المهادنة

اشارة

نام كتاب: المهادنة

موضوع: فقه استدلالي

نويسنده: خامنه اي، سيد علي بن جواد حسيني

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 1

ناشر: مؤسسه دائرة المعارف فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت عليهم السلام

تاريخ نشر: 1418 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

ملاحظات: مجله فقه اهل بيت عليهم السلام(فارسي) شماره 12- 11

المقدمة

تعد هذه الدراسة قسما من سلسلة بحوث في فقه الدولة الإسلامية لسماحة ولي أمر المسلمين (دام ظله).

و قد عالج سماحته موضوع (المهادنة) ضمن عدة محاور تدور حول بيان حقيقة الهدنة و شرائطها و أحكامها ثم تطرق في نهاية المطاف إلي بعض الفروع.

و يمتاز هذا البحث ناهيك عما توفر عليه من دقة و عمق بأصالة منهجيته إذ يلمس القارئ في مطاوي البحث العناية التامة بالقرآن الكريم و اعتماده أساسا في كل أو جل استدلالاته.

[في بيان حقيقة الهدنة]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام علي سيدنا محمد المصطفي و آله أئمة الهدي.

إن مما ينتهي به الجهاد و القتال، المهادنة و الهدنة.

و هي في الأصل: السكون، و يستعمل في الصلح و الموادعة بين المتحاربين، إلا أنه في اصطلاح الفقه الإسلامي يستعمل في الصلح المؤقت بين المسلمين و طائفة من الكفار الحربيين و لذا يطلق عليها الموادعة

المهادنة، ص: 8

و المعاهدة الظاهرتان في عدم الدوام.

قال الشيخ في المبسوط: «الهدنة و المعاهدة واحدة، و هو وضع القتال و ترك الحرب إلي مدة». «1»

و قال العلامة (رحمه اللّه) في التذكرة: «المهادنة و الموادعة و المعاهدة ألفاظ مترادفة معناها وضع القتال و ترك الحرب مدة». «2»

و مثله في المنتهي، و قريب منه في التحرير و القواعد.

فانقطاع المدة و عدم الدوام قد أخذ في معني الهدنة و تعريفها.

و قد جعلوا ذلك أحد وجوه الفرق بينها و بين عقد الجزية، كما ذكروا له وجوها آخر راجع التفصيل في القواعد للعلامة (رحمه اللّه)، و بعض آخر من كتبه و كتب غيره و إن كان التحقيق أن ما ذكروه من الفارق ليس هو الفارق الأصلي بين ماهيتيهما، بل إنما هي من قبيل العوارض و

العلامات.

و الفرق بينهما جوهريا هو أن الطرف المقابل في عقد الجزية هو العدو المغلوب الذي قد ظهر المسلمون عليه، و فتحت أرضه و أسقطت دولته و الحال يجعل عليه شي ء عوض الضرائب الموضوعة علي المسلمين، فهو من جملة مواطني الدولة الإسلامية و لكن علي غير دينهم.

و أما الطرف المقابل في المهادنة فهو العدو المستقر علي أرضه و الباقي علي دولته و نظامه المدني و ربما يكون قويا و غالبا علي أمره، بل أقوي أحيانا من المسلمين.

ففي صدر الإسلام كانت الجزية علي أهل الكتاب القاطنين في الشام بعد ما فتحت و صارت من أراضي الإسلام، و لكن الهدنة انعقدت مع قريش مكة و لم يفتحها المسلمون بعد.

و الحاصل: أن عقد الهدنة ينعقد مع الدولة المحاربة بما يتبعها من شعبها، و عقد الجزية ينعقد مع أناس من أتباع دولة الإسلام.

هذا هو الفارق الجذري، و أما غيره من الفوارق فهي فروق في المظاهر و الأحكام.

[في بيان أمور تتعلق بالهدنة]

اشارة

ثم إننا نواصل البحث في هذا الباب ضمن أمور:

______________________________

(1) المبسوط 2: 50.

(2) التذكرة 1: 447.

المهادنة، ص: 9

الأمر الأول في حكمها:

و هي جائزة في الجملة بإجماع المسلمين.

و مرادنا من الجواز: الجواز بالمعني الأعم، أي الذي يشمل الواجب و المكروه، في مقابل عدم الجواز بمعني الحرمة.

و نريد بقولنا «في الجملة»: أن الجواز مشروط بشروط، و ما لم تتوفر الشروط تكون المهادنة محرمة، و سوف نذكرها بتفاصيلها.

و الدليل علي ذلك مضافا إلي كونه متسالما عليه بين المسلمين آيات من الذكر الحكيم منها قوله تعالي (إِلَّا الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) «3»، و قوله تعالي (إِلَّا الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ) «4»، و منها قوله تعالي (الَّذِينَ عٰاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ) «5» فهذه الآيات بدلالتها اللفظية تدل علي جواز عقد المعاهدة مع الكفار و تقرر ما صدر عن المسلمين من المعاهدة معهم، و المعاهدة و إن كانت غير مختصة بما تقع منها راجعة إلي شأن الهدنة و ترك القتال، إلا أن هذه هي القدر المتيقن منها.

و منها قوله تعالي (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا) «6» فهو يدل علي جواز الجنوح للسلم حينما يجنح لها العدو، و هذه الآية و إن كان مفادها أضيق دائرة من المدعي في الباب، حيث إن الجواز فيها مشروط بمبادرة العدو إلي الصلح، مع أن المدعي فيما نحن فيه هو الأعم، إلا أن دلالتها علي الجواز في الجملة مما لا يقبل الإنكار.

و المناقشة في دلالتها بأن: المراد من السلم هو ترك القتال فعلا، دون قرار و مواضعة بين الطرفين، موهونة جدا إذ الظاهر من الأمر بالجنوح إلي السلم خصوصا مع الاقتران بما سبقه من الشرط أي جنوح العدو لها و ما لحقه

من الأمر بالتوكل علي اللّه، أنه أمر بعمل إيجابي يحتاج إلي عزم و حزم و توكل، لا أنه أمر بعمل يتفق كثيرا في الحروب بغير تمهيد و عزم مسبق، بل ما من حرب دامية مستمرة في برهة من الزمن إلا

______________________________

(3) التوبة: 4.

(4) التوبة: 7.

(5) الأنفال: 56.

(6) الأنفال: 61.

المهادنة، ص: 10

و يتخلل في ضمنها وقف الحرب مرات بغير قرار و عقد و اتفاق، و ورود الأمر بالجنوح إلي مثل ذلك مقترنا بمثل هذا التمهيد و ذاك التعقيب، شي ء لا ينبغي نسبته إلي الذكر الحكيم.

و يدل عليه أيضا ما في نهج البلاغة في عهده (عليه السلام) إلي مالك الأشتر من قوله (عليه السلام)

«و لا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك و للّه فيه رضي، فإن في الصلح دعة لجنودك»

«7»، و قد رواه في المستدرك عن تحف العقول، كما روي قريبا منه في الألفاظ و المعاني عن دعائم الإسلام عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلي الله عليه و آله) «8».

كما يدل عليه ما نقل من السيرة النبوية القطعية من معاهداته (صلي الله عليه و آله) مع الكفار من مشركيهم و يهودهم و نصاراهم.

و كلها راجعة إما بالمطابقة و إما بالملازمة إلي ترك القتال و استقرار الهدوء و الصلح المؤقت.

فالأمر بحسب الدليل واضح كمال الوضوح، بحيث يبدو أن ما فعله أصحابنا من إرساله إرسال المسلمات، و عدم التصدي كثيرا للاستدلال عليه، أمر صحيح حقا.

ثم إن العلامة (رحمه اللّه) و بتبعه البعض من متأخري المتأخرين استدل لذلك بحرمة إلقاء النفس في التهلكة في جنب أدلة وجوب الجهاد، زاعما أن نتيجة تقابل الدليلين هو التخيير و الجواز، و فيه من وضوح الإشكال ما يغنينا عن الإيراد عليه.

الأمر الثاني: اشتراطها بوجود المصلحة:

يشترط في جواز الهدنة

أن يكون فيها مصلحة في الجملة.

و الظاهر وضوح حكم العقل بأن هذا مقتضي الحكمة، كما أنه المستشعر من المناسبة بين الحكم و الموضوع.

فبعد ما وردت عمومات كثيرة في الأمر بالجهاد و الحث علي مقاتلة الكفار مع ما في لسان بعضها من التهديد و التوعيد علي تركه «9»، ثم ورد في آية أو آيات الأمر بالصلح، ففي مثل هذا الظرف لا معني

______________________________

(7) نهج البلاغة: 442، كتاب رقم 53، الدكتور صبحي الصالح.

(8) راجع المستدرك 11: 43 و 44، ب 18، ح 1 و 2.

(9) كقوله تعالي وَ مٰا لَكُمْ لٰا تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ. الآية- النساء: 75، و قوله تعالي وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنٰا عَوْرَةٌ. الآية- الأحزاب: 13، و كآيات الفرار و أمثالها الكثير في الكتاب العزيز.

المهادنة، ص: 11

للقول بأن الصلح و السلم أمر جائز في كل زمان و لو مع عدم الحاجة إليه و فقد مصلحة فيه، فضلا عن صورة وجود مصلحة في تركه إذ لازم ذلك لغوية ذاك الحث و التوكيد و التهديد و التوعيد، و تكون النتيجة هي أن تلك الأوامر الأكيدة بالجهاد في آيات الذكر الحكيم لا تحمل حكما إلزاميا، بل إنما هي مسوقة لبيان جواز قتال العدو، و كونه أمرا راجحا غير ممنوع عنه! و هذا خلاف مقتضي الحكمة في كلام الباري الحكيم عز اسمه، فتلك الآيات و هكذا المناسبات العرفية بين الحكم و الموضوع بنفسهما كافية لإثبات أن الإقدام علي السلم مع العدو المحارب ليس أمرا جائزا و مباحا في أي وقت و علي أي حال، بل جوازه متوقف علي وجود ما يكفي في تبرير الإقدام عليه من الشرائط و الأحوال التي يعبر عنها بالمصلحة.

هذا مضافا إلي

ما يدل بظاهره علي المنع من السلم و المداراة و التودد مع الأعداء المحاربين، كقوله تعالي (فَلٰا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَي السَّلْمِ) «10»، و قوله تعالي (إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَليٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) «11»، و قوله تعالي (لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) «12»، و غيرها من الآيات الكثيرة في هذا الباب.

فحاصل الأدلة بمجموعها: أن وجود المصلحة في قبول الصلح أو اقتراحه علي العدو شرط شرعا في جواز ذلك.

ثم إن المصلحة في هذا الباب لا تنحصر فيما ذكره الفقهاء (رحمهم اللّه) من ضعف المسلمين و قلتهم عن المقاومة، أو رجاء دخول الكفار في الإسلام، أو الحصول علي المال الذي يبذلونه للمسلمين.

فهناك مصالح أخري تناسب ظروف العالم في كل عصر، منها تحسين سمعة النظام الإسلامي كنظام يقترح الصلح علي مناوئيه، و منها تخويف عدو آخر طامع في بلاد المسلمين من جهة كونهم مشغولين بالحرب، فإذا رأي ذاك العدو أن الإمام بصدد الصلح مع مقاتليه، فإنه يخاف و يقطع طمعه، و منها غير ذلك مما يعرفه الذي بيده

______________________________

(10) محمد: 35

(11) الممتحنة: 9

(12) الممتحنة: 1

المهادنة، ص: 12

أمر تشخيص المصلحة في كل زمان و مكان.

ثم لا يخفي أن المصالح تختلف أهمية، كما أن مصاديق الجهاد تختلف كذلك، و من المعلوم عدم إمكان التحديد بالنسبة إلي مراتب الأهمية، سواء في المصالح أو في عمليات الجهاد في سبيل اللّه.

و إنما الأمر في ذلك أي في تشخيص أهمية المصلحة الداعية إلي الهدنة في كل مورد، أو أهمية عملية الجهاد المفروض في ذلك المورد، و كذا مراتب الأهمية كلها بيد من إليه أمر الجهاد.

و بناء علي ذلك أي علي

فرض وجود مراتب للمصلحة و أن المناط في اللجوء إلي المهادنة في كل مرحلة هو كون المصلحة فيها أهم من العملية الجهادية التي هي موضوع تلك المرحلة فلا مناص من الالتزام بوجوب الهدنة أحيانا كما صرح بذلك العلامة في القواعد و ارتضاه في الجواهر لأن مراتب الرجحان تابعة لمراتب الأهمية، فربما وصلت أهمية الصلح و الهدوء مرتبة يحكم معها بوجوبه و عدم جواز التخلف عنه.

إلا أن ظاهر بعض و صريح آخر عدم وجوب الهدنة بحال.

قال العلامة في المنتهي و التذكرة: «و الهدنة ليست واجبة علي كل تقدير، سواء كان بالمسلمين قوة أو ضعف، لكنها جائزة». «13»

و قال المحقق في الشرائع: «و هي جائزة إذا تضمنت مصلحة للمسلمين. إلي آخر كلامه» و ظاهره عدم وجوبها في حال من الأحوال، اللهم إلا أن يكون مراده الجواز بالمعني الأعم الشامل للوجوب.

و كيف كان فالمستفاد من كلام العلامة (رحمه اللّه) في وجه عدم وجوبها بحال، هو أن دليل الهدنة و هو قوله تعالي (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا) «14»، و كذا قوله تعالي (وَ لٰا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ) «15» يحمل علي الجواز دون الوجوب، بقرينة ما دل علي الأمر بالقتال حتي يلقي اللّه شهيدا، كقوله تعالي:

______________________________

(13) المنتهي 2: 974، التذكرة 1: 447

(14) الأنفال: 61

(15) البقرة: 195.

المهادنة، ص: 13

(يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ) «16»، و كفعل مولانا الحسين (عليه السلام) و النفر الذين وجههم رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) إلي هذيل، فقاتلوا حتي قتلوا، و لم يفلت منهم أحد إلا حبيب فإنه أسر. فالمكلف بمقتضي الدليلين القرآنيين مخير بين الصلح و القتال، و قد وقع كلا الخيارين من النبي (صلي الله عليه و آله)

و الأئمة (عليهم السلام).

فمن الأول: ما وقع من النبي (صلي الله عليه و آله) و الحسن (عليه السلام)، و من الثاني: ما وقع من الحسين (عليه السلام). إلي آخر ما ذكره العلامة (رحمه اللّه) و ارتضاه صاحب الجواهر عند تقرير كلامه، فراجع.

و أورد علي هذا الاستدلال المحقق الكركي في جامع المقاصد «17» بأن الأمر بالقتال، مقيد بمقتضي (وَ لٰا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ)، انتهي محل الحاجة من كلامه.

و لازمه وجوب الكف عن القتال إذا فرض كونه إلقاء في التهلكة، و هذا يعني وجوب الصلح و الهدنة.

و لا يخفي أن الأخذ بهذا التقييد لازمه حرمة القتال في كل مورد يوجب التهلكة، فيشمل ما لو استلزم تهلكة فرد أو أفراد، فيحرم القتال حينئذ عليهم أو عليه، و إن كان واجبا علي غيرهم من المسلمين المقاتلين، و بناء عليه فلا يختص حكم وجوب التفصي عن الهلكة بما إذا انطبق ذلك علي الصلح، بل يشمل أيضا الفرار و كل ذريعة أخري إلي النجاة من الهلكة، فلا بد أن يكون الفرار أيضا واجبا في هذه الصورة كالصلح! و في هذا الكلام ما لا يخفي من الغرابة! و الظاهر أنه لدفع هذا الاستلزام علق صاحب الجواهر (رحمه اللّه) علي كلام المحقق المذكور بأن الخروج عن أدلة حرمة إلقاء النفس في الهلكة يقتصر فيه علي القدر المتيقن كالفرار و نحوه.

أقول: نتساءل: ما الوجه في الخروج عن أدلة حرمة إلقاء النفس في الهلكة بأدلة حرمة الفرار؟ و أي قرينة علي تقدم أدلة حرمة الفرار عليها؟ فلو التزمنا بحكومة أدلة التهلكة علي أدلة الجهاد فلم لا نلتزم بحكومتها أيضا علي أدلة حرمة الفرار؟ و هل أدلة حرمة الفرار أقوي دلالة و أكثر تعدادا و

أوضح مفادا من أدلة الجهاد؟ كلا. فإن التزم أحد بتقدم أدلة التهلكة علي أدلة الجهاد مع ما لها من

______________________________

(16) التوبة: 111.

(17) جامع المقاصد 3: 467.

المهادنة، ص: 14

الكثرة، و قوة الدلالة و التأكيد، و التوعيد علي تركه، و قال إنها تقيد بتلك الأدلة كما صنعه الكركي (رحمه اللّه) فليلتزم بمثله بالنسبة إلي أدلة الفرار أيضا، كما يستفاد ذلك من ظاهر كلامه (رحمه اللّه)، فلا وجه لما استدركه صاحب الجواهر (رحمه اللّه).

و الحق أن الأمر بالعكس، بمعني أن أدلة وجوب حفظ النفس و حرمة إلقاء النفس في الهلكة هي التي تقيد بأدلة الجهاد و ذلك لوضوح أن خروج ما يوجب إلقاء النفس في الهلكة من مصاديق الجهاد الواجب، يوجب تخصيص الأكثر، بل خروج تلك الفريضة الإلهية عن وضعها و مكانها بالكلية.

و الحق في الإجابة عن كلام العلامة (رحمه اللّه)، أما بالنسبة إلي دليل حرمة إلقاء النفس في التهلكة فبما قلناه آنفا، و أما بالنسبة إلي دليل الصلح فبأن سياق أدلة الحكمين أعني الجهاد و الصلح و هكذا مناسبة الحكم و الموضوع في الموردين، تحكم بكون الصلح استثناء لدليل الجهاد، مقيدا بما إذا كان فيه المصلحة، فإن بلغت المصلحة إلي حد الإلزام قدم علي الجهاد، و إلا يعمل بمقتضي ما تقتضيه المصلحة، و اللّه العالم.

و أما ما ذكره من فعل الإمام الحسين (عليه السلام) فمضافا إلي أنه من الجهاد الدفاعي علي وجه، فتأمل فإنه قضية في واقعة، و هو من السنة الفعلية التي ليس لها لسان الإطلاق و التقييد، و لذا لا يمكن الأخذ بإطلاق الحكم المستفاد منها، و هكذا القول في تقرير النبي (صلي الله عليه و آله) لجهاد النفر الذين وجههم إلي هذيل، كما هو واضح.

الأمر الثالث: في اشتراط المدة:

لا خلاف ظاهرا في اشتراط المدة في عقد الهدنة، و يعلم ذلك من أخذهم قيد الزمان في تعريف الهدنة، كما في المبسوط و الشرائع و المنتهي و التذكرة و القواعد و غيرها، و من دعوي الإجماع علي اعتبار مدة خاصة، كما في المنتهي و غيره بالنسبة إلي عدم الجواز لأكثر من سنة، و يستفاد ذلك أيضا

المهادنة، ص: 15

من عدم ذكرهم في مقام الاستدلال علي اعتبار المدة، سوي أن عدم ذكرها يقتضي التأبيد، و التأبيد باطل، فيشبه إرسال المسلم، و الاتكال علي وضوح الأمر.

و هو كذلك إذ الإطلاق في عقد الهدنة و عدم ذكر المدة يقتضي وجوب الوفاء به ما لم يظهر نقض من العدو، سواء في مدة حياة من تصدي للعقد أو بعده، و هذا خلاف المصلحة قطعا، إذ لازمه تعطيل الجهاد، و من المعلوم ضرورة من ضروريات الدين عدم رضا الشارع به، مضافا إلي الاستبعاد القريب من الاستحالة أن تبقي الظروف دائما علي غرار واحد، فالعقد المقتضي للتأبيد خلاف المصلحة قطعا، و منه يعلم بطلان العقد المصرح فيه بدوام الهدنة بطريق أولي.

ثم إن اشتراط صحة الهدنة بالتوقيت، لا يعني استلزام ذلك لحكم تكليفي في البين، أي حرمة عقد الهدنة بدون الوقت أو حتي مع التصريح بالتأبيد.

و علي هذا فلو فرض قيام مصلحة عظيمة في إلغاء المدة في الهدنة، كما إذا فرض أن العدو لا يقبل تقييد الهدنة بمدة و لا يقبلها إلا مطلقة أو مؤبدة، و فرض أن في استمرار الحرب ضررا عظيما علي الإسلام و المسلمين، فلا مضايقة علي الإمام حينئذ أن يعقد الهدنة بغير ذكر المدة، و لا يكون ذلك حراما عليه، و إن كانت الهدنة في الواقع فاسدة غير منعقدة، فيستفيد

المسلمون من متاركة الحرب ما يحتاجون إليه، و يكون الإمام بالخيار في أمر الحرب متي شاء.

و الحاصل: أن اشتراط الهدنة بالمدة مما لا كلام فيه.

إنما الكلام في مقدار المدة و أنه هل يوجد له حد للأقل و للأكثر؟ فقد ذكروا في ذلك تحديدا في طرفي القلة و الكثرة، و لا بد من التعرض لذلك و الفحص عن دليله حتي يتضح الحال.

المهادنة، ص: 16

1- ذكروا لطرف القلة أعني القدر المتيقن من جواز الهدنة في زمان، فيما كان في المسلمين قوة مدة أربعة أشهر، فتجوز الهدنة لأربعة أشهر فما دون، و ادعي عليه الإجماع في غير واحد من كتب الأصحاب، و استدل له الشيخ (رحمه اللّه) بقوله تعالي (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ). «18»

و عليه فلو هادنهم المسلمون لهذه المدة يجوز ذلك و إن كان بالمسلمين قوة.

و الظاهر لزوم رعاية المصلحة في هذه الصورة أيضا بمعني أن عدم الحاجة إلي وجود المصلحة من ناحية ضعف المسلمين ليس يعني الغناء عن وجود سائر المصالح، و لعل هذا هو المراد من كلام الشيخ في المبسوط حيث قال: «فإذا هادنهم في الموضع الذي يجوز، فيجوز أن يهادنهم أربعة أشهر» «19» انتهي، و لم يصرح بذلك غيره فيما اطلعنا عليه من كلماتهم.

و كيف كان، فالاستدلال بالآية يتم بضميمة ما هو المعلوم من أنها نزلت عند منصرف رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) من تبوك، و قد كان في أقوي ما كان.

و قد ناقشه في الجواهر بأنه خارج عن محل الكلام، إذ لم يكن ذلك مهادنة لهم بمدة أربعة أشهر، بل كان إمهالا لخصوص من عاهدوا من المشركين علي وجه التهديد و التوعد.

و هو في محله مضافا إلي أن فرض القوة

أيضا غير معلوم تماما و إن كان هو كذلك علي ما في التأريخ إذ ربما كان في أصحاب رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) تعبا و ملالا مما وقع عليهم في تبوك مع بعد المسيرة و حر الصيف، و قد كانت غزوة تبوك نفسها قد وقعت بعد غزوة أخري قريبة منها فأراد رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) استعادة قوة أصحابه و رفع تعبهم بسياسة إلهية، و هو إمهال المشركين أربعة أشهر. فالحق مع صاحب الجواهر (رحمه اللّه) حيث قال: «العمدة حينئذ في إثبات ذلك علي جهة العموم، الإجماع إن تم.».

أقول: و لن يتم لعدم ذكره في كلمات الشيخ و معاصريه، و إنما فيها الاستدلال للحكم بالآية، فيقوي أنه من الإجماعات المدركية التي يبدو أن الغرض من ذكرها ليس إلا بيان شيوع القول و عدم مخالفة أحد له، لا الإجماع

______________________________

(18) التوبة: 2.

(19) المبسوط 2: 50.

المهادنة، ص: 17

المصطلح الذي هو أحد الأدلة الأربعة.

و الذي لا ينبغي الريب فيه هو أن المهادنة لأربعة أشهر فما دون جائزة مع المصلحة و لو مع قوة المسلمين لأنها القدر المتيقن من إطلاقات أدلة المهادنة مع عدم وجود رادع عنها في الكتاب و السنة.

و معها فلا حاجة إلي ما ذكر من الاستدلال بالآية الشريفة في كلام الشيخ (رحمه اللّه).

و منه تعرف ما في كلام صاحب الجواهر (رحمه اللّه) من أنه علي فرض عدم تمامية الإجماع فالحث علي قتلهم و القعود لهم في كل مرصد يقتضي عدمه.

2- ذكروا لطرف الكثرة أعني القدر المتيقن من المدة التي لا تجوز الهدنة في الأكثر منها مع فرض قوة المسلمين أيضا حدا و هي سنة كاملة، فلا تجوز في الأكثر منها.

قال المحقق في الشرائع:

«و لا يجوز أكثر من سنة علي قول مشهور» «20»، و قال العلامة في التذكرة: «إذا كان في المسلمين قوة لم يجز للإمام أن يهادنهم أكثر من سنة إجماعا». «21»

و قال في المنتهي: «إذا اقتضت المصلحة المهادنة و كان في المسلمين قوة لم يجز للإمام أن يهادنهم أكثر من سنة إجماعا». «22»

هذا، و لكن الأمر في كلام الشيخ (رحمه اللّه) يختلف عن ذلك، فإنه قال: «و لا يجوز إلي سنة و زيادة عليها بلا خلاف» «23» انتهي.

فمقتضي هذا التعبير هو عدم الجواز لسنة أيضا مع أن ظاهر كلام من نقلنا عنهم آنفا عدم الجواز لأزيد من سنة، و كلام الشيخ أوفق بما استدلوا به من الآية الشريفة، أعني قوله تعالي (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. الآية) «24»، حيث فهموا منها وجوب الجهاد في كل سنة قمرية عند انسلاخ الأشهر الحرم.

و معلوم أن الهدنة في تمام السنة تنافي وقوع الحرب في بعض منها و لو بيوم.

و يحتمل أن يكون مراد المحقق و العلامة (رحمهما اللّه) أيضا ما يوافق كلام

______________________________

(20) الشرائع 1: 254، انتشارات استقلال.

(21) تذكرة الفقهاء 1: 447. ط- حجري.

(22) المنتهي 2: 974.

(23) المبسوط 2: 50 و 51.

(24) التوبة: 5.

المهادنة، ص: 18

الشيخ (رحمه اللّه) و إنما ذكروا التحديد بالسنة تسامحا.

و كيف كان فالدليل علي الحكم علي ما في كلماتهم أمور:

الأول: الإجماع كما ادعاه العلامة (رحمه اللّه) و غيره، و ادعي الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط عدم الخلاف، إلا أن المحقق (رحمه اللّه) عدل عن ادعاء الإجماع إلي نسبة القول إلي المشهور، و هذا ما يضعف دعوي الإجماع إذ الظاهر أن وجه العدول، عدم تحقق الإجماع عنده كما استظهره الشهيد الثاني في المسالك.

الثاني: قوله تعالي (فَإِذَا

انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. الآية)، و الاستدلال بالآية الشريفة يتم بتقريبين: أحدهما: ما في كلام الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط من أنها اقتضت قتلهم بكل حال، خرج عنه قدر الأربعة أشهر بدليل الآية الأولي أعني قوله تعالي (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) و بقي ما عداه علي عمومه «25».

و ثانيهما: ما هو المستفاد من كلام الشهيد الثاني (رحمه اللّه) في المسالك من أن الآية تدل علي وجوب الجهاد عند انسلاخ هذه الأشهر، و هو متحقق في كل سنة مرة، ثم أورد (رحمه اللّه) علي الاستدلال بأن الأمر لا يقتضي التكرار. «26»

هذا، و قد استشكل في دلالة الآية الشريفة علي المدعي، المحقق ضياء الدين (رحمه اللّه) في شرحه علي التبصرة، بأن غاية مفاد الآية هو وجوب القتال في السنة بحسب المصلحة الأولية، و ذلك لا ينافي جواز تركه لعقد الهدنة معهم لمصلحة أقوي. إلي أن قال: و حينئذ لا مجال لتوهم المعارضة بين دليل القتال بعد انقضاء الأشهر الحرم كما هو مفاد آية (فَإِذَا انْسَلَخَ) التي هي الدليل علي وجوبه في كل سنة، و بين آية الصلح و الهدنة «27».

أقول: أما عدم دلالة الأمر لا بمادته و لا بهيئته علي المرة و التكرار، فنوافق عليه كلام صاحب المسالك (رحمه اللّه) و هو مما لا يختلف فيه المحققون من

______________________________

(25) المبسوط 2: 51.

(26) المسالك 1: 125.

(27) شر تبصرة المتعلّمين 6: 477.

المهادنة، ص: 19

متأخري الأصوليين، إلا أن دعوي دلالة الآية الشريفة علي وجوب القتال بعد انتهاء الأشهر الحرم في كل عام ليست في رأي القائلين بها من ناحية دلالة الأمر علي التكرار، بل من ناحية دلالة القضية الحقيقية علي فعلية الحكم عند تحقق الموضوع في أي زمان و

أي مكان.

فبناء علي أن الدلالة علي الحكم في قوله تعالي (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ. الآية)، علي نحو القضية الحقيقية كما هو مدعي القائلين بوجوب الجهاد في كل سنة، و كما هو المعهود من أدلة الأحكام الشرعية، بل من القوانين و الأحكام المدنية و الشخصية، سواء الديني منها و العرفي فموضوع وجوب الجهاد عبارة عن انسلاخ الأشهر الحرم، أينما وقع و متي ما وقع، فكلما تحقق هذا الموضوع خارجا، فلا مناص من الحكم بوجوب ما أمر به في الآية الشريفة معلقا علي هذا الموضوع، و هو استئصال المشركين. إلي آخر الآية.

فيكون الحكم هنا كالحكم بوجوب الصوم المتعلق بحلول شهر رمضان، فوجوب الجهاد في كل سنة علي رأي القائلين به أجنبي عن حديث المرة و التكرار في الأوامر.

هذا، و لا يخفي أن الذي ذكرنا، مبني علي أن يكون انسلاخ الأشهر الحرم في الآية الكريمة مأخوذا كشرط الحكم، أعني وجوب قتل المشركين، نظير ما مثلناه به من حلول شهر رمضان بالنسبة إلي وجوب الصوم. و ذلك ما يقتضيه ظاهر الكلام و سياق الآية الشريفة، و لكن ربما يحتمل أن يكون المراد بيان حكم الجهاد في غير الأشهر الحرم بعد بيان حكمه فيها، بحيث لا يكون ذكر انسلاخ تلك الأشهر إلا توطئة و تمهيدا لبيان ذلك الحكم الكلي، دون بيان ما يجب في كل سنة بعد انتهاء الأشهر الحرم، و بناء علي ذلك فغاية مفاد الآية هو وجوب الجهاد في غير الأشهر الحرم من دون دلالة علي وجوب استمراره و تكراره في سنة واحدة أو في كل سنة، إلا إذا التزم بدلالة الأمر علي التكرار. فليكن هذا هو مراد صاحب المسالك رحمه الله و لكن لا يخفي بعد هذا

الاحتمال عن ظاهر الآية. و كيف كان فهذه كلها بناء علي أن يكون الحكم في

المهادنة، ص: 20

الآية علي نحو القضية الحقيقية، و أما بناء علي أن يكون الحكم فيها علي نحو القضية الخارجية- كما هو المختار لدينا و سوف نلقي الضوء عليه عن قريب- فالأمر يختلف عن ذلك، و يكون تكرار التكليف الوارد فيها في ما السنة الأولي متوقفا علي دليل يفيد التكرار، من قرينة لفظية أو عقلية تنضم إلي مفاد الآية، و بدونها فمقتضي إطلاق الأمر كفاية تحقق المأمور به و لو مرة.

و أما ما أفاده المحقق العراقي (رحمه اللّه) فيمكن تقريره بحيث لا يرد عليه الإشكال بأن الأحكام الشرعية و إن كانت في عالم الثبوت نتيجة للكسر و الانكسار بين المصالح و المفاسد الكثيرة المجهولة غالبا لدي المكلف، إلا أنها في عالم الإثبات تابعة للأدلة الشرعية العقلية و النقلية المؤدية إليها، و لا يمكن تقييد إطلاقاتها بالمصلحة كما تقيد بالضرورة بأنه لما كانت الهدنة في جميع الموارد التي يختارها ولي أمر الحرب و السلام، قائمة علي المصالح المقتضية أو الموجبة لها، المكافئة لمصلحة الجهاد و الراجحة عليها و بذلك ترجح علي حكم الجهاد الثابت بالأدلة الشرعية الكثيرة، و تكون أدلتها حاكمة علي أدلة الجهاد أو مقيدة لها.

ففي موضوع آية الانسلاخ أيضا إذا فرض وجود مصلحة راجحة علي مصلحة الجهاد، يمكن القول بتعين الهدنة عندئذ و عدم وجوب ما توجبه الآية المذكورة من القتال عند انتهاء الأشهر الحرم، فحكم هذه الآية حكم سائر آيات الجهاد في تقيدها بعدم وجود مصلحة في تركه فائقة علي مصلحة الجهاد، فإذا فرض مثل تلك المصلحة فالمورد لا يكون مورد الجهاد، بل مورد الهدنة.

و تكون النتيجة أن الهدنة حينما

كانت ذات مصلحة أقوي من مصلحة الجهاد جاز استمرارها حتي بعد انسلاخ الأشهر الحرم.

فما أورده هذا المحقق (رحمه اللّه) علي الاستدلال بآية الانسلاخ لإثبات عدم جواز الهدنة لأكثر من سنة، يبقي سليما عن الإشكال الذي أشرنا إليه، إلا أن هناك إشكالا آخر، و هو أن آية الانسلاخ أخص من دليل الهدنة، فتقدم عليه.

بيان ذلك: أن الظاهر من آية الانسلاخ بناء علي كون الحكم فيها علي نحو

المهادنة، ص: 21

القضية الحقيقية أن مدلولها ليس منحصرا في أصل حكم وجوب الجهاد، كما هو الحال في عمومات هذا الباب، بل الخطاب فيها متكفل أولا و بالأصالة لبيان أمر آخر و هو وجوب قتل المشركين حينما انسلخ و انتهي الأشهر الحرم، بمعني أن لهذه البرهة الزمانية خصوصية في نظر الشارع لإجراء عملية القتال، بحيث لا يرضي بتأخيره عنها، فيكون انتهاء الأشهر الحرم شرطا في توجه هذا الجانب الأصلي من مفاد الآية الشريفة، و تكون النتيجة أن المبادرة إلي الجهاد عند انسلاخ الأشهر الحرم في كل عام إلي ما قبل حلول تلك الأشهر من العام القادم يعتبر أمرا مطلوبا في نظر الشارع المقدس.

و بهذا البيان يتم استدلال من استدل بهذه الآية علي عدم جواز التخلي عن الجهاد في جميع طول السنة كما لا يخفي.

فحاصل هذا البيان: أن آية الانسلاخ أخص من دليل الهدنة لاختصاصها بما بعد انتهاء الأشهر الحرم، فتقدم الآية علي دليل الهدنة، و تكون مقيدة له بالنسبة إلي الزمان المأخوذ فيها، و لا تصل النوبة إلي ملاحظة المصلحة و تفاضلها في بابي القتال و الصلح.

و النتيجة هي أن الهدنة إذا كانت ذات مصلحة، فهي جائزة إلا في مورد آية الانسلاخ أعني القتال بعد انتهاء الأشهر الحرم.

و المحصل من جميع

ما ذكرنا في الكلام عما أشكل به الشهيد الثاني و المحقق العراقي (رحمهم اللّه) علي الاستدلال بآية (فَإِذَا انْسَلَخَ.) إلي آخرها: أن الاستدلال بها علي عدم جواز عقد الهدنة إلي سنة فما زاد، صحيح لا يرد عليه شي ء مما وردا عليه.

هذا، و لكن هناك إشكالا آخر علي هذا الاستدلال لم يتعرض له أحد فيما نعرف، و هو أن مبني هذا الاستدلال، هو أن مفاد الآية قضية حقيقية تصدي لبيان حكم كلي جار في جميع الأزمنة و بالنسبة إلي جميع الكفار، مثل غيرها من آيات الجهاد كقوله تعالي (قٰاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّٰارِ) «28»، فإنها

______________________________

(28) التوبة: 123.

المهادنة، ص: 22

ليست تشير فقط إلي الكفار الذين كانوا يلون المسلمين يومئذ، أو قوله تعالي (وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَكُمْ.) «29»، فإنها لا تعني قتال فئة خاصة تقاتل المؤمنين في ذاك الوقت، بل تصدي كل منهما لحكم كلي سار و جار في جميع الأزمنة و الأمكنة و بالنسبة إلي جميع طوائف الأعداء، فكلما وجد الموضوع في أي زمان و أي مكان، وقع عليه الحكم، شأن جميع القضايا الحقيقية، هذا هو مبني الاستدلال بالآية الشريفة علي وجوب الجهاد عند انسلاخ الأشهر الحرم في كل عام، و من الطبيعي أن المراد بالأشهر الحرم في الآية بناء علي هذا، هو الأربعة المعروفة، أو الثلاثة المجتمعة منها بالذات. لكنك عرفت مما قلناه في الأبحاث السابقة «30»، ضعف هذا المبني، و عدم الاعتراف منا بكون المراد من الأشهر الحرم تلك الأربعة المعروفة، و يتضح ذلك من النظر إلي الآية الشريفة عن كثب، و إلي الربط المنطقي عرفا بينها و بين التي قبلها من الآيات، و إليك النظرة الإجمالية إليها: لما أعلن تعالي براءته

و براءة رسوله عن المعاهدين من المشركين، أمهلهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، ثم قرن التوعيد و التهديد لهم في قوله تعالي (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّٰهِ) «31» بترغيبهم و حثهم علي الإيمان في قوله تعالي (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) «32»، ثم بعد ذلك التفت إلي المؤمنين و بين لهم حكم معاملة المشركين المعاهدين: من لم ينقض منهم عهده، و من نقض، فإما من راعي العهد و لم ينقضه، فأمر المؤمنين بأن يتموا عهدهم إلي مدتهم و لا يتخلفوا عما عاهدوهم عليه، و إما من نقض العهد و أظهر العداوة في أثناء مدة المعاهدة، فأمرهم بأن يقتلوهم بعد تمام الأربعة أشهر التي أمهلهم فيها، و يبيدوهم حيث يجدونهم و يأخذوهم و يحصروهم و يقعدوا لهم كل مرصد، و أن لا يحدثوا أنفسهم بالمعاهدة معهم بعد ذلك، إذ كيف يكون لهم عهد عند اللّه و عند رسوله و الحال أنهم إن يظهروا علي المؤمنين و يقدروا علي إيذائهم و التحامل عليهم لا يرقبوا في مؤمن إلا و لا ذمة. إلي آخر الآيات.

______________________________

(29) البقرة: 190.

(30) تقدم ذلك في بحث آخر، و هو المطلب التاسع (من الفصل الرابع) في حكم القتال في الأشهر الحرم.

(31) التوبة: 3.

(32) المصدر السابق.

المهادنة، ص: 23

هذا هو مضمون الآيات في أول سورة براءة، و هي كما تري تتصدي لحكم خاص بالنسبة إلي فئة خاصة من الكفار و هم مشركوا مكة و ما حولها من البلاد في الحجاز في زمان خاص، و ليس حكما عاما لكل فئات الكفار و لجميع الأزمنة، فهي قضية خارجية تعلق الحكم فيها بموضوع معين خارجي، و لذا تري أن حكم عدم المعاهدة مع المشركين الذين يظهرون الرفق و يبطنون

البغض و العناد، لم يفت به الفقهاء، مع أنه مذكور في الآيات، و ليس ذلك إلا من أجل أن الحكم في الآية ليس علي سياق القضية الحقيقية.

و في جو هذا الاستظهار من الآيات الشريفة، يتمكن الإنسان أن يعرف بوضوح أن المراد من الأشهر الحرم في الآية، ليست هي الأربعة المعروفة، بل المراد منها هي الأربعة التي أمهلهم الله تعالي أن يسيحوا فيها آمنين و حرم علي المؤمنين أن يتعرضوا لهم فيها.

إن قلت: قد جري ذكر الأشهر الحرم في الكتاب المبين في غير موضع، و المراد منها في الجميع هو تلك الأربعة المعروفة، مثل قوله تعالي (مِنْهٰا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ.) «33»، و قوله تعالي (الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ.) «34» فما الصارف عن هذا المعني هنا؟ قلت: أولا: ذكر اللفظ بمعني في مواضع من القرآن الكريم لا يستلزم كونه بعين ذاك المعني كلما استعمل في الكتاب العزيز، ما لم تصل كثرة موارد الاستعمال إلي حد تحصل به حقيقة شرعية لهذا اللفظ، أو تكون قرينة صارفة له عن غيره من المعاني.

و هذا لا يقطع به في ما نحن فيه و بالنسبة إلي الشهر الحرام في هذه الآية.

و ثانيا: سلمنا ذلك، لكن ذكر الأربعة أشهر التي جعلت حراما بالنسبة إلي هؤلاء المشركين في الآيات السابقة المرتبطة بهذه الآية، و كون الآيات بصدد

______________________________

(33) التوبة: 36.

(34) البقرة: 194.

المهادنة، ص: 24

بيان حكم قضية خارجية، يكفي صارفا لها عن ذلك المعني.

و ثالثا: فرضنا الشك في ذلك كله، فالحكم بوجوب القتال بعد الأربعة أشهر المعروفة استنادا للآية مع فرض الشك في المراد منها غير سديد.

فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الآية الشريفة التي استدل بها علي عدم جواز الهدنة في سنة و أزيد، أجنبية عن

مرامهم، ناظرة إلي أمر آخر، لا يمكن الاستدلال بها علي ما ذكروه، و حينئذ فإطلاق دليل الصلح أعني قوله تعالي (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا.) «35» و سائر ما استدل به في الباب يشمل الصلح في أكثر من سنة، فيجوز إذا كان له مصلحة، علي ما هو المقرر من اشتراط جوازه بالمصلحة.

الثالث: مما استدل به علي عدم جواز المهادنة في أكثر من سنة قوله تعالي (فَلٰا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَي السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللّٰهُ مَعَكُمْ) «36»، و قد استدل به العلامة (رحمه اللّه) في المنتهي و لم أر من استدل به غيره، و تقريب الاستدلال حسبما ذكره العلامة (رحمه اللّه)، أن مقتضاه النهي عن ابتداء المسألة عن الموادعة، إلا أنا خصصنا ما دون السنة للأدلة، فيبقي الباقي علي العموم «37».

و يرد علي الاستدلال أن الآية الشريفة لا تنهي عن السلم و إنما تنهي عن الدعوة إليه، فهي أجنبية عن ما نحن بصدده، أو قل: أنها أخص من المدعي، ثم إن الاستدلال بها علي عدم الجواز في سنة و أكثر أيضا مبني علي المسامحة إذ الدليل المخصص إنما يخصص أربعة أشهر فما دون، فالباقي الذي يبقي تحت العموم هو ما يزيد علي أربعة أشهر، و هذا غير المدعي.

ثم إن الإجماع المدعي علي الحكم، مما لا يمكن التعويل عليه، أولا من جهة أن اختلاف كلمات الشيخ و المحقق و العلامة (رحمهم اللّه) في التعبير عنه فعبر عنه الأول بعدم الخلاف و الثاني بالشهرة و الثالث بالإجماع يوجب وهن الدعوي، و ثانيا من جهة أن الظاهر من تعابير الشيخ و غيره، استناد فتوي المجمعين

______________________________

(35) الأنفال: 61.

(36) محمّد: 35.

(37) المنتهي 2: 974.

المهادنة، ص: 25

إلي الآية الشريفة

(فَإِذَا انْسَلَخَ.) قال في المبسوط بعد قوله: بلا خلاف: «لقوله تعالي (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ.)» «38»، و قريب منه ما في المنتهي.

و من المعلوم أن اتفاق العلماء في استنادهم إلي دليل شرعي أو عقلي في حكم من الأحكام ليس هو الإجماع المصطلح الذي يعد أحد الأدلة الأربعة.

و علي ذلك فالعمدة في الاستدلال علي عدم جواز المهادنة في سنة و أكثر، هي الآية الأولي، و قد عرفت عدم كفايتها للاستدلال، فالصحيح ما ذكره بعض الأعاظم (رحمه اللّه) في منهاجه من أن ما هو المشهور بين الفقهاء من أنه لا يجوز جعل المدة أكثر من سنة فلا يمكن إتمامه بدليل «39».

فالأقوي جوازه إذا كان فيه مصلحة.

ثم إنه وقع البحث بناء علي عدم الجواز إلي سنة في جواز الهدنة فيما دون السنة و أكثر من أربعة أشهر، فقال الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط بعدم الجواز استنادا إلي آية (فَإِذَا انْسَلَخَ.) بناء علي كيفية استدلاله بها و قد تقدم ذكره و حاصله: أنها اقتضت قتلهم بكل حال.

و نسب إلي الشافعي في أحد قوليه: الجواز تمسكا بإطلاق قوله تعالي (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا. الآية) «40»، و المشهور بين أصحابنا هو مراعاة الأصلح.

و لا يخفي عليك أن الأمر بالنسبة إلي ما بين أربعة أشهر و السنة بناء علي ما ذكرناه في الاستظهار من الآية الشريفة (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ.) لا يختلف عنه بالنسبة إلي غير هذه المدة، بمعني أن الصلح أمر جائز في الجميع.

و أما ما عن المشهور من مراعاة الأصلح، فهو يجري في جميع الموارد إن فرض قيام دليل عليه.

و عمدة ما يمكن أن يستدل به علي ذلك هو ما قلناه سابقا من أن مناسبات الحكم و الموضوع

تقتضي أن ينظر إلي الصلح كاستثناء في باب الجهاد،

______________________________

(38) المبسوط 2: 51.

(39) منهاج الصالحين: 401، قسم العبادات، كتاب الجهاد، المسألة 90.

(40) الأنفال: 61.

المهادنة، ص: 26

فبملاحظة ما ورد في باب الجهاد من الآيات الكريمة مثل قوله تعالي (الَّذِينَ آمَنُوا يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ) إلي قوله تعالي (فَقٰاتِلُوا أَوْلِيٰاءَ الشَّيْطٰانِ.) «41»، و قوله تعالي (إِنَّ اللّٰهَ اشْتَريٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ.) «42»، و قوله تعالي (قٰاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّٰارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) «43»، و قوله تعالي (أَشِدّٰاءُ عَلَي الْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ.) «44» إلي الكثير من النصوص القرآنية و أشباهها في الأحاديث الواردة عن النبي (صلي الله عليه و آله) و الأئمة (عليهم السلام). فبملاحظة ذلك كله يحصل القطع بأن الأصل في معاملة الأعداء الحربيين هو الجهاد، و لكن هناك استثناءات و منها المهادنة.

و قد سبق أن الشرط الأصلي فيها هو اشتمالها علي مصلحة للمسلمين، و من المعلوم أن المصلحة ليس المراد منها مطلق المصلحة و لو كانت ضعيفة غير قابلة للاعتناء بها بنظر العقلاء و أهل الحزم و الاستصلاح، كما أنه ليس المراد منها الضرورة التي تقدم علي أدلة جميع الأحكام في جميع الأبواب، بل المراد هو المصلحة الفائقة علي مصلحة الجهاد في كل مورد، و لذلك قلنا سابقا أن الصلح بناء علي ذلك قد يكون جائزا و قد يكون واجبا، علي حسب المصلحة الموجودة فيه.

فبناء علي ذلك يكون كلام المحقق (رحمه اللّه) في الشرائع و الذي وافقه عليه العلامة و الشهيد الثاني و الكركي و صاحب الجواهر (رحمهم اللّه) و غيرهم، و هو مراعاة الأصلح، متينا مقرونا بالدليل من دون فرق فيه بين

الأقل من سنة و الأكثر منها.

إن قلت: هذا الذي تقولون من لزوم رعاية المصلحة جمعا بين دليلي الجهاد و الصلح، إنما يستقيم إذا كان الدليلان متكافئين، و ليس هكذا الحال إذ دليل الصلح أخص من دليل الجهاد، فإن هذا أعم من صورة جنوح العدو إلي الصلح و عدمه، و ذلك مخصوص بصورة جنوحه إلي الصلح، فيقدم عليه مطلقا من دون رعاية المصلحة.

قلت: أخصية دليل الصلح من عمومات الجهاد و إن كان مقتضي ظاهر هذه

______________________________

(41) النساء: 76.

(42) التوبة: 111.

(43) التوبة: 123.

(44) الفتح: 29.

المهادنة، ص: 27

النصوص و لا يبعد الأخذ بذلك كما سيأتي إلا أن القول بجواز الصلح عند جنوح العدو إليه مطلقا و لو كان خاليا من المصلحة خلاف مقتضي الحكمة و موجب لتعطيل الجهاد في غالب موارده، و بشكل خاص في الموارد التي يكون وقف الجهاد فيها لمصلحة العدو، و استمراره خلاف مصلحته. و هو معلوم البطلان، فلا مناص من القول بلزوم رعاية المصلحة حتي في صورة جنوح العدو إلي السلم.

3- لا خلاف في جواز تحديد مدة الصلح لأكثر من سنة عند ضعف المسلمين و حاجتهم إلي ذلك، و لا يبعد أن يكون المراد كون المسلمين في اضطرار لذلك، و إلا فلا دليل بعد تسليم تمامية دليل حرمة الهدنة لأكثر من سنة علي أن صرف الضعف يوجب جواز ذلك إذ من المتصور أن يستمر القتال بدون هدنة لعل اللّه يحدث بعد ذلك أمرا.

و كيف كان فقد ذهب الشيخ (رحمه اللّه) إلي أن الهدنة تتقدر حينئذ بعشر سنين لا أزيد، قال في المبسوط: «فأما إذا لم يكن الإمام مستظهرا علي المشركين بل كانوا مستظهرين عليه لقوتهم و ضعف المسلمين أو كان العدو بالبعد منهم و في

قصدهم التزام مؤن كثيرة، فيجوز أن يهادنهم إلي عشر سنين لأن النبي (صلي الله عليه و آله) هادن قريشا عام الحديبية إلي عشر سنين، ثم نقضوها من قبل نفوسهم، فإن هادنهم إلي أكثر من عشر سنين بطل العقد فيما زاد علي العشر سنين و ثبت في العشر سنين» انتهي «45».

و قريب منه ما في فقه القرآن للقطب الراوندي «46».

و قال العلامة في القواعد: «و لو عقد مع الضعف علي أزيد من عشر سنين بطل الزائد» «47»، و قد نسب هذا القول إلي ابن الجنيد أيضا.

و استدل له الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط بفعل النبي (صلي الله عليه و آله) في الحديبية، حيث هادن قريشا إلي عشر سنين، ثم نقضوها من قبل أنفسهم، انتهي.

و حيث

______________________________

(45) المبسوط 2: 51.

(46) الينابيع الفقهية 9: 130.

(47) المصدر اسابق: 264.

المهادنة، ص: 28

إن نفس فعل النبي (صلي الله عليه و آله) لا يدل علي أكثر من جواز هذا العمل أعني مهادنة عشر سنين، و ليس له دلالة علي عدم جوازه في أكثر من تلك المدة.

تمم العلامة (رحمه اللّه) في المنتهي الدليل المذكور، بضميمة عموم قوله تعالي (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. الآية)، خرج منهم من صولح معهم عشر سنين بمصالحة النبي (صلي الله عليه و آله) فيبقي الباقي علي العموم «48» إلا أنه (رحمه اللّه) بعد ما نقل خلاف أبي حنيفة في ذلك و اختياره الجواز علي ما يراه الإمام و استدلاله بأمور يناسب مسلكه في القياس، قوي اختيار أبي حنيفة «49»، و في التذكرة نفي البأس عنه «50»، فمختاره بناء علي ذلك جواز الهدنة لأكثر من عشر سنين إذا رأي الإمام مصلحة في ذلك.

و من العجب أن الشيخ الكركي (رحمه اللّه) نسب إلي العلامة

في المنتهي و التذكرة الجواز مع الضرورة، و قال: «و ليس بذلك البعيد.» «51» إذ ليس في كلامه (رحمه اللّه) تعرض لحال الضرورة، إلا أن يقال إن محل الكلام في كلمات الأصحاب هو حال الضرورة، كما نفينا البعد عنه قبل ذلك.

و كيف كان فما قواه العلامة في المنتهي و التذكرة و اختاره صاحب الجواهر (رحمه اللّه) و غيره، أعني عدم تقيد زمان الهدنة بعشر سنين عند حاجة المسلمين إليها، هو الذي يساعده إطلاق أدلة الصلح من حيث المدة، و الوجه الوجيه للجمع بينها و بين إطلاقات باب الجهاد علي ما تقدم.

4- تقدم سابقا أن جعل المدة من شرائط صحة الهدنة بل مما له دخل في المفهوم من هذا العنوان في الاستعمالات الدارجة في السنة الفقهاء (رحمهم اللّه)، فلا يجوز الهدنة مع التأبيد أو الإطلاق، أعني إهمال ذكر المدة.

لكن في بعض الكلمات مضافا إلي ذلك اشتراط تعيين قدر المدة، فقد صرح نفر من الفقهاء بمانعية جهالة المدة، فلو قال مثلا: أهادنك إلي مدة، أو قال: أهادنك إلي ما لا يقصر عن عشر سنين، أو إلي أقل من عشرين سنة و أمثال ذلك لم تنعقد الهدنة، من أجل عدم تعيين المدة فيها.

و علي هذا فمراد من اعتبر تعيين المدة، ليس اعتبار كون الهدنة ذات مدة

______________________________

(48) المنتهي 2: 974.

(49) المصدر السابق.

(50) تذكرة الفقهاء 1: 447.

(51) جامع المقاصد 3: 470.

المهادنة، ص: 29

فقط، بل مراده مضافا إلي ذلك تعيين مقدار المدة طولا و قصرا، و ضرب أجل لزمان الهدنة، كسنة أو عشر سنين أو أقل أو أكثر.

فممن صرح بأن جهالة المدة تضر في عقد الهدنة العلامة (رحمه اللّه)، فقال في القواعد: «و لا بد من تعيين المدة، فلو شرط مدة

مجهولة لم تصح» انتهي «52».

و يعني بذلك عدم صحة العقد، و علي فرض كون المراد بقوله: «لم تصح» عدم صحة الشرط، فذلك أيضا ينتهي إلي عدم صحة العقد بناء علي ما هو المشهور من أن فساد الشرط في خصوص المهادنة يوجب فساد العقد، و سوف يأتي الكلام في ذلك.

و قال في الإرشاد: «و لو هادنهم علي ترك الحرب مدة مضبوطة وجب، و لا تصح المجهولة»، انتهي «53».

و في المنتهي: «و كذا لا يجوز إلي مدة مجهولة» «54»، و قال المحقق في الشرائع: «و لا تصح إلي مدة مجهولة و لا مطلقا» «55».

إلا أن كلام الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط ليس بتلك المثابة من الوضوح، فإنه قال: «و لا بد من أن تكون مدة الهدنة معلومة، فإن عقدها مطلقة إلي غير مدة كان العقد باطلا لأن إطلاقها يقتضي التأبيد» انتهي «56».

فإن ما فرعه علي لزوم معلومية المدة إنما يناسب أصل اشتراط المدة في مقابل التأبيد لا معلومية قدرها، و هذا يوجب سلب ظهور كلامه في ما نحن فيه، فربما يكون مراده أصل ذكر المدة الذي هو خارج عن محل الكلام.

إلا أن يقال: إن جعل المدة في العقد، لا ينفك موضوعا في رأي الشيخ (رحمه اللّه) عن كونها معينة، فإهمال مقدار المدة و عدم تعيينه، يساوي في نظره مع إطلاق العقد و عدم جعل المدة له رأسا.

و علي أي حال، فالكلام في الدليل علي ذلك.

ربما يستدل له بأن العقود غير صحيحة مع الجهالة، كما هو المعروف في

______________________________

(52) قواعد الأحكام 1: 116.

(53) إرشاد الأذهان 1: 345. ط- جماعة المدرسين.

(54) منتهي المطلب 2: 974. ط- حجري.

(55) شرائع الإسلام 1: 254.

(56) المبسوط 2: 51.

المهادنة، ص: 30

البيع و الإجارة و غيرهما،

صرح بذلك المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد «57».

و لا يرد عليه الإشكال بأن: الجهالة المانعة عن الصحة في أمثال البيع و الإجارة، إنما هي جهالة العوضين فيهما، و أين هذا من جهالة المدة في مثل الهدنة؟ إذ يمكن الإجابة عنه بأن قيام عقد الهدنة بالزمان، ليس بأقل من قيام البيع و الإجارة بالعوضين، فكما أن جهالتهما فيهما توجب كون العقد فيهما علي أمر مجهول فكذلك جهالة المدة في الهدنة توجب وقوع العقد فيها علي أمر مجهول، و هذا هو الذي يبطل العقد به.

و لكن مع ذلك يمكن تضعيف هذا الاستدلال بأن عدم صحة العقود مطلقا بالجهالة غير معلوم، بل معلوم العدم لوجود معاملات مبنية علي نوع من الجهالة كالمزارعة و المضاربة و الجعالة و غيرها، مع أنها شرعية بلا إشكال.

بل حتي لزوم معلومية العوضين و مانعية الجهل بهما في البيع و الإجارة أيضا غير متفق عليه إلا فيما انجر جهالتهما إلي الغرر، فقد ذهب جمع من الفقهاء إلي أن جهالة العوضين في نفسها لا تضر حتي في مثل البيع و الإجارة، و ناقشوا في دلالة ما يدعي دلالته علي ذلك من الروايات.

و العجب أن المحقق الأردبيلي نفسه من جملة هؤلاء الذين لا يرون اعتبار العلم بالعوضين في البيع، و يجوز البيع الجزافي كبيع الصبرة و يضعف الدليل المدعي علي اعتبار معلومية العوضين. «58»

و حينئذ فالمناقشة في صحة الهدنة من جهة مجهولية المدة فيها، غير وجيهة لا سيما من مثله.

نعم مانعية الغرر عن صحة العقد، أمر متفق عليه، إلا أن القدر المتيقن في ذلك هو الغرر في عقد البيع الذي ورد فيه الحديث المشهور المتلقي بالقبول بين علماء الإسلام، عن النبي (صلي الله عليه و آله)

أنه نهي عن بيع الغرر، و هو معقد الإجماعات المنقولة في باب مانعية الغرر، و لو تعدينا عن البيع إلي غيره من جهة تنقيح المناط القطعي، فإنما نتعدي إلي عقود من قبيل الإجارة و أمثالها التي تشابه البيع في كثير من أركانه و إنما

______________________________

(57) مجمع الفائدة و البرهان 7: 459.

(58) المصدر السابق 8: 175 فما بعدها.

المهادنة، ص: 31

تختلف عنه ببعض الخصوصيات، و أما الهدنة فهي بمعزل تماما عن جريان الحكم المنصوص عليه في البيع إليها لأن حقيقتها ليست مبادلة شي ء بشي ء، بل اتفاق من الطرفين علي أمر واحد فيما بينهما، و هو ترك نائرة الحرب.

و الحاصل: أن جهالة المدة في الهدنة لا تكون مضرة بصحة العقد من هذه الجهة، و لا يقاس عقد الهدنة بعقد البيع في أحكامه مع ذاك الفرق الشاسع بينهما.

هذا، و قد سلك صاحب الجواهر (رحمه اللّه) في إثبات مانعية جهالة المدة في الهدنة مسلكا آخر، فإنه بعد ادعاء عدم الخلاف في المسألة قال ما محصله: إن مثل هذا العقد ذو مفسدة فبطلانه مقتضي الأصل، هذا أولا، و ثانيا أن الأجل في كل عقد اشترط فيه الأجل لا بد أن يكون معلوما، و ذلك حتي في مثل الصلح الذي يقع علي المجهول، و هذا من مسلمات الفقه، بل ربما يمكن دعوي الإجماع عليه، انتهي محصل كلام صاحب الجواهر (رحمه اللّه).

أقول: أما الأمر الأول: فهو دعوي صغروي لا نناقش فيها من حيث كبراها إذ من المعلوم بطلان كل هدنة تكون فيها مفسدة، و لكن المناقشة في الصغري لها مجال إذ رب هدنة مجهولة المدة يكون فيها صلاح كبير للمسلمين، فالأمر موكول في كل مورد إلي ملاحظة حاله بخصوصه.

و أما الثاني: فهو كلام متين

لا بد من الخوض في مغزاه، فما أفاده (رحمه اللّه) من أن كل عقد اشتمل علي أجل فإن الأجل فيه لا بد أن يكون معلوما، فقد سبقه في التفطن لذلك الشهيد الثاني في هذا المورد، حيث قال مستدلا لبطلان العقد في مجهول المدة: «أما في المجهولة المدة فلأنه عقد يشتمل علي أجل فيشترط فيه العلم كغيره».

(راجع المسالك ذيل كلام المحقق في هذه المسألة) «59» و هو كلام يصدقه التتبع في الأبواب المختلفة في الفقه مثل:

______________________________

(59) المسالك 1: 125.

المهادنة، ص: 32

المزارعة، و المساقاة، و الإجارة و المتعة و غيرها، فراجع كلمات الفقهاء في ذلك، و له سر نتصدي لبيانه بعد قليل.

ثم إن صاحب الجواهر (رحمه اللّه) فرع علي ذلك أنه: لو اشترط الإمام الخيار لنفسه مع جعل المدة مجهولة، لا يجدي ذلك في تصحيح عقد الهدنة، ورد كلام المحقق و الشهيد الثانيين حيث مالا إلي صحته، معللين بانتفاء الجهالة بعد حصول التراضي منهما، و أوكل إبطال كلامهما إلي وضوحه بقوله: و هو كما تري. و لعله أراد بذلك أن الأجل مع هذا الشرط أيضا يبقي غير معلوم، علي ما هو المفروض من عدم علم الطرفين بأن الإمام متي يشاء النقض و يختاره.

أقول: يبدو أن الجهالة في هذا الباب لم تقصد بمعني واحد في كلام المورد و المورد عليه، أعني المحقق و الشهيد الثانيين من جانب، و صاحب الجواهر من جانب آخر.

و تبيين الحق في ذلك يتم بالتفريق بين قسمي الجهالة، فنقول: تارة يراد بجهالة الأجل، عدم علم الطرفين أو أحدهما به مع تعينه في الواقع، كما لو نسيا المدة مثلا أو كتباه في كتاب ثم ضاع الكتاب.

و لا شك في أن مثل هذه الجهالة لا ترتفع

بجعل الخيار للإمام إذ عدم علم الطرف الآخر علي الأقل بالأجل باق بحاله مع ذلك.

و كما أوكل صاحب الجواهر (رحمه اللّه) الأمر في ذلك إلي وضوحه فهو واضح لا يحتاج إلي الاستدلال.

و أخري يراد بها الجهالة بمعني عدم تعينه رأسا من أول الأمر، و هذه الجهالة هي الجهالة في مقام الثبوت و نفس الأمر.

فالمدة المجهولة علي هذا المعني هي التي لم تعين من قبل المتعاملين، مع ذكر عنوان المدة و جعل المعاملة مقيدة بها، كما لو قالت في المتعة مثلا: زوجتك نفسي إلي مدة، ففي موارد الجهالة بهذا المعني لا شك في أن جعل الخيار لأحد الطرفين أو لكليهما يوجب ارتفاع الجهالة بذاك المعني لأن المدة تعينت في الواقع و نفس

المهادنة، ص: 33

الأمر و إن لم تتعين في علم المتعاملين.

هذا هو الفرق الموضوعي بين النوعين من الجهالة، ثم بعد ما اتضح ذلك فلا بد من نقل الكلام إلي أن الجهالة التي أفتي العلماء في جميع أبواب الفقه بكونها لا تلائم جعل الأجل في كل ما اشترط فيه الأجل و أن الأجل لا بد و أن يكون معلوما دائما، أريد بها أي النوعين من الجهالة؟

لا ينبغي التأمل في أن الجهالة بالمعني الثاني تضر دائما في كل عقد اشترط فيه الأجل، بمعني أن الأجل في أي باب من أبواب الفقه لا يحتمل مثلها، و السر في ذلك أن الجهالة بهذا المعني تنافي معني الأجل و حقيقته إذ الأجل عبارة عن نهاية المدة، فكل شي ء لم يعين له نهاية فليس يصدق عليه أن له الأجل، مثال ذلك: الأجل في باب القرض و المتعة و النسيئة و السلم و غير ذلك، فلو كانت النهاية معينة بتعيين من قبل من

له التعيين في المدة المأخوذة في العقد، فذلك هو الأجل، و لو فرض كونها مجهولة لدي بعض أطراف القضية أو جميعها.

و أما إذا فرض عدم تعيينها واقعا من قبل من له تعيين ذلك، فهذا لا يصدق عليه الأجل، و هذا هو سر ما عرفت سابقا من الشهيد الثاني و صاحب الجواهر (رحمهما اللّه) من أن كل أجل اشتمل عليه عقد فإنه لا بد و أن يكون معلوما.

فحاصل الكلام: أن الجهالة بالمعني الثاني تضر دائما في جميع العقود التي أخذ فيها أجل، و هي الجهالة النفس الأمرية، أعني بقاء الأمد مجهولا في الواقع و عدم تعيينه من ناحية من له حق التعيين.

و أما الجهالة بالمعني الأول أعني عدم علم أحد الطرفين أو كليهما بالأمد مع تعيينه واقعا، فتلك و إن كانت تضر في بعض العقود كالمتعة و غيرها و ذلك إنما يكون بدليل خاص في كل مورد إلا أنه لا دليل علي كونها مضرة في جميع العقود إذ لا دليل علي مانعية الجهالة في العقود كلها.

و لو شككنا في مورد خاص في أنه هل تضر الجهالة فيه بصحة العقد،

المهادنة، ص: 34

فمقتضي القاعدة هو عدم إخلال الجهالة بهذا المعني في العقد، علي ما هو المقرر في محله في حكم الشك في الشرطية و الجزئية و المانعية للعقود.

و فيما نحن فيه، أي في باب الهدنة لا ينبغي التأمل في أن مجهولية المدة بالمعني الثاني، أي بقاؤها مجهولة في العقد و عدم تعيينها رأسا مضر في صحة العقد لما أوضحناه آنفا، بخلاف المجهولية بالمعني الأول، أي جهالة الطرفين أو أحدهما بها بعد تعيينها واقعا.

و حينئذ نقول: تعليق الهدنة و تأجيلها إلي أن يشاء الإمام، يرفع الجهالة بالمعني الثاني، فالأقرب

صحة العقد المؤجل به، و بيان رفع الجهالة به قد سبق فلا نكرر، و اللّه العالم.

5- هل يجوز أن يشترط في عقد الهدنة خيار النقض أم لا؟ و هذا و إن كان أحد جزئيات مسألة الشرط في المهادنة التي سنوا في الكلام فيها إلا أنه لما كان له نوع صلة بمسألة المدة و قد تعرض له العلماء في هذه المسألة، رجحنا بيانه هنا.

و محل الكلام فيه لا يختص بما إذا كانت المدة معلومة كما ادعاه في الجواهر، بل يجري أيضا فيما كانت المدة فيه مجهولة فإن نفس تعيين اختيار الإمام للنقض أمدا للهدنة، تكون بمنزلة تعيين المدة لها و ترتفع بذلك الجهالة المضرة في الأجل، كما بينا ذلك آنفا.

و الظاهر جواز ذلك في الجملة لعموم أدلة الشروط، و عدم مانع منه.

و قد نسب المنع عنه إلي بعض العامة، مستدلا بأنها عقد لازم فلا يجوز اشتراط نقضه، و الجواب أن العقد لو كان جائزا لم يكن نقضه محتاجا إلي الاشتراط في العقد، بل يجوز نقضه بدون الاشتراط، فنفس تعليق جواز النقض باشتراطه حين العقد من أمارات لزومه و من لوازمه، مضافا إلي أن العقود اللازمة كالبيع و غيره أيضا جعل فيها الخيار، و هذا أيضا نوع من

المهادنة، ص: 35

الخيار كما قاله العلامة (رحمه اللّه).

ثم إن القدر المتيقن من جواز ذلك، هو فيما جعل خيار النقض للإمام أي للطرف المسلم و قد استدل له العلامة (رحمه اللّه) في المنتهي بأن فيه المصلحة فيجوز.

و قد ذكرنا آنفا أن الجواز مقتضي عموم أدلة الشروط مع عدم ورود رادع عنه، و قد نقل في ذلك حديث، و هو ما رواه في السنن الكبري: «لما فتح خيبر عنوة بقي حصن فصالحوه

علي أن يقرهم ما أقرهم اللّه، فقال لهم: نقركم ما شئنا» «60».

أما بالنسبة إلي اشتراط النقض لمن شاء من الطرفين فقد منع ذلك العلامة (رحمه اللّه) في المنتهي بدعوي أن ذلك يفضي إلي ضد المقصود «61».

و لكن في الجواهر استنكر ذلك مدعيا أن فيه منعا واضحا ضرورة اقتضاء العمومات الجواز، فيفي لهم ما داموا علي العهد.

أقول: وضوح منع كلام العلامة (رحمه اللّه) في محله إن كان مراده من الإفضاء إلي ضد المقصود أن مثل هذا الشرط مخالف لمقتضي العقد و ذلك لأن هذا المقدار من المخالفة لمقتضي العقد لا يدخل الشرط في عداد الشروط الممنوعة، كما في اشتراط الخيار من الطرفين في البيع.

و أما إن كان مراد العلامة (رحمه اللّه) أن مثل هذا الاشتراط يخرج عقد الهدنة من عنوان كونه ذا مصلحة، فيوجب فساده من هذه الجهة، فله وجه.

بيان ذلك: إن الإقدام بقبول الهدنة من قبل إمام المسلمين لا بد و أن يكون في مورد يحتاج المسلمون إلي اختتام الحرب و الحصول علي الصلح و الهدوء، إما من جهة ضعفهم عن المقاومة، أو استلزام الحرب خسائر كبيرة تنافي مصلحة المسلمين، أو غير ذلك من المصالح التي أشرنا إليها في أول البحث.

فلو فرض أن عقد الهدنة يقترن بما يهدد حالة الصلح و يجعله عرضة للانتقاض في كل زمان، فأي مصلحة فيه يعتمد عليها في المبادرة إليه؟

______________________________

(60) السنن 9: 224، باب المهادنة إلي غير مدّة.

(61) المنتهي 2: 974.

المهادنة، ص: 36

فنفس اشتراط مثل هذا الشرط ينافي وجود المصلحة في عقد الهدنة، الذي هو شرط في صحته.

و ما ذكره صاحب الجواهر (رحمه اللّه) في مقام التخلص عن هذا الإشكال من أن ولي أمر المسلمين يفي للكفار ما داموا علي

العهد، لا ينهض لذلك إذ المفروض أن نفس العود إلي حالة الحرب مخالف لمصلحة المسلمين، فمقابلة المسلمين للكفار في حال عدم الوفاء و عودهم إلي الحرب لا تكفي في حفظ المصلحة التي روعيت في الإقدام بعقد الهدنة.

هذا مضافا إلي أن مثل هذا الشرط يجعل المسلمين في حالة الانفعال و ترصد الخطر، و يجعل الكفار في حالة المبادرة و التسلط، و عليه فلا يبعد التمسك لعدم جواز هذا الشرط بأمثال قوله تعالي (وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) «62».

هذا كله فيما لو كانت المصلحة التي لوحظت في عقد الهدنة، من قبيل ضعف المسلمين و أمثاله، مما يرجع إلي كون الحرب خلاف المصلحة لهم، و أما في غير ذلك من المصالح المفروضة مثل حسن السمعة في الأوساط العالمية، أو إتمام الحجة علي الكفار الأعداء، أو فسح المجال للكفار رجاء ميلهم إلي الإسلام و ما إلي ذلك من المصالح، فجعل هذا الشرط، غير مفض إلي ضد المقصود، فلا يتأتي ما ذكرناه في توجيه كلام العلامة (رحمه اللّه).

فحاصل الكلام: أن اشتراط نقض الهدنة لمن شاء من الطرفين لا يجوز فيما ينجر إلي ضد المقصود و خلاف مصلحة المسلمين كما ذكرنا و لا يشمله حينئذ عموم أدلة الشروط في المعاملات، و أولي منه في عدم الجواز ما لو اشترط نقض الهدنة للكافر دون ولي أمر المسلمين.

و أما إذا لم ينجر الشرط إلي ذلك كالأمثلة التي ذكرناها أخيرا فيجوز في الموردين، و إن كان إشكال تسلط الكافرين علي المؤمنين باق بحاله، في بعض الفروض فلا يجوز فيها، و اللّه العالم.

______________________________

(62) النساء: 141.

المهادنة، ص: 37

الأمر الرابع: في الشروط التي تذكر في عقد الهدنة

و يلزم بها بعض المهادنين البعض: و لا إشكال في جوازها و إلزامها لأدلة وجوب

الوفاء بالشروط، و عدم فرق بين الهدنة و غيرها من العقود المشترطة بالشروط، و لا خلاف في ذلك في الجملة علي ما في المنتهي و الجواهر.

و قد استثني من ذلك شرط الأفعال المحرمة، و هذا أيضا مما لا كلام فيه كما في سائر العقود، و الدليل عليه الأخبار المعتبرة الدالة علي عدم جواز كل شرط خالف كتاب اللّه، و لا بأس بذكر جملة منها.

فمنها: صحيحة ابن سنان

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «من اشترط شرطا مخالفا لكتاب اللّه فلا يجوز له، و لا يجوز علي الذي اشترط عليه، و المسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب اللّه عز و جل»

«63» و لا ينبغي الشك في أن أحكام الشريعة كلها داخلة في عنوان كتاب اللّه و إن ثبتت بالسنة، إما من جهة قوله تعالي (وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) «64» فالأخذ بقول الرسول و أوصيائه المعصومين (عليهم سلام الملك الحق المبين) أخذ بما ورد في الكتاب و لو إجمالا، و إما من جهة أن المراد بكتاب اللّه ما كتبه اللّه تعالي علي الناس، لا خصوص ما هو مكتوب في القرآن.

و منها: صحيحته الأخري

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف كتاب اللّه عز و جل فلا يجوز»

«65». و المراد من عدم الجواز في الحديثين عدم المضي و النفوذ، كما هو واضح.

و منها: صحيحته الثالثة، قال

سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الشرط في الإماء لا تباع و لا توهب، قال: «يجوز ذلك غير الميراث، فإنها تورث لأن كل شرط خالف الكتاب باطل»

«66». و منها: رواية الحلبي

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رجلين اشتركا في مال و ربحا

فيه ربحا و كان المال دينا عليهما، فقال أحدهما لصاحبه: أعطني رأس المال

______________________________

(63) الوسائل 12: 353، ب 6 أبواب الخيار، ح 1.

(64) الحشر: 7.

(65) الوسائل 12: 353، ب 6، أبواب الخيار، ح 2.

(66) المصدر السابق: ح 3.

المهادنة، ص: 38

و الربح لك و ما توي فعليك، فقال (عليه السلام): «لا بأس به إذا اشترط عليه، و إن كان شرطا يخالف كتاب اللّه عز و جل فهو رد إلي كتاب اللّه عز و جل»

«67» الحديث.

و علي بن حديد في سند هذه الرواية ممن روي عنهم ابن أبي عمير كما أنه من رواة أسانيد ابن قولويه في كامل الزيارات، فهو ممن يعتمد عليه لو لا ما هو المعروف من تضعيف الشيخ (رحمه اللّه) إياه في غير موضع من الاستبصار و التهذيب، و لكن المضمون ليس مما انفرد به هذا الراوي و لا يعارضه شي ء مما ورد من الطرق المعتبرة، فالأخذ بقوله غير محظور.

و غير ذلك من الأخبار المنتشرة في الأبواب المتفرقة، و قد عمل بمضمونها الفقهاء في المعاملات و غيرها، و أفتوا بها في عقد البيع و غيره، و ليس فيها ما يصرفها عن مثل عقد الهدنة، و قد ذكروا تفاصيل في بيان معني الأمر المخالف للكتاب، فليراجع إليها في بحث الشروط من كتاب التجارة.

إلا أن الفقهاء (رحمهم اللّه) تعرضوا في هذا الباب لإحدي صغريات تلك المسألة بالخصوص، و هي شرط رد النسوة المؤمنات إلي الكفار، و أفتوا ببطلان هذا الشرط و فساده.

قال في المبسوط: «و إذا وقعت الهدنة علي وضع الحرب و كف البعض عن البعض، فجاءتنا امراة منهم مسلمة مهاجرة لا يجوز ردها بحال، سواء كان شرط ردها أو لم يشرط، و سواء كان لها رهط

و عشيرة أم لم يكن لأن رهطها و عشيرتها لا يمنعونها من التزويج بالكافر، و ذلك غير جائز. إلي آخر كلامه» «68».

و قال المحقق بعد التمثيل لما لا يجب وفاؤه من الشرط في الهدنة بالتظاهر بالمناكير و إعادة من يهاجر من النساء: «فلو هاجرت و تحقق إسلامها لم تعد»، انتهي.

و مثلهما في التصريح بالحكم بغير خلاف في ذلك العلامة (رحمه اللّه) و كذا شراح كتبه و كتب المحقق من المتأخرين (رحمهم اللّه).

و المستند في ذلك الآية الشريفة (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ الْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ فَلٰا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَي الْكُفّٰارِ. الآية) «69»، و قد نزلت كما في التفسير بعد الحديبية و عند ما لجأت

______________________________

(67) المصدر السابق: ح 4.

(68) المبسوط 2: 53.

(69) الممتحنة: 10.

المهادنة، ص: 39

إلي المسلمين نفر من نساء المشركين، و طلبهن أهلهن، فامتنع رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) من ردهن.

إلا أن في بعض الروايات و كلها عامية السند أنه (صلي الله عليه و آله) استدل لذلك بأنهن غير مذكورات في عهد الصلح بخلاف الرجال، مما يوهم أنه لو كن مذكورات لوجب ردهن، و لكن صريح الآية يدفع هذا التوهم، كما يدفع إطلاقها بعض ما قيل في فروع المسألة، مثل: إن جاءت صغيرة ثم بعد بلوغها لم تقم علي الإسلام ردت.

أو جاءت مجنونة فلما أفاقت فإن ذكرت أنها مسلمة أعطي المهر و منع منها، و إن ذكرت أنها لم تزل كافرة ردت إليه كما ذكر الفرعين في المنتهي فإن إطلاق الآية يشمل الصغيرة و المجنونة، إذا أحرز إيمانهما حين مجيئهما.

و ملخص الكلام في باب الصغيرة، أن غير البالغ الذي يظهر الإسلام و يقر بالشهادتين، يبني علي كونه

مسلما في الفقه و ذلك للعمومات الدالة علي كفاية الشهادتين في الحكم بإسلام الشخص و إجراء أحكام المسلم عليه.

و من المعلوم أن المراد بالمؤمنات في الآية الشريفة ليس إلا اللاتي يطلق عليهن المسلمة، دون ذوات الإيمان بالمعني الأخص.

كما أن الظاهر أن المراد بامتحانهن في قوله تعالي (فَامْتَحِنُوهُنَّ) ليس هو الامتحان في المدة الطويلة التي يظهر فيها الإيمان الواقعي عن الصوري، بل المراد هو السؤال عن الداعي الذي جاء بهن إلي دار الهجرة و طلب الشهادتين منهن و أمثال ذلك، مما يحصل منه الوثوق العادي بإسلام الشخص.

كما أن مقتضي الحديث المعروف

«كل مولود يولد علي الفطرة.

إلخ» عدم الحكم بكفر غير البالغة لا سيما بعد إظهارها الإيمان و إقرارها بالشهادتين.

و بناء علي ذلك فلا يبقي مجال للشك في صدق المؤمنة علي الصغيرة و شمول إطلاق (المؤمنات) في الآية الشريفة لها.

فيمكن الجزم بعدم رد الصغيرة.

و أما لو فرض إظهارها الكفر بعد بلوغها فهذا يوجب إجراء أحكام المرتدة عليها، علي إشكال في ذلك.

المهادنة، ص: 40

و أما المجنونة: فإما أن يعلم سبق إسلامها علي الجنون، فهذه يشملها إطلاق الآية و لا يجوز ردها إلي الكفار، و لا وجه للخدشة في صدق الهجرة علي مجيئها هكذا مجنونة، مدعيا أن النبي (صلي الله عليه و آله) كان يسأل عن الداعي القلبي للمهاجرات، و يحذرهن أن يكون مجيئهن إلي دار الإسلام بغضا لأزواجهن أو حبا لأحد المسلمين أو أمثال ذلك، و إنما كان يقبلهن حينما يظهر له أن الداعي لهن إلي الهجرة حبهن للّه و رسوله (صلي الله عليه و آله).

فالهجرة أمر متوقف علي نية و معرفة في هذا المستوي، فكيف تتمشي من مجنونة؟ وجه عدم توجه هذه الخدشة علي فرض تسلم ما نقل

من فعل النبي (صلي الله عليه و آله) تاريخيا أولا: أن سؤال النبي (صلي الله عليه و آله) و اختباره للنساء، دليل علي أن المجي ء إلي دار الإسلام بدواع مادية كالتي ذكرت في ذلك النقل ليس هجرة، و لا يدل علي أن الهجرة تتوقف علي وجود دافع و داع أكثر من الإسلام و النجاة من الكفار، و هما موجودان في المجنونة.

و ثانيا: أن الذي ذكر في ذاك النقل بعنوان ما يصدق معه الهجرة، أعني الحب للّه و لرسوله، يتمشي من المجنونة أيضا، فالحب ليس من الأمور المتوقفة علي كمال العقل، كما أن بواعث الحب للّه و لرسوله ليست منحصرة فيما تتوقف علي الاستدلال العقلاني.

و أما إن علم عدم سبق إسلامها، بأن كان بدء جنونها في حالة الكفر، فصدق الإسلام علي ما تبدي من اللجوء إلي المسلمين و القبول لهم محل إشكال، كما أن عدم ثبوت الإسلام الصحيح في التي لا نعلم بسبق إسلامها لجنونها، أمر واضح.

فلا يمكن الحكم بإسلام المجنونة في الصورتين الأخيرتين.

هذا، و لكن اهتمام الشريعة الإسلامية بالمؤمنين، و عدم رضي الشارع المقدس بتعريض المؤمن للفتنة و الانحراف، المستفاد ذلك من مجموعة من النصوص و الأحكام الإسلامية، يثير احتمالا آخر في تلكما الصورتين أيضا، و هو: عدم رد المجنونة فيهما و الترصد لبرئها من الجنون و ما سوف تبدي بالنسبة إلي الإسلام و الكفر بعده، و العمل علي وفقه.

و لا شك في أن هذا

المهادنة، ص: 41

أسكن للنفس و أقرب إلي الاحتياط، و اللّه العالم.

ثم إنه يجب رد مهر المرأة إلي زوجها أو وكيله بشرط مطالبته به.

و الظاهر أن الحكم متفق عليه بين من تعرض للمسألة من فقهائنا.

و قد نقل الخلاف في ذلك عن أبي

حنيفة و المزني، مستدلا بأن المهر ليس عوض البضع الفائت عن الزوج حتي يلزم دفعه.

و عمدة الاستدلال علي الحكم هو التمسك بقوله تعالي في ذيل الآية السابقة (وَ آتُوهُمْ مٰا أَنْفَقُوا). «70»

و هذا و إن كان عاما بالنسبة لجميع ما أنفقه الزوج علي زوجته، إلا أن المتفق عليه تفسيره بالمهر.

و لم أجد من أفتي بوجوب رد غير المهر مما أنفقه الرجل علي زوجته.

و هذا بضميمة عدم وجود نص فيما بأيدينا من الأخبار علي هذا التفسير، يشبه نوع إجماع من العلماء علي ذلك مما لا يجترئ فقيه علي مخالفته، حتي أن بعض الأعاظم من معاصرينا (رحمه اللّه) مع كونه غير معتن بالشهرة الفتوائية و مع عدم اعترافه بانجبار الحديث الضعيف بعمل الأصحاب لم يفت في المسألة بوجوب رد جميع ما أنفقه الزوج علي امرأته المهاجرة المسلمة.

قال بعد الفتوي بعدم جواز إرجاع النساء المؤمنات إلي دار الكفر: «نعم، يجب إعطاء أزواجهن ما أنفقوا من المهور عليهن» انتهي «71»، و عبارته تشعر باستناده إلي الآية الشريفة (وَ آتُوهُمْ مٰا أَنْفَقُوا. الآية).

و لكن مع إطلاق الآية و عدم قرينة في الكلام تدل علي صرفه إلي خصوص المهر، خص الحكم بالمهور، و ليس هذا إلا من جهة فتوي العلماء بذلك.

اللهم إلا أن يقال: إن مناسبة الحكم و الموضوع موجبة لصرف ظهور رد الإنفاق في الآية إلي إنفاق ما كان واقعا في قبال الزوجية، المنعدمة و المنقطعة بسبب الهجرة، دون سائر ما أنفقه الزوج علي زوجته كالنفقة و الكسوة و الهدايا و أمثال ذلك، و ليس ببعيد.

و مثل هذا الاتفاق وقع أيضا بالنسبة إلي اختصاص الحكم أعني وجوب رد

______________________________

(70) المصدر السابق.

(71) منهاج الصالحين: 401، قسم العبادات، كتاب الجهاد، المسألة 92.

المهادنة، ص:

42

ما أنفق علي المرأة المهاجرة بالزوج، دون غيره من رجالها، كأبيها و إخوتها، و لعل هذا مما يمكن استفادته من الآية الشريفة أيضا، حيث إن الظاهر أن مرجع الضمير أمر واحد في كل من قوله تعالي (وَ آتُوهُمْ مٰا أَنْفَقُوا) و قوله تعالي قبل ذلك (لٰا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لٰا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) «72»، بمعني أن الذي يستحق ما أنفق، هو نفس الذي قيل فيه أنه لا يحل لتلك المرأة و لا هي تحل له، و هو الزوج، إذ لا معني لبيان حرمة محارم المرأة لها مع أنهم كانوا قبل إسلامها أيضا محارم، فيختص الحكم بالحرمة بالزوج، الذي كان حلالا لها قبل إسلامها و هجرتها.

ثم إن رد المهر علي الزوج، يختص بما إذا كان الزوج قد دفعه إلي زوجته، و كان ذا قيمة في الشريعة الإسلامية، و أما إذا لم يدفعه أو كان مما ليس له قيمة كالخمر و الخنزير، فليس علي المسلمين شي ء في ذلك، صرح بذلك الفقهاء و وجهه واضح إذ ما لم ينفق لا يتعلق به حكم الرد، قال تعالي (وَ آتُوهُمْ مٰا أَنْفَقُوا). ثم إن المهر في موارد وجوب دفعه، يدفع من بيت المال، هكذا ذكر الفقهاء في كتبهم، مستدلا بأن بيت المال معد للمصالح، و هذا من المصالح.

هذا كله بالنسبة إلي النساء.

و أما بالنسبة إلي الرجال، فحكم جواز اشتراط عقد الهدنة بردهم، منوط بجواز رد الرجال اللاجئين إلي معسكر الإسلام، و عدم المنع منه شرعا، فلا بد أولا من تنقيح ذلك.

و ليعلم أولا قبل الورود في البحث أن الهدنة بنفسها لا تقتضي ردهم لأنها ليست إلا إعلان ختم الحرب بأحد الأوجه المتصورة له، و هذا أجنبي عن رد الأشخاص،

بل لا تقتضي رد الكفار أيضا إذا أرادوا الإقامة بين المسلمين.

فجواز رد الرجال أو عدمه يحتاج إلي ما يدل عليه، و ليس هنا دليل لفظي وارد في خصوص الموضوع مثل ما كان في رد النساء، فلا بد من التماس دليل آخر من العمومات أو الأصول.

______________________________

(72) الممتحنة: 10.

المهادنة، ص: 43

ربما يمكن الاستدلال علي عدم جواز الرد بأمور ثلاثة:

الأول: حرمة الظلم و هذا ظلم، و الكبري لا تحتاج إلي كثير محاولة لكونها من واضحات الإسلام، و وضوح الصغري أيضا غني عن البيان، فأي ظلم أعظم من التصرف في أمر المسلم بمثل هذا؟! الثاني: عموم لا ضرر و لا ضرار في الإسلام، سواء كان بمعني عدم تشريع الحكم الضرري في الإسلام، أو كان بمعني حرمة الإضرار و النهي عنه، و انطباق الإضرار علي أخذ المرء المسلم و تسليمه إلي العدو، أمر واضح. و الثالث: عدم جواز التصرف في نفس المؤمن، و عدم الولاية عليها لأحد، و هذا مع كونه من المرتكزات العامة في عرف المسلمين بحيث يكاد يكون من الضروريات، بل لا يبعد أن يقال: إن تحريم التصرف في ماله إنما هو من جهة كون ذلك أحد أنحاء التصرف في نفسه، أو يقال: إن حرمة التصرف في النفس، مدلول عليها بفحوي حرمة التصرف في المال، فمضافا إلي ذلك كله يمكن الاستدلال عليه أيضا ببعض الأدلة اللفظية كقوله تعالي (النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) «73» حيث إن إثبات أولوية النبي (صلي الله عليه و آله) بالمؤمنين من أنفسهم، يدل بالالتزام أو بالاقتضاء علي عدم أولوية أحد غير أنفسهم عليها، و إلا فلا بد من ذكره، و مثله: أدلة ولاية الأب و الجد علي الصغير و علي الباكرة، حيث إنها

تدل بدلالة الاقتضاء علي عدم ولاية أحد آخر عليهم.

هذا، و لكن يمكن أن يقال: إن صدق العناوين الثلاثة علي مباشرة رد الرجل المسلم إلي الكفار، لا كلام فيه.

و لكن محل البحث ليس هو الرد بهذا المعني، فإن ذلك مما تسالموا علي حرمته كما في المنتهي و الجواهر و غيرهما، و إنما الكلام في الرد بمعني التمكين من استرداد العدو إياه و عدم دفعه عن ذلك، و هذا لا يمكن الجزم بصدق العناوين الثلاثة عليه.

أما العنوان الثالث أعني التصرف في نفس المؤمن فأمره واضح إذ الوقوف و النظر إلي

______________________________

(73) الأحزاب: 6.

المهادنة، ص: 44

من يحاول العدو لرده إلي بلد الكفر، ليس تصرفا في أمره، بل هو عدم التصرف فيه.

و أما عنوانا الظلم و الضرر، فربما يبدو أن الظاهر من كل من اللفظين أنه الأمر الإيجابي الذي يورد علي أحد ظلما أو ضررا، بالمباشرة أو بالتسبيب، فهو المبادرة بالأمر، لا الأمر السلبي بمعني عدم التصرف بنحو من الأنحاء، و المعلوم أن عدم المبادرة بشي ء في قبال رد العدو الرجل المسلم إلي بلاده، ليس أمرا إيجابيا بحيث يصدق عليه الظلم أو الضرر (بمعناه المصدري).

نعم، قد ورد في بعض التعابير عن الظلم ما يوهم خلاف ذلك، لكنه لا يخلو عن ضرب من التأويل، مثل ما يستفاد من مفهوم قول الشاعر: «و من يشابه أبه فما ظلم»، فيستفاد منه أن من لم يشابهه فقد ظلم، أو إطلاق «الظلم علي النفس» علي ترك الواجبات و أمثال ذلك.

و الظاهر تسالم العلماء علي أن الضرر الناشئ من ترك العمل و الإقدام، لا يدخل في إطلاق قوله (صلي الله عليه و آله)

«لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»

، إلا في مورد ينتهي ترك العمل إلي

ذهاب نفس المؤمن الذي ثبت حرمته، أو وجوب حفظ نفوس المؤمنين من غير طريق دليل الضرر.

و الحاصل: أن شمول العناوين العامة الثلاثة علي الرد بمعني التمكين و عدم المجابهة عند رد الكافر المسلم إلي بلد الكفر، محل ترديد بل منع.

و يمكن الاستدلال علي حرمة الرد بهذا المعني بما ذكره صاحب الجواهر (رحمه اللّه): من كونه لازم وجوب الهجرة من دار الحرب، التي لا يتمكن المسلم من إقامة شعار الإسلام فيها.

و تقرير الملازمة بعد كون دلالته علي حرمة الرجوع و الإرجاع إليها واضحا إما بوجوب النهي عن المنكر الفعلي (في مقابل النهي اللساني) بمعني أنه يجب علي كل أحد النهي عن هذا الرجوع أو الإرجاع الذي لا كلام

المهادنة، ص: 45

في كونه منكرا بالمنع عن رده و إرجاعه، و عدم جواز التمكين و السلبية في ذلك، و إما من جهة العلم بعدم رضي الشارع بوقوع هذا الأمر فيجب إيجاد العرقلة دونه و المنع منه، كما نقول مثل ذلك في بعض الموارد الأخري.

و لعله يمكن الاستدلال لذلك ببعض آي الذكر الحكيم كقوله تعالي (وَ تَعٰاوَنُوا عَلَي الْبِرِّ وَ التَّقْويٰ.) «74» و من هذا القبيل ما ذكره صاحب الجواهر (رحمه اللّه) في مقام التنظير لما نحن فيه، أعني وجوب إعانة المرأة المسلمة بل المسلم المستضعف لو طلبا العون في خروجهما من عند الكفار «75».

هذا، و لكن يشكل ما ذكرنا بما اشتهر من السنة الفعلية النبوية في قصة الحديبية، فإنه (صلي الله عليه و آله) التزم في الهدنة مع الكفار في تلك القصة، برد من التجأ إليه من المسلمين، و رد فعلا أبا جندل بن سهيل بن عمرو، و هذا النقل مضافا إلي أنه ثبت «76» بالطرق المعتبرة بحسب الموازين

المعمولة في نقل الحديث كما سيجي ء فقد شاع في كتب المؤرخين و أصحاب السير، و تلقاه المحدثون و الفقهاء بالقبول، بحيث لا يبعد ادعاء حصول الاطمئنان بصحته، و عليه فلا مناص من الالتزام بجواز الرد في الجملة، و عدم المجال لمنع ذلك علي الإطلاق، كما استفدناه من الدليل الاعتباري المذكور آنفا.

و لكن مع ذلك فليس في فعل النبي (صلي الله عليه و آله) كسائر الأدلة غير اللفظية دلالة علي جواز الرد بقول مطلق، حتي يشمل الرجل المستضعف الذي يقدر العدو علي قهره و تفتينه عن الدين لأن عمله (صلي الله عليه و آله) إنما وقع علي وجه ما و في ظروف ما، و ليس فيه دلالة أزيد من جواز ذلك العمل في مثل تلك الظروف و علي مثل ذاك الوجه، فلا يستفاد منه الجواز مطلقا، أي في مطلق الظروف و علي شتي الوجوه.

و من هنا تعرف الإشكال في ما اختاره ابن قدامة الحنبلي في كتابه المغني، من استفادة الإطلاق من عمله (صلي الله عليه و آله)، فإنه بعد ما نقل تفصيل الشافعي بين من كان له عشيرة تحميه و من لم يكن له ذلك، فيجوز الرد في

______________________________

(74) المائدة: 2.

(75) جواهرا لكلام 21: 308.

(76) ورد في ذلك روايات معتبرة في الكافي و تفسير القمّي (رحمه اللّه) سوف نذكرها.

المهادنة، ص: 46

الأول دون الثاني، قال: «و لنا أي علي الجواز بدون قيد العشيرة أن النبي (صلي الله عليه و آله) شرط ذلك في صلح الحديبية و وفي لهم، فرد أبا جندل و أبا بصير و لم يخص بالشرط ذا العشيرة» انتهي «77».

و يمكن تقرير كلامه بحيث يستفاد معه إطلاق الحكم من فعل النبي (صلي الله عليه و آله)

و لم يرد عليه الإشكال: بأن الرجلين كانا ذا عشيرة، فلعل شرط النبي (صلي الله عليه و آله) كان مختصا بأمثالهما أن النبي (صلي الله عليه و آله) قد أطلق في كلامه الذي شرط به للكفار برد من أتاه، و لم يقيده بذي العشيرة، و نعلم أنه (صلي الله عليه و آله) كان عازما علي الوفاء بشرطه بدليل رد الرجلين، فيستفاد من ذلك أن مراده المدلول عليه باللفظ المطلق كان مرادا جديا، و هذا يكفي في استكشاف جواز الرد مطلقا، و لا يخفي أن علي هذا التقرير يكون الاستدلال بإطلاق قوله (صلي الله عليه و آله) فيما اشترط به علي الكفار، لا بإجمال فعله فيما فعله بعد ذلك.

وجه الإشكال علي كلامه بعد استبعاد هذا التقرير عن ظاهر كلام ابن قدامة هو أن المراد الجدي له (صلي الله عليه و آله) غير معلوم لنا مع ذلك إذ من الممكن أن رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) كان يعلم بإلهام من اللّه أو بقرينة مقامية و حالية، أن الجائي إليه من المشركين لا يكون إلا من ذوي المنعة و القدرة، و لا يأتي إليه من غيرهم أحد، و لكن أطلق القول في الشرط، دفعا لإيراد العدو أو لجهة أخري لم نعلمها، فمراده الجدي (صلي الله عليه و آله) يمكن أن يكون هذا القسم من الجائين لا كلهم، و هذا الاحتمال يمنع من الاستدلال بعدم التقييد في كلامه عند المعاهدة.

فحاصل الكلام في الإشكال علي ابن قدامة: أن عدم التقييد في صيغة المعاهدة لا يدل علي الإطلاق في المراد، إذا احتمل أن المتكلم يعلم بعدم تحقق مصداق المعاهدة إلا من بعض الأفراد.

فعلي هذا لا يمكن استكشاف الإطلاق في

مراده الجدي (صلي الله عليه و آله) من إطلاق الشرط في صلح الحديبية.

مضافا إلي أن كلامه (صلي الله عليه و آله) في هذا المجال غير منقول بالضبط في الروايات حتي نتمكن من الأخذ بإطلاقه، كما هو الشأن في نقل أغلب القضايا التاريخية

______________________________

(77) المغني 10: 524.

المهادنة، ص: 47

التي يتركز الاهتمام فيها في بيان الحادثة لا ذكر ما صدر فيها عن المعصوم (عليه السلام) في مقام المحاورة.

هذا، و لكن نقل الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط: أن آية سورة الممتحنة (فَلٰا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَي الْكُفّٰارِ.) إنما نزلت ردعا للنبي (صلي الله عليه و آله) عما عقد عليه الصلح في الحديبية، قال بعد ذكر بطلان شرط رد العبيد و أمثاله في عقد الصلح: «لأن النبي (صلي الله عليه و آله) عقد الصلح عام الحديبية علي أن يرد إليهم كل من جاء مسلما مهاجرا، فمنعه اللّه تعالي من ذلك و نهاه عنه بقوله عز و جل (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ الْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ. الآية)» «78» «79».

فإن صح ذلك أعني أن نزول هذه الآية كان في مقام الردع عن مضمون المعاهدة فلا يبعد أن يقال: إن الردع عن رد بعض طوائف الناس، أي النساء، يفيد أمرين:

الأول: أن مراد النبي (صلي الله عليه و آله) في معاهدته كان ما يشمل هذا المردوع عنه، أعني النساء، و إلا كان الردع لغوا فلا مجال لاحتمال أن قصده (صلي الله عليه و آله) كان إلي بعض طوائف الرجال فقط كذوي المنعة مثلا فإنه (صلي الله عليه و آله) إذا كان يعزم رد النساء، فعزمه (صلي الله عليه و آله) علي رد الرجال مطلقا و إن لم يكونوا ذا منعة و عشيرة أولي.

الثاني: أن هذا الردع

بمنزلة إمضاء الباقي، لا من جهة الدلالة المفهومية، حتي يخدش في اعتبارها، بل من جهة دلالة الاقتضاء التي هي من الدلالات العقلية بنحو من الأنحاء إذ لو لا إمضاء الباقي لكان الردع عن البعض لغوا، فتأمل.

فلو ثبت ما ادعاه الشيخ (رحمه اللّه) من ورود آية الممتحنة في هذا المقام، يكون نتيجته: أن مراد النبي (صلي الله عليه و آله) في شرط رد الرجال في عقد الصلح بالحديبية كان عاما لجميع أصناف الرجال، سواء كانوا من ذوي العشيرة و المنعة أو

______________________________

(78) الممتحنة: 10.

(79) المبسوط 2: 52.

المهادنة، ص: 48

غيرهم، و حيث إنه (صلي الله عليه و آله) كان بصدد الوفاء قطعا فيكون فعله هذا دليل جواز شرط رد الرجال.

فلا بد حينئذ من الرجوع إلي ما ورد في ذيل الآية حتي يتضح الحال، فنقول: أما ورود آية الممتحنة في مقام الردع و النهي، فلم أعثر علي أثر صحيح يدل علي ذلك، و لم أجد إلا ما رواه الطبرسي (رحمه اللّه) في مجمع البيان عن ابن عباس بغير إسناد متصل، و ليس منه في مجاميعنا الحديثية عين و لا أثر.

و أما ما ورد في بيان الواقعة واقعة الصلح فبعضها فيه التصريح بأن الشرط كان مخصوصا بالرجال من أول الأمر، و بناء عليه فلا مجال لما ادعي من أن آية الممتحنة نزلت في مقام الردع عن رد النساء.

و بعضها ظاهر في الأعم من النساء، و إليك عمدة ما ورد في الباب.

فمنها: ما في تفسير القمي عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن يسار، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) و فيها

و قالوا له ترد إلينا كل من جاءك من رجالنا، و نرد إليك كل من جاءنا من رجالك، فقال

رسول اللّه (صلي الله عليه و آله): «من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه»

الخبر «80».

و منها: ما في روضة الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير و غيره، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) و فيها

«و كان في القضية أن من كان منا أتي إليكم رددتموه إلينا. و من جاء إلينا منكم لم نرده إليكم»

الحديث «81».

و منها: ما في البحار عن إعلام الوري عن الصادق (عليه السلام) و فيها

«و من لحق محمدا و أصحابه من قريش فإن محمدا يرده إليهم، و من رجع من أصحاب محمد إلي قريش بمكة.»

الحديث «82».

و منها: ما في صحيح البخاري بإسناده إلي عروة بن الزبير، أنه سمع

______________________________

(80) تفسير القمّي: 631- 633، ذيل قوله تعالي إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.

(81) الروضة: 322- 326.

(82) بحار الأنوار 20: 361- 362.

المهادنة، ص: 49

مروان بن الحكم و. و فيها

«و كان فيما اشترط سهيل بن عمرو أنه قال: لا يأتيك منا أحد و إن كان علي دينك إلا رددته إلينا و خليت بيننا و بينه، و أبي سهيل أن يقاضي رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) إلا علي ذلك»

الحديث «83».

هذه عمدة ما ورد في ذلك من طرق الفريقين، و فيها ما يصرح بأن موضوع الشرط هو الرجال لا غير، و هو ما نقلناه عن تفسير القمي (رحمه اللّه)، و ما لعله ظاهر في اختصاص القضية بالرجال، و هو رواية إعلام الوري حيث إن تعبير «الأصحاب» ربما يكون ظاهرا في الرجال دون النساء، و ما هو ظاهر في الأعم من الرجال كصحيح الكافي و حديث البخاري.

أما حديث إعلام الوري فلا يكون حجة من جهة عدم كونه مسندا،

و أولي منه بعدم الحجية حديث البخاري، الذي في سنده من لا نعرفه من الرواة، بل فيه من نعرفه بالفسق و عدم الوثاقة و هو مروان بن الحكم، فيبقي لدينا حديثا القمي و الكليني، و الظاهر تعدد الحديثين و عدم اتحادهما، و إن كان الكافي أيضا ينقل حديثه عن القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير، إلا أن وجود كلمة «و غيره» في سند الكافي، و اختلاف الراوي المباشر فيهما (الذي هو معاوية بن عمار في الكافي و ابن يسار في التفسير)، و التغاير الفاحش بين متن الحديثين سواء في محل الشاهد و غيره يورث الظن باختلاف الروايتين و عدم كونهما واحدة.

ثم إن ابن يسار في سند القمي غير معروف، و احتمال كون المراد منه سعيد بن يسار المعدود من الطبقة الخامسة، و إن كان غير ممتنع من جهة الطبقة، بل حتي لا يمتنع كونه فضيل بن يسار المعدود من الرابعة، و كون رواية ابن أبي عمير عنه بواسطة و يكون السند مع ذلك معتبرا لمكان حكم مرسلات ابن أبي عمير إلا أنه مع ذلك يبعد هذين الاحتمالين أنا لم نجد في الأحاديث الكثيرة التي يرويها هذا الراوي الجليل، حتي رواية واحدة عن هذين، و لذا لم يعد أي منها في عداد من يروي عنهم ابن أبي عمير.

كما أنه يبعد

______________________________

(83) البخاري 3: 45، من طبعة السندي.

المهادنة، ص: 50

الاحتمال الثاني مضافا إلي ذلك، أن النقل عمن ينقل عنه بالواسطة لا بد و أن يكون مع التصريح بها و لو بقوله: عن رجل، فإذا لم يذكر الواسطة فظهور النقل يأبي عن كونه نقلا بالواسطة.

و بناء علي هذا فالمتعين وقوع الحذف أو التصحيف في الكلمة.

فمن المحتملات في ذلك

أن يكون الصحيح: ابن عمار، و قد نقل في تعليقات البحار أن في بعض نسخ التفسير: «ابن عمار» بدل «ابن يسار» فبناء علي أن يكون المراد به معاوية بن عمار، يكون السند مشابها تماما لسند رواية الكافي، لكن يبعده أن تصدر روايتان من إمام واحد، عن طريق راو واحد و رواة عنه متحدين في واقعة واحدة، بمضمونين و ألفاظ مختلفة، اللهم إلا أن يكون المراد بابن عمار «إسحاق بن عمار».

و من المحتملات و لعله أقواها أن يكون الصحيح: ابن سنان، و هو عبد اللّه الذي يروي عنه ابن أبي عمير كثيرا.

و يؤيده أن الموجود في تفسيري البرهان و نور الثقلين: ابن سنان بدل ابن يسار، و قد نقلا جميعا الحديث عن تفسير القمي، و حيث إن مؤلفيهما معاصران فقد توفي أحدهما بضع سنين بعد الآخر و المظنون أنهما لم يكونا مطلعين علي كتاب بعضهما البعض، فيظن أن الشائع في نسخ التفسير كان ما ذكراه.

من جملة المحتملات أن يكون الصحيح: ابن أخي ابن يسار، كما وقع في بعض آخر من الروايات، و المراد به: الحسن أو الحسين بن أخي سعيد بن يسار.

و حاصل الجميع أن سند الرواية يصبح ضعيفا لتردد الراوي المباشر بين ثقة و غير موثق.

و لكن لو بنينا علي عدم الاعتناء بالاحتمال الأخير، لكونه ضعيفا جدا، فدوران الأمر يكون بين الثقتين أعني: عبد اللّه بن سنان و إسحاق بن عمار، فيكون المورد مورد الجمع الدلالي بينهما، و لما كانتا واردتين حكاية لواقعة، لا إنشاء لحكم، فلا مجال للقول بما يقال في الدليلين المثبتين

المهادنة، ص: 51

الواردين في مقام إنشاء الحكم، من عدم التعارض الموجب لعملية تقييد الدليل المطلق بالدليل المقيد، فيحكم بمضمونهما جميعا و ذلك

لأن وحدة الواقعة هنا تحكم بوحدة المراد من الدليلين، فلا يبقي مناص من حمل أحدهما علي الآخر، و لما كان اختصاص القضية بالرجال و عدم شمولها للنساء في الدليل الأخص، أوفي ظهورا من شمولها للنساء في الدليل الأعم، فيحمل ذلك عليه، كما هو مقتضي الجمع العرفي دائما.

و لكن الذي يسهل الخطب أن ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط و تبعه في نقله العلامة (رحمه اللّه) في المنتهي، من نزول آية الممتحنة و هي قوله تعالي فيها (فَلٰا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَي الْكُفّٰارِ. الآية) «84» في مقام ردع النبي (صلي الله عليه و آله) عما عاهد عليه الكفار، فيستفاد منه إطلاق مراد النبي (صلي الله عليه و آله) و شموله لمطلق الرجال ذوي المنعة و غيرهم لا يستند إلي دليل معتبر، و بناء علي ذلك فاختلاف الحديثين لا يؤثر شيئا إذ لا فارق بينهما من جهة عمومهما لفظا لمطلق الرجال، و قد عرفت سابقا في مقام الإشكال علي كلام ابن قدامة أن هذا الشمول اللفظي لا يكشف عن شمول مراد النبي (صلي الله عليه و آله) بالنسبة إلي مطلق الرجال.

فحاصل ما ذكرناه في المقام هو أنه: إن تمكنا من إثبات وجوب الدفع عمن يريد الكفار إرجاعه إليهم، يكون هذا هو الأصل في المسألة، و تكون السنة الفعلية النبوية استثناء منه، و لا بد من الاكتفاء بالقدر المتيقن في الاستفادة منها.

و لكن الظاهر أن إثبات وجوب الدفع بالنسبة إلي ما عدا الحاكم الإسلامي مشكل جدا، و إن كان رجحانه شرعا مما لا كلام فيه، إلا أنه ينبغي الجزم بذلك بالنسبة إلي الحاكم و ولي أمر المسلمين، فإن الحكومة الإسلامية و الجهاز الحاكم علي المسلمين، يجب عليها الدفع عن

آحاد المسلمين، و هي مسئوله عن شئونهم الأساسية، التي منها: كونهم و بقاؤهم في بلد الإسلام، و عدم مقهوريتهم في النقل إلي بلد الكفر تحت حكم الكافرين، و هذا مما تشهد عليه الأدلة الواردة في بيان معني الولاية و الحكومة الإسلامية، و الحقوق

______________________________

(84) الممتحنة: 10.

المهادنة، ص: 52

المتقابلة بين الراعي و الرعية في الإسلام، بل مما يصدقه و يحكم به ارتكاز المسلمين.

و بناء علي ذلك فالأصل حرمة رد الرجال اللاجئين إلي المعسكر الإسلامي.

و لكن بمقتضي السنة النبوية المأثورة عنه (صلي الله عليه و آله) في قصة الحديبية، نحكم باستثناء مورد ما عن هذا الأصل.

و المستثني بمقتضي المناسبة بين الحكم و الموضوع لا يكون إلا من يكون قادرا علي الدفاع عن نفسه و دينه، و لا يخاف قهره و افتتانه في أيدي الكفار، بأن يكون ذا عشيرة تمنعه و أمثال ذلك، فيجوز رده بمعني التمكين من رد الكفار إياه و لا يجوز رد غيره.

و هذا ما أفتي به المشهور، بل ادعي بعض نفي الخلاف فيه، و إن لم نجد من ذكر له وجها بالتفصيل.

ثم إن حكم الصغير و المجنون بعينه هو حكمهما في باب النساء، و ما ذكرنا هناك بالنسبة إلي الصغيرة و المجنونة جار هنا بلا تفاوت.

هذا، و بعد ما عرفت حكم رد النساء المسلمات و الرجال المسلمين إلي الكفار، يتضح لك الحكم في مسألة اشتراط عقد الهدنة بذلك.

و قد قلنا سابقا أن كل شرط سائغ، نافذ جائز في الهدنة، بخلاف الشرط غير السائغ.

و بناء علي ذلك لو شرطوا في الهدنة رد النساء، أو الرجال المستضعفين، أو أطلقوا الرد بحيث يراد شموله لهم، كان شرطوا رد الرجال مطلقا، أو رد كل من جاء إلي المسلمين، بطل

الشرط و فسد و لم ينفذ، و هذا مما لا إشكال فيه و لا خلاف.

إنما الكلام في الهدنة المشتملة علي مثل هذا الشرط، أو أي شرط آخر مخالف لكتاب اللّه، و غيره من الشروط الفاسدة، فهل يفسد عقد الهدنة بفساد الشرط؟ أم يكون العقد صحيحا؟ ربما يبدو أن لازم ما ذهب إليه المحققون في باب البيع و النكاح من عدم

المهادنة، ص: 53

فساد العقد بفساد الشرط الذي يتضمنه عدم فساد الهدنة أيضا بفساد الشرط الذي أخذ في ضمنها، و لكن فتوي كثير من الفقهاء (رحمهم اللّه) بما فيهم بعض من ذهب إلي عدم فساد العقد بفساد الشرط في عقد البيع، صريح في خلافه هنا، أي القول بفساد عقد الهدنة بسبب فساد الشرط.

قال في المبسوط: «و إن شرط رد من لا عشيرة له كان الصلح فاسدا لأنه صلح علي ما لا يجوز، فإن أطلق رد الرجال و لم يفصل كان الصلح باطلا فاسدا» «85».

و قال العلامة (رحمه اللّه) في المنتهي: «و فاسد الشرط يبطل العقد مثل أن يشترط رد النساء إلي أن قال: فهذه الشروط كلها فاسدة يفسد عقد الهدنة» «86».

و قال في التذكرة: «لو صالحناهم علي رد من جاء من النساء مسلمة، كان الصلح باطلا» «87».

و قال في القواعد: «لو شرط إعادة الرجال مطلقا بطل الصلح» «88».

و قال المحقق الكركي (رحمه اللّه) في ذيل هذه العبارة من القواعد بعد أن ذكر احتمالين في المراد من قوله: «مطلقا» أولهما: أن يكون المراد وقوع الشرط مقيدا بالإطلاق، الذي يقتضي عموم الإعادة: «و لا ريب في البطلان في الأول، لأنه صريح في تناول من لا تجوز إعادته.» «89».

و قال الشهيد الثاني (رحمه اللّه) في المسالك في ذيل عبارة الشرائع:

«و لو شرط في الهدنة إعادة الرجال مطلقا، قيل: يبطل الصلح» ذاكرا نفس الاحتمالين في المراد من الإطلاق في عبارة المحقق (رحمه اللّه): «و لو أريد بالإطلاق اشتراط إعادة من يؤمن افتتانه و من لا يؤمن مصرحا بذلك، كان الشرط فاسدا قطعا، و يتبعه فساد الصلح علي الأقوي» ثم أشار إلي التردد في ذلك في عبارة الشرائع بقوله: «و يمكن أن يكون نسبة البطلان إلي القيل، بناء علي التردد في فساد العقد المشتمل علي شرط فاسد.» «90».

______________________________

(85) المبسوط 2: 55.

(86) المنتهي 2: 975، آخر الصفحة.

(87) التذكرة 1: 448.

(88) قواعد الآكام 1: 117.

(89) جامع المقاصد 3: 478.

(90) المسالك 1: 125.

المهادنة، ص: 54

و قال صاحب الجواهر (رحمه اللّه): «فلو وقع الصلح من بعض نواب الإمام (عليه السلام) علي ذلك، كان باطلا، بل الظاهر بطلان العقد من أصله لا خصوص الشرط، لكون التراضي قد وقع عليه».

و قال في موضع آخر: «نعم، الظاهر فساد عقد الهدنة باشتماله علي ما لا يجوز لنا فعله شرعا، كرد النساء المسلمات.» «91».

فهذه العبارات صريحة كلها في تبعية العقد للشرط في الفساد في باب الهدنة، مع أن من أصحابها من يقول بعدم إفساد الشرط الفاسد العقد المشتمل عليه في باب البيع، كصاحب الجواهر (رحمه اللّه)، و كالشيخ (رحمه اللّه) علي ما حكي عنه في الجواهر، نعم خيرة العلامة و المحقق و الشهيد الثانيين (رحمهم اللّه) يوافق ما اختاروه في البيع أيضا «92».

كما أن الظاهر من كلام بعض أعلام العصر (رحمه اللّه) و صريح ما ذكره بعض آخر من المعاصرين هو عدم فساد العقد هنا، وفقا لما أفتيا به في البيع.

قال الأول في كتابه (منهاج الصالحين): «و لا يجوز اشتراط أمر غير سائغ، كإرجاع النساء

المسلمات إلي دار الكفر و ما شابه ذلك» «93».

«و أما إذا اشترط ذلك أي رد الرجال فحينئذ إن كانوا متمكنين. و إلا فالشرط باطل» انتهي كلامه «94»، فعدم ذكر بطلان عقد الصلح المشتمل علي هذا الشرط ظاهر في الجزم بعدم بطلانه، كما لا يخفي.

و قال الثاني في كتابه (مهذب الأحكام) في ذيل قوله في المتن: و لو شرط ما لا يجوز فعله يلغو الشرط: «لبطلان كل شرط مخالف للكتاب و السنة، و لكن لا يوجب ذلك بطلان العقد، كما ثبت في محله» «95».

ثم بعد سرد كلمات الفقهاء (رحمهم اللّه) لا بد أولا: من نظرة مارة إلي أصل مسألة تأثير الشرط الفاسد في فساد العقد المشتمل عليه، أو عدم تأثيره، و بيان مقتضي الدليل فيها، ثم بعد ذلك: بيان التحقيق فيما نحن فيه، و أنه هل هنا

______________________________

(91) جواهر الكلام 21: 301.

(92) راجع تفصيل النسبة في جواهر الكلام 33: 211.

(93) منهاج الصالحين: 401، قسم العبادات، كتاب الجهاد، المسألة 91.

(94) المصدر السابق: 403، المسألة 96.

(95) مهذّب الأحكام 15: 118.

المهادنة، ص: 55

شي ء يوجب الفرق بين عقد الصلح و غيره من العقود؟ حتي يلتزم بفساد العقد هنا و إن لم نقل به في عقد البيع و غيره، أم لا؟ فنقول: عمدة ما يمكن الاعتماد عليه في القول بصحة العقد مع فساد شرطه، أمور: الأول: عمومات أدلة العقود، و أدلة نفس العقد المبحوث عنه، كقوله تعالي (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.) «96»، و قوله تعالي (وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) «97»، و قوله تعالي (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ) «98» و غيرها. فإنها بعمومها أو إطلاقها تدل علي نفوذ و تمامية كل عقد و كل بيع و كل سلم، و

ليس هناك شي ء يدل علي تقييدها أو تخصيصها بما عدا المتضمن لشرط فاسد.

و أدلة فساد الشرط المخالف للكتاب و سائر الشروط الفاسدة لا يدل علي أزيد من فساد نفس الشرط، و ليس فيها شي ء يدل علي حكومتها علي أمثال تلك العمومات.

الثاني: الأخبار الواردة في أبواب البيع و النكاح، الصريحة أو الظاهرة في صحة العقد مع فساد الشرط المأخوذ فيه، و إليك بعضها: فمنها: ما رواه الصدوق بإسناده عن الحلبي

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه ذكر أن بريرة كانت عند زوج لها، و هي مملوكة، فاشترتها عائشة فأعتقتها، فخيرها رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) إن شاءت أن تقر عند زوجها و إن شاءت فارقته، و كان مواليها الذين باعوها اشترطوا ولاءها علي عائشة، فقال رسول اللّه (صلي الله عليه و آله): «الولاء لمن أعتق»

«99». و طريق الصدوق إلي عبيد اللّه بن علي الحلبي، صحيح.

و منها: صحيحة عيص بن القاسم

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قالت عائشة لرسول اللّه (صلي الله عليه و آله): إن أهل بريرة اشترطوا ولاءها، فقال رسول اللّه (صلي الله عليه و آله): «الولاء لمن أعتق»

«100» 1.

______________________________

(96) المائدة: 1.

(97) البقرة: 275.

(98) الأنفال: 61.

(99) السوائل: 16: 47، ب 37، كتاب العتق، ح 2.

(100) المصدر السابق: ح 1.

المهادنة، ص: 56

و دلالتهما مبنية علي أن الشرط كان في ضمن عقد بيع بريرة لعائشة، فقرر رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) البيع و العتق، و رد الشرط.

و منها: رواية الوشاء

عن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «لو أن رجلا تزوج المرأة، و جعل مهرها عشرين ألفا، و جعل لأبيها عشرة آلاف، كان المهر جائزا، و الذي جعله لأبيها فاسدا»

«101» 1.

و قد نقله

في الوسائل عن الكليني (قدس سره) بسندين، أحدهما من طريق الحسين بن محمد الأشعري الذي هو أحد مشايخ الكليني الموثقين، و فيه معلي بن محمد الذي لم يرد فيه توثيق بالخصوص، بل نسب إليه النجاشي (رحمه اللّه) الاضطراب، فالطريق به ضعيف، و الطريق الثاني محمد بن يحيي العطار عن أحمد بن محمد و هو طريق صحيح.

و دلالته علي فساد ما شرط لأبيها مع صحة النكاح دلالة جيدة.

و منها: رواية محمد بن قيس

عن أبي جعفر (عليه السلام) في الرجل يتزوج المرأة إلي أجل مسمي، فإن جاء بصداقها إلي أجل مسمي فهي امرأته، و إن لم يأت بصداقها إلي الأجل فليس له عليها سبيل و ذلك شرطهم بينهم حين أنكحوه، فقضي (عليه السلام) للرجل: «إن بيده بضع امرأته، و أحبط شرطهم»

«102» 1.

و الحديث منقول في الكافي و التهذيب، فأما سند الكليني فمبدأ بعدة عن سهل بن زياد، و مختوم بمحمد بن قيس، أما الأخير فالظاهر بقرينة قوله: فقضي للرجل إلخ أنه أحد شخصين: أما محمد بن قيس أبي نصر الأسدي، أو محمد بن قيس البجلي، الثقتين، اللذين ذكر النجاشي (رحمه اللّه) لكل منهما كتابا في قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام).

و بقرينة رواية عاصم بن حميد الثقة عنه، يقوي كونه الأخير، فلا يضر اشتراك محمد بن قيس بين أشخاص عديدة بينهم مجاهيل أو ضعاف، فلا بأس بالسند من هذه الجهة، و أما سهل بن زياد، فالظاهر فيه ما أبداه بعض الأعاظم من أهل التدقيق من معاصرينا في كتابه: «قاموس الرجال» من أن أخبار سهل في الكافي معتبرات اختارها الكليني (رحمه اللّه)

______________________________

(101) الوسائل 15: 19، ب 9، أبواب المهور، ح 1.

(102) الوسائل 15: 21، ب 10، أبواب المهور، ح

2.

المهادنة، ص: 57

لكتابة، فلا ينافي ذلك ما عليه الأكثر من أئمة الرجال من جرحه و تضعيفه.

و بناء علي ذلك فالرواية معتبرة.

و أما طريق الشيخ فبإسناده عن محمد بن علي بن محبوب و هو إسناد صحيح عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، و علي هذا فالسند صحيح.

و أما دلالتها علي صحة العقد المتضمن للشرط الفاسد فواضحة و ظاهرة.

و منها: معتبرة محمد بن قيس الأخري

عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنه قضي في رجل تزوج امرأة، و أصدقته هي و اشترطت عليه أن بيدها الجماع و الطلاق، قال: خالفت السنة، و وُليت حقا ليست بأهله، فقضي أن عليه الصداق و بيده الجماع و الطلاق، و ذلك السنة»

«103» 1.

و منها: صحيحة محمد بن قيس الثالثة عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل تزوج امرأة، و شرط لها إن هو تزوج عليها امرأة أو هجرها أو اتخذ عليها سرية علي وزن ذرية، جمعها سراري علي وزن ذراري: الأمة التي تقام في البيت فهي طالق، فقضي في ذلك

«إن شرط اللّه قبل شرطكم، فإن شاء وفي لها بما اشترط و إن شاء أمسكها و اتخذ عليها و نكح عليها»

«104» 1.

رواها الشيخ بإسناده إلي محمد بن علي بن محبوب، و منه بسند صحيح إلي محمد بن قيس، و طريق الشيخ (رحمه اللّه) إلي ابن محبوب صحيح.

و منها: رواية زرارة

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان الناس بالبصرة يتزوجون سرا، فيشترط عليها أن لا آتيك إلا نهارا، و لا آتيك بالليل، و لا أقسم لك، قال زرارة: و كنت أخاف أن يكون هذا تزويجا فاسدا، فسألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ذلك، فقال: «لا بأس به يعني بالتزويج

إلا أنه ينبغي أن يكون مثل هذا الشرط بعد النكاح، و لو أنها قالت له بعد هذه الشروط قبل التزويج: نعم، ثم قالت بعد ما تزوجها: إني لا أرضي إلا أن تقسم لي و تبيت عندي فلم يفعل كان آثما»

«105» 1.

______________________________

(103) الوسائل 15: 49، ب 29، أبواب المهور، ح 1.

(104) الوسائل 15: 46، ب 38، أبواب المهور، ح 1.

(105) الوسائل 15: 47، ب 39، أبواب المهور، ح 2.

المهادنة، ص: 58

و أما سندها: فهي رواية الشيخ بإسناده إلي محمد بن أحمد بن يحيي، و هو إسناد صحيح، عن محمد بن الحسين و هو ابن أبي الخطاب الثقة عن الحسن بن علي و الظاهر أنه ابن فضال الثقة عن علي بن إبراهيم، عن محمد الأشعري، هكذا في الوسائل.

و قال المجلسي (رحمه اللّه) في شرح التهذيب في ذيل هذا السند: إن هذا تصحيف ظاهر، و استظهر كون السند هكذا: عن الحسن بن علي، عن إبراهيم بن محمد الأشعري و هو الذي يروي عنه الحسن بن فضال كثيرا كما في مشتركات الكاظمي عن عبيد بن زرارة «106» 1. و بناء عليه يكون الخبر موثقا بابن فضال.

________________________________________

خامنه اي، سيد علي بن جواد حسيني، المهادنة، در يك جلد، مؤسسه دائرة المعارف فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق المهادنة؛ ص: 58

و مثلها أخبار أخري. و مضمون الكل: أن فساد الشرط في العقود المذكورة في تلك الروايات لا يوجب فساد العقد، و دعوي اختصاص الحكم بالبيع و النكاح، و إن كان مقتضي ورود الروايات فيهما دون غيرهما، إلا أنه مخالف لما يتذوق من أكثر الأخبار الواردة في البابين، من أن الجواب غير ناظر إلي خصوص

المورد، بل ناظر إلي أمر كلي عام في جميع العقود، و هو أن الشرط الفاسد لا اعتبار له حتي يؤثر في العقد المتضمن له، فوجوده كالعدم، فقوله (عليه السلام) في حديث محمد بن قيس

«شرط اللّه قبل شرطكم، فإن شاء وفي لها بما اشترط و إن شاء.

الحديث»، و مثله التعبير الوارد في رواية محمد بن قيس الأولي: «و أحبط شرطهم.» معناه و اللّه العالم أن هذا الشرط حيث خالف شرط اللّه فهو غير مؤثر في الإلزام و غير معتني به، فيكون العقد المتضمن له كأنه خال عنه، و هذا أمر غير منحصر بالنكاح و البيع إذ لا خصوصية لهذين العقدين في ذلك، بل هذا أمر عام بالنسبة إلي سائر العقود.

هذا، و لكن قد يذكر في المقام إشكالات، تعرض لها في الجواهر و كذا في كتاب المتاجر للشيخ الأعظم (رحمهما اللّه) راجعة كلها إلي: أن فساد الشرط يوجب الخلل في العقد، إما من جهة عروض الجهالة في العوضين، أو من جهة عدم بقاء

______________________________

(106) راجع ملاذ الأخيار 12: 267، و قال مثله السيّد الخوئي في معجم الرجال، و الظاهر أنّه أخذ ذلك منه.

المهادنة، ص: 59

الرضي المعتبر في العقد في فرض فساد الشرط و عدم اعتباره شرعا، و حيث إن فساد العقد في صورة فقده لأركان الصحة، الناشئ من فساد الشرط، أمر مفروغ عنه.

فالنتيجة: أن فساد الشرط يوجب فساد العقد.

و بناء عليه فلا مناص من الاكتفاء في القول بصحة العقد عند فساد الشرط، بموارد النص أعني البيع و النكاح.

إلا أن المحققين من الفقهاء تصدوا للجواب عما ذكر من الإشكال، و ها نحن نذكر بعض ما قيل في هذا الصدد، مشفوعا بما هو الحق لدينا في دفع الإشكال.

أما الإشكال بعروض الجهالة

في العوض بتقريب أن «للشرط قسطا من العوض، فإذا سقط لفساده، صار العوض مجهولا» الذي ذكره الشيخ الأعظم نقلا عن المبسوط، و تصدي له بأجوبة متعددة، فالظاهر أنه غير متأت في ما نحن فيه إذ العقد في باب الهدنة ليس عقدا علي تبادل العوضين، بحيث يجعل شي ء في مقابل شي ء عوضا عنه، كالبيع و الإجارة و أمثالهما، بل هو عقد علي التسالم فيما بين الطرفين علي شي ء واحد، و هو ترك الحرب.

و لو فرضنا أن هذا الأمر المتسالم عليه ينحل إلي أمرين يكون أحدهما مقابلا للآخر علي نحو العوضية، كترك حملة أحد الطرفين في مقابل ترك حملة الآخر، فاعتبار عدم الجهالة فيهما مثل ما يعتبر في العوضين في باب البيع و الإجارة، أمر موهوم غير واقعي، و لا معني لحصول الغرر بالجهالة في هذا العقد، كما يحصل غالبا في البيع، و لا معني لأن يقال إن الشرط واقع مقابل جزء من المتاركة من أحد الطرفين، فإذا انتفي انتفي عوضه و يكون الباقي مجهولا.

و خلاصة القول أن هذا الإشكال لا ربط له بباب الهدنة و لا يتأتي فيه أصلا.

إن قلت: وقوع المال في مقابل الهدنة بأن يتقبل أحد الطرفين شيئا من المال في مقابل الرضي بالهدنة من الطرف الآخر غير عزيز في هذا الباب. و بناء

المهادنة، ص: 60

عليه فالإشكال المفروض في المعاملات المالية مثل البيع و الإجارة جار هنا أيضا بلا فرق في البين: قلت: المال المجعول في هذا الفرض ليس أحد العوضين، بأن يقع التبادل بينه و بين الشي ء الآخر في المعاملة، بل هو شي ء في مقابل أصل المعاملة التي ليس فيها عوضان متبادلان، فهو مثل المال الذي يبذل في مقابل أصل البيع أو الإجارة

عند ما يفرض أن صاحب المال يمتنع عن بيعه، فيبذل له مال معين حتي يقبل وقوع المعاملة علي ماله فهذا المال واقع في مقابل أصل الهدنة، و ليس أحد ركني المعاوضة فيها، و ذلك لما بيناه من أن الهدنة ليست في طبيعتها معاوضة بين شيئين، بل هي قرار بين طرفين علي وقوع أمر مشترك بين الطرفين، و تسالم بينهما علي ذلك.

و بناء عليه فالشرط الواقع فيها لا يكون في مقابل جزء من العوض حتي يقال: فقده يوجب الجهالة و الغرر في العوضين.

و أما الإشكال بوقوع الخلل في التراضي عند تعذر الشرط و فساده، فقد أجيب عنه في باب البيع بوجوه:

الأول: ما في الجواهر من أن مدخلية الشرط في التراضي لا يوجب بطلان العقد بفساد الشرط، كما أن مدخلية الثمن و المثمن لا يوجب ذلك، بل أقصاه ثبوت الخيار للتضرر، و لا بأس بالتزامه «107» 1، ثم أجاب (رحمه اللّه) عن إشكال ربما يورد علي عدم تأثير فساد الشرط علي العقد، و هو أن: التأثير لازم معني الشرط، و هو الربط بنحو من التعليق، فأجاب عنه بأن التعليق مبطل للعقد، و تضمن الشرط للتعليق معناه عدم جواز الاشتراط في المعاملة رأسا.

فحاصل الجواب: إنكار التعليق في معني الشرط، و لازم ذلك عدم البأس بنفي تأثير فساد الشرط علي العقد.

الثاني: ما في متاجر الشيخ (رحمه اللّه) و حاصله: أن القيود المأخوذة في أحد طرفي العقد و في جميع المطلوبات العرفية علي أقسام، فمنها ما يكون ركنا

______________________________

(107) جواهرا لكلام 23: 213.

المهادنة، ص: 61

للمطلوب، ككون المطلوب حيوانا ناطقا لا ناهقا، و ككون المطلوب للشارع الغسل بالماء للزيارة لأجل التنظيف، حيث لا يقوم الحمار مقام العبد، و لا التيمم مقام الغسل،

و منها ما لا يكون كذلك، ككون العبد صحيحا، و الغسل كائنا بماء الفرات، فإن العرف يحكم في هذه الموارد بكون الفاقد للوصف نفس المطلوب.

و الظاهر أن الشروط المأخوذة في المعاملات من هذا القبيل لا من قبيل الأول، فلا يكون التصرف الناشئ عن العقد بعد فساد الشرط تصرفا لا عن تراض، نعم غاية الأمر ثبوت الخيار «108» 1.

و الفرق بينه و بين ما عرفت من الجواهر أن هذا البيان لا يشتمل علي الاعتراف بدخالة الشرط في الرضي المعاملي، و ذاك يعترف بذلك و لكن لا يري ذلك موجب الفساد العقد و إن كان موجبا للخيار.

فبناء علي مبني الشيخ (رحمه اللّه) لا يكون التصرف المترتب علي العقد بعد انتفاء ما ارتبط به من القيود من النوع الثاني التي ذكر الشرط من جملتها تصرفا لا عن تراض جوزه الشارع تعبدا و قهرا علي المتعاقدين، بل الرضي المعاملي الذي هو المناط في صحة المعاملات المتوقفة علي الرضي حاصل و لو مع فساد الشرط و انتفائه.

و لبعض الأعلام من المعاصرين بيان في توجيه عدم دخالة فساد الشرط في انتفاء الرضي المعاملي، و محصله أن الرضي المعاملي إنما علق علي التزام المشروط عليه بإيجاد الشرط، لا علي نفس وجود الشرط و تحققه خارجا، قال: «إن الرضي المعاملي عند الإنشاء لم يعلق علي وجود الشرط في الخارج، و إلا لكانت المعاملة باطلة لأنه من التعليق المبطل، و حتي لو فرضنا صحة التعليق تكون المعاملة باطلة فيما نحن فيه لعدم حصول ما علق عليه في الفرض، و المعلق ينتفي عند فقد المعلق عليه لا محالة، و هذا من غير فرق بين الشروط الصحيحة و الفاسدة.

و لازمه بطلان العقود و الإيقاعات عند الاشتراط

مطلقا. إلي أن قال: و الالتزام بإيجاده لما كان حاصلا عند المعاملة و هما يعلمان بوجوده فلا يكون التعليق علي مثله مبطلا، و من الظاهر

______________________________

(108) المكاسب: 288.

المهادنة، ص: 62

أن الالتزام بإيجاد الشرط في المقام حاصل لأنه التزم به علي الفرض و تكون المعاملة تامة و متحققة، و كون ذلك أمرا محرما لم يمضه الشارع مطلب آخر غير مربوط بحصول المعلق عليه للمعاملة كما هو ظاهر.

نعم، ربما يكون البائع بحيث لو كان عالما بحرمة ذلك الشرط، أو كان عالما بعدم إمضاء الشارع له، لما أقدم علي المعاملة، و إنما أقدم عليها باحتمال أن الشارع يمضي الشرط المحرم في المعاملة، تقصيرا أو قصورا، إلا أن ذلك من باب تخلف الدواعي، و هو لا يستلزم البطلان. إلي أن قال: و الوجه في ذلك أن تخلف الدواعي لا ربط له بالرضي المعاملي أبدا، فالرضي موجود لتحقق ما علق عليه و هو الالتزام، و يشمله عموم (و أحل اللّه البيع) «109» 1 و غيره من العمومات، و معه فلا وجه للبطلان».

انتهي محل الحاجة من كلامه نقلا عن مصباح الفقاهة، و هو تقريرات درسه (رحمه اللّه).

أقول: هذه هي الوجوه الثلاثة التي ذكروها لإثبات أن تخلف الشرط لا يوجب بطلان المعاملة المشروطة به.

فأما ما ذكره صاحب الجواهر (رحمه اللّه) فلعله يمكن المناقشة فيه: أولا: بأن ما سلم من مدخلية الشرط في الرضي إن أريد منه الرضي المعاملي الذي يكون بمعني تسليم كل من الطرفين لوقوع المعاوضة لا نعترف به دائما.

و إنما الشرط موجود دائما فيما يتراضي عليه، و هذا أعم من كونه ذا مدخلية في الرضي.

فإن من يشتري ثوبا مشروطا بكونه نظيفا و عليه الأزرار بقدر الحاجة و أمثال ذلك، فصحيح أنه

يجعل الرضي المعاملي متعلقا بالثوب واجدا لهذه الشروط، إلا أن هذه الشروط غير دخيلة غالبا في حصول هذا الرضي، فوجود الشي ء في مجموعة ما يتراضي عليه، لا يلازم دائما مدخلية هذا الشي ء في الرضي المعاملي.

و ثانيا: لا يبعد أن يقال: إن الشرط الذي له مدخلية في الرضي المعاملي و قد قلنا إنه بعض الشروط لا جميعها يؤثر انتفاؤه في انتفاء المعاملة كما

______________________________

(109) البقرة: 275.

المهادنة، ص: 63

قال نظير ذلك الشيخ (رحمه اللّه) في القيود التي تعتبر ركنا للمقصود.

فمثلا: لو استأجر أو اشتري دارا في موسم الحج في مكة المكرمة، مشروطا بكونها خالية من الساكن الغاصب أو غير الغاصب، فاتفق كونها مشغولة به، فإن كون الشرط في مثله ركنا للمطلوب بل هو نفس المطلوب في نظر العرف مما لا شبهة فيه، فلم لا يقال ببطلان المعاملة في مثل هذا المورد، دون صحتها مع خيار الفسخ للمشتري أو المستأجر؟ و النقض بعدم بطلان المعاملة في صورة تبعض الصفقة غير متجه، لنقل الكلام في تلك الصورة أيضا إذ الخيار في صورة تبعض الصفقة إنما يتجه إذا لم يكن الجزء المفقود ركنا في المطلوب، و إلا فلا بعد في القول ببطلان المعاملة هناك أيضا.

نعم، هذا خلاف المشهور، علي ما يبدو بحسب المتيسر من كلمات القوم لدي و ما ببالي منها، و تحقيق المطلب يتوقف علي فحص و تأمل أكثر.

و أما ما ذكره الشيخ (قدس سره) من تقسيم القيود المذكورة للمطلوب، إلي ما هو ركن فيه و ما ليس ركنا فيه، فمتين جدا يشهد به فهم العرف من الأوامر و الإنشاءات المعاملية و غيرها، إلا أن ما أفاده من عدم كون الشرط مطلقا من القيود الدخيلة في المطلوب، محل نظر، بل

منع ضرورة دخالة بعض الشروط المذكورة في المعاملات في المقصود بنحو الركنية، بل يمكن أن يقال: إن منها ما هو المقصود و المطلوب بالذات من المعاملة و المؤثر الأصلي في تحقق الرضي المعاملي، دون ما يقع عليها المعاملة مباشرة، فصاحب البندقية النفيسة التي لا يرضي ببيعها مثلا إذا احتاج إلي قوت في الصحراء و هو لا يقدر علي الصيد بنفسه، يرضي لا محالة ببيعها لمن يقدر علي الصيد بها، فيبيعها بشرط أن يصيد بها و يناوله من الصيد.

فهذا الشرط لا يمكن القول بخروجه عن المطلوب، بل هو المطلوب بالحقيقة من البيع، دون الثمن الذي ليس محتاجا إليه و لم يكن يرضي ببيع بندقيته به في الحالة العادية.

فإذا فرض كون هذا الشرط حراما ككون الواقعة في الحرم أو بأي نحو آخر فهل يمكن ادعاء عدم سراية فساد الشرط إلي المشروط، بادعاء أنه قيد خارج عن

المهادنة، ص: 64

المطلوب و لا يؤثر فساده و انتفاؤه في الرضي المعاملي؟ مقتضي الإنصاف أنه لا يمكن مثل هذا الادعاء، كما لا يمكن القول بأن تناول لحم الصيد في هذا المثال ليس أكثر من الداعي لهذه المعاملة، و الداعي لا يمكن الالتزام بتأثيره في نتيجة المعاملات، و القول بأن تخلفه موجب لبطلان المعاملة كما أفاد في مصباح الفقاهة في مطاوي الكلام الذي نقلنا عنه، إذ هناك فرق واضح بين الداعي في مسألة ارتفاع القيمة، و الداعي في المثال المذكور آنفا، فإن الثاني هو الركن في المعاملة، و الحال أن الأول ليس أكثر من جهة تعليلية لها.

و بعبارة أخري: ففي الأول يقدم المكلف علي المعاملة برجائه، و في الثاني يقدم عليه دون غيره.

و حاصل الكلام: أن من الشرط ما يكون ركنا في المعاملة،

فإذا افتقد افتقد المطلوب، و إذا امتنع خارجا أو اعتبارا شرعا امتنع المطلوب، و الحكم فيه يختلف حسب الموارد، فإذا وقعت المعاملة علي الكلي، فأتي بالفرد الفاقد لمثل هذا الشرط، فهو لم يأت بما وقعت المعاملة عليه و يكون مديونا، و إذا وقعت علي الشخص بزعم أنه واجد فبان فاقدا، فسدت المعاملة، و هكذا في سائر الفروع المترتبة علي المسألة.

و أما ما ذكره بعض الأعيان من المعاصرين (رحمه اللّه) من أن القول ببطلان العقد عند فساد الشرط مشكل ثبوتا لأن هذا إنما يكون بمعني تعليق العقد علي الشرط، فإن كان التعليق علي وجود الشرط خارجا، فهو من التعليق المبطل و لو لم يكن الشرط في نفسه فاسدا لأنه تعليق علي أمر غير موجود.

و أما إن كان التعليق علي الالتزام بالشرط فهو حاصل حتي في صورة فساد الشرط، فالعقد صحيح حتي في هذه الصورة (و قد مر بيان كلامه آنفا).

فيمكن الخدشة فيه أولا: بأن تصوير الشرط كما ذكره أعني التعليق علي الالتزام تصوير بعيد عن الواقع العرفي، غير مؤيد بفهم الناس المقدمين علي

المهادنة، ص: 65

المعاملات المشروطة إذ لا شبهة في أن من يشترط أمرا في معاملة إذا علم أن الطرف الآخر سوف لن يقدر علي تحقيق الشرط، لم يحصل منه الرضي المعاملي، و لم يقدم علي المعاملة، حتي و لو التزم ذاك الطرف بتحقيقه في حين العقد.

فليس الالتزام بإيجاد الشرط، في نظر الذي يشترط الشرط، إلا أمارة أو ذريعة لحصول الشرط، فهو الداعي للرضا المعاملي، لا المتعلق له.

ثانيا: بأن ما افترضه (رحمه اللّه) من أن جعل الشرط في المعاملة بناء علي تأثير بطلان الشرط في بطلان المشروط مرده إلي تعليق العقد علي شي ء، فتارة يكون المعلق

عليه هو نفس الشرط المحقق خارجا، و تارة يكون الالتزام به و جعله في العهدة، فهو باطل من أصله، بمعني أن الشرط ليس تعليقا أصلا، بل هو نوع إلزام و إنشاء في المعاملات، وزانه وزان نفس المعاملة، فقد يكون الشرط في الحقيقة صفة لمتعلق المعاملة، كما إذا اشترط كون الثمرة ناضجة، و القماش محاكا بالصوف، و البناء فارغا و أمثال ذلك، فإذا قال: اشتريت منك البطيخ بشرط أن يكون ناضجا، فهو في قوة قوله: اشتريت منك بطيخا ناضجا.

و قد يكون الشرط أمرا خارجا عن متعلق المعاملة كأن يقول: اشتريت منك الدابة بشرط أن تخيط لها جلا، فهذان شيئان جري عليهما إنشاء واحد، و كلاهما مطلوبان، و مجرد وجود الربط بينهما في نظر المنشئ لا يوجب تعليق الرضي بأحدهما علي الآخر دائما، و الحكم ببطلان المعاملة بفقد أحدهما متوقف علي كون هذا المفقود ركنا في المقصود، كما أفاده الشيخ (رحمه اللّه) في كلامه السابق.

ثم إن حاصل جميع ما ذكر: أن الإشكال علي القائلين بصحة العقد مع فساد شرطه، بوقوع الخلل في التراضي، ليس واردا علي جميع الصور.

نعم، هو وارد علي بعض الصور، و هو ما إذا كان تحقق الشرط دخيلا في الرضي بأصل المعاملة، و لا مناص في هذا البعض من الالتزام بفساد المعاملة

المهادنة، ص: 66

عند فساد الشرط أو امتناعه، بحسب مقتضي القاعدة.

و علي هذا فالروايات المذكورة سابقا و المستفاد منها صحة العقد في صورة فساد الشرط إما أن تحمل علي صورة عدم دخالة الشرط في تحقق المعاملة بنحو الحيثية التقييدية، أعني عدم كونه ركنا في المقصود من المعاملة، و إما أن يتوقف في مضمونها علي مورد النصوص، أعني البيع و النكاح، و لا يتجاوز عنهما

إلي غيرهما.

و مما ذكرنا يعلم أن ذهاب أكثر الفقهاء إلي بطلان الهدنة بفساد الشرط المأخوذ فيها علي ما عرفت في ما ذكرنا سابقا من عبائرهم لا يمكن الاستدلال عليه بشي ء من الكتاب و السنة و غيرهما من الأدلة، إلا إذا فرض أن محل كلامهم هو ما إذا كان هذا الشرط دخيلا في الهدنة علي نحو دخالة الشروط المقومة للرضا المعاملي في باب البيع و سائر المعاوضات، و إن كان خيرتهم غالبا في باب المعاوضات عدم بطلان المعاملة حتي بفساد مثل ذاك الشرط، فيكون مختارهم هنا أي في باب الهدنة علي طبق القاعدة، و هناك أي في البيع و سائر المعاوضات مستندا إلي الروايات الخاصة.

هذا، و لكن ربما يقال: بأن هناك فرقا بين الشرط في باب المعاوضات و بينه في باب الهدنة كما أفاده المحقق العراقي (رحمه اللّه) و حاصله: أن الشرط هناك يعتبر من باب تعدد المطلوب، بخلافه هنا إذ المعاوضة إنما تقع علي أمر غير الشرط، و أما الشرط فهو شي ء زائد علي أصل المعاملة، فإذا انتفي الشرط فليبق ذاك الأمر بحاله، و هذا بخلاف الصلح، فإن شرائط الصلح كلها داخلة فيما يتصالح عليه، و ليس هنا ما يقع عليه العقد إذا انتفي الشرط، فإذا فسد الشرط فقد انتفي ما قد وقع عليه العقد.

و النتيجة هي أن تفريق المشهور بين بابي الهدنة و المعاوضات و القول بفساد العقد لفساد شرطه في الأول دون الثاني، يكون علي وفق القاعدة.

أقول: يرد علي ذلك أولا: أن الصلح أيضا حينما يراد به المهادنة يمكن

المهادنة، ص: 67

اعتبار الشرط و المشروط فيه بنحو تعدد الموضوع و المطلوب إذ موضوع الصلح بهذا المعني هو حصول السلم و ارتفاع حالة الحرب، و

الشرط أمر خارج عن ذلك كائنا ما كان، فصار من هذه الجهة كالمعاوضات.

و ثانيا: أن ما ذكر علي فرض تسليمه غير فارق إذ علي فرض وحدة الموضوع أيضا يمكن القول بعدم بطلان العقد بفساد جزء موضوعه و إنما ذلك يوجب الخيار، كما في خيار تبعض الصفقة.

فالحل هو ما ذكرناه: من الفرق بين أقسام الشرط في جميع الموارد، و القول ببطلان المعاملة بفساد شرطها، فيما لو كان الشرط مقوما للمقصود منها، و عدمه في غيره.

ثم لا يخفي أن ما يقال من وحدة الموضوع في باب الصلح، ربما يعترف به في باب عقد الصلح الذي هو من العقود اللازمة في أبواب المعاوضات، و قد شرع للتصالح علي معاوضة بين طرفين، حيث إن الموضوع فيه و هو الأمر المتسالم عليه بين الطرفين يشمل جميع القيود و الشروط المأخوذة في العقد، فليس هناك شيئان: شي ء يقع عليه الصلح و شي ء يشترط هذا به، بل الشرط و المشروط كلاهما داخلان في موضوع التسالم، فهما جميعا بمنزلة موضوع الصلح، و العقد يقع عليهما معا، و هذا بخلاف البيع المشروط بشي ء، حيث إن موضوع العقد هو نفس المعاوضة، و الشرط أمر خارج عن مضمونه متعلق به.

إلا أن يقال كما قلنا سابقا: إن الشرط أيضا يرجع في قسم من الشروط إلي تقييد الموضوع بوصف خاص.

و أما الصلح المبحوث عنه هنا أعني المهادنة، فلا يجري فيه ما ذكر في عقد الصلح بذاك المعني إذ الظاهر أن عقد الهدنة ليس من مصاديق عقد الصلح في أبواب المعاوضات، و هما يختلفان موضوعا و دليلا و اعتبارا، فالصلح في باب الهدنة كما ذكرنا مرارا هو التصالح علي أمر خاص و هو ترك القتال، فهذا هو موضوعه الذي

شرع له، كالمبادلة بين عين و عين في

المهادنة، ص: 68

باب البيع، و تكون الشروط اللاحقة به أمورا خارجة عن الموضوع متعلقة به، و هو مقيد بها كما في جميع الشروط في أبواب المعاملات، فيتأتي فيه جميع ما يتأتي في مبحث الشروط في باب المعاملات.

نعم، ربما يمكن التفريق بين تخلف الشرط في باب المعاملات و تخلفه هنا، حيث إن مدار البحث هناك إنما هو علي التخلف عما تعلق به الرضي المعاملي، و قد تصدي القوم لبيان أن بطلان الشرط لا يوجب بطلان العقد من هذه الجهة، و قد قلنا ما ارتضيناه في ذاك الباب.

و أما في ما نحن فيه من مسألة الهدنة، فليس فيه للرضي المعاملي بذاك المعني مجال إذ الأمر فيه متعلق بمصالح الجماعة و مصير الأمة، و ليس في مثل ذلك لرضي المباشر و العاقد محل و مجال.

فتخلف الشرط لا يوجب إشكالا من هذه الجهة حتي يحتال للتخلص منه بما ذكر في باب المعاملات، بل الأمر هنا موكول إلي المصلحة، فلتراع و لتكن المناط في الصحة و الفساد.

هذا، و لكن الوجه المذكور للفرق موهون بأن البيع أيضا ربما يمكن أن يتصور وقوعه هكذا، أي عن جماعة و شعب، كما في كثير من البيوع الصادرة عن الحكومات و الدول، و لازمه الخدشة في اعتبار الرضي المعاملي فيها، و الحل في الكل أن المقدم علي أمثال تلك البيوع، يقدم عليها كأنه الوكيل عن الشعب و الجماعة، فيقع رضاه موقع رضاهم، و يكون هو المناط في تحقق الرضي المعاملي و عدمه، فالتخلف عما تعلق به الرضي المعاملي يتصور في الهدنة و أمثالها، و يكون في كل مورد بحسبه.

الأمر الخامس: في بقية أحكام الهدنة:

اشارة

و نذكرها في طي مسائل:

المسألة الأولي: أن أمر الهدنة بيد الإمام أو من نصبه بالخصوص لذلك.

ذكره في الشرائع و المنتهي و غيرهما.

و قال الأخير: «لا نعلم فيه خلافا»،

المهادنة، ص: 69

و لعله كذلك بعد وضوح المسألة استدلالا في الجملة، و عدم نقل الخلاف فيها من أحد.

إلا أن تمام الكلام في جوانب المسألة يقتضي الالتفات إلي أن إثبات الأمر للإمام تارة: بمعني عدم الخيار لأحد في عرضه، فلا يجوز عقد الهدنة من قواد الجيش، و رؤساء أصقاع البلاد، و الفقهاء و عدول الناس، و غيرهم من الأعيان فضلا عن السوقة و عامة الناس، و هذا هو الذي تسلم عند الأصحاب و تسالم عليه الكل ظاهرا. و الدليل عليه أولا: أن أمورا بهذه المثابة من الأهمية، و التي ترجع إلي تدبير البلاد و تؤثر في مصير العباد إنما تتوجه إلي رئيس المسلمين و مدير أمورهم دون غيره، و من هذا القبيل الجهاد و سائر شئون الحكومة العليا.

و هذا مما تعترف به جميع أعراف العالم.

و ثانيا: أن تدخل غيره فيه ينجر إلي تعطيل الجهاد و إبطاله إذ ما من حرب إلا و لبعض الناس داع إلي إنهائها و المهادنة للعدو فيها.

و ثالثا: أن ذلك يوجب الهرج و المرج في البلاد، و عدم استقرار و أمن فيه.

و أخري: بمعني عدم الخيار في طول الإمام أي مع فرض عدم وجوده أو عدم حضوره إلا لأشخاص معينين، و ليس يتخطي منهم إلي غيرهم من آحاد الناس.

و حينئذ يقع الكلام في تعيين هؤلاء الأشخاص أعني من يملك التصدي لهذا الأمر في غيبة الإمام المفروض طاعته.

فأما بناء علي القول بولاية الفقيه في زمن الغيبة، فولايته ولاية الإمام، بل لا يبعد أن يكون المراد بالإمام في بعض كلمات الفقهاء (رحمهم اللّه) الأعم منه.

و هذا بالنسبة

لمن يجوز الجهاد الابتدائي في زمن الغيبة أوضح، لفحوي أدلة تشريع الجهاد، إذ أمر الجهاد الابتدائي أهم و أعظم من المهادنة بكثير كما لا يخفي حيث إنه إشعال للحرب و هذه إطفاء لها.

المهادنة، ص: 70

و أما بالنسبة لمن لا يري الجهاد الابتدائي في زمن الغيبة، فيكفيه أدلة ولاية الفقيه.

و هذا ما يظهر من كلام صاحب الجواهر (رحمه اللّه).

و أما غير الفقيه من طبقات ولاة الغيبة بناء علي القول بولاية غير الفقيه في صورة فقده، من جهة الحسبة فهو أيضا يقوم بذلك بدليل الحسبة، و ليس لأحد في عرضه التدخل في ذلك من رعاع الناس، و الظاهر أن هذا هو مراد كاشف الغطاء (رحمه اللّه) حيث يقول: «و ليس لغير الإمام أو نائبه الخاص أو العام أو الأمراء و الحكام مع عدم قيام من تقدم المهادنة لأن سائر الرعية لا يرجع إليهم أمر الحروب»، انتهي.

بل لعله المراد من إطلاق صاحب الجواهر (رحمه اللّه) في التعبير بنائب الغيبة في كلامه «110» 1.

و أما غير ولاة الغيبة من السلاطين و الأمراء المتغلبين علي الحكم، فالأمر فيهم يحتاج إلي مزيد كلام.

أما صاحب الجواهر (رحمه اللّه) فنفي البعد عن جريان حكم الهدنة علي ما يقع و يصدر منهم، و استدل له أولا: برواية الصدوق عن الرضا (عليه السلام) في استمرار ما حكم به عمر علي بني تغلب «111» 1.

و ثانيا: بسيرة العلماء و جميع المسلمين علي تناول الجزية من الحكام كتناول الخراج. إلي آخر كلامه و ذكر الجزية في استدلاله مع كونها مخصوصة بأهل الذمة و عدم ارتباطها بالعدو الذي يهادن معه لعله من باب ذكر الأمثال و المشابهات في هذا الباب، لتقريب أن خيار الحاكم في أمثال هذه الأمور،

لم يكن محل مناقشة بين صنوف المسلمين من العلماء و العوام.

و كيف كان، فمن المحتمل أن يكون هذا الذي ذكره صاحب الجواهر، هو المراد من كلام كاشف الغطاء المذكور آنفا، و لازم ذلك حرمة كل ما يعد نقضا للهدنة المنعقدة من قبلهم من أحد من الناس.

أقول: يرد علي الاستدلال بالرواية: أولا: أنها مرسلة و لا يعتمد عليها من جهة السند، و ما قيل من أن

______________________________

(110) راجع: جواهرا لكلام 21: 312.

(111) الوسائل 11: 116، ب 68، ح 6.

المهادنة، ص: 71

مرسلات الصدوق إذا كانت بنحو نسبة القول إلي الإمام (عليه السلام) فهي في قوة الحديث المسند اعتمادا علي الصدوق (رحمه اللّه) مما لا يساعده المبني المعروف و المرضي في باب حجية خبر الواحد، و ليس هناك ما ينجبر به ضعف سند الرواية.

و ثانيا: أن موضوع الحديث هو التصالح بين الخليفة و بعض أهل الذمة في أمر مالي، و أين هذا من الهدنة التي هي ختم الجهاد، و الصلح مع العدو المحارب، فإلحاق ما نحن فيه بمورد الرواية لا يتم إلا بالقياس المردود لدي الإمامية.

و ثالثا: ما صدر عن عمر و إن كان نافذا كما بينه الإمام الرضا (عليه السلام) إلا أن من المحتمل أنه كان قضية في واقعة، فلعل نفوذه كان من جهة تنفيذ أمير المؤمنين (عليه السلام) له أو شي ء من ذاك القبيل، فصحة ذاك التصرف لا تدل علي صحة التصرفات الصادرة عن الحكام و الأمراء كما يدعي صاحب الجواهر (رحمه اللّه).

و رابعا: من المحتمل أن قوله (عليه السلام) في المرسلة: «فعليهم ما صالحوا عليه و رضوا به» إمضاء لما صدر من عمر المتراءي أنه كان معمولا به إلي زمانه (عليه السلام)، و ذلك لعله لحاجة

لبعض الشيعة في تعاملهم مع بقايا بني تغلب، فأرادوا صحة معاملتهم معهم، فأجاز الإمام و أمضي كولي لأمور المسلمين القرار الذي وضعه عمر قبل عشرات السنين.

و علي هذا الاحتمال الذي لا يبعد كثيرا عن لحن الحديث، فصحة الفعل الصادر عن الخليفة أيضا غير مقبول و لو بنحو القضية في واقعة.

و يؤيد هذا الاحتمال قوله (عليه السلام) في آخر الحديث: «إلي أن يظهر الحق» حيث أن هذه الفقرة تناسب كون الحكم ولويا من الإمام الرضا (عليه السلام).

و حاصل الكلام: أن التمسك بمثل هذه الرواية لما رامه من إثبات نفوذ الهدنة إذا صدرت من غير الإمام (عليه السلام)، بمعزل عن الصواب جدا.

و أما السيرة المدعاة فليست بأشفي و أوفي من الرواية المذكورة، و يظهر وجوه الإشكال فيها بتأمل يسير.

المهادنة، ص: 72

هذا، و القول بعدم نفوذ الهدنة الصادرة من الحكام غير المحقين مطلقا و بدون أي استثناء، أيضا ينجر إلي ما لا يلتزم به ذو اعتبار فضلا عن فقيه إذ ربما يكون في الهدنة المصلحة التامة للمسلمين و لبلادهم و مصيرهم، و في استمرار الحرب ضرر عليهم و هدر لدمائهم و تلف لأموالهم، بل مفروض الكلام في نفوذ هدنة الجائر و عدم نفوذها، هو ما إذا كانت الهدنة ذات مصلحة للمسلمين، و إلا فالهدنة باطلة و لو من الإمام العادل، فحينئذ إما أن يقدم الجائر علي الهدنة، أو تفوت الهدنة و ما فيها من المصلحة عن المسلمين، و لا أظن فقيها يلتزم و يفتي بتورط المفسدة و فناء النفوس المحترمة و تلف الأموال و غير ذلك مما يترتب علي الحرب الدامية.

و علي هذا فالظاهر أن قبول الهدنة من الجائر و ترتيب الآثار عليها فيما يترتب علي تركه المفسدة،

مما يحكم به الارتكاز الشرعي و الذهن المتعارف المتشرعي، و إن كان نفس العمل من الجائر تصرفا فيما لا يحق له التصرف فيه و هو حرام عليه شرعا، و اللّه العالم.

المسألة الثانية: في شرط العوض المالي للمهادنة،

مقتضي القاعدة جوازه إذ ليس في مفهوم الهدنة ما يمنع من ذلك، و لذا تري أن صاحب الجواهر صرح في شرح معني الهدنة بوقوعها بعوض و غير عوض، و أول كلام من قيدها في التعريف بكونه بغير عوض، كالشيخ في المبسوط و العلامة في القواعد، أنه يراد منه عدم اعتبار العوض فيها، لا اعتبار عدم العوض، هذا أولا، و ثانيا: لكونه مقتضي إطلاق أدلة المهادنة كقوله تعالي (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا) فإنه يشمل كونه بعوض، و مثله الأدلة الأخري.

و كذا مقتضي إطلاقات اعتبار الشرط و هي معروفة، فجواز شرط المال في الهدنة في الجملة مما لا إشكال فيه.

إلا أنه ربما يفرق بين مال يستلمه المؤمنون من الكفار، و بين ما يدفعه إليهم.

أما الأول فهو جائز بلا إشكال لما ذكر، و للأولوية بالنسبة للهدنة بغير مال.

و أما الثاني فقد حكي المنع عنه

المهادنة، ص: 73

مطلقا عن أحمد و الشافعي «112» 1، و لم أعرف في أصحابنا من صار إلي هذا القول، إلا أن فيهم من فصل بين حال الضرورة و غيره، فمنعه في غير الضرورة، و هو العلامة (رحمه اللّه) فقال في التذكرة في عداد الشروط الفاسدة: «أو دفع المال إليهم مع عدم الضرورة الداعية إلي ذلك» «113» 1.

و قال في المنتهي: «و أما إذا لم يكن الحال حال ضرورة فإنه لا يجوز بذل المال، بل يجب القتال و الجهاد لقوله تعالي (قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ إلي قوله تعالي حَتّٰي يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) «114»

1، و لأن فيه صغارا و هوانا، أما مع الضرورة، فإنما صير إلي الصغار دفعا لصغار أعظم منه، من القتل و السبي» «115» 1.

و قد عدل بعض آخر من الأصحاب من شرط الضرورة إلي شرط المصلحة.

قال كاشف الغطاء (رحمه اللّه): «و لو وقعت مشروطة بعوض قل أو كثر. أو بسائر الشروط الشرعية، اتبع الشرط، و يشترط فيها موافقة مصلحة المسلمين» «116» 1، و الظاهر أن مرجع الضمير في قوله «فيها» هو «الشروط» و لو كان مرجع الضمير الهدنة، دل أيضا علي اشتراط اعتبار الشرط بكونه موافقا للمصلحة.

و قال صاحب الجواهر (رحمه اللّه) بعد نقل ما في المنتهي من دليل اشتراطه بالضرورة: «بل لا يبعد الجواز مع المصلحة للإسلام و المسلمين أيضا» «117» 1.

و قال السيد الخوئي (رحمه اللّه) في منهاجه: «و لا فرق في ذلك بين أن تكون مع العوض أو بدونه، بل لا بأس بها مع إعطاء ولي الأمر العوض لهم إذا كانت فيه مصلحة عامة» «118» 1.

أقول: أما اشتراط كون دفع المال موافقا للمصلحة فهو أمر واضح لا مرية فيه، و لا يمكن لأحد أن يلتزم بجواز دفع المال إلي الكفار في الهدنة مع كونه خلاف المصلحة و ذلك لأن صحة أصل الهدنة و مشروعيتها أيضا متوقفة علي موافقة المصلحة، فكذا هذا الشرط و غيره من الشروط، و أما اشتراطه بالضرورة كما عرفته من كلام العلامة و بعض علماء السنة، فهو يعني أن دفع المال إلي الكفار حرام و لو مع كونه ذا مصلحة، و إنما يرتفع حكم الحرمة لدي

______________________________

(112) المغني 10: 519.

(113). 1: 447.

(114) التوبة: 29.

(115) المنتهي 2: 975.

(116) كشف الغطاء: 399.

(117) جواهرا لكلام 21: 293.

(118) منهاج الصالحين: 400، قسم العبادات.

المهادنة، ص:

74

الضرورة مثل بقية المحرمات، فمرجع هذا القول إلي القول الأول، أعني عدم الجواز مطلقا، إذ القائل بالحرمة أيضا يستثني منها حال الضرورة لا محالة.

و يقع التساؤل هنا: ما الدليل علي حرمة دفع المال إلي الكفار؟ و قد ذكر العلامة له أولا الآية، و ثانيا استلزامه الصغار، أنت خبير بقصورهما عن الدلالة علي ذلك.

أما الآية فهي قد خصصت بدليل الهدنة، و إلا يلزم أن لا تكون الهدنة جائزة مطلقا، فبعد ما تسلم تخصيصها بدليل الهدنة فلنرجع في تنقيح موضوع الجواز إلي أدلتها.

و قد قلنا: إن عموم أدلة الهدنة تشمل ما كانت مشروطة إلا شرطا خالف كتاب اللّه، و لم يثبت كون هذا الشرط مخالفا لكتاب اللّه.

و أما الصغار، ففيه الخدشة صغري و كبري، أما الأول: فلمنع كون دفع المال صغارا دائما، فرب قوي يدفع المال إلي من هو أضعف منه دفعا لشره، و في دفع النبي (صلي الله عليه و آله) المال إلي عيينة بن حصين، لفصله عن أبي سفيان يوم الأحزاب الذي نقله الإسكافي و بعض العامة علي ما ذكر صاحب الجواهر (رحمه اللّه) مثال واضح لذلك «119» 1.

و أما الثاني: فلأن مطلق ما يلزم فيه الصغار لا يمكن الالتزام بحرمته، إذ رب صغار يستتبع مصلحة كبيرة للإسلام و المسلمين، و حرمته في تلك الموارد غير معلومة، و لعل أحد أمثلته التاريخية ما وقع للمسلمين في وقعة الحديبية، حيث قبلوا ما ألزمهم به الكفار من محو «بسم اللّه الرحمن الرحيم»، و عنوان رسول اللّه عن اسم النبي الأعظم (صلي الله عليه و آله)، و قد بارك اللّه تعالي في صلحهم هذا الذي تحملوا في طريقه مثل تلك الأمور، حتي نزل فيه قوله تعالي (إِنّٰا فَتَحْنٰا

لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) «120» 1 علي القول بنزوله في تلك الواقعة.

المسألة الثالثة: هل يجوز اقتراح الهدنة من المسلمين؟ أو يخص الجواز بما استدعاه الطرف الكافر؟

ظاهر الفقهاء حيث لم يعنونوا المسألة هو عدم الفرق بين الصورتين، إلا

______________________________

(119) راجع: جواهرا لكلام 21: 292، و لم أجد الرواية في مجاميع الحديث لأهل السنّة.

(120) الفتح: 1.

المهادنة، ص: 75

أن هناك أمورا ربما تلقي علي الذهن أن أدلة الجواز تختص بصورة اقتراح الكافر.

بل ربما يستفاد من بعض الأدلة حرمة الدعوة إلي السلم.

فنقول: أما ما يستفاد منها اختصاص المشروعية بصورة طلب الكفار لها، فقوله تعالي (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا)، حيث إن الأمر بالجنوح للسلم وقع مشروطا بجنوح الكفار له، فيختص الجواز بهذه الصورة إذ الأصل في معاملة الحربي هو الجهاد، و إنما أدلة الصلح تخصيص لذلك الأصل، و موجب للخروج منه، فيكتفي فيه علي مقدار دلالة هذه الأدلة و لا يتجاوز عنها.

و أما الآيات الآمرة بإتمام عهد الكفار إلي مدتهم، فهي ناظرة إلي ما وقع من العهد بين النبي (صلي الله عليه و آله) و الكفار، و ليس فيها التعرض لكيفية وقوع هذه العهود، و ليس في الروايات الحاكية لتلك العهود ما يوضح لنا أنها كانت بطلب من المسلمين، فلا إطلاق فيها بالنسبة لصورة ابتداء المسلمين بدعوة الهدنة.

و مما يتراءي منه اختصاص مشروعية الهدنة بصورة طلب الكفار، ما سبق الاستدلال به من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده للأشتر

«و لا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك، للّه فيه رضي»

الذي نقل عنه (عليه السلام) في نهج البلاغة و مثله في تحف العقول و دعائم الإسلام «121» 1.

وجه الاختصاص أن النهي إنما هو عن دفع صلح يدعو إليه العدو، فالمنهي أولا: هو دفع الصلح، و هو عدم قبوله لا عدم اقتراحه، و ثانيا: هو رد

الصلح الذي يدعو إليه العدو، فهذا هو شرط مشروعية الصلح، و فيما عداه يبقي حكم وجوب الجهاد بحاله.

و الحاصل: أن أدلة مشروعية الصلح بين ما هو مهمل و مجمل بالنسبة إلي شموله لصورة ابتداء المسلمين به كعمل النبي (صلي الله عليه و آله) مع كفار عصره، و الآيات الدالة علي اعتبار العهود المعقودة مع الكفار، فلا إطلاق فيه، و بين ما فيه دلالة ما علي اختصاص الحكم بصورة اقتراح العدو للهدنة دون غيرها، فيبقي صورة اقتراح المسلمين للصلح خارجة عن شمول الأدلة و باقية تحت حكم وجوب الجهاد.

______________________________

(121) المستدرك 11: 43- 45.

المهادنة، ص: 76

هذا كله مضافا إلي ظهور الآية المباركة (فَلٰا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَي السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللّٰهُ مَعَكُمْ) «122» 1 في حرمة الدعوة إلي الصلح، و بناء عليه فلو فرض وجود إطلاق في المقام يدل علي مشروعية الصلح في كل صورة من الصور، فهو يقيد بهذه الآية المباركة، كما هو الواضح من النسبة بين كل دليلين من هذا القبيل، فضلا عن عدم إطلاق من هذا القبيل في البين.

فحاصل ما عرفت: أن الصلح المشروع إنما هو ما يقترح و يستدعي من طرف العدو لا غير لأن غيره غير مدلول عليه بأدلة جواز الصلح، بل مشمول لدليل النهي عنه، و هو الآية الشريفة.

هذا، و لكن يمكن بعض الخدشة في ما استظهر من الأدلة.

أما آية الجنوح فلأن الجنوح بمعني الميل، و هو أعم من الاقتراح، فرب من يجنح لشي ء بدون أن يقترحه، فقوله تعالي (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا) بمعني أنه إن مالوا إلي السلم فمل أنت أيضا إليها، و ليس فيها تعرض لمفهوم الاقتراح، و أنه من أي جانب لا بد أن

يكون.

فالآية و اللّه أعلم بصدد بيان أصل مشروعية الصلح و أنه مشروع فيما يميل إليه العدو و لا يستنكف منه، و معلوم أنه لو لم يقبل العدو و لم يمل إلي الصلح فلا يمكن الصلح للمسلمين.

و يمكن تقرير الاستدلال بنحو آخر.

و هو أن يقال: إن شرط مشروعية الصلح بناء علي الآية هو ميل العدو، و إذا لم يمل هو، فالصلح لا يكون إلا بالتماس و طلب ذليل من ناحية المسلمين، و هذا هو الخارج عن المشروعية، لا الصلح الذي يكون باقتراح المسلمين من دون ذلة، فجنوح العدو شرط طبيعي لا شرعي للصلح.

و لعل وجه ذكره مع ذلك أن الآية بصدد بيان أنه إذا حصل لك فرصة التحصل علي الصلح.

بأن جنح إليه عدوك فلا وجه حينئذ لاستمرارك الحرب و تحملك أعباءها، فاجنح أنت أيضا لها، و توكل علي اللّه في آثارها و تبعاتها.

فأداة الشرط هنا في الحقيقة استعملت بمعني «إذا» التي هي أيضا أداة أخري للشرط، و قد سيقت لبيان الأرضية الطبيعية للسلم.

______________________________

(122) محمّد: 35.

المهادنة، ص: 77

و أما قوله تعالي (فَلٰا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَي السَّلْمِ) فيمكن الخدشة في دلالتها بأن: متعلق النهي فيها ليس شيئين غير مرتبطين مع بعضهما البعض، بل شي ء واحد يترتب بعضه علي بعض.

بيان ذلك: أن وقوع شيئين في حيز النهي يكون علي وجهين: فتارة: يكون كل منهما متعلقا للنهي مستقلا كقولنا: إذا صمت فلا تأكل و لا تشرب، و في مثله لا بد من تكرار أداة النهي، و من هذا القبيل قوله تعالي (وَ لٰا تَهِنُوا وَ لٰا تَحْزَنُوا.) «123» 1 فإن الوهن و الحزن أمران مستقلان، لا يترتب أحدهما علي الآخر و لذا تكرر ذكر أداة النهي فيهما.

و تارة: يكون

متعلق النهي أمرا واحدا، و إنما ذكر الشي ء الآخر كنتيجة لذلك الأمر، كقولنا: إذا كنت صائما فلا تأكل و تفطر، و في هذا القسم فمتعلق النهي هو الأكل، و إنما ذكر الإفطار كنتيجة له، و في مثله لا شبهة في أن الشي ء المذكور ثانيا هو أيضا أمر مرغوب عنه، إلا أنه لم يقع متعلق النهي مستقلا، بل ذكر حتي يعلم أن هذا مترتب علي الأول و محكوم بحكمه، و لذا لا تتكرر فيه أداة النهي.

و من هذا القبيل قوله تعالي (فَلٰا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَي السَّلْمِ) فما هو الواقع في حيز النهي هو الوهن في قبال العدو، و المراد به هو اختلال العزم علي الجهاد و الثبات، و استشعار الضعف و الهزيمة، ثم إن الذي يترتب كنتيجة له هو الدعوة إلي السلم.

و في الحقيقة: التماس السلم من العدو و طلبه من موقع الضعف و الوهن.

و هذا و لا شك أمر مرغوب عنه إلا أن الوقوع فيه إنما يتأتي من ناحية الأمر الأول الذي وقع في حيز النهي أعني الوهن، فالنهي عن الدعوة إلي السلم التي لم تجعل في حيز النهي في ظاهر الكلام، بل هي منهي عنها بقرينة المقام إنما وقع تبعا للنهي عن الوهن.

و علي هذا فحاصل مراد الآية و اللّه أعلم: فلا تهنوا حتي ينتهي بكم

______________________________

(123) آل عمران: 139.

المهادنة، ص: 78

الوهن إلي الدعوة إلي السلم، و يستفاد منه أن الدعوة إلي السلم إذا كانت ناشئة عن الوهن فهو مبغوض للشارع، و هو كذلك اعتبارا إذ ليس شي ء أضر بكرامة الإسلام و عزة المسلمين من مثل هذه الدعوة التي هي في الحقيقة التماس للصلح و سؤال له من موقع ذليل لا يناسب شأن الإسلام

و المسلمين.

لكن أين هذا من حرمة الدعوة إلي الصلح مطلقا؟! و قد عرفت أن طلب الصلح ربما يكون عن رفعة و عزة و قدرة، فليس الصلح دائما مما يحتاج إليه الضعاف، بل رب قوي يطلب الصلح و يراه مصلحة له، و المثال الواضح لذلك ما نقل عن النبي (صلي الله عليه و آله) في اقتراحه الصلح علي عيينة بن حصين في مقابل مال كثير، مع كونه (صلي الله عليه و آله) أقوي منه بكثير.

و بناء عليه فلا دلالة في الآية الشريفة علي ما ادعي من حرمة السلم إذا كانت ابتداء من المسلمين و بطلب منهم مطلقا.

و يؤيد ما استظهرناه من الآية تعقب النهي بقوله تعالي (وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) «124» 1 الذي ذكر بمثابة علة لذلك النهي فإن العلة إنما تناسب عدم الوهن و عدم الطلب الناشئ منه، و لا تناسب الدعوة إلي السلم إذا لم تكن ناشئة عن الوهن و الضعف، كما لا يخفي.

و أما قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «و لا تدفعن. إلخ» فالأمر فيه أوضح إذ ذكر دعوة العدو للصلح ليس لبيان شرط جوازه، بل هو بيان لوجه أمره (عليه السلام) لقبول الصلح، و ذلك بقرينة ما تعقبه من الجمل أعني قوله (عليه السلام)

«فإن في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك،

الحديث».

فهو في قوة أن يقول أحد: إذا يدعوك العدو بنفسه إلي الصلح فما الوجه في استمرار القتال و دفع مثل هذا الصلح؟! مع أن فيه من المنافع كذا و كذا. و إن أبيت إلا عن دلالة هذا الحديث علي مشروعية الصلح الذي هكذا صفته، فدلالته علي عدم جواز غيره من الصلح لا يكون إلا بناء علي اعتبار مفهوم الوصف

أو اللقب، و هو كما تري.

______________________________

(124) المصدر السابق.

المهادنة، ص: 79

و حاصل الجميع: أن الهدنة جائزة، سواء كانت باستدعاء و اقتراح من الكافر أو بطلب و دعوة من المسلم، من غير فرق بينهما.

نعم، إذا كانت متوقفة علي ذلة المؤمنين و كسر شأنهم و عزتهم فلا تجوز بمقتضي ما استظهرناه من الآيتين الكريمتين.

و لا يجوز مثل ذاك الصلح كونه ذا مصلحة، إذ كما قلنا سابقا أن إطلاقات أدلة الأحكام الشرعية لا تقيد بالمصالح التي نستشعرها في القضية، فالمصلحة في الحرام لا ترفع حرمته، و المصلحة في ترك الواجب لا توجب رفع الوجوب.

نعم تقيد أدلة الأحكام بالاضطرار حيث إن دليله حاكم علي أدلة الأحكام، كما هو معلوم و مبين في محله.

المسألة الرابعة في موارد جواز نقض الهدنة:

و هذا يعني التسليم بحرمة نقض الهدنة التي وقعت صحيحة، و قد مر في الفصل الرابع أدلة حرمة الغدر الذي هو بمعني نقض العهود و القرارات المتخذة مع العدو، و عددنا تلك الأدلة كتابا و سنة و غيرهما، بل أشرنا هناك أن القدر المتيقن و المنصوص به من بعض آيات الذكر الحكيم هو نقض عهد الهدنة، و إنما يصار إلي الحكم المزبور في العهود الأخري من باب إلغاء الخصوصية، و ذلك مثل قوله تعالي (إِلَّا الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) «125» 1، و قوله تعالي (فَمَا اسْتَقٰامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ. الآية) «126» 1 و الروايات مذكورة في الباب 21 من أبواب جهاد العدو من كتاب الوسائل، فراجع.

و قد ذكر العلامة (رحمه اللّه) في التذكرة حديثا عن رسول اللّه (صلي الله عليه و آله) و هو أنه (صلي الله عليه و آله) قال

«من كان بينه و بين قوم عهد فلا يشد عقدة و لا يحلها

حتي ينقضي مدتها أو ينبذ إليهم علي سواء»

«127» 1.

ثم بعد تسليم حرمة نقض الهدنة نقول: لا شبهة و لا خلاف في أن نقض الهدنة يكون جائزا إذا ابتدأ العدو بنقضها و ذلك أولا: بمقتضي نفس أدلة اعتبار العهود مع العدو، حيث جعل اعتبارها فيها

______________________________

(125) التوبة: 4.

(126) التوبة: 7.

(127) التذكرة 1: 450، أواسط الصفحة.

المهادنة، ص: 80

مغيا برعاية العدو لها، مثل قوله تعالي (فَمَا اسْتَقٰامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)، بل لأن نقض العدو للعهد يوجب انتفاء ما كان الوفاء به واجبا، لأن العهد القائم بين طرفين أمر اعتباري يدوم بدوام كل منهما له، فإذا نقضه أحدهما زال و انتفي الأمر القائم في البين، فينتفي بالنقض من أحد الطرفين موضوع وجوب الوفاء من الطرف الآخر، فتأمل.

و ثانيا: لقوله تعالي (وَ إِمّٰا تَخٰافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيٰانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَليٰ سَوٰاءٍ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْخٰائِنِينَ) «128» 1 و الحكم في الجملة من المسلمات كما يساعده الاعتبار في مقتضي حفظ مصالح الإسلام و المسلمين.

[في بيان بعض الفروع المتعلقة بالهدنة]

اشارة

إلا أن هنا بعض الفروع المذكورة في كلمات الفقهاء (رحمهم اللّه) لعلها محتاجة إلي البيان.

الأول: أن الخوف في الآية ليس بمعني ما يحصل في نفس ولي الأمر، بصرف ظن مجرد عن الشواهد و القرائن، بل هو ما يؤكده القرائن

صرح بذلك العلامة (رحمه اللّه) في التذكرة و القواعد، قال في التذكرة: «و لا يكفي وقوع ذلك في قلبه حتي يكون عن أمارة تدل علي ما خافه، و لا تنتقض الهدنة بنفس الخوف، بل للإمام نقضها. إلخ» «129» 1، و قال في القواعد: «و لو استشعر الإمام خيانة جاز له أن ينبذ العهد إليهم و ينذرهم، و لا يجوز نبذ العهد بمجرد التهمة» انتهي ما في القواعد علي ما نقله عنه في الجواهر و علق عليه صاحب الجواهر بقوله: «و هو كذلك ضرورة وجوب الوفاء لهم، بخلاف ما إذا خاف منهم الخيانة لأمور استشعرها منهم، فإنه ينبذ العهد حينئذ لقوله تعالي (وَ إِمّٰا تَخٰافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيٰانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَليٰ سَوٰاءٍ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْخٰائِنِينَ)».

أقول: أما عدم كفاية الخوف بمعني الحاصل بالتهمة، فهو ما يحكم به الاعتبار إذ نقض العهد و الرجوع إلي حالة الحرب بمجرد التهمة، يجعل غالب عهود الهدنة كاللغو، فإن مثل هذا الخوف متوفر غالبا إن لم نقل دائما في مقابلة الأعداء، و لعله المستفاد من التأكيد في قوله تعالي (وَ إِمّٰا تَخٰافَنَّ.).

و أما ما في التذكرة من أن ذلك لا يوجب انتقاض العهد بنفسه، بل يوجب حق

______________________________

(128) الأنفال: 58.

(129) التذكرة 1: 450.

المهادنة، ص: 81

النقض للإمام، فهو أيضا مما يساعده الاعتبار بل يحكم به إذ ربما لا يكون النقض العملي موافقا لمصلحة المسلمين، فاللازم هو نبذ العهد بمعني إعلام العدو بأنه ليس في ما بعد عهد في البين، بل يمكن أن يقال إن النبذ أيضا ليس بواجب، بل الأمر في قوله تعالي (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ.) بمعني جواز

ذلك لإمام المسلمين لا وجوبه عليه، فيجوز له حين استشعاره الخيانة و حصول الخوف، أن ينبذ إليهم علي سواء، و إن كان ذلك بعيدا عن ظاهر الكلام، و أما النقض عملا فهو تابع للمصلحة و الإمام مختار فيه.

مضافا إلي أن هذا هو مفاد الآية الكريمة، إذ النبذ في قوله تعالي (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَليٰ سَوٰاءٍ) ليس بمعني النقض، بل بمعني نبذ العهد إليهم الذي يوجب إعلامهم بأن العهد القائم بينهم قد انتفي و انتهي و ليس فيما بينهم و بين المسلمين عهد بعد ذلك.

و لذا قال في القواعد بعد قوله: جاز له أن ينبذ العهد إليهم: «و ينذرهم».

ثم إن عبارة القواعد فيما طبع منه في عداد «الينابيع الفقهية» و كذا في متن جامع المقاصد، هكذا: «و لا يجوز نبذ الجزية بمجرد التهمة.» بدل: نبذ العهد كما في الجواهر و علي هذا فالعبارة مسوقة لبيان الفرق بين الجزية و الهدنة، و أن الجزية لا تنبذ بمجرد الخوف، و قد تصدي الكركي (رحمه اللّه) في شرحه، لبيان ما قيل في وجه الفرق بينهما و المناقشة فيه، و الظاهر أن إشارته لما قيل، إلي قول العلامة نفسه في التذكرة، فراجع.

و بناء علي هذا فإما أن يراد من التهمة أعم من الخوف المقارن لقرينة، لا خصوص التهمة الصرفة و تكون النتيجة أن عقد الجزية لا ينبذ بمجرد الخوف و إن كان هناك قرائن تؤيده، بخلاف الهدنة فإنها تنبذ مع الخوف المقارن للقرائن، و إما أن يقال: إن نظره في القواعد علي أن مجرد التهمة في باب الهدنة يكفي لنبذ العهد و تكون النتيجة أن التهمة الصرفة، توجب نبذ الهدنة دون عقد الجزية.

و الثاني بعيد جدا، و إن كان الأول مستلزما

لتكلف في العبارة.

المهادنة، ص: 82

و حاصل الكلام في ما تنتهي به الهدنة أنه لو نقض العدو عمليا العهد بأن شرع في الحملة فلا شبهة في جواز مقابلته بالمثل، و هذا إما من باب الدفاع، أو انتفاء ما يوجب الكف عن العدو كالعهد.

و أما لو لم ينقضه عمليا، بل عمل ما يخاف معه علي العهد بمعني صدور ما يمكن أن يعد قرينة علي خيانته، فيجوز أو يجب نبذ العهد إليهم، بمعني إعلامهم بأن العهد قد انتهي، و ليس بينهم و بين المؤمنين ما يمنع عن وقوع الحرب، و مقتضي الارتكاز العرفي حينئذ أنه لو تمكن العدو من إثبات أن الإمام قد أخطأ في فهم ما حسبه قرينة علي الخيانة، و أنه لم يكن بصددها و لم يعمل لها أبدا، و اقتنع الإمام بذلك، فالأمر يرجع إلي ما كان عليه قبل ذلك و تكون الهدنة بحالها، و لا يلزم تجديد العقد ثانيا.

و أما لو لم يكن هناك قرينة علي الخيانة من أول الأمر، بل حصل للإمام خوف بغير قرينة، فالحكم بقاء الهدنة من أول الأمر.

الثاني: لو نقضوا العهد ثم تابوا عنه، نقل العلامة (رحمه اللّه) في التذكرة عن ابن الجنيد (رحمه اللّه) القبول منهم

و لم يعلق عليه هو بنفسه، و علق عليه صاحب الجواهر (رحمه اللّه) بقوله: و لا بأس به.

إلا أن مقتضي القاعدة عدم القبول لأن العهد السابق قد انتقض بخيانتهم، و العهد الجديد يحتاج إلي عقد جديد.

و بهذا يفرق بين هذا الفرض و بين ما ذكرنا آنفا من صورة خطأ الإمام في استشعار الخيانة منهم، حيث إن العقد السابق كان باقيا بحاله هناك، دونه هنا.

نعم يمكن أن يختار الإمام عدم التحامل عليهم إذا رأي ذلك مصلحة للمسلمين.

الثالث: الخيانة تحصل بفعل الرئيس المطاع في جبهة العدو، أو بإمضائه أو تسبيبه

و أما فعل البعض ممن لا يملك الخيار في أمر الحرب و الصلح مع عدم تدخل الرئيس المطاع فلا يؤثر شيئا فيما تم بين الدولتين.

فما في كلام العلامة (رحمه اللّه) و غيره، من أن في صورة نقض البعض، إن كان الباقون

المهادنة، ص: 83

راضين أو ساكتين كانوا ناقضين جميعا، و أما إن كانوا متبرئين أو معتزلين كان العهد باقيا بالنسبة إليهم، فلا بد أن يعتبر خروجا عن مفروض الكلام في باب الهدنة إذ قرار الهدنة كما سبق منا في تعريفها إنما ينعقد بين دولة الإسلام و الدولة المخاصمة و ما بحكمها، لا بينها و بين آحاد الناس، كما هو الحال في عقد الذمة.

فلا معني إذا لتأثير غير الدولة في ما انعقد بين الدولتين.

نعم، خيانة المهادن لا تنحصر في مباشرة الرئيس لها، بل تحصل أيضا بتسبيبه لها، أو إمضائه للصادرة عن بعض رعيته منها.

و أما رضاه غير المقارن بالتسبيب أو الإمضاء، فلا دليل علي لحوق حكمه بهما إذ الرضي أمر قلبي لا يناط به الأحكام المترتبة علي أفعال الناس في معاملة بعضهم البعض، لا سيما الأحكام الجزائية و ما شابهها و يجري مجراها، فالرضي بصدور الحرام المستوجب للحد الشرعي عن أحد

لا يوجب حدا و لا تعزيرا علي الراضي.

نعم هو أمر قبيح فيما بينه و بين اللّه، و تختلف مراتب حزازته و قبحه بحسب مراتب الفعل المحرم المرضي له، فلا يبعد أن يكون في بعض مراتبه حراما، بل كائنا في عداد الموبقات، كالرضي بقتل الأنبياء و الأوصياء و عباد اللّه الصالحين، طبعا فيما لم يكلف هذا الراضي بالمنع و الردع و النهي عن صدور هذه الكبيرة الموبقة لعدم القدرة و أمثاله.

و الحاصل: أن الرضي بالخيانة، سواء المنقدح في نفس الرئيس و غيره، لا يسبب شيئا في أمر الهدنة القائمة بينه و بين الدولة الإسلامية، ما لم يصل إلي حد يعتبر في نظر الإمام إمضاء أو تسبيبا لما صدر عن البعض، كما إذا أعلن رضاه و أشار به و إشاعة بين الناس.

ثم إن خيانة البعض و إن كانت غير مؤثرة في أصل العقد القائم بين الدولتين، إلا أنها موجبة لأحكام بالنسبة إلي نفس الخائن لا محالة، بمعني أن هذه الخيانة الصادرة منه جريمة لا بد أن يعتبر لها تبعاتها القانونية.

و الذي لا يبعد عن الاعتبار العقلائي بل عن الارتكاز المتشرعي، هو أن يكلف رئيس

المهادنة، ص: 84

الجبهة المهادنة بتأديبه و جزائه حسب ما تقدر الجريمة الصادرة منه، من جهة الشدة و الخفة، و الخطورة و السهولة.

فإن لم يفعل ما يكلف عامل الإمام ذاك البعض الناقض معاملة الحربي.

و لا يخفي أن الظروف الملابسة لذلك سوف تختلف في الأزمنة و الأمكنة المختلفة، فلا مناص من القول بأن الإمام يختار ما يري فيه مصلحة المسلمين، و يجده مناسبا للظروف و الملابسات القائمة عندئذ، و اللّه العالم.

الرابع: قال في الجواهر تبعا للعلامة (رحمه اللّه) في غير واحد من كتبه: أن الواجب رد المهادنين إلي مأمنهم بعد ما انتقض عهدهم إذا فرض صيرورتهم بين المسلمين

و الظاهر منه أن هذا الحكم يشمل ما لو كان نقض العهد من قبلهم و

بخيانتهم، بل يشمل نفس الخائن الذي انتقضت الهدنة بفعله.

و لعل عدم ذكره لمستند علي ذلك يحكي عن كون الحكم عنده من الواضحات.

و أما العلامة (رحمه اللّه) فإنه أولا: فصل بين ما إذا كان الداخل منهم في حوزة المسلمين لم يصدر منه ما يوجب حقا عليه، كإيواء عين العدو و الإخبار بخبر المسلمين و الاطلاع علي عوراتهم، أو قتل نفس منهم و أمثال ذلك، فيرده الإمام إلي مأمنه، و بين من صدر منه ذلك فيستوفي منه الحق.

و ثانيا: استدل علي ما ادعاه بأن الداخل علي المسلمين دخل بأمانهم فيجب رده، و إلا كان ذلك خيانة من المسلمين.

أقول: إن كان مرادهما إدراج المورد في عنوان الأمان كما لعله الظاهر منهما، فيكون ما استند به العلامة من وجوب الرد إلي المأمن، تمسكا بقول اللّه تعالي في باب الأمان (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) «130» 1 فهو، و إلا فالحكم بوجوب الرد إلي المأمن استنادا إلي حرمة الخيانة محل تأمل و ذلك لأن صدق عنوان الخيانة علي ما يعتبر جزاء لارتكاب الخيانة من العدو المهادن، غير سديد.

نعم، بالنسبة إلي غير مرتكب الخيانة من الأعداء بالذات، و هكذا المعاونين له بل المطلعين علي نيته الفاسدة و الراضين بها، لا يبعد القول بأن وجوب ردهم

______________________________

(130) التوبة: 6.

المهادنة، ص: 85

إلي مأمنهم، مما يرتكز عليه الذهن المتشرعي و إن لم يدل عليه دليل لفظي بالخصوص، و ذلك طبعا بعد الاعتراف بأن المورد ليس من مصاديق الأمان و ذلك لتغايرهما موضوعا و حكما، و يتضح ذلك بمراجعة ما ذكرناه في تعريف العنوانين أي الهدنة و الأمان و الوجوه الفارقة لكل منهما خاصة.

إلا أن ملاحظة مجموع ما ورد في الأدلة و ما أفتي به الفقهاء (رحمهم اللّه)

في شتي الأبواب، بالنسبة إلي معاملة العدو في غير ميدان الحرب، تقرب إلي الذهن أن ما ذكره العلامة و صاحب الجواهر (رحمهما اللّه) من وجوب الرد إلي المأمن، ليس بعيدا في الجملة عن المستفاد من الأدلة الشرعية، و عن مرتكز أهل الشرع، فليراجع إلي مستند ما أفتوا به في باب شبهة الأمان، و في حكم من كان في حصنه من الكفار فسمع صوتا و توهمه أمانا، و غير ذلك من الموارد.

مضافا إلي أن ذلك أقرب إلي الاحتياط في باب النفوس و الدماء، الذي لا يختص بما يتعلق منها بالمسلمين، و قد مر الكلام عن ذلك في بعض المباحث السابقة.

هذه نهاية ما ألقيناه في الدرس في هذا الباب، و قد راجعنا ما كتبناه سابقا و نقحناه و أضفنا إليه شيئا يسيرا مما فات عنا عندئذ.

و هناك بعض فروع أخري، يحتاج التصدي لها و بيان ما هو التحقيق فيها، إلي وقت أوسع، و للّه الحمد أولا و آخرا

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.