عدم التنبيه له في النافع البناء على عدم الوجوب، وقد صرح في المعتبر ومحكي الذخيرة بالاستحباب، واستحسنه في المدارك، وقواه شيخنا الأستاذ.

للأصل. ولصحيح معاوية بن وهب. لكن الأصل محكوم بصحيح الحلبي. وصحيح معاوية بن وهب قد عرفت أنه أجنبي عن محل الكلام، وأن المفضض غير ذي الضبة. على أن السكوت فيه عن الشرب من موضع الفضة لا ينهض بالخروج عن ظاهر الأمر في الصحيح. ومن ثم كان الأقوى الوجوب.

هذا وفي المدارك: «والأظهر أن الآنية المذهبة كالمفضضة في الحكم. بل هي أولى بالمنع» ونحوه في الجواهر.

والعمدة في وجه الإلحاق فهم عدم الخصوصية، لابتناء الحكم في الأواني على العموم للذهب والفضة. وهو وإن كان قريباً جداً، إلا أن في بلوغه مرتبة الاستدلال إشكال. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

انتهى الكلام في بحث الأواني خاتمة لكتاب الطهارة من كتابنا (مصباح المنهاج) شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين) تأليف سيدنا الأعظم الأستاذ الجد آية الله العظمى مرجع الطائفة الأعلى (السيد محسن الطباطبائي الحكيم) (قدس سره).

وكان ذلك بقلم العبد الفقير إلى الله تعالى (محمد سعيد) نجل سماحة حجة

ص: 432

الإسلام والمسلمين آية الله (السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم) دامت بركاته. ليلة الثلاثاء الثامن عشر من شهر ذي القعدة الحرام، عام ألف وأربعمائة وثمانية عشر للهجرة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلوات وأزكى التحيات في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف، على مشرفه أفضل الصلاة والسلام.

والحمد لله رب العالمين وله الشكر على ما أنعم. ومنه سبحانه نستمد العون والتأييد والتوفيق والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 433

ص: 434

فهرس التفصيلى

(5)الفصل الثاني5

(5)في كيفية سراية النجاسة إلى الملاقي5

(5)اشتراط الرطوبة في تحقق السراية5

(11)كيفية سراية النجاسة في المائعات11

(16)الكلام في المتنجس16

(33)حكم المتنجس بوسائط متعددة33

(35)طرق ثبوت النجاسة35

(37)حكم ما يؤخذ من أيدي الكفار من المائعات والجامدات37

(39)الفصل الثالث39

(39)في أحكام النجاسة. اعتبار طهارة بدن المصلي وتوابعه39

(43)حكم الطواف الواجب والمندوب43

(44)الكلام في غطاء المصلي إذا كان نجساً44

(44)اشتراط طهارة محل السجود44

(48)الكلام في حكم كل واحد من أطراف الشبهة المحصورة48

(60)حكم ما لو كان جاهلاً بالنجاسة60

(66)بقي في المقام أمران...: (الأول): حكم الصلاة مع الدم جهلاً إذا كان بقدر الدينار66

(66)(الثاني): حكم إصابة دم الحيض الثوب حتى مع عدم العم به66

(69)لو علم في أثناء الصلاة بوقوع بعض الصلاة في النجاسة69

ص: 435

(79)لو عرضت النجاسة في أثناء الصلاة79

(82)حكم ما لو صلى بالثواب النجس مع النسيان82

(91)إذا صلى مع نسيان نجاسة عرق الجنب91

(91)حكم ما لو طهر ثوبه وصلى ثم ظهر له أن النجاسة باقية91

(93)انحصار الثوب الساتر بالنجس93

(97)الكلام في الجمع بين الصلاة بالثوب النجس والصلاة عارياً احتياطاً97

(104)بقي في المقام أمران.. (الأول): وجوب إعادة الصلاة عارياً وعدمه104

(105)(الثاني): لزوم وقوع الصلاة عارياً قائماً أو قاعداً105

(105)إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين وجب الصلاة فيهما105

(107)إذا دار الأمر بين تطهير بدنه أوثوبه107

(109)جواز الانتفاع بالنجس فيما لا يشترط فيه الطهارة109

(114)حكم بيع الأعيان النجسة114

(119)حرمة تنجيس المساجد119

(127)إلحاق بناء المساجد وآلاتها بها127

(132)الكلام في وجوب المبادرة إلى تطهير المسجد132

(134)إذا توقف تطهير المسجد على تخريب جزء منه134

(135)إذا توقف تطهير المسجد على بذل المال135

(137)إذا توقف تطهير المسجد على تنجيس بعض منه137

(137)إذا لم يتمكن من تطهير المسجد هل يجب إعلام الغير مع احتمال حصول التطهير بإعلامه؟137

(140)حكم المسجد الذي صار خراباً140

(143)حكم المشاهد المشرفة والضرائح المقدسة143

(146)حكم ما إذا صار المسجد طريقاً146

ص: 436

(149)تتميم: فيما يعفى عنه في الصلاة149

(149)(الأول): فيما يعفى عنه في الصلاة دم الجروح والقروح إذا كان بقدر الدرهم البغلي149

(153)الكلام في اعتبار المشقة النوعية153

(158)الكلام في القيح المتنجس بالدم158

(160)إذا كانت الجروح والقروح متقاربة160

(162)الشك بدم الجرح أو القرح162

(163)(الثاني): فيما يعفى عنه في الصلاة الدم إذا كان في البدن واللباس على كلام فيه163

(169)بقي في المقام أمران.. (الأول): حكم الدم المتفرق إذا كان أكثر من الدرهم169

(173)(الثاني): إذا كان الدم المتفرق في ثياب متعددة173

(175)المراد من الدرهم البغلي وتحديد سعته175

(178)استثناء دم الحيض من العفو عن الدم178

(179)استثناء دم النفاس والاستحاضة من العفو عن الدم179

(181)استثناء دم نجس العين من العفو عن الدم181

(183)استثناء دم الميتة وغير مأكول اللحم من العفو عن الدم183

(185)عدم إلحاق المتنجس بالدم به185

(186)إذا تفشى الدم من أحد الجانبين إلى الآخر186

(188)إذا اختلط الدم بغيره من ماء أو قيح أو غيرهما188

(191)إذا تردد قدر الدم بين العفو وغيره191

(195)الكلام في وجوب الاختبار وعدمه195

(195)تحديد مقدار العفو وأنه يساوي أخمص الراحة195

(197)(الثالث): فيما يعفى عنه في الصلاة الملبوس الذي لا تتم الصلاة به197

(199)الكلام فيما إذا اتخذ اللباس من نجس العين199

(202)الكلام في المحمول المتخذ من نجس العين202

ص: 437

(204)الكلام في المتنجس إذا كان مما تتم به الصلاة204

(208)(الرابع): فيما يعفى عنه في الصلاة ثوب المربية والكلام فيه208

(213)الفصل الرابع: في المطهرات213

(213)(الأول): الماء213

(216)اعتبار انفصال ماء الغسالة في التطهير216

(220)الكلام في اعتبار العصر فيما يعصر220

(226)الكلام في طهارة باطن ما ينفد فيه الماء تبعاً للظاهر226

(231)كيفية تطهير الثوب المصبوغ بالصبغ المتنجس231

(233)الإشكال في كيفية تطهير العجين النجس233

(234)الكلام في المتنجس بالبول والتطهير منه مرتين234

(237)بقي في المقام أمور... (الأول): الاقتصار على الثوب والبدن وعدمه في التطهير مرتين237

(238)(الثاني): ظاهر النصوص التعدد لكل بول نجس238

(239)(الثالث): اعتبار الفصل بين الغسلتين لتحقق التعدد239

(246)تطهير الآنية المتنجسة بولوغ الكلب246

(255)إذا لطع الكلب بغير ولوغ هل هو بحكم الولوغ أم لا؟255

(258)اعتبار طهارة التراب قبل استعماله في التطهير258

(260)كيفية تطهير الإناء إذا شرب منه الخنزير260

(261)كيفية تطهير الإناء إذا مات فيه الجرذ261

(262)كيفية تطهير الإناء إذاتنجس بغير النجاسات المتقدمة262

(263)عد اعتبار العصر في التطهير بالماء المعتصم263

(264)عدم اعتبار التعدد في التطهير بالماء المعتصم264

(272)كيفية التطهير من نجاسة بول الصبي272

(273)المراد من الصبي273

(276)الكلام في إلحاق الأنثى بالصبي وعدمه276

ص: 438

(280)كيفية تطهير الإناء بالماء القليل280

(281)في كيفية تطهير أواني الخمر281

(283)اعتبار زوال عين النجاسة في التطهير283

(286)كيفية تطهير الأرض الصلبة286

(287)إذاجرى ماء الغسالة من الموضع النجس إلى ما اتصل به من المواضع الطاهرة287

(287)عدم اعتبار التوالي في تعدد الغسلات287

(289)كيفية تطهير الأواني الكبيرة المثبتة في الأرض289

(291)كيفية تطهير بعض الأطعمة291

(294)الكلام في الحلي التي يصوغها الكافر294

(296)المائعات المتنجسة296

(297)كيفية تطهير التنور المتنجس297

(297)(الثاني من المطهرات): الأرض وما تطهره من باطن القدم297

(307)اعتبار كون المطهر هو الأرض وعدمه307

(307)الكلام في المطهرية غير الأرض307

(309)كيفية التطهير بالأرض309

(309)كيفية التطهير باطن القدم309

(311)المراد من الأرض311

(314)الكلام في اعتبار جفاف الأرض314

(315)في إلحاق بعض الأمور بباطن القدم315

(317)(الثالث من المطهرات): الشمس ومطهريتها للأرض317

(317)إذا شك في طهارة الأرض317

(317)إذا كان في ظلمة ولا يدري أن ما تحته أرض أم غيرها317

(323)مطهرية الشمس لما لا ينقل323

(327)اشتراط زوال عين النجاسة في مطهرية الشمس327

(329)الكلام في طهارة الباطن تبعاً للظاهر329

(330)كيفية تطهير الأرض الجافة بالشمس330

ص: 439

(330)إذا تنجست الأرض بالبول وأشرقت الشمس عليها330

(331)الحصى والتراب والطين والأحجار والمسمار الثابت بحكم الأرض331

(332)(الرابع من المطهرات): الاستحالة إلى جسم آخر332

(334)الاستحالة إلى جسم آخر بالنار334

(337)الاستحالة إلى جسم آخر بغير النار337

(343)استحالة الشيء بخاراً ثم عرقاً343

(345)الكلام في بعض موارد الاستحالة345

(346)(الخامس من المطهرات): الانقلاب346

(347)بقي شيء. الكلام في تعميم الانقلاب لكل مسكر347

(348)عدم الفرق بين الانقلاب بنفسه أوبعلاج348

(353)لو تنجس الخمر بنجاسة خارجية قبل الانقلاب353

(356)الكلام في انقلاب العصير العنبي خلاً356

(359)(السادس من المطهرات): ذهاب الثلثين359

(362)(السابع من المطهرات): الانتقال362

(364)لو شك في جزئية المنتقل من المنتقل إليه364

(364)(الثامن من المطهرات): الإسلام364

(365)شمول الحكم لجميع أقسام الكفار حتى المرتد عن فطرة365

(368)تبعية أجزاء المرتد له في الطهارة368

(369)بقي في المقام أمران: (الأول): حكم الثياب التي باشرها الكافر برطوبة369

(370)(الثاني): لو كان بدن الكافر متنجساً بنجاسة خارجية370

(370)(التاسع من المطهرات): التبعية370

(376)تبعية أواني الخمر له إذا انقلبت خلاً376

(377)تبعية ثياب الميت التي يغسل فيها له إذا طهر بالتغسيل377

(378)تبعية يد الغاسل للميت إذا طهر بالتغسيل وكذا سائر آلات التغسيل378

(378)(العاشر من المطهرات): زوال عين النجاسة عن باطن الإنسان وبدن الحيوان378

ص: 440

(380)الكلام في ثبوت النجاسة لباطن الإنسان وبدن الحيوان380

(384)الكلام في سراية النجاسة إذا كانت الملاقاة في الباطن384

(385)(الحادي عشر من المطهرات): الغيبة385

(389)الكلام في عدم اعتبار العلم بالنجاسة في مطهرية الغيبة389

(390)(الثاني عشر من المطهرات): استبراء الحيوان الجلال390

(391)الكلام في مقامين: (الأول): فيما يصير به الحيوان جلالاً391

(393)(الثاني): في استبراء الجلال393

(395)فيما يخرج الحيوان عن الجل395

(399)قبول الحيوان الجلل للتذكية399

(401)تثبت الطهارة بالعلم والبينة401

(405)تثبت الطهارة بإخبار ذي اليد405

(411)خاتمة في حرمة استعمال الأواني411

(416)عدم حرمة نفس المأكول والمشروب416

(421)الكلام في التزين بالذهب والفضة421

(422)الكلام في اقتناء أواني الذهب والفضة422

(425)في تحديد معنى الآنية425

(428)عدم الفرق في الآنية بين الصغيرة والكبيرة428

(429)بقي شيء. حرمة الأكل بالآنية مع الواسطة429

(429)استعمال الذهب والفضة لبعض الأحراز429

(430)في استعمال الآنية المفضضة430

ص: 441

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.